الرابع: إذا عاهد غدر ولم يفِ بالعهد، والغدر حرام في كلّ عهد بين المسلم وغيره، ولو كان المعاهد كافرًا، ولهذا في حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قتل نفسا معاهدًا بغير حقها لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا))، وقد أمر الله تعالى في كتابه بالوفاء بعهود المشركين إذا أقاموا على عهودهم ولم ينقضوا منها شيئا. وأمّا عهود المسلمين فيما بينهم فالوفاء بها أشد، ونقضها أعظم إثما. ومن أعظمها نقض عهد الإمام على من بايعه ورضي به، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم))، فذكر منهم: ((ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه ما يريد وفَّى له، وإلا لم يفِ له)). ويدخل في العهود التي يجب الوفاء بها ويحرم الغدر فيها جميع عقود المسلمين فيما بينهم إذا تراضوا عليها من المبايعات والمناكحات وغيرها من العقود اللازمة التي يجب الوفاء بها، وكذلك ما يجب الوفاء به لله عز وجل مما يعاهد العبد ربّه عليه من نذر التَّبرُّر ونحوه.
الخامس: الخيانة في الأمانة.
وحاصل الأمر أن النّفاق الأصغر كلَّه يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية، قاله الحسن. وقال الحسن أيضا: من النفاق اختلاف القلب واللسان، واختلاف السر والعلانية، واختلاف الدخول والخروج".
وقال: "ومن أعظمِ خصال النّفاق العملي أن يعمل الإنسان عملا ويظهر أنه قصد به الخير وإنما عمله ليتوصّل به إلى غرض له سيئ، فيتمّ له ذلك، ويتوصّل بهذه الخديعة إلى غرضه، ويفرح بمكره وخداعه وحمد الناس له على ما أظهره، ويتوصّل به إلى غرضه السيئ الذي أبطنه، وهذا قد حكاه الله في القرآن عن المنافقين واليهود، فحكى عن المنافقين أنهم {اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107]، وأنزل في اليهود: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188]، وهذه الآية نزلت في اليهود، سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سئلوا عنه، قال ذلك ابن عباس، وحديثه مخرّج في الصحيحين. وفيهما أيضًا عن أبي سعيد أنها نزلت في رجال من المنافقين كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلافه، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا".
وقال في معرض بيان خطورة هذا النفاق: "والنفاق الأصغر وسيلة وذريعة إلى النفاق الأكبر، كما أن المعاصي بريد الكفر، فكما يُخشى على من أصرّ على المعصية أن يسلَبَ الإيمانَ عند الموت كذلك يخشى على من أصرّ على خصال النفاق أن يسلَب الإيمان، فيصير منافقا خالصا".
مدارج السالكين (1/376).
تفسير القرآن العظيم (1/48).
أخرجه البخاري في الديات، باب: إثم من قتل ذميًا بغير جرم (6914).
أخرجه البخاري في الشهادات، باب: اليمين بعد العصر (2672)، ومسلم في الإيمان (108).
جامع العلوم والحكم (2/481) وما بعدها، بتصرف.
أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ} (4568)، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2778).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ} (4567)، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2777).
جامع العلوم والحكم (2/493-494).
جامع العلوم والحكم (2/492-493).
رابعًا: ذمّ النفاق في الكتاب والسنة:
قال ابن القيم: "كاد القرآن أن يكونَ كلّه في شأنهم؛ لكثرتهم على ظهر الأرض وفي أجواف القبور".
1- قال الله تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].
قال الطبري: "يقول الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {هُمُ الْعَدُوُّ} يا محمد {فَاحْذَرْهُمْ}؛ فإن ألسنتهم إذا لقوكم معكم، وقلوبهم عليكم مع أعدائكم، فهم عين لأعدائكم عليكم".(/2)
قال ابن القيم: "ومثل هذا اللفظ يقتضي الحصر، أي: لا عدوّ إلا هم، ولكن لم يرد ها هنا حصر العداوة منهم، وأنه لا عدوّ للمسلمين سواهم، بل هذا من باب إثبات الأولوية والأحقية لهم في هذا الوصف، وأنه لا يتوهّم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهرًا وموالاتهم لهم ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا بأعدائهم، بل هم أحقّ بالعداوة ممن باينهم في الدار، ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها؛ فإن ضرر هؤلاء المخالطين لهم المعاشرين لهم ـ وهم في الباطن على خلاف دينهم ـ أشدّ عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم؛ لأنّ الحرب مع أولئك ساعة أو أيّام ثم تنقضي ويعقبه النصر والظفر، وهؤلاء معهم في الديار والمنازل صباحًا ومساءً، يدلّون العدوّ على عوراتهم، ويتربّصون بهم الدوائر، ولا يمكنهم مناجزتهم، فهم أحقّ بالعداوة من المباين المجاهر، فلهذا قيل: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}، لا على معنى أنه لا عدوّ لكم سواهم، بل على معنى أنهم أحقّ بأن يكونوا لكم عدوًّا من الكفار المجاهرين".
وقال: "قد هتك الله سبحانه أستار المنافقين، وكشف أسرارهم في القرآن، وجلَّى لعباده أمورهم؛ ليكونوا منها ومن أهلها على حذر، وذكر طوائفَ العالم الثلاثة في أوّل سورة البقرة: المؤمنين والكفار والمنافقين، فذكر في المؤمنين أربع آيات، وفي الكفار آيتين، وفي المنافقين ثلاث عشرة آية؛ لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم، وشدّة فتنتهم على الإسلام وأهله، فإنّ بلية الإسلام بهم شديدة جدًا؛ لأنهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كلّ قالب يظنّ الجاهل أنه عِلْم وإصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد. فلِلّه كم من معقَل للإسلام قد هدموه، وكم من حِصن له قد قلعوا أساسه وخرّبوه، وكم من عَلَم له قد طمسوه، وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه، وكم ضربوا بمعاول الشُّبه في أصول غراسه ليقلعوها، وكم عَمُّوا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبليّة، ولا يزال يطرقه من شبههم سَرِيَّةُ بعد سريّة، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة:12]، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]".
2- قال الله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُون (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:17، 18].
قال ابن كثير: "وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى بمن استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله وتأنّس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصمّ لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضًا عن الهدى، واستحبابهم الغيّ على الرشد. وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع. والله أعلم".
وقال ابن القيم: "قال: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل: بنارهم؛ لأن النار فيها الإحراق، وكذلك حال المنافقين ذهب نور إيمانهم بالنفاق، وبقي في قلوبهم حرارة الكفر والشكوك والشبهات، تغلي في قلوبهم قد صليت بحرها وأذاها وسمومها ووهجها في الدنيا، فأصلاهم الله تعالى إياها يوم القيامة نارا موقدة، تطّلع على الأفئدة. فهذا مثل من لم يصحبه نور الإيمان في الدنيا، بل خرج منه وفارقه بعد أن استضاء به، وهو حال المنافق عرف ثم أنكر، وأقرّ ثم جحد، فهو في ظلمات أصمّ أبكم أعمى، كما قال تعالى في حقّ إخوانهم من الكفار: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:39]".
3- قال الله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:19، 20].(/3)
قال ابن كثير: "هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضربٍ آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكّون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكّهم وكفرهم وتردّدهم كصيّب، والصيّب المطر نزل من السماء في حال ظلمات، وهي الشكوك والكفر والنفاق، ورعد وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع، كما قال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِم} [المنافقون:4]، وقال: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ وَلَاكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئًا أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة:56، 57]، والبرق هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان، ولهذا قال: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِى ءاذَانِهِم مّنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} [البقرة:19]، أي: ولا يجدي عنهم حذرهم شيئا لأن الله محيط بقدرته، وهم تحت مشيئته وإرادته، كما قال: {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ} [البروج:17-20] بهم. ثم قال: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} أي: لشدته وقوته في نفسه وضعف بصائرهم وعدم ثباتها للإيمان، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} أي: كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه، وتارة تعرض لهم الشكوك فأظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين".
وقال ابن القيم: "صاب عليهم صيِّب الوحي، وفيه حياة القلوب والأرواح، فلم يسمعوا منه إلا رعد التهديد والوعيد والتكاليف التي وُظِّفت عليهم في المساء والصباح، فجعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وجدّوا في الهرب والطلب في آثارهم والصياح، فنودي عليهم على رؤوس الأشهاد، وكشفت حالهم للمستبصرين، وضرب لهم مثلان بحسب حال الطائفتين منهم: المناظرين والمقلدين، فقيل: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}. ضعفت أبصار بصائرهم عن احتمال ما في الصيّب من بروق أنواره وضياء معانيه، وعجزت أسماعهم عن تلقي وعوده ووعيده وأوامره ونواهيه، فقاموا عند ذلك حيارى في أودية التيه، لا ينتفع بسمعه السامع، ولا يهتدي ببصره البصير، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}".
4- قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16].
قال ابن القيم: "خرجوا في طلب التجارة البائرة في بحار الظلمات، فركبوا مراكب الشبه والشكوك، تجري بهم في موج الخيالات، فلعبت بسفنهم الريح العاصف، فألقتها بين سفن الهالكين، {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}".
5- قال الله تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاء} [النساء:143].
قال الطبري: "عنى بذلك أن المنافقين متحيّرون في دينهم، لا يرجعون إلى اعتقاد شيء على صحة، فهم لا مع المؤمنين على بصيرة، ولا مع المشركين على جهالة، ولكنهم حيارى بين ذلك".
6- عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة)).
قال النووي: "العائرة: المترددّة الحائرة، لا تدري لأَيِّهِمَا تتبع، ومعنى تعير أي: تردَّد وتذهب".
7- قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} [النساء:145].
قال الطبري: "يعني جل ثناؤه بقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} أن المنافقين في الطبق الأسفل من أطباق جهنم، وكلّ طبق من أطباق جهنم درك".
8- قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:68].(/4)
9- عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترُجّة طعمها طيّب وريحها طيّب، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة طعمها طيّب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة ريحها طيّب وطعمها مرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كالحنظلة طعمُها مرّ أو خبيث وريحها مرّ)).
10- عن عبد الله بن كعب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل المؤمن كالخامة من الزرع، تفيؤها الريح مرة وتعدلها مرة، ومثل المنافق كالأرزة، لا تزال حتى يكون انجعافها مرّة واحدة)).
قال المهلّب: "معنى الحديث: أنّ المؤمن حيث جاءه أمر الله انطاع له، فإن وقع له خير فرح به وشكر، وإن وقع له مكروه صبر ورجا فيه الخير والأجر، فإذا اندفع عنه اعتدل شاكرا.
والكافر لا يتفقّده الله باختياره، بل يحصل له التيسير في الدنيا؛ ليتعسّر عليه الحال في المعاد، حتى إذا أراد الله إهلاكه قصمه، فيكون موته أشدّ عذابا عليه، وأكثر ألما في خروج نفسه".
وقال غيره: "المعنى: أن المؤمن يتلقّى الأعراض الواقعة عليه لضعف حظّه من الدنيا، فهو كأوائل الزرع شديد الميلان لضعف ساقه، والكافر بخلاف ذلك، وهذا في الغالب من حال الاثنين".
11- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أخوف ما أخاف على أمتي كلّ منافق عليم اللسان)).
قال المناوي: "قوله: ((عليم اللسان)) أي: كثير علم اللسان، جاهل القلب والعمل، اتخذ العلم حرفة يتأكّل بها، ذا هيبة وأُبّهة، يتعزّز ويتعاظم بها، يدعو الناس إلى الله، ويفرّ هو منه، ويستقبح عيبَ غيره، ويفعل ما هو أقبح منه، ويظهر للناس التنسّكَ والتعبّد، ويسارر ربّه بالعظائم، إذا خلا به ذئب من الذئاب لكن عليه ثياب، فهذا هو الذي حذّر منه الشارع صلى الله عليه وسلم هنا حذرا من أن يخطفك بحلاوة لسانه، ويحرقك بنار عصيانه، ويقتلك بنتن باطنه وجنانه".
12- عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من سفر، فلما كان قرب المدينة هاجت ريح شديدة تكاد أن تدفن الراكب، فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بعثت هذه الريح لموت منافق))، فلما قدم المدينةَ فإذا منافق عظيم من المنافقين قد مات.
قال النووي: "أي: عقوبةً له، وعلامة لموته، وراحةً للبلاد والعباد به".
13- عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معيَ غيري تركته وشركَه)).
قال النووي: "ومعناه أنا غنيّ عن المشاركة وغيرها، فمن عمل شيئًا لي ولغيري لم أقبله، بل أتركه لذلك الغير. والمراد: أن عمل المرائي باطل لا ثواب فيه، ويأثم به".
14- عن جندب رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سَمَّعَ سَمَّعَ الله به، ومن يُرَائِي يُرَائِي الله به)).
قال الخطابي: "من عمل عملا على غير إخلاص وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه، فيشيدوا عليه ما كان يبطنه ويسرّه من ذلك".
وقال النووي: "قال العلماء: معناه من رايا بعمله وسمّعه الناس ليكرموه ويعظّموه ويعتقدوا خيره سمَّع الله به يوم القيامة الناس وفضحه. وقيل: معناه من سمّع بعيوبه وأذاعها أظهر الله عيوبه. وقيل: أسمعه المكروه. وقيل: أراه الله ثوابَ ذلك أن يعطيَه إياه ليكون حسرة عليه. وقيل: معناه من أراد بعمله الناس أسمعه الله الناسَ، وكان حظَّه منه".
مدارج السالكين (1/388).
جامع البيان (28/108).
طريق الهجرتين (ص710-711).
مدارج السالكين (1/377).
تفسير القرآن العظيم (1/54).
الوابل الصيب (78).
تفسير القرآن العظيم (1/57-58) بتصرف.
مدارج السالكين (1/380-381).
مدارج السالكين (1/350).
جامع البيان (5/335-336).
أخرجه مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2784).
شرح صحيح مسلم (17/128).
جامع البيان (5/338).
أخرجه البخاري في فضائل القرآن، باب: إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكّل به (5059) واللفظ له، ومسلم في صلاة المسافرين (797).
أخرجه البخاري في المرضى، باب: ما جاء في كفارة المرض (5643) واللفظ له، ومسلم في صفة القيامة (2810).
ينظر: فتح الباري (10/107).
ينظر: فتح الباري (10/107).
أخرجه أحمد (1/22)، وعبد بن حميد (11)، والبزار (305)، والبيهقي في الشعب (1777)، قال الهيثمي في المجمع (1/187): "رجاله موثقون"، وصححه الضياء المقدسي في المختارة (1/343)، والألباني في صحيح الجامع (237).
فيض القدير (2/419).
أخرجه مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2782).
شرح صحيح مسلم (17/127).
أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2985).
شرح صحيح مسلم (18/116).
أخرجه البخاري في الرقاق، باب: الرياء والسمعة (6499)، ومسلم في الزهد والرقائق (2987).
أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري (3/2257).
شرح صحيح مسلم (18/116).(/5)
خامسًا: خوف السّلف من النفاق:
1- عن حنظلة رضي الله عنه قال: لقيَني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكّرنا بالنار والجنة حتى كأنّا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولادَ والضيعات، فنسينا كثيرا. قال أبو بكر: فوالله، إنا لنلقى مثلَ هذا. فانطلقتُ أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما ذاك؟)) قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكّرنا بالنار والجنة حتى كأنّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن ـ يا حنظلة ـ ساعة وساعة)).
قال النووي: "قوله: (نافق حنظلة) معناه: أنّه خاف أنه منافق حيث كان يحصل له الخوف في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر والإقبال على الآخرة، فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافَه من الشرّ، فخاف أن يكون ذلك نفاقا، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بنفاق، وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك. ((ساعة وساعة)) أي: ساعة كذا وساعة كذا".
2- وعن حذيفة رضي الله عنه قال: دُعي عمر لجنازة فخرج فيها أو يريدها، فتعلّقتُ به فقلتُ: اجلس يا أمير المؤمنين، فإنّه من أولئك ـ أي: من المنافقين ـ، فقال: نشدتك الله، أنا منهم؟ قال: لا، ولا أبرئ أحدا بعدك.
3- وقال ابن أبي مليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل.
4- وعن الحسن: "ما خافه ـ أي: النفاق ـ إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق".
5- وعن المعلى بن زياد قال: سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد: "بالله الذي لا إله إلا هو، ما مضى مؤمن قطّ ولا بقي إلا هو من النفاق مشفِق، ولا مضى منافق قطّ ولا بقي إلا هو من النفاق آمن"، قال: وكان يقول: "من لم يخف النفاق فهو منافق".
6- وعن أبي عثمان قال: قلت لأبي رجاء العطاردي: هل أدركت ممن أدركتَ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشون النفاق؟ وكان قد أدرك عمر رضي الله عنه، قال: نعم، إني أدركت منهم بحمد الله صدرا حسنا، نعم شديدا، نعم شديدا.
قال ابن القيم: "تالله، لقد مُلئت قلوب القوم إيمانًا ويقينًا، وخوفهم من النفاق شديد، وهَمُّهم لذلك ثقيل، وسواهم كثير منهم لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، وهم يدّعون أن إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل".
أخرجه مسلم في التوبة (2750).
شرح صحيح مسلم (17/66-67).
أخرجه البزار في مسنده (2885)، وأبطله ابن حزم في المحلى (11/225)، وقال الهيثمي في المجمع (3/42): "رجاله ثقات".
أخرجه البخاري تعليقًا في الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، ووصله الحافظ في تغليق التعليق (1/52).
أخرجه البخاري تعليقًا في الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، ووصله الفريابي في صفة المنافق من طرق متعددة وألفاظ مختلفة.
أخرجه الفريابي في صفة المنافق (87).
أخرجه الفريابي في صفة المنافق (81)، وأبو نعيم في الحلية (2/307).
مدارج السالكين (1/388).
سادسًا: صفات المنافقين في الكتاب والسنة:
1- مرض القلب:
قال الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10].
قال الطبري: "معنى قول الله جل ثناؤه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} إنما يعني: في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله مرض وسقم، فاجتزأ بدلالة الخبر عن قلوبهم على معناه عن تصريح الخبر عن اعتقادهم. والمرض الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه هو شكّهم في أمر محمد وما جاء به من عند الله وتحيّرهم فيه، فلا هم به موقنون إيقانَ إيمان، ولا هم له منكرون إنكار إشراك، ولكنهم كما وصفهم الله عز وجل مذبذبون بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما يقال: فلان يُمَرِّضُ في هذا الأمر، أي: يُضَعِّف العزمَ ولا يصحّح الروِيَّة فيه".
قال ابن القيم: "قد نهكت أمراضُ الشّبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها، وغلبت القصودَ السيئة على إراداتهم ونياتهم فأفسدتها، ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك، فعجز عنه الأطبّاء العارفون، {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}"().
2- الطمع الشهواني:
قال الله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَض} [الأحزاب:32].(/6)
قال الطبري: "فيطمع الذي في قلبه ضعف، فهو لضعف إيمانه في قلبه، إما شاكّ في الإسلام منافق، فهو لذلك من أمره يستخفّ بحدود الله، وإما متهاون بإتيان الفواحش".
3- الزيغ بالشبه:
قال الله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج:53].
قال الطبري: "يقول: اختبارا يختبر به الذين في قلوبهم مرض من النفاق، وذلك الشكّ في صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقيقة ما يخبرهم به".
4- التكبّر والاستكبار:
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5].
قال ابن كثير: "يقول تعالى مخبِرا عن المنافقين عليهم لعائن الله أنهم إذا قيل لهم: {إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} أي: صدّوا واعرضوا عمّا قيل لهم استكبارا عن ذلك، واحتقارا لما قيل، ولهذا قال تعالى: {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}. ثم جازاهم على ذلك فقال تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَّغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}".
5- الاستهزاء بآيات الله والجلوس إلى المستهزئين بآيات الله:
قال الله تعالى:{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: يخشى المنافقون أن تنزل فيهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، يقول: تظهر المؤمنين على ما في قلوبهم. وقيل: إن الله أنزل هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن المنافقين كانوا إذا عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا شيئا من أمره وأمر المسلمين قالوا: لعلّ الله لا يفشي سرّنا، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: {اسْتَهْزِئُوا}، متهدِّدا لهم متوعّدا، {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}".
وقال الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140].
6- الاستهزاء بالمؤمنين:
قال الله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ % اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14-15].
قال ابن القيم: "لكل منهم وجهان: وجه يلقى به المؤمنين، ووجه ينقلب به إلى إخوانه من الملحدين، وله لسانان: أحدهما يقبله بظاهره المسلمون، والآخر يترجم به عن سرّه المكنون، {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}.
قد أعرضوا عن الكتاب والسنّة استهزاءً بأهلهما واستحقارًا، وأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحًا بما عندهم من العلم الذي لا ينفع الاستكثار منه إلا أشرًا واستكبارًا، فتراهم أبدًا بالمتمسكين بصريح الوحي يستهزئون {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}".
7- الظن السيئ بالله تعالى:
قال الله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6].
8- عدم الثقة بوعد الله تعالى ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم:
قال الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12].
9- صدّ الناس عن الإنفاق في سبيل الله:
قال الله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7].(/7)
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كنت في غزاة، فسمعت عبد الله بن أبيّ يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا من حولِه، ولئن رجعنا من عنده ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، فذكرت ذلك لعمّي أو لعمر، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم، فدعاني فحدّثته، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبيّ وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فكذّبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدّقه، فأصابني همّ لم يصبني مثلُه قطّ، فجلست في البيت فقال لي عمّي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك، فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}. فبعث إليّ النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ، فقال: ((إن الله قد صدقك يا زيد)).
10- التستّر ببعض الأعمال المشروعة للإضرار بالمؤمنين:
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107].
11- التفريق بين المؤمنين والدّسّ والوقيعة وإشعال نار الفتنة واستغلال الخلافات وتوسيع شقّتها والإفساد في الأرض وادعاء الإصلاح:
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11].
قال الطبري: "وهذا القول من الله جلّ ثناؤه تكذيب للمنافقين في دعواهم؛ إذا أمروا بطاعة الله فيما أمرهم الله به ونهوا عن معصية الله فيما نهاهم الله عنه قالوا: إنما نحن مصلحون لا مفسدون، ونحن على رشد وهدى فيما أنكرتموه علينا دونكم لا ضالّون، فكذّبهم الله عز وجل في ذلك من قيلهم، فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} المخالفون أمرَ الله عز وجل، المتعدّون حدودَه، الراكبون معصيتَه، التاركون فروضَه، وهم لا يشعرون، ولا يدرون، أنهم كذلك، لا الذين يأمرونهم بالقسط من المؤمنين، وينهونهم عن معاصي الله في أرضه من المسلمين".
12- السفه ورمي المؤمنين بالسفه:
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13].
قال الطبري: "هذا خبر من الله تعالى عن المنافقين الذين تقدّم نعته لهم ووصفه إياهم بما وصفهم به من الشك والتكذيب أنهم هم الجهّال في أديانهم، الضعفاء الآراء في اعتقاداتهم واختياراتهم التي اختاروها لأنفسهم، من الشكّ والريب في أمر الله وأمر رسوله وأمر نبوّته، وفيما جاء به من عند الله وأمر البعث؛ لإساءتهم إلى أنفسهم بما أتوا من ذلك، وهم يحسبون أنهم إليها يحسِنون، وذلك هو عين السفه؛ لأن السفيه إنما يفسِد من حيث يرى أنه يصلح، ويضيع من حيث يرى أنه يحفظ، فكذلك المنافق يعصي ربّه من حيث يرى أنه يطيعه، ويكفر به من حيث يرى أنه يؤمن به، ويسيء إلى نفسه من حيث يحسب أنه يحسن إليها، كما وصفهم به ربّنا جل ذكره، فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}، وقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} دون المؤمنين المصدّقين بالله وبكتابه وبرسوله وثوابه وعقابه {وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ}".
وقال ابن القيّم: "المتمسّك عندهم بالكتاب والسنّة صاحب ظواهر، مبخوس حظّه من المعقول، والدائر مع النصوص عندهم كحمار يحمِل أسفارا، فهمه في حمل المنقول، وبضاعة تاجر الوحي لديهم كاسدة، وما هو عندهم بمقبول، وأهل الاتباع عندهم سفهاء، فهم في خلواتهم ومجالسهم بهم يتطيرون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ}".
13- موالاة الكافرين:
قال الله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا % الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:138-139].(/8)
قال الطبري: "يقول الله لنبيه: يا محمد، {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} الذين يتخذون أهل الكفر بي والإلحاد في ديني أولياء يعني أنصارا وأخلاّء من دون المؤمنين، يعني: من غير المؤمنين. {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} يقول: أيطلبون عندهم المنعة والقوة باتخاذهم إياهم أولياء من دون أهل الإيمان بي، {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} يقول: فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاء العزة عندهم هم الأذلاء الأقلاء، فهلاّ اتخذوا الأولياء من المؤمنين، فيلتمِسوا العزّة والمنعة والنصرة من عند الله الذي له العزة والمنعة، الذي يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء، فيعزّهم ويمنعهم".
14- التربص بالمؤمنين:
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141].
قال الطبري: "يعني جل ثناؤه بقوله: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} الذين ينتظرون ـ أيها المؤمنون ـ بكم، {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} يعني: فإن فتح الله عليكم فتحا من عدوكم، فأفاء عليكم فيئا من المغانم، {قَالُواْ} لكم {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} نجاهد عدوّكم، ونغزوهم معكم، فأعطونا نصيبا من الغنيمة، فإنا قد شهدنا القتال معكم، {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} يعني: وإن كان لأعدائكم من الكافرين حظ منكم بإصابتهم منكم {قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} يعني: قال هؤلاء المنافقون للكافرين {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} ألم نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين، ونمنعكم منهم بتخذيلنا إياهم، حتى امتنعوا منكم فانصرفوا، {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني: فالله يحكم بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة، فيفصل بينكم بالقضاء الفاصل بإدخال أهل الإيمان جنته، وأهل النفاق مع أوليائهم من الكفار نارَه".
وقال ابن القيم: "يتربّصون الدوائر بأهل السنة والقرآن، فإن كان لهم فتح من الله قالوا: ألم تكن معكم؟! وأقسموا على ذلك بالله جهد أيمانهم، وإن كان لأعداء الكتاب والسنة من النصرة نصيب قالوا: ألم تعلموا أنّ عقد الإخاء بيننا محكم، وأن النسب بيننا قريب؟! فيا من يريد معرفتهم، خُذ صفتهم من كلام ربّ العالمين، فلا تحتاج بعده دليلاً: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}".
15- الاتفاق مع أهل الكتاب ضدّ المؤمنين والتولي في القتال:
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ % لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [الحشر:11-12].
16- الطبع على القلوب فلا يفقهون:
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16].
17- فتنة النفس والتربّص والاغترار بالأماني:
قال الله تعالى: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14].
18- مخادعة الله تعالى والكسل في العبادات والرياء في الطاعات وقلة ذكر الله:
قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاّ قَلِيلاً} [النساء:142].(/9)
قال الطبري: "فتأويل ذلك: إن المنافقين يخادعون الله بإحرازهم بنفاقهم دماءَهم وأموالهم، والله خادعهم بما حكم فيهم من منع دمائهم بما أظهروا بألسنتهم من الإيمان، مع علمه بباطن ضمائرهم واعتقادهم الكفر، استدراجا منه لهم في الدنيا، حتى يلقوه في الآخرة فيوردهم بما استبطنوا من الكفر نار جهنم.
وأما قوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ} فإنه يعني أن المنافقين لا يعملون شيئا من الأعمال التي فرضها الله على المؤمنين على وجه التقرّب بها إلى الله، لأنهم غير موقنين بمعاد ولا ثواب ولا عقاب، وإنما يعملون ما عملوا من الأعمال الظاهرة بقاء على أنفسهم، وحذارا من المؤمنين عليها أن يقتلوا أو يسلبوا أموالهم، فهم إذا قاموا إلى الصلاة التي هي من الفرائض الظاهرة قاموا كسالى إليها رياء للمؤمنين؛ ليحسبوهم منهم، وليسوا منهم؛ لأنهم غير معتقدي فرضها ووجوبها عليهم، فهم في قيامهم إليها كسالى.
وأما قوله: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاّ قَلِيلاً} فلعل قائلا أن يقول: وهل من ذكر الله شيء قليل؟! قيل له: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت، إنما معناه: ولا يذكرون الله إلا ذكرا رياء؛ ليدفعوا به عن أنفسهم القتل والسباء وسلب الأموال، لا ذكر موقن مصدّق بتوحيد الله، مخلص له الربوبية؛ فلذلك سماه الله قليلا؛ لأنه غير مقصود به الله، ولا مبتغى به التقرب إلى الله، ولا مرادا به ثواب الله وما عنده، فهو وإن كثر من وجه نصب عامله وذاكره في معنى السراب الذي له ظاهر بغير حقيقة ماء".
وقال ابن القيم: "لهم علامات يعرفون بها مبيّنة في السنة والقرآن، بادية لمن تدبّرها من أهل بصائر الإيمان، قام بهم ـ والله ـ الرياء، وهو أقبح مقام قامه الإنسان، وقعد بهم الكسل عما أمروا به من أوامر الرحمن، فأصبح الإخلاص عليهم لذلك ثقيلا {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاّ قَلِيلاً}".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا. لقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم، ثم آمر رجلا يؤم الناس، ثم آخذ شعلاً من نار فأحرق على من لا يخرج إلى الصلاة بعد)).
قال ابن حجر: "وإنما كانت العشاء والفجر أثقل عليهم من غيرهما؛ لقوة الداعي إلى تركهما؛ لأن العشاء وقت السكون والراحة، والصبح وقت لذة النوم".
19- التّذبذب والتردّد بين المؤمنين والكافرين:
قال الله تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاء} [النساء:143].
قال الطبري: "عنى بذلك أن المنافقين متحيّرون في دينهم، لا يرجعون إلى اعتقاد شيء على صحّة، فهم لا مع المؤمنين على بصيرة، ولا مع المشركين على جهالة، ولكنّهم حيارى بين ذلك".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة)).
قال النووي: "العائرة: المتردّدة الحائرة، لا تدري لأَيِّهِمَا تتبع، ومعنى تعير أي: تردّد وتذهب".
20- مخادعة المؤمنين:
قال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9].
قال الطبري: "وخداع المنافق ربّه والمؤمنين إظهاره بلسانه من القول والتصديق خلاف الذي في قلبه من الشكّ والتكذيب؛ ليدْرَأ عن نفسه بما أظهر بلسانه حكمَ الله عز وجل اللازم من كان بمثل حاله من التكذيب، لو لم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار من القتل والسباء، فذلك خِداعُه ربّه وأهلَ الإيمان بالله".
وقال ابن كثير: "أي: بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر، يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذاك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْء أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18]، ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} يقول: وما يغرّون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون بذلك من أنفسهم كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}".
21- التحاكم إلى الطاغوت والصدود عما أنزل الله و عدم الرضا بالتحاكم إليه:(/10)
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا % وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60-61].
قال ابن القيم: "إن حاكمت المنافقين إلى صريح الوحي وجدتهم عنه نافرين، وإن دعوتهم إلى حكم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم رأيتهم عنه معرضين، فلو شهدت حقائقهم لرأيت بينها وبين الهدى أمدا بعيدا، ورأيتها معرضة عن الوحي إعراضا شديدا، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}".
22- الإفساد بين المؤمنين:
قال الله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47].
قال ابن كثير: "{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاّ خَبَالاً} أي: لأنهم جبناء مخذولون، {وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أي: ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة، {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي: مطيعون لهم، ومستحسنون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدّي إلى وقوع شرّ بين المؤمنين وفساد كبير".
23- الحلف الكاذب والخوف والجبن والهلع:
قال الله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ % لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة:56، 57].
قال ابن كثير: "يخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن جزعهم وفزعهم وفرقهم وهلعهم أنهم {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ } يمينا مؤكّدة، {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} أي: في نفس الأمر، {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} أي: فهو الذي حملهم على الحلف. {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً} أي: حصنا يتحصنون به، وحرزا يتحرزون به، {أَوْ مَغَارَاتٍ} وهي التي في الجبال، {أَوْ مُدَّخَلاً} وهو السرب في الأرض والنفق... {مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي: يسرعون في ذهابهم عنكم؛ لأنهم إنما يخالطونكم كرها لا محبة، وودّوا أنهم لا يخالطونكم، ولكن للضرورة أحكام، ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغم؛ لأن الإسلام وأهله لا يزال في عزّ ونصر ورفعة، فلهذا كلّما سرّ المسلمون ساءهم ذلك فهم يودّون أن لا يخالطوا المؤمنين ولهذا قال: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ}".
وقال الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ % اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ % ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:1-3].
قال الشافعي: "فبيّن في كتاب الله عز وجل أن الله أخبر عن المنافقين أنهم اتخذوا أيمانهم جُنَّة يعني ـ والله أعلم ـ من القتل، ثم أخبر بالوجه الذي اتخذوا به أيمانهم جُنَّة فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} بعد الإيمان كفرًا إذا سئلوا عنه أنكروه، وأظهروا الإيمان وأقروا به، وأظهروا التوبة منه، وهم مقيمون فيما بينهم وبين الله تعالى على الكفر".
وقال ابن القيم: "تسبق يمين أحدهم كلامَه من غير أن يعترض عليه؛ لعلمه أن قلوب أهل الإيمان لا تطمئن إليه، فيتبرأ بيمينه من سوء الظن به، وكشف ما لديه، وكذلك أهل الريبة يكذبون ويحلفون؛ ليحسب السامع أنهم صادقون {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}".
وقال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].(/11)
قال الطبري: "يقول جل ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا رأيت هؤلاء المنافقين ـ يا محمد ـ تعجبك أجسامهم؛ لاستواء خلقها وحسن صورها، {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} يقول جل ثناؤه: وإن يتكلموا تسمع كلامهم، يشبه منطقهم منطق الناس، {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} يقول: كأن هؤلاء المنافقين خشب مسندة، لا خير عندهم، ولا فقه لهم، ولا علم، وإنما هم صور بلا أحلام، وأشباح بلا عقول، وقوله: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} يقول جل ثناؤه: يحسب هؤلاء المنافقون من خبثهم وسوء ظنهم وقلة يقينهم كلّ صيحة عليهم؛ لأنهم على وجل أن ينزل الله فيهم أمرا يهتك به أستارهم ويفضحهم، ويبيح للمؤمنين قتلهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم، فهم من خوفهم من ذلك كلما نزل بهم من الله وحي على رسوله ظنوا أنه نزل بهلاكهم بالأسن".
وقال ابن القيم: "أحسن الناس أجسامًا وأخلبهم لسانًا وألطفهم بيانًا وأخبثهم قلوبًا وأضعفهم جنانًا، فهم كالخشب المسندة التي لا ثمر لها، قد قلعت من مغارسها فتساندت إلى حائط يقيمها؛ لئلا يطأها السالكون، {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}".
24- يحبون أن يحمَدوا بما لم يفعلوا:
قال الله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188].
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلّفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه، وحلفوا وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: {لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}.
25- ظهور الرعب عليهم عند ذكر القتال في آيات الله تعالى:
قال الله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد:20].
26- يعيبون العمل الصالح ويرضون ويسخطون لحظوظ أنفسهم:
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58].
قال ابن كثير: "يقول تعالى: {وَمِنْهُمْ} أي: ومن المنافقين {مَنْ يَلْمِزُكَ} أي: يعيب عليك {فِي} قسم {الصَّدَقَاتِ} إذا فرقتها، ويتهمك في ذلك، وهم المتّهمون المأبونون، وهم مع هذا لا ينكرون للدين، وإنما ينكرون لحظ أنفسهم؛ ولهذا إن أعطوا من الزكاة {رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} أي: يغضبون لأنفسهم".
27- يكرهون الجهاد والاستشهاد في سبيل الله تعالى:
قال الله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران:167].
قال الطبري: "يعني تعالى ذكره بذلك عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق وأصحابَه الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، حين سار نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحد لقتالهم، فقال لهم المسلمون: تعالوا قاتلوا المشركين معنا، أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لسِرنا معكم إليهم، ولكُنّا معكم عليهم، ولكن لا نرى أنه يكون بينكم وبين القوم قتال، فأبدَوا من نفاق أنفسهم ما كانوا يكتمونه، وأبدوا بألسنتهم بقولهم: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ} غير ما كانوا يكتمونه ويخفونه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به".
28- يسخرون من العمل القليل من المؤمنين:
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79].(/12)
عن أبي مسعود رضي الله عنه، قال: لما أمرنا بالصدقة كنّا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رئاء، فنزلت: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ...}.
قال ابن كثير: "وهذا أيضا من صفات المنافقين، لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا: هذا مُراءٍ، وإن جاء بشيء يسير قالوا: إن الله لغني عن صدقته".
29- الرضا بأسافل المواضع:
قال الله تعالى: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:86].
قال ابن كثير: "يقول تعالى منكرا وذاما للمتخلفين عن الجهاد الناكلين عنه مع القدرة عليه ووجود السعة والطول، واستأذنوا الرسول في القعود، وقالوا: {ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ}، ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء وهن الخوالف، بعد خروج الجيش، فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس، وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلاما، كما قال تعالى عنهم في الآية الأخرى: {فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:19] أي: علت ألسنتهم بالكلام الحادّ القوي في الأمن، وفي الحرب أجبن شيء".
30- الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والبخل ونسيان الله تعالى:
قال الله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67].
قال ابن كثير: "يقول تعالى منكرا على المنافقين الذين هم على خلاف صفات المؤمنين، ولما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كان هؤلاء {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أي: عن الإنفاق في سبيل الله{نَسُوا اللَّهَ} أي: نسوا ذكر الله {فَنَسِيَهُمْ} أي: عاملهم معاملة من نسيهم، كقوله تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا}. {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الخارجون عن طريق الحق الداخلون في طريق الضلالة".
وقال ابن القيم: "هم جنس بعضه يشبه بعضا، يأمرون بالمنكر بعد أن يفعلوه، وينهون عن المعروف بعد أن يتركوه، ويبخلون بالمال في سبيل الله ومرضاته أن ينفقوه، كم ذكرهم الله بنعمه فأعرضوا عن ذكره ونسوه، وكم كشف حالهم لعباده المؤمنين ليتجنبوه، فاسمعوا أيها المؤمنون: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}".
31- الفرح بالتخلف وكره الجهاد والتواصي بالتخلف عنه:
قال الله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81].
قال ابن كثير: "يقول تعالى ذاما للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وفرحوا بقعودهم بعد خروجه، {وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا} معه {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا} أي: بعضهم لبعض {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ}؛ وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر عند طيب الظلال والثمار؛ فلهذا قالوا: لا تنفروا في الحرّ، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {قُلْ} لهم {نَارُ جَهَنَّمَ} التي تصيرون إليها بمخالفتكم {أَشَدُّ حَرًّا} مما فررتم منه من الحر، بل أشدّ حرّا من النار".
32- التخذيل والتثبيط والإرجاف:
قال الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُورًا % وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} [الأحزاب:12-13].
33- البطء عن المؤمنين:(/13)
قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء:72].
قال الطبري: "وهذا نعت من الله تعالى ذكره للمنافقين، نعتهم لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ووصفهم بصفتهم فقال: {وَإِنَّ مِنْكُمْ} أيها المؤمنون، يعني: من عدادكم وقومكم، ومن يتشبه بكم، ويظهر أنه من أهل دعوتكم وملتكم، وهو منافق يبطِّئ من أطاعه منكم عن جهاد عدوكم، وقتالهم إذا أنتم نفرتم إليهم، {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} يقول: فإن أصابتكم هزيمة أو نالكم قتل أو جراح من عدوكم {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} فيصيبني جراح أو ألم أو قتل، وسرّه تخلّفه عنكم شماتةً بكم؛ لأنه من أهل الشكّ في وعد الله الذي وعد المؤمنين على ما نالهم في سبيله من الأجر والثواب وفي وعيده، فهو غير راج ثوابا، ولا خائف عقابا".
34- لا ينفعهم القرآن بل يزيدهم رجسًا إلى رجسهم:
قال الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ % وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124-125].
35 - العودة إلى ما نهوا عنه والتناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول:
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8].
36- الاستئذان عن الجهاد بحجة الفتنة:
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49].
قال ابن كثير: "يقول تعالى: ومن المنافقين من يقول لك يا محمد: {ائْذَنْ لِي} في القعود {وَلا تَفْتِنِّي} بالخروج معك بسبب الجواري من نساء الروم، قال الله تعالى: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أي: قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا".
37- اتخاذ الأعذار عند التخلف:
قال الله تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:94].
قال ابن كثير: "أخبر تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رجعوا إلى المدينة أنهم يعتذرون إليهم {قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} أي: لن نصدقكم، {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} أي: قد أعلمنا الله أحوالكم، {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} أي: سيظهر أعمالكم للناس في الدنيا، {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: فيخبركم بأعمالكم، خيرها وشرها، ويجزيكم عليها".
38- الاستخفاء من الناس:
قال الله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء:108].
قال ابن كثير: "هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس؛ لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون الله بها؛ لأنه مطّلع على سرائرهم، وعالم بما في ضمائرهم، ولهذا قال: {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} تهديد لهم ووعيد".
39- يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا:
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
40- الفرح بما يصيب المؤمنين من ضراء والاستياء بما يمكّن الله لهم:(/14)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ % هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ % إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:118-120].
قال ابن كثير: "يقول تبارك وتعالى ناهيا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة، أي: يطلعونهم على سرائرهم، وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالا أي: يسعون في مخالفتهم، وما يضرّهم بكل ممكن، وبما يستطيعون من المكر والخديعة، ويودّون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشقّ عليهم".
وقال ابن القيم: "إن أصاب أهل الكتاب والسنة عافية ونصر وظهور ساءهم ذلك وغمّهم، وإن أصابهم ابتلاء من الله وامتحان يمحص به ذنوبهم ويكفر به عنهم سيئاتهم أفرحهم ذلك وسرهم، وهذا يحقق إرثهم وإرث من عداهم، ولا يستوي من موروثه الرسول ومن موروثهم المنافقون، {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ % قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:50، 51]".
وقال الله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة:50].
قال ابن كثير: "يعلم تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بعداوة هؤلاء له؛ لأنه مهما أصابه من حسنة أي: فتح ونصر وظفر على الأعداء مما يسرّه ويسرّ أصحابه ساءهم ذلك، {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} أي: قد احترزنا من متابعته من قبل هذا {وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ}".
41- إذا اؤتمن خان وإذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر:
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ % فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ % فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} [التوبة:75-77].
قال ابن كثير: "يقول تعالى: ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه لئن أغناه من فضله ليصدقن من ماله، وليكوننّ من الصالحين، فما وفَّى بما قال، ولا صدق فيما ادعى، فأعقبهم هذا الصنيع نفاقا سكن في قلوبهم إلى يوم يلقوا الله عز وجل يوم القيامة، عياذا الله من ذلك".
وقال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8].
قال ابن القيم: "لبسوا ثياب أهل الإيمان، على قلوب أهل الزيغ والخسران والغل والكفران، فالظواهر ظواهر الأنصار، والبواطن قد تحيزت إلى الكفار، فألسنتهم ألسنة المسالمين، وقلوبهم قلوب المحاربين، ويقولون: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}".
وقال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9].
قال ابن القيم: "رأس مالهم الخديعة والمكر، وبضاعتهم الكذب والخثر، وعندهم العقل المعيشي أن الفريقين عنهم راضون، وهم بينهم آمنون، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)).(/15)
قال النووي: "هذا الحديث مما عدّه جماعة من العلماء مشكِلا من حيث إن هذه الخصال توجد في المسلم المصدّق الذي ليس فيه شك... فإن إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم جمعوا هذه الخصال، وكذا وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كلّه، وهذا الحديث ليس فيه بحمد الله تعالى إشكال، ولكن اختلف العلماء في معناه، فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار: إن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلّق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حقّ من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر، ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلّدين في الدرك الأسفل من النار.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((كان منافقا خالصا)) معناه: شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال. قال بعض العلماء: وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه، فأما من يندر ذلك منه فليس داخلا فيه، وهذا هو المختار في معنى الحديث".
42- تأخير الصلاة عن وقتها:
عن العلاء بن عبد الرحمن أنه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة حين انصرف من الظهر، وداره بجنب المسجد، فلما دخلنا عليه قال: أصليتم العصر؟ فقلنا له: إنما انصرفنا الساعة من الظهر، قال: فصلوا العصر، فقمنا فصلينا، فلمّا انصرفنا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا)).
قال ابن القيم: "يؤخّرون الصلاة عن وقتها الأوّل إلى شرق الموتى، فالصبح عند طلوع الشمس، والعصر عند الغروب، وينقرونها نقرَ الغراب إذ هي صلاة الأبدان لا صلاة القلوب، ويلتفتون فيها التفات الثعلب إذ يتيقّن أنّه مطرود مطلوب".
43- التخلف عن الصلاة في جماعة المسلمين:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (من سرّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سننَ الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحطّ عنه بها سيئة، ولقد رأيتُنا وما يتخلّف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).
قال الشُّمُنِّي: "ليس المراد بالمنافق ها هنا من يبطن الكفر ويظهر الإسلام، وإلا لكانت الجماعة فريضة؛ لأن من يبطن الكفر كافر، ولكان آخر الكلام مناقضًا لأوله".
44- البذاء والبيان:
عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الحياء والعِيّ شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق)).
قال الترمذي: "والعِيّ قلّة الكلام، والبذاء هو الفحش في الكلام، والبيان هو كثرة الكلام، مثل هؤلاء الخطباء الذين يخطبون فيوسّعون في الكلام، ويتفصّحون فيه، من مدح الناس فيما لا يُرضي الله".
قال المناوي: "والعِي أي: سكون اللسان تحرّزا عن الوقوع في البهتان لا عيّ القلب ولا عيّ العمل ولا عيّ اللسان لخلل. ((شعبتان من شعب الإيمان)) أي: أثران من آثاره، بمعنى أن المؤمن يحمله الإيمان على الحياء، فيترك القبائح حياء من الله، ويمنعه من الاجتراء على الكلام شفقا من عثر اللسان والوقيعة في البهتان. والبذاء هو ضدّ الحياء وقيل: فحش الكلام والبيان، أي: فصاحة اللسان، والمراد به هنا ما يكون فيه إثم من الفصاحة كهجو أو مدح بغير حقّ. شعبتان من النفاق بمعنى أنهما خصلتان منشؤهما النفاق، والبيان المذكور هو التعمّق في النطق والتفاصح وإظهار التقدّم فيه على الغير تيها وعجبا كما تقرر. قال القاضي: لما كان الإيمان باعثا على الحياء والتحفظ في الكلام والاحتياط فيه عدّ من الإيمان، وما يخالفهما من النفاق، وعليه فالمراد بالعيّ ما يكون بسبب التأمل في المقال والتحرز عن الوبال لا لخلل في اللسان، والبيان ما يكون بسببه الاجتراء وعدم المبالاة بالطغيان والتحرز عن الزور والبهتان. وقال الطيبي: إنما قوبل العي في الكلام مطلقا بالبيان الذي هو التعمق في النطق والتفاصح وإظهار التقدم فيه على الناس مبالغة لذم البيان وأن هذه مضرة بالإيمان مضرّةَ ذلك البيان".(/16)
وقال ابن القيم: "وجملة أمرهم أنهم في المسلمين كالزغل في النقود، يروج على أكثر الناس لعدم بصيرتهم بالنقد، ويعرف حاله الناقد البصير من الناس، وقليل ما هم. وليس على الأديان أضرّ من هذا الضرب من الناس، وإنما تفسد الأديان من قِبلهم، ولهذا جَلَّى الله أمرهم في القرآن، وأوضح أوصافهم، وبيّن أحوالهم، وكرّر ذكرهم؛ لشدة المؤنة على الأمّة بهم وعِظم البلية عليهم بوجودهم بين أظهرهم، وفرط حاجتهم إلى معرفتهم والتحرّز من مشابهتهم والإصغاء إليهم، فكم قطعوا على السالكين إلى الله طريق الهدى، وسلكوا بهم سبل الردى، وعَدُوهم ومنّوهم، ولكن وعدوهم الغرور، ومنّوهم الويل والثبور".
جامع البيان (1/122).
مدارج السالكين (1/379).
جامع البيان (22/3).
جامع البيان (17/191).
تفسير القرآن العظيم (4/370).
جامع البيان (10/171).
مدارج السالكين (1/379-380).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} (4900)، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2772).
جامع البيان (1/127).
جامع البيان (1/128-129).
مدارج السالكين (1/379).
جامع البيان (5/329).
جامع البيان (5/331).
مدارج السالكين (1/381-382).
جامع البيان (5/334-335).
مدارج السالكين (1/381).
أخرجه البخاري في الأذان، باب: فضل العشاء في الجماعة (657) واللفظ له، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (651).
فتح الباري (2/141).
جامع البيان (5/335-336).
أخرجه مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2784).
شرح صحيح مسلم (17/128).
جامع البيان (1/118).
تفسير القرآن العظيم (1/48-49).
مدارج السالكين (1/382-383).
تفسير القرآن العظيم (2/375).
تفسير القرآن العظيم (2/377).
أحكام القرآن (1/294).
مدارج السالكين (1/383).
جامع البيان (28/107-108).
مدارج السالكين (1/384).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله: {لاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرِحُونَ بِمَا أَتَوْا} (4567)، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2777).
تفسير القرآن العظيم (2/377).
جامع البيان (4/167).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ...} (14668)، ومسلم في الزكاة (1018).
تفسير القرآن العظيم (2/389).
تفسير القرآن العظيم (2/394).
تفسير القرآن العظيم (2/382).
مدارج السالكين (1/382).
تفسير القرآن العظيم (2/391).
جامع البيان (5/165).
تفسير القرآن العظيم (2/376).
تفسير القرآن العظيم (2/397).
تفسير القرآن العظيم (1/565).
تفسير القرآن العظيم (1/406).
مدارج السالكين (1/385).
تفسير القرآن العظيم (2/376).
تفسير القرآن العظيم (2/388).
مدارج السالكين (1/378).
مدارج السالكين (1/379).
أخرجه البخاري في الإيمان، باب:علامة المنافق (34)، ومسلم في الإيمان (58).
شرح صحيح مسلم (2/46-47).
أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (622).
قال في القاموس (1158): "شرقت الشمس: ضعف ضوؤها أو دنت للغروب. وأضافه $ إلى الموتى فقال: ((يؤخرون الصلاة إلى شرق الموتى)) لأن ضوءها عند ذلك الوقت ساقط على المقابر، أو أراد أنهم يصلّونها ولم يبق من النهار إلا بقدر ما يبقى من نفس المحتضر إذا شرق بريقه".
مدارج السالكين (1/384).
أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (654).
ينظر: عون المعبود (2/179).
أخرجه أحمد (5/269)، والترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في العي (2027)، والبيهقي في الشعب (7706)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من حديث أبي غسان محمد بن مطرف "، وصححه الحاكم (1/51)، والألباني في صحيح الترمذي (1650).
فيض القدير (3/428).
طريق الهجرتين (719).
سادسًا: صفات المنافقين في الكتاب والسنة:
1- مرض القلب:
قال الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10].
قال الطبري: "معنى قول الله جل ثناؤه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} إنما يعني: في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله مرض وسقم، فاجتزأ بدلالة الخبر عن قلوبهم على معناه عن تصريح الخبر عن اعتقادهم. والمرض الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه هو شكّهم في أمر محمد وما جاء به من عند الله وتحيّرهم فيه، فلا هم به موقنون إيقانَ إيمان، ولا هم له منكرون إنكار إشراك، ولكنهم كما وصفهم الله عز وجل مذبذبون بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما يقال: فلان يُمَرِّضُ في هذا الأمر، أي: يُضَعِّف العزمَ ولا يصحّح الروِيَّة فيه".(/17)
قال ابن القيم: "قد نهكت أمراضُ الشّبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها، وغلبت القصودَ السيئة على إراداتهم ونياتهم فأفسدتها، ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك، فعجز عنه الأطبّاء العارفون، {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}"().
2- الطمع الشهواني:
قال الله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَض} [الأحزاب:32].
قال الطبري: "فيطمع الذي في قلبه ضعف، فهو لضعف إيمانه في قلبه، إما شاكّ في الإسلام منافق، فهو لذلك من أمره يستخفّ بحدود الله، وإما متهاون بإتيان الفواحش".
3- الزيغ بالشبه:
قال الله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج:53].
قال الطبري: "يقول: اختبارا يختبر به الذين في قلوبهم مرض من النفاق، وذلك الشكّ في صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقيقة ما يخبرهم به".
4- التكبّر والاستكبار:
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5].
قال ابن كثير: "يقول تعالى مخبِرا عن المنافقين عليهم لعائن الله أنهم إذا قيل لهم: {إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} أي: صدّوا واعرضوا عمّا قيل لهم استكبارا عن ذلك، واحتقارا لما قيل، ولهذا قال تعالى: {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}. ثم جازاهم على ذلك فقال تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَّغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}".
5- الاستهزاء بآيات الله والجلوس إلى المستهزئين بآيات الله:
قال الله تعالى:{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة: 64].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: يخشى المنافقون أن تنزل فيهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، يقول: تظهر المؤمنين على ما في قلوبهم. وقيل: إن الله أنزل هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن المنافقين كانوا إذا عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا شيئا من أمره وأمر المسلمين قالوا: لعلّ الله لا يفشي سرّنا، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: {اسْتَهْزِئُوا}، متهدِّدا لهم متوعّدا، {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}".
وقال الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140].
6- الاستهزاء بالمؤمنين:
قال الله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ % اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14-15].
قال ابن القيم: "لكل منهم وجهان: وجه يلقى به المؤمنين، ووجه ينقلب به إلى إخوانه من الملحدين، وله لسانان: أحدهما يقبله بظاهره المسلمون، والآخر يترجم به عن سرّه المكنون، {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}.
قد أعرضوا عن الكتاب والسنّة استهزاءً بأهلهما واستحقارًا، وأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحًا بما عندهم من العلم الذي لا ينفع الاستكثار منه إلا أشرًا واستكبارًا، فتراهم أبدًا بالمتمسكين بصريح الوحي يستهزئون {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}".
7- الظن السيئ بالله تعالى:
قال الله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6].
8- عدم الثقة بوعد الله تعالى ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم:
قال الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12].
9- صدّ الناس عن الإنفاق في سبيل الله:(/18)
قال الله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7].
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كنت في غزاة، فسمعت عبد الله بن أبيّ يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضّوا من حولِه، ولئن رجعنا من عنده ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ، فذكرت ذلك لعمّي أو لعمر، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم، فدعاني فحدّثته، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبيّ وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فكذّبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدّقه، فأصابني همّ لم يصبني مثلُه قطّ، فجلست في البيت فقال لي عمّي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك، فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}. فبعث إليّ النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ، فقال: ((إن الله قد صدقك يا زيد)).
10- التستّر ببعض الأعمال المشروعة للإضرار بالمؤمنين:
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107].
11- التفريق بين المؤمنين والدّسّ والوقيعة وإشعال نار الفتنة واستغلال الخلافات وتوسيع شقّتها والإفساد في الأرض وادعاء الإصلاح:
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11].
قال الطبري: "وهذا القول من الله جلّ ثناؤه تكذيب للمنافقين في دعواهم؛ إذا أمروا بطاعة الله فيما أمرهم الله به ونهوا عن معصية الله فيما نهاهم الله عنه قالوا: إنما نحن مصلحون لا مفسدون، ونحن على رشد وهدى فيما أنكرتموه علينا دونكم لا ضالّون، فكذّبهم الله عز وجل في ذلك من قيلهم، فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} المخالفون أمرَ الله عز وجل، المتعدّون حدودَه، الراكبون معصيتَه، التاركون فروضَه، وهم لا يشعرون، ولا يدرون، أنهم كذلك، لا الذين يأمرونهم بالقسط من المؤمنين، وينهونهم عن معاصي الله في أرضه من المسلمين".
12- السفه ورمي المؤمنين بالسفه:
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13].
قال الطبري: "هذا خبر من الله تعالى عن المنافقين الذين تقدّم نعته لهم ووصفه إياهم بما وصفهم به من الشك والتكذيب أنهم هم الجهّال في أديانهم، الضعفاء الآراء في اعتقاداتهم واختياراتهم التي اختاروها لأنفسهم، من الشكّ والريب في أمر الله وأمر رسوله وأمر نبوّته، وفيما جاء به من عند الله وأمر البعث؛ لإساءتهم إلى أنفسهم بما أتوا من ذلك، وهم يحسبون أنهم إليها يحسِنون، وذلك هو عين السفه؛ لأن السفيه إنما يفسِد من حيث يرى أنه يصلح، ويضيع من حيث يرى أنه يحفظ، فكذلك المنافق يعصي ربّه من حيث يرى أنه يطيعه، ويكفر به من حيث يرى أنه يؤمن به، ويسيء إلى نفسه من حيث يحسب أنه يحسن إليها، كما وصفهم به ربّنا جل ذكره، فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}، وقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} دون المؤمنين المصدّقين بالله وبكتابه وبرسوله وثوابه وعقابه {وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ}".
وقال ابن القيّم: "المتمسّك عندهم بالكتاب والسنّة صاحب ظواهر، مبخوس حظّه من المعقول، والدائر مع النصوص عندهم كحمار يحمِل أسفارا، فهمه في حمل المنقول، وبضاعة تاجر الوحي لديهم كاسدة، وما هو عندهم بمقبول، وأهل الاتباع عندهم سفهاء، فهم في خلواتهم ومجالسهم بهم يتطيرون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ}".
13- موالاة الكافرين:
قال الله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا % الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:138-139].(/19)
قال الطبري: "يقول الله لنبيه: يا محمد، {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} الذين يتخذون أهل الكفر بي والإلحاد في ديني أولياء يعني أنصارا وأخلاّء من دون المؤمنين، يعني: من غير المؤمنين. {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} يقول: أيطلبون عندهم المنعة والقوة باتخاذهم إياهم أولياء من دون أهل الإيمان بي، {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} يقول: فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاء العزة عندهم هم الأذلاء الأقلاء، فهلاّ اتخذوا الأولياء من المؤمنين، فيلتمِسوا العزّة والمنعة والنصرة من عند الله الذي له العزة والمنعة، الذي يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء، فيعزّهم ويمنعهم".
14- التربص بالمؤمنين:
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141].
قال الطبري: "يعني جل ثناؤه بقوله: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} الذين ينتظرون ـ أيها المؤمنون ـ بكم، {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} يعني: فإن فتح الله عليكم فتحا من عدوكم، فأفاء عليكم فيئا من المغانم، {قَالُواْ} لكم {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} نجاهد عدوّكم، ونغزوهم معكم، فأعطونا نصيبا من الغنيمة، فإنا قد شهدنا القتال معكم، {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} يعني: وإن كان لأعدائكم من الكافرين حظ منكم بإصابتهم منكم {قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} يعني: قال هؤلاء المنافقون للكافرين {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} ألم نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين، ونمنعكم منهم بتخذيلنا إياهم، حتى امتنعوا منكم فانصرفوا، {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني: فالله يحكم بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة، فيفصل بينكم بالقضاء الفاصل بإدخال أهل الإيمان جنته، وأهل النفاق مع أوليائهم من الكفار نارَه".
وقال ابن القيم: "يتربّصون الدوائر بأهل السنة والقرآن، فإن كان لهم فتح من الله قالوا: ألم تكن معكم؟! وأقسموا على ذلك بالله جهد أيمانهم، وإن كان لأعداء الكتاب والسنة من النصرة نصيب قالوا: ألم تعلموا أنّ عقد الإخاء بيننا محكم، وأن النسب بيننا قريب؟! فيا من يريد معرفتهم، خُذ صفتهم من كلام ربّ العالمين، فلا تحتاج بعده دليلاً: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}".
15- الاتفاق مع أهل الكتاب ضدّ المؤمنين والتولي في القتال:
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ % لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [الحشر:11-12].
16- الطبع على القلوب فلا يفقهون:
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16].
17- فتنة النفس والتربّص والاغترار بالأماني:
قال الله تعالى: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14].
18- مخادعة الله تعالى والكسل في العبادات والرياء في الطاعات وقلة ذكر الله:
قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاّ قَلِيلاً} [النساء:142].(/20)
قال الطبري: "فتأويل ذلك: إن المنافقين يخادعون الله بإحرازهم بنفاقهم دماءَهم وأموالهم، والله خادعهم بما حكم فيهم من منع دمائهم بما أظهروا بألسنتهم من الإيمان، مع علمه بباطن ضمائرهم واعتقادهم الكفر، استدراجا منه لهم في الدنيا، حتى يلقوه في الآخرة فيوردهم بما استبطنوا من الكفر نار جهنم.
وأما قوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ} فإنه يعني أن المنافقين لا يعملون شيئا من الأعمال التي فرضها الله على المؤمنين على وجه التقرّب بها إلى الله، لأنهم غير موقنين بمعاد ولا ثواب ولا عقاب، وإنما يعملون ما عملوا من الأعمال الظاهرة بقاء على أنفسهم، وحذارا من المؤمنين عليها أن يقتلوا أو يسلبوا أموالهم، فهم إذا قاموا إلى الصلاة التي هي من الفرائض الظاهرة قاموا كسالى إليها رياء للمؤمنين؛ ليحسبوهم منهم، وليسوا منهم؛ لأنهم غير معتقدي فرضها ووجوبها عليهم، فهم في قيامهم إليها كسالى.
وأما قوله: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاّ قَلِيلاً} فلعل قائلا أن يقول: وهل من ذكر الله شيء قليل؟! قيل له: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت، إنما معناه: ولا يذكرون الله إلا ذكرا رياء؛ ليدفعوا به عن أنفسهم القتل والسباء وسلب الأموال، لا ذكر موقن مصدّق بتوحيد الله، مخلص له الربوبية؛ فلذلك سماه الله قليلا؛ لأنه غير مقصود به الله، ولا مبتغى به التقرب إلى الله، ولا مرادا به ثواب الله وما عنده، فهو وإن كثر من وجه نصب عامله وذاكره في معنى السراب الذي له ظاهر بغير حقيقة ماء".
وقال ابن القيم: "لهم علامات يعرفون بها مبيّنة في السنة والقرآن، بادية لمن تدبّرها من أهل بصائر الإيمان، قام بهم ـ والله ـ الرياء، وهو أقبح مقام قامه الإنسان، وقعد بهم الكسل عما أمروا به من أوامر الرحمن، فأصبح الإخلاص عليهم لذلك ثقيلا {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاّ قَلِيلاً}".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا. لقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم، ثم آمر رجلا يؤم الناس، ثم آخذ شعلاً من نار فأحرق على من لا يخرج إلى الصلاة بعد)).
قال ابن حجر: "وإنما كانت العشاء والفجر أثقل عليهم من غيرهما؛ لقوة الداعي إلى تركهما؛ لأن العشاء وقت السكون والراحة، والصبح وقت لذة النوم".
19- التّذبذب والتردّد بين المؤمنين والكافرين:
قال الله تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاء} [النساء:143].
قال الطبري: "عنى بذلك أن المنافقين متحيّرون في دينهم، لا يرجعون إلى اعتقاد شيء على صحّة، فهم لا مع المؤمنين على بصيرة، ولا مع المشركين على جهالة، ولكنّهم حيارى بين ذلك".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة)).
قال النووي: "العائرة: المتردّدة الحائرة، لا تدري لأَيِّهِمَا تتبع، ومعنى تعير أي: تردّد وتذهب".
20- مخادعة المؤمنين:
قال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9].
قال الطبري: "وخداع المنافق ربّه والمؤمنين إظهاره بلسانه من القول والتصديق خلاف الذي في قلبه من الشكّ والتكذيب؛ ليدْرَأ عن نفسه بما أظهر بلسانه حكمَ الله عز وجل اللازم من كان بمثل حاله من التكذيب، لو لم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والإقرار من القتل والسباء، فذلك خِداعُه ربّه وأهلَ الإيمان بالله".
وقال ابن كثير: "أي: بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر، يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذاك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْء أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18]، ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} يقول: وما يغرّون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون بذلك من أنفسهم كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}".
21- التحاكم إلى الطاغوت والصدود عما أنزل الله و عدم الرضا بالتحاكم إليه:(/21)
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا % وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60-61].
قال ابن القيم: "إن حاكمت المنافقين إلى صريح الوحي وجدتهم عنه نافرين، وإن دعوتهم إلى حكم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم رأيتهم عنه معرضين، فلو شهدت حقائقهم لرأيت بينها وبين الهدى أمدا بعيدا، ورأيتها معرضة عن الوحي إعراضا شديدا، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}".
22- الإفساد بين المؤمنين:
قال الله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47].
قال ابن كثير: "{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاّ خَبَالاً} أي: لأنهم جبناء مخذولون، {وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أي: ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة، {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي: مطيعون لهم، ومستحسنون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدّي إلى وقوع شرّ بين المؤمنين وفساد كبير".
23- الحلف الكاذب والخوف والجبن والهلع:
قال الله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ % لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة:56، 57].
قال ابن كثير: "يخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن جزعهم وفزعهم وفرقهم وهلعهم أنهم {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ } يمينا مؤكّدة، {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} أي: في نفس الأمر، {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} أي: فهو الذي حملهم على الحلف. {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً} أي: حصنا يتحصنون به، وحرزا يتحرزون به، {أَوْ مَغَارَاتٍ} وهي التي في الجبال، {أَوْ مُدَّخَلاً} وهو السرب في الأرض والنفق... {مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي: يسرعون في ذهابهم عنكم؛ لأنهم إنما يخالطونكم كرها لا محبة، وودّوا أنهم لا يخالطونكم، ولكن للضرورة أحكام، ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغم؛ لأن الإسلام وأهله لا يزال في عزّ ونصر ورفعة، فلهذا كلّما سرّ المسلمون ساءهم ذلك فهم يودّون أن لا يخالطوا المؤمنين ولهذا قال: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ}".
وقال الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ % اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ % ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:1-3].
قال الشافعي: "فبيّن في كتاب الله عز وجل أن الله أخبر عن المنافقين أنهم اتخذوا أيمانهم جُنَّة يعني ـ والله أعلم ـ من القتل، ثم أخبر بالوجه الذي اتخذوا به أيمانهم جُنَّة فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} بعد الإيمان كفرًا إذا سئلوا عنه أنكروه، وأظهروا الإيمان وأقروا به، وأظهروا التوبة منه، وهم مقيمون فيما بينهم وبين الله تعالى على الكفر".
وقال ابن القيم: "تسبق يمين أحدهم كلامَه من غير أن يعترض عليه؛ لعلمه أن قلوب أهل الإيمان لا تطمئن إليه، فيتبرأ بيمينه من سوء الظن به، وكشف ما لديه، وكذلك أهل الريبة يكذبون ويحلفون؛ ليحسب السامع أنهم صادقون {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}".
وقال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].(/22)
قال الطبري: "يقول جل ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا رأيت هؤلاء المنافقين ـ يا محمد ـ تعجبك أجسامهم؛ لاستواء خلقها وحسن صورها، {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} يقول جل ثناؤه: وإن يتكلموا تسمع كلامهم، يشبه منطقهم منطق الناس، {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} يقول: كأن هؤلاء المنافقين خشب مسندة، لا خير عندهم، ولا فقه لهم، ولا علم، وإنما هم صور بلا أحلام، وأشباح بلا عقول، وقوله: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} يقول جل ثناؤه: يحسب هؤلاء المنافقون من خبثهم وسوء ظنهم وقلة يقينهم كلّ صيحة عليهم؛ لأنهم على وجل أن ينزل الله فيهم أمرا يهتك به أستارهم ويفضحهم، ويبيح للمؤمنين قتلهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم، فهم من خوفهم من ذلك كلما نزل بهم من الله وحي على رسوله ظنوا أنه نزل بهلاكهم بالأسن".
وقال ابن القيم: "أحسن الناس أجسامًا وأخلبهم لسانًا وألطفهم بيانًا وأخبثهم قلوبًا وأضعفهم جنانًا، فهم كالخشب المسندة التي لا ثمر لها، قد قلعت من مغارسها فتساندت إلى حائط يقيمها؛ لئلا يطأها السالكون، {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}".
24- يحبون أن يحمَدوا بما لم يفعلوا:
قال الله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188].
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلّفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه، وحلفوا وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: {لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}.
25- ظهور الرعب عليهم عند ذكر القتال في آيات الله تعالى:
قال الله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد:20].
26- يعيبون العمل الصالح ويرضون ويسخطون لحظوظ أنفسهم:
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58].
قال ابن كثير: "يقول تعالى: {وَمِنْهُمْ} أي: ومن المنافقين {مَنْ يَلْمِزُكَ} أي: يعيب عليك {فِي} قسم {الصَّدَقَاتِ} إذا فرقتها، ويتهمك في ذلك، وهم المتّهمون المأبونون، وهم مع هذا لا ينكرون للدين، وإنما ينكرون لحظ أنفسهم؛ ولهذا إن أعطوا من الزكاة {رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} أي: يغضبون لأنفسهم".
27- يكرهون الجهاد والاستشهاد في سبيل الله تعالى:
قال الله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران:167].
قال الطبري: "يعني تعالى ذكره بذلك عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق وأصحابَه الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، حين سار نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحد لقتالهم، فقال لهم المسلمون: تعالوا قاتلوا المشركين معنا، أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لسِرنا معكم إليهم، ولكُنّا معكم عليهم، ولكن لا نرى أنه يكون بينكم وبين القوم قتال، فأبدَوا من نفاق أنفسهم ما كانوا يكتمونه، وأبدوا بألسنتهم بقولهم: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ} غير ما كانوا يكتمونه ويخفونه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به".
28- يسخرون من العمل القليل من المؤمنين:
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79].(/23)
عن أبي مسعود رضي الله عنه، قال: لما أمرنا بالصدقة كنّا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رئاء، فنزلت: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ...}.
قال ابن كثير: "وهذا أيضا من صفات المنافقين، لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا: هذا مُراءٍ، وإن جاء بشيء يسير قالوا: إن الله لغني عن صدقته".
29- الرضا بأسافل المواضع:
قال الله تعالى: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:86].
قال ابن كثير: "يقول تعالى منكرا وذاما للمتخلفين عن الجهاد الناكلين عنه مع القدرة عليه ووجود السعة والطول، واستأذنوا الرسول في القعود، وقالوا: {ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ}، ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء وهن الخوالف، بعد خروج الجيش، فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس، وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلاما، كما قال تعالى عنهم في الآية الأخرى: {فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:19] أي: علت ألسنتهم بالكلام الحادّ القوي في الأمن، وفي الحرب أجبن شيء".
30- الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والبخل ونسيان الله تعالى:
قال الله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67].
قال ابن كثير: "يقول تعالى منكرا على المنافقين الذين هم على خلاف صفات المؤمنين، ولما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كان هؤلاء {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أي: عن الإنفاق في سبيل الله{نَسُوا اللَّهَ} أي: نسوا ذكر الله {فَنَسِيَهُمْ} أي: عاملهم معاملة من نسيهم، كقوله تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا}. {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الخارجون عن طريق الحق الداخلون في طريق الضلالة".
وقال ابن القيم: "هم جنس بعضه يشبه بعضا، يأمرون بالمنكر بعد أن يفعلوه، وينهون عن المعروف بعد أن يتركوه، ويبخلون بالمال في سبيل الله ومرضاته أن ينفقوه، كم ذكرهم الله بنعمه فأعرضوا عن ذكره ونسوه، وكم كشف حالهم لعباده المؤمنين ليتجنبوه، فاسمعوا أيها المؤمنون: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}".
31- الفرح بالتخلف وكره الجهاد والتواصي بالتخلف عنه:
قال الله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81].
قال ابن كثير: "يقول تعالى ذاما للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وفرحوا بقعودهم بعد خروجه، {وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا} معه {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا} أي: بعضهم لبعض {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ}؛ وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر عند طيب الظلال والثمار؛ فلهذا قالوا: لا تنفروا في الحرّ، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {قُلْ} لهم {نَارُ جَهَنَّمَ} التي تصيرون إليها بمخالفتكم {أَشَدُّ حَرًّا} مما فررتم منه من الحر، بل أشدّ حرّا من النار".
32- التخذيل والتثبيط والإرجاف:
قال الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُورًا % وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} [الأحزاب:12-13].
33- البطء عن المؤمنين:(/24)
قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء:72].
قال الطبري: "وهذا نعت من الله تعالى ذكره للمنافقين، نعتهم لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ووصفهم بصفتهم فقال: {وَإِنَّ مِنْكُمْ} أيها المؤمنون، يعني: من عدادكم وقومكم، ومن يتشبه بكم، ويظهر أنه من أهل دعوتكم وملتكم، وهو منافق يبطِّئ من أطاعه منكم عن جهاد عدوكم، وقتالهم إذا أنتم نفرتم إليهم، {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} يقول: فإن أصابتكم هزيمة أو نالكم قتل أو جراح من عدوكم {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} فيصيبني جراح أو ألم أو قتل، وسرّه تخلّفه عنكم شماتةً بكم؛ لأنه من أهل الشكّ في وعد الله الذي وعد المؤمنين على ما نالهم في سبيله من الأجر والثواب وفي وعيده، فهو غير راج ثوابا، ولا خائف عقابا".
34- لا ينفعهم القرآن بل يزيدهم رجسًا إلى رجسهم:
قال الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ % وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124-125].
35 - العودة إلى ما نهوا عنه والتناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول:
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8].
36- الاستئذان عن الجهاد بحجة الفتنة:
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49].
قال ابن كثير: "يقول تعالى: ومن المنافقين من يقول لك يا محمد: {ائْذَنْ لِي} في القعود {وَلا تَفْتِنِّي} بالخروج معك بسبب الجواري من نساء الروم، قال الله تعالى: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} أي: قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا".
37- اتخاذ الأعذار عند التخلف:
قال الله تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:94].
قال ابن كثير: "أخبر تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رجعوا إلى المدينة أنهم يعتذرون إليهم {قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} أي: لن نصدقكم، {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} أي: قد أعلمنا الله أحوالكم، {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} أي: سيظهر أعمالكم للناس في الدنيا، {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: فيخبركم بأعمالكم، خيرها وشرها، ويجزيكم عليها".
38- الاستخفاء من الناس:
قال الله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء:108].
قال ابن كثير: "هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس؛ لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون الله بها؛ لأنه مطّلع على سرائرهم، وعالم بما في ضمائرهم، ولهذا قال: {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} تهديد لهم ووعيد".
39- يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا:
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
40- الفرح بما يصيب المؤمنين من ضراء والاستياء بما يمكّن الله لهم:(/25)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ % هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ % إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:118-120].
قال ابن كثير: "يقول تبارك وتعالى ناهيا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة، أي: يطلعونهم على سرائرهم، وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالا أي: يسعون في مخالفتهم، وما يضرّهم بكل ممكن، وبما يستطيعون من المكر والخديعة، ويودّون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشقّ عليهم".
وقال ابن القيم: "إن أصاب أهل الكتاب والسنة عافية ونصر وظهور ساءهم ذلك وغمّهم، وإن أصابهم ابتلاء من الله وامتحان يمحص به ذنوبهم ويكفر به عنهم سيئاتهم أفرحهم ذلك وسرهم، وهذا يحقق إرثهم وإرث من عداهم، ولا يستوي من موروثه الرسول ومن موروثهم المنافقون، {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ % قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:50، 51]".
وقال الله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة:50].
قال ابن كثير: "يعلم تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بعداوة هؤلاء له؛ لأنه مهما أصابه من حسنة أي: فتح ونصر وظفر على الأعداء مما يسرّه ويسرّ أصحابه ساءهم ذلك، {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} أي: قد احترزنا من متابعته من قبل هذا {وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ}".
41- إذا اؤتمن خان وإذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر:
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ % فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ % فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} [التوبة:75-77].
قال ابن كثير: "يقول تعالى: ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه لئن أغناه من فضله ليصدقن من ماله، وليكوننّ من الصالحين، فما وفَّى بما قال، ولا صدق فيما ادعى، فأعقبهم هذا الصنيع نفاقا سكن في قلوبهم إلى يوم يلقوا الله عز وجل يوم القيامة، عياذا الله من ذلك".
وقال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8].
قال ابن القيم: "لبسوا ثياب أهل الإيمان، على قلوب أهل الزيغ والخسران والغل والكفران، فالظواهر ظواهر الأنصار، والبواطن قد تحيزت إلى الكفار، فألسنتهم ألسنة المسالمين، وقلوبهم قلوب المحاربين، ويقولون: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}".
وقال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9].
قال ابن القيم: "رأس مالهم الخديعة والمكر، وبضاعتهم الكذب والخثر، وعندهم العقل المعيشي أن الفريقين عنهم راضون، وهم بينهم آمنون، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)).(/26)
قال النووي: "هذا الحديث مما عدّه جماعة من العلماء مشكِلا من حيث إن هذه الخصال توجد في المسلم المصدّق الذي ليس فيه شك... فإن إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم جمعوا هذه الخصال، وكذا وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كلّه، وهذا الحديث ليس فيه بحمد الله تعالى إشكال، ولكن اختلف العلماء في معناه، فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار: إن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلّق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حقّ من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر، ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلّدين في الدرك الأسفل من النار.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((كان منافقا خالصا)) معناه: شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال. قال بعض العلماء: وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه، فأما من يندر ذلك منه فليس داخلا فيه، وهذا هو المختار في معنى الحديث".
42- تأخير الصلاة عن وقتها:
عن العلاء بن عبد الرحمن أنه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة حين انصرف من الظهر، وداره بجنب المسجد، فلما دخلنا عليه قال: أصليتم العصر؟ فقلنا له: إنما انصرفنا الساعة من الظهر، قال: فصلوا العصر، فقمنا فصلينا، فلمّا انصرفنا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا)).
قال ابن القيم: "يؤخّرون الصلاة عن وقتها الأوّل إلى شرق الموتى، فالصبح عند طلوع الشمس، والعصر عند الغروب، وينقرونها نقرَ الغراب إذ هي صلاة الأبدان لا صلاة القلوب، ويلتفتون فيها التفات الثعلب إذ يتيقّن أنّه مطرود مطلوب".
43- التخلف عن الصلاة في جماعة المسلمين:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (من سرّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سننَ الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحطّ عنه بها سيئة، ولقد رأيتُنا وما يتخلّف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).
قال الشُّمُنِّي: "ليس المراد بالمنافق ها هنا من يبطن الكفر ويظهر الإسلام، وإلا لكانت الجماعة فريضة؛ لأن من يبطن الكفر كافر، ولكان آخر الكلام مناقضًا لأوله".
44- البذاء والبيان:
عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الحياء والعِيّ شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق)).
قال الترمذي: "والعِيّ قلّة الكلام، والبذاء هو الفحش في الكلام، والبيان هو كثرة الكلام، مثل هؤلاء الخطباء الذين يخطبون فيوسّعون في الكلام، ويتفصّحون فيه، من مدح الناس فيما لا يُرضي الله".
قال المناوي: "والعِي أي: سكون اللسان تحرّزا عن الوقوع في البهتان لا عيّ القلب ولا عيّ العمل ولا عيّ اللسان لخلل. ((شعبتان من شعب الإيمان)) أي: أثران من آثاره، بمعنى أن المؤمن يحمله الإيمان على الحياء، فيترك القبائح حياء من الله، ويمنعه من الاجتراء على الكلام شفقا من عثر اللسان والوقيعة في البهتان. والبذاء هو ضدّ الحياء وقيل: فحش الكلام والبيان، أي: فصاحة اللسان، والمراد به هنا ما يكون فيه إثم من الفصاحة كهجو أو مدح بغير حقّ. شعبتان من النفاق بمعنى أنهما خصلتان منشؤهما النفاق، والبيان المذكور هو التعمّق في النطق والتفاصح وإظهار التقدّم فيه على الغير تيها وعجبا كما تقرر. قال القاضي: لما كان الإيمان باعثا على الحياء والتحفظ في الكلام والاحتياط فيه عدّ من الإيمان، وما يخالفهما من النفاق، وعليه فالمراد بالعيّ ما يكون بسبب التأمل في المقال والتحرز عن الوبال لا لخلل في اللسان، والبيان ما يكون بسببه الاجتراء وعدم المبالاة بالطغيان والتحرز عن الزور والبهتان. وقال الطيبي: إنما قوبل العي في الكلام مطلقا بالبيان الذي هو التعمق في النطق والتفاصح وإظهار التقدم فيه على الناس مبالغة لذم البيان وأن هذه مضرة بالإيمان مضرّةَ ذلك البيان".(/27)
وقال ابن القيم: "وجملة أمرهم أنهم في المسلمين كالزغل في النقود، يروج على أكثر الناس لعدم بصيرتهم بالنقد، ويعرف حاله الناقد البصير من الناس، وقليل ما هم. وليس على الأديان أضرّ من هذا الضرب من الناس، وإنما تفسد الأديان من قِبلهم، ولهذا جَلَّى الله أمرهم في القرآن، وأوضح أوصافهم، وبيّن أحوالهم، وكرّر ذكرهم؛ لشدة المؤنة على الأمّة بهم وعِظم البلية عليهم بوجودهم بين أظهرهم، وفرط حاجتهم إلى معرفتهم والتحرّز من مشابهتهم والإصغاء إليهم، فكم قطعوا على السالكين إلى الله طريق الهدى، وسلكوا بهم سبل الردى، وعَدُوهم ومنّوهم، ولكن وعدوهم الغرور، ومنّوهم الويل والثبور".
جامع البيان (1/122).
مدارج السالكين (1/379).
جامع البيان (22/3).
جامع البيان (17/191).
تفسير القرآن العظيم (4/370).
جامع البيان (10/171).
مدارج السالكين (1/379-380).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} (4900)، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2772).
جامع البيان (1/127).
جامع البيان (1/128-129).
مدارج السالكين (1/379).
جامع البيان (5/329).
جامع البيان (5/331).
مدارج السالكين (1/381-382).
جامع البيان (5/334-335).
مدارج السالكين (1/381).
أخرجه البخاري في الأذان، باب: فضل العشاء في الجماعة (657) واللفظ له، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (651).
فتح الباري (2/141).
جامع البيان (5/335-336).
أخرجه مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2784).
شرح صحيح مسلم (17/128).
جامع البيان (1/118).
تفسير القرآن العظيم (1/48-49).
مدارج السالكين (1/382-383).
تفسير القرآن العظيم (2/375).
تفسير القرآن العظيم (2/377).
أحكام القرآن (1/294).
مدارج السالكين (1/383).
جامع البيان (28/107-108).
مدارج السالكين (1/384).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله: {لاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرِحُونَ بِمَا أَتَوْا} (4567)، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (2777).
تفسير القرآن العظيم (2/377).
جامع البيان (4/167).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ...} (14668)، ومسلم في الزكاة (1018).
تفسير القرآن العظيم (2/389).
تفسير القرآن العظيم (2/394).
تفسير القرآن العظيم (2/382).
مدارج السالكين (1/382).
تفسير القرآن العظيم (2/391).
جامع البيان (5/165).
تفسير القرآن العظيم (2/376).
تفسير القرآن العظيم (2/397).
تفسير القرآن العظيم (1/565).
تفسير القرآن العظيم (1/406).
مدارج السالكين (1/385).
تفسير القرآن العظيم (2/376).
تفسير القرآن العظيم (2/388).
مدارج السالكين (1/378).
مدارج السالكين (1/379).
أخرجه البخاري في الإيمان، باب:علامة المنافق (34)، ومسلم في الإيمان (58).
شرح صحيح مسلم (2/46-47).
أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (622).
قال في القاموس (1158): "شرقت الشمس: ضعف ضوؤها أو دنت للغروب. وأضافه $ إلى الموتى فقال: ((يؤخرون الصلاة إلى شرق الموتى)) لأن ضوءها عند ذلك الوقت ساقط على المقابر، أو أراد أنهم يصلّونها ولم يبق من النهار إلا بقدر ما يبقى من نفس المحتضر إذا شرق بريقه".
مدارج السالكين (1/384).
أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (654).
ينظر: عون المعبود (2/179).
أخرجه أحمد (5/269)، والترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في العي (2027)، والبيهقي في الشعب (7706)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من حديث أبي غسان محمد بن مطرف "، وصححه الحاكم (1/51)، والألباني في صحيح الترمذي (1650).
فيض القدير (3/428).
طريق الهجرتين (719).
سابعًا: موقف المسلم من المنافقين:
1- عدم طاعتهم:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:1].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} بطاعته، وأداء فرائضه وواجب حقوقه عليك، والانتهاء عن محارمه وانتهاك حدوده، {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} الذين يقولون لك: اطرد عنك أتباعك من ضعفاء المؤمنين بك حتى نجالسك، {وَالْمُنَافِقِينَ} الذين يظهرون لك الإيمان بالله والنصيحة لك، وهم لا يألونك وأصحابك ودينك خبالا، فلا تقبل منهم رأيا، ولا تستشرهم مستنصحا بهم، فإنهم لك أعداء، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} يقول: إن الله ذو علم بما تضمره نفوسهم، وما الذي يقصدون في إظهارهم لك النصيحة، مع الذي ينطوون لك عليه، حكيم في تدبير أمرك وأمر أصحابك ودينك، وغير ذلك من تدبير جميع خلقه".
2- الإعراض عنهم وزجرهم ووعظهم:
قال الله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:138].(/28)
وقال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} [النساء:63].
قال الطبري: "يعني جل ثناؤه بقوله: {أُولَئِكَ} هؤلاء المنافقون الذين وصفت لك ـ يا محمد ـ صفتهم، {يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} في احتكامهم إلى الطاغوت، وتركهم الاحتكام إليك، وصدودهم عنك، من النفاق والزيغ، وإن حلفوا بالله ما أردنا إلا إحسانا وتوفيقا، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} يقول: فدعهم فلا تعاقبهم في أبدانهم وأجسامهم، ولكن عظهم بتخويفك إياهم بأس الله أن يحل بهم، وعقوبته أن تنزل بدارهم، وحذرهم من مكروه ما هم عليه من الشك في أمر الله وأمر رسوله، {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} يقول: مرهم باتقاء الله والتصديق به وبرسوله ووعده ووعيده".
3- عدم المجادلة أو الدفاع عنهم:
قال الله تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: 107].
قال الطبري: "يعنى بذلك جل ثناؤه: {وَلا تُجَادِلْ} يا محمد فتخاصم {عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} يعني: يخونون أنفسهم، يجعلونها خونة بخيانتهم ما خانوا مِن أموال مَن خانوه ماله وهم بنو أبيرق، يقول: لا تخاصم عنهم من يطالبهم بحقوقهم، وما خانوه فيه من أموالهم، {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} يقول: إن الله لا يحب من كان من صفته خيانة الناس في أموالهم، وركوب الإثم في ذلك وغيره، مما حرمه الله عليه".
4- النهي عن موالاتهم والركون إليهم:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118].
قال الطبري: "يعني بذلك تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، وأقروا بما جاءهم به نبيهم من عند ربهم، {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} يقول: لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم من دونكم، يقول: من دون أهل دينكم وملتكم، يعني من غير المؤمنين.
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين كانوا يخالطون حلفاءهم من اليهود وأهل النفاق منهم، ويصافونهم المودة بالأسباب التي كانت بينهم في جاهليتهم قبل الإسلام، فنهاهم الله عن ذلك، وأن يستنصحوهم في شيء من أمورهم".
وقال ابن كثير: "يقول تبارك وتعالى ناهيا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة أي: يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالا أي: يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن، وبما يستطيعون من المكر والخديعة، ويودون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم".
5- جهادهم والغلظة عليهم:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} بالسيف والسلاح، {وَالْمُنَافِقِينَ} واختلف أهل التأويل في صفة الجهاد الذي أمر الله نبيه به في المنافقين، فقال بعضهم: أمره بجهادهم باليد واللسان وبكل ما أطاق جهادهم به، وبه قال ابن مسعود رضي الله عنه. وقال آخرون: بل أمره بجهادهم باللسان، وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما. وقال آخرون: بل أمره بإقامة الحدود عليهم، وبه قال الحسن وقتادة رحمهما الله.
وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب ما قال ابن مسعود من أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم من جهاد المنافقين بنحو الذي أمره به من جهاد المشركين.
فإن قال قائل: فكيف تركهم صلى الله عليه وسلم مقيمين بين أظهر أصحابه مع علمه بهم؟!(/29)
قيل: إن الله تعالى ذكره إنما أمر بقتال من أظهر منهم كلمةَ الكفر، ثم أقام على إظهاره ما أظهر من ذلك()، وأما من إذا اطُّلع عليه منهم أنه تكلم بكلمة الكفر وأُخذ بها أنكرها ورجع عنها وقال: إني مسلم فإن حكم الله في كل من أظهر الإسلام بلسانه أن يحقن بذلك له دمه وماله وإن كان معتقدا غير ذلك، وتوكّل هو جل ثناؤه بسرائرهم، ولم يجعل للخلق البحث عن السرائر، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بهم وإطلاع الله إياه على ضمائرهم واعتقاد صدورهم كان يقرّهم بين أظهر الصحابة، ولا يسلك بجهادهم مسلك جهاد من قد ناصبه الحرب على الشرك بالله؛ لأن أحدهم كان إذا اطّلع عليه أنه قد قال قولا كفَر فيه بالله، ثم أُخذ به أنكره وأظهر الإسلام بلسانه، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يأخذه إلا بما أظهر له من قوله عند حضوره إياه، وعزمه على إمضاء الحكم فيه، دون ما سلف من قول كان نطق به قبل ذلك، ودون اعتقاد ضميره الذي لم يبح الله لأحد الأخذ به في الحكم، وتولى الأخذ به هو دون خلقه.
وقوله: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} يقول تعالى ذكره: واشدد عليهم بالجهاد والقتال والإرعاب"().
6- تحقيرهم وعدم تسويدهم:
عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقولوا للمنافق سيد؛ فإنه إن يك سيدًا فقد أسخطتم ربكم عز وجل))().
7- عدم الصلاة عليهم:
قال الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84].
عن عبد الله قال: لما توفي عبد الله بن أُبيّ جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أعطني قميصَك أكفنه فيه وصلِّ عليه واستغفِر له، فأعطاه قميصه وقال: ((إذا فرغت منه فآذنَّا))، فلمّا فرغ آذنه به، فجاء ليصلّي عليه، فجذبه عمر، فقال: أليس قد نهاك الله أن تصلّي على المنافقين؟! فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَّغْفِرَ اللهُ لَهُمْ}، فنزلت: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ ع
جامع البيان (21/117).
جامع البيان (5/156).
جامع البيان (5/271).
ذكره عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة.
جامع البيان (4/60-61).
تفسير القرآن العظيم (1/399).
أي: لم يرجع عن كلمة الكفر، بل أصر عليها.
جامع البيان (10/183-184).
أخرجه أحمد (5/346)، والبخاري في الأدب المفرد (760)، وأبو داود في الأدب، باب: لا يقال المملوك ربي وربتي (4977) واللفظ له، والنسائي في عمل اليوم والليلة (244)، والبيهقي في الكبرى (6/70)، وصحح المنذري إسناده في الترغيب (3/359)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (371).
ثامنًا: سبل الوقاية من النفاق:
1- الاتصاف بصفات أهل الإيمان وترك صفات أهل النفاق.
2- الجهاد في سبيل الله.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات ولم يغز ولم يحدّث به نفسه مات على شعبة من نفاق)).
قال النووي: "المراد أن من فعل هذا فقد أشبه المنافقين المتخلّفين عن الجهاد في هذا الوصف؛ فإن ترك الجهاد أحد شعب النفاق. وفي هذا الحديث أن من نوى فعل عبادة فمات قبل فعلها لا يتوجّه عليه من الذم ما يتوجّه على من مات ولم ينوها".
3- كثرة ذكر الله تعالى:
قال ابن القيم: "إن كثرة ذكر الله عز وجل أمان من النفاق؛ فإن المنافقين قليلو الذكر لله عز وجل، قال الله عز وجل في المنافقين: {وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:142]، وقال كعب: من أكثر ذكر الله عز وجل برئ من النفاق. ولهذا ـ والله أعلم ـ ختم الله تعالى سورة المنافقين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9]، فإن في ذلك تحذيرا من فتنة المنافقين الذين غفلوا عن ذكر الله عز وجل فوقعوا في النفاق. وسئل بعض الصحابة رضي الله عنهم عن الخوارج: منافقون هم؟ قال: (لا، المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا). فهذا من علامة النفاق: قلة ذكر الله عز وجل، وكثرة الأمان من النفاق، والله عز وجل أكرم من أن يبتلي قلبا ذاكرا بالنفاق، وإنما ذلك لقلوب غفلت عن ذكر الله عز وجل".
4- الدعاء:
عن جبير بن نفير قال: دخلت على أبي الدرداء منزله بحمص، فإذا هو قائم يصلي في مسجده، فلما جلس يتشهد جعل يتعوذ بالله من النفاق، فلما انصرف قلت: غفر الله لك يا أبا الدرداء، ما أنت والنفاق؟ قال: (اللهم غفرًا ـ ثلاثا ـ، من يأمن البلاء؟! من يأمن البلاء؟! والله إن الرجل ليفتتن في ساعة فينقلب عن دينه).
5- حبّ الأنصار:
عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)).(/30)
6- حبّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
عن زر قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الأميّ صلى الله عليه وسلم إليّ أن لا يحبّني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق).
قال النووي: "ومعنى هذه الأحاديث: أن من عرف مرتبة الأنصار وما كان منهم في نصرة دين الإسلام والسعي في إظهاره وإيواء المسلمين وقيامهم في مهمات دين الإسلام حق القيام وحبهم النبي صلى الله عليه وسلم وحبه إياهم وبذلهم أموالهم وأنفسهم بين يديه وقتالهم ومعاداتهم سائر الناس إيثارا للإسلام، وعرف من على بن أبي طالب رضى الله عنه قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبّ النبي صلى الله عليه وسلم له وما كان منه من نصرة الإسلام وسوابقه فيه ثم أحبّ الأنصارَ وعليًّ لهذا كان ذلك من دلائل صحة إيمانه وصدقه في إسلامه؛ لسروره بظهور الإسلام والقيام بما يرضى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أبغضهم كان بضدّ ذلك واستُدلّ به على نفاقه وفساد سريرته. والله اعلم".
7- حب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وحبّ بني هاشم:
قال ابن تيمية: "قال بعض السلف: حبّ أبي بكر وعمر إيمان، وبغضهما نفاق، وحبّ بنى هاشم إيمان، وبغضهم نفاق".
8- الاتصاف التام بالصدق في الأمر كله:
قال ابن تيمية: "الصفة الفارقة بين المؤمن والمنافق هو الصدق، فإن أساس النفاق الذي بني عليه الكذب".
9- ترك البدع والحدث في الدين:
قال ابن تيمية: "البدع مظانّ النفاق، كما أنّ السنن شعائر الإيمان".
10- البعد عن سماع الغناء:
وسماع الغناء في الأصل محرم، ومع ذلك فإنه يؤثّر النفاق في القلب.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل).
قال ابن القيم: "وهذا كلام عارفٍ بأثر الغناء وثمرته، فإنه ما اعتاده أحد إلا نافق قلبه وهو لا يشعر، ولو عرف حقيقة النفاق وغايته لأبصره في قلبه، فإنه ما اجتمع في قلب عبد قط محبة الغناء ومحبة القرآن إلا طردت إحداهما الأخرى، وقد شاهدنا نحن وغيرنا ثقل القرآن على أهل الغناء وسماعه، وتبرمهم به، وصياحهم بالقارئ إذا طوّل عليهم، وعدم انتفاع قلوبهم بما يقرؤه، فلا تتحرك ولا تطرب ولا تهيج منها بواعث الطلب، فإذا جاء قرآن الشيطان فلا إله إلا الله كيف تخشع منهم الأصوات، وتهدأ الحركات، وتسكن القلوب وتطمئنّ، ويقع البكاء والوجد، والحركة الظاهرة والباطنة، والسماحة بالأثمان والثياب، وطيب السهر، وتمني طول الليل، فإن لم يكن هذا نفاقا فهو آخية النفاق وأساسه".
وقال: "فإن أساس النفاق أن يخالف الظاهر الباطن، وصاحب الغناء بين أمرين؛ إما أن يتهتك فيكون فاجرا، أو يظهر النسك فيكون منافقا، فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة، وقلبه يغلي بالشهوات، ومحبة ما يكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف وآلات اللهو، وما يدعو إليه الغناء ويهيّجه، فقلبه بذلك معمور، وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر، وهذا محض النفاق".
وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه،،،
أخرجه مسلم في الإمارة (1910).
شرح صحيح مسلم (13/56).
الوابل الصيب (ص110).
أخرجه الفريابي في صفة المنافق (73)، والبيهقي في الشعب (1/506) واللفظ له.
أخرجه البخاري في الإيمان، باب: علامة الإيمان حب الأنصار (17)، ومسلم في الإيمان (74).
أخرجه مسلم في الإيمان (78).
شرح صحيح مسلم (2/64).
مجموع الفتاوى (4/435).
مجموع الفتاوى (20/75).
مجموع الفتاوى (2/269).
أخرجه أبو داود في الأدب، باب: كراهية الغناء والزمر (4927). وروي مرفوعًا، ولا يصح. ينظر: السلسلة الضعيفة (2430).
مدارج السالكين (1/523).
إغاثة اللهفان (1/250).(/31)
النقد البنّاء
د. عبد الكريم بكار 22/6/1426
28/07/2005
في حياتنا العامة والخاصة عدد كبير من الجدليات، حيث يكون الشيء في وجوده أو استقامته أو بواره متوقفًا على وجود شيء آخر. ويتناوب الشيئان على الوظيفة نفسها، كتلك العلاقة التي نلمسها بين المرض والفقر، إذ يهيء الفقر صاحبه للتعرض للمرض، كما أن المرض من جهته يسبّب للفقير المزيد من الفقر وهكذا.
هذا يعني أن خصائص كثير من الأشياء لا تستمد من ذاتها، وإنما من العلاقات التي تربطها بغيرها. ومن المؤسف أن اكتشاف العلاقات الجدلية على الرغم من تأثيرها الكبير، لا يلقى من معظم الناس الاهتمام، وبالتالي فإن معرفتنا بها تتسم بالقصور والسطحية!
بين البناء والنقد علاقة جدلية، عظيمة الأهمية إلى درجة أن كلاً منهما يتغذى على الآخر بصورة جوهرية. ولا نستطيع أن نعرف مدى حاجة كل منهما إلى الآخر إلا إذا قطعنا الحبل السريري الذي يربط بينهما. ولعلي أبسط القول في هذه المسألة المهمة عبر المفردات الآتية:
1- إن القرآن الكريم نزل منجمًا في مدة طويلة نسبيًا، هي مدة حياة النبي –صلى الله عليه وسلم- بين البعثة والوفاة. ويلاحظ الناظر دون عناء أن معظم ما ينزل من الذكر كان يرتبط بوجه من الوجوه بحركة المجتمع الإسلامي. إنه يوجه المسيرة، ويوضح ملامح الطريق، كما أنه يذكّر السائرين بالمقاصد النهائية لسيرهم. وحين يقع خطأ بسبب اجتهاد أو ضعف بشري، فإن القرآن الكريم ينبه المسلمين إلى ذلك الخطأ بقطع النظر عن مقام المنتقد ، وعن نوع موضوع النقد ، هل هو عام أو هو خاص بشخص من الأشخاص، على نحو ما نجده في قول سبحانه: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم" [سورة الأنفال: 67-68]، وقوله: "عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين" [سورة التوبة: 43]. وقوله: "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه، وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه" [سورة الأحزاب: 37]، وفي السنة النبوية الكثير الكثير من النصوص التي تنتقد بعض تصرفات الصحابة، وتدلهم على ما هو أفضل وأصوب. وقد وعى المسلمون المغزى العميق لذلك، ومارسوا النقد بصيغ عديدة ، ولطالما كان النقد البنّاء عامل تحرير للأمة من كثير من الزيغ والخطأ على ما هو معروف ومشهور.
2- لو تساءلنا: مالذي يعطي المشروعية للنقد، ويجعل منه شيئًا لا غنى عنه لاستقامة الحياة، لوجدنا أن ما يمكن التحدث عنه في هذا الشأن كثير، لعل منه:
أ – حين نخطط لأمر من الأمور، أو نحاول اكتشاف ميزة عمل من الأعمال، فإن من الواضح أننا لا نستطيع الإحاطة بالاعتبارات التي تجعل قراراتنا صائبة على نحو قاطع. هناك دائمًا حقائق غائبة وأجزاء مطموسة، ومعلومات غير متوفرة، ولهذا فإن علينا أن نبني خططنا ونظمنا ومناهجنا على أنها أشياء قابلة للمراجعة، ومحتاجة للتصحيح والتطوير ، ولن نكون موضوعيين إذا فعلنا غير ذلك. إن الطبيب حين لا يتأكد من تشخيص مرض من الأمراض، يصف لمريضه علاجًا مؤقتًا إلى أن تخرج نتائج الصور والتحاليل، فيصف العلاج النهائي؛ لأن خبرته الطبية دلته على السلوك العلاجي الملائم، إن ما هو مطلوب من المعرفة لاتخاذ القرار الصحيح هو دائمًا أكثر من المتوفر، ولهذا فإننا ونحن نخطط، وننظِّر نتحرك في منطقة هشة، ونستند إلى معطيات غير كافية. إن علينا أن نعتقد أننا نقوم بعمل اجتهادي، قد يتبين أنه صواب، وقد يتبين أنه خطأ . وإن كثيرًا من الذين ينفرون من النقد، لا ينظرون إلى هذا المعنى، ولا يهتمون به، ولو أنهم أدركوه بعمق لرحبوا بالنقد بوصفه كرة أخرى على صعيد الاستدراك على قصور سابق .
ب– هناك دائمًا مفارقة بين النظرية والتطبيق، فنحن حين ننظر، ونخطط، نقوم بذلك في حالة من الطلاقة التامة ، وكما يقولون: إن الأحلام لا تكلّف شيئًا ، لكن حين نأتي للتنفيذ، يتجلى لدينا القصور البشري بأوضح صوره، فنحن نتحرك داخل الكثير من القيود الزمانية والمكانية. وكما أن أعمارنا محدودة، كذلك إمكاناتنا وقدراتنا وعلاقاتنا أيضًا محدودة، مما يجعل وجود فجوة بين ما نريده وبين ما نفعله أو نحصل عليه أمرًا متوقعًا. في بعض الأحيان لا ننفذ ما خططنا له ليس بسبب العجز، ولكن بسبب تغير الرأي، أو بسبب الاختلاف بين أعضاء فريق العمل، أو لأي سبب آخر... وهذا كله يجعل النقد أمرًا سائغًا، بل مطلوبًا.(/1)
جـ - في بعض الأحيان تأتي مشروعية النقد من الأخطاء التي تقع أثناء التطبيق أو بسبب مغايرة ظروف الاستمرار لظروف النشأة. وإذا تأملت في أوضاع الأمة وجدت أن كثيرًا مما يحتاج إلى إصلاح وتصحيح يعود إلى هذين السببين، فالتقصير في الواجبات والوقوع في المنكرات من أكثر العوامل تأثيرًا في تخلف الأمة وتأزم أوضاعها. وهما يعودان إلى انحراف وقصور في الممارسة. كما أن تجدد معطيات الحياة المعاصرة لتكون شديدة البعد عن حياة أسلافنا ، أوقعنا في أزمات فكرية كثيرة ، بسبب عدم توفر ما يكفي من الاجتهاد للتعامل معها. وهذا من جهته يثير الكثير من الحيرة والكثير من النقد.
ماذا يحدث حين يتوقف التفاعل بين النقد والبناء ؟ ومتى يكون النقد مفيدًا وبنّاءً ؟
هذا ما سنتحدث عنه في المقال القادم بحول الله وطوله.
النقد البناء (2/2)
د. عبد الكريم بكار 6/7/1426
11/08/2005
ذكرت في المقال السابق أن بين العمل والنقد وبين الإنجاز والتطوير علاقة جدليّة، وشرحت ما أعنيه بالعلاقة الجدليّة، ووعدت باستكمال الموضوع في هذا المقال.
إن النظر إلى ما أقمناه وأنجزناه من مناهج ومؤسسات على أنه شيء غير مكتمل يشكل المحرّض لنا على نقده وتطويره، لكن يبدو أن الإنسان لا يملك من اليقظة النقدية ما يجعله يتعامل مع إنجازاته ومنتجاته دائماً على هذا النحو. إننا كثيراً ما ننظر إلى نقد شيء يتصل بنا على أنه نقد لذواتنا، بل ننظر إليه –أحياناً- على أنه يمس الكرامة الشخصية للواحد منا. أحياناً لا نقبل بالنقد؛ لأنه سيجعلنا نخسر بعض المكاسب التي حصلنا عليها من وراء أوضاع مغشوشة، وأحياناً نرفض النقد؛ لأننا لا نثق بالذي ينقد، أو لا نرتاح إليه. وأحياناً نرفض النقد؛ لأن قبوله سيعني التغيير والتطوير، وهذا لا يتم من غير بذل جهد، ونحن غير مستعدين للقيام بأي شيء إضافي.
بعض الناس يرفض النقد؛ لأن لديه نوعاً من الإعجاب بالذات والاستبداد بالرأي، وهذا يجعله يستخفّ بما يسمعه من الآخرين...
مهما يكن السبب الدافع إلى مقاومة النقد فإن النتائج ستكون وخيمة.
إن أي عمل حتى يُؤدّى بطريقة صحيحة يحتاج إلى معرفة تامة بالبيئة المحيطة والعوامل الجغرافية والاجتماعية المؤثرة. وإن هذه المعرفة نحصل عليها في العادة على سبيل التدرج. ومن ثم فإن الثقة المبالغ فيها في منجزاتنا تقوم على عدم الاكتراث بخطورة ما نجهل. وعلى مدار التاريخ كان الناس يدركون قيمة ما يعرفون أكثر من إدراكهم للأضرار البالغة التي تترتب على ما لا يعرفون. ورفض النقد هو رفض للمعرفة الجديدة.
إن قبولنا لمقترحات الآخرين والسماح لهم ببيان وجوه القصور لدينا، يجعلنا نظهر بمظهر الضعيف أو غير الناضج. أما الاستبداد بالرأي والتمسك بالسائد إلى آخر لحظة فإنه يجعلنا نبدو أقوياء صامدين كأشجار السنديان التي قاومت العواصف مئات السنين. والحقيقة أن قبول النقد يمنحنا القوة؛ لأنه يساعدنا على عمل شيء قبل حدوث الانهيار. إنه يفتح سبيلاً للكف عن السير في نفق مظلم، في آخره مهلكة.
إن سقوط الاتحاد السوفيتي بتلك الصورة المريعة والمهينة ومن غير سابق إنذار، يقدم حكمة بليغة للمستبدين بآرائهم الرافضين للإصلاح والتجديد، والمستخفين بنصائح أهل البصيرة الثاقبة. تقول تلك الحكمة: إن كل الأشجار تموت واقفة شامخة؛ لأن موتها لا يكون في سقوطها على الأرض، ولكن في انقطاع مادة الحياة عنها، وفي عجزها عن التكيّف مع الظروف المحيطة بها، وإن رفض النقد هو رفض للتكيّف، ورفض للاستدراك على الخطأ والتقصير، وهذا ما يجعل السير في طريق الاضمحلال أمراً لا بد منه!
الوجه الثاني للمشكلة يكمن في ممارسة النقد بعيداً عن العمل، وهذا ما يحسنه كثيرون منا، إن حاجة النقد إلى البناء، لا تقل عن حاجة البناء إلى النقد، ولِمَ لا والعلاقة بينهما جدليّة. الذي يعمل يقدم الفرصة للناقد كي يقول شيئاً، والناقد يقدم فرصة للعامل كي يحسّن عمله، ويرتقي بإنتاجه.
في حالة التخلف يرفض كثير من الذين يعملون النقد، ويتكلم كثير من القاعدين بما لا يحسنون، في كل مجلس اعتراضات وانتقادات لا تكاد تُحصى، ومرور واسع على العالم من شرقه إلى غربه، ومن غربه إلى شرقه، وتشريح لأوضاعه وذكر لمساوئه وأزماته.. وينفضّ السامر ويذهب كل إلى بيته، وقد شعر كل واحد منا أنه استطاع أن يثبت سعة اطلاعه ومعرفته بالحلول للمشكلات التي تعاني منها البشرية! وتمضي السنوات وتنصرم الأعمار، وتأتي أجيال جديدة والنقد ما زال مستمراً والأوضاع على حالها بل تزداد في بعض الأحيان سوءاً أو فساداً، وليس هناك من هو مستعد للتوقف من أجل رؤية ما حصلنا عليه من وراء تصويب البنادق إلى أعلى في امتدادات الفضاء!
إذا أردنا للنقد أن يثمر، وألاّ يكون شكلاً من التنفيس عن مكروب فحسب فعلينا أن نراعي الاعتبارات التالية:(/2)
1- النقد المفيد والمنتج هو الذي يتم في ظل البناء. إنه نقد يقوم به البناؤون أنفسهم، وأولئك القريبون القريبون منهم. إنهم أدرى بنقاط القوة ونقاط الضعف. وهم أدرى أيضاً بالآلية التي يجب اتباعها من أجل التصحيح، لكن المشكلة تقع حين يرفض العاملون القيام بأي مراجعة، ويصمّون آذانهم عن سماع أي نصيحة، إنهم في هذه الحالة يحرّضون غيرهم على أن يهرف بما لا يعرف، ونحن على مستوى الأمة نعاني من بطء حركة اليد وضعف الإنجاز، وهذا يؤدي بطريقة ما إلى تباطؤ عمل العقل وطيش النقد، فبين العقل واليد أيضاً علاقة جدليّة، وإن إيجاد محفّزات إضافيّة على العمل سوف يساعد على تنشيط حركة النقد البنّاء.
2- الخبرة والتخصّص شرط أساسي لجعل النقد بناء؛ إذ إن من الملاحظ أن هناك شهوة قويّة لممارسة النقد، وربما كان ذلك لأن النقد يمنح الناقد تفوقاً فورياً على الأقران والجلساء، ومن ثم فإن كثيراً ممن يوجّهون النقد إلى غيرهم لا يملكون أي معرفة بحقيقة الأوضاع التي ينتقدونها، وكثير منهم يعتمد على أخبار صحفية أو تحليلات يسمعونها في القنوات الفضائية، ومن هنا فإن انتقاداتهم كثيراً ما تكون سطحية، أو أنها تعبر عن وجهة نظر ضعيفة أو منحازة. فقر مجتمعاتنا بالمتخصصين هو المسؤول عن هذه الحالة. نحن لا نستطيع منع الناس من الكلام، ولكن من المهم أن ندرك جميعاً الفرق بين لغو المجالس وبين النقد المجدي والمفيد.
3- لا بد لنا إذا أردنا لنقدنا أن يكون مفيداً من أن نجعله واضحاً ومحدداً حين لا تعجبنا وضعية من الوضعيات فإن من المهم أن نذكر ما لا يعجبنا بالضبط؛ فالصلاح والفساد شيئان نسبيان، ورب شيء ننتقده، يكون أفضل ما تم الوصول إليه بعد جهد وعناء طويل. ونحن ننتقد لنصلح، والإصلاح يتطلب أن نكون قادرين على شرح رأينا بوضوح فيما هو موضع مؤاخذة، وينبغي أن نكون في كثير من الحالات قادرين على تقديم بدائل، نعتقد أنها أفضل مما هو سائد، إن اعتمادنا لهذا المبدأ في النقد سوف يحمينا من أن نتخذ من النقد وسيلة لتفريج همومنا ليس أكثر.
4- إن الناقد مجتهد، وعليه أن ينظر إلى نقده على أنه يقبل المراجعة والرد. وليس من ننتقده ملزماً بالموافقة على كل ما نقوله له. وإذا كان الأمر كذلك فعلينا أن ننصح وننتقد على نحو يجعل المنتقد يتقبل نقدنا، ويهتم به. وهذا يتطلب أن نتحدث معه سراً وبلطف، ومن غير تكبّر واستعلاء.
إن النقد طعمه مرّ، والأسلوب الجميل يخفّف من مرارته، ويبرهن على أن ما نسعى إليه فعلاً هو الإصلاح، وليس الحصول على منافع شخصية(/3)
النقض المُحْكَم المُبْرَم لخرافة تنصُّر المُعِزّ وطيران المقطَّم
(مهداة إلى كرم محمد)
أ.د/إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
http://ibrawa.coconia.net
منك لله يا كرم! أقولها رغم إهدائى إياه هذه الدراسة كما يرى القراء، وليس فى الأمر تناقض، إذ إن كلمة "منك لله يا كرم!" ليست تعبيرا عن ضيقى منه، بل بالعكس هى تعبير عن إعجابى به وشكرى له، فقد أدى لى وما زال يؤدى بعض الخدمات "الإسنادية" المهمة بمصطلح العسكريين. وهذا كما يقول الواحد منا لصديقه مثلا: "الله يخرب بيتك يا فلان! من أين جئت بهذه الفكرة الجهنمية؟"، يقصد "الفكرة العبقرية". لكنْ هكذا كانت اللغة، وهكذا ستظل، إذ كثيرا ما نلجأ إلى التعبير عما نريد بنقيضه، وهذه الكلمة إحداها. لكنْ لماذا قلت هنا: "منك لله يا كرم!"؟ السبب هو أنه الذى دفعنى، بقصد منه أو بدون قصد، إلى كتابة هذه الدراسة، إذ اتصل بى يسألنى عن أشياء تتعلق ببعض الأمور فى حدوتة نقل جبل المقطم من موضعه السابق إلى موضعه الحالى بمعجزةٍ أجرتها السيدة مريم العذراء على يد إسكافٍ قبطىٍّ أيام المعز لدين الله الفاطمى حسبما يزعم النصارى فى مصر، وهو بالمناسبة دائم الاتصال كلما قرأ فى هذا الموقع القبطى أو ذاك شيئا مما يشنعون به على الإسلام والمسلمين ويتطاولون على سيد الأنبياء والمرسلين، طالبا المشورة أو مقترحا علىّ أن أتولى الرد بنفسى على ما يأفكون. ويكون جوابى فى بعض الأحيان هو نصحه بالاهتمام أولا وقبل كل شىء بإتقان تخصصه هو وزملائه كى يكونوا مسلمين متفوقين فى ميدان العلم والعمل، أما إعطاء مثل تلك المواقع وما تنشره ضدنا وضد ديننا ورسولنا وتاريخنا حجما أكبر من حجمها الذى تستحقه فلن يؤدى إلا إلى إهمالنا أعمالنا والانقياد لما يريدون، وبالطريقة التى يَرَوْنَها هم، فضلا عن أننا لن ننتهى إلى طائل، فلا هم على استعداد للإصغاء إلى صوت العقل والمنطق، ولا هم سيكفّون عن اختراع المزيد من الأكاذيب العامية المتخلفة والمزاعم الباطلة المجنونة دون خجل، إذ المسألة (كما لاحظت فى تلك المواقع) لا تعدو أن تكون مكايدة للمسلمين وتشنيعا كاذبا عليهم وعلى كل ما يتعلق بدينهم. لكنه فى العادة لا يقتنع تماما بما أقول، بل يخبرنى أننى إذا لم أتولّ بنفسى الرد على تلك الافتراءات والأباطيل فسوف يمضى هو فى الكتابة مفنِّدا أكاذيب الكذابين. والواقع أننى أحيانا ما أجد نفسى منساقا مع عاطفته النبيلة فأبدأ أدندن فى الموضوع بينى وبين نفسى دون أن يكون فى نيتى عمل شىء، إلا أن الدندنة الخافتة سرعان ما تتحول إلى صُدَاح تصاحبه كل الآلات الموسيقية، وتكون النتيجة دراسة مستفيضة، وهو ما حدث هذه المرة أيضا.
لكنْ علينا أوّلاً أن ننقل الخرافة المذكورة كما جاءت ضمن سيرة سمعان الخرّاز المنشورة بموقع الكنيسة المسماة باسمه فى المقطم، وهذه هى بأخطائها الإملائية واللغوية، وإن كنت تدخلت لتنسيق علامات الترقيم:
"الأحداث التى مهدت للمعجزة
(1) المجادلة الدينية الحادة :
كان المعز لدين الله الفاطمى... محبا لمجالس الأدب ومولعا بالمباحثات الدينية، وكان يجمع رجال الدين من المسلمين والمسيحيين واليهود للمناقشة فى مجلسه، وأشترط أن يكون ذلك بلا غضب أو خصام. وكان فى ديوان المعز رجل يهودى أعتنق الأسلام لكى يعيين وزيرا فى الدولة، وكان أسم هذا الرجل يعقوب بن كلس. ورغم أنه أعتنق الأسلام إلا أنه مازال متعصبا لدينه اليهودى، لأنه لم يعتنق الأسلام عن عقيدة بل لأجل المنصب. وكان هذا اليهودى يبغض المسيحيين إلى أقصى درجة، خاصة وأنه كان له خصم مسيحى يعزه الخليفة، وكان اليهودى يخشى أن يعينه وزيرا عوضا عنه، وكان اسمه قزمان بن مينا الشهير بأبو اليمن. فأستدعى يعقوب بن كلس اليهودى واحدا من بنى قومه يُدْعَى موسى ليجادل البابا البطريرك الأنبا ابرآم فى مجلس الخليفة المعز. أرسل الخليفة للآب البطريرك قائلاً: إن شئت يوماً أن تحاجج اليهود بنفسك أو بواسطة من تختار من الأساقفة، فتعال إلى دارى وناقشهم أمامى.
حدد البابا الأنبا ابرآم موعدا لذلك، وأصطحب معه الأنبا ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونين (بالصعيد) وكان من علماء الكنيسة فى جيله، فهو الذى كتب تاريخ "سير البطاركة"، وكان أيضا لاهوتيا ضليعا، وخاصة فى اللاهوت المقارن بين الأديان، وله كتب كثيرة فى هذا المجال منها: كتاب التوحيد، وكتاب الأتحاد الباهر فى الرد على اليهود، وكتب كثيرة أخرى. وعندما أستقر مجلس الخليفة، وكان حاضرا أيضا الوزير بن كلس اليهودى ورفيقه موسى، فقال المعز للبابا: تكلم أيها البابا الوقور، أو أمنح رفيقك الأذن بالكلام.
فقال البابا لأسقف الأشمونين الأنبا ساويرس: تكلم يأ بنى. ولتمنحك الحكمة الألهية حكمة من لدنها.(/1)
فقال الأنبا ساويرس بفطنة روحية: ليس من اللائق أن أتحدث إلى يهودى فى حضرة الخليفة. فأحتد موسى اليهودى رفيق الوزير وقال: إنك تهيننى فى مسمع من أمير المؤمنين إذ تصفنى بالجهل. فسأله الأنبا ساويرس بهدوء: وإن قدمت لكَ الدليل على جهلك، أفلا تغضب؟
وهنا تدخل الخليفة المعز بسماحته وبلاغته قائلاً: لا داعى للغضب فى المناقشة، لأن الحرية مكفولة لكل منكم حتى يعبر كل واحد عن عقيدته بصراحة وبلا حرج. فقال الأنبا ساويرس بثقة: لست أنا الذى أصفكم بالجهل، بل أن نبيا عظيما نال كرامة خاصة من الله هو الشاهد عليكم.
فسأله موسى اليهودى قائلاً: ومن يكون هذا النبى؟
أجابه الأنبا ساويرس على الفور: أنه أشعياء النبى الذى قال عنكم: "الثور يعرف قانيه، والحمار معلف صاحبه، أما أسرائيل فلا يعرف. شعبى لايفهم" (أش 1: 3) .
فأنفجر الخليفة المعز ضاحكا، إذ أُعجب بفطنة الأنبا ساويرس، وأُعجب بمهارته فى الحوار. ثم سأل الخليفة موسى اليهودى قائلاً : أهذه كلمات أشعياء النبى حقا؟
فكتم موسى اليهودى غيظه، فأجاب بصوت خفيف: نعم يامولاى.
فأستطرد الأنبا ساويرس فى الكلام قائلاً : ها أن نبيا عظيما من أنبيائكم قد أعلن بأن الحيوانات أكثر فهما منكم .
وكان الخليفة لايزال ثملاً من براعة هذه الدعابة، ورأى أن يكتفى بذلك فى تلك الجلسة.
(2) المؤامرة الخبيثة:
كان من أثر تلك المجادلة الحادة أن تضايق الوزير بن كلس للغاية هو ورفيقه موسى اليهودى، فقررا الأنتقام من الأنبا ابرآم والأنبا ساويرس بتدبير مؤامرة تقضى على الأقباط جميعا. فأخذ موسى اليهودى يفتش فى الأنجيل المقدس عن شئ يساعده فى تحقيق غرضه الخبيث، فوجد الآية المقدسة التى قالها رب المجد يسوع المسيح: "لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل: أنتقل من هنا إلى هناك فينتقل، ولايكون شئ غير ممكن لديكم" (مت 17: 20) .
أسرع موسى اليهودى مع الوزير بن كلس إلى الخليفة المعز وقالا له : وجدنا فى أنجيل النصارى أنه مكتوب "أن من له إيمان مثل حبة خردل ينقل الجبل". فمن حقنا أن نطالبهم بإثبات صحة دينهم بإتمام هذا الكلام، فإن لم يستطيعوا وجب عقابهم لبطلان دينهم. صمت الخليفة المعز لدين الله الفاطمى مفكرا فى هذه الآية، ورأى أنه إذا كان كلام الآنجيل صحيحا فتكون فرصة ذهبية لإزاحة الجبل الجاثم شرق المدينة الجديدة (القاهرة) حتى يزيد عمرانها شرقا، ويكون موقعها أروع إذ كان الجبل قبل نقله على حدود بركة الفيل. أما إذا عجزوا عن تنفيذ هذا الكلام كان ذلك دليلاً قاطعا على بطلان دين النصارى، ومن ثمَ تحتم إزالة هذا الدين من الوجود. أرسل الخليفة المعز إلى البابا الأنبا ابرآم السريانى، فحضر اليه وتكلم معه عن أمر هذه الآية، وأن عليه أن يختار أمراً مما يأتى:
1) إما تنفيذ هذه الوصية ونقل الجبل الشرقى المقطم .
2) وإما أعتناق الإسلام وترك الدين المسيحى لبطلانه .
3) وإما ترك البلاد المصرية والهجرة إلى أى بلد آخر.
4) أو الأبادة بحد السيف.
أطرق القديس البطريرك مصليا فى قلبه ليرشده الرب فى هذه المحنة. ثم طلب من الخليفة أن يمهله ثلاثة أيام، ثم يرد عليه جوابا.
(3) المنادة بصوم واعتكاف:
رجع البابا إلى مقره حزينا وأصدر منشورا عاما يأمر فيه جميع المسيحيين فى مصر بالصوم ثلاثة أيام إلى الغروب، مع أقامة الصلوات الحارة من أجل سلامة الكنيسة وأنقاذها من هذه المحنة. يا لها بصيرة روحية وحكمة سماوية تلك التى تلجأ إلى الله فى الظروف والمحن. فما اروع ما تصليه الكنيسة فى القداس الألهى قائلة: "لأننا لانعرف آخر سواك. أسمك القدوس هو الذى نقوله فتحيا نفوسنا بروحك القدوس". بعد ذلك ذهب البابا إلى كنيسة السيدة العذراء المعروفة بالمعلَّقة وطلب الأساقفة الذين كانوا موجودين بمصر القديمة والكهنة والأراخنة والرهبان، وذكر لهم ما حدث بينه وبين الخليفة المعز، وقال لهم: علينا بالصوم والصلاة هذه الأيام الثلاثة التى أستمهلته أياها ليترأف الله علينا بنعمته ويهئ لنا طريق النجاة. أستجاب الجميع لنداء البابا، وصام الشعب القبطى فى طول البلاد وعرضها ، وأقيمت القداسات، ورُفِعَت الصلوات والطلبات من أجل هذه المحنة التى تجتازها الكنيسة. وأعتكف البابا الأنبا ابرآم مع بعض الأساقفة والكهنة والرهبان والأراخنة بكنيسة السيدة العذراء بالمعلقة لمدة هذه الأيام الثلاثة.
2) إنقشاع الغمة
1) ظهور السيدة العذراء للبابا:
فى فجر اليوم الثالث غفا البابا غفوة قصيرة فرأى خلالها السيدة العذراء، وسمعها تقول له: ماذا بكَ؟
فأجابها البابا: أنتِ تعلمين ياسيدة السمائيين والأرضيين.(/2)
فقالت له: لاتخف أيها الراعى الأمين، فإن دموعك التى سكبتها فى هذه الكنيسة مع الأصوام والصلوات التى قدمتها أنتَ وشعبك لن تُنسى. أخرج الآن من الباب الحديدى المؤدى إلى السوق، وعند خروجك منه ستجد أمامك رجلاً بعين واحدة، حامل جرة ماء. أمسك به لأنه الرجل الذى ستتم المعجزة على يديه.
وما ان قالت السيدة العذراء ذلك حتى توارت عن عيني البابا الذى أستيقظ من نومه مندهشا.
2) مبعوث السماء القديس سمعان:
عندما أستيقظ البابا من النوم وخرج فى الحال إلى الباب الحديدى المؤدى إلى السوق رأى خارجه الرجل الذى أشارت إليه السيدة العذراء، فأمسك به وأدخله داخل الباب الحديدى، ثم أغلق الباب. ثم ذكر البابا له ما حدث بينه وبين الخليفة، وما أمرته به السيدة العذراء بأنه هو الرجل الذى ستتم على يديه المعجزة. فقال له القديس سمعان: أغفر لى يا أبتى، فأنى رجل خاطئ .
فقال له البابا فى أصرار: أنه أمر أم النور.
فأجاب القديس سمعان فى خضوع وأتضاع: مادامت أم النور هى التى حكمت علىّ بأن أوّدى هذا الواجب العظيم، فأنى أضع نفسى فى خدمتك ياسيدى. فسأله البابا عن أسمه وعن سبب وجوده فى السوق فى مثل هذه الساعة المبكرة، بينما الناس نيام. فأجابه القديس سمعان: أسمى سمعان الخراز. وأنا أشتغل بدباغة الجلود، ولكنى أقوم فى مثل هذه الساعة من كل صباح لأملأ قربتى بالماء وأوزعه على الكهول والمرضى الذين أقعدتهم الشيخوخة أو المرض عن المقدرة على أحضار الماء لأنفسهم. وعندما أنتهى من خدمتى هذه أُعيد قربتى إلى البيت وأذهب إلى عملى عند صاحب مصنع الدباغة حيث أعمل حتى المساء، وعند غروب الشمس أخرج مع بقية الأُجراء فأكل القليل لأسد به رمقى ثم أنصرف إلى الصلاة. ثم رجا القديس سمعان من البابا أن يكتم حقيقة أمره طالما هو حى على هذه الأرض .
3) التجهيزات للمعجزة:
بعد أن أنتهى القديس سمعان من حديثه السابق قال للآب البطريرك: أصعد يا أبى المكرم إلى الجبل، وخذ معك رجال الدين والشمامسة والأراخنة، وأجعلهم يحملون عاليا الأناجيل والصلبان والشموع الطويلة موقدة والمجامر مملوءة بخورا، وأطلب إلى الملك وحاشيته أن يصعدوا معكم. فتقفوا أنتم على ناحية من الجبل، بينما يقفوا هم على الناحية المقابلة لكم، وسأقف أنا وسط الشعب خلف غبطتكم بحيث لايعرفنى أحد. ثم إنك بعد تقديم الأسرار المقدسة ترفع صوتك مع الجميع مرددين "كيرياليسون" أربعمائة مرة. ثم أصمت بعد ذلك بعض اللحظات، ثم أسجد أنت والكهنة أمام العلى، وكرر هذا العمل ثلاث مرات، وفى كل مرة تقف فيها بعد السجود أرسم الجبل بعلامة الصليب، وسترى مجد الله. فرفع الآب البطريرك صلاة شكر لله الذى سمح بالتجربة، وأعطى معها أيضا المنفذ (1كو 10: 13).
3) المعجزة الخارقة
1) حشد رهيب:
أخبر الآب البطريرك الخليفة المعز لدين الله الفاطمى أنه مستعد لتنفيذ مطلبه بنعمة الله. فخرج الخليفة ممتطيا صهوة جواده، ومعه حشد رهيب من رجال حاشيته وعظمائه وجنوده. وتقابل مع الآب البطريرك وعدد كبير من الأساقفة والكهنة والشمامسة والأراخنة والشعب وبينهم القديس سمعان الخراز. ووقف الفريقان، كما قال القديس سمعان، مقابل بعضهما فوق جبل المقطم.
2) زلزلة عظيمة وأنتقال الجبل:
بعد تقديم الأسرار المقدسة التى رفعها البابا والأساقفة ردد المصلون بروح منكسرة وقلوب منسحقة صلاة "كيرياليسون: يارب أرحم" أربعمائة مرة شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، ثم صمتوا برهة بين يدى العلى. وأبتدأوا فى السجود والقيام ثلاث مرات، والآب البطريرك يرشم الجبل بالصليب، وإذ بزلزلة عظيمة تجتاح الجبل، وفى كل سجدة يندك الجبل، ومع كل قيام يرتفع الجبل إلى أعلى وتظهر الشمس من تحته، ثم يعود إلى مكانه فى كل مرة. إنها قوة الإيمان الذى أعلنه معلمنا الرسول بولس إذ قال: "أستطيع كل شئ فى المسيح يسوع الذى يقوينى" (فى 4: 13)
3) أرتعاب الخليفة والجماهير:
عندما حدثت المعجزة فزع الخليفة المعز وأرتعب وكل الجموع المحتشدة معه، وهتف المعز بأعلى صوته قائلاً: عظيم هو الله، تبارك أسمه. وألتمس من البابا أن يكف عن عمله لئلا تنقلب المدينة. وعندما هدأت الأمور قال للبابا : لقد أثبتم أن إيمانكم هو إيمان حقيقى.
4) أختفاء القديس سمعان الخراز:
بعد أن هدأت نفوس الجموع المحتشدة بدأوا ينزلون من الجبل ليعودوا إلى بيوتهم. أما البابا البطريرك فقد تلفت حوله باحثا عن القديس سمعان الخراز الذى كان يقف خلفه فلم يجده، ولم يعثر أحد عليه بعد ذلك حتى أظهرته نعمة الله فيما بعد كما سنرى.
5) تسمية الجبل بالمقطم:
تحكى مخطوطة بدير الأنبا أنطونيوس أن الجبل المقطم سُمِّىَ كذلك أى المقطم أو المقطع أو المقطب لأن سطحه كان متساويا، أى متصلاً ، فصار ثلاث قطع، واحدة خلف الأخرى، ويفصل بينهم مسافة. وتقول قواميس اللغة العربية أن كلمة "مقطم" معناها "مقطع".
4) نتائج المعجزة
كان لهذه المعجزة الجبارة عدة نتائج هامة منها :(/3)
1) تجديد الكنائس وترميمها :
بعد أن تمت المعجزة أنفرد الخليفة المعز لدين الله الفاطمى بالبابا وقال له: الآن أطلب ما تشاء فأفعله لك.
فأجاب البابا بحكمة: لا أطلب إلا أن يطيل الله حياتك ويمنحك النصر على أعدائك. ولكن الخليفة أصر أن يطلب البابا شيئا. فقال البطريرك: مادمت تلح علىّ فى أن أعلن لكَ رغبتى فأسمح لى بأن أقول أننى أتوق إلى أعادة بناء كنيسة القديس مرقوريوس أبى سيفين ببابيلون (مصر القديمة)، إذ قد هدمها بعض السوقة والرعاع وأستعملوا ما بقى منها كمخزن للقصب، وكذلك أود ترميم جدران كنيسة المعلقة، إذ أصابها بعض التصدع.
وما إن سمع الخليفة هذه الطلبات حتى أمر أحد كتبة الديوان بأن يحرر مرسوما فورا يعطى البطريرك الحق فى العمل كما طلب. ثم أمر أن تصرف النفقات اللازمة من خزانة الدولة. أخذ البابا المرسوم الذى يصرح له بالبناء والترميم وأعتذر عن أخذ المال، وقال للخليفة:
إن الذى نبنى له كنيسة قادر على أن يساعدنا حتى نتممها، وهو غير محتاج إلى مال العالم، وأعادوا بناءه. إنها حياة القناعة والأكتفاء.
فالقديس البابا الأنبا ابرآم لم يطلب من الخليفة أية أمور أو مقتنيات شخصية. وقد كان تجديد بناء كنيسة مرقوريوس أبى سيفين فاتحة عهد من البناء والتجديد، فتجدد عدد كبير من الكنائس وخاصة فى الأسكندرية.
2) سلام الكنيسة:
كان لمعجزة نقل جبل المقطم أثر عميق فى نفوس الجميع وصارت رهبة الله على الكبير والصغير فى الدولة، إذ يسجل التاريخ ذلك بقوله: "حل السلام محل الثورة و الحرب، فأمتلأ قلب الأنبا ابرآم طمأنينة على شعبه الأمين". ومن أسباب السلام الذى عم الكنيسة هو ما قيل عن الخليفة نفسه. وهذا يذكرنا بما حدث مع أمبراطور الدولة الرومانية، الأمبراطور قسطنطين الكبير، الذى بعد أن رأى راية الصليب فى منامه وتم له النصر فى معاركه آمن بالمسيح. ليس شئ عسير على الرب، إذ تستطيع نعمة الله أن تدخل إلى بلاط الملوك والأباطرة وتسبى سبيا وتعطى الناس عطايا، فمعلمنا القديس بولس يكتب قائلاً : "يسلم عليكم جميع القديسين، ولاسيما الذين من بيت قيصر" (فى 4: 22)".
ونبدأ بقول كاتب السيرة عن يعقوب بن كلس اليهودى الذى كان قد أسلم فى عهد كافور الإخشيدى وانتهى به الحال إلى الدخول فى خدمة الفاطميين بعد فتحهم لمصر: "ورغم أنه أعتنق الأسلام إلا أنه مازال متعصبا لدينه اليهودى، لأنه لم يعتنق الأسلام عن عقيدة بل لأجل المنصب. وكان هذا اليهودى يبغض المسيحيين إلى أقصى درجة، خاصة وأنه كان له خصم مسيحى يعزه الخليفة، وكان اليهودى يخشى أن يعينه وزيرا عوضا عنه، وكان اسمه "قزمان بن مينا الشهير بأبو اليمن"، فها هنا يقول كاتب سيرة سمعان الإسكافى إن ابن كلس كان وزيرا للمعز لدين الله، وخشى أن يستبدل الخليفة الفاطمى به رجلا نصرانيا يحل محله فى الوزارة. وهذا كله كذب، ببساطة لأن ابن كلس لم يكن يوما وزيرا للمعز، بل لابنه العزيز. فهذا أول مِعْوَل فى جدران الخرافة المضحكة، وفى أول فقرة منها، وهو ليس بالمعول الضعيف، بل معول مزلزل.
الثانية أن راوى الخرافة قد وصف المعز الفاطمى أكثر من مرة بالسماحة وسعة الصدر واحترام البطرك وتوقيره، بالإضافة إلى أنه، عند الكلام عن مجالسه الدينية، قد ركز على اشتراطه عدم الغضب أثناء الجدال بين أصحاب الأديان المختلفة. لكنه ينسى هذا كله فجأة ليقدم للمعز نفسه صورة أخرى مخالفة، إذ انتهز ما قاله له ابن كلس عن آية استطاعة المؤمن النصرانى نقل الجبل من مكانه إذا أراد، وعوّل على عقد اللقاء الثانى بين اليهودى والبطرك لاستغلاله من أجل القضاء على النصارى فى البلاد وقَطْع دابرهم. كيف يمكن أن يحدث ذلك فى غمضة عين للمعز المتسامح الواسع الصدر المحب للعلم والعلماء الموقر لبطرك الأقباط والذى يفسح فى مجالسه للمجادلات الدينية دون غضب أوتعصب، وهو أمر لم يفكر فيه من قبلُ ولا من بعدُ حاكم مسلم لا فى مصر ولا فى أى بلد إسلامى آخر؟ الواقع أن هذا أمر لا يصدقه عقل، أو "لا يُسَدّكه عَكْل" كما كانت شويكار تنطقها فى بعض أعمالها السخيفة، فطبائع الشخصيات البشرية لا تنقلب بهذه السرعة ولا بهذه السهولة ولا لهذه الأسباب التافهة، اللهم إلا إذا كان صاحب الشخصية من الإمَّعات، وحاشا أن يكون المعز بهذه الضآلة! لا أقول هذا من لَدُنّى، بل يقوله التاريخ، ويقوله كاتب السيرة نفسه.(/4)
كذلك تقول الحدوتة إن البطرك، حين رجع من عند المعز، أصدر منشورا للنصارى جميعا فى عموم البلاد أن يصوموا تلك الأيام الثلاثة التى ضربها للخليفة ميعادا لتحقيق المعجزة، بما يعنى أنه لا بد من إعلام النصارى فى كل أرجاء مصر بما جاء فى المنشور فى نفس اليوم رغم سعة البلاد طولا وعرضا كما هو معروف. والسؤال هو: كيف استطاع البطرك فى ذلك الزمن الذى كانت المواصلات فيه بدائية وبطيئة أن يوصل منشوره إلى رعيته فى ذات اليوم بحيث استطاعوا أن يصوموا الأيام الثلاثة المطلوبة قبل أن تبدأ المواجهة بينه وبين المعز؟ وإلى القارئ ما قاله كاتب الحدوتة بنفسه فى هذه النقطة: "ذهب البابا إلى كنيسة السيدة العذراء المعروفة بالمعلقة، وطلب الأساقفة الذين كانوا موجودين بمصر القديمة والكهنة والأراخنة والرهبان، وذكر لهم ما حدث بينه وبين الخليفة المعز، وقال لهم: علينا بالصوم والصلاة هذه الأيام الثلاثة التى أستمهلته أياها، ليترأف الله علينا بنعمته ويهئ لنا طريق النجاة. أستجاب الجميع لنداء البابا، وصام الشعب القبطى فى طول البلاد وعرضها، وأقيمت القداسات، ورُفِعَت الصلوات والطلبات من أجل هذه المحنة التى تجتازها الكنيسة. وأعتكف البابا الأنبا ابرآم مع بعض الأساقفة والكهنة والرهبان والأراخنة بكنيسة السيدة العذراء بالمعلَّقة لمدة هذه الأيام الثلاثة". أما فى الرواية التى أوردها عزت أندراوس فى "موسوعة تاريخ أقباط مصر" فإن الأمر يوغل فى الاستحالة إن كان للاستحالة درجات متفاوتة: "وعاد البابا إلى منزلة بمصر وأحضر الكهنة والآراخنة بمصر وجميع الشعب القبطى وعرفهم ما حدث وهو يبكى". أى أن البطرك لم يكتف بإرسال المنشور إلى جميع أرجاء البلاد، بل أحضر الشعب القبطى كله إليه. كيف ذلك؟ علمه عند عالم السر وأخفى! أو ربما استدعاهم بنقرة من فارة الكمبيوتر فحضروا إليه فى الحال من جميع أنحاء الشبكة العنكبوتية وخرجوا من الحاسوب (أو "الكاتوب" كما أفضل أن أقول) ملوحين بقبضاتهم المهدِّدة فى الهواء وهم يستنزلون اللعنات على رأس المعز ومن نفضوا بذرة المعز، ويهتفون: بالروح، بالدم، نفديك يا إبرام!
وتمضى الحدوتة فتذكر أن السيدة مريم عليها السلام قد ظهرت للبطرك فى المنام: "فى فجر اليوم الثالث غفا البابا غفوة قصيرة فرأى خلالها السيدة العذراء، وسمعها تقول له: ماذا بكَ؟
فأجابها البابا: أنتِ تعلمين ياسيدة السمائيين والأرضيين.
فقالت له: لاتخف أيها الراعى الأمين، فإن دموعك التى سكبتها فى هذه الكنيسة مع الأصوام والصلوات التى قدمتها أنتَ وشعبك لن تُنْسَى. أخرج الآن من الباب الحديدى المؤدى إلى السوق، وعند خروجك منه ستجد أمامك رجلاً بعين واحدة حامل جرة ماء. أمسك به لأنه الرجل الذى ستتم المعجزة على يديه.
وما ان قالت السيدة العذراء ذلك حتى توارت عن عيني البابا الذى أستيقظ من نومه مندهشا".
ثم إننا نقرأ أيضا فى الحدوتة أن سمعان قد طلب من البطرك أن يذهب النصارى إلى الجبل يوم الامتحان ويصعدوا هم والمسلمون فيه بحيث يقف كل من الفريقين فى جانب. المهم أنهم جميعا سيكونون فوق الجبل، وهو ما حدث فعلا كما ورد فى الحدوتة فى أكثر من موضع: "أصعد يا أبى المكرم إلى الجبل، وخذ معك رجال الدين والشمامسة والأراخنة، وأجعلهم يحملون عاليا الأناجيل والصلبان والشموع الطويلة موقدة والمجامر مملوءة بخورا، وأطلب إلى الملك وحاشيته أن يصعدوا معكم فتقفوا أنتم على ناحية من الجبل، بينما يقفوا هم على الناحية المقابلة لكم، وسأقف أنا وسط الشعب خلف غبطتكم بحيث لايعرفنى أحد... أخبر الآب البطريرك الخليفة المعز لدين الله الفاطمى، أنه مستعد لتنفيذ مطلبه بنعمة الله، فخرج الخليفة ممتطيا صهوة جواده، ومعه حشد رهيب من رجال حاشيته وعظمائه وجنوده، وتقابل مع الآب البطريرك وعدد كبير من الأساقفة والكهنة والشمامسة والأراخنة والشعب وبينهم القديس سمعان الخراز، ووقف الفريقان، كما قال القديس سمعان، مقابل بعضهما فوق جبل المقطم". إذن فالفريقان كلاهما كانا واقفين فوق الجبل، ومع هذا تقول الحدوتة المتخلفة إن الجبل اندك أكثر من مرة (وهم بطبيعة الحال فوقه) وأخذ يتراقص تراقصا مرعبا فيصعد كلما رفع النصارى رؤوسهم من السجود، ويرجع إلى موضعه من الأرض مندكًّا حين يعودون فيسجدون، كل ذلك دون أن يتحطموا ويتفتتوا، بل دون أن يصيبهم أى أذى على الإطلاق، أو على الأقل دون أن يسقط أحد منهم من فوق الجبل أثناء هذه الألاعيب الأكروباتية التى كان يأتيها هذا الجبل العفريت! تصوروا!(/5)
وأنكى من ذلك أنهم كانوا يشاهدون الشمس من تحت الجبل كلما ارتفع فى الهواء عند قيامهم من السجود. أى أنهم كانوا واقفين فوق الجبل، ومع ذلك استطاعوا أن يَرَوُا الشمس من تحت هذا الجبل! أين أنت يا خواجه بيجو كى تشق هدومك وتلطم خدودك وتطق عروقك كما كنت تصنع حين يفشر عليك أبو لمعة المسكين رغم أن فشره لا يعد شيئا مذكورا جنب هذا التخلف العقلى الرهيب الذى لا يصلح معه إلا إرسال صاحبه إلى العباسية؟ وهذا نص ما جاء فى الحدوتة عن ذلك الموضوع: "بعد تقديم الأسرار المقدسة التى رفعها البابا والأساقفة ردد المصلون بروح منكسرة وقلوب منسحقة صلاة "كيرياليسون: يارب أرحم" أربعمائة مرة شرقا وغربا وشمالا وجنوبا (أربعمائة مرة بحالها؟ يا محمَّدى!). ثم صمتوا برهة بين يدى العلىّ، وأبتدأوا فى السجود والقيام ثلاث مرات، والآب البطريرك يرشم الجبل بالصليب، وإذ بزلزلة عظيمة تجتاح الجبل، وفى كل سجدة يندكّ الجبل، ومع كل قيام يرتفع الجبل إلى أعلى وتظهر الشمس من تحته، ثم يعود إلى مكانه فى كل مرة". "ياااا صلااااة النبى" على رأى إسماعيل يس! ولكم، أيها القراء، أن تتصوروا ما حدث للخليفة ورجاله وسائر المسلمين بعد هذه المداعبة المتهورة، فقد هَرّوا على أنفسهم طبعا (كما يفعل القمّص الحمار، ذو الدُّبر الهرّار): "عندما حدثت المعجزة فزع الخليفة المعز وأرتعب وكل الجموع المحتشدة معه، وهتف المعز بأعلى صوته قائلاً: عظيم هو الله، تبارك أسمه. وألتمس من البابا أن يكف عن عمله لئلا تنقلب المدينة". عجيبة! أوبعد كل تلك الزلازل والاندكاكات لم تكن المدينة قد انقلبت؟ ثم إنى كنت أتوقع أن يكون تعليق المعز للبطرك هنا هو: "ماذا تفعل يا رجل يا مجنون؟"، فهذا هو ما يقال فى مثل تلك الحالة، لكن مؤلف الحدوتة يفتقر للأسف إلى خفة الظل المصرية. وتنتهى هذه الحلقة من المسلسل بقول الراوى يا سادة يا كرام: "وعندما هدأت الأمور قال للبابا: لقد أثبتّم أن إيمانكم هو إيمان حقيقى". هكذا إذن! لكن ماذا يكون هذا بالقياس إلى ما أنطقوا به المعز فى رواية أخرى للحدوتة، إذ قال: "محمد ما فيش!"، أى أن دين محمد لا معنى له جنب هذه الألاعيب الأكروباتية! نعم جعلوه يقول: "محمد ما فيش"، وكأنه خواجا إجريجى! ولم لا؟ أليس اسمه بالكامل: المعز بن قسطنطين بن كرامانليس؟ ولا أدرى لم لم يوردوا كلامه كاملا، وهو: "مهمَّد ما فيش! إدونى بكشيش، أو كِرْش هَشِيش، لا نروه ما نجيش!".
وفى الحدوتة الخرافية أيضا أن المعز كان يهدف، ضمن ما يهدف إليه، من امتحان النصارى إلى أنهم إن استطاعوا الإتيان بالمعجزة فبإمكانه التوسع بعمران القاهرة شرقا، إذ كان المقطم يقع شرقى عاصمته عند بركة الفيل كما يخرّفون. وهذا نص ما قيل، أُورِده بحرفه: "صمت الخليفة المعز لدين الله الفاطمى مفكرا فى هذه الآية، ورأى أنه إذا كان كلام الإنجيل صحيحا فتكون فرصة ذهبية لإزاحة الجبل الجاثم شرق المدينة الجديدة (القاهرة) حتى يزيد عمرانها شرقا ويكون موقعها أروع، إذ كان الجبل قبل نقله على حدود بركة الفيل". ومعروف أن القاهرة قد بناها المعز فى منطقة الأزهر والحسين وما جاورها، فبركة الفيل إذن لا تقع شرقها بل إلى ناحية الجنوب منها. ثم إنه إذا أراد المعز توسيع القاهرة لقد كان عنده الشمال مفتوحا تماما، ويستطيع أن يمتد بعمرانه فيه كما يحلو له. فهذه غلطة أخرى قاتلة تدل على أن الأمر كله لا يعدو أن يكون خرافة سخيفة لا تليق إلا بالعوام ومن هم أدنى من العوام. ثم لو كان المعز يريد التخلص من النصارى، فهل كان هناك ما يمنعه من تنفيذ مخططه مباشرة دون الدخول فى مثل هذه المآزق؟ لقد كانت الدولة المصرية آنذاك قوية لا تبالى القوى الأجنبية ولا تعمل لها حسابا، وليس كما هو الحال الآن. وكان المعز قادرا على أن يصنع ما يريد فى هذا السبيل دون أن يعقب عليه معقب أو يقول له: ثلث الثلاثة كم؟ ولدينا ما صنعه حفيده الحاكم بأمر الله حين كان يطلع فى رأسه أن ينكل بهذه الطائفة أو تلك، بل أن ينكل بالشعب المصرى كله، فهل كان يلجأ إلى مثل تلك المناورات؟ أبدا، بل كان يمضى إلى تنفيذ ما فى ذهنه دون رقيب أو حسيب، بغض النظر عن النتائج بطبيعة الحال. وهنا نحب أن ننبه إلى ما وقع بالنصارى فى عهد الحاكم لقبح سلوكهم وتجبرهم وسوء استغلال كبارهم للمناصب المهمة التى بوّأتهم إياها الدولة آنذاك فانقلب الحاكم بأمر الله عليهم ونكل بهم، وإن لم ينفردوا دون سائر الشعب بهذا العسف مع توفر بواعثه فى حالتهم، وهو ما يكذّب ما قالته الخرافة المتخلفة تخلف عقل من اخترعها من أن وقوع المعجزة كان بدءا لعصر سلام تمتعت فيه الكنيسة بالازدهار. ذلك أنه لم يمض على المعجزة الكاذبة إلا قليل حتى جاء الحاكم وأدّب النصارى، وإن لم يكن نصيب المسلمين من عسفه أقل ما وقع بالنصارى من تأديب، بل قد يزيد.(/6)
ومما روته هذه الخرافة أيضا أن بطلها المسمى: "سمعان"، والذى يلقب مرة بـ"سمعان الخراز"، ومرة بـ"سمعان الدباغ" (وهو اضطراب آخر من الاضطرابات الكثيرة التى تعج بها الحدوتة السخيفة) كان أعور، إذ كان قد فقأ إحدى عينيه. لماذا، اسم الله عليه؟ قال: "قلعتها من أجل وصية الرب. فعندما نظرت لما ليس لى، فى شهوة، ورأيت أنى ماضى إلى الجحيم بسببها، فكرت وقلت: الأصلح لى أن أمضى من هذه الحياة بعين واحدة إلى المسيح خير من أمضى إلى الجحيم بعينين". وقد فسرت روايةٌ أخرى من روايات تلك الخرافة ما فعله ذلك المسكين بشىء من التفصيل على النحو التالى طبقا لما جاء عند عزت أندراوس فى الهامش رقم 11 لتلك الحدوتة فى "موسوعة تاريخ أقباط مصر"، إذ كتب قائلا: "عندما كان سمعان يقوم بعمله كإسكافى أتت إليه امرأه لتصلح نعل رجلها (خذوا بالكم والنبى من "نعل رجلها" هذه، وكأن هناك نعلا لليد، وآخر للرأس، وثالثا للأنف، ورابعا للأذن... وهلم جرا)، وكانت جميلة الصورة ، وعندما خلعت نعلها نظر إلى ساقها فنظرت عيناه إليها بشهوة، فأنّبته نفسه فضرب المخراز فى إحدى عينيه فأفرغها تنفيذا لوصية الرب: "إن كانت عينك اليمنى تُعْثِرك فاقلعها عنك، لأنه خير لك أن يَهْلِك أحد أعضائك ولا يُلْقَى جسدك كله فى نار جهنم" ( مت 5: 28- 29)... قد يقال أن سمعان الخراز تصرف بطريقة حرفيه، إلا أن هذا لا تنقص من قداسته لبساطته وإخلاصه وامانته فى تنفيذ هذه الوصية. كما أنه برهن على طهارته ونقاوة قلبه ورفضه للخطية التى تمكنت منه فى لحظه ضعف. كما أنه لم ينظر إلى المرأه بعين واحده وإنما الإثنين. فإنه أرد أن يعاقب نفسه على هذه النظرة الشريره التى إقتربت من الشهوة إلى حد أنها أصبحت فى حد ذاتها شهوة".
لكن فات سمعان والذين يقدسون سمعان، وهم بطبيعة الحال أحرار فى ذلك، أنه هو أو أى إنسان فى العالم عندما ينظر إلى شىء أو شخص فإنه ينظر إليه بعينيه الاثنتين لا بعين واحدة، فكيف اكتفى بقلع واحدة ولم يشفعها بالأخرى حتى يتأكد أنه لن يذهب إلى الجحيم ويعذَّب ولو نصف تعذيب؟ كذلك من غير الممكن أن تكون هذه هى المرة الوحيدة التى رأى فيها امرأة جميلة وتحركت نفسه إليها، وإلا ما كان بشرا سويا، وهو ما يكذبه تطلعه إلى قدم المرأة كما جاء فى تلك الخرافة. فلماذا لم يمض على سنته فيقلع العين الثانية بعد ذلك ما دام لم يقلعها أول مرة فيريح ويستريح؟ ثم لماذا لم يذهب فى ذات الاتجاه فيصلم أذنيه ويصب فيهما الآنُك كيلا يسمع صوتا أنثويا رقيقا أو مغناجا فيتطاول قلبه وتكون كارثة أخرى؟ ثم لماذا لم يستمر على نفس المنوال فيجدع أنفه ويسد فتحتيه بما يمتنع معه أن يشم عطر امرأة فواح يحرك أوتار خياله ونجد أنفسنا أمام كائنة أخرى من تلك الكوائن التى تؤدى بصاحبها إلى جهنم، والعياذ بالله؟ ثم إن الخرافة المضحكة قد نسيت أن تقول لنا ماذا فعلت المرأة صاحبة "الرِّجْل" التى تسببت فى هذه الكارثة. ذلك أننى أتصورها، حين رأت ما صنعه هذا المجنون، قد لطمت ورقَعت بالصوت الحَيّانى على عادة نساء مصر فى مثل تلك المواقف حتى تكأكا حولها خلق الله من كل حَدَب وصوب، وهى لا تكف عن الصياح واللطم والعويل (فهكذا سِلْو المصريات!)، وكانت حكاية شغلت الصحافة وبقية وسائل الأعلام العام بطوله! وبالمناسبة فلا يمكن أن تكون قدمها إلا قدما قشفة، وإلا فما الذى ينتظره الإنسان من امرأة تذهب إلى الإسكافى ليصلح لها نعلها الذى لا تملك غيره؟ ترى ما الذى كان قمينا أن يحدث لو كانت المرأة سيدة مترفة ذات قدم بضة مضيئة؟ لا أظن إلا أن سمعان الورع التقى كان سيسرع حينئذ إلى أقرب طبنجة ويطخّ بها رأسه ضمانا للنجاة، وهو لا يكاد يصدّق مع ذلك بأنه نجا!
ثم إنى أتساءل: كيف يا ترى يقال رغم هذا إن النصرانية هى ديانة الرحمة والخلاص، وإن المسيح قد فَدَى بدمه وصَلْبه البشرية من خطاياها؟ فإذا كان هذا هو السلوك المنتظر من المؤمنين بالمسيح إذا أرادوا نجاةً من نيران الجحيم طبقا لما وصاهم به هو نفسه، فما فائدة نزوله إذن من علياء ألوهيته أو ألوهية أبيه السماوى إلى دنيانا هذه بنت الجزمة القديمة؟ وفيم كانت كل تلك الدراما الرهيبة من قبض عليه وصلب له وقتل إياه؟ أوَطلع هذا كله على الفاضى؟ فلِمَ مكايدة النصارى إذن لغير النصارى وتحنيسهم إياهم بأنهم ليس لهم مسيح يفديهم كما لهم هم مسيح يفديهم ويخلصهم من خطيئتهم الأولى ويدخلهم ملكوت السماوات ما دامت المسألة فى نهاية المطاف سترسو على قلع الأعين وصلم الآذان وجدع الآناف تجنيا لأهوال جهنم، وهو ما لا وجود له ولا لفيمتو واحد منه فى دين محمد؟ والعجيب أن شريعة التوراة الموسومة بالقسوة والوحشية والمتَّهَم أصحابها بالحَرْفية والمظهرية والنفاق تخلو من مثل هذه الوصية الكارثية، فهل هذه هى الرحمة التى جاءت بها شريعة الإنجيل؟(/7)
أما شريعة محمد، الذى يتخذه الأوغاد غرضا لشتائمهم وبذاءاتهم ويريد بعض الناس أن نسكت على شتمه ولا نرد عنه قلة الأدب والصياعة الإجرامية، فإن لها رأيا آخر هو الحكمة كلها، والفقه كله، والعطف كله. جاء فى صحيح مسلم مثلا: "كُتِبَ على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة: فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخُطَا، والقلب يهوى ويتمنى. ويصدّق ذلك الفرج ويكذّبه"، وفى رواية ثانية: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة: فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمنَّى وتشتهي. والفرج يصدّق ذلك أو يكذّبه".
و بطبيعة الحال فإن الرسول عليه السلام لا يشجع هنا على التساهل، بل يعصم النفوس من اليأس إن حسبت أنها يمكن أن تعلو تماما عن مطالب الجسد وشهواته وكأنها ملائكة نورانية لا غرائز عندها ولا تطلعات إلى متاع الحياة، ثم تفاجأ بأن ذلك مستحيل تماما مما يدفعها إلى الوقوع فى حمأة الإثم والتخبط فى شباكه ما دام ليس ثمة أمل من وراء الجهود المتلاحقة والحرمانات المتصلة. وهل هناك شخص يستطيع أن يزعم صادقا أنه قد نجح تمام النجاح فى ألا ينظر إلى امرأة فاتنة أو يسمع صوتا جميلا أو يشم عطرا فواحا طوال حياته، أو أنه نظر وسمع وشم ولم يكن لهذا أى تأثير فى نفسه على الإطلاق؟ إنه إذن لأكذب الكذابين وأشد المنافقين نفاقا والتواء! والعبرة على أى حال فى ألا يستجيب لصوت الشهوة أو ينساق معه، بل يوقفه بكل ما عنده من جهد. والبشر متفاوتون فى هذا الجهد: فمنهم من يتوقف سريعا فلا يمضى بعيدا فى خيالاته، ومنهم من يضعف فيترك لخواطره العنان، ومنهم من قد يمضى إلى ما هو أبعد من ذلك. وهذا ما نشاهده حولنا دون حذلقات ماسخة. وباب التوبة مفتوح دائما أبدا، والله يغفر الذنوب جميعا مهما غلظت وضخمت ما دام مجترحها يشعر بخطئه ويندم عليه ويعمل بكل وسعه على عدم المعاودة حتى لو تكرر وقوعه بعد ذلك فى الذنب. فالمهم أن يظل الضمير يقظا وألا يستسلم صاحبه للآثام فيجترحها على أنها أمرٌ عادىٌّ لا يستوجب الشعور بالذنب والخجل. فهذا أفضل من سد بيبان العفو والغفران وتيئيس الناس ودفعهم دفعا إلى الآثام والخطايا بإيهامهم أن سيئاتهم تجلّ عن المغفرة، مع أنه سبحانه قد تكفل بغفران الذنوب جميعا. والعجيب أن نرى السيد المسيح عليه السلام يتشدد كل هذا التشدد فى الوقت الذى لم تكن ذنوب أنبياء العهد القديم أنفسهم هى اجتراح الذنوب البسيطة من عيّنة النظر إلى ساق امرأة قشفة مثلا لا تثير شهوة صرصور، بل منهم من زنى، ومنهم من دلّس، ومنهم من حقد، ومنهم من قتل بضمير بارد وإجرام متوحش لا يعرف الندم، ومنهم من أعان زوجاته على عبادة الأصنام، مما تعد معه نظرة سمعان المسكين إلى ساق المرأة الجلفة حسنة من الحسنات تكفل لصاحبها مقعدا فى البريمو بملكوت السماء!(/8)
فى ضوء هذا نقرأ النصوص التالية من العهد الجديد: "«27قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. 28وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ. 29فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. 30وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ" (متى/ 5). "8فَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي النَّارِ الأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ أَوْ رِجْلاَنِ. 9وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي جَهَنَّمِ النَّارِ وَلَكَ عَيْنَانِ" (متى/ 18). "43وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ يَدَانِ وَتَمْضِيَ إِلَى جَهَنَّمَ، إِلَى النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ. 44حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. 45وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ رِجْلاَنِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ فِي النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ. 46حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. 47وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ عَيْنَانِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ النَّارِ. 48حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ" (مرقس/ 9). وأترك القارئ الآن ليقارن بين كلام وكلام ويرى بنفسه ولنفسه الفرق بين مثاليات متشنجة لا تؤكل عيشا (ولا "جاتوهًا"، حتى لا تنطّ لنا فيها الغبية مارى أنطوانيت زوجة لويس السادس عشر!) ولا تؤدى بمتّبعها إلى شىء، اللهم إلا الكوارث أو الكذب والتشدق بما لا يستطيعه هو أو سواه، وبين تشريع إنسانى يلائم بين سمو المثالية وضغط الواقع الذى لا يمكن الإفلات تمام الإفلات منه، ويعرف من ثم أن شريعة محمد هى الشريعة الأجدر بالقبول لدى كل من عنده نظر فى عينيه، وعقل فى رأسه يفكر به ويعرف خلاصه، وإلا فلم تكن الجعجعة بقادرة يوما على أن تبلّغ صاحبها أى شىء!
ألا ما أسهل الكلام الجميل المنمق الذى يُسْكِر النفوس ويدغدغ المشاعر، لكنه عند التطبيق لا ينجلى عن أى طائل. وما هكذا تساس أمور البشر، بل السياسة السليمة هى التى تدفعنا فى طريق النجاة ولو خطوات بدلا من أن نظل نراوح أماكننا ونحن نهتف بالشعارات المثالية الباعثة مع ذلك على الضحك والمنتهية سريعا إلى اليأس والإحباط! ترى هل من المستطاع مثلا الحفاظ على أثوابنا من الاتساخ والعرق مهما اجتهدنا وبذلنا كل ما لدينا من وسع لاتقاء البقع والغبار والطين ورائحة إفرازات الجسد؟ إن هذا، بطبيعة الحال، أمر غير ممكن، وكل ما نستطيعه هو أن نغير دائما ملابسنا كلما اتسخت ولا نبقيها على أجسامنا بما تؤذى به العين من قذارة، والأنف من نتانة، عارفين أن ذلك لن يضع حدا لتلك القذارة ولا لتلك النتانة، وأنهما متكررتان لا محالة مما يستلزم تغيير الملابس من جديد والتخلص من القذارة والرائحة المزعجة... وهكذا دواليك. وبالمثل لا يمكن أن يتقى الإنسان الأخطاء الأخلاقية تماما وفى كل الأوقات والظروف. إن كثيرا من المنتمين إلى الإسلام مثلا لا يزنون ولا يسرقون ولا يتعاطون الخمور، ويصلون ويزكون ويحجّون ويؤدون واجبهم فى الحياة ويتقنون أعمالهم ويسعون فى طلب العلم ...، لكن هذا شىء، والزعم بأن هؤلاء وأمثالهم لا يقعون فى أية صغائر على الإطلاق شىء آخر تكذبه طبيعة الحياة ومنطق الواقع وما نعرفه من محدودية الطاقة الأخلاقية عند بنى الإنسان رغم قدرتها مع ذلك على التحليق فى عُلْيَا السماوات فى كثير من الحالات!(/9)
ومن التدليس النئ المفضوح قولهم إن المقطم إنما سمى: "مقطَّما" لأنه فى هذه المعجزة قد تقطم، أى تقطع قِطَعًا: "تحكى مخطوطة بدير الأنبا أنطونيوس أن الجبل المقطم سُمِّىَ كذلك، أى المقطَّم أو المقطَّع أو المقطَّب، لأن سطحه كان متساويا أى متصلاً، فصار ثلاث قطع، واحدة خلف الأُخرى، ويفصل بينهم مسافة. وتقول قواميس اللغة العربية أن كلمة "مقطم" معناها "مقطع"...". وها هنا عدة أمور: أولها هل تقطع الجبل؟ أم هل انتقل من مكانه؟ أم هل بقى على حاله الأولى؟ لنُعِدْ قراءة ما قالته الحدوتة فى هذا الصدد: "بعد تقديم الأسرار المقدسة التى رفعها البابا والأساقفة ردد المصلون بروح منكسرة وقلوب منسحقة صلاة "كيرياليسون: يارب أرحم" أربعمائة مرة شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، ثم صمتوا برهة بين يدى العلى. وأبتدأوا فى السجود والقيام ثلاث مرات، والأب البطريرك يرشم الجبل بالصليب، وإذ بزلزلة عظيمة تجتاح الجبل، وفى كل سجدة يندك الجبل، ومع كل قيام يرتفع الجبل إلى أعلى وتظهرالشمس من تحته، ثم يعود إلى مكانه فى كل مرة. إنها قوة الإيمان الذى أعلنه معلمنا الرسول بولس إذ قال: "أستطيع كل شئ فى المسيح يسوع الذى يقوينى" (فى 4 :13). عندما حدثت المعجزة فزع الخليفة المعز وأرتعب وكل الجموع المحتشدة معه، وهتف المعز بأعلى صوته قائلاً: عظيم هو الله، تبارك أسمه. وألتمس من البابا أن يكف عن عمله لئلا تنقلب المدينة. وعندما هدأت الأمور قال للبابا: لقد أثبتم أن إيمانكم هو إيمان حقيقى. بعد أن هدأت نفوس الجموع المحتشدة بدأوا ينزلون من الجبل ليعودوا إلى بيوتهم. أما البابا البطريرك فقد تلفت حوله باحثا عن القديس سمعان الخراز الذى كان يقف خلفه فلم يجده ولم يعثر أحد عليه بعد ذلك حتى أظهرته نعمة الله فيما بعد كما سنرى. تحكى مخطوطة بدير الأنبا أنطونيوس أن الجبل المقطم سُمِّىَ كذلك، أى المقطم أو المقطع أو المقطب لأن سطحه كان متساويا، أى متصلاً، فصار ثلاث قطع، واحدة خلف الأُخرى، ويفصل بينهم مسافة. وتقول قواميس اللغة العربية أن كلمة "مقطم" معناها "مقطع"...".
ومعنى السطور الثلاثة الأخيرة أن الجبل لم يكن اسمه سابقا: "المقطم" لأنه لم يكن قد انقطم قبل تلك الواقعة. لكنْ من الواضح أن كل ما حدث، حسبما تقول الخرافة المضحكة، هو أن الجبل قد ارتفع وهبط عدة مرات، والناس فوقه إلى آخر لحظة كما قلنا، ثم لا شىء آخر، إذ لا تذكر الحدوتة من قريب أو من بعيد أنه قد تقطع البتة أو انتقل من موضعه، وهو ما يعنى أن التفسير المقدم هنا لكلمة "المقطم"، وهو حصول المعجزة، ليس سوى كلام فارغ. ثم إذا عرفنا أن هذا الجبل كان معروفا عند العرب بهذا الاسم قبل ذلك بوقت طويل كان هذا دليلا آخر على كذب الحدوتة. وهذه بعض الشواهد على ذلك من شعر العرب ونثرهم قبل عصر الفاطميين: يقول أيمن بن خُرَيْم الأسدى (ت 80 هـ):
رَكِبْتُ مِنَ الْمُقَطَّمِ فِي جُمَادَى إِلَى بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ البَرِيدَا
يقصد أنه سافر من مصر حيث كان عبد العزيز بن مروان واليا، إلى العراق الذى كان يتولاه أخوه بشر. ويقول كُثَيِّر عزة (40- 105هـ):
تُعَالِي وَقَد نُكّبنَ أَعلامَ عابِدٍ بِأَركانِها اليُسْرَى هِضابَ المُقطَّمِ
ويقول منصور بن إسماعيل الفقيه (ت 306هـ) فى الثناء على الشافعى وعلمه:
أَضحى بمصر دفينًا في مقطَّمِها نِعْمَ المُقَطَّم وَالمَدْفون في تُرْبِه
ويقول مُعَلّى الطائى (وهو من أهل القرنين الثانى والثالث الهجريين) فى رثاء جاريته وَصْف، وكان يحبها حبا شديدا فماتت ودفنت فى المقطم:
خَلَّيتِني فَرْدًا وبِنْتِ بها
فَتَرَكْتُها بالرَّغْم في iiجَدَث
دون المقطم لا iiألبّسها
أسْكَنْتها في قَعْر iiمُظْلِمةِ
بيتًا إذا ما زَاره iiأَحَدٌ ...
... ما كنتُ قَبْلَكِ حافلا iiوكفا
للرّيح يَنْسِف تُرْبَه iiنَسْفا
من زينةٍ قُرْطًا ولا iiشَنْفا
بيتًا يُصافِح تُرْبُه iiالسقْفا
عَصَفَتْ به أيْدِي البِلَى iiعَصْفا(/10)
وجاء فى "فتوح الشام" للواقدى (130- 207 هـ): "كان عمرو (بن العاص)... يقول: لا والذي نجاني من القبط. قال: وعاد الرسول وأخبر الملك بما قاله عمرو، فعند ذلك قال: أريد أن أدبر حيلة أدهمهم بها، فقال الوزير: اعلم أيها الملك أن القوم متيقظون لأنفسهم لا يكاد أحد أن يصل إليهم بحيلة، ولكن بلغني أن القوم لهم يوم في الجمعة يعظمونه كتعظيمنا يوم الأحد، وهو عندهم يوم عظيم، وأرى لهم من الرأي أن تُكْمِن لهم كمينا مما يلي الجبل المقطم. فإذا دخلوا في صلاتهم يأتي إليهم الكمين ويضع فيهم السيف"، "ووجدنا معهما الخِلَع التي وجهها إليهم ابن المقوقس ففرقها خالد على المسلمين وفيها خِلْعَةٌ سنيّة، وكانت لمقدَّم القوم، فأعطاها رفاعة، وساروا حتى قربوا من الجبل المقطم فرأوا جيش القبط، فأرسل خالد رجلاً من قِبَله، وهو نصر بن ثابت، وقال له: امض إلى هذا الملك وقل له: إن العرب أصحاب مدين قد أتوا لنصرتك"، "فلما رفعت رأسي قال لي الوزير: يا أخا العرب، أَوَصَل أصحابك إلى نصرة الملك؟ فقلت: نعم، وهاهم في دير الجبل المقطم". وفى "المعارف" لابن قُتَيْبَة الدِّينَوَرِىّ (213- 286 هـ) عن عمرو بن العاص: "وقُبِض وهو ابن ثلاث وسبعين سنة فدفن يوم الفطر بحبل المقطم في ناحية الفخ". وبالمثل ورد هذا الاسم عند مؤرخنا الكندى (ت 350 هـ، أى قبل وقوع المعجزة المزعومة بسبعة عشر عاما) فى المحاورة التى أوردها بين عمرو بن العاص والمقوقس قائلا إن عمرو بن العاص، رضي الله عنه، سار في سفح المقطم ومعه المقوقس، فقال له عمرو: ما بال جبلكم هذا أقرع ليس عليه نبات كجبال الشام؟... إلى آخر الحوار. وبالمناسبة فهناك "مقطم" آخر فى فلسطين يقع قرب قرية بيت عنان وبيت لقيا، فهل كان هناك سمعانٌ إسكافىٌّ آخر وراء انشقاقه هو أيضا ثلاث قطع؟ عفوك اللهم!
هذا من ناحية النص وحده دون الرجوع إلى شىء خارج النص، فإذا ما وسعنا الدائرة ورجعنا إلى كتب التاريخ وغيرها من الكتب هالنا الأمر واكتشفنا أن ملفق هذه الحدوتة هو رجل مخرف العقل لا فهم لديه ولا معرفة له بفن التأليف، وإلا لقد كان ينبغى أن يفكر قليلا قبل أن يكتب ما كتب، أو على الأقل كان عليه أن يراجعه قبل أن يذيعه فى الناس حتى لا تكون فضيحة بجلاجل! كيف ذلك؟ نبدأ بقوله عن ابن كلس إنه كان وزيرا للمعز. وذلك كذب بواح كما قلنا، إذ تخبرنا كتب التاريخ والتراجم أن الرجل لم يتول الوزارة إلا فى عهد العزير بالله ابن المعز لدين الله. فهذه واحدة، كما أنه لم يقع ترميم للكنائس على هذا النحو فى عهد المعز بأى شكل من الأشكال، وهذه هى الثانية. ثم إننا نبحث فى كل الكتب عند المسلمين فلا نجد شيئا عن تلك التخريفة التى يسمونها: "معجزة" على الإطلاق! ترى هل يمكن أن يسكت كل المؤرخين والجغرافيين والأدباء والشعراء والفلاسفة والوعاظ وكتاب الدواوين عن الإشارة إلى حدث كهذا زلزل القاهرة وكاد أن يأتى عليها من القواعد، بل المفروض أنه قد أتى عليها فعلا من القواعد، فلا يفتحوا فمهم بكلمة توحد الله؟ وهل كلَّ يوم يرى الناس جبالا تطير وتهبط وتندك وقد تزاحمت الحشود عليها بالآلاف؟ أمن المعقول أن الذين أسعدهم (أو قل: أتعسهم وأرعبهم) الحظ بركوب ذلك البساط المدهش لم يفكر أحد منهم فى تسجيل تجربته وتصوير مشاعره فى تلك اللحظات الرهيبة؟ لا لا ليست هذه طبيعة الشخصية المصرية التى لا تترك شيئا جليلا أو تافها دون أن تجعله محورا لثرثرتها، إن لم يكن لهزلها وتنكيتها أو للطمها وصُوَاتها حسبما تقتضى الظروف!(/11)
مرة أخرى هل يعقل أن يخرس الكتّاب المصريون على بكرة أبيهم فلا يخطوا حرفا واحدا عن الزلزال على الأقل، ذلك الزلزال الذى لا بد أن يكون قد تجاوز مقدار ثمانى درجات بمقياس ريختر، لكن الله سلم، لأن الأنبا والإسكافى كانا رغم كل شىء رفيقين بالمسلمين فلم يشاءا أن يدمرا البلد على دماغ الذين جاؤوا بها واكتفوا بقرصة الأذن هذه؟ ودعنا من تثنى الجبل ورقصه على واحدة ونصف وقد ربط شالا على مؤخرته كما تفعل الراقصات، فهكذا تقتضى أصول الرقص الشرقى، وإلا فلا! وحتى لو زَعَم سخيفٌ أن المسلمين لم يشاؤوا أن يتكلموا عن المعجزة، ولا أدرى لماذا، لقد كان بإمكانهم يا أخى أن يقلبوا الحقائق قلبًا فيدّعوا مثلا أن النصارى كانوا يريدون بالبلاد شرا وكان فى نيتهم التمرد على السلطات، إلا أنها قد ألزمتهم حدودهم. أما أن يسكت الشعب كله خاصته وعامته وحكومته دون أن ينبس ببنت شفة أو بابنها فهذا ما لا يدخل دماغ أى إنسان. لقد شغلت الناس أيما شغل حكاية الأضواء التى تلعب بها بعض الكنائس فى عصرنا هذا وتطلقها فى الليل فوق أبراجها ثم يدعون أنها ظهورات لمريم عليها السلام، وأفاضت الصحف والكتب فى أمرها طوال سنوات ومازالت تتناولها حتى الآن، ولا ريب أن تلك الأضواء المصنوعة ليست شيئا بالمرة أمام الرقص المرعب الذى يجمد الدم فى العروق والذى رقصه الجبل (منه لله!) ولا رَقْص القرد ميمون، فما بال المصريين على بكرة أبيهم وأمهم معا قد انكتموا كتمة الفول المدمس فلم يفتح الله عليهم بكلمة واحدة فى هذه المناسبة المذهلة التى لو كانت وقعت لقامت فتنة لا يعلم مداها إلا الله، ولرأينا كذلك بعض ضعفاء الإيمان من المسلمين يتنصرون، وهو ما لم يحدث، وإلا لسجله المؤرخون على عادتهم فى تناول كل شىء دون تعمية أو تجاهل أو تزييف.
أما استشهاد عزت أندراوس بكلام ماركو بولو عن تلك الحدوتة فى رحلاته فهى مسألة تبعث على القهقهة، فماركو بولو لم يكن حاضرا الواقعة، بل لم يكن معاصرا لها، وكل ما فعله هو تسجيله لما سمعه أثناء تطوافه فى بلاد المسلمين. ليس ذلك فحسب، بل من شأن ما قاله أن يقدح فى المسألة لا أن يؤكدها، إذ إن مسرح المعجزة عنده بين بغداد والموصل وليس القاهرة، كما أن الخليفة العباسى فى قصته هو الذى كان ينوى اضطهاد النصارى لا المعز، بالإضافة إلى أن تاريخ الاضطهاد والمعجزة المزعومة فى كتابه متأخر عن تاريخهما المكذوب فى مصر بقرنين ونصف حسبما يوضح الهامش الأول من هوامش الفصل السابع من الكتاب الخاص برحلاته. ثم إن الخليفة العباسى فى حدوتة الرحالة الإيطالى كان يكره النصارى "لله فى لله" دون حاجة إلى وجود وزير يهودى يوغر صدره عليهم، على عكس الحدوتة الأخرى التى تصور المعز واسع الصدر، يفسح لهم دائما فى مجلسه ويحب أن يستمع إليهم وهم يجادلون المسلمين واليهود فى حرية تامة، إلى أن قفز فيها ابن كلس وخطط للإيقاع بالنصارى. وفضلا عن ذلك نرى الخليفة فى رواية بولو يعطيهم مهلة عشرة أيام: فإن نجحوا فبها ونعمت، وإلا فالعقوبة الصارمة فى انتظارهم. أما فى الرواية المصرية فهم الذين التمسوا منه المهلة، وكانت ثلاثة أيام لا عشرة قضوها كلها صائمين، بخلاف الحدوتة الأخرى التى تقول إن النصارى قد قضوا الأيام العشرة فى صلاة وتضرع، لكن دون صيام. وبالمثل ففيما نجد أن مريم عليها السلام فى روايتنا السابقة هى التى ظهرت للبطرك فى المنام نفاجأ فى رواية بولو بأن زائر المنام هو الروح القدس لا العذراء، وأن المَزُور هو أسقف من الأساقفة لا البابا ذاته، وأن الزيارة المنامية قد تكررت عدة مرات، على حين أنها فى الرواية السابقة لم تقع إلا مرة واحدة ليس إلا. وفوق ذلك ففى الوقت الذى تقول فيه الرواية الأولى إن الفريقين من مسلمين ونصارى صعدوا جميعا على الجبل، كل فريق فى جانب منه، وإن الجبل كان يعلو ويهبط وهم واقفون فوقه، نجد فى رواية رحالتنا البندقى أن الفريقين كانا واقفين فى السهل أمام الجبل لا فوق الجبل نفسه، وكانا من ثَمّ يشاهدان ما يحدث وهم بمنجًى من الخطر... فكيف بعد ذلك جميعا يجرؤ أى إنسان على الاستشهاد بما كتبه ذلك الأفاق؟ وما أشبه هذا بما كنا نسمعه فى طفولتنا من حواديت العفاريت التى كان أبطالها دائما رجالا ونساء من أهل قريتنا، حتى إذا ما كبرتُ وأصبح لى أصدقاء من قرى أخرى بعيدة عن قريتنا وليست لها بها أية صلة، أخذتُ أسمع منهم نفس الحواديت مع بعض التلوينات المختلفة، إلا أن أبطالها رجال ونساء من تلك القرى الأخرى، فكان هذا سببا إضافيا من الأسباب التى نبهتنى إلى أنها مجرد خرافات لا علاقة لها بالواقع وأنها لم تقع بقريتنا أو بأية قرية أخرى.(/12)
النقل قبل العقل
9/7/1426
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله الذي أنعم علينا بالعقل، وكرمنا بالإسلام، وخصنا بالقرآن، وبعث فينا خير خلقه هادياً ومبشراً ونذيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد مر معنا أن يوسف _عليه السلام_ جعل الصواع في رحل بنيامين، وبدا لإخوته أنه هو الذي سرقه، ثم أصر يوسف _عليه السلام_ على ألاّ يأخذ أحداً مكانه. قد يسأل سائل: كيف ساغ ليوسف _عليه السلام_ أن يأخذ أخاه مع أنه يعلم أن والده في محنة بسبب غيابه هو، فلم يزيد عليه المحن؟ والجواب أن يوسف _عليه السلام_ لم يتصرف إلا بوحي، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، وفي ذلك حكمة، و لا مجال للعقل أمام النص. إذا جاء نهر الله بطل نهر العقل مادام أمامنا وحي ونص، والله _جل وعلا_ هو الذي أذن له، فلا دخل للعقل في هذه المسائل؛ لأن العقل قاصر وفوق كل ذي علم عليم.
هل تتساوى أبصار الناس ؟ فكما أن الأبصار تختلف فالعقول تختلف. هناك من يرى أشياء على بعد كيلومترات، وهناك من يرى أبعد، مثل الزرقاء التي اشتهرت ببعد نظرها، ما معنى هذا؟ معناه أنني قد أنفي شيئاً وهو موجود، فما بالك إذا كانت المقارنة بين علم الله _عز وجل_ وعلم البشر. هل بينهما مقارنة؟ فقد تخفى علينا الحكمة، قد يكون في ظاهر الأمر إيذاء وشدة على يعقوب، لكن الله يعلم أن في ذلك حكماً ومصالح عظيمة جداً وفوق كل ذي علم عليم.
فيا أخي الكريم إياك أن تحمل عقلك أكبر مما خلق له، وهذا ما وقع فيه أصحاب المدرسة العقلية _وهم ليسوا من العقل في شيء_ أخذوا يخطئون الأحاديث الصحيحة، وينزلون الآيات في غير مواضعها. ولو أنهم أدركوا قيمة عقولهم لما فعلوا هذا، ولكن أتعلمون ما السر في ذلك؟ هو نقص في عقولهم، رغم فعلهم هذه الأفعال ليظهروا أن عقولهم كبيرة، وإلا فالعاقل هو الذي يضع الأمور في مواضعها. في عالم البشر قد يأتي بعض الناس ويقول لشخص إن والدك فعل كذا وكذا، فيقول: والدي أعلم مني وأحكم، مع أن الابن قد يكون أحكم وأعقل من أبيه، وأحياناً يقال: إن الملك أو الزعيم فعل كذا، يأتي من يقول هو أعلم منا، ربما اطلع على أمور لم نطلع عليها، فلماذا نخطِّئه، هكذا يقال. كيف إذا كان الذي أمر هو ملك الملوك، خالقنا وخالق عقولنا، كيف نأتي ونحكِّم عقولنا القاصرة في النصوص. هكذا ضل المعتزلة.
لما أمضى النبي – صلى الله عليه وسلم – العهد في صلح الحديبية، اشتد الأمر على بعض الصحابة _رضي الله عنهم_، لكن أبو بكر _رضي الله عنه_ كان يقول: هو رسول الله. يعني مادام رسول الله فالأمر وحي، ومادام وحياً فيجب أن لا نرجعه إلى عقولنا، وهذا معنى قوله _تعالى_: "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ" (النساء:65). أي يحكموا شريعة الله، أمر الله ليس التحكيم في الحدود فقط ، بل في كل شيء.
نسأل الله _تعالى_ أن يأخذ بأيدينا، وألا يكلنا إلى أنفسنا وعقولنا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وصلى الله على الهادي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.(/1)
النقلة التربوية للجيل الأول
المحتويات
مدخل
الجانب الديني
الجانب السياسي
الجانب الحضاري
الجانب الاجتماعي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد.
مدخل
فقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم شهادة عدل وصدق أن خير الناس هم القرن الذي بعث فيه صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم؛ فخير القرون بإجماع سلف الأمة هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم من تلاهم بعد ذلك من القرون، وما يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه.
كان هذا القرن يعيش في جاهلية وضلال وفي بعد عن دين الله تبارك وتعالى، فجاء الله عز وجل بهذه الرسالة وأرسل هذا النبي الذي اصطفاه واختاره تبارك وتعالى؛ فأخرج هذا الجيل من الظلمات والجاهلية إلى أن يحمل هذه الصفة ويستحق هذه الشهادة وهذا الثناء؛ فيأتي الثناء على هذا الجيل في كتاب الله تبارك وتعالى كثيراً وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، و تجمع الأمة على أن من سلط لسانه بالنقد والتجريح لهذا الجيل المبارك، فقد أتى بدعة وفرية وانحرف عن منهج الناجين المنصورين إلى قيام الساعة .
واليوم والأمة تعيش واقعاً بعيداً ـ عن شرع الله تبارك وتعالىـ يعاني من صور وألوان التخلف والانحطاط في كل جوانب الحياة، ويشعر الغيورون والمصلحون وهم يتلفتون ذات اليمين وذات الشمال يتأملون في واقع الأمة، يشعرون أن مسافة الإصلاح بعيدة، وأن الجهد المطلوب للتغيير جهد ضخم، وربما أدت هذه النظرة السريعة إلى الإحباط واليأس، والشعور بأن حجم الفساد يستعصي على الإصلاح، وأن حجم التخلف لا يمكن أن تقوم به هذه التربية، ومن هنا تتنوع ردود الفعل لأمثال هؤلاء اليائسين، منهم من يبحث عن منهج بديل يتمثل في منهج متسرع يبحث عن التغيير خلاف المنهج الذي سنه وشرعه الله، لأنه يرى أن هذا الفساد الضخم في واقع المسلمين سواء في الجهل بالاعتقاد أو الفساد الاجتماعي أو الفساد الأخلاقي أو ما يتعلق بالتخلف المادي الذي تعاني منه الأمة اليوم حتى أصبحت في ذيل القائمة، يشعر أن هذا الواقع يستعصي على التربية، وأنه لا يمكن بحال أن يغير هذا الواقع بهذا الجهد التربوي، فيرى أنه لابد من وسائل وأساليب أخرى.
بل قد يشعر المرء من هؤلاء أن جانبا واحدا فقط من هذه الجوانب والأمراض التي تعاني منها الأمة اليوم لو وظفت الجهود من أجله لما استطاعت القيام بأعبائه، فضلا عن الإصلاح والتغيير الشمولي الذي تتطلع إليه الأمة، و قد يصيب هؤلاء يأس قاتل فيتقاعسون عن العمل والإصلاح، ويرون أن السيل قد جرف الجميع وأنه لا سبيل للمرء إلا أن ينجو بنفسه، وهي اليوم فكرة تسيطر على كثير من المسلمين بل على كثير من الأخيار والغيورين، وإن كانوا لا يجرؤون أن يقولوا هذه المقولة؛ لأنهم يعلمون أنها تخالف سنن الله عز وجل وتخالف المقطوع به مما جاءت به النصوص الشرعية التي تُحمِّل الناس مسؤولية التغيير والإصلاح، إن كان هؤلاء لا يجرؤن على التفكير بهذه الصورة والتصريح بهذه الفكرة، إلا أنهم يستبطنونها ويحملونها؛ فلسان حالهم يعبر عن اليأس القاتل.
وحين تتحدث أمام أمثال هؤلاء عن بشائر الأمل وعن هذه اليقظة والصحوة المباركة يفاجئونك بفتح الصفحة الأخرى من واقع الأمة، وفي الحديث عن الجهود المستميتة لأعداء الأمة، والتي أصبحت اليوم عيناً ترصد كل محاولة تقوم بها هذه الأمة ويسعى بها المصلحون ليقظتها لأجل أن يئدوا كل جهد للتغيير .
إن هذا المنطق حين يسيطر على تفكير فئام من المصلحين فإنه سيعوق ويؤخر الجهود، ومن ثم كان لابد من حديث يبعث على الأمل ويعيده للنفوس، واليائسون مهما عملوا لن يحققوا أهدافهم لأنهم يعملون وهم ينتظرون الفشل .
إنه لا ينجح في العمل إلا أولئك المتفائلون الذين يدفعهم التفاؤل والشعور بأنهم سيحققون أهدافهم . وهذا الحديث له جوانب شتى منها الحديث عن النصوص القطعية بالكتاب والسنة والتي تدل على أن المستقبل والنصر والعزة لهذا الدين . وهو حديث مهم لكن ليس هذا مكانه . ومنه الحديث عن هذا النموذج وإبراز هذا النموذج الحديث عن النقلة التربوية للجيل الأول جيل خير الناس .حين جاء النبي في ظل واقع يعاني من أبشع صور الانحطاط والفساد والتخلف، فانتقل هذا الجيل تلك النقلة البعيدة العظيمة . إن قراءة سيرة هذا الجيل والتأمل فيها وإدراك هذه النقلة العظيمة مما يبعث على الأمل، ويزيل اليأس عن القلوب، ويشعر الناس أنه كما غيرت الأمة وكما انتقلت من ذاك الواقع البئيس فإنها بإذن الله ستنتقل، وقد وعد الله عز وجل -وهو عزوجل لا يخلف الميعاد - فقال(: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) .فالله تبارك وتعالى لا يغير ما بقوم من صلاح وخير إلى فساد إلا حين يغيرون ما بأنفسهم، وكذلك لا يغير ما بقوم من فساد وسوء إلى صلاح وخير حتى يغيروا ما بأنفسهم . إن هذه السنة الربانية تعني بمفهومها أن الناس حين يغيرون ما بأنفسهم ثم يسعون للتغيير، فإنه سيتحقق التغيير بإذن الله .(/1)
وقد جعل الله عز وجل مسؤولية التغيير على أيدي الناس (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل فلن يضل أعمالهم ) (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) .
إننا حين نريد أن نتحدث عن تربية خير الناس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإن الحديث يطول، ولن نستطيع أن نلم بأطرافه وزواياه في مثل هذه الساعة، لكننا نريد أن نركز في حديثنا على هذه النقلة، كيف تحققت وكيف تغير المجتمع من ذاك الواقع المظلم المنحط إلى أن أصبح الاقتداء به والتأسي به والتشبه به دليل على الهداية بإذن الله عز وجل، والانحراف عنه دليلاً على الضلال والغواية؟
لقد أرسل الله النبي صلى الله عليه وسلم في مجتمع يعاني من الجاهلية والضلال، وقد صار الناس كما وصفهم صلى الله عليه وسلم (إن الله نظر إلى الناس فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)، إنه أُرسل في أمة قد مقتت، وأمة قد حق عليها الضلال والغواية، ولم يعد لتلك الأمة من أهل الهداية والخير إلا أفراد معدودون كانوا يسمون الحنفاء . وحين تقرأ في السيرة وتقرأ الحديث عن الحنفاء . فإنك تجد أهل السير يسمون الحنفاء بأسمائهم مما يدل على أنهم فئة محصورة وعدد قليل في خضم ذلك المجتمع الضال المنحرف.
وحين نتحدث عن جانب واحد فقط من جوانب التخلف والانحطاط التي كان يعاني منها العرب في جاهليتهم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك وحده يكفي شاهداً لموضوعنا، لكننا سنطوف هنا وهناك ونأخذ شواهد من جوانب شتى في ذلك المجتمع، كلها تنطق بهذا الإنجاز التربوي الذي تحقق على يد ذلك الجيل وذاك الرعيل الذي اختاره الله تبارك وتعالى، ليكون قدوةً للناس: قدوة في العمل، والسلوك، والاعتقاد، والتعبد لله تبارك و تعالى، وقدوةً في منهج الإصلاح والتربية والتغيير .
الجانب الديني
كان الناس قد انسلخوا من دين الله تبارك وتعالى وجاهروا بالشرك الصريح، وصاروا لا يعرفون الله عز وجل إلا في وقت الشدة، فإذا ألمت بهم شدة وأدركتهم الخطوب وضاقت بهم الأبواب لجؤوا إلى ربهم تبارك وتعالى فدعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون! وهذا عنوان الاستهزاء والسخرية برب العالمين تبارك وتعالى، إنه دليل على أن قضية الشرك في عبادة الله تبارك وتعالى كانت ترتكب عند هؤلاء عن عمد وسبق إصرار، فهاهم حين تدلهم بهم الخطوب وتضيق بهم السبل يعلنون التوحيد لله تبارك وتعالى . وحين سأل النبي صلى الله عليه وسلم أحدهم قال:" كم إله تعبد اليوم؟" قال سبعة: ستة في الأرض وواحد في السماء، قال:"فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟" قال الذي في السماء، كان أولئك كما حكى أبو رجاء العطاردي رضي الله عنه : كنا في الجاهلية إذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من التراب وجئنا بالشاة فحلبناها عليه ثم طفنا بها. إن هذه قيمة الإله عند أولئك، الإله هم الذين يصنعونه، حينما يأتي أحدهم إلى الصحراء يبحث عن حجر ليعبده، فيأتي فيختار أربعة أحجار، فيبحث عن أحسنها وخيرها، فيجعله إلهاً له فيعبده ويسجد له ويركع له ويعلق مصيره وحياته به، ثم يأخذ الثلاثة الأخر فيجعلها أثافي لقِدْره؛ فيضع قِدْره عليها ويشعل تحته النار! إن إلهاً يستوي مع حجارة تحمل قِدْراً ويشعل عليها النار لإله لا قيمة له، ومع ذلك أصبح يُسيِّرحال هؤلاء ويعلقون مصيرهم وحياتهم في دنياهم وآخرتهم بهذه الحجارة التي هم يختارونها.
وربما كان إلهاً مصنوعاً مما يؤكل ويطعم، فتلم بهؤلاء مجاعة فيشعرون أن المحافظة على بقائهم خير من بقاء إلههم فيأكلونه، كما يحكي الشاعر مصوراً حال قبيلة من تلك القبائل :
أكلت حليفة ربها زمن التقحم والمجاعة * لم يحذروا من ربهم سوء العواقب والتباعة
نعم إن إلهاً يأكله هؤلاء إذا جاعوا لإله لا قيمة له ولا وزن له، ومع ذلك كانت هناك الطواغيت الكبرى، كانت هناك اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى )أفرأيتم اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى ( كان هناك ود وسواع وإساف ونائلة، كانت تلك الأصنام التي تصنع لها البيوت ويحج إليها الناس ويسعون إليها وتنذر لها النذور وتقدم لها القرابين، و يستقسم بها أولئك ويحلفون بها ويعظمونها ولهذا كانت يمينهم واللات والعزى.
إن هذه الصورة العجيبة من خضوع هؤلاء لآلهة يصنعونها وآلهةً ربما يأكلونها إذا جاعوا، لتدل على فطرة العبودية أصلاً لدى البشر، وأن البشر مفطورون على العبودية والذل والخضوع، فإن لم يعرف البشر إلههم الحق ويتعبدوا إليه فسيتعبدون لإله باطل، بل إله يصنعونه وهكذا خلق الله عز وجل الإنسان عبدا لاتستقيم حياته إلا بالعبودية والذل والخضوع، فإما أن يذل ويخضع ويعبد ربه تبارك وتعالى أو حتماً سيذل ويخضع ويتعبد لغير الله عز وجل .(/2)
وكان أولئك يشركون بالله عز وجل شركاً من نوع آخر في التشريع والتحليل والتحريم، فكانوا يتخذون أحكام الله هزوا، فيبيحون ويحرمون، فجاء القرآن مصرحاً في الحديث عن أن هذه من صور الشرك بالله تبارك وتعالى (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم))وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراءً عليه( كان هذا شأنهم يعتدون على حق الله عز وجل في التشريع فإن الله عز وجل كما قال عن نفسه: ) فاعبده وتوكل عليه( وقال عز وجل :) إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ( لهذا لا فرق بين من احتكم إلى غير شرع الله وبين من عبد غير الله عز وجل فقد جمعهما تبارك وتعالى في آية واحدة ) إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه(،وتوعد القرآن المسلمين حين يستجيبون لطريق أولئك في التشريع والتحليل والتحريم والحكم بغير شرع الله عز وجل، توعدهم أنهم إن فعلوا شيئاً من ذلك ولو في قضية واحدة أنهم سيقعون في الشرك ) ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ( فلئن أطاع المسلمون المشركين في هذه المسألة وهذه القضية المعينة؛ فاستباحوا هذه الميتة التي حرمها الله عز وجل فهم مشركون بنص القرآن. ويأتي التأكيد لهذا الحكم بحرف التوكيد (إنكم) ثم يأتي أيضا باللام التي تدل على التأكيد (ولئن أطعتموهم إنكم لمشركون) لئن أطاعوهم ليس في أكل الميتة، إنما في استباحة الميتة واعتقاد أن الميتة وقد حرمها الله عز وجل حلال.
ومن اعتدائهم على حرمات الله عز وجل أن يعتدوا عليها في الأشهر الحرم فيقول تبارك وتعالى ( إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ) .
ومن صور الشرك والتشريع لديهم: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وهي كلها خرافات لا تعدوا أن تكون من نسيج عقلية أولئك المشركين الضالين الزائغين عن منهج الله تبارك وتعالى، هكذا كان أولئك في ذاك الوقت وفي ذاك الزمان، هذه نظرتهم للإله وهذا منهجهم في التشريع والاحتكام.
ثم بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم فيأتي أحدهم أمام النجاشي ليقول: إنا كنا قوما نأكل الخنافس ونأتي الفواحش ويقتل بعضنا بعضاً حتى بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم . ويأتي أحدهم رستم ليقول له: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ما هي إلا أيام وقد حمل هؤلاء الرسالة، وعمت الهدايةُ الجزيرةَ كلها بعد ذلك وأشرق فيها النور، وصارت كلها خاضعةً لله تبارك وتعالى معلنة التوحيد، وانطلقت سيوف الموحدين لتطفئ نار المجوسية وتكسر صليب النصارى، وتنطلق هنا وهناك حتى كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين صحبوه، تحكى أخبارهم هنا وهناك؛ فابن عمر –رضي الله عنهما- يصل إلى أذربيجان وأبو أيوب الأنصاري –رضي الله عنه- يدفن تحت أسوار القسطنطينية، ويصل سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في المشرق إلى بلاد ماوراء النهر، وفي المغرب إلى المحيط، حتى مامضى ذلك الجيل إلا وقد أطفئت نار المجوسية، وكسر صليب النصارى وأعلن الكون الخضوع لله تبارك وتعالى، وصارت الكلمة في ذاك الوقت كلها لكلمة التوحيد لا إله إلا الله.
إنها نقلة عظيمة بعد تلك الحال التي لم تكن حال أسوأ منها، ولا يمكن أن يتردى البشر إلى منزلة من الحضيض في الشرك و الطغيان أكثر من تلك المنزلة، ثم ما لبث أولئك أن تجاوزوها وتركت الدعوة والتربية النبوية أثرها الفعال في ذلك الجيل الذي نشر دين الله عز وجل وقضى على كل مظاهر الشرك والطغيان التي كانت سائدة في العالم آنذاك.
الجانب السياسي(/3)
كان الواقع السياسي في تلك الجزيرة في غاية التخلف والانحطاط؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث في أمة مجتمعة تحت كلمة واحدة وتحت راية واحدة، لم يبعث في مجتمع موحد تجمعه رابطة واحدة، لقد كان العرب لا يدينون بالخضوع لأحد أبداً، وكان في مكة وفي جزيرة العرب وقت مبعث النبي صلى الله عليه وسلم من الحكام والأمراء والولاة بعدد ما فيها من السكان؛ لأنه لم يكن بشر يخضع لبشر، كانت حالهم في التفرق والخصام أمر لا يخفى على من يقرأ سيرهم، ولهذا امتن الله تبارك وتعالى على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بنعمته عز وجل فقال: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) ،ويقول صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب الأنصار:"ألم أجدكم عالة فأغناكم الله بي وضلالاً فهداكم الله بي ومتفرقين فجمعكم الله بي"، لقد كانت الحرب تفعل فعلها بين الأوس والخزرج، وكانوا أمة لا تقوم لهم قائمة، وحين جاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة وربى ذاك الجيل، ما هي إلا سنوات معدودة حتى كان الأوسي يقف إلى جوار أخيه الخزرجي، وكان يؤاخيه ويصاهره، كان يعدُّه أخاً له ربما أقرب إليه من أخ له في قبيلته لأنه يرى أنه أكثر طاعة لله عز جل .
كانت أمة قد أكلتها الحروب و أهلكت فيها الأخضر واليابس، كانت الحروب كما يصورها شاعرهم :
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتموا * وما هو عنها بالحديث المرجم
كانت الحروب يتحدث بها الغادي والرائح، البسوس وداحس والغبراء ويوم بعاث، أيام يعرفها الصغير والكبير ويعرفها القاصي والداني وكلها ناطقة وشاهدة على التخلف والتفرق والتشرذم والفوضى التي كانت سائدة في جزيرة العرب آنذاك، كان الولاء الذي يعرفه أولئك هو الولاء للقبيلة، كان حكيمهم وشيخهم وسيدهم يقول:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت * غويت وإن ترشد غزية أرشدِ
كانت القبيلة تعاب وتذم حين تكون لا تقع في الظلم :
قبيلة لا يغدرون بذمة * ولا يظلمون الناس حبة خردل
وكان المنطق السائد :
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يهدم * ومن لا يظلم الناس يظلم
كان هذا هو المنطق السائد عند الناس، لا يعرفون إلا قيمة القبيلة والولاء للقبيلة فجاء هذا الدين وجاءت هذه الرسالة لتصهر الناس في بوتقة واحدة، لنرى نماذج عجيبة من موازين الناس ومن القيمة للناس . جاء القرشي الشريف من بني مخزوم ليقف في صف واحد مع الأوسي من بني عبدالأشهل ويقف مع مولى من الموالي، يقف الجميع لا يجمعهم إلا كلمة واحدة، ولا يلتقون إلا على راية واحدة .
من كان يتخيل أن تلك العروش من الكيانات والافتخار بالقبيلة والانتماء لها ستنهار، ليحل محلها رابطة واحدة ويرفع مكانها لواء واحد: لواء الأخوة في الله والمحبة في الله، ليكون المعيار والميزان الذي يقاس به الناس هو الدين والخضوع لله تبارك وتعالى؟
إن أولئك الشرفاء من بني مخزوم وبني أسلم ومن غفار وغيرهم، كانوا يرضون جميعا أن يسيروا في جيش تحت إمرة وطاعة مولىً من الموالي، كانوا يرضون أن يسيروا في جيش زيد بن حارثة رضي الله عنه، ثم يُؤمَّر عليهم بعد ذلك ابنه أسامة رضي الله عنه وهو مولىً وشاب لم يتجاوز العشرين من عمره، فيسير الجميع كلهم في صف واحد ويسمعون له ويطيعون ! إن كل ذلك يعود إلي أثر التربية النبوية التي تركت أثرها في ذلك الجيل العظيم.
الجانب الحضاري
وعلى المستوى الحضاري كان العرب أمة متخلفة منحطة، بل لم يكن للعرب آنذاك أي وزن واعتبار، حتى إن الفرس يرون أن أولئك لا يستحقون أن يغزون، فإن صدر منهم ما يسيء الأدب أوكلوا بهم إحدى القبائل المجاورة !!
وحين جاءتهم كتائب التوحيد، تدعو إلي الله عز وجل ظن الفرس أن هؤلاء قد بلغت بهم الفاقة والجوع كل مبلغ، فعرضوا عليهم العروض المادية ليحلوا أزمتهم ويسدوا فاقتهم، فما كان من منطق الرجل المؤمن بالله عز وجل، إلا أن أعلن رسالته واضحة إن الله ابتعثنا لنخرج من يشاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ونطلق بذلك الواقع السيء، كنا في جاهلية وشرك نأتي الفواحش ونأكل الخنافس، ويأكل بعضنا بعضا فأرسل الله إلينا نبيه صل الله عليه وسلم، فتغير الحال وأقاموا بعد ذلك خير حضارة ورفعوا لواء خير أمة، حتى إن المنصفين اليوم من علماء الغرب الكافر يشيدون بالجهود التي بذلها علماء المسلمين.
الجانب الاجتماعي(/4)
وفي الجانب الاجتماعي كان مجتمعهم مجتمعاً تسيطر عليه الطبقية، ولهذا جاء نقد هذه المظاهر في أول الإسلام، فحينما أراد النبي صل الله عليه وسلم أن يدعو شرفاء قريش، رغبة منه أن يكسب أحداً منهم، لتكون له قيمته في الدعوة وأثره، فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعبس النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وأعرض عنه، فنزل العتاب من الله عز وجل (( عبس وتولى ،أن جاء الأعمى ،وما يدريك لعله يزكى ، أو يذكر فتنفعه الذكرى ….)) الآيات.
وحينما جاء عتَّاب رضي الله عنه ليقابل عمر رضي الله عنه، فسأله : من استخلفت على أهل الوادي يعني أهل مكة قال: ابن أبزى قال : ومن يكون ؟ قال :مولىً من موالينا، قال :استخلفت عليهم مولىً؟ قال !! حافظ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قال :إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين.
كان أولئك لا يعرفون إلا الفخر بالأحساب والأمجاد الشخصية، وتمجيد القبيلة ومُعلَّقة عمرو بن كلثوم شاهدة بذلك والتي يبالغ فيها وصف قبيلته يقول فيها :
ونشرب إن وردنا الماء صفواً ** ويشرب غيرنا كدرا وطينا
ملأنا البر حتى ضاق عنا ** ونحن البحر نملأه سفينا
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما ** تخر له الجبابر ساجدينا
إن اللغة التي كانت تسيطر على منطق الجميع هي لغة الافتخار بالقبيلة والطعن في أحساب الآخرين، فجاء هذا الدين وقضي على تلك الأمجاد، فلم يعد العربي يفضل على الأعجمي إلا بالتقوى.
كان مجتمعا لا يقيم وزنا للمرأة فكان أحدهم إذا بشر بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم، ويبلغ الحال به أن يختفي عن أعين الناس من سوء ما بشر به.
كانوا يمارسون التسلط والحجر على المرأة فحين تكون اليتيمة في حجر أحدهم وهي ذات مال، فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت غير ذلك لم يزوجها حتى تموت، فيرثها ويأخذ مالها، وبعد أن جاء هذا الدين، غير هذه العادات الاجتماعية في أقل من عقدين من الزمن، حتى أصبحت المرأة تبشر بالجنة، فلقد بشر النبي صل الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها ببيت في الجنة لا صخب فيه ولا نصب، ويؤكد صلى الله عليه وسلم على القيام بحقوق النساء فيقول:" فاتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم "
وكان هذا المجتمع يعاني من الفساد الأخلاقي، فكان النكاح كما تذكر عائشة رضي الله عنها أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع به الرجل. والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثيرون فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك. فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم. (رواه البخاري).
وكانت الخمرة قد سيطرت عليهم وفعلت بهم الأفاعيل، فحين يتحدث الشاعر منهم عن معركة أو غزوة يتغنى بالخمر، بل تبلغ الخمر منزلة عند بعضهم، أن تكون مما يستحق أن يبقى في الحياة من أجلها كما قال أحدهم:
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ** وربك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبق العاذلات بشربة ** كميت متى ما تعل الماء تزبد
ويقول أحدهم موصيا إذا مات أن يدفن قريبا من تلك الشجرة التي كان يصنع منها الخمر :
إذا ما مت فادفني إلى جنب كرمة ** تروي عظامي بعد موت عروقها
أخاف إذا ما مت ألا أذوقها ** ولا تدفني بالفلاة فإنني
هكذا كانت قيمتها عندهم، وحين جاء الإسلام كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -شأنهم شأن سائر الناس- يشربون الخمر ويتغنون بها كما قال حسان رضي الله عنه :
ونشربها فتتركنا ملوكا ** وأسدا ما ينهنهنا اللقاء
حين جاء الإسلام بتحريم الخمر أراق أوتلك الآنية آلتي كانت معهم حتى امتلأت أزقة المدينة وشوارعها من الخمر.(/5)
إن الإفاضة في الحديث عن تلك النقلة حديث يطول، لكن نكتفي بهذه الأمثلة التي أشرنا إليها والتي كلها شاهدة على أن المجتمعات مهما بلغت من السوء والفساد والتأخر والتخلف، فهي قادرة على أن تسترد عافيتها وقادرة على أن تنهض من كبوتها، حين تُدْعى إلى المنهج الحق، وحين تتربى عليه.
إن التغيير الذي حصل للجيل الأول يعتبر نموذجاً، وشاهداً لكل من يحمل عزيمة وإرادة في الإ صلاح والتغيير.
والتغيير الذي حصل لذلك الجيل ليس على مستوى المجتمعات فقط، بل هو على مستوى الأفراد كذلك، فحين نتأمل شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان جبارا في الجاهلية، ويرى الناس أنه أبعد الناس عن الحق، بل كانوا يرون أن يسلم حمار الخطاب ولا يسلم عمر، ولما آمن هذا الرجل، واتبع النبي صل الله عليه وسلم ، تغيرت حاله، فتراه حينما تولى الخلافة رحيما شفوقا رفيقا ولما جاء رسول كسرى ليقابل خليفة المسلمين وجد الخليفة ـ عمر رضي الله عنه- نائما تحت الشجرة قال قولته المشهورة:
فقال قولة حق أصبحت مثلا ** فنمت نوما قريرالعين هانيها
أمنت لما أقمت العدل بينهم ** وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
إن عمر رضي الله عنه ـ وهو خليفة المسلمين ـ كان يحمل على كتفه الدقيق والماء يوصله إلى أرملة ليمسح به دمعة عجوز، ودمعة يتيم، إن عمر لما دخل الإيمان في قلبه تغير حاله وكان خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهاك نموذج آخر: إنه مصعب بن عمير رضي الله عنه، الذي كان شابا مترفا، كان من أعطر فتيان مكة، عاش في بيئة ثرية، وليس في مكة شاب أكثر منه نضارة ووضاءة، وبعد أن تبع النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد في غزوة أحد مقبلاً غير مدبر، بحثوا عنه بين الموتى فلما رأوه لم يجدوا ما يكفنوه به إلا ثوب واحد، إن غطوا به رأسه بدت رجلاه، وإن غطوا به رجليه بدت رأسه، رضي الله عنه وأرضاه، وأنزل الله عز وجل فيه وغيره (( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا )) أي تغيير حصل في شخصية ذلك الرجل الذي كان يعيش حياة الترف والرخاء؟
إن ذلك يعطينا دلالة واضحة على أن المجتمعات يمكن أن تتغير، وأن الأفراد يمكن أن يتغيروا، وذلك حينما تكون هناك تربية جادة منتجة.
يروي حذيفة رضي الله عنه حديثا يقول فيه: " كان الناس يسألون النبي صل الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه، فقال :إن كنا في جاهلية وشر فجاء الله بهذا الخير، فسأل حذيفة : هل بعد هذا الخير من شر؟ قال :نعم ،قال: وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قال :وما دخنه ؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي تعرف وتنكر.
لقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيحصل خير لهذه الأمة بعد ذلك الشر الذي سيصيبها، مما يعني أن المجتمعات يمكن أن تتغير، حين تحمل إدارة التغيير وتتربى التربية الحقة.
كيف انتقل ذاك الجيل هذه النقلة ؟
هذا سؤال عريض تطول الإجابة عنه، لكني أشير هنا إشارة سريعة، كانت من أهم العوامل وراء هذه النقلة العظيمة: العناية بالإيمان والتركيز على التغيير الداخلي ابتداء، إن التربية التي تتوجه إلى مظاهر السلوك البارزة أمام الناس، تربية قاصرة وتربية لا تستطيع أن تقف أمام السيل الجارف من المؤثرات، إنها تربية تعالج القشور وتغفل عن اللباب، إنها تعالج مظاهر المرض وتغفل عن أصله وجوهره، والبيت الذي يعاني من خلل في أساسه لا يمكن أبدا أن يخضع إلى الترميم والتحسين. لقد حاولت أقوى أمة في عالم القوة المادية أن تمنع الخمر وقامت بسن تشريعات وقوانين كثيرة، استنفرت طاقتها، ثم بعد سنوات أعلنت عجزها وفشلها، لماذا فشل أولئك في حين أن هذه الأمة لم تحتج إلا إلى آيتين تنزل فيخضع الناس ويريقون الخمر من بيوتهم؟ وقل مثل ذلك في المخدرات والتحلل الجنسي والشذوذ الأخلاقي.
لقد فشلت لأن التربية المعاصرة اتجهت إلى المظهر دون الحقيقة،ولو اتجهت التربية إلى بناء الإيمان في النفوس لحققت هذه الأهداف التي تتطلع إليها.
ومن عوامل النجاح: أن التربية كانت تتم من خلال الميدان، ومن خلال العمل والتطبيق؛ فالجيل الذي تربى على هذه الرسالة لم يكن يستمع إلى التوجيهات أو تلقى إليه المواعظ والكلمات فقط، إنما كان يربى من خلال العمل والميدان والقدوة والممارسة، كان النبي صلى الله علية وسلم يصاحبهم ويصلي معهم ويذهب معهم، ويعايشهم السراء والضراء.
وحين نتأمل سؤالا جديرا بالتفكير، كيف نجح النبي صلى الله عليه وسلم في رسالته ودعوته في حين لم ينجح الحنفاء الذين كانوا على التوحيد ؟
إن هذا الحديث إنما هو لبعث الأمل في نفوس سيطر عليها اليأس من التغيير والإصلاح، أسأل الله أن يجعلنا من حملة الرسالة والدعاة إلى الإصلاح؛ إنه سميع مجيب.(/6)
النقود أثمان أم سلع؟
د. يوسف بن أحمد القاسم 26/3/1427
24/04/2006
قبل أكثر من ستة قرون، صرخ أحد علماء القرن الثامن الهجري صرخة اهتز لها جبل قاسيون بالشام، ووجد لها صدى في أنحائه، إلا أنها لم تجد لها صدى في بني قومه، فوقع ما لم يكن بالحسبان، وحل ما حذر منه عالم ذلك الزمان، ثم هاهو التاريخ يعيد نفسه، فحل بنا ما حل بهم !! فمن هو يا ترى ذلك الإمام ؟
وما هي تلك الصرخة التي اهتز لها قلمه، وعبر عنها بنانه ؟
وما هي نتيجة تجاهل تلك الصرخة ؟
وكيف أعاد التاريخ نفسه ؟
أما الإمام، فهو: العلامة ابن قيم الجوزية (ت 751هـ) وأما الصرخة، فهي: إنكاره على بني قومه اتخاذهم النقود سلعاً، يتاجرون بها، ويعدونها للربح، فكانت النتيجة المؤسفة ؛ حيث عم الضرر، ووقع الظلم .هذا ملخص ما جرى، وأدع الحديث للإمام ابن القيم، فهو حي بيننا بكتبه, شاهد عدل بعلمه وفقهه,إذ يقول في كتابه إعلام الموقعين(3/401) : " الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره، إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض, فتفسد معاملات الناس, ويقع الخلف, ويشتد الضرر, كما رأيت من فساد معاملاتهم, والضرر اللاحق بهم، حين اتخذوا الفلوس سلعة تعد للربح, فعم الضرر, وحصل الظلم... فالأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد التوسل بها إلى السلع"أهـ
وقال في الطرق الحكمية(صـ350) : " ويمنع من جعل النقود متجراً ؛ فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، بل الواجب أن تكون النقود رؤوس أموال يتجر بها، ولا يتجر فيها "أهـ
وهاهو التاريخ يعيد نفسه، وكأن ابن القيم يعيش واقعنا الحاضر، أو كأنه ينظر إليه من ستر رقيق ! ولذا، فإنه يستحق شهادة دكتوراه فخرية في المال والاقتصاد، وإن كنت أشك في حفاوته بها لو كان حياً .
نعم,أعاد التاريخ نفسه؛لأننا اليوم نرى ونسمع كثيراًعن تذبذب أسعار العملات,وما نتج عنه من تضخم في النقود وضعف قوتها الشرائية, كما هو مشاهد في بعض بلاد الشرق والغرب، وهذا له أسبابه السياسية, والأمنية، والاقتصادية ومن أبرزها العبث بهذا النقد الذي استخدم في غير ما صنع له, وهذا ماحذر منه العلامة ابن القيم آنفاً, وألمح إليه الفقيه الشافعي أبو حامد الغزالي(ت505هـ) في إحياء علوم الدين(4/91) والفقيه الحنفي ابن عابدين(ت1252هـ) في مجموعة رسائله(صـ57) حيث قال:" رأينا الدراهم والدنانير ثمناً للأشياء، ولا تكون الأشياء ثمناً لها.. فليست النقود مقصودة لذاتها, بل وسيلة إلى المقصود"أهـ
وأصرح من هذا ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا, حيث قال في تفسير المنار(3/108):"وثم وجد أمر آخر لتحريم الربا من دون البيع، وهو أن النقدين إنما وضعا ليكونا ميزاناً لتقدير قيم الأشياء التي ينتفع بها الناس في معايشهم، فإذا تحول هذا وصار النقد مقصوداً بالاستغلال, فإن هذا يؤدي إلى انتزاع الثروة من أيدي أكثر الناس, وحصرها في أيدي الذين يجعلون أعمالهم قاصرة على استغلال المال بالمال "أهـ
وبهذا نقف على إحدى الحكم التي حرم لأجلها الشارع الربا، وهي أن المرابي يشتغل بالنقد عن المشاريع الإنتاجية، فيقل المعروض من السلع والخدمات, وبالتالي يزيد الطلب عليها, ومع كثرة النقد يقع التضخم، وهو ما عبر عنه بعض الاقتصاديين :( نقود كثيرة، تطارد سلعاً قليلة ) .
ومن هذا الوجه- وغيره- ذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى المنع من المتاجرة بالعملات -لا بيعها وشراؤها للحاجة- ومن المضاربة بفروق الأسعار في سوق المال؛ ومن هؤلاء الفقهاء الدكتور محمد الشباني,كما في بحثيه( الربا والأدوات النقدية المعاصرة,والمضاربة بالأسهم والمشتبهات من المكاسب) وعلل ما ذهب إليه بأدلة, ومقاصد شرعية, جديرة بالنظر والتأمل، ومنها : أنه عد من المفاسد التي يؤدي إليها هذا النوع من التعامل، الضرر على الاقتصاد ككل؛ حيث يتوجه المال المدخر إلى المضاربة فيه، بحيث يصبح دولة بين المضاربين في الأسهم، يتحرك في دائرة واحدة لا يتعداها إلى غيرها ... الخ .
وقد أشار إلى هذا المحذور وما يؤدي إليه من كساد,الشيخ أبوحامد الغزالي في إحياء علوم الدين(4/45) حيث قال:" إنما حرم الربا من حيث إنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب ؛ وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة الربا من تحصيل درهم زائد نقداً أو آجلاً خف عليه اكتساب المعيشة,فلا يكد ويتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعة، وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات,والحرف, والصناعة, والإعمار"أهـ(/1)
وبنظرة خاطفة إلى واقعنا منذ أربعة أشهر أو أكثر، نجد أن أموالنا أصبحت تصب في فوهة السوق حين غلت القيمة السوقية لبعض الشركات غلاء غير مسبوق, واقتصرت المضاربة على فروق الأسعار بعيداً عن الواقع الاقتصادي للشركات المساهمة، فأصبحت السلع هي النقود في الحقيقة,حتى ظهرت مقدمات الكساد في سوق العقارات, والسيارات ,...الخ، ولمس كثير من الناس ارتفاع قيمة إيجار الدور والمنازل ؛ لقلة المعروض, وأصبح هذا حديث الناس، كل هذا في فترة زمنية محدودة ! فما الظن لو استمر الحال سنة أو أكثر !!
ثم ألا يكفي هذا حافزاً- على الأقل-لإعادة النظر في حكم اتخاذ النقود سلعاً, وما تفضي إليه هذه المعاملات من مفاسد وأخطار على الفرد والمجتمع ؟ أم نحتاج إلى جنائز ومرضى ومفلسين أكثر عدداً، حتى تتحقق لدينا القناعة بذلك ؟!!(/2)
النكتة عند العلماء محمد خليفة صديق*
الدعابة والنكتة بالحق، والسخرية التي تحمل ملامح الحكمة ليست مقصورة على فئة دون أخرى في المجتمع.. وقد تميز عدد من العلماء بالدعابة والحكمة في الرد على التساؤلات، والتعامل مع بعض المواقف.
ومن أجمل ما يذكر في هذا الصدد سؤال أحدهم للإمام الشعبي: ماذا كانت تسمى زوجة إبليس؟!؛ فقال الشعبي: ذلك عرس لم نشهده.
والجاحظ كان كثير الدفاع عن الضحك؛ مبيناً أثره في حياة الإنسان، وأنه جزء من طبيعته؛ فيقول: ولو كان الضحك قبيحاً من الضاحك، وقبيحاً من المضحك لما قيل للزهرة، والحبرة، والحلي، والقصر المبني: كأنه يضحك ضحكاً!!.. وقد قال الله جل ذكره: (وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا)؛ فوضع الضحك بحذاء الحياة، ووضع البكاء بحذاء الموت).
ثم يمضي الجاحظ في حديث طويل يحتج فيه للضحك، ويدافع، ويبين أثره، وقيمته؛ ولكنه مع ذلك يضع للضحك حدوداً، وأنه لا ينبغي لأحد أن يجاوز هذه الحدود؛ يقول الجاحظ: وللضحك موضع، وله مقدار، وللمزح موضع، وله مقدار؛ متى ما جاوزهما أحد، وقصر عنهما أحد صار الفاضل خطلاً، والتقصير نقصاً؛ فالناس لم يعيبوا الضحك إلا بقدر، ولم يعيبوا المزح إلا بقدر، ومتى أريد بالمزح النفع، وبالضحك الشيء الذي جعل له الضحك صار المزح جداً، والضحك وقاراً.
وهكذا نرى أن فلسفة الجاحظ في ضحكه، وإضحاكه فسلفة عميقة، واعية، تعتمد على أس فكرية ونفسية سبق بها كثيراً من المفكرين؛ فلقد قرر الجاحظ أن الإنسان لا يضحك منفرداً بمقدار ما يضحك إذا تجاوب معه آخرون؛ وشاركوه في الإحساس بالشيء المضحك؛ حيث يقول علماء النفس: إن الضحك سلوك اجتماعي؛ يقوم به الإنسان، ويؤدي في حياة الأفراد والجماعات وظيفة نفسية هامة من وظائف الاتزان العاطفي، وهو السبيل إلى تحقيق ضرب من التكامل النفسي والاجتماعي.
ومن ثم فالجاحظ يقرر أن الضحك يحتاج إلى وجدانية من الآخرين، ويفهم ذلك من خلال ما قاله في حكاية قصته مع محفوظ النقاش البخيل الذي يدعي الكرم خشية تهكم الجاحظ وسخريته منه؛ قال الجاحظ: صحبني محفوظ النقاش من مسجد الجامع ليلاً؛ فلما صرت قرب منزله سألني أن أبيت عنده؛ وقال: أين تذهب في هذا المطر والبرد؟!، ومنزلي منزلك!!، وأنت في ظلمة وليس معك نار!!، وعندي لبأ - اللبأ هو اللبن الذي ينزل بعد ولادة الغنم، وغيرها مباشرة - لم ير الناس مثله، وتمر ناهيك به جودة؛ لا تصلح إلا له.. فملت معه؛ فأبطأ ساعة، ثم جاءني بجام لبأ، وطبق تمر؛ فلما مددت يدي قال: يا أبا عثمان! إنه لبأ وغلظة، وهو الليل وركوده، ثم ليلة مطر ورطوبة، وأنت رجل قد طعنت في السن، ولم تزل تشكو من الفالج طرفا، وما زال المرض يسرع إليك، وأنت في الأصل لست بصاحب عشاء؛ فإن أكلت اللبأ ولم تبالغ كنت لا آكلاً ولا تاركاً، وحرشت طباعك، ثم قطعت الأكل أشهى ما كان إليك، وإن بالغت بتنا في ليلة سوء من الاهتمام بأمرك، ولم نعدّ لك نبيذاً ولا عسلاً؛ وإنما قلت هذا الكلام لئلا تقول غداً: كان وكان.. والله قد وقعت بين نابي أسد؛ لأني لو لم أجئك به وقد ذكرته لك قلت: بخل به، وبدا له فيه.. وإن جئت به ولم أحذرك منه، ولم أذكر لك كل ما عليك فيه قلت: لم يشفق عليّ، ولم ينصح.. فقد برئت من الأمرين جميعاً؛ فإن شئت فأكلة وموتة، وإن شئت فبعض الاحتمال ونوم على سلامة!!..
فما ضحكت قط كضحكي تلك الليلة، ولقد أكلته فما هضمه إلا الضحك، والنشاط، والسرور؛ فيما أظن.. ولو كان معي من يفهم طيب ما تكلم به لقضى الضحك عليّ، ولكن ضحك من كان وحده لا يكون على قدر مشاركة الأصحاب اهـ.. (من كتاب البخلاء).
فهذه العبارة الأخيرة التي ختم بها الجاحظ حديثه عن محفوظ النقاش تدل على أن الجاحظ يقرر أن الضحك مشاركة جماعية؛ فالإنسان لا يضحك إلا في وجود جماعة، ومن ثم فالجاحظ يسبق برجسون في هذا الرأي الذي يرى أن الإنسان ما كان يمكن أن يقدر المواقف المضحكة، أو يتذوق النكتة الطيبة لو أنه كان يشعر بأنه يحيى في عزلة من الناس؛ وذلك لأن الضحك بطبيعته في حاجة إلى أن يردد أصداءه، وينشر إشعاعاته؛ فهو في صميمه ظاهرة اجتماعية.(/1)
النمط العزيز
د. عبد الكريم بكار 29/1/1426
10/03/2005
شيئان جوهريّان يسيطران على تفكيري وتأمّلي، هما التوازن والتكامل.
التكامل يعني: القبض على رؤية عميقة وشاملة لكل الأشياء التي يجب أن نراها، وبالطريقة التي يجب أن تُرى بها تلك الأشياء. أما التوازن فيعني إعطاء جوانب الحياة وجوانب الشخصية على -وجه الخصوص- حقها من الرعاية والتنمية والاهتمام من غير إفراط في جانب على حساب جانب آخر. وربما أمكننا القول: إن امتلاكنا لرؤية حسنة لنوعية التكامل المطلوب هي التي تتحكم في نهاية الأمر بشكل التوازن الذي نسعى إليه. كما أن من الممكن القول: إن عناصر الصورة الذهنية عن (التكامل) قد تختلف من شخص إلى آخر. وقد ينحو بعضها نحو التغيّر، كما ينحو بعضها الآخر نحو الثبات، في الدائرة الإسلامية نمط من الناس يُتّهم بصفاء روحه ونقاء نفسه، ومستوى تعبده –على مقدار خبرته- جيد، ولديه طيبة، تتصل في بعض الأحيان بطرف من الغفلة التي تصل إلى حد السذاجة، وكثير من هؤلاء – إن لم نقل أكثرهم- يأخذون عن عابد أو جماعة تقاليد وطرقًا في التعبد، ويحفظون عن ظهر قلب مقولات، يسيرون في ظلال دلالاتها وكأنها مفردات دستور، لا يمكن إدخال أي تعديل على أية مادة من مواده.
ومشكلتهم أنهم كثيرًا ما يفقدون التوازن، ونصاب الحد الأدنى من التوزيع لاهتماماتهم وأنشطتهم. وينظرون إلى الأقوال المأثورة عن شيوخهم وأسلافهم على أنها أدوات لفهم كل الأوضاع والتعامل مع تحديات كل القصور.
ويميل هذا النمط من عباد الله إلى العزلة الشعورية، ويجدون حالات عظيمة من انشراح الصدر وبرْد اليقين، ويملكون طاقة هائلة على البذل والإصرار على الدعوة إلى ما يشعرون أنهم ظفروا به, وتتسم معاملاتهم بالنعومة واللطف، ويميلون إلى حسن الظن، رؤيتهم للواقع عتيقة، ونظرتهم للمستقبل قاصرة ومشوشة، وبينهم وبين التحليل والتفلسف ما يشبه العداوة، لكن لديهم روح متفائلة، وكثيرًا ما تكون تطلّعاتهم محدودة، والتدقيق في صفاء العقيدة وصحّة التصورات، لا يشكّل لديهم هاجسًا، ومعظم هؤلاء عاديون في أعمالهم وإنجازاتهم؛ والناجحون فيهم قليلون كما أن المحقّقين منهم ليسوا كثيرين.
في الدائرة الإسلامية نمط ثانٍ من الناس يقف في الجهة المقابلة للنمط الأول مع وجود الكثير من الأشياء المشتركة بينهما. هذا النمط يحرص حرصًا شديدًا على استقامة تفكيره، ويكثر من النقاش حول ما يعتقد أنه يشكل انحرافًا عن المنهج القويم، يتحدثون باستمرار عن المهم والمهم جدًا، والخطير والخطير جدًا، ويفرقون في تناول التفاصيل المتعلقة بالأمة وبالشأن العام. كثيرون من هؤلاء فتحوا على أنفسهم بابًا عريضًا من ممارسة النقد، إنهم يتحدثون باستمرار عن المصائب والويلات التي حلّت بالأمة، ويكثرون من المقارنة بين ما لدينا، وما لدى الآخرين، وتكون النتيجة في الغالب لصالح الأمم الأخرى، ولاسيما الغربية منها وكثير من أفراد هذا النمط ناجحون في أعمالهم على نحو مقبول، وهذا يشجعهم على أن يقترحوا على غيرهم المشروعات، ويدلّوهم على طرق للارتقاء وآليات للتقدم، يشغلهم المستقبل عن كل شيء وطموحاتهم كبيرة وأحلامهم عريضة. من أكبر همومهم فهْمُ الأمور التي تجعل الناس يعيشون حياتهم وفق تعليمات دينهم، لكن هذا النمط كثيرًا ما يشكو من برودة الروح وخمود الانفعالات، وهو مع حرصه على استبانة الوجهة وتحديد المسار إلا أنه لا يهتم كثيرًا بتوليد (الطاقة) المطلوبة للمضيّ بهمة وعزيمة إلى آخر الطريق، عباداتهم كثيرًا ما تكون عند الحد الأدنى، وبعدهم عن الشُبه ليس بالكبير. وكثيرًا ما يعانون من تمزّقات داخلية بسبب المسافة الكبيرة التي تفصل بين وعيهم ودرجة تألّق إيمانهم، هذان النمطان رئيسيان في الجماهير الملتزمة وهناك أنماط فرعية تتشعب من كل واحد منهما.
في الدائرة الإسلامية نمط ثالث يمكن أن نسميه (النمط العزيز) إنه عزيز –نسبيًا- في وجوده، وعزيز أيضًا على قلوبنا. هذا النمط جمع ثلاث صفات أساسية، هي الوعي العميق، والإيمان الراسخ، والنجاح الباهر. وهذا شرح موجز لهذه الصفات.
يمتاز هذا النمط بالأصالة الخلقية، حيث السجايا الحميدة عميقة الجذور في النفس، وتجسّدها في السلوك يتم بطريقة عفوية ومستمرة، وهو مكين التدين، والإيمان لديه يتجاوز صفاء المعتقد إلى الحيوية والتألّق، إن أفراد هذا النمط يعملون وفق (ربي وعبدك) إن الواحد منهم في نهاره يراقب الله في عمله وجميع أنشطته، هذا العمل يرضي ربي، وهذا العمل يقربني من ربي، هذا العمل لا يرضى عنه ربي إن صلته بالله –تعالى- توجّه حركته، وتصوغ مواقفه وعلاقاته، ومن تلك الصلة القدسيّة يستمد الطاقة على العمل وعلى الصمود في وجه المغريات، أما في ليله فكثيرًا ما يردّد: عبدك بحاجة إليك. عبدك راجٍ لفضلك. عبدك خائف منك. عبدك عبدك....(/1)
2 – رسالة هذا النمط في الحياة واضحة إنها العيش للإسلام وبالإسلام. من يُنسب إلى هذا النمط يعتقد أن لكل امرئ دينين: ديناً معلناً ظاهر يمنحه نوعًا من التميّز والانتماء الشكلي، وديناً حقيقياً، ودين المرء الحقيقي هو الدين الذي يكرّس حياته من أجله.
يقرأ هذا النمط الماضي لإصلاح الحاضر، ويتخذ من معطيات الحاضر وقودًا لبلوغ الأهداف العظمى، التفكير لديه إستراتيجي، والرؤية واضحة، وهو مع ميله للإيجابية، وتشبّعه بروح الرجاء يدرك أعباء المرحلة، ويعرف العلامات الدالة على الطرق المسدودة، يجد معرفته ومفاهيمه، ويتهم نفسه، ويمتلك القدرة على السماع والاقتباس.
3 – هذا النمط ناجح في عمله، متفوق في أدائه، يقدم القدوة والنموذج في الكثير من جوانب شخصياته وسلوكاته. إن لديه إدراكًا عميقًا، بالحاجة إلى تحقيق النجاح الباهر؛ حيث مضى زمان الأشياء العادية، وحيث تتطلب الديون المتأخرة على الأمة مضاعفة الإنتاج وبذل المزيد من الجهد.
هذا النمط جمع –باختصار- بين القوة والأمانة، كما قالت ابنة شعيب: (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين).
ينتسب هذا الطراز من الرجال إلى الإمام الكبير عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- ويحاول باستمرار إحياء خطّه وبعث مسيرته.
وإني لأرجو أن نعمق دراستنا المستقبلية حول هذا النمط، كما أرجو أن نجعل الدخول إلى عالمه شيئًا موضع تطلّع وتشوّق، إنه نمط آسر، ويثير الإعجاب، ولمَ لا، وقد اجتمع فيه أفضل ما تفرق في غيره؟!(/2)
النمط الوسط
أ.د.ناصر بن سليمان العمر- المشرف العام على موقع المسلم
قال مطرف بن عبدالله بن الشخير لابنه: يا بني! إن الحسنة بين السيئتين، وخير الأمور أوسطها، وشر السير الحقحقة.
وقوله الحسنة بين السيئتين أي أن الحق بين فعل المقصر والغالي، قال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلاّ وللشيطان فيه نزعتان، فإما إلى غلو، وإما إلى تقصير، فبأيهما ظفر قنع.
وقد قيل:
تَسَامح ولا تَستوفِ حَقَك كله
وأبقِ فلم يستوف قَطُ كريمُ
ولاتغل في شيءٍمن الأمرِ واقتصد
كلا طرفي قصدِ الأمور ذميمُ
وفي الأثر: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى"(1).
والإغراق في كل شيء مذموم، وخير الأمور أوسطها، وقد عاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإغراق حتى في العبادة، وحمل النفس منها على ما يؤودها ويكلها، فما كان دونها من باب التخلق والتكلف فهو أشد مقتاً، فإن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلاّ غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا.
إن المفازة صعبة، ودوام السير يحسر الإبل
تقطع بالنزول الأرض عنا وبُعد الأرض يقطعه النزول
ومن كلام العرب: شر السير الحقحقة، وهي شدة السير بأن يستفرغ المسافر جهد ظهره، فيقطعه وينبت، فيهلك ظهره ولا يبلغ حاجته.
قال القطامي:
قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
ولغيره:
مستعجلٌ والمكثُ أدنى لرشدهِ
ولم يدر ما يلقاه حين يبادر
وعلى وجه الإجمال الاقتصاد والتوسط، مغاير للتفريط والإجحاف، أبعد عن السآمة والتكلف، حاض على الإقبال على الأعمال بانشراح، داع لحضور الذهن والقلب فيها، معين على المداومة عليها.
---------------------------------------------------
* نشر ببعض الدوريات في صيفية 1423
(1) الأثر جزء من حديث "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى" قال ابن حجر في الفتح: "أخرجه البزار... وصوب إرساله، وله شاهد في الزهد لابن المبارك من حديث عبدالله بن عمرو موقوف، والصواب أنه لا يصح رفعه"، قال الدارقطني: "رواه يحيى بن المتوكل عن ابن سوقة عن ابن المنكدر عن جابر ورواه شهاب بن خراش عن شيبان النحوي عن محمد بن سوقة بن الحارث عن علي وروي عن ابن سوقة عن الحسن البصري مرسلا وعن ابن المنكدر قال وليس فيها حديث ثابت"، قال العجلوني في كشف الخفاء: "واختلف في إرساله ووصله ورجح البخاري في تاريخه الإرسال". قال السخاوي: " وهو مما اختلف فيه على ابن سوقة في إرساله ووصله وفي رفعه ووقفه، ثم في الصحابي أهو جابر أو عائشة أو عمر" قال الألباني في الضعيفة 1/ 63 بعد أن ذكر الحديث: (وهذا سند ضعيف ) _ وبه علتان . لكن يغني عنه قوله صلى الله عليه وسلم : إن هذا الدين يسر ، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا ... ؛ أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعا". وانظر كذلك الضعيفة 5/501 حديث رقم 2480.(/1)
النهر الشاعر
شعر: أنور العطار
بردى المشتهى يفكرُ شعرا وهو يحيا لحناً وينسابُ عطرا
في حناياهُ أضلعٌ تتناجى وقلوبٌ من حرقة الحبّ حرّى
خبر العالمينَ جيلاً فجيلاً ووعى الكائنات دهراً فدهرا
خط في مصحف الوجود سطوراً باقيات تختالُ تيهاً وكبرا
معجباتٍ أنقى من الفن لألآ ءً وأبهى من سطعةِ العلم فكرا
يتلوَّى زهواً كراقصةِ الحا نِ تنزّى وجداً وتقطرُ خمرا
مرَّ في الأرض كالربيع ائتلاقاً وكأيامهِ صفاءً وبشرا
وكسا جلَّق الأنيقة ثوباً عبقرياً من نعمةِ الفجر أطرى
* * *
أيّهذا النهرُ الحبيبُ إلى نفـ سي ويا ملهمي إذا قلتُ شعرا
عشْ بقلبي لحناً على الدهر حلواً واسرِ في خاطري فتوناً وسحرا(/1)
النهي عن البدع ومحدثات الأمور.....علي حسين الفيلكاوي ...
...
28-02-2004
الحمد لله الذي أرسل رسوله محمد صلى الله عليه وسلم للعالمين بشيرًا ونذيرا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن الله –جل وعلا- أمرنا في كتابه الكريم باتباع النبي الصادق الأمين، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والتسليم، وذلك بقوله سبحانه: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" (الحشر/7).
وقال تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم" (آل عمران/31).
والآيات التي تحثنا على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة، فلذلك كان واجبًا على المسلمين أن يتبعوا هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن لا يبتدعوا في دين الله ما ليس منه.
والبدع في اللغة: هي الأشياء التي يبتدعها الإنسان.
وأما في الشرع: فهي كل من تعبَّد لله سبحانه وتعالى بغير ما شرع عقيدة أو قولاً أو فعلاً.
وعرف بعض أهل العلم البدعة على أنها كل شئ كان سببه موجود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأت به النبي صلى الله عليه وسلم فهو بدعة.
وخطر البدعة عظيم حتى قال فيها ابن القيم –رحمه الله-: "تزوجت بدعة الأقوال ببدعة الأعمال، فاشتغل الزوجان بالعرس، فلم يفجأهم إلا وأولاد الزنا يعثون في بلاد الإسلام، تضج منهم العباد والبلاد إلى الله تعالى"
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "تزوجت الحقيقة الكافرة بالبدعة الفاجرة فتولَّد بينهما خسران الدنيا والآخرة"
ولا شك أن الإنسان المسلم إن اتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسار على نهجهم كان من الفائزين، وإن خالفهم وابتعد عن طريقهم كان من الخاسرين.
فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (متفق عليه).
وهذا الحديث يعني أنه من أحدث في شرع الله وفي دين الله ما ليس منه فهو مردود على صاحبه غير مقبول منه.
والأعمال إما ظاهرة أو باطنة، فالأعمال الظاهرة ميزانها حديث عائشة هذا "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، والأعمال الباطنة ميزانها حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"(متفق عليه).
فلو علم المسلمون معنى هذين الحديثين والتزموا بهما لاستقام حال الأمة الإسلامية، ولما ظهر فيها البدع
وعند مسلم عن جابر رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: "صَبَّحَكُم ومسَّاكم" ويقول: "بُعثت أنا والساعة كهاتين" ويقرن بين أصبعيه، السبابة والوسطى، ويقول: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة".
ويعني بقوله عليه الصلاة والسلام "بعثت أنا والساعة كهاتين": أي أن أجل الدنيا قريب وأنه ليس ببعيد، فلذلك ينبغي على المسلم أن ينتبه ويحذر، فيجتنب البدع ويجتنب الذنوب كبيرها وصغيرها، وأن يجاهد نفسه على ترك المعاصي والالتزام بشرع الله.
والبدعة من أخطر الوسائل التي يستخدمها الشيطان في استدراج الإنسان، ولذلك احتجز الله التوبة عن صاحبها، فعن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله احتجز التوبة عن صاحب كل بدعة" (رواه ابن أبى عاصم في السنة والطبراني وذكره الألباني في الصحيحة رقم (1620) وقال: حسن).
ولا شك أن الإنسان المبتدع يقع في محاذير كثيرة:
أولاً: أن ما ابتدعه فهو ضلالة بنص القرآن والسنة، وذلك أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو الحق، وقد قال الله تعالى: "فماذا بعد الحق إلا الضلال" (يونس/32)، هذا دليل القرآن، ودليل السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" (رواه مسلم)، ومن هذا الحديث يتبين أن البدع كلها ضلالة، وأن ليس هناك بدعة حسنة.
ثانيًا: أن في البدعة خروجًا عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم" (آل عمران/31)، فمن ابتدع بدعة يتعبَّد لله بها فقد خرج عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرعها، فيكون خارجًا عن شرعة الله فيما ابتدعه.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يُحتاج إليه في أمر الدين والدنيا، وهذا كما قال الشاطبي –رحمه الله- في كتابه (الاعتصام) لا مخالف عليه من أهل السنه، بل وجاء في الحديث الذي رواه الترمذي وأبوا داود وأحمد وابن ماجة بإسناد صحيح عن العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله: إن هذه موعظة مودِّع، فما تعهد إلينا؟(/1)
قال:" تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عضُّوا عليها بالنواجذ".
ثالثأ:: أن هذه البدعة التي ابتدعها تنافي تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله، لأنه من أراد تحقيق هذه الشهادة لا بد له أن يلتزم بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن لا يتعبَّد بما لم يصح عنه.
رابعًا: أن مضمون البدعة الطعن في الإسلام، وذلك لأن المبتدع تتضمن بدعته أن الإسلام لم يكتمل، وأنه كمل الإسلام بهذه البدعة، وقد قال الله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا" (المائدة/3).
خامسًا: أنه يتضمن الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن هذه البدعة التي زعمت أنها عبادة إما أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم بها، وحينئذٍ يكون جاهلاً، وإما أن يكون قد علم بها ولكنه كتمها، وحينئذٍ يكون كاتمًا للرسالة أو لبعضها، وهذا خطير جدًا، إذ كيف نأخذ من الأفعال أو الأقوال ما يكون طريقًا إلى هذا الظن في النبي صلى الله عليه وسلم.
سادسًا: أن البدعة تتضمن تفريق الأمة الإسلامية، لأن الأمة الإسلامية إذا فتح الباب لها في البدع صار هذا يبتدع شيئًا، وهذا يبتدع شيئًا، كما هو الواقع الآن، وكل منهم يظن أنه على صواب، وكل منهم فرح ببدعته، فمثلاً: الذين ابتدعوا عيد ميلاد الرسول عليه الصلاة والسلام، وصاروا يحتفلون به يطعنون في الذين لا يحتفلون بهذا اليوم، ويقولون هؤلاء يبغضون النبي صلى الله عليه وسلم ويكرهونه، ولهذا لم يفرحوا بمولده، والحقيقة خلاف ذلك، إذ أن المبتدع هو الذي تتضمن بدعته أنه يبغض الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان يدَّعي أنه يحبه، لأنه إذا ابتدع هذه البدعة والرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرعها للأمة، فذلك كأنما يتهمه بالجهل أو الكتمان، وحاشاه أن يكون كذلك عليه الصلاة والسلام، بل الخير في اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والشَّر في تعدِّيها، ولا ينبغي للمسلم أن يشرِّع كيف شاء ومتى شاء، فيجعل نفسه شريكًا مع الله في التشريع، بل في هذه البدع تعدٍّ صريح على الشريعة وعلى الشارع.
سابعًا: أن البدعة إذا انتشرت في الأمة اضمحلت السنة، ولهذا قال بعض السلف: "ما ابتدع قوم بدعة إلا أضاعوا من السنة مثلها أو أشد" وذلك لأن البدع تؤدي إلى نسيان السنن واضمحلالها بين الأمة الإسلامية.
ولذلك كان المسلمون يخشون البدع، ويخشون الوقوع فيها، ويَحذَرُونَها ويحذِّرون المسلمين منها، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي، فَضَلُّوا وَأَضلُّوا"(/2)
وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "قد أصبحتم على الفطرة، وإنكم سَتُحْدِثُون ويُحْدَث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدى الأوَّل"، وقال رضي الله عنه: "الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة"، وقال رضي الله عنه: "إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر" وقال: "عليكم بالطريق فالزَمُوه، ولئن أخذتم يمينًا وشمالاً لَتَضِلُّنَّ ضلالاً بعيدًا"، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة"، وقال ابن عباس رضي الله عنهما يوصي عثمان الأزدي: "عليك بتقوى الله تعالى والاستقامة، اتبع ولا تبتدع" ، وقال: "إن أبغض الأمور إلى الله تعالى البدع"، وقال: "عليكم بالاستقامة والأثر وإياكم والبدع"، وقال عبدالله بن الديلمي رضي الله عنه: "بَلَغَني أن أول ذهاب الدين ترك السُّنة، يذهب الدين سُنَّةً سُنَّة كما يذهب الحبل قُوَّةً قُوَّة"، وقال الحسن البصري رحمه الله: "السُّنَّة -والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السُّنَّة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي: الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا" ، وقال رحمه الله: "لا يقبل الله لصاحب بدعة صومًا ولا صلاةً ولا حجًا ولا عمرة حتى يدعها"، وقال: "صاحب البدعة لا يزداد اجتهادًا، صيامًا وصلاةً، إلا ازداد من الله بعدًا"، وقال: "لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك"، وقال حسان بن عطية: "ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنَّتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة"، وقال يحيى بن أبي كثير: "إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر"، وقال سفيان الثوري: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يُتاب منها"، وقال: "دع الباطل، أين أنت عن الحق؟ اتبع السُّنَّة، ودع البدعه"، وقال ابن الماجشون –رحمه الله-: "سمعت مالكًا–رحمه الله- يقول: "من ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله يقول: "اليوم أكملت لكم دينكم" (المائدة/3) فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا"، وقال الفضيل بن عياض: "من جلس إلى صاحب بدعةً فاحذروه، وقال: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلاممن قلبه"، وقال –رحمه الله-: "إذا رأيت مبتدعًا في طريق فخذ في طريق آخر، ولا يُرفع لصاحب البدعةإلى الله –عز وجل- عمل، ومن أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام"، وقال: "من زوَّج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها"، وقال: "اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين"، وقال الشافعي–رحمه الله-: "لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خيرٌ له من أن يلقاه بشئ من الأهواء" وأقوال أهل العلم أكثر من أن تحصى في ذلك.
عباد الله، إن هذه الآثار الواردة عن السلف الصالح رحمهم الله تعالى كلها تدعوا إلى التمسك بالكتاب والسنة، وتُحذِّر من البدع والمحدثات صغيرها وكبيرها.
يقول الإمام أبو محمد البربهاري-رحمه الله- في كتاب "شرح السنة للبربهاري": "واحذر صغار المحدثات، فإن صغار البدع تعود حتى تصير كبارًا، وكذلك كل بدعة أحدثت في الأمة كان أولها صغيرًا يشبه الحق، فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطع المخرج منها فعظمت، وصارت دينًا يدان به فخالف الصراط المستقيم.
فانظر رحمك الله كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة، فلا تعجلن، ولا تدخلن في شئ منه حتى تسأل وتنظر هل تكلم فيه أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من العلماء، فإن أصبت فيه أثرًا عنهم فتمسَّك به ولا تجاوزه لشئ، ولا تختر عليه شيئًا فتسقط في النار".
من مضار الابتداع:-
حبوط الأعمال وإن كانت كثيرة.
من لوازمه دعوى عدم كمال الدين.
صاحبه من أعوان الشيطان ومن أعداء الرحمن.
أبغض إلى الله –عز وجل- من كثير من المعاصي.
صاحبه لا يرجى له التوبة بخلاف أهل المعاصي.
كل البدع ليس فيها شئ حسن.
أنواعها في العقيدة والعبادة وشرها بدع العقيدة.
البدع تركيه وفعلية، وكلها مذمومة.
إثمها متجدد لا ينقطع ما دام يعمل بها في الأرض.
من أقرب مداخل الشيطان للإنسان.
تؤدي إلى خلط الحق بالباطل وحيرة الأغرار في التمييز بينهما.
تؤدي إلى نفرة من ليس له قدم في فهم الإسلام منه لكثرة ما يظن من تكاليفه.
هذا ويجب عليك يا عبد الله أن تعلم علم اليقين أن أعظم زاجر عن الذنوب وعن المعاصي وعن البدع والمحدثات هو خوف الله تعالى وخشية انتقامه وسطوته، وحذر عقابه وغضبه وبطشه، كما قال-جل وعلا- "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليم" (النور/63).
فاتقوا الله عباد الله. اتقوا الله حق التقوى، واتبعوا ولا تبتدعوا، واتقوا يومًا تُرجعون فيه إلى الله.(/3)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(/4)
النهي عن كتابة الحديث حفظاً للقرآن
طريق القرآن
لم يكتب الحديث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما كتب القرآن الكريم ولم يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه كتبة يكتبون الحديث - ويرى بعضهم أن ذلك يرجع إلى ندرة الوسائل الكتابية وإلى ضعف البواعث النفسية عند أكثرهم على كتابة السنة - ولسنا مع هذا الرأي لأن ندرة الوسائل لا تقف أمام عمل كبير مهم ككتابة الحديث وأما البواعث النفسية فما لا ريب فيه أنها قوية لاسيما وأن الصحابة يعلمون مكانة السنة من الدين.
وقد ثبت أن امتناع الصحابة رضي الله عنهم عن الكتابة إنما جاء عن نهي النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال :" لا تكتبوا عني،ومن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدثوا عني ولا حرج".
ثم جاء الإذن من الني صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما بالكتابة فقد جاء عن قوله :" كنت اكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا أتكتب كل شيء تسمعه ؟! ورسول الله صلى الله عليه وسلم وبشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال :" أكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا الحق".
ويمكن التوفيق بين النصين سيراً على طريقة أهل العلم في اعتبار الإذن بالكتابة هو آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم ويقال:-
1. لقد شاء الله تعالى أن يحفظ كتابه الكريم من التحريف والاختلاف فصانه من كل شيء يكتب إلى جانبه حتى ولو كانت السنة التي هي وحي أيضاً. وهذا من الشواهد على صدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ أنه صلى الله عليه وسلم ميز كتاب الله تعالى عن سنته كي يبقى الكتاب معجزة الإسلام الكبرى، ولولا ذلك لكثرت الشروح والتعليقات على آيات القرآن الكريم ثم اختلط الأمر على الكاتبين فلا يستطيعون حينئذً تمييز النص المتعبد بتلاوته عن سائر النصوص، وهذا ما حدث لرسالات الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم فقد اختلطت الحقيقة بالخيال والخطأ بالصواب والوحي بالرؤى والأحلام حتى ذهب الأصل واختفى تحت وطأة الزيادات والإضافات فلم يعد للوحي تميزه وهيمنته وأصبح الوحي عند اليهود والنصارى بمثابة حركة الله في التاريخ بمعنى أن كل شيء يحدث في التاريخ يضاف إلى الوحي باعتباره إرادة الله وحركته في الأحداث، وما القراءات الشاذة عندنا إلا إضافات تفسيرية كتبت إلى جانب الآيات ثم ظن الكاتب أنها من القرآن الكريم ولكن الكثرة من الصحابة الذين أفردوا النص ولم يكتبوا شياً إلى جانبه بالإضافة إلى الذين حفظوه كل هؤلاء تواترت الرواية القرآنية عنهم وحكموا على الزيادة بالشذوذ وعدم القبول. ونستطيع القول بأن تواتر القرآن كان بتوفيق الله وحفظه ثم بالمنهج الذي صابة ولولا هذا النهي عن كتابة الحديث لتعددت الروايات والألفاظ ولما حصل هذا التواتر.وصدق الله العظيم إذ يقول : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) وقد عقب الإمام الخطابي على حديث النهي بقوله :-" وقد قيل إنه إنما نهي أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة، لئلا يختلط به، ويشتبه على القارئ، فأما أن يكون نفس الكتابة محظورة وتقييد العلم بالخط منهما عنه، فلا. وقد جار هذا القول بعد أن قال:- "يشبهن يكون النهى متقدماً آخر الأمرين الإباحة ".
2. كان الإذن منه صلى الله عليه وسلم بالكتابة بعد السنة السابعة لأن عبدالله بن عمرو هاجر مع أبيه بعد الحديبية ويظهر من النص أن عبد الله أفرد كتابة الحديث في كتاب ولم يجعله مع القرآن.
3. لما كانت السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم نامية باعتبار توالى صدورها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يضاف إليه أن هذه السنة قد تتناول أحكاماً مرحلية يعتريها النسخ، فقد كان النهي عن كتابتها له فوائده المنهجية حتى لا يأخذ المكتوب طابع النهائية ولو أطلق العنان للصحابة من أدل الأمر في الكتابة لوصلتنا نسخ عديدة فيها الاختلاف وكل يجزم بصحة نسخته لذ لك كانت السياسة العامة هي النهي عن كتابة السنة فيما عدا الإذن الخاص أو في مسائل محددة ذات أنصبة وفروض وأرقام يصعب ضبطها من عير كتاب. وهذا المحظور يزول بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم لأن السنة قد توقف صدور المزيد منها إلى جانب ثبات أحكامها ووصولها إلى المرحلة النهائية. وكتابة الكتب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لا تأخذ طابع القبول الذي تأخذه لو كتبت في عهده صلى الله عليه وسلم بل يبقى الأمر بعد وفاته صلى الله عليه وسلم موضع اجتهاد وحوار وقد يحظر بعض الصحابة بعضهم لبعض ويدعى أحدهم نسخ حديث يعتبره غيره محكماً غير منسوخ.(/1)
4. لو قُدرٌ للسنة أن تجمع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لما ظهرت هذه النزعة النقدية المنهجية التي مدت آثارها إلى مختلف جوانب المعرفة الإسلامية والتي كانت ميدان تنافس بين العلماء وسبقتهم كذلك إلى يوم القيامة بإذن الله.
5. إن كتابة السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أمر يشغل المسلمين بنصية السنة أكثر مما يشغلهم بالصحبة والممارسة والإقتداء والمباشرة الفعلية للإسلام وهو ما يميز جيل الصحابة عن كل جيل بعدهم إذ أنهم تعاملوا مع شخص النبي صلى الله عليه وسلم. ونخلص من هذا إلى أن النهي عن كتابة السنة كان منهياً نصياً ومنهجياً والإذن بكتابتها كان محدوداً في الأشخاص المعينين وفي الموضوعات التي تحتاج إلى تذكر وللوافدين الذين يرجعون إلى أقوامهم ويريدون شيئاً مكتوباً إما لإتقانه وتذكره وإما زيادة في التوثيق والتصديق. فقد أخرج البخاري في صحيحه من رواية أبي هريرة أن خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فركب راحلته فحطب فقال: "إن الله حبس عن أهل مكة القتل أو الغيل، - شك أبو عبد الله - ، وسلط عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ألا إنها لم تحل لأحد قبلي ولم تحل لأحد بعدي، ألا وإنها حلت لي ساعة من نهار، ألا وإنها ساعتي هذه حرام، لا يختلي شوكها ولا يعضد شجرها ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد، فمن قتل فهو بخير النظرين، إما أن يعقل أو يقاد أهل القتيل"
فجاء رجل من أهل اليمن فقال: أكتب لي يا رسول الله فقال: " أكتبوا لأبي فلان".
فقال رجل من قريش: إلا الإذخر يا رسول الله فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إلا الإذخر".
قال أبو عبدالله: يقال يقاد بالقاف، فقيل لأبي عبدالله: أي شيء كتب له؟ قال: كتب له هذه الخطبة.
فلا يفهم من هذا الحديث الإذن العام وإنما الإذن الخاص لمن إحتاج إلى الكتابة وأما حديث عبدالله بن عمرو بن العاص ففيه أمران: الإذن بالكتابة والرد على قولهم: ورسول الله بشر يتكلم في الرضا والغضب،فرد النبي صلى الله عليه وسلم على قولهم هذا بقوله:" أكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا الحق " وهذا الموضوع من الحديث أبلغ في الاعتبار وأهم من الإذن بالكتابة. فيكون إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على قول من ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسائر البشر قد يخرجه الغضب عن الحق والصواب فيكون سياق الحديث في معرض الإنكار على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم في الرضا والغضب وقد يحمله هذا على الغضب فيخطئ.
كتابة الحديث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
بقى أمر كتابة الحديث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم موضع خلاف بين الصحابة بين النهي عن الكتابة نظراً لبقاء علة النهي وهي الخوف من انشغال المسلمين بالحديث وكتابته عن القرآن وحفظه وكان هذا الاتجاه قوياً في صدر خلافة الراشدين ومن أصحاب هذا الرأي عمر وأبو سعيد الجذري وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم. وذهب جمهور الصحابة إلى إباحة الكتابة وزوال المانع منها وكتب الكثيرون منهم أو كُتب لهم فقد كتب عبدالله بن عمرو بن العاص في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وروى البخاري بسنده عن أبي هريرة قوله: " ما أحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أكثر حديثاً مني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عبدالله بن عمرو بن العاص فإنه كان يكتب وأنا لا أكتب".
وكان أنس بن مالك رضي الله عنه يكتب أو يأمر بالكتابة فقد أخرج مسلم بسنده إلى محمود بن الربيع حديثاً جاء فيه: لما حدث عتبان بن مالك، قال أنس: فأعجبني الحديث فقلت لأبني: أكتبه فكتبه، وكتب جابر بن عبدالله رضي الله عنهما كتاباً صغيراً فيه مناسك الحج، وكتب سمرة بن جتدب وصية لأبنائه ضمنها أحاديث سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها وصية لأبنائه.
وذكر البخاري طرفاً منها. وكتب أبو سبرة رضي الله عنه ما أملاه عليه عبدالله بن عمرو.وهكذا فإن كتابة الحديث قد شاعت بين الصحابة حتى كان الكاتبون منهم أكثر من الناهين عن ذلك.(/2)
أما التابعون فقد ظهر من ينادي بترك كتابة الحديث كعامر بن شراحيل الشعبي (توفي سنة 103هـ) ويونس بن عبيد (توفي سنة 140هـ) وخالد الحداد (توفي سنة141هـ). ولكن جمهور التابعين 000 على إباحة الكتابة وفعلها ومنهم عبد العزيز بن مروان (توفي بعد 80هـ) الذي كتب إلى كثير بن مرة الحضرمي وكان قد أدرك سبعين بدرياً، أن يكتب إلية مما سمع من أحاديث الصحابة إلا حديث أبي هريرة فإنه عندنا. وكتب مجاهد بن جبر تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما وخالد بن معدان الكلاعي (توفي سنة103هـ) وكان علمه في مصحف له أزرار وعُرى، ومقسم بن بكرة (توفي سنة101هـ) وكان حديثه مدوناً في كتاب، وكتب عبد الرحمن بن هرمز الأعرج (توفي سنة117هـ) عن أبي هريرة كتاباً، وخلاصة القول أن عدد الذين كتبوا الحديث من الصحابة والتابعين يكفي للقول بأن السنة نقلت بالكتابة كما نقلت بالمشافهة، واجتمع الرأيان على نقل السُنة: الرأي بكتابتها والرأي بنقلها مشافهة.
تدوين الحديث
نقصد بالتدوين جمع الأحاديث في ديوان واحد وهو غير الكتابة لأن الكتابة مجهود فردي حيث يقوم الراوي بكتابة مسموعاته في كتاب لنفسه، وأول من عزم على تدوين الحديث عبدالعزيز بن مروان وكان أميراً على مصر إلا أنه مات قبل أن ينفذ عزمه فشرع في هذا العمل ولده الخليفة عمر بن عبدالعزيز (توفي سنة101هـ) وكان الدافع لهذا التدوين أمران:
صيانة الحديث بعد أن اتسعت رواياته من أن يختلط الصحيح منه بالموضوع، ويروى عن ابن شهاب الزهري أنه قال: "لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها ولا نعرفها ما كتبت حديثاً ولا أذنت في الكتابة"
الخوف على الحديث من الضياع بموت علمائه ورواته، وعندما أمر عمر بن عبدالعزيز بالتدوين كتب إلى أهل المدينة يقول " انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتبوه، فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله".
وكان على رأس المحدثين الذين ندبهم عمر بن عبدالعزيز لهذه المهمة أبو بكر بن محمد بن حزم ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري وكان في كتاب عمر إلى أبي بكر بن محمد بن حزم: " انظروا ما كان من حديث النبي صلى الله عليه وسلم فأكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم وَلْتُفشوا العلم ولتجلسوا حتى يُعَلم من لا يعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً "، وقد أمر عمر أبا بكر بن محمد بن حزم أن يكتب له العلم من عند عمرة بنت عبدالرحمن والقاسم بن محمد فكتب له - وقد نشأت عمرة في حجر عائشة رضي الله عنه وكانت من أثبت الناس في حديث عائشة وأما القاسم بن محمد فهو ابن أخي عائشة وكان عالم زمانه زمن فقهاء المدينة السبعة (توفي سنة 103هـ)(/3)
النوم
د. محمد بن عبد الله القناص 24/7/1426
29/08/2005
النوم آية من آيات الله ونعمة من نعمه التي أمتن بها على عباده، وضرورة من ضروريات الحياة، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاته مَنَامكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْله إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَات لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)، وقال تعالى: ( أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، ويحصل بالنوم الراحة والسكون وزوال التعب والمشقة وتجديد النشاط والقوة، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً)، وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً )، والإسلام الذي اتصفت تعاليمه وتشريعاته بالشمول والكمال بحيث اعتنى بالإنسان في جميع مراحله وكافة جوانب حياته لم يغفل حالة النوم والتي يقضي الإنسان فيها حوالي ثلث حياته بل أحاطها الإسلام بالآداب والسنن فمن أخذ بها تحقق له في نومه الطمأنينة والراحة، والهدوء والسكينة، وابتعد عن القلق والأرق، وسوف اذكر بعض هذه السنن والآداب بإيجاز بحسب ما يتسع له المقام.
وهذه الآداب والسنن تنقسم إلى قسمين:
1- السنن والآداب القولية والفعلية عند إرادة النوم والاضطجاع على الفراش:
- استحباب النوم مبكراً والحذر من السهر لغير حاجة:
ففي حديث أَبِي بَرْزَةَ –رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا. [أخرجه البخاري ح (568)، ومسلم ح (647)، واللفظ للبخاري]
قال الحافظ: " وذلك لأن النوم قبلها قد يؤدي إلى إخراجها عن وقتها مطلقا، أو عن الوقت المختار، والسمر بعدها قد يؤدي إلى النوم عن الصبح أو عن وقتها المختار أو عن قيام الليل. وكان عمر بن الخطاب يضرب الناس على ذلك ويقول: " أسمرًا أول الليل ونومًا في آخره ". [فتح الباري (2/73)]
ويجوز السمر للحاجة فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ –رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْمُرُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْأَمْرِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَا مَعَهُمَا. [أخرجه الترمذي ح (154)]
قال الترمذي: " وقد اختلف أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والتابعين ومن بعدهم في السمر بعد صلاة العشاء الآخرة فكره قوم منهم السمر بعد صلاة العشاء ورخص بعضهم إذا كان في معنى العلم وما لا بد منه من الحوائج وأكثر أهل الحديث على الرخصة"
- الوضوء عند النوم:
فعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ –رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ..... [أخرجه البخاري ح (247)، ومسلم ح (2710)]
وإذا كان الإنسان عليه جنابة فيستحب له يغتسل قبل أن ينام، وإذا لم يتيسر له الغسل فيخفف الجنابة بالوضوء ففي حديث عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ –رضي الله عنهما- أنه سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْقُدْ وَهُوَ جُنُبٌ. [أخرجه البخاري ح (286)، ومسلم ح (305)]
- الوتر قبل النوم:
الوتر آخر الليل أفضل لمن عرف من نفسه أنه يقوم آخر الليل، وأما من خشي ألا يقوم آخر الليل فيوتر قبل أن ينام ففي حديث جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ وَذَلِكَ أَفْضَلُ. [أخرجه مسلم ح (755)]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي -صلى الله عليه وسلم- بِثَلَاثٍ: صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ " [أخرجه البخاري ح (731)، ومسلم ح (1178)]
- نفض الفراش قبل النوم:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ وَلْيُسَمِّ اللَّهَ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا خَلَفَهُ بَعْدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْطَجِعَ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ.... [أخرجه البخاري ح (6320)، ومسلم ح (2714)]
- الاضطجاع على الشق الأيمن:
وقد دل عليه حديث أبي هريرة، وحديث البراء بن عازب رضي الله عنهما كما تقدم.
- وضع اليد اليمنى تحت الخد:(/1)
فعَنْ أم المؤمنين حَفْصَةَ رضي الله عنها، زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْقُدَ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ، ثَلاَثَ مِرَارٍ.] أخرجه أبو داود ح (5045)]
وعَنْ حُذَيْفَةَ –رضي الله عنه- قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ. [أخرجه البخاري ح (6314)]
- كراهة النوم على البطن:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قَالَ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلًا مُضْطَجِعًا عَلَى بَطْنِهِ فَقَالَ إِنَّ هَذِهِ ضَجْعَةٌ لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ. [أخرجه الترمذي ح (2692)]
- الأذكار عند النوم:
ورد أذكار عديدة تشرع عند النوم يستحب للمسلم أن يحافظ على ما تيسر منها ومن ذلك ما جاء في الأحاديث التالية:
* حديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ قَالَ فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا بَلَغْتُ اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ قُلْتُ وَرَسُولِكَ قَالَ لَا وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ
* حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رضي الله عنهما، أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا، إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ، قَالَ: اللَّهُمَّ خَلَقْتَ نَفْسِي وَأَنْتَ تَوَفَّاهَا، لَكَ مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا، إِنْ أَحْيَيْتَهَا فَاحْفَظْهَا، وَإِنْ أَمَتَّهَا فَاغْفِرْ لَهَا. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَسَمِعْتَ هَذَا مِنْ عُمَرَ؟ فَقَالَ: مِنْ خَيْرٍ مِنْ عُمَرَ، مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. [أخرجه مسلم ح (2712)]
* حديث عَلِيٌّ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَام اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ الرَّحَى مِمَّا تَطْحَنُ فَبَلَغَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِسَبْيٍ فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَلَمْ تُوَافِقْهُ فَذَكَرَتْ لِعَائِشَةَ فَجَاءَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَهُ فَأَتَانَا وَقَدْ دَخَلْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ فَقَالَ عَلَى مَكَانِكُمَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي فَقَالَ أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ. [أخرجه البخاري ح (3113)، ومسلم ح (2727)]
- استحضار نية قيام الليل عند النوم:
فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. [أخرجه النسائي ح (1765)]
- قراءة بعض الآيات والسور مثل:
* قراءة آية الكرسي:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَقَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ. [أخرجه البخاري ح (3275)، ومسلم ح (505)]
- قراءة الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة:(/2)
ففي حديث أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ. [أخرجه البخاري ح (4008)، ومسلم ح (807)]
- قراءة قل هو الله أحد والمعوذتين:
ففي حديث عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
- كراهية النوم على سطح غير محجور:
فعَنْ عَلِيٍّ بن شَيْبَانَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : مَنْ بَاتَ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَيْسَ لَهُ حِجَارٌ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ. [أخرجه أبو داود ح (4384) (حجار): ساتر وحاجز كحائط وغيره يمنعه من السقوط.]
2- السنن والآداب القولية والفعلية عند الاستيقاظ:
- ما يقول إذا كان يفزع في منامه:
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا فَزِعَ أَحَدُكُمْ فِي النَّوْمِ، فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ، وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنْ يَحْضُرُونِ. فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ. [أخرجه الترمذي ح (3451)، وقال: حديث حسن غريب]
- ما يقول إذا تعارَّ من الليل أو استيقظ:
عن عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ. [أخرجه البخاري ح (1154)]
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ أَسْتَغْفِرُكَ لِذَنْبِي وَأَسْأَلُكَ رَحْمَتَكَ اللَّهُمَّ زِدْنِي عِلْمًا وَلَا تُزِغْ قَلْبِي بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنِي وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.[أخرجه أبو داود ح (4402)]
- ما يقول إذا قام من الليل يتهجد:
فعن ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَقَوْلُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ لَا إِلَهَ غَيْرُكَ. [أخرجه البخاري ح (1120)، ومسلم ح (769)]
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً ثُمَّ رَقَدَ فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَاسْتَنَّ فَصَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ. [أخرجه البخاري ح (4569)، ومسلم ح (763)](/3)
وعن أبي سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ قَالَتْ كَانَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. [أخرجه أحمد ح (25266)]
- ما يقول إذا رأي رويا في منامه:
فعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّهِ وَالْحُلُمُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ. [أخرجه البخاري ح (3292)، ومسلم ح (2261)]
وعن أبي سَلَمَةَ -رضي الله عنه- قال: لَقَدْ كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا فَتُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ وَأَنَا كُنْتُ لَأَرَى الرُّؤْيَا تُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنْ اللَّهِ فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلَا يُحَدِّثْ بِهِ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَلْيَتْفِلْ ثَلَاثًا وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ. [أخرجه البخاري ح (7044)، ومسلم ح (2261)]
وعَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ ثَلَاثًا وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ. [أخرجه مسلم ح (2262)]
- ما يقول عند القلق في النوم:
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: شَكَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيُّ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَامُ اللَّيْلَ مِنْ الْأَرَقِ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَقُلْ اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظَلَّتْ وَرَبَّ الْأَرَضِينَ وَمَا أَقَلَّتْ وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضَلَّتْ كُنْ لِي جَارًا مِنْ شَرِّ خَلْقِكَ كُلِّهِمْ جَمِيعًا أَنْ يَفْرُطَ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَنْ يَبْغِيَ عَزَّ جَارُكَ وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ. [أخرجه الترمذي ح (3445)، وقال: حديث ليس إسناده بالقوي]
- التسوك إذا قام من الليل:
فعَنْ حُذَيْفَةَ –رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ. [أخرجه البخاري ح (246)، ومسلم ح (255) (يشوص): يدلك أو يغسل أو يحك.]
وعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ لاَ يَرْقُدُ مِنْ لَيْلٍ وَلاَ نَهَارٍ، فَيَسْتَيْقِظُ، إِلاَ تَسَوَّكَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ. [أخرجه أبو داود ح (52)]
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي بِاللَّيْلِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَسْتَاكُ. [أخرجه مسلم ح (256)، وابن ماجه ح (284)، واللفظ له]
عَنْ ابْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ لَا يَنَامُ إِلَّا وَالسِّوَاكُ عِنْدَهُ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ بَدَأَ بِالسِّوَاكِ. [أخرجه أحمد ح (5979)].
- ذكر الله عند الاستيقاظ:
يشرع عند الاستيقاظ من النوم أن يأتي بالأذكار الواردة ومنها ما ورد في الأحاديث الآتية:
* عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ –رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا وَإِذَا قَامَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ. [أخرجه البخاري ح (6312)، ومسلم ح (3339)](/4)
* وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ على كُلَّ عُقْدَةٍ، عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ. [أخرجه البخاري ح (1142)، ومسلم ح (776)]
* وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ. [أخرجه الترمذي ح (3323)]
- غسل اليدين عند الاستيقاظ من النوم وقبل غمسهما في إناء الوضوء:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْثُرْ وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ. [أخرجه البخاري ح (162)، ومسلم ح (237)]
وعَنْ جَابِرٍ –رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ النَّوْمِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَوَضَّأَ، فَلاَ يُدْخِلْ يَدَهُ فِي وَضُوئِهِ حَتَّى يَغْسِلَهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ وَلاَ عَلَى مَا وَضَعَهَا؟ [أخرجه ابن ماجه ح (389)]
- الاستنثار ثلاثا
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشِيمِهِ. [أخرجه البخاري ح (3295)، ومسلم ح (2389)]
- الوضوء والصلاة:
* فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ على كُلَّ عُقْدَةٍ، عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ. [أخرجه البخاري ح (1142)، ومسلم ح (776)]
هذه جملة من الآداب والسنن على المسلم أن يحافظ على ما تيسر منها حتى يتحقق له في نومه الهدوء والطمأنينة والحفظ من الشيطان ومن كل ذي شر، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(/5)
النية وأثرها في العبادات والمعاملات
بقلم / مطرب الحربي
أخي المسلم أعلم رحمك الله : أن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها .
ومعنى أن البدعة لا يتاب منها : أي أن المبتدع الذي يتخذ ديناً لم يشرعه الله ولا رسوله قد زُيِنَ له سوء عمله فرآه حسنا فهو لا يتوب ما دام يراه حسناً لأن التوبة لا تكون إلا عن علم بأن فعله سيئ ليتوب منه ، أو بأنه ترك حسناً مأموراً به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله فمادام يرى فعله حسنا وهي سيئ في نفس الأمر فإنه لا يتوب نسأل الله أن يوفقنا للتوبة النصوح .
واعلم : أن مدار فساد القلوب واستقامتها على أصلين : هما فساد العلم وفساد القصد فإذا فسد العلم والقصد فسد القلب وإذا صلح العلم والقصد صلح القلب فيجب علينا أن نحسن العلم والقصد ونخلص النية لله وحده حتى نحصل على ثمرة علمنا ونصل إلى الهدف المنشود الذي نريده وهو الفوز بالجنة والنجاة من النار ، وحتى لا نقع في مهاوي الطريق ونحن لا نشعر بما وقعنا فيه .
فالإخلاص : هو أن يقصد العبد بعمله رِضَىَ ربه ويرجو ثوابه فلا يقصد غرضا آخر من رئاسة أو جاه أو مال أو غيرها .
* والقصد هو ما عقد عليه القلب وعزم على فعله بدون تردد فالقلب إذا كان عالماً بالحق مريداً للحق مقدماً له على غيره ، فهو القلب الحي الصحيح ، وإذا كان بضد ذلك كله فهو القلب الميت . أما إذا كان شاكاً في الحق مرتاباً فيه فهو القلب المريض ، مرض الشبهات والشكوك ، وإذا كان مريداً للشر ميالاً إلى المعاصي ، فهو المريض مرض الشهوات ، وأما إذا كان القلب فيه غِلاً أو حقداً على الخلق فهو المريض بالغش وعدم النصح [2] ولقد كانت القلوب موضع العناية التامة عند السلف الصالح لأنهم يعلمون أنها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله " .
وذلك لأنها مبدأ الحركات البدنية ، والإرادات النفسانية ، فإن صدرت من القلوب إرادة صالحة تحرك البدن حركة طاعة وإن صدرت عنها إرادة فاسدة تحرك البدن حركة فاسدة فهو كالملك والأعضاء كالرعية ، ولا شك أن الرعية تصلح بصلاح الملك وتفسد بفساده ، وكان واجباً علينا أن نكون كما كان سلفنا في العناية بالقلوب لأن بها سعادتنا بإذن الله وبها شقاءنا .
* وينبغي للعبد في العبادات أن يكون له فيها نية مطلقة عامة ، ونية خاصة مقيدة فأما النية العامة ، فإنه يعقد بقلبه عزماً جازماً لا تردد فيه ، إن جميع ما عمله من الأعمال الاعتقادية والبدينة والمالية والقولية والمركبة من ذلك مقصوده بها وجه الله والتقرب إليه وطلب رضاه واحتساب ثوابه ، والقيام بما فرضه وأحبه الله لعبده وأنه عبد مطلق يتصرف العبد المملوك فهذه النية العامة التي تأتي على عقائد الدين وأخلاقه وأعماله الظاهرة والباطنة ، ينبغي أن يجددها في قلبه كل وقت وحين ، لتقوى وتتم ويكمل الله للعبد ما نقص من عمله ، وما أخل به وأغفله من حقوق العبادات ، لعل الله تعالى أن يجزيه على تلك النية الشاملة للدقيق والجليل من عمله أجراً وثواباً عظيماً .
* ثم بعد تحقيق هذا الأصل الكبير الذي هو أساس الأعمال ، ينبغي للعبد أن يتعبد الله بإخلاص في كل جزء من أعماله ، فيستحضر بقلبه أن يعلمه لله متقرباً به إليه ، راجياً ثوابه من الله وحده ، لم يحمله على ذلك العمل غرض من الأغراض سوى قصد وجه الله وثوابه ، ويسأل ربه تعالى أن يحقق له الإخلاص في كل ما يأتي وما يذر ، وأن يقوي إيمانه ويُخَلِّصه من الشوائب المنقصة ، وبهذه النية الصادقة يجعل الله البركة في أعمال العبد ويكون اليسير منها بنية صالحة أفضل من الكثير الذي بدون نية ثم إذا عرضت له العوارض المنقصات ، كالرياء وإرادة تعظيم الخلق ، فليبادر بالتوبة إلى الله ويصرف قلبه عن هذه العوارض المنقصة لحال العبد التي لا تغني عنه شيئاً ولا تنفعه نفعاً عاجلاً ولا آجلاً .
ثم إذا حقق النية في العبادات ، فليغتنم النية في المباحات والعادات ، وذلك بأمرين :
أحدهما : أن ينوي أن كل مباح يشتغل به من أكل وشرب وكسوة ونوم وراحة وتوابعها يقصد به الاستعانة على طاعة الله والقيام بواجب النفس والأهل والعائلة والمماليك ، ويقول : اللهم ما رزقتني مما أحب من عافية وطعام وشراب ولباس ومسكن وراحة بدن وقلب وسعة رزق ، فإجعل ذلك خيراً لي ومعونة لي على ما تحبه وترضاه ، وإجعل سعيي في تحصيل القوت وتوابعه أداء للأمر وقياماً بالواجب واعترافاً بفضلك ومنتك عليَّ ، فإني أعلم أن الفضل فضلك والخير خيرك وليس لي حول ولا قوة ولا اقتدار على شيء من منافعي ودفع مضاري إلا بك فيتقرب إلى ربه بالاستعانة بالله في ذلك وبالاعتراف بنِعَمِهِ ، ويقصد القيام بالواجب وباحتساب الأجر والثواب ، حتى يتحقق فيه قوله صلى الله عليه وسلم : " إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعله في فيّ امرأتك " .(/1)
ثم مع هذه النية العامة التي تحيط بجميع مباحاته وعاداته فليستحضر عند كل جزء من أجزاء عاداته تلك المقاصد الجليلة ليكون قلبه على الدوام ملتفتاً إلى ربه منيباً إليه خاشعاً له ومعظماً وذاكراً له فى كل الأوقات ، ويكون اشتغاله بذلك الجزء من عاداته مصحوباً بحسن القصد ليتم له الأجر وتحصل له المعونة من الله وينزل الله له البركة ويكون مباركاً أينما كان .
وكذلك إذا باشر حرثه أو صناعته أو مهنته التي يتعاطاها فليتصحب النية الصادقة ، وليستعن بربه في حركاته كلها ويرجو رزقه وبركته ، فإن الرجاء انتظار الفضل من الله من أجل عبادات القلب ، وأكبر الأسباب للبركة هذه النية الصادقة ، مع التوكل على الله.
وليعلم العبد أن الله مسبب الأسباب وميسرها ، فإياك أن تعجب بنفسك وحذقك وذكائك ، فإن هذا هو الهلاك وإنما الكمال أن تخضع لربك وتكون مفتقراً إليه مضطراً إليه على الدوام .
ثم إنه لابد أن تكون الأمور على ما تحب تارة وعلى ما تكره أخرى فإذا جاءتك على ما تحب فأكثر من حمد الله والثناء عليه وشكره لتبقى لك النِعَم وتنمو وتزداد ، وإذا أتتك على ما تكره فوظيفتك الصبر والتسليم والرضا بقضاء الله وتدبيره لتكون غانماً في الحالتين في يسرك وعسرك .
يقول الشاعر :
نفوس البرايا كالمطايا يقودها إذا عودت في كل شيء تطاوع
فنفسك عَودها خصالاً من التقي و علم وآداب لها الزهد رابع
وصبر وشكر والتوكل والسخا و مع ورع فقر به العبد قانع
ومع عزلة ذكر وسابق توبة وخوف وعيد وهو في العفو طامع
وصدق وإخلاص وحسن استقامة و كن راضياً فيما بك الحق صانع
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اجتنابه واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
______________
(1) الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة في العقائد والفنون المتنوعة الفاخرة ص 210،211،245 .
(2) موارد الظمآن لدروس الزمان ص 28 .(/2)
النّعت الأعظم
د. لطف الله بن عبد العظيم خوجه(*) 17/7/1425
02/09/2004
تقوم فلسفة الوسطيّة على فكرة عامة، ذات ثلاثة اتجاهات:
- اتجاهان طرفان، فقدا جميع الخصائص الإيجابيّة للفكرة، أو جلّها، وجمعا الخصائص السلبيّة منها.
- واتجاه وسط بينهما، أخذ جميع الخصائص الإيجابيّة للفكرة، وترك السلبيّة منها(1).
ومنه يتضح أنّ الوسط والطرفين جميعاً يستظلاّن تحت فكرة واحدة، والفرق بينهما في المواقع:
- فالوسط اتخذ المكان الملائم، هو: المنتصف من كلّ الخطوط. واستظلّ بالفكرة من العمق، وقد مكّنه ذلك من رُؤية جميع الجهات والأطراف بوضوح تام واعتدال، وأتاح له التحكّم الأفضل، والاختيار الأحسن.
- وأمّا الطّرفان فاتخذا أمكنة بعيدة، عن الأحرف، فهما يستظلاّن الفكرة من أطرافها، وبذلك هما في خطر الخروج، والدخول في غيرها، كالذي بين الظل والشمس، وهو مقعد الشيطان(2).
وما أشبه الوسطيّة بالواقف على لوح من الخشب المستطيل المنصوب فوق عجلة، فإنْ أراد التوازن فعليه التوجّه نحو الوسط، وأيّ خطأ في الحساب، في أيّ من الاتجاهين، ينتج فقدان التّوازن ومن ثم السّقوط.
والسائرون على الحبال، يحملون في أيديهم عصا طويلة، من وسطها، تعينهم على التوازن وعدم السقوط.
والخيام تُنصب على الأعمدة، وأهمّها العمود الوسط، المتميّز في: حجمه، وشكله، وطوله، ومكانه.
فالوسط في كل شيء هو نقطة التوازن والاعتدال، وبه يكون الثبوت، وبه يُجتنب السقوط.
ويُحكى أنّ نملة وقعت في حلقة ملتهبة، فكانت كلّما اتّجهت ناحية أخذها لهيب النار، فجعلت تختبر كل اتجاه، فحيثما شعرت بالحرارة وهي تتقدّم، تراجعت إلى الوراء، وإذا ما شعرت بالحرارة وهي تتأخّر تقدّمت، وما زالت كذلك من كلّ اتّجاه، حتى استقرّ بها المقام في أبرد نقطة، هي أبعدها عن حرارة اللّهب من كلّ اتجاه..كانت تلك هي نقطة الوسط.
تلك هي سنّة الله تعالى الكونيّة، فالوسط هو العدل، في كلّ شيء، والطّرف هو الجور، في كل شيء.
روى الترمذي عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً... ) [البقرة: من الآية143)، قال: (عدلا).
ولله تعالى سنّة أخرى هي: السنّة الشرعيّة.(...أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ...) [الأعراف: من الآية54]، وهي شريعته وأمره. أحكامها تجري وفق قانون الوسط، كما في السنة الكونيّة تماماً، ففيها تحريض على تحرّي الوسط في كلّ شيء:
- قال تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)(3) [البقرة:238]
- وفي أثر منقطع مرسل: "خير الأمور أوساطها".
وأبلغ من ذلك: جعل الوسط صفة الأمّة. في قوله تعالى:
- قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً...)[البقرة: من الآية143].
فالوسط نعت الأمّة الأعظم، وشعارها الأكبر، ولم يأت في النّصوص وسط بين من و من، بل أُطلق أنّ هذا الدّين وسط، وأهله وسط، فصار هو المقياس للاتّزان والتوازن، والارتكاز ونقطة الجمع، فكلّ ما خرج عنه فهو طرف، وبتعبير القرآن: (على حرف)، وهذه قاعدة كليّة عامة.
فحين نزول الوحي إلى انقطاعه لم يكن ثمّة تطرّف مؤسّس في شكل فرقة أو مذهب، إلا أفراداً لم يجدوا معيناً على الغلوّ، كالمتبتّلين، فتابوا واستقاموا، ثم لما ظهرت المِلل والمذاهب المتطرّفة، أي التي بعدت عن الوسط، صار أهل العلم والإيمان يقولون: أهل السّنة والجماعة وسط بين فرقة كذا وكذا، في القضيّة الفلانيّة.
فأعملوا قاعدة: "كل ما خرج عن نصوص الكتاب والسّنة فهو طرف". فحمَوْا روح الدّين وشريعته.
فلولا أنّ النصوص الشرعيّة تؤسّس للوسط، وتبني أمّة وسطاً، لما بقيت وسطيّة في الأمّة، بعدما ظهرت وانتشرت الفرق والمذاهب الجانحة، فكان من نعمة الله تعالى على هذه الأمّة أنْ جعل شريعتها وسطاً، وحفظ لها هذه الشريعة: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9]، ليحفظ لها وسطيّتها، فلا تضيع بين المحدثات.
وفي كل زمان لا بد من جماعة وطائفة ملتزمة محافظة على هذا الأصل الكبير، ولن تزول أبداّ إلا عند قرب الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من الأمّة على الحق ظاهرين". وتلك بشرى لجميع أهل الإسلام، بحفظ دينهم الوسط، كما هو دون تحريف، وبوجود طائفة تعمل به، وتعلو به ظاهرة على غيرها.
* * *
أسئلة حول الوسطيّة:
(1) قال الله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}، كيف هي شهادة الأمّة على الناس، والنبيّ على الأمّة، وما علاقة الشهادة بالوسطيّة؟.
(2) أين الوسطيّة؟، ومن يمثلها، في هذا الواقع الإسلاميّ، حيث المسلمون متفرقون، كلّ يدعي أنّه الوسط والمقياس؟، وما علامة الوسطيّة؟، وهل في النصوص تحديد للعلامة، وتحديد لمن يمثل الوسطيّة؟.(/1)
(3) هل الوسطيّة تتفق مع الدّعوة إلى السّلام العالمي، والتعايش السّلمي بين الأديان؟.. وكيف يمكن تحقيق الوسطيّة في التعامل مع المخالفين في الملّة، والمخالفين في السّنة؟.
(4) هل من الوسطيّة إلغاء مصطلحات: الإيمان، والكفر.. والولاء والبراء.. والسّنة والبدعة..وحجاب المرأة.. والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر..والجهاد. بأحكامها ومعانيها؟.
(5) هل من الوسطيّة اعتقاد أنّ الحقّ واحد غير متعدد؟.. وأين موقع الوسطيّة في المذهب الذي يقرّر أن الحقيقة نسبيّة متعدّدة، ولا حقيقة مطلقة؟.
(6) هل التطرّف إلى ناحية يبرّر التطرّف إلى الناحية المضادّة؟.. وهل يمكن القضاء على التطرّف بالوسطيّة وحدها، من دون الحاجة إلى تطرّف مضادّ؟.. وهل ثمّة فرق في هذا بين حكم الشريعة وقوانين النفس؟:
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
(1) الوسط يمثل من كل شيء: نقطة المنتصف. فهو إذن من الشيء، وموقعه الوسط، وبمثل هذا قال أهل اللغة:
- قال ابن فارس: "الواو والسين والطاء: بناء صحيح يدل على العدل والنصف. وأعدل الشيء: أوسطه ووسطه. قال تعالى: (أمة وسطا)" [في معجم مقاييس اللغة (6/108)].
- وفي لسان العرب (15/294): " (ومن الناس من يعبد الله على حرف)، أي على شكّ، فهو على طرف من دينه، غير متوسط فيه ولا متمكّن، فلما كان وسط الشيء أفضله وأعدله: جاز أنْ يقع صفة. ومثل ذلك قوله تعالى وتقدس: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)، أي عدلاً. فهذا تفسير الوسط وحقيقة معناه، وأنه اسم لما بين طرفي الشيء، وهو منه".
(2) قال ابن الأثير [النهاية 5/184]: "(خير الأمور أوساطها): في هذا الحديث كل خصلة محمودة لها طرفان مذمومان، فإن السخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والإنسان مأمور أن يتجنب كل وصف مذموم، وتجنبه بالتعري منه، والبعد منه، فكلما ازداد منه بعدا، ازداد منه تعريا، وأبعد الجهات والمقادير والمعاني من كل طرفين وسطهما، هو غاية البعد منهما، فإذا كان في الوسط فقد بعد عن الأطراف بقدر الإمكان". ملحوظة: عند قوله: "تعريا" حصل تصحيف في لسان العرب 15/296 حيث كتب "تقربا".
(3) قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)، أي أمة عدلا، لتشهدوا للأنبياء على أممهم، إذا ادعوا أن أنبياءهم ما بلغوهم، كما في الأثر، وليشهد بعضكم على بعض بعد الموت بالخير والشر: (من أثنيتم عليه خيرا، وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا، وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض) رواه مسلم ، في هذه الآية دليل صحة الإجماع، ووجوب الحكم به؛ لأنهم إذا كانوا عدولا شهدوا على الناس، فكل عصر شهيد على من بعده. ذكره القرطبي 2/156 .(/2)
الهجرة .. طريق الأمل ... ... ...
ها هو العام الهجري الجديد يهل علينا فيجدد ذكرى أعظم هجرة في التاريخ .. هجرة لا لكسب دنيوي، ولا رغبة في متاع زائل، بل لنصرة دين الله تعالى، وإعلاء كلمته، وإفساح المجال لهذه الدعوة الوليدة كي تشرق شمسها على العالم فتبدد الظلمة نوراً، والجهالة حلماً، والتخلف علماً وحضارة.
إن ذكرى الهجرة تعني الصفحة البيضاء والتاريخ المشرق الذي يجب أن تعمل الأمة من خلاله وعلى ضوئه لتصل حاضرها بماضيها وتخط صفحات مستقبلها.
كانت الهجرة نواة تأسيس دولة الإسلام في المدينة المنورة، بعد أن غرس النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في النفوس، وربى رجالاً في أحضان مكة المكرمة طوال ثلاثة عشر عاماً. وكان أول ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم فور وصوله إلى دار هجرته بناء المسجد، ذلك المحضن الطاهر الذي يكفل له الانطلاق بالدعوة إلى آفاق أوسع.
وكانت الهجرة كذلك رمزاً للرفض التام لهذا المجتمع الوثني في مكة مجتمع قريش الغارق في بحار الجهل والظلام، المتعنت في غروره وكبريائه، السادر في غيه وطغيانه.
وقد صورت الهجرة أنقى وأجمل صورة عرفها التاريخ في سبيل نصر العقيدة والحق والفضيلة، وما كان ليتيسر لها ما تيسر من نجاح لولا رعاية الله لها وتوفيقه للمؤمنين المهاجرين، ثم أخذ النبي القائد بالأسباب المادية المتاحة من الاستعداد والتجهيز وحسن التخطيط والتنظيم والإدارة.
من هنا تبقى الهجرة نموذجاً رائعاً وحدثاً جليلاً يحمل دروساً عدة متجددة في الصبر والفداء والتضحية والإيثار والإخاء والشجاعة والعدل والحكمة لكل المسلمين في كل زمان ومكان.
إيذان بأن السيادة للإسلام
كانت الهجرة إيذاناً إسلامياً ربانياً صريحاً، بأن السيادة الكونية للإسلام وأحكامه، لقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذهنه مشروع الدولة الإسلامية التي تعبّد الناس لربهم، وترفع الظلم عن المظلومين، وتقيم العدل في ربوع الأرض.
وقد حققت الهجرة بفضل الله أولاً وآخراً ما كان يسعى إليه النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون، فأمن الناس على أنفسهم وأموالهم، وعبدوا ربهم في وضح النهار، وشاع العدل، وعم الأمن أرجاء الدولة، وكسرت شوكة اليهود الذين عاثوا في الأرض الفساد، وطغوا في البلاد، وعاين المسلمون على أرض الواقع نعمة الأخوة بعد العداء، والوحدة بعد التفرق، والقوة بعد الضعف، والمودة بعد الكراهية: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) (آل عمران - 103).
هجرة.. وهجر
ولئن كان المصطفى صلى الله عليه وسلم قد قال: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استُنفرتم فانفروا"، فإن معنى الحديث أنه لا هجرة من مكة، لأنها صارت دار إسلام، أما الهجرة بمعناها الشامل، فإنها باقية مادامت السموات والأرض، وهي تنقسم إلى نوعين:
النوع الأول: الهجرة المعنوية: وهي الهجرة من الكفر إلى الإسلام، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن البدعة إلى السنة، ولعل هذا هو المقصود الأعظم من حديث النية في قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" (متفق عليه).
والهجرة إلى الله إذن تكون بالإيمان به وتوحيده، وإفراده بالعبادة، واجتناب الشرك صغيره وكبيره، خفيه وجليه، واجتناب المعاصي والآثام، والإكثار من التوبة والاستغفار والعمل الصالح .. كل ذلك وغيره هجرة إلى الله.
أما الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكون باتباع سنته وتحكيمها في الحياة والتحاكم إليها وتقديمها على جميع الآراء والأهواء ونبذ البدع والمحدثات التي ليست من الدين في شيء.
أما النوع الثاني فهو الهجرة الحسية المادية: كالهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام وهجرة (أو هجر) أهل الذنوب والمعاصي، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة مع الثلاثة الذين خلفوا، أو كما قال صلى الله عليه وسلم: "لايحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" قال العلماء: إلا لبدعة أو معصية يجاهر بها.
ومنها كذلك الهجرة من دار المعاصي إلى دار الطاعات، كما فعل الرجل الذي قتل مائة نفس، ثم توجه مهاجراًَ إلى الأرض التي فيها أناس يعبدون الله تعالى.
وكذلك الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ستكون هجرة بعد هجرة .. فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم". (الحديث أخرجه أبوداود بسند حسن).
من رحم المعاناة.. خرج جيل النصر(/1)
كانت الهجرة نقلة نوعية عظيمة وفتحاً كبيراً للإسلام بل تغييراً لوجه الأرض بأكمله، تلك الأرض التي كانت تئن من ظلم الظالمين وجهل الجاهلين، وعبث العابثين وشرك المشركين. كما كانت فرجاً ومخرجاً وعزاً ومنعة للمسلمين، فأصبحوا بعدها أصحاب دار وقرار، وعز وقوة وأمان، وفي ذلك يقول الحق جل وعلا مثنياً على نفسه، ومذكراً الصحابة بهذه النعمة عليهم: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) (الأنفال - 26).
وجيل النصر هذا الذي خرجته الهجرة المباركة مثال حي للمسلم الواعي صاحب الفكر الراسخ والعقل الناضج، والعقيدة المتينة، صاحب المنهج السليم الذي لا يساوم فيه ولا يحيد عنه ولا يتذبذب ولا يروغ عنه روغان الثعلب، بل يقنع ويعتد بمنهجه الأصيل الذي هو كالذهب، لا تزيده الابتلاءات والمتاعب إلا إشراقاً ولمعاناً.
وثيقة تربوية
كما أن حادث الهجرة المباركة وثيقة تربوية مهمة، فحواها أن الإسلام لا يكتفي بالصلاة والصيام ونحوهما من العبادات رغم أهميتها العظمى فيه، حتى إنها عُمده الراسخة ودعائمه القوية، بل يريد من المسلمين مع ذلك أن يقيموا الإسلام عالياً في نفوسهم، وأن يقيموا منهجه وأنظمته وآدابه وفضائله في بيوتهم، وأسواقهم ومحال أعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم، ودواوين حكمهم. مستهدفين الصلاح والإصلاح، وإيجاد المسلم الجدير بحمل رسالة الله، والكفيل بأداء الأمانة التي حملها الله إياها على أكمل وجه (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً (72) ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيماً) (الأحزاب 72- 73).
رمز للإخاء الصادق
أبرزت الهجرة المباركة كثيراً من المعاني السامية وأرست العديد من المبادئ العظيمة، منها مبدأ الإخاء الإسلامي الذي قامت على دعائمه دولة الإسلام.
وقد أثنى الله عز وجل على هذه الصورة الوضيئة الطاهرة من الأخوة الحقة، وصوّر حالة أصحابها ونفسياتهم أروع تصوير، بما يجعل المسلم يفخر بهذه النوعية من البشر التي ربما لا يجود الزمان بمثلها، وهذه القمم السامقة التي تجعل المسلم يحاول الارتقاء إليها، قال سبحانه:( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون (8) والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (الحشر 8-9).
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
ولقد أسقط هذا الإخاء فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتقدم أحد إلا بتقواه، ولا يولى أحد إلا بإيمانه وإخلاصه، وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة واقعاً حياً تنطق به الأعمال، لا لفظاً سطحياً، عملاً يرتبط ببذل الدماء والأموال، لا كلمات تثرثر بها الألسنة، وتتشدق بها الأفواه، ثم تذهب الكلمات أدراج الرياح.
بهذه الوحدة وبتلك الأخوة اتحدت كلمة المسلمين وقويت شوكتهم وارتفعت رايتهم، فسادوا الأمم وفتحوا الممالك وركزوا ألويتهم في قلب آسيا وهامات إفريقيا، وأنحاء أوروبا.. ثم .. لما حادوا وضعفوا ونكصوا وتفرقوا ضاعت مكانتهم وصاروا كالأيتام على موائد اللئام، وتداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.
وإننا في أشد الحاجة إلى استلهام روح الهجرة العاطرة، حتى نرقى ونسعد أنفسنا ونسعد البشرية كلها: ( ويومئذ يفرح المؤمنون (4) بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم (5) وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الروم 4-6).
دروس وعبر
وما أكثر الدروس التي يمكن أن نستفيدها من الهجرة ومنها:
عدم اليأس من بلوغ الأهداف والغايات مهما طال الطريق أو كثرت العقبات، فإن أشد لحظات الليل حلكة تلك التي تسبق الفجر، وإن أشد ساعات المخاض ألماً تلك التي تسبق الوضع. والأمر كله لله تعالى: ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) (آل عمران 26).
لا نصر إلا بصبر وتضحية وبذل. وكم قدم المسلمون الأوائل من تضحيات طوال الثلاثة عشر عاماً حتى تحقق لهم النصر والأمن.
الصدق والوفاء بالعهود والمواثيق ورد الأمانات إلى أهلها، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين خلف علياً ليرد الودائع إلى أهل مكة رغم كل ما فعلوا به وبأصحابه رضوان الله عليهم.
التوكل على الله حق التوكل مع التخطيط الجيد والأخذ بكل الأسباب المادية في الوقت ذاته.(/2)
الثقة التي لا شك فيها في موعود الله تعالى بأن النصر لعباده المتقين في النهاية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لسراقة بن مالك الذي كان يطارده وصاحبه ليظفر بالمكافأة الثمينة التي رصدتها مكة لمن يأتي بخبرهما قال له: " ارجع ولك سوارا كسرى" وتحقق وعد النبي صلى الله عليه وسلم.
الأخوة والمحبة والإيثار ووحدة الصف سر النصر وسبب العزة. قال تعالى:(ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) (الحج - 40).
...(/3)
الهجرة احتفالية التغيير
2006/01/24 ... الدكتور رشاد لاشين**
تهل علينا ذكرى الهجرة النبوية الشريفة كل عام فتهب علينا رياح التغيير العظيمة التي غيرت وجه التاريخ عبر هذا الحدث العظيم الذي يجب أن تكون لنا معه وقفات مهمة لنعيد قراءة واقعنا على أضواء دروسه العظيمة وليكون لنا محطة جديدة للانطلاق نحو تغيير أحوال أمتنا نحو الأفضل وهذا هو سر توفيق الله تعالى لسيدنا عمر بن الخطاب بأن اختار الهجرة النبوية عنوانا للتاريخ الإسلامي وكان أمامه عدة مناسبات قوية يمكن أن يستخدمها للتأريخ مثل غزوة بدر أو فتح مكة أو ميلاد أو بعثة الرسول صلى الله علية وسلم ولكن كان توفيق الله تعالى لاختيار الهجرة حتى تكون محطة للتغيير الدائم لأمة الإسلام عبر السنين وصعودًا نحو المعالي بالهجرة والانتقال من الضعف إلى القوة ومن قهر الضلال وسيطرة الباطل إلى ريادة الإيمان والدور الريادي المنوط بها أصلاً.
مقومات التغيير الناجح من خلال الهجرة
(1) أن يكون هناك هدف عظيم يسعى الجميع من أجل تحقيقه: وهو إعلاء كلمة الله تعالى وهذا ما وضحه لنا القران الكريم في التعقيب على الهجرة (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) التوبة الآية(40)
(2) ومن أهم دعائم التغيير الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة: وكسب الأنصار الجدد وتهيئة الأرض الجديرة بحمل الرسالة, وتمثل هذا في بيعتي العقبة الأولى والثانية وبعث سيدنا مصعب بن عمير لنشر الدعوة في المدينة فكان نشر الدعوة أهم وسائل النجاح وأعظم دعائم البناء الإسلامي
(3) التضحية و تقديم الغالي والنفيس من أجل الفكرة وترك التثاقل إلى الأرض : وتمثل هذا في ترك الأموال والبيوت والديار في مكة المكرمة والذهاب إلى المدينة المنورة فكان الإسلام هو أغلى شئ في حياة المسلمين وكانت النتيجة النصروالتمكين
(4) الاعتصام بالله تعالى: فالاعتصام بالله هو الفرج والمخرج فرسول الله صلى الله علية وسلم يخرج من بيته المحاصر بأربعين رجل لقتلة وهو يقرأ القرآن : (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) يس الآية (9) ولا يخرج سالماً فقط بل ويضع التراب فوق كل الرؤوس وهذا شأن المعتصم بالله الآوى إلى ركنه الركين
(5) تأمين الدعم الاقتصادي وتسهيل وصول الدعم اللوجستي: فأبوبكرالصديق وفر المال اللازم لشراء الراحلتين ودفع أجر الخبيرالطوبوغرافي
,وأسماء بنت أبى بكر كانت توصل الطعام واختيارها كإمرأة تتحرك بسهولة لا يتعرض لها العرب بطبيعتهم سهَّل وصول الدعم اللوجستى لرسول الله صلى الله علية وسلم وصاحبه في رحلة الهجرة
(6) - التخطيط الجيد والعمل المنظم: وتمثل هذا في الآتي:-
1- تامين حياة أفراد الأمة : فتأخير هجرة رسول الله صلى الله علية وسلم والأمر بخروج الأفراد سرًا وفرادى حتى لا يعلم أحد مقصودهم الجديد فينقضوا عليهم جميعا فيه تأمين لخروجهم
2- خروج الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت غير معهودٍ الخروج فيه: وقت الظهيرة واشتداد الحر في رمضاء مكة
3- استئجار خبير في الطوبوغرافيا ( عبد الله بن أريقط ): حتى لا يسير في طريق معهود فيسهل الإمساك بهم
4- استخدام الإخفاء والتمويه: وهو أحد وسائل الحرب الحديثة وتمثل في الآتي :-
أ- مبيت سيدنا على مكان الرسول حتى يظلوا ينتظرون خروجه وذلك في المرحلة الأولى حتى يتمكن من الخروج من مكة
ب- عامر بن فهيرة يسير بقطيع من الغنم خلفهم لتغطية الآثار حتى لا يستطيع أحد أن يقتفى أثرهم
ج-البقاء في الغار ثلاثة أيام في الوقت الذي تنتشر فيه قوى الشر في كل مكان للبحث عنهم
د- تغيير اتجاه المسير فبدلا من الانطلاق في اتجاه الشمال وهو التفكير المنطقي لمن يريد الملاحقة يتجهون إلى الجنوب أولاً حيث لا يخطر ذلك ببال أحد
(7)توزيع الأدوار :
أ - الكبار يوفرون الدعم المادي للمساندة والصحبة
ب- الشباب والفتيان يقومون بالأعمال الفدائية والاستخباراتية
ج- المرأة تقوم بالدعم اللوجستى
د- باقي الأفراد يهيئون الدولة والأرض الجديدة ويرتبون احتفالية الاستقلال : ( طلع البدر علينا من ثنيات الوداع )(/1)
(8)الشجاعة والقوة في الحق وتحدي الباطل وعدم الاستكانة إليه: وتمثل ذلك في موقف سيدنا عمر بن الخطاب وبطولته العظيمة حين صعد على الجبل وأعلن هجرته حتى يعلم الظالمين درساً في قوة الحق وأن المسلمين لم يهاجروا خوفاً ولا جبناً ولكن هاجروا من أجل مصلحة الدعوة ولبناء دولة الإسلام في أرض جديدة وكانت هذه رسالة لابد من توصيلها في موقف سيدنا عمر بن الخطاب
(9) رعاية جميع الحقوق حتى حقوق الأعداء: وتمثل ذلك في مقام سيدنا عليّ في مكة لتوصيل الأمانات إلى أهلها وهم الكافرون أعداء الدعوة
(10)الفدائية : يحتاج التغيير إلى شباب فدائي على استعداد لتقديم روحة فداء لدعوة الله وتمثل هذا في مبيت سيدنا على في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقف يعرضه للقتل على يد أربعين رجلاً متربصين بالخارج
(11)استشعار معية الله لإنقاذ الأمة في أحلك الأوقات: في لحظة من لحظات الإحساس بقرب سيطرة الأعداء وبطشهم بالأمة وقضائهم عليها واستئصالهم لشأفتها ( لو نظر احدهم تحت قدميه لرآنا ) وتأتى النجاة باستشعار معية الله (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا)
(12) الاستطلاع الجيد والمخابرات النشطة الفاعلة: وتمثل هذا في تكليف عبد الله بن أبى بكر الغلام الصغير أن يعمل ( ضابط مخابرات ) لحساب رسول الله صلى الله علية وسلم فهو صغير يجلس في وسط القوم فلا يعملون له حساب ويتكلمون بما يريدون وينقل هو كل خططهم لرسول الله صلى الله علية وسلم ولسهولة حركته أيضاً كغلام لا يلتفت له احد فهو يجلس معهم طوال النهار وينطلق في الليل إلى رسول الله صلى الله علية وسلم جهاز مخابرات ذكى ونشط وفاعل ولا يخطر على بال أحد
(13) نفوس قوية لا يصيبها الحزن ولا يعتريها الإحباط :مهما كانت قوة الأعداء ومهما اختلت موازين القوى الظاهرة فمعية الله أقوى من أى قوة وتأييد الله بجنود غير مرئية تلقى في قلوب المؤمنين الهدوء والسكينة والثقة والطمأنينة بحتمية نصر الله (فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا)
(14) الأمل في نصر الله : (ارجع ولك سواري كسرى) كمن يقول الآن( ارجع عن محاربة المسلمين ولك البيت الأبيض) كلام يقوله رسول الله لسراقة وهو خارج مطارد تطلبه قوى الشر في كل مكان
استكمال طريق الهجرة
طريق الهجرة دائم مستمر عبر نهج رسمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قطعت أمتنا بعض الأشواط في طريق هجرتها ولكن الأمر ما زال يحتاج إلى جهود كبيرة وأشواط كثيرة حتى نكمل طريق الهجرة ويمتثل ذلك فيما يأتى :-
(1) الجهاد والنية : فلا يكتمل طريق الهجرة بدون النية الصالحة لبناء الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والأمة بأكملها ونجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى
ولا يكتمل طريق الهجرة بدون جهاد النفس والشيطان ومقاومة المادية وأصحاب الأهواء الذين يضيعون الأمة وكذلك محاربة المحتلين أعداء الأمة الذين يستذلونها وبذلك نحقق حديث رسول الله صلى الله علية وسلم : ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية )
(2) هجر ما نهى الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه«. (رواه البخاري) وفي رواية (ابن حبان): »المهاجر من هجر السيئات، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده«. هيا نهجر السيئات .. هيا نهجر كل ما نهى الله عنه في كل الميادين و على كل المستويات بدءً بالفرد وانتهاءً بالأمة فتهجر الأمة معاصيها الكبيرة المتمثلة في الآتي على سبيل المثال :
1- الاحتلال وتدنيس الأراضى ومقدسات المسلمين من قبل الأعداء
2 - التخلف عن ركب العلم والحضارة وكونها في وسط ما يسمى بالعالم الثالث
3 - التفرق و التشرذم وعدم اتحاد الكلمة
(3) الأخذ بمقومات التغيير لإصلاح شأن الأمة : وخاصة الاهتمام بنشر دعوة الإسلام عبر وسائل الإعلام فدعوتنا تحتاج إلى الابتكار وتكريس الجهود لتوصيل الفكرة بأسلوب راقٍ ومتميز عن طريق الفضائيات والإنترنت وبشتى لغات العالم فنقدم رسالة الرحمة والإنسانية لكل أمم الأرض.
ومع استمرار الجهود واحتفالنا بالهجرة كل عام عبر التغيير والارتقاء بشأن أمتنا وهجرها لأوضاعها غير السلمية في شئون الدنيا والآخرة سيحدث التغيير المنشود ويأتي النصر المؤزر المبين بإذن الله .
(4) تحقيق العبادة هجرة إلى الله تعالى :
هيا نأخذ بيد أمتنا إلى عبادة الله تعالى فنقيم الفرائض وننشر الفضائل ونحقق العبادة بمعناها الشامل الذي يتناول مظاهر الحياة جميعاً
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن معقل بن يسار :" العبادة في الهرج كهجرة إلى"
________________________________________
** الدكتور رشاد محمد عبد الحليم لاشين - ماجستير طب الأطفال - جامعة الزقازيق وليسانس الشريعة الإسلامية، ويمكنك التواصل معه على البريد الإلكتروني: rashadlasheen@hotmail.com(/2)
الهجرة النبوية والدروس التربوية والدعوية
محمد عبد الله السمان 30/12/1426
30/01/2006
لا جدال في أن الهجرة النبوية ـ على صاحبها أفضل صلاة وأكمل تسليم ـ تمثل مرحلة من أهم مراحل الدولة الإسلامية وأخطرها. فهي مرحلة انتقالية لإثبات وجودها سياسياً وعقائدياً؛ فالمرحلة المكية على مسار ثلاثة عشر عاماً، كانت لإثبات العقيدة.. بل وتثبيتها في أذهان أتبعاها، من ناحية ـ ومن ناحية أخرى ـ لتعرية عقيدة الجاهلية ـ وبضدها تُعرف الأشياء ـ كما يقولون.
أضف إلى ذلك أن المرحلة المكية، كان لا بد منها، لصقل إيمان أتباعها، ليكونوا نواة المستقبل للدولة الإسلامية، وكانت توجيهات القرآن، وتوجيهات الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه- للنواة الأولى من أتباع الدعوة، تقوم على أساس الثقة في الله ـ عز وجل ـ والنصيحة في مواجهة ما يلحقهم من أذى بالغ من الضراوة والشراسة، ولعلنا نلمس ذلك من موقف لا نكاد نذكره. حيث كان رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يمر على آل ياسر وهم يُعذّبون، فيقول لهم: "صبراً آل ياسر.. فإن موعدكم الجنة"، واستجابوا، وكانت أم عمار أول شهيدة في الإسلام. وفي صحيح البخاري عن خباب بن الأرت ـ رضي الله عنه ـ قال: "شكونا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ـ فقلنا: "ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟." فقال: "قد كان مَن قبلكم يُؤخذ الرجل، فيحفرون له في الأرض، فيُجعل فيها.. ثم يُؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه.. والله ليُتمنّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"!
إن إرادة الله ـ عز وجل ـ اقتضت أن يكون الإسلام ديناً، يصحح مسار العقول التي حادت عن الطريق السويّ، ويصحح مسار الحياة البشرية التي شملتها الفوضى، بعد أن تحوّلت إلى غابة شاسعة، يفترس القوي فيها الضعيف، وأن يكون الإسلام دولة، تقيم العدل بعد أن اختلت موازينه، وتؤازر الحق، بعد أن أصبح مضغة في أفواه الباطل، فالعالم يومئذ تحكمه إمبراطوريتان، إحداهما صليبية تنكبت مبادئ المسيحية، والأخرى وثنية تمتهن العقل، أعني إمبراطوريتي: فارس والروم، وبذلك يكون الإسلام بدولته ضرورة لإنقاذ البشرية من الوحل، وكانت الهجرة البشرية هي البداية لإقامة دولته.
يرى الشيخ محمود شلتوت ـ شيخ الأزهر الأسبق ـ في دراسته:"الإسلام والوجود الدولي للمسلمين" العدد الثالث من "سلسلة الثقافة الإسلامية" التي كنت أصدرتها (1958 ـ 1965 )! أن حادثة الهجرة، كانت نقطة تحوّل في تاريخ البناء الإسلامي، لتقوم فوق الأرض الجديدة ـ يثرب ـ دولة ذات منهج ونظام وهدف، والهجرة من الأحداث الفذة التي كانت تمهيداً لتثبيت البناء الإسلامي، وميلاد دولة داخل إطار من القوة، وبذلك أصبحت (الهجرة) من الأحداث الإسلامية الكبرى التي يجب أن تحمل العظمة في نفس كل مسلم.
ويضيف الشيخ: "وقد عُني المؤرخون كثيراً ـ وهم يتكلمون على هذا الحدث ـ بذكر حوادث الإيذاء التي كانت تتصل بالرسول وأصحابه الذين لبّوا دعوته، ومن هنا ألبسه أرباب الهوى الخاص ـ وهم يكتبون سيرة (النبي العربي) ـ ثوب الفرار وعدم الصبر والاحتمال في القيام برسالته، ولم يتورّعوا ـ إمعاناً فيما يشتهون ـ أن يلصقوا كلمة (النبي الفار) وقد ظنوا أن هذا الثوب المهلهل الذي خلعوه على هذا الحادث العظيم، يستطيع أن يستر الحقيقة التي يحملها بين جنبيه، والتي لم تلبث ـ بعد الوصول إلى المدينة، أن سطع نورها، وانتشر أريجها، وبدأت الغشاوة التي وضعها الجهل على العقل البشري حيناً من الدهر، والواقع أن هذه الهجرة (البدنية) لم تكن إلا أثراً من آثار هجرة القلوب، عما كان عليه القوم من عقائد فاسدة، وشرائع باطلة، وعقائد وتقاليد، كان لها في هدم الإنسانية، ما ليس للمعاول القوية في تقويض البناء الشامخ العنيد" .
وأقول: إن الهجرة كانت لتأكيد علمية الإسلام، وهي حقيقة حاول بعض المستشرقين ذوي الأهواء أن يطمسوها، متجاهلين ما أقره القرآن ـ كتاب الله ـ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ـ وقد تصدى عملاق الأدب الأستاذ العقاد لقوله تعالى:( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا...).[الشورى: من الآية7] لتنذر أم القرى ومن حولها، يقول:"وأياً كان القول في اللغة التي تكلم بها النبي، وفي صلاح هذه اللغة للدعوة العالمية، فإن النوع الإنساني يشمل أم القرى (مكة) وما حولها، ولا تعتبر هداية أهلها عزلاً لهم عمن عداهم من الناس؛ إذ كان خطاب الناس كافة يمنع أن يكون الخطاب مقصوراً على (أم القرى) ومن حولها، ولكن خطابه (أم القرى) ومن حولها، لا يمنع أن يعم الناس أجمعين..(/1)
فكيف يسيغ العقل أن يكون صاحب الدعوة المحمدية ـ خاتم النبيين ـ إذا كانت رسالته مقصورة على قوم لم يأتهم من قبل نذير؟! إن طائفة من المستشرقين تسيغ ما لا يسيغه العقل في أمر القرآن وأمر الإسلام".
ظهر حديثاً للشيخ عبد الجواد أحمد عبد المولى-الإمام والخطيب والمدرس بالأوقاف ـ كتاب يحمل عنوان "الدروس التربوية الدعوية من الهجرة النبوية" في زهاء مائتي صفحة من القطع الكبير، أشار في المقدمة إلى أن ما أراده من كتابه: دعوة للتفكر والتدبر، لبعض صفحات التاريخ الإسلامي، وبخاصة تاريخ الرسول وجهاده في هجرته، لنتعرف على سنن الله في خلقه، وسننه في أرضه، وسنن الله الثابتة لا تقبل تبديلاً ولا تحويلاً، والهجرة تبين لنا كيف أخذ المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بالأسباب الأرضية، وتوكل ـ في نفس الوقت ـ على الله، ولا تضادّ بينهما ـ وقد تعامل سلف هذه الأمة مع السنن الكونية، فسادوا العالم، ولم يع الخلف هذا المعنى، مما جعل الأمة اليوم في حال يُرثى لها ..
وما عرض له المؤلف:
ـ الهجرة النبوية المحمدية لم تكن بدعة، بل سنة قديمة، فقد هاجر من أنبياء الله: إبراهيم ولوط وموسى عليهم السلام.
ـ أسباب الهجرة: ذكر المؤلف الأسباب التقليدية التي سجلتها كتب السيرة، وكنت أود أن يهتم بمسألة ذات أهمية خاصة، وهي أن الهجرة كانت استجابة لأمر الله، ولم تكن مجرد خاطرة خطرت على بال الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فراراً من الأذى، فالله ـ عز جل ـ هو الذي قدر بعد أن حققت الدعوة أهدافها في مكة التي لم تكن تصلح لإقامة دولة .
ـ عوامل نجاح الهجرة: وضوح الهدف، المعرفة، اختيار الوقت المناسب، ولعامل التوقيت أهمية متنامية في عملية التخطيط، القدرة على مواجهة الظروف المتغيرة، إخلاص القائمين على التنفيذ، التهيئة والإعداد النفسي، ونسي المؤلف: عناية الله، وهي الأساس وفوق كل شيء.
ـ مظاهر نجاح الهجرة: خسرت قريش موازين القوى التي توارثتها على مدى قرون وزال عنها سلطانها، لم تعد قريش حاجزا في وجه الدعوة الإسلامية، إذا أسقطت الهجرة هيبتها من نفوس المستضعفين الخائفين..
ذكر المؤلف في شجاعة أن الكتاب: جمع وإعداد، وليس تأليفاً، وهذا يعفيه من النقد، ويُحمد له، أن قدم لنا معاني كانت في حاجة إلى التحليل، الذي خلت منه بعض كتب التراث التي اهتمت بسرد الأحداث، لكنها حفظت لنا أهم حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية. إن الهجرة حفلت بالكثير من المؤلفات عدا ما دونته كتب السيرة قديماً وحديثاً، وهذا ما جعل مهمة من يكتب عن الهجرة شاقة؛ إذ لا بد من أن يضيف جديداً، ونجح المؤلف جهد استطاعته.
ويُؤخذ على هذه الدراسة: أن المؤلف خرج على الموضوع الأساسي أحياناً، صحيح أن ما زاده تضمن معاني جديرة بالاهتمام، كذلك كنا نود أن يربط الهجرة النبوية بالمعاصر، وقد أصبحت الأمة المسلمة التي أرادها الله خير أمة أخرجت للناس ـ عاجزة حتى عن الدفاع في مواجهة التحديات الشرسة، وذلك بعد أن كانت رأساً، و أصبحت تابعاً بعد أن كانت متبوعاً، وبقي أن نقول: إن المؤلف بذل جهداً كبيراً وشاقاً، وقدم لنا دراسة معاصرة يحتاجها الشباب قبل الشيوخ.
وبقي سؤال يطرح نفسه، وفي أسى مرير: أين اليوم من الهجرة التي لم تكن نقطة تحول في تاريخ دعوة المسلمين ـ وحسب ـ بل كذلك أرادها الله ـ عز وجل ـ منهجاً ومعنى وبرنامج عمل للمسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ودرساً يجب أن يعيه المسلم في كل زمان ومكان.. فهل يليق بنا ألاّ نذكر الهجرة إلا أياماً معدودات في كل عام: أحاديث ومقالات يغلب عليها التكرار شبه الممل، ثم ننساها بعد ذلك؟
وحسبنا هنا أن نتوقف عند قضية لها أهميتها، أعني قضية ـ أو محنة ـ الأقليات المسلمة في شتى بقاع المعمورة، والعديد من هذه الأقليات تُشن عليها حروب إبادة شرسة، كما في الفلبين وبورما وتايلاند، وغيرها، إن كتاب الله تعالى كتب علينا الجهاد من أجل إخوة لنا في العقيدة مستضعفين في الأرض، وفي سورة النساء ـ :( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً). [النساء:75]. ولا جدال في أن الجهاد هنا فرض عين لا فرض كفاية، وإذا كان عقد الأمة الإسلامية اليوم قد انفرط، ولم يكن للدولة الإسلامية وجود.. نملك السلاح لا لنقاتل به الأعداء، بل ليقاتل به المسلم أخاه المسلم. دونما اعتبار لتحذير الرسول لنا في خطبة الوداع:"لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" وقوله في الصحيح المتفق عليه: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه".(/2)
أقول إذا كنا عاجزين عن الجهاد المسلح، فلماذا لا نلجأ إلى سلاح آخر: جهاد المقاطعة، وهو سلاح له خطورته، وإذا كان هذا السلاح تقرر بالنسبة للثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك وهم مسلمون، فمن باب أولى المعتدون على إخواننا من غير المسلمين، والمفاجأة التي ترتجّ لها السماوات السبع. هي أننا أصبحنا أصدقاء لأعدائنا، نمنحهم الولاء، ضاربين عرض الحائط بقوله تعالى محذراً في سورة المائدة :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ). [المائدة:51-52]. وأخيراً.. وليس آخراً: فليتنا نعي اليوم كلمات الشيخ شلتوت ـ رحمه الله-: "كانت الهجرة من بين الأحداث كلها جديرة أن تتجه إليها الأنظار، ويُتّخذ منها مبدأ للتاريخ الإسلامي، ليكون للمسلمين من ذكراها في كل عام، ومن التوقيت بها في مكاتباتهم وعقودهم وأحداثهم العامة والخاصة درس متصل الحلقات، يساير حياتهم كلها". ولله الأمر من قبل ومن بعد.(/3)
الهجرة النبوية
الشيخ / سامح قنديل
بعد أن تمت بيعة العقبة الثانية ، ونجح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة ، عاد الأنصار إلى المدينة ينتظرون هجرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهم بتلهف كبير . وأذن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمسلمين بالهجرة إلى هذا الوطن ، الذي اختاره الله مهجراً لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم .
ولم تكن الهجرة مجرد التخلص من إيذاء المشركين أو الفرار من الفتنة في الدين ، بل كانت كذلك إيذاناً بميلاد دولة الإسلام ، وإقامة مجتمع التوحيد الذي تهفوا إليه نفوس المؤمنين .
وإذا كان امتحان المسلمين قبل الهجرة متمثلاً في الإيذاء والتعذيب وتحمل ألوان السخرية والاستهزاء والتكذيب فإن الهجرة كانت تمثل امتحاناً ليس أقل ضراوة ، حيث سيترك المهاجر الأوطان والديار والقرابات والأموال ، والأصحاب والذكريات ، بل سيغامر بنفسه وربما فقدها في أثناء الطريق ، فقد سعت قريش بشتى الطرق إلى عرقلة الهجرة أمام المهاجرين ، مرة بحجز أموالهم ومنعهم من حملها ، ومرة بحجز زوجاتهم وأطفالهم ، وثالثة بالاحتيال لإعادتهم إلى مكة ، لكن شيئاً من ذلك كله ، لم يعق موكب الهجرة ، فالمهاجرون كانوا على أتم استعداد للانخلاع من أموالهم وأهليهم ودنياهم كلها تلبية لنداء العقيدة ، ونصرة لدين الله وتأسيساً وإقامة لمجتمع الإيمان .
لقد ضرب المسلمون بهجرتهم أروع أمثلة التضحية من أجل الدين ، فهذه أم سلمة تحكي قصة هجرتها مع زوجها وابنها ، وهم أول أهل بيت هاجر ، فلما رآه أصهاره مرتحلاً بأهله قالوا : هذه نفسك غلبتنا عليها ! أرأيت صاحبتنا هذه ؟ علام نتركك تسير بها في البلاد فأخذوا منه زوجته ! ، وغضب آل أبي سلمة لصاحبهم فقالوا : لا و الله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا ! وتجاذبوا الغلام بينهم حتى خلعوا يده ! وانطلق أبو سلمة مهاجراً وحده إلى المدينة ، وحبست أم سلمة عند قومها وذهب قوم أبي سلمة بالولد ! قالت : ففُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني ! فكنت أخرج كل غداة بالأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي ، سنة أو قريبا منها حتى مر بي رجل من بني عمي فرحمني ، فقال لقومه ألا تخرجون هذه المسكينة ، فرَقتم بينها وبين زوجها وولدها ؟ فقالوا لي الحقي بزوجك إن شئت ، فاسترجعت ابنها من أعمامه ، وارتحلت بعيرها ، فخرجت بولدها تريد المدينة ما معها من أحد من خلق الله . وفي الطريق لقيها عثمان بن طلحة ، وكان مشركاً فأخذته مروءة العرب ونخوتهم فقال : ما لهذه من متْرَك فانطلق بها يقودها إلى المدينة ، كلما نزل منزلاً استأخر عنها مروءة . كما قال صاحبه الجاهلي :
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مثواها
فلما وصل قباء قال : زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله ثم انصرف رجعاً إلى مكة . فكانت أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ تقول : و الله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة . وما رأيت صاحباً قط أكرم من عثمان بن طلحة .
قصة هجرة عجيبة ، وأعجب منها موقف ذلك المشرك الذي صاحب هذه المرأة المسلمة التي ليست على دينه ليوصلها ، وأحسن معاملتها ، وغض بصره عنها طيلة خمسمائة من الكيلو مترات قطعها في أيام ، ثم عاد إلى مكة دون راحة . فأي مروءة ، وأي شهامة يتعلمها شباب المسلمون الآن من رجل كافر ملك نفسه وملك إرادته ، وغض بصره ، إنها سلامة الفطرة التي قادته أخيراً إلى الإسلام بعد صلح الحديبية .
ولعل إضاءة قلبه بدأت منذ تلك الرحلة مع المرأة المسلمة .
ومن الصور المضيئة لتضحيات المهاجرين ـ رضي الله عنهم : هجرة صهيب ـ رضي الله عنه ـ فإنه لما أراد الهجرة قال له كفار قريش : أتيتنا صعلوكاً حقيراً فكثر مالك عندنا ، وبلغت الذي بلغت ، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك ! و الله لا يكون ذلك ! فقال لهم صهيب : أرأيتم إن جعلت لكم مالي ، أتخلون سبيلي ؟ قالوا نعم ! قال : فإني قد جعلت لكم مالي . فبلغ ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : ربح صهيب .
وهكذا أخذ المهاجرون يتركون مكة تباعاً ، حتى كادت تخلوا من المسلمين ، وشعرت قريش أن الإسلام أضحت له دار يأرز إليها ، وحصن يحتمي به ، فتوجست خيفة من عواقب هذه المرحلة الخطيرة في دعوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهاجت في دمائها غرائز السبع المفترس حين يخاف على حياته فقررت قتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للقضاء على الدعوة التي أقلقت مضاجعهم . فأخبر الله رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكرهم { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله ُ وَ الله ُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } … (الأنفال:30) .(/1)
وأذن الله لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالهجرة ، فجاء منزل أبي بكر نحو الظهيرة ، وقد اشتد الحر في وقت لا يخرج فيه أحد عادة . لقد عرف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن قريشاً ترصده فأراد أن يأخذ حذره ، وعندما أُخبر أبو بكر بقدومه في هذا الوقت ، عرف أن الأمر خطير ، ولما أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا بكر أن الله أذن له في الخروج ، قال : الصحبة يا رسول الله ؟ قال : الصحبة ! تقول عائشة : فو الله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكي ! ووضع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطة الهجرة مراعياً ما يمكنه من أسباب دون تواكل على النصر الموعود .
فقد اتفق مع أبي بكر على الخروج ليلاً إلى غار ثور . ومن جهة غير الجهة المعتادة التي يذهب الناس إلى المدينة منها ، وأن يمكثا في الغار ثلاثة أيام حتى يخف الطلب عنهما . واستأجرا دليلاً ماهراً بمسالك الصحراء ليقودهما إلى المدينة ، وقد استأمنه مع كونه مشركا ، ودفعا إليه راحلتيهما اللتين كان أعدهما أبو بكر لذلك . لكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبى إلا أن يدفع ثمن راحلته كي يبذل في الهجرة من ماله كما يبذل من نفسه ! وزودتهما أسماء بالطعام .
وكان عبد الله ابن أبي بكر يتسمع لما يقوله الناس بالنهار ثم يخبرهما في الليل ، فيعفى عامر بن فهيرة على آثار قدميه بأن يروح بغنمه عليها . كما أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علياً أن يبيت في فراشه . ومع روعة التخطيط البشري واستفراغ الواسع ، وأخذ الحيطة البالغة ، إلا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان ليركن إلى الأسباب ، وإنما كان واثقاً بربه ، متوكلاً عليه ، موقناً بحسن تدبيره لنبيه ، ونصرته لدينه ، فحينما وجد فوارس قريش ، وقصاص الأثر في طلب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وانتشروا في الجبال والوديان ، وصل بعضهم إلى فم الغار ، حتى رأى الصديق أقدامهم ، فخاف على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن مستقبل الأمة متعلق به ، فقال : يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ رأسه لرآنا فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر : ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ ! وقد أثنى الله على ذلك اليقين والتوكل التام بقوله : { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ الله َ مَعَنَا } ... (التوبة: من الآية40) .
ومن عظيم توكله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكمال يقينه ما جرى مع سراقة بن مالك ، الذي علم أن قريشاً جعلت مائة ناقة لمن يدل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حياً أو ميتاً فتتبعهما بفرسه حتى دنا منهما ، وكان أبو بكر يكثر الالتفاف خوفاً على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإشفاقاً على الأمة أن تصاب في نبيها ، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثابتاً لا يلتفت ، ولم يزد على أن قال لما علم بقرب سراقة : الله م اصرعه ! فاستجاب الله له ، فساخت قدما فرسه في الأرض . وعلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ممنوع ، وأنه ظاهر ، فطلب منه أن يكتب له كتاب أمان ، وعرض على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المساعدة ، فقال أخف عنا ! ، فأصبح أول النهار جاهداً عليهما ، وأمسى آخره حارساً لهما .
وواصل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحلته إلى المدينة . وتعددت مظاهر عناية الله له . وظهرت دلائل بركته . واشتد شوق أهل المدينة إليه لما علموا بخروجه . فكانوا ينتظرونه كل يوم ، ولا يرجعون حتى يشتد الحر ، فلما شرفت المدينة بمقدمه ، لم يفرح الناس بشيء فرحهم برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى جعلت النساء والصبيان والإماء يقولون : جاء رسول الله ، جاء رسول الله .
ونزل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أخواله من بني النجار ، وعمت الفرحة أرجاء يثرب التي تغير فيها كل شيء منذ ذلك اليوم ، حتى اسمها ، إنها الآن المدينة المنورة ، مدينة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحتى سكانها ، إنهم الآن أنصار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذين { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ... (الحشر: من الآية9)(/2)
الهجرة دروس وفوائد 1/2
محمد بن إبراهيم الحمد 1/3/1426
10/04/2005
لقد بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بدعوة تملأ القلوب نوراً، وتُشْرِقُ بها العقول رُشداً، فسابق إلى قبولها رجال عقلاء، ونساء فاضلات، وصبيان لا زالوا على فطرة الله، وبقيت سائرة في شيء من الخفاء، وكفارُ قريش لا يلقون لهم بالاً، حتى أخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم -يقرع بها الأسماع في المجامع، ويحذر من عبادة الأصنام، ويسفِّه أحلام من يعبدونها، فكان ذلك مثيراً لغيظ المشركين، وحافزاً لهم على مناوأة هذه الدعوة، والصد عن سبيلها، فوجدوا في أيديهم وسيلة، هي أن يفتنوا المؤمنين، ويسوموهم سوء العذاب؛ حتى يعودوا إلى ظلمات الشرك، وحتى يُرْهبوا غيرهم ممن تحدثهم نفوسهم بالدخول في دين القَيِّمة.
أما المسلمون فمنهم من كانت له قوة من نحو عشيرة أو حلفاء يكُفُّوُن عنه كل يد تمتد إليه بأذى.
ومنهم المستضعفون وهؤلاء هم الذين وصلت إليهم أيدي المشركين وبلغوا من تعذيبهم كل مبلغ.
ومن هؤلاء من يناله العذاب من أقرب الناس إليه نسباً.
ولما رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ما يقاسيه أصحابه من البلاء وليس في استطاعته يومئذ حمايتهم أذن لهم في الهجرة للحبشة وقال: (إن بها ملكاً لا يُظلم الناس عنده، فلو خرجتم إليه حتى يجعل الله لكم فرجاً).
فكان ذلك بداية الهجرة، ثم بعد ذلك بدأت الهجرة للمدينة، حيث هاجر من هاجر من الصحابة، ثم تبعهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم -.
هذا هو سبب الهجرة، أما سبب التأريخ بها، فقد كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب كتاباً يقول فيه:(إنه يأتينا منك كتبٌ ليس لها تاريخ)، فجمع عمر الناس يستطلع رأيهم فيما يكون به التاريخ، فقال بعضهم:(أرِّخ بالمبعث )، وقال بعضهم: ( أرِّخ بالهجرة).
فقال عمر - رضي الله عنه -:(الهجرة فرقت بين الحق والباطل؛ فأرِّخوا بها ).
وهذه إشارة إلى المزية التي استحقت بها الهجرة أن تكون مبدأ التاريخ العام؛ حيث أقبل الناس بعدها إلى الإسلام جهرة لا يخشون إلا رب العالمين.
الدروس المستفادة من الهجرة
يستفاد من الهجرة الشريفة دروس عظيمة، ويستخلص منها فوائد جمة، ويُلْحظ فيها حكم باهرة، يُفيد منها الأفراد، وتُفيد منها الأمة بعامة، وذلك في شتى مجالات الحياة، ومن تلك الدروس والفوائد والحكم ما يلي:
1- ضرورة الجمع بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب: فالتوكل في لسان الشرع يراد به توجه القلب إلى الله حال العمل، واستمداد المعونة منه، والاعتماد عليه وحده؛ فذلك سر التوكل وحقيقته، والذي يحقق التوكل هو القيام بالأسباب المأمور بها؛ فمن عطلها لم يصحَّ توكله؛ فلم يكن التوكل داعية إلى البطالة أو الإقلال من العمل، بل لقد كان له الأثر العظيم في إقدام عظماء الرجال على جلائل الأعمال التي يسبق إلى ظنونهم أن استطاعتهم وما لديهم من الأعمال الحاضرة يَقْصُران عن إدراكها؛ ذلك أن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد ودفع المكروه، بل هو أقواها؛ فاعتماد القلب على الله-عز وجل-يستأصل جراثيم اليأس، ويجتث منابت الكسل، ويشد ظهر الأمل الذي يلج به الساعي أغوار البحار العميقة، ويقارع به السباع الضارية في فلواتها.
هذا ولرسول الله-عليه الصلاة والسلام-القِدْحُ المُعلَّى، والنصيب الأوفى من هذا المعنى؛ فلا يُعْرَفُ بَشَرٌ أحق بنصر الله، وأجدر بتأييده من هذا الرسول الذي لاقى في جنب الله ما لاقى، ومع ذلك فإن استحقاق التأييد الأعلى لا يعني التفريط قيد أنملة في استجماع أسبابه وتوفير وسائله.
ومن ثم فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -أحكم خطة هجرته، وأعد لكل فرض عُدَّتَه، ولم يدع في حسبانه مكاناً للحظوظ العمياء، ثم توكل بعد ذلك على من بيده ملكوت كل شيء.
وكثيرًا ما يرتب الإنسان مقدمات النصر ترتيباً حسناً، ثم يجيء عَوْنٌ أعلى يجعل هذا النصر مضاعف الثمار.
ولقد جرت هجرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم -من مكة إلى المدينة على هذا الغرار؛ فقد استبقى معه أبا بكر وعلياً-رضي الله عنهما ، وأذن لسائر المؤمنين بتقدمه إلى المدينة، فأما أبو بكر فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال له حين استأذنه؛ ليهاجر:(لا تعجل؛ لعل الله أن يجعل لك صاحباً).
وأحس أبو بكر بأن الرسول- صلى الله عليه وسلم -يعني نفسه بهذا الرّد، فابتاع راحلتين، فحبسهما في داره يعلفهما، إعداداً لذلك الأمر.
أما عليٌ فقد هيّأهُ الرسول- صلى الله عليه وسلم -لدور خاص يؤديه في هذه المغامرة المحفوفة بالأخطار، ألا وهي مبيت علي في مكان النبي- صلى الله عليه وسلم -إذا أراد الخروج إلى المدينة.
ويلاحظ أن النبي- صلى الله عليه وسلم -كتم أسرار مسيره؛ فلم يطلع عليها إلا من لهم صلة ماسة، ولم يتوسع في إطْلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم.(/1)
ثم إنه استأجر خبيراً بطريق الصحراء؛ ليستعين بخبرته على مغالبة المُطَالِبين، وهو عبد الله بن أُريقط الليثي، وكان هادياً ماهراً بالطريق، وكان على دين قومه قريش، فَأَمَّناه على ذلك، وسلَّما إليه راحلتيهما، وواعداه في غار ثور بعد ثلاث. ومع هذه الأسباب لم يتكل عليها النبي- صلى الله عليه وسلم -بل كان قلبه متعلقاً بالله-عزّ وجل-فجاءه التوفيق والمدد والعون من الله.
ويشهد لذلك أنه لما أبقى علياً - رضي الله عنه - ليبيت في مضجعه، وهمَّ بالخروج من منزله الذي يحيط به المشركون، وتقطعت أسباب النصر الظاهرة، ولم يبق من سبب إلا سنةُ تأييد الله الخفية - أخذ حصيات ورمى بها وجوه المشركين؛ فأدبروا.
وكذلك الحال لما كان في الغار، ففي الصحيحين أن أبا بكر- رضي الله عنه -قال: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال:(يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن؛ فإن الله معنا ).
والدرس المستفاد من هذه الناحية هو أن الأمة التي تريد أن تخرج من تيهها، وتنهض من كبوتها لا بُدّ أن تأخذ بأسباب النجاة وعُدَد النهوض، ثم تنطوي قلوبها على سراج من التوكل على الله، وأعظم التوكل على الله، التوكل عليه-عز وجل-في طلب الهداية، وتجريد التوحيد، ومتابعة الرسول، وجهاد أهل الباطل، وحصول ما يحبه الله ويرضاه من الإيمان، واليقين، والعلم، والدعوة؛ فهذا توكل الرسل، وخاصة أتباعهم.
وما اقترن العزم الصحيح بالتوكل على من بيده ملكوت كل شيء إلا كانت العاقبة رشداً وفلاحاً [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ] آل عمران: 159.
وما جمع قوم بين الأخذ بالأسباب وقوة التوكل على الله إلا أحرزوا الكفاية لأن يعيشوا أعزة سعداء.
2- ضرورة الإخلاص، والسلامة من الأغراض الشخصية: فالإخلاص روح العظمة، وقطب مدارها، والإخلاص يرفع شأن الأعمال حتى تكون مراقي للفلاح، والإخلاص يجعل في عزم الرجل متانة، فيسير حتى يبلغ الغاية.
ولولا الإخلاص يضعه الله في قلوب زاكيات لحُرم الناس من مشروعات عظيمة تقف دونها عقبات.
ومن مآخذ العبرة في قصة الهجرة أن الداعي إلى الإصلاح متى أوتي حكمة بالغة، وإخلاصًا نقيَّاً، وعزماً صارماً هَيَّأَ الله لدعوته بيئة طيّبة فتقبُلها، وزيَّنها في قلوب قوم لم يلبثوا أن يسيروا بها، ويطرقوا بها الآذان، فَتُسِيغها الفطرُ السليمةُ، والعقول التي تقدّر الحُجج الرائعة حق قدرها.
وهكذا كان- صلى الله عليه وسلم -فلم يرد بدعوته إلا الإخلاص لله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور؛ فكان متجرداً من حظوظ النفس ورغائبها؛ فما كان-صلوات الله وسلامه عليه-خاملاً؛ فيطلب بهذه الدعوة نباهة شأن ووجاهة؛ فإن في شرف أسرته، وبلاغة منطقه، وكرم خلقه ما يكفيه لأن يحرز في قوم الزعامة لو شاء.
وما كان مُقِلاً حريصاً على بسطة العيش؛ فيبغي بهذه الدعوة ثراءً؛ فإن عيشه يوم كان الذهب يصب في مسجده رُكاماً لا يختلف عن عيشه يوم كان يلاقي في سبيل الدعوة أذىً كثيراً.
ثم إن الهجرة كان دليلاً على الإخلاص والتفاني في سبيل العقيدة؛ فقد فارق المهاجرون وطنهم، ومالهم، وأهليهم، ومعارفهم؛ إجابة لنداء الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم -.
وهذا درس عظيم يفيد منه المسلمون فائدة عظمى وهي أن الإخلاص هو السبب الأعظم لنيل المآرب التي تعود على الأفراد والأمة بالخير.
3- الاعتدال حال السراء والضراء: فيوم خرج-عليه الصلاة والسلام-من مكة مكرهاً لم يخنع، ولم يذل، ولم يفقد ثقته بربِّه.
ولما فتح الله عليه ما فتح، وأقر عينه بعز الإسلام، وظهور المسلمين لم يَطِشْ زهواً، ولم يتعاظم تيهاً؛ فعيشته يوم كان في مكة يلاقي الأذى ويوم أخرج منها كارهاً كعيشته يوم دخل مكة ظافراً، وكعيشته يوم أظلت رايته البلاد العربية، وأطلَّت على ممالك قيصر ناحية تبوك.
وتواضعه وزهده بعد فتح مكة وغيرها كحاله يوم كان يدعو وحيداً وسفهاء الأحلام في مكة يضحكون منه، ويسخرون.
كُلاً بلوتُ فلا النعماء تُبطرني *** ولا تَخَشَّعتُ من لأوائها جزعاً
والدرس المستفاد من هذا المعنى واضح جلي؛ إذ الأمة تمر بأحوال ضعف، وأحوال قوة، وأحوال فقر، وأحوال غنى؛ فعليها لزوم الاعتدال في شتى الأحوال؛ فلا تبطرها النعماء، ولا تُقَنِّطها البأساء، وكذلك الحال بالنسبة للأفراد.
4- اليقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين: فالذي ينظر في الهجرة بادئ الرأي يظن أن الدعوة إلى زوال، واضمحلال.
ولكن الهجرة في حقيقتها تعطي درساً واضحاً في أن العاقبة للتقوى وللمتقين.
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يعلِّم بسيرته المجاهدَ في سبيل الحق أن يثبت في وجه أشياع الباطل، ولا يَهَنَ في دفاعهم، وتقويم عِوَجِهم، ولا يَهُولُه أن تقبل الأيام عليهم، فيشتدَّ بأسهم، ويُجْلِبوا بخيلهم ورجالهم؛ فقد يكون للباطل جولة، ولأشياعه صولة، أما العاقبة فإنما هي للذين صبروا والذين هم مصلحون.(/2)
فلقد هاجر-عليه الصلاة والسلام-من مكة في سواد الليل مختفياً وأهلها يحملون له العداوة والبغضاء، ويسعون سعيهم للوصول إلى قتله، والخلاص من دعوته، ثم دخل المدينة في بياض النهار مُتَجلِّياً وقد استقبله المهاجرون والأنصار بقلوب ملئت سروراً بمقدمه، وابتهاجاً بلقائه، وصاروا يتنافسون في الاحتفاء به، والقرب من مجلسه، وقد هيئوا أنفسهم لفدائه بكل ما يعز عليهم، وأصبح-عليه الصلاة والسلام-كما قال أبو قيس صرمة الأنصاري:
ثوى بقريش بضع عشرة حجة *** يذكر لو يلقى حبيبا مواتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه*** فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا
فلما أتانا واستقر به النوى***وأصبح مسروراً بطيبة راضيا
وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم*** بعيد ولا يخشى من الناس باغيا
بذلنا له الأموال من حلِّ مالنا***وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم***جميعاً ولو كان الحبيب المصافيا
ونعلم أن الله لا رب غيره *** وأن كتاب الله أصبح هاديا
5- ثبات أهل الإيمان في المواقف الحرجة: ويبدو ذلك في جواب النبي- صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر- رضي الله عنه -تطميناً له على قلقه:( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
فهذا مثال من أمثلة الصدق والثبات، والثقة بالله، والاتكال عليه عند الشدائد، وهو دليل واضح على صدق الرسول، ودعوى النبوة؛ فهو في أشد المآزق حرجاً ومع ذلك تبدو عليه أمارات الاطمئنان، وأن الله لن يتخلى عنه في تلك الساعات الحرجة.
تُرى هل يصدر مثل هذا الاطمئنان عن مُدَّعٍ للنبوة ؟ ففي مثل هذه الحالات يبدو الفرق واضحاً بين أهل الصدق وأهل الكذب، فأولئك تفيض قلوبهم دائماً وأبداً بالرضا عن الله، والثقة بنصره، وهؤلاء يتهاوون عند المخاوف، وينهارون عند الشدائد، ثم لا تجد لهم من الله ولياً ولا نصيراً.
6- أن من حفظ الله حفظه الله: ويؤخذ هذا المعنى من حال زعماء قريش عندما ائتمروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليعتقلوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه قال-تعالى : [ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ] الأنفال: 30.
فأجمعوا بعد تداول الرأي على أن يطلقوا سيوفهم تخوض في دمه الطاهر، فأوحى الله إلى رسوله ما أوحى، فحثا في وجوههم التراب، وبارح مكة من حيث لا تراه أعينهم.
وهذا درس عظيم، وسُنَّةٌ ماضية في أنَّ مَنْ حفظ الله حفظه الله، والحفظُ من الله شامل، وأعظم ما في ذلك أن يُحْفَظَ الإنسان في دينه ودعوته، وهذا الحفظ-أيضاً-يشمل حفظ البدن، وليس بالضرورة أن يُعصَمَ؛ فلا يُخلَصَ إليه البتة؛ فقد يصاب؛ لترفع درجاته، وتقال عثراته، ولكن الشأن كل الشأن في حفظ الدين والدعوة.
7- أن النصر مع الصبر: فقد قضى-عليه الصلاة والسلام-في سبيل دعوته في مكة ثلاثة عشر حولاً وهو يلاقي نفوساً طاغيةً، وألسنة ساخرة، وربما لقي أيدياً باطشة.
كان هَيِّناً على الله أن يصرف عنه الأذى جملة، ولكنها سنة الابتلاء يؤخذ بها الرسول الأكرم؛ ليستبين صبره، ويعظم عند الله أجره، وليتعلم دعاة الإصلاح كيف يقتحمون الشدائد، ويصبرون على ما يلاقون من الأذى صغيراً كان أم كبيراً.
8- ظهور المواقف البطولية: فالنبي- صلى الله عليه وسلم -تنتهي إليه الشجاعة بأسرها، ومن مواقفه البطولية ما كان من أمر الهجرة وذلك لما اجتمعت عليه قريش ورمته عن قوس واحدة، وأجمعت على قتله، والقضاء على دعوته، فما كان منه إلا أن قابل تلك الخطوب بجأشٍ رابط، وجبين طَلْقٍ، وعزم لا يلتوي.
ولاحت نجومٌ للثريا كأنها ***جبين رسول الله إذ شاهد الزحفا
ولقد كان ذلك دَأْبَهُ-عليه الصلاة والسلام-فلم تكن تأخذه رهبة من أشياع الباطل وإن كثر عددهم، بل كان يلاقيهم بالفئات القليلة ويفوز عليهم فوزاً عظيماً، وكان يقابل الأعداء بوجهه، ولا يوليهم ظهره وإن تزلزل جنده، وانصرفوا جميعاً من حوله.
وكان يتقدم في الحرب حتى يكون موقفه أقرب موقف من العدو، وإذا اتقدت جمرة الحرب، واشتدّ لهبها أوى إليه الناس، واحتموا بظله الشريف؛ فلم يكن يتوارى من الموت، أو يُقَطِّب عند لقائه؛ كيف وهو يتيقن أن موتَه هو انتقال من حياة مخلوطة بالمتاعب والمكاره إلى حياة أصفى لذة، وأهنأ راحةً، وأبقى نعيماً ؟
ولقد كان لهذه المواقف البطولية الرائعة موضع قدوة لأصحابه ومن جاء بعدهم؛ فحقيق على الأمة التي تريد العزة، والرفعة، والسعادة أن تكون على درجة من الشجاعة؛ حتى تقر بها أعينُ حلفائها، ويكون لها مكانة مهيبة في صدور أعدائها.
وحقيق على علماء الإسلام وزعمائه أن يقتدوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أدب الشجاعة التي هي الإقدام في حكمة؛ فقد جرت سنة الله على أن الحق لا يمحق الباطل، وأن الإصلاح لا يدرأ الفساد إلا أن يقيض الله لهما رجالاً يؤثرون الموت في جهاد على الحياة في غير جهاد.
الهجرة دروس وفوائد 2/2(/3)
محمد بن إبراهيم الحمد 5/3/1426
14/04/2005
9- الحاجة إلى الحلم، وملاقاة الإساءة بالإحسان: فلما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة قبل الهجرة كان يلقى من الطُّغاة، والطَّغام أذىً كثيراً، فيضرب عنه صفحاً، أو عفواً؛ فما عاقب أحداً مسَّه بأذى، ولا أغلظ له في القول، بل كان يلاقي الإساءة بالإحسان، والغلظة بالرفق.
ومما يجلِّي هذا المعنى ما كان منه-عليه الصلاة والسلام-لما عاد إلى مكة ظافراً فاتحاً حيث تمكن ممن كانوا يؤذونه بصنوف الأذى فقال لهم: (ما تظنون أني فاعل بكم؟).
قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
فهذا دأبه وديدنه، يعفو ويصفح، ويدفع السيئة بالحسنة إلا أن يتعدى الشر، فيلقي في وجه الدعوة حجراً، أو يحدث في نظام الأمة خللاً؛ فَلِرَسول الله- صلى الله عليه وسلم - يومئذ شأنه الذي يقول فيه: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
فالانتصار- إذا ً- ليس للنفس، ولا للحرص على الحياة.
وإنما هو انتصار للحق، وغضب لحرمات الله-عز وجل .
وما الحسام الذي يأمر بانتضائه للجهاد في سبيل الله إلا كمبضع طبيب ناصح يشرط جسم العليل؛ لينزِف دمه الفاسد، أو ليستأصل منه أذى متمكناً؛ حرصاً على سلامته.
فهذه السيرة ترشد رئيس القوم والداعية والعالم أن يوسع صدره لمن يناقشه، ويجادله ولو صاغ أقواله في غِلَظٍ وجفاء؛ فسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي التي علمت معاوية- رضي الله عنه -أن يقول:(والله لا أحمل سيفي على من لا سيف له، فإن لم يكن من أحدكم سوى كلمة يقولها؛ ليشتفي بها فإني أجعل له ذلك دبر أذني، وتحت قدمي).
ويقول:(لا أحمل سيفي ما كفاني سوطي، ولا أحمل سوطي ما كفاني مقولي).
10- استبانة أثر الإيمان: فلما تنفس الإسلام في بطاح مكة اعتنقه فريق من ذوي العقول السليمة، وما لبث عُبَّاد الأوثان يؤذونهم في أنفسهم، ويأبون أن يقيموا شعائر دينهم.
ولما كان أولئك المسلمون على إيمان أجلى من القمر يتلألأ في سماء صاحية تَحَمَّلُوا الأذى في صبر وأناة، وكانت مظاهر أولئك الطغاة حقيرة في أعينهم؛ منبوذة وراء ظهورهم حتى أذن الله لهم بالهجرة.
وكذلك الإيمان تخالط بشاشتهُ القلوبَ؛ فيخلق من الضعف عزماً، ومن الخمول نهوضاً، ومن الذلة عِزّّاً، ومن البَطالة نشاطاً، ومن الشحِّ كرماً وبذلاً.
وهذا الأثر يعطي درساً عظيماً وهو أن الإيمان يصنع المعجزات، ويأتي بأطيب الثمرات.
وهذا بدوره يدفع أولي الأمر وأهل العلم أن يبذلوا قصارى جُهْدِهم في سبيل تعليمِ الأمةِ أمرَ دينها وقيادتها - ولو بالسلاسل - إلى دعوة الإيمان والهدى؛ كي تعود لها عزتها السالفة، وأمجادها الغابرة.
11- انتشار الإسلام وقوته: وهذا من فوائد الهجرة؛ فلقد كان الحق بمكة مغموراً بشغب الباطل، وكان أهل الحق في بلاء من أهل الباطل شديد.
والهجرة كانت من أعظم الأسباب التي رفعت صوت الحق على صخب الباطل، وخلَّصت أهل الحق من ذلك البلاء الجائر، وأورثتهم حياة عزيزة، ومقاماً كريماً.
وإذا كانت البعثة مبدأ الدعوة إلى الحق فإن الهجرة مبدأ ظهوره والعمل به في حالتي السر والعلانية.
ولا يبلغ قول الحق غايته، ويأتي بفائدته كاملة إلا أن يصبح عملاً قائماً، وسيرة متَّبعة؛ فالهجرة راشت جناح الإسلام، فذهب يحلق في الآفاق؛ ليمحوا آية الضلالة، ويجعل آية الهداية مبصرة قال- تعالى -: [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا] التوبة: 40.
فإنك تجد الآية الكريمة تَذْكُر شيئاً من أمر الهجرة النبوية، وتعد من جملة النعم الجليلة المترتبة عليها جَعْل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا.
علت كلمة الله حقا، وإنما علت على كاهل تلك الدولة التي قامت بين لابتي المدينة، وبسطت سلطاناً لا تستطيع يد المخالفين أن تمسه من قريب ولا من بعيد.
12- أن من ترك شيئا لله عوضه الله خيراً منه: فلما ترك المهاجرون ديارهم، وأهليهم، وأموالهم التي هي أحب شيء إليهم - أعاضهم الله بأن فتح عليهم الدنيا، وملَّكهم شرقها وغربها.
وفي هذا درس عظيم وهو أن الله-عز وجل-شكور كريم، ولا يضيع أجر من أحسن عملاً؛ فمن ترك شيئاً لأجله عوضه خيراً منه، والعِوَض من الله أنواع، وأجلّ ما يُعوِّض به الإنسان أن يُرْزَقَ محبة الله-عز وجل-وطمأنينة القلب بذكره، وقوة الإقبال عليه؛ فحري بأهل الإسلام أن يُضحُّوا في سبيل الله، وأن يقدموا محبوبات الله على محبوبات نفوسهم؛ ليفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.(/4)
13- قيام الحكومة الإسلامية: فمن حسنات الهجرة النبوية تلك الأحكام المدنية، والنظم القضائية والأصول السياسية؛ فإنها كانت تنزل بالمدينة حيث أصبح المسلمون في كثرة، وصاروا من المَنَعة بحيث يأخذونها بقوة، ويقومون على إجرائها يوم تنزل والناس يشهدون.
ولو كان آخر عهد الوحي يشبه أوَّله لم يزد الإسلام على أن يكون دعوة إلى عقائد وأخلاق وشيء من العبادات؛ فالهجرة هيأت للإسلام أن تكون له حكومة ذات سلطان غالب، وكلمة فوق كل كلمة، والهجرة مكنت الحكومة الإسلامية أن تقضي بشرع الله الحكيم.
وبالسلطان الغالب يُقْهَر الأعداء، وبالشرع الحكيم يعيش الناس بأمن وسعادة.
وكذلك كان شأن النبي- صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة، فقد كان من القوة والمَنَعة وتأييد الله له أن أصبحت الجزيرة العربية في بضع سنين طوعَ يمينه، وموضعَ نفاذِ أمره، وأصبحت الأمة - بما شرعه الله من أحكام المعاملات والجنايات، وبما أنار به النفوس من الحكم السامية - تتمتع بسياسة عادلة، وحياة زاهرة.
والدرس المستفاد من هذا أن الأمة لا يمكن أن يكون لها سيادة ومنعة إلا إذا حكمت بشرع الله، ونبذت كل ما يخالفه ظهرياً، فإذا ما التمست العزة والسيادة من زبالات أهل الأرض، واستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير-فلن تدرك عِزَّاً ولا فلاحاً، والواقع خير شاهد على ما ذُكر.
14- قيام المجتمع المسلم: فالمسلمون لا يعدون أنفسهم يعيشون في بلد إسلامي إلا إذا ساد نظام الإسلام بلدهم، وقامت به أحكامه وآدابه كما تقوم به شعائره، وتسود عقائده.
وإذا تعذر على المسلمين إقامة أحكام دينهم، وتأييد أنظمته الاجتماعية، وآدابه الخلقية-وجب عليهم الانتقال إلى البلد الذي يُعمل فيه بأحكام الإسلام وآدابه؛ تكثيراً لسواد المسلمين، وإعزازاً لأمر الدين، واستعداداً لنصره وتأييده في العالمين.
وإذا لم يكن للمسلمين بلد تتوافر فيه هذه الشروط وجب عليهم أن يجتمعوا في بقعة صالحة يقيمون فيها نظام الإسلام حسب استطاعتهم.
فهذه من أعظم حكم الهجرة والبواعث عليها؛ فإذا نشأت النفوس تحت جناح نظام يقيم أحكام الإسلام، ويحمي دعوته، ويحمل على آدابه-كانت قوة للإسلام تعمل على رفعته، وتوسيع دائرته.
أما إذا نشأت تحت جناح يخالف الإسلام، ولا يُربِّي الأمة على آدابه فإن قوتها تكون معطلة عن تأييد الإسلام، وتعميم هدايته.
15- اجتماع كلمة العرب، وارتفاع شأنهم: فالهجرة-كما مكَّنت للدعوة وإقامة المجتمع والدولة-مكنت لجمع الكلمة؛ فكلمة التوحيد أساس توحيد الكلمة؛ فأمةالعرب كانت متفرقة متشاكسة، فأصبحت متحدة متآلفة، وكانت مَهيضَةَ الجناح تنظر إليها الأمم بعين الازدراء فأصبحت مكرمة مهيبة الجناب، تفتح البلاد، وتضرب على هذه الأمم بسلطانها الكريم.
وكانت في ظلمات الجهل فأصبحت في نور من العلم، دون أن يُجْلَب إليها من بلاد أجنبية، وإنما كان ذلك من مِشكاة النبوة؛ إذ كان-عليه الصلاة والسلام-يلقي عليها الحكمةَ بنفسه، ويزكيها بما يتحلى به، أو يدعو إليه من صفات الشرف والحمد.
ويستفاد من هذا أن أمة الإسلام ذات منهج رباني كفيل بجمع الكلمة، وإحراز السعادة في الدنيا والآخرة، بل لا يوجد منهج يكفل ذلك غيره.
16- التنبيه على فضل المهاجرين والأنصار: فمن بركات الهجرة على المهاجرين أنهم كانوا يلاقون في مكة أذىً كثيراً، فأصبحوا بعد الهجرة في أمن وسلامة، ثم إن الهجرة ألبستهم ثوب عزة بعد أن كانوا مستضعفين، ورفعت منازلهم عند الله درجات، وجعلت لهم لسان صدق في الآخرين، وقد سمى الله-تعالى-الصحابة الذين فروا بدينهم إلى المدينة بالمهاجرين، وصار هذا اللقب أشرف لقب يُدْعَون به بعد الإيمان.
ومن بركات الهجرة على أهل المدينة من آووا ونصروا أنْ علا شأنهم، وبرزت مكانتهم، واستحقوا لقب الأنصار الذي استوجبوا به الثناء من رب العالمين.
17- ظهور مزية المدين: فالمدينة لم تكن معروفة قبل الإسلام بشيء من الفضل على غيرها من البلاد، وإنما أحرزت فضلها بهجرة النبي- صلى الله عليه وسلم -وأصحابه المسلمين بحق، وبهجرة الوحي معهم إلى ربوعها، حتى أكمل الله لهم الدين، وأتم عليهم النعمة؛ وبهذا ظهرت مزايا المدينة ظهوراً بيِّناً، فَأُفْرِدت المصنفات بذكر فضائلها، ومزاياها.
18- سلامة التربية النبوية: فقد دلت الهجرة على سلامة التربية النبوية للصحابة، فقد صاروا-رضي الله عنهم-مؤهلين للاستخلاف في الأرض، وتحكيم شرع الله، والقيام بأمره، والجهاد في سبيله.
ولقد كان من أثر الهجرة أن الصحابة؛ لاستقامتهم وكمال آدابهم وصدق لهجاتهم-يعرضون الإسلام في أقوم مثال، وأمثل صورة.
ولقد شهد بذلك الفضلِ الأعداءُ، يقول الإمام مالك-رحمه الله- : (بلغني أن نصارى الشام لما رأوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: والله لهؤلاء خير من حواريِّيْ عيسى-عليه السلام).
وفي هذا درس عظيم وهو أن التربية الحقة القائمة على العقيدة الصحيحة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.(/5)
19- التنبيه على عظم دور المسجد في الأمة: فأول عمل قام به النبي- صلى الله عليه وسلم - فور وصوله إلى المدينة، هو بناؤه المسجد؛ لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المسلم برب العالمين، وتنقي قلبه من أدران الأرض.
ولقد تم بناء المسجد في حدود البساطة؛ ففراشه الرمال والحصباء، وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع.
وربما أمطرت السماء فأوحلت أرضه، وقد تَفْلُتُ الكلاب إليه، فتغدو وتروح فيه.
هذا البناء المتواضع هو الذي تَرَبَّى فيه ملائكة البشر، ومؤدبوا الجبابرة، وفاتحوا البلاد والقلوب، وفي هذا المسجد أذِنَ الرحمنُ للنبي- صلى الله عليه وسلم -أن يؤم بالقرآن خِيْرَةَ أمته، فيتعهدهم بأدب السماء من غَبِش الفجر إلى غسق الليل.
إن مكانة المسجد في المجتمع المسلم تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي، فهو ساحة العبادة، وميدان العلم، ومنطلق الجهاد؛ فحري بالأمة أن تعلم دور المسجد، وأن تَقْدُره حق قدره.
20- عظم دور المرأة في البناء والدعوة: ويتجلى ذلك من خلال الدور الذي قامت به عائشة، وأختها أسماء-رضي الله عنهما-حيث كانتا نعم المعين والناصر في أمر الهجرة؛ فلم يُخَذِّلا أباهما مع علمهما بخطر المغامرة التي سيقوم بها، بل لقد كان دورهما أعظم من ذلك؛ حيث حفظتا سر الرّحلة، وجهزتا ما تحتاجه الرحلة تجهيزاً كاملاً، ولقد قطعت أسماء قطعة من نطاقها، فأوكت به الجراب، وقطعت الأخرى وصيَّرتها عصاماً لَفَمِ القِرْبة، فلذلك سميت ذات النطاقين.
وفي هذا الموقف ما يثبت حاجة الدعوة إلى النساء، فهن أرق عاطفة، وأسمح نفساً، وأطيب قلباً.
ثم إن المرأة إذا صلحت أصلحت زوجها، وبيتها وأبناءها، وإخوتها، فينشأ جيل مُؤْثِرٌ للعفة والخلق والطهارة.
وفي هذا-أيضاً-درس للمرأة المسلمة وهو أن تبذل وسعها في سبيل نشر الخير، ونصرة الحق، وأن تكون معينة لزوجها ووالدها وإخوانها وأبناءها على الدعوة إلى الله ولو أدى ذلك إلى حرمانها من بعض حقوقها؛ فمصلحة الأمة أهم، وما عند الله خير وأبقى.
21- عظم دور الشباب في نصرة الحق: ويتجلى ذلك في ما قام به علي بن أبي طالب- رضي الله عنه -عندما نام في مضجع النبي- صلى الله عليه وسلم -عندما همَّ بالهجرة؛ فضرب أروع الأمثلة في الشجاعة والبطولة.
وكذلك ما قام به عبد الله بن أبي بكر؛ فقد أمره والده أن يتسمع ما تقوله قريش في الرسول وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك من أخبار، وأمر أبو بكر عامر بن فهيرة – مولاه - أن يرعى غنمه نهاره، ثم يُرِيْحَها إذا أمسى في الغار، فكان عبد الله بن أبي بكر في قريش يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن الرسول وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى ويقص عليهما ما علم، وكان عامر في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر، فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبد الله من عندهما إلى مكة أتبع عامر أثره بالغنم يُعَفِّي عليه، وتلك هي الحيطة البالغة.
ففي موقف عبد الله بن أبي بكر ما يثبت أثر الشباب في نجاح الدعوة ونصرة الإسلام.
وإذا تأملت السيرة رأيت أن أكثر الصحابة كانوا من الشباب الذين حملوا لواء الدعوة، واستعذبوا من أجلها الموت والعذاب.
وهذا درس عظيم يبين لنا أن الشباب هم عماد الأمة، وإذا وجهوا وجهة صحيحة على نهج الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، ثم أُعْلِيت هِمَمَهُم، ورفعوا عن سفاسف الأمور-كانوا مشاعل هدى، ومصابيح دجى.
22- حصول الأُخوَّة وذوبان العصبيات: فمن أعظم حسنات الهجرة ما قام به الرسول-عليه الصلاة والسلام-من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ومعنى هذا ذوبان عصبيات الجاهلية، فلا حمِيَّة إلا للإسلام، ولا ولاء إلا له، فتسقط بذلك فوارق النسب، واللون، والجنس، والتراب؛ فلا يتأخر أحد، ولا يتقدم إلا بتقواه ومروءته.
وقد جعل الرسول- صلى الله عليه وسلم -هذه الأخوة عَقْداً نافذاً، لا لفظاً فارغاً، وعملاً يرتبط بالدماء والأموال، لا تحيةً تثرثر بها الألسنة، ولا يقوم بها أثر.
وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال.
ولقد حرص الأنصار، على الحفاوة بإخوانهم المهاجرين؛ فما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة.
ولقد قدَّر المهاجرون هذا البذل الخالص؛ فما استغلوه، ولا نالوا منه إلا بقدر ما يتوجهون به إلى العمل الحر الشريف.
ولا يخفى ما لهذا الإخاء من دورٍ في البناء والرقي والتعاون.
ويستفاد من هذا الدرس أن الأمة الإسلامية لا بُدَّ أن تجتمع على أخوة الإسلام، وعلى كتاب الله وسنة رسوله، ونهج الأسلاف الكرام، وإلا أصبحت مفككة متناثرة لا يُهاب جنابها، ولا تُسمع كلمتُها.(/6)
23- إصلاح العقائد الباطلة والسلوك المنحرف، والتربية على العقيدة الصحيحة والأخلاق الحميدة: فلقد كان العالم يتخبط في ظلمات بعضها فوق بعض: ظلمة من الجهل، وظلمة من دناسة الأخلاق، وظلمة من منكر الأعمال، فبعث الله المصطفى- صلى الله عليه وسلم -ليخرج الناس من هذه الظلمات إلى نور يسعى بين أيديهم في الحياة الأولى، ويهديهم إلى السعادة في الحياة الأخرى؛ فلقد أتى النبي- صلى الله عليه وسلم -بكتاب عظيم مُصلحٍ للعقائد والأخلاق والأعمال، ومنظم لجميع شؤون الحياة، فَتَدَبَّرَتْهُ فئة قليلة واتخذته قائدَها المطاعَ، فكانت خير أمة جاهدت في الله وانتصرت، وغلب فرحمت، وحكمت فعدلت، وساست فأطلقت الحرية من عقالها، وفجرت ينابيع المعارف بعد نضوبها.
واسألوا التاريخ؛ فإن هذه الأمة قد استودعته من مآثرها الغُرِّ ما بَصُرَ بضوئه الأعمى، وازدهر في الأرض ازدهار الكواكب في كبد السماء، فلقد جاهد المصطفى- صلى الله عليه وسلم -الجَهْلَ، وشرُّ الجهل عدمُ معرفة مبدع الكائنات وتركُ التوجه إليه بشتى القربات، وجاهد الأخلاق الرذيلة؛ فكرَّه للنفوس الجزع، والجبن، والبخل، والصَّغار، والكبر، والقسوة، والأثرة، وعلَّمها الصبر، فهان عليها كل عسير، وعلَّمها الشجاعة؛ فحقُرَ أمامها كلُّ خطير، وعلمها الكرم؛ فجادت في سبيل الخير بكل نفيس، وعلمها العزة؛ فسمت إلى كل مقام مجيد، وعلمها التواضع فتألَّفت كلَّ ذي قلب سليم، وعلمها الرّحمةَ، والرّحمةُ رباط التآزر والتعاون على تكاليف الحياة، وعلمها الإيثَار، والإيثارُ من أقصى ما يبلغه الإنسان من مراتب الجود.
فهذا الدين أحدث تحولاً عاماً في حياة الفرد والجماعة، بحيث تغير سلوك الأفراد اليومي، وعاداتهم المتأصلة كما تغيرت نظرتهم إلى الكون والحياة والحكم على الأشياء.
وهذه المعاني إنما تجلت أعظم التجلي بعد الهجرة النبوية الشريفة المباركة.
ونحن اليوم محتاجون-من معاني الهجرة وأهدافها وحكمها-إلى ما نصلح به ما فسد من عقائد المسلمين، وإلى أن ننخلع في بيوتنا عن الآداب التي تخالف الإسلام، وأن نُعيد إلى هذه البيوت الصدق، والصراحة، والنبل، والاستقامة، والاعتدال، والتواضع، والعزة، والكرم، والتعاون على الخير، إلى غير ذلك من المعاني السامية؛ فالبيت الإسلامي وطن، بل هو دولة إسلامية، وقبل أن نبدأ في علاج الأمة يجب أن نبدأ بالأقرب فالأقرب؛ فنبدأ في بيوتنا، فنهاجر نحن ومن فيها إلى ما يحبه الله، وننخلع عن كل ما لا يرضيه-عز وجل-ثم نتحرى في مجتمعاتنا أنظمة الإسلام وآدابه، ونهجر كل ما خالفها مما اقتبسناه من غيرنا، وخَذَلْنا به مقاصد الإسلام، فضيَّعنا أغراضه الجوهرية.
وإذا أخذنا بهذه التربية، وتأصَّلت في أذواقنا وميولنا،
وتَعَوَّدْنَا العمل بها في شتى الميادين-لم تلبث أوطان المسلمين أن تتحول من أوطان عاصية لله إلى أوطان مطيعة لله، ومن أوطان تسود فيها الأنظمة التي تسخط الله إلى أوطان تسود فيها الأنظمة التي ترضي الله، فيكون لهذا الأسلوب من أساليب الهجرة مِثْلُ الآثار التي كانت لهجرة النبي- صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الأولين.
قال-عليه الصلاة والسلام: (المهاجر من هجر السيئات)، وقال: ( المهاجر من هجر الخطايا والذنوب).
ولما قيل له: ما أفضل الهجرة ؟ قال: (من هجر ما حرَّم الله).(/7)
الهجرة وأحكامها
أولاً: تعريف الهجرة.
1 ـ لغة.
2 ـ شرعًا.
ثانيًا: فضل الهجرة:
1 ـ الآيات القرآنية.
2 ـ الأحاديث النبوية.
ثالثًا: أنواع الهجرة:
1 ـ الهجرة المعنوية.
2 ـ الهجرة الحسية.
رابعًا: حكم الهجرة.
خامسًا: الهجرة في الأمم السابقة.
سادسًا: الهجرة الباقية إلى يوم القيامة.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فقال الشيخ أبو يعلى الزواوي رحمه الله: " قد علمت وفقنا الله وإياكم أن السلف يحفلون للهجرة ولا يحتفلون بها... وأما الاحتفال بالهجرة ولم يجر إلا في عهدنا هذا وهو حسن ما لم يعتريه ما اعترى الموالد في مصر كما علمتم، وليقتصر على التنويه بالهجرة إجمالاً وتفصيلاً" ([1]).
أولاً: تعريف الهجرة:
الهجرة لغة: اسمٌ من هجر يهجُر هَجْرا وهِجرانا([2]).
قال ابن فارس: "الهاء والجيم والراء أصلان، يدل أحدهما على قطيعة وقطع، والآخر على شد شيء وربطه. فالأول الهَجْر: ضد الوصل، وكذلك الهِجْران، وهاجر القوم من دار إلى دار: تركوا الأولى للثانية، كما فعل المهاجرون حين هاجروا من مكة إلى المدينة"([3]).
وضبط ابن منظور أيضاً التي بمعنى الخروج من أرض إلى أرض بضم الهاء: الهُجْرة([4]).
ويكون الهجر بالقلب واللسان والبدن([5]):
فمن الهجر بالبدن قوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ} [النساء:34].
ومن الهجر باللسان قول عائشة رضي الله عنها لما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى، أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم)) قالت: أجل، والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك([6]).
ومن الهجر بالقلب ما جاء في حديث: ((من الناس من لا يذكر الله إلا مهاجراً))([7])، قال ابن الأثير نقلاً عن الهروي: "يريد هِجران القلب وترك الإخلاص في الذكر، فكأنّ قلبه مهاجر للسانه غير مواصل له"([8]).
وقد تجتمع هذه الوجوه كلها أو بعضها في بعض أنواع الهجر.
الهجرة شرعاً:
عرّفها غير واحد بأنها ترك دار الكفر والخروج منها إلى دار الإسلام([9]).
وأعم منه ما قاله الحافظ ابن حجر: "الهجرة في الشرع ترك ما نهى الله عنه"([10])، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: ((المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) ([11])، وهي تشمل الهجرة الباطنة والهجرة الظاهرة، فأما الهجرة الباطنة فهي ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء وما يزيّنه الشيطان، وأما الظاهرة فهي الفرار بالدين من الفتن([12])، والأولى أصل للثانية.
ولما كانت الثانية أعظم أمارات الأولى وأكمل نتائجها خص بعض العلماء التعريف بها كما تقدم. ثم لما كانت هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة أشرف الهجرات وأشهرها انصرف اللفظ عند الإطلاق إليها.
وأما لفظ الهجرتين فهو عند الإطلاق يراد به الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة([13]).
([1]) الثمرة الأولى لجميعة الطلبة الجزائريين الزيتونيين ص 40، نشرة السنة الرابعة 1355ـ 1356هـ، 1936 ـ 1937م.
([2]) انظر : لسان العرب (8/4616).
([3]) معجم مقاييس اللغة (6/34) . ولم يذكر للأصل الثاني مثالاً.
([4]) انظر : لسان العرب (8/4617).
([5]) انظر : التوقيف على مهمات التعاريف (738).
([6]) أخرجه البخاري (9/325-الفتح) [5228]. وفي هذا الحديث فضل عائشة رضي الله عنها حيث إنها أخبرت مقسمة أنها في حالة الغضب الذي يسلب العاقل اختياره لا تتغير عن المحبة المستقرة في قلبها للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يترك قلبها التعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم مودة ومحبة، ثم من فطنتها رضي الله عنها أنها لما لم يكن لها بد من هجر اسمه الشريف أبدلته بمن هو صلى الله عليه وسلم أولى الناس به وهو إبراهيم عليه السلام حتى لا تخرج عن دائرة التعلق في الجملة. انظر : فتح الباري (9/326).
([7]) لم أقف عليه.
([8]) النهاية (5/245).
([9]) انظر : التعريفات للجرجاني (256) والمفردات للراغب (537) وجامع العلوم والحكم لابن رجب (1/72-73).
([10]) فتح الباري (1/16).
([11]) جزء من حديث أخرجه البخاري (1/53-الفتح) [10] من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
([12]) انظر: فتح الباري (1/54).
([13]) انظر: لسان العرب (8/4617) .
ثانيًا: فضل الهجرة:
لقد جاء في فضل الهجرة وبيان ثواب المهاجرين آيات قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة.
فمن الآيات الكريمة:
1- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[البقرة:218].(/1)
قال ابن جرير رحمه الله: "يعني بذلك جل ذكره: إن الذين صدّقوا بالله وبرسوله، وبما جاء به، وبقوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ} الذين هجروا مساكنة المشركين في أمصارهم، ومجاورتهم في ديارهم، فتحولوا عنهم، وعن جوارهم وبلادهم إلى غيرها، هجرة لما انتقل عنه إلى ما انتقل إليه...، وإنما سمي المهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين لما وصفنا من هجرتهم دورهم ومنازلهم، كراهة منهم النزول بين أظهر المشركين وفي سلطانهم، بحيث لا يأمنون فتنتهم على أنفسهم في ديارهم إلى الموضع الذي يأمنون ذلك...
فمعنى قوله إذًا: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والذين تحوّلوا من سلطان أهل الشرك هجرة لهم، وخوف فتنتهم على أديانهم، وحاربوهم في دين الله ليدخلوهم فيه، وفيما يرضى الله، {أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} أي: يطمعون أن يرحمهم الله فيدخلهم جنته بفضل رحمته إياهم"([1]).
وقال ابن سعدي رحمه الله: "هذه الأعمال الثلاثة، هي عنوان السعادة، وقطب رحى العبودية، وبها يعرف ما مع الإنسان من الربح والخسران، فأما الإيمان فلا تسأل عن فضيلته...، وأما الهجرة فهي مفارقة المحبوب والمألوف لرضا الله تعالى، فيترك المهاجر وطنه وأمواله وأهله وخلانه تقربًا إلى الله ونصرة لدينة، وأما الجهاد فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء، والسعي التام في نصرة دين الله وقمع دين الشيطان. وهو ذروة الأعمال الصالحة، وجزاؤه أفضل الجزاء. فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجين رحمة الله؛ لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة"([2]).
2- وقوله تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَاباً مّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195].
قال ابن جرير رحمه الله: "يعني بقوله جل ثناؤه: فالذين هاجروا قومهم من أهل الكفر وعشيرتهم في الله إلى إخوانهم من أهل الإيمان بالله والتصديق برسوله، وأخرجوا من ديارهم، وهم المهاجرون الذين أخرجهم مشركو قريش من ديارهم بمكة...، {وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} يعني: أن الله عنده من جزاء أعمالهم جميع صنوفه، وذلك ما لا يبلغه وصف واصف؛ لأنه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"([3]).
وقال ابن كثير رحمه الله: "أي: تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والخلان والإخوان والجيران... وقوله: {ثَوَاباً مّن عِندِ اللَّهِ} إضافة إليه ونسبة إليه ليدل على أنه عظيم؛ لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيرًا"([4]) .
وقال ابن سعدي: "فجمعوا بين الإيمان والهجرة، ومفارقة المحبوبات من الأوطان والأموال طلبًا لمرضاة ربهم، وجاهدوا في سبيل الله"([5]) .
3- وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مّن وَلايَتِهِم مّن شَىْء حَتَّى يُهَاجِرُواْ} [الأنفال:72].
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله {وَهَاجَرُواْ} يعني: هجروا قومهم وعشيرتهم ودورهم، يعني: تركوهم وخرجوا عنهم، وهجرهم قومهم وعشيرتهم...{أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} يقول: هاتان الفرقتان يعني المهاجرين والأنصار، بعضهم أنصار بعض، وأعوان على من سواهم من المشركين، وأيديهم واحدة على من كفر بالله، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار"([6]) .
وقال ابن كثير رحمه الله: "ذكر تعالى أصناف المؤمنين، وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم، وجاءوا لنصر الله ورسوله وإقامة دينه، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك، وإلى أنصار وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك، آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم، وواسوهم في أموالهم، ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم، فهؤلاء بعضهم أولياء بعض"([7]) .
وقال ابن سعدي رحمه الله: "هذا عقد موالاة ومحبة عقدها الله بين المهاجرين الذين آمنوا وهاجروا في سبيل الله، وتركوا أوطانهم لله، لأجل الجهاد في سبيل الله، وبين الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأعانوهم في ديارهم، وأموالهم وأنفسهم. فهؤلاء بعضهم أولياء بعض، لكمال إيمانهم وتمام اتصال بعضهم ببعض"([8]) .(/2)
4- وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ % وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ} [الأنفال:74-75].
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: {وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ} أووا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه، ونصروهم ونصروا دين الله، أولئك هم أهل الإيمان بالله ورسوله حقًا، لا من آمن ولم يهاجر دار الشرك، وأقام بين أظهر أهل الشرك، ولم يغز مع المسلمين عدوّهم، {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ} يقول: لهم ستر من الله على ذنوبهم بعفوه لهم عنهما، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} يقول: لهم في الجنة مطعم ومشرب هنيّ كريم، لا يتغير في أجوافهم فيصير نجوا، ولكنه يصير رشحًا كرشح المسك"([9]) .
وقال ابن سعدي رحمه الله: "الآيات السابقات في ذكر عقد الموالاة بين المؤمنين من المهاجرين والأنصار، وهذه الآيات في بيان مدحهم وثوابهم، فقال: {وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} من المهاجرين والأنصار، أي: المؤمنون {حَقّاً} لأنهم صدقوا إيمانهم بما قاموا به من الهجرة والنصرة والموالاة بعضهم لبعض وجهادهم لأعدائهم من الكفار والمنافقين، {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ} من الله، تُمحى بها سيئاتهم وتضمحل بها زلاتهم {وَ} لهم {رِزْقٌ كَرِيمٌ} أي: خير كثير من الرب الكريم في جنات النعيم"([10]) .
5- وقوله تعالى: {الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ % يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ % خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة:20-22].
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: {الَّذِينَ ءامَنُواْ} بالله: صدقوا بتوحيده من المشركين، وهاجروا دور قومهم، وجاهدوا المشركين في دين الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأرفع منزلة عنده من سقاة الحاج، وعمار المسجد الحرام وهم مشركون"([11]).
وقال ابن سعدي رحمه الله: "ثم صرح بالفضل فقال: {الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ} بالنفقة في الجهاد وتجهيز الغزاة {وَأَنفُسِهِمْ} بالخروج بالنفس {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} أي: لا يفوز بالمطلوب، ولا ينجو من المرهوب إلا من اتصف بصفاتهم وتخلق بأخلاقهم"([12]) .
6- وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَة وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [النحل:41].
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: والذين فارقوا قومهم ودورهم وأوطانهم عداوة لهم في الله على كفرهم إلى آخرين غيرهم {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} يقول: من بعد ما نيل منهم في أنفسهم بالمكاره في ذات الله {لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَة} يقول: لنسكننهم في الدنيا مسكنًا يرضونه صالحًا...
وقوله: {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} يقول: ولثواب الله إياهم على هجرتهم فيه في الآخرة أكبر؛ لأن ثوابه إياهم هنالك الجنة التي يدوم نعيمها ولا يبيد"([13]) .
وقال ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته، الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان، رجاء ثواب الله وجزائه"([14]) .
وقال ابن سعدي رحمه الله: "يخبر تعالى بفضل المؤمنين الممتحنين {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللَّهِ} أي: في سبيله، وابتغاء مرضاته {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} بالأذية والمحنة من قومهم، الذين يفتنونهم ليردوهم إلى الكفر والشرك، فتركوا الأوطان والخلان، وانتقلوا عنها لأجل طاعة الرحمن فذكر لهم ثوابين، ثوابًا عاجلاً في الدنيا من الرزق الواسع والعيش الهنيئ الذي رأوه عيانا بعدما هاجروا وانتصروا على أعدائهم، وافتتحوا البلدان، وغنموا منها الغنائم العظيمة فتمولوا، وآتاهم الله في الدنيا حسنة، {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ} الذي وعدهم الله على لسان رسوله خير، و{أَكْبَرُ} من أجر الدنيا... {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي: لو كان لهم علم ويقين بما عند الله من الأجر والثواب لمن آمن به وجاهد في سبيله، لم يتخلف عن ذلك أحد"([15]) .(/3)
7- وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل:110].
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: ثم إن ربك يا محمد للذين هاجروا من ديارهم ومساكنهم وعشائرهم من المشركين، وانتقلوا عنهم إلى ديار أهل الإسلام ومساكنهم وأهل ولايتهم من بعد ما فتنهم المشركون الذين كانوا بين أظهرهم قبل هجرتهم عن دينهم، ثم جاهدوا المشركين بعد ذلك بأيديهم بالسيف وبألسنتهم بالبراءة منهم ومما يعبدون من دون الله، وصبروا على جهادهم، {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} يقول: إن ربك من بعد فعلتهم هذه لهم لغفور... رحيم بهم.."([16]) .
وقال ابن كثير رحمه الله: "هؤلاء صنف آخر كانوا مستضعفين بمكة مهانين في قومهم قد واتوهم على الفتنة، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وانتظموا في سلك المؤمنين، وجاهدوا معهم الكافرين، وصبروا، فأخبر الله تعالى أنه {مِن بَعْدِهَا} أي: تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة لغفور لهم، رحيم بهم يوم معادهم"([17]) .
وقال ابن سعدي رحمه الله: "أي: ثم إن ربك الذي ربى عباده المخلصين بلطفه وإحسانه لغفور رحيم لمن هاجر في سبيله وخلى دياره وأمواله، طالبًا لمرضاة الله، وفُتِنَ على دينه ليرجع إلى الكفر، فثبت على الإيمان وتخلص ما معه من اليقين، ثم جاهد أعداء الله ليدخلهم في دين الله، بلسانه ويده، وصبر على هذه العبادات الشاقة على أكثر الناس، فهذه أكبر الأسباب التي ينال بها أعظم العطايا، وأفضل المواهب، وهي مغفرة الله للذنوب"([18]) .
8- وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرازِقِينَ} [الحج:58].
قال ابن جرير رحمه الله: "والذين فارقوا أوطانهم وعشائرهم، فتركوا ذلك في رضا الله وطاعته وجهاد أعدائه، ثم قتلوا أو ماتوا وهم كذلك، ليرزقنهم الله يوم القيامة في جناته رزقًا حسنًا، يعني بالحسن: الكريم، وإنما يعني بالرزق الحسن: الثواب الجزيل"([19]) .
وقال ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى عمن خرج مهاجرًا في سبيل الله ابتغاء مرضاته، وطلبًا لما عنده، وترك الأوطان والأهلين والخلان، وفارق بلاده في الله ورسوله ونصرة لدين الله {ثُمَّ قُتِلُواْ} أي: في الجهاد، {أَوْ مَاتُواْ} أي: حتف أنفسهم، أي: من غير قتال على فرشهم، فقد حصلوا على الأجر الجزيل، والثناء الجميل"([20]) .
وقال ابن سعدي رحمه الله: "هذه بشارة كبرى، لمن هاجر في سبيل الله، فخرج من داره ووطنه وأولاده وماله ابتغاء وجه الله، ونصرة لدين الله، فهذا قد وجب أجره على الله، سواء مات على فراشه، أو قتل مجاهدًا في سبيل الله"([21]) .
9- وقوله تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء:100].
قال ابن جرير رحمه الله: "ومن يفارق أرض الشرك وأهلها هربًا بدينه منها ومنهم إلى أرض الإسلام وأهلها المؤمنين، في سبيل الله، يعني في منهاج دين الله وطريقه الذي شرعه لخلقه، وذلك الدين القيم { يَجِدْ فِى الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً}، يقول: يجد هذا المهاجر في سبيل الله مراغمًا كثيرًا، وهو المضطرب في البلاد والمذهب... وقوله: {وَسَعَةً} فإنه يحتمل السعة في أمر دينهم بمكة، وذلك منعهم إياهم ـ كان ـ من إظهار دينهم، وعبادة ربهم علانية، ثم أخبر جل ثناؤه عمن خرج مهاجرًا من أرض الشرك فارّا بدينه إلى الله وإلى رسوله، إن أدركته منيته قبل بلوغه أرض الإسلام ودار الهجرة، فقال: من كان كذلك {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ}، وذلك ثواب عمله وجزاء هجرته، وفراق وطنه وعشيرته إلى دار الإسلام وأهل دينه"([22]) .
وقال ابن كثير رحمه الله: "وهذا تحريض على الهجرة، وترغيب في مفارقة المشركين، وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه"([23]) .
وقال ابن سعدي رحمه الله: "هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب، وبيان ما فيها من المصالح، فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته، أنه يجد مراغمًا في الأرض وسعة، فالمراغم مشتمل على مصالح الدين، والسعة على مصالح الدنيا"([24]) .(/4)
10- وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
قال ابن جرير: "والذين سبقوا الناس أولاً إلى الإيمان بالله ورسوله من المهاجرين الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم، وفارقوا منازلهم وأوطانهم، والأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} يقول: والذين سلكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله، والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام طلبًا رضا الله {رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}"([25]) .
وقال ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعدّ لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم"([26]) .
ومن الأحاديث النبوية :
1- قوله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص: ((أما عملت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟! وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟! وأن الحج يهدم ما كان قبله؟!)) ([27]).
قال النووي رحمه الله: "فيه عظيم موقع الإسلام والهجرة والحج، وأن كل واحد منها يهدم ما كان قبله من المعاصي"([28]).
2- قوله صلى الله عليه وسلم لأبي فاطمة الضمري: ((عليك بالهجرة فإنه لا مثل لها)) ([29]).
3- قوله صلى الله عليه وسلم: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة، فإن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سناً)) ([30]).
4- قوله صلى الله عليه وسلم: ((فمن فعل ذلك منهم – أي من أسلم وهاجر وجاهد – فمات كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو قتل كان حقاً على الله عز وجل أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة)) ([31]).
5- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا زعيم – والزعيم الحميل – لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة)) ([32]).
6- وقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الإيمان قال: ((الهجرة)) ([33]).
7- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وأنا آمركم بخمس، الله أمرني بهن: بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله...)) الحديث([34]).
8- وقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: ((أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي؟)) قال: الله ورسوله أعلم، فقال: ((المهاجرون، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون، فيقول الخزنة: أوقد حوسبتم؟ فيقولون: بأي شيء نحاسب؟! وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك. قال: فيفتح لهم فيقيلون فيه أربعين عاماً قبل أن يدخلها الناس)) ([35]).
9- وعن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين ومنعة؟ قال: حصن كان لدوس في الجاهلية، فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم للذي ذخر الله للأنصار، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو، وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا المدينة، فمرض فجزع فأخذ مشاقص له فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، فرآه وهيئته حسنة، ورآه مغطيًا يديه، فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم([36]) .
([1]) جامع البيان (2/355).
([2]) تيسير الكريم الرحمن (1/173 ـ 174).
([3]) جامع البيان (3/ 216).
([4]) تفسير القرآن العظيم (2/ 166).
([5]) تيسير الكريم الرحمن (1/ 306).
([6]) جامع البيان (6/ 51).
([7]) تفسير القرآن العظيم (4/ 38).
([8]) تيسير الكريم الرحمن (2/ 219).
([9]) جامع البيان (6/ 56 ـ 57).
([10]) تيسير الكريم الرحمن (2/ 220).
([11]) جامع البيان (6/ 97).
([12]) تيسير الكريم الرحمن (2/ 232).
([13]) جامع البيان (8/ 106 ـ 107).
([14]) تفسير القرآن العظيم (4/ 491).
([15]) تيسير الكريم الرحمن (3/ 61).
([16]) جامع البيان (8/ 183).
([17]) تفسير القرآن العظيم (4/ 527).
([18]) تيسير الكريم الرحمن (3/ 87 ـ 88).
([19]) جامع البيان (10/ 194).
([20]) تفسير القرآن العظيم (5/ 443).
([21]) تيسير الكريم الرحمن (3/ 332).
([22]) جامع البيان (4/ 238).
([23]) تفسير القرآن العظيم (2/ 344).
([24]) تيسير الكريم الرحمن (1/ 393).
([25]) جامع البيان (7/ 6).
([26]) تفسير القرآن العظيم (4/ 141).
([27]) أخرجه مسلم (1/112) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
([28]) شرح مسلم (2/ 497).(/5)
([29]) أخرجه النسائي (7/465) من حديث أبي فاطمة الضمري، وحسن إسناده الشيخ عبد القادر الأرنؤوط في تحقيقه لجامع الأصول (11/605) والدكتور سليمان السعود في أحاديث الهجرة (ص244) وصححه الألباني، صحيح الجامع [4045].
([30]) أخرجه مسلم [673] من حديث أبي مسعود رضي الله عنه.
([31]) أخرجه أحمد (3/483) والنسائي (6/21) من حديث سبرة بن أبي فاكه وهو في صحيح السنن [2937].
([32]) أخرجه النسائي (6/21) من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه وهو في صحيح سنن النسائي [2936].
([33]) أخرجه أحمد (4/114) من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه. وقال الهيثمي في المجمع (1/59) : "رجاله ثقات".
([34]) أخرجه أحمد (4/130، 202) (5/344) والترمذي (5/148) من حديث الحارث الأشعري وقال الترمذي: "حسن صحيح غريب"، وصححه ابن خزيمة (2/64) وقال الألباني : "إسناده صحيح".
([35]) أخرجه الحاكم (2/70) من حديث عبد الله عمرو رضي الله عنهما وقال : "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
([36]) أخرجه مسلم في الإيمان، باب: الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر (116).
ثالثًا: أنواع الهجرة:
يمكن تقسيم الهجرة إلى نوعين اثنين:
1- الهجرة المعنوية: وهي الهجرة من الكفر إلى الإسلام ومن البدعة إلى السنة ومن المعصية إلى الطاعة، وهذا هو مقتضى الهجرة إلى الله ورسوله، لأن الهجرة إلى الله تعالى تكون بالإيمان به وتوحيده وإفراده بالعبادة خوفاً ورجاءً وحباً، وأن يجتنب الشرك صغيره وكبيره، وأن يجتنب المعاصي والكبائر، وأن يكثر من الاستغفار والتوبة لتجديد الهجرة كلما وقع فيما يضعف مسيرتها، ولذلك كان مفتاح النجاة هو التوحيد والاستغفار.
والهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون باتباع سنته وتحكيمها والتحاكم إليها وتقديمها على جميع الأهواء والآراء والأذواق، ونبذ البدع والمحدثات التي ليس عليها أمر الإسلام.
2- الهجرة الحسية: ومن ذلك:
أ - الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهذه أشرف الهجرات وأفضلها على الإطلاق.
ب - الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام وهذه يختلف حكمها باختلاف الظروف والأوضاع وسيأتي بيان ذلك.
ج - هجرة أهل الذنوب والمعاصي وهجرة أهل الأهواء والبدع بمفارقتهم ومقاطعتهم ومباعدتهم زجراً لهم أو حِمية منهم أو لهما معاً.
د- الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن فعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها، تلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الله، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير)) ([1]).
([1]) أخرجه أبو داود [2482] وحسنه الألباني في تخريج مناقب الشام وأهله (ص79).
رابعًا: حكم الهجرة:
الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام يختلف حكمها باختلاف حالات المقيمين بديار الكفر:
أ. فتكون واجبة، وذلك في حق من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه أو إقامة واجبات دينه في ديار الكفر، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء:97].
ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا بريء من مسلم بين مشركين لا تراءى ناراهما)) ([1])، ومعناه لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت، ولأن القيام بواجبات دينه واجب، والهجرة من ضرورة الواجبات وتتمتها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ب. وتسقط عمن يعجز عنها إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف كالنساء والولدان وشبههم، فالعاجز لا هجرة عليه لقوله تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً % فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:98-99].
ج. وتستحب في حق من يقدر عليها لكنه يتمكن من إظهار دينه وإقامة واجباته ي دار الكفر، فهذا تستحب في حقه ليتمكن من جهادهم، ولتكثير المسلمين ومعونتهم، والتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ومشاهدة المنكر بينهم، ولا تجب عليه لإمكانه إقامة واجبات دينه بدون الهجرة.
وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة قبل فتحها مع إسلامه([2]).
فإن قيل : ما ضابط إظهار الدين؟
فالجواب: ما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ : "إظهاره دينَه ليس مجرد فعل الصلاة وسائر فروع الدين واجتناب محرماته من الربا وغير ذلك، إنما إظهار الدين مجاهرته بالتوحيد والبراءة مما عليه المشركون من الشرك بالله في العبادة وغير ذلك من أنواع الكفر والضلال" ([3]).(/6)
ويرى بعض العلماء أنه قد يستحب للمسلم أن يقيم في دار الكفر وذلك إذا كان يرجو ظهور الإسلام بإقامته أو إذا ترتب على بقائه بدار الكفر مصلحة للمسلمين، فقد نقل صاحب مغني المحتاج أن إسلام العباس رضي الله عنه كان قبل بدر وكان يكتمه ويكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار المشركين وكان المسلمون يتقوون به بمكة، وكان يحب القدوم على النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه صلى الله عليه وسلم: ((إن مقامك بمكة خير))، ثم أظهر إسلامه يوم فتح مكة([4]).
ولا شك أن هذا ليس لكل أحد، وأغلب الناس سريع التأثر بما عليه الكفار، وخاصة في هذا الزمان الذي غلب فيه أهل الكفر، ونحن نرى ولوع كثير من المسلمين بتقليد الكفار واتباعهم وهم في ديار الإسلام فكيف الحال بمن هو مقيم بين أظهرهم، لا شك أن الفتنة أعظم والخطر أكبر، وأحكام الشريعة مبنية على الغالب الكثير لا على ما شذّ وندر.
([1]) أخرجه أبو داود [2645] والترمذي [1604] من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع [1461].
([2]) انظر: المغني لابن قدامة (13/151).
([3]) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (1/91-92)
([4]) مغني المحتاج (4/239) وانظر : الجهاد والقتال في السياسة الشرعية للدكتور محمد خير هيكل (1/687-692).
خامسًا: الهجرة في الأمم السابقة:
لقد حكى لنا القرآن الكريم هجرة خليل الله إبراهيم عليه السلام حيث قال الله تعالى: {فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبّى إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26]، أي آمن بإبراهيم لوط، وقال إبراهيم: إني مهاجر دار قومي المشركين إلى ربي إلى الشام، فهاجر من كوثا وهي قرية من سواد الكوفة إلى حرّان ثم إلى الشام، وهو ابن خمس وسبعين سنة ومعه لوط وسارة([1]).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجَرَ إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها، تلفظهم أرضوهم تقذرهم نفس الله، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير)) ([2]).
قال ابن تيمية رحمه الله بعد ذكره لهذا الحديث: "فقد أخبر أن خير أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم بخلاف من يأتي إليه ثم يذهب عنه، ومهاجر إبراهيم هي الشام، وفي هذا الحديث بشرى لأصحابنا الذين هاجروا من حران وغيرها إلى مهاجر إبراهيم، واتبعوا ملة إبراهيم ودين نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان أن هذه الهجرة التي لهم بعد هجرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة لأن الهجرة إلى حيث يكون الرسول وآثاره، وقد جعل مهاجر إبراهيم تعدل مهاجر نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن الهجرة إلى مهاجره انقطعت بفتح مكة"([3]).
وكان معروفاً أيضاً في الأمم السابقة الهجرة من دار المعاصي إلى دار الطاعة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب. فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له من توبةٍ؟ فقال: لا، فقتله، فكمّل به مائة. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجلٍ عالمٍ. فقال: إنه قتل مائة نفسٍ، فهل له من توبةٍ؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا؟ فإن بها أُناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوءٍ. فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملكٌ في صورة آدمي، فجعلوه بينهم: فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له. فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة)) ([4]).
قال النووي رحمه الله: "قال العلماء: في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب، والأخدان المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين والورعين ومن يقتدى بهم، وينتفع بصحبتهم، وتتأكد بذلك توبته"([5]).
وقال ابن حجر رحمه الله: "فيه فضل التحول من الأرض التي يصيب الإنسان فيها المعصية لما يغلب بحكم العادة على مثل ذلك إما لتذكره لأفعاله الصادرة قبل ذلك والفتنة بها، وإما لوجود من كان يعينه على ذلك ويحضه عليه، ولهذا قال له الأخير: ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، ففيه إشارة إلى أن التائب ينبغي له مفارقة الأحوال التي اعتادها في زمن المعصية، والتحول منها كلها والاشتغال بغيرها"([6]).
([1]) انظر: تفسير الطبري (20/142-143) وتفسير القرطبي (13/339-340) وزاد المسير (6/268) وتفسير السمعاني (4/176).
([2]) أخرجه أبو داود [2482]، وحسنه الألباني في تخريج مناقب الشام وأهله (ص 79).(/7)
([3]) مناقب الشام وأهله (ص80)، وانظر: المجموع (27/ 509).
([4]) أخرجه البخاري [3470]، ومسلم [2766] واللفظ له.
([5]) شرح صحيح مسلم (17/82).
([6]) فتح الباري (6/517-518).
سادسًا: الهجرة الباقية إلى يوم القيامة:
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث أن الهجرة انقطعت بفتح مكة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: ((لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا)) ([1])، وعن مجاشع بن مسعود أنه جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا مجالد يبايعك على الهجرة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإسلام)) ([2]).
كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)) ([3])، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد)) ([4]) في غيرهما من الأحاديث.
وللعلماء في الجمع بين هذه الأحاديث والتوفيق بينها مسالك:
المسلك الأول: أن الهجرة التي انقطعت هي الهجرة من مكة إلى المدينة، وأن الهجرة الباقية هي هجر السوء وتركه في أي موضع كان، وبهذا قال أبو جعفر الطحاوي([5])، واستدل بحديث فديك أنه قال: يا رسول الله إنهم يزعمون أنه من لم يهاجر هلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا فديك أقم الصلاة، وآت الزكاة، واهجر السوء، واسكن من أرض قومك حيث شئت تكن مهاجراً)) ([6]).
المسلك الثاني: أن الهجرة المنقطعة هي الفرض والباقية هي الندب، وبذلك قال الخطابي([7]).
المسلك الثالث: أن الهجرة المنقطعة هي الهجرة من مكة إلى المدينة، أو الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان لنصرته والجهاد معه، وأما الهجرة الباقية فهي الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وهذه يختلف حكمها باختلاف الظروف والأحوال كما تقدم بيانه، وقد قال بهذا الجمع جمع من العلماء.
قال البغوي رحمه الله: "الأولى أن يجمع بينهما من وجه آخر، وهو أن قوله: لا هجرة بعد الفتح، أراد به من مكة إلى المدينة، وقوله: لا تنقطع الهجرة، أراد بها هجرة من أسلم في دار الكفر عليه أن يفارق تلك الديار، ويخرج من بينهم إلى دار الإسلام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا بريء من كل مسلم مقيم بين أظهر المشركين، لا تتراءى ناراهما))، وعن سمرة بن جندب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله))" ([8]).
قال النووي رحمه الله: "قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة، وتأولوا هذا الحديث – أي حديث: ((لا هجرة بعد الفتح)) – تأولين:
أحدهما: لا هجرة بعد الفتح من مكة لأنها صارت دار إسلام، فلا تتصور منها الهجرة.
الثاني: وهو الأصح، أن معناه أن الهجرة الفاضلة المهمة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازاً ظاهراً انقطعت بفتح مكة ومضت لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة، لأن الإسلام قوي وعز بعد فتح مكة عزاً ظاهراً بخلاف ما قبله"([9]).
وقال ابن العربي رحمه الله: "الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام وكانت فرضاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واستمرت بعده لمن خاف على نفسه، والتي انقطعت أصلاً هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان"([10]).
وقال ابن حجر رحمه الله: "..((لا هجرة بعد الفتح)) أي: فتح مكة، أو المراد ما هو أعم من ذلك إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك حكمها، فلا تجب الهجرة من بلد فتحه المسلمون، أما قبل فتح البلد فمن به من المسلمين أحد ثلاثة:
الأول: قادر على الهجرة منها لا يمكنه إظهار دينه ولا أداء واجباته، فالهجرة منه واجبة.
الثاني: قادر لكنه يمكنه إظهار دينه وأداء واجباته فمستحبة لتكثير المسلمين بها ومعونتهم وجهاد الكفار والأمن من غدرهم والراحة من رؤية المنكر بينهم.
الثالث: عاجز بعذر من أسر أو مرض أو غيره فتجوز له الإقامة، فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أجر"([11]).
([1]) أخرجه البخاري [3077] ومسلم [1353].
([2]) أخرجه البخاري [3078] ومسلم (3/1487) واللفظ للبخاري.
([3]) أخرجه أحمد (4/99) والدارمي (2/157) وأبو داود [2479] من حديث معاوية رضي الله عنه وهو في صحيح سنن أبي داود [2166].
([4]) أخرجه أحمد (4/99) من حديث جنادة بن أبي أمية رضي الله عنه وهو في السلسلة الصحيحة [1674].
([5]) انظر : شرح مشكل الآثار (7/49-51).
([6]) أخرجه الطحاوي في شرح المشكل (7/49 ـ 50) [2639]، والطبراني في الكبير (18/ 862)، والأوسط (2319)، والبيهقي (9/ 17)، وصححه ابن حبان (4861). وفيه صالح بن بشير بن فديك لم يرو عنه غير الزهري ولم يوثقه غير ابن حبان.
([7]) انظر: شرح السنة (10/ 372 ـ 373).
([8]) شرح السنة (10/ 373 ـ 374).
([9]) شرح مسلم (13/ 8).
([10]) انظر: شرح النووي لمسلم (11/ 8).(/8)
([11]) فتح الباري (6/ 190).(/9)
الهجرة وصناعة الأمل
د. عادل بن أحمد با ناعمة.
من كان يظن أن يكون أولئك النفر الستة بداية مرحلة جديدة من العز والتمكين، والبذرة الأولى لشجرة باسقة ظلت تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؟.
ومن كان يخطر بباله أن تشهد تلك الليلة من ليالي الموسم ورسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر يطوفان بمنى حتى إذا سمعا صوت رجال يتكلمون مالا إليهم فقالا وقالوا، وتحدثا وسمعوا، وبينا فأصغوا فانشرحت القلوب، ولانت الأفئدة ونطقت الألسنة بالشهادتين، وإذا بأولئك النفر من شباب يثرب يطلقون الشرارة الأولى من نار الإسلام العظيمة التي أحرقت الباطل فتركته هشيما تذروه الرياح. من كان يظن أن تلك الليلة كانت تشهد كتابة السطور الأولى لملحمة المجد والعزة؟.
إن نصر الله يأتي للمؤمن من حيث لا يحتسب ولا يقدر، لقد طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجتمعات القبائل وقصد الرؤساء وتوجه بالدعوة إلى الوجهاء وسار إلى الطائف، فعل ذلك كله عشر سنوات وهو يرجو أن يجد عند أصحاب الجاه والمنعة نصرة وتأييدا، كان يقول صلى الله عليه وسلم في كل موسم: "من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي"، ومع كل هذا لم يجد من يؤويه ولا من ينصره، بل لقد كان الرجل من أهل اليمن أو من مضر يخرج إلى مكة فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريش لا يفتنك!.
لم تأت النصرة والحماية والتمكين من تلك القبائل العظيمة ذات المال والسلاح، وإنما جاءت من ستة نفر جاءوا على ضعف وقلة.
"إنها التقادير يوم يأذن الله بالفرج من عنده، ويأتي النصر من قلب المحنة، والنور من كبد الظلماء، والله تعالى هو المؤيد والناصر، والبشر عاجزون أمام موعود الله".
ستة نفر من أهل يثرب كلهم من الخزرج دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ولم يكن يتوقع منهم نصرة وإنما أراد دعوتهم فآمنوا وأسلموا... ثم تتابعت الأحداث على نسق عجيب، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه الموسم، فواعدناه العقبة فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: "على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم وأزواجكم، ولكم الجنة"، قال جابر: فقمنا إليه فبايعناه (مسند أحمد).
أرأيتم... يعرض الكبراء والزعماء ويستكبر الملأ وتتألب القبائل وتتآمر الوفود وتسد الأبواب... ثم تكون بداية الخلاص بعد ذلك كله في ستة نفر لا حول لهم ولا قوة.
فهل يدرك هذا المعنى المتعلقون بأذيال المادية الصارخة والنافضون أيديهم من قدرة الله وعظمته؟.
وهل يدرك هذا المعنى الغارقون في تشاؤمهم اليائسون من فرج قريب لهذه الأمة المنكوبة المغلوبة على أمرها؟.
إن الله ليضع نصره حيث شاء وبيد من شاء وعلينا أن نعمل حتى تصل دعوتنا إلى العالمين، وألا نحتقر أحدا ولا نستكبر على أحد، وعلينا أن نواصل سيرنا مهما يظلم الليل وتشتد الأحزان، فمن يدري لعل الله يصنع لنا في حلكات ليلنا الداجي خيوط فجر واعد؟ ومن يدري لعل آلامنا هذه مخاض العزة والتمكين؟.
أعظم دروس الهجرة!
إننا على أبواب عام هجري جديد يقبل محملا بما فيه، وعلى أعقاب عام هجري مودع يمضي بما استودعناه نقف متذكرين هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم... إنها ذكرى الاعتبار والاتعاظ لا ذكرى الاحتفال والابتداع. إنها وقفة نستقرئ فيها فصلا من فصول الحياة خطه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه. إنها رجعة إلى العقل في زمن طاشت فيه العقول. ووقفة مع الروح في زمن أسكرت الأرواح فيه مادية صخابة جرافة.
إن من أعظم دروس الهجرة وأجل عبراتها "صناعة الأمل" نعم. إن الهجرة تعلم المؤمنين فن صناعة الأمل. الأمل في موعود الله. الأمل في نصر الله. الأمل في مستقبل مشرق لـ "لا إله إلا الله". الأمل في الفرج بعد الشدة، والعزة بعد الذلة، والنصر بعد الهزيمة.
لقد رأيتم كيف صنع ستة نفر من يثرب أمل النصر والتمكين. وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع الأمل مرة أخرى حين عزمت قريش على قتله.
قال ابن إسحاق: فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام فيثبون عليه.(/1)
وعلى أن كل حساب مادي يقطع بهلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف لا وهو في الدار والقوم محيطون بها إحاطة السوار بالمعصم. مع ذلك صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمل، وأوكل أمره إلى ربه وخرج يتلو قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} (يس:9). خرج الأسير المحصور يذر التراب على الرؤوس المستكبرة التي أرادت قتله! وكان هذا التراب المذرور رمز الفشل والخيبة الذين لزما المشركين فيما استقبلوا من أمرهم. فانظر كيف انبلج فجر الأمل من قلب ظلمة سوداء.
ويمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه يحث الخطى حتى انتهى وصاحبه إلى جبل ثور، وهو جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقى، فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرتقيه فحمله أبو بكر وبلغ به غار ثور ومكثا هناك ثلاثة أيام.
مرة أخرى يصنع الأمل!!
ومرة أخرى يصنع الأمل في قلب المحنة، وتتغشى القلوب سكينة من الله وهي في أتون القلق والتوجس والخوف.. يصل المطاردون إلى باب الغار، ويسمع الرجلان وقع أقدامهم، ويهمس أبو بكر: يا رسول الله لو أن بعضهم طأطأ بصره لرآنا! فيقول صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر. ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟".
وكان ما كان، ورجع المشركون بعد أن لم يكن بينهم وبين مطلوبهم إلا خطوات! فانظر مرة أخرى كيف تنقشع عتمة الليل عن صباح جميل. وكيف تتغشى عناية الله عباده المؤمنين {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (الحج:38).
وإذا العناية لاحظتك عيونها***نم فالحوادث كلهن أمانُ
ويسير الصاحبان في طريق طويل موحش غير مأهول لا خفارة لهما من بشر، ولا سلاح عندهما يقيهما:
لا دروع سابغات لا قنا***مشرعات لا سيوف منتضاه
قوة الإيمان تغني ربها***عن غرار السيف أو سن القناة
ومن الإيمان أمن وارف***ومن التقوى حصون للتقاة
يسير الصاحبان حتى إذا كانا في طريق الساحل لحق بهما سراقة بن مالك طامعا في جائزة قريش مؤملا أن ينال منهما ما عجزت عنه قريش كلها، فطفق يشتد حتى دنا منهما وسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرة ثالثة، وهذا الفارس على وشك أن يقبض عليهما ليقودهما أسيرين إلى قريش تذيقهما النكال، مرة ثالثة يصنع الأمل، ولا يلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سراقة ولا يبالي به وكأن شيئا لم يكن يقول له أبو بكر: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، فيقول له مقالته الأولى: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (التوبة:40).
لقد اصطنع الأمل في الله ونصره فنصره الله وساخت قدما فرس سراقة، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء كالدخان، فأدرك سراقة أنهم ممنوعون منه. ومرة ثالثة جاء النصر للرسول صلى الله عليه وسلم من حيث لا يحتسب. وعاد سراقة يقول لكل من قابله في طريقه ذاك: ارجع فقد كفيتكم ماههنا، فكان أول النهار جاهدا عليهما وآخره حارسا لهما!.
ويبلغ أهل المدينة خبر هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، الرجل الذي قدم لهم الحياة وصنع لهم الأمل. الرجل الذي أنقذهم من أن يكونوا حطبا لجهنم. يبلغهم الخبر فيخرجون كل غداة لاستقباله حتى تردهم الظهيرة. كيف لا وقد اقتربت اللحظة التي كانوا يحصون لها الأيام ويعدون الساعات؟ قال الزبير: فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظاره فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود أطما من آطامهم لينظر إليه فبصر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا صاحبكم الذي تنتظرون.
فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظاهر الحرة. تلقوه بقلوب تفيض سعادة وفرحا... وتأمل مظاهر الفرحة الغامرة:
- قال أنس: "شهدت يوم دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فلم أر يوما أحسن منه ولا أضوأ منه" (الحاكم).
- قال أبو بكر: "ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم المدينة وخرج الناس حتى دخلنا في الطريق وصاح النساء والخدام والغلمان: جاء رسول الله، الله أكبر، جاء محمد، جاء رسول الله" (الحاكم).
- قال أنس: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة لقدومه فرحا بذلك لعبوا بحرابهم" (أبو داود).
وصدق من قال:
أقبل فتلك ديار يثرب تقبل يكفيك من أشواقها ما تحمل
القوم مذ فارقت مكة أعين* تأبى الكرى وجوانح تتململ
يتطلعون إلى الفجاج وقولهم* أفما يطالعنا النبي المرسل
رفت نضارتها وطاب أريجها* وتدفقت أنفاسها تتسلسل
فكأنما في كل دار روضة * وكأنما في كل مغنى بلبل
وهكذا تعلمنا الهجرة في كل فصل من فصولها كيف نصنع الأمل، ونترقب ولادة النور من رحم الظلمة، وخروج الخير من قلب الشر، وانبثاق الفرج من كبد الأزمات.
ما أحوجنا في هذا الزمن!
ما أحوجنا ونحن في هذا الزمن، زمن الهزائم والانكسارات والجراحات إلى تعلم فن صناعة الأمل.(/2)
فمن يدري؟ ربما كانت هذه المصائب بابا إلى خير مجهول، ورب محنة في طيها منحة، أوليس قد قال الله: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ؟} (البقرة:216).
لقد ضاقت مكة برسول الله ومكرت به فجعل نصره وتمكينه في المدينة.
وأوجفت قبائل العرب على أبي بكر مرتدة، وظن الظانون أن الإسلام زائل لا محالة، فإذا به يمتد من بعد ليعم أرجاء الأرض.
وهاجت الفتن في الأمة بعد عثمان حتى قيل لا قرار لها ثم عادت المياه إلى مجراها.
وأطبق التتار على أمة الإسلام حتى أبادوا حاضرتها بغداد سرة الدنيا وقتلوا في بغداد وحدها مليوني مسلم وقيل: ذهبت ريح الإسلام فكسر الله أعداءه في عين جالوت وعاد للأمة مجدها.
وتمالأ الصليبيون وجيشوا جيوشهم وخاضت خيولهم في دماء المسلمين إلى ركبها حتى إذا استيئس ضعيف الإيمان نهض صلاح الدين فرجحت الكفة الطائشة وطاشت الراجحة، وابتسم بيت المقدس من جديد.
وقويت شوكة الرافضة حتى سيطر البويهيون على بغداد والفاطميون على مصر وكتبت مسبة الصحابة على المحاريب ثم انقشعت الغمة واستطلق وجه السنة ضاحكا.
وهكذا يعقب الفرج الشدة، ويتبع الهزيمة النصر، ويؤذن الفجر على أذيال ليل مهزوم... فلم اليأس والقنوط؟.
اشتدي أزمة تنفرجي***قد آذن ليلك بالبلج
إن اليأس والقنوط ليسا من خلق المسلم، قال سبحانه: {وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف:87).
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله".
إذا اشتملت على اليأس القلوب***وضاق لما به الصدر الرحيب
ولم تر لانكشاف الضر وجها***ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث***يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات وإن تناهت***فموصول بها الفرج القريب
فيا أيها الغيورون على أمة الإسلام.. يا من احترقت قلوبهم لآلامها، نعمّا هذا الألم وما أصدقه على إيمانكم وحبكم لدينكم، ولكن لا يبلغن بكم اليأس مبلغه، فإن الذي أهلك فرعون وعادا وثمود وأصحاب الأيكة والذي رد التتار ودحر الصليبين قادر على أن يمزق شمل الروس ويبدد غطرسة الصهيونية ويحطم أصنام الوثنية المعاصرة.
وأنت.. يا من ابتلاك الله في رزقك أو صحتك أو ولدك.
أنت.. يا من جهدك الفقر وانتهكتك العلل وأخذ الموت أحبابك وعدت في أعين الناس كالدرهم الزائف لا يقبله أحد.
أنت.. يا من أصبحت في مزاولة الدنيا كعاصر الحجر يريد أن يشرب منه، ويا من سدت في وجهك منافذ الرزق وأبواب الحلال.
أنت.. هل نسيت رحمة الله وفضله؟(/3)
الهدي العلمي النبوي في إصلاح الأمة
بقلم الدكتور نظمي خليل أبوالعطا
حدثناكم في مقال سابق عن الهدي العلمي النبوي في العلم والعلماء، وعلمنا أن الإسلام دين العلم, وأن أسلافنا فقهوا ذلك, فكانوا أساتذة العالم وقادته في أيامهم وملأت مؤلفاتهم مكتبات الدنيا ومصادر تعلمها فكتبوا في الطب والنبات والحيوان والكيمياء والفيزياء والفلك والأدب والفلسفة والمنطق والتاريخ والجغرافيا وعلم النفس والتربية والرياضيات وغيرها من العلوم والفنون، وكان الواحد منهم موسوعة تسير على قدمين، فهذا أبو حاتم السجستاني من مؤلفاته: كتاب الطير وكتاب النخل, وكتاب النبات, وكتاب السيوف والرماح, وكتاب الدروع والترس وكتب المذكر والمؤنث, والمقصور والممدود, وكتاب الفصاحة وغيرها من الكتب التي تزيد على عشرين كتابا.
.
ومن مؤلفات الحسن بن الهيثم كتاب المناظر المطبوع في اكثر من 780 صفحة وله مقالات في ضوء القمر ورؤية الكواكب والأظلال والكسوف.
وللدميري كتاب حياة الحيوان الكبرى, المطبوع في مجلدين ضخمين كتبه عندما اختلف بعض الطلاب في نوع الحيوان والكتاب موسوعة في وصف الحيوان وفؤائده وسلوكه.
وللجاحظ كتاب الحيوان ولابن البيطار كتاب الجامع لمفردات الأدوية والعقاقير ولابن سينا كتاب الطب, وللدينوري كتاب النبات, وللغزالي كتاب إحياء علوم الدين ولابن القيم كتب: زاد المعاد, والروح, والصارم, المسلول ومئات من الكتب المتداولة بين أيدينا ولابن تيمية موسوعات وللبخاري صحيحه ولمسلم صحيحه والموطأ لمالك ولو عددنا علماء المسلمين ومخطوطاتهم ما انتهينا من ذكر أسماء تلك المؤلفات.
فما السبب أخي المسلم أننا تخلينا عن مجدنا وكرامتنا وعلمنا ورضينا أن نكون مع الخوالف وفي مؤخرة ركب البشرية وأين الخلل في تربيتنا العلمية وأين الخلل في طرائق تعليمنا وتعلمنا ؟!.
في رأيي أن هناك العديد من الأسباب اذكر منها هنا بعضها على سبيل المثال لا الحصر على أن أعود إلى الموضوع مرات عدة لأنه يحتاج إلى مزيد من الدراسة والبحث.
أولا: بعدنا عن الهدي العلمي النبوي في تقدير العلم والعلماء فعن أبى موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:(مثل ما بعثني الله من الهدي والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولانتبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به) متفق عليه.
ويستفاد من هذا الحديث في مقامنا هذا أن معظمنا كالقيعان التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ, لأننا لم نرفع العلم النافع رأسا, ولم نقبل هدى الله الذي أتى به المصطفى صلى الله عليه وسلم وحرصنا على ما لا ينفعنا وآثرنا الدنيا والعمل السريع لها عن العلم والتعب في تحصيله وتطبيقه.
قال: الرياء في الأعمال والبعد عن الورع والتقوى وعمل الأعمال العظيمة من اجل الناس, وقد نهى المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم عن ذلك حين قال: إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمته فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جرئ فقد قيل, ثم أمر به فسحب على وجهه حتى القي في النار, ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به، فعرفه نعمة فعرفها، فقال: فما عملت فيها قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. جزء من حديث أخرجه مسلم. فمعظم المسلمين الآن يتعلمون ليقال للواحد منهم متعلم, ويحمل الشهادات العليا ليقال أستاذ متعلم, وقد يسلك البعض مسالك غير مشروعة للحصول على الدرجة العلمية الكبرى, وأصبحت الدنيا مبلغ علمنا ومنتهى قصدنا, فلم يعد علماؤنا علماء, ولا أساتذتنا أساتذة, ولا كتابنا كتابا, إلا من رحم ربك, وتحولت جامعاتنا إلى مراكز لمنح الرخص المسماة بالشهادات وتحولت مراكز بحوثنا إلى أماكن للبحث العلمي من أجل الحصول على الرخصة العلمية وضاعت أموال المسلمين وأوقاتهم وأعمارهم, ثم وضعت البحوث على الأرفف في المكتبات ومصادر التعلم, أما التطبيق والعمل فهذا ليس من مقصدنا من التعليم والتعلم.
ثالثاً: الاستغراق في المصطلحات والتفسيرات النظرية والبعد عن العمل الجاد والمثمر والمنتج, حيث تحولت دراساتنا إلى تفسيرات, وبحوثنا إلى استنيانات واجتماعاتنا إلى تفلسف ومحاضر للجلسات, ومؤتمراتنا وندواتنا العلمية لاستعراض العضلات اللسانية في الكلام الذي لا يطيق منه شئ وهذا مناف لعقيدتنا قال تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتنا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" الصف2.(/1)
رابعاً: الوهن الذي أصاب المسلمين, فقد خاف علينا المصطفى صلى الله عليه وسلم الوهن, وعندما سئل عن الوَهَنْ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت) حيث أصبحت الدنيا مبلغ علمنا, وكرهنا الموت في سبيل الله, وأصبحنا نبحث عن مدرات الدنانير, وبعدنا عن مصلحات العباد, وأصبح حب الدنيا والأموال والأزواج والتجارة أحب إلينا من الله ورسوله قال تعالى " قل عن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها احب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين" سورة التوبة آية 24.
فعليك أخي المسلم أن تضع الآية السابقة في ورقة وترى هل الأبناء والأزواج والأموال والتجارة والمساكن أحب إليك من الله ورسوله وجهاد في سبيله, أم الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إلى نفسك من كل ما سبق؟ وهنا نقول لك لايحرم عليك هذه الأشياء ولكن حبها المطغي والمُنسي والملهي والصارف عن رسالتك في الحياة هو الممنوع.
وهنا ستعرف نفسك بالضبط ومع أي فريق أنت.
خامساً: فقدنا الثقة في أنفسنا, وأصبحنا في جهل لقدراتنا وديننا وتراثنا فطلبنا المشورة من بيوت خبرة غير المسلمين, وأصبحت مناهجنا لا تؤكد عن ذاتنا وعقيدتنا, فتخرجت أجيالنا مقطوعة الصلة بأمجادنا, ومن كان مخلصاً لدينه وعقيدته عاش في الماضي يمجد فيه, ولا يعيش في الحاضر, وينسى العمل للمستقبل فلم يستمتع بالحاضر ونعم الله عليه فيه, ولم يخطط للمستقبل, فكانت النتيجة كما نعلم جميعا, حتى لغتنا العربية لم نعد نقدر على التحدث بها, وأصبح الأجنبي الذي يتكلم غير العربية خبيرا حتى ولو كان لا يحمل إلا الشهادة الابتدائية, وبنظرة إلى رواتب العرب والمسلمين ورواتب الأجانب من غير العرب والمسلمين الذين يعملون في بعض ديار المسلمين نعلم ذلك علم اليقين.
أخي المسلم أختي المسلمة:
قد تكون الكلمات قاسية والنظرة سوداوية والكلمات تقطر حزنا وسوادا, ولكن في الحقيقة نحن أمة رسبت في قاع التاريخ حاليا ونغوص الآن في الطين وهذا ليس كلامي ولكم من نتائج دراسات العديد من الباحثين والكتاب والمفكرين المخلصين, فمع أن الله سبحانه وتعالى ميزنا وجعلنا أمة وسطا وجعلنا خير أمة أخرجت للناس, فهل ترضى أخي المسلم أن نكون هكذا عالة على غير المسلمين وتوابع لغير المسلمين نأكل من مزارعهم ونلبس من مصانعهم ونحارب أنفسنا بأسلحتهم, وضاع المسلمون في أسبانيا, والصومال, والشيشان, والبوسنة, والهرسك, وفلسطين والجزائر وإريتريا, والعراق, والهند وفي ديار كثيرة لا نجرؤ على ذكرها وإلا وضعنا في مصاف غير العقلاء والمارقين.
أخي المسلم:
هذه دعوة لكل مسلم أن يتقي الله ربه, وان يتبع هدى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في تحصيل العلم النافع والعمل به, وتقدير العلم والعلماء, وأن نبتعد بأعمالنا عن الرياء ونجعلها خالصة لوجهه الكريم, ونبتعد عن الجدل والمناقشات العقيمة وأن نتق الله في أقوالنا وأفعالنا, وأن نبتعد عن الوهن ونثق في قدراتنا ونصر الله لنا لنعيد لامتنا مجدها ولديننا انتشاره وسماحته ووسطيته التي حجبت تحت ستار كثيف من سلوكياتنا غير الإسلامية وأن نعود إلى هداية الدنيا برحمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, وقد بدأت تباشير النصر تظهر وبدأ جبل صناع الحياة في صنع الحياة فهيا بنا جميعاً نعمل وننتج لنخرج أمتنا إلى مكانتها التي وضعها الله منها أمة مؤمنه, عاملة, متعلمة, منتجة, تقود العالم بأخلاق القرآن, وتعمر الكون بنواميس الله في الخلق وبطاعة صاحب الخلق والأمر والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصدر: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة(/2)
الهدي النبوي في تربية الأبناء
( ورقة مقدّمة إلى ندوة : أطفالنا في الغرب التي عقدت في دبلن يوم السبت 9/3/2002م)
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على نبيه الأمين ، و آله و صحبه أجمعين ، و بعد ..
فإن الله تعالى امتن علينا بنعمة الذرّية ، و حذّرنا من الافتتان بها فقال : ( إنّ من أموالكم و أولادكم فتنة ) ، و انتدبنا لنأخذ بحُجَز أهلينا عن النار فقال : ( قوا أنفسكم و أهليكم ناراً ) ، و ذلك من حقّ أهلينا علينا ، و تمام رعايتنا لهم ، و كلنا راع و مسؤول عن رعيته كما في الحديث .
و لأداء أمانة الرعاية لا بدّ للأبوين من الحرص و العمل على تعليم الأبناء و تربيتهم ، و لا يفوتنهما أنهما محاسبان على التهاون و التقصير في ذلك .
فقد روى الترمذي و أحمد و غيرهما بإسناد صحيح عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا وَفِى يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهَا « أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا » . قَالَتْ لاَ . قَالَ « أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ » . قَالَ فَخَلَعَتْهُمَا فَأَلْقَتْهُمَا إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَتْ هُمَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ .
و الشاهد هنا أنّه رتب العقوبة على الأم و ليس على البنت التي لبست المسكتين في يدها ، و لعل هذا لإقرارها على المنكر أو تسببها فيه .
و التربية السليمة تبدأ منذ نعومة الأظفار ، قال الإمام الغزّالي رحمه الله في ( الإحياء ) : ( ممّا يحتاج إليه الطفل أشد الاحتياج الاعتناء بأمر خُلُقه ، فإنّه ينشأ على ما عوّده المربي في صغره من حَرَدٍ و غضب ة لِجاجٍ و عَجلةٍ و خفّةٍ و هوىًَ و طيشٍ و حدّة و جشع ، فيصعب عليه في كِبره تلافي ذلك و تصير هذه الأخلاق صفات و هيئات راسخةٍ له ، فإن لم يتحرّز منها غاية التحرّز فضحته لابدّ يوماً ما ، و لذلك نجد أكثر الناس منحرفةً أخلاقهم ، و ذلك من قِبَل التربية التي نشأ عليها ) .
و قال الشاعر :
و ينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوّده أبوه
و قد قيل : العلم في الصغر كالنقش في الحجر ، و العلم في الكبر كالغرز بالإبر
و حدّث و لا حرج عن هدي النبي صلى الله عليه و سلّم في التربية ، لتر مدرسةً متكاملة المناهج ، راسخة الأصول ، يانعة الثمار ، وافرة الظلال في التربية و التنشئة الصالحة ، حيث اعتنى بهم بنفسه ، و أوصى بهم خيراً في العناية و الرعاية .
و من عنايته صلى الله عليه و سلم بتعليم الأطفال دعاؤه بالعلم النافع لبعضهم كما في مسند أحمد و مستدرك الحاكم بإسناد صححه و وافقه الذهبي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال : إَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ يَدَهُ عَلَى كَتِفِى - أَوْ عَلَى مَنْكِبِى شَكَّ سَعِيدٌ - ثُمَّ قَالَ « اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِى الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ » .
و من هديه صلى الله عليه و سلم في تربية الأطفال :
تشجيعه على طلب العلم ، و إفساح المجال أمامه لمخالطة من يكبرونه سنّاً في مجالس العلم :
روى الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم جُلُوسٌ إِذْ أُتِىَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ » . فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِى النَّخْلَةَ ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِىَ النَّخْلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ . ثُمَّ الْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشَرَةٍ أَنَا أَحْدَثُهُمْ فَسَكَتُّ ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « هِىَ النَّخْلَةُ » .(/1)
و روى البخاري و غيره عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِى مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ – قيل إنّه عبد الرحمن بن عوف - : لِمَ تُدْخِلُ هَذَا الْفَتَى مَعَنَا ، وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ فَقَالَ إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ . قَالَ فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ ، وَدَعَانِى مَعَهُمْ قَالَ وَمَا رُئِيتُهُ دَعَانِى يَوْمَئِذٍ إِلاَّ لِيُرِيَهُمْ مِنِّى فَقَالَ مَا تَقُولُونَ ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ ) حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ ، إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نَدْرِى . وْ لَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ شَيْئاً . فَقَالَ لِى يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَكَذَاكَ تَقُولُ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَمَا تَقُولُ قُلْتُ هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُ اللَّهُ لَهُ ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) فَتْحُ مَكَّةَ ، فَذَاكَ عَلاَمَةُ أَجَلِكَ ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ) قَال عُمَرُ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلاَّ مَا تَعْلَمُ .
و في حضور الناشئ مجالس من يكبرونه سناً و قدراً تكريم له ينبغي ألا يعدِم التأدّب و التخلّق فيه ، و من أدبه في مجلسهم أن لا يُطاولهم أو يتعالم بينهم ، أو يتقدّمهم بحديث أو كلام .
روى مسلم في صحيحه أن سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قال : لَقَدْ كُنْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُلاَماً فَكُنْتُ أَحْفَظُ عَنْهُ فَمَا يَمْنَعُنِى مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ أَنَّ هَا هُنَا رِجَالاً هُمْ أَسَنُّ مِنِّى .
و في هذا المعنى يرد قول الحسن البصري في وصيّته لابنه رحمهما الله : ( يا بني ! إذا جالست العلماء فكن على السمع أحرص منك على أن تقول ، و تعلّم حسن الاستماع كما تتعلّم حسن الكلام ) .
مع أنّ حسن الإصغاء و الاستماع أدبٌ رفيعٌ في حق الكبار و الصغار جميعاً ، و قد أحسن من قال : المتحدّث حالب ، و المستمع شارب ، فإذا كفيت مؤونة الأولى فأحسن الانتهال منها .
و من هديه صلى الله عليه و سلم في تربية الأطفال :
تهيئته لما ينبغي أن يكون عليه ، أو يصير عليه في كبره كالقيادة و الريادة و الإمامة ، و كفى دليلاً على ذلك تأمير رسول الله صلى الله عليه و سلم أسامة بن زيد ذي السبعة عشر ربيعاً على جيش يغزو الروم في بلاد الشام ، و فيه كبار الصحابة كأبي بكر و عمر رضي الله عنهم أجمعين ، و بعثه معاذ بن جبل رضي الله عنه أميراً على اليمن و هو في التاسعة عشرة من العمر .
و من هذا القبيل ما يدل عليه ما رواه البخاريّ في صحيحه عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه أنه قال : َلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلاَمِهِمْ ، وَبَدَرَ أَبِى قَوْمِى بِإِسْلاَمِهِمْ ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم حَقًّا فَقَالَ « صَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِى حِينِ كَذَا ، وَصَلُّوا كَذَا فِى حِينِ كَذَا ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ ، فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآناً » . فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآناً مِنِّى ، لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ ، فَقَدَّمُونِى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ، وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ وَكَانَتْ عَلَىَّ بُرْدَةٌ ، كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّى ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَىِّ أَلاَ تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ . فَاشْتَرَوْا فَقَطَعُوا لِى قَمِيصاً ، فَمَا فَرِحْتُ بِشَىْءٍ فَرَحِى بِذَلِكَ الْقَمِيصِ .
فانظروا رحمكم الله كيف حفظ من أفواه الركبان قسطاً من كتاب الله فاق ما حفظه بنو قومه رغم تلقيهم عن خير الخلق صلى الله عليه و سلّم ، و الأغرب من ذلك أنّه تصدّر لإمامة قومه في الصلاة رغم حداثة سنّه إلى حدّ لا يُعاب عليه فيه انحسار ثوبه عن سوأته .
و من هديه صلى الله عليه و سلم في تربية الأطفال :(/2)
المداعبة و التعليم بطريق اللعب ، و هو من الوسائل التي تعتبرها المدارس الغربية في التربية اليوم من أنجع الوسائل و أهمها و أقربها إلى نفس الطفل و أنفعها له ، رغم أن الهدي النبوي سبق إلى ذلك و قرره و شرع فيه صاحبه صلى الله عليه و سلّم بالفعل ، في مواقف كثيرة من أشهرها ما رواه الشيخان و غيرهما من حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقاً ، وَكَانَ لِى أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ - قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيمٌ - وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ « يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ » . نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ ، فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلاَةَ وَهُوَ فِى بَيْتِنَا ، فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِى تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ ، ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّى بِنَا .
و مداعبته صلى الله عليه و سلم لأبي عمير رضي الله عنه درسٌ عظيم يرسم منهجاً في تربية الأطفال و تعليمهم و آباءهم بأسلوب التشويق و التودد لهم ، و لذلك اهتم العلماء بهذا الحديث أيّما اهتمام .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ( الفتح ) : ( في هذا الحديث عدّة فوائد جمعها أبو العباس الطبري المعروف بابن القاصّ الفقيه الشافعي صاحب التصانيف في جزءِ مفرد ، و ذكر ابن القاصّ في أوّل كتابه أنّ بعض الناس عاب على أهل الحديث أنّهم يروون أشياء لا فائدة فيها ، و مثل ذلك التحديث بحديث أبي عمير هذا ، قال : و ما درى أنّ في هذا الحديث من وجوه الفقه و فنون الأدب و الفائدة ستين وجهاً ثمّ ساقها مبسوطةً ) .
و من هديه صلى الله عليه و سلم في تربية الأطفال :
الضرب و التأديب بالضوابط الشرعيّة في التعليم :
وردت في هذا الباب أحاديث جيادٌ كثيرة منها :
- ما رواه أحمد في مسنده بإسناد حسن عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ أَوْصَانِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ . قَالَ « لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئاً وَإِنْ قُتِلْتَ وَحُرِّقْتَ وَلاَ تَعُقَّنَّ وَالِدَيْكَ وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ وَلاَ تَتْرُكَنَّ صَلاَةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّداً فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلاَةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّداً فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَلاَ تَشْرَبَنَّ خَمْراً فَإِنَّهُ رَأْسُ كُلِّ فَاحِشَةٍ وَإِيَّاكَ وَالْمَعْصِيَةَ فَإِنَّ بِالْمَعْصِيَةِ حَلَّ سَخَطُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِيَّاكَ وَالْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ وَإِنْ هَلَكَ النَّاسُ وَإِذَا أَصَابَ النَّاسَ مُوتَانٌ وَأَنْتَ فِيهِمْ فَاثْبُتْ وَأَنْفِقْ عَلَى عِيَالِكَ مِنْ طَوْلِكَ وَلاَ تَرْفَعْ عَنْهُمْ عَصَاكَ أَدَباً وَأَخِفْهُمْ فِى اللَّهِ » .
- و ما رواه الشيخان عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضى الله عنها - وَهْىَ خَالَتُهُ - قَالَ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى عَرْضِ الْوِسَادَةِ ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ فِى طُولِهَا ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ ، فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ آيَاتٍ خَوَاتِيمَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا ، فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّى . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِى ، وَأَخَذَ بِأُذُنِى الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا بِيَدِهِ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أَوْتَرَ ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ .
و من هديه صلى الله عليه و سلم في تربية الأطفال :
تعويدهم على فعل الخيرات و منه ارتياد المساجد للصلاة و التعبد :
روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله : ( حافظوا على أبنائكم في الصلاة ، و عوّدوهم الخير فإنّ الخير عادة ) .(/3)
و لهذا القول ما يؤيده في السنّة فقد روى ابن ماجة بإسناد صحيح عن مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ « الْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ » .
و قد ورد في السنّة ما يدل على مشروعية تعويد الصغار على الصيام و صلاة الجماعة و اصطحابهم للحج صغاراً و من ذلك :
- روى الشيخان عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ أَرْسَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ « مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِراً فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِماً فَلْيَصُمْ » . قَالَتْ فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا ، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ ، حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِفْطَارِ . قال ابن حجر : ( في الحديث حجة على مشروعيّة تمرين الصبيان على الصيام ) .
- و روى مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أن النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم لَقِىَ رَكْباً بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ « مَنِ الْقَوْمُ ؟ » . قَالُوا : الْمُسْلِمُونَ . فَقَالُوا : مَنْ أَنْتَ قَالَ : « رَسُولُ اللَّهِ » . فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا فَقَالَتْ أَلِهَذَا حَجٌّ قَالَ « نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ » .
- و روى ابن خزيمة في صحيحه و الترمذي و أبو داود بإسناد صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعي إلى طعام ، فأكل منه ثم قال : قوموا فلنصل بكم . قال أنس : فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس ، فنصحته بالماء ، فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصففت عليه أنا واليتيم وراءه ، والعجوز من ورائنا ، فصلى بنا ركعتين ثم انصرف .
و ليس المقصود تعويدهم على صلاة الجماعة في البيت إلا أن يكون ذلك في النوافل ، كالركعتين التين أم النبي صلى الله عليه و سلّم فيهما الغلامين و المرأة ، و هذا هدي نبوي شريف ، و من هديه عليه الصلاة و السلام أيضاً ربط الأبناء بالمساجد و توجيههم إليها ، بل كان يذهب أكثر من ذلك فيتجوز في صلاته مراعاة لحال الصبية الذين تصطحبهم أمهاتهم إلى المسجد .
روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِى قَتَادَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ « إِنِّى لأَقُومُ فِى الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا ، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِىِّ ، فَأَتَجَوَّزُ فِى صَلاَتِى كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ » .
و روى النسائي بإسناد صحيح عن عبد الله بن شدّاد رضي الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي بالناس إذ جاءه الحسين فركب عنقه و هو ساجد ، فأطال السجود بين الناس حتى ظنوا أنّه قد حدث أمر فلما قضى صلاته ، سألوه عن ذلك ، فقال عليه الصلاة و السلام : (إن ابني ارتحلني ، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته ) .
فالمسجد إذن روضة يجتمع فيها الصغير و الكبير و يرتادها الرجل و المرأة ، و إن كان بيت المرأة خير لها ، و قد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم في ارتيادها يستبقون الخيرات فيذكرون ربهم ، و يأخذون العلم عن نبيهم الذي قال : ( من جاء مسجدنا هذا يتعلم خيراً أو يعلمه ، فهو كالمجاهد في سبيل الله ) و هذا حديث حسن بشواهده : أخرجه ابن ماجة و أحمد و ابن حبان في صحيحه و الحاكم في المستدرك ، و قال عنه : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ؛ فقد احتجا بجميع رواته ، و لم يخرجاه ، و لا أعلم له علة .اهـ .
لذلك كان المسجد المدرسة الأولى ، و الجامعة الأم التي تنشر العلم ، و تشيع المعارف بين الناس ، وهو المكان الأفضل و الأمثل لهذا المقصد العظيم ، و ينبغي أن لا يعدل به شيئٌ في تعليم الناس و الدعوة إلى الله إلا لضرورة .
و ما تنكبت الأمة و لاامتهنت علوم الشريعة ، و لا جفت منابعها إلا بعد أن أغفل دور المسجد في التعليم .
يقول ابن الحاج الفاسي رحمه الله في ( المدخل ) : ( … و المقصود بالتدريس ، إنما هو التبيين للأمة ، و إرشاد الضال و تعليمه ، و دلالة الخيرات ، و ذلك موجود في المسجد أكثر من المدرسة ضرورة ، وإذا كان المسجد أفضل ، فينبغي أن يبادر إلى الأفضل ويترك ماعداه ، اللهم إلا لضرورة ، و الضرورات لها أحكام أخر ) .
و قبل اصطحاب الطفل إلى المسجد يحسن تعليمه و تأديبه بآداب دخول المساجد .
سئل مالك عن الرجل يأتي بالصبي إلى المسجد أيستحب ذلك ؟ فقال : إن كان قد بلغ مبلغ الأدب و عرف ذلك ، و لا يعبث فلا أرى بأساً ، و إن كان صغيراً لا يقَر فيه ، و يعبث فلا أحبّ ذلك .
و بسط البحث في هذه الآداب و ما يتعلّق بها من أحكام ، لو استرسلنا فيه لتشعب بنا البحث و تفلتت أزمّته منّا ، و هذا يتنافى مع الوقت المتاح لتقديم هذه المقالة .(/4)
لذا نكتفي بهذا القدر ، من هديه صلى الله عليه و سلم في تربية الأطفال ، و نكل إتمام البحث إلى عزائمكم و أنتم أهل للبحث و المتابعة كما يظن بكم .
و صلى الله و سلم على نبيّنا محمد و آله و صحبه أجمعين .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
كتبه
د . أحمد عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad Najeeb(/5)
الهدي النبوي في تربية الأبناء
( ورقة مقدّمة إلى ندوة : أطفالنا في الغرب التي عقدت في دبلن يوم السبت 9/3/2002م)
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على نبيه الأمين ، و آله و صحبه أجمعين ، و بعد ..
فإن الله تعالى امتن علينا بنعمة الذرّية ، و حذّرنا من الافتتان بها فقال : ( إنّ من أموالكم و أولادكم فتنة ) ، و انتدبنا لنأخذ بحُجَز أهلينا عن النار فقال : ( قوا أنفسكم و أهليكم ناراً ) ، و ذلك من حقّ أهلينا علينا ، و تمام رعايتنا لهم ، و كلنا راع و مسؤول عن رعيته كما في الحديث .
و لأداء أمانة الرعاية لا بدّ للأبوين من الحرص و العمل على تعليم الأبناء و تربيتهم ، و لا يفوتنهما أنهما محاسبان على التهاون و التقصير في ذلك .
فقد روى الترمذي و أحمد و غيرهما بإسناد صحيح عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا وَفِى يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهَا « أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا » . قَالَتْ لاَ . قَالَ « أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ » . قَالَ فَخَلَعَتْهُمَا فَأَلْقَتْهُمَا إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَتْ هُمَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ .
و الشاهد هنا أنّه رتب العقوبة على الأم و ليس على البنت التي لبست المسكتين في يدها ، و لعل هذا لإقرارها على المنكر أو تسببها فيه .
و التربية السليمة تبدأ منذ نعومة الأظفار ، قال الإمام الغزّالي رحمه الله في ( الإحياء ) : ( ممّا يحتاج إليه الطفل أشد الاحتياج الاعتناء بأمر خُلُقه ، فإنّه ينشأ على ما عوّده المربي في صغره من حَرَدٍ و غضب ة لِجاجٍ و عَجلةٍ و خفّةٍ و هوىًَ و طيشٍ و حدّة و جشع ، فيصعب عليه في كِبره تلافي ذلك و تصير هذه الأخلاق صفات و هيئات راسخةٍ له ، فإن لم يتحرّز منها غاية التحرّز فضحته لابدّ يوماً ما ، و لذلك نجد أكثر الناس منحرفةً أخلاقهم ، و ذلك من قِبَل التربية التي نشأ عليها ) .
و قال الشاعر :
و ينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوّده أبوه
و قد قيل : العلم في الصغر كالنقش في الحجر ، و العلم في الكبر كالغرز بالإبر
و حدّث و لا حرج عن هدي النبي صلى الله عليه و سلّم في التربية ، لتر مدرسةً متكاملة المناهج ، راسخة الأصول ، يانعة الثمار ، وافرة الظلال في التربية و التنشئة الصالحة ، حيث اعتنى بهم بنفسه ، و أوصى بهم خيراً في العناية و الرعاية .
و من عنايته صلى الله عليه و سلم بتعليم الأطفال دعاؤه بالعلم النافع لبعضهم كما في مسند أحمد و مستدرك الحاكم بإسناد صححه و وافقه الذهبي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال : إَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ يَدَهُ عَلَى كَتِفِى - أَوْ عَلَى مَنْكِبِى شَكَّ سَعِيدٌ - ثُمَّ قَالَ « اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِى الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ » .
و من هديه صلى الله عليه و سلم في تربية الأطفال :
تشجيعه على طلب العلم ، و إفساح المجال أمامه لمخالطة من يكبرونه سنّاً في مجالس العلم :
روى الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم جُلُوسٌ إِذْ أُتِىَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ » . فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِى النَّخْلَةَ ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِىَ النَّخْلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ . ثُمَّ الْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشَرَةٍ أَنَا أَحْدَثُهُمْ فَسَكَتُّ ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم « هِىَ النَّخْلَةُ » .(/1)
و روى البخاري و غيره عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِى مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ – قيل إنّه عبد الرحمن بن عوف - : لِمَ تُدْخِلُ هَذَا الْفَتَى مَعَنَا ، وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ فَقَالَ إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ . قَالَ فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ ، وَدَعَانِى مَعَهُمْ قَالَ وَمَا رُئِيتُهُ دَعَانِى يَوْمَئِذٍ إِلاَّ لِيُرِيَهُمْ مِنِّى فَقَالَ مَا تَقُولُونَ ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ ) حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ ، إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نَدْرِى . وْ لَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ شَيْئاً . فَقَالَ لِى يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَكَذَاكَ تَقُولُ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَمَا تَقُولُ قُلْتُ هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُ اللَّهُ لَهُ ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) فَتْحُ مَكَّةَ ، فَذَاكَ عَلاَمَةُ أَجَلِكَ ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ) قَال عُمَرُ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلاَّ مَا تَعْلَمُ .
و في حضور الناشئ مجالس من يكبرونه سناً و قدراً تكريم له ينبغي ألا يعدِم التأدّب و التخلّق فيه ، و من أدبه في مجلسهم أن لا يُطاولهم أو يتعالم بينهم ، أو يتقدّمهم بحديث أو كلام .
روى مسلم في صحيحه أن سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قال : لَقَدْ كُنْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُلاَماً فَكُنْتُ أَحْفَظُ عَنْهُ فَمَا يَمْنَعُنِى مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ أَنَّ هَا هُنَا رِجَالاً هُمْ أَسَنُّ مِنِّى .
و في هذا المعنى يرد قول الحسن البصري في وصيّته لابنه رحمهما الله : ( يا بني ! إذا جالست العلماء فكن على السمع أحرص منك على أن تقول ، و تعلّم حسن الاستماع كما تتعلّم حسن الكلام ) .
مع أنّ حسن الإصغاء و الاستماع أدبٌ رفيعٌ في حق الكبار و الصغار جميعاً ، و قد أحسن من قال : المتحدّث حالب ، و المستمع شارب ، فإذا كفيت مؤونة الأولى فأحسن الانتهال منها .
و من هديه صلى الله عليه و سلم في تربية الأطفال :
تهيئته لما ينبغي أن يكون عليه ، أو يصير عليه في كبره كالقيادة و الريادة و الإمامة ، و كفى دليلاً على ذلك تأمير رسول الله صلى الله عليه و سلم أسامة بن زيد ذي السبعة عشر ربيعاً على جيش يغزو الروم في بلاد الشام ، و فيه كبار الصحابة كأبي بكر و عمر رضي الله عنهم أجمعين ، و بعثه معاذ بن جبل رضي الله عنه أميراً على اليمن و هو في التاسعة عشرة من العمر .
و من هذا القبيل ما يدل عليه ما رواه البخاريّ في صحيحه عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه أنه قال : َلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلاَمِهِمْ ، وَبَدَرَ أَبِى قَوْمِى بِإِسْلاَمِهِمْ ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم حَقًّا فَقَالَ « صَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِى حِينِ كَذَا ، وَصَلُّوا كَذَا فِى حِينِ كَذَا ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ ، فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآناً » . فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآناً مِنِّى ، لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ ، فَقَدَّمُونِى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ، وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ وَكَانَتْ عَلَىَّ بُرْدَةٌ ، كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّى ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَىِّ أَلاَ تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ . فَاشْتَرَوْا فَقَطَعُوا لِى قَمِيصاً ، فَمَا فَرِحْتُ بِشَىْءٍ فَرَحِى بِذَلِكَ الْقَمِيصِ .
فانظروا رحمكم الله كيف حفظ من أفواه الركبان قسطاً من كتاب الله فاق ما حفظه بنو قومه رغم تلقيهم عن خير الخلق صلى الله عليه و سلّم ، و الأغرب من ذلك أنّه تصدّر لإمامة قومه في الصلاة رغم حداثة سنّه إلى حدّ لا يُعاب عليه فيه انحسار ثوبه عن سوأته .
و من هديه صلى الله عليه و سلم في تربية الأطفال :(/2)
المداعبة و التعليم بطريق اللعب ، و هو من الوسائل التي تعتبرها المدارس الغربية في التربية اليوم من أنجع الوسائل و أهمها و أقربها إلى نفس الطفل و أنفعها له ، رغم أن الهدي النبوي سبق إلى ذلك و قرره و شرع فيه صاحبه صلى الله عليه و سلّم بالفعل ، في مواقف كثيرة من أشهرها ما رواه الشيخان و غيرهما من حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقاً ، وَكَانَ لِى أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ - قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيمٌ - وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ « يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ » . نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ ، فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلاَةَ وَهُوَ فِى بَيْتِنَا ، فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِى تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ ، ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّى بِنَا .
و مداعبته صلى الله عليه و سلم لأبي عمير رضي الله عنه درسٌ عظيم يرسم منهجاً في تربية الأطفال و تعليمهم و آباءهم بأسلوب التشويق و التودد لهم ، و لذلك اهتم العلماء بهذا الحديث أيّما اهتمام .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ( الفتح ) : ( في هذا الحديث عدّة فوائد جمعها أبو العباس الطبري المعروف بابن القاصّ الفقيه الشافعي صاحب التصانيف في جزءِ مفرد ، و ذكر ابن القاصّ في أوّل كتابه أنّ بعض الناس عاب على أهل الحديث أنّهم يروون أشياء لا فائدة فيها ، و مثل ذلك التحديث بحديث أبي عمير هذا ، قال : و ما درى أنّ في هذا الحديث من وجوه الفقه و فنون الأدب و الفائدة ستين وجهاً ثمّ ساقها مبسوطةً ) .
و من هديه صلى الله عليه و سلم في تربية الأطفال :
الضرب و التأديب بالضوابط الشرعيّة في التعليم :
وردت في هذا الباب أحاديث جيادٌ كثيرة منها :
- ما رواه أحمد في مسنده بإسناد حسن عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ أَوْصَانِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ . قَالَ « لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئاً وَإِنْ قُتِلْتَ وَحُرِّقْتَ وَلاَ تَعُقَّنَّ وَالِدَيْكَ وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ وَلاَ تَتْرُكَنَّ صَلاَةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّداً فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلاَةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّداً فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَلاَ تَشْرَبَنَّ خَمْراً فَإِنَّهُ رَأْسُ كُلِّ فَاحِشَةٍ وَإِيَّاكَ وَالْمَعْصِيَةَ فَإِنَّ بِالْمَعْصِيَةِ حَلَّ سَخَطُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِيَّاكَ وَالْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ وَإِنْ هَلَكَ النَّاسُ وَإِذَا أَصَابَ النَّاسَ مُوتَانٌ وَأَنْتَ فِيهِمْ فَاثْبُتْ وَأَنْفِقْ عَلَى عِيَالِكَ مِنْ طَوْلِكَ وَلاَ تَرْفَعْ عَنْهُمْ عَصَاكَ أَدَباً وَأَخِفْهُمْ فِى اللَّهِ » .
- و ما رواه الشيخان عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضى الله عنها - وَهْىَ خَالَتُهُ - قَالَ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى عَرْضِ الْوِسَادَةِ ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ فِى طُولِهَا ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ ، فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ آيَاتٍ خَوَاتِيمَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا ، فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّى . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِى ، وَأَخَذَ بِأُذُنِى الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا بِيَدِهِ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أَوْتَرَ ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ .
و من هديه صلى الله عليه و سلم في تربية الأطفال :
تعويدهم على فعل الخيرات و منه ارتياد المساجد للصلاة و التعبد :
روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله : ( حافظوا على أبنائكم في الصلاة ، و عوّدوهم الخير فإنّ الخير عادة ) .(/3)
و لهذا القول ما يؤيده في السنّة فقد روى ابن ماجة بإسناد صحيح عن مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ « الْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ » .
و قد ورد في السنّة ما يدل على مشروعية تعويد الصغار على الصيام و صلاة الجماعة و اصطحابهم للحج صغاراً و من ذلك :
- روى الشيخان عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ أَرْسَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ « مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِراً فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِماً فَلْيَصُمْ » . قَالَتْ فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا ، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ ، حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِفْطَارِ . قال ابن حجر : ( في الحديث حجة على مشروعيّة تمرين الصبيان على الصيام ) .
- و روى مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أن النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم لَقِىَ رَكْباً بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ « مَنِ الْقَوْمُ ؟ » . قَالُوا : الْمُسْلِمُونَ . فَقَالُوا : مَنْ أَنْتَ قَالَ : « رَسُولُ اللَّهِ » . فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا فَقَالَتْ أَلِهَذَا حَجٌّ قَالَ « نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ » .
- و روى ابن خزيمة في صحيحه و الترمذي و أبو داود بإسناد صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعي إلى طعام ، فأكل منه ثم قال : قوموا فلنصل بكم . قال أنس : فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس ، فنصحته بالماء ، فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصففت عليه أنا واليتيم وراءه ، والعجوز من ورائنا ، فصلى بنا ركعتين ثم انصرف .
و ليس المقصود تعويدهم على صلاة الجماعة في البيت إلا أن يكون ذلك في النوافل ، كالركعتين التين أم النبي صلى الله عليه و سلّم فيهما الغلامين و المرأة ، و هذا هدي نبوي شريف ، و من هديه عليه الصلاة و السلام أيضاً ربط الأبناء بالمساجد و توجيههم إليها ، بل كان يذهب أكثر من ذلك فيتجوز في صلاته مراعاة لحال الصبية الذين تصطحبهم أمهاتهم إلى المسجد .
روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِى قَتَادَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ « إِنِّى لأَقُومُ فِى الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا ، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِىِّ ، فَأَتَجَوَّزُ فِى صَلاَتِى كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ » .
و روى النسائي بإسناد صحيح عن عبد الله بن شدّاد رضي الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي بالناس إذ جاءه الحسين فركب عنقه و هو ساجد ، فأطال السجود بين الناس حتى ظنوا أنّه قد حدث أمر فلما قضى صلاته ، سألوه عن ذلك ، فقال عليه الصلاة و السلام : (إن ابني ارتحلني ، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته ) .
فالمسجد إذن روضة يجتمع فيها الصغير و الكبير و يرتادها الرجل و المرأة ، و إن كان بيت المرأة خير لها ، و قد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم في ارتيادها يستبقون الخيرات فيذكرون ربهم ، و يأخذون العلم عن نبيهم الذي قال : ( من جاء مسجدنا هذا يتعلم خيراً أو يعلمه ، فهو كالمجاهد في سبيل الله ) و هذا حديث حسن بشواهده : أخرجه ابن ماجة و أحمد و ابن حبان في صحيحه و الحاكم في المستدرك ، و قال عنه : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ؛ فقد احتجا بجميع رواته ، و لم يخرجاه ، و لا أعلم له علة .اهـ .
لذلك كان المسجد المدرسة الأولى ، و الجامعة الأم التي تنشر العلم ، و تشيع المعارف بين الناس ، وهو المكان الأفضل و الأمثل لهذا المقصد العظيم ، و ينبغي أن لا يعدل به شيئٌ في تعليم الناس و الدعوة إلى الله إلا لضرورة .
و ما تنكبت الأمة و لاامتهنت علوم الشريعة ، و لا جفت منابعها إلا بعد أن أغفل دور المسجد في التعليم .
يقول ابن الحاج الفاسي رحمه الله في ( المدخل ) : ( … و المقصود بالتدريس ، إنما هو التبيين للأمة ، و إرشاد الضال و تعليمه ، و دلالة الخيرات ، و ذلك موجود في المسجد أكثر من المدرسة ضرورة ، وإذا كان المسجد أفضل ، فينبغي أن يبادر إلى الأفضل ويترك ماعداه ، اللهم إلا لضرورة ، و الضرورات لها أحكام أخر ) .
و قبل اصطحاب الطفل إلى المسجد يحسن تعليمه و تأديبه بآداب دخول المساجد .
سئل مالك عن الرجل يأتي بالصبي إلى المسجد أيستحب ذلك ؟ فقال : إن كان قد بلغ مبلغ الأدب و عرف ذلك ، و لا يعبث فلا أرى بأساً ، و إن كان صغيراً لا يقَر فيه ، و يعبث فلا أحبّ ذلك .
و بسط البحث في هذه الآداب و ما يتعلّق بها من أحكام ، لو استرسلنا فيه لتشعب بنا البحث و تفلتت أزمّته منّا ، و هذا يتنافى مع الوقت المتاح لتقديم هذه المقالة .(/4)
لذا نكتفي بهذا القدر ، من هديه صلى الله عليه و سلم في تربية الأطفال ، و نكل إتمام البحث إلى عزائمكم و أنتم أهل للبحث و المتابعة كما يظن بكم .
و صلى الله و سلم على نبيّنا محمد و آله و صحبه أجمعين .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
كتبه
د . أحمد عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad Najeeb(/5)
الهروب من معركة الحياة
سلمان بن محمد العنزي 18/6/1423
27/08/2002
يغلب الوهم والظن كثيرًا على النفس فإن وجد أهلاً ومرحبًا وحبالاً من الود ممدودة أناخ وأصبح من الأهل والأقربين، فينشئ عادات وصفات ماحقة لكل ما هو جميل وذاهبة بكل مفيد، وجاد إلى وادي الأموات ومن ذلك ما تتوهمه كثير من النفوس الحزينة من وجوب العزلة ونبذ الناس والعيش في عالم محدود ليس فيه إلا الكتب وأحاديث النفس بحجة فساد أهل الزمان ، وهذه فكرة شيطانية قديمة يجددها في كل زمن ويلبسها لبوس أهله الملائم لطبيعة ما يعايشونه فتتمشى مع رغبات النفس وتلذ لكل من فرغ من معاني الحياة .
والإنسان الذي يرى الاعتزال حتمًا لابد منه وقدرًا ماضٍ لا حيدة عنه فإنه في الحقيقة يرى لنفسه فضلاً على الناس وصلاحًا ليس فيهم وعلما ليس عندهم فيلج به النظر وتتقاذفه الفكرة إلى الحد الذي يرتد منه إلى الجهة الأخرى ، فالغلو في جانب لا يتوافق مع الطبيعة ولا معطيات العلم لا بد أن يقود إلى غلو مضاد في مرحلة من مراحل السير، وهنا تضيع المواهب ويذهب الإيمان ويمرض الفكر، وليس لمن اعتزل الناس وغاب عن دنياهم إلا العودة إلى الناس والرضا بكل ما يأتي منهم والتلبس برذائلهم وعاداتهم وأفكارهم الملوثة دون محاولة للتغيير والإصلاح.
وقد يحقق الإنسان بعزلته شيئاً من الانتصار للنفس خاصة إذا كان مفكرًا، ولكنها عزلة تقيد خواطره وتطفئ شمعة قلبه وتحوله إلى بيت مهجور من أحبابه سكنته الوحشة ولعبت فيه الأوهام .
وما قيمة الفكر إن لم تجد من تبثهم إليه وتسمع وقع تأثيره في نفوسهم ، ولعل ما نراه من عزلة كثير من الكتب التخصصية النافعة عن عالم الناس إنما كان نتاج هذه العزلة الجسدية والفكرية عنهم .
ثم أليست العزلة هروبًا من قدر المعركة والإرغام ؟ أليست هروبًا من الواجب المناط في الأعناق وعكوفًا على ما يرضي النفس ويلهيها وإن كان علمًا وأدبًا ، ألم يخرج سيدنا يونس -عليه السلام- من قومه مغاضبًا ويترك واجب الدعوة والإرشاد ويركب الفلك حتى إذا كانوا في عرض البحر ثار واضطرب فاستهموا على رجل يلقونه في البحر فساهم فكان من المدحضين فألقي في البحر فالتقمه الحوت ولبث في بطنه مدة من الزمن في عزلة عن العالم وعن الناس الذين تركهم وغضب منهم ولم يصبر على تحملهم ، عزلة عرّفته أن الحياة لا يمكن أن تصلح إذا عكف الإنسان فيها على نفسه ورضي بها من دون الناس وأسرف في تعليمها وتثقيفها . وكأن الله أراد أن يعلمه أن العزلة عن الواقع ليست إلا كهذه العزلة في بطن الحوت، أرق وسهاد واضطراب لولا التسبيح والتحميد.
ثم ماذا بعد ذلك ، أين يذهب هذا العلم ؟ وأين يتوجه هذا الفكر ؟
إلى ظلام العزلة وبرودها؟ ، لقد فشل الفلاسفة في حل مشاكل الناس وترقيتهم والأخذ بأيديهم في مدارج النضج والبلوغ العقلي فكانت أفكارهم واضحة ما لم تختلط بحياة الناس، فإذا اختلطت اضطربت أفكارهم وتشوشت وغدت ظلاً من الظلال ينتظر الشمس الناسخة والسبب يعود إلى عزلتهم في أبراجهم العاجية والنظر إلى حقائق الحياة القريبة بمنظار يبعد القريب ولا يقرب البعيد، فكان حكمهم على شيء لم يحيطوا به ولم يعرفوه ولم يذوقوا طعمه ، وأنهم قوم مفكرون وتجد لهم دررًا عظيمة ولكنها مثل فئة الخمسمئة ريال ليست قابلة للصرف في كثير من أمور الحياة التافهة ذات السعر البخيس الذي يحيا به الناس .
ولم يستطع الفلاسفة على كثرة ما كتبوا وألفوا أن يهذبوا غير الكتب التي كتبوها، أما الناس فلن يتغلب على تيارهم ويلين صلب أفكارهم إلا رجل واسع العلم رقيق الشعور سعيد النفس جم الحلم مخالط لهم متعرف على نفوسهم وحقائقها وما تريد من هذه الحياة كما كان نبينا - صلى الله عليه وسلم- .
فيا طالب المعرفة والسعادة في قنن الجبال أو زوايا البيوت إنك لن تجد ما طلبت ولن تصبر على الطريق التي سلكت؛ لأن النفس البشرية مجبولة على الخلطة والائتلاف وطبيعة العلم والمعرفة قائمة على المعاشرة والتصادق بين أجناس البشر وما يمكن أن تحسه في نفسك من شعور، أو تجده في عقلك من علم لا يعد أن يكون أصباغًا لا تؤثر في الحياة أو تزيد من معانيها، وطبيعة الصبغ تعود إلى ( التبهت ) أو الزوال، ولو كان في العزلة خير لأمر بها الشرع، أو رتب عليها ثوابًا أو ندب إليها أو مدح أهلها، ولكنه لم يفعل بل جعلها دواءًا استثنائيًا عند فساد الحياة وتغير الطباع وخوف المرء على دينه ولا يكون ذلك إلا في آخر الزمان ومن أين لنا تحديده ، والقرآن الكريم مليء بضمائر الجمع عند مخاطبة المؤمنين في أمر من أمور حياتهم أو أمر من أمور دينهم وما أجمل قول الشاعر :
أيها العاكف المسبح سبح ... ...
في عراك الحياة في الآفاق
مثل ما كبّر الأوائل منا ... ...
ووميض السيوف في الأعناق(/1)
إننا صناع التاريخ ولن يوجد الصناع إلا في المصنع لا في شعاف الجبال ، إن كل من اعتزل الحياة ورضي بصحبة النفس يجب عليه أن يراجع مبادئه، وأن يعود إلى المعترك إن أراد ثواب المجاهدين ، وإن أراد الهداية الكاملة ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا )
وأول من يطالب بترك العزلة الوهمية وخوض معركة الحياة هم الدكاترة وأساتذة الجامعات ممن أدخلتهم الدودة الدالية (د) في شرنقتها فكادت أن تقتلهم وتقتل مواهبهم، يجب عليهم أن يخرجوا من عزلتهم، ويشاركوا المجتمع مشاكله، ويقدموا له الحلول المناسبة الملائمة لفكره وتربيته وثقافته، فيتعمق الشعور لديه بمشكلاته ويعلم مدى حاجته إلى علمائه ومفكريه ويزداد هذا الواجب وجوبًا مضاعفًا في مراحل التغيير الاجتماعي أو التصادم الحضاري كما نواجهه اليوم بكل شراسة وعرامة شريطة أن يبتعدوا عن الحلول الفلسفية الباردة المنتزعة من قطب العقل المتجمد، وأن يبتعدوا عن التلقي الساذج لما يدور في الصحافة أو الإذاعة العالمية، وأن يبتعدوا عن الضغط السياسي الداخلي أو ضغط الجماهير التي لا تفقه شيئًا في أمور السياسة المعقدة فإذا ما قدروا على ذلك فإن المجتمع سيكون مجتمعًا واعيًا بالأحداث وعارفًا بكيفية إدارتها وتوجيهها الوجهة الصحيحة ومؤمنًا بمبادئه وثوابته غير قابل للخضوع أو التراجع، وحتى لا أقع في التعميم الذميم فإن هناك نوعًا من العزلة يضفي على النفس سكينة، ويفتح للعقل باب التأمل، وهذه العزلة تكون في أوقات معينة هي كالربيع في دورة الشهور وهي العزلة الفنية المعنية بقول الأديب (برناردين دي سان بير) : إن العزلة جبل عالٍ تريني قمته الناس صغارًا .
وليس مراده الاحتقار وعدم الاختلاط، بل مراده الترفع عما يقع فيه الناس من رذائل الأفعال والأقوال ومن ثم تحملهم حينما يقع منهم ذلك وهذه خصلة عظيمة وبركة من بركات العزلة الفنية والانفراد مع النفس، على حد قول عبد الوهاب عزام- رحمه الله- :
لست أخلو لغفلة وسكون ... ...
وفرار من الورى وارتياح
إنما خلوتي لفكر وذكر ... ...
فهي زادي وعدتي لكفاحي
وهذه العزلة الفريدة هي نقطة التحول في كثير من أمور الحياة، فكم فكرة ومضت في عقل عبقري في إحدى هذه الخلوات الجميلة فكانت مفتاح خير ومشعل هداية ومرقاة سمو للحضارة .(/2)
الهند وسحر جمالها
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
الهنْدُ يَا سِحْرَ الجَمَالِ تَحَدَّثي
فَالدَّهْرُ مُصْغٍ للجمالِ فرَدِّدي
نَثَرَتْ عَلَيكِ من الجواهر أُمَّةُ
أَفلاذَ أَكبادٍ وصَفْوةَ محْتدِ
منْ كُلِّ نابغَةٍ أَبَرَّ ومؤمنٍ
نَاجٍ إلى فِئةٍ ورأْيٍ أَرْشَد (1)
هي أُمةُ الإِسلامِ رَاعَ بها الحمى
عَادٍ تَواثَبَ بالسُّيُوفِ الرُّكَّد(2)
نَفَروا إليكِ مَشاعِلاً في ليلةٍ
ظلماء دَاجِيَةٍ وأُفْقٍ أَرْبَدِ
فَأَتَوا حِمى الإِسلام حِينَ تحيَّزُوا
فيه إلى فئةٍ وَعَزْمٍ مُنجِدِ (3)
*
*
*
الهنْدُ ! يَا سِحْرَ الجَمَالِ ! لآلئُ
أَلقَتْ عَلَيكِ بِعَسْجَدٍ وزُمُرُّدِ
وَرَوَائعُ اليَاقوتُ شَعَّتْ كُلُّها
مَا بَيْنَ مَنثُور الحِلَى ومُنضَّد
صُوغي مِنَ الأَلْمَاسِ والدُّرِّ الحِلى
صُوغي كَمَا شِئْتِ الجَوَاهِرَ وانْشُدِ
زَهْوُ القلائِد فَوقَ جيدكِ عِبْرَةُ
للنّاظِرين وآيةٌ للمُهتَدي
كَمْ صُنْتِ جوْهَرَ "كوهِ نورٍ" في رُبَى
حِصْنٍ تَمنَّعَ في الذُّرا مُتفَرِّد (4)
سُرِقَتْ فأَضْحَتْ فوق تاج ظالمٍ
بَاغٍ وغَدَّارِ العُهودِ مُهَدِّدِ
لِصٍّ بلندن لم تَزلْ في كَفِّه
مِن كُلِّ أرض ثَرْوَةُ لَمْ تَنْفَد
لكنَّ أَغلى الدُّرِّ عنْدَكِ جَوْهَرُ التَّـ
ـوحيد ، شَوْقُ المُؤمِن المُتَعَبِّدِ
مَا كَانَ مِنْ دَرْبٍ إليه لِسَارِقٍ
أبداً ولا دَربٍ لسَطْوةِ مُعتدِ
مُهَجُ تَجُودُ لَهُ فَتُرْخِصُ دونهُ
أَرْواحَها من كُلِّ أَرْوَعَ سَيِّدَ
وعناية الرَّحمن تحفظُ عَبْدهُ
مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ عَتيٍّ مُفْسِدِ
أَضْحى أَعزَّ مِنَ الجَوَاهِرِ كُلِّها
بأَعَزَّ مِنْ حِصْنٍ هُناكَ مُشَيَّدِ
*
*
*
1415هـ
1994م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ملحمة الإسلام في الهند .
(1) إشارة إلى العلماء المسلمين الذين نزحوا إلى الهند عند الغزو التتري ، والأسر العريقة .
(2) إشارة إلى غزو التتر والمغول للعالم الإسلامي . والسيوف الركَّد : الثابتة في أيدي الضاربين .
(3) إشارة إلى قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار . ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرِّفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ) . [الأنفال : 15، 16] .
(4) ألماسةُ " كوهي نور " الماسة الهندية الشهيرة كانت عند المغول فأخذها " نادر شاه " ملك الأفغان عندما انتصر عليهم في موقعة كارنال في الهند . كما حمل معه " عرش الطاؤوس " الذي ما زال في طهران حتى اليوم . ثم استولى عليها " رانجي سينيخ " حاكم البنجاب . ثمَّ استردها المغول وحفظوها في حصن عظيم في أورانج أباد . حتى سرقها الإنجليز لصوص الأرض ووضعوها دون حياء في تاج ملكة انجلترا .(/1)
...
الهمة طريق إلى القمة
رئيسي :تربية :
يتناول الدرس أهمية علو الهمة وما هو علو الهمة ووسائل ترقية الهمة والنهوض بها، والعلامات الدرالة على علو الهمة، والعلامات الدالة على سفول الهمة،و كيفية استثمار همة الناس، ثم ذكر محاذير موجهة لأهل الهمّة العالية ليجتنبوها .
معنى الهمة: جاء في 'القاموس':'هـ م م': 'ما هُمَّ به من أمر ليفعل'. فالهمة هي الباعث على الفعل، وتوصف بعلو أو سفول، فمن الناس من تكون همته عالية علو السماء، ومنهم من تكون همته دنيئة سافلة، تهبط به إلى أسوأ الدرجات.
? وعرف بعضهم علو الهمّة فقال
:'هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور'.
قال ابن القيم رحمه الله ، واصفًا الهمّة العالية: 'علو الهمّة ألا تقف - أي النفس- دون الله، ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه، ولا تبيع حظها من الله، وقربه والأنس به، والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية. فالهمّة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور، لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإن الهمّة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، ولكما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان'.
? وقد حذر السلف كثيرًا من سقوط الهمّة وقصورها: فقد قال الفاروق عمر رضي الله عنه:'لا تصغرن همتك، فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همته'.
وقال ابن نباته:
حاول جسيمات الأمور ولا تقل إن المحامد والعلى أرزاق
وارغب بنفسك أن تكون مقصرًعن غاية فيها الطلاب سباق
وقد قيل:'المرء حيث يجعل نفسه، إن رفعها ارتفعت، وإن قصر بها اتضعت'.
والهمّة قسمان:وهبية، وكسبية:
? فالوهبيّة: هي ما وهبه الله تعالى للعبد من علو الهمّة، أو سفولها، ويمكن أن تنمى وترعى، أو تهمل وتترك.
? فإن نماها صاحبها وعلا بها صارت كسبية: أي أن صاحب الهمّة كسب درجات عالية لهمته، وزاد من أصل مقدارها الذي وهبه الله إياه، وإن تركها وأهملها ولم يلتفت إليها خبت وتضاءلت، والهمّة في هذا تشترك مع باقي الصفات العقلية والخلقية كالذكاء وقوة الذاكرة وحسن الخلق وغير ذلك مما هو معلوم بدهي.
قال ابن الجوزي رحمه الله :'وقد عرفت بالدليل أن الهمّة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، فإذا حثت سارت، ومتى رأيت في نفسك عجزًا فسل المنعم، أو كسلاً فالجأ إلى الموفق، فلن تنال خيرًا إلا بطاعته، ولا يفوتك خير إلا بمعصيته'.
مراتب الهمم :الناس متفاوتون في أمرين:مطالبهم وأهدافهم..والهمم الموصلة إلى هذه المطالب والأهداف.
فمن الناس من يطلب المعالي بلسانه، وليس له همة في الوصول إليها، فهذا متمنِّ مغرور. ومن الناس من لا يطلب إلا سفاسف الأمور، وهم فريقان:
? فريق ذو همة في تحصيل تلك الدنايا، فتجده السباق إلى أماكن اللهو، ومغاني الغواني، وهذا إن اهتدى يكن سباقًا إلى المعالي، ذا همة عالية نفيسة: [النَّاسُ مَعَادِنُ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا] رواه البخاري ومسلم وأحمد.
? وفريق لا هم له، فهو معدود من سقط المتاع، وموته وحياته سواء، لا يفتقد إذا غاب، ولا يسأل إذا حضر.
? ومن الناس من تسمو مطالبه إلى ما يحبه الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وله همة عظيمة في تحصيل مطالبه وأهدافه فهنيئًا له.. وبين كل هذه الأقسام مراتب كثيرة متفاوتة.
قال ابن القيم:'لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفسًا، وأعلاهم همة، وأرفعهم قدرًا؛ مَنْ لذتهم في معرفة الله ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتودد إليه بما يحبه ويرضاه'.
وقال أيضًا:'ولله الهمم ما أعجب شأنها وأشد تفاوتها!، فهمة متعلقة بالعرش، وهمة حائمة حول الأنتان والحش'.
يتفاوت الناس في هممهم فتتفاوت على هذا أعمالهم وحظوظهم ودرجاتهم : وإذا أردت أن تعرف مراتب الهمم، فانظر إلى:
? همة ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه وقد قال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[سَلْ] فَقَالَ:' أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ' رواه مسلم والنسائي وأبوداود. وكان بعض الناس يسأله ما يملأ بطنه، أو يواري جلده.
وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني لغلامه:'يا غلام: لا يكن همك ما تأكل وما تشرب، وما تلبس وما تنكح، وما تسكن وما تجمع، كل هذا هم النفس والطبع فأين هم القلب، همك ما أهمك، فليكن همك ربك عز وجل وما عنده'.
? وهذه من أعظم الوصايا للدعاة حتى لا تضعف همتهم أمام المغريات؛ لا سيما وأن من أهم صفات الداعية مخالطته للناس والتأثير عليهم، فكم من داعية انزلق في بحر هذه المغريات حتى أضحت الدعوة آخر اهتماماته.(/1)
? وأما أمر ابن عباس رضي الله عنه مع صاحبه الأنصاري، فهو دليل على تفاوت الهمم واختلاف مراتبها، فقد قال رضي الله عنه:'لما قبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلت لرجل: هلم فلنتعلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنهم كثير' فقال: العجب، والله لك يا ابن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من ترى من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟!فتركت ذلك، وأقبلت على المسألة، وتتبع أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن كنت لآتي الرجل في الحديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأجده قائلاً، فأتوسد ردائي على باب داره تسفي الرياح على وجهي حتى يخرج إلى، فإذا رآني قال: يا ابن عم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لك؟ قلت: حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأحببت أن أسمعه منك.
فيقول: هلا أرسلت إلى فآتيك؟ فأقول: أنا كنت أحق أن آتيك. وكان ذلك الرجل يراني، فذهب أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد احتاج الناس إلى، فيقول: 'أنت أعلم مني'[ قال في 'مجمع الزوائد' 9/280: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح].
? وترى اليوم من تفاوت الهمم أمرًا عجبًا: فإذا استثنى الناظر في أحوال الناس أمر العامة – واستثناؤهم واجب لأنه قد ماتت هممهم، وقعدت بهم عن تحصيل معالي الأمور- واطلع على أحوال الخاصة وهم: الدعاة، وطلاب العلم، وباقي الملتزمين الحريصين على دينهم؛ سيصاب بالدهشة لما يراه من فتور الهمّة، وأنها الشأن الغالب على الخصوص الذين ذكرتهم:
فمنهم: من إذا من إذا اطلع ساعة، أو ساعتين في اليوم؛ ظن أنه قد أتي بما لم يأت به الأوائل.
ومنهم: من إذا خرج لزيارة فلان من الناس بقصد الدعوة يظن أنه قد قضى ما عليه من حق يومي.
ومنهم: من تتغلب عليه زوجة وعيال فيقطع عامة وقته في مرضاتهم.
ومنهم: من اقتصر في تحصيل العلم على سماع بعض الأشرطة، وحضور محاضرة، أو اثنتين في الأسبوع، أو الشهر.
ومنهم: من غلب عليه الركون إلى الدنيا، والتمتع بمباحاتها تمتعًا يفضي به إلى نسيان المعاني العلية.
ومنهم: من يقضي عامة يومه متتبعًا لسقطات إخوانه، ومطلعًا على ما يزيد علمه رسوخًا في هذا المجال .
وهكذا يندر أن تجد إنسانًا استطاع أن يعلو بهمته، ويجمع شمله، ويقصر من الاعتذارات والشكايات، فتصبح حياته مثلاً أعلى يحتذي به.. ولا أزعم أن جمهور الصحوة قد فات عليه أمر الهمّة وعلوها، ولكن أقول جازمًا بأنه – إلا القليل – لم يستثمروا هممهم حق الاستثمار، ولم يحاولوا أن يرتقوا بأنفسهم حق الارتقاء.
? يقول الأستاذ المودوديّ رحمه الله مخاطبًا قومًا ممن ذكرناهم آنفًا: 'إنه من الواجب أن تكون في قلوبكم نار متّقدة تكون في ضرامها – على الأقل – مثل النار التي تتقد في قلب أحدكم عندما يجد ابنًا له مريضًا، ولا تدعه حتى تجرّه إلى الطبيب، أو عندما لا يجد في بيته شيئًا يسد به رمق حياة أولاده فتقلقه، وتضطره إلى بذل الجهد والسعي.
إنه من الواجب أن تكون في صدوركم عاطفة صادقة، تشغلكم في كل حين من أحيانكم بالسعي في سبيل غايتكم، وتعمر قلوبكم بالطمأنينة، وتكسب لعقولكم الإخلاص والتجرد، وتستقطب عليها جهودكم، وأفكاركم بحيث إن شئونكم الشخصية، وقضاياكم العائلية إذا استرعت اهتمامكم، فلا تلتفتون إليها إلا مكرهين.
وعليكم بالسعي ألا تنفقوا لمصالحكم وشئونكم الشخصية إلا أقل ما يمكن من أوقاتكم وجهودكم، فتكون معظمها منصرفة لما اتخذتم لأنفسكم من الغاية في الحياة.. وهذه العاطفة ما لم تكن راسخة في أذهانكم، ملتحمة مع أرواحكم ودمائكم، آخذةّ عليكم ألبابكم وأفكاركم؛ فإنكم لا تقدرون أن تحركوا ساكنًا بمجرد أقوالكم ...الحقيقة أن الإنسان إذا كان قلبه مربوطًا بغايته، وفكره متطلعًا إليها، فإنه لا يحتاج إلى تحريض أو دفع ...واسمحوا لي أن أقول لكم:إنكم إذا خطوتم على طريق هذه الدعوة بعاطفة أبردَ من تلك العاطفة القلبية التي تجدونها في قلوبكم نحو أزواجكم، وأبنائكم، وأمهاتكم؛ فإنكم لا بد أن تبوءوا بالفشل الذريع' ['تذكرة دعاء الإسلام': 58].
ويمكن أن نقول: إن مراتب الهمم متفاوتة فيما يلي:
همة لا تسعف صاحبها لقضاء حوائجه الأساسية بل يظل عامة ليلة وسحابة نهاره في نوم وتراخ وكسل، وهذه أدنى درجات الهمم، وصاحبها عاجز يعتمد على الناس اعتمادًا كليًا، وهذه المرتبة قليلة في النوع الإنساني، ولله الحمد. ومن أمثلتها في الناس: الطفيليون، وطبقة التنابلة المشتهرين في التاريخ بكسلهم، وسقوط هممهم.(/2)
همة ترقى بصاحبها إلى قضاء الحوائج، والسعي في الأرض، وأداء الفروض، ولكن كل هذا يقضيه بقدر بحيث يستصعب معه كثيرًا من الأمور، ويعتقد استحالتها وهي أمور ممكنة التحقق عند غيره، وتجده – عند الاستشارة – كثير الصدّ قريب القصد.. وهذه المرتبة من الهمّة يشترك فيها كثير من الناس إن لم نقل أغلبهم.
ومن الناس من يريد الارتفاع بهمته، ولكنه لا يعرف سبل استثمارها، ولا كيفية الاستفادة منها، فتجده متذبذبًا في أموره، فتارة ينجز أمورًا عظيمة، وتارة يستصعب الممكن ويستبعده.. والغالب على أهل هذه المرتبة أنهم لا يحققون ما يصبون له ويتطلعون إليه.
ومن الناس من تتجاوز به همته واقع الناس بكثير وتتعداه، بل تكاد تستسهل المستحيل ولا تخضع له.. وصاحب هذه الهمّة نادر في دنيا البشر، ولكنه موجود معروف، يعرفه الناس ويقتدون به، والغالب على صاحب هذه الهمّة أنه يحقق أهدافه وغايته، بل يحقق أمورًا تحتاج في تصور معظم الناس إلى فريق من العاملين لإنجازها.
له همم لا منتهى لكبارها وهمته الصغرى أجلّ من الدهر
وأيضًا:
تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن يخطب الحسناء لم يغْلِه المهر
أهمية علو الهمّة في حياة المسلم:
تحقيق كثير من الأمور مما يعده عامة الناس خيالاً لا يتحقق: وهذا الأمر مشاهد معروف عند أهل الهمم ؛ إذ يستطيعون – بتوفيق الله لهم أولاً، وبهمتهم ثانيًا – إنجاز كثير من الأعمال التي يستعظم بعضها من قعدت به همته ويظنها خيالاً.
?وأعظم مثال على هذا: سيرة المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إذ المعروف عند أهل التواريخ أن بناء الأمم يحتاج إلى أجيال لتحقيقه، لكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استطاع بناء خير أمة أخرجت للناس في أقل من ربع قرن، واستطاعت هذه الأمة أن تنير بالإسلام غالب الأجزاء المعروفة آنذاك، وجهاده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعمله، وهمته العالية في بناء الأمة أمرٌ معروف، وهو مما تقاصر عنه أطماع أهل الهمّة العالية، وخيالاتهم، وما يتطلعون إليه.
?والصدِّيق رضي الله عنه استطاع في أقلَّ من سنتين أن يخرج من دائرة حصار المرتدين، ولم يمت إلا وجيوشه تحاصر أعظم إمبراطوريتين في ذلك الوقت، هذا وقد نهاه كبار الصحابة عن حرب المرتدين، وظنوا أنه لا يستطيع أن يقوم في وجه العرب كلهم، ولكن همته العالية أبَتْ عليه ذلك، واستطاع أن ينجز ما ظنه الناس خيالاً لا ينجز.
الوصول إلى مراتب عليا في العبادة والزهد: وهذا معلم بارز في حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والصحابة، ومن تبعهم بإحسان:
? يقول حُذَيْفَةُ:' صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ:[ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ] فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ ثُمَّ قَالَ:[سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ] ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ:[سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى] فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ'رواه مسلم .
?وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:' صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ قُلْنَا وَمَا هَمَمْتَ قَالَ هَمَمْتُ أَنْ أَقْعُدَ وَأَذَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ' رواه البخاري ومسلم وابن ماجة وأحمد.
?وهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه على فراش الموت يذكر أمورًا تدل على علو همّته في العبادة والزهد، فروي عنه أنه قال:'اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا ولا طول المكث فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل، وظمأ الهواجر في الحر الشديد، ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر'. هذا وقد كان يعيش في دمشق ولكنه علا بهمته عما فيها من مغريات وجمال.(/3)
?وهذا الإمام مالك بن أنس رحمه الله إمام دار الهجرة قد روى عنه الإمام ابن القاسم هذه الحادثة:'كنت آتي مالكًا غلسًا فأسأله عن مسألتين، ثلاثة، أربعة، وكنت أجد منه انشراح الصدر، فكنت آتي كل سحر، فتوسدت مرة في عتبته، فغلبتني عيني فنمت، وخرج مالك إلى المسجد فلم أشعر به، فركضتني سوداء له برجلها، وقالت لي: إن مولاك لا يغفل كما تغفل أنت، اليوم له تسع وأربعون سنة ما صلى الصبح إلا بوضوء العَتَمَة، ظنت السوداء أنه مولاه من كثرة اختلافه إليه'..وإذا أردت التوسع في أمثلة عبادة السلف وزهدهم فسيطول بي الأمر، وحسبي ما أوردته دليلاً على علو هممهم.
البعد عن سفاسف الأمور ودناياها:صاحب الهمّة العالية لا يرضى لنفسه دنايا الأمور بل يطمح دائمًا إلى ما هو أفضل وأحسن، فتجده يترفع عن مجالس اللغو وإضاعة الوقت، وينأى بنفسه عنها.
? يقول ابن الجوزي- متألمًا من حال من يقطع يومه وليلته في سفاسف الأمور-:'قد رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعًا عجيبًا، إن طال الليل فبحديث لا ينفع، أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق، فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري وما عندهم خبر، ورأيت النادرين قد فهموا معنى الزمان وتهيأوا للرحيل، فالله الله في مواسم العمر، والبدارَ البدارَ قبل الفوات، ونافسوا الزمان'.
?ولما فر عبد الرحمن الداخل – صقر قريش – من العباسيين، وتوجه تلقاء الأندلس؛ أهديت إليه جارية جميلة، فنظر إليها وقال: 'إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن اشتغلت بها عما أطلبه ظلمت همتي، ولا حاجة لي بها الآن، وردّها على صاحبها'.
صاحب الهمّة العالية يعتمد عليه، وتناط به الأمور الصعبة وتوكل إليه: وهذا أمر مشاهد معروف؛ فإن كل رؤساء ومدراء الجمعيات والمؤسسات يطمحون للعمل مع صاحب الهمّة العالية، ويطمئنون له، ويسعدون به، كيف لا وهو عوض عن فريق من العاملين، وكذلك صاحب الهمّة العالية في الدعوة يكون بمثابة فريق من الدعاة، ويرفع الله به الدعوة درجات، وقد قيل:'ذو الهمّة وإن حط نفسه تأبى إلا العلو، كالشعلة من النار يخفيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعًا'.
صاحب الهمّة العالية يستفيد من حياته أعظم استفادة، وتكون أوقاته مستثمرة بنّاءه: وهذا هو مطمع الصالحين، ومراد العالمين، ومجال المتنافسين، وقد كان السلف رحمهم الله يضربون أعظم الأمثلة في هذا المجال، وحسبي في هذا الأمر أن أورد مثالين:
? كان الإمام ابن عقيل الحنبلي يقول:'إني لا يحل أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة؛ أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح'.
? ووصف الإمام النووي حياته لتلميذه ابن العطار، فذكر له أنه كان يقرأ كل يوم اثني عشر درسًا على مشايخه شرحًا وتصحيحًا: درسين في 'الوسيط'، ودرسًا في 'المهذب'، ودرسًا في صحيح مسلم، ودرسًا في 'اللمع' لابن جني، ودرسًا في إصلاح المنطق، ودرسًا في التصريف، ودرسًا في أصول الفقه، ودرسًا في أسماء الرجال، ودرسًا في أصول الدين، قال: وكنت أعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل ووضوح عبارة، وضبط لغة، وبارك الله تعالى في وقتي. وقال أبو الحسن العطّار: 'ذكر لي شيخنا رحمه الله تعالى أنه كان لا يضيع له وقتًا لا في ليل ولا في نهار إلا في اشتغال حتى في الطرق، وأنه دام على هذا ست سنين، ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة وقول الحق.
قال الذهبي: 'مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه، والعمل بدقائق الورع، والمراقبة، وتفية النفس من الشوائب ومحقها من أغراضها'.
?وإليك كلامًا مهمًا لأحد الغربيين يوضح حال أهل الهمّة مع وقته:قال د. ماردن: 'كل رجل ناجح لديه نوع من الشِّباك يلتقط به نحاتات وقراضات الزمان، ونعني بها فَضَلات الأيام والأجزاء الصغيرة من الساعات مما يَكنِسه معظم الناس بين مهملات الحياة، وإن الرجل الذي يدخر كل الدقائق المفردة، وأنصاف الساعات، والأعياد غير المنتظرة، والفسحات التي بين وقت وآخر، والفترات التي تنقضي في انتظار أشخاص يتأخرون عن مواعيد مضروبة لهم، ويستعمل كل هذه الأوقات، ويستفيد منها ليأتي بنتائج باهرة يدهش لها الذين لم يفطنوا لهذا السر العظيم الشأن'['سبيلك إلى الشهرة والنجاح': 56].
صاحب الهمّة العالية قدوة للناس: صاحب الهمّة قدوة في مجتمعه، ينظر إلى حاله القاعدون، وأنصاف الكسالى والفاترون؛ فيقتدون بهمته، ويرون ما كانوا يظنونه أمرًا مسطورًا في الكتب القديمة قد انتهى، وعدم من دنيا الناس، يرونه واقعًا متحققًا في حياتهم، فيظل هذا الشخص رمزًا للناس ومحل ضرب أمثالهم.(/4)
تغيير طريقة حياة الأفراد والشعوب : يقول الشيخ محمد الخضر حسين شارحًا المراد:'يسمو هذا الخلق بصاحبه فيتوجه به إلى النهايات من معالي الأمور؛ فهو الذي ينهض بالضعيف يضطهد أو يزدرى، فإذا هو عزيز كريم، وهو الذي يرفع القوم من سقوط، ويبدلهم بالخمول نباهة، وبالاضطهاد حرية، وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية.
هذا الخلق هو الذي يحمي الجماعة من أن تتملق خصمها...أما صغير الهمّة: فإنه يبصر بخصومه في قوة وسطوة فيذوب أمامهم رهبة، ويطرق إليهم رأسه حطَّة ثم لا يلبث أن يسير في ريحهم، ويسابق إلى حيث تنحط أهواؤهم'.
وسائل ترقية الهمّة: إن تطوير الإنسان لهمته والرقي بها أمر مطلوب، ويتأكد هذا عند عقلاء الناس، ودعاتهم ومصلحيهم، وهذه جملة أمور تساعد – في ظني – على تطوير الهمم:
المجاهدة: فبدونها لا يتحقق شئ ولا تخطى خطى، قال تعالى:} وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ...[69]{ [سورة العنكبوت].
? قال ابن القيم رحمه الله:'أعرف من أصابه مرض من صداع، وحمى، وكان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة قرأ فيه، فإذا غلب وضعه، فدخل عليه الطبيب يومًا وهو كذلك فقال: إن هذا لا يحل لك ؛ فإنك تعين على نفسك، وتكون سببًا لفوات مطلوبك'.فهذا رغم مرضه؛ يجاهد ليقرأ، ويزداد علمًا.
?وقال الإمام عيسي بن موسى:'مكثت ثلاثين سنة أشتهي أن أشارك العامة في أكل هريسة السوق فلا أقدر على ذلك، لأجل البكور إلى سماع الحديث'.
الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله تعالى:فهو المسئول سبحانه أن يقوى إرادتنا، ويعلى همتنا، ويرفع درجاتنا.
اعتراف الشخص بقصور همته، وأنه لابد له أن يطورها، ويعلو بها:وهذا أمر أَولِيّ نفسي، ومن ثَمَّ لابد أن يعتقد أنه قادر على أن يكون من أهل الهمّة العالية، فهذان الأمران:
? الاعتراف بقصور الهمّة.
? واعتقاد إمكانية تطويرها .
عاملان مهمان لابد منهما في محاولة تطوير الهمّة، وبدونهما لا يكون الشخص قد خطا خطوات صحيحة.
قراءة سير سلف الأمة: أهل الاجتهاد والهمّة العالية، الذين صان الله بهم الدين، فكم من إنسان قرأ سيرة صالح مجاهد؛ فتغيرت حياته إثر ذلك تغيرًا كليًا، وصلح أمره وحسن حاله.
? قال على بن الحسن بن شقيق:'قمت لأخرج مع ابن المبارك في ليلة باردة من المسجد، فذاكرني عند الباب بحديث أو ذاكرته، فما زلنا نتذاكر حتى جاء المؤذن للصبح'.
? وقال محمد بن على السلمي:'قمت ليلة سحرًا لآخذ النوبة على ابن الأَخرم، فوجدت قد سبقني ثلاثون قارئًا، ولم تدركني النوبة إلى العصر'.
مصاحبة صاحب الهمّة العالية: إذ كل قرين بالمقارن يقتدي، والنظر في أحواله وما هو عليه، وكيف يختصر له الزمان اختصارًا؛ نافع مفيد. وهذا من أعظم البواعث على علو الهمّة؛ لأن البشر قد جلبوا على الغيرة والتنافس، ومزاحمة بعضهم بعضًا، وحب المجاراة في طبائع البشر أمر لا ينكر.
مراجعة جدول الأعمال اليومي، ومراعاة الأولويات، والأهم فالمهم : وهذا أمر مفيد في باب تطوير الهمّة، إذ كلما كان ذلك الجدول بعيدًا عن الرتابة والملل؛ كان أجدى في معالجة الهمّة.
التنافس والتنازع بين الشخص وهمته: أعني بهذا: أن على مريد تطوير همته أن يضيف أعباءّ وأعمالاً يومية لنفسه لم تكن موجودة في برنامج حياته السابق، بحيث يحدث نوع من التحدي داخل الإنسان لإنجاز ما تحمله من أعباء جديدة، ويجب أن تكون هذه الإضافة مدروسة بعناية وإحكام حتى لا يصاب الشخص بالإحباط واليأس. ويحسن اختيار هذه الأعباء الجديدة بحيث تكون مبلغة له إلى الكمال، 'فمن كانت همته حفظ جميع كتب محمد بن الحسن فالظاهر أنه يحفظ أكثرها أو نصفها'['تعليم المتعلم': 60]. فالتحدي الذي نشأ في نفسه بسبب رغبته في حفظ كتب معينة سيوصله إلى حفظ أكثرها، والله أعلم.
الدأب في تحصيل الكمالات والتشوق إلى المعرفة: فمن استوي عند العلم والجهل، أو كان قانعًا بحاله وما هو عليه؛ فكيف تكون له همة أصلاً، قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز: 'إن نفسي تواقة، وإنها لم تعط من الدنيا شيئًا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه، فلما أعطيت ما لا أفضل منه في الدنيا تاقت إلى ما هو أفضل منه – يعنى الجنة'.
الابتعاد عن كل ما من شأنه الهبوط بالهمّة وتضييعها: كثير من الصالحين تضيع طاقاتهم في أمور لا تعود عليهم بالنفع بل قد يكون فيها كثير من الضرر، فمن صور هذا التضييع:
? كثرة الزيارة للأقارب بدون هدف شرعي صحيح، ولا غرض دنيوي فيه منفعة وفائدة معتبرة.
? كثرة الزيارة للأصحاب بدعوى الأخوة والتناصح، فيكثر في المجلس اللغو والمزاح وتقل الفائدة.(/5)
يقول ابن الجوزي رحمه الله :'أعوذ بالله من صحبة البطالين، لقد رأيت خلقًا كثيرًا يجرون معي فيما اعتاد الناس من كثرة الزيارة ويسمون ذلك التردد: خدمة، ويطيلون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعنى ويتخلله غيبة، وهذا شئ يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور وتشوق إليه واستوحش الوحدة، وخصوصًا في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام ؛ بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان...'.
وكلام الإمام هذا ينطبق – في الجملة – على حال كثير من اللقاءات والاجتماعات التي يقوم بها الناس اليوم.
? الانهماك في تحصيل المال بدعوى التجارة، وحيازة المال النافع للإسلام وأهله، ثم لا يلبث هذا الأمر أن ينقلب إلى تحصيل محض، وحب للدنيا والانغماس فيها، ومن ثم يقسو قلب الشخص وتنحط همته.
? تكليف الموظف نفسه بعملين: صباحي ومسائي بدون حاجة أو ضرورة ملجئة، وإنما دفعه لهذا حب هذه الدنيا والتمتع فيها.
? كثرة التمتع بالمباح، والترف الزائد، والترفل في النعيم، وكل هذه الأمور من العوامل الفتاكة القاضية على الهمّة مهما قيل في تبريرها وتعليلها.. ذكر ابن حجر رحمه الله أن تاج الدين المراكشي – أحد فقهاء الشافعية– كان قد 'انقطع بالمدرسة الأشرفية ملازمًا للقراءة والاشتغال، صبورًا على ذلك جدًا، بحيث يمتنع عن الأكل والشرب- أي عن فضولهما - والملاذ بسبب ذلك'. وهذه الأمور من المباحات قطعًا، ولكن ذلك الفقيه علم أن الإكثار منها والولع فيها سبب لسقوط الهمّة وضعف العمل.
الإستجابة للصوارف الأسرية استجابة كلية أو شبه كلية: فنجد الشخص منهمكًا في تلبية مطالب زوجه وعياله، وقد لا تكون مهمة في أحيان كثيرة، وقد يعترض معترض ويورد أحاديث لا تدل على ما ذهب إليه مثل:[خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي] رواه الترمذي وابن ماجة. ومثل:[كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ] رواه مسلم وأبوداود-واللفظ له- وأحمد . وغير ذلك. وإنما هذه الأحاديث في الحث على إحسان الخلق مع الأهل، وعدم تركهم وتضييعهم بالكلية، وقد دخلت علينا في حياتهم الأسرية كثير من التقاليد الغربية في أمر الاحتفاء الزائد بالأهل والأولاد، ودعوى ضرورة بناء مستقبلهم وغير ذلك مما حاصلة: نسيان الكفالة الإلهية والضمان الرباني.
التسويف: وهو داء عضال ومرض قتال، إذ أن 'سوف' جند من جنود إبليس، قال الشاعر:
ولا أدخر شغل اليوم عن كسل إلى غدٍ إنّ يوم العاجزين غد
الكسل والفتور: 'لا بد للمرء من البعد عن الكسل لأنه قاتل للهمّة مذهب لها، وخاصة عند تقدم العمر وعجز الجسم، فهذا شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله 'كان يصلى النوافل من قيام مع كبر سنه، وبلوغه مائة سنة أو أكثر، وهو يميل يمينًا وشمالاً لا يتمالك أن يقف بغير ميل للكبر والمرض، فقيل له في ذلك فقال: يا ولدي، النفس من شأنها الكسل وأخاف أن تغلبني وأختم عمري بذلك'.
?وهذه أقوال تبين ما في العجز والكسل والفتور من آفات:
'ما لزم أحد الدعة إلا ذل، وحب الهوينا يكسب الذل، وحب الكفاية مفتاح العجز'.
وقال الصاحب:'إن الراحة حيث تعب الكرام أودع لكنها أوضع، والقعود حيث قام الكرام أسهل لكنه أسفل'.
ملاحظة الخلق:أكثر الخلق مفرطون، وهم في الغفلة غارقون ؛ فهم صوارف عن الهمّة العلية حيث يغتر بهم ويقلدون في تفريطهم، فالحذار الحذار من غفلة الغافلين والاغترار بها.
العلامات الدالة على علو همة الشخص:
تحرّقه على ما مضى من أيامه.
كثرة همومه، وتألمه لحال المسلمين، وما يجدون من ظلم وعنت.
موالاته النصيحة، وتقديم الحلول والاقتراحات، التي تقوم بالإسلام والمسلمين وتعزهم، لمن يأمل فيهم التغيير، ويرجو منهم الإصلاح.
طلبه للمعالي دائمًا فيما يفعله، أو يتعلمه، أو يصلحه: قال الأستاذ محمد الخضر حسين: 'طالب العلم الذي لا يدع بابًا من أبوابه إلا ولجه... يكون أعظم همة ممن لا يطرق منه كل باب، أو لم يعرج منه على كل مسألة قيمة، وطالب العلم الذي يخوضه بنظر حر ويتناول مباحثه بنقد وبصيرة يكون أعظم همة ممن يجمع مسائله حفظًا ويتلقاها كما يتلقى حاكي الصدى لا يكلفك غير إملائها عليه'.
كثرة شكواه من ضيق الوقت، وعدم قدرته على إنجاز ما يريده في اليوم والليلة: وليست هذه الشكوى من نمط ما نسمع من ترداد كثير من الناس لها، ولكنها شكوى حقيقية نابعة من عمل دؤوب يستغرق أوقات الشخص، فيبث تلك الآهات الصادقة.
قوة عزمه وثبات رأيه وقلة تردده: فهو إذا قرر أمرًا راشدًا لا يسرع بنقضه بل يستمر فيه، ويثبت عليه حتى يقضيه ويجنى ثمرته، ولا شك أن كثرة التردد ونقض الأمر بعد إبرامه من علامات تدني الهمّة.
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تتردّدا(/6)
كيفية استثمار همة الناس: يجب علينا أن نحسن استثمار الهمّة عند الناس، ونستخرج منهم دفائن الكنوز، وخبايا الصدور والعقول. والناس أمام المسلم الصالح ثلاثة أقسام:
? صالح ملتزم بدينه.
? ومستقيم محافظ على الفرائض والواجبات.
? وثالث مضيع ضائع.
أما القسم الثالث: فيترك لحين إفاقته.
وأما القسم الثاني: وهم المستقيمون المحافظون، ولكن في استقامتهم ومحافظتهم تخليط، فتستثمر هممهم كما يأتي:
إن كانوا من ذوي اليسار والغنى يوجهون للمشاركة في أعمال الخير العامة مثل بناء المساجد، وإغاثة المنكوبين، وإقامة المنشآت النافعة ونحو ذلك، وخير ما يمكن أن يشاركوا فيه هو تلك الهيئات والجمعيات الإسلامية المنتشرة في العالم الإسلامي، ولله الحمد، حيث إن الكوارث والنكبات التي تحيط بالعالم الإسلامي والتي توضحها وتتبناها تلك الهيئات كفيلة بإثارة نوازع الشفقة والخير فيهم، فينشطون للمساعدة بهمة جيدة.
إن كانوا من ذوي الدخول المتوسطة – وهذا حال معظم ذلك القسم وتلك الفئة – فيوجهون إلى سماع الدروس الطيبة، وخطب الجمعة النافعة التي يؤديها خطباء مشهورون بالتأثير على العامة.
ومن الحلول الناجحة لهذه الفئة هو توجيه شبابها وتحمسيهم للمشاركة في الجهاد ؛ إذ كم سمعنا عن أشخاص من عامة الناس قد علت همتهم وارتقى بم حماسهم حتى شاركوا في الجهاد، وحسنت صلتهم بالله، والتزموا هذا الدين.
التوضيح والتبيين لهم بأنهم يضيعون أوقاتهم فيما لا يفيد، فلو قضوا ذلك في مجالات أجدى وأنفع لكان حسنًا.
توجيههم للقراءة النافعة، إذ معظم تلك الطائفة أميو الثقافة وإن كانوا يحملون شهادات جامعية، فقد عكف الناس للأسف على متابعة أخبار بعينها، وتركوا ما ينفعهم عاجلاً وآجلاً، ويثير فيهم الغرام إلى دار السلام.
وأما القسم الأول: فهو المعتمد عليه، والمأمول منه الإصلاح والرقي بهذه الأمة، ويمكن استثمار همم هذا الصنف كما يأتي:
الانتساب إلى جمعية، أو هيئة لها برنامج عمل محدد ينجز من خلالها كثير من الأمور النافعة، وذلك مثل بعض الهيئات الإغاثية المنتشرة في العالم الإسلامي، أو جمعيات البر، أو لجان البر، أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك. وليحذر الأخ من التأثر بما تشتمل عليه بعض هذه الهيئات من نوع خطأ، أو ميل قليل عن الحق، فيترك العمل كلية لأجل هذا.
الانتساب إلى جماعة إسلامية صالحة من الجماعات المنتشرة في العالم الإسلامي، وهي تعمل بجهد وإخلاص لإقامة دين الله، والقائمون على تلك الجماعات لهم برامج محددة تصلح لاستثمار همم الشباب، وإقامة عمل إسلامي نافع.
توعية الشخص المنصوح بأن يختار لنفسه مجالاً يبدع فيه، ويبرز ويكون عطاؤه من خلاله بالغًا غايته، وهمته في إنجازه قوية عالية، فمن وجد من نفسه انصرافًا للعلم وتحصيله؛ فليقبل عليه، ومن وجد منها ميلاً إلى الأعمال الخيرية والإغاثية؛ فليشارك إخوانه، ومن وجد منها حبًا للجهاد ومقارعة الأعداء؛ فلا يتوان وليقدم .
محاذير موجهة لأهل الهمّة العالية: هذه المحاذير خاصة بأهل الهمّة العالية، وليست لغيرهم من متدنّي الهمم، أو متوسطيها؛ وذلك لأن فيها جملة من الأمور لا يفهمها غيرهم، ولا يدركها سواهم:
? صاحب الهمّة تحلق به همته دائمًا فتأمره بإنجاز كثير من الأعمال المتداخلة في وقت واحد، فليطعها بقدر ولا يستبعد ما تأمر به، وفي الوقت نفسه لا يقوم به كله بل يأخذ منه بقدر ما يعرف من إسعاف همته له بالقيام به.
وتزاحم الأعمال على الإنسان ومحاولة القيام بها مجتمعةّ أمر لا ينكره أهل الهمّة العالية.
? صاحب الهمّة العالية معرض لنصائح تثنيه عن همته، وتحاول أن تذكره دائمًا بأنه:} مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ...[4] { [سورة الأحزاب]. وأن صاحب الصنعتين كاذب والثالثة سارق، وهكذا... فالحصيف لا يلتفت لهذه النصائح إلا بقدر محدود؛ وذلك لأن موجهي هذه النصائح قد تنشأ نصائحهم هذه لحسد اعتراهم من حال المنصوح، أو لأنهم يجهلون ما يستطيع عمله هذا الرجل ذو الهمّة العالية من أمور لا تدركها أفهامهم، ولا تستطيعها هممهم.
? وصاحب الهمّة معرض لسهام العين والحسد؛ فعليه بالأذكار المأثورة ليدرأ عن نفسه ما قد يصيبه من سهام القدر على يد الحساد.
? وصاحب الهمّة قد تعتريه فترة وضعف قليل لما يراه من تدني همم غالب الخلق؛ فلا يحزن لأجل هذه الفترة، وليوطن نفسه على الإحسان، وعلو الهمّة مهما ضعف أو تخاذل من حوله، وأيًا كان سبب الفترة التي تعتريه فهي أمر طبيعي يعتري العالمين والسالكين، وليتذكر حديث المصطفي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ] رواه أحمد. والشرّة: النشاط والهمّة، والفترة: الضعف والانكسار.(/7)
? وأهل الهمّة العالية قد يكونون مفرطين في بعض الأمور التي قد لا يرون فيها تعلقًا مباشرًا بموضوع هممهم، وذلك مثل بعض حقوق الأهل والأقارب، فينبغي على من وقع في هذا المحذور أن يلتفت إلى إصلاحه ولو بالقدر الذي يبعد عنه سهام اللائمين.
? وقد تؤدى الهمّة العالية بصاحبها إلى أن يتحمس تحمسًا اندفاعيًا، فيستعجل، ويرتكب من الأخطاء ما كان يمكن تلافيه بقليل من التعقل وحساب العواقب، وعلى من وقع في مثل هذا أن يعرف السنن الكونية، وأن الأمر لا يحسم بين عشية وضحاها، وليكن مثله سيد أولى الهمّة العالية صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد كان يوصي أصحابه رضي الله عنهم بالعمل والصبر، فالصبر لا غنى عنه لأهل الهمم.
?وأهل الهمّة العالية قد يتعرضون لأمور تؤثر في هممهم وتطلعهم إلى معالي الأمور، وأعظم مثال على هذا: التعرض للخلاف الحاصل بين الفقهاء بعين الذمّ والمقت، ونقدهم والإقلال من شأنهم، ومثاله أيضًا التعرض للجماعات الإسلامية العاملة على الساحة وذمها والتنقص من شأنها، وإلصاق التهم بها بدون وجه شرعي معتبر في أحيان كثيرة، ويمضي هذا الأخ سحابة يومه وليلته باحثًا عن الأخطاء متصيدًا لها، ومثل هذا الشخص إن أصبح هذا الأمر ديدنه، فستتخلف همته ولا شك، وتقعد به عن معالي الأمور.
يقول الأستاذ محمد الخضر حسين: 'كبير الهمّة يستبين خطأ في رأي عالم أو عبارة كاتب فيكتفي بعرض ما استبان من خطأ على طلاب العلم ليفقهوه، ويأبى له أدبه أن ينزل إلى سقط الكلام أو يخف إلى التبجح بما عنده، وقد حدثنا التاريخ عن رجال كانوا أذكياء ولكنهم ابتلوا بشيء من هذا الخلق المكروه، فكان عوجًا في سيرهم ولطخًا في صحفهم، ولو تحاموه لكان ذكرهم أعلى ومقامهم في النفوس أسمى، ومنزلتهم عند الله أرقى'.
يقول ابن القيم رحمه الله: 'أعلى الهمم في طلب العلم طلب علم الكتاب والسنة، والفهم عن الله ورسوله نفس المراد، وعلم حدود المنزل، وأخس همم طالب العلم قصر همته على تتبع شواذ المسائل وما لم ينزل، ولا هو واقع، أو كانت همته معرفة الاختلاف، وتتبع أقوال الناس، وليس له همة إلى معرفة الصحيح من تلك الأقوال، وقَلّ أن ينتفع واحد من هؤلاء بعلمه'.
? صاحب الهمّة العالية لا بد له من المداومة على الأعمال التي تدوم ولا تنقطع: وليتذكر صاحب الهمّة العالية:[أَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ] رواه البخاري ومسلم. فهمة متوسطة العلو تدوم خير من همّة عظيمة متقطعة.
وأسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الهمّة العالية، وأن يبارك لنا في أوقاتنا وأعمالنا، وصلي الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
من رسالة:'الهمة طريق إلى القمة' للدكتور/محمد موسى الشريف(/8)
الهوية الإسلامية ومؤامرة القضاء عليها
الأستاذ أنور الجندي رحمه الله
يزداد إيقاع الأحداث في العالم كله مع تنامي عقود القرن الخامس عشر الهجري الذي يتوقع أن تصل الصحوة الإسلامية فيه إلى مرحلة النضوج وامتلاك الإرادة واستعادة الحق.
ومن يطالع الأحداث منذ بزوغ هذا القرن يستطيع أن يثق بأن المسلمين قد خلّفوا فعلاً مرحلة البكاء على الأطلال وترنيمات التهافت على الماضي الذي انقضى والحزن عليه .
أعتقد أن الأحداث قد علّمت المسلمين أن يخرجوا من دائرة العاطفة الجوفاء إلى دائرة البحث عن خطة ، عن طريق ، عن منهج يمكن به تفادي الوقوع في الأخطاء مرة أخرى بعد أن تكشفت لهم حقائق كثيرة ربما كانوا يجهلونها، ووضحت لهم وجوه ربما كانوا حسني الظن بها، وهي تخفي في أعماقها الرغبة في تدميرهم والقضاء على كيانهم .
(هَا أنْتُمْ أوْلاَءِ تُحِبُّوْنَهُمْ وَلاَيُحِبُّوْنَكُمْ وَتُؤمِنُوْنَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإذَا لَقُوْكُمْ قَالُوْا آمَنَّا وَإذَا خَلَوا عَضُّوْا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) (آل عمران آية 119)
يجب أن يكون واضحًا لنا نحن المسلمين أن المؤامرة التي بدأت منذ نزول القرآن وظهور الإسلام لاتزال مستمرة ، وهي في كل عصر تأخذ طابعًا مختلفًا وقد نبأنا الله تبارك وتعالى من أخبارها وجاءت الأحداث متوالية ومتتابعة لتكشف لنا أبعاد المؤامرة التي تدبر للإسلام .
وقد وصلنا الآن إلى مرحلة توصف بأنها مرحلة اجتثاث الشجرة من جذورها ، هكذا تخطط القوى المتجمعة من غربية وماركسية وصهيونية ولكن هل نستطيع ؟ وهل الإسلام الذي جاء لينقذ البشرية ويخرجها من الظلمات إلى النور عرضة للأزمة ؟ . ومن الحق أن يقال : إن الأزمة موجهة إلى المسلمين وأنهم هم الذين سيتحملون عواقبها إذا ما عجزوا عن حماية الأمانة الموكولة إليهم والحفاظ على بيضة الدين .
فإذا تولوا فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه.
أما الإسلام فإنه باقٍ وهو ملاذ البشرية كلها وسوف ينصره الله إذا خذله أهله المتفرقون الآن والخاضعون للقوى المختلفة التي تصرب بعضهم ببعض .
إن أمامنا المثلاث والتجارب والأحداث ماتزال قائمة يجب أن نلتمس عبرتها ونحاول أن نستفيد منها للوصول إلى طريق العمل الذي يجب أن يكون قد بدأ فعلاً .
فهذا القرن الخامس عشر الهجري هو قرن بناء الخطط العملية لتحرير العقل المسلم والنفس المسلمة من التبعية للفكر الغربي الوافد الذي خضعنا له أكثر من مائة عام منذ فرض علينا قانون نابليون ومنهج دنلوب وخطط زويمر .
ومنذ فرضت علينا إرساليات التبشير مناهجها التربوية والتعليمية التي تحولت إلى وزارات التعليم العربية بكل ما تحمل من أخطار وآثام وازدواجية .
هذه المناهج التي ركزت على الإقليمية والعلمانية والقومية والماركسية بتنويع يختلف في كل قطر عن الآخر؛ ولكنها تجمع كلها على هدف واحد هو تمزيق الوحدة الإسلامية والحيلولة دون قيامها مرة أخرى. ولقد نشأت في ظل المخططات دعوات وتنظيمات كشف الزمن عجزها عن العطاء وعدم قدرتها على تلبية مطامح النفس المسلمة والعربية التي شكلها الدين الحق من إبراهيم ، وموسى ، وعيسى – ومحمد عليهم الصلاة والسلام – في ترابط جامع لأمة واحدة تؤمن بالله الواحد وتسلم وجهها إليه خالصًا ومنه تستمد منهج الحياة والعمل والمجتمع كما رسمته الكتب السماوية المنزلة وحيث جاء القرآن الكريم فمقدمه للناس في الصورة العالمية الخاتمة بحيث أصبح هو منهج الفكر لهذه الأمة كلها بكل ألوانها وعناصرها كما حدث عن ذلك كثير من المخططين والباحثين .
فقد استصفى الفكر الإسلامي خلاصة الوحي الرباني كله الذي أنزل على الرسل والأنبياء واستصفاه من مصدريه القرآن والسنة نورًا على طريق البشرية كلها إلى يوم القيامة فكان لابد أن يواجه من الدعوات والنحل والمناهج البشرية. وهي التي عجزت عن العطاء وأسقطتها المتغيرات. وكان آخر ذلك سقوط منهج الغرب الليبرالي وسقوط الماركسية. فأسقطت هذه المناهج في مسقط رأسها وفي بلادها التي صاغتها ، وأعلنت البشرية منذ سنوات طويلة أنها في حاجة إلى منهج جديد ينقذها من براثن النظام الربوي الذي اغتالها ، أما سقوط الماركسية على النحو الذي حدث فقد كشف عن عجز الايدلوجيات البشرية عن العطاء حتى انها بعد سبعين عامًا من سيطرتها على مجرى الأحداث ومن خلال فلسفة عريضة خالفت فيها مناهج الفطرة وعارضت حقائق الدين ومفاهيم العلم وحاولت أن تشق طريقها ضد التيار فعجزت وحاصرتها الأحداث وقصفتها الرياح وأسقطت منهجها وحطمت شراعها .(/1)
لابد أن نعي نحن المسلمين هذه الأحداث وأن نؤمن بأن قيام الكيان الصهيوني في قلب العالم الإسلامي وسيطرته على القدس قبلة المسلمين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من نفس العمل الذي يحاول أن يفرض ما يعارض الفطرة ويخالف حقائق الدين والعلم جميعًا فلابد من سقوطه . ولقد أقامت من قبل القوى الصليبية كيانًا زائفًا في نفس الموقع لم يزل يقاومه المسلمون ويجتمعون له ويجاهدون في سبيل تدميره ويقدمون الأرواح رخيصة في سبيل إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى .
المسلمون اليوم في امتحان جديد هو أقسى من امتحان الحروب الصليبية؛ ولكن الصحوة الإسلامية التي أثبتت اليوم رسوخ أقدامها وعجز الأعداء عن إزالتها قادرة على الثبات في الموقع وحماية الثغور وإعداد قوى الردع الكفيلة برد العدوان واستخلاص الحق واستعادة بيت المقدس. ولن يكون ذلك إلا من خلال وحدة الإيمان والارتفاع فوق المطامع والأهواء والتحرر من الترف والانحلال .
وليعلم المسلمون أن سقوط هذه الايدلوجيات كلها هو لحساب الإسلام وأن الغرب لن يستطيع أن يسيطر على العالم ويقوده نحو الخضوع والتبعية بعد أن أثبتت مناهجه وايدلوجياته عجزها وفسادها وأعلن كبار العلماء والمفكرين الغربيين أنّه لا أمل إلا في الإسلام فهو وحده القادر على إنقاذ البشرية.
ولكن أصحاب المطامع من عباد العجل الذهبي وإمبراطورية الربا لايزالون يخططون من أجل السيطرة على الأمة الإسلامية وثرواتها ومقدراتها التي استنزفت منذ أكثر من قرنين من الزمان لحساب القوي العالمية في نفس الوقت الذي عاش أهل الوطو يواجهون المجاعات ، والنهب ، والاحتواء ، في محاولة لإخضاع المسلمين والعرب ، وضرب بعضهم ببعض ، ولقد استفاق العرب والمسلمون اليوم وعرفوا أنهم قادرون على التعامل السمح الكريم بين طوائفهم كما أمرهم القرآن وكما رسم لهم النبي صلى الله عليه وسلم وكما وضع عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص وغيرهم ميثاق الترابط بين العناصر المختلفة في قلب المجتمع الإسلامي العربي .
ومن هنا فنحن في أشد الحاجة إلى الدخول في مرحلة تحرير الهوية وتصحيح الوجهة. وذلك بإقامة معاملاتنا سواء في مجال التجارة أو الزراعة أو الاقتصاد على أساس تحري الحلال وتجاوز الحرام .
وإن علينا أن نحرر مناهجنا التعليمية من الزيوف التي فرضتها الحضارة الغربية من أجل هدم وحدتنا العامة ، وتحرير مناهجنا الاجتماعية والترفيهية من عوامل تدمير وحدة المجتمع وتكامله ولنحذر من أخطار التداخل الذي يرمي إلى تفريغ هذه الصحوة من مضمونها أو احتوائها أو تدميرها أو إجهاضها(/2)
الهوية الضائعة
أميمة بنت أحمد الجلاهمة - موقع الإسلام اليوم
إن الدراسة والتخطيط والمتابعة السليمة القائمة على أسس أصيلة صحيحة، من سمات نجاح أي مشروع؛ فبغض النظر عن طبيعة المشاريع التي تُطرح للمناقشة على طاولة المفاوضات، لن يتمكن واضعوها والقائمون عليها من تحقيق أهدافهم باعتمادهم الارتجال كمبدأ عام؛ فتحديد الهدف ابتداءً، ثم التنظيم والمثابرة، وعدم التطلّع لنتائج فوريّة حاسمة، من السمات الأساسيّة لتحقيق الغاية المنشودة في أي منها.
إن ما نحتاجه كشعوب إسلاميّة وعربيّة هو الاعتراف بأن نظرتنا الفاحصة في قضايانا الإستراتيجيّة والمبنيّة على حقائق واقعيّة، وأرقام إحصائيّة معتمدة، من أهم ما نفتقده في هذا المجال، مقارنة بطبيعة الحال ببعض الدول، فمشاريعنا على الأغلب تكاد تُبنى على ما يشبه الارتجال، أو على دراسات مستوردة سطحيّة غير معمّقة، وآنية الأبعاد، وبالتالي نحصد نتائج مخيّبة للآمال والتطلّعات؛ فالتخطيط المتعلق بمستقبل التعليم والصحة والأمن والوضع الاجتماعي والاقتصادي يبقى قاصراً لا يلامس طموحات شعوبنا، وتطلّعاتهم.
ولكن الأخطر من ذلك كله، ما نراه في دراسات وعمل دؤوب، تهدف لإلغاء الهُوِيّة الذاتيّة لدى المسلمين، كديانة وتاريخ وأرض، فقد توالت مؤخراً قرارات سلطويّة صادرة عن ولاة الأمر في بعض البلاد الإسلاميّة بهدف إلغاء وتقليص العلوم الإنسانيّة، التي من شأنها ربط المتلقي بدينه أولاً ثم ببلاده لغة وتاريخاً وجغرافية ثانياً، علوم تلامس كيان الإنسان ووجوده واعتزازه بنفسه!!
وأنا هنا لن أناقش أصحاب هذه القرارات في مضامينها، أو في أضرارها على مجتمعاتهم، فهذا شأن يتكفل به علماء أفاضل ننتظر منهم التحرك بفاعلية في هذا المنحى بإذن الله، ولكنّي استأذن المقرّرين في عرض دراسة حديثة، جعلت جلّ اهتمامها ينصبّ على تحصين الهويّة الدينيّة لأبنائها من الضياع والذوبان!!
وإليكم قصة هذه الدراسة، كتب (ناثان غوتمان) في صحيفة (هآرتس) عن اجتماع تمّ في الأيام الماضية في (مزرعة واي) قرب واشنطن، نظمه معهد تابع لـ(الوكالة اليهودية).. هدف هذا الاجتماع ينحصر في البحث عن الحلول لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الهويّة اليهوديّة المهدّدة بالانقراض عام 2025م، ولقد اجتمع لهذه الغاية رجال الدين والاجتماع والسياسة والمال، أذكر منهم: المحامي (ألان درشوفيتس)، (ستيوارت آيزنشتات) نائب وزير المالية الأمريكي سابقاً، (ناتان شارانسكي)، الحاخام (شموئيل سيرات) -الحاخام الأكبر لفرنسا سابقاً -، و(مايكل ستنهارت)، وهو من أكبر المتبرعين اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية، (ودينس روس)، والبروفيسور (يحزقيل درور)، و(وجاك أتالي)، والحاخام (يوفال شارلو)، والبروفيسور (يهودا راينهارتس) الذي يرأس جامعة براندايس.. وغيرهم ممن طلب إبقاء مشاركته في هذا الاجتماع طيّ الكتمان!!
وقد تحدث رئيس الاجتماع (آفي غيل) عن أهداف هذا الاجتماع فقال: "هدفنا هو فهم ما ينبغي فعله اليوم من أجل أن يكون الشعب اليهودي في المستقبل في حالة أفضل". أما عن الكيفية التي يتحقق من خلالها مستقبل أفضل لليهود؛ فقد وضحها البروفيسور (راينهارتس)؛ إذ قال: "إنه كمعظم المشاركين الآخرين، يعتقد أن هناك خشية حقيقيّة من خسارة الهويّة اليهوديّة، وتدنّي حجم الشعب اليهودي بشكل يجعل من المتعذر عليه مواصلة الوجود كشعب"!
لقد توافق معظم المشاركين في هذا الاجتماع في أن الخطر الأكبر الذي يتهدّد الشعب اليهودي في العقود القريبة هو ضعف الهويّة اليهوديّة؛ ففي الواقع المعاصر تتنافس الهويّة اليهوديّة في سوق كبير من الأفكار والأيديولوجيّات المفتوحة أمام كل إنسان، والصعوبة التي تواجه ربط أبناء الشعب اليهودي - خصوصاً الشبان - بالهُويّة اليهوديّة تقود مع مرور الوقت إلى ابتعاد هؤلاء عن حياة الجماعة اليهوديّة، وابتعادهم عن دولة إسرائيل..) كما أكّد: "أن أزمة الهويّة اليهوديّة قائمة ليس فقط في صفوف يهود الشتات، فالوثيقة التي أعدها المعهد تشير إلى أن هناك خشية حتى من داخل إسرائيل من ضعف جوهري في الهويّة اليهوديّة"!!
وبعد مداولات مطوّلة لدراسات ومناقشات وتوصيات تم عرضها أمام الأعضاء، انتهى الاجتماع بإصدار بيان ختامي، جاء فيه : "إن الشعب اليهودي مصاب بافتقاره لقيادة روحيّة مؤهلة لبلورة فحوى روحيّة جديدة للهويّة اليهوديّة، توفّر إلهاماً، وجوهراً وتكون ذات صلة"!! كما أثنى المشاركون في هذا الاجتماع على الطائفة الأصوليّة الأرثوذكسيّة التي حافظت على الهويّة اليهوديّة بشكل تام، فالتعليم يهوديّ 100 %، وزواج المختلط صفر في المئة، ونسبة التكاثر عالية، مؤكدين أن الطائفة اليهوديّة في حالة طوارئ، وتحتاج إلى تمويل كبير وفي كل الميادين، كما تحتاج إلى وقوف المؤسسة التنظيميّة والدينيّة إلى جانبها.(/1)
إن هذه النتائج كانت بالنسبة لهم من الأهمية بمكان، دفعتهم لعرضها أمام مؤتمر رؤساء المنظمات اليهوديّة في الولايات المتحدة الأمريكيّة، وقريباً سيتم تكريس جلسة خاصة في الحكومة الصهيونيّة لمناقشتها.
الهويّة اليهوديّة، والتكاثر السكاني اليهودي، من الأولويّات التي استقطبت رجال الدين والعلم والسياسة والمال، الذين اجتمعوا ليناقشوا الكيفيّة التي من خلالها يحافظ أبناؤهم على الهويّة اليهوديّة.. وأنا هنا لا أناقشهم في فساد خططهم تلك، ولكني أعجب كيف جاز لولاة الأمر في بعض البلاد الإسلامية، إصدار قرارات بهدف تقليص علومنا الإنسانية التي من شأنها ربط أبنائنا بخصائصنا الدينيّة، وبلغتنا العربيّة، اللغة التي اصطفاها المولى سبحانه لكتابه الكريم، وبتاريخنا ومقدرتنا الثقافيّة، في حين نتابع تحركات يهوديّة وصهيونيّة مضادّة دفعها الخوف من تضييع أبنائها للهويّة اليهوديّة لدراسة السبل التي من شأنها تقوية الانتماء اليهودي الديني في نفوسهم، و انتهوا إلى ضرورة تدعيم ذلك بالسلطة السياسيّة والماليّة العالميّة..
ثم، لماذا هم يخططون للحفاظ على الهويّة اليهوديّة، في حين يخطط بعضنا لضياع هويّتنا الإسلاميّة العربيّة الوطنيّة؟ ولِمَ يخشون على خصائصهم من الضياع، في حين انسلخ بعضنا منها وخطط لانسلاخ غيره؟!
ولهؤلاء أقول: ستبقى كلمة الله هي العليا ولو كره وخطط الكارهون.. إنه وليّ ذلك والقادر عليه.(/2)
الهيئات الشرعية الواقع و طريق التحول لمستقبل أفضل
معالي الشيخ / صالح بن عبدالرحمن الحصين الرئيس العام لشؤون الحرمين 4/6/1424
02/08/2003
كان الخبير الاقتصادي العالمي الحائز على جائزة نوبل الأستاذ موريس آليه كتب في يونيه عام 1989ميلادية مقالين في جريدة (لومند) بيّن فيها أن النظام البنكي الغربي سبب أضراراً فادحة بالاقتصاد العالمي وتتلخص في :
1- إيجاد مرض خطير يتجذر في الاقتصاد العالمي ويهدده بالانهيار أو بمواجهة أزمات حادة، إذ أصبح الاقتصاد العالمي بفضل النظام البنكي الحالي عبارة عن أهرامات من الديون يتمركز بعضها على بعض على أساس ضعيف.
2-استعمال المال في غير وظيفته الطبيعية إذ يسر النظام البنكي عمليات الاسبكيوليشن Speculation، فأصبح العالم أشبه بمائدة قمار واسعة، وأصبح الاسبكيوليشن يستأثر بسبعة وتسعين في المائة من تدفق النقود بين بلدان العالم ، ويبقى للتجارة الحقيقية 3% فقط.
3-كان ذلك سبباً لما يعانيه العالم من ضنك ، وبطالة ، وانخفاض في مستوى العدالة الاجتماعية.
ورأى أن لا سبيل للخلاص من الواقع والمستقبل المظلم إلا بتغيير النظام البنكي الحالي من الأساس.
يضاف إلى هذه الأضرار الواقعية والمشاهدة التي أشار إليها الأستاذ آليه :
أ-أن النظام الربوي بطبيعته نظام متحيز لجدارة الائتمان على حساب الجدوى الاقتصادية، فيفضل في التمويل المشاريع الأقوى ائتماناً على المشاريع الأجدى إنتاجية، فتتجه الأموال إلى الأسواق الأقل حاجة إليه، وتحرم منه الأسواق الأكثر حاجة إليه فيعاق النمو الاقتصادي، ومظهر هذا في دول مجلس التعاون الخليجي، أن البنوك الربوية تشكل مجاري سريعة الانحدار تتجه فيها الأموال إلى الأسواق الأقل حاجة إليها، والأضعف جدوى وإنتاجية بحكم حدة المنافسة (لتراجع الإحصاءات لتدفق الأموال الوطنية في مجلس التعاون إلى أسواق أوروبا وأمريكا واليابان ).
ب-تشجيع الاستهلاك الطائش، وخلق حاجات غير حقيقية لدى متلقي التمويل، والعمل المستمر على لف حبال الرق والعبودية على رقبته لصالح السيد الممول.
وهذا عدا تأثيراته السلبية الأخرى على الاقتصاد من عدم الاستقرار وتشويه المناخ المناسب للاستثمار وغير ذلك مما لاحظه خبراء الاقتصاد.
وقد وجدت البنوك الإسلامية تصحبها طبول المبشرات بالخلاص من الربا، وبالتالي الخلاص والوقاية من نتائجه المدمرة التي أشير فيما سبق إلى بعضها. وبدأت بإعلان شعارها الذي اعتبر مميزاً وعلامة فارقه بينها وبين البنوك الربوية وهو (العمل بالنقود وليس العمل في النقود).
والآن وبعد مضي أكثر من ربع قرن على وجود أول بنك إسلامي وبعد أن وصل عدد المؤسسات المالية الإسلامية حوالي مائتي مؤسسة (عدا الدول التي أعلنت تحولها الكامل إلى النظام البنكي اللاربوي، الباكستان عام 1985م وإيران عام 1984م) ما هي الصورة الواقعية الغالبة للبنك الإسلامي؟ وهل حقق أهدافه؟ سأترك أحد أساطين المصرفية الإسلامية يقدم بعض الإجابة.
في محاضرة الشيخ صالح كامل في بنك التنمية الإسلامي بمناسبة منحه جائزة البنك وردت هذه النصوص : ( إننا عندما نرفع شعار تطبيق الإسلام في المعاملات المصرفية نكون قد ألقينا على عاتقنا التزاماً بأن ننهض بمقتضيات ذلك الشعار وأن لا نهن ولا نضعف... وأن لا نركن للتبريرات والحيل والرخص... ومن المهم في هذا الصدد أن تبدو الفوارق واضحة ملموسة بين ثمرة تطبيق النظام المصرفي الإسلامي وبين نتائج العمل المصرفي الربوي... إننا وبكل ثقة واطمئناناً إلى المصادر السماوية لمنهجنا الاقتصادي بشرنا الناس بأن آثار تطبيق الاقتصاد الإسلامي على الأمة ينعكس في قيادتها نحو التنمية الاقتصادية، وإيجاد القيمة المضافة، وزيادة المصادر... وتشغيل العاطل... وتأهيل العاجز... ولكن إذا ما تمادينا في تقليد المصارف التقليدية... وآثرنا سلامة توظيف أموالنا فسوف تغيب في التطبيق مميزات العمل المصرفي الإسلامي وتضييق الفوارق بينه وبين النشاط المصرفي التقليدي وبذلك نكون قد خنا أمانة الاستخلاف...(/1)
أقول لكم بكل الصدق والتجرد... أننا لم نكتف باختيار اسم البنك فقط ولكن أخذنا كذلك مفهومه الأساسي... وبالتالي لم نستطع أن نوجد لمؤسساتنا المالية مفهوماً ونمطاً يتجاوز مسألة الوساطة المالية والذي حصل أن الصيغ الاستثمارية المفضلة لدى البنوك الإسلامية أصبحت هجيناً بين القرض والاستثمار وهو هجين يحمل معظم سمات القرض الربوي وعيوب النظام الرأسمالي الغربي ويعجز عن إبراز معالم الاستثمار الإسلامي المبني على المخاطرة وعلى الاستثمار الحقيقي ولا يعترف بضمان رأس المال أو عائده. ومما يدل على عمق المسألة واستمراريتها أن الهياكل التنظيمية لبنوكنا والتي استقيناها من البنوك التقليدية لا تعير اهتماماً لإدارة الاستثمار لا في حجمها ولا في تخصصاتها، بحيث تستوعب جميع ضروب النشاط الاقتصادي المنتج واكتفينا بجهاز صغير، وجهزنا أوراقنا بما يتلاءم وطبيعة عملياتنا الروتينية شديدة الشبه بالدورات المستندية للأنظمة الربوية. والنتيجة التي وصلنا إليها... أننا لم نتقدم في إبراز الخصائص الأساسية للعمل المصرفي... الإسلامي والمعالم المميزة له... و لم نتجاوز واقع وتأثيرات النظام المصرفي الربوي.
إن النتيجة المنطقية لذلك الاتجاه الخاطئ، هو تكريس التمويل تجاه الموسرين وذوي الملاءة من الذين يملكون الضمانات بأنواعها، وجعلنا المستثمر وحده يتحمل مخاطر الاستثمار ولا يشاركه فيها المصرف، ولم نراع في تمويل العميل الجدوى الاقتصادية لمشروعه بل اكتفينا بالتأكد من قوة الضمانات ولم نهتم إذا كان التمويل يسب آثاراً تضخمية أم لا أو أنه يربك نظام الأولويات والضروريات أم لا وهكذا دون أن ندري أفرغنا العمل المصرفي من مضامينه الحيوية وأهدافه الاستثمارية. إن جوهر وثمرة تحريم الربا وقيام البنوك الإسلامية تكمن في عدم الركون إلى العائد المحدد المضمون... إن النقيض للربا...هو أن يتحمل طرفا العملية المخاطرة واقتسام الربح والخسارة غنماً وغرماً وهذا هو العدل الذي يميز صيغ المشاركة عن الإقراض الربوي... إن عدم التركيز على قاعدة الغنم بالغرم من الناحية النظرية وإغفالها بالكامل في معظم عمليات المصارف الإسلامية و التوسع في استخدام الصيغ مضمونة رأس المال و العائد جعل العامة في حيرة. و من هذه الثغرة تمكن المتشككون من...فتح المجال واسعاً لاستخدام العديد من الحجج المنطقية ظاهراً لتبرير وتحليل الفوائد المصرفية . وأعتقد جازماً أننا لو استمرينا في هذا الاتجاه فستفقد البنوك الإسلامية الأساس النظري والعملي لقيامها واستمرارها.
هناك بلا شك آفاق رحبة لنشاط البنوك الإسلامية... واتجاه موارد مالية كبيرة نحو ميدان العمل المصرفي الإسلامي، مما يتطلب استعداداً فنياً متكاملاً لاستيعاب هذه الموارد وطمأنة أصحابها على السلامة الشرعية لتلك الاستثمارات ، وسوف يؤدي التفريط… إلى… إحباط الجماهير التي رأت في المصارف الإسلامية مخرجاً شرعياً واستثماراً ناجحاً.
من الأمور الشديدة الأهمية أن تسعى البنوك الإسلامية لاستكمال إطارها الشرعي وصيانته... وأن لا تفرط في حرمته... وأن تستند الفتاوى إلى الأصل وليس الاستثناء وإلى العزائم وليس الرخص ). انتهى الاقتباس
لقد أطلت الاقتباس من المحاضرة ليس فقط لأن كاتبها من كبار العاملين في مجال المصرفية الإسلامية والمؤثرين فيها والعارفين بأوضاعها وتطور مسيرتها وإنما لأنها أيضاً عبرت بعبارات أوضح عن المعاني التي أشرت إليها في صدر هذه الورقة.
وحسب شهادة الشيخ صالح كامل في النصوص المقتبسة فإن :
1- البنوك الإسلامية بشرت الناس في البداية أن النظام المصرفي الإسلامي سيقود نحو التنمية الاقتصادية، وإيجاد القيمة المضافة، وزيادة المصادر، وتقليل البطالة وتحقيق الفارق الأساسي بين المصرف الإسلامي والمصرف الربوي، وهو عدم ركون المصرف الإسلامي إلى العائد المحدد المضمون وإعماله قاعدة الغنم بالغرم2- أن البنوك الإسلامية لم تحقق ما بشرت به فتمادت في تقليد المصارف الربوية ، ولم تكتف باختيار اسم (البنك) فقط بل اختارت كذلك مفهومه الأساس ولم تتقدم في إبراز الخصائص الأساسية للعمل المصرفي الإسلامي والمعالم المميزة له ولم تتجاوز واقع ونتائج النظام المصرفي الربوي.
3- الذي حصل أن الصيغ الاستثمارية المفضلة لدى البنوك الإسلامية أصبحت هجيناً بين القرض -في البنوك الربوية- والاستثمار وهو هجين يحمل معظم سمات القرض الربوي وعيوب النظام الرأس مالي ويعجز عن إبراز معالم الاستثمار الإسلامي المبني على الاستثمار الحقيقي.
4- أن مما يدل على عمق المسألة واستمراريتها أن الهياكل التنظيمية التي استعارتها المصارف الإسلامية من المصارف الربوية لا تعير اهتماماً لإدارة الاستثمار لا في حجمها ولا نوعيتها وقد جهزت المصارف الإسلامية أوراقها بما يتلاءم وطبيعة عملياتها شديدة الشبه بالدورات المستندية للأنظمة الربوية.(/2)
5-كانت النتيجة المنطقية لذلك الاتجاه الخاطئ هو تكريس التمويل تجاه الموسرين ذوي الملاءة الذين يملكون الضمانات بأنواعها ولم يراع في تمويل العميل الجدوى الاقتصادية لمشروعه ولم يهتم بما إذا كان التمويل يربك نظام الأولويات والضروريات، وبذلك فإن البنوك الإسلامية دون أن تدري أفرغت العمل المصرفي الإسلامي من مضامينه الحيوية وأهدافه الاستثمارية.
6- لم تركز البنوك الإسلامية على قاعدة الغنم بالغرم من الناحية النظرية بل أغفلت بالكامل في معظم عمليات المصارف الإسلامية ، وبدلاً عن ذلك توسعت البنوك الإسلامية في استخدام الصيغ مضمونة رأس المال والعائد مما جعل العامة في حيرة وفتح للمتشككين مجالاً واسعاً لتبرير وتحليل الفوائد الربوية وإذا استثمرت البنوك الإسلامية في هذا الاتجاه فستفقد حتماً الأساس النظري والعملي لقيامها واستمرارها.
أضيف إلى الوقائع الآنفة الذكر التي أوضحت عنه المحاضرة.
7- تركيز البنوك الإسلامية على عمليات الاسبكيوليشن سواء في صناديق المتاجرة بالأسهم أو العمولات، أو السلع على النطاق المحلي، أو الإسراف في استخدام الاسبكيوليشن على النطاق الخارجي.
8- ركزت البنوك الإسلامية في عمليات التمويل المحلي -ربما أكثر من البنوك الربوية- على تمويل الاستهلاك وليس الإنتاج.
9- لم تغير البنوك الإسلامية اتجاه انسياب الأموال الوطنية إلى أسواق المال العالمية بل ربما أخذت هذه الأموال على يد البنوك الإسلامية طريقاً أسرع انحداراً، وأكثر زخماً.
وإذا تأملنا كل ما سبق، يتضح أن النتائج الاقتصادية السلبية للبنوك الإسلامية، من شأنها أن لا تختلف عن النتائج السلبية للبنوك الربوية. وإذا كان الربا لم يحرم لمجرد صورته وشكله وإنما حرم لجوهره وحقيقته، وإذا كان تحريم الربا ليس أمراً تعبدياً وإنما حرم لعلة معقولة، فإنما كشف عنه التطبيق العملي في هذا العصر من الآثار والنتائج المدمرة للربا خليق بأن يعتبر علة تحريمه أو جزءاً من العلة أو على الأقل دالاً على الحكمة التشريعية للتحريم. وإذا كان الربا، وهو أكبر مصيبة في الدين والدنيا أو من أكبر المصائب التي يعاني منها العالم الإسلامي، لن ترفع لعنته إلا بوجود بديل مختلف في الجوهر ومنافس للمؤسسات الربوية، فإن البنوك الإسلامية في وضعها الحاضر أبعد ما تكون عن هذه الغاية وإن استمرارها على هذا النهج سيفقدها -كما قال الشيخ صالح كامل بحق- الأساس النظري والعملي لوجودها وبقائها، وسيؤدي إلى إحباط الجماهير التي لا تزال عاطفتها الدينية هي القوة الوحيدة التي تمد البنوك الإسلامية بفرصة البقاء.
إذا كان الأمر مثل ما وصف آنفاً فما السبب الذي أوصل البنوك الإسلامية إلى هذا المستوى من الإخفاق في تحقيق الغاية من وجودها ؟
الجواب: عندما أعلن عن وجود البنوك الإسلامية كانت عاطفة الجماهير الإسلامية العارمة ورغبتها في التخلص من الربا دافعاً لإغراق تلك البنوك بالسيولة المالية، ولم تكن البنوك استعدت بمنتجات ملائمة لاستخدام فيض السيولة المالية، فلجأت إلى الهيئات الشرعية ملتمسة المخرج من هذا المأزق ولم يكن أمام هذه الهيئات إلا أن تقدم لها حلولاً عملية تتمثل في صيغ تعتمد التركيز على ضمان رأس المال والعائد، على أساس أن تكون حلولاً مؤقتة، ولكن البنوك بعد ممارستها لهذه الحلول واكتشافها أنها وإن كانت أقل كفاءة من نظام الفائدة الربوية إلا أنها لا تبعد عنها من ناحية الوظيفة، أصرت على أن تكون عماد عملياتها وأن تولد منها صوراً مشابهة، حتى صارت طابعاً مميزاً لها، وصارت عاملاً فعالاً في عزوف البنوك الإسلامية كلياً عن تجربة وتطوير المعاملات الشرعية التي تبعد بالبنك عن صيغة ضمان رأس المال والعائد، وتحقق الهدف المقصود وهو رفع الربا، ونتائجه الاقتصادية المدمرة.(/3)
وتمادى الأمر بالبنوك الإسلامية بدلاً من ذلك إلى محاولة إقناع الهيئات الشرعية بتمكنها من صيغ وأدوات تقترب كفاءتها من كفاءة نظام الفائدة الربوية، وتتخلص بقدر الإمكان من القيود العملية والشرعية التي تقصر بها عن كفاءة نظام الفائدة، وعلى سبيل المثال فإن شركة الراجحي المصرفية للاستثمار طلبت قبل سنوات من هيئتها الشرعية الإذن لها ببيع الأسهم نسيئة، وقد فطنت الهيئة إلى أنها لو أذنت بذلك لفتحت الباب للشركة لاستعمال هذا الإجراء لعمليات التورق ولكانت النتيجة الطبيعية أن تكون عملية التورق هي العملية السائدة لاستخدام الموارد، وأن تستغني بها الشركة عن كل الأدوات الأخرى لاستخدام الموارد، إذ لن تحتاج -في إجابة طلب العميل التمويل- إلا أن تعرض عليه أن يشتري نسيئة أسهم شركة قوية معروفة بأن سعرها لا يتغير عادة في المدى القصير، ثم يبيعها بالنقد وهذه العملية يمكن أن تتم في دقائق معدودة ولا تتعرض لتعقيدات المرابحة وقيودها العملية والشرعية ولا تفترق عن التمويل بالفائدة إلا بتحميل العميل الفرق بين سعر البيع والشراء، وهو عادة فرق ضئيل وإذا تحمله البنك لم يبق فرق في جانب العميل بين هذه العملية وعملية الاقتراض بالفائدة الربوية. لقد فطنت الهيئة الشرعية لشركة الراجحي إلى أنها لو سمحت بذلك لكانت حيله لاستحلال الربا مكشوفة، مدركة الفرق بين أن تتم عملية التورق - حين أجازها بعض الفقهاء- بين فرد عادي وآخر في ظروف خاصة، وبين أن تتم بين مؤسسة وظيفتها التعامل في النقود وعملائها. ليس هذا فحسب بل أن ممارسة البنك الإسلامي لهذه العملية ستكون الطريق السهل للقضاء على مشروع البنك الإسلامي الحقيقي قضاءً نهائياً.
إن هذا الفخ الذي تحامته الهيئة الشرعية لشركة الراجحي قد وقعت فيه هيئة شرعية لبنك آخر فظهر قبل أشهر ولا يزال يظهر إعلان البنك المشار إليه يبشر بأنه صار من السهل على العميل أن يحصل على النقد لمواجهة متطلباته فلا يحتاج إلاّ أن يشتري سلعة يعرضها البنك نسيئة ثم يبيعها لطرف آخر وتتم هذه العملية في البنك في وقت وجيز، وبسهولة ويسر، وذلك في برنامج وصفه الإعلان بأنه ابتكار غير مسبوق في التمويل الإسلامي.
وفي مجلة أهلا وسهلا (عدد رجب/شعبان 1422) ظهر إيضاح عن هذا البرنامج بعنوان (لأول مرة في تاريخ البنوك الوطنية، البنك{ … } يطرح "المنتج" ليقلب موازين المرابحة الشخصية). وجاء في الإيضاح: (لأول مرة في تاريخ البنوك الإسلامية يقدّم البنك {…} "هذا المنتج" ، وهو منتج إسلامي جديد غير مسبوق. يمثل إبداعاً خلاقاً لفريق تطوير المنتجات وهيئة الرقابة الشرعية… بالبنك … وقد تولدت فكرته… تلبية لرغبة العملاء في السوق السعودي وسؤالهم المتكرر عن إيجاد أداة مالية إسلامية توفر لهم السيولة دون تحمل مخاطر رأسمالية، كما يحدث في شراء العملاء السيارات مرابحة ثم إعادة بيعها. … "هذا المنتج" يلبي احتياجات شريحة عريضة من عملاء البنك يرغبون في الحصول على سيولة نقدية من خلال آلية شرعية تعتمد على فقه بيع التورق التي أجيزت بقرار مجمع الفقه الإسلامي … و التورق جائز عند جمهور العلماء … ومن المتوقع أن يساهم "البرنامج المذكور" في قلب موازين التمويل الشخصي في البنوك الوطنية لأنه ينهي معاناة العملاء من الخسائر الهائلة التي كانوا يتحملونها في سبيل الحصول على السيولة النقدية … وبشكل ميسر).
كما يرى القارئ أظهر الإعلان والإيضاح أعلاه صورة المنتج في الواقع، تماما كما ظهر للهيئة الشرعية لشركة الراجحي في التصور.
لقد صدق الإيضاح في القول أن المنتج المعلن عنه يقلب موازين المرابحة الشخصية، و أن من المتوقع أن يساهم في قلب موازين التمويل الشخصي في البنوك الوطنية، ولا شك أن البنوك لو عملت بهذه السنة السيئة لاستغنت البنوك الإسلامية، والنوافذ الإسلامية في البنوك الربوية، عن أي أداة أخرى للتمويل بقدر استغناء البنوك الربوية بالربا المباشر.
ولماذا تلجأ البنوك أو يلجأ عملاؤها إلى الأدوات التي تعوّدت العمل بها في التمويل كالمرابحة، بما يلابسها من تكلفات وتعقيدات ووقت طويل مادام قد وجدت لديهم أداة سهلة ميسرة يمكن أن تتم إجراءاتها في دقائق معدودة.(/4)
ولكن الإعلان و الإيضاح لم يصدقا في وصفهما المنتج، فليس إبداعاً ولا خلاقاً ولا ابتكاراً غير مسبوق، بل هو الحيلة الملعونة التي مازال المرابون طوال العصور يخادعون بها الله والذين آمنوا. ولم يصدق الإيضاح في دعواه أن هذه الحيلة الملعونة هي التورق الذي أجازه مجمع الفقه الإسلامي وبعض الفقهاء، فهذا افتئات عليهم لان التورق الذي أجازه من أجازه من الفقهاء صورة مما يمكن اعتباره في تأويلهم "مخرجا شرعيا"، وفرق بين "المخرج الشرعي" المباح والحيلة المحرمة فمع أن صورتهما الظاهرة واحدة إلا أن بينهما فرقا دقيقا ولكنه بحمد الله واضح كالشمس، فإذا وجدت على رأي بعض الفقهاء أو ظهرت على رأي بعضهم إرادة الفاعل المحرم صار الفعل حيلة ملعونة على لسان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
في الإعلان والإيضاح عن المنتج وقع التعبير صراحة عن إرادة الممول والعميل إعطاء النقود نسيئة بعوض عن النسأ، أي إرادة الوصول إلى الربا. على أن الأمر في مثل هذه الحالة لا يحتاج إلى التعبير صراحة عن إرادة الفاعل بل إذا أقدمت مؤسسة تتعامل في النقود على التمويل بصورة التورق فانه يستحيل على أي فقيه أن يجد فرقاً بين هذه الصورة وصورة الحيلة الملعونة.
أما الهيئة الشرعية للبنك التي أجازت هذا المنتج فإنها لم تؤت من قصور في الفقه أو قلة في الورع وإنما أُتيت من الغفلة عن الواقع، واقع المنتج الذي أظهرته صيغة الإعلان والإيضاح المنقول أعلاه، وواقع النتائج الخطيرة التي تنشأ عنه فيما لو اتخذ سنة من قبل البنوك الإسلامية فيصير رصاصة الرحمة موجهة لمشروع المصرفية الإسلامية. ويتحمل من سنّه ازره وازر من قلده إلى يوم القيامة.
ثمرة كل ما سبق إننا لن نحتاج بعد هذا إلى أن نثبت لعلمائنا الاجلاء أعضاء الهيئات الشرعية للبنوك الإسلامية أن من الطبيعي إذا سلكت طريقاً معيناً أن يوصلك إلى نهايته.
ليس لدى البنوك الإسلامية -فيما يبدو- أي دافع لأن تغير نهجها، لقد زين لها عملها فرأته حسناً، أليست بالرغم من ضعف كفاءة أدوات توظيفها للأموال بالقياس لأداة الفائدة الربوية لا تزال واقفة على إقدامها في مجال المنافسة مع البنوك الربوية .
عندما سارعت البنوك الربوية لفتح نوافذ "إسلامية!!" تستخدم فيها أدوات توظيف الأموال التي تستخدمها البنوك الإسلامية وذلك سعياً وراء اجتذاب إيداعات المسلمين المتقين سمعنا صيحات الفرح الساذج بأن الأدوات الإسلامية فرضت نفسها على سوق توظيف الأموال، فياله من انتصار يدعو للفخر والإعجاب لم يدركوا أنه هزيمة حرية بأن تنبه إلى حقيقة تلك الأدوات.
قبل سنوات طالبت مصلحة الضرائب مكتب أحد البنوك الإسلامية في لندن بالضريبة التجارية على أعماله، وهي بالطبع تزيد كثيراً على الضريبة عن عمليات التمويل بالفائدة، فاستطاع المكتب بسهولة أن يقنع مصلحة الضرائب بأن عملياته وإن كانت صورتها تجارية فهي عمليات تمويل حقيقية وإنما قصد بصورتها الظاهرة "مخرجاً شرعياً" ليتجاوز الأحكام الشرعية المحرمة للربا.
في كثير من البلدان يحرم الربا إذا جاوز الفائدة القانونية، ولا يستطيع الشخص في هذه البلدان أن يفلت من العقاب لو مارس الربا المحرم قانوناً بالصيغ التي تتبعها البنوك الإسلامية كمخارج شرعية، ولهذا يكون رجل الشارع في باريس أو روما على حق حينما يقول: لا نستطيع أن نخدع قضاتنا بما يحاول المسلمون أن يخدعوا ربهم ؟
لقد استطاع موظفو البنوك الإسلامية الإداريون أن يقنعوا العلماء في الهيئات الشرعية أن التحول إلى الطريق الصحيح والتخلي كلياً أو جزئياً عن صيغ ضمان رأس المال والعائد أمر غير ممكن وكأنهم يريدون أن يقنعوا الناس بأن الله الذي يريد أن يخفف عنا، ويريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر يلجئنا إلى ما حرم من الربا. لم يصدقوا معهم فيخبروهم أن المانع الوحيد للتحول للطريق الصحيح هو عدم إرادتهم ذلك واختيارهم الطريق السهل على طريق يقتضي منهم في البداية بذل الجهد، والشجاعة على التجربة، ومعاناة الابتكار، وتوطين النفس على مواجهة الصعوبات، أو حتى الإخفاقات.
لم يخبروا العلماء بالنتيجة المنتظرة في المستقبل وهو ما عبر عنه الشيخ صالح كامل بفقد البنوك الإسلامية الأساس النظري والعملي لقيامها واستمرارها.
بل أن الأمر قد يكون اقرب من ذلك إذ لن يطول الوقت قبل أن تواجه المؤسسات المالية في دول مجلس التعاون (إسلامية أو ربوية) وضعاً صعباً ناتجاً عن دخول بلدانها منظمة التجارة الدولية أو عجزها عن دخول هذه المنظمة. إن الآثار السلبية للعولمة – كما تقتضي طبائع الأمور – ستصيب أول ما تصيب المؤسسات المالية، ولن تجد البنوك المحلية لها عاصما من تلك الآثار إلا بتحولها إلى نظام مغاير قادر على الوقوف في مجال المنافسة الحادة. هذا النظام هو فقط النظام الإسلامي الحقيقي.
السؤال قبل الأخير(/5)
إذا كانت فلسفة توظيف الأموال في البنوك الإسلامية هي نفسها فلسفة البنوك الربوية "التعامل في النقود وليس التعامل بالنقود" ، وإذا كان تركيز البنوك الإسلامية في استخدام الموارد على الأدوات التي تستهدف العائد المحدد المضمون، مثل البنوك الربوية وإذا كانت الأدوات التي تستخدمها البنوك الإسلامية أضعف كفاءة من الأدوات التي تستخدمها البنوك الربوية، فبينما تتصف أدوات البنوك الربوية بالبساطة تثقل أدوات البنوك الإسلامية بالقيود والتكلفات وعمليات المكياج التي تفرضها محاولة إبعاد صورتها عن صورة الأدوات الربوية، ولا تتوافر لأدوات البنوك الإسلامية الفعالية والمرونة التي تتوافر للبنوك الربوية، فغاية ما تسمح به أدوات البنوك الإسلامية أن تحقق لها مقابل الفائدة البسيطة، الفائدة التعويضية، أما أدوات البنوك الربوية فتحقق لها الفائدة البسيطة والفائدة المركبة، الفائدة الثابتة والفائدة المتغيرة، الفائدة التعويضية والفائدة التأخيرية.
إذا كان الأمر كذلك، وهو الواقع، فما السر في أن البنوك الإسلامية لا تزال واقفة على أقدامها بجانب البنوك الربوية، مع أن الميدان ميدان منافسة، والمقيد لا يمكن أن يجاري المطلق في ميدان السباق، إن السر في ذلك اعتماد البنوك لا على مقدرتها الذاتية وإنما على قوة خارجية، وهي عاطفة عملائها الدينية المبنية على ثقتهم المطلقة بان البنوك الإسلامية إنما تتحرك وفق توجيهات ورقابة العلماء أعضاء الهيئات الشرعية.
معنى ذلك أن قوة وقدرة البنوك الإسلامية مستمدة كليا من وجود هيئاتها الشرعية وموافقتها على أعمالها.
السؤال الأخير.. ما هو الحل؟
إذا كان من أهم المهمات ومن أوجب الواجبات و من افضل القربات والعبادات رفع لعنة الربا عن المجتمعات الإسلامية وإذا كانت الحكومات غير قادرة – حتى لو أرادت- على أن ترفع لعنة الربا في العالم الإسلامي، إذ غاية ما تستطيعه تجريم الربا وإصدار القوانين بإلغائه. ويدل المنطق وما تقتضيه طبائع الأمور، وشواهد الواقع على عجز القوانين على رفع هذه اللعنة، إذ لا يمكن – عمليا- رفع الربا إلا بوجود مؤسسات مالية بديلة تقوم بوظيفة تعبئة الموارد واستخدامها وتفترق عن المؤسسات الربوية في الجوهر وتستمد قوتها من ذاتها لا من خارجها.
وإذا كان هذا البديل لن يتحقق إلا بتغيير البنوك الإسلامية الحالية مسارها بحيث (تبدو الفوارق واضحة وملموسة بين ثمرة تطبيق النظام المصرفي الإسلامي وبين نتائج العمل المصرفي الربوي، "وتحقق ما بشرت به البنوك الإسلامية" بأن آثار تطبق الاقتصاد الإسلامي على الأمة ينعكس في قيادتها نحو التنمية الاقتصادية وإيجاد القيمة المضافة وزيادة المصادر وتشغيل العاطل) - حسب ما عبر الشيخ صالح كامل فيما اقتبسنا من محاضرته- وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا توجهت إرادة البنوك الإسلامية إلى التغيير و إلى عدم الركون إلى صيغ العائد المحدد المضمون.
ولما كانت البنوك الإسلامية إنما تستمد قوتها التي هي عماد بقائها من هيئاتها الشرعية، فان الهيئات الشرعية للبنوك الإسلامية هي وحدها القادرة على حمل البنوك الإسلامية على تصحيح مسارها وإيجاد البنك الإسلامي الحقيقي.
نتيجة المقدمات السابقة أن الهيئات الشرعية اقدر من كل أحد على إيجاد البديل الحقيقي للربا وبالتالي رفع الربا من المجتمعات الإسلامية. ولا يطلب من الهيئات الشرعية لهذه الغاية العمل إنما يطلب منها عدم العمل، أي أن تتوقف عن ترميم البيت الذي لا يصلح للسكنى وترقيع الثوب الذي لا يستر عورة، أن تتوقف عن تشجيع البنوك الإسلامية على التمادي في خلق الأدوات والعمليات شديدة الشبه بالدورات المستندية للأنظمة الربوية – حسب ما وصف بحق الشيخ صالح كامل- وأن تجعل شرط بقائها معاونة لهذه البنوك أن تتجه إرادة البنوك إلى أن تتحول ضمن خطة زمنية محددة إلى المصرفية الإسلامية الحقيقية.
وبعد هذا الإيضاح فعلماؤنا الاجلاء أقدر على تصور مسؤليتهم أمام الله و أورع إن شاء الله من أن لا يقدروها حق قدرها.
وبالله التوفيق و صلى الله على سيدنا و نبينا محمد وآله وصحبه.(/6)
( الهُموم والهِمَم )
د. علي بن عمر بادحدح 21/12/1425
01/02/2005
الداعية كثير التفكير في أحوال أمته وسبل إصلاحها وأسباب قوتها، وهو دائماً يحمل هموم الأمة ويعاني من جراحاتها، ويحزن لآلامها ،وتمتزج هذه الهموم مع إيمانه بالله ويقينه بنصره؛ فيتولد في قلبه الإصرار على العمل، وتنبثق في نفسه همة عالية لا ترضى بالدون، ولا تقنع بما دون البذل الكامل والنصر التام؛ لأنه سائر في طريق الله مجاهد في سبيل دعوة الله ولسان حاله يقول:
إذا غامرت في شرفٍ مروم ... ...
فلا تقنع بما دون النجوم
ومن هنا يتميز الداعية الحق عن غيره في همومه وأحزانه، وطموحاته وآماله، وقد يعجب من حاله أهل الهوى، وقد ينكر عليه أهل الدنيا وأتباع المصالح، وقد يتهم بأنه يعيش في دنيا الأحلام والأوهام، وأن آماله وطموحاته ضرب من المستحيل، ومع ذلك كله يعظم الهم في قلبه، وتعلو الهمة في نفسه، ويظل متميزاً محلقاً؛ إذ
( من علامات كمال العقل علوّ الهمة، والراضي بالدون دنيء).
ويشعر الداعية بحلاوة التفرد وينهل من نبع الإيمان الذي لا ينفد؛ لأن" لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه؛ فأشرف الناس نفساً وأعلاهم همة، وأرفعهم قدراً مَن لذّتهم في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه".
وهذا زادٌ دائم التوقد والتوهج يدفع للبذل والعمل، وبقدر العطاء والعناء تتولد اللذة والسرور، وحسبنا مثلاً أنس بن النضر الذي قال يوم أحد: " واهاً لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها من دون أحد" ثم ألقى بنفسه على الأعداء يعانق الموت، فاستشهد وبه نحو من ثمانين ضربة وطعنة. ولك أيها الداعية قدوة في السلف عندما قيل لأحدهم – لكثرة بذله وعمله -: "إلى متى تتعب نفسك؟ فقال: راحتها أريد".
نعم، إنها راحة ولذة لا يعرفها إلا من ذاقها، فرغم ما يراه الآخرون من أسباب الشقاء إلا أن الهمة العالية والأشواق الإيمانية تقلب الميزا"فإن العزيمة تذهب المشقة، وتطيب السير والتقدم، والسبق إلى الله إنما هو بالهمة وصدق الرغبة والعزيمة"وهكذا يكون بين جنبيك – أخي الداعية – نفس تتوق إلى المعالي وتترجم كلمات ربيعة بن كعب لما قال له المصطفى:
" سلني ما شئت، فقال: أسألك مرافقتك في الجنة". وأنت تعلم أن المصطفى عليه الصلاة والسلام قال: "ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة"، والثمن بذل في سبيل الله، لا يُستثنى منه شيء حتى الروح (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون...)[النوبة:111] وأنت – أيها الداعية تعرف الحياة وغايتها وقصرها ونهايتها فلتكن عندك مطية الآخرة التي هي المطمع والمطمح.
ومن هنا فإن الهم يولد الهِمّة، والهمة تدفع للعمل وتظل أكبر منه دائما
وإذا كانت النفوس كباراً ... ...
تعبت في مرادها الأجسامُ
وقد قيل لبعض الرجال الأفذاذ: لنا حويجة، قال: اطلبوا لها رجيلاً!
فلتكن أعمالك وآمالك دائماً عالية باستعلاء الإيمان المحرك ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).
فلا بد لك ألاّ يمرّ بك وقت دون همٍ وهمة وعمل، ممارسة بجوارحك، أو تفكير بعقلك، أو دعوة بلسانك، أو هم وحزن في قلبك؛ فالداعية لا راحة عنده إلا في البذل، وهموم أمته معه تؤرقه وتدفعه وشعاره قول الشاعر:
كلا رويدك ياطبيب وقد ... ...
سألت أما استراح
هل يستريح الحر يوقد ... ...
صدره العبء الرّزاح
نعم راحتنا في العمل في الدنيا، والراحة الكبرى الجنة والرضوان.(/1)
الهُوِيّة الضائعة
أميمة بنت أحمد الجلاهمة 28/5/1426
05/07/2005
إن الدراسة والتخطيط والمتابعة السليمة القائمة على أسس أصيلة صحيحة، من سمات نجاح أي مشروع؛ فبغض النظر عن طبيعة المشاريع التي تُطرح للمناقشة على طاولة المفاوضات، لن يتمكن واضعوها والقائمون عليها من تحقيق أهدافهم باعتمادهم الارتجال كمبدأ عام؛ فتحديد الهدف ابتداءً، ثم التنظيم والمثابرة، وعدم التطلّع لنتائج فوريّة حاسمة، من السمات الأساسيّة لتحقيق الغاية المنشودة في أي منها..
إن ما نحتاجه كشعوب إسلاميّة وعربيّة هو الاعتراف بأن نظرتنا الفاحصة في قضايانا الإستراتيجيّة والمبنيّة على حقائق واقعيّة، وأرقام إحصائيّة معتمدة، من أهم ما نفتقده في هذا المجال، مقارنة بطبيعة الحال ببعض الدول، فمشاريعنا على الأغلب تكاد تُبنى على ما يشبه الارتجال، أو على دراسات مستوردة سطحيّة غير معمّقة، وآنية الأبعاد، وبالتالي نحصد نتائج مخيّبة للآمال والتطلّعات؛ فالتخطيط المتعلق بمستقبل التعليم والصحة والأمن والوضع الاجتماعي والاقتصادي يبقى قاصراً لا يلامس طموحات شعوبنا، وتطلّعاتهم ..
ولكن الأخطر من ذلك كله ما نراه في دراسات وعمل دؤوب، تهدف لإلغاء الهُوِيّة الذاتيّة لدى المسلمين، كديانة وتاريخ وأرض، فقد توالت مؤخراً قرارات سلطويّة صادرة عن ولاة الأمر في بعض البلاد الإسلاميّة بهدف إلغاء وتقليص العلوم الإنسانيّة، التي من شأنها ربط المتلقي بدينه أولاً ثم ببلاده لغة وتاريخاً وجغرافية ثانياً، علوم تلامس كيان الإنسان ووجوده واعتزازه بنفسه ..!!
وأنا هنا لن أناقش أصحاب هذه القرارات في مضامينها، أو في أضرارها على مجتمعاتهم، فهذا شأن يتكفل به علماء أفاضل ننتظر منهم التحرك بفاعلية في هذا المنحى بإذن الله، ولكنّي استأذن المقرّرين في عرض دراسة حديثة، جعلت جلّ اهتمامها ينصبّ على تحصين الهويّة الدينيّة لأبنائها من الضياع والذوبان!!
وإليكم قصة هذه الدراسة، كتب (ناثان غوتمان) في صحيفة (هآرتس) عن اجتماع تمّ في الأيام الماضية في (مزرعة واي) قرب واشنطن، نظمه معهد تابع لـ(الوكالة اليهودية).. هدف هذا الاجتماع ينحصر في البحث عن الحلول لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الهويّة اليهوديّة المهدّدة بالانقراض عام 2025م، ولقد اجتمع لهذه الغاية رجال الدين والاجتماع والسياسة والمال، أذكر منهم: المحامي (ألان درشوفيتس)، (ستيوارت آيزنشتات) نائب وزير المالية الأمريكي سابقاً، (ناتان شارانسكي)، الحاخام (شموئيل سيرات) -الحاخام الأكبر لفرنسا سابقاً-، و(مايكل ستنهارت)، وهو من أكبر المتبرعين اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية، (ودينس روس)، والبروفيسور (يحزقيل درور)، و(وجاك أتالي)، والحاخام (يوفال شارلو)، والبروفيسور (يهودا راينهارتس) الذي يرأس جامعة براندايس.. وغيرهم ممن طلب إبقاء مشاركته في هذا الاجتماع طيّ الكتمان!!
وقد تحدث رئيس الاجتماع (آفي غيل) عن أهداف هذا الاجتماع فقال: "هدفنا هو فهم ما ينبغي فعله اليوم من أجل أن يكون الشعب اليهودي في المستقبل في حالة أفضل". أما عن الكيفية التي يتحقق من خلالها مستقبل أفضل لليهود؛ فقد وضحها البروفيسور (راينهارتس)؛ إذ قال: "إنه كمعظم المشاركين الآخرين، يعتقد أن هناك خشية حقيقيّة من خسارة الهويّة اليهوديّة، وتدنّي حجم الشعب اليهودي بشكل يجعل من المتعذر عليه مواصلة الوجود كشعب"!
لقد توافق معظم المشاركين في هذا الاجتماع في أن الخطر الأكبر الذي يتهدّد الشعب اليهودي في العقود القريبة هو ضعف الهويّة اليهوديّة، ففي الواقع المعاصر تتنافس الهويّة اليهوديّة في سوق كبير من الأفكار والأيديولوجيّات المفتوحة أمام كل إنسان، والصعوبة التي تواجه ربط أبناء الشعب اليهودي -خصوصاً الشبان- بالهُويّة اليهوديّة تقود مع مرور الوقت إلى ابتعاد هؤلاء عن حياة الجماعة اليهوديّة، وابتعادهم عن دولة إسرائيل..) كما أكّد: "أن أزمة الهويّة اليهوديّة قائمة ليس فقط في صفوف يهود الشتات، فالوثيقة التي أعدها المعهد تشير إلى أن هناك خشية حتى من داخل إسرائيل من ضعف جوهري في الهويّة اليهوديّة"!!
وبعد مداولات مطوّلة لدراسات ومناقشات وتوصيات تم عرضها أمام الأعضاء، انتهى الاجتماع بإصدار بيان ختامي، جاء فيه : "إن الشعب اليهودي مصاب بافتقاره لقيادة روحيّة مؤهلة لبلورة فحوى روحيّة جديدة للهويّة اليهوديّة، توفّر إلهاماً، وجوهراً وتكون ذات صلة"!! كما أثنى المشاركون في هذا الاجتماع على الطائفة الأصوليّة الأرثوذكسيّة التي حافظت على الهويّة اليهوديّة بشكل تام، فالتعليم يهوديّ100 %، وزواج المختلط صفر في المئة، ونسبة التكاثر عالية.. مؤكدين أن الطائفة اليهوديّة في حالة طوارئ، وتحتاج إلى تمويل كبير وفي كل الميادين، كما تحتاج إلى وقوف المؤسسة التنظيميّة والدينيّة إلى جانبها.(/1)
إن هذه النتائج كانت بالنسبة لهم من الأهمية بمكان، دفعتهم لعرضها أمام مؤتمر رؤساء المنظمات اليهوديّة في الولايات المتحدة الأمريكيّة، وقريباً سيتم تكريس جلسة خاصة في الحكومة الصهيونيّة لمناقشتها.
الهويّة اليهوديّة، والتكاثر السكاني اليهودي، من الأولويّات التي استقطبت رجال الدين والعلم والسياسة والمال، الذين اجتمعوا ليناقشوا الكيفيّة التي من خلالها يحافظ أبناؤهم على الهويّة اليهوديّة ..
وأنا هنا لا أناقشهم في فساد خططهم تلك، ولكني أعجب كيف جاز لولاة الأمر في بعض البلاد الإسلامية، إصدار قرارات بهدف تقليص علومنا الإنسانية التي من شأنها ربط أبنائنا بخصائصنا الدينيّة، وبلغتنا العربيّة، اللغة التي اصطفاها المولى سبحانه لكتابه الكريم، وبتاريخنا ومقدرتنا الثقافيّة، في حين نتابع تحركات يهوديّة وصهيونيّة مضادّة دفعها الخوف من تضييع أبنائها للهويّة اليهوديّة لدراسة السبل التي من شأنها تقوية الانتماء اليهودي الديني في نفوسهم، و انتهوا إلى ضرورة تدعيم ذلك بالسلطة السياسيّة والماليّة العالميّة ..ثم لماذا هم يخططون للحفاظ على الهويّة اليهوديّة، في حين يخطط بعضنا لضياع هويّتنا الإسلاميّة العربيّة الوطنيّة؟ ولِمَ يخشون على خصائصهم من الضياع، في حين انسلخ بعضنا منها وخطط لانسلاخ غيره؟!
ولهؤلاء أقول .. ستبقى كلمة الله هي العليا ولو كره وخطط الكارهون ..إنه وليّ ذلك والقادر عليه.(/2)
الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم
الكاتب: الشيخ أ.د.عبد الله قادري الأهدل
إن المسلم معرض لوسوسة الشيطان وإغوائه، حسداً منه لآدم الذي أغواه فتاب إلى ربه، ولهذا يحتاج المسلم إلى تذكيره بمخاطر عدوه إبليس، وإلى تذكره دائما بأن الشيطان له بالمرصاد، ولا ينجيه منه إلا لجوؤه إلى الله تعالى يستعيذ به من عدوه، ويجاهد نفسه على طاعة ربه مخلصا له عمله متبعا فيه رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلا ضل وهلك وصار من حزب عدوه الذي أمر الله عباده بعداوتهم له والبعد عن طاعته لأنه لم يفتأ يسوس لهم ليضلهم يوقعهم فيما وقع فيه من غضب الله فيكون مصيرهم كمصيره النار، كما قال تعالى : }ِإنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ{..فاطر (6)
والذي يترك اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ويتبع الشيطان، إنما يشاق الله ورسوله ويحارب دينه وكتابه، وجزاؤه ما ذكره الله تعالى في قوله:} َمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرا{ ..النساء(115).
فالمسلم في حاجة دائمة – بل في ضرورة ملحة – إلى ما يلازمه في حياته كلها، ليذكره بطاعة الله تعالى وترك معاصيه، ويذكره بعدوه إبليس الذي يلازمه ملازمة ظله ليغويه ويصرفه عن عبادة الله إلى عبادته وعن طاعة الله إلى طاعته: }قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ {...الأعراف(18) ، وقد أمد الله عباده بمنهج واضح في غاية الوضوح كامل في غاية الكمال، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، شامل لكل حياتهم أفرادا وأسرا وجماعات ودولا، يغنيهم عن غيره من مناهج الأرض كلها، ولا يغنيهم عن شيء منه، شيء مما سواه .
} وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون{ ..الأنعام(153) فإذا جد المسلم واجتهد في تعلم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، على أيدي من فقههم الله تعالى فيهما، وقرأهما قراءة الفاحص المتأمل بعرض نفسه عليهما ليعلم مدى استجابته لهما وعمله بما أمره الله فيهما وترك ما نهاه الله عنه، وعمل بذلك فقد فاز برضا ربه.
ولكنه لا يستغني عن مرشد ناصح له يذكره إذا نسي وينبهه إذا غفل ويوقظه إذا نام، وهل سيتوفر له هذا المرشد الناصح في جميع أوقاته التي لا يدعه فيها الشيطان لحظة واحدة في داخل بيته وخارجه، في مدرسته ومصنعه، وسوقه ومكتبه، في حضره وسفره في خلوته وجلوته؟ كلا!
وهنا يسأل السائل: وما ذا يفعل المسلم الذي يحتاج إلى هذا الواعظ المرشد الذي يحتاج إليه في كل أوقاته وقد لا يجده في وقت هو أكثر ضرورة لوجوده؟
والجواب أن الله تعالى بفضله ورحمته قد تكفل لكل مسلم بل لكل إنسان على وجه الأرض بهذا المرشد الناصح الملازم الذي لا يغيب عنه لحظة من لحظات حياه، وأقام عليه به الحجة البالغة، فأخبره به ودله عليه وجعله عليه حارسا لا يفارقه، يحثه على ما ينفعه ويسوقه إليه سوقا ويحذره مما يضره ويدفعه عنه دفعا، فإن هو استجاب له وعمل بإرشاده نال الفوز في حياته الدنيا وآخرته وانتصر على عدوه الذي لا يفتأ يوسوس له ليضله، وإن هو صد عنه وأعرض واتبع هواه، خاب في دنياه وآخرته وأصبح من جند إبليس الخاسرين.
نعم إنه الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم الملازم الذي لا يغيب عن الإنسان في كل لحظات حياته، إنه علم الله الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، علمه تعالى الذي بثه في كل صفحات كتابه المقروء، ودلت عليه كل ذرة من كتابه المفتوح .
وعندما يكون المؤمن مستحضرا هذا الواعظ بقوة في قلبه سيحاول الشيطان الرحيم أن يهتبل منه لحظة غفلة فيصرفه عن طاعة أو يوقعه في معصية، ولكن هذا الواعظ في المتمكن من قلبه سرعان ما يذكره بربه وكونه يعلم الغيب كما يعلم الشهادة فلا يخفى عليه شيء، فينيب إليه ويستغفره ويعود إلى رشده، وكأنه فقد بصره لحظة فعاد إليه سريعا فإذا هو مبصر }إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ {...الأعراف (201) .(/1)
ولنستعرض هذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم في بعض نصوص الوحيين، لنُذَكِّر بهما أنفسنا ونقوي بهما إيماننا وندعم بهما تقوانا، فنتسلح به و بهما في حياتنا لتكون كلها حارسا لنا من عدونا الشيطان الرجيم فلا يأتينا من فج إلا وجد منهما شهبا محرقة وجنودا به محدقة، فلا يجد له علينا سبيلا، بل يولي مدبرا مدحورا ذليلا :
فلنتذكر أولا: أنه لا يوجد عند الله تعالى غيب كما يوجد عند المخلوقين الذين لا يعلمون إلا ما علمهم الله، ومهما بلغوا من العلم الذي نالوه، فإن ما يعلمونه في غاية الضآلة بجانب ما غاب عنهم، أما الخالق سبحانه، فلا فرق عنده بين ما هو من عالم الغيب وما هو من عالم الشهادة عند خلقه، كما قال تعالى :}عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ{ في سور كثيرة من كتابه، كسورة الأنعام (73) وسورة التوبة (94)، و (105) وسورة الرعد (9) وسورة الزمر (46) وسورة الحشر (22) .
فإذا علم المؤمن أنه مهما غاب عن أعين الناس لا يغيب عن علم الله تعالى تيقن أن هذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم ملازم له في كل حال، فراقب أشد المراقبة هذا الواعظ الأكبر الذي لا يغيب عنه طرفة عين، فيحمل نفسه على طاعة ربه في كل ما أمره به، مستكثرا طامعا في رضا الله وجزيل ثوابه تعالى، لعلمه أن كل ما يعمله من الطاعات عند ربه محسوب، وفي سجله لديه مكتوب، كما يراقب هذا الزاجر الأعظم بكل ما يعمل في ما نهاه الله تعالى عنه، فيكبح جماح شهوات نفسه الأمارة بالسوء فلا يقدم على معصية من المعاصي، لعلمه أنه ما يعمل من مثقال ذرة منها إلا لقي عليه جزاءه يوم الدين.
بل إن ذلك الرقيب الذاتي الملازم، ليحمله على الحرص على عمل ما يحبه الله تعالى من الأعمال، ولو لم يكن واجبا بل مندوبا لأنه يعلم أنه كلما عملا يرضي ربه ثقل عنده ميزان حسناته، وبتعد عما يكرهه الله تعالى ولو لم يكن محرما عليه، لعلمه أنه سيثيبه على ذلك كله ولو لم يعاقبه على فعل المندوب وترك المكروه .
ولنتذكر ثانيا: إن الله تعالى علم أن أكثر خلقه لا يستغنون أبدا عن التذكير بهذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم، بل هم في غاية الضرورة إلى التذكير به وتذكره، لكثرة أعدائهم المحيطين بهم الملازمين لهم الأولى يزينون لهم القبيح من المنكرات والفواحش، ليدَعُّوهم إلى غضب الله وشديد عقابه دعاًّ، فالشيطان الرجيم كما سبق للإنسان بالمرصاد، ونفس العبد الأمارة بالسوء تهيجه إلى كل الموبقات، وهواه يجعله لا يفرغ من تعاطي شهوة - حلالا كانت أم حراما نافعة أم ضارة - إلا أغراه بأختها، فأكثر سبحانه لعباده في كتابه من ذكر هذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم، ليتسلحوا به ضد أولئك الأعداء الملازمين.
قال تعالى : }أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور{ ..هود (5) ، هذه الآية الكريمة – مهما اختلف المفسرون في سبب نزولها – تجعل قارئها واجف القلب مرتعد الفرائص من أي حركة يتحركها أو سكنة يسكنها، محذرا نفسه من مغبة ما تأتي وما تذر مما يفقده رضا خالقه ويجلب له غضبه، لأن سره وعلنه لدى بارئه مكشوف، بل ذات خلايا صدره وخطرات قلبه تحت سمع الله وبصره، فأين المهرب من علم الله المهرب وأين المفر من رقابته ؟
قال فضيلة شيخنا العلامة المفسر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "قوله تعالى }أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ{..هود(5) .
يبين تعالى في هذه الآية الكريمة. أنه لا يخفى عليه شيء، وأن السر كالعلانية عنده، فهو عالم بما تنطوي عليه الضمائر وما يعلن وما يسر، والآيات المبينة لهذا كثيرة جداً، كقوله} : وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {ق: (16) وقوله جل وعلا : (إِنِّي) هكذا وجدتها في النص المنقول من موقع "المشكاة" ويبدو لي أنه عَنى رحمه الله الآية الكريمة}: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ {..البقرة (30) . والله أعلم .
وقوله }فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ {الأعراف: (7) ، وقول :}وَمَا تَكُونُ في شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ?لاٌّرْضِ وَلاَ في ?لسَّمَآءِ {..يونس (61)(/2)
ولا تقلب ورقة من المصحف الكريم إلا وجدت فيها آية بهذا المعنى.
تنبيه مهم
اعلم أن الله تبارك وتعالى ما أنزل من السماء إلى الأرض واعظاً أكبر، ولا زاجراً أعظم مما تضمنته هذه الآيات الكريمة وأمثالها في القرآن، من أنه تعالى عالم بكل ما يعمله خلقه، رقيب عليهم، ليس بغائب عما يفعلون.
وضرب العلماء لهذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم مثلاً ليصير به كالمحسوس، فقالوا: لو فرضنا أن ملِكاً قتّالا للرجال، سفّاكاً للدماء شديد البطش والنكال على من انتهك حرمته ظلماً، وسيافه قائم على رأسه، والنطع مبسوط للقتل، والسيف يقطر دماً، وحول هذا الملك الذي هذه صفته جواريه وأزواجه وبناته، فهل ترى أن أحداً من الحاضرين يهتم بريبة أو بحرام يناله من بنات ذلك الملك وأزواجه، وهو ينظر إليه، عالم بأنه مطلع عليه؟? لا وكلا?، بل جميع الحاضرين يكونون خائفين، وجلة قلوبهم، خاشعة عيونهم، ساكنة جوارحهم خوفاً من بطش ذلك الملك.
ولا شك (ولله المثل الأعلى) أن رب السموات والأرض جل وعلا أشد علماً، وأعظم مراقبة، وأشد بطشاً، وأعظم نكالاً وعقوبة من ذلك الملك، وحماه في أرضه محارمه.
فإذا لاحظ الإنسان الضعيف أن ربه جل وعلا ليس بغائب عنه، وأنه مطلع على كل ما يقول وما يفعل وما ينوي لان قلبه، وخشي الله تعالى، وأحسن عمله لله جل وعلا". انتهى كلامه رحمه الله .. "من كتاب أضواء البيان أول سورة هود "
ولنتذكر ثالثا: أنه تعالى نوع لعباده هذا المعنى، وهو رقابته الدائمة عليهم، ليشعر كل منهم أن كل نوع من تلك الأنواع كاف وحده لعظته وزجره وتقواه لربه في سره وعلنه، ولكنه تعالى نوعها لهم ليزدادوا تقوى ورقابة على أنفسهم من ترك طاعاته أو ارتكاب معاصيه، ومن تلك الأنواع ما يأتي:
النوع الأول
جعل كل خلية من خلايا جسم الإنسان محصية عليه ما يأتي وما يذر، لتأتي يوم القيامة - وقد كانت صامتة في الدنيا - شاهدة عليه بذلك ناطقة به، كما قال تعالى : }وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ (23) {
فإذا كان الكفار أعداء الله، لم قد حاربوا الله تعالى وحاربوا رسله وكتبه ودينه، ولم يصدقوا في الدنيا ما أخبرهم به وتوعدهم عليه واقترفوا ما اقترفوا من الفواحش وأنواع المنكرات وأعضاؤهم تسجل عليهم من حيث لا يشعرون، حتى إذا جاءهم اليوم الموعود فشهدت عليهم بكل ما عملوه، تعجبوا وأنكروا على جلودهم شهادتها عليهم، إذا كان الكفار كذلك، فالمؤمنون بخلافهم آمنوا بربهم وبرسله وكتبه وبما أخبرهم به، ومنه علمه بسرهم وعلانيتهم، ولهذا يكونون دائما مراقبين ربهم يعلمون أن جلودهم تسجل عليهم أعمالهم، فيكون ذلك أكبر واعظ لهم وزاجر.
النوع الثاني
أنه تعالى أخبر عباده بأنه أرسل عليهم حفظة من ملائكته، يكتبون أعمالهم وأقوالهم ومكنهم من معرفة ما يريدون فعله أو تركه في قلوبهم، فلا يزالون يسجلون عليهم ذلك، ليقرؤوه يوم القيامة في صحائفهم، فأما الكفار فلا يتعظون بذلك ولا ينزجرون، حتى يأتي اليوم الذي تبلى فيه السرائر.
قال تعالى :}عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِي (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ... (11) {الرعد (والسَّرَب الذهاب والتقلب في الأرض)
ومعنى يحفظونه من أمر الله أي بأمره كما تبينها قراءة ابن عباس، والحفظ شامل لحفظ الملائكة ما يتعلق بالعبد من السوء الذي لم ينزل به قدر الله ومن كتابة ما يعمل من خير أو شر، حتى يأتوا به يوم القيامة في سجله.
ومثل آية الرعد آيات الانفطار} وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12){ ، فهم من الملائكة الذين جعلهم الله تعالى رقباء على عباده حفظة لهم ولأعمالهم(/3)
قال شيخنا الشنقيطي رحمه الله }وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً.. {الأنعام: (61) : لم يبين هنا ماذا يحفظون وبينه في مواضع أخر فذكر أن مما يحفظونه بدن الإنسان بقوله : }لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِاللَّهِ{الرعد:( 11)
وذكر أن مما يحفظونه جميع أعماله من خير وشر، بقوله}وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) { الانفطاروقوله: }إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) {ق. وقوله}أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) الزخرف .. (أضواء البيان) .
النوع الثالث
أنه تعالى لم يقتصر على ذكر عموم علمه وإحاطته بكل شيء، مثل قوله تعالى}وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً{ الطلاق (12) وقوله}وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {البقرة (29) .. وغيرها.
بل فصل لعباده ذلك العموم بذكر أمثلة جزئية في الكون تبين لهم أنه لا يفوت على علمه شيء فيه صغر أم كبر لئلا يتوهموا أنه يعلم فقط الكليات، كما قال تعالى : }وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ {الأنعام(59) .
النوع الرابع
أنه تعالى فصل كمال علمه وشموله فيما يعمله الإنسان، مع أن تفصيله السابق في آية الأنعام وما شابهه وهو كثير لو تأمله العاقل كفاه شمولا لأعماله وتصرفاته، قال تعالى }أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {المجادلة (7) .
النوع الخامس
أنه تعالى مع ذلك التعميم والتفصيل الذي شمل بعضا من تصرفات الإنسان، خص بعلمه ما قد يظن الإنسان أنه مخفي في داخل قلبه لا يطلع عليه أحد، كما قال تعالى : }قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {آل عمران (29)
النوع السادس
أنه تعالى بين أنه يترتب على معرفة شمول علمه لكل شيء، خوف المؤمنين من ربهم العالم بأسرارهم، في حال خلواتهم من المخلوقين، ليقينهم أن أنهم مهما غابوا عن الخلق، فإنهم لا يغيبون عن الخالق، على عكس حال المنافقين الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله قال تعالى عن المؤمنين: }إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14).. {الملك .
وقال عن المنافقين } يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً {النساء (108) .
فالذي لا يخشى ربه بالغيب، ولا يطيعه في خلوته، ولا ينزجر عن معصيته، يخشى عليه من أن يكون من هؤلاء الذين يستخفون بعاصي الله وترك طاعته من الناس ويجاهرون ربهم بها وهم المنافقون أعاذنا الله منهم ومن صفاتهم.
اللهم أعنا على مجاهدة أنفسنا بتذكر إحاطة علمك بكل شيء، لنتعظ به فلا نترك طاعة تأمرنا بها، ولا معصية تنهانا عنها في سرنا وعلنا، إنك على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(/4)
الواقع الدعوي للمرأة
الكاتب: الشيخ د.عوض بن محمد القرني
عناصر الموضوع
أولاً: النساء والرجال في مشروعية الدعوة سواء.
ثانياً: إشارة تاريخية لدور المرأة الدعوي.
ثالثاً:واقع المرأة الدعوي:
1-ضعف الاهتمام بدعوة المرأة.
2- التقصير في تأهيل المرأة للدعوة.
3- مظاهر الواقع الدعوي للمرأة.
-برامج دعوية يستفيد منها النساء والرجال وينفذها الرجال.
-برامج دعوية يستفيد منها النساء فقط وينفذها الرجال.
-برامج دعوية يستفيد منها النساء وينفذها النساء.
رابعاً: توصيات ومقترحات.
أولاً:- النساء والرجال في مشروعية الدعوة سواء:
1- الآيات والأحاديث التي وردت في وجوب الدعوة ومشروعيتها وردت في حق الرجال والنساء سواءً من غير تفريق مثل قوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف : 108 ) وقوله: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل : 125 ) وقوله: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران : 104 ) وقال سبحانه:(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران : 110 ) وقال سبحانه: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت : 33 ) وقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة : 71 ).
والأحاديث التي وردت في هذا كثيرة منها:[نضر الله وجه امرئ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها ] [لتأمرن بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ......]
2- إن الحاجة إلى الدعوة وتعلم أحكام الدين في حق الرجل والمرأة سواء.
3- إن أصل التكليف بالدين للمرأة والرجل سواء ولا يمكن القيام بالتكليف إلا بقناعة وعلم ولا تتحقق القناعة والعلم إلا بالدعوة والتعليم.
4- أن دور المرأة الإجتماعي والحياتي حتى يكون منضبطاً بالإسلام لابد من دعوة المرأة وتعليمها.
ثانياً:- إشارة تاريخية لدور المرأة الدعوي :
1)في عصر الرسالة حيث كان النساء يحضرن دروس النبي صلى الله عليه وسلم وخطبه في الأعياد والجمع وغيرها وكان أحياناً يختصهن بدروس ومواعظ خاصة وكن يذهبن إليه في منزله يسألنه ويستفتينه صلى الله عليه وسلم، وكان نزول كثير من الآيات وتشريع كثير من الأحكام بسبب النساء.
2)في زمن الصحابة كان لكثير من النساء دور دعوي وتعليمي كبير برز فيه أمهات المؤمنين والعديد من الصحابيات رضي الله عنهن.
3)في العصور المختلفة كان للنساء دور كبير في الدعوة والتعليم في مختلف فروع العلم ، وخذ مثالاً لذلك أن بعض من طلب شيخ الإسلام بن تيمية العلم على أيديهم وأذنوا له بالتعليم والإفتاء كنّ من النساء، وذكر الذهبي في معجم شيوخه الذين بلغوا أكثر من ألف شيخ أنّ منهن حوالي ثلاثمائة امرأة.
ثالثاً:- واقع المرأة الدعوي:
1-ضعف الاهتمام لدعوة المرأة ويظهر ذلك من خلال:-
-مقارنة البرامج الدعوية الخاصة بالنساء بمثلها الخاصة بالرجال من حيث عدد البرامج وتنوعها وفاعليتها واستمرارها.
- مقارنة عدد العاملات في مجال الدعوة بعدد العاملين من الرجال.
- مقارنة عدد وإمكانات المؤسسات المهتمة بدعوة المرأة مع مثيلاتها المهتمة بدعوة الرجال.
2-التقصير في تأهيل المرأة للدعوة:
ويظهر ذلك من خلال:
-عدد الدارسات في أقسام الشريعة وأصول الدين والدعوة مقارنة بأعداد الرجال.
-عدد النساء المستفيدات من الدورات العلمية مقارنة بأعداد الرجال المستفيدين من تلك الدورات .
-أعداد الموظفات الرسميات في مكاتب الدعوة مقارنة بأعداد الرجال.
-أعداد العاملات في حلقات تحفيظ القرآن مقارنة بالرجال في الميدان نفسه.
-أعداد المحتسبات العاملات في مجال الدعوة مقارنة بالرجال.
3-مظاهر الواقع الدعوي للمرأة:
-برامج دعوية يستفيد منها النساء والرجال وينفذها الرجال وهذه شبه مقصورة على المحاضرات والدروس في المساجد التي فيها أماكن للنساء وهي قليلة بالنسبة إلى المساجد التي لا يوجد فيها أماكن خاصة بالنساء.
-برامج دعوية يستفيد منها النساء فقط وينفذها الرجال مثل ا لمحاضرات والمواعظ في كليات ومدارس البنات.(/1)
-برامج دعوية يستفيد منها النساء وينفذها النساء مثل المحاضرات والدورات العلمية والدروس في كليات ومدارس البنات وحلقات التحفيظ النسائية.
رابعاً:- التوصيات والمقترحات:
1. تفعيل اللجان النسائية في المؤسسات الخيرية ودعمها بالإمكانات البشرية والمادية.
2.إنشاء أقسام نسائية في مكاتب الدعوة وتوظيف داعيات مؤهلات.
3.التوسع الكبير في الإذن للداعيات المحتسبات وتشجيعهن ودعمهن لممارسة دورهن.
4.توظيف مؤهلات شرعيات في هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
5.التوسع في إنشاء حلقات تحفيظ القرآن الكريم النسائية وإنشاء أقسام نسائية في جمعيات تحفيظ القرآن الكريم.
6.التركيز على تأهيل النساء الداعيات علمياً ومهنياً والتوسع في ذلك.
7.إنشاء مؤسسات في المناطق والمحافظات توفر الأماكن والإمكانات لممارسة المرأة لدورها الدعوي ويشرف على تلك المؤسسات إما وزارة الشؤون الإسلامية أو تعليم البنات أو المؤسسات الخيرية.
8.تجديد وتطوير الخطاب الدعوي النسائي بما يتفق مع مقتضيات العصر وحاجات المجتمع.
9.التوسع في الاستفادة من تقنيات العصر في الدعوة النسائية.
10. التأكيد على الدعاة من الرجال والنساء بالتركيز على خصوصية المنهج الإسلامي في قضايا المرأة وبيان خطأ بعض الممارسات والتقاليد الاجتماعية وكشف زيف وخطورة الشبهات التي يثيرها المستغربون ومن خُضع بهم في هذا الموضوع.(/2)
الوثيقة التي أضاعها المسلمون
تعيشُ الأمةُ الإسلاميةُ اليوم أحوالاً من الضعفِ والتفكك ، وتذوقُ ألواناً من الذلِ والهوان ، وتقاسي مآسيَ من التفرقِ والتشرذُم ، والعقلاءُ يتطلعون لرؤيةٍ مستقبليةٍ تُنْقِذُ الأمةَ مما هي فيه ، وقد أدلى المثقفونَ برؤيتهم ، والساسةُ بحلولهم ، والكُتاب بنظراتهم ، تعددت التحليلاتُ للأسباب ، وتنوعتِ النظراتُ بالمخارج والحلول ، وقد آن الأوانُ بالأمة جمْعاءَ شعوباً وأفراداً حكاماً ومحكومين أن يتبصروا الحقيقةَ وأن يستجلوا الحلولَ الناجحةَ من منطلقاتِ ثوابتِ دينِهم ومرتكزاتِ أصولهم فمهما حاولت الأمة فلن تجدَ حلولَا ناجحةً لأدوائها ومخارجَ لأزماتها ومشكلاتِها إلا من فهمٍ صحيحٍ من كتاب الله وسنةِ نبينا محمد.
وسأعيشُ معك أخي الكريم لحظاتٍ ماتعة مع وصيةٍ عظيمةٍ صدرت من معلمِ البشرية وسيدِ الحنيفية نبيِنا محمدٍ وهو يوجه للأمةِ وثيقةً خالدةً تصلُح بها حياتُها وتُفلح بها آخرتُها ، تَسْعَدُ بها أفرادُها وتزدهِر بتحقيقِها مجتمعاتُها ، وثيقةٌ يجب أن تكونَ نَصبَ أعيننا ، وأن يكون تطبيقها حاكمَ تصرفاتنِا ، ومُوَجِهَ تحرُكاتِنا ومُصَحِحَ إراداتِنا وتوجُهاتِنا ، وثيقةٌ لا تنظرُ لتغليبِ مصلحةٍ قومية ، ولا تنطلقُ من نزْعةٍ عِرْقيةٍ أو نظْرةٍ آنية ، وثيقةٌ صدرت ممن لا ينطق عن الهوى ، ولا يَصْدرُ إلا عن وحي يوحى وثيقةٌ محمديةٌ ووصيةٌ نوْرانيةٌ تنهض بالأمة للحياة المزدهرةِ المثمرةِ بالخير والعزةِ والصلاحِ والقوة وإحياءٌ شامل للفردِ والجماعةِ والنفوسِ والمقدَّرات ، إنها حياةٌ تُبنى على قوةِ الإيمانِ التي لا غِنى عنها في مواجهةِ الأزمات ، حياةٌ تَعْني النهضةَ بأشمل معانيها وأدقِ صورها ، بما يجمعُ للأمةِ تحقيقَ السعادةِ ومعايشةَ الأمنِ والسلام والخيرِ والازدهارِ والرقيِ في جميعِ مجالاتِ الحياة ، فإن العزَ في تحقيق هذه الوصيةِ مضمون ، والمجدَ في الدارينِ بتنفيذ بُنودها مرهون ، الأفرادُ بدون تحقيقها في ضياع ، والمجتمعاتُ في البُعدِ عن مضامينِ هذه الوثيقة إلى تشتُتٍ ودمار ، وثيقةٌ تربُط المسلمَ بالأصل مع اتصاله بالعقل ، وثيقةٌ تحقيِقُها هو الضامنُ الأوْحد للتحدياتِ التي تواجه الأمةَ الإسلامية وتستهدفُ قيمِها ومقدّراتِها وخصائصَها ، يقول عمر الفاروق رضي الله عنه ( إنما سبقتم الناس بنُصرة هذا الدين )
ولتتأمل معي أيها المبارك إلى تلك الوصيةِ العظيمةِ والوثيقةِ الخالدةِ تأمل استجابةٍ وتحقيقٍ واستماعَ امتثالٍ وانقياد ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كنت خلف النبي يوماً فقال لي " يا غلام ، إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تُجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رُفعت الأقلام وجفت الصحف " [ رواه الترمذي وقال" حديث حسنٌ صحيح " وفي روايةِ غيره : " احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبَك ، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئَك ، واعلم أن النَصر مع الصبر ، وأن الفرَج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا "
نعم .. هذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة ، وقواعدَ من أهمِ أمور الدين ، قال بعض المحدثين : تدبرتُ هذا الحديثَ فأدهشني وكِدّتُ أن أطيش ، فوا أسفا من الجهلِ بهذا الحديثِ وقلةِ التفهمِ لمعناه ، ومن أهم قواعده ووصاياه :
أولا : حِفظ الله :
المرادُ به في هذا الحديث هو حفظُ حدوده والالتزامُ بحقوقه والوقوفُ عند أوامره بالامتثال وعند مناهيه بالاجتناب {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ حفظٌ } يتضمن حِفْظَ الرأس وما وعى ، والبطنَ وما حوى ، فقد أخرج الإمام أحمدُ والترمذيُ من حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه مرفوعاً " الاستحياء من الله حقَّ الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى ، وأن تحفظ البطنَ وما حوى " حفظٌ يمنع الجوارح من الزللِ والحواسَ عن الخلل ، قال " من يضمنُ لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة " [ رواه البخاري ] حفظٌ يضبط الشهواتِ أن تميل بصاحبها إلى الضلال ، أو أن تجنحَ به عن مبادئِ القيمِ وكريمِ الخِلال {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }
ثانيا : من قواعدِ هذا الدين أن الجزاءَ من جنسِ العمل :
فمن حقق حفظَ الله بالمعنى المتقدم تحقق له حفظُ الله ورعايتُه وعنايتُه ، حفظاً يشملُ دينه ودنياه ، ويحققُ له المصالحَ بأنواعها ، ويدفعُ عنه الأضرارَ بشتى أشكالها .
ثالثا : قال أهل العلم : وحِفْظُ الله للعبد يدخل فيه نوعانِ من الحفظ :(/1)
أحدهما : حِفْظُ الله للعبد في دينه وإيمانه بحفظه من الشبهات المضلةِ ومن الشهوات المحرمةِ بالحيلولةِ بينه وبين ما يُفسد عليه دينَه { كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } .
الثاني : حفظٌ له في مصالحِ دنياه ، كحفظه في بدنه وولدِه وأهله وماله لَهُ { مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } قال ابن عباس رضي الله عنهما ( الملائكةُ يحفظونه بأمر الله ، فإذا جاء القدر تخلوا عنه ) وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه جامع العلوم والحكم " ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعلَ الحيواناتِ المؤذيةَ بالطبعِ حافظةً له من الأذى كما جرى لسفينةَ مولى النبي حيث كُسِرَ به المركب وخرج إلى جزيرة ، فرأى الأسد ، فجعل يمشي معه حتى دله على الطريق " .
ثالثا : أن الله يحفظُ ذريةَ العبدِ الصالحِ بعد موته ، كما قال جل وعلا { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } قيل : إنهما حُفظا بصلاحِ أبيهما ، كما قال جل وعلا { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } ومن حَفِظَ الله في صِباه وقوتِه حفظه الله في حال كِبَره وضعفِ قوته ، ومتعه بسمعه وبصره وحولهِ وقوته ؛ جاوزَ بعضُ السلف المائةَ سنة ، وهو مُمتَّع بقوته وعقله ، فوثب يوماً وثبةً شديدةً فقيل له : ما هي هذه الوثبة ؟ فقال " هذه جوارحٌ حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر " .
رابعا : إن الأمةَ على مستوى آحادها ومجتمعاتها ، وبمختلف مسؤولياتها وتنوُعِ مكانتها ، متى حفظت دين الله ، فحققت الإيمانَ الصادقَ به ، واستسلمت لأمره في كل شأن ، وتخلَّصت من أهواءِ النفوس وشهواتِ القلوب ، وكانت أحوالُها السياسيةُ والاقتصاديةُ والاجتماعيةُ وغيرُها على مقتضى منهج الله وسنةِ رسول الله فجعلت الإسلامَ الصافيَ منهجاً كاملاً لحياتِها في كل أطوارِها ومراحلها وفي جميع علاَقاتها وارتباطاتها وفي كل حركاتها وسكناتها ، تحقق لها حِفْظُ الله من كل المكاره والمشاقِ والأزمات والمحن التي تعاني منها ، ويحصُلُ لها عندئذ الأمنُ والاستقرار والعزةُ والانتصار {الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } ومتى استغرق الإيمانُ بالله والاهتداءُ برسوله ذلك حياتَها وسادَ توجهاتِها وقادَ تحركاتها حصل لها الأمنُ بكل مقوماته وشتى صوره ، أمنٌ من الأعداءِ والمخاطر ، ومن المخاوفِ والأضرار ، أمنٌ سياسي واقتصادي واجتماعي ، فمتى ما قام المسلمون جميعاً بحقائقِ دينهم ومبادئِ إسلامهم وجانبوا الأهواءَ والشهوات ، وعملوا بصدقٍ للإسلام مع الأخذِ بالأسباب وإعدادِ العدة ، والأخذِ بالوسائل ، عندئذ يمكنهم الله من الأرض ، ويقوي شوكتَهم ، ويُعزُ كلمتَهم ، ويُرْهبُ بهم أعداءهم ، ويُعِمُّ لهم الخيرُ والعدلُ والسلام { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } .
خامسا : إن الأمةَ متى وقع بها البلاءُ وقاست الابتلاء ، وخافت فطلبت الأمن ، وذلت فطلبت العزة ، وتخلفت فطلبت الاستخلاف والاستقرار ، فلن تجد لذلك سبيلاً وطريقاً ولن يتحققَ لها شيءٌ مما تبتغي وتطلب حتى تقوم بشرط الله جل وعلا من القيامِ بطاعة الله ورسوله ، والرضا التامِ بشريعةِ الإسلام ، وتحقيقِ النهجِ المرتضى ، فحينئذ يرتفع عنها الفسادُ والانحدار ، ويزول منها الخوف والقلق والاضطراب ، ولن تقفَ إذاً في طريقِها قوةٌ من قوى الأرض جميعاً { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .(/2)
سادسا : ما من أمةٍ مسلمة عبر التأريخِ تُخالف هذا النهج إلا تخلفت في ذيلِ القافلة ، وذلت وطُردت من الهيمنة ، واستبدَّ فيها الخوف ، وتخطفها الأعداء { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } ثبت عن النبي الرحيمُ المشفق بأمته أنه قال " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " فوعد الله قائمٌ مهما اختلفت العصور وتغيرتِ الأحوال متى قام الشرط المذكور ، فمن شاء تحقيقَ الوعد فليَقُمْ بالشرط { ومَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ } .
سابعا : لقد سار سلف هذه الأمة من الصحابة ومن بعدهم على هذا المنهج ثقةً بالله ، واعتماداً عليه ، وقوةَ إيمانٍ به مع ثباتٍ في العزيمة ، وصبرٍ على الشدائد ، وتأسٍ كاملٍ بخير أسوةٍ رسولِ الله مع عملٍ خيِّرٍ متواصل لا ينقطع ، أقام الله بهم شوامخَ صروحَ هذا الدين ، وقامت بهم دولةُ الإسلامِ القويةُ في أصقاعِ الأرض ، وذلك لما وزنوا الدنيا في واقعها بميزانها الحقيقي ، فلم يركنوا إليها ، وعرفوا حقارَتها وسرعةَ زوالها ، فلم يخدعوا أنفسهم بها ، بل عرفوا الآخرة ، وقدرُوها حق قدرها ، وجعلوها نَصبَ أعينهم ، فلخلودها يعملون ، وعليها يحرصون ، فهانت عليهم الصِعاب من أجلها ، ذكر ابن كثير رحمه الله في أحداثِ سنةِ ثلاثٍ وستين وأربعمائة من الهجرة قال " أقبل ملكُ الرومِ في جحافلَ لا تحصى كأمثال الجبال وعُددٍ عظيمةٍ وجمْعٍ هائل ، ومن عزمه أن يجْتَث الإسلامَ وأهلَه ، فالتقى به سلطانُ المسلمين في جيشٍ وهُم قريبٌ من عشرين ألفا ، وخاف من كثرةِ المشركين ، فأشار عليه الفقيهُ أبو نصرٍ محمدُ بن عبد الملك البخاري رحمهما الله تعالى أن يكونَ وقتَ الواقعةِ يوم الجمعة بعد الزوال حين يكونُ الخطباءُ يدعون للمجاهدين ، فلما تواجهت الفئتان ، قال للمسلمين : من أراد أن يتحلل مني الآن فاليتحلل ، فما أنا إلا بشر مثلكم ، ومن أراد أن يرجع إلى بلده فليرجع فليس ثمة اليوم سلطان ، فنزل عن فرسه ، وسجد لله عز وجل ، وعفّر وجهه بالأرض ودعا الله تعالى واستنصره وقال : يا رب ملك من ملوك الدنيا ذل لملك الأملاك ، فأنزل الله نصره على المسلمين ، ومنحهم أكتاف المشركين ، وكان نصراً مُؤزراً مجيداً " وصدق الله { يأَيُّهَا لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ } وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
سلمان بن يحيى المالكي
*************************(/3)
الوجه الآخر لطه حسين من مذكرات السيدة سوزان "معك"
الأستاذ أنور الجندي
نشرت السيدة سوزان طه حسين مذكراتها عن حياتها مع زوجها في مجلة "أكتوبر" المصرية ولما كنا قد أصدرنا كتابنا (طه حسين: حياته وفكره في ميزان الإسلام) فقد طلب إلينا بعض القراء أن نقدم تصورنا لما كتبناه من قبل في ضوء هذه المذكرات وعما إذا كانت هذه المذكرات تغير شيئاً من وجهة نظرنا السابقة التي كشفناها في كتابنا وخاصة أن الحلقات بلغت بضع عشرة حلقة وتعرضت لمواقف كثيرة من حياة الدكتور ويسعدنا أن نجيب على هذا التساؤل وهو موضع اهتمامنا ولقد كان من حق قراء الاعتصام الزاهرة علينا – ونحن نشرف بأن ننتسب إلى كتابنا منذ بضع عشرة سنة – أن نقول إن ما كتبناه عن طه حسين كان محاولة لترجمة حياة رجل دوى اسمه في الشرق والغرب وسيطر سيطرة كاملة على الأدب والصحافة في الفكر سنوتا طويلة وله تلاميذ وأتباع وله فوق 1لك آراء ومفاهيم. ولقد قدمنا حياة الدكتور طه حسين مدعومة بالوثائق والأسانيد ولم نعرض لأمر ما في هذه الحياة دون أن نقدم "الوثيقة" الدالة عليه وخاصة في مجالات البحث عن علاقاته بالاستشراق وفرنسا والصهيونية والمسيحية والشيوعية ولم نكن في صف الاتهام له بأي حال وإنما كنا محايدين، غير أن مجلة "الهلال" هي التي صبغت ذلك كله بصبغة الاتهام حين أصدرت عددها "مايو 1977 م" بهذه العناوين:
طه حسين في قفص الاتهام.
هل كان طه حسين شيوعياً.
هل كان طه حسين عميلاً للصهيونية.
ها تنصر طه حسين في كنيسة في فرنسا.
ولعل القارئ المتابع لهذه المذكرات قد أحس بذلك الجو الكنائسي المليء بالتراتيل والمزامير والقداس الذي أضفته السيدة سوزان على حياتهما الاجتماعية، وهذا الاحتفال المتصل بأعياد العنصرة وعيد القيامة وكيف كان طه حسين يستمتع بهذه الأحفال.
وهؤلاء الكردينالات والقسس والآباء الذين يملأون هذه الحياة.
وذلك الاهتمام بأجراس الكنائس حين سمي (كلود) الذي هو مؤنس ديوانه باسمها.
وذالك الهتاف الذي سجلته السيدة لابنها حين يصبح يوم الأحد "يا صباح إحدى الجميل" تقول السيدة سوزان: عندما تأسست جامعة الدول عام 1925 م اتخذ الطريق إلى بيتنا قادمون جدد، هناك بدأت جلسات الأحد التي سرعان ما اتسعت كثيراً في الزمالك، كان طه خلالها قطباً حقيقياً، إذ ما كاد الأساتذة الأجانب الذين كانوا يؤلفون أول فريق يصلون إلى مصر، حتى يأتوا بالطبع إلى بيتنا لقضاء ساعة أو ساعتين برفقة زوجاتهم، وكان منهم العميد جرايجور والفيلسوف إميل برهين، وعالم الآثار الإنجليزي بحرندور والشخصية الساحرة سكايف الذي كان أستاذاً للأدب الإنجليزي وسالمر وسانياك.
ونحن نعرف معنى هذا تماماً، لقد فتح طه حسين أبواب الجامعة (وكلية الآداب بالذات) للمستشرقين وعتاة الدراسات التبشيرية والتغريبية ليحطموا في نفوس أبناء أمتنا كل عقائدهم ومقدساتهم فكان لابد أن يصلوا أول الأمر عند هذه (القاعدة) التي بنوها في مصر، ومن هنا نجد أن السيدة سوزان تقول أنه عندما ترك طه الجامعة أعلن هؤلاء الأساتذة أنهم لن يدخلوا الجامعة إلا إذا عاد هو؛ وهذا ليس معاً يفسر على أنه مكانة عالية لطه حسين وإنما هو في الحقيقة علامة على التبعية.
وتقول السيدة طه حسين: وخاصة تلك اللقاءات التي كانت تتم بوجه خاص مع أناس قادمين من خارج مصر والتي كانت تزداد بنسبة مثيرة وكانت حصيلتها محاورات خصبة بالنتائج وتبادل الأفكار واتهامات مختلفة بقدر ما كان ينتج عنها أيضاً حجارة جديدة من أجل البناء الذي كان طه حسين يتابع إنشاءه بكتبه ونشاطه.
ونحن نعرف أن هذه الجلسات مصدر تلك القنابل المحرقة التي كان طه حسين يلقيها على الإسلام والتاريخ الإسلامي والفكر الإسلامي يوماً بعد يوم، وأنها كانت مصدر الوحي لدراساته المختلفة التي سبق بها المستشرقون أنفسهم إلى تصورات تهدم التراث الإسلامي حتى لتقول السيدة طه حسين أنه كتب إليها مرة يقول: "إن أبحاثي الشخصية تصل إلى نتائج كبار المستشرقين نفسها. أتدرين أنني قررت ألا أقرأ أبحاثهم إلا بعد أن أنجز أبحاثي لأكون على علم بها فقط".
ومعنى هذا في تقديرنا أن طه حسين قد تمكن من العقيدة الاستشراقية بمفاهيمها إلى الدرجة التي لم تجعله في حاجة إلى أن يقرأ للمستشرقين، ونحن نعجب كيف أن طه حسين طابق المستشرقين أو سبقهم أو تابعهم في آرائه المختلفة.
في رأيه في الشعر الجاهلي الذي سبقه به مرجليوث.
في رأيه في المتنبي الذي سبقه به بلاشير.
في طريقة كتابه هامش السيرة التي سبقه بها الكاتب المسيحي فلان.
في نظرية في الأدب والنقد التي سبقه بها تين وبرونتير.
في نظرية أن الدين نبت من الأرض ولم ينزل من السماء كما سبقه بها دوركايم.
في رأيه أن وجود إبراهيم وإسماعيل لا دليل عليه تاريخياً وقد سبقه بها هاشم العربي.(/1)
ولعجب لأن السيدة طه حسين تكرر دائماً عبارة أن الطلبة حملوه على الأعناق وأن الطلبة هتفوا له وأن الأزهريين حضروا محاضراته في الجامعة الأمريكية وصفقوا له. نحن نعرف كيف كانت الحزبية تنظم هذه الاحتفالات فلا تخدعنا أبداً ونعرف أن المصريين يحبون "الفرجة" فهم يجتمعون في المحاضرات لا ليسمعوا طه حسين ولكن ليشاهدوه بعد أن عزل من الجامعة أو أخرج من الوزارة أو أي موقف آخر فليس هذا دليلاً على الحب والولاء، وليس له دليل على المتابعة في الرأي.
نحن نعرف كيف كان الطلاب يحملون الأساتذة في مظاهرات الأحزاب ونعرف أن طه حسين عندما سافر إلى الصعيد وهو وزير المعارف كان يفاجأ بأن يهتف باسمه في كل محطة يقف فيها القطار يبتسم ويحيي هؤلاء ظناً منه أن الأمة كلها خرجت لاستقباله وقد تبين من بعد أن حزب الوفد قد حجز عربة لمجموعة من (الهتيفة) كانوا ينزلون من القطار عندمل يقف ويتقدمون إلى الديوان الذي يجلس فيه فيهتفون ثم يسرعون بركوب القطار.. ويا للسخرية.
ولقد عرفنا من مذكرات السيدة سوزان طه حسين:
صورة تدعو إلى التساؤل:
لماذا هذا الاهتمام الخطير بالاتصال بالأحزاب والصراع والخصومة مع زعماء الأغلبية – أول الأمر – والانتماء إلى أحزاب الأقلية، ثم تحوله بعد ذلك، لماذا هذا الصراع مع الأحزاب وهو الرجل الأديب في الجامعة والعالم الذي يجب أن يحتفظ بطابع العلماء وحده.
ولقد أجبنا على ذلك في كتابنا: أن طه حسين يعتصم لبالأحزاب ويقوي مركزه بها ليكون أكثر قدرة على تحقيق ما هو مطلوب منه، في تغيير المناهج وفي تعيين الأساتذة وفي استقطاب الأجيال التي تسير وراء خطته وتحمل آراء التغريب والغزو الثقافي.
وتسود مذكرات السيدة سوزان صورة الولاء الأجنبي واضحة وذلك في عدة مواضع منها زيارته لإيطاليا واشتراكه في مؤتمر المستشرقين.. تقول: كان المطران تيسيران (ولم يكن قد أصبح كاردينالاً بعد) يعرف طه حسين معرفة جيدة فأخذه من ذراعه وقال لي مبتسماً: "لا تقلقي سوف أعيده إليك" وكان المطران تيسيران هو الذي قدم طه حسين إلى البابا بيوس الحادي عشر وكان بيوس الحادي عشر مستشرقاً وكان قد أراد استقبال مؤتمر المستشرقين وقد وجه لطه كلمات في منتهى الرقة كما وجه إلي أيضاً مثلها.
وبعد الجلسة الأولى تنازل (نلينو) عن رئاسة التعليم لطه ونحن نعرف معنى هذا كله وتقدير هؤلاء جميعاً والكنيسة الكاثوليكية كلها لأفضال طه حسين، ونعرف معنى أن يضعوه على رأس مؤتمر الاستشراق. تقول: ولم يسبق أن حدث هذا الأمر إطلاقاً. ونحن نعرف أن طه تميز عن جميع الذين اصطتعهم الاستشراق.
وتصور السيدة سوزان كيف أن جميع المستشرقين في أنحاء الأرض كانوا إذا مروا بمصر زاروا طه حسين: وأن جورج حنين والأب قنواتي كانوا يأتون بأصدقاء يمرون عبر القاهرة إلى بلد آخر، وإنها كانت وطه يلتقون بهم في بلادهم بعد: في فرنسا أو في إيطاليا.
وتعجب السيدة سوزان لأن المشايخ كانوا يحاورون بصداقة من الأدباء الدومينكان أو مع رئيس كلية الأسرة المقدسة الأب العزيز (فارغو) أو الأستاذ جورج درينتون مدير معهد الآثار أو المطران ديبس أو اديل أو ابنا ميل أو موسكاتيلي.
وتدهش لهؤلاء المشايخ، فليس هؤلاء إلا مصطفى عبد الرازق وأمين الخولي وبعض الأذلاء الطامعين في نفوذ طه حسين للحصول على درجة أو منصب.
ولقد أضفت السيدة سوزان على مذكراتها روحاً كنسياً وطابعاً مسيحياً خالصاً مما يدهش له القارئ، ويعجب كيف عاشت هذه السيدة في مصر خمسين سنة ولم تستطع أن ينشرح صدرها لطوابع مصر الإسلامية، بل على العكس من ذلك ظل بيتها سجناً رهيباً للغة الفرنسية فلم يكن أحد فيه يتكلم العربية حتى ابن عميد الأدب لم يعرف العربية وقد استطاعت أن تبني ذلك الحاجز الخطير بين مصر وتقاليدها وقيمها العربية الإسلامية وبينها فظلت حتى آخر أيامها لا تكتب ولا تتكلم ولا تعيش إلا في جو فرنسي وما في حياتها شيء أبداً يوحي بالروح العربية أو الإسلامية فهي في ليلة عيد الميلاد تستمع إلى قداس منتصف الليل من الراديو تبحث عن محطة فرنسية، وهي لا تستقبل إلا هؤلاء القساوسة والكردينالات الفرنسيين الغربيين. لقد عاشت هذه السيدة في مصر هذه المدة الطويلة دون أن تتمصر أو تتعرب أو تجد رائحة هذا الجو وإنما عاشت في تعصب وإصرار على جوها الفرنسي الغربي المصطنع.
ولقد كشفت السيدة طه حسين تلك الصورة القاتمة التي كان يعيشها الدكتور طه حسين، أزمات وراء أزمات وأحداث متوالية من الضيق والمصاعب والمشاق والتطلعات والبحث عن الموارد الجديدة من كل مكان فما صفت الحياة يوماً وهي في كل هذه الحلقات تعطي انطباعاً سيئاً مظلماً متجهماً لحياة طه حسين وأيامه وقد صورته بصورة الرجل الخائف المذهعور الذي تنتابه الأحداث من كل ناحية فإذا به ينقبض ويعتزل بينه وبين الناس الأبواب ولا يستطيع أن يرفع رأسه إلى السماء ليدعو الله أن يفرج عنه.(/2)
وتقول السيدة: على الرغم من دعوة الجامعة والصحيفة (جريدة السياسة) فقد بقى وضعنا المادي في منتهى السوء وبعد مماطلة ومضايقات انتهى المجلس إلى الموافقة على زيادة ضئيلة قدرها أربعة جنيهات للأساتذة.
لقد كان ذلك عام 1922 م ومع ذلك فقد ظلت السيدة تردد هذه النغمة طويلاً فما أحست أبداً أن كل ما جاء به طه حسين من التأليف والصحافة والجامعة يكفي رليحقق طموحها في الحياة على أعلى مستوى.
تقول: "كل ما كان في السنوات التالية ينذر باستمرار إذ كان كل ذلك عاجزاً عن أن يؤمن ما يسمى بمورد ثابت".
ومع ذلك فالأستاذ سلامى موسى في حديثه مع طه حسين في الهلال سنة 1924 م يحسد طه حسين على ذلك المستوى الذي لم يصل إليه هؤلاء أبداً.
وأعطت السيدة سوزان صورة مزعجة لطه حسين الذي كان قد تحول إلى نموذج أجنبي خالص حيث يشكو لها في رسالة بعض الأزمات إبان غيابها ثم يقولا: "عندما رجعت إلى البيت: ذهبت مباشرة إلى الصورة وركعت أمامها وقصصت الأمر عليها بصوت عال". هكذا كان يفعل هذا الرجل الذي كتب تاريخ الإسلام يركع أمام صورة ويشكو لها، ألا يشكو إلى الله خير له؟ وهي تصور طه حسين وقد غرق في ترنيمات الكنائس وأجراسها وتراتيلها مع الإعجاب الصادق بجو الأحفال الكنسية والموسيقى الفرنسية على نحو يعجب له القارئ.
يقول: "بالأمس كان عيد العنصرة ومرة أخرى ترد إلى خاطري بصفاء بالغ ذكرى عبد العنصرة في (بار دونيه)، كنت قد استمعت إلى القداس في الكنيسة من الأعلى، وكان الخوري العجوز قد قرأ إنجيل يوحنا، كان: (سلاماً ارتك سلامي أعطيتم) إنجيل يوحنا – ثم كررت على مسامعك (تقول لطه) هذه الكلمات بانفعال:
أذكر هذا الصباح وأفكر في ذلك التوافق السري الذي وحدنا دوماً في احترام كل منا للآخر، كنت غالباً ما تحدثني عن القرآن وكنت تقرأ التوراة وكنت أتحدث إلى يسوع، كنت تردد في كثير من الأحيان أننا لا نكذب على الله.
وتتحدث عن شيء آخر جد خطير، فطه حسين الذي كان مؤهلاً لأن يطرح من الأفكار ما يشاء له المخطط المرسوم أن يطرح كان حريصاً على أن يكون له سناد من الحزب الذي يحميه وكان حريصاً على ألا يحال بينه وبين نشر آرائه وأفكاره المسمومة: تقول: أنه هاجم القصر، لا لكي يدافع عن الحكومة، وإنما لأن القصر يريد الحد من حرية المعتقدات فالأديان المعترف بها هي التي ستكون مسموحاً بها في مصر والملحد لا يستطيع أن يعلن نفسه ملحداً فهل يسع الإنسان الذي دافع عن كل الحريات وفي المقام الأول حرية الضمير أن يبقى لا مبالياً".
زتقول: "نعم فقد كان يريد طه حسين أن يبقى الباب مفتوحاً لكل الأديان والنحل والمذاهب" وهي تسمي ما حدث بعد صدور الشعر الجاهلي بثورة الجهل والغضب وتصور نقد النقاد له بعبارات عجيبة فتقول: هذه الأحكام البليدة والتحيز الأخرق والحقد الحاسد ضد إنسان شريف وجره إلى المحكمة والتهديد بالموت الذي كان وراء إقامة حراسة على مدخل بيتنا أمام باب الحديقة خلال عدة أشهر.
وتقول: إنه كان يستعيد فس سنواته الأخيرة تلك العقبات التي كان يواجهها والرفض الذي جوبه به والهزء بل الشتائم من أولئك الذين كانوا بحاجة إلى مرور زمن طويل حتى يتمكنوا من الإدراك. وتقول: إدراك ماذا؟.
لقد صدق هو نفسه حين عبر في آخر حياته عن حصاد حياته بعد أن تحطمت كل النظريات التي قدنها وبان عوارها وتكشف فساد كل الدعوات التي حاول أن يقيمها ولم تكن عبارته التي سجلتها السيدة سوزان إلا رمزاً لهذه الحياة: "هل يمكن أن نجعل من الأعمى قائد سفينة".
وتقدم السيدة سوزان صورة لذلك التناصر الخطير الذي قدمه المستشرقون والكردينالات ورجال الفكر الغربي لذلك الرجل وكيف استقبله البابا وفي كل مؤتمر كانت هناك محاولات ضخمة لتكريمه وإعلاء شأنه، نياشين وتحف وهدايا وتحيات.
كان يكتب له أحدهم (بيرغستراسة) هذا الإهداء:
طه حسين الذي يناضل في الصف الأول في سبيل تقدم الروح العلمية.
ولما أخرج من الجامعة اعتصم المستشرقون (وأدال جرانت، بيرغستراسة) وقالوا: لن نعود حتى يعود طه. وكتب المستشرق ليفي ديلافيدا مصوراً مدى الخطر على خططهم من خروج طه من الجامعة ومدى جزعهم على أهدافهم التي طان يمثلها حين قال: أحزنتني هذه الأخبار بصورة عميقة. إن تاريخ النضال من أجل الحرية العلمية لم يستكمل مسيرته بعد ولكن ذلك سيتحقق يوماً وإني على اقتناع بذلك وسيتحقق ذلك بانتصار روح الحرية والحقيقة بأن المأساة التي أصابتكم ستكون عارضة وأني لعلي يقين من ذلك لأن قضية كقضيتكم بل أقول قضيتنا هي من القضايا التي لم تكن خاسرة في يوم من الأيام.
ونقول لهؤلاء: لقد خسرت قضيتكم أخيراً وانكشف فسادها.
ذلك بعض ما قدمته لنا مذكرات السيدة سوزان وإليك هذه الملاحظات:
كان الدكتور طه حسين حريصاً على أن يصور نفسه للناس على أنه غضنفر لا تجتاحه الأحداث ولا تنوشه السهام فهو قائم دائماً مقام الدفاع عن نظرياته.(/3)
ولكن مذكرات السيدة سوزان كشفت عن صور مغايرة تماماً لذلك فهي تقول مثلاً: أنه في قضية إسماعيل صدقي، مر طه حسين بساعات يائسة إلى حد أنه اعترف لي (طه حسين) بعدها أنه فكر كثيراً في الانتحار.
وتقول: لقد حدث لنا شيء مذهل أطلق نفسه عليه وصف (الشيطان) فقد وقع نتيجة الإرهاق والمرض والوضع الفاضح وتمسكه في عزل نفسه عن الناس فريسة إحدى التوبات السوداء المحنقة التي كثيراً ما عرفتها، كان إذ ذاك يحبس نفسه وراء صمت شرس مخيف كما لو أنه سقط في أعماق حفرة لا يستطيع أي شيء على الإطلاق أن ينتزعه منها، كانت حياتي تبدو كأنما قد توقفت وانسحقت بلا أمل في مواجهة عزلة مطلقة يفرضها على نفسه ورفضه العنيد سماع أقل كلمة تريد أن تحاول معونته.
وهي تتحدث عن عمله في كوكب الشرق بعد أن خرج من حزب الأحرار وانضم إلى الوفد دون أن تشير إلى ذلك أدنى إشارة، عندما ترك أصدقاء الأمس وهددهم في كوكب الشرق بفضح أسرارهم ولكن الذي يهم السيدة سوزان هو الموارد المادية فقط.
تقول: "كان يعمل في جريدة كوكب الشرق كما يعمل محكوم عليه بالإشغال الشاقة فقد كان يقضي فيها كل ساعات الصباح وعندما حل الصيف كانت الحرارة لا تطاق وكان المتطفلون الذين يغيظونه يوجدون دوماً عنده في اللحظة التي يكتب فيها مقاله".
أمر لا يكاد يصدق، كيف أنهم لم يدركوا أنهم كانوا يسببون له المزيد من التعب بتطفلهم هذا.
وتقول: "إنه اندفع في الكتابة فأقيمت دعوى على الصحيفة، وذهب طه حسين عدة مرات إلى النيابة. أما هي فكانت قد سافرت إلى فرنسا لأنها لا تحتمل صيف مصر وتركته فكتب إليها يقول: يبدو أني أهنت الشيخ الأكبر وكل المشايخ ورئيس الوزراء وكل الوزراء بل ربما أهنت في النهاية كل الناس، كان ذلك عملاً أحمق وشريراً، بل أن المحقق نفسه لم يخف إشمئزازه مما كان يعمله وكنت أود لو سمعت إجاباتي الساخرة".
تقول: "واستعمرت الخصومات التي لا تطاق مع مالك عنيد، لم يستطع طه أن يتابع العمل في هذا الجو فالنحاس يشجعه معنوياً من ناحية وتقنطه اللامبالاة العامة من جهة أخرى" وأخرج جريدة الوادي، وتقول أنه كان "يتشاجر مع الآلات التي لم تكن تسير، ويشكو من الورق الذي لا يرسلونه وحروف الطباعة التي لم تكن تكفي".
وتصور كيف كان الموقف بعد إخراجه من الجامعة فتقول:
كان يدفع غالياً ثمن جريدته في أن يكون إنساناً حراً، إلا أنهم كانوا يريدون سحقه حقاً هذه المرة إذ لم يكتفوا بطرده من الكلية التي كان عنواناً لعزتها وكرامتها وقوة نابضة فيها، وإنما أرادوا إحراق كتبه فأخذوا منذ بيته الذي يسكن فيه وأغرقوه بالشتائم وحاولوا أن يحرموه من كل وسيلة للعيش بمنعهم مثلاً بيع الصحيفة التي كان يصدرها وبإنذارهم البعثات الأجنبية في مصر بالكف عن أن تقدم له عروضاً للعمل ولابد هنا من الثناء على الجامعة الأمريكية في القاهرة التي تحدث هذا الإنذار وطلبت إلى طه حسين تقديم مجموعة من المحاضرات الأمر الذي قدم له دعماً لا يقدر بثمن.
تقول: ولم يقف الأمر عند هذا الحد فإن القوى قد تنادت لنصرته وسأله كبيرهم (ماسنيون) عما إذا كان على استعداد للذهاب للولايات المتحدة وتوالت دعواته إلى المؤتمرات.. أصدقاء في فرنسا وفينا وإيطاليا (ليتمان وبيرغسترا وبونكر) وغيرهم.
وكانت تصور بإعجاب موقف طه حسين وهو يرثي كبار رجال الاستشراق باسم الجامعة المضرية وكيف زار الجامعة العبرية بالقدس وكيف وقف يرلي بول دومير (مؤسس الكوليج دي فرانس) وما أدراك ما الكوليج دي فرانس إنه المعهد الاذي يخرج قادة التغريب في بلاد المسلمين.
تقول: "وقف طه حسين يلقي خطاب الجامعة المصرية في جلسة مهيبة في القاعة الكبرى بجامعة السربون، وعندما وصلنا طه حسين وأنا إلى المنصة الكبرى نزل بول درجات المنصة وجاء إلينا وتناول ذراعي طه حسين بذراعيه فصفق الحاضرون تصفيقاً بلغ من القوة حداً أثار ذهول أمي" نعم وأكثر من هذا يحدث: أليس رجلهم في مصر والشرق، ألم يكن أعظم ثمرة في الشجرة كلها: هذا الذي سموه رينان الشرق.
وكانت السيدة سوزان تعرف مهمة طه حسين وقد أفلتت العبارات منها أكثر من مرة لتكشف هذا الدور.
فهي تقول: "لم يكن مثله بالذي يقبل أن يقوم بدور محدود".
"ثم إن هنا معركته ومستقبله مهما يكن هنا مصيره ورسالة وجوده".
وتقول في كتاب كتبه لوالدتها: "إننا نصنع على كل حال أشياء ستبقى ولن يستطيع أحد فيما أظن يقوضها".
وتقول: "لما عاد عميداً من جديد كانت كل أنواع الأفكار تدور في رأسه وكان عليه أن يضعها موضع التنفيذ" وكان هو يقول "إنك تعرفين هذا النوع من الرضا الذي يعقب القيام بالواجب وإن المرء على مستوى الرسالة التي كلف بها رغم المصاعب التي يواجهها" وكانت تشيد بمحاضراته في الجامعة الأمريكية وجمعية الشبان المسيحيين التي كان يحتشد فيها الألوف.(/4)
كان واضحاً من هذه الصورة كلها، زيارات المستشرقين والمحادثات الطويلة التي كان يصنع فيها موضوعاته، ومقابلاته هناك والاحتفاء به، وجورج حنين والأب قنواتي الذين يأتون إليه بكل من يمر بالقاهرة من الآباء والكردينالات والمطارنة.
وهم لا يتوقفون عن تشجيعه فيكتبون له بين حين وحين، تقول جوزيه كابورني: "في دوامة التيارات الثقافية بحرية وسرعان ما غدوتهم رجل الساعة ووجهتهم القوى الروحية في هذا البلد في اتجاه لا يستطيع أحد أن يتنبأ بمآله".
وفي مصر كان لطفي السيد وعبد العزيز فهمي، وثروت، وعلي عبد الرازق وعشرات من الذين يسيرون على نفس الدرب كانوا من حوله دائماً.
وتتحدث عن الزواج المختلط وتنحي باللائمة على الشيخ محمد بخيت الذي انتقد الزواج المختلط. وتنسى أن طه حسين نفسه قبل سفره إلى أوروبا حمل على المصري الذي يسافر إلى أوروبا ويتزوج أجنبية. وقالت أن الشيخ بخيت قال لطه حسين: لو كنت حراً لاشترعت قانوناً ينفي كل مصري يتزوج أجنبية يا دكتور طه، ما هي الأسباب الحقيقية التي حملتك على الزواج من أجنبية، وأنت مصري فكيف أقدمت على هذا العمل.
هذا قليل من كثير تقدمه مذكرات السيدة سوزان وملاحظتنا أن السيدة سوزان لم تتمكن من استيعاب حياة طه حسين استيعاباً كاملاً وغفلت عن جوانب كثيرة من أدق مراحلها ووجوه كثيرة من أبرز معالمها.
ولكننا نستطيع أن نقول أنه في حدود ما رسمته السيدة سوزان فإن طه حسين كان يعيش في ثلاثة محاور:
حياة شخصية من الناحية المادية تتطلب الجهد البالغ لإعطاء المادة وتجرى التفسيرات كلها حول صورة الفقر ومحاولة الخروج منه والجري إلى حد الإنهاك في سبيل توفير حياة رضية بينما كان الدكتور طه حسين يحصل على مرتب أستاذ جامعة ومرتب محرر في صحيفة الأحرار الدستوريين فضلاً عن مكافآت كتبه ومقالاته هنا وهناك وما كانت تقدمه الجامعة له ولزوجته بمثابة بدل سفر وإقامة إلى مؤتمر سنوي للاستشراق أو لغيره ولا ريب أن هذه الصور التي رسمتها السيدة سوزان مبالغ فيها وهي توحي بأن الدافع الذي كان يسوق حياة طه حسين هو الكسب المادي فكان يلهث وراء الموارد لتمكين السيدة من أن تحيا حياة ارستقراطية باذخة.
حياة رجل مريض الأعصاب يسقط بين آن وآن ويغمي عليه مرة ومرة ولا يستطيع أن يقاوم الأحداث وتفترسه الوحدة والصمت أياماً كلما ادلهمت الأحداث ويركع أمام الصورة وأمام الأيقونة ويحدثها وربما يقول لها كلمة أخرى.
الصورة المغايرة لصورة الصلف والغرور والاستعلاء والبطولة الزائفة والشجاعة الكاذبة التي كان طه حسين يصور بها نفسه في مقالاته بينما تصوره مذكرات زوجته في صورة مغايرة تماماً.
الصورة الكنسية في أصدقاء كردينالات وآباء ورهبان وفي أعياد مسيحية وفي مناسبات غربية وفي طوابع تومئ بانفصال طه حسين تماماً عن الحياة المصرية والعربية والإسلامية بكل ملامحها فكأنه ليس أكثر من رجل مستشرق غربي أجنبي يعيش في بلادنا. وآية ذلك أنه لم يستطع أن ينقل زوجته وأولاده إلى المحيط العربيوظلت زوجته إلى اليوم وهي مصرة على وجودها الأجنبي وجوها الأجنبي بينما غيرت زوجات كثير من الأدباء الذين تزوجوا بأجانب حياتهم، وبقيت رامتان لا يؤذن فيها الله ولا تنطق فيها كلمة عربية ولا حول ولا قوة إلا بالله.(/5)
الوجه الآخر للتطرف!
محمد أبو رمان 28/9/1425
11/11/2004
منذ سنوات والحديث يدور في أوساط ثقافية وسياسية عربية عن موضوع التطرف الديني وروافده المختلفة، وفي الوقت الذي نقر فيه بانتشار ظاهرة التطرف الإسلامي على نطاق اجتماعي محدود، فإنّ ما ينبغي إدراكه من قبل المعنيين والمثقفين هو "التطرف الآخر" المضاد للتطرف الديني، والذي يشكل رافدًا رئيسًا لتعزيز التطرف الديني كاتجاه معاكس له، في ظل شروط سياسية واقتصادية واجتماعية توفر التربة الخصبة لنمو بذور التطرف الديني والسياسي بأشكاله المتعددة.
وما دفعني إلى إثارة هذا الموضوع هو مقال الصديق (جمال سلطان) بعنوان "استضعاف الدين واستنبات التطرف"، والذي تناول فيه اتهامات الكاتب المصري أسامة أنور عكاشة للصحابي عمرو بن العاص (رضي الله عنه)، وإن كنت أختلف مع جمال فيما ذكره بحق أسامة أنور عكاشة -على ما بيننا وبينه من مسافة فاصلة في الرؤى السياسية والفكرية-، وأعتقد أن عكاشة فقط ضل سبيله بالمصطلحات وأبعد النجعة في قراءة مساحة تاريخية اعترف -هو نفسه- أنه غير ملمٍّ بها، لكن هذا لا يعني موافقتي لجمال سلطان على تهجمه الكبير على شخص عكاشة؛ فالرجل ليس من رجال السلطة، ولا يستقوي بها على الإسلاميين، وليس متخصصًا في تاريخ المومسات والراقصات كما وصفه جمال، وإنما كاتب وروائي مبدع، نختلف معه في كثير من المواقف والأفكار، ولا ننقصه حقه في مجال الكتابة الأدبية المبدعة. على أية حال، الاختلاف في وجهة النظر لا يفسد للود قضية.
إلاّ ان ملاحظة جمال سلطان تنقلنا إلى ظاهرة أخرى في الإعلام والثقافة العربية هي أحق بأن توسم بعنوان مقاله "استضعاف الدين واستنبات التطرف"؛ لأنها بالفعل ظاهرة مقززة ومخزية، ولا تعبر سوى عن عقد نفسية وإفلاس فكري وفني فاضح من قبل نفر ممن يحسبون أنفسهم على الفن العربي، لم يجدوا هذه الأيام العصيبة سوى موضوع الجهاد والمجاهدين والإسلام ليمارسوا هواية السخرية والاستهزاء بها، وكأنهم نبت غريب منبت الصلة عن المجتمعات المسلمة التي تعلي من شأن هويتها الإسلامية، وتقفز قلوبها كل حين لما يحدث في العراق والفلوجة وفلسطين!.
نعم، ثمة نفر من "الفنانين" فقدوا البوصلة، خرجوا عن كل معاني الأدب والأخلاق ومارسوا تهكما شنيعًا تجاه شعائر إسلامية كالجهاد، وتضحيات المسلمين في الفلوجة؛ فهناك في الأردن من أعمى الله بصره وبصيرته ولم يعد يرى أمام ناظريه سوى الآيات القرآنية ليستهزئ بها، ويتهكم على معانيها، وهو الأولى بأن يتهكم عليه عندما ذهب يعرض بضاعته الكاسدة هناك للكيان الصهيوني، فما وجد منهم إلا الصدود والرد، وعاد من معه يعلنون توبتهم، ولم يجد اليوم ليعود إلى الساحة، وينال شيئًا من الحظوة لدى من يقتلون الأبرياء والأطفال والمدنيين العزل في الفلوجة ورام الله وجباليا إلا ممارسة التهكم على المجاهدين والآيات القرآنية. أما في الكويت فقد أصبحت دماء الأبرياء والمجاهدين هناك مجالاً للسخرية والتهكم من قبل نفر من الفنانين الذين تجمدت الدماء في عروقهم وفقدوا الإحساس بأمتهم، ليصبح بالنسبة لهم من أصر على الدفاع عن أرضه وعرضه ودينه -ولم يهرب تاركًا منزله وأهله وأمواله- مجالاً للسخرية!، وفي السعودية (طاش) سهمُ بعض الفنانين، فلم يعودوا يرون إلا العلماء والمتدينين لتقديمهم بصورة هزلية كاريكاتورية!.
إن ما يفعله هذا النفر من الفنانين ليس سوى إثارة لمشاعر الغضب الديني وتأجيج لنزعات التطرف الديني الذي لا نقبله، ولكن هذه الأعمال "اللافنية" هي أحد الروافد الرئيسة لهذا التطرف، ودفع بعدد كبير من الشباب المتحمس لرد فعل مضاد، فالتطرف هو الذي ينبت التطرف! وما حدث مع سلمان رشدي مثال صارخ على ذلك..(/1)
الوجه الآخر
للشيخ أبوزيد محمد حمزة حيدر عبد الحفيظ*
الشيخ أبو زيد محمد حمزة .. أحداث مواقف ذكريات
وضعني في السجن مع امرأة مخمورة بغرض الإهانة .......................... الرئيس نميري اعتقلني بسبب آية (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء)
( ليس لدي أوقات فراغ اقضيها في غير العبادة والعلم والدعوة إلى الله) هذا ما قاله الشيخ أبوزيد حينما سئلناه عن وقته كيف يقضيه وزاد على ذلك (ما تسأل عن أبوزيد إلا يقولوا ليك عندو درس .. عندو محاضرة). فكانت أوقات الشيخ وزمنه كلها مسخرة في سبيل مرضاة الله، وحينما أردنا أن نكتشف وجهه الآخر في الحياة .. بعيداً عن أجواء الخلاف و المشاكل في أوساط أنصار السنة كان لنا هذا الحوار مع الشيخ أبوزيد محمد حمزة الذي ساح بنا عبر مواقف وأحداث وأماكن وذكريات ومحطات عديدة في حياته وكانت الجلسة شيقة وما يشد المتابع لكلامه يجد في سرده للأحداث السابقة كأنها ماثلة أمامه من فرط قوة ذاكرته ... لمعرفة الوجه الآخر من حياة الشيخ أبوزيد تابع ثنايا الحوار:
ما الذي لا نعرفه عن الشيخ أبوزيد؟
ألما بتعرفوا عني!.. يعني عمري كم؟!.. وحالتي الاجتماعية؟!.. دا العايزين تعرفوا عني؟
مثلاً ما هي المهن التي عملت بها من قبل ؟
اشتغلت داعية فقط، لم أشتغل حاجة غير كدا، وتنقلت بين حلفا ورفاعة والإسكندرية، اشتغلت داعية بمساجد أنصار السنة بالقاهرة، ثم عدت إلى السودان متفرغًا للدعوة بمسجد الحارة الأولى (الثورة، أم درمان)
إذا رجعنا بك إلى الوراء... حدثنا عن ذكريات ما زالت عالقة بذهنك عن أماكن تكن لها الحنين؟
حلفا القديمة ... اتربينا فيها نشأنا فيها، فيها أصحاب تعرَّفنا عليهم.. كما شهدت فترة دراستي الأولية بمدارسها المختلفة.
حيث كانت بداية الإنطلاقة في الدعوة إلى الله.. مناطق ومدن مختلفة زرتها لتقديم الدعوة مازالت ذكرياتها عالقة بذهني.
الشيخ أبو زيد ..(أحداث) أو (مواقف) حصلت في سنين مضت، تمنيت لو استطعت أن تصححها؟
هنالك أحداث كثيرة ومواقف متعددة حصلت في مسيرة الدعوة إلى الله منها ما كان يمثل عقبات ومتاعب، وفي الدعوة يواجه الداعية أنماط مختلفة من السلوك والتعامل، ولو لم يعرف الداعية حال الناس وعاداتهم وتقاليدهم وأخلاقياتهم لا يستطيع أن يواصل المشوار في الدعوة.
بهرتني أوروبا بجمالها و حزنت لانحطاط أخلاق أهلها
سبق أن قمت بزيارة دعوية لعدد من الدول الغربية تحديدًا في أوربا ... ما هو الانطباع الذي خرجت به عن تلك الدول؟
سبق أن ذهبت في رحلة دعوية إلى دول مثل هولندا، بليجيكا، فرنسا وألمانيا، وقمنا بإلقاء محاضرات في مراكز إسلامية ومساجد في تلك البلاد. وهذه البلاد جميلة وحلوة... نظيفة والناس جادون في عملهم ولكن بيئتهم وأخلاقياتهم منحطة ... صحيح أن بلادهم واسعة وعمرانهم جميل لكن خباياهم ومعتقداتهم منحطة وأشياء كثيرة لم تعجبني وأشياء أعجبتني..مثلاً معاملة كبار السن وتخصيص ملاجئ خاصة لهم، و لا توجد أسرة ملتئمة.. كلٌ يمشي على هواه سواء الزوج أو الزوجة أو الأبناء!!.. وكذلك في أوروباالقبر يؤجر للموتى ومن لا يؤجر من الأوربيين يمكن أن يحرق جثة قريبه المتوفى!.. وتوضع رفاة الجثة المتوفاة في (برطمانه) تسلم لذوي المتوفى.. وكل هذه الأفعال قيم منحطة تتنافى مع مبادئ الإسلام التي تكرم الإنسان حياً وميتاً.. وكذلك لم يعجبني صور ومشاهد الناس في الطرقات.
وما هي الأشياء التي أعجبتك في تلك الدول؟
أعجبتني صور المراعي الخضراء في أوربا على امتداد البصر والغريب أن الأبقار في تلك المزارع على درجة من النظام - وهي تعقل ذلك لوحدها- حيث أنه عندما يحين وقت الحليب للأبقار في الأمسيات تصطف الأبقار دون أن ينظمها أحد، فكل واحدة تدخل إلى المكان المخصص لحلبها ومن ثم تنصرف دون ازدحام أو فوضى.. وكذلك عجبت لواقع الغرب في بنائه للكنائس الشامخة والعملاقة، ولكنها مطبَّلة-مغلقة بالطبلة- لا أحد يدخلها، لا في الأحد ولا غيره!.. وأنا أتعجب لماذا يصرون على فتح كنائس في بلادنا الإسلامية!؟.. هذا يدل على أن لديهم غرضاً في ذلك.. وكذلك أعجبني نهر (الراين) بجماله وروعته وجسوره المعلقة عليه، وما عليه من مناظر جملية وحلوة.. والدعوة الإسلامية منتشرة والحمد لله. ولكن للأسف الآذان مداه لا يتعدى محيط المسجد لأن الحكومات تمنع أن يتعدى صوت المؤذن حرم المسجد.
أكثر الأيام قسوة وصعوبة في حياة الشيخ أبوزيد؟
أكثر أيام كانت صعبة ولكنها كانت جميلة في نفس الوقت، هي أيام الدعوة في الستينيات والثمانينيات كانت أيام صعبة للدعوة وكنا في خطر دائم وكانت أيام جهاد وعمل إسلامي ودعوة إلى التوحيد وكان الاقتناع بالسلفية صعبًا لأن الناس كانوا يعتقدون في طرقهم ومشايخهم ويتمسكون بالخرافة.. وكانت الدعوة تحتاج إلى صبر وتحمل، أصابنا الأذى العقلي والقولي والإساءة.(/1)
طريق الدعوة إلى الله ليس مقروشاً بالورود والرياحين.. هل سبق أن تعرض الشيخ أبوزيد محمد حمزة للسجن والمحاكمة في حياته؟
حصل ذلك في زمن نميري .. دخلت السجن، وسبب دخولي السجن كان آية قرآنية قرأتها في المسجد.. وحاصر عساكر النميري منزلي وتم تفتيش المنزل ووضعت في الزنزانة عشرة أيام، ومثلت أمام محكمة مكونة من قاضيين.. وسألوني ليه بتبدأ الخطبة بالآية القرآنية (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك مِن مَن تشاء).. فرددت أنني ليس لدي قصد وإنما في كل خطبة أبدأ بهذه الآية.. فرد عليَّ القاضي: ما في آية غير دي تقرأها... فقلت له :الآية دي عيبها شنوا؟!.. ومن إهانات النميري لي أن وضع معي في السجن امرأة (سكرانة)... وكذلك عمر محمد الطيب في عهد نميري كانت الأمور عنده مهزلة، يسجن دون سبب.. قام بسجني أنا والشيخ (مصطفى ناجي) عليه رحمة الله.
وسجنت شهر كامل في أحداث ودنوباوي في عهد نميري مع الإتحاديين والأنصار وكنت إمامًا للصلاة لقرابة الـ 300 معتقل داخل السجن..وفي أحد الجمع حينما خطبت قام (حاج نور) علية رحمة الله بالتعقيب على الخطبة وقام بالتعريض على نميري ونظامه، وحينما وصلت الأخبار إلى نميري اشترطوا علينا أن أخطب أنا دون أن يعقب أحدًا وإلا تمنع الصلاة الجماعية. وقبلنا بذلك.. أما في أيام الحادث المشهور بمسجدي سجنت شهرين كان سجن النميري أرحم منها.
و ماذا في برنامجك اليومي ... خلاف العلم والعبادة والدعوة إلى الله ؟
ليس عندي شغلة غير الذي قلته من علم وعبادة ودعوة، ما تسأل عن أبوزيد إلا يقولوا ليك عندو درس .. عندو محاضرة.. أما الاجتماعيات، فأنا لا أذهب إلاّ إلى العزاء أو مباركة الزواج ولا آخد زمن كثير فيها وزمني كله موظف للدعوة إلى الله.. و أقضي قدراً كبيراً من زمني في الدعوة.. أشعر بأنني أحيانًا أقصر في اجتماعياتي.
طيب.. في وقت القيلولة.. أو في أوقات الفراغ، ألا تستغل هذا الوقت في قراءات أخرى غير العلم الشرعي، أو في ممارسة هواية ما؟!
المصحف بتاعي في سريري البنوم عليهو.. وكتبي كذلك، أبحث فيها عن المسائل الشرعية وأقرأ القرآن .. ما عندي أوقات فراغ أقضيها في غير ذلك.
في مسيرتك الدعوية هل سبق أن التقيت بأهل السلطة من الرؤساء الذين تعاقبوا على الحكم أياً منهم؟
مرةً كنت أخطب في المملكة العربية السعودية (بمنى) في مسجد نمرة بعرفات.. دخل الملك فيصل وكان الجمع كبيرًا وكان الإمام الهادي حينها موجوداً.. وكنت أتكلم وأخطب بانفعال وحينما دخل الملك لم أغير من نبرتي في الخطبة، فقام أحدهم يجر جلبابي حتى أخفف نبرتي وواصلت دون أن التفت أو أهتم بمقدم الملك حتى انتهت الخطبة.. وكذلك التقيت بالرئيس جعفر نميري في احد احتفالات أعياد المملكة السعودية، وجلس معي بالقرب مني، ولم أحب أن أذكره بما فعله معي من أشياء غير طيبة..أما زيارتي ولقائي مع الرؤساء فدائماً ما تكون في حدود الضرورة ..
وتعاملك داخل الأسرة.. كيف هو؟
الحمد لله متزوج من ثلاثة نساء ولدي أولاد وبنات، زوجتي الأولى تزوجتها منذ عام 1946م، وهي الآن كبيرة في السن، وأنا احترمها وأضعها في (عيوني) وأقدرها ولم أقصر معها في شيء، وتزوجت الثانية من شرق السودان، أما زوجتي الثالثة فقد تزوجتها قبل 9 سنوات من أم روابة.. والحمد لله أبنائي كلهم عندي سواء وليس لدي أي مشاكل أسرية وإنما جميعهم يكنون لي الاحترام والتقدير. وأنا من الذين لا يحتقرون المرأة وأقدرها جدًا.
أشياء يتمنى الشيخ أبو زيد أن تتحقق؟!
أن يزدهر الإسلام أن يرجع إلى سيرته الأولى.. التمكين في الأرض، والسيادة، والأمن والأمان والرخاء وبذلك تسعد البشرية.. وحال الأمة الإسلامية هذه الأيام يدعو إلى الحزن والشفقة؛ في بغداد عاصمة الرشيد..و في السودان.. من يصدق أن يتقسم السودان؟!.. وكذلك حالة الشقاق بين الأحزاب في البلدان الإسلامية والخلاف الذي يدب بينها.. الوفاق أصبح مفقوداً، وأتمنى أن يعيد الله للعالم أمنه، لأنه – العالم – أصبح يعيش عذابًا حسيًا.. ومن المقلق اضطراب العالم الإسلامي بسبب بعد الأمة عن القرآن تنكبها الصراط مع إن مصدر الهداية موجود، وحالها كما وصفها الشاعر:
كالعير في البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمول
والغريب أن تضل الأمم والهداية موجودة. وأسباب زوال عذاب العالم هو الرجوع إلى الله (ولو أنهم أقاموا التوراة وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) .. وأتمنى أن ترجع الأمة إلى هدي الإسلام.(/2)
الوجهة في حكم تخمير المحرم وجهه
عبدالله بن مانع العتيبي 27/1/1426
08/03/2005
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله …. أما بعد :
فهذا بحث مختصر في مسألة تغطية المحرم وجهه هل يجوز أم لا ؟
وأصل المسألة الحديث الذي يرويه الستة وأحمد وغيرهم من طرق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قصة الرجل الذي كان واقفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة فوقع من راحلته فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه طيباً ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً".
وهذا الحديث له ألفاظ متقاربة ويرويه عن سعيد بن جبير اثنا عشر راوياً وهذا تفصيل رواياتهم :
1 ـ أبو الزبير :
أخرجه مسلم ( 2900 ) عن هارون بن عبدالله عن أسود بن عامر عن زهير عنه وفيه ذكر الوجه ولفظه " وأن يكشفوا وجهه حسبته قال ورأسه " قال البيهقي " ذكر الوجه على شك فيه في متنه ورواية الجماعة الذين لم يشكوا وساقوا المتن أحسن سياقة أولى أن تكون محفوظة أ. هـ كلام البيهقي وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله .
2 ـ ابراهيم بن أبي حرة : أخرجه أحمد عن سفيان بن عيينة عنه بدون ذكر الوجه .
3 ـ عمرو بن دينار واختلف عليه في ذكرها كثيراً فالحديث يرويه عن عمروأكثر من أربع عشرة نفساً :
أ ) الثوري :
أخرجه مسلم عن أبي كريب عن وكيع ح وأخرجه ابن ماجة عن علي بن محمد الطنافسي كلاهما( الطنافسي وأبو كريب ) عن وكيع عن الثوري عن عمرو بذكر الوجه وتابع وكيعاً أبو داود الحفري : أخرجه النسائي ( 2714 ) عن عبدة بن عبدالله الصفار عن الحفري عن سفيان وفيها ذكر الوجه ورواه محمد بن كثير عند أبي داود ( 3238 ) والبيهقي ( 3/391 ) عن الثوري بدون ذكر الوجه .
ومن طريق مسلم المذكورة أخرجه البيهقي ( 5 / 53 ) وابن حزم ( 7/92 ) وقال ابن حزم خبر ثابت وقال البيهقي ورواه محمد بن عبدالله بن نمير عن وكيع دون ذكر الوجه فيه وكذا رواه محمد بن كثير وعبدالله بن الوليد العدني عن سفيان دون ذكر الوجه أ.هـ .
ب ) ابن عيينة :
روى الحديث عنه أربعة أحمد في المسند ( 1914 ) والحميدي في مسنده ( 466 ) وابن أبي شيبة عند مسلم ( 2891 ) وابن أبي عمر عند الترمذي ( 951 ) وليس في شيء من ذلك ذكر الوجه .
ج ) يونس بن نافع :
أخرجه النسائي ( 1904 ) أخبرنا عتبة بن عبدالله حدثنا يونس وليس فيها ذكر الوجه .
د ) ابن جريج :
أخرجه احمد ( 323 ) عن يحيى عنه وليس فيها ذكر الوجه وكذلك أخرجه النسائي
( 2858 ) اخبرنا عمران بن يزيد حدثنا شعيب بن اسحاق اخبرنا ابن جريج وليس فيها ذكر الوجه .
هـ ) عمرو بن الحارث :
اخرجه ابن حبان ( 3928 ) اخبرنا ابن سلم عن حرملة عن ابن وهب عن عمرو وليس فيها ذكر الوجه .
و ) حماد بن زيد :
أخرجه مسلم ( 2892 ) حدثنا أبو الربيع الزهراني قال حدثنا حماد ليس فيها ذكر الوجه وأخرجه البخاري ( 1849 ) حدثنا سليمان بن حرب ح وحدثنا مسدد ( 1268 ) كلاهما سليمان ومسدد عن حماد عن عمرو وليس فيها ذكر الوجه .
ز ) سَليم بن حيان:
أخرجه الطبراني في الصغير ( 2 /188) برقم (1004) وليس فيها ذكر الوجه .
ورواها أعني ذكر الوجه عن عمرو كل من عبدالله بن علي الأزرق وأبان العطار وأشعث بن سوار وأبان بن صالح وابن أبي ليلى وأبو مريم وعمر بن عامر وكل رواياتهم عنه عند الطبراني ( 12/ 76 فما بعدها ) ورواية عمر بن عامر أخرجها كذلك الدارقطني ( 2/295 )
4 ) رواية أيوب السختياني :
أخرجها البخاري ( 1265 ) حدثنا أبو النعمان عن حماد عن أيوب ليس فها ذكر الوجه وأخرجه النسائي عن قتيبة عن حماد ليس فيها ذكر الوجه وبمثل طريق النسائي أخرجها البخاري بسنده ومتنه سواء ( 1266 ) وأخرجها احمد ( 3076 ) عن عبدالرزاق عن معمر عن أيوب ليس فيها ذكر الوجه وكذلك أخرجها احمد ( 2591 ) عن محمد بن جعفر عن سعيد بن أبي عروبه عن ايوب ليس فيها ذكر الوجه .
5 ) رواية الحكم بن عتيبة :
اخرجه ا البخاري ( 1839 ) عن قتيبة عن جرير عن منصور عن الحكم ورواها النسائي
( 2856 ) اخبرنا محمد بن قدامة عن جرير به ليس فيها ذكر الوجه وكذا رواها أبو داود ( 3241 ) عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير دون ذكر الوجه .(/1)
ورواها أحمد عن حسين عن شيبان عن منصور عن الحكم ليس فيها ذكر الوجه ثم أردفه أحمد برواية أسود حدثنا إسرائيل بإسناده إلا أنه قال " ولا تغطوا وجهه " ورواه مسلم في الصحيح ( 2901 ) عن عبد بن حميد عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن منصور عن سعيد وفيها ذكر الوجه فأسقط إسرائيل الحكم وقد خالفه عمرو بن أبي قيس عند أبي عوانة برقم ( 2/ 273 ) وعبيدة بن حميد عن الدارقطني ( 2 / 295 ) فهؤلاء أربعة جرير وشيبان وعمرو بن أبي قيس وعبيدة بن حميد كلهم يذكرون الحكم ولا يذكرون الوجه إلا في رواية عبيدة قال البيهقي ( 3 / 393 ) هذا هو الصحيح منصور عن الحكم عن سعيد وفي متنه ولا تغطوا رأسه ورواية الجماعة في الرأس وحده وذكر الوجه غريب أ.هـ .وتعقبه ابن التركماني في الجوهر النقي بقوله " قد صح النهي عن تغطيتهما فجمعها بعضهم وأفرد بعضهم الرأس وبعضهم الوجه والكل صحيح ولاوهم في شيئ منه وهذا أولى من تغليط مسلم .
6 ) ـ عبدالكريم الجزري :
أخرجها أحمد ( 3077 ) حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن عبدالكريم الجزري وليس فيها ذكر الوجه ، وكذا رواية عبيد الله بن عمرو عن الجزري عند الطبراني ( 12/80 ) ليس فيها ذكر الوجه .وروى الطبراني ( 12/80 ) من طريق قيس بن الربيع عنه وبها ذكر الوجه وقيس ضعيف وقد خولف .
7 ) طريق ابي بشر :
واختلف عليه في ذكر الوجه فيرويه عن أبي بشر :
أ ـ شعبة :
أخرجه مسلم ( 2899 ) عن محمد بن بشار وأبو بكر بن نافع كلاهما عن محمد بن جعفر عن شعبة عن أبي بشر بذكر الوجه وعن محمد بن جعفر أخرجه أحمد ( 2600 ) بذكر الوجه وأخرجه النسائي ( 2854 ) ( 5/696 ) عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد الحذاء عن شعبة بذكر الوجه وأخرجه ابن ماجة ( 3084 ) حدثنا علي بن محمد عن وكيع عن شعبة بذكر الوجه ورواه ابن حبان ( 3960 ) من طريق أبي اسامة عن شعبة بذكر الوجه فهؤلاء أربعة يروونه عنه شعبة بذكر الوجه محمد بن جعفر وهو من أثبت الناس فيه ووكيع وخالد الحذاء وأبو أسامة .
ب ـ هشيم :
أخرجه النسائي ( 2853 ) والبخاري ( 1851 ) كلاهما عن يعقوب بن ابراهيم عن هشيم به دون ذكر الوجه ، وأخرجه مسلم ( 2897 ) عن محمد بن الصباح ويحيى بن يحيى كلاهما عن هشيم به دون ذكر الوجه ، وأخرجه أحمد ( 1850 ) عن هشيم به دون ذكر الوجه
ج ـ خلف بن خليفة :
أخرجه النسائي ( 2857 ) حدثنا محمد بن معاوية عن خلف بن خليفة عن أبي بشر وفيه ذكر الوجه .
د ـ أبو عوانه :
أخرجه مسلم ( 2898 ) حدثنا أبو كامل الجحدري عن ابي عوانة به دون ذكر الوجه ، وأخرجه( 3031 ) عن عفان حدثنا أبوعوانة به دون ذكر الوجه وأخرجه البخاري ( 1267 ) حدثنا أبو النعمان أخبرنا أبو عوانة به دون ذكر الوجه .
8 ) ـ قتادة بن دعامة
أخرجه أحمد ( 2591 ) عن محمد بن جعفر عن سعيد عن قتادة وأيوب عن سعيد بن جبير به دون ذكر الوجه وقتادة لم يسمع من سعيد في قول يحي بن معين واحمد لكنه هنا مقرون فرجع الحديث إلى أيوب .
9 ) عطاء بن السائب :
أخرجه الطبراني ( 12/79 ) من طريقه عنه عن سعيد ليس فيها ذكر الوجه .
10 ) فضيل بن عمرو :
أخرجها الطبراني ( 12/73 ) من طريق شريك عن سعيد بن صالح عنه دون ذكر الوجه وفيه شريك .
11 ) مطرالوراق :
أخرجها الطبراني ( 12/81 ) من طريق فضيل بن عياض عن هشام بن حسان عنه وفيها ذكر الوجه وكذا أخرجها أبو عوانة ( 2/272 ) ومطر ضعيف.
12 ) سالم الأفطس :
أخرجها الطبراني (11/436) عن سعيد دون ذكر الوجه وبها قيس بن الربيع وفيه كلام .
خلاصة ما مضى :
أولاً : طريق ابي الزبير عن سعيد وقد وقع فيها الشك أخرجها مسلم ،وتقدم كلام البيهقي ،وقد اضطرب حفظ أبي الزبير لها فحفظ الوجه وشك في الرأس مع أن الرأس لا خلاف في ذكره ،فهذا مما يدل على أنه لم يحفظ كما ينبغي
ثانياً : طريق عمرو بن دينار عن سعيد .
أ ـ من طريق الثوري ذكرها وكيع عنه ،واختلف عليه فذكرها الطنافسي وأبو كريب ،ولا يذكرها عن الثوري عبدالله بن الوليد ولا محمد بن كثير ،ويذكرها أبو داود الحفري ، فكونها محفوظة في طريق الثوري محل نظر
ب ـ ورواها عن عمرو من تقدم ذكرهم وأما سائر أصحاب عمرو من كبار الحفاظ كابن عيينة وحماد وابن جريج ويونس وعمرو بن الحارث وقيس بن سعد لا يذكرونها أصلاً .فهي منكرة من طريق عمرو .
ثالثاُ : طريق الحكم عن سعيد جاءت الزيادة عنه من طريق اسرائيل عن منصور عنه ،وخالف اسرائيل شيبان فلم يذكرها ،وكذا لا يذكرها جرير ولا عمرو بن أبي قيس ،فالزيادة في طريق الحكم غير محفوظة ،وكلام ابن التركماني المتقدم ليس بشئ ،ولا يجيء على طريقة الأوائل في مثل هذا الموضع .
رابعاً : طريق منصور بن المعتمرعن سعيد وجاءت الزيادة عند مسلم من طريق عبد بن حميد عن عبيد الله بن موسى عن اسرائيل عن منصور وهذه الرواية وقع وهم فيها في السند والمتن فرجعت إلى طريق الحكم دون ذكر الوجه كما تقدم .
خامساً :طريق ابي بشر عن سعيد :(/2)
أ ـ الزيادة من هذا الطريق رواها عن شعبة وكيع ومحمد بن جعفر وخالد الحذاء وأبو أسامة .
ب ـ طريق خلف بن خليفة جاءت من طريق واحد عند النسائي أخرجها عن محمد بن معاوية عن خليفة وأما سائر أصحاب أبي بشر كهشيم وأبي عوانة فلا يذكرونها ،وكونها محفوظة عن أبي بشر إنما هذا من ناحية التحمل عنه لكن من جهة حفظه إياها فمحل نظر ،فسائر الرواة عن سعيد كأيوب وإبراهيم بن أبي حرة وعبدالكريم الجزري فلا يذكرونها أصلاًُ إذاً شعبة بريء من العهدة ،والحمل في ذلك على أبي بشر في ذكرها ،ومما يدل على ذلك أنّ هشيماً وأبا عوانه لا يذكرون الزيادة ،وهما من هما. قال علي بن حجر: هشيم في أبي بشر مثل ابن عيينه في الزهري سبق الناس هشيم في أبي بشر ،وقال ابن المبارك : من غير الدهر حفظه فلم يغير حفظ هشيم ، وقال بن مهدي: حفظ هشيم أثبت من حفظ أبي عوانه ،وكتاب أبي عوانه أثبت من حفظ هشيم أ . هـ . تهذيب الكمال ( 30/ 282 ). قلت: قد أجتمعا .
والحقيقة أن القول بأنها محفوظة في الحديث قول فيه بعد مع أن مسلماً رحمه الله أخرج الحديث عن أصحاب عمرو كسفيان بن عيينة وحماد وابن جريج ثم جعل طريق الثوري عن عمرو آخر ما ذكر ثم أخرج مسلم الحديث عن أصحاب أبي بشر فبدأ برواية هشيم ثم أبي عوانة ثم جعل طريق شعبة عن أبي بشر آخر ما ذكر . ثم أخرج في آخر الباب حديث أبي الزبير عن سعيد وحديث منصور عن سعيد ، والمتتبع لطريقة مسلم في كتابه الصحيح يجده يقدم الأصح أولاً في الأغلب ثم يردفه بما دونه ،فمسلم مع إخراجه له قد صنع به ماترى ،وقد بوب النسائي للحديث باب ( النهي عن أن يخمر وجه المحرم ورأسه إذا مات ) ،وقال ابن حزم: إنه خبر ثابت عن رسول ا لله صلى الله عليه وسلم في أمره في الذي مات محرماً ألا يخمر رأسه ولا وجهه رويناه من طرق حجة منها من طريق مسلم : حدثنا أبو كريب فذكره أ .هـ .
وحكى ابن المنذر الخلاف ولم يرجح ( 5/345 ) .
وقال البيهقي ( 5/53 ) : باب لا يغطي المحرم رأسه وله أن يغطي وجهه ،وذكر بعض الطرق عن سعيد عن ابن عباس والاختلاف في الزيادة .. ،وقد مررنا على ذلك بتمامه ثم أسند عن عبدالله بن عامر بن ربيعة أنه قال رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه بالعرج وهو محرم في يوم صائف قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان ….. وكذا أخرجه ابن حزم ( 7/ 91 ) قلت أثر عثمان أخرجه مالك ( 1/327 ) .
وأسند البيهقي أيضاً من طريق ابن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت ومروان بن الحكم كانوا يخمرون وجوههم وهم حرم .
وأسند أيضاً عن يعلي بن عبيد عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر قال يغتسل المحرم ويغسل ثيابه ويغطي أنفه من الغبار ويغطي وجهه وهو نائم . أ.هـ .ثم قال البيهقي: خالفهم ابن عمر ، وأسند من طريق مالك عن نافع أن عبدالله بن عمر كان يقول ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم . أ.هـ .
وأثر جابر أخرجه ابن حزم أيضاً وأخرج كذلك من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن الفرافصة بن عمير قال كان عثمان وزيد بن ثابت وابن الزبير يخمرون وجوههم وهم محرمون وأسند ابن حزم من طريق عبدالرزاق عن الثوري عن ابي الزبير عن جابر وابن الزبير أنهما كانا يخمران وجوههما وهما محرمان ومن طريق حماد عن عيسى بن سعد عن عطاء عن ابن عباس أنه قال : المحرم يغطي ما دون الحاجب . ثم قال ابن حزم : وعن عبدالرحمن بن عوف أيضاً إباحة تغطية المحرم وجهه وهو قول عطاء وطاووس ومجاهد وعلقمة وإبراهيم النخعي والقاسم بن محمد كلهم أفتى المحرم بتغطية وجهه وبيَن بعضهم من الشمس والغبار والذباب وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأبي سليمان وأصحابهم ، وروي عن ابن عمر لا يغطي المحرم وجهه ،وقال به مالك ولم ير على المحرم إن غطى وجهه شيئاً لا فدية ولا صدقة ولا غير ذلك إلا أنه كرهه فقط بل قد روي عنه ما يدل على جواز ذلك . أ . هـ . وقال أبو الطيب في تعليقه على الدارقطني ( 2 / 296 ) : وقال الحاكم في كتاب علوم الحديث وذكر الوجه في الحديث تصحيف لرواية الجماعة الثقات من أصحاب عمرو بن دينار على روايته ولاتغطوا رأسه . أ . هـ والمرجع في ذلك إلى مسلم لا إلى الحاكم فإن الحاكم كثير الأوهام وأيضاً فالتصحيف إنما يكون في الحروف المتشابهة وأي مشابهة بين الوجه والرأس في الحروف . إلى آخر كلام أبي الطيب .(/3)
وقال ابن عبد البر في الاستذكار ( 11/45 ): اختلف العلماء في تخمير المحرم وجهه بعد إجماعهم أنه لا يخمر رأسه فكان ابن عمر فيما رواه مالك وغيره عنه يقول : ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم ولذلك ذهب مالك وأصحابه وبه قال محمد بن الحسن من غير خلاف عن أصحابه ، قال ابن القاسم : كره مالك للمحرم أن يغطي ذقنه أو شيئاً مما فوق ذقنه لأن إحرامه في وجهه ورأسه ، قيل لابن القاسم : فإن فعل أترى عليه فدية ؟ قال : لم أسمع من مالك فيه شيئاً ولا أرى عليه شيئاً لما جاء عن عثمان في ذلك ، وقد روي عن مالك : من غطى وجهه وهو محرم أنه يفتدي ، وفي موضع آخر من كتاب ابن القاسم . أرأيت محرماً غطى وجهه ورأسه في قول مالك .قال : قال مالك : إن نزعه مكانه فلا شيء عليه وإن تركه فلم ينزعه مكانه حتى انتفع بذلك افتدى قلت : وكذلك المرأة إذا غطت وجهها ؟ قال : نعم إلا أن مالكاً كان يوسع للمرأة أن تسدل رداءها فوق رأسها على وجهها إذا أرادت ستراً وإن كانت لا تريد ستراً فلا تسدل ، قال أبو عمر : روي عن عثمان وابن عباس وعبد الرحمن بن عوف وابن الزبير وزيد بن ثابت وسعد بن أبي وقاص وجابر بن عبدالله : أنهم أجازوا للمحرم أن يغطي وجهه فهم مخالفون لابن عمر في ذلك ، وعن القاسم بن محمد وطاووس وعكرمة أنهم أجازوا للمحرم أن يغطي وجهه ، وقال عطاء : يخمر المحرم وجهه إلى حاجبيه ، وبه قال الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود ، وذكر عبد الرزاق عن ابن عيينه عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال : كان عثمان وزيد بن ثابت يخمران وجوههما وهما محرمان ، وكل من سمينا في هذا الباب من الصحابة ففي كتاب عبد الرزاق) أ . هـ .
قلت الآثار عن الصحابة وغيرهم أنظرها في المصنف ( 3 / 273 ) لابن أبي شيبة .
وقال أبو محمد في المغني ( 5 / 153 ) و في تغطية المحرم وجهه روايتان : إحداهما :
يباح ذلك ، روي ذلك عن عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف وزيد بن ثابت وابن الزبير وسعد بن أبي وقاص وجابر والقاسم وطاووس والثوري والشافعي ،
الثانية :
لا يباح ، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك لما روي عن ابن عباس أن رجلاً وقع عن راحلته فوقصته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا وجهه ولا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة يلبي " . ولأنه محرم على المرأة فحرم على الرجل كالطيب ولنا ما ذكرنا من قول الصحابة ولم نعرف لهم مخالفاً في عصرهم فيكون إجماعاً ولقوله عليه الصلاة والسلام " إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها " وحديث ابن عباس المشهور فيه " ولا تخمروا رأسه " هذا المتفق عليه وقوله " ولا تخمروا وجهه " فقال شعبة حدثنيه أبو بشر ثم سألته عنه بعد عشر سنين فجاء بالحديث كما حدث إلا أنه قال " ولا تخمروا وجهه ورأسه " وهذا يدل على أنه ضعف هذه الزيادة وقد روي في بعض ألفاظه " خمروا وجهه ولا تخمروا رأسه (1)فتتعارض الروايتان وما ذكره يبطل بلبس القفازين . أ . هـ .
وقال في الفروع ( 3/271 ) ويجوز تغطية الوجه في رواية اختارها الأكثر وفاقاً للشافعي وفعله عثمان ورواه أبوبكر النجادعنه وعن زيد وابن الزبير وأنه قاله ابن عباس وسعد بن أبي وقاص وجابر وعن ابن عمر روايتان ، روى النهي عن مالك ولأنه لم تتعلق سنة التقصير من الرجل فلم تتعلق به حرمة التخمير كسائر بدنه وعنه لا يجوز . أ . هـ .
قلت الروايتان عن ابن عمر أخرجهما مالك عن نافع عن ابن عمر كان يقول : ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم والرواية الثانية من الطريق نفسها أن عبدالله بن عمر كفن ابنه واقد بن عبدالله ومات بالجحفة محرماً وخمر رأسه ووجهه وقال : لولا أنا حرم لطيبناه .
قال مالك : وإنما يعمل الرجل ما دام حياً فإذا مات فقد انقضى العمل .أ . هـ .قلت قول مالك هذا يرده الحديث الثابت في الباب وتعليل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً "ولهذا قال ابن القيم في الهدي ( 2/245 ) على فوائد القصة وأحكامها الحكم الثاني عشر : بقاء الإحرام بعد الموت وأنه لا ينقطع به وهذا مذهب عثمان وعلي وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم وبه قال أحمد والشافعي وإسحاق وقال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي فينقطع الإحرام بالموت وصنع به كما يصنع بالحلال لقوله عليه الصلاة والسلام " إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث " قالوا " ولا دليل في حديث الذي وقصته راحلته لأنه خاص به كما قالوا في صلاته على النجاشي إنها مختصة به وقال الجمهور دعوى التخصيص على خلاف الأصل فلا تقبل وقوله في الحديث " فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً " إشارة إلى العلة . أ.هـ .(/4)
ثم قال ابن القيم قبل ذلك الحكم الحادي عشر : منع المحرم من تغطية وجهه وقد اختلف في هذا المسألة فذهب الشافعي وأحمد في رواية إباحته ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد (2)في رواية المنع منه وبإباحته قال ستة من الصحابة عثمان وعبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت والزبير (3)وسعد بن أبي وقاص وجابر رضي الله عنهم وفيه قول ثالث شاذ إن كان حياً فله تغطية وجهه وإن كان ميتاً لم يجز تغطية وجهه قاله ابن حزم وهو اللائق بظاهريته واحتج المبيحون بأقوال هؤلاء الصحابة وبأصل الإباحة وبمفهوم قوله " ولا تخمروا رأسه " وأجابوا عن قوله " ولا تخمروا وجهه " بأن هذه اللفظة غير محفوظة قال شعبة : حدثنيه أبو بشر ثم سألته عنه بعد عشر سنين فجاء بالحديث إلا أنه قال : ولا تخمروا رأسه قالوا وهذا يدل على ضعفها قال وقد روي في هذا الحديث فخمروا وجهه ولا تخمروا رأسه أ .هـ . وأنظر تهذيب السنن له (4/352) .
وقال النووي رحمه الله في المجموع ( 7/280 ) ( فرع ) مذهبنا أنه يجوز للرجل المحرم ستر وجهه ولا فدية عليه وبه قال جمهور العلماء وقال أبو حنيفة ومالك : لا يجوز كرأسه واحتج لهما بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي خر من بعيره " ولا تخمروا وجهه ولا رأسه " رواه مسلم وعن ابن عمر أنه كان يقول " ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم " رواه مالك والبيهقي وهو صحيح عنه .
واحتج أصحابنا برواية الشافعي عن سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن ابن القاسم عن أبيه " أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت ومروان بن الحكم كانوا يخمرون وجوههم وهم حرم " وهذا إسناد صحيح وكذلك رواه البيهقي ولكن القاسم لم يدرك عثمان وأدرك مروان واختلفوا في مكان إدراكه زيداً وروى مالك والبيهقي بالإسناد الصحيح عن عبد الله بن أبي بكر عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : " رأيت عثمان بالعرج وهو محرم في يوم صائف قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان " ( والجواب ) عن حديث ابن عباس أنه إنما نهى عن تغطية وجهه لصيانة رأسه لا لقصد كشف وجهه فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأسه ولا بد من تأويله لأن مالكاً وأبا حنيفة يقولان : لا يمتنع من ستر رأس الميت ووجهه والشافعي وموافقوه يقولون : يباح ستر الوجه دون الرأس فتعين تأويل الحديث ( وأما ) قول ابن عمر فمعارض بفعل عثمان وموافقيه والله أعلم ) .
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح ( 4/54 ) وقوله " يبعث ملبياً " أي على هيئته التي مات عليها واستدل بذلك على بقاء إحرامه خلافاً للمالكية والحنفية وقد تمسكوا من هذا الحديث بلفظة اختلف في ثبوتها وهي قوله " ولا تخمروا وجهه " فقالوا : لا يجوز للمحرم تغطية وجهه مع أنهم لا يقولون بظاهر هذا الحديث فيمن مات محرماً وأما الجمهور فأخذوا بظاهرالحديث وقالوا : إن في ثبوت ذكر الوجه مقالاً وتردد ابن المنذر في صحته .
قال البيهقي : ذكرالوجه غريب وهو وهم من بعض رواته وفي كل ذلك نظر فإن الحديث ظاهره الصحة ولفظة عند مسلم من طريق إسرائيل عن منصور وأبي الزبير كلاهما عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكر الحديث قال منصور " ولا تغطوا وجهه " وقال أبو الزبير" ولا تكشفوا وجهه " وأخرجه النسائي من طريق عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير بلفظ " ولا تخمروا وجهه ولا رأسه " وأخرج مسلم أيضاً من حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير بلفظ " ولا يمس طيباً خارج رأسه " قال شعبة ثم حدثني به بعد ذلك فقال خارج رأسه ووجهه انتهى .
وهذا الرواية تتعلق بالتطيب لا بالكشف والتغطية وشعبة أحفظ من كل من روى هذا الحديث .. أ .هـ من الفتح .قلت : هذاعلى لفظ مسلم وفيه تقديم وتأخير وإلا فسياق النسائي وغيره يدفع كلام الحافظ من أصله وهوصريح وقول الحافظ وشعبة أحفظ .. إن أراد أصل الحديث فلا وإن أراد طريق أبي بشر فنعم فكان ماذا وجل اصحاب سعيد لا يذكرونها ؟!
والذي يتحرر لي جوازالتغطية للوجه من حاجة كحرأو غبار أو نحو ذلك وقدجاء هذا عن بعض الصحابة وحكي مذهب الجمهور بلا تقييد كما تقدم فأما من غير حاجة فتوقيه أفضل وأحوط وهذا نوع من الجمع بين الآثار والحديث على مافي الزيادة من كلام كما تبين لك .
هذا من ناحية أما من ناحية إيجاب الفدية في تغطية الوجه فلا أرى ذلك أصلاً فلا تشغل ذمة مسلم بحديث هذا حاله(4) والله ربي أسأله مغفرة الذنوب وستر العيوب إنه جواد كريم
وصلى الله على نبيه وخليله وعلى آله وصحبه وسلم .
(1) أخرجه الشافعي في مسنده ( شفاء- العي ) ( 1 / 381 ) عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال ابن عيينة وزاد ابراهيم بن أبي حرة عن سعيد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره . ومن طريقه أخرجه الشافعي في السنن ( 3 / 393 ) وهو حديث منكر بهذا اللفظ وابن عيينة لم يسق إسناده وتقدم لفظ إبراهيم بن أبي حرة أول البحث وليس فيه ذكر الوجه أصلاً(/5)
(2)-فإن قلت كيف يتفق هذا مع قولهم بانقطاع الإحرام بالموت فإن عجبت فقد عجب أهل العلم قبلك قال ابن القيم في الأعلام
( 2/198 ) في ذكر طرف من تخبط المقلدين في الأخذ ببعض السنة وترك بعضها قال رحمه الله " واحتجو على منع المحرم من تغطية وجهه بحديث ابن عباس في الذي وقصته ناقته وهو محرم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تخمروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً " وهذا من العجب فإنهم يقولون إذا مات المحرم جاز تغطية رأسه ووجهه وقد بطل إحرامه .أ . هـ .
(3)-كذا والمعروف ابنه فلعلها سقطت
(4)-على أن في إيجاب الفدية في غير حلق الرأس ماهومعلوم .(/6)
الوحدة الإسلامية أشواق وأشواك
حسن عبد الحميد*
الحديث عن الوحدة الإسلامية في بلد كبلدنا السودان، وفي ظروف كالظروف التي نمر بها الآن؛ حديث ذو شجون، تعتريه الكثير من العقبات والعراقيل والمطبات، وتدفع في اتجاهه العديد من الأشواق والآمال والطموحات، وما بين هذه وتلك تضيع الفرص ويمر الوقت وتلتبس المعاني.
وإذا نظرنا إلى الواقع الدعوي والسياسي وجدنا أن الحركة الإسلامية ـ الوريث الشرعي للجبهة الإسلامية القومية ـ يحكم رجالها وتسود شعاراتها في المجالين الفكري والسياسي، لكن وجود المؤتمر الوطني الذي أريد له أن يكون وعاءً جامعاً يمارس السياسة والحكم عبر آليات وأجهزة الحزب، بينما الحركة الإسلامية تباشر المهام الفكرية والدعوية؛ هذا الوضع المزدوج للحركة الإسلامية أوجد كثيرا من الالتباس لدى الحركات الإسلامية الأخرى بل ولدى أفراد الحركة الإسلامية أنفسهم أحياناً، إذ تنشأ وتتناسل الكثير من الأسئلة حول مسئولية الحركة الإسلامية الكاملة عن الأوضاع السياسية التي آلت إليها البلاد، فمن ناحية هي مسئولة لأن كوادرها وقياداتها هم الذين يحكمون منذ أكثر من سبعة عشر عاما، ومن ناحية أخرى يدفع بعض أعضائها بعدم مسئوليتها لأن المؤتمر الوطني ـ الحزب الحاكم ـ ليس كيانا خالصا للحركة الإسلامية، بل فيه غير المسلمين، وهو تحالف عريض يضم الكثيرين، وبالتالي فإن الحركة الإسلامية لم تحكم مثلما صرح الدكتور غازي صلاح الدين في أكثر من حوار منشور. ومنشأ الالتباس هنا هي العقلية المراوغة التي كان يسوس بها الدكتور الترابي الأمور حينما كان متنفذا، إذ جعل الحركة الإسلامية بأسلوبه مسئولة عن الحكم وغير مسئولة في آن واحد، ولازال هذا الوضع الشاذ يحكم الأمور والعلاقات بين الحركة الإسلامية ككيان والمؤتمر الوطني كحزب وواجهة سياسية, وإزاء هذا الوضع وجدت كثير من الجماعات الإسلامية حرجا في التعامل مع الحركة الإسلامية لأنها مسئولة في نظرهم عن الكثير من ممارسات النظام الحاكم وسياساته على ما فيها من تجاوزات وأخطاء دون أن تصوبها ـ إن كانت تستطيع ـ أو على الأقل تنتقدها وتتبرأ من بعضها علانية.
وسبب هذا الحديث الجهود التي تبذل الآن للوحدة الإسلامية، فحتما ستصطدم هذه الجهود بمثل هذه الرؤى والنظرة إلى كيان الحركة الإسلامية، إلا أن الذي ينبغي ألا يكون محل نقاش أن التحديات التي تفرض نفسها فرضا على الساحة السودانية يجب أن تجعل جميع العاملين في الحقل الإسلامي يؤجلون نظرتهم التي تود محاكمة الحركة الإسلامية فليس هذا أوان المحاكمات والتلاوم على ماض مضى كانت فيه الأمور تساس باسم الحركة الإسلامية ـ وربما من ورائها ـ والبحث عن صيغة للتعاون والتنسيق لمواجهة الطوارئ والنوازل وفق فقه مرن؛ يبقى من أولويات المرحلة، وفي أوقات الرخاء والسلامة يمكن للناس أن يتلاوموا ويتحاكموا، ويبقى على الحركة الإسلامية إدراك أنها لن تستطيع إرغام الآخرين على شيء لا يريدونه وإنما بالحوار والوضوح والشفافية تدار الأمور مع بقية الحركات الإسلامية.(/1)
الوحدة هي حاجة الأمة في كل زمان ومكان
لم توجد ولن توجد في ديانة من الديانات تلك العوامل الكثيرة التي توجد في دين الإسلام لوحدة أبنائه وتضامنهم وتلاحمهم ؛ فالعبادات كلُّها تُشَكِّل صورة للوحدة ، وقبلها تشكّل العقيدة أرضيّة صلبة للوحدة . وجاءت الدعوة في الكتاب والسنة قوية متصلة متكررة للوحدة، مقرونة بالتحذير الشديد الأكيد من الفرقة والشتات ، مؤكدةً أن الفرقة تؤدي بأبناء الإسلام إلى الانهزام وذهاب الريح والحرمان من الثقل لدى المجتمع البشري .
وظلّ العلماء والمفكرون الصادرون عن روح الشريعة يدعون الأمة عبر التأريخ الإسلامي إلى نبذ الخلاف والتمسك بالوحدة والتجمع تحت راية القرآن والإيمان ، وعلى القاسم المشترك من تعاليم الإسلام المبدئية الأساسيّة ؛ ولكن الدعوة لسبب أو آخر لم تجد استجابة مطلوبة – إلاّ قليلاً جدًّا – من قبل الأمة في معظم المواقف. ولكن التأريخ يشهد أنّ الأمة كلما اتحدّت وتجاوزت الخلافات ، هابتها الأمم والشعوب على وجه الأرض ، وصارت بنيانًا مرصوصًا لم تخترقه الأمم المعادية بكل مؤامرة نسجتها ، وبكل حيلة أعملتها ، وبكل آلة من آلات الحرب والضرب أنتجتها .
من هنا لم يعمل الأعداء على إنجاز شيء لإفشال الأمة المسلمة ، بمثلما عملت على زرع الفرقة بينها وتشتيت شملها وتفريق جمعها. وقد ركّزوا على هذه الجبهة جميعَ جهودهم وكثّفوا احتيالَهم ، علمًا منهم بأنّ الأمة المسلمة إذا اتّحدت فإن كسرها يستحيل، وإذا اختلفت فإنّ اصطيادها يسهل . وذلك هو الواقع المشاهد اليوم .
والدعوة في العصر الحاضر منذ سقوط الخلافة العثمانية ، وتمزّق الدول الإسلامية، وابتلاع الاستعمار لمعظم أجزائها وأقطارها ، واستلاب فلسطين وزرع غرس إسرائيل الخبيث في قلبها ، بمؤامرة الغرب المُوَحَّدة ، ارتفعت مزمجرة من قبل رشداء أبناء الأمة من المفكرين والدعاة والكتاب والمؤلفين وبعض السلاطين والقادة الصالحين ، عبر الخطابات والكتابات، والمؤتمرات والندوات ، والحفلات والتجمعات؛ ولكنها لم تؤتِ ثمارها المرجوة. وذلك نتيجة لأسباب ثلاثة أشار إليها أكثر من كاتب إسلامي : (الف) الارتجال والاندفاع وغياب الهدف الاستراتيجي (ب) الانطلاق من فكرة خياليّة لاتمتّ بصلة إلى المجتمع المسلم (ج) عدم وجود التوافق بالقدر الكافي والإيمان بالأهداف بين الأطراف المشاركة في اتخاذ القرار .
ولهذه الأسباب وغيرها لم تنجح محاولات تحقيق الوحدة . وظلت الأزمة الفكرية والسياسية في الساحة العربية الإسلامية تتفاقم وتشتدّ في العصر الحاضر. والأمة اليوم بأشد الحاجة إلى الوحدة والتخطيط الموحد لمواجهة المؤامرة الصهيونية الصليبية الإسرائيلية الأمريكية الغربية الوثنية العلمانية الدولية التي لم يسبق لها مثيل في الخطر والشر والشمول ؛ حيث بيدو أن القوى المعادية كلها نهضت متحدة متآلفة متعاضدة متماسكة لتبتلع الإسلامَ والمسلمين ، وكأنّها تريد أن تُجرِّب آخر سهم في كنانته ، حتى لاتبقى للمسلمين قائمة .
وأحسنت رابطة العالم الإسلامي إذ عقدت مؤتمر الوحدة الإسلامية في هذه الظروف القاسية في الفترة ما بين السبت – الاثنين 3-5/ 3/1427هـ ، لتخفف آلام الأمة ، وقلقها المتزايد ، وتغرس في قلبها بعضَ القناعات بمستقبلها الزاهر، إذا سدّدت خطاها ، وعزمت على رأب الصدع ، متجاوزةً الخلافات الفرعية التي ستبقى في صفها ما تبقى هي .
وأكّد المشاركون في المؤتمر أنّ وحدة الأمة هي مصيرها الحتميّ ؛ حيث لايرجى تخلصها من جميع الأزمات التي تورطت فيها إلاّ بها وحدها ، وأن القرآن الكريم حذَّرَها من الخلاف المشؤوم ، والتشرذم الحالق للخير . إن جميع حقائق القرآن والإسلام وتشريعاته توحّد المسلمين ولاتفرِّقهم ، وإن تعددت الآراء ، واختلفت الاجتهادات، وتنوعت الاستنباطات، وكثرت نتائج تفكيرات المجتهدين والمتعمقين في روح الشريعة .
وأكد العلماء والدعاة والمفكرون المشاركون في المؤتمر أن التحديات من حول الأمة كثيرة وخطيرة ، فهي بأمس حاجة إلى توحيد صفّها وجمع شملها من أي وقت مضى. وهي بأمس حاجة إلى الاستفادة من دروس الماضي ، واستغلالها لإنقاذ الشعوب الإسلامية من الأخطار التي تحدق بها ، وللحفاظ على هويتها ؛ حيث إن الوحدة هي التي تهيء المناخ الملائم لتتلاقح أفكار أفراد الأمة وتتوحّد أهدافها، فتتمهّد الطريق إلى تحقيق آمالها وطموحاتها . وينبغي أن تقوم الوحدة على قاعدة صلبة من إرادة واعية ، قادرة على استجابة تطلعات الشعوب ورغباتها في ضوء متغيرات العصر والمواقف الدوليّة . كما طالبوا بدعم جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ، والعمل على تطوير آليّاتهما وإصلاحهما ، وتفعيل العمل العربي الإسلامي المشترك ، بعيدًا عن القطرية والمصالح الفرديّة .(/1)
وأحسنوا عندما اقترحوا توحيدَ قطاع البحوث والتدريب لعلاج التخلّف التكنولوجي في العالم الإسلامي ، لاسيّما وإن التدريب التكنولوجي يُمَثِّل العصب الأساسي لتحقيق التقدم الاقتصاديّ . وفي الوقت نفسه أكّدوا على أهمية تفعيل السوق الإسلامية المشتركة ، واحترام الاتفاقيّات التكاملية بين الدول ، مع إيجاد آليّة لمتابعة تنفيذها . وأجمعوا على أن المؤتمر خطوة على الطريق الصحيح ، من شأنها أن تقلِّص العقبات وتحجِّم العوائق التي تعترض سبيلَ الوحدة الإسلامية ، في الوقت الذي تتطلع فيه الشعوب الإسلامية لتتذوّق بصورة عمليّة بعضَ ثمار التعاون بين الدول الإسلامية. وقالوا: إنّه يجب على العالم الإسلامي أن يتعاون في الأمور التي عليها إجماعٌ قبل قضايا الخلاف، لاسيّما وأن الأمور التي يمكن أن تجتمع عليها الدول ليست ثانوية بل أساسيّة وجوهرية تحتاج إلى جهد كبير . وحذّروا من الحملات المعادية لفكرة التضامن الإسلامي والتشكيك فيها ، سواء من الخارج أو من الداخل ، مشيرين إلى أن هذه الحملات تحتاج إلى متابعة ورصد من الأجهزة المعنية لدحضها ، وإبطال مفعولها ، وإزلة سمّها . كما دعوا إلى إعداد الأهبة لمواجهة الحركات المدمرة وعدم الانصياع للشعارات الهدامة والمبادئ المضلّلة التي تطلقها دائمًا الدوائر الصهيونية بهدف إفقاد الأمة الثقةَ المتبادلة وتعطيل إمكانيّاتها . وحذّروا من الترامي في شبكات التوجّهات العصبيّة والمذهبية التي من شأنها بعثرةُ الجهود والأموال فيما لايفيد ديننا أو نهضتنا ، مما يكون له الأثر السيّء على مستقبل العالم الإسلامي وشعوبه . وأكّدوا أن المشكلة ليست في وحدة المسلمين ؛ فهم بطبيعة الحال في وحدة عقائديّة ونسكيّة واحدة ، قرآنُهم واحد ، وسنتُهم واحدة ؛ ولكن المشكلة عند المسلمين في تحويل قيمهم الدينية إلى قيم اجتماعية متحركة فاعلة مؤثرة .
واعتبروا أن الداء الدويّ اليوم هو عزلة الحكومات عن الشعوب ؛ لأنها خلقت خليجًا بينها وبين الشعوب زادها ضعفًا وزاد الشعوب تفرقًا . وعندما تتم معالجة هذه القضية تنتهي كثيرٌ من الأزمات وتنحلّ كثيرٌ من المشكلات .
* * *
والوحدة المتوخّاة اليوم ، يجب أن تكون شاملة ، فلا تنحصر في إطار العبادات والمناسك، وإنما ينبغي أن تشمل أمور الدنيا كلها من السياسة والاقتصاد والتجارة والتعليم والدراسة وما إلى ذلك ؛ حيث إنّ العالم اليوم يشهد تكتّلات بين الدول والأمم وفي مجالات الاقتصاد والسياسة لمواجهة العولمة وما أفرزته من مجالات تنافسيّة ومعان سباقيّة ومضامين تزاحميّة ، سيكون البقاء فيها للأقوى علميًّا وتكنولوجيًّا واقتصاديًّا .
على كل فالوقت يطالب الأمّة أن تتجرد من الأحقاد التأريخية ، والثارات القبلية ، والأطماع الشخصية ، والمعاني العصبية ، والرايات الحزبية ، حتى تجتمع على القاسم المشترك الذي يكوّنه لا إله إلاّ الله محمد رسول الله . ولاسيّما لأن الأقوياء اليوم يتّحدون في كل مجال ، ليحقّقوا مآربهم منّا ومن غيرنا .. يتحدون سياسيًّا ، واقتصاديًّا ، وتجاريًّا ، وحتى عسكريًّا ، وحربيًّا . ونرى في المجال الاقتصادي قيام الشركات العملاقة ، المتعددة الجنسيّات ، عابرة القارات ؛ ونرى في المجال الاجتماعي الثقافي أنه تتسلسل المؤتمرات عن المرأة والطفل لتلبيس الحقائق ، وفرض الغزو الثقافي علينا ، والنمط الغربي على شعوبنا ؛ وفي المجال العسكري نرى حلف شمال الأطلنطي ، كما استبدلوا "العدو الأخضر" الإسلامي "بالعدو الأحمر" الشيوعي .
فأمة الإسلام أولى بالتكتل الإسلامي ، حتى تتخلّص عن التبعيّة الذليلة للغرب وأمريكا بالذات ، وحتى تتخلص يومًا ما من نفاق "الأمم المتحدة" التي هي جارية مهينة بيد الصهاينة والأمريكان والغرب ، وحتى يكون تقرير مصيرها بيدها ، وحتى تكون صاحبة الخيار في الأخذ والردّ ، ولاتبقى رهينة القرار الغربي الأمريكي الصهيوني في كل من شؤونها الداخلية والخارجيّة ، حتى في شؤونها الدينية وأعمالها الخيريّة ومناهجها التعليمية وأساليب عبادتها !! . يجب أن لاتصّر الأمة على أخطاء الماضي الفادحة ، وأن لاتدس عنقها في الرمال كالنعامة نجاة من الأخطار؛ يجب أن تكون صادقة مع نفسها ، ومع تاريخها ، ومع ماضيها المجيد ، وفي شأن مواجهة الواقع بأسلحة الحاضر الماضية لا بالأسلحة القديمة التي ولّى دورُها .
الوحدة الواقعية الشاملة الصادقة الحيّة الفاعلة النابضة هي حاجة الأمة الحاضرة والقادمة . وهي حقيقة يتطلب منها الواقعُ والإيمان ، والعقيدة والقرآن . ولا معدى لها عنها إذا أرادت الحياة ، واختارت البقاء ، ورضيت بمقاومة أعداء الله ورسوله .
(تحريرًا في الساعة 11:30 من صباح يوم الأربعاء : 18/ربيع الثاني 1427هـ = 17/ مايو 2006م)
نور عالم خليل الأميني(/2)
الورع يا رجال الصحوة
المحتويات
مقدمة
الورع عند السلف
قواعد وضوابط في الورع
القاعدة الأولى: الورع منه واجب ومنه مستحب
القاعدة الثانية: أن ما لا ريب في حله ليس فيه ورع بل الورع في من التنطع
القاعدة الثالثة : لا ورع عند وجود المعارض الراجح
القاعدة الرابعة : الورع يكون في الفعل كما هو في الترك
القاعدة الخامسة: أن الورع إنما هو بأدلة الكتاب والسنة
القاعدة السادسة: الورع لا يكون إلا بالإخلاص
القاعدة السابعة : التدقيق في مسائل الورع للخاصة وليس لآحاد الناس
نماذج من الورع
الصحوة والورع
الأمر الأول : أن نكون قدوة في الورع
الأمر الثاني : تربية الجيل على الورع
الأمر الثالث : الورع عن ترك الدعوة
الأمر الرابع : الورع عن القول على الله بغير علم
الأمر الخامس : التورع في الأنشطة الدعوية والتربوية
مقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي ، له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ـ، أما بعد:
فالورع مصطلح من منا لم يسمع عنه؟ ومن منا لم يطرق سمعه؟ إن من يقرأ في سير السلف أو يستمع إلى وصاياهم أو يدرس سيرهم لا بد أن تتكرر هذه الكلمة على سمعه كثيراً، ويرى وهو يقرأ أنه يتحدث عن قضية تاريخية أصبح بيننا وبينها حجراً محجوراً، وحين نقرأ سير السلف وأخبارهم في الورع والزهد والرقائق فإننا قد نحكم على تلك الروايات بالضعف والبطلان، وتارة نتهم من روي عنهم بالمبالغة والتشدد، وأخرى نتهم الراوي بالغلط والخطأ، وقد يكون شيء من ذلك صحيحاً، لكننا نادراً ما نتهم أنفسنا وأنها لم تَرْقُ إلى إدراك هذه المعاني، وأن قلوبنا لم تَصْفُ لترى أن ما عليه أولئك هو الخوف من الله سبحانه وتعالى، وأن ما عليه أولئك هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم والسلف السابقين.
ولقد قدمت رِجْلاً وأخرت أخرى وأنا أريد الحديث حول هذا الموضوع، حتى أني وأنا أعد له وأقرأ عزمت ألا أتحدث عن هذا الموضوع، ليس تقليلاً من شأنه وأهميته، لكن شعور بأنه ينبغي ألاَّ يتحدث عن الورع إلاَّ أهل الورع، وينبغي ألاَّ يتحدث عن الصدق إلا الصادقون الخائفون المخبتون، والمتشبّع بما لم يعط كلابس ثوبي زور، لكن عزائي أن أقول لكم اسمعوا مقالي وإياكم وحالي، فالقضية أقوال وشذرات من سير سلف الأمة نسعى إلى ربطهما بواقعنا، ونقولها لإخواننا ونحن جميعاً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الورعين المتقين الصالحين، وإن لم ترق أنفسنا إلى منازلهم فلنتشبه بهم؛ فإن من تشبه بقوم فهو منهم، والتشبه بالكرام فلاح.
الورع معشر الإخوة الكرام مصطلح نبوي شرعي؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللفظ فقال صلى الله عليه وسلم -فيما رواه البيهقي – في وصيته لأبي هريرة رضي الله عنه:"كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً، وأَقِلّ الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب".
روى البزار والحاكم والطبراني في الأوسط من حديث حذيفة رضي الله عنه، ورواه الحاكم أيضاً من حديث سعد أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فضل العلم أحب إليَّ من فضل العبادة وخير دينكم الورع".
ففي هذه النصوص الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم أطلق صلى الله عليه وسلم فيها هذا اللفظ وهذا المصطلح، فهو إذن مصطلح شرعي نبوي، وإن كان ليس من شروط هذه المصطلحات أن ترد بنصها عن النبي صلى الله عليه وسلم، فما دام المصطلح لا يعارض النصوص الشرعية فلا مشاحة في الاصطلاح.
أما الأدلة له على معنى الورع دون لفظه فهي أدلة كثيرة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومنها الحديث العظيم الجامع الذي جعله جمعٌ من أهل العلم أحد الدعائم التي يقوم عليها الإسلام، وهو حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :"إن الحلال بيّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه" والحديث مشهور في كتب السنة بروايات عدة، ويحفظه الصغير والكبير، وهو قاعدة في التورع مما يشتبه منه، مع أن معنى الورع -كما سيأتي- يأخذ مدى أكبر من هذا المدى ودائرة أوسع من هذه الدائرة، والتورع عن المشتبهات والبعد عنها ليس إلا باباً من أبواب الورع.
ومن الأدلة في هذا المعنى حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"البر حسن الخلق، والإثم ما حاك صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس" والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه.(/1)
وحين جاء وابصة بن معبد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم : "جئت تسأل عن البر" ، فقال: نعم ، قال له صلى الله عليه وسلم:"استفت قلبك؛ البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك" رواه أحمد والدارمي، وله شاهد عند الإمام أحمد من حديث ثعلبة، وهذا الحديث فيه إيماء وإشارة إلى تلك الحساسية المرهفة التي يملكها عباد الله الصالحون؛ فصارت نفوسهم تطمئن إلى البر وترتاح إليه، وصارت نفوسهم تأنف من المعصية وإن أفتاها الناس وأفتوها، ولا شك أن هذا الحديث مع ما فيه من الدلالة على الأمر بالتورع مما حاك في الصدر وإتيان ما اطمأنت إليه النفس، فهو إشارة إلى حال الصالحين وحال قلوبهم التي ترى بنور الله سبحانه وتعالى؛ فتطمئن هذه القلوب للبر والهدى والتقى والصلاح، وتشعر باشمئزاز ونفور وتردد من الإثم وأسبابه، ولو أفتاها الناس، وهذا المقياس في مسألة البر والإثم ليس إلا لعباد الله الصادقين، بل لعله أن يكون أمارة نختبر بها قلوبنا؛ فإن كانت تطمئن للبر والصلاح والتقوى وتشمئز من المعصية والسيئة وتنفر منها فهي قلوب صالحة بإذن الله، وإن كانت دون ذلك فهي بحاجة إلى تزكية وإصلاح.
وهو ليس خطاباً للمعرضين الذين علا الران على قلوبهم، فأصبحت نفوسهم مأسورة بهواها وشهواتها، فقلبه ونفسه إنما تطمئن لمعصية الله سبحانه وتعالى وإيذاء عباده المؤمنين المتقنين، بل كم من الناس انقلبت الموازين لديه فأصبحت السيئة حسنة والحسنة سيئة.
إذن فهذا المقياس إنما هو لأولئك الصالحين الذين توجهت قلوبهم لله سبحانه وتعالى فأصبح القلب لا يحب إلا لله ولا يبغض إلا لله سبحانه وتعالى، ولا يتوجه إلا لله، وقبلته إلى الله عز وجل لا يفارقها؛ فكما أنه يستقبل القبلة في صلاته ويقف بين يدي الله عز وجل كل يوم خمس مرات فقلبه إنما قبلته لله لا يمكن أبداً أن يستقر في قلبه محبة غير الله أو التوجه له، أو أن يكون فيه إرادة تخالف أمر الله سبحانه وتعالى وشرعه، لهذا ارتقت هذه النفوس إلى هذا القدر فصارت تطمئن للبر وتشمئز من الإثم؛ فمنحها الله عز وجل هذا النور وهذا الفرقان [يا أيها الذين آمنوا إن تتقو الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم] وفي آية أخرى [ويجعل لكم نورا تمشون به].
الورع عند السلف
لعلكم تدركون أن السلف لم يكونوا يعنون بالتحرير المنطقي للتعاريف فتصبح جامعة مانعة، إنما كانوا يقصدون أن يعبروا عن الكلمة بما يقاربها وبما يفهم السامع، قال ابن القيم رحمه الله في المدارج: "وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة فقال: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فهذا يعم الترك لما لا يعني من الكلام النظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع".
وقال إبراهيم بن أدهم :"الورع ترك كل شبهة، وترك ما لا يعنيك هو ترك الفضلات".
وقال الشبلي:" الورع أن تورع عن كل ما سوى الله".
وقال إسحاق بن خلف:"الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة، والزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة لأنهما يبذلان في طلب الرياسة".
وقال أبو سليمان الداراني:الورع أول الزهد كما أن القناعة أول الرضا".
وقال يحيى ابن معاذ: "الورع الوقوف على حد العلم من غير تأويل".
وقال أيضاَ:"الورع على وجهين: ورع في الظاهر، وورع في الباطن؛ فورع الظاهر أن لا يتحرك إلا لله، وورع الباطن هو أن لا تدخل قلبك سواه".
وقال أيضاً:"من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل إلى الجليل من العطاء".
وقيل:"الورع الخروج من الشهوات وترك السيئات".
وقيل:"من دق في الدنيا ورعه أو نظره جلَّ في القيامة خطره".
وقال يونس بن عبيد الورع:"الخروج من كل شبهة ومحاسبة النفس".
وقال سفيان الثوري: "ما رأيت أسهل من الورع، ما حاك في نفسك اتركه".
وسأل الحسن غلامٌ وقال له: ما ملاك الدين؟ قال: الورع، قال: فما آفته؟ قال: الطمع، فعجب الحسن منه.
وقال أبو هريرة:"جلساء الله غداً أهل الورع والزهد".
وقال بعض السلف: "لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس" ويروى مرفوعاً.
وقال بعض الصحابة :"كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب الحرام".
هذه بعض الأقوال من السلف حكاها ابن القيم رحمه الله في المدارج حينما تحدث عن منزلة الورع والوقت يضيق عن سرد أقوالهم وعباراتهم في ذلك، ومنهم من يستعمل الورع مرادفاً للزهد، ومنهم من يفرق بينهما وهو المشهور عند المتأخرين: أن الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يخشى ضرره.
قواعد وضوابط في الورع
هي قواعد مهمة حول الورع، وأكثرها مما قررها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله فله حديث حول الورع في مجموع الفتاوى في الجزء العاشر وفي الجزء العشرين:
القاعدة الأولى: الورع منه واجب ومنه مستحب(/2)
كثير من الناس حينما يطلق مصطلح الورع ينصرف ذهنه إلى دقائق الورع، والبعد عن المشتبهات؛ فيرى أن الورع ليس ضمن دائرة الواجبات إنما هو مقام للخاصة والصالحين، وليس واجباً على أحاد الناس.
قال شيخ الإسلام:" فأما الورع المشروع المستحب الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم فهو اتقاء ما يخاف أن يكون سبباً للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح، ويدخل في ذلك أداء الواجبات والمشتبهات التي تشبه الواجب، وترك المحرمات والمشتبهات التي تشبه الحرام، وإن أدخلت فيه المكروهات قلت: يخاف أن تكون سبباً للنقص والعذاب، وأما الورع الواجب فهو اتقاء ما يكون سبباً للذم والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المحرم، والفرق بينهما (أي بين الورع الواجب والمستحب) فيما اشتبه أمِن الواجب أم ليس منه؟ وما اشتبه تحريمه أمن المحرم أم ليس منه" ؟
القاعدة الثانية: أن ما لا ريب في حله ليس فيه ورع بل الورع في من التنطع
قال رحمه الله:"وأمَّا ما لاريب في حله فليس تركه من الورع، وما لا ريب في سقوطه فليس فعله من الورع".
القاعدة الثالثة : لا ورع عند وجود المعارض الراجح
قال رحمه الله:"وقولي عند عدم المعارض الراجح فإنه قد لا يترك الحرام البين أو المشتبه إلا عند ترك ما هو حسنة، موقعها في الشريعة أعظم من ترك تلك السيئة، مثل أن يترك الائتمام بالإمام الفاسق؛ فيترك الجمعة والجماعة والحج والغزو، وكذلك قد لا يؤدي الواجب أو المشتبه إلا بفعل سيئة أعظم إثماً من تركه، مثل من لا يمكنه أداء الواجبات من الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر لذوي السلطان إلا بقتال فيه من الفساد أعظم من فساد ظلمه".
القاعدة الرابعة : الورع يكون في الفعل كما هو في الترك
وذلك أن البعض من الناس يعتقد أن الورع يكون في الترك، شيخ الإسلام:"لكن يقع الغلط في الورع من ثلاث جهات: أحدها اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام لا في أداء الواجب، وهذا يُبتلى به كثيرٌ من المتدنيين المتورعة ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة وعن الدرهم فيه شبهة لكونه من مال ظالم أو معاملة فاسدة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين وذوي الفجور في الدنيا، ومع هذا يترك أموراً واجبة عليه إما عيناً وإما كفاية وقد تعيَّنت عليه من صلة رحم وحق جار ومسكين وصاحب ويتيم وابن سبيل وحق مسلم وذي سلطان وذي علم، وعن أمر بمعروف ونهي عن منكر وعن الجهاد في سبيل الله إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى بل من جهة التكليف ونحو ذلك".
القاعدة الخامسة: أن الورع إنما هو بأدلة الكتاب والسنة
قال رحمه الله:"الجهة الثانية من الاعتقاد الفاسد: أنه إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرم والمشتبه، فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة وبالعلم لا بالهوى، وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه عن أشياء لعادة ونحوها، فيكون ذلك مما يقوي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه:[إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس]…..ومن هذا الباب الورع الذي ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: لما ترخص في أشياء فبلغه أن أقوام يتنزهون عنها. فقال: ما بال أقوام يتنزهون عن أشياء أترخص فيها؟ والله إني لأرجو أن أكون أعلمهم بالله وأخشاهم، وفي رواية أخشاهم وأعلمهم بحدودهم له وكذلك حديث صاحب القُبلة، ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين، وإلاَّ فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه، كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم".
القاعدة السادسة: الورع لا يكون إلا بالإخلاص
قد تأتي الإنسان اعتبارات تدفع إلى الورع، فقد يكون له مقام واعتبار ويرى أنه مما ينبغي أن لا يليق بأمثاله أمام الناس، فيكون دافعه إلى ذلك مُراءاة الناس، وقد يكون دافعه حظ النفس أو هوى النفس، أو غيرها من الأمور؛ فالورع مثل سائر الأعمال الصالحة التي يتقرب فيها الإنسان إلى الله عز وجل لابد فيها من الإخلاص، قال شيخ الإسلام:"واعلم أن الورع لا ينفع صاحبه ويكون ثواب إلا بفعل المأمور به من الإخلاص".
القاعدة السابعة : التدقيق في مسائل الورع للخاصة وليس لآحاد الناس(/3)
قال الحافظ ابن رجب: "وههنا أمرٌ ينبغي التفطن له وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها وتشابهت أعماله في التقوى والورع، فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبه فإنه لا يحتمل له ذلك، بل ينكر عليه وهذا حال بعض المتكلفين المرائين يسلك هذا المسلك كما قال ابن عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"هما ريحانتاي في الدنيا"…. ونقل بعض النقول عن بعض السلف هي أمثلة عن هذا النوع من ذلك …ثم قال :وسأل بشر بن الحارث عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها، فقال: إن كان بر أمه في كل شيء ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فيفعل، وإن كان يبرها بطلاق زوجته ثم يقوم بعد ذلك إلى أمه فيضربها فلا يفعل، وسُئِل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يشتري بقلاً ويشترط الخوصة -يعني التي يربط بها جزرة النقل- فقال أحمد :إيش هذه المسائل، قيل له إنه: إبراهيم بن أبي نعيم، قال: إن كان إبراهيم بن أبي نعيم فنعم، هذا يشبه ذلك، وإنما أنكر أحمد هذه المسائل ممن لا يشبه حاله وأما أهل التدقيق في الورع فيشبه حالهم هذا، وقد كان الإمام أحمد نفسه يستعمل في نفسه هذا الورع فإنه أمر من يشتري له سمنا فجاء به على ورقة فأمر برد الورقة إلى البائع، وكان أحمد لا يستمد من محابر أصحابه وإنما يخرج منه محبرة يستمد منها، واستأذنه رجل أن يكتب من محبرته فقال:أكتب فهذا ورع مظلم، واستأذنه آخر في ذلك فتبسم وقال: لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا، وهذا قاله على وجه التواضع، وإلاَّ فهو كان في نفسه يستعمل هذا الورع، وكان ينكره على من لم يصل إلى هذا المقام بل يتسامح في المكروهات الظاهرة ويقدم على الشبهات من غير توقف".
وهذا الأمر مهم أن نعيه ونحن نقرأ ، ووردت بعض الروايات عن السلف في ورعهم حتى لا نقع في هذا الغلط الذي له آثار سلبية على نفوسنا؛ فنحن أحوج ما نكون إلى الورع الواجب، وأحوج ما نكون إلى اجتناب المحرمات الظاهرة الواضحة، وأحوج ما نكون إلى إصلاح قلوبنا، فإذا انشغلنا بهذه الدقائق تركت آثاراً على أنفسنا، منها أن تشعر أنفسنا بالزهو واحتقار الآخرين وأن الناس لا يتورعون، ومنها أن تنشغل النفس عما هي أولى به من إصلاح القلب والورع الواجب.
نماذج من الورع
لاشك أن أولى النماذج ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الحديث المشهور في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم وجد تمرة في الطريق فقال:"لولا أخاف أن تكون تمر الصدقة لأكلتها". وتضور صلى الله عليه وسلم ليلة فقيل له في ذلك فقال:"إني وجدت تمرة مسقوطة فأكلتها، فأخشى أن تكون تمر الصدقة" .
ومن ذلك ماروته عائشة رضي الله عنها عن أبي بكر - رضي الله عنه - حين كان له غلام يأتيه بالخراج، فكان يسأله عن هذا الطعام الذي يأتي به فلم يسأله ذات يوم فقال ما بالك لم تسألني فسأله أخبره أنه كان تكهَّن في الجاهلية ولم يحسن الكهانة فجاء وتقاضى هذا. فتقيأ أبو بكر رضي الله عنه ما في بطنه، مع أن هذا الأمر لا يلزمه والطعام ليس حراماً؛ لأنه أكله وهو لم يعلم بتحريمه وهو معذور كل العذر في ذلك، ولكن هذا من ورعه رضي الله عنه.
ومرَّ عبادة بن الصامت رضي الله عنه بقرية دُمَّر فأمر غلاماً أن يقطع له سواكاً من صفصاف على نهر بردى فمضى ليفعل ثم قال له ارجع فإنه إلا يكون بثمن فإنه ييبس فيعود حطباً بثمن.
وسقط من كهمس دينار ففتش عنه فلقيه، ثم لم يأخذه قال لعله غيره.
ويروي الحسن بن عرفة عن ابن المبارك قال: استعرت قلماً بأرض الشام فذهبت على أن أرده فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي، فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه.
وكان علي بن الفضيل بن عياض ووالده من الورعين الزهاد وكان الابن قد توفي في حياة والده وكان والده يتحدث عن ورعه وزهده، كانت له شاة أكلت شيئاً يسيراً من علف أمير فما شرب لها لبناً بعد، وسقط منه عدة دنانير فجاء بنخال ليطلبها فقال عقبة فوجدتها ثم فكرت فقلت ليس في الدنيا غير دنانيرك فقلت للنخال: هي في ذمتك وذهبت وتركته.
وروى ابن أبي الدنيا في الورع عن أن امرأة من الصالحات أتاها نعي زوجها وهي تعجن فرفعت يدها من العجين وقالت:"هذا طعام قد صار لنا فيه شريك"؛ لأن هذا الطعام قد صار للورثة، وأخرى أتاها نعي زوجها والسراج يتقد وقالت هذا زيت قد صار لنا فيه شريك.
هذه بعض النماذج من ورع السلف والأمثلة على ذلك كثيرة، وحين تقرأ في أي كتاب من كتب التراجم لا تخطئك مثل هذا المواقف وغيرها عن سلف الأمة رضوان الله عليهم.
الصحوة والورع
تحدثنا حول قضايا للتأصيل الورع وبعض القواعد المهمة فيه، ثم نعود بعد ذلك إلى الحديث إلى الصحوة وحاجتها إلى الورع، وهي تتمثل في أمور:
الأمر الأول : أن نكون قدوة في الورع(/4)
فنحن أولاً نحتاج إلى الورع في الجانب الشخصي والسلوك عند الناس؛ فنحن قدوة أمامهم بدءاً بالورع الواجب مما أوجبه الله سبحانه وتعالى من فعل الواجبات وترك المحرمات ولعلنا نتساءل معشر الإخوة الكرام نتساءل بأسى فعلاً وحُزن أين نماذج العباد الصالحين الأخيار الأتقياء التي كنا نسمع عنها في حياة السلف ؟ أين صور العبادة والإقبال على الله سبحانه وتعالى والزهد والورع والخوف من الله عز وجل وصلاح القلوب ؟ أين تلك الأحوال التي سُقنا بعضها والتي نسمع عنها من أخبار السلف؟ ما بالنا حينما نسمعها نشكك فيها أو في نسيتها أو نبحث عن المعاذير؟ لأننا لم ترق نفوسنا أصلاً لإدراك هذه المعاني.
هانحن نرى جيل الصحوة المبارك وقد ملأ الآفاق وانتشر بحمد الله وعلا صوته، فهل نرى في جيلنا العباد والزهاد والورعين؟ نحن لا نحكم على الناس ، ولا شك أن هذا الجيل فيه خير كثير والحمد لله لكننا نفتقد هذا الجانب كثيراً في سلوكنا ونحن أحوج ما نكون إلى دعوة الناس بأعمالنا وسلوكنا؛ فالمقالة التي يقولها المرء قد تحرك القلوب وتؤثر في النفوس، وقد تسطَّر وتتداولها الأجيال، لكنها لا ترقى إلى موقف وحدث يروى، فيترك أثراً عظيماً في النفوس أبعد بكثير من آثار هذه الكلمة المجردة، لماذا لا نسعى أن نتمثل هذه النماذج في أنفسنا؟ فندعو الناس بأعمالنا وأحوالنا قبل أن ندعوهم بأقوالنا وأن نكون ممن إذا رُؤوا ذكر الله عز وجل.
الأمر الثاني : تربية الجيل على الورع
ثمة سؤال له أهميته يفرض نفسه: مامدى اعتنائنا بهذه الأمور في تربيتنا لجيل الصحوة؟ وأين موقعها من أهدافنا وبرامجنا التربوية؟
إن هذا الجيل المقبل اليوم على التدين من الشباب والفتيات ينظر الناس إليه بعين الأمل، وينتظرون منه الكثير، وفي المقابل ينظرون إليه بنظرة المشفق الخائف عليه من ألا يواصل الطرق؛ فهو جيل يعاني في ظل هذا الواقع من أزمات ومن مشكلات، يعاني من تفتح أبواب الفساد والمعصية أمامه، ومن ثم فهو أحوج ما يكون إلى أن يربى على الورع والتقوى، من خلال اختيار المربين الذي يعيشون هذه المعاني، ومن خلال الاعتناء بتناول هذه الموضوعات فيما يقدم للشباب من برامج تربوية.
إنه جيل محاط بفتن الشهوات وفتن الشبهات، ومحاط بوسائل تصده عن سبيل الله عز وجل وتفتنه، إن هؤلاء وأولئك لو تربوا على الورع والإيمان والتقوى والصلاح لسمت نفوسهم ولاستطاعوا بإذن الله عز وجل وتوفيقه اجتياز هذا البلاء وهذا الامتحان.
وكم نرى اليوم ممن تنكب الطريق وممن يزيغ يمنة ويسرة، ولو عنينا بتربية الإيمان والتقوى والورع في النفوس لكان ذلك بإذن الله سبحانه وتعالى وتوفيقه حاجزاً وسدًّا مانعاً من مقارنة هذا الفساد والانحراف لكان مانعاً بإذن الله عز وجل من ضياع هذه الناشئة.
الأمر الثالث : الورع عن ترك الدعوة
من العجائب أن ترى من الناس من يسكت ويقعد عن الدعوة؛ فيتورع عن الحديث إلى الناس وعن نشر علم أتاه الله إياه، لا يتورع من أن يكون ممن قال الله سبحانه وتعالى فيهم: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون * إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا) فمن الذي يتورع من أن يكون من أهل هذه الآية؟
إنه يتورع من أن يقول ما لا يفعل، أو يعرفه الناس ويشيروا إليه بالصلاح، لكنه ينسى من أن يكون ممن يلعنهم الله ويعلنهم اللاعنون، وممن يكتم ما أنزل الله من البينات والهدى، أو أن يلجمه الله بلجام من نار يوم القيامة، كما قال صى الله عليه وسلم :"من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" .
فكما أننا ينبغي أن نتورع في كلامنا ومنطقنا فلا يتحدث المرء إلا بما يعلم ولا يقول إلا ما يحسن ولا يدعو إلا بعلم، فيجب أن نتورع عن كتمان العلم.
لقد أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا الكتاب أن يبينوه للناس [وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لنبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون] ومن هم أهل العلم؟ إن أهل العلم هم كل من آتاه الله علماً في مسألة من المسائل فمن علم أمراً من شرع الله عز وجل وتقينه فهو من أهل العلم في هذه الميدان ويصدق عليه قول الله عز وجل: [إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون].
وكان بيان الحق مما بايع عليه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، كما في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - :"بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر المنشط والمكره، وعلى أثره علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق حيث كنا لا تأذنا في الله لومة لائم".(/5)
إذن فالقعود عن المشاركة في الأعمال الدعوية وعن إنكار المنكرات وعن تعليم ما يحتاجه الناس هو إخلال بالورع الواجب، وهو مجلبة لاستحقاق لعنة الله سبحانه وتعالى ولعنه اللاعنين، وهذا من كيد الشيطان ببعض المتدينين والعابدين.
الأمر الرابع : الورع عن القول على الله بغير علم
وكما أن المسلم يجب أن يتورع عن كتمان العلم وترك بيانه، فعليه أن يتورع من أن ينطبق عليه قول الله تعالى: ]وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون] أو قوله عز وجل:[ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كان عنه مسؤولاً] ،وعليه أن يعلم أنه مسؤول أمام الله عز وجل عن كل كلمة يقولها، فيبذل جهده ووسعه في البحث عن الحق والله سبحانه وتعالى يغفر له، بل هو مأجور على اجتهاده.
وحينما تريد أن تقول كلمة تنقل عنك أو تريد أن تنكر منكراً أو تأمر بمعروف فعليك أن تسأل نفسك هل هذا مما يرضاه الله ويرضاه رسوله صلى الله عليه وسلم؟ هل هذا مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ هل هذا من الحق الذي لا مرية فيه؟ أم أن ثمة مداخل فعليه أن يتورع ويعلم أنه موقِّعٌ عن رب العالمين.
الأمر الخامس : التورع في الأنشطة الدعوية والتربوية
يقع بعض المربين في مخالفات شرعية ظاهرة واضحة، وكثيراً ما ننسى الضوابط الشرعية المهمة في مثل هذه الميادين، فمن ذلك أن نتصور أن المربي ينبغي أن يعلم من أحوال من يربيه أموراً كثيرة، فيعطي نفسه صلاحيات واسعة تتيح له تجاوز كثير من الضوابط الشرعية.
إن الأصل أن أعراض الناس محفوظة لا يجوز الحديث عنها، ولا ذمهم ولا غيبتهم، وحين تأتي حاجة تتيح ذلك فإنها ينبغي أن تكون محصورة في هذه الدائرة، فأحياناً يغفل المرء عن هذا فيتوسع في مثل هذه الميادين، وتتحول الحاجة إلى قاعدة عامة، وننسى أن أعراض المؤمنين أعراض محفوظة، وأن الحديث عنهم في غَيْبَتهم داخل في قول الله سبحانه وتعالى : [ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه] والتطلع على دقائق أمور الناس وخفاياهم أمر حرمه الله عز وجل فقال: [و لا تجسسوا] ، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه مأمور بأن يعامل الناس على ظاهرهم فقال:"إني لم أؤمر أن أنقب عن بطون الناس" وتوعد صلى الله عليه وسلم من تتبع عورات الناس بقوله: "من تتبع عورات الناس تتبع الله عورته حتى يفضحه الله ولو في جوف بيته" ، وهذا نص عام يخاطب كل الناس، ومن يتولى أمراً أو مسؤولية لا يعفيه ذلك من هذا الخطاب.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في نهيه أن يطرق الرجل أهله ليلاً، وعلل ذلك بقوله : لئلا يتخونهم يطلب عثراتهم، مع أن مسؤولية الزوج عن زوجته أولى من مسؤولية هذا العلم عن طالبه .
وقال صلى الله عليه وسلم:" غيرتان يحبهما الله ورسوله، وغيرتان يبغضهما الله ورسوله، فالغيرة التي يجبها الله ورسوله الغيرة في ريبة، والغيرة التي يبغضها الله ورسوله الغيرة في غير ريبة".
فينبغي أن نراجع أنفسنا في أعمالنا الدعوية وفي جهودنا ووسائلنا وبرامجنا، هل هي تنضبط بالضوابط الشرعية أم لا؟ ويجب أن نعرف أن الداعية والمربي غير معفى من النصوص الشرعية، وأنه مخاطب بها شأنه شأن سائر الناس.
وقد يظن بعضهم أن في هذا الأمر مصلحة شرعية، ولو كان كذلك لأجازه النبي صلى الله عليه وسلم للزوج ولاستجاز أن يستمع لمن يخبره عن أصحابه، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا أحب أن يبلغني أحد عن أحد شيئاً".
إن الواجب على الداعية أن يتعامل مع الظاهر، والظاهر مرآة للباطن في الغالب؛ فما يسره الإنسان لابد أن يظهر على جوارحه.
وصورة ثانية من الإخلال بالورع الشرعي الواجب ما نراه الآن من كثير من الدعاة على مستوى العالم الإسلامي من أعمال وتصرفات وتجاوزات فيها مجاوزة لحدود الله عز وجل، كالتحالف مع الأحزاب العلمية، بل وجد من الدعاة من يثني على الاشتراكيين ويثني على الشيوعيين، أو الترخص في كثير من الأحكام الشرعية كالاختلاط وسفر المرأة دون محرم، وغير ذلك.
ويجب أن نتساءل هل نحن نراجع برامجنا ووسائلنا وفق الضوابط الشرعية ابتداء ؟ أم أننا نذهب لتسويغها بعد أن نعملها؟ ففرق بين صورتين:
الأولى: أن نتخذ القرار، ثم نذهب للبحث عما يسوغه ويبرره، والثانية: أن نأتي متجردين لله عز وجل ونبحث ورائدنا هو الحق.
إن أي إنسان صاحب هوى يستطيع أن يصرف النصوص الشرعية كما يشاء، فإذا قررت أمراً ثم ذهبت بعد ذلك تبحث له عن مسوغ شرعي فسوف تجد ألف شبهة وشبهة، كما يقول أحد علماء السوء :أعطوني أي قانون من القوانين المترجمة عن الفرنسية والإيطالية فأخرجها لكم على الفقه الحنفي أو على الفقه المالكي.
ومن ذلك أن يكون التأصيل الشرعي قضية لاحقة، إنما جاء إسكاتاً لأولئك الذين تساءلوا: ما مدى الانضباط الشرعي في هذا العمل؟ وما مدى اتفاقه مع الضوابط الشرعية والمنهج الشرعي؟(/6)
نسأل الله الهداية والسداد والصلاح نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الورع ويجعلنا وإياكم من المتورعين الصالحين إنه سميع مجيب.(/7)
الورع يارجال الصحوة
يتناول الدرس الورع ومعناه عند السلف ،و قواعد وضوابط في الورع، ثم نماذج من الورع من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وغيرهم من السلف، ثم تحدث عن الصحوة وحاجتها إلى الورع.
الورع مصطلح نبوي شرعي : فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللفظ في قوله: [ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا وَأَحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا وَأَقِلَّ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ] رواه ابن ماجه. وقال صلى الله عليه وسلم: [فضل العلم أحب إليَّ من فضل العبادة وخير دينكم الورع] رواه البزار والحاكم والطبراني في الأوسط من حديث حذيفة ، ورواه الحاكم أيضاً من حديث سعد رضي الله عنهما. فالورع إذاً مصطلح شرعي نبوي، وإن كان ليس من شروط هذه المصطلحات أن ترد بنصها عن النبي صلى الله عليه وسلم، فما دام المصطلح لا يعارض النصوص الشرعية؛ فلا مشاحة في الاصطلاح.
أما الأدلة على معنى الورع دون لفظه، فهي كثيرة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومنها:
حديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ...] رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي والدارمي وأحمد .
حديث النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ: [ الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ] رواه مسلم والترمذي والدارمي وأحمد.
وحين جاء وابصة بن معبد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ جِئْتَ تَسْأَلُ عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ ... اسْتَفْتِ نَفْسَكَ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ يَا وَابِصَةُ ثَلَاثًا الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ ] رواه الدارمي وأحمد . ولا شك أن هذا الحديث مع ما فيه من الدلالة على الأمر بالتورع مما حاك في الصدر، وإتيان ما اطمأنت إليه النفس، فهو إشارة إلى حال الصالحين، وحال قلوبهم التي ترى بنور الله سبحانه وتعالى؛ فتطمئن هذه القلوب للبر والهدى والتقى والصلاح، وتشعر باشمئزاز ونفور من الإثم وأسبابه، ولو أفتاها الناس، وهذا المقياس في مسألة البر والإثم ليس إلا لعباد الله الصادقين، بل لعله أن يكون أمارة نختبر بها قلوبنا؛ فإن كانت تطمئن للبر، والصلاح، والتقوى، وتشمئز من المعصية، والسيئة، وتنفر منها؛ فهي قلوب صالحة بإذن الله، وإن كانت دون ذلك فهي بحاجة إلى تزكية وإصلاح.
الورع عند السلف: قال ابن القيم رحمه الله في المدارج:'وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة، فقال: [مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ] رواه ابن ماجه والترمذي ومالك وأحمد. فهذا يعم الترك لما لايعني من الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع'.
وقال إبراهيم بن أدهم :'الورع ترك كل شبهة، وترك ما لا يعنيك هو ترك الفضلات'.
وقال إسحاق بن خلف:'الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة، والزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة لأنهما يبذلان في طلب الرياسة' .
وقيل:'الورع الخروج من الشهوات وترك السيئات' .
وقيل:'من دق في الدنيا ورعه، أو نظره؛ جلَّ في القيامة خطره'.
وقال يونس بن عبيد:' الورع: الخروج من كل شبهة ومحاسبة النفس'.
وقال سفيان الثوري: 'ما رأيت أسهل من الورع، ما حاك في نفسك اتركه'.
وقال سهل: 'الحلال هو الذي لا يعصى الله فيه، والصافي منه الذي لا ينسى الله فيه'.
وقال الحسن:'مثقال ذرة من الورع خيرٌ من ألف مثقال من الصوم و الصلاة'.
وقال أبو هريرة:'جلساء الله غداً أهل الورع والزهد'.
وقال بعض السلف: 'لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس' - ويروى مرفوعاً- .
وقال بعض الصحابة : 'كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب الحرام'.
قواعد وضوابط في الورع:(/1)
هي قواعد مهمة حول الورع، وأكثرها مما قررها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فله حديث حول الورع في مجموع الفتاوى في الجزء العاشر، وفي الجزء العشرين:
القاعدة الأولى: الورع منه واجب ومنه مستحب:
كثير من الناس حينما يطلق مصطلح الورع؛ ينصرف ذهنه إلى دقائق الورع، والبعد عن المشتبهات؛ فيرى أن الورع ليس ضمن دائرة الواجبات، إنما هو مقام للخاصة والصالحين، وليس واجباً على آحاد الناس، قال شيخ الإسلام:' فأما الورع المشروع المستحب الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، فهو اتقاء ما يخاف أن يكون سبباً للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح، ويدخل في ذلك أداء الواجبات، والمشتبهات التي تشبه الواجب، وترك المحرمات والمشتبهات التي تشبه الحرام، وإن أدخلت فيه المكروهات، قلت: يخاف أن تكون سبباً للنقص والعذاب، وأما الورع الواجب فهو اتقاء ما يكون سبباً للذم والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المحرم، والفرق بينهما [أي بين الورع الواجب والمستحب] فيما اشتبه أمِن الواجب أم ليس منه؟ وما اشتبه تحريمه أمن المحرم أم ليس منه' .
القاعدة الثانية: أن ما لا ريب في حله ليس فيه ورع بل الورع فيه من التنطع:
قال رحمه الله:'وأمَّا ما لا ريب في حله؛ فليس تركه من الورع، وما لا ريب في سقوطه فليس فعله من الورع'.
القاعدة الثالثة: لا ورع عند وجود المعارض الراجح:
قال رحمه الله:'وقولي عند عدم المعارض الراجح، فإنه قد لا يترك الحرام البين أو المشتبه إلا عند ترك ما هو حسنة، موقعها في الشريعة أعظم من ترك تلك السيئة، مثل: أن يترك الائتمام بالإمام الفاسق؛ فيترك الجمعة والجماعة والحج والغزو، وكذلك قد لا يؤدي الواجب أو المشتبه إلا بفعل سيئة أعظم إثماً من تركه، مثل من لا يمكنه أداء الواجبات من الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر لذوي السلطان إلا بقتال فيه من الفساد أعظم من فساد ظلمه'.
رابعاً: الورع يكون في الفعل كما هو في الترك:
وذلك أن البعض من الناس يعتقد أن الورع يكون في الترك، قال شيخ الإسلام:'لكن يقع الغلط في الورع من ثلاث جهات: أحدها اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك؛ فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام لا في أداء الواجب، وهذا يُبتلى به كثيرٌ من المتدينين المتورعة ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة، وعن الدرهم فيه شبهة؛ لكونه من مال ظالم، أو معاملة فاسدة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين وذوي الفجور في الدنيا، ومع هذا يترك أموراً واجبة عليه إما عيناً وإما كفاية، وقد تعيَّنت عليه من صلة رحم، وحق جار ومسكين وصاحب ويتيم وابن سبيل، وحق مسلم وذي سلطان وذي علم، وعن أمر بمعروف ونهي عن منكر، وعن الجهاد في سبيل الله إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى بل من جهة التكليف ونحو ذلك'.
القاعدة الخامسة: أن الورع إنما هو بأدلة الكتاب والسنة:
قال رحمه الله:'الجهة الثانية من الاعتقاد الفاسد: أنه إذا فعل الواجب والمشتبه، وترك المحرم والمشتبه، فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة وبالعلم لا بالهوى، وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه عن أشياء لعادة ونحوها، فيكون ذلك مما يقوي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة، فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد؛ فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه:} إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ...[23]{ “سورة النجم”…ومن هذا الباب الورع الذي ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: لما ترخص في أشياء، فبلغه أن أقواماً يتنزهون عنها، فقال: [ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً] رواه البخاري ومسلم وأحمد . وكذلك حديث صاحب القُبلة، ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين، وإلاَّ فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه، كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم'.
القاعدة السادسة: الورع لا يكون إلا بالإخلاص:
قد تأتي الإنسان اعتبارات تدفع إلى الورع، فقد يكون له مقام واعتبار، ويرى أنه مما ينبغي أن لا يليق بأمثاله أمام الناس، فيكون دافعه إلى ذلك مُراءاة الناس، وقد يكون دافعه حظ النفس أو هوى النفس، أو غيرها من الأمور؛ فالورع مثل سائر الأعمال الصالحة لابد فيها من الإخلاص، قال شيخ الإسلام:'واعلم أن الورع لا ينفع صاحبه ويكون له ثواب إلا بفعل المأمور به من الإخلاص'.
القاعدة السابعة: التدقيق في مسائل الورع للخاصة وليس لآحاد الناس:(/2)
قال الحافظ ابن رجب: 'وهاهنا أمرٌ ينبغي التفطن له وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها وتشابهت أعماله في التقوى والورع، فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة، ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبه، فإنه لا يحتمل له ذلك، بل ينكر عليه وهذا حال بعض المتكلفين المرائين يسلك هذا المسلك كما قال ابن عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق: انْظُرُوا إِلَى هَذَا يَسْأَلُنِي عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنْ الدُّنْيَا] رواه البخاري والترمذي وأحمد ' . وهذا الأمر مهم أن نعيه ونحن نقرأ بعض الروايات عن السلف في ورعهم حتى لا نقع في هذا الغلط الذي له آثار سلبية على نفوسنا؛ فنحن أحوج ما نكون إلى الورع الواجب، وأحوج ما نكون إلى اجتناب المحرمات الظاهرة الواضحة، وأحوج ما نكون إلى إصلاح قلوبنا، فإذا انشغلنا بهذه الدقائق تركت آثاراً على أنفسنا، منها: أن تشعر أنفسنا بالزهو، واحتقار الآخرين، وأن الناس لا يتورعون، ومنها: أن تنشغل النفس عما هي أولى به من إصلاح القلب، والورع الواجب.
نماذج من الورع:
وَرَعُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرَةٍ مَسْقُوطَةٍ فَقَالَ: [ لَوْلَا أَنْ تَكُونَ مِنْ صَدَقَةٍ لَأَكَلْتُهَا] رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد .
كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمًا فَوَجَدَ تَمْرَةً تَحْتَ جَنْبِهِ فَأَخَذَهَا فَأَكَلَهَا ثُمَّ جَعَلَ يَتَضَوَّرُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ وَفَزِعَ لِذَلِكَ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ فَقَالَ: [ إِنِّي وَجَدْتُ تَمْرَةً تَحْتَ جَنْبِي فَأَكَلْتُهَا فَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ] رواه أحمد .
من ورع السلف:
أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: [ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ أَتَدْرِي مَا هَذَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَا هُوَ قَالَ كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ ] رواه البخاري . مع أن هذا الأمر لايلزمه، والطعام ليس حراماً؛ لأنه أكله وهو لم يعلم بتحريمه وهو معذور كل العذر في ذلك، ولكن هذا من ورعه رضي الله عنه.
وسقط من كهمس دينار ففتش عنه؛ فلقيه، ثم لم يأخذه، قال:' لعله غيره'.
وعن ابن المبارك قال:' استعرت قلماً بأرض الشام على أن أرده، فلما قدمت مرو نظرت، فإذا هو معي، فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه'.
وروى ابن أبي الدنيا في 'الورع':'أن امرأة من الصالحات أتاها نعي زوجها وهي تعجن، فرفعت يدها من العجين، وقالت:'هذا طعام قد صار لنا فيه شريك' . لأن هذا الطعام قد صار للورثة.
هذه بعض النماذج من ورع السلف، والأمثلة على ذلك كثيرة، وحين تقرأ في أي كتاب من كتب التراجم؛ لا تخطئك مثل هذا المواقف وغيرها عن سلف الأمة رضوان الله عليهم.
الصحوة والورع: تحدثنا حول قضايا لتأصيل الورع، وبعض القواعد المهمة فيه، ثم نعود بعد ذلك إلى الحديث إلى الصحوة وحاجتها إلى الورع، وهي تتمثل في أمور:
الأمر الأول: أن نكون قدوة في الورع:(/3)
فنحن أولاً:نحتاج إلى الورع في الجانب الشخصي والسلوك عند الناس؛ فنحن قدوة أمامهم بدءاً بالورع الواجب مما أوجبه الله: من فعل الواجبات، وترك المحرمات، ولعلنا نتساءل بأسى فعلاً وحُزن: أين نماذج العباد الصالحين، الأخيار الأتقياء التي كنا نسمع عنها في حياة السلف ؟ أين صور العبادة والإقبال على الله، والزهد والورع والخوف من الله وصلاح القلوب ؟ أين تلك الأحوال التي سُقنا بعضها، والتي نسمع عنها من أخبار السلف؟ ما بالنا حينما نسمعها نشكك فيها، أو في نسبتها أو نبحث عن المعاذير؛ لأننا لم ترق نفوسنا أصلاً لإدراك هذه المعاني!! ها نحن نرى جيل الصحوة المبارك وقد ملأ الآفاق، وانتشر بحمد الله، وعلا صوته، فهل نرى في جيلنا العباد والزهاد والورعين؟ نحن لا نحكم على الناس، ولا شك أن هذا الجيل فيه خير كثير والحمد لله، لكننا نفتقد هذا الجانب كثيراً في سلوكنا، ونحن أحوج ما نكون إلى دعوة الناس بأعمالنا وسلوكنا؛ فالمقالة التي يقولها المرء قد تحرك القلوب وتؤثر في النفوس، وقد تسطَّر وتتداولها الأجيال، لكنها لا ترقى إلى موقف وحدث يروى، فيترك أثراً عظيماً في النفوس أبعد بكثير من آثار هذه الكلمة المجردة، لماذا لا نسعى أن نتمثل هذه النماذج في أنفسنا؟ فندعو الناس بأعمالنا وأحوالنا قبل أن ندعوهم بأقوالنا، وأن نكون ممن إذا رءوا؛ ذكر الله عز وجل؟!
الأمر الثاني: تربية الجيل على الورع:
ثمة سؤال له أهميته يفرض نفسه: مامدى اعتنائنا بهذه الأمور في تربيتنا لجيل الصحوة؟ وأين موقعها من أهدافنا وبرامجنا التربوية؟إن هذا الجيل المقبل اليوم على التدين من الشباب والفتيات ينظر الناس إليه بعين الأمل، وينتظرون منه الكثير، وفي المقابل ينظرون إليه بنظرة المشفق الخائف عليه من ألا يواصل الطريق؛ فهو جيل يعاني في ظل هذا الواقع من أزمات ومن مشكلات، يعاني من تفتح أبواب الفساد والمعصية أمامه، ومن ثم فهو أحوج ما يكون إلى أن يربى على الورع والتقوى، من خلال اختيار المربين الذي يعيشون هذه المعاني، ومن خلال الاعتناء بتناول هذه الموضوعات فيما يقدم للشباب من برامج تربوية.
إنه جيل محاط بفتن الشهوات والشبهات، وبوسائل تصده عن سبيل الله وتفتنه، إن هؤلاء وأولئك لو تربوا على الورع والإيمان والتقوى والصلاح؛ لسمت نفوسهم، ولاستطاعوا بإذن الله، وتوفيقه اجتياز هذا البلاء وهذا الامتحان.
الأمر الثالث: الورع عن ترك الدعوة:
من العجائب أن ترى من الناس من يسكت ويقعد عن الدعوة؛ فيتورع عن الحديث إلى الناس، وعن نشر علم آتاه الله إياه، ولا يتورع من أن يكون ممن قال الله سبحانه وتعالى فيهم:} إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ[159]إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا ...[160]{ “ سورة البفرة” فمن الذي يتورع من أن يكون من أهل هذه الآية؟ إنه يتورع من أن يقول ما لا يفعل، أو يعرفه الناس ويشيروا إليه بالصلاح، لكنه ينسى أنه قد يكون ممن يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، وممن يكتم ما أنزل الله من البينات والهدى، أو أن يلجمه الله بلجام من نار يوم القيامة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد. فكما أننا ينبغي أن نتورع في كلامنا ومنطقنا فلا يتحدث المرء إلا بما يعلم ولا يقول إلا ما يحسن ولا يدعو إلا بعلم، فيجب أن نتورع عن كتمان العلم.(/4)
لقد أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا الكتاب أن يبينوه للناس:} وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ[187] { “سورة آل عمران” ومن هم أهل العلم؟ إن أهل العلم هم كل من آتاه الله علماً في مسألة من المسائل، فمن علم أمراً من شرع، وتيقنه؛ فهو من أهل العلم في هذه الميدان، ويصدق عليه قول الله:} إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ[159]{ “ سورة البفرة” وكان بيان الحق مما بايع عليه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، كما في حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: [ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ] رواه البخاري ومسلم . إذاً فالقعود عن المشاركة في الأعمال الدعوية، وعن إنكار المنكرات، وعن تعليم ما يحتاجه الناس؛ هو إخلال بالورع الواجب، وهو مجلبة لاستحقاق لعنة الله، ولعنة اللاعنين، وهذا من كيد الشيطان ببعض المتدينين والعابدين.
الأمر الرابع: الورع عن القول على الله بغير علم:
وكما أن المسلم يجب أن يتورع عن كتمان العلم وترك بيانه، فعليه أن يتورع من أن ينطبق عليه قول الله تعالى:} قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ... وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ[33]{ “سورة الأعراف” أو قوله:} وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[36]{ “سورة الإسراء” وعليه أن يعلم أنه مسئول أمام الله عن كل كلمة يقولها، فيبذل جهده ووسعه في البحث عن الحق؛ والله سبحانه وتعالى يغفر له، بل هو مأجور على اجتهاده. وحينما تريد أن تقول كلمة تنقل عنك، أو تريد أن تنكر منكراً أو تأمر بمعروف، فعليك أن تسأل نفسك هل هذا مما يرضاه الله، ويرضاه رسوله صلى الله عليه وسلم؟ هل هذا مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ هل هذا من الحق الذي لا مرية فيه؟ أم أن ثمة مداخل؟ فعليه أن يتورع، ويعلم أنه موقِّعٌ عن رب العالمين.
الأمر الخامس: التورع في الأنشطة الدعوية والتربوية:
يقع بعض المربين في مخالفات شرعية ظاهرة واضحة، وكثيراً ما ننسى الضوابط الشرعية المهمة في مثل هذه الميادين، فمن ذلك:
أن نتصور أن المربي ينبغي أن يعلم من أحوال من يربيه أموراً كثيرة، فيعطي نفسه صلاحيات واسعة تتيح له تجاوز كثير من الضوابط الشرعية... إن الأصل: أن أعراض الناس محفوظة لا يجوز الحديث عنها، ولا ذمهم ولا غيبتهم، وحين تأتي حاجة تتيح ذلك فإنها ينبغي أن تكون محصورة في هذه الدائرة، فأحياناً يغفل المرء عن هذا؛ فيتوسع في مثل هذه الميادين، وتتحول الحاجة إلى قاعدة عامة، وننسى أن أعراض المؤمنين أعراض محفوظة، وأن الحديث عنهم في غَيْبَتهم داخل في قول الله:} وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ[12]{ “سورة الحجرات” والتطلع على دقائق أمور الناس وخفاياهم أمر حرمه الله عز وجل، فقال:} وَلَا تَجَسَّسُوا { “سورة الحجرات” وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه مأمور بأن يعامل الناس على ظاهرهم، فقال: [... إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ] رواه البخاري ومسلم . وتوعد صلى الله عليه وسلم من تتبع عورات الناس بقوله: [...مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ] رواه الترمذي . وهذا نص عام يخاطب كل الناس، ومن يتولى أمراً، أو مسئولية؛ لا يعفيه ذلك من هذا الخطاب.(/5)
فينبغي أن نراجع أنفسنا في أعمالنا الدعوية، وفي جهودنا، ووسائلنا، وبرامجنا، هل هي تنضبط بالضوابط الشرعية أم لا؟ ويجب أن نعرف أن الداعية والمربي غير معفى من النصوص الشرعية، وأنه مخاطب بها شأنه شأن سائر الناس.وقد يظن بعضهم أن في هذا الأمر مصلحة شرعية، ولو كان كذلك لأجازه النبي صلى الله عليه وسلم للزوج، ولاستجاز أن يستمع لمن يخبره عن أصحابه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: [ لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا...] رواه الترمذي وأبو داود . إن الواجب على الداعية أن يتعامل مع الظاهر، والظاهر مرآة للباطن في الغالب؛ فما يسره الإنسان لابد أن يظهر على جوارحه.
وصورة ثانية من الإخلال بالورع الشرعي الواجب: ما نراه الآن من كثير من الدعاة على مستوى العالم الإسلامي من أعمال وتصرفات وتجاوزات فيها مجاوزة لحدود الله ، كالتحالف مع الأحزاب العلمانية، بل وجد من الدعاة من يثني على الاشتراكيين، ويثني على الشيوعيين، أو الترخص في كثير من الأحكام الشرعية كالاختلاط وسفر المرأة دون محرم، وغير ذلك.
ويجب أن نتساءل هل نحن نراجع برامجنا ووسائلنا وفق الضوابط الشرعية ابتداء ؟ أم أننا نذهب لتسويغها بعد أن نعملها؟ ففرق بين صورتين:
الأولى: أن نتخذ القرار، ثم نذهب للبحث عما يسوغه ويبرره، والثانية: أن نأتي متجردين لله ونبحث ورائدنا هو الحق.
إن أي إنسان صاحب هوى يستطيع أن يصرف النصوص الشرعية كما يشاء، فإذا قررت أمراً، ثم ذهبت بعد ذلك تبحث له عن مسوغ شرعي، فسوف تجد ألف شبهة وشبهة، كما يقول أحد علماء السوء :أعطوني أي قانون من القوانين المترجمة عن الفرنسية والإيطالية، فأخرجها لكم على الفقه الحنفي، أو على الفقه المالكي.
ومن ذلك: أن يكون التأصيل الشرعي قضية لاحقة، إنما جاء إسكاتاً لأولئك الذين تساءلوا: ما مدى الانضباط الشرعي في هذا العمل؟ وما مدى اتفاقه مع الضوابط الشرعية، والمنهج الشرعي؟
نسأل الله الهداية والسداد والصلاح، وأن يرزقنا وإياكم الورع، ويجعلنا وإياكم من المتورعين الصالحين إنه سميع مجيب.
من محاضرة: الورع يا رجال الصحوة للشيخ/ محمد الدويش(/6)
الوسائل الجلية لتحقيق الإيجابية
مفكرة الإسلام : عزيزتي الفتاة الدارسة: ذكرنا في المقال السابق [وأين .. الإيجابية ؟] الوسيلة الأولى من وسائل التغلب على القلق وتحقيق الإيجابية وهي التفكير الإيجابي , وهنا نستكمل هذه الوسائل وهي:
1- الرضا الداخلي.
2- اشغلي نفسك بالمفيد دائمًا.
3- انتبهي لأفكارك السلبية واعتقاداتك.
4- اهتمي بالأمر الحاضر.
1- الرضا الداخلي:
وهذا لا يعني التكبر والعجب ولكنه يعني ألا تحتقري نفسك ولا تستصغري إنجازاتك ، فلابد أن يكون في حياتك جوانب مشرقة وذكريات حسنة ، والإنسان القلق ينظر إلى جوانب الفشل دائمًا، وكلما قارن نفسه بغيره ازدرى نفسه، والتقبل الإيجابي للنفس هو علامة على الثقة بالنفس والتقدير الشخص السليم، والأمثلة على التقبل الإيجابي: [أنا لا أستطيع أن أحقق أهدافي، أنا قوية وعندي مقدرة كبيرة، أنا إنسانة ممتازة، أنا عندي ذاكرة قوية ....] وهكذا كل هذه الرسائل الإيجابية تدعم خطواتنا بالحماس والثقة تجاه أهدافنا إلى أن نحققها.
والتحدث إلى الذات يمكن أن تجعل منك إنسانة سعيدة ناجحة تحقق أحلامك، أو تعيش يائسة من الحياة وحيدة , فانتبهي عزيزتي الدارسة إلى حديثك إلى النفس، فإن ما يفكر فيه الإنسان ويتحدث عنه يتزايد ويصبح أفعالاً. وإحذري من القاتل الصامت وهو الحديث مع النفس حديثًا سلبيًا مثل: [أنا خجولة، أنا ضعيفة، أنا ذاكرتي ضعيفة، أنا لا أستطيع أن أستيقظ مبكرًا، لن أستطيع أن أتفوق] وهنا يقوم الإنسان بإرسال إشارات سلبية للعقل الباطن ويرددها باستمرار إلى أن تصبح جزءًا من اعتقاداته القوية وبالتالي تؤثر على تصرفاته وأحاسيسه الخاصة وهذا النوع من الحديث إلى النفس من الممكن أن يجعلك فاقدة الأمل ويشعرك بعدم الكفاءة، ويضع أمامك الحواجز التي تمنعك من تحقيق أهدافك.
فمن اليوم عليك أن تنبهي إلى ماذا أقول لنفسي وماذا أسمع من الآخرين، ولولاحظت رسالة سلبية قومي بإلغائها بأن تقولي لعقلك [إلغي] وقومي باستبدالها برسالة أخرى إيجابية. وتأكدي أن عندك القوة وأنك تستطيعين، فأنت سيدة عقلك وقبطان سفينتك. وتستطيعين تحويل حياتك إلى تجربة من السعادة والنجاح بلا حدود.
2- اشغلي نفسك بالمفيد دائمًا:
سئل أحد القادة وكانت تبدو عليه علامات الراحة والحيوية والرضا لماذا لا تقلق؟ فقال: إنني مشغول فلا وقت عندي للقلق.
عزيزتي الدارسة، من الممكن أن يملأك الحماس ويكون لديك طاقة عالية، وتملكين المعرفة والقوة العقلية التي تحتاجينها للنجاح ولكنك لم تضعي كل هذا موضع التنفيذ، بذلك ستكون كل هذه المهارات لا قيمة لها فإن المعرفة بدون التنفيذ والعمل يمكنها أن تؤدي إلى الفشل والإحباط , وهناك سببان يمنعان الناس من أن يضعوا إمكانياتهم موضع الفعل والتنفيذ:
السبب الأول: وهو الخوف من الفشل مما يدفع الإنسان أن يتفادى تكرار نفس التجربة خوفًا من عدم النجاح.
والسبب الثاني: هو المماطلة [التأجيل] فبعضنا يأخذ في تأجيل الواجبات التي من المفروض أن يقوم بها ويظل يؤجلها إلى اليوم التالي أو الأسبوع التالي وهكذا , وفي البرمجة اللغوية العصبية نقول: [ليس هناك فشل ولكن هناك فقط خبرات] , فليس من المهم كم من المرات تكون قد فشلت في الماضي أو كم من المرات تكون قد وقعت، ولكن المهم هو التصرف الآن والاستفادة من أي فشل يكون قد حدث لنا في الماضي , واشغلي نفسك دائمًا بالمفيد، وضعي مهاراتك موضع التنفيذ والفعل.
3- انتبهي لأفكارك السلبية واعتقاداتك:
وهذه أمثلة على ذلك: يقول بعض الناس لا بد أن أكون ناجحًا في كل شيء، ولا بد أن أكون محبوبًا من جميع الناس، ويجب ألا أخطئ في أي أمر من أمور حياتي [في الدراسة أو العلاقات مع الآخرين أو غير ذلك]، إنني محسود من الناس وهذا الحسد سينتج عنه إصابتي في جسمي أو عقلي أو عائلتي في المستقبل، النقد يدل على أنني شخص غير محترم أو مرفوض لن أستطيع تحقيق أهدافي أو أتفوق في الدراسة , ما رأيك فيمن يحمل تلك الأفكار هل يمكن أن يذوق طعم السعادة وهدوء البال؟
عزيزتي الفتاة الدارسة: إن اعتقادك الإيجابي عن ذاتك هو طريقك للنجاح؟ وهناك حكمة تقول: [لكي ننجح فلا بد أولاً أن نؤمن بأننا نستطيع النجاح] , ومن أشكال الاعتقاد السلبي عن الذات: [ أنا لا أساوي شيًا - أنا لا أستحق النجاح - كلما قمت بتجربة أي شيء جديد لا أنجح أنا فاشل ].
وإليك أيضًا بعض الأمثلة التي تدل على الاعتقاد الإيجابي عن الذات: [ أنا قوية وأتمتع بصحة ممتازة - أنا أثق في نفسي وفي قدرتي على النجاح ] , إن الاعتقاد عن الذات لها قوة شديدة، وإذا ما قمنا بتغييرها إيجابيًا فإننا سنصبح أناس مختلفين تمامًا وستتغير حياتنا كلية , فكيفية اعتقادك في نفسك يمكنها أن تزيد من قوتك وتساعدك في التقدم للأمام لبلوغ أهدافك أو تكون مدمرة وتبعدك عن أهدافك وتمنعك من أحداث أي تغيير.
4- اهتمي بالأمر الحاضر:(/1)
فالفرد منا حياته بين ثلاث مراحل: ماضي وحاضر ومستقبل، فربما شغل بالماضي فحزن كحزنه على اللبن المسكوب لن ينفعه، وربما شغل بالمستقبل فجاءته الهموم، وكل ذلك ليس بيده الآن، وإنما الذي بيدك هو أمورك ومشاغلك الحاضرة، فاهتمي بها وأعطيها حقها من التفكير والعمل واسمعي إلى قول الشاعر:
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
وهذا الاهتمام بالحاضر هو الذي يؤدي إلى الإنجاز في الأعمال بل الإتقان فيها حيث يوجه الفرد تفكيره وتركيزه إلى عمله الحاضر، فإن القلق له آثار سلبية على الإنسان فقد يعوق مسيرتك في التعليم والنجاح.
فمن الإيجابية أن تضعي مهاراتك وقدراتك موضع الفعل والتنفيذ حتى تكون لها قيمة ولا تهتمي بما مضى من فشل أو تجارب ليست ناجحة وتعامل معها كأنها خبرات للانطلاق منها إلى ما هو حاضر الآن.
عزيزتي الفتاة الدارسة نحن جميعًا متساوون في أننا نملك 18 مليون خلية عقلية كل ما يلزمها هو التوجيه والبرمجة الإيجابية.
ومن اليوم كوني إيجابية وخذي قرار النجاح والتفوق وترنمي معي قول الشاعر:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا
وابدأي في التعامل مع الحياة باستراتيجية هذا الشاعر: [وما الحياة إلا أمل يصاحبها ألم ويفاجئها أجل].
فعيشي حياتك بالأمل وتوقعي الخير، وحدد أهدافك .. اكتبيها .. ضعي الخطط لتحقيقها .. ضعيها في الفعل .. وكوني مؤمنة بها حتى تحققيها .. وبما أن الحياة يصاحبها ألم وتحديات فكوني مستعدة وقابلي هذه التحديات بقوة وعزم وصبر وتوكل على الله فإن الله يحب الصابرين، وبما أن الحياة يفاجئها أجل وهو المصير المحقق لكل إنسان فعيش بالكفاح في سبيل الله عز وجل وتحقيق النجاحات تلو النجاحات , وإذا عشتِ بهذه النفسية فستجدين نفسك في سعادة لا محدودة ونجاح يضرب به الأمثال , مع خالص دعواتي بالنجاح والتفوق والإيجابية في كل جوانب حياتك.(/2)
الوسائل العلمية والعملية لمواجهة العلمانيين
العلمانية لا تحتاج لتعريف لكثرة ما كتب عنها ، ولذا لا يهمنا الآن التعريف ولكن يهمنا كيفية المواجهة مع هذا الفكر ..
الأصل أن تكون المواجهة من خلال خطط مدروسة لا مجرد ردود أفعال ، وأن تكون الخطة طويلة المدى ولها أهداف مرحلية واضحة لا مجرد مواقف آنية تنتهي بنهاية الحدث.
أولاً : الموقف من العلمانية والعلمانيين
1. إبراز حقيقة العلمانيين والبعد الديني لها ، وحكم العلمانية والعلمانيين في الإسلام ، ونشر المقالات عن طرق العلمانية وبرامج حوارية عنها لتبيين خطرها ، وبيان أنهم غير منتجين.
2. إبراز أهداف العلمانيين وفضح رموزهم.
3. إبراز وسائلهم في محاربة الإسلام والمسلمين وكذلك خطرهم على الأمة وبيان أوجه الشبه بينهم وبين المنافقين.
4. رصد وجمع مقالاتهم وأطروحاتهم ثم تصنيفها وإيصالها لمن يستطيع الرد والإنكار عليهم ، ومناظرة رموزهم وقياداتهم الضالة.
5. الرد على العلمانيين من خلال المنابر المتوفرة :
( خطب الجمعة ، الشريط الإسلامي ، الانترنت ، القنوت الفضائية ، الصحافة ، الكتب والمؤلفات ، المحاضرات والندوات ...الخ.
6. ربط أحداث العنف في البلاد بتطرف العمانيين وأطروحاتهم -وهذه هي الحقيقة-.
7. التوضيح لأهل الحل والعقد أهدافهم وأعمالهم وتبيين عيوبهم ومرادهم في المجتمع.
8. النصح لهم وذلك عن طريقين مباشر وغير مباشر إما عن طريق الذهاب لهم والجلوس معهم والتحاور معهم مباشرة أو مهاتفتهم عما يحصل وما حصل ، أو عن طريق المراسلات عن طريق الرسالة والبريد الأرضي والالكتروني وغيره.
9. اختراق أماكنهم وفضح مخططاتهم.
10. الذهاب إلى أماكنهم وفضح مراميهم وأهدافهم والرد عليهم مباشرة.
11. وضع عمل مؤسسي للرد على العلمانيين.
12. وضع كتب صغيرة وأشرطة في الفقه الميسر وغيره
13. ............
ثانياً : التفاعل والتعايش مع المجتمع
1. المعايشة العملية لمشاكل المجتمع بإظهار الاهتمام بها ، وطرح الحلول العلمية والعملية لها ، على سبيل المثال : البطالة ، العنوسة ، الطلاق ، الجريمة .. الخ.
2. إنشاء المؤسسات والنوادي الاجتماعية وتطوير أنشطة الجمعيات الخيرية.
3. إعداد الكوادر المناسبة لإدارة المؤسسات أعلاه لا سيما " التعامل مع الجماهير".
4. تفريغ بعض الطاقات الجيدة للعمل في المجال الإعلامي " القنوت الفضائية ، الصحافة ، الانترنت ... الخ.
5. الاستفادة من تجارب الإسلاميين في الدول الأخرى في مواجهة المد العلماني والعمل الإصلاحي ، " المجالس البلدية ، النوادي الاجتماعية ، ...الخ.
6. الاهتمام بتربية الأمة بعامة والأجيال الناشئة بخاصة على أساسيات الدين والمنهج الإسلامي لأنهم هم شباب المستقبل وعماد الأمة.
7. تحصين المجتمع والصف الإسلامي تجاه القضايا التي يطرحها العلمانيون ( العوم ، المرأة ، سد الذرائع ، الخ .. ) من خلال التأصيل الشرعي العلمي المقنع الذي يراعي مستوى المخاطبين ( عوام ، مثقفون ، شباب ) .
8. تعبئة الناس بالدين الإسلامي والعقيدة الصحيحة من التدخلات المسيئة.
9. توثيق الصلة بالجمعيات الخيرية وبين الناس.
10. ضبط الأمور والقوائم المالية في هذه الجمعيات التي قد يدخل منها العلمانيين.
ثالثاً : تفعيل دور العلماء والدعاة
1. إبراز النماذج الإسلامية والقيادات المتميزة للمجتمع لمحاربة التيار العلماني.
2. إيصال صوت العلماء والدعاة للمسؤولين والحكام في البلاد.
3. توحيد صف العلماء والدعاة لتكون المواجهة قوية مع العلمانيين.
4. تحصين المجتمع والصف الإسلامي تجاه القضايا التي يطرحها العلمانيون ، من خلال التأصيل الشرعي لها ، قضايا المرأة ، سد الذرائع..الخ.
5. عدم الانسياق وراء الأطروحات المائعة والغامضة وعدم الانشغال بها.
6. إظهار النماذج الاسمية كقدوات واقعية في القضايا التي يطرحها العلمانيون ويحاربون الإسلام من خلالها.
7. نشر الوعي الشرعي بالوسائل المختلفة وخصوصاً الفقه الميسر.
8. دعم المفكرين الإسلاميين وإبرازهم على المستوى الإعلامي ..
9. وضع برامج نقاش مع العلمانيين تبث مباشرة.
10. تبيين وجه الشبه بينهم وبين المنافقين.
11. استخدام المنابر الإسلامية للدفاع ومن ذلك خطب الجمعة والمحاضرات وغيره.
12. توضيح معتقدهم بأسلوب متزن.
رابعاً : حماية المرأة
1. الاهتمام بالمرأة وقضاياها وعدم ترك أي مجال أو مدخل ينفذ من خلاله العلمانيون ، بل والعمل على تأهيل الداعيات وإعدادهن لمواجهة هجمات المعادية لهن.
2. المطالبة بإيجاد جمعية لحقوق المرأة في الإسلام " أفضل وسيلة للدفاع الهجوم ".
3. المشاركة الفعالة للمرأة المسلمة في الرد على أطروحات العلمانيين فيما يتعلق بحقوق المرأة .
4. الدعاء بأن يحفظ الله على هذه الأمة دينها وهويتها الإسلامية ، وأن يخزي هؤلاء العلمانيين ويرد كيدهم في نحورهم.
خامساً : أفكار أدبية للرد على العلمانية(/1)
الكثير من العلمانيين يدخلون أفكارهم وماتخفي صدورهم في رواياتهم الأدبية وقصصهم وتعابيرهم الأدبية عموماً ولذا وجب علينا أن نرد وندافع من نفس صنيعهم ومن ذلك:
1. نشر الأدب الإسلامي بشكل واسع وخصوصاً الروايات الإسلامية الراقية لتكون بدلاً عن روايتهم المخزية.
2. توزيع كتب الأدب الإسلامي بسعر رخيص.
3. إيجاد قصص الأدب الإسلامي أو القريبة منه والتي لا تحتوي على توجيه مباشر.
4. دعم المحاضرات والملتقيات الأدبية والشعرية.
5. إيجاد وسائل إعلام هادفة محايدة ( قنوات ، صحف ، ...الخ) لظهور الأدباء الإسلاميين فيها.
سادساً : وسائل التقنية (المنتديات والمواقع والقنوات الفضائية والإذاعة)
حيث أن المنتديات والمواقع من أهم الوسائل الالكترونية التي تعمل في الوقت المعاصر فلذا لا بد من الاستفادة منها وكذلك بعض وسائل التقنية من قنوات فضائية وإذاعة وغيره وذلك بعدة طرق:
1. تنفيذ جميع ما ذكر أعلاه وذلك عن طريق المواقع والمنتديات والقنوات وغيره.
2. إقامة مواقع متخصصة في هذا الشأن لتبيين شبههم وكذلك طرح الأجوبة السليمة بعيداً عن التكلف.
3. الاستفادة من تجارب الدول الأخرى التي وصلها هذا الفكر في هذا الموضوع.
سابعاً : محاذير
في كل عمل لا بد من محاذير مهمة ومن ذلك:
1. لا يلزم أن أي شخص يكتب مقالاً أو موضوعاً من مواضيعهم أن يوافقهم في الفكر ، فلا بد من التأني والنصح له فقد يكون جاهلاً
2. الانتباه لردود الفعل التي قد تحصل من بعض الشباب وربما تفسد بعض النتائج المثمرة من استعجال وغيره.(/2)
الوسائل المفيدة للحياة السعيدة
عبدالرحمن السعدي
دار الوطن
الحمد لله الذي له الحمد كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم.
أما بعد: فإن راحة القلب، وطمأنينته وسروره وزوال همومه وغمومه، هو المطلب لكل أحد، وبه تحصل الحياة الطيبة، ويتم السرور والابتهاج، ولذلك أسباب دينية، وأسباب طبيعية، وأسباب عملية، ولا يمكن اجتماعها كلها إلا للمؤمنين، وأما من سواهم، فإنها وإن حصلت لهم من وجه وسبب يجاهد عقلاؤهم عليه، فاتتهم من وجوه أنفع وأثبت وأحسن حالاً ومآلاً.
ولكني سأذكر برسالتي هذه ما يحضرني من الأسباب لهذا المطلب الأعلى، الذي يسعى له كل أحد.
فمنهم من أصاب كثيراً منها فعاش عيشة هنيئة، وحيى حياة طيبة، ومنهم من أخفق فيها كلها فعاش عيشة الشقاء، وحيي حياة التعساء. ومنهم من هو بين بين، بحسب ما وفق له. والله الموفق المستعان به على كل خير، وعلى دفع كل شر.
فصل
1- وأعظم الأسباب لذلك وأصلها وأسها هو الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [النحل:97].
فأخبر تعالى ووعد من جمع بين الإيمان والعمل الصالح، بالحياة الطيبة في هذه الدار، وبالجزاء الحسن في هذه الدار وفي دار القرار.
وسبب ذلك واضح، فإن المؤمنين بالله الإيمان الصحيح، المثمر للعمل الصالح المصلح للقلوب والأخلاق والدنيا والآخرة، معهم أصول وأسس يتلقون فيها جميع ما يرد عليهم من أسباب السرور والابتهاج، وأسباب القلق والهم والأحزان.
يتلقون المحاب والمسار بقبول لها، وشكر عليها، واستعمال لها فيما ينفع، فإذا استعملوها على هذا الوجه. أحدث لهم من الابتهاج بها، والطمع في بقائها وبركتها، ورجاء ثواب الشاكرين، أموراً عظيمة تفوق بخيراتها وبركاتها هذه المسرات التي هذه ثمراتها.
ويتلقون المكاره والمضار والهم والغم بالمقاومة لما يمكنهم مقاومته، وتخفيف ما يمكنهم تخفيفه، والصبر الجميل لما ليس لهم منه بد، وبذلك يحصل لهم من آثار المكاره من المقاومات النافعة، والتجارب والقوة، ومن الصبر واحتساب الأجر والثواب أمور عظيمة تضمحل معها المكاره، وتحل محلها المسار والآمال الطيبة، والطمع في فضل الله وثوابه، كما عبر النبي عن هذا في الحديث الصحيح أنه قال: { عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن } [رواه مسلم].
فأخبر أن المؤمن يتضاعف غنمه وخيره وثمرات أعماله في كل ما يطرقه من السرور والمكاره. لهذا تجد اثنين تطرقهما نائبة من نوائب الخير أو الشر فيتفاوتان تفاوتاً عظيماً في تلقيها، وذلك بحسب تفاوتهما في الإيمان والعمل الصالح. هذا الموصوف بهذين الوصفين يتلقى الخير والشر بما ذكرناه من الشكر والصبر وما يتبعهما، فيحدث له السرور والابتهاج، وزوال الهم والغم، والقلق، وضيق الصدر، وشقاء الحياة وتتم له الحياة الطيبة في هذه الدار. والآخر يتلقى المحاب بأشرٍ وبطرٍ وطغيان. فتنحرف أخلاقه ويتلقاها كما تتلقاها البهائم بجشع وهلع، ومع ذلك فإنه غير مستريح القلب، بل مشتته من جهات عديدة، مشتت من جهة خوفه من زوال محبوباته، ومن كثرة المعارضات الناشئة عنها غالباً، ومن جهة أن النفوس لا تقف عند حد بل لا تزال متشوقة لأمور أخرى، قد تحصل وقد لا تحصل، وإن حصلت على الفرض والتقدير فهو أيضاً قلق من الجهات المذكورة ويتلقى المكاره بقلق وجزع وخوف وضجر، فلا تسأل عن ما يحدث له من شقاء الحياة، ومن الأمراض الفكرية والعصبية، ومن الخوف الذي قد يصل به إلى أسوأ الحالات وأفظع المزعجات، لأنه لا يرجو ثواباً. ولا صبر عنده يسليه ويهون عليه.
وكل هذا مشاهد بالتجربة، ومثل واحد من هذا النوع، إذا تدبرته ونزلته على أحوال الناس، رأيت الفرق العظيم بين المؤمن العامل بمقتضى إيمانه، وبين من لم يكن كذلك، وهو أن الدين يحث غاية الحث على القناعة برزق الله، وبما آتى العباد من فضله وكرمه المتنوع.
فالمؤمن إذا ابتلي بمرض أو فقر، أو نحوه من الأعراض التي كل أحد عرضة لها، فإنه - بإيمانه وبما عنده من القناعة والرضى بما قسم الله له - يكون قرير العين، لا يتطلب بقلبه أمراً لم يقدر له، ينظر إلى من هو دونه، ولا ينظر إلى من هو فوقه، وربما زادت بهجته وسروره وراحته على من هو متحصل على جميع المطالب الدنيوية، إذا لم يؤت القناعة.
كما تجد هذا الذي ليس عنده عمل بمقتضى الإيمان، إذا ابتلي بشيء من الفقر، أو فقد بعض المطالب الدنيوية، تجده في غاية التعاسة والشقاء.(/1)
ومثل آخر: إذا حدثت أسباب الخوف، وألمت بالإنسان المزعجات، تجد صحيح الإيمان ثابت القلب، مطمئن النفس، متمكناً من تدبيره وتسييره لهذا الأمر الذي دهمه بما في وسعه من فكر وقول وعمل، قد وطن نفسه لهذا المزعج الملم، وهذه أحوال تريح الإنسان وتثبت فؤاده.
كما تجد فاقد الإيمان بعكس هذه الحال إذا وقعت المخاوف انزعج لها ضميره، وتوترت أعصابه، وتشتت أفكاره وداخله الخوف والرعب، واجتمع عليه الخوف الخارجي، والقلق الباطني الذي لا يمكن التعبير عن كنهه، وهذا النوع من الناس إن لم يحصل لهم بعض الأسباب الطبيعية التي تحتاج إلى تمرين كثير انهارت قواهم وتوترت أعصابهم، وذلك لفقد الإيمان الذي يحمل على الصبر، خصوصاً في المحال الحرجة، والأحوال المحزنة المزعجة.
فالبر والفاجر، والمؤمن والكافر يشتركان في جلب الشجاعة الاكتسابية، وفي الغريزة التي تلطف المخاوف وتهونها، ولكن يتميز المؤمن بقوة إيمانه وصبره وتوكله على الله واعتماده عليه، واحتسابه لثوابه ـ أموراً تزداد بها شجاعته، وتخفف عنه وطأة الخوف، وتهون عليه المصاعب، كما قال تعالى: إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون [النساء:104]. ويحصل لهم من معونة الله ومعينه الخاص ومدده ما يبعثر المخاوف. وقال تعالى: واصبروا إن الله مع الصابرين [الأنفال:46].
2- ومن الأسباب التي تزيل الهم والغم والقلق، الإحسان إلى الخلق بالقول والفعل، وأنواع المعروف، وكلها خير وإحسان، وبها يدفع الله عن البر والفاجر الهموم والغموم بحسبها، ولكن للمؤمن منها أكمل الحظ والنصيب، ويتميز بأن إحسانه صادر عن إخلاص واحتساب لثوابه.
فيهون الله عليه بذل المعروف لما يرجوه من الخير، ويدفع عنه المكاره بإخلاصه واحتسابه، قال تعالى: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً [النساء:114].
فأخبر تعالى أن هذه الأمور كلها خير ممن صدرت منه. والخير يجلب الخير، ويدفع الشر. وأن المؤمن المحتسب يؤتيه الله أجراً عظيماً ومن جملة الأجر العظيم: زوال الهم والغم والأكدار ونحوها.
فصل
3- ومن أسباب دفع القلق الناشئ عن توتر الأعصاب، واشتغال القلب ببعض المكدرات: الاشتغال بعمل من الأعمال أو علم من العلوم النافعة. فإنها تلهي القلب عن اشتغاله بذلك الأمر الذي أقلقه. وربما نسي بسبب ذلك الأسباب التي أوجبت له الهم والغم، ففرحت نفسه، وازداد نشاطه، وهذا السبب أيضاً مشترك بين المؤمن وغيره. ولكن المؤمن يمتاز بإيمانه وإخلاصه واحتسابه في اشتغاله بذلك العلم الذي يتعلمه أو يعلمه، وبعمل الخير الذي يعمله، إن كان عبادة فهو عبادة، وإن كان شغلاً دنيوياً أو عادةً أصحبها النية الصالحة. وقصد الاستعانة بذلك على طاعة الله، فلذلك أثره الفعال في دفع الهم والغموم والأحزان، فكم من إنسان ابتلي بالقلق وملازمة الأكدار، فحلت به الأمراض المتنوعة، فصار دواؤه الناجع (نسيانه السبب الذي كدره وأقلقه، واشتغاله بعمل من مهماته).
وينبغي أن يكون الشغل الذي يشتغل فيه مما تأنس به النفس وتشتاقه، فإن هذا أدعى لحصول هذا المقصود النافع، والله أعلم.
4- ومما يدفع به الهم والقلق اجتماع الفكر كله على الاهتمام بعمل اليوم الحاضر، وقطعه عن الاهتمام في الوقت المستقبل، وعن الحزن على الوقت الماضي، ولهذا استعاذ النبي من الهم والحزن، في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، فلا ينفع الحزن على الأمور الماضية التي لا يمكن ردها ولا استدراكها وقد يضر الهم الذي يحدث بسبب الخوف من المستقبل، فعلى العبد أن يكون ابن يومه، يجمع جده واجتهاده في إصلاح يومه ووقته الحاضر، فإن جمع القلب على ذلك يوجب تكميل الأعمال، ويتسلى به العبد عن الهم والحزن. والنبي إذا دعا بدعاء أو أرشد أمته إلى دعاء فإنما يحث مع الاستعانة بالله والطمع في فضله على الجد والاجتهاد في التحقق لحصول ما يدعو بحصوله. والتخلي عما كان يدعو لدفعه لأن الدعاء مقارن للعمل، فالعبد يجتهد فيما ينفعه في الدين والدنيا، ويسأل ربه نجاح مقصده. ويستعينه على ذلك، كما قال : { احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإذا أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان } [رواه مسلم]، فجمع بين الأمر بالحرص على الأمور النافعة في كل حال. والاستعانة بالله وعدم الانقياد للعجز الذي هو الكسل الضار وبين الاستسلام للأمور الماضية النافذة، ومشاهدة قضاء الله وقدره.
وجعل الأمور قسمين: قسماً يمكن العبد السعي في تحصيله أو تحصيل ما يمكن منه، أو دفعه أو تخفيفه فهذا يبدي فيه العبد مجهوده ويستعين بمعبوده. وقسماً لا يمكن فيه ذلك، فهذا يطمئن له العبد ويرضى ويسلم، ولا ريب أن مراعاة هذا الأصل سبب للسرور وزوال الهم والغم.
فصل(/2)
5- ومن أكبر الأسباب لانشراح الصدر وطمأنينته (الإكثار من ذكر الله) فإن لذلك تأثيراً عجيباً في انشراح الصدر وطمأنينته، وزوال همه وغمه، قال تعالى: ألا بذكر الله تطمئن القلوب [الرعد:28]، فلذكر الله أثر عظيم في حصول هذا المطلوب لخاصيته، ولما يرجوه العبد من ثوابه وأجره.
6- وكذلك التحدث بنعم الله الظاهرة والباطنة، فإن معرفتها والتحدث بها يدفع الله به الهم والغم، ويحث العبد على الشكر الذي هو أرفع المراتب وأعلاها حتى ولو كان العبد في حالة فقر أو مرض أو غيرهما من أنواع البلايا. فإنه إذا قابل بين نعم الله عليه - التي لا يحصى لها عد ولا حساب - وبين ما أصابه من مكروه، لم يكن للمكروه إلى النعم نسبة.
بل المكروه والمصائب إذا ابتلى الله بها العبد، وأدى فيها وظيفة الصبر والرضى والتسليم، هانت وطأتها، وخفت مؤنتها، وكان تأميل العبد لأجرها وثوابها والتعبد لله بالقيام بوظيفة الصبر والرضى، يدع الأشياء المرة حلوة فتنسيه حلاوةُ أجرها مرارة صبرها.
7- ومن أنفع الأشياء في هذا الموضع استعمال ما أرشد إليه النبي في الحديث الصحيح حيث قال: { انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم } [رواه البخاري]، فإن العبد إذا نصب بين عينيه هذا الملحظ الجليل رآه يفوق جمعاً كثيراً من الخلق في العافية وتوابعها، وفي الرزق وتوابعه مهما بلغت به الحال، فيزول قلقه وهمه وغمه، ويزداد سروره واغتباطه بنعم الله التي فاق فيها غيره ممن هو دونه فيها.
وكلما طال تأمل العبد بنعم الله الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، رأى ربه قد أعطاه خيراً ودفع عنه شروراً متعددة، ولا شك أن هذا يدفع الهموم والغموم، ويوجب الفرح والسرور.
فصل
8- ومن الأسباب الموجبة للسرور وزوال الهم والغم السعي في إزالة الأسباب الجالبة للهموم وفي تحصيل الأسباب الجالبة للسرور وذلك بنسيان ما مضى عليه من المكاره التي لا يمكنه ردها، ومعرفته أن اشتغال فكره فيها من باب العبث والمحال، وأن ذلك حمق وجنون، فيجاهد قلبه عن التفكر فيها وكذلك يجاهد قلبه عن قلقه لما يستقبله، مما يتوهمه من فقر أو خوف أو غيرهما من المكاره التي يتخيلها في مستقبل حياته. فيعلم أن الأمور المستقبلة مجهول ما يقع فيها من خير وشر وآمال وآلام، وأنها بيد العزيز الحكيم، ليس بيد العباد منها شيء إلا السعي في تحصيل خيراتها، ودفع مضراتها، ويعلم العبد أنه إذا صرف فكره عن قلقه من أجل مستقبل أمره، واتكل على ربه في إصلاحه، واطمأن إليه في ذلك، إذا فعل ذلك اطمأن قلبه وصلحت أحواله، وزال عنه همه وقلقه.
9- ومن أنفع ما يكون في ملاحظة مستقبل الأمور استعمال هذا الدعاء الذي كان النبي يدعو به: { اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر } [رواه مسلم]. وكذلك قوله: { اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عينْ وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت } [رواه أبو داود بإسناد صحيح]. فإذا لهج العبد بهذا الدعاء الذي فيه صلاح مستقبله الديني والدنيوي بقلب حاضر، ونية صادقة، مع اجتهاده فيما يحقق ذلك، حقق الله له ما دعاه ورجاه وعمل له، وانقلب همه فرحاً وسروراً.
فصل
10- ومن أنفع الأسباب لزوال القلق والهموم إذا حصل على العبد شئ من النكبات، أن يسعى في تخفيفها بأن يقّدِر أسوأ الاحتمالات التي ينتهي إليها الأمر، ويوطن على ذلك نفسه، فإذا فعل ذلك فليسع إلى تخفيف ما يمكن تخفيفه بحسب الإمكان، فبهذا التوطين وبهذا السعي النافع، تزول همومه وغمومه، ويكون بذل ذلك السعي في جلب المنافع، وفد دفع المضار الميسورة للعبد.
فإذا حلت به أسباب الخوف، وأسباب الأسقام، وأسباب الفقر والعدم لما يحبه من المحبوبات المتنوعة، فليتلق ذلك بطمأنينة وتوطين للنفس عليها، بل على أشد ما يمكن منها، فإن توطين النفس على احتمال المكاره، يهونها ويزيل شدتها، وخصوصاً إذا أشغل نفسه بمدافعتها بحسب مقدوره، فيجتمع في حقه توطين النفس مع السعي النافع الذي يشغل عن الاهتمام بالمصائب، ويجاهد نفسه على تجديد قوة المقاومة للمكاره، مع اعتماده في ذلك على الله وحسن الثقة به ولا ريب أن لهذه الأمور فائدتها العظمى في حصول السرور وانشراح الصدور، مع ما يؤمله العبد من الثواب العاجل والآجل، وهذا مشاهد مجرب، ووقائعه ممن جربه كثيرة جداً.
فصل
11- ومن أعظم العلاجات لأمراض القلب العصبية، بل وأيضاً للأمراض البدنية: قوة القلب وعدم انزعاجه وانفعاله للأوهام والخيالات التي تجلبها الأفكار السيئة. والغضب والتشوش من الأسباب المؤلمة ومن توقع حدوث المكاره وزوال المحاب، أوقعه ذلك في الهموم والغموم والأمراض القلبية والبدنية، والانهيار العصبي الذي له آثاره السيئة التي قد شاهد الناس مضارها الكثيرة.(/3)
12- ومتى اعتمد القلب على الله، وتوكل عليه، ولم يستسلم للأوهام ولا ملكته الخيالات السيئة، ووثق بالله وطمع في فضله، اندفعت عنه بذلك الهموم والغموم، وزالت عنه كثير من الأسقام البدنية والقلبية، وحصل للقلب من القوة والانشراح والسرور ما لا يمكن التعبير عنه، فكم ملئت المستشفيات من مرضى الأوهام والخيالات الفاسدة، وكم أثَّرت هذه الأمور على قلوب كثيرين من الأقوياء، فضلاً عن الضعفاء، وكم أدت إلى الحمق والجنون، والمعافى من عافاه الله ووفقه لجهاد نفسه لتحصيل الأسباب النافعة المقوية للقلب، الدافعة لقلقه، قال تعالى: ومن يتوكل على الله فهو حسبه [الطلاق:3]، أي كافيه جميع ما يهمه من أمر دينه ودنياه.
فالمتوكل على الله قوي القلب لا تؤثر فيه الأوهام، ولا تزعجه الحوادث لعلمه أن ذلك من ضعف النفس، ومن الخور والخوف الذي لا حقيقة له، ويعلم مع ذلك أن الله قد تكفل لمن توكل عليه بالكفاية التامة، فيثق بالله ويطمئن لوعده، فيزول همه وقلقه، ويتبدل عسره يسراً، وترحه فرحاً [الترح: الحزن]، وخوفه أمناً، فنسأله تعالى العافية وأن يتفضل علينا بقوة القلب وثباته، وبالتوكل الكامل الذي تكفل الله لأهله بكل خير، ودفع كل مكروه وضير [الضير: الضرر].
فصل
13- وفي قول النبي : { لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر } [رواه مسلم]، فائدتان عظيمتان:
إحداهما: الإرشاد إلى معاملة الزوجة والقريب والصاحب والمعامل، وكل من بينك وبينه علاقة واتصال، وأنه ينبغي أن توطن نفسك على أنه لا بد أن يكون فيه عيب أو نقص أو أمر تكرهه، فإذا وجدت ذلك، فقارن بين هذا وبين ما يجب عليك أو ينبغي لك من قوة الاتصال والإبقاء على المحبة، بتذكر ما فيه من المحاسن، والمقاصد الخاصة والعامة، وبهذا الإغضاء عن المساوئ وملاحظة المحاسن، تدوم الصحبة والاتصال وتتم الراحة وتحصل لك.
الفائدة الثانية: وهي زوال الهم والقلق، وبقاء الصفاء، والمداومة على القيام بالحقوق الواجبة والمستحبة: وحصول الراحة بين الطرفين، ومن لم يسترشد بهذا الذي ذكره النبي - بل عكس القضية فلحظ المساوئ، وعمي عن المحاسن -، فلابد أن يقلق، ولابد أن يتكدر ما بينه وبين من يتصل به من المحبة، ويتقطع كثير من الحقوق التي على كلٍ منهما المحافظة عليها.
وكثير من الناس ذوي الهمم العالية يوطنون أنفسهم عند وقوع الكوارث والمزعجات على الصبر والطمأنينة. لكن عند الأمور التافهة البسيطة يقلقون، ويتكدر الصفاء، والسبب في هذا أنهم وطنوا نفوسهم عند الأمور الكبار، وتركوها عند الأمور الصغار فضرتهم وأثرت في راحتهم، فالحازم يوطن نفسه على الأمور القليلة والكبيرة ويسأل الله الإعانة عليها، وأن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، فعند ذلك يسهل عليه الصغير، كما سهل عليه الكبير. ويبقى مطمئن النفس ساكن القلب مستريحاً.
فصل
14- العاقل يعلم أن حياته الصحيحة حياة السعادة والطمأنينة وأنها قصيرة جداً، فلا ينبغي له أن يقصرها بالهم والاسترسال مع الأكدار فإن ذلك ضد الحياة الصحيحة، فيشح بحياته أن يذهب كثير منها نهباً للهموم والأكدار، ولا فرق في هذا بين البر والفاجر، ولكن المؤمن له من التحقق بهذا الوصف الحظ الأوفر، والنصيب النافع العاجل والآجل.
15- وينبغي أيضاً إذا أصابه مكروه أو خاف منه أن يقارن بين بقية النعم الحاصلة له دينية أو دنيوية، وبين ما أصابه من مكروه فعند المقارنة يتضح كثرة ما هو فيه من النعم، واضمحلال ما أصابه من المكاره.
وكذلك يقارن بين ما يخافه من حدوث ضرر عليه، وبين الاحتمالات الكثيرة في السلامة منها فلا يدع الاحتمال الضعيف يغلب الاحتمالات الكثيرة القوية وبذلك يزول همه وخوفه، ويقدر أعظم ما يكون من الاحتمالات التي يمكن أن تصيبه، فيوطن نفسه لحدوثها إن حدثت، ويسعى في دفع ما لم يقع منها وفي رفع ما وقع أو تخفيفه.
16- ومن الأمور النافعة أن تعرف أن أذية الناس لك وخصوصاً في الأقوال السيئة، لا تضرك بل تضرهم، إلا إن أشغلت نفسك في الاهتمام بها، وسوغت لها أن تملك مشاعرك، فعند ذلك تضرك كما ضرتهم، فإن أنت لم تضع لها بالاً لم تضرك شيئاً.
17- واعلم أن حياتك تبع لأفكارك، فإن كانت أفكاراً فيما يعود عليك نفعه في دين أو دنيا فحياتك طيبة سعيدة. وإلا فالأمر بالعكس.
18- ومن أنفع الأمور لطرد الهم أن توطن نفسك على أن لا تطلب الشكر إلا من الله، فإذا أحسنت إلى من له حق عليك أو من ليس له حق، فاعلم أن هذا معاملة منك مع الله. فلا تبال بشكر من أنعمت عليه، كما قال تعالى في حق خواص خلقه: إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً [الإنسان:9].(/4)
ويتأكد هذا في معاملة الأهل والأولاد ومن قوة اتصالك بهم فمتى وطنت نفسك على إلقاء الشر عنهم، فقد أرحت واسترحت، ومن دواعي الراحة أخذ الفضائل والعمل عليها بحسب الداعي النفسي دون التكلف الذي يقلقك، وتعود على أدراجك خائباً من حصول الفضيلة، حيث سلكت الطريق الملتوي، وهذا من الحكمة، وأن تتخذ من الأمور الكَدِرَة أموراً صافية حلوة وبذلك يزيد صفاء اللذات، وتزول الأكدار.
19- اجعل الأمور النافعة نصب عينيك واعمل على تحقيقها، ولا تلتفت إلى الأمور الضارة لتلهو بذلك عن الأسباب الجالبة للهم والحزن واستعن بالراحة وإجماع النفس على الأعمال المهمة.
20- ومن الأمور النافعة حسم الأعمال في الحال، والتفرغ في المستقبل لأن الأعمال إذا لم تحسم اجتمع عليك بقية الأعمال السابقة، وانضافت إليها الأعمال اللاحقة، فتشتد وطأتها، فإذا حسمت كل شيء بوقته أتيت الأمور المستقبلة بقوة تفكير وقوة عمل.
21- وينبغي أن تتخير من الأعمال النافعة الأهم فالأهم، وميز بين ما تميل نفسك إليه وتشتد رغبتك فيه، فإن ضده يحدث السآمة والملل والكدر، واستعن على ذلك بالفكر الصحيح والمشاورة، فما ندم من استشار، وادرس ما تريد فعله درساً دقيقاً، فإذا تحققت المصلحة وعزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين.
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/5)
الوسائل النبوية في الدعوة إلى الله
(الشبكة الإسلامية) يسري شاهين
أرسل الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وأمره بالبلاغ والبيان، وإيصال الدعوة إلى كل من يمكنه إيصالها إليه ، فقام النبي بهذا الأمر حق القيام، ولم يدع صلى الله عليه وسلم سبيلا يمكن من خلاله أن يدعو إلى الله إلا سلكه ، ولا طريقاً إلا ولجه، فأرشد الدعاة بعده إلى استعمال كل وسيلة مهما تيسرت أسبابها وكانت مشروعة ، ومن الوسائل التي استخدمها المصطفى عليه الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله :
أولا: الدعوة الفردية
فكان في بداية الدعوة يتلمس أصحاب العقول الوافرة والأنفس الزاكية والأخلاق الحميدة فيعرض عليهم دعوته ، ويشرح لهم أصولها، ويدعوهم للإيمان بالله، فاستجاب له البعض الذين كانوا نواة أمة الإسلام : كأبي بكر الصديق ، وعلي بن أبي طالب وأمنا البرة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها .
وكان غالب استخدام هذا النوع من الدعوة في بداياتها في مكة كما حدث مع الطفيل الدوسي ، وأبي ذر الغفاري ، وغيرهما .. ولم ينقطع هذا الأسلوب في الدعوة بالهجرة، ولكنه بقي طريقاً من طرق الدعوة إليه سبحانه لا ينقطع أبدًا، ويمكن التمثيل له بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم لجاره اليهودي عند عيادته في مرضه فعرض عليه الإسلام فأسلم .
ثانيا : الدعوة الجماعية
وكانت نواتها أيضا في مكة حيث كان يدعو الرهط من قريش ، ثم كانت مع وفد الأنصار في العقبتين الأولى والثانية ، ثم استمر ذلك بعد دخول عدد من المدعوين في الإسلام ، فكان يلقاهم النبي في دار الأرقم .. وفي المدينة أخذت هذه الوسيلة من وسائل الدعوة صورًا عدة ، منها الخطابة ، والمواعظ ، وغيرها.
ثالثا : الوعظ والتذكير
وقد كان المصطفى عليه الصلاة والسلام يتخول أصحابه بالموعظة مخافة السآمة والملل ، وكان ينتهز كل فرصة مواتية تجمع المسلين ليوجه إليهم رسائل وعظية وتذكيرية نافعة، منها ما رواه الترمذي من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : " وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وزرفت منها العيون فقلنا كأنها موعظة مودع فأوصنا ، فقال : أوصيكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد ، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ". رواه الترمذي وقال حسن صحيح
رابعا: القصص والأمثال
وهذه وسيلة من أنفع الوسائل وأيسرها على قلب المدعو وسمعه ، وهي وسيلة محببة للكبار والصغار وأثرها يبقى في القلب أكبر وقت ، واستخراج الفوائد منها والمقاصد من ورائها أمر يسير لذلك استخدمها القرآن الكريم للتعليم وتثبيت قلوب المؤمنين كما قال تعالى : " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين "، وقال سبحانه : " وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين".
وكما ملأت قصص الأنبياء السابقين والأمم السالفة كتاب الله ، كذلك ذخرت سنة المصطفى بهذهالوسيلة من وسائل الدعوة كما في حديث الثلاثة أصحاب الغار ، وقصة الأبرص والأقرع والأعمى ، وقصة صاحبي جرة الذهب ، وقصة المتداينين من بني إسرائيل .. وغيرها من القصص المليئة بالعبر والعظات والتي تعلم منها الصحابة وما زلنا نتعلم نحن أيضا منها.
خامسا : إرسال الرسل
فكان صلى الله عليه وسلم يرسل من علماء الصحابة رسلا إلى البلاد ليعلموهم دين الله عز وجل ، وكان هذا الأمر مبكراً فأرسل مصعب بن عمير إلى المدينة، ولم يمنعه ماحصل لأصحابه في بئر معونة وبعث الرجيع من أن يستمر في هذا النهج الصالح والطريق النافع ، فأرسل معاذاً إلى اليمن ، وأبا موسى الأشعري وعلي بن أبي طالب كذلك إلى اليمن ، وغيرهم إلى بلدان أخرى.
سادسا : الكتابة
فكاتب النبي صلى الله عليه وسلم الملوك والرؤساء ، داعياً إياهم إلى الدخول في دين الله ، والنجاة بأنفسهم وأقوامهم فأرسل إلى هرقل عظيم الروم ، وإلى كسرى ملك الفرس ، وإلى النجاشي ملك مصر ، وإلى أكثر الملوك في عهده، وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه: "أن نبي الله (صلى الله عليه وسلم) كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي، وإلى كل جبار ، يدعوهم إلى الله تعالى .."
سابعا : تأليف الناس ببذل المال
ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال : "ما سئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شيئاً قط فقال : لا" .
وفيه عن أنس عن مالك رضي الله عنه قال: "ما سئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الإسلام شيئاً إلا أعطاه قال: فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاءً من لايخشى الفاقة فقال أنس: إن الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها" .(/1)
وروى مسلم أيضا: "أنه عليه الصلاة والسلام أعطى صفوان بن أمية - يوم حنين - مائة من النعم، ثم مائة، ثم مائة. قال ابن شهاب حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان قال: والله لقد أعطاني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ".
ثامنا: الجهاد في سبيل الله عز وجل
قال الشيخ ابن باز يرحمه الله : وهو أعظم الوسائل التي استخدمها (صلى الله عليه وسلم) في الدعوة إلى الله عز وجل، وهو من أعظم وسائل الدعوة الباقية إلى يوم القيامة، قال عليه الصلاة والسلام (بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي) [أحمد في المسند عن ابن عمر 2/29 /50]، فالمقصود من الجهاد إقامة دين الله على وجه الأرض ونفي الفتنة والشرك عنها واقتلاع جذور الطواغيت الذين يحولون بين الحق والناس: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ...][البقرة: 193]، وقال تعالى: [وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .. [[الأنفال: 39 ].
وقد كان قتاله (صلى الله عليه وسلم) كله جهاداً لإعلاء كلمة الله ودعوة للخير، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما قاتل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قوماً حتى يدعوهم" [المسند 1/231]، وفي رواية: " ما قاتل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قوماً قط إلا دعاهم". وقال لعلي رضي الله عنه عندما بعثه في غزوة خيبر: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام ...." [البخاري ح: 3701 ]، وفي حديث بريدة: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا أمر أحداً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولاتغلوا، ولاتغدروا، ولاتمثلوا ولاتقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال- فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم.." [مسلم ح 1731 ]،
"فالجهاد ضرورة للدعوة سواءً أكانت دار الإسلام آمنة أم مهددة من جيرانها، فالإسلام حين يسعى إلى السلم، لا يقصد أن يؤمن الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية، إنما هو يريد حالة السلم التي يكون الدين فيها كله لله، أي تكون عبودية الناس كلهم فيها لله، والتي لا يتخذ فيها الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله..
وقد كانت هناك أساليب أخرى استخدمها رسول الله صلىالله عليه وسلم في دعوته ولكن فيما ذكرناه غنية نستدل بها على أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يستخدم كل ما أتيح له من أسباب وهيئ إليه من وسائل في دعوته إلى ربه تبارك وتعالى ، وفي هذا تعليم للدعاة بعده ليسلكوا سبيله ويسيروا على دربه " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المش(/2)
الوسط المطلوب
خالد بن سليمان العامر 7/6/1424
05/08/2003
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد...
فإن دين الإسلام دين الوسطية والاعتدال في الأمور كلها، والوسطية هي اللفظ المقبول بين الإفراط والتفريط وبين الغلو والتقصير، والوسطية هي المقبولة بين الطرفين.
ولقد نهى الله عن الغلو في كتابه العزيز في قوله ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق)، ( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل).
الغلو هو مجاوزة الحد في القول والعمل والاعتقاد.
والتفريط هو عدم القيام بالواجب تهاوناً وكسلاً.
والحق هو الوسط؛ فلا مجاوزة للحد ولا تقصيراً عن الواجب، وهو أن تفعل ما أراد الله على قدر الطاقة والإمكان، وتترك ما نهى الله على شكل الإجمال.
فالعلم على قدر الطاقة والاستطاعة، وأما الترك فهو على العزم "ما أمرتكم به فأتوا منها ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه" فجعل الأمر مربوطاً بالاستطاعة لكون بعض الناس قد يعجز عن بعض العمل، لكنه عزم في النهي؛ فقال: "فاجتنبوه" لعلمه أن كل أحد يقدر أن يترك المحرمات.
والإنسان مطالب بأن يعمل على قدر طاقته ووسعه ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) ثم قال ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) فالله – سبحانه- قد كلف الناس على قدر طاقتهم ووسعهم ولم يحملهم مالا يطيقون، فمن عمل بهذه الآية حق العمل؛ فقد قام بالتوسط، فهو يعمل بالدين بلا غلو ولا تقصير.
ويستدل البعض بهذه الآية عندما يلام على تقصيره في بعض الواجبات، وهو لم يعمل ما بوسعه؛ بل قصر عن الوسع والطاقة. والمعنى الصحيح أن الله قد كلفنا وسعنا وطاقتنا، فلا نطالب بما زاد عليها ولكن لا نقصر فيها.
والإسلام يدعو إلى التوسط في العبادة فلا يكلف الإنسان مالا يطيق، يقول عليه الصلاة والسلام "اكلفوا من الأعمال ما تطيقون"، "هلك المتنطعون" وفي نفس الوقت لا يتهاون في العبادة ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون)، (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً).
إن تكليف النفس ما لا تطيق أمر مذموم، والتهاون في العبادات أمر مذموم أيضاً، والمطلوب الوسط، وفقدان التوسط في حياة المسلم يؤدي إلى الانقطاع عن الدين كله أو بعضه "إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى"، "أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل"، "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق".
ومن حكمة الله تعالى أن جعلنا نقرأ في كل ركعة من الصلاة قوله –تعالى-: ( اهدنا الصراط المستقيم) الصراط المستقيم هو الدين كله، أو القرآن أو هو محمد عليه الصلاة والسلام، وهو في الحقيقة كل هذه؛ فلا تنافي بينها وهو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهم الوسط بين المغضوب عليهم الذين عرفوا الحق ولم يعملوا به؛ ويمثلهم اليهود، وبين من عبد الله على ضلالة وعمى؛ ويمثلهم النصارى، فالمستقيم هو الوسط بين هذين القسمين، يعبد الله على علم وبصيرة، والأمة الإسلامية أمة الوسط، ولقد وسمها الله بميسم الوسط؛ فقال: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ) يقول القرطبي -رحمه الله-: "ولما كان التوسط مجانباً للغلو والتقصير؛ كان محموداً أي هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم، ولم تقصر تقصير اليهود في أنبيائهم" .أ.هـ
والوسط خير كله يقول ابن كثير -رحمه الله-: "والوسط ها هنا الخيار والأجود كما يقال قريش أوسط العرب نسباً وداراً -أي خيارها- وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسطاً في قومه -أي أشرافهم نسباً- ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله الأمة وسطاً خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب".أ.هـ
أهل الإسلام الحق وسط في الإيمان بين الخوارج الذين كفّروا مرتكب الكبيرة، والمعتزلة الذين جعلوه بمنزلة بين المنزلتين، وبين أهل الإرجاء الذين قالوا " لا يضر مع الإيمان ذنب" فقالوا فيه يعني مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته أو مؤمن ناقص الإيمان.
وسط أيضاً في باب الأسماء والصفات؛ فهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله -عليه الصلاة والسلام- بدون تشبيه ولا تمثيل، إثباتاً يليق بجلاله وعظمته، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه وما نفاه عنه نبيه -عليه الصلاة والسلام -بدون تعطيل.
( إثباتاً بلا تمثيل؛ وتنزيهاً بلا تعطيل).(/1)
أمة الإسلام وسط في تعاملها مع الدنيا والآخرة، فلا تغوص في وحل الدنيا وتترك الآخرة، ولا تتجرد للآخرة وتنسى عمارة الدنيا (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفره ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب) فانظر كيف ربط بين عمارة الأرض وبين عبادته أيضاً ويقول –تعالى-: (... فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق. ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب) ذكر الله هذين القسمين التارك للآخرة وهو خاطئ، والثاني الوسط الذي أعطى الدنيا والآخرة حقيهما وهو الوسط الحق، وترك الثالث لكونه معروفاً وهو أيضاً نادر الوقوع وهو المقبل على الآخرة التارك للدنيا.
( وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك).
ووسط أيضاً في التعامل؛ فلا يكون الإنسان حديداً صلفاً لا يؤلف "فإن الله يبغض كل عتل جواض مستكبر؟. ولا يكون أيضاً ذليلاً مهاناً يساق كم تساق الشاة الجماء.
عليك بأوسط الأمور فإنها نجاة ولا تركب ذولولاً ولا صعباً
ووسط في التعامل مع الزوجة والأولاد؛ فلا يكون مقوداً حسب الطلب، ولا يكون أيضاً جماعاً مناعاً؛ إنما يكون كما قال عليه الصلاة والسلام "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" ليس معنى الخيرية هنا أن ينفذ كل الطلبات ولا يمنع كل الحاجات، لا؛ بل يعمل ما فيه الخير لهم سواء بالمنع أو العطاء لذلك يوم أكثرت أزواج النبي عليه الصلاة والسلام - ورضي الله عنهن- عليه من طلبات الدنيا وطلب النفقة وهو يعلم أن هذا ليس خيراً لهن خيَّرهن، يقول تعالى ( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً وإن كنتن تردن الله و رسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً) فلم يعطهن ما أردن مباشرة، ولم يفارقهن مباشرة أيضاً؛ بل خيرَّهن عليه الصلاة والسلام بين أن يبقين عنده على ما هو عليه، أو أن يفارقهن بعد أن يمتعهن مما عنده، وقد اخترن الله ورسوله والدار الآخرة -فرضي الله عنهن وأرضاهن جميعهن.
إن الوسطية والاعتدال حفظ لهذا الدين من تيارات هي في الحقيقة هادمة له، ولو فقد مع هذه التيارات أهل الوسط والاعتدال؛ لحصل هذا الدين ما حصل لغيره من الأديان الأخرى، وهذه التيارات إما أن تكون غالية متشددة تُخرج الإسلام عن وسطيته وتُذهب عنه رونقه ونقائه وصفاته وسماحته إلى الشطط والتشدد، وتكليف النفس مالا تطيق، وتحميل بعض القضايا مالا تحتمل، وتضخيم قضايا أخرى هي في الحقيقة أقل مما ضخمت له، حتى وصل الحال عند البعض إلى تبديع الناس وتفسيقهم، وفي بعض الأحيان إلى تكفيرهم. وهذه التوجهات أو التيارات ليست على وتيرة واحدة؛ بل هي متناقضة في المقاصد ولكنها تنحو نفس المنحى من التشدد والتعصب وسرعة الحكم على المخالف.
وإما أن تكون متراخية متساهلة همها متعتها، كلما قيل لهم أمر من أمور الشريعة مبنياً على الكتاب أو السنة؛ قالوا أنت متشدد أنت...، تريد أن تعقد الناس وتكبت حرياتهم...، أنت متطرف؛ فيصمون أهل الإسلام بأوصاف عامة، ولو جلست تريد التحقق من هذا الوصف؛ لظهر التجني الواضح على الشريعة وأحكامها، ولا تكاد ترى فيهم متمسكاً بالإسلام إلا قليلاً، بل زاد الأمر عند بعضهم إلى أن سار في ركاب الغرب معجباً بحضارتهم، تاركاً الإسلام وتعاليمه وراءه ظهرياً.
والحق هو الوسط؛ فلا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تقصير، وهو تطبيق الكتاب والسنة على الحقيقة، والعمل بكل النصوص الشرعية، وهذا لا يتأتى إلا من العلماء الربانيين الراسخين، الذين يعرفون مجريات الأمور وتغيرات الأحوال، ويقدرون للفتوى قدرها، ويقول عليه الصلاة والسلام "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين" يقول ابن القيم -رحمه الله-: "فأخبر أن الغالين يحرفون ما جاء به، والمبطلين ينتحلن بباطلهم غير ما كان عليه، والجاهلين يأولونه على غير تأويله وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاث، فلولا أن الله يقيم لدينه من ينفي عنه ذلك لجرى عليه ما جرى على أديان الأنبياء قبله من هؤلاء .أ.هـ.
وإنما ظهر ببلادنا من أمور منكرة ينكرها كل صاحب شرع وعقل، هي إفراز من إفرازات التشدد في الدين، وتحميل بعض قضاياه مالا تحتمل، وهذه الأعمال ما ظهرت إلا من الفهم الخاطئ والقاصر للنصوص، وهي أيضاً من توجيهات من خرج عن حكم العدل والوسطية في حمل هذا الدين والعلم؛ فهذا (تحريف الغالين).
وظهر بالمقابل من أراد أن ينسب هذه التفجيرات والتخريب للدين ويطلب بمطالب مؤداها تنحية الدين وإبعاده ومحاربة أهله؛ وهذا يمثل (انتحال المبطلين).(/2)
لذا فلا بد من إعطاء العدول -الذين يحملون هذا الدين وهذا العلم الحمل- المكانة اللائقة بهم؛ فهم ورثة النبي -عليه الصلاة والسلام- وإعطائهم المكانة عند الكبير والصغير والذكر والأنثى، وفتح المجال لهم في كل القنوات المتاحة من تلفاز وصحافة وغيرها؛ لإيصال الكلمة الصادقة كلمة "العدل" "والوسطية" إلى كل بيت وإلى كل واحد إن شاء الله تعالى.
إن الناس -والشباب على وجه الخصوص- إذا لم يجدوا الموجه الصادق، والداعية المخلص، والعالم الرباني، والفهم الصحيح للدين، سوف يذهبون هنا وهناك بالأفكار والتصرفات إلى أمور لا تحمد عقباها فهل ننجح حقيقة في ذلك؟
نسأل الله الكريم أن يمن علينا جميعاً بالعودة الصادقة للدين وأن يحمينا وجميع المسلمين من مضلات الفتن، وأن يحمي بلادنا وبلاد المسلمين من كل مكروه، وأن يجمع كلمة أئمة المسلمين وعلماء المسلمين وشعوب المسلمين على البر والتقوى، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.(/3)
الوسطية في الاسلام مفهومها ومظاهرها
اسلام أون لاين
تاريخ الإجابة 29/04/2006
نص السؤال
يتنادي كثير من العلماء بالوسطية وعلى رأسهم فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي فمامفهوم الوسطية وما مظاهرها في الإسلام وتأثير ذلك على الفرد والمجتمع؟
اسم المفتي الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي
نص الإجابة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد
الوسطية من أبرز خصائص الإسلام، "، ويعبر عنها أيضا بـ "التوازن"، ونعني بها التوسط أو التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين، بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير، ويطرد الطرف المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقه، ويطغى على مقابله ويحيف عليه.
مثال الأطراف المتقابلة أو المتضادة: الربانية والإنسانية، الروحية والمادية، الأخروية والدنيوية، الوحي والعقل، الماضوية والمستقبلية، الفردية والجماعية، الواقعية والمثالية، الثبات والتغير، وما شابهها. ومعنى التوازن بينها: أن يفسح لكل طرف منها مجاله، ويعطي حقه "بالقسط" أو "بالقسطاس المستقيم"، بلا وكس ولا شطط، ولا غلو ولا تقصير، ولا طغيان ولا إخسار. كما أشار إلى ذلك كتاب الله بقوله: (والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان).
عجز الإنسان عن إنشاء نظام متوازن:
وهذا في الحقيقة أكبر من أن يقدر عليه الإنسان، بعقله المحدود، وعلمه القاصر، فضلا عن تأثير ميوله، ونزعاته الشخصية، والأسرية والحزبية، والإقليمية والعنصرية وغلبتها عليه من حيث يشعر أو لا يشعر.
ولهذا لا يخلو منهج أو نظام يصنعه بشر ـ فرد أو جماعة ـ من الإفراط أو التفريط، كما يدل على ذلك استقراء الواقع وقراءة التاريخ.
إن القادر على إعطاء كل شيء في الوجود ـ ماديا كان أو معنويا ـ حقه بحساب وميزان، هو الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا، وأحاط بكل شيء خبرا، وأحصى كل شيء عددا، ووسع كل شيء رحمة وعلما.
ولا عجب أن نرى هذا التوازن الدقيق في خلق الله، وفي أمر الله جميعا، فهو صاحب الخلق والأمر، فظاهرة التوازن، تبدو فيما أمر الله به، وشرعه من الهدى ودين الحق، أي: في نظام الإسلام ومنهجه للحياة، كما تبدو في هذا الكون الذي أبدعته يد الله فأتقنت فيه كل شيء.
من مظاهر الوسطية في الإسلام:
وإذا كان للوسطية كل هذه المزايا، فلا عجب أن تتجلى واضحة في كل جوانب الإسلام، نظرية وعملية، تربوية وتشريعية.
وسطية الإسلام في العبادات والشعائر:
والإسلام وسط في عباداته، وشعائره بين الأديان، والنحل التي ألغت الجانب "الرباني" ـ جانب العبادة والتنسك والتأله ـ من فلسفتها وواجباتها، كالبوذية التي اقتصرت فروضها على الجانب الأخلاقي الإنساني وحده… وبين الأديان والنحل التي طلبت من أتباعها التفرغ للعبادة والانقطاع عن الحياة والإنتاج، كالرهبانية المسيحية.
ولعل أوضح دليل نذكره هنا: الآيات الآمرة بصلاة الجمعة:
(يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون).
فهذا هو شأن المسلم مع الدين والحياة حتى في يوم الجمعة: بيع وعمل للدنيا قبل الصلاة، ثم سعي إلى ذكر الله وإلى الصلاة، وترك للبيع والشراء وما أشبهه من مشاغل الحياة، ثم انتشار في الأرض وابتغاء الرزق من جديد بعد انقضاء الصلاة، مع عدم الغفلة عن ذكر الله كثيرا في كل حال، فهو أساس الفلاح والنجاح.
وسطية الإسلام في الأخلاق:
والإسلام وسط في الأخلاق بين غلاة المثاليين الذين تخيلوا الإنسان ملاكا أو شبه ملاك، فوضعوا له من القيم والآداب ما لا يمكن له، وبين غلاة الواقعيين الذين حسبوه حيوانا أو كالحيوان، فأرادوا له من السلوك ما لا يليق به فأولئك أحسنوا الظن بالفطرة الإنسانية فاعتبروها خيرا محضا، وهؤلاء أساءوا بها الظن، فعدوها شرا خالصا، وكانت نظرة الإسلام وسطا بين أولئك وهؤلاء.
فالإنسان في نظر الإسلام مخلوق مركب فيه العقل، وفيه الشهوة، فيه غريزة الحيوان، وروحانية الملاك، قد هدى للنجدين، وتهيأ بفطرته لسلوك السبيلين، إما شاكرا وإما كفورا. فيه استعداد للفجور استعداده للتقوى. ومهمته جهاد نفسه ورياضتها حتى تتزكى: (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها).
وسطية الإسلام في التشريع:
والإسلام وسط كذلك في تشريعه ونظامه القانوني والاجتماعي، وأبرز ما تتجلى فيه الوسطية هنا: مجال الفردية والجماعية
التوازن بين الفردية والجماعية:
وفي النظام الإسلامي تلتقي الفردية والجماعية في صورة متزنة رائعة، تتوازن فيها حرية الفرد ومصلحة الجماعة، وتتكافأ فيها الحقوق والواجبات، وتتوزع فيها المغانم والتبعات بالقسطاس المستقيم.(/1)
لقد تخبطت الفلسفات والمذاهب من قديم، في قضية الفرد والمجتمع والعلاقة بينهما: هل الفرد هو الأصل والمجتمع طارئ مفروض عليه، لأن المجتمع إنما يتكون من الأفراد؟ أم المجتمع هو الأساس والفرد نافلة، لأن الفرد بدون المجتمع مادة غفل (خام)، والمجتمع هو الذي يشكلها ويعطيها صورتها، فالمجتمع هو الذي يورث الفرد ثقافته وآدابه وعاداته وغير ذلك؟
من الناس من جنح إلى هذا، ومنهم من مال إلى ذلك، واحتد الخلاف بين الفلاسفة والمشرعين والاجتماعيين والاقتصاديين والسياسيين في هذه القضية، فلم يصلوا إلى نتيجة.
كان (أرسطو) يؤمن بفردية الإنسان، ويحبذ النظام الذي يقوم على الفردية، وكان أستاذه (أفلاطون) يؤمن بالجماعية ـ الاشتراكية ـ كما يتضح ذلك في كتابه (الجمهورية).
وبهذا لم تستطع الفلسفة الإغريقية ـ أشهر الفلسفات البشرية القديمة ـ أن تحل هذه العقدة، وأن تخرج الناس من هذه الحيرة، كشأن الفلسفة دائما في كل القضايا الكبيرة، تعطي الرأي وضده، ولا يكاد أقطابها يتفقون على حقيقة، حتى قال أحد أساتذتها: الفلسفة لا رأي لها!!
وفي فارس ظهر مذهبان متناقضان: أحدهما فردي ويدعو إلى التقشف والزهد، والامتناع عن الزواج، ليعجل الإنسان بفناء العالم، الذي يعج بالشرور والآلام، وهذا هو مذهب "ماني" ويمثل أقصى الفردية.
وقام في مقابله مذهب آخر يمثل أقصى (الجماعية) هو مذهب "مزدك" الذي دعا إلى شيوعية الأموال والنساء، وتبعه كثير من الغوغاء، الذين عاثوا في الأرض فسادا، وضجت منهم البلاد والعباد.
وقد جاءت الأديان السماوية لتقيم التوازن في الحياة، والقسط بين الناس، كما قرر ذلك القرآن الكريم، ولكن أتباعها سرعان ما حرفوها وبدلوا كلمات الله، ففقدت بذلك وظيفتها في الحياة، حين فقدت ميزتها الأولى وهي: ربانية المصدر.
لهذا، لم تقدم الأديان السابقة قبل الإسلام حلا لهذه المشكلة، فقد كان اليهود الذين تفرقوا في الأرض يؤيدون الفردية، بتفكيرهم وسلوكهم القائم على الأنانية: (وأخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل) كما سجل عليهم القرآن العزيز.
وجاءت المسيحية أيضا تهتم بنجاة الفرد قبل كل شيء، تاركة شأن المجتمع لقيصر، أو على الأقل، هذا ما يفهم من ظاهر ما يحكيه الإنجيل عن المسيح، حين قال: أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله!!
وإذا طوينا كتاب التاريخ وتأملنا صفحات الواقع، فماذا نرى؟
إن عالمنا اليوم يقوم فيه صراع ضخم بين المذهب الفردي، والمذهب الجماعي. فالرأسمالية تقوم على تقديس الفردية، واعتبار الفرد هو المحور الأساسي، فهي تدلله بإعطاء الحقوق الكثيرة، التي تكاد تكون مطلقة، فله حرية التملك، حرية القول، وحرية التصرف، وحرية التمتع، ولو أدت هذه الحريات إلى إضرار نفسه، وإضرار غيره، مادام يستعمل حقه في "الحرية الشخصية"، فهو يتملك المال بالاحتكار والحيل والربا، وينفقه في اللهو والخمر والفجور، ويمسكه عن الفقراء والمساكين والمعوزين، ولا سلطان لأحد عليه، لأنه "هو حر".
والمذاهب الاشتراكية ـ وبخاصة المتطرفة منها كالماركسية ـ تقوم على الحط من قيمة الفرد والتقليل من حقوقه، والإكثار من واجباته، واعتبار المجتمع هو الغاية، وهو الأصل. وما الأفراد إلا أجزاء أو تروس صغيرة في تلك "الآلة" الجبارة، التي هي المجتمع، والمجتمع في الحقيقة هو الدولة، والدولة في الحقيقة هي الحزب الحاكم، وإن شئت قلت: هي اللجنة العليا للحزب، وربما كانت هي زعيم الحزب فحسب، هي الدكتاتور!!
إن الفرد ليس له حق التملك إلا في بعض الأمتعة، والمنقولات، وليس له حق المعارضة، ولا حق التوجيه لسياسة بلده وأمته، وإذا حدثته نفسه بالنقد العلني أو الخفي، فإن السجون والمنافي وحبال المشانق له بالمرصاد!
ذلك هو شأن فلسفات البشر ومذاهب البشر، والديانات التي حرفها البشر، وموقفها من الفردية والجماعية، فماذا كان موقف الإسلام؟
لقد كان موقفه فريدا حقا، لم يمل مع هؤلاء ولا هؤلاء، ولم يتطرف إلى اليمين ولا إلى اليسار.
إن شارع هذا الإسلام هو خالق هذا الإنسان، فمن المحال أن يشرع هذا الخالق من الأحكام والنظم ما يعطل فطرة الإنسان أو يصادمها. وقد خلقه سبحانه على طبيعة مزدوجة: فردية واجتماعية في آن واحد. فالفردية جزء أصيل في كيانه، ولهذا يحب ذاته، ويميل إلى إثباتها وإبرازها ويرغب في الاستقلال بشؤونه الخاصة.
ومع هذا نرى فيه نزعة فطرية إلى الاجتماع بغيره، ولهذا عد السجن الانفرادي عقوبة قاسية للإنسان، ولو كان يتمتع داخله بما لذ وطاب من الطعام والشراب.(/2)
والنظام الصالح هو الذي يراعى هذين الجانبين: الفردية والجماعية، ولا يطغى أحدهما على الآخر. فلا عجب أن جاء الإسلام ـ وهو دين الفطرة ـ نظاما وسطا عدلا، لا يجور على الفرد لحساب المجتمع، ولا يحيف على المجتمع من أجل الفرد، لا يدلل الفرد بكثرة الحقوق التي تمنح له، ولا يرهقه بكثرة الواجبات التي تلقى عليه، وإنما يكلفه من الواجبات في حدود وسعه، دون حرج ولا إعنات، ويقرر له من الحقوق ما يكافئ واجباته، ويلبي حاجته، ويحفظ كرامته، ويصون إنسانيته.
--------------------------------------------------
معنى وسطية الإسلام
تاريخ الإجابة 16/06/2001
نص السؤال
ما معنى أن الله جعل المسلمين أمةً وسطًا؟
فضيلة الشيخ محمد الغزالي
نص الإجابة
بسم الله ،والحمد لله ،والصلاة والسلام على رسول الله،وبعد:
قالوا من قديم: إن الفضيلة وسط بين رذيلتين. وسواء اضطَّرد هذا القول أم لم يضطَّرد فإن الحقيقة تضيع بين الإفراط والتفريط، والناس يعانون كثيرًا من الغُلُوِّ الشديد والإهمال البارد.
وعندما ظهر الإسلام كان اليهود معروفين بالحِرْص على الحياة والحب القوي للمال، وطلبه من الربا ومن وجوه السحت الأخرى، وكان المسيحيون يَرَوْنَ التقوى في الرهبانية والزهد واحتقار المال، حتى قيل في كتُبِهم: لأن يلج الجمل في سم الخياط أقرب من أن يدخل الغني ملكوت السماوات!
وجاء الإسلام فرفض المسلَكَيْنِ، وعدَّ المال وسيلة لما بعده، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا المال خَضِر حُلو! ونعم صاحب المسلم، هو لمن أعطَى منه اليتيمَ والمسكينَ وابنَ السبيل. وإن من يأخذه بغير حق كمن يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة".
وكانت الصرامة والقسوة ملحوظتين في تعاليم اليهود، كأن التقوى عقوبة مرصَدة لكل ذنب، وكأن مرضاة الله لا تَتِمُّ إلا بواجبات جافة ومظاهر محبوكة، فجاء عيسى ـ عليه السلام ـ يتحدث عن القلوب الرقيقة والبشرية الضعيفة الفقيرة إلى عفو الله.
وقالوا: إنه ترك امرأة اقتِيدَت متَّهمة بالإثم، وقال لليهود: مَن كان منكم بلا خطيئة فليتقدم ليرجمها!
وجاء الإسلام فرفض العبادة المقرونة بالصَّلَف والاستعلاء على الناس! ويسَّر التوبة لكل عاثر وأمر بستره والتجاوز عنه! وأقرَّ العقاب لمَن يتبجَّح بجُرمه ويؤذي المجتمع بالإصرار عليه!
أي أنه رفض الطاعة المُستكبِرة، ورحم المعصية النادمة، وطلب الإصلاح المتواضع الرقيق! يقول علي بن أبي طالب: الفقيه كل الفقيه مَن لم يقنِّط الناس من رحمة الله، ولم يؤمِّنهم مكره!
والحق أن عيسى ـ عليه السلام ـ لم يَستهِنْ بجريمة الزنى، ولكنه كما روى الإمام مالك عنه يقول: لا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس مبتلًى ومعافًى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية.
والإسلام دين وسط يأمر الأمة بالتزام الصراط المستقيم ويُحَذِّرها من الخطوط المنحرفة يمينًا والمنحرفة يسارًا.
سئل ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: ما الصراط المستقيم؟
فقال: تركَنا محمد في أدناه، وطرفه في الجنَّة، وعن يمينه جوادُّ، وعن يساره جوادُّ ـ يعني طرقًا شتى ـ وثَمّ رجال يدعون مَن مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادِّ انتهت بهم إلى النار، ومن أخذ على الصراط المستقيم انتهى به إلى الجنة. ثم قرأ ابن مسعود: (وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتَّبِعوه ولا تتَّبِعوا السُّبُلَ فتَفرَّقَ بكم عن سبيلِه) (الأنعام: 153).
والغلوُّ في الدين قد ينتُج عن خطأ في الفكر أو عِوَج في الطبع، وغالبًا ما يَزيغ عن الحق وينتهي بالانسلاخ عن الدين الصحيح، لذلك يقول الله تعالى لنبيه: (قل يا أهلَ الكتابِ لا تَغلُوا في دينِكم غيرَ الحقِّ ولا تتَّبِعوا أهواءَ قومٍ قد ضلُّوا من قبلُ وأضلُّوا كثيرًا وضلُّوا عن سواءِ السبيلِ) (المائدة: 77).
هناك مَن يبالغ في التعبُّد فينحرف يمينًا بالابتداع والحماس الكاذب، وهناك من ينحرف يسارًا بالإهمال المنتهي بالجحود والتمرد.
يقول الشيخ محمد عبد الله دراز:
"كأنه أشار باليمين إلى طرَف الإفراط والتعمُّق في الدين، وباليسار إلى طرَف التفريط والتقصير، وكلاهما مُنحرِف عن سواء السبيل وعن الوسط الذي لا يميل إلى أحد الجانبين. ونحن لو تتَبَّعنا أنواع البِدَع والضلالات الاعتقادية وفتن الشبهات، التي أشارت إليها أحاديث افتراق الأمة على بضع وستين شعبة، أو البدع والضلالات العملية وفنون الشهوات التي أشارت إليها أحاديثُ فَتْحِ الدنيا وبَسْطِها لهذه الأمة وتنافسِهم فيها وجَعْلِ بأسهم بينهم الخ ـ لوجدناها لا تعدو هذين الطرفين".(/3)
إن الإسلام يجعل التوسُّط فضيلة في شئون الدين والدنيا جميعًا، ففي مجال التعبُّد يرفض الإسلام الجهد المُضني ويُؤْثِر الاعتدال المستمر، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن لكلِّ شيءٍ شِرَّةً" حماسًا ونشاطًا "ولكل شِرَّةٍ فَترةٌ" برودًا وعجزًا "فإن صاحبُها سدَّد وقارَب فارجُوه، وإن أُشِيرَ إليه بالأصابع فلا تَعُدُّوه".
وفي شئون الدنيا يكره الإسلام التبذير والتقتير ويحب الإنفاق المعقول، وقد وصف الله عباد الرحمن فقال: (والذين إذا أنفَقُوا لم يُسرِفوا ولم يَقتُروا وكان بينَ ذلك قَوامًا) (الفرقان: 67).
في مجال العلم الديني رأيت ناسًا مُتَبَحِّرين في المنقول والمعقول، بهم فقه واسع، ومحفوظات كثيرة، لكن قلوبهم يَشينها جفاف بالغ، تولَّى أحدهم القضاء، وقَدِمت إليه امرأة متهمة بالزنى، فما زال يستدرجها ويمكُر بها حتى اعترفت له، وحكم برَجْمِها، لأنها متزوجة!
قلت: هذا منهج يهودي، فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يرشد المتهم ليفر من العقاب ويتراجع عن قراره، ويتحايَل عليه لينصرف آمنًا.
أما هذا القاضي فإنه احتال على المُذنِب ليقتله! ليس هذا أسلوب الإسلام.
والعلة أن جانبًا آخر من الثقافة الإسلامية لم يُصلِح قلب الرجل فبَقِيَ معتلاًّ، ولو أَلِف "علم القلوب" وذاق الجانب العاطفي من الإسلام لستر وغفر، يستره الله ويغفر له!
والمحزِن أن هناك انفصالاً في علومنا الدينية بين الفقه والتصوُّف، مما جعل المتصوفين يجنحون أحيانًا إلى الجنون، وجعل الفقهاء أحيانًا يمثلون القانون العاتيَ الأصم.
والوسطية فضيلة تبرز في توجيهات الإسلام الاجتماعية والاقتصادية، ففي العلاقة بين الرجال والنساء مثلاً أبى أن تكون المرأة حبيسة البيت أو طريدته! وأن تكون نظرة الرجل إليها نظرة السجان أو الصياد!
البيت هو المَحضَن الذي تتولى المرأة فيه تربية الجيل الجديد وتنشئته على تعاليم الدين وتقاليده، وليس البيت سجنًا كما تفهم ذلك بعض التقاليد السائدة عندنا، وليس ملتقًى عابرًا للأبوين والأولاد كما تألف ذلك أوربا حيث الأسر شكل لا موضوع له.
وللمجتمع العام حظٌّ من حياة المرأة، فهي تتعلم وتُعلِّم وتتداوَى وتأمر وتنهَى وتبايع، وقد تشارك الجيش في بعض الخدمات الطبية، وقد تقاتل إن اقتضى الأمر الدفاعَ، وينبغي أن تكون خبيرة بشئون أمتها الدينية والمَدَنِيَّة.
وهناك مَن يأبَى على المرأة هذا كله أو بعضه، في الوقت الذي أسرفت فيه المرأة الغربية إسرافًا شائنًا في الذوبان خارج البيت، وضد رسالتها الأولى.
لو التزمنا وسَطِيَّة الإسلام لكان ذلك أرضى لله وأسعد للأمة وأزكى للجنسين معًا.
وفي الناحية الاقتصادية أقَرَّ الإسلام حق المِلْكية الفردية، بيد أنه كبَح جماحَه بقيود الحلال والحرام، وانتقَص أطرافَه بحقوق الضعاف والمتعَبين.
وبذلك ضَمِن إنتاجًا غزيرًا لأن الحوافز قائمة، وحَفِظ الجماعةَ من التفكك لأن التواصيَ بالرحمة لم يَدَعْ ثغرة إلا سدَّها، ونجت الشعوب من الشيوعية الكافرة والرأسمالية الجائرة.
والمفروض أن المسلمين يتعلمون من نبيهم هذه الحقائق ويَعُونها ويطبقونها، فإن الله سائلهم عن الهدايات التي بلغَتْهم؛ هل انتفعوا بها ونفعوا بها الناس؟
وما من أمة إلا وهي موقوفة لتُواجه هذا الحساب يوم القيامة: (فكيفَ إذا جِئْنَا من كلِّ أمةٍ بشهيدٍ وجِئْنا بكَ على هؤلاءِ شهيدًا) (النساء: 41).
نعم، ومحمد شهيد على المسلمين أنه أخذهم بتلك التعاليم الجليلة، وسيُدلي بهذه الشهادة أمام الله.
كما أن المسلمين سيُسْأَلون؛ هل علَّموا كما تعلَّموا؟
إن الأمم كلها مُكَلَّفة أن تسمع منهم وتستفيد!
وهم شهداءُ على الأمم لأنهم حمَلَة الرسالة العامة ومُبَلِّغو "الوسطية" التي شرحناها آنفًا، وكما كان محمد أستاذًا لهم فهم أساتذة لسائر شعوب الأرض!
ذلك معنى قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمّةً وَسَطًا لتكونوا شهداءَ على الناس ويَكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا) (البقرة: 143).
والمؤسف أن الأمة المكلَّفة بذلك فرَّطت في البلاغ والتعليم!
بل فرطت في العمل والتأسي بنبيها!
بل لقد أصبحت اليوم ذيلاً لأحزاب الميمنة والميسرة في الشرق والغرب ونسيت الصراط المستقيم!(/4)
الوسطية في الدعوة والتغيير بين الخوارج والمرجئة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وبعد.
فإنَّ الوسطية سمة من سمات هذا الدين العظيم، وصفةً بارزةً لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، قال الله تعالى : (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً )) الآية (البقرة : 143) .
وعندما انحرف من انحرف من الفرق وأهل البدع، عن هذه الوسطية التي كان عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام، عصم اللهُ عز جل أهلَ الحق الذين هم أتباع السلف، من هذا التطرف، ووفقهم للوسطية في جميع أمور دينهم العلمية والعملية، وكانوا في ذلك كلهِ وسطًا بين طرفين متقابلين، طرف الغلو والإفراط، وطرف التفريط والجفاء، وصارت كل فرقة من الفرق الضالة تتبوأ طرفًا من هذين الطرفين، حسب نوع الانحراف الحاصل، وفي أي الأبواب هو.
ومن هذه الأبواب التي انحرف فيها من انحرف من أهل البدع، ولم يوفق للحق والوسطية فيها، هو باب الأمر بالمعروف النهي عن المنكر، والدعوة والتغيير، وقد هدى الله عز وجل أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح، لما اختلف فيه أهل البدع من الحق، ورزقهم الوسطية في هذا الباب العظيم، والأصل الأصيل من أصول الدين، فلم ينحرفوا فيه إلى الغلو والإفراط كما فعلت الخوارج، ولم يذهبوا فيه إلى الجفاء والتفريط كما فعلت المرجئة.
وحتى تتضح هذه المسألة، فلا بُدَّ من عرض رأى الطرفين المنحرفين في هذا الباب، ليتبين الوسط بينهما إن شاء الله تعالى.
الطرف الأول : الغُلاة وهم طرف الخوارج، الذين يرون أن قتال أئمة الجور ومن والاهم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنهم فعلوا الظلم أو ما ظنوه ظلمًا، وهذا عندهم كفرٌ مُخرج من الملة.
الطرف الثاني : أهل التفريط وهم طرف المرجئة، وأهل الفجور الذين يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ظنًّا منهم أنَّ ذلك من باب ترك الفتنة، ومعلومٌ ما في هذا المذهب من الفتنة والفساد.
وعن هذين الطرفين يقول شيخ الإسلام- رحمه الله تعالى : ( ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عن قتالِ أئمة الجور، وأمر بالصبر على جورهم، ونهى عن القتال في الفتنة، فأهلُ البدع من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم، يرون قتالهم والخروج عليهم، إذا فعلوا ما هو ظلم أو ما ظنوه هم ظلمًا، ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وآخرون من المرجئة وأهل الفجور، قد يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ظنًّا أن ذلك من باب ترك الفتنة، وهؤلاء يقابلون لأولئك) [1].
وبين هذين الطرفين يقفُ أهل السنة والجماعة، أتباع السلف الصالح من الصحابة والتابعين في الوسط بينهما، فلم يتركوا الأمر والنهي ومدافعة الفساد، بحجة الخوف من الفتنة كما هو صنيع المرجئة وأهل الفجور، كما أنَّهم لم يدفعهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومدافعة الفساد، إلى الخروج على جماعة المسلمين وقتالهم، كما هو صنيع أهل الغلو من الخوارج والمعتزلة ومن شابههم.
وعن هذه الوسطية يقولُ شيخ الإسلام- رحمه الله تعالى- : (( ... ومع ذلك فيجبُ الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب إظهار السنة والشريعة، والنهي عن البدعةِ والضلالةِ بحسب الإمكان، كما دلَّ على وجودِ ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
وكثيرٌ من الناسِ قد يرى تعارض الشريعة في ذلك، فيرى أنَّ الأمر والنهي لا يقوم إلاَّ بفتنة، فإمَّا أن يؤمر بهما جميًعا، أو ينهى عنهما جميعًا، وليس كذلك، بل يؤمر وينهى، ويصبر عن الفتنة،كما قال تعالى: (( وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَك )) (لقمان: 17) .
وقال عبادة بن الصامت :?( بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكر هنا وأثرة علينا، وألا نُنازع الأمر أهله، وأن نقومَ أو نقول بالحق حيثُ ما كُنَّا، لا نخاف في الله لومة لائم ) [2] ، فأمرهم بالطاعة، ونهاهم عن منازعة الأمر أهله، وأمرهم بالقيامِ بالحق، ولأجل ما يُظن من تعارض هذين، تعرض الحيرة في ذلك لطوائف الناس . والحائر الذي لا يدري - لعدم ظهور الحق، وتمييز المفعول من المتروك - ما يفعل، إمَّا لخفاءِ الحق عليه، أو لخفاءِ ما يناسب هواه عليه) [3] أهـ.
مما سبق يتضحُ لنا أن من ترك الأمر والنهي، والدعوة إلى الله عز وجل، ومدافعة الفساد بحجة اجتناب الفتنة، فإنَّ له نصيبًا وشبهًا بالمرجئة وأهل الفجور ومن نحا نحوهم، ويلحق بهؤلاء من يتهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، المحذرين للأمةِ من الشرك والفساد بالخروج على الأمة، وابتغاءَ الفتنة مع براءتهم من ذلك، إنَّ هذا الصنيعُ من هؤلاءِ القاعدين والمثبطين المرجفين، إنما هو عينُ الفتنة والفساد.
كما أنَّ من خرج على الأمة بالسيف، زاعمًا أنَّ هذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنَّ له أسوة في سلفة من الخوارج والمعتزلة.(/1)
أسألُ الله عز وجل أن يهدينا لما اختُلف فيه من الحق بإذنه، إنَّهُ يهدي من يشاءُ إلى صراط مستقيم.
________________
[1]- الآداب الشرعية 1 / 177 .
[2]- البخاري 9 / 47 ، كتاب الفتن ، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( سترون بعدي أموراً تنكرونها ) ؛ مسلم ( 1470 ـ 1471 ) كتاب الإمارة .
[3]- الاستقامة 1 / 41 ـ 42 .(/2)
الوسطية في الفتوى
فضيلة الشيخ/ عبد الله بن بيه وزير العدل الموريتاني ـ سابقا ـ أستاذ بجامعة الملك عبد العزيز ـ جدة
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه
الوسطية هي الميزان والموازنة والتوازن بين الثبات والتغير بين الحركة والسكون هي التي تأخذ بالعزائم دون التجافي عن الرخص في مواطنها. وهي التي تطبق الثوابت دون إهمال للمتغيرات.تتعامل مع تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع تقيم وزناً للزمان ولا تحكمه في كل الأحيان.تفرق بين المتماثلات بين المتباينات. إعمال للحاجات وللمصالح وعموم البلوى والغلبة وعسر الاحتراز.ونعني بالوسطية هنا المقارنة بين الكليّ والجزئيّ والموازنة بين المقاصد والفروع والربط الواصب بين النصوص وبين معتبرات المصالح في الفتاوى والآراء فلا شطط ولا وكس.وميدانياً فعن طريق الوسطية نريد تكوين جيل متجذر في تراثه متصالح مع زمانه يتعامل مع الآخرين بسماحة وأيضاً بشجاعة فلا نريد أن يكون شبابنا سباعاً عادية كما قال الشاعر:
ولكنما أهلي بواد أنسيه سباع تبغي الناس مثنى وموحداً
ولا نريدهم كذلك خرافاً وبقراً يمد أعناقه للجزار على حد قول الشاعر:
هزبر عدا في شرعة الرمح والعدا غدوا بقراً يستسهل النحر والذبحاً
نريدهم جيلاً منفتحاً سمحاً عزيزاً أبياً.
وللتدليل على مفهوم الوسطية في الفتوى نقتطف من الموافقات القطوف التالية: إذ يقول الشاطبي: المفتى البالغ ذِروة الدرجة هو الذي يَحمِلُ الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهبَ الشِّدَّة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال.
والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلفِ الحملُ على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين.
وأيضاً: فإن هذا المذهب كان المفهومَ من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكرمين، وقد رد عليه الصلاة والسلام التبتل.
وقال لمعاذ لمَّا أطال بالناس في الصلاة :"أفتان أنت يا مُعاذ ؟". وقال: "إن منكم مُنَفِّرين".
وقال:"سَدِّدوا وقارِبوا واغدُوا ورُوحوا وشيءُ من الدُّلْجة والقصدَ القصدَ تَبلُغُوا." وقال: "عَلَيْكُم مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فإنَّ اللهَ لا يمَلُّ حتى تمَلُّوا". وقال: "أَحَبُّ العَمَلِ إِلَى اللهِ مَا دَاومَ عَلَيْهِ صَاحِبُه وإِنْ قَلَّ".
ورد عليهم الوصال. وكثير من هذا.
وأيضا: فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق. أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضا.
لأن المستفتي إذا ذٌهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين ، وأدى إلى الانقطاع عن السلوك طريق الآخرة وهو مشاهد.
وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة.
و الشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، وإتباع الهوى مهلكة. والأدلة كثيرة"[1].
كيف نضع معايير للفتوى الوسطية من خلال أصول وقواعد محددة تحكم فتاوى المفتى وقراراته.
للإجابة على هذا السؤال بنينا بحثنا على أربع قواعد:
أولاً: قاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان:
كان لعمل أمير المؤمنين عمر نصيب كبير في تأصيل هذه القاعدة فمن ذلك أن عمر لم يعط المؤلفة قلوبهم مع وروده في القرآن ورأى أن عز الإسلام موجب لحرمانهم.
وكذلك إلغاؤه للنفي في حد الزاني البكر خوفاً من فتنة المحدود وإلتحاقه بدار الكفر لأن إيمان الناس يضعف مع الزمن.
وأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه يأمر بالتقاط ضالة الإبل وبيعها وحفظ ثمنها لصاحبها كما رواه مالك رحمه الله تعالى عن ابن شهاب الزهري مع نهيه صلى الله عليه وسلم عن التقاط ضالة الإبل وذلك لما رأى من فساد الأخلاق وخراب الذمم وورث تماضر الأسدية لمّا طلقها عبد الرحمن في مرض موته.
وأمير المؤمنين علي رضي الله عنه يضمن الصناع بعد أن كانت يد الصانع أمانة قائلا : لا يصلح الناس إلا ذاك.
ويقول الأستاذ صبحي المحمصاني مسجلا موقف الصحابة في كتابه " تراث الخلفاء" : وقد أقروا مبدأ تغير الاجتهاد فتوسع عمر الفاروق بوجه خاص في الاجتهاد وفي تفسير النصوص بما يلائم حكمة التشريع وفلاح العباد ويناسب تطور الزمان والمكان وتقلبات الأحوال . وتعرض في ذلك ل مسائل عديدة منها المؤلفة قلوبهم والطلاق الثلاثي المتسرع وبيع أمهات الأولاد وعدم التغريب في الحدود وإعفاء السارق من القطع عام المجاعة وتطوير عقوبة التعزير تأديباً وزجراً للمذنبين والمجرمين وتحديد عاقلة الدية في القتل والجراح وتفصيل أمور ضريبة الخراج"[2].
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز قوله: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور.
وقد قال ابن رشد إن لله أحكاماً لم تكن أسبابها موجودة في الصدر الأول فإذا وجدت أسبابها ترتبت عليها أحكامها.(/1)
هذه القاعدة وردت في مجلة الأحكام العدلية بعنوان : لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان".
وهي قاعدة ليست على إطلاقها فليست كل الأحكام تتأثر بتغير الزمان فوجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج وبر الوالدين والكثير من أحكام المعاملات والأنكحة وكذلك فإن المنهيات القطعية كالاعتداء على النفس والأموال والأعراض وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن وأكل أموال الناس بالباطل ومنها الغش والخيانة ومحرمات عقود الأنكحة ومحرمات عقود البيوع المشتملة على الربا أو الغرر الفاحش أو الجهالة فكل تلك لا تستباح إلا بالضرورات التي تبيح المحظورات.
وبصفة عامة فمحرمات المقاصد التي تعنى أن العقد يشتمل على المفسدة التي نهى الشارع عنها لا تجيزها الحاجة.
وبالعكس من ذلك فإن محرمات الذرائع التي يتوصل بها إلى المفسدة وواجبات الوسائل التي يتوصل بها إلى مصلحة فإنها تتغير بتغير الزمان لأنها تدور مع المصالح جلباً والمفاسد درءاً فإذا رجحت مصلحة على المفسدة التي من أجلها كان الحظر فإن النهي يستحيل تارة إلى تخيير وتارة إلى طلب.
وقد أشار الشارع إلى ذلك في مسائل كان نهى عنها أو أمر بها فمن قبيل النهي: "كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها".
وقد كان صلى الله عليه وسلم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي ثم رفع النهي قائلا: إنما نهيتكم من أجل الدافة فكلوا وادخروا.
وإذا غلبت المشقة سقط الأمر :" لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك..
فالذي يتغير هو الأحكام الاجتهادية وأما القطعيات من الأحكام فلا تتغير فلا يمكن أن تتغير المواريث بدعوى أن المرأة أصبح لها شأن ولا يمكن أن يتغير تحريم ربا النسيئة في بلاد الإسلام ولا تحريم أكل الميتة والخنزير.
فأما الثابت فيبقى ثابتا ما دام الإنسان على هذه الأرض له ضروراته التي لا ينفك عنها يتصف بكل صفاته التي تحتاج إلى ضبط من الشرع فهو ضعيف أمام شهواته ( وخلق الإنسان ضعيفا ) وهو ظلوم جهول لا يقدر مسئولية أمانته وخلافته في هذا الكون .
وكذلك فإن تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان أمر معهود نص عليه غير واحد من العلماء كابن القيم والقرافي ولهم سلف من أعمال الصحابة رضوان الله عليهم كما أشرنا وفتاويهم وليس ذلك إلا لترجح مصلحة شرعية لم تكن راجحة في وقت من الأوقات أو لدرء مفسدة حادثة لم تكن قائمة في زمن من الأزمنة والزمن لا يتغير فهو كما قال الشاعر : ومَا الدَّهْرُ إِلا لَيلَةُ ونَهَارُهَا وإلا طُلُوعُ الشَمسِ ثُمَ غِيارُهَا
والذي يتغير هو أحوال أهل الزمن والمصالح التي تبنى عليها الأحكام جلباً والمفاسد التي تراعيها الشريعة درء.
ومن رد المحتار : فقد اتفقت النقول عن أئمتنا أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أن الاستئجار على الطاعات باطل لكن جاء من بعدهم من المجتهدين الذين هم أهل التخريج والترجيح فافتوا بصحته على التعليم للقرآن للضرورة فإنه كان للمعلمين عطايا من بيت المال وانقطعت فلو لم يصح الاستئجار وأخذ الأجرة لضاع القرآن وفيه ضياع الدين لاحتياج المعلمين إلى الاكتساب وأفتى من بعدهم أيضا من أمثالهم بصحته على الأذان والإمامة لأنهما من شعائر الدين فصححوا الاستئجار عليهما للضرورة أيضا فهذا ما أفتى به المتأخرون عن أبي حنيفة وأصحابه لعلمهم بأن أبا حنيفة وأصحابه لو كانوا في عصرهم لقالوا بذلك ورجعوا عن قولهم الأول.
وفي كتاب الفتاوى رسم المفتى في زماننا من أصحابنا إذا استفتى عن مسئلة إن كانت مروية عن أصحابنا في الرويات الظاهرة بلا خلاف بينهم فإنه يميل إليهم ويفتى بقولهم ولا يخالفهم برأيه وإن كان مجتهداً متقناً لأن الظاهر أن يكون الحق مع أصحابنا ولا يعدوهم واجتهاده لا يبلغ اجتهادهم ولا ينظر إلى قول من خالفهم ولا تقبل حجته أيضا لأنهم عرفوا الأدلة وميزوا بين ما صح وثبت وبين ضده ..إلخ.
ثم نقل نحوه عن شرح برهان الأئمة على أدب القضاء للخصاف. " قلت" لكن ربما عدلوا عما اتفق عليه أئمتنا لضرورة ونحوها كما مر في مسألة الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه من الطاعات التي في ترك الاستئجار عليها ضياع الدين كما قررناه سابقا فح يجوز الإفتاء بخلاف قولهم كما نذكره قريبا عن الحاوى القدسي وسيأتي بسطه أيضا آخر الشرح عند الكلام على العرف .
(والحاصل) أن ما خالف فيه الأصحاب أمامهم الأعظم لا يخرج عن مذهبه إذا رجحه المشايخ المعتبرون وكذا ما بناه المشايخ على العرف الحادث لتغيير الزمان أو للضرورة ونحو ذلك لا يخرج عن مذهبه لأن ما رجحوه لترجح دليله عندهم مأذون به من جهة الأمام وكذا ما بنوه على تغير الزمان والضرورة باعتبار أنه لو كان حياً لقال بما قالوه لأن ما قالوه إنما هو مبني على قواعده أيضا فهو مقتضى مذهبه.
وكذلك في المذهب الحنفي : الأصل أن المرأة إذا قبضت معجل صداقها تلزم بمتابعة زوجها حيث شاء.(/2)
ولكن المتأخرين من أهل المذهب لاحظوا فساد الأخلاق وغلبة الجور على النساء فأفتوا بأن المرأة لا تجبر على السفر مع زوجها إلى مكان إذا لم يكن وطناً لها وذلك لفساد الزمان والأخلاق وعلى هذا استقرت الفتوى والقضاء في المذهب"[3].
وقال في رسالته المسماة "رفع الغشاء في وقت العصر والعشاء" لا يرجح قول صاحبيه أو أحدهما على قوله إلا لموجب وهو أما ضعف دليل الأمام وأما للضرورة والتعامل كترجيح قولهما في المزارعة والمعاملة وأما لأن خلافهما له بسبب اختلاف العصر والزمان وأنه لو شاهد ما وقع في عصرهما لوافقهما كعدم القضاء بظاهر العدالة .
ومسألة خيار الرؤية في اشتراء الدار.[4].
لكن مراجعة كتب الفتاوى كالهندية وقاضيخانيه تبرز بوضوح تأثير المتأخرين في ترجيح كفة الفتاوى وما يفتى به في بلخ وخوارزمه وغيرهما.
ويرى الشيخ أبو الحسن الندوي أن البعض يفترض أن الزمان لا ثبات له ولا دوام بل إنه اسم للتغيير والتحول.
وليس الأمر كذلك بل إن الزمان مركب من الاثنين التغيير والاستمرار وإذا أختل هذا التوازن أختل الوضع.
وضرب مثلاً بالنهر في جريانه الدائم مع أنه لا يزال نفس النهر.
والدين حارس الحياة ثابت في المنبع ومتغير في جريانه.
وليس الدين مقياس حرارة يقتصر عمله على تسجيل لدرجة حرارة المجتمع وإنما هو معدل لهذه الحرارة ومؤثر في سلوك المجتمعات للارتقاء إلى مراد الحق سبحانه
________________________________
[1] - الشاطبي الموافقات5/277
[2] - المحمصاني تراث الخلفاء الراشدين ص 589
[3] - يراجع رد المحتار على الدر المختار والمدخل الفقهي للشيخ الزرقاء ص928
[4] - يراجع ابن عابدين والقواعد للزرقاء
________________________________
ثانياً: قاعدة العرف:
قال ابن عابدين: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما بظاهر الرواية ويتركا العرف، والله أعلم[1].
وله أيضاً: ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد أنه لابد فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغيّر عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولا للزم منه المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن أحكام ، ولهذا ترى مشايخ المذاهب خالفوا ما نصَّ عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمانهم لقال بما قالوا به أخذا من قواعد مذهبه[2].
وقد عبّر العلماء عن ذلك تعبيراً قوياً فقال ابن القيّم في تغيّر الفتوى واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيّات والعوائد : هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالّة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم .[3]
قال القرافي في "الأحكام ":… إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغيّر تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغيّر الحكم فيه عند تغيّر العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة وليس هذا تجديداً للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد"[4].(القرافي، الأحكام ص218) .
وقال أيضاً في الفرق الثامن والعشرين بين قاعدة العرف القولي يقضى به على الألفاظ ويخصصها وبين قاعدة العرف الفعلي لا يقضى به على الألفاظ ولا يخصصها: وعلى هذا القانون تُراعى الفتاوى على طول الأيام فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه ، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وأفته به دون بلدك والمقرر في كتبك فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، وعلى هذه القاعدة تتخرج إيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية، وقد تصير الكناية صريحاً مستغنية عن النيّة.(/3)
قال ابن عابدين: (ثم أعلم)أن كثيراً من الأحكام التي نص عليها المجتهد صاحب المذهب بناء على ما كان في عرفه وزمانه قد تغيرت بتغير الأزمان بسبب فساد أهل الزمان أو عموم الضرورة كما قدمناه من إفتاء المتأخرين بجواز الاستئجار على تعليم القرآن وعدم الاكتفاء بظاهر العدالة مع أن ذلك مخالف لما نص عليه أبو حنيفة ومن ذلك تحقق الإكراه من غير السلطان مع مخالفته لقول الإمام بناء على ما كان في عصره إن غير السلطان لا يمكنه الإكراه ثم كثر الفساد فصار يتحقق الإكراه من غيره فقال محمد باعتباره، وأفتى به المتأخرون.
ومن ذلك تضمين الساعي مع مخالفته لقاعدة المذهب من أن الضمان على المباشر دون المتسبب ولكن أفتوا بضمانه زجراً لفساد الزمان بل أفتوا بقتله زمن الفتنة. ومنه تضمين الأجير المشترك. وقولهم إن الوصي ليس له المضاربة بمال اليتيم في زماننا. وإفتاؤهم بتضمين الغاصب عقار اليتيم والوقف. وعدم إجارته أكثر من سنة في الدور وأكثر من ثلاث سنين في الأراضي مع مخالفته لأصل المذهب من عدم الضمان وعدم التقدير بمدة. ومنعهم القاضي أن يقضى بعمله وإفتائهم بمنع الزوج من السفر بزوجته وإن أوفاها المعجل لفساد الزمان. وعدم سماع قوله أنه أستثنى بعد الحلف بطلاقها إلا ببينة مع أنه خلاف ظاهر الرواية.
وعللوه بفساد الزمان. وعدم تصديقها بعد الدخول بها بأنها لم تقبض ما أشترط لها تعجيله من المهر مع أنها منكرة للقبض وقاعدة المذهب أن القول للمنكر لكنها في العادة لا تسلم نفسها قبل قبضه. وكذا قالوا في قوله كل حل على حرام يقع به الطلاق للعرف قال مشايخ بلخ وقول محمد لا يقع إلا بالنية أجاب به على عرف ديارهم أما في عرف بلادنا فيريدون به تحريم المنكوحة فيحمل عليه نقله العلامة قاسم ونقل عن مختارات النوازل إن عليه الفتوى لغلبة الاستعمال بالعرف ثم قال قلت ومن الألفاظ المستعملة في هذا في مصرنا الطلاق يلزمني الحرام يلزمني وعلي الطلاق وعلي الحرام .هـ
ثالثاً:قاعدة النظر في المئالات:
ومما يصب في جداول المصلحة ويسير في دربها قاعدة النظر في المئالات في الأقوال والأفعال وقد نص الشاطبي على أن المفتى عليه أن ينظر في مئال فتواه.
وقد كان الإمام الشاطبي من أوفى من شرح هذا المدلول الاصطلاحي كما يقول الدكتور عبد المجيد النجار ونص الشاطبي: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدّى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعة ربما أدّى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوى أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغبّ جار على مقاصد الشريعة"[5].
وأصل ذلك قوله تعالى(ولا تسبوا الذين يدعون من الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) وقوله صلى الله عليه وسلم : لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم " وقوله في تعليل انصرافه عن قتل المنافقين:دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه أخاف أن يتحدث الناس أن محمد يقتل أصحابه". البخاري.
وهكذا فإن الصحابة فهموا مقصد الشارع والمقاصد هي المعاني التي تعتبر حكما وغايات التشريع فتصرفوا طبقا لذلك فهذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يترك تغريب الزانى البكر مع وروده في الحديث حيث قضى عليه الصلاة والسلام بجلده مائة وتغريب سنة وذلك لما شاهد من كون التغريب قد يؤدي إلى مفسدة أكبر وهى اللحاق بأرض العدو وقال لا أغرب مسلماً.
وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : كفى بالنفي فتنة.
وأيضا فإن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لمّا تولى الملك أجل تطبيق بعض أحكام الشريعة فلمّا استعجله ابنه في ذلك أجابه بقوله : أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعونه جملة ويكون من ذا فتنة"[6].
وقد فهم ذلك العلماء فرتبوا عليه أولويات الأمر والنهي فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية حينما مر بقوم من التتار يشربون الخمر فنهاهم صاحبه عن هذا المنكر فأنكر عليه ذلك قائلاً: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذّرية وأخذ الأموال فدعهم"[7].(/4)
وقد قال الشاطبي أنه ينبغي على المجتهد: النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت وحال دون حال وشخص دون شخص إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزّان واحد. فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف"[8].
وسد ذرائع الحرج والمشقة وقد يسميه البعض بفتح الذرائع لأنه ترك لبعض فضائل الأعمال خوفاً من إعنات المكلفين كما ترك عليه الصلاة والسلام تأخير صلاة العشاء قائلا: هذا وقتها لولا أن أشق على أمتي".
وصار الأفضل مفضولاً خوفاً من المشقة.
وكذلك ترك الأمر بالسواك عند كل صلاة وكذلك الجمع بين الصلاتين من غير عذر فقال ابن عباس: لئلا يحرج أمته.
وترك بناء البيت على قواعد إبراهيم لحدثان عهد القوم بالكفر فيفتنون.
وترك قتل أهل النفاق المشهود عليهم بالكفر لما في ذلك من تشويه صورة الدين وتنفير الناس منه.
وترك بعض الصحابة لذبح الأضحية يوم العيد وترك عثمان رضي الله عنه للقصر في الحج خوفا من أن يقول جهلة الناس: إن الصلاة أصبحت ركعتين.
وترك عمر رضي الله عنه لإصدار بيان على الناس يشرح فيه قضية الشورى واختيار الحكام بناء على نصيحة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حتى لا يساء فهمه ويطير الناس إلى أقطارهم بتصورات خاطئة.
وعلى هذا ينبني كثير من قرارات المجلس الأوربي حيث يمنع أئمة المساجد من عقد النكاح قبل أن يعقد عقداً مدنياً أمام السلطة لأن من شأن تلك العقود وإن كانت مستوفية الشروط أن تؤل إلى خصومات وربما حرمان المرأة من حقوقها وحرمان الأولاد من نسبهم لعدم توثيق العقد وهذا من باب النظر في المئالات.
وقاعدة ارتكاب أخف الضررين وجلب المصالح ودرء المفاسد فكما يقول ابن تيمية: إن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وعلى هذا تعطل أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما ويرتكب أخف الشرين والضرين لتفويت أقصاهما.
ويقول الشاطبي: وقد يرتكب النهي الحتم إذا كانت له مصلحة راجحة ومثل بمسألة تقرير الزاني وفيها النطق بالكلمة التي ينهى عنها في غير هذا المقام"[9].
وبناء عليه فقد وضع المالكية قاعدة جريان العمل وهي قاعدة من خلالها يرجح قول كان في الماضي مرجوحاً ليصبح القول الضعيف راجحاً فيترك مشهور المذهب وراجحه ويعمل بهذا القول لكنهم ضبطوا ذلك بضوابط...
... كان مخالفاً للمشهور وهذا ظاهر إذا تحقق استمرار تلك المصلحة وذلك السبب وهذا ظاهر إذا تحقق استمرار تلك المصلحة وذلك السبب و إلا فالواجب الرجوع إلى المشهور هذا هو الظاهر"[10].
ومن المهم أن نعرف لماذا عدل العلماء عن المشهور والراجح إلى القول الضعيف؟
والجواب كما يقول السجلماسي في شرحه : إن أصل العمل بالشاذ وترك المشهور الاستناد لاختبارات شيوخ المذهب المتأخرين لبعض الروايات والأقوال لموجب ذلك كما بسطه ابن الناظم في شرح تحفة والده من الموجبات تبدل العرف أو عروض جلب المصلحة أو درء المفسدة فيرتبط العمل بالموجب وجوداً وعدماً ولأجل ذلك يختلف باختلاف البلدان ويتبدل في البلد الواحد بتبدل الأزمان"[11].
وشروط العمل بالضعيف ثلاثة: أن لا يكون القول المعمول به ضعيفاً جداً وأن تثبت نسبته إلى قائل يُقتدى به علماً وورعاً وأن تكون الضرورة محققة ومعناها الحاجة.
وهذا طريق لاحب للفقهاء لا يمترى فيه من عرف مقاصد الشريعة وذاق طعم حكمها ووزن الأحكام بميزانها الذي لا يحيف.
وقد يعتبر البعض أن هذا من باب التساهل في الفتوى المنهي عنه وليس الأمر كذلك فمعنى التساهل عند ابن الصلاح: هو أن لا يتثبت "الفقيه" ويُسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر. وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة والإبطاء عجز ومنقصة وذلك جهل. ولأن يُبطئ ولا يخطئ أكمل به من أن يعجل فيضل ويُضل وقد يكون تساهله وانحلاله بأن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحظورة أو المكروهة والتمسك بالشبه طلباً للترخيص على من يروم نفعه أو التغليظ على من يريد ضره ومن فعل ذلك فقد هان عليه دينه"[1].
وبهذا نقرر أن التسهيل غير التساهل فالتسهيل مطلوب ومرغوب لانبنائه على قاعدة التيسير أما التساهل فمبني على الهوى.
__________________________________
[1] - أدب الفتوى وشروط المفتى لابن الصلاح ص 65
[1] - ابن عايدين مجموع الرسائل 2/133
[2] - نفس المرجع 2/125
[3] - ابن القيم إعلام الموقعين 3/11
[4] - القرافي الفروق 1/176- 177
[5] - الشاطبي الموافقات 5/177-178
[6] - نفس المرجع 2/ 148
[7] - ابن القيم إعلام الموقعين 3/13
[8] - الشاطبي الموافقات 5/55
[9] - الشاطبي الموافقات 3/ 331
[10] - البناني حاشية على مختصر خليل 5/ 124
[11] - السجلماسي شرح نظم العمل المطلق 1/7
__________________________________
رابعاً: قاعدة تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع:(/5)
يقول الشاطبي: ويختص غير المنحتم بوجه آخر، وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص؛ إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك؛ فرب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر، ورب عمل يكون حظ النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في عمل آخر، ويكون بريئاً من ذلك في بعض الأعمال دون بعض؛ فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نوراً يعرف به النفوس ومراميها وتفاوت إدراكها، وقوة تحمُّلها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها؛ فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف؛ فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق، لكن مما ثبت عمومه في التحقيق الأول العام، ويقيد به ما ثبت إطلاقه في الأول، أو يضم قيداً أو قيوداً لما ثبت له في الأول بعض القيود.
هذا معنى تحقيق المناط هنا.
وفي "أحكام إسماعيل بن إسحاق" عن ابن سيرين؛ قال: كان أبو بكر يُخافِت، وكان عمرُ يَجهر -يعني في الصلاة- فقيل لأبي بكر: كيف تفعل؟ قال: أناجي ربِّي وأتضرع إليه، وقيل لعمر: كيف تفعل؟ قال: أوقِظُ الوَسْنانَ، وأُخشأُ الشَّيطان، وأُرضي الرحمن. فقيل لأبي بكر: ارفعْ شيئاً، وقيل لعمر: اخْفِض شيئاً"[1].
وفسر بأنه عليه الصلاة والسلام قصد إخراج كل واحد منهما عن اختياره وإن كان قصده صحيحاً.
وفي "الصحيح": أن ناساً جاؤا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نجدُ في أنفسنا ما يتعاظم أحدُنا أن يتكلَّمَ به. قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذلك صريحُ الإيمان"[2].
وفي حديث آخر: "مَن وَجَدَ من ذلك شيئاً، فلْيَقُلْ: آمنتُ بالله".
وقال عليُّ: حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذَّبَ اللهُ ورسوله؟" فجعل إلقاء العلم مقيداً؛ فَرُبَّ مسألةٍ تصلُح لقوم دون قوم، وقد قالوا في الرَّباني: إنه الذي يُعلِّمُ بصغارِ العلم قبل كِباره؛ فهذا الترتيب من ذلك.
وتحقيقُ المناط في الأنواع واتفاقُ الناس عليه في الجملة مما يشهد له كما تقدم، وقد فرَّع العلماء عليه؛ كما قالوا في قوله تعالى (إنما جزاء الذي يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا) الآية
إن الآية تقتضي مطلق التخيير، ثم رأوا أنه مقيَّدُ بالاجتهاد؛ فالقتل في موضع، والصلب في موضع، والقطع في موضع، والنفي في موضع، وكذلك التخيير في الأساري من المَنِّ والفداء.
وكذلك جاء في الشَّريعة الأمرُ بالنِّكاحِ وعدُّوه من السُّنن، ولكن قسَّموه إلى الأحكام الخمسة، ونظروا في ذلك في حق كل مكلف وإن كان نظراً نوعياً؛ فإنه لا يتم إلا بالنظر الشخصي؛ فالجميع في معنى واحد، والاستدلال على الجميع واحد، ولكن قد يُستبعدُ ببادىء الرأي وبالنظر الأول؛ حتى يتبيَّن مغزاه ومورده من الشَّريعة، وما تقدم وأمثاله كافٍ مفيدُ للقطع بصحة هذا الاجتهاد، وإنما وقع التنبيه عليه لأن العلماء قلما نبهوا عليه على الخصوص"[3].
قلت: هذا هو تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع وهو من دقائق علم الفتوى.
وأخيراً:
فإن الوسطية هي موقف بين موقفين في فهم النصوص والتعامل معها وهي اتجاه بين اتجاهين بين ظاهرية مفرطة وباطنية مفرطة يتلخص كلام الشاطبي فيه فيما يلي: أولاً: الاتجاه الظاهري الذي لا يهتم بالمعاني وإنما يقتصر على ظواهر النصوص وهم يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص.
والاتجاه الثاني: يرى أن مقصد الشارع ليس في الظواهر ويطرد هذا في جميع الشريعة لا يبقى في ظاهر متمسك وهؤلاء هم الباطنة وألحق بهؤلاء من يغرق في طلب المعنى بحيث لو خالفت النصوص المعنى النظري كانت مطرحة.
والذي ارتضاه هو الاتجاه الثالث الذي شرحه بقوله:
والثالث: أن يقال باعتبار الأمرين جميعاً، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص، ولا بالعكس؛ لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض، وهو الذي أمّه أكثر العلماء الراسخين؛ فعليه الاعتماد في الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع.
وهي موقف وسط بين في التعامل مع المقاصد والنصوص الجزئية فقد تباينت آراء الباحثين حول المقاصد من مبالغ في اعتبارها متجاوز لحدود عمومها حيث جعله قطعياً وجعل شمولها مطرداً غافلاً أو متجاهلاً ما يعترى العموم من التخصيص وما ينبرى للشمول من معوقات التنصيص.
فألغوا أحكام الجزئيات التي لها معان تخصها بدعوى انضوائها تحت مقصد شامل.
ومن مجانب للمقاصد متعلقاً بالنصوص الجزئية إلى غاية تلغى المقاصد والمعاني والحكم التي تعترض النص الجزئي وتحد من مدى تطبيقه وتشير إلى ظرفيته فهي كالمقيد له والمخصص لمدى اعتباره إلى حد المناداة بإبطال المصالح.(/6)
والمنهج الصحيح وسط بين هذا وذاك يعطى الكلي نصيبه ويضع الجزئي في نصابه. وقد انتبه لهذه المزالق الشاطبي رحمه الله تعالى حيث حذر من تغييب الجزئي عند مراعاة الكلي ومن الإعراض عن الكلي في التعامل مع الجزئي.
وختاماً ففي هذا البحث السريع قدمنا أسساً للوسطية في الفتوى التي تراعي المصالح والمئالات في الأقوال والأفعال والتوازن بين الكلي والجزئي ولعلي هنا أسوق أبياتاً نظمتها للمجلس الأوربي للإفتاء في دبلن أحدد فيها الجدلية بين الجزئيات والكليات في فتاوى فقه الأقليات وهي :
عُقُودُ المُسلِمينَ بدَارِ غَربٍ تَجَاذَبَها المَقَاصِدُ والفُرُوعُ
ومِيزَانُ الفَقِيه يَجُورُ طَوراً إلى طَرَفِ فَيُفْرِطُ أو يُضِيعُ
فَفِي الجُزْئِيِّ ضِيقُ وانْحِصَارُ وفي الكُلِيِّ مُنْفَسَحُ وَسِيعُ
ونُورُ الحَقِ مَصْلَحَةُ تُوازَى بِجُزئيِّ النُصُوصِ لَه سُطُوعُ
مَآلاتُ الأُمُورِ لَهَا اعتِبَارُ وحَاجِيُّ الضَرُورةِ قَدْ يُطِيعُ
فَزِنْ هذَا بذَاكَ وذَا بِهذَا يَكُنْ في القَيسِ مَنْهَجُك البَدِيعُ
"فِإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أمراً فَدَعْهُ وجَاوزهُ إلى مَا تَسْتَطِيعُ".
وختاماً: فالوسطية ناموس الأكوان وقانون الأحكام تتعامل مع الوقائع من خلال النصوص والواقع مما سماه بعض العلماء فقه الموازنات وهو في حقيقته توازن بين الثوابت والمتغيرات.
والله ولي التوفيق.
_______________________________
[1] - أخرجه الترمذي في الجامع: أبواب الصلاة، باب ما جاء في قراءة الليل رقم 447 ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" رقم 919 وأبو داود رقم1329 وابن حبان وغيرهم)
[2] - أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها رقم 134
[3] - الشاطبي الموافقات 5/25 وما بعدها(/7)
الوسطية في القرآن الكريم (1/10)
د. علي محمد محمد الصلابي 11/5/1426
18/06/2005
إن من نعم الله على هذه الأمة وتشريفه لها أن جعلها أمة وسطاً خياراً عدولاً فقال:
(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) فهي خير الأمم التي أُخرجت للناس، وقد وصفها المولى -عز وجل- وشهد لها بذلك فقال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).
ثم اصطفى الله سبحانه وتعالى لها رسولاً من خيارها وأوسطها نسباً ومكانة فبعثه فيها نبياً رسولاً (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) وأنزل عليها أشرف كتبه وجعله مهيمناً على الكتب قبله شاملاً لخير ما جاءت به.
(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه). بهذا الرسول الكريم، وهذا القرآن الكريم، شرفت هذه الأمة وبمتابعتهما والاهتداء بهديهما، كانت خير الأمم وأوسطها وأعدلها، ثم كان أسعد هذه الأمة باتباعهما وأحرصهم على هديهما قولاً وعملاً واعتقاداً أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم تابعوهم، ثم التابعون لهم بإحسان من القرون الثلاثة المفضلة التي شهد لها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخيرية: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". فهؤلاء هم خيار هذه الأمة ثم يلحق بهم كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الهدى والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فى كل زمان ومكان؛ فهؤلاء جميعاً خيار هذه الأمة وأوسطها وأعدلها فإنه بعد انتقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جوار ربه، ومضى عصر الخلافة الراشدة بدأ فى آخر عهد أمير المؤمنين على بن أبي طالب -رضى الله عنه- ظهور التفرق والاختلاف؛ فخرجت الخوارج ببدعها، وظهرت الشيعة بغلوها وفتنها، ثم توالى ظهور البدع، وتكوّنت الفرق، وتوارثت الاجيال الكثير من الانحرافات العقدية والسلوكية وغيرها، وابتعدت عن منهج الاعتدال والتوسط الذى رسمه القرآن الكريم ومارسه فى الحياة سيد المرسلين. إن المتدبر فى الواقع الذى تعيشه الأمة اليوم يرى فرقاً شاسعاً فى أهدافها واختلافاً فى منطلقاتها وغاياتها وفى مشاربها, يرى الإفراط والتفريط والغلوّ والجفاء والإسراف والتغيّر فى عموم الامة، فإذا انتقلنا إلى حال الدعاة والمصلحين الذين أقضّ مضاجعهم هذا الواقع المؤلم لأمتهم فإنهم شرعوا فى البحث عن طريق العلاج ومعرفة أسباب النجاة، والتمسك بها لإخراج البشرية من الظلمات الى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، نجد تأثير واقع الأمة على وضعهم، فمنهم المشرق، ومنهم المغرب، ترى المفرّط والمُفْرط، نرى بين هؤلاء الدعاة من غالى وأفرط في الغلوّ وعادت أفكار الخوارج القديمة، وهناك من فرط وجفا، وأضاع معالم الدين وأصول العقيدة، حرصاً على جمع الناس دون تزكيتهم وتعليمهم الكتاب والسنة، فضاعت معالم التوحيد وحقيقة العبادة، وبين هؤلاء وأولئك وقفت فئة تقتفي الأثر وتصحّح المنهج وتقود الناس إلى الصّراط المستقيم على منهج أهل السنة والجماعة وسلف الأمة ينفون عن هذا الدين غلوّ الغالين، وانتحال المبطلين، وتفريط الكسالى والمرجئين، ودعاوى المرجفين الزائفين، ووسط هذا الواقع المؤلم والاضطراب المهلك تشتد الحاجة إلى إرشاد الأمة إلى الصراط المستقيم والمنهج الوسط القويم لإنقاذها من كبوتها، وإنقاذها من رقدتها، وتذكير الدعاة والمصلحين بالمنهج الحق، والطريق البيّن الواضح (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه) إن الأمة بأمسّ الحاجة إلى منهج الوسطية منقذاً لها من هذا الانحراف الذى جلب عليها الرزايا والمصائب والنكبات، ولقد وجدت أن القرآن الكريم، قد رسم لنا هذا المنهج في جميع جوانبه أصولاً وفروعاً وعقيدة وعبادة وخلقاً وسلوكاً وتصوراً وعملاً.
ولقد جاء منهج الوسطية من خلال القرآن الكريم في أساليب عدة تصريحاً وإيماء، مفصلاً ومجملاً ، خبراً وإنشاء وأمراً ونهياً.
فبيّن القرآن الكريم أن للوسطية أسساً لا بد للداعية من معرفتها فمنها، الغلوّ والافراط، والجفاء أو التفريط، والصراط المستقيم.
فإن من أراد أن يعرف الوسطيّة على الوجه الدقيق فلابد له من استيعاب الأسس التي ذكرناها فالصراط المستقيم، وهو وسط بين الغلو والجفاء أو الإفراط والتفريط، كما يمثل الخيرية ويحقق معناها، وبذلك يتحقق في الصراط المستقيم أمران من لوازم الوسطية وهما: الخيرية والبينية, كما بيّن القرآن الكريم أن للوسطية ملامح وسمات تحف بها، وتميّزها عن غيرها، بمجموع تلك الملامح لا بإفرادها، وقد طالعت ما ورد في وسطية هذه الأمة بين الأمم، وكذلك ماكتبه بعض الذين بحثوا في الوسطية، ومن خلال استقراء القرآن الكريم فتوصلت إلى تحديد سمات و ملامح للوسطية.(/1)
وتحديد هذه الملامح مهمة أساسية للمسلم الداعية، حتى لا تكون الوسطيّة مجالاً لأرباب الشهوات وأصحاب الأهواء؛ ذلك أن الوسطيّة مرتبة عزيزة المنال، غالية الثمن، كيف لا وهى سمة هذه الأمة، ومحور تميزها بين الأمم، جعلها الله خاصية من خصائصها تكرّماً منه وفضلاً (...ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم).
إن من أهم ملامح الوسطية وسماتها:-
1. السمة الأولى: الخيرية.
2. السمة الثانية: العدل.
3. السمة الثالثة: اليسر ورفع الحرج.
4. السمة الرابعة: الحكمة .
5. السمة الخامسة: الاستقامة .
6. السمة السادسة: البينية .
وكل سمة من هذه السمات يدخل تحتها عدد من أفرادها، ولكل سمة ما يلائمها، ويفي بغرضها. ومعرفة هذه الملامح والسمات تعين الداعية على ضبط وتحديد معنى الوسطية ومعرفتها.
(أسس الوسطيّة)
إن معرفة الوسطيّة يشترط فيها توافر أمرين وهما الخيرية والبينية، وهناك أسس تعيننا على معرفة الوسطية على الوجه الدقيق وهى الغلوّ أو الإفراط، الجفاء أو التفريط ، الصراط المستقيم .
أولاً: الغلو والإفراط
الغلوّ: فقد عرّفه أهل اللغة مجاوزة الحد وفي الحديث الشريف "إياكم والغلوّ في الدين" [ سنن ابن ماجه رقم 2029] أي التشدّد ومجاوزة الحد والحيث الآخر: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق" ويُقال فى اللغة: غلا السهم: ارتفع فى ذهابه وجاوز المدى، وكله من الارتفاع والتجاوز. ويُقال للشيء إذا ارتفع: قد غلا، وغلا النبت: ارتفع وعظم.
هذا معنى الغلوّ فى اللغة وقد جاءت آيتان فى القرآن الكريم فيهما النهي عن الغلوّ بلفظه الصريح، قال تعالى: (يأهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم ولاتقولوا على الله إلا الحق).
قال الإمام الطبري -رحمه الله-: "لا تجاوزوا الحق فى دينكم فتفرطوا فيه، وأصل الغلوّ فى كل شيء مجاوزة حدّه الذى هو حده، يُقال منه في الدين قد غالى فهو يغلو غلواً".
وقال ابن الجوزي - رحمه الله - فى تفسير هذه الآية: والغلو: الإفراط ومجاوزة الحد ومنه غلا السعر، وقال: الغلوّ: مجاوزة القدر فى الظلم
وغلوّ النصارى فى عيسى عليه السلام قول بعضهم: هو الله، وقول بعضهم هو ابن الله ، وقول بعضهم هو ثالث ثلاثة.
وقال ابن كثير: "ينهى الله تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، وهذا كثير فى النصارى، فإنهم تجاوزوا الحد فى عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التى أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه، بل غلوا فى أتباعه وأشياعه، ممن زعم أنهم على دينه، فادّعوا فيهم العصمة، واتبعوهم فى كل ماقالوه، سواء كان حقاً أو باطلاً أو ضلالاً أو رشاداً، صحيحاً أو كذباً. ولهذا قال تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله).
أما الآية الثانية فجاءت فى سورة المائدة قال تعالى: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلّوا عن سواء السبيل).
قال الطبري -رحمه الله-: "لاتفرّطوا فى القول فيما تدينون به من أمر المسيح فتجاوزوا به الحق إلى الباطل، فتقولوا فيه: هو الله، أو هو ابنه، ولكن قولوا: هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: النصارى أكثر غلواً فى الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلوّ فى القرآن.
وقد وردت بعض الأحاديث التى تنهى عن الغلو، وذِكْر بعضها يساعد على فهم بعض الغلوّ
1- عن ابن عباس – رضي الله عنهما– قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غداة جمع: هلمّ القط لي الحصى، فالتقطت من حصى الخزف، فلما وضعهن فى يده قال: نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلوّ فى الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلوّ فى الدين".
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وهذا عام فى جميع أنواع الغلوّ فى الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار، وهو داخل فيه ، مثل الرمي بالحجارة الكبار بناء على أنها أبلغ من الصغار، ثم علله بما يقتضى مجانبة هديهم، أي هدي من كان قبلنا إبعاداً عن الوقوع فيما هلكوا به، وأن المشارك لهم فى بعض هديهم ُيخاف عليه من الهلاك".
2- وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثة
قال الإمام النووي: "هلك المتنطعون: أي المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود فى أقوالهم وأفعالهم".
3- وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدّد الله عليكم فإن قوماً شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم، فتلك بقاياهم فى الصوامع والديار (...ورهبانية ابتدعوها ماكتبناها عليهم 000 ) [ الحديد: 27].
4- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن هذا الدين يسر، ولن يُشادّ الدين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدّلجة".(/2)
قال ابن حجر -رحمه الله- : "والمعنى لا يتعمّق أحد فى الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب".
وقال ابن رجب – رحمه الله-: والتسديد العمل بالسداد، والقصد والتوسط فى العبادة فلا يقصر فيما أمر به، ولا يتحمل منها مالا يطيقه.
إن الأحاديث السابقة ترشدنا الى أن الغلوّ خروج عن المنهج، وتعدٍّ للحد، وعمل ما لم يأذن به الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- والأحاديث التى تنهى عن الغلو كثيرة، وليس هدفي فى هذا المقال حصرها، وإنما اكتفيت ببعض الأحاديث التى لها دلالة على ما نحن بصدده، وهو تحديد معنى الغلوّ ومفهومه وحكمه، ومن ثم علاقته بالوسطية، ولعلماء المسلمين تعريفات كثيره لمعنى الغلوّ، واخترت منها فى مقالي هذا تعريفين:
أولاً: تعريف ابن تيمية – رحمه الله- . الغلوّ: مجاوزة الحدّ مجاوزة بأن يُزاد فى الشيء فى حمده او ذمه على ما يستحق ونحو ذلك.
ثانياً: تعريف ابن حجر رحمه الله – إذ يقول: الغلو: المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد، وضابط الغلو هو تعدي ما أمر الله به، وهوالطغيان الذى نهى الله عنه فى قوله تعالى: (ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم غضبي) ومما سبق من التعريف اللغوي، وما ورد فيه من آيات وأحاديث، وكذلك من تعاريف العلماء يتضح لنا أن الغلوّ: هو مجاوزة الحد فى الأمر المشروع، وذلك بالزيادة فيه أو المبالغة إلى الحد الذي يخرجه عن الوصف الذى أراده وقصده الشارع العليم الخبير الحكيم، وقد أفاد وأجاد الشيخ عبد الرحمن بن معلا اللويحق فى إيضاح حقيقه الغلوّ وكشف حدوده ومعالمه فى رسالته العلمية "الغلو فى الدين"
وقسّم الغلوّ إلى أقسام:
أولاً: إن منشأ الغلو بحسب متعلقه ينقسم إلى مايلي:
1- إلزام النفس أو الآخرين بما لم يوجبه الله – عز وجل – عبادةً وترهبًا، ومقياس ذلك الطاقة الذاتية؛ إذ إن تجاوز الطاقة في أمر مشروع يُعدّ غلواً.
والأدلة على ذلك كثيرة منها:
1- مارواه أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: "ماهذا الحبل؟ فقالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلّقت به فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حلوه, ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد".
قال ابن حجر – رحمه الله – فى شرحه لهذا الحديث: و فيه الحثّ على الاقتصاد فى العبادة والنهي عن التعمق فيها.
ب – تحريم الطيبات التى أباحها الله على وجه التعبد، أو ترك الضرورات أو بعضها، ومن أدلة ذلك قصة النفر الثلاثة.
روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً0 فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
وكذلك لو اضطر مسلم إلى شيء محرّم، كأكل حيوانٍ محرّم أو ميتة، وترك ذلك يؤدي به إلى الهلكة، فإن ذلك من التشدد، وبيان ذلك: إن الله هو الذى حرّم هذا الشيء فى حالة اليسر، وهو سبحانه الذى أباح أكله في حالة الاضطرار قال سبحانه: (إنّما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلّ به لغير الله فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إنّ الله غفورٌ رحيم).
2- أن يكون الغلوّ متعلقاً بالحكم على الآخرين؛ إذ يقف مع بعض الناس موقف المادح الغالي، ويقف مع آخرين موقف الذام، الجافي ويصفهم بما لايلزمهم شرعاً, كالفسق او المروق من الدين ونحو ذلك وفى كلا الحالين يترتب على ذلك أعمال هى من الغلوّ، كالحب والبغض، والولاء والهجر وغير ذلك.
ثانياً: إن الغلوّ في حقيقته حركة فى اتجاه الأحكام الشرعية والأوامر الإلهية، ولكنها حركة تتجاوز فى مداها الحدود التى حدّها الشارع، فهو مبالغة فى الالتزام بالدين، وليس مروقاً عنه في الحقيقة، بل هو نابع من القصد بالإلتزام به.
ثالثاً: إنّ الغلوّ ليس هو الفعل فقط بل قد يكون تركاً، فترك الحلال كالنوم والأكل ونحوه نوع من أنواع الغلو، إذا كان هذا الترك على سبيل العبادة والتقرب الى الله كما يفعل بعض الصوفية والنباتيين.
رابعاً : الغلوّ على نوعين: اعتقادي وعملي
الاعتقادي على قسمين : اعتقادي كلي، واعتقادي فقط.
والمراد بالغلوّ الكلي الاعتقادي ما كان متعلقاً بكليات الشريعة وأمهات مسائلها.
أما الاعتقادي فقط فهو ما كان متعلقاً بباب العقائد دون غيرها كالغلوّ في الأئمة وادّعاء العصمة لهم، أو الغلو فى البراءة من المجتمع العاصي أو تكفيرأفراده واعتزالهم.
ويدخل في الغلو الكلي الاعتقادي الغلو فى فروع كثيرة إذ إن المعارضة الحاصلة به للشرع مماثلة للمعارضة الحاصلة بالغلوّ في أمر كلي.(/3)
أما الغلوّ الجزئي العملي، فهو ما كان غلواً في جزئية من جزيئات الشريعة ومتعلقاً بباب الأعمال دون الاعتقاد, فهو محصور في جانب الفعل سواء أكان قولاً باللسان أم عملاً بالجوارح.
والغلوّ الكلي الاعتقادي أشدّ خطراً، وأعظم ضرراً من الغلوّ العملي؛ إذ إن الغلوّ الكلي الاعتقادي هو المؤدي إلى الشقاق والانشقاق، وهو المظهر للفرق والجماعات الخارجة عن الصراط المستقيم، وذلك كغلوّ الخوارح والشيعة.
خامساً: ليس من الغلوّ طلب الأكمل في كلية العبادة، بل يدخل في تحديد الأكمل أمور عدة تتعلق بالعمل، وبمن قام بالعمل، و كذلك من له صلة بهذا العمل.
فالصدقة – مثلاً – يُراعى فيها: المتصدِّق والمتصدَّق عليه، والمال المتصدَّق به، ولا يسمى كمالاً كلياً بالنظر للكمال الجزئي. ذكر ابن حجر – رحمه الله – "ما يؤيد هذا المعنى ونسبه إلى ابن المنير فقال: وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال أو المبالغة في التطوّع المفضي إلى ترك الأفضل".
سادساً: إن الحكم على العمل بأنه غلو، أو أن هذا المرء من الغلاة، باب خطير، لا يقدر عليه إلا العلماء الذين يدركون حدود هذا العمل، وتبحّروا في علوم العقائد وفروعها؛ لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره، فقد يكون الأمر مشروعاً يوصف صاحبه بالغلو والتطرف والتزمت ونحوها، ولذلك فإن المعيار في الحكم على الأعمال والأفراد والجماعات هو الكتاب والسنة، وليست الأهواء والتقاليد والأعراف والعقول، وما تعارف عليه الناس، وقد ضلّ في هذا الباب أمم وأفراد وجماعات.
وبعد أن اتضح لنا معنى (الغلوّ) لغة وشرعاً، وما يتعلق به من معان وأقسام ،سأوضح معنى (الإفراط) بإيجاز، حيث ستتضح صلته بالغلو.
ثانياً: الإفراط
لغة هو: التقدّم ومجاوزة الحدّ.
قال ابن فارس: يُقال: أفرط: إذا تجاوز الحد في الأمر، يقولون: إياك والفرط، أي لا تجاوز القدر، وهذا هو القياس؛ لأنه إذا جاوز القدر فقد أزال الشيء عن وجهته.
وقال الجوهري: "وأفرط في الأمر: أي جاوز فيه الحد".
والفرطة – بالضم – اسم للخروج والتقدم، ومنه قول أم سلمة لعائشة رضي الله عنهما: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهاك عن الفرطة في البلاد" وفي رواية نهاك عن الفرطة في الدين (يعني السبق والتقدم ومجاوزة الحد والإفراط: الإعجال والتقدم وأفرط في الأمر: أسرف وتقدم وكل شيء جاوز قدره فهو مفرط).
قال تعالى: (إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى)
قال الطبري -رحمه الله –: "وأما الإفراط فهو الإسراف والإشطاط والتعدي، يُقال منه أفرطت في قولك، إذا أسرف فيه وتعدى، وأما التفريط فهو التواني، يُقال منه: فرطت في هذا الأمر حتى فات، إذا توانى فيه" ونخلص مما سبق أن معنى الإفراط: تجاوز الحد، والتقدم عن القدر المطلوب وهو عكس التفريط.
وقد تبين مما سبق من تعريفي الغلوّ والإفراط أن كلا منهما يصدق عليه: تجاوز الحد، وقد فسّر الغلو بالإفراط كما سبق، وإن كل واحد منهما يحمل معنى أبلغ من الثاني في بعض ما يستعمل فيه؛ فالذي يشدّد على نفسه بتحريم بعض الطيبات، أو بحرمان نفسه منها، فوصف الغلوّ ألصق به من الإفراط، والذي يعاقب من اعتدى عليه عقوبة يتعدى بها حدود مثل تلك العقوبة، وهكذا والذي يهمنا في هذا المقال أن كلاً من الغلو والإفراط خروج عن الوسطيّة؛ فكل أمر يستحق وصف الغلوّ، أو الإفراط فليس من الوسطيّة في شيء.
سورة الفاتحة تقرر منهج الوسطيّة (2/10)
د. علي محمد الصلابي 18/5/1426
25/06/2005
إنّ أم الكتاب تقرر منهج الوسطيّة من أولها إلى آخرها، وأظهر آية فيها شاهدة بذلك هي قوله – تعالى (أهدنا الصراط المستقيم) (1) وما بعدها.
وهذه الآية صريحة في تحديد المنهج الوسط، ذلك أنه بين أن هذا الصراط هو صراط الذين أنعم الله عليهم.
قال الطبري- رحمه الله –: "أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وكذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك الشاعر:
أمير المؤمنين على الصراط
إذا اعوج الموارد مستقيم
قال ابن عباس – رحمه الله –: (اهدنا الصراط المستقيم) يقول: ألهمنا الطريق الهادي، وهو دين الله الذي لا عوج له(2)، ثم قال: وكل حائد عن قصد السبيل، وسالك غير المنهج القويم فضالّ عند العرب، لإضلاله وجه الطريق (3).
وقد بيّن الله لنا أن الصراط المستقيم هو منهج الوسط، حيث قال واصفاً الصراط المستقيم: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) (4) ومنهج المغضوب عليهم يمثل التفريط، بينما منهج الضالّين الإفراط، فهما منهجان دائران بين الغلوّ والجفاء.
قال ابن كثير -رحمه الله-: غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحقّ وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين، وهم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالة، لا يهتدون إلى الحق (5).(/4)
وبهذا يتبين لنا أن هناك ثلاثة طرق: طريق الذين أنعم الله عليهم، وطريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين.
والله أمرنا بالالتزام بسبيل الذين أنعم الله عليهم؛ لأنه هو الصراط المستقيم، وهو منهج وسط بين سبيلين منحرفين، وهما سبيلا اليهود والنصارى، وكل طريق منحرف عن منهج الصراط المستقيم فله حظ من أحد هذين السبيلين.
ولأن الاستقامة تعني الوسطيّة كما تبينها آية الفاتحة، وكما وضّحت ذلك في ملامح الوسطيّة. جاءت الآيات متعددة تدعو إلى الاستقامة بأساليب متعددة وألفاظ متقاربة، وهي تدور بين الخبر والإنشاء.
ومن هذا المنطلق، وبعد أن تقرر أن طريق الاستقامة هو طريق الأمة الوسط، فإن كل آية وردت في الاستقامة هي آية في تحقيق الوسطيّة والدعوة إليها على المراد، وبياناً لهذا المنهج.
قال- سبحانه-:(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا...)(6)
فقوله تعالى: (ولا تطغوا) بعد أن أمر بالاستقامة, والطغيان هو مجاوزة الحد (7) وهو خروج عن منهج الوسطيّة إلى الانحراف عن السبيل.
وفي الآية الثانية: قال (ولا تتبع أهواءهم) وإتباع الهوى خروج عن الاستقامة، وانحراف عن منهج الوسطيّة.
وتتواصل الآيات في هذا الشأن، ففي سورة البقرة: (يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)(8) وفي آل عمران: (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم) وفي الأنعام: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه)(9) وفيها (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً) (10) وفي النحل:(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (11). وفي الزخرف: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم) (12) وفي سورة الملك :(أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم) (13)
إلى غير ذلك من الآيات، حيث إن كل واحدة منها دالة على أن الصراط المستقيم هو الطريق الذي أمرنا باتباعه واجتناب ما عداه؛ لأنه هو طريق الحق والعدل والوسط، وما عداه طريق الضلال والغواية والانحراف عن الصراط المستقيم، وها هو الشيطان يعلن هذه الحقيقة قائلاً كما ذكر الله في سورة الأعراف: (فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم)(14) وصدق الله العظيم إذ يقول: (...من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم )(15))
وفي سورة التكوير : (إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم) (16) وهذه الآية تعني أن القرآن كله دعوة للاستقامة والسير على المنهج الحق، قال القرطبي:(إن هو) يعني القرآن (إلا ذكر للعالمين) أي موعظة وزجر (لمن شاء منكم أن يستقيم) أي يتبع الحق ويقيم عليه(17)، ومما سبق يتضح لنا أن سورة الفاتحة وضعت القاعدة والمنطلق، ورسمت المنهج وحدّدت معالمه، ثم جاءت الآيات بعد ذلك مقررة لذلك وداعية له.
|1|2|
--------------------------------------------------------------------------------
1-سورة الفاتحة ، الآية 6
2-انظر : تفسير الطبري ( ج1/74،73 )
3-انظر : تفسير الطبري ( ج1/84 )
4-سورة الفاتحة ، آية 7
5-انظر : تفسير ابن كثير ( ج1 / 29 )
6-سورة هود ، الآية 112
7-انظر : تفسير القرطبي (ج9/107 )
8-سورة البقرة ، الآية 142
9-سورة الأنعام ، الآية : 153
10-سورة الأنعام ، الآية : 161
11-سورة النحل ، الآية 76
12-سورة الزخرف ، الآية 43
13-سورة الملك ، الآية : 22
14-سورة الأعراف ، الآية 16
15-سورة الأنعام ، الآية: 39
16-سورة التكوير ، الآيتان : ( 28،27 )
17-انظر : تفسير القرطبي (ج19 / 343)
وسطيّة القرآن في العقيدة (3/10)
د. علي محمد الصلابي 24/5/1426
01/07/2005
العقيدة لغة: (من العقد، وهو الربط والشدّ بقوة، منه الإحكام والإبرام، والتماسك والرصانة والإثبات والتوثق (1))(/5)
العقيدة في الاصطلاح: كلمة العقيدة لم تكن موجودة في الكتاب والسنة، ولا في أمهات المعاجم، وإن أول من تم الوقوف على ذكره لجمعها (عقائد) هو القشري (2) سنه 437 هـ في كتابه (الرسالة)، وهي كلمة مولدة لم تكن في الصدر الأول (3) وقد عرّفها الدكتور ناصر العقل (4) فقال: (الإيمان الجازم بالله وما يجب له في ألوهيّته وربوبيّته وأسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره، وشره، وبكل ما جاءت به النصوص الصحيحة في أصول الدين وأمور الغيب وأخباره، وما أجمع عليه السلف الصالح والتسليم لله تعالى في الحكم والأمر والقدر والشرع ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وبالطاعة والتحكيم والاتباع) (5) يشمل التوحيد، الإيمان، والإسلام، والغييبات، والنبوات، والقدر، والأخبار، وأصول الأحكام القطعيّة، وسائر أصول الدين، والاعتقاد، ويتبعه الردّ على أهل الأهواء والبدع وسائر الملل والنحل والمذاهب الضّالة، والموقف منهم ومن مسمّيات هذا العلم، العقيدة، التوحيد، والسنة، وأصول الدين.
والعقيدة في الإسلام تقابل الشريعة؛ إذ الإسلام عقيدة وشريعة تعني التكاليف العملية التي جاءت في القرآن والسنة النبوية في العبادات والمعاملات، والعقيدة هي أمور علميّة يجب على المسلم أن يؤمن بها؛ لأن الله أخبرنا بها بطريق كتابه، أو بطريق وحيه إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- وأصول العقائد التي أمرنا الله باعتقادها هي التي حددها الرسول – صلى الله عليه وسلم – في حديث جبريل المشهور بقوله : ( الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى) (6) فالعقيدة في ديننا هي التي تدور حول قضايا معينة، هي التي أخبرنا بها الله ورسوله، وليست اعتقاد أي شيء وحتى تصبح هذه عقيدة لابد أن تصدق بها تصديقاً جازماً لا ريب فيه. فإن كان فيها ريب أو شك كانت ظناً لا عقيدة (7)والدليل على ذلك قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا...)(8) وقوله تعالى : (ألم ذلك الكتاب لاريب فيه) (9) وقال ( ...إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه... ) (10) وذم المشركين المرتابين (... وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون) (11) . والمسائل التي يجب اعتقادها أمور غيبية، ليست مشاهدة منظورة، وهي التي عناها الله بقوله عندما مدح المؤمنين (يؤمنون بالغيب) (12) فالله غيب، وكذلك الملائكة واليوم الآخر، أما الكتب والرسل فقد يتبادر أنها تشاهد وتنظر، لكن المراد هو الإيمان يستبقها إلى الله أي كون الرسل مبعوثين من عند الله، وأن الكتب منزلة من عند الله ، وهذا أمر غيبي.
|1|2|3|
--------------------------------------------------------------------------------
1- انظر لسان العرب مادة (عقد) فصل (العين المهملة) ( ج3 /295)
2- هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشري صاحب الرسالة والتفسير وغيرهما صحب أبا علي الدقاق وغيره، وأخذ الفقه فأتقنه، ثم الأصول على ابن فورك والأستاذ أبي إسحاق ولد سنة 377 هـ وتوفي سنة: 465هـ انظر: تاريخ بغداد ( ج11/ 83) ترجمته رقم :5763
3- انظر معجم المنتهي اللفظية للشيخ بكر أبو زيد ص242
4- هو ناصر عبد الكريم العقل من علماء العقائد بنجد تحصل على درجة الدكتوراه – وأشرف على رسائل علمية في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن مسعود .
5- مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة ص(9)
6- مسلم ، كتاب الإيمان ، باب الإيمان بالقدر ( ج1 /38) رقم (8)
7- انظر : العقيدة في الله لعمر الأشقر (ص10،9)
8- سورة الحجرات ( آية : 15
9- سورة البقرة ، آية 2،1
10- سورة آل عمران آية 9
11-سورة التوبة ، آية 45
12- سورة البقرة ، آية 3
العقيدة الصحيحة والعقيدة الفاسدة (4/10)
د. علي محمد الصلابي 3/6/1426
09/07/2005
العقيدة ليست مختصّة بالإسلام، بل كل ديانة أو مذهب لا بدّ لأصحابه من عقيدة يقيمون عليها نظام حياتهم، وهذا ينطبق على الجماعات والأفراد والأمم الشعوب، والعقائد منذ بدء الخليقة إلى اليوم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها قسمان:
الأول: يمثل العقيدة الصحيحة، وهي تلك العقائد التي جاءت بها الرسل الكرام في أي زمان ومكان، وهي عقيدة واحدة؛ لأنها منزلة من العليم الخبير الحكيم العزيز.
والقسم الثاني: يشمل العقائد الفاسدة على كثرتها وتعددها، وفسادها ناشئ من كونها نتاج أفكار البشر، ومن وضع مفكريهم وعقلائهم، وعلمهم محدود ومقيد بقيود بشرية متمثلة في العادات والتقاليد والأفكار, وأحياناً يأتي فساد العقيدة من تحريفها، وتغييرها وتبديلها، كما هو الحال للعقيدة اليهودية والنصرانية في الوقت الحاضر، فإنهما حُرّفتا منذ عهد بعيد، ففسادهما كان من هذا التحريف، وإن كانت عقيدة سليمة في الأصل (1).
أين العقيدة الصحيحة اليوم؟(/6)
العقيدة الصحيحة لا توجد إلا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنهما محفوظتان, لحفظ الله لهما قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9] والعقائد في غير الإسلام -وإن كان في بعضها قليل من الحق- فإنها لا تمثل الحق، ولا تجليه؛ فالعقيدة الصحيحة السليمة لا توجد في اليهودية ولا في النصرانية، ولا في كلام الفلاسفة ...وإنما توجد في الإسلام في أصليه: الكتاب والسنة, نديّة, طريّة, صافية مشرقة، تملاْ الفؤاد إيماناً ونوراً وحياة ويقيناً، (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ...)[الشورى: من الآية52]. (3) وتقنع العقل بالحجة والبرهان (...إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[الروم: من الآية24] وتنسجم مع الفطرة (...فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا...)[الروم: من الآية30]
ماذا تعني العقيدة ؟
العقيدة الإسلامية ضرورية للإنسان؛ أنه بدونها ائه ضائع يفقد ذاته ووجوده، والعقيدة الإسلامية وحدها التي تجيب عن لتساؤلات التي شغلت ولا تزال تشغل الفكر الإنساني، بل تحيّره: من أين جئت؟ ومن أين جاء هذا الكون؟ وما دورنا في هذا الكون؟ ما علاقتنا بالخالق الذي خلقنا؟ وهل هناك عوامل غير منظوره وراء هذا العالم المشهود؟ وهل هناك مخلوقات عاقلة مفكرة غير هذا الإنسان؟ وهل بعد هذه الحياة من حياة أخرى نصير إليها؟ وكيف تكون تلك الحياة إن كان الجواب بالإيجاب؟
لا توجد عقيدة سوى العقيدة الإسلامية اليوم تجيب عن هذه الأسئلة إجابة صادقة مقنعة و كل من لم يعرف العقيدة، و من لم يعتنقها فإن حاله لن يختلف عن حال ذلك الشاعر البائس (2) الذي لا يدري شيئاً :
***
جئت، لا أعلم من أين، ولكني أتيت
ولقد أبصرت، قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري!!
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود
هل أنا حرٌّ طليق أم أسير في قيود
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود
أتمنّى أنني أدري ولكني
لست أدري!!
وطريقي ما طريقي؟ أطويل أم قصير
هل أنا أصعد أم أنا أهبط فيه وأغور
أأنا السائر في الدرب أم الدرب تسير؟
أم كلانا واقف والدهر يجري
لست أدري!!
ليت شعري وأنا في عالم الغيب الأمين
أتراني كنت أدري أنني فيه دفين
وبأني سوف أبدو وبأني سأكون
أم تراني كنت لا أدرك شيئاً؟
لست أدري!!
أتراني قبلما أصبحت إنساناً سوياً
كنت محواً أو محالاً أم تراني كنت شيئاً
أًلهذا اللغز حلٌّ؟ أم سيبقى أبدياً
لست أدري .... لماذا لست أدري
لست أدري!! (3)
وهذا الشاعر الملحد فقد معرفة الحقائق الكبرى؛ فأصبح في هذه الحيرة والقلق والشك والأمراض النفسية, وأين هو من المسلم الذي يدري ويعرف معرفة مستيقنة كل هذه الحقائق، فإذا هو يجد برد اليقين، وهدوء البال، وإذا هو يسير في طريق مستقيم إلى غاية مرسومة يعرف معالمها، ويدري غايتها.
قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (4)
وقال تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (5)
واستمع إلى الشاعر البائس يتحدث عن الموت والمصير:
***
إن يك الموت قصاصاً: أي ذنب للطهارة؟
وإن كان ثوباً، أي فضل للدّعارة
وإذا كان وما فيه جزاء أو خسارة
فَلِمَ الأسماء إثم وصلاح
لست أدري
إن يك الموت رقاداً بعده صحو طويل
فلماذا ليس يبقى صحونا هذا الجميل
ولماذا المرء لا يدري متى وقت الرحيل
ومتى ينكشف الستر فيدري؟
لست أدري
إن يك الموت هجوعاً يملأ النفس سلاماً
وانعتاقاً لا اعتقالاً وابتداءً لا ختاماً
فلماذا لا أعشق النوم ولا أهوى الحمام؟
ولماذا تجزع الأرواح منه
لست أدري
أوراء القبر بعد الموت بعث ونشور؟
فحياة، فخلود، أم فناء فدثور؟
أكلام الناس أصدق أم كلام الناس زور؟
أصحيح أن بعض الناس يدري
لست أدري
إن أكن أُبعث بعد الموت جثماناً وعقلا
أترى أُبعث بعضاً أم تُرى أُبعث كُلا
أتُرى أُبعث طفلاً أم تُرى أُبعث كهلا؟
ثم هل أعرف بعد الموت زلالتي؟
لست أدري (6)
(لست أدري ) تلك هي الإجابة عن التساؤلات الخالدة، وليست هي قول شاعر فحسب
( فسقراط) الفيلسوف الذي يُعدّ من عمالقة الفلاسفة، يقول بصريح العبارة: (الشيء الذي لا أزال أجهله جيداً أنني لست أدري) (7) بل إن(اللاأدريّة) مذهب فلسفي قديم .
( فسقراط) الفيلسوف الذي يعد من عمالقة الفلاسفة، يقول بصريح العبارة: (الشيء الذي لا أزال أجهله جيداً أنني لست أدري) (8) بل إن( اللاأدريّة) مذهب فلسفي قديم .(/7)
إنه الضلالة. الضلالة عن الحقيقة إنه الشقاء: شقاء القلب تعاسة النفس وضياع الضمير المثقل المكدود، وكم في الحياة من أمثال هذا الشاعر البائس الضالّ، بعضهم يستطيع أن يفصح عن شكوته وحيرته، وبعضهم يحسّ ويعاني وتبقى أفكاره حبيسة نفسه الشقية(9).
بالإسلام وحده يصبح الإنسان يدري، يدرى من أين جاء، والى أين المصير، يدري لماذا هو موجود وما دوره في هذه الحياة. قال تعالى:( أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (10).
إن البشرية تخبط في دياجير الظلام، وانتكست في مهاوي الشرك، وضلّت عن سواء السبيل، وانحرفت عن منهج التوحيد، الذي جاء به الأنبياء والرسل، فأُصيبت البشريّة في عقلها وفكرها وقلبها بالشرك، وما ينبثق عنه من ضياع في المنهج والفكر والعقيدة والأخلاق، فانحرفت اليهودية عن التوحيد الذي جاء به موسى عليه السلام، على دراية من أحبارهم وعلمائهم ولذلك غضب الله عليهم، وأضاعت النصارى الحق الذي جاء به عيسى عليه السلام فضلّوا سواء السبيل.
فأصبحت البشرية في ظلمه شديدة قبل نزول القرآن وبزوغ فجر الإسلام، كانت البشرية قبل نزول القرآن تعجّ بركام العقائد والتصوّرات المنحرفة في ذات الله، وفي الكون وفي الحياة وفي الإنسان والموت، وفي الجزاء وفي الحساب وفي الكتب السماوية وفي رسل الله وفي أقدار الله وقضائه، وأصبحت البشرية بين إفراط وتفريط بعيدة عن الصراط المستقيم، حائدة عن الوسطيّة والاعتدال، والاستقامة فبعض البشر زعم أن الملائكة بنات الله، ثم عبدوا الملائكة كما فعل مشركو العرب، وبعضهم قالوا: عيسى ابن الله كما فعلت النصارى، وبعضهم قالوا: عزيز ابن الله كما فعلت اليهود. ووصفوا المولى -عز وجل- بصفات لا تليق به من صفات النقص، وشبّهوه بمخلوقاته، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وشاعت بين البشرية عبادة الأصنام، إما بوصف تماثيل للملائكة، أو بوصف تماثيل للأجداد، وإما لذاتها، وكانت الكعبة، التي بُنيت لعبادة الله وحده، تعجّ بالأصنام؛ إذ كانت تحتوي على ثلاثمائة وستين صنماً غير الأصنام الكبرى في جهات متفرقة.
ومما يدل على أن اللات والعزى ومناة كانت تماثيل لملائكة كما جاء في القرآن الكريم في سورة النجم: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (11)
وانتشرت بين الناس عبادة الكواكب، وكانت قبيلة حمير تعبد الشمس و كنانة تعبد القمر، ولخم وحزام المشتري، وطي تعبد سهيلاً وقيس تعبد العبور. وأسد تعبد عطارد، وقد جاء عن هذا في سورة فصلت (... لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (12)
وجاء في سورة النجم (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى) (13).
وكثرت الإشارات إلى خلق النجوم والكواكب وربوبية الله سبحانه لها كبقية خلائقه. ونفى ألوهية الكواكب وعبادتها.
لقد سادت الصورة الشائعة للتصورات في الجزيرة العربية حيث عبادة الأصنام، وفي بلاد فارس حيث الديانة المجوسيّة، وفى بلاد الشام والرومان حيث النصرانيّة المنحرفة، واليهوديّة المغضوب عليها، وأصبحت البشرية شرقاً وغرباً، جنوباً وشمالاً تعجّ بركام من بقايا العقائد السماويّة المنحرفة، تجثم على ضمير البشرية في كل مكان، والذي كانت تنبثق منه أنظمتهم وأوضاعهم وآدابهم وأخلاقهم (14) ومن ثم كانت عناية الإسلام الكبرى موجهة إلى تحرير العقيدة، وتحديد الصورة الصحيحة التي يستقر عليها الضمير البشري في حقيقة الألوهيّة وعلاقتها بالخالق، وعلاقة الخالق بها
فتستقرّ عليها نظمهم وأوضاعهم، وعلاقتهم الاجتماعية والاقتصاديه والسياسية، وأدبهم وأخلاقهم كذلك. فما يمكن أن تستقر هذه الأمور كلها، إلا أن تستقر حقيقة الألوهية، وتتبين خصائصها واختصاصاتها.(/8)
وعُني الإسلام (في أصليه الكتاب والسنة) بإيضاح طبيعة الخصائص والصفات الإلهية المتعلقة بالخلق والإرادة والهيمنة والتدبير .. ثم بحقيقة الصلة بين الله والإنسان ... فلقد كان لمعظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه العقائد والفلسفات، مما يتعلق بهذا الأمر الخطير-الأثر في الضمير البشري وفى الحياة الإنسانيه كلها.
فالذي يعرف الجاهلية هو الذي يدرك قيمه الإسلام، ويعرف كيف يحرص على رحمة الله المتمثلة فيه، ونعمة الله المحققة به أن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها ... إن هذا كله لا يتجلّى للقلب والعقل، كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية– السابقة للإسلام واللاحقة – عند إذن تبدو هذه العقيدة رحمة ... رحمة حقيقية ... رحمة للقلب والعقل، ورحمة بالحياة والأحياء، رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق وقرب وأنس، وتجاوب مع الفترة مباشر عميق (4 ).
|1|2|3|4|
--------------------------------------------------------------------------------
1- انظر العقيدة في الله ص (11).
2- انظر العقيدة في الله ص ( 12)
3- هو إيليا أبو ماضي من قصيدة له طويلة بعنوان (الطلاسم) من ديوانه ( الجداول) ص (106 ).
4- الجداول ص (106 )
5- سورة الروم آية : 40
6- سورة الداريات آية : 56
7- الجداول ص (107)
8- الدين لدراز ص (69)
9- انظر: العقيدة في الله ص (15)
10- سوره تبارك ، آية 22
11- سورة النجم :الآيات (19-28)
12- سوره فصلت آية 37
13- سوره النجم آية 49
14- خصائص التصور الاسلامى ومقوماته (46,42)(/9)
المقدمة
القضية التي يعالجها البحث
تعريف الوسطيَّة
تحرير معنى الوسطيَّة
أسس فهم الوسطيَّة
الإفراط
الصلة بين الوسطية والصراط المستقيم
ملامح الوسطيَّة
الأدلة من القرآن الكريم
الأدلة من السنة النبوية
المقدمة
إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:70، 71).
أما بعد:
فإنّ المتأمل في الواقع الذي تعيشه الأمّة اليوم يرى بَوْنًا شاسعًا في مشاربها وأهدافها، واختلافًا في منطلقاتها وغاياتها.
يرى الإفراط والتفريط، والغلوّ والجفاء، والإسراف والتقتير: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (الحج: من الآية45).
هذا على مستوى الأمّة عمومًا، فإذا انتقلنا إلى حال الدّعاة والمصلحين الذي أقضَّ مضاجعهم هذا الواقع المؤلم لأمّتهم، فطفقوا يبحثون عن سبل العلاج وطوق النَّجاة، لإخراج البشرية من الظلمات إلى النور، ومن الضّلالة إلى الهدى، نجد انعكاس واقع الأمة على حالهم، فمنهم المشَرِّق، ومنهم المغرِّب، ترى المفرِط والمفرِّط، نرى بين هؤلاء الدّعاة والمصلحين من غلا وأفرط في الغلوّ، فنشأت جماعات تكفير وهجرة، وعادت سوق الخوارج رائجة، وهناك من فرَّط وجفا، وأضاع معالم الدّين وأصول العقيدة، حرصًا على جمع النَّاس دون تربيتهم، ففشا الإرجاء، وانطمست معالم التَّوحيد، وحقيقة العبادة.
وبين هؤلاء وأولئك وقفت فئة تقتفي الأثر، وتصحِّح الطّريق، وتدلُّ الناس إلى الصِّراط المستقيم، على منهج أهل السنة والجماعة، وسلف الأمّة؛ ينفون عن هذا الدّين غلوّ الغالين، وانتحال المبطلين، وتفريط الكسالى والمرجئين، ودعاوى المنافقين والمرجفين. ووسط هذا الواقع المؤلم، والاضطراب المهلك، تشتدّ الحاجة إلى دلالة الأمّة إلى الصّراط المستقيم، والمنهج العدل المبين، لإنقاذها من كبوتها، وإيقاظها من رقدتها، وتبصير الدّعاة والمصلحين بالمنهج الحقّ، والطّريق البيِّن الواضح: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام: من الآية153).
لقد وقفت طويلا عند مسألة الغلوّ والجفاء، والإفراط والتَّفريط، وأدركت أن الأمّة بأمسِّ الحاجة إلى منهج الوسطيَّة منقذًا لها من هذا الانحراف، الذي جرَّ عليها المصائب والمشكلات.
ووجدت أنّ القرآن الكريم، قد رسم لنا هذا المنهج في شتَّى جوانبه، أصولا وفروعًا، عقيدةً وعبادةً، خُلقًا وسلوكًا، تصوُّرًا وعملا.
ولقد جاء منهج الوسطيَّة من خلال القرآن الكريم في أساليب عدَّة، تصريحًا وإيماءً، مفصَّلا ومجملا، خبرًا وإنشاءً، أمرًا ونهيًا.
واقتناعًا منِّي بأهميَّة هذا الموضوع، ومسيس الحاجة إليه، فقد عزمت على الكتابة فيه، وهذا يقتضي أن أعيش مع كتاب الله متأمِّلا لآياته، متفكِّرًا في دلالاته، مستوعبًا لما كتبه المفسِّرون حول تقرير القرآن لمنهج الوسطيَّة.
القضية التي يعالجها البحث
مفهوم الوسطيَّة وحقيقتها ضلَّ فيها كثيرون، وبيان ذلك كما يلي:
1- هناك من فهم أن الوسطيَّة تعني التَّنازل والتَّساهل، فإذا رأوا مسلمًا قد التزم الصّراط المستقيم، وسار على هدي النبوَّة، قالوا له: لماذا تُشدِّد على نفسك وعلى الآخرين ودين الله وسط؟ ولذلك نجد في واقعنا المعاصر أن أكثر الذين يُرمَون بالتَّطرف والغلوّ وأخيرًا بالأصوليَّة (1) هم من الذين التزموا بالمنهج على وجهه الصَّحيح.
ومن أسباب ذلك الجهل بحقيقة الوسطيَّة.
2- وفي المقابل نجد فئة من المتحمِّسين المندفعين، يصفون أصحاب المنهج الحقّ، الذين لم يوافقوا هؤلاء على أفكارهم، ولم يسايروهم في حماسهم واندفاعهم يصفونهم بالتَّساهل والتَّهاون، وعدم الغيرة، بل وأحيانًا بالتَّنازل والممالأة.
ومنشأ ذلك - أيضًا - جهلهم بحقيقة الوسطيَّة، مع أنهم يدَّعونها، لكنهم لا يفهمونها على الوجه الصحيح.
__________
(1) - بعض من يطلق هذه الصفات، يطلقها لأغراض لا تخفى، والمشكلة أن هناك من يصدّق ما يقولون جهلا أو سذاجة، أما الذين يتجاهلون فلا يعنيهم هذا البحث.(/1)
3- وهناك فئة ثالثة ليست من هؤلاء ولا أولئك، وهم حريصون على الالتزام بالمنهج الصحيح، ولكنَّهم يقعون في أخطاء أثناء ممارستهم للدعوة قولا أو فعلا، وسبب هذا الأمر عدم تصورهم لمنهج الوسطيَّة تصورًا شاملا، وقصرهم هذا المنهج على بعض آحاده.
4- والنتيجة التي نتوصل إليها من ذلك كله أن هذا المنهج بحاجة إلى تفصيل وبيان، لا لخفائه في ذاته، بل هو أوضح من الشمس في رابعة النهار، ولكن خفاءه من الأمور النسبيَّة التي تعود إلى بُعد كثير من الناس عن منهج القرآن والسنة، وضعف حصيلتهم العلميَّة، وممارستهم التعبديَّة والدعويَّة.
والخلاصة أنَّ هذا البحث معنيُّ بإيضاح مفهوم الوسطيَّة، وتحديد مدلولها في ضوء القرآن الكريم، تعريفًا وتأصيلا، وتحديدًا، وتطبيقًا.
وهذا هو المعنى الشّامل الذي نفهمه من قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). فمن منطوق هذه الآية انْطَلَقْت، وفي ضوئها سرتُ وكتبتُ، ومن مفهومها موافقة ومخالفة حقَّقتُ وبيَّنتُ.
وكنت أضع القضيَّة التي جئت أعالجها نصب عيني في كل ما سطَّرتُ ودوَّنتْ.
مخطط البحث
بدأت البحث بتعريف الوسطيَّة، واشتمل هذا المبحث على ما يأتي:
1- الوسطيَّة في اللغة.
2- استعمالات الكلمة في القرآن الكريم.
3- أحاديث نبوية في (الوسط).
4- تحرير معنى الوسطيَّة.
ثم انتقلت إلى مبحث آخر وهو أسس فهم الوسطيَّة، واشتمل على ما يلي:
1- مقدمة لهذا المبحث.
2- الغلو والإفراط.
3- الجفاء والتفريط.
4- الصّراط المستقيم.
ثم عقدت مبحثًا لبيان ملامح الوسطيَّة، وتضمّن الحديث عن الملامح التالية، بعد مقدمة المبحث:
1- الخيرية.
2- الاستقامة.
3- اليسر ورفع الحرج.
4- البينيَّة.
5- العدل والحكمة.
وأخيرًا ذكرت دليلا تطبيقيًّا يجمع هذه الملامح.
وهذه المباحث الثلاثة، تعتبر أركانًا أساسيَّة، ومنطلقات منهجيَّة لمعرفة حقيقة الوسطيَّة في حدودها الشرعيَّة، بل إن مضمون تلك المباحث هو المعيار الذي نستطيع من خلاله أن نعرف هل هذا الأمر وسطيًا أو هو يتضمَّن إفراطًا أو تفريطًا؟
وهي كذلك وسيلة للبحث عن المنهج الوسطيّ في كل قضية تعرض لنا، فمن خلال تلك المباحث نخرج المنهج وننقحه، ثم نحقّقه.
وبعد تحرير تلك الأصول والمنطلقات، عقدت أهمَّ مباحث الكتاب، وهو بيان تقرير القرآن الكريم لمنهج الوسطيَّة، حيث بيَّنت عناية القرآن بهذا المنهج، وذكرت الأمثلة التطبيقيَّة التي توضح ذلك، وجاء هذا الباب مشتملا على المباحث التالية:
1- مقدمة توضيحيَّة.
2- وقفة مع سورة الفاتحة.
3- منهج الوسطيَّة في الاعتقاد.
4- منهج الوسطيَّة في التَّشريع والتَّكليف.
5- منهج الوسطيَّة في العبادة.
6- منهج الوسطيَّة في الشّهادة والحكم.
7- منهج الوسطيَّة في الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر.
8- منهج الوسطيَّة في الجهاد في سبيل الله.
9- منهج الوسطيَّة في المعاملة والأخلاق.
10- منهج الوسطيَّة في كسب المال وإنفاقه.
11- منهج الوسطيَّة في مطالب النفس وشهواتها.
وأخيرًا ذكرت بعض الشواهد المتفرِّقة التي تؤكد هذا المنهج وتبيِّنه.
وختمت البحث بخاتمة مناسبة ربطت فيها بين الهدف والنتيجة.
وبعد:
فقد بذلت جهدي في إخراج هذا الموضوع، فما كان فيه من حقّ وصواب فمن الله وحده (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) (البقرة: من الآية255). (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) (النساء: من الآية113). وما كان فيه من تقصير وخطأ فمن نفسي والشَّيطان، وأستغفر الله.
فلله الحمد والشكر والمنَّة، والثَّناء الحسن، على فضله، وتيسيره، وإعانته، وتوفيقه، ثم أشكر كل من أسهم في إخراج هذا البحث سواء كان إسهامًا مباشرًا أو غير مباشر(1) فلهم مني الشّكر وجميل الدّعاء.
والحمد لله أولا وآخرًا.
إن تجد عيبًا فسدَّ الخللا ... جلَّ من لا عيبَ فيه وعلا
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الطائف
26/3/ 1413 هـ
تعريف الوسطيَّة
الوسطيَّة في اللغة
جاءت كلمة (وسط) في اللغة لعدّة معانٍ، ولكنها مُتقاربة في مدلولها عند التأمّل في حقيقتها ومآلها.
قال ابن فارس: (وسط): الواو والسّين والطّاء: بناء صحيح يدلّ على العدل والنّصف.
وأعدل الشيء: أوسطه، ووسطه، قال الله - عز وجل - (أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143).
ويقولون: ضربتُ وَسَطَ رأسِه - بفتح السين - ووسْط القوم - بسكونها -، وهو أوسَطُهم حسبًا - إذا كان في واسطةِ قومه وأرفعهم محلا (2).
ومن هذا الكلام يتَّضح أن (وسط) تأتي بفتح السّين وسكونها، وفتحها أكثر استعمالا كما سيأتي.
__________
(1) - أشكر الجامعة بصفة خاصة حيث فرَّغتني لمدة عام مما مكنني من إنجاز هذا البحث.
(2) - انظر: معجم مقاييس اللغة مادة: (وسط) 6/108.(/2)
ويمكن إجمال المعاني التي جاءت تدلّ عليها هذه الكلمة فيما يلي (1) .
1- (وسْط) بسكون السّين تكون ظرفًا بمعنى (بين)، قال في لسان العرب: وأمَّا الوسْط بسكون السّين فهو ظرف لا اسم، جاء على وزان نظيره في المعنى وهو (بين)، تقول: جلست وسْط القوم، أي: بينهم، ومنه قول سوار بن المضرب:
إنيّ كأنيّ أرى من لا حياة ... ولا أمانة وسْط النَّاس عُريانًا (2)
قال د. زيد الزيد: وقد أشارت بعض المعاجم اللغوية إلى التفريق بين كلمة وسَط - بالتحريك - ووسْط بالسكون، فقالوا: إن كل موضع يصلح فيه (بين) فهو بالسّكون، وما لا يصلح فيه (بين) فهو بالفتح.
وقيل: كل منهما يقع موضع الآخر، قال ابن الأثير في غريب الحديث: وهو الأشبه (3).
وقال الزبيدي: وقديمًا كنت أسمع شيوخنا يقولون في الفرق بينهما كلامًا شاملا لما ذكر، وهو السّاكن متحرّك، والمتحرّك ساكن (4).
2- وتأتي - وسَط بالفتح - اسمًا لما بين طرفي الشيء وهو منه، ومن ذلك: قبضتْ وسط الحبل، وكسرت وسط القوس، وجلست وسط الدّار، وهذه حقيقة معناها كما ذكر ابن برّي (5).
3- وتأتي - بالفتح أيضًا - صفة، بمعنى خيار، وأفضل، وأجود، فأوسط الشيء أفضله وخياره: كوسط المرعى خير من طرفيه، ومرعى وسط أي: خيار.
وواسطة القلادة: الجوهر الذي وسطها، وهو أجودها، ورجل وسط ووسيط: حسن (6).
4- وتأتي وسط - بالفتح - بمعني عدل، قال ابن فارس: وسط: بناء صحيح يدلّ على العدل، وأعدل الشيء أوسطه ووسطه.
وقال ابن منظور: ووسط الشيء وأوسطه: أعدله.
وقال الفيروزآبادي: الوسط - محركة - من كل شيء: أعدله (7).
5- وتأتي (وسط) بالفتح - أيضًا - للشيء بين الجيد والرديء.
قال الجوهري: ويقال: شيء وسط: أي بين الجيد والرديء.
وقال صاحب المصباح المنير: يُقال شيء وسط، أي بين الجيد والرديء (8).
ومنه ما ورد في الحديث: - ولكن من وسط أموالكم فإنّ الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشرّه - (9).
6- ويقال (وسط) لما له طرفان مذمومان، يراد به ما كان بينهما سالمًا من الذّمِّ، وهو الغالب.
قال الراغب: وتارة يُقال لما له طرفان مذمومان (10).
ومثال ذلك: السّخاء وسط بين البخل والتّبذير، والشّجاعة وسط بين الجبن والتهوُّر (11).
قال محمد باكريم (12) وكيفما تصرّفت هذه اللفظة نجدها لا تخرج في معناها عن معاني العدل والفضل والخيرية، والنصف والبينيَّة، والتوسط بين الطرفين، فتقول: (وسوطًا): بمعنى المتوسّط المعتدل، ومنه قول الأعرابي: علمني دينًا وسوطًا، لا ذاهبًا فروطًا، ولا ساقطًا سقوطًا، فإن الوسط هاهنا المتوسّط بين الغالي والجافي (13).
و(وسيطًا) أي: حسيبًا شريفًا، قال الجوهري: وفلان وسيط في قومه، إذا كان أوسطهم نسبًا، وأرفعهم محلا، قال العرجي:
كأنّي لم أكن فيهم وسيطًا ... ولم تك نسبتي في آل عمرو (14)
و(الوسيط): المتوسّط بين المتخاصمين (15).
و(التوسط): بين الناس من الوساطة (16) وهي الشفاعة.
و(التوسيط): أي تجعل الشيء في الوسط (17).
و(التوسيط): - أيضًا - قطع الشيء نصفين (18).
و(وسوط الشمس): توسّطها السماء (19).
و(واسطة القلادة): الجوهر الذي في وسطها، وهو أجودها (20).
وقال فريد عبد القادر: استقرّ عند العرب أنهم إذا أطلقوا كلمة (وسط) أرادوا معاني الخير، والعدل، والنصفة، والجودة، والرّفعة، والمكانة العليّة.
__________
(1) - انظر تفصيل ذلك في المعاجم اللغوية، ووسطيَّة أهل السنَّة بين الفرق لمحمد باكريم - مخطوط - والوسطيَّة في الإسلام لزيد الزيد.
(2) - انظر لسان العرب مادة (وسط) (7/428).
(3) - انظر: الوسطيَّة في الإسلام ص (17) ومختار الصحاح مادة (وسط) (720)، وغريب الحديث لابن الأثير (5/183).
(4) - انظر: تاج العروس مادة (وسط) (5/340).
(5) - لسان العرب مادة (وسط) (7/427).
(6) - انظر: لسان العرب مادة (وسط) (7/427، 430)، والصحاح مادة (وسط) (3/1167)، ووسطيَّة أهل السنة ص2.
(7) - انظر: معجم مقاييس اللغة مادة (وسط) ولسان العرب مادة (وسط) والقاموس المحيط مادة (وسط) وسطيَّة أهل السُنَّة بين الفرق ص (2).
(8) - انظر: مادة (وسط) في الصحاح، والمصباح المنير ص (252)، ووسطيَّة أهل السُنَّة ص (2/3).
(9) - أخرجه أبو داود (2/103، 104) رقم (1582)، والطبراني في الصغير ص (115). والبيهقي في السنن (4/95). وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (3041).
(10) - انظر: المفردات في غريب القرآن، مادة: وسط ص (522).
(11) - انظر: الوسطيَّة لفريد عبد القادر ص (9).
(12) - وسطيَّة أهل السُنَّة ص (3)، وانظر: لما سيأتي لسان العرب مادة (وسط) وتاج العروس مادة (وسط) والصحاح مادة (وسط).
(13) - لسان العرب مادة (وسط) (7/429).
(14) - الصحاح مادة (وسط) (3/1167).
(15) - القاموس المحيط مادة (وسط) (2/406).
(16) - الصحاح مادة (وسط) (3/1167).
(17) - الصحاح مادة (وسط) (3/1167).
(18) - الصحاح مادة (وسط) (3/1167).
(19) - لسان العرب مادة (وسط) (7/429).
(20) - الصحاح مادة (وسط) (3/1167).(/3)
والعرب تصف فاضل النّسب بأنه وسط في قومه، وفلان من واسطة قومه، أي: من أعيانهم، وهو من أوسط قومه، أي من خيارهم وأشرافهم (1).
وأختم ما قيل في معنى الوسط بهذا الكلام للشيخ ابن عاشور، حيث قال أثناء تفسيره لقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143).
والوسط: اسم للمكان الواقع بين أمكنة تحيط به، أو للشيء الواقع بين أشياء محيطة به، ليس هو إلى بعضها أقرب منه إلى بعض عرفًا، ولما كان الوصول إليه لا يقع إلاّ بعد اختراق ما يُحيط به، أخذ فيه معنى الصّيانة والعزّة؛ طبعًا: كوسط الوادي لا تصل إليه الرّعاة والدّواب إلا بعد أكل ما في الجوانب، فيبقى كثير العشب والكلأ، ووضعًا: كوسط المملكة يجعل محلّ قاعدتها، ووسط المدينة يجعل محل قصبتها؛ لأن المكان الوسط لا يصل إليه العدوّ بسهولة، وكواسطة العقد لأنفس لؤلؤة فيه.
فمن أجل ذلك صار معنى النّفاسة والعزّة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفًا، فأطلقوه على الخيار النفيس كناية، قال زهير:
هم وسط يرضى الأنامُ بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعضل
ويقال: أوسط القبيلة، لصميمها.
وأمّا إطلاق الوسط على الصّفة الواقعة عدلا بين خلقين ذميمين فيهما إفراط وتفريط، كالشّجاعة بين الجبن والتهوّر، والكرم بين الشُّحِّ والسرّف، والعدالة بين الرّحمة والقساوة، فذلك روى حديث: - خير الأمور أوسطها - وسنده ضعيف (2).
وقد شاع هذان الإطلاقان حتى صارا حقيقتين عُرفيَّتين (3).
ومن خلال ما سبق اتَّضح لنا المعنى اللغوي لكلمة (وسط)، وما تصرّف منها، وأنها تئول إلى معانٍ متقاربة.
استعمالات الكلمة في القرآن الكريم
وردت كلمة (وسط) في القرآن في عدَّة مواضع، وذلك بتصاريفها المتعدّدة، حيث وردت بلفظ: (وَسَطاً) (البقرة: من الآية143)(4) و (الْوُسْطَى) (البقرة: من الآية238)(5) و (أَوْسَطِ) (المائدة: من الآية89)(6) و (أَوْسَطُهُمْ) (القلم: من الآية28)(7) و (فَوَسَطْنَ) (العاديات: من الآية5)(8) .
وسأذكر معنى كل كلمة حسب ورودها في القرآن الكريم، وكلام المفسرين حولها، مستشهدًا لذلك ببعض ما ورد في السنة النبويَّة.
أولا: كلمة "وسطًا":
وردت في قوله - تعالى - في سورة البقرة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: من الآية143).
وقد ورد تفسير هذه الكلمة في السّنة النّبويَّة، كما ذكر لها المفسرون عدّة معانٍ، وتفصيل ذلك كما يلي:
1- روى البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - - يُدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيُقال لأمَّته: هل بَلَّغَكُم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، فيشهدون أنَّه قد بلَّغ، ويكون الرّسول عليكم شهيدًا. فذلك قوله - جلَّ ذكره -: (وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطًا لتكونوا شهداء على النَّاس ويكون الرّسول عليكم شهيدًا). والوسط: العدل - (9).
وروى الطبري بإسناده عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) قال: - عدولا - (10).
وقد ساق الطبري عددًا من الرِّوايات في هذا المعنى. ثم ذكر تفسير هذه الآية منسوبًا إلى بعض الصَّحابة والتَّابعين، كأبي سعيد ومجاهد وغيرهما، حيث فسَّروها بـ "عدولا".
__________
(1) - انظر: الوسطيَّة ص (10)، وجمهرة اللغة لابن دريد (3/29)، والقاموس المحيط مادة (وسط) (2/391)، وتهذيب اللغة مادة (وسط) (12/26).
(2) - قال العجلوني في كشف الخفاء (2/391): حديث: "خير الأمور أوسطها" وفي لفظ: "أوساطها". قال ابن الغرس: ضعيف. وقال في المقاصد: رواه ابن السمعاني في ذيل تاريخ بغداد، لكن بسند فيه مجهول عن علي مرفوعًا. وللديلمي بلا سند عن ابن عباس مرفوعًا: "خير الأعمال أوسطها". وللعسكري عن الأوزاعي أنه قال: ما من أمر أمر الله به إلا عارض الشيطان فيه بخصلتين لا يبالي أيهما أصاب: الغلو أو التقصير. ولأبي يعلى بسند جيد عن وهب بن منبه، قال: إن لكل شيء طرفين ووسطًا، فإذا أمسك بأحد الطرفين مال الآخر، وإذا أمسك بالوسط اعتدل الطرفان، فعليكم بالأوساط من الأشياء.
(3) - انظر: التحرير والتنوير (2/17).
(4) - انظر: التحرير والتنوير (2/17).
(5) - انظر: التحرير والتنوير (2/17).
(6) - انظر: التحرير والتنوير (2/17).
(7) - انظر: التحرير والتنوير (2/17).
(8) - انظر: التحرير والتنوير (2/17).
(9) - أخرجه البخاري (5/151). قال الحافظ في الفتح (8/22): قوله: "والوسط: العدل" هو مرفوع من نفس الخبر، وليس بمدرج من قول بعض الرواة كما وهم فيه بعضهم.
(10) - انظر: تفسير الطبري (2/7). والحديث أخرجه الترمذي (5/190) رقم (2961) وأحمد (3/9) وعندهما "عدلا" بدل "عدولا".(/4)
وكذلك نقل تفسير ابن عباس لها "جعلكم أمة عدولا". وقال ابن زيد: هم وسط بين النبي، - صلى الله عليه وسلم - وبين الأمم (1).
2- قال الإمام الطبري: وأمّا الوسط فإنه في كلام العرب: الخيار، يُقال منه: فلان وسط الحسب في قومه، أي متوسط الحسب، إذا أرادوا بذلك الرّفع في حسبه.
وهو وسط في قومه وواسط، قال ابن زهير بن أبي سُلمى في الوسط:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظَمِ
قال: وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء، الذي هو بين الطَّرفين، مثل وسط الدّار.
وأرى أن الله - تعالى ذكره - إنّما وصفهم بأنَّهم وسط لتوسّطهم في الدّين، فلا هم أهل غلوّ فيه، غلوّ النَّصارى الذين غلوا بالتَّرهُّب، وقيل هم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله، وقتلوا أبناءهم، وكذبوا على ربِّهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسّط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها.
وأمَّا التأويل فإنَّه جاء بأن الوسط العدل - كما سبق - وذلك معنى الخيار، لأنَّ الخيار من الناس عدولهم (2).
3- قال ابن كثير (3) وقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). الوسط هنا: الخيار والأجود، كما يُقال في قريش: أوسط العرب نسبًا ودارًا، أي: خيرها.
وكان رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - وسطًا في قومه، أي: أشرفهم نسبًا.
ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصّلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصّحاح وغيرها.
وروى الإمام أحمد (4) عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - - يدعى نوح يوم القيامة فيُقال له: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيُقال لهم: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيُقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، قال: فذلك قوله: (وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطًا). قال: الوسط: العدل، فتُدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم - رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة (5).
4- وقال ابن الجوزي في تفسيره لهذه الآية: سبب نزولها أن اليهود قالوا: قبلتنا قبلة الأنبياء، ونحن عدل بين الناس، فنزلت هذه الآية.
والوسط: العدل، قاله ابن عباس وأبو سعيد ومجاهد وقتادة.
وقال ابن قتيبة: الوسط: العدل والخيار، ومنه قوله - تعالى -: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ)(القلم: من الآية28). أي: أعدلهم وخيرهم.
قال الشاعر:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
وأصل ذلك أن خير الأشياء أوسطها، والغلوّ والتقصير مذمومان.
قال أبو سليمان الدّمشقي: في هذا الكلام محذوف، ومعناه جعلت قبلتكم وسطًا بين القبلتين، فإن اليهود يصلون نحو المغرب، والنصارى نحو المشرق، وأنتم بينهما (6).
5- قال صاحب المنار: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). هو تصريح بما فهم من قوله: (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (البقرة: من الآية213). أي على هذا النحو من الهداية جعلناكم أمّة وسطًا.
قالوا: إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنّقص عنه تقصير وتفريط، وكلُّ من الإفراط والتَّفريط ميْلٌ عن الجادّة القويمة، فهو شرّ ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسّط بينهما (7).
6- وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي:
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) أي: عدلا خيارًا.
وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة وسطًا في كل أمور الدّين، وسطًا في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفاهم كاليهود، بأن آمنوا بهم كل على الوجه اللائق بذلك.
ووسطًا في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى.
وفي باب الطّهارة والمطاعم، لا كاليهود الذين لا تصحّ لهم صلاة إلاّ في بِيَعهِمْ وكنائسهم، ولا يطهّرهم الماء من النَّجاسات، وقد حرّمت عليهم طيِّبات عقوبة لهم.
ولا كالنصارى الذين لا يُنجسّون شيئًا ولا يُحرّمون شيئًا، بل أباحوا ما دبَّ ودرج.
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (2/7).
(2) - انظر: تفسير الطبري (2/6).
(3) - انظر: عمدة التفسير عن ابن كثير (1/263). تحقيق أحمد شاكر.
(4) - المسند (3/32).
(5) - انظر: صحيح البخاري (5/151). سنن الترمذي (5/190) رقم(2961) سنن ابن ماجة (2/1432) رقم (4284)، ولم أجده في الصغرى من سنن النسائي، فلعله في الكبرى منه.
(6) - انظر: زاد المسير (1/154)، وكلام أبي سليمان الدمشقي فيه غرابة، فإنه جعل الوسطيَّة وصفًا للقبلة، والصحيح أنها وصف للأمة كما ثبت في الصحيح، ثم إنه لم يكن هناك قبلتان قبل الكعبة، وإنما هي بيت المقدس فقط.
(7) - انظر: تفسير المنار (2/4).(/5)
بل طهارتهم - أي هذه الأمة - أكمل طهارة وأتمّها، وأباح لهم الطيّبات من المطاعم، والمشارب، والملابس، والمناكح، وحرَّم عليهم الخبائث من ذلك.
فلهذه الأمّة من الدّين أكمله، ومن الأخلاق أجلّها، ومن الأعمال أفضلها.
ووهبهم الله من العلم والحلم والعدل والإحسان ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا: (أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) كاملين معتدلين، ليكونوا: (شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة: من الآية143) بسب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على النَّاس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم (1).
7- وقال سيد قطب في تفسيره لهذه الآية:
وإنها للأمَّة الوسط بكل معاني الوسط، سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه الماديّ والحسيّ.
أمَّةً وسطًا في التصوّر والاعتقاد، أمَّةً وسطًا في التّفكير والشّعور، أمَّةً وسطًا في التَّنظيم والتَّنسيق، أمة وسطًا في الارتباطات والعلاقات، أمَّةً وسطًا في الزَّمان، أمَّةً وسطًا في المكان، ثم قال: وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها، إلا أنّها تخلَّت عن منهج الله الذي اختاره لها، واتَّخذت لها مناهج مختلفة، ليست هي التي اختارها الله لها (2).
هذه أهمّ أقوال المفسِّرين في تفسير هذه الآية، ومن خلال هذا التفسير اتَّضحت معانٍ سيأتي اعتبارها عند الحديث عن منهج القرآن في تقرير الوسطيَّة في فصول لاحقة.
ثانيًا: كلمة "الوسطى"
وقد وردت هذه الكلمة في قوله - تعالى - في سورة البقرة: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) (البقرة:238) وسأذكر أقوال المفسِّرين في هذه الآية ممَّا له علاقة مباشرة في معنى "الوسط" حيث سيتَّضح سبب تسميتها بذلك، هل لأنها متوسِّطة بين الصَّلوات، أو لأنَّها أفضل الصّلوات، أو لكليْهما معًا؟ دون الوقوف عند أي الصَّلوات هي، وما سيرد حول هذه القضيَّة فهو لبيان المعنى فقط.
1- ذكر الإمام الطبري أقوال العلماء في الصَّلاة الوسطى، وأطال في ذكر أدلَّة من قال: إنَّ الصّلاة الوسطى هي العصر، ثم قال بعد أن رجَّح أن الصَّلاة الوسطى هي العصر:
وإنما قيل لها الوسطى: لتوسّطها الصَّلوات المكتوبات الخمس، وذلك أن قبلها صلاتين، وبعدها صلاتين، وهي بين ذلك وسطاهنّ.
والوسطى: الفعلى من قول القائل: وسطت القوم أسطهم سطة ووسوطًا، إذا دخلت وسطهم. ويقال للذّكر فيه: هو أوسطنا، وللأنثى: هي وسطانًا (3). وعندما ذكر قول من قال: إن (الوسطى) هي صلاة المغرب، وهي قول: قبيصة بن ذؤيب، عقَّب الطبري على ذلك قائلا:
ووجه قبيصة بن ذؤيب قوله: (الوسطى) إلى معنى التوسّط، الذي يكون صفة للشيء يكون عدلا بين الأمرين، كالرَّجل المعتدل القامة، الذي لا يكون مفرطًا طوله، ولا قصيرة قامته، ولذلك قال: ألا ترى أنَّها ليست بأقلِّها ولا أكثرها.
ومن أجل فهم كلام الإمام الطبري في تعقيبه على ابن ذؤيب أذكر كلام قبيصة بن ذؤيب، قال: الصلاة الوسطى: صلاة المغرب، ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها، ولا تُقصر في السَّفر، وأنّ رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - لم يؤخِّرها عن وقتها ولم يُعجّلها (4).
2- وجه ابن الجوزي أقوال العلماء في المراد بالصَّلاة الوسطى قائلا: وفي المراد بالوسطى ثلاثة أقوال:
أحدها: أنَّها أوسط الصَّلوات محلا.
والثاني: أوسطها مقدارًا.
والثالث: أفضلها.
ووسط الشيء خيره وأعدله، ومنه قوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143).
فإن قلنا: إن الوُسطى بمعنى الفُضلى، جاز أن يدّعي هذا كل ذي مذهب فيها. وإن قلنا: إنَّها أوسطها مقدارًا، فهي المغرب، لأن أقل المفروضات ركعتان، وأكثرها أربعًا.
وإن قلنا: إنَّها أوسطها محلا، فللقائلين: إنَّها العصر أن يقولوا: قبلها صلاتان في النهار، وبعدها صلاتان في الليل، فهي الوسطى.
ومن قال هي الفجر، قال عكرمة: هي وسط بين الليل والنهار، وكذلك قال ابن الأنباري: هي وسط بين الليل والنهار.
وقال ابن الأنباري: ومن قال: هي الظهر، قال: هي وسط النهار.
فأما من قال: هي المغرب، فاحتجّ بأن أوّل صلاة فرضت الظّهر، فصارت المغرب وُسْطى.
ومن قال: هي العشاء، فإنَّه قال: هي بين صلاتين لا تقصران (5).
ومن خلال ما سبق يتَّضح ارتباط كل قول بمعنى (الوسط) في ضوء المعاني التي سبق بيانها.
3- وقال القاسميّ في تفسيره:
و"الصلاة الوسطى" أي: الوسطى بين الصَّلوات، بمعنى المتوسّطة، أو الفضلى منها، من قولهم للأفضل: الأوسط.
__________
(1) - انظر: تفسير كلام المنان (1/157).
(2) - انظر: في ظلال القرآن (1/131).
(3) - انظر: تفسير الطبري (2/568).
(4) - انظر: تفسير الطبري (2/564).
(5) - انظر: زاد المسير (1/283).(/6)
فعلى الأوّل يكون الأمر لصلاة متوسّطة بين صلاتين، وهل هي: الصّبح، أو الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء، أقوال مأثورة عن الصّحابة والتَّابعين.
وعلى الثاني: فهي صلاة الفطر أو الأضحى أو الجماعة أو صلاة الخوف أو الجمعة أو المتوسطة بين الطّول والقصر، أقوال - أيضًا- عن كثير من الأعلام.
ثم قال: سنح لي وقوي بعد تمعّن احتمال قوله - تعالى -: (وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) (البقرة: من الآية238) بعد قوله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) (البقرة: من الآية238) لأن يكون إرشادًا وأمرًا بالمحافظة على أداء الصلاة أداءً متوسّطًا، لا طويلا مُملا، ولا قصيرًا مُخلا، أي: والصلاة المتوسطة بين الطول والقصر، ويؤيّده الأحاديث المرويَّة عنه، - صلى الله عليه وسلم - في ذلك قولا وفعلا.
ثم مرَّ بي في القاموس حكاية هذا قولا، حيث ساق في مادة (وسط) الأقوال في الآية، ومنها قوله: أو المتوسّطة بين الطّول والقصر، قال شارحه الزّبيدي. وهذا القول ردّه أبو حيّان في البحر.
ثم سنح لي احتمال وجه آخر، وهو أن يكون قوله: (وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) (البقرة: من الآية238) أريد به توصيف الصَّلاة المأمور بالمحافظة عليها بأنَّها فُضلى، أي ذات فضل عظيم عند الله، فالوسطى بمعنى الفُضلى من قولهم للأفضل: الأوسط (1).
4- أما رشيد رضا فقال:
والصَّلاة الوسطى هي إحدى الخمس، والوسطى مؤنَّث الأوسط، ويستعمل بمعنى التوسّط بين شيئين أو أشياء لها طرفان متساويان، وبمعنى الأفضل، وبكل من المعنيين قال قائلون، ولذلك اختلفوا في أيّ الصّلوات أفضل، وأيّتها المتوسّطة (2).
5- وأختم كلام المفسّرين حول هذه الآية بما ذكره ابن عاشور في تفسيره، حيث قال:
فأمّا الذين تعلّقوا بالاستدلال بوصف الوسطى فمنهم من حاول جعل الوصف من الوسط بمعنى الخيار والفضل، فرجع إلى تتبّع ما ورد في تفضيل بعض الصّلوات على بعض، ومنهم من حاول جعل الوصف من الوسط، وهو الواقع بين جانبين متساويين من العدد، فذهب يتطلّب الصّلاة التي هي بين صلاتين من كل جانب (3).
وبهذا التفسير لمعنى (الوسطى) من خلال كلام المفسّرين المتقدّم نلحظ الارتباط بين هذه الكلمة وموضوع الوسطيَّة الذي هو مدار هذا البحث، سواء أكانت بمعنى التوسّط بين شيئين أم بمعنى الخيار الأفضل، وسيأتي مزيد بيان لهذه القضيَّة - إن شاء الله - بعد عرض جميع الآيات.
ثالثًا: كلمة (أوسط)
وقد وردت هذه الكلمة في آيتين:
الأولى في قوله - تعالى -: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89).
والثانية في سورة القلم في قوله - تعالى -: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) (القلم:28).
وقد ذكر المفسّرون معنى كل كلمة في موضعها، فمنهم من جعل معناهما واحدًا، ومنهم من فرَّق بين مدلوليهما، وإليك تفصيل ذلك:
الأولى: آية سورة المائدة:
1- قال الطبري: يعني - تعالى ذكره - بقوله: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89) أعدله.
قال عطاء: أوسطه: أعدله.
وقال بعضهم: معناه: من أوسط ما يطعم من أجناس الطعام الذي يقتاته أهل بلد المكفَّر أهليهم، ومن ذلك قول ابن عمر: من أوسط ما يطعم أهله الخبز والتّمر، والخبز والسَّمن، والخبز والزيت، ومن أفضل ما يطعمهم: الخبز واللحم.
وقال آخرون: من أوسط ما يُطعم المكفّر أهله، قال إن كان ممن يشبع أهله أشبع المساكين العشرة، وإن كان ممن لا يشبعهم لعجزه عن ذلك أطعم المساكين على قدر ما يفعل من ذلك بأهله في عُسره ويُسره.
ثم عقَّب الطبري على ذلك بقوله:
وأولى الأقوال عندنا قول من قال: من أوسط ما تُطعمون أهليكم في القلّة والكثرة (4).
2- وقال ابن الجوزي:
في قوله: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89) قولان:
أحدهما: من أوسطه في القدر، قاله عمر، وعلي، وابن عباس، ومجاهد.
الثاني: من أوسط أجناس الطعام، قاله ابن عمر، والأسود، وعَبِيدَة، والحسن، وابن سيرين (5).
3- وقال القرطبي:
تقدَّم في سورة البقرة أن الوسط بمعنى الأعلى والخيار، وهو هنا منزلة بين المنزلتين، ونصفًا بين طرفين، وعن ابن عباس، قال: كان الرجل يقوت أهله قوتًا فيه سعة، وكان الرّجل يقوت أهله قوتًا فيه شدَّة، فنزلت: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89) وهذا يدلّ على أن الوسط ما ذكرناه، وهو ما كان بين شيئين (6).
4- وقال الزمخشريّ:
__________
(1) - انظر: تفسير القاسمي (3/622، 626).
(2) - انظر: تفسير المنار (2/437).
(3) - انظر: التحرير والتنوير (2/467).
(4) - انظر: تفسير الطبري (7/16-22).
(5) - انظر: زاد المسير (2/414).
(6) - انظر: تفسير القرطبي (6/276).(/7)
(مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89) من أقصده، لأنَّ منهم من يُسرف في إطعام أهله، ومنهم من يُقتّر (1).
5- وأختم هذه الأقوال في معنى (أوسط) فيما قاله سيد قطب حيث قال:
و(أوسط) تحتمل من (أحسن)، أو من (متوسّط)، فكلاهما من معاني اللفظ، وإن كان الجمع بينهما لا يخرج عن القصد، لأنَّ المتوسط هو الأحسن، فالوسط هو الأحسن في ميزان الإسلام (2).
الثانية: آية سورة القلم:
1- قال الطبري:
وقوله: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ) (القلم: من الآية28). يعني أعدلهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
قال ابن عباس: أوسطهم: أعدلهم، وبمثل ذلك قال مجاهد، وسعيد، والضّحَّاك.
وقال قتادة: أي أعدلهم قولا، وكان أسرع القوم فزعًا، وأحسنهم رجعة (3).
2- وقال القرطبي:
(قَالَ أَوْسَطُهُمْ) (القلم: من الآية28) أي: أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم (4).
3- وقال ابن كثير:
(قَالَ أَوْسَطُهُمْ) (القلم: من الآية28) قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومحمد بن كعب، والربيع بن أنس، والضّحاك، وقتادة: أي أعدلهم وخيرهم (5).
4- وقال ابن الجوزي:
(قَالَ أَوْسَطُهُمْ) (القلم: من الآية28) أي أعدلهم وأفضلهم (6).
5- قال القاسميّ:
أي: أعدلهم وخيرهم رأيًا (7).
ومما سبق يتَّضح لنا أن كلمة (أوسط) في آية المائدة فسَّرت على عدَّة أوجه وبعدَّة معاني، منها: الأفضل، وبين القليل والكثير، وبين الجيّد والرديء، أو الشدَّة والسّعة. أمَّا آية القلم فاتَّفق المفسِّرون (8) على تفسيرها بمعنى الأفضل والخيار وهو الأعدل.
رابعًا: كلمة (فوسطن) .
وردت في قوله - تعالى -: (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (العاديات:5) وذلك في سورة العاديات، الآية الخامسة.
وقد ذكر المفسِّرون أنَّ معناها من التوسط في المكان، وهذه جملة من أقوالهم:
1- قال الطبري:
يقول - تعالى ذكره -: فوسطن بركبانهن جمع القوم، يقال: وسطت القوم - بالتخفيف -، ووسّطته - بالتّشديد -، وتوسّطته، بمعنى واحد (9).
2- وقال ابن الجوزي:
قال المفسّرون: المعنى: توسّطن جمعًا من العدوّ.
وقال ابن مسعود: فوسطن به جمعًا، يعني مزدلفة (10).
3- وقال القرطبي:
(جَمْعاً?) (العاديات:5) مفعول بـ "وسطن" أي: فوسطن بركبانهن العدوّ.
يُقال: وسطت القوم أسِطُهم وسْطًا وسطَة أي: صرت وسطهم.
يقال: وسطت القوم - بالتّشديد والتخفيف - وتوسّطتهم، بمعنى واحد.
وقيل: معنى التّشديد: جعلها الجمع قسمين، والتّخفيف: صرن وسط الجمع (11).
4- وقال القاسمي:
(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (العاديات:5) أي: فتوسطن ودخلن في وسط جمع من الأعداء، ففرَّقته وشتَّته.
يقال: وسطت القوم - بالتَّخفيف - ووسّطته - بالتَّشديد وتوسّطته، بمعنى واحد (12).
5- وقال سيد قطب:
وهي تتوسّط صفوف الأعداء على غرَّة، فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب (13).
ومن خلال ما سبق يتَّضح أن معناها التوسّط والوسط.
أحاديث نبوية في (الوسط)
السنة شارحة للقرآن، ومبيّنة له، وقد وردت بعض الأحاديث التي فيها الدّلالة على معاني (الوسط).
ولأهميّة التعمّق في فهم مدلول هذا المصطلح، فسأذكر بعض الأحاديث التي ورد فيها ما يدلّ على هذا المعنى، مع توضيح المراد حسب سياق الحديث، حيث قد يكون فيه دلالة على الوسط لا على الوسطيَّة.
1- عن أبي سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - - يدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا ربّ، فيقول: هل بّلغت؟ فيقول: نعم، فيُقال لأمَّته: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير! فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، فيشهدون أنَّه قد بلَّغ، ويكون الرسول عليكم شهيدًا، فذلك قوله - جل ذكره -: (وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطًا لتكونوا شهداء على النَّاس ويكون الرَّسولُ عليكم شهيدًا). - والوسط: العدل رواه البخاري (14).
__________
(1) - انظر: الكشاف (1/640).
(2) - انظر: في ظلال القرآن (2/971).
(3) - انظر: تفسير الطبري (29/34).
(4) - انظر: تفسير القرطبي (18/244).
(5) - انظر: تفسير ابن كثير (4/406).
(6) - انظر: زاد المسير (8/338).
(7) - انظر: تفسير القاسمي (16/5900).
(8) - هذا على حسب اطلاعي وبحثي.
(9) - انظر: تفسير الطبري (30/276).
(10) - انظر: زاد المسير (9/209)، وتفسير ابن مسعود فيه غرابة.
(11) - انظر: تفسير القرطبي (20/160).
(12) - انظر: تفسير القاسمي (17/6238).
(13) - انظر: في ظلال القرآن (6/3958).
(14) - المسند (3 / 32).(/8)
والمراد بهذا الحديث واضح، وهو أن الوسط فسّر هنا بالعدل، وهو المقابل للظّلم، حيث إن أمّة محمد، - صلى الله عليه وسلم - شهدوا بما علموا، (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا) (يوسف: من الآية81). وهو الحق، فلم تكن شهادتهم لهوًى مع نوح، عليه السلام - وحاشاهم من ذلك - ولم يشهدوا مع قوم نوح بالباطل، وأنّى لهم (1) ذلك، وهذا هو العدل، لأنَّ الظّلم له طرفان والعدل وسط بينهما، فالشَّهادة مع أحد الخصمين بدون حق ظلم، والشّهادة بالحقّ دون النّظر لصاحبه عدل، فأمَّة محمد، - صلى الله عليه وسلم - ممّن قال الله فيهم: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (الأعراف:181).
2- روى الترمذي قال: لما نزل قوله - تعالى -: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) (الروم: 1-4) خرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكَّة: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) (الروم: 1-4) قال ناس من قريش لأبي بكر، فذلك بيننا وبينك، زعم صاحبك أن الرّوم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟! قال: بلى - وذلك قبل تحريم الرّهان - فارتهن أبو بكر والمشركون، وتواضعوا الرّهان، وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع: ثلاث سنين إلى تسع سنين، فسمّ بيننا وبينك وسطًا ننتهي إليه، فسمّوا بينهم ست سنين (2).
والستّ هنا هي الوسط بين ثلاث وتسع، فقبلها ثلاث وبعدها ثلاث.
3- عن عبد الله بن معاوية الغاضري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - - ثلاث من فعلهنّ فقد طَعِمَ طَعْمَ الإيمان: من عبد الله وحده، وعلم أنَّه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيّبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولم يعط الهرمة، ولا الدرنة، ولا المريضة، ولا الشّرط اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإنَّ الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشرّه - (3).
والوسط هنا ما بين أجود الغنم وبين السيئ والمعيب، وهو مثل قوله - تعالى -: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89). كما سبق.
4- عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: - كنا عند النبي، - صلى الله عليه وسلم - فخطّ خطًّا، وخطَّ خطَّين عن يمينه، وخطَّ خطَّين عن يساره، ثم وضع يده على الخطّ الأوسط، فقال: "هذه سبيل الله"، ثم تلا هذه الآية: (وأنّ هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) - [سورة الأنعام، الآية: 153]. (4).
والوسط هنا: هو الشيء بين الشيئين، متوسّط بينهما.
ونجد بيان هذا الصّراط في الحديث الآتي:
عن النّواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - - ضرب الله مثلا صراطًا مستقيمًا، وعلى كَنَفي الصّراط سوران فيهما أبواب مفتَّحة، وعلى الأبواب ستور مُرخاة، وعلى الصّراط داعٍ يدعو يقول: يا أيّها النَّاس اسلكوا الصّراط جميعًا، ولا تعوجّوا، وداع يدعو على الصّراط، فإذا أراد أحدكم فتح شيء من تلك الأبواب قال: ويلك لا تفتحه فإنَّك إن تفتحه تلجه، فالصراط: الإسلام، والسّتور حدود الله، والأبواب المفتَّحة محارم الله، والداعي الذي على رأس الصّراط كتاب الله، والدّاعي من فوقه واعظ الله يذكر في قلب كل مسلم - (5).
__________
(1) - أي لقوم نوح.
(2) - أخرجه الترمذي (5/321، 322) رقم (3194، 3195)، قال فيهما الترمذي: حسن صحيح غريب.
(3) - أخرجه أبو داود (2/103، 104) رقم (1582)، والطبراني في الصغير ص (115)، والبيهقي في السنن (4/95)، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (3041) والسلسلة الصحيحة رقم (1046).
(4) - أخرجه ابن ماجة (1/6) رقم (11). قال البوصيري في الزوائد (1/45): هذا إسناد فيه مقال من أجل مجالد بن سعيد. قلت: مجالد بن سعيد هو ابن عمير الهمداني أبو عمرو الكوفي. قال الحافظ في التقريب ص (520): ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره. اهـ. ولكن يشهد لهذا الحديث ما رواه عبد الله بن مسعود، قال: خط لنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم خطًّا، ثم قال: "هذه سبيل الله". ثم خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن شماله، وقال: "هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه". ثم قرأ: (وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه). [سورة الأنعام، الآية: 163]. أخرجه أحمد (3/ 397). والدارمي (1/78، 79) رقم (202). وحسنه الألباني كما في المشكاة رقم (166) ونقل عن الحاكم تصحيحه.
(5) - أخرجه أحمد (4/182، 183). والحاكم في المستدرك (1/73). وقال: صحيح على شرط مسلم، ولا أعرف له علّة، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. قال الألباني: وهو كما قالا، انظر: المشكاة رقم (191). وروى هذا الحديث الترمذي - أيضًا - (5/133) رقم (2859). وقال: هذا حديث غريب. قال الألباني: وكأنه عنى الطريق التي أخرجها منه، وهي إحدى طريقي المسند.(/9)
5- وقال - صلى الله عليه وسلم - - إنَّ في الجنَّة مائة درجة أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدَّرجتين كما بين السَّماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنَّه أوسط الجنَّة، أو أعلى الجنة - (1).
قال الحافظ بن حجر: قوله: - أوسط الجنة أو أعلى الجنة - المراد بالأوسط هنا: الأعدل والأفضل، كقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143)(2).
6- وقال - صلى الله عليه وسلم - - البركة تنزل وسط الطّعام، فكلوا من حافَّتيه، ولا تأكلوا من وسطه - (3).
والوسط هنا: نقطة الالتقاء بين أطراف متساوية. أو هو أشبه ما يكون بمركز الدّائرة ومنتصفها.
7- وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - - أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - خطَّ خطًّا مربَّعًا، وخطّ وسط الخطّ المربّع، وخطوطًا إلى جانب الخطّ الذي وسط الخطّ المربّع، وخطًّا خارجًا من الخطّ المربّع، فقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا الإنسان الخطّ الأوسط، وهذه الخطوط إلى جانبه الأعراض تنهشه - (4).
والوسط هنا: هو ما كان بين عدَّة أطراف والمسافة بينه وبين كل طرف متساوية.
8- وقال - صلى الله عليه وسلم - - وسّطوا الإمام وسدُّوا الخلل - (5). أي اجعلوه وسط الصّف - في منتصفه - من أمامه، بحيث يكون طرفا الصّفّ متساويين بالنّسبة لموقف الإمام.
9- وقال - صلى الله عليه وسلم - - لعن الله من جلس وسط الحلقة - (6). وهو الذي يجلس في وسط الحلقة، ولو لم يكن في منتصفها تمامًا، وإنَّما من جلس في داخلها بعيدًا عن أطرافها فهو في وسطها.
10- وقال - صلى الله عليه وسلم - - أنا زعيم بيت في رَبَضَ الجنَّة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وبيتٍ في وسطِ الجنَّة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وبيتٍ في أعلى الجنة لمن حَسُنَ خُلُقُه - (7).
والوسط هنا ما كان بين الرّبض والأعلى.
11- وقال - صلى الله عليه وسلم - - لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحبّ إليَّ من أن أمشي على قبر مسلم، وما أُبالي أوسط القبر قضيت حاجتي أو وسط السّوق - (8).
والمراد بالوسط - هنا - الوسط المكاني.
12- وقال - صلى الله عليه وسلم - - ليس للنساء وسط الطّريق - (9).
ومعنى الوسط كما في الحديث الذي سبقه الوسط المكاني، وهو ما كان بين الشيئين وهو منه، لأن المشروع في حقّ المرأة أن تكون بجانب الطّريق لا في وسطه، لما يحدث من فتنة بسبب بروزها وتعرّضها للرّجال.
هذه بعض الأحاديث التي وردت وفيها لفظ (الوسط). ومعناه، ومنها ما يدلّ على معنى الوسطيَّة، ومنها ما ليس كذلك، إذ لا تلازم بين (الوسط) و(الوسطيَّة)، فكل وسطيَّة فهي وسط، ولا يلزم من كل وسط أن يكون دليلا على الوسطيَّة، فقد يكون من الوسط المكاني أو الزّماني ونحوه، كما سيأتي بيانه - إن شاء الله -.
تحرير معنى الوسطيَّة
من خلال ما سبق اتَّضح لنا أن كلمة (وسط)، تستعمل في معانٍ عدَّة أهمّها:
1- بمعنى الخيار والأفضل والعدل.
2- قد ترد لما بين شيئين فاضلين.
3- وتستعمل لما كان بين شرّين وهو خير.
4- وتستعمل لما كان بين الجيّد والرديء، والخير والشَّرّ.
5- وقد تُطلق على ما كان بين شيئين حسًّا، كوسط الطّريق، ووسط العصا.
وقد تأتي لمعانٍ أخرى قريبة من هذه المعاني سبق ذكرها، ولا أجد حاجة لإعادتها.
__________
(1) - أخرجه البخاري (3/202). والترمذي (4/582) رقم (2530).
(2) - انظر: فتح الباري (6/13).
(3) - أخرجه الترمذي (4/229) رقم (1805). وقال: هذا حديث حسن صحيح وابن ماجة (2/1090) رقم (3277). وأحمد (1/270، 343، 364) والدارمي (2/137) رقم (2046) والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع رقم (4502) وتخريج المشكاة رقم (4211).
(4) - أخرجه البخاري (7/171). وابن ماجة (2/1414) رقم (4231). وأحمد (1/385).
(5) - أخرجه أبو داود (1/182) رقم (681). وضعفه الألباني كما في ضعيف الجامع رقم (6122) وضعيف أبي داود رقم (105).
(6) - أخرجه الترمذي (5/84) رقم (2753). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأبو داود (4/258) رقم (4826). وأحمد (5/384، 398، 401). وصححه الحاكم (4/281) ووافقه الذهبي.
(7) - أخرجه أبو داود (4/253) رقم (4800) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (1464).
(8) - أخرجه ابن ماجة (1/499) رقم (1567). قال البوصيري في الزوائد (1/512): هذا إسناد صحيح محمد بن إسماعيل - شيخ ابن ماجة - وثقه أبو حاتم والنسائي وابن حبان، وباقي رجال الإسناد على شرط الشيخين. والحديث صححه الألباني كما في إرواء الغليل رقم (63) وصحيح الجامع رقم (5038).
(9) - أخرجه ابن حبان في صحيحه (12/416- الإحسان) رقم (5601). وابن عدي في الكامل (4/1321). وأخرجه - أيضًا- أبو يعلى في مسنده بلفظ: "ليس للنساء باحة الطريق" كما في المطالب العالية (2/440). قال في النهاية (1/60): أي وسطه وباحة الدار: وسطها. اهـ.(/10)
والمهمّ - هنا - متى يُطلق لفظ (الوسطيَّة)؟ بل على ماذا يُطلق هذا المصطلح؟
فهناك من جعل مصطلح الوسطيَّة مُرادفًا للفظ الخيريَّة، ولو لم يكن بين شيئين - حسًّا أو معنى - قال فريد عبد القادر:
ومن جملة ما سبق بيانه نستطيع أن نستخلص تعريفًا خاصًّا محدّدًا للوسطيَّة، فنقول: بأن الوسطيَّة هي: مؤهل الأمة الإسلامية من: العدالة، والخيريّة للقيام بالشهادة على العالمين، وإقامة الحجَّة عليهم. ثم قال:
أما ما شاع عند الناس وانتشر من الوقوف عند أصل دلالتها اللغوية، أي التوسّط بين طرفين، مهما كان موضع هذا الوسط - الذي تمَّ اختياره - من صراط الله المستقيم، التزامًا وانحرافًا، فليس بمفهوم صحيح وفق ما تبينه الآيات والأحاديث (1).
ويؤكّد هذا المعنى في موضع آخر، فيقول:
ولا يلزم لكل ما يعتبر وسطًا في الاصطلاح أن يكون له طرفان، فالعدل وسط ولا يقابله إلا الظّلم، والصّدق وسط ولا يقابله إلا الكذب (2).
وهناك من جعل (الوسطيَّة) من التوسّط بين الشيئين دون النظر إلى معنى الخيريَّة التي دلَّ عليها الشَّرع، قال الأستاذ فريد عبد القادر:
وقد شاع كذلك عند كثير من الناس استعمال هذا الاصطلاح الرَّبانيّ، استعمالا فضفاضًا يلبس أي وضع أو عرف أو مسلك أرادوه، حتى أصبحت الوسطيَّة في مفهومهم تعني التَّساهل والتَّنازل.. إلخ (3).
وما ذكره الأستاذ فريد في تعريفه للوسطيَّة، وكذلك ما نقله عن غيره ففيه نظر، ويتَّضح ذلك فيما سيأتي:
وقد تأمَّلت ما ورد في القرآن والسنَّة والمأثور من كلام العرب فيما أطلق وأريد به مصطلح (الوسطيَّة)، فتوصَّلت إلى أن هذا المصطلح لا يصحّ إطلاقه إلا إذا توافرت فيه صفتان:
1- الخيريَّة، أو ما يدلّ عليها كالأفضل والأعدل أو العدل.
2- البينيَّة، سواء أكانت حسِّيَّة أو معنويَّة.
فإذا جاء أحد الوصفين دون الآخر فلا يكون داخلا في مصطلح الوسطيَّة.
والقول بأن الوسطيَّة ملازمة للخيريَّة - أي أنّ كلّ أمر يوصف بالخيريَّة فهو (وسط) - فيه نظر، والعكس هو الصّحيح، فكل وسطيَّة تلازمها الخيريّة (4) فلا وسطيَّة بدون خيريَّة، ولا عكس.
فلا بدَّ مع الخيريَّة من البينيَّة حتى تكون وسطًا.
وكذلك البينيَّة - أيضًا - فليس كل شيء بين شيئين أو أشياء يُعتبر وسطيًّا وإن كان وسطًا. فقد يكون التوسّط حسيًّا أو معنويًّا، ولا يلزم أن يوصف بالوسطيَّة كوسط الزمان أو المكان أو الهيئة ونحو ذلك.
ولكن كل أمر يوصف بالوسطيَّة فلا بد أن يكون بينيًّا حسًّا أو معنى.
ومن هنا نخلص إلى أنَّ أيَّ أمر اتَّصف بالخيريَّة والبينيَّة جميعًا فهو الذي يصحْ أن نُطلق عليه وصف: الوسطيَّة، وما عدا ذلك فلا (5).
وسأذكر بعض الأمثلة التي توضّح ذلك:
1- جاء وصف هذه الأمة بالوسطيَّة في قوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) وصح عنه، - صلى الله عليه وسلم - أنَّه فسَّر الوسط هنا بالعدل (6) وفي رواية: - عدولا - (7). والمعنى واحد.
وإذا نظرنا إلى العدل وجدناه يتضمَّن معنى الخيريَّة، والعدل كذلك يُقابله الظّلم، والظّلم له طرفان، فإذا مال الحاكم إلى أحد الخصمين فقد ظلم، والعدل وسط بينهما، دون حيف إلى أي منهما (8).
ولذلك فقول صاحب (الوسطيَّة في الإسلام) (9) .
__________
(1) - انظر: الوسطيَّة في الإسلام - مخطوط - ص (29).
(2) - انظر: الوسطيَّة في الإسلام ص (33).
(3) - انظر: الوسطيَّة في الإسلام ص (30).
(4) - قال ابن عاشور بعد بيان معنى الوسط: فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفًا، فأطلقوه على الخيار النفيس. انظر: التحرير والتنوير (2/17)، وقال رشيد رضا: فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي: المتوسط بينهما. انظر: تفسير المنار (2/4).
(5) - سيأتي مزيد تفصيل لهذا عند الحديث عن ملامح الوسطيَّة، حيث سأذكر بعض الضوابط لإطلاق هذا المصطلح - إن شاء الله -.
(6) - كما عند البخاري وقد تقدّم تخريجه ص (19).
(7) - كما في رواية الطبري. انظر: ص (20).
(8) - ومثل ذلك - أيضًا - قوله - تعالى -: (قال أوسطهم). [سورة القلم، الآية: 28]. فإن جمهور المفسرين فسروها "بأعدلهم" كما سبق، والعدل وسط بين طرفي الظلم كما قررت هنا، فاجتمعت الصفتان: البينيَّة والخيريَّة.
(9) - انظر: الوسطيَّة في الإسلام ص (33).(/11)
"ولا يلزم لكل ما يعتبر وسطًا في الاصطلاح أن يكون له طرفان، فالعدل وسط ولا يقابله إلا الظلم". قول غير مسلَّم في أصله ومثاله، أمَّا الأصل فقد بيَّنْتُه سابقًا، وأمّا المثال: فإنَّ الظلم له طرفان كل منهما يصدق عليه وصف الظلم، والعدل وسط بينهما. ويوضّح وسطيَّة الإسلام ووسطيَّة هذه الأمة ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حيث قال: والفرقة الناجية أهل السنّة، وهم وسط في النِّحل، كما أنَّ ملَّة الإِسلام وسط في الملل، فالمسلمون وسط في أنبياء الله، ورسوله، وعباده الصّالحين، لم يغلو فيهم كما غلت النصارى فـ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31) ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حقّ، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلَّما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذَّبوا فريقًا وقتلوا فريقًا.
بل المؤمنون آمنوا برسل الله، وعزَّروهم، ونصروهم، ووقّروهم، وأحبّوهم، وأطاعوهم، ولم يعبدوهم، ولم يتّخذوهم أربابًا، كما قال - تعالى -: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:79،80) ومن ذلك أن المؤمنين توسّطوا في المسيح، فلم يقولوا هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة، كما تقول النَّصارى، ولا كفروا به، وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا، حتى جعلوه ولد بغيّة، كما زعمت اليهود.
بل قالوا: هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، وروح منه.
وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين الله، فلم يُحرّموا على الله أن ينسخ ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت، كما قالته اليهود، كما حكى الله عنهم ذلك بقوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) (البقرة: من الآية142) وبقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ) (البقرة: من الآية91).
ولا جوّزوا لأكابر علمائهم وعبّادهم أن يغيّروا دين الله، فيأمروا بما شاءوا وينهوا عمَّا شاءوا، كما يفعله النّصارى، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية31).
والمؤمنون قالوا: لله الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره، وقالوا: سمعنا وأطعنا.
إلى أن قال - رحمه الله - وهذا باب يطول وصفه... (1).
وممَّا سبق يتَّضح معنى الوسطيَّة في قوله - تعالى -: (أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143).
والقارئ لكلام شيخ الإسلام، يتَّضح له التَّلازم بين الخيريَّة والبينيَّة في استخراج معنى الوسطيَّة في ضوء المنهج الذي سلكه ابن تيمية - رحمه الله - للوصول إلى تحقيق هذه المسألة، وبيان اتّصاف هذه الأمَّة بهذه الصّفة الحميدة.
وقبل ذلك سلك الطبري هذا المنهج في تفسيره لقوله - تعالى -: (أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) كما سبق.
2- عن عبد الله بن معاوية الغاضري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - - ثلاث من فعلهنَّ فقد طَعِمَ طَعْمَ الإيمان: من عبد الله وحده، وعلم أنَّه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيّبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولم يعط الهرمة ولا الدرة ولا المريضة، ولا الشّرط اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإنَّ الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشرّه - رواه أبو داود. (2).
وهنا نجد أن الوسطيَّة واضحة في هذا التَّوجيه النبويّ، فالبينيَّة صريحة في الحديث، أمّا الخيريَّة فهي ظاهرة لمن تأمَّل من خلال ما يلي:
1- أمر الرَّسول، - صلى الله عليه وسلم - بذلك دليل على هذه الخيريَّة، فلا يأمر، - صلى الله عليه وسلم - إلا بخير، (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) (الأعراف: من الآية29). وهل أمرُ الرسول، - صلى الله عليه وسلم - إلا وحي يُوحى.
__________
(1) - من أراد مزيد بيان لما ذكره شيخ الإسلام فليرجع إلى كتابه العقيدة الواسطية، وتفسير القاسمي (2/287) فقد ذكر كلامه كاملا.
(2) - أخرجه أبو داود (2/103، 104) رقم (1582)، والطبراني في الصغير ص (115). والبيهقي في السنن (4/95). وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (3041).(/12)
2- أنَّنا عندما نُريد أن نستخرج معنى الخيريَّة لا ننظر من طرف واحد فقط، فإذا نظرنا إلى مصلحة الفقير فقط قلنا: إنَّ الخيريَّة في السّمينة السّليمة الأفضل مما هو من أجود الأغنام وأغلاها.
وإذا نظرنا إلى خيريَّة الغني - في الدنيا - قلنا إن الأسهل عليه أن يُخرج الضعيفة الهزيلة ونحوها.
ولكن الخيريَّة الكاملة أن ننظر إلى مصلحة الفقير ومصلحة الغني - صاحب المال - جميعًا، دون ترجيح لإحدى المصلحتين على الأخرى، وهذه هي الوسطيَّة، وذلك باستخراج ما بين أفضلها وأضعفها - وهي الوسط - وذلك مثل قوله - تعالى -: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) (المائدة: من الآية89).
وهنا اتَّضح لنا التَّلازم بين الخيريَّة والبينيَّة في تحقيق معنى الوسطيَّة.
3- روى الإمام البخاريّ في صحيحه أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - خطب يوم السّقيفة، وكان مما قال يُخاطب الأنصار: - ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسبًا ودارًا - الحديث (1).
والوسطيَّة المرادة هنا يظهر فيها معنى الخيرية جليًّا لا لَبْسَ فيه، فأين البينيَّة؟
إن التأمّل والتّمعنّ في هذه الوسطيَّة يوصّل الباحث إلى حقيقة مهمَّة، وهي أنَّ قريشًا امتازت بصفات أهّلتها لأن تكون خير العرب، وهذه الصّفات من الشّجاعة والكرم وسائر الصّفات الحميدة، هي في حقيقتها صفات وسطيَّة بينيَّة بين مجموعة من الصّفات المتضادّة، وهم اتّصفوا بأفضل هذه الصّفات، دون إفراط أو تفريط، أو غلوّ أو جفاء، ولذلك فقد نالوا هذه المنزلة الرفيعة من كون العرب لا تدين إلا لهم، وما ذلك إلا لثقتهم في عدلهم وتميزّهم عن غيرهم، واجتماع العرب عليهم دليل على قبولهم من قبائل وأطراف متنافرة في أخلاقها، متباينة في طباعها، وذلك لخصيصة الوسطيَّة فيهم، ويصدق فيهم قول زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم (2)
والعدل هو سبب قبول حكمهم، والعدل فيه صفة البينيَّة بين نوعي الظلم، ولذلك كان وسطيًا، فكذلك سائر صفاتهم.
وبهذا يتَّضح أن الخيريَّة والبينيَّة - المعنويَّة -هي التي أهّلتهم لأن يكونوا وسطًا نسبًا ودارًا.
وتأمّل معي ما قاله رشيد رضا في تفسيره: قالوا إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك أن الزّيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنّقص عنه تفريط وتقصير، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر أي: المتوسّط بينهما(3).
وأختم هذا المبحث بكلام جيد يتَّفق مع ما ذكرتُ وقرّرتُ، ذَكَرَهُ الدكتور/ زيد في كتابه: (الوسطيَّة في الإسلام). وكان مما قال(4) .
الوسط من كل شيء أعدله، فالوسط إذن ليس مجرّد كونه نقطة بين طرفين، أو وسطيَّة جزئيَّة، كما يقال فلان وسط في كرمه، أو وسط في دراسته، ويُراد أنَّه وسط بين الجيد والرّديء، فهذا المفهوم وإن درج عند كثير من الناس، فهو فهم ناقص مجتزأ، أدَّى إلى إساءة فهم معنى الوسطيَّة المقصودة.
وعلى هذا فالوسط المراد والمقصود هنا، هو العدل الخيار والأفضل، إلى أن قال:
وبالتالي لم يبق معنى الوسطيَّة مجرَّد التّجاور بين الشيئين فقط، بل أصبح ذا مدلول أعظم، ألا وهو البحث عن الحقيقة، وتحصيلها والاستفادة منها.
ثم يقول: وهو معنى يتَّسع ليشمل كل خصلة محمودة لها طرفان مذمومان، فإنَّ السّخاء وسط بين البخل والتّبذير، والشّجاعة وسط بين الجبن والتَّهوّر، والإنسان مأمور أن يتجنَّب كل وصف مذموم، وكلا الطرفين هنا وصف مذموم، ويبقى الخير والفضل للوسط.
ومن خلال ما سبق من الأمثلة، وما ذكرته من الأدَّلة من الكتاب والسنَّة، والكلام المأثور من لسان العرب وأقوال السّلف اتَّضح لنا ما بيّنته من التلازم بين الخيريَّة والبينيَّة - حسيَّة أو معنويّة - في إطلاق مصطلح (الوسطيَّة).
ولهذا فعندما أستخدم هذا المصطلح في هذا البحث فإنَّني أعني به ما يصدق عليه هذا المدلول دون سواه.
وما عدا ذلك فلا يدخل في هذا البحث، وإن كان داخلا في معنى الوسط، كما سبق بيانه، فهو من الوسط لا الوسطيَّة.
وكذلك ما كان خيرًا أو فاضلا فلا يلزم أن يكون (وسطيًا) وإن كان محمودًا.
قال يوسف كمال: فهناك فضائل ليست وسطيَّة كالصدق الذي يقابله الكذب. (5).
أسس فهم الوسطيَّة
__________
(1) - صحيح البخاري (4/194). وأحمد في المسند (1/55، 56).
(2) - انظر: تفسير الطبري (2/6).
(3) - انظر: تفسير المنار (2/4).
(4) - انظر: الوسطيَّة في الإسلام ص (18) وما بعدها.
(5) - انظر: مستقبل الحضارة ليوسف كمال ص (127)، وإن كان بعض العلماء يرى أن كل أمر أمر الله به فهو وسط بين خلقين ذميمين، والصدق قد أمر الله به. انظر: القواعد الحسان لتفسير القرآن للسعدي ص (90).(/13)
بعد أن تبينَّ لنا أنَّ الوسطيَّة لا بدّ لها من توافر أمرين، وهما: الخيريَّة والبينيَّة، فإنَّ هناك أُسُسًا لا بدّ من بيانها، ليتحدَّد معنى الوسطيَّة على الوجه الدّقيق. وتلك الأسس مطَّردة مع شَرْطَي الخيريَّة والبينيَّة، وهذه الأسس هي:
1- الغلوّ أو الإفراط.
2- الجفاء أو التَّفريط.
3- الصّراط المستقيم.
فالصّراط المستقيم يُمثِّل الخيريَّة ويُحقّق معناها، وهو وسط بين الغلوّ والجفاء، أو الإفراط والتَّفريط، وهذا يُحقّق وصف البينيَّة وشرطها الذي ذكرت أنَّه من لوازم الوسطيَّة.
وسأقف مبيِّنًا هذه الأُسس مبتدئًا بالغلوّ والإفراط، ثم الجفاء والتَّفريط، ثم أُبيِّن معنى وحقيقة الصّراط المستقيم، وبضدّها تتبيَّن الأشياء.
وحيث إنَّ هذا البحث مستمدٌّ من كتاب الله - تعالى - فسأُركِّز على تحديد معنى هذه الأُسس من خلال القرآن الكريم والسنَّة المبيِّنة لذلك، ثم كلام المفسّرين وغيرهم من العلماء، ومن الله أستمدّ العون والتَّوفيق.
أولا: الغلو والإفراط
أما الغلوّ فقد عرَّفه أهل اللغة بأنَّه مجاوزة الحدّ، فقال ابن فارس:
غلوّ: الغين واللام والحرف المعتلّ أصل صحيح يدلّ على ارتفاع ومجاوزة قدر، يُقال: غلا السّعر يغلو غلاء، وذلك ارتفاعه، وغلا الرَّجل في الأمر غلوًّا، إذا جاوز حدَّه، وغلا بسهمه غلوًّا إذا رمى به سهمًّ أقصى غايته (1).
وقال الجوهريُّ: وغلا في الأمر يغلو غلوًّا، أي جاوز فيه الحدّ (2).
وقال في لسان العرب: وغلا في الدّين والأمر يغلو غلوًّا: جاوز حدَّه، وفي التّنزيل: (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) (النساء: من الآية171).
وقال بعضهم: غلوْتَ في الأمر غلوًّا وغلانية وغلانيًا إذا جاوزت فيه الحدّ وأفرطّت فيه.
وفي الحديث: - إيّاكم والغلوّ في الدّين - (3) أي: التشدّد فيه ومجاوزة الحدّ، كالحديث الآخر: - إن هذا الدّين متين فأوغل فيه برفق - (4). وغلا السّهم نفسه: ارتفع في ذهابه وجاوز المدى، وكلّه من الارتفاع والتَّجاوز.
ويقال للشيء إذا ارتفع: قد غلا، وغلا النَّبت: ارتفع وعظم (5).
هذا معنى الغلوّ في اللغة، وقد ورد في القرآن الكريم آيتان فيهما النَّهي عن الغلوّ بلفظه الصَّريح، قال - تعالى - في سورة النساء: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) (النساء: من الآية171) قال الطبري:
يقول: لا تجاوزوا الحقّ في دينكم فَتُفْرِطُوا فيه.
وأصل الغلوْ في كل شيء مجاوزة حدّه الذي هو حدّه، يقال منه في الدّين: قد غلا فهو يغلو غلوًّا(6).
وقال ابن الجوزي في تفسير هذه الآية:
والغلوّ: الإفراط ومجاوزة الحدّ، ومنه: غلا السعر، وقال الزَّجَّاج: الغلوّ: مجاوزة القدر في الظّلم.
وغلوّ النَّصارى في عيسى قول بعضهم: هو الله، وقول بعضهم: هو ابن الله، وقول بعضهم: هو ثالث ثلاثة.
وعلى قول الحسن: غلوّ اليهود فيه قولهم: إنَّه لغير رشده. وقال بعض العلماء: لا تغلو في دينكم بالزّيادة في التّشدُّد فيه (7).
وقال ابن كثير: يَنهى - تعالى -أهل الكتاب عن الغلوّ والإطراء، وهذا كثير في النَّصارى، فإنَّهم تجاوزوا الحدّ في عيسى حتَّى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاها الله إيَّاها، فنقلوه من حيِّز النّبوَّة إلى أن اتَّخذوه إلهًا من دون الله يعبدونه كما يعبدونه، بل غلوًا في أتباعه وأشياعه، ممَّن زعم أنَّه على دينه، فادّعوا فيهم العصمة، واتَّبعوهم في كل ما قالوه، سواء كان حقَّا أو باطلا، أو ضلالا أو رشادًا، أو صحيحًا أو كذبًا، ولهذا قال - تعالى -: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية31)(8).
__________
(1) - انظر: معجم مقاييس اللغة مادة (غلو) (4/387).
(2) - انظر: الصحاح مادة (غلا) (6/2448).
(3) - أخرجه النسائي (5/268) رقم (3057). وابن ماجة (2/1008) رقم (3029) وأحمد (1/215، 347)، وصححه الحاكم (1/466)، ووافقه الذهبي، وصححه - أيضًا- الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم (1283)، وصحيح الجامع رقم (2680).
(4) - أخرجه أحمد (3/199) وحسنه الألباني، وعزاه أيضًا للبزار والبيهقي، كما في صحيح الجامع رقم (2246)، ولفظ الحديث: "فأوغلوا".
(5) - انظر: لسان العرب، مادة: "غلا".
(6) - انظر: تفسير الطبري (6/34).
(7) - انظر: زاد المسير (2/260).
(8) - انظر: تفسير ابن كثير (1/589).(/14)
أمَّا الآية الثانية فجاءت في سورة المائدة، قال - تعالى -: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة:77) قال الطبري: يقول: لا تُفْرِطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح فتجاوزوا فيه الحقّ إلى الباطل، فتقولوا فيه: هو الله، أو هو ابنه، ولكن قولوا: هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والنَّصارى أكثر غلوًّا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطّوائف، وإيَّاهم نهى الله عن الغلوّ في القرآن (2).
ومنْ غُلوّ النّصارى ما ذكره الله في سورة الحديد: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) (الحديد: من الآية27).
قال ابن كثير في آية المائدة:
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ) (المائدة: من الآية77) . أي لا تجاوزوا الحدّ في اتّباع الحقّ، ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه من حيِّز النبوَّة إلى مقام الإلهيَّة، كما صنعتم في المسيح، وهو نبيٌّ من الأنبياء فجعلتموه إلهًا من دون الله (3).
وقد وردت بعض الأحاديث التي تنهى عن الغلوّ، وذِكْرُ بعضها يساعد على فَهم معناه وحدّه:
1- عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - غداة جمع: - هلمّ القط لي الحصى - ، فلقطت له حصيات من حصى الحذف، فلمَّا وضعهَّن في يده قال: - نعم بأمثال هؤلاء وإيّاكم والغلوّ في الدّين فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدّين - (4).
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: وهذا عامٌّ في جميع أنواع الغلوّ في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار، وهو داخل فيه، مثل الرّمي بالحجارة الكبار بناء على أنَّها أبلغ من الصّغار، ثم علَّله بما يقتضي مجانية هديهم، أي هدي من كان قبلنا إبعادًا عن الوقوع فيما هلكوا به، وأنَّ المشارك لهم في بعض هديهم يُخاف عليه من الهلاك (5).
2- عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - - هلك المتنطّعون - قالها ثلاثًا (6).
قال النَّوويُ: هلك المتنطّعون: أي المتعمِّقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم (7).
3- وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: - لا تشدّدوا على أنفسكم فيُشدِّد الله عليكم، فإنَّ قومًا شدِّدوا على أنفسهم فشدِّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدّيار (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) (الحديد: من الآية27).
4- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - قال: - إنَّ هذا الدّين يُسر، ولن يُشادّ الدّين أحد إلا غلبه، فسدّدوا، وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرَّوحة، وشيء من الدَّلجة - (8). وفي لفظ: - القصد القصد تبلغوا - (9).
قال ابن حَجَر: والمعنى: لا يتعمّق أحد في الأعمال الدّينيَّة، ويترك الرّفق إلا عجز وانقطع فيُغلب (10).
قال عبد الرحمن بن معلا: وحتى لا يقع ذلك جاء ختام الحديث آمرًا بالتَّسديد والمقاربة، قال ابن رجب: والتّسديد العمل بالسَّداد، وهو القصد والتَّوسّط في العبادة، فلا يقصِّر فيما أمر به، ولا يتحمَّل منها ما لا يُطيقه(11).
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (6/316).
(2) - اقتضاء الصراط المستقيم (1/289).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (2/82).
(4) - أخرجه النسائي (5/268) رقم (3057). وابن ماجة (2/1008) رقم (3029) وأحمد (1/215، 347)، وصححه الحاكم (1/466)، ووافقه الذهبي، وصححه - أيضًا- الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم (1283)، وصحيح الجامع رقم (2680).
(5) - انظر: تيسير العزيز الحميد ص (275) والغلو في الدين لعبد الرحمن بن معلا اللويحق ص (68).
(6) - أخرجه مسلم (4/2055) رقم (2670). وأبو داود (4/201) رقم (4608). وأحمد (1/386).
(7) - شرح مسلم للنووي (16/220).
(8) - أخرجه البخاري (1/15). والنسائي (8/122) رقم (5034).
(9) - أخرجه البخاري (7/181، 182)، وأحمد (2/514).
(10) - انظر: فتح الباري (1/94).
(11) - انظر: الغلو في الدين ص (69). والمحجة في سير الدُّلجة لابن رجب ص (51).(/15)
5- وروى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن شبل أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - قال: - اقرأوا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه، ولا تغلو فيه - (1).
6- وروي عنه، - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: - يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين - (2).
وكلّ هذه الأحاديث تدلّ على أن الغلوّ خروج عن المنهح ومجاوزة للحدّ، وفعل ما لم يشرعه الله ولا رسوله، - صلى الله عليه وسلم - ولست بصدد ذكر الأحاديث التي تنهى عن الغلوّ وتذمّه دون تصريح به، فهي كثيرة جدًّا، ومن أشهرها قصَّة الذين جاءوا وسألوا عن عمل الرسول، - صلى الله عليه وسلم - في السرّ، فكأنَّهم تقالّوا، فكان من مقولتهم ما هو معروف، وكيف واجه رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر (3).
بل لم أرد حصر جميع الأحاديث التي ورد فيها لفظ الغلوّ مصرحًا به، وإنَّما اخترتُ هذه الأحاديث للدلالة على ما نحن بصدده، وهو تحديد معنى الغلوّ ومفهومه وحكمه، ومن ثمَّ علاقته بالوسطيَّة.
وأختم تعريف الغلوّ بهذين التّعريفين:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الغلوّ: مجاوزة الحدّ بأن يُزاد في الشيء، في حمده أو ذمّه على ما يستحقّ ونحو ذلك (4).
وقال ابن حجر في تعريفه للغلوّ: المبالغة في الشيء والتّشديد فيه بتجاوز الحدّ (5).
وضابط الغلوّ بيَّنة الشيخ سليمان بن عبد الوهاب، حيث قال: وضابطه تعدّى ما أمر الله به، وهو الطّغيان الذي نهى الله عنه في قوله: (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) (طه: من الآية81)(6).
وممَّا سبق من التَّعريف الّلغوي للغلوّ وما ورد فيه من آيات وأحاديث، وكذلك تعريف العلماء يتَّضح لنا أن الغلوّ هو: مجاوزة الحدّ في الأمر المشروع، وذلك بالزّيادة فيه أو المبالغة إلى الحدّ الذي يُخرجه عن الوصف الذي أراده وقصده الشَّارع.
وإيضاحًا لحقيقة الغلوّ، وكشفًا لحدوده ومعالمه، أذكر هذه الحقائق.
أولا: أن منشأ الغلو بحسب متعلقه ينقسم إلى ما يلي(7) .
1- أن يكون الغلوّ متعلقًا بفقه النّصوص، كتفسيرها تفسيرًا متشدّدًا يتعارض مع السِّمة العامَّة للشَّريعة ومقاصدها الأساسيَّة فيشدّد على نفسه وعلى الآخرين.
2- أن يكون الغلوّ متعلّقًا بالأحكام، ومن صور ذلك:
(أ) إلزام النَّفس أو الآخرين بما لم يوجبه الله - عز وجل - عبادة وترهُّبًا، ومعيار ذلك الطَّاقة الذَّاتيَّة حيث إنّ تجاوز الطاقة في أمر مشروع يعتبر غلوًّا.
ومن الأدلَّة على ذلك، ما رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: - دخل النبي، - صلى الله عليه وسلم - المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلَّقت به، فقال النبي، - صلى الله عليه وسلم - حلّوه ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد - (8).
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: وفيه الحثّ على الاقتصاد في العبادة، والنَّهي عن التعمّق فيها.(9).
(ب) تحريم الطيِّبات التي أباحها الله على وجه التعبّد، أو ترك الضّرورات أو بعضها، ومن أدلّة ذلك قصَّة النَّفر الثّلاثة، حيث روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: - جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي، - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنَّهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن من النبي، - صلى الله عليه وسلم - فقد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فقال أحدهم: أمَّا أنا فأُصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدّهر ولا أُفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبدًا.
__________
(1) - أخرجه أحمد في المسند (3/428، 444). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/170، 171): رواه أحمد والبزار بنحوه، ورجال أحمد ثقات. وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (1168).
(2) - أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن بسنده عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم،.. به. قال الألباني في تعليقه على أحاديث المشكاة رقم (248): ثم إن الحديث مرسل؛ لأن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري هذا تابعي مقلّ، كما قال الذهبي، وراويه عنه: معاذ بن رفاعة ليس بعمدة. لكن الحديث قد روي موصولا من طريق جماعة من الصحابة، وصحح بعض طرقه الحافظ العلائي- في "بغية الملتمس".
(3) - وهو حديث أنس المشهور في قصة الثلاثة، وسيأتي بعد قليل.
(4) - انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/289).
(5) - انظر: فتح الباري (13/278).
(6) - انظر: تيسير العزيز الحميد ص (256) والغلو في الدين ص (82).
(7) - انظر: كتاب الغلو في الدين فقد ذكر هذه الأقسام ص (83(.
(8) - أخرجه البخاري (2/48) ومسلم (1/542) رقم (784).
(9) - انظر: فتح الباري (3/37).(/16)
فجاء رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوَّج النساء، فمن رَغِبَ عن سنَّتي فليس منيِّ" - (1).
وكذلك لو اضطرّ إنسان إلى محرَّم، كأكل الميتة أو حيوان محرَّم، وتَرْكُ ذلك يؤّدي به إلى الهلكة، فإنَّ ذلك من التّشدّد، وبيان ذلك: أن الله هو الذي حرَّم هذا الشّيء في حالة اليسر، وهو - سبحانه - الذي أباح أكله في حالة الاضطرار، قال - سبحانه -: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:173).
3- أن يكون الغلوّ متعلّقًا بالحكم على الآخرين، حيث يقف من بعض النَّاس موقف المادح الغالي، ويقف من آخرين موقف الذَّامّ، الجافي ويصفهم بما لا يلزمهم شرعًا، كالفسق أو المروق من الدّين ونحو ذلك.
وفي كلا الحالين يترتَّب على ذلك أعمال هي من الغلوّ في السَّلب أو الإيجاب، كالحبّ والبغض، والولاء والهجر، ونحو ذلك.
ثانيًا: أن الغلو في حقيقته حركة في اتجاه القاعة الشَّرعيَّة والأوامر الإلهيَّة، ولكنها حركة تتجاوز في مداها الحدود التي حدَّها الشَّارع، فهو مبالغة في الالتزام بالدّين، وليس خروجًا عنه في الأصل، بل هو نابع من الرَّغبة في الالتزام به (2).
ثالثًا: أن الغلو ليس هو الفعل فقط بل قد يكون تركًا (3) فترك الحلال كالنوم والأكل ونحوه نوع من أنواع الغلو، إذا كان هذا التَّرك على سبيل العبادة والتقرّب إلى الله كما يفعل بعض الصّوفيَّة والنَّباتيّين (4).
رابعًا: الغلو على نوعين: اعتقاديّ وعمليّ.
والاعتقاديّ على قسمين:
اعتقادي كلّي، واعتقادي (فقط).
والمراد بالغلوّ الكلّي الاعتقادي ما كان متعلّقًا بكلِّيَات الشَّريعة، وأمَّهات مسائلها.
أمَّا الاعتقادي - فقط - فهو ما كان متعلّقًا بباب العقائد دون غيرها، كالغلوّ في الأئمَّة وادِّعاء العصمة لهم، أو الغلوّ في البراءة من المجتمع العاصي، أو تكفير أفراده واعتزالهم.
ويدخل في الغلوّ الكلّي الاعتقادي الغلوّ في فروع كثيرة إذ أن المعارضة الحاصلة به للشَّرع مماثلة لتلك المعارضة الحاصلة بالغلوّ في أمر كلّيّ (5).
أمَّا الغلوّ الجزئي العمليّ، فهو ما كان غلوًّا في جزئيَّة من جزئيَّات الشَّريعة ومتعلّقًا بباب العمليَّات دون الاعتقاد، فهو محصور في جانب الفعل سواءً أكان قولا بالّلسان أو عملا بالجوارح (6).
والغلوّ الكّليّ الاعتقاديّ أشدّ خطرًا، وأعظم ضررًا من الغلوّ العمليّ، إذ أنَّ الغلوّ الكليّ الاعتقاديّ هو المؤدّي إلى الشّقاق والانشقاق، وهو المظهر للفرق والجماعات الخارجة عن الصّراط المستقيم، وذلك كغلوّ الرّافضة والخوارج (7).
خامسًا: أنه ليس من الغلو طلب الأكمل في العبادة؛ بل الغلوّ تجاوز الأكمل إلى ما يؤدّي إلى المشقَّة ونحوها، إذ ليس الأكمل في كميَّة العبادة، بل يدخل في تحديد الأكمل أمور عدَّة تتعلّق بالعمل، وبمن قام بالعمل، وكذلك من له صلة بهذا العمل.
فالصَّدقة - مثلا -: يُراعى فيها: المتصدِّق، والمتصدَّق عليه، والمال المتصدِّق به، ولا يُسمَّى كمالا كليًّا بالنَّظر للكمال الجزئيّ.
قال ابن المنيّر: وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنَّه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدّي إلى الملال أو المبالغة في التطوّع المفضي إلى ترك الأفضل (8).
سادسًا: أن الحكم على العمل بأنه غلو، أو أنَّ هذا المرء من الغُلاة، باب خطير، لا يقدر عليه إلا العلماء الذين يُدركون حدود هذا العمل، ويعلمون أبواب العقيدة وفروعها، لأنَّ الحكم على الشيء فرع عن تصوّره، فقد يكون الأمر مشروعًا ويوصف صاحبه بالغلوّ، وها نحن نرى اليوم أن الملتزمين بشرع الله، المتمسِّكين بالكتاب والسنَّة يُوصفون بالغلوّ والتّطرُّف والتَّزمُّت ونحوها.
ولذلك فإنّ المقياس في الحكم على الأعمال والأفراد والجماعات هو الكتاب والسنَّة، وليست الأهواء والأعراف، وما تواضع عليه النَّاس، وقد ضلَّ في هذا الباب أُممٌ وأفراد وجماعات.
وبعد أن تبينَّ لنا معنى (الغلوّ) لغة وشرعًا، وما يتعلَّق به من معانٍ وأقسام، أبيِّن معنى (الإفراط) بإيجاز، حيث ستتَّضح صلته بالغلوّ:
الإفراط
لغة هو: التقدّم ومجاوزة الحدّ.
__________
(1) - أخرجه البخاري (6/116). ومسلم (2/1020) رقم (1401).
(2) - الغلو في الدين ص (84).
(3) - مع أن الترك قد يكون فعلا.
(4) - انظر: الغلو في الدين ص (84).
(5) - ينظر اقتضاء الصراط المستقيم (1/289) والغلو في الدين ص (70).
(6) - انظر: الغلو في الدين ص (77).
(7) - انظر: الغلو في الدين ص (70).
(8) - انظر: فتح الباري (1/94) والغلو في الدين ص (85).(/17)
قال ابن فارس: يُقال: أفرط: إذا تجاوز الحدّ في الأمر، يقولون: إيَّاك والفرط، أي لا تجاوز القدر، وهذا هو القياس، لأنَّه إذا جاوز القدر فقد أزال الشيء عن وجهته (1).
وقال الجوهري: وأفرط في الأمر: أي: جاوز فيه الحدّ (2).
وفي لسان العرب: وأمر فُرُط، أي: مجاوز فيه الحدّ.
والفُرطة - بالضم -: اسم للخروج والتقدّم، ومنه قول أم سلمة لعائشة: إن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - نهاك عن الفُرْطَة في البلاد، وفي رواية: نهاك عن الفُرْطَة في الدّين، يعني السّبق والتقدّم ومجاوزة الحدّ.
والإفراط: الإعجال والتقدّم، وأفرط في الأمر: أسرف وتقدَّم.
وكل شيء جاوز قدره فهو مفرط(3).
قال - تعالى -: (إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى) (طه: من الآية45).
قال الطبري: وأما الإفراط فهو الإسراف والإشطاط والتعدّي، يقال منه، أفرطت في قولك، إذا أسرف فيه وتعدَّى.
وأمَّا التَّفريط فهو التَّواني، يُقال منه: فرَّطت في هذا الأمر حتى فات، إذا توانى فيه.
قال ابن زيد: (نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا) (طه: من الآية45) قال: نخاف أن يعجل علينا إذ نبلّغه كلامك أو أمرك، يفرط ويعجّل (4).
وقال الفرَّاء: (إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا) (طه: من الآية45) قال: يعجّل إلى عقوبتنا(5).
ونخلص ممَّا سبق أن معنى الإفراط: تجاوز الحدّ، والتقدّم عن القدر المطلوب، وهو عكس التَّفريط - كما سيأتي-.
ومن خلال ما سبق يتَّضح من تعريفي الغلوّ والإفراط أنَّ كلا منهما يصدق عليه: تجاوز الحدّ، وقد فسَّر الغلوّ بالإفراط كما سبق.
وإن كان كل واحد منهما يحمل معنى أبلغ من الثَّاني في بعض ما يستعمل فيه.
فالذي يُشدّد على نفسه بتحريم بعض الطيِّبات، أو بحرمان نفسه منها وصف الغلوّ ألصق به من الإفراط، والذي يُعاقب من اعتدى عليه عقوبة يتعدَّى بها حدود مثل تلك العقوبة فوصف الإفراط ألصق به من الغلوّ، فنقول: عاقبه وأفرط في عقوبته. وهكذا.
والذي يعنينا في هذا المبحث أن كلا من الغلوّ والإفراط خروج عن "الوسطيَّة" فكل أمر استحقّ وصف (الغلوّ) أو (الإفراط) فليس من الوسطيَّة في شيء.
ثانيًا: التفريط والجفاء
بعد أن عرَّفنا معنى الغلوّ والإفراط، وما يدّل عليه كل منهما، نقف الآن مع ما يقابلهما، وهو: التَّفريط والجفاء. والتَّفريط في اللغة هو التَّضييع كما في لسان العرب.
وقال الزَّجَّاج: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: من الآية28). أي كان أمره التَّفريط وهو تقديم العجز.
وفي حديث عليّ - رضي الله عنه - لا يرى الجاهل إلا مفْرِطًا أو مفرِّطًا، وهو بالتخفيف: المسرف في العمل، وبالتّشديد المقصِّر فيه.
ومنه الحديث: - أنَّه نام عن العشاء حتى تفرّطت - أي: فات وقتها قبل أدائها.
وفرّط في الأمر يُفرِّط فرطًا، أي: قصَّر فيه وضيَّعه حتى فات، وكذلك التّفريط (6).
ومنه قول الرسول، - صلى الله عليه وسلم - - أما إنَّه ليس في النوم تفريط - (7). وإذن فالتَّفريط هو التَّقصير والتَّضييع والتَّرك.
قال ابن فارس: وكذلك التَّفريط، وهو التَّقصير، لأنَّه إذا قصر فيه فقد قعد به عن رتبته التي هي له(8).
وقال الجوهري: فرَّط في الأمر فرطًا: أي قصَّر فيه، وضيَّعه، حتى فات، وكذلك التَّفريط (9).
وقد وردت مادة (فرط) في القرآن في عدَّة مواضع.
قال - تعالى -: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) (الأنعام: من الآية31).
قال الطبري: يقول: يا ندامتنا على ما ضيّعنا فيها.
قال السّدي: أما (يَا حَسْرَتَنَا) (الأنعام: من الآية31) فندامتنا على ما فرَّطنا فيها، فضيَّعنا من عمل الجنة(10).
وقال القرطبي: وفرَّطنا معناه ضيَّعنا، وأصله التقدّم، فقولهم: (فَرَّطْنَا) (الأنعام: من الآية31) أي: قدَّمنا العجز.
وقيل: "فرَّطنا" أي: جعلنا غير الفارط السَّابق لنا إلى طاعة الله وتخلّفنا (11).
وقال - تعالى - في سورة الأنعام - أيضًا-:(مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: من الآية38).
قال الطبريّ: معناه: ما ضيَّعنا إثبات شيء منه (12).
__________
(1) - انظر: معجم مقاييس اللغة مادة (فرط) (4/490).
(2) - انظر: الصحاح مادة (فرط) (3/1148).
(3) - انظر: لسان العرب مادة (فرط).
(4) - انظر: تفسير الطبري (16/170).
(5) - انظر: لسان العرب مادة (فرط).
(6) - انظر لكل ما سبق: لسان العرب، مادة (فرط).
(7) - جاءت هذه العبارة في حديث أبي قتادة الطويل. أخرجه مسلم (1/473) رقم (681). وأخرجه مختصرًا: أبو داود (1/121) رقم (441). والترمذي (1/334) رقم (177). والنسائي (1/294) رقم (614). وغيرهم.
(8) - معجم مقاييس اللغة مادة (فرط) (4/490).
(9) - انظر: الصحاح مادة (فرط) (3/1148).
(10) - انظر: تفسير الطبري (7/178).
(11) - انظر: تفسير القرطبي (6/413).
(12) - انظر: تفسير الطبري (7/188).(/18)
وقال ابن عبَّاس: ما تركنا شيئًا إلا وقد كتبناه في أمّ الكتاب (1).
وقال ابن زيد: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: من الآية38) قال: لم نغفل، ما من شيء إلا وهو في الكتاب (2).
وقال - تعالى -: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (الأنعام: من الآية61).
قال الطبري: قد بيَّنَّا أنَّ معنى التَّفريط: التَّضييع فيما مضى قبل، وكذلك تأوّله المتأوِّلون في هذا الموضع.
قال ابن عبَّاس: "لا يُفرّطون". لا يضيِّعون.
وكذلك قال السّديّ: "لا يفرّطون". لا يضيِّعون (3).
وفي سورة يوسف: (وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) (يوسف: من الآية80).
قال الطبري: ومن قبل فعلتكم هذه تفريطكم في يوسف، يقول: أولم تعلموا من قبل هذا تفريطكم في يوسف (4).
قال القاسميّ: (فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) (يوسف: من الآية80) قصَّرتم في شأنه (5).
وقال - تعالى - في سورة النحل: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) (النحل:62).
قال سعيد بن جبير: (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) (النحل: من الآية62) منسيّون مضيّعون.
وقال الضَّحَّاك: متروكون في النَّار.
وقال قتادة: مضاعون.
وقال آخرون: إنَّهم معجلون إلى النَّار مقدّمون إليها، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب: أفرطنا فلانًا في طلب الماء إذا قدّموه لإصلاح الدّلاء والأرشية. وقيل غير ذلك. ورجّح الطبري أن معنى (مُفْرَطُونَ) (النحل: من الآية62) مخلّفون متروكون في النَّار، منسيّون فيها (6).
وقال - تعالى - في سورة الكهف: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: من الآية28).
روى عن مجاهد: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: من الآية28) ضائعًا.
وروي عنه: ضياعًا.
قال الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصّواب، قول من قال: معناه: ضياعًا وهلاكًا، من قولهم: أفرط فلان في هذا الأمر إفراطًا، إذ أسرف فيه وتجاوز قدره، وكذلك قوله: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: من الآية28) معناه: وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا في الرّياء والكبر، واحتقار أهل الإيمان، سرفًا قد تجاوز حدّه، فضيّع بذلك الحقّ وهلك (7).
وقال ابن الجوزي: في الآية أربعة أقوال:
أحدها: أنّه أفرط في قوله، روي عن ابن عباس.
والثاني: ضياعًا، قاله مجاهد، وقال أبو عبيدة، سرفًا وتضيّيعًا.
الثالث: ندمًا، حكاه ابن قتيبة عن أبي عبيدة.
الرابع: كان أمره التَّفريط، والتَّفريط: تقديم العجز، قاله الزَّجَّاج (8).
وفي سورة الزمر: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) (الزمر:56).
قال الطبري: يقول: على ما ضيَّعت من العمل بما أمرني الله به، وقصَّرت في الدنيا في طاعة الله.
وروي مثل ذلك عن مجاهد والسّدّي (9).
وقال القاسمي: (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ) (الزمر: من الآية56) أي قصَّرت. (فِي جَنْبِ اللَّهِ) (الزمر: من الآية56) أي في جانب أمره ونهيه (10).
هذه هي الآيات التي ورد فيها ما يدلّ على التَّفريط، كما بيَّنت من خلال أقوال المفسّرين، وكلّها تدلّ على التَّضييع والتَّقصير، والتَّرك والتَّهاون، مع اختلاف يسير بين مدلول هذه المعاني.
وكلّها في مقابل الإفراط والغلوّ، كما سبق بيانهما.
أما الجفاء
فقال ابن فارس: الجيم والفاء والحرف المعتلّ يدلّ على أصل واحد: نبو الشيء عن الشيء، من ذلك: جفوت الرجل اجفوه، وهو ظاهر الجفوة، أي: الجفاء، وجفا السَّرج عن ظهر الفرس، وأجفيته أنا.
وكذلك كل شيء إذا لم يلزم شيئًا يُقال جفا عنه يجفو.
والجفاء: خلاف البّر، والجفاء: ما نفاه السّيل، ومنه اشتقاق الجفاء (11).
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (7/188).
(2) - انظر: تفسير الطبري (7/188).
(3) - انظر: تفسير الطبري (7/218).
(4) - انظر: تفسير الطبري (13/35).
(5) - انظر: تفسير القاسمي (13/35).
(6) - انظر لما سبق: تفسير الطبري (14/177).
(7) - انظر: تفسير الطبري (15/236).
(8) - انظر: زاد المسير (5/133).
(9) - انظر: تفسير الطبري (24/19).
(10) - انظر: تفسير القاسمي (14/5146).
(11) - انظر: مقاييس اللغة مادة (جفو) (1/465).(/19)
وقال ابن منظور(1) جفا الشيء يجفو جفاءً وتجافى: لم يلزم مكانه، كالسَّرج يجفو عن الظّهر، وكالجّنب يجفو عن الفراش، وفي التَّنزيل: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) (السجدة: من الآية16) وفي الحديث: - أنه كان يجافي عضديه عن جنبيه في السّجود - (2) أي يباعدهما.
وفي الحديث: - إذا سجدت فتجاف - وهو من الجفاء: البعد عن الشيء، ومنه الحديث: - اقرءوا القرآن ولا تجفوا عنه - (3). أي تعاهدوه ولا تبتعدوا عن تلاوته.
قال أبو عبيد في معنى الجفاء في الحديث: والجافي عنه التَّارك له، وللعمل به.
وفي الحديث عن أبي هريرة، قال: قال، - صلى الله عليه وسلم - - الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النَّار - (4).
وفي الحديث الآخر: - مّنْ بدا جفا - (5). بالدّال المهملة، خرج إلى البادية، أي: من سكن البادية غلظ طبعه، لقلّة مخالطة النَّاس.
والجفاء غلظ الطّبع.
وفي صفته، - صلى الله عليه وسلم - ليس بالجافي المهين، أي ليس بالغليظ الخلقة، ولا الطّبع (6).
وقال - تعالى -: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً) (الرعد: من الآية17). قال الطبري: وأمَّا الجفاء، فإني حدّثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنَّى، قال: قال أبو عمرو بن العلاء: يُقال: قد أجفأت القدور، وذلك إذا غلت فانصبّ زبدها، أو سكنت فلا يبقى منه شيء.
وقد زعم بعض أهل العربيَّة من أهل البصرة أن معنى قوله: (فَيَذْهَبُ جُفَاءً) (الرعد: من الآية17) تنشفه الأرض، وقال: يقال: جفا الوادي وأجفى: في معنى نشف (7).
وقال - تعالى -: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) (السجدة: من الآية16). قال الطبري: تتنحَّى جنوب هؤلاء الذين يؤمنون بآيات الله، الذين وصفت صفتهم، وترتفع عن مضاجعهم التي يَضْطَجعون لمنامهم، ولا ينامون.
وتتجافى: تتفاعل من الجفاء، والجفاء: النبو.
وإنَّما وصفهم - تعالى ذكره - بتجافي جُنوبهم عن المضاجع لتركهم الاضطجاع للنوم شغلا بالصّلاة.
ثم قال: إن الله وصف هؤلاء القوم بأنَّ جنوبهم تنبو عن مضاجعهم، شغلا منهم بدعاء ربّهم وعبادته، خوفًا وطمعًا، وذلك نبوّ جنوبهم عن المضاجع ليلا.. إلخ (8).
ومما سبق يتَّضح أن الجفاء هو النبوء والتَّرك والبعد، وهو غالبًا ما يحدث خلاف الأصل والعادة.
وأكثر ما يرد الجفاء لما هو محظور ومنهيّ عنه، كالجفاء بما يقابل الصلة والبّر، والجفاء الذي هو من الشّدة والغلظة، ونحو ذلك.
وسأذكر بعض الأمثلة التي يتَّضح فيها معنى التَّفريط والجفاء:
1- تأخير الصلاة عن وقتها تفريط، ولذلك ورد في الحديث: - أمَّا إنّه ليس في النوم تفريط، إنَّما التَّفريط على من لم يصلّ الصّلاة حتى يجيء وقت الصَّلاة الآخر - (9).
2- رؤية المنكرات وعدم إنكارها مع القدرة تفريط.
3- إهمال تربية الأولاد، تفريط.
4- ترك الأخذ بالأسباب، تفريط.
5- تأخير عمل اليوم إلى الغد - دون سبب - تفريط.
6- الغلظة في المعاملة، جفاء.
7- عقوق الوالدين، جفاء.
8- قطع الأرحام وعدم صلتهم، جفاء وتفريط.
9- عدم القيام بحقوق العلماء وضعف الصلة بهم، جفاء وتفريط.
10- السلبيَّة مع واقع المسلمين وشئونهم وشجونهم، جفاء وتفريط.
وبهذا يتبيَّن معنى التّفريط والجفاء، وأن بينهما عمومًا وخصوصًا. وهما يُقابلان معنى الغلوّ والإفراط.
وعند التَّأمّل في استعمال العرب لهما يلحظ أن الجفاء يستعمل - غالبًا - فيما فيه قصد الأمر من التَّرك والبعد وسوء الخلق. أمَّا التَّفريط فمنشؤه - غالبًا - التَّساهل والتَّهاون.
والخلاصة:
__________
(1) - انظر: لسان العرب مادة (جفا).
(2) - أخرجه مسلم (1/357) رقم (497) من حديث ميمونة - رضي الله عنها -. وأخرجه أبو داود (1/194) رقم (730). والنسائي (2/211) رقم (1101) من حديث أبي حميد الساعدي. وأخرجه أحمد (3/295) من حديث جابر. وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (4738).
(3) - أخرجه أحمد في المسند (3/428، 444). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/170، 171): رواه أحمد والبزار بنحوه، ورجال أحمد ثقات. وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (1168).
(4) - انظر: غريب الحديث (1/483) ووسطية أهل السنة ص (14) وهذا الحديث أخرجه الترمذي (4/321) رقم (2009). وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجة (2/1400) رقم (4184). وأحمد (2/501). وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (3200).
(5) - أخرجه أحمد (2/371، 440). وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم (1272).
(6) - انظر: لسان العرب مادة (جفا).
(7) - انظر: تفسير الطبري (13/137).
(8) - انظر: تفسير الطبري (21/99-102).
(9) - جاءت هذه العبارة في حديث أبي قتادة الطويل. أخرجه مسلم (1/473) رقم (681). وأخرجه مختصرًا: أبو داود (1/121) رقم (441). والترمذي (1/334) رقم (177). والنسائي (1/294) رقم (614). وغيرهم.(/20)
أنَّ كل أمرٍ اتَّصف بالتَّفريط أو بالجفاء، فإنَّه يُخالف الوسطيَّة، وبمقدار اتّصافه بأيّ من هذين الوصفين يكون بعده عن الوسطيَّة وتجافيه عنها.
ثالثًا: الصراط المستقيم
بعد أن عرفنا مدلول الغلوّ والجفاء والإفراط والتَّفريط، نأتي للحديث عن الصّراط المستقيم.
إنَّنا بدون فهم معنى (الصّراط المستقيم)، وتحديد مدلوله، لا نستطيع فهم (الوسطيَّة) على معناها الصّحيح.
وقد ورد لفظ (الصّراط المستقيم)، في القرآن الكريم عشرات المرَّات، وجاء - أيضًا – بلفظ (صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) (النساء: من الآية68) و (صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف: من الآية16) و (صِرَاطِي مُسْتَقِيماً) (الأنعام: من الآية153) ونحو ذلك.
ففي سورة الفاتحة نجد قوله - تعالى -: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6) ثم يفسّره بأنه: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة:7).
وفي البقرة جاء قوله - تعالى-: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة: من الآية142). وجاء بعد هذه الآية مباشرة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). وسيأتي بيان العلاقة بين هاتين الآيتين. وعيسى، عليه السلام، في سورة آل عمران يقول لقومه: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (آل عمران:51).
ونجد أن سورة الأنعام من أكثر السّور التي ورد فيها الحديث عن الصّراط المستقيم: (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية39) (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية87) (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) (الأنعام: من الآية126) (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) (الأنعام: من الآية153) (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية161) وفي سورة إبراهيم سمَّاه صراط العزيز الحميد. (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم: من الآية1) وفي طه، وصفه بالسّويّ، فقال: (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) (طه: من الآية135) وفي الحجّ أضافه للحميد فقال: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) (الحج:24) وفي المؤمنون عرَّفه دون وصف أو إضافة: (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ) (المؤمنون:74) وفي مريم يقول إبراهيم، عليه السلام، لأبيه: (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً) (مريم: من الآية43) ويقول الله في سورة الأنعام: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام: من الآية153).
هذه بعض الآيات التي وردت في "الصّراط" فما معناه؟:
قال الطبري: في قوله - تعالى-: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6).
أجمعت الأمَّة من أهل التَّأويل جميعًا على أنَّ الصّراط المستقيم هو الطّريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وكذلك في لغة جميع العرب، من ذلك قول جرير الخطفي:
أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوجّ الموارد مستقيم (1)
وقال ابن عباس: قال جبريل لمحمد، - صلى الله عليه وسلم - - (اهدنا الصّراط المستقيم): يقول: ألهمنا الطّريق الهادي، وهو دين الله الذي لا عَوِجَ له - (2).
قال الطبري: وإنّما وصفه الله بالاستقامة، لأنَّه صواب لا خطأ فيه (3).
وقال: كل حائد عن قصد السّبيل، وسالك غير المنهج القويم فضالّ عند العرب، لإضلاله وجه الطّريق(4).
وقال ابن كثير: واختلفت عبارات المفسّرين من السَّلف والخلف في تفسير الصّراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد، وهو المتابعة لله ورسوله(5).
وأعرِضُ الآن بعض أقوال المفسّرين الذين أشار إليهم ابن كثير - رحمه الله - (6).
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (1/73).
(2) - انظر: تفسير الطبري (1/74).
(3) - انظر: تفسير الطبري (1/75).
(4) - انظر: تفسير الطبري (1/84).
(5) - انظر: تفسير ابن كثير (1/27).
(6) - انظر هذه الأقوال في: تفسير الطبري (1/74، 75). وزاد المسير (1/15).(/21)
فقد روى الطبري عن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: - وذكر القرآن فقال: هو الصّراط المستقيم - (1).
وقال أبو العالية: هو رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر، قال الحسن: صدق أبو العالية ونصح.
وقال القاسمي في تفسير لهذه الآية في سورة الفاتحة: أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في مبحث له مهمّ نأثره عنه هنا لما فيه من الفوائد الجليلة، قال - رحمه الله تعالى -: ينبغي أن يُعلم أن الاختلاف الواقع من المفسّرين وغيرهم على وجهين:
أحدهما ليس فيه تضادّ وتناقض، بل يمكن أن يكون كل منهما حقًّا، وإنًّما هو اختلاف تنوّع، أو اختلاف في الصّفات أو العبارات.
وعامّة الاختلاف الثابت عن مفسّري السَّلف من الصحابة والتَّابعين هو من هذا الباب.
فالله - سبحانه وتعالى - إذا ذكر في القرآن اسمًا مثل قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6) فكل من المفسّرين يعبّر عن الصّراط المستقيم بعبارة تدلّ بها على بعض صفاته، وكل ذلك حقّ، بمنزلة ما يُسمي الله ورسوله، وكتابه بأسماء، كل اسم منها يدلّ على صفة من صفاته.
فيقول بعضهم: الصّراط المستقيم: كتاب الله أو اتّباع كتاب الله.
ويقول الآخر: الصّراط المستقيم: هو الإسلام أو دين الإسلام.
ويقول الآخر: الصّراط المستقيم: هو السنَّة والجماعة.
ويقول الآخر: الصّراط المستقيم: هو العبوديَّة، أو طريق الخوف والرضى والحبّ، وامتثال المأمور، واجتناب المحظور، أو متابعة الكتاب والسنَّة، أو العمل بطاعة الله، أو نحو هذه الأسماء والعبارات.
ومعلوم أنَّ المسمَّى هو واحد، وإن تنوّعت صفاته وتعدَّدت أسماؤه وعباراته (2).
ثم قال في موضع آخر: فإنَّ الصّراط المستقيم أن تفعل في كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل، ولا تفعل ما نُهيت عنه، وهذا يحتاج في وقت إلى أن تعلم ما أمر به في ذلك الوقت، وما نُهي عنه، وإلى أن يحصل لك إرادة جازمة لفعل المأمور، وكراهة لترك المحظور، والصراط المستقيم قد فسّر بالقرآن، والإسلام، وطريق العبوديَّة، وكل هذا حقّ، فهو موصوف بهذا وبغيره (3).
قال القاسمي: الصّراط المستقيم: أصله الطّريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف.
ويُستعار لكل قول أو عمل يبلغ به صاحبه الغاية الحميدة، فالطّريق الواضح للحسّ، كالحقّ للعقل، في أنَّه: إذا سير بهما أبلغا السّالك النّهاية الحسنى (4).
قال ابن عاشور: والصّراط في هذه الآية (آية الفاتحة) مستعار لمعنى الحقّ الذي يبلغ به مدركه إلى الفوز برضاء الله؛ لأنَّ ذلك الفوز هو الذي جاء الإسلام بطلبه.
والمستقيم: اسم فاعل من استقام، مطاوع قوّمته فاستقام.
والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه ولا تعاريج، وأحسن الطرق الذي يكون مستقيمًا، وهو الجادّة، لأنَّه باستقامته يكون أقرب إلى المكان المقصود من غيره، فلا يضلّ فيه سالكه، ولا يتردّد ولا يتحيَّر.
والمستقيم هنا مستعار للحق البيّن الذي لا تُخالطه شبهة باطل، فهو كالطّريق الذي لا تتخلّله بنيات. ثم قال: والأظهر عندي أنَّ المراد بالصّراط المستقيم: المعارف الصالحات كلّها من اعتقاد وعمل (5).
هذه بعض أقوال المفسّرين في معنى الصّراط المستقيم، كما ورد في سورة الفاتحة.
وحيث وردت آيات كثيرة ذكر فيها الصّراط المستقيم سبق ذكر بعضها، فإنَّ معناها من هذا المعنى الذي سبق تقريره، ولبيان ذلك أذكر تفسير بعض هذه الآيات بإيجاز:
قال - تعالى -: (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية87) قال مجاهد: وسدَّدناهم فأرشدناهم إلى طريق غير معوجّ، وذلك دين الله الذي لا عِوَجَ فيه، وهو الإسلام الذي ارتضاه ربّنا لأنبيائه، وأمر به عباده(6).
وفي قوله - تعالى -: (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) (الأنعام: من الآية126) قال الطبري: هو صراط ربك - يقول: طريق ربّك، ودينه الذي ارتضاه لنفسه دينًا، وجعله مستقيمًا لا اعوجاج فيه (7).
__________
(1) - أخرجه الترمذي (5/158، 159) رقم (2906) وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال. وأخرجه - أيضًا - الدارمي (2/527) رقم (3332). وأخرجه أحمد مختصرًا (1/91). قال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن ص (11، 12): وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح.
(2) - انظر: تفسير القاسمي (1/20).
(3) - انظر: تفسير القاسمي (1/22)، حيث نقل هذا الكلام عن شيخ الإسلام.
(4) - انظر: تفسير القاسمي (1/19).
(5) - انظر: تفسير التحرير والتنوير (1/1/190).
(6) - تفسير الطبري (7/262).
(7) - تفسير الطبري (8/32).(/22)
وفي قوله - تعالى -: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) (الأنعام: من الآية153) قال الطبري: هو صراطه، يعني طريقه ودينه الذي ارتضاه لعباده، (مُسْتَقِيماً) (الأنعام: من الآية153) يعني قويمًا لا اعوجاج به عن الحق (1).
وفي قوله - تعالى -: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية161) قال الطبري: يقول: قل لهم: إنَّني أرشدني ربي إلى الطّريق القويم، هو دين الله الذي ابتعثه به، وذلك الحنيفيَّة المسلمة، فوفّقني له (2).
وفي سورة الأعراف: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف:16) قال الطبري: يقول: لأجلسنَّ لبني آدم صراطك المستقيم، يعني طريقك القويم، وذلك دين الله الحقّ، وهو الإسلام وشرائعه.
ونقل نحو ذلك عن مجاهد (3).
وفي قوله - تعالى - في سورة مريم: (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً) (مريم: من الآية43) قال الطبري: يقول: أبصِّرك هدي الطّريق المستوي الذي لا تضلّ فيه إن لزمته، وهو دين الله الذي لا اعوجاج فيه(4).
وفي قوله - تعالى -: (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ) (المؤمنون:74) قال الطبري: يقول عن محجّة الطّريق، وقصد السّبيل، وذلك دين الله الذي ارتضاه لعباده العادلون(5).
وبهذا يتَّضح أن معنى الصّراط في جميع هذه الآيات معنًى واحدًا، وإن اختلفت العبارة والسّياق.
الصلة بين الوسطية والصراط المستقيم
مما تقدَّم يتَّضح أن معنى الصّراط المستقيم يدلّ على الوسطيَّة في مفهومها الشَّرعي الاصطلاحيّ الذي سبق تقريره، وبخاصّة أن ما جعلته لازمًا لمفهوم الوسطيَّة وإطلاقها قد تحقَّق في معنى الصّراط المستقيم، فالخيريَّة والبينيَّة ظاهرتان في هذا الأمر.
فنجد في سورة الفاتحة لمَّا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6) عرَّفه فقال: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة: من الآية7) ثم حدَّده فقال: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة: من الآية7) فجعل الصّراط المستقيم طريق الخيار، وهم الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين.
وهو بين طريقي المغضوب عليهم والضّالين.
وكذلك في سورة البقرة قال الله - تعالى -: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(البقرة: من الآية142) فقال بعدها مباشرة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) وقد تحدَّث المفسّرون عن الكاف في هذه الآية، وذكر غير واحد أن (الكاف) للرّبط بين جعلهم أمَّة وسطًا وهدايتهم للصّراط المستقيم (6).
ونزيد الأمر وضوحًا في ذكر بعض الأحاديث التي وردت في ذلك:
فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: - كنَّا عند النبي، - صلى الله عليه وسلم - فخطَّ خطًّا وخطَّ خطين عن يمينه، وخطَّ خطَّين عن يساره، ثم وضع يده على الخطَّ الأوسط، فقال: هذا سبيل الله، ثم تلا هذه الآية: (وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتَّبعوه ولا تتَّبعوا السُّبُلَ فتفرَّق بكم عن سبيله) - (7).
وذكر القرطبي في تفسيره، قال: ذكر الطبري في آداب النّفوس حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أبان، أن رجلا قال لابن مسعود: ما الصّراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد، - صلى الله عليه وسلم - في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن يساره جواد، وثمَّ رجال يدعون من مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النَّار، ومن أخذ على الصّراط انتهى به إلى الجنَّة، ثم قرأ ابن مسعود: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً) (الأنعام: من الآية153)(8).
وبالتأمّل فيما سبق يتَّضح لنا ما يلي:
__________
(1) - تفسير الطبري (8/87).
(2) - تفسير الطبري (8/111).
(3) - تفسير الطبري (8/134).
(4) - تفسير الطبري (16/90).
(5) - تفسير الطبري (18/44).
(6) - انظر: تفسير التحرير والتنوير (2/1/15)، وتفسير الطبري (2/6).
(7) - أخرجه ابن ماجة (1/6) رقم (11). قال البوصيري في الزوائد (1/45): هذا إسناد فيه مقال من أجل مجالد بن سعيد. قلت: مجالد بن سعيد هو ابن عمير الهمداني أبو عمرو الكوفي. قال الحافظ في التقريب ص (520): ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره. اهـ. ولكن يشهد لهذا الحديث ما رواه عبد الله بن مسعود، قال: خط لنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم خطًّا، ثم قال: "هذه سبيل الله". ثم خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن شماله، وقال: "هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه". ثم قرأ: (وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه). [سورة الأنعام، الآية: 163]. أخرجه أحمد (3/ 397). والدارمي (1/78، 79) رقم (202). وحسنه الألباني كما في المشكاة رقم (166) ونقل عن الحاكم تصحيحه.
(8) - انظر: تفسير القرطبي (7/138)، والوسطية في الإسلام لفريد عبد القادر ص (23).(/23)
1- أنَّ الصّراط المستقيم: يمثل قمَّة الوسطيَّة وذروة سنامها وأعلى درجاتها، وآيتا الفاتحة والبقرة حجَّة قاطعة في ذلك.
2- أن الوسطيَّة تعني الخيريَّة، سواء أكانت خير الخيرين أو خيرًا بين شرّين أو خيرًا بين أمرين متفاوتين، وقد سبق تفصيل ذلك.
3- أنَّ المقياس لتحديد الخيريَّة هو الشرع، وليس هوى النَّاس أو ما تعارفوا عليه أو ألفوه، فإنَّ مفهوم الوسطيَّة عند كثير من الناس تعني التّنازل أو التَّساهل بل والمداهنة أحيانًا، حيث يختارون الأمر بين الخير والشرّ وهو إلى الشرّ أقرب في حقيقته ومآله، وهم يحسبون أنَّهم يحسنون صنعًا.
4- أنَّ هناك عوامل كثيرة، وأصولا معتبرة (1) تجب مراعاتها عند تحديد مفهوم الوسطيَّة وتطبيقها على أمر من الأمور، حيث إن قصر النظر على أمر دون آخر يؤدّي إلى خلاف ذلك ومجانية للصّواب.
5- وخلاصة الأمر: أنَّه يجب عند النظر في أيّ أمر من الأمور لتحديد علاقته بالوسطية ومدى قربه أو بعده منها دقَّة النّظر والاعتبار في حقيقة هذا الأمر دون الاقتصار على ظاهره فقط، ثم إلى أي هذه الأسس هو أقرب، مراعيًا في ذلك أمور عدَّة - كما أشرت في الفقرة السّابقة - وكلّها تنطلق من القواعد الشّرعية والضّوابط المنهجيَّة، فإذا اتَّضح قربه في حقيقته ومآله إلى الصّراط المستقيم فهو داخل في الوسطيَّة التي نتحدث عنها، أمَّا إذا كان إلى الغلوّ أو الجفاء أو الإفراط أو التَّفريط أقرب حقيقة ومآلا فليس من الوسطيَّة في شيء، وإن حسبه النَّاس كذلك، وقد زلَّت في هذه المسألة عقول وأقدام.
ملامح الوسطيَّة
للوسطيَّة ملامح وسمات تحفّ بها، وتُميِّزها عن غيرها، بمجموع تلك الملامح لا بآحادها.
وقد توصّلت إلى تحديد أهمّ تلك السّمات والملامح، باستقراء القرآن الكريم، وما ورد في وسطيَّة هذه الأمَّة بين الأمم، وكذلك ما كتبه بعض الذين بحثوا في الوسطيَّة.
إنَّ تحديد هذه الملامح مهمّة أساسيَّة في مثل هذا البحث، حتى لا تكون الوسطيَّة مجالا لأصحاب الأهواء وأرباب الشّهوات.
ذلك أنَّ الوسطيَّة مرتبة عزيزة المنال، غالية الثَّمن، كيف لا وهي سمة هذه الأمَّة، ومحور تميّزها بين الأمم؟! جعلها الله خاصيَّة من خصائصها، تكرّمًا منه وفضلا (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد: من الآية21).
إنَّ أهمّ سمات الوسطيَّة ما يلي:
(أ) الخيريَّة.
(ب) الاستقامة.
(جـ) اليسر ورفع الحرج.
(د) البينيَّة.
(هـ) العدل والحكمة.
وكل سمة من هذه السّمات يندرج تحتها عدد من آحادها.
وسأعرض لكل سمة بما يُناسب المقام، ويفي بالغرض، والله الموفّق والمعين.
وأحسب أنَّ هذه الملامح بمجموعها تصلح ضابطًا لتحديد الوسطيَّة ومعرفتها، بما يجيب عن السّؤال الذي لا بدّ أن يرد في أذهان الكثيرين:
أين ضابط الوسطيَّة؟ وكيف نميزّها عن غيرها؟
أولا: الخيريَّة
قال الله - تعالى - في سورة البقرة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة: من الآية143) وقال في سورة آل عمران: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: من الآية110) وقد ذكرت أن من معاني الوسطيَّة الخيريَّة، قال ابن كثير - رحمه الله -: والوسط هنا: الخيار والأجود، كما يقال لقريش أوسط العرب نسبًا ودارًا، أي خيرها (2).
وفي تفسيره لقوله - تعالى -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: من الآية110) قال: يعني خير النَّاس للنّاس، والمعنى: أنَّهم خير الأمم وأنفع النَّاس للنَّاس، إلى أن قال: كما في الآية الأخرى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) أي خيارًا (3).
وقال الطبري: مقرّرًا خيريَّة هذه الأمَّة (أمَّة الوسط): فإن سأل سائل فقال: وكيف قيل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) (آل عمران: من الآية110)؟ وقد زعمت أن تأويل هذه الآية أن هذه الأمَّة خير الأمم التي مضت، وإنَّما يقال: كنتم خير أمَّة لقوم كانوا خيارًا فتغيّروا عمّا كانوا عليه؟!
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت إليه، وإنَّما معناه أنتم خير أمَّة، كما قيل: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) (الأنفال: من الآية26) وقد قال في موضع آخر: (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) (الأعراف: من الآية86) فإدخال كان في مثل هذا وإسقاطها بمعنى واحد، لأنّ الكلام معروف معناه.
ولو قال - أيضًا - في ذلك قائل: (كُنْتُمْ) (الأعراف: من الآية86) بمعنى التَّمام، كان تأويله: خلقتم خير أمَّة، أو وجدتم خير أمَّة، كان معنى صحيحًا(4).
__________
(1) - يختلف ذلك باختلاف الأحوال والقضايا، ولكل حالة ما يناسبها ضمن الضوابط الشرعية.
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (1/190).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (1/391).
(4) - انظر: تفسير الطبري (4/45).(/24)
وفي تفسيره لقوله - تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) قال: وأمّا التّأويل فإنَّه جاء بأن الوسط العدل، وذلك معنى الخيار، لأنَّ الخيار من النَّاس عدولهم (1).
وممَّا سبق يتَّضح أن الخيريَّة ممَّا فسر به معنى الوسطيَّة التي ذكرها الله من خصائص هذه الأمَّة، فما هي هذه الخيريَّة التي نعرف بها وسطيَّة هذه الأمَّة؟
قال الطبري في تفسير آية الخيريَّة:
وقال آخرون: معنى ذلك: كنتم خير أمَّة أُخرجت للنَّاس، إذ كنتم بهذه الشّروط التي وصفهم - جلّ ثناؤه - بها، فكان تأويل ذلك عندهم: كنتم خير أمَّة تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتُؤمنون بالله، أخرجوا للنَّاس في زمانكم (2).
قال رشيد رضا:
والحق أقول: إنّ هذه الأمَّة ما فتئت خير أمَّة أُخرجت للنَّاس، حتَّى تركت الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر.
ثم قال: وقد بيَّن الفخر الرازي كون وصف الأمَّة هنا بالأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، والإيمان علّة لكونها خير أمَّة أُخرجت للنّاس، فقال:
واعلم أنَّ هذا الكلام مستأنف والمقصود منه بيان علّة تلك الخيريَّة، كما تقول: زيد كريم، يطعم النَّاس ويكسوهم، ويقوم بما يصلحهم.
وتحقيق الكلام أنَّه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونًا بالوصف المناسب له يدلّ على كون ذلك الحكم معلّلا بذلك الوصف.
فهنا حكم - تعالى - بثبوت وصف الخيريَّة لهذه الأمَّة، ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطّاعات، أعني الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، والإيمان، فوجب كون تلك الخيريَّة معلّلة بهذه العبادات (3).
وقال القاسمي:
ثم بيّن وجه الخيريَّة بما لم يحصل مجموعه لغيرهم، بقوله: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110) فبهذه الصفات فضّلوا على غيرهم ممن قال - تعالى - فيهم: (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:79) (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) (النساء: من الآية150).
قال أبو السّعود:
(وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110) أي إيمانًا متعلّقًا بكلّ ما يجب أن يؤمن به من رسول وكتاب وحساب وجزاء، وإنّما لم يُصرّح به تفصيلا لظهور أنّه الذي يؤمن به المؤمنون، وللإيذان بأنَّه هو الإيمان بالله - تعالى - حقيقة(4).
وقد وردت بعض الأحاديث التي تدلّ على خيريَّة هذه الأمَّة منها:
1- روى الترمذي في تفسيره لهذه الآية أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - قال: - إنَّكم تتّمون سبعين أمَّة أنتم خيرها وأكرمها على الله - (5).
2- وقال - صلى الله عليه وسلم - - أُعطيت ما لم يُعط أحد من الأنبياء، فقلنا: يا رسول الله ما هو؟ فقال: نصرُ بالرّعب، وأُعطيت مفاتيح الأرض، وسمّيت أحمدَ، وجعل التّراب لي طهورًا، وجعلت أمّتي خير الأمم - (6).
فهذه الأحاديث مع آية آل عمران تبيّن خيريَّة هذه الأمَّة، التي جعلها الله أمَّة وسطًا، وقد جمع المفسّرون بين معنيي الخيريَّة والوسطيَّة، حتى جاء أحدهما تفسيرًا للآخر، كما مرَّ معنا.
ولأهمّيَّة بيان معنى الخيريَّة، فسأذكر أبرز أوجه هذه الخيريَّة، ليتَّضح لنا معنى الوسطيَّة.
أبرز أوجه خيرية هذه الأمَّة (7)
قال الأستاذ سيد قطب:
فهي خير أمَّة أخرجت للنَّاس، لا عن مجاملة، ولا عن محاباة، ولا عن مصادفة أو جزاف، - تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا - وليس توزيع الاختصاصات والكرامات كما كان أهل الكتاب يقولون: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (المائدة: من الآية18). كلا إنّما هو العمل الإيجابي لحفظ الحياة البشريَّة من المنكر، وإقامتها على المعروف، مع الإيمان الذي يُحدّد المعروف والمنكر(8).
إنَّ هذه الخيريَّة لها أسباب، ولها حقيقة، حقيقة لا بدّ أن توجد في الواقع، وأن ترى في الحياة، وليست مجرّد تصوّر ذهني، وفلسفة غائبة.
__________
(1) - انظر تفسير الطبري (2/7).
(2) - انظر: تفسير الطبري (4/44).
(3) - انظر: تفسير المنار (4/60).
(4) - انظر: تفسير القاسمي (4/936).
(5) - أخرجه الترمذي (5/211) رقم (3001). وابن ماجة (2/1433) رقم (4288) وأحمد (5/5). والدارمي (2/404) رقم (2760). قال الترمذي: هذا حديث حسن. ووافقه الألباني كما في المشكاة رقم (6285).
(6) - أخرجه أحمد (1/98، 158). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/265، 266): وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو سيئ الحفظ. قال الترمذي: صدوق، وقد تكلّم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، وسمعت محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - يقول: كان أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، والحميد يحتجون بحديث ابن عقيل. قلت: فالحديث حسن. والله أعلم. اهـ.
(7) - انظر: وسطيَّة أهل السُنَّة ص (224). فقد فصَّل في ذلك.
(8) - انظر: في ظلال القرآن (4/447).(/25)
إنَّ هذه الخيريَّة مسألة نسبيَّة بالنسبة للأمَّة، فقد ترتفع لتبلغ الذّروة، كما كانت الحال في جيل الصّحابة والقرون المفضّلة، وقد تنحسر في مجموعات وأفراد، كما هي في القرون المتأخرة، وذلك تبعًا لوجود مقومات الخيريَّة وصيانتها.
1- الإيمان بالله: قال - سبحانه -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110). فقرن الله - جلّ وعلا - بين خيريَّة هذه الأمَّة والإيمان به - تعالى -، بل جعل الإيمان هو سبب الخيريَّة، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر فرع عن الإيمان، وأثر من آثاره.
وهل يمكن أن نتصوّر خيريَّة دون إيمان بالله - تعالى -؟ والإيمان بالله - تعالى - يشمل جميع أبواب الإيمان والإسلام، لأنَّ العلماء ذكروا أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وهنا جاء ذكر الإيمان وحده، فهو يشمل الإيمان والإسلام.
وعند التّأمل في معنى الإيمان كما ورد في حديث جبريل المشهور، قال: - أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه - (1). نجد الشّمول والتكامل، كما قال - سبحانه-: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (البقرة: من الآية285).
فالإيمان بالله يشمل الأمور العقديَّة والعمليَّة، الظاهرة والباطنة، ما يتعلّق منها بعالم الغيب والشّهادة، ما كان منها في الدّنيا أو الآخرة.
والإيمان بالله أعمق دلالة وأثرًا ممّا قد يتصورّه كثير من النَّاس، فليس هو مجرّد التّصديق كما فسّره بعض المتكلّمين، ممّا أودي بكثير من النَّاس إلى اعتناق مبدأ الإرجاء، وهم لا يعلمون، وهم بهذا السّلوك والتّفسير فرّغوا الإيمان من معناه الحقيقي ومدلوله الصّحيح.
وإنّما هو علم واعتقاد وعمل، والإسلام من لوازم الإيمان، فمقتضى الإيمان بالله وكتبه ورسله، يستلزم العمل بما أمر به الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، - صلى الله عليه وسلم - ولهذا فإن شرط الإيمان في تحقيق الخيريَّة جاء مغنيًا عمّا يشمله من أركان الإيمان والإسلام.
ولذلك فإنَّنا قبل أن نحكم بخيريَّة جماعة أو فرد أو عمل، لا بدّ من التّحقّق في توافر شرط الإيمان فيه بمعناه الشّامل المتكامل، فقد قال - سبحانه-: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ )(آل عمران: من الآية110). مع أنَّهم يدّعون الإيمان، ولكن العبرة بالحقائق لا بالدّعاوى.
وعند التّأمّل في قوله- تعالى-: (وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110) أجد أن فيه معنى الخير والإنشاء، فهو خبر عن حقيقة واقعة بإيمان هذه الأمَّة، حيث تميّزت عن غيرها في شمول هذا الإيمان واستمراره، ويكفي دليلا عن شمول إيمانها شهادتها لبعض رسل الله يوم القيامة بأنهم قد بلّغوا رسالة ربّهم إلى أقوامهم. فهذا الإيمان الموجود والمتحقّق أهَّلها لهذه الخيريَّة.
ثم فيه معنى الإنشاء والطلب، حيث جعل من لوازم الخيريَّة وجود هذا الإيمان، فكما أن هذا الإيمان موجود في هذه الأمَّة بجملتها وبخاصّة القرون المفضّلة، فإنّ على من أراد من أفراد هذه الأمَّة أن يكون من خيارها أن يُحقّق معنى الإيمان في نفسه، بمعناه الشّامل المتكامل.
فإذا تحقّق الإيمان تحقَّقت الخيريَّة، وإذا تحقَّقت الخيريَّة في صورتها الشَّرعية وجدنا الوسطيَّة في أسمى معانيها، مقرونة بأقوى أركانها ومبانيها.
2- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: من خصائص هذه الأمَّة العمليَّة قيامها بالأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، وهذه شهادة الله لها: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: من الآية110).
والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أوجبه الله على من قبلنا، ولكنهم فرَّطوا وضيَّعوا (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:78، 79). ونجد مصداق خيريَّة هذه الأمَّة لقيامها بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، أنَّه منذ بُعِثَ رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا الحاضر وهذا الرّكن العظيم لم ينقطع ولم يترك كما فعل بنو إسرائيل.
__________
(1) - أخرجه مسلم (1/38، 39) رقم (8، 9). وأبو داود (4/224) رقم (4695). والترمذي (5/8، 9) رقم (2601) وغيرهم.(/26)
قد نجد ضعفًا في زمان من الأزمنة أو مكان من الأمكنة، ولكنَّه لا يصبح حالة مستقرَّة، ولا تعدم الأمَّة آمرًا أو ناهيًا ولو كانوا قلَّة قليلة، وهذا مصداق قول الرسول، - صلى الله عليه وسلم - - لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم حتَّى يأتي أمر الله وهم كذلك - (1). الحديث.
فالطائفة المنصورة موجودة إلى قيام السَّاعة، وهي طائفة ظاهرة آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر.
وكما ذكرت في موضوع الإيمان، فإن ذكر الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر في هذه الآية خبرًا وإنشاءً، فهو خبر عن حقيقة واقعة ومستمرَّة، حيث إنَّ الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر مستمرّ في هذه الأمَّة إلى قيام الساعة، وهو كذلك (إنشاء) فمن أراد الخيريَّة فلا بدّ أن يقوم بهذا الرّكن العظيم، حتى تتحقّق له الخيريَّة التي جعلها الله من خصائص هذه الأمَّة، ففيه معنى الأمر - أيضًا-.
وقد يسأل سائل: أليس الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر فرعًا عن الإيمان، فلماذا أفرده دون سائر أبواب الإيمان العمليَّة؟
وألخّص الجواب على هذا السؤال بما يلي:
1- أهميّة الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، وأثره المباشر في تحقيق الخيريَّة دون سواه.
2- أن الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، سياج الإيمان، وركن أساس لبقائه وحمايته.
3- أن أغلب الأعمال خاصّة غير متعديّة، أمّا الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، فإنّ نفعه لا يقتصر على فاعله بل يتعدّاه إلى المأمور والمنهي، وكذلك إلى الأمر المأمور به والمنهيّ عنه، فمثلا الأمر بالصلاة، لا يقتصر نفع هذا الأمر على جهة واحدة بل يشمل عدّة أطراف:
(أ) الآمر: حيث قام بما أوجبه الله عليه، وهذه عبادة له نفعها وأجرها.
(ب) المأمور: حيث ينتفع بهذا الأمر إن استجاب له، وقد يكون هذا الأمر سببًا لهدايته.
(جـ) المأمور به: فإن الأمر بالصلاة سبيل للمحافظة عليها واستمرارها، وهذا فيه من النّفع العظيم ما لا يخفى.
4- أن الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر له صفة الشّمول، فليس متعلّقًا بعمل معيّن، بل يشمل كل معروف وكل منكر، بينما سائر الأعمال نجدها أعمالا مخصوصة معينة، فالصيام يتعلّق بعمل مخصوص، والزّكاة والحج وغيرهما كذلك. ولذلك فهو يشترك مع الإيمان في صفة الشّمول، حيث إن الأمر بالمعروف يشمل جميع أبواب الإيمان والإسلام.
والرسول، - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري: - من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان - (2). فجاء المنكر مُنَكّرًا هنا دلالة على عمومه، أي: أيّ منكر يراه المسلم، فهو يشمل كل منكر، كما أن الأمر يشمل كل معروف، فيدخل في ذلك جميع ما شرعه الله، فيؤمر به وينهى عن مخالفته (3).
وممّا سبق يتبيَّن لنا أن الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، من أبرز أوجه خيريَّة هذه الأمَّة، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، له صور متعدّدة، وليس محصورًا بحالة أو صفة واحدة كالكلام مثلا، بل قد يكون باليد أو اللسان أو العمل - كالقدوة مثلا - فمن صلّى أمام الناس لم يقوموا إلى الصلاة فهو داخل في الأمر بالمعروف، وإن لم يتكلّم، وكذلك من تصدَّق ليُقتدى به، فهو من الأمر بالمعروف، ومن خرج من مجلس فيه منكر فإنَّه من تغيير المنكر، ولو لم يتكلّم. (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (الأنعام: من الآية68) وأضعف أبواب تغيير المنكر أن يكون في القلب كما ورد في الحديث.
وأخيرًا:
فإنّه إذا تحقّق الإيمان بمعناه الشّامل المتكامل، وجاء الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يحوطه ويحرسه، فإنّنا سنرى الخيريَّة التي أخبرنا الله بها ماثلة أمام أعيننا، لا يزيغ عنها إلا هالك.
هذه أبرز أوجه خيريَّة هذه الأمَّة، وما عداهما من أوجه فأرى أنها داخلة فيما ذكرت دلالة أو ضمنًا.
ثانيًا: الاستقامة
الوسطيَّة استقامة، ولو لم تكن على نهج الاستقامة لكانت انحرافًا، والانحراف إمّا إفراط أو تفريط، وذلك ضد الوسطيَّة ومباين لها، كما سبق بيان ذلك.
__________
(1) - أخرجه مسلم (3/1523) رقم (1920). وأبو داود (4/98) رقم (4252). وابن ماجة (2/1304) رقم (3952). وأحمد (5/278).
(2) - أخرجه مسلم (1/69) رقم (49). وأبو داود (1/297) رقم (1140). والنسائي (8/111) رقم (5008) وغيرهم.
(3) - انظر: تفسير المنار (4/63).(/27)
وهناك شعور لدى بعض النَّاس أن الوسطيَّة تعني التنازل - ولو قليلا- عن حقيقة الأمر والنّهي، ولقد عبَّر أحد الباحثين عن هذا الشّعور الذي يختلج في صدور بعض النَّاس، حيث طرح سؤالا ورّد عليه، وممّا قاله: هل المقصود بالوسطيَّة مرونة الأمَّة، بحيث لا تصطدم بالأفكار والمبادئ الأخرى عند الالتقاء بها، بل قابليّتها للأخذ والعطاء والتّنازل عن جزء ممّا عندها، من أجل تنازل الطّرف الآخر، والالتقاء عند نقطة وسط تُرضي جميع الأطراف؟
ثم ردّ على هذا المسلك وبيَّن مخالفته لحقيقة الوسطيَّة (1).
ومن هنا فإنَّ من ملامح الوسطيَّة، بل وضوابطها الاستقامة، ولذلك فمن ادَّعى الوسطيَّة مع خروجه عن الاستقامة، فهذه ليست الوسطيَّة الشّرعية في شيء، بل هي وسطيَّة نسبيَّة غير التي نتحدَّث عنها.
ولذا فإنَّ من المناسب - ونحن نتحدَّث عن ملامح الوسطيَّة - أن أُبيِّن معنى الاستقامة وحدودها ليتضح المراد:
فقد وردت آيات كثيرة تأمر بالاستقامة وتحثّ عليها، فالله - جلّ وعلا - يقول لرسوله، - صلى الله عليه وسلم - (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) (هود: من الآية1121). وفي سورة الشورى: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (الشورى: من الآية15).
وقال - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30). وفي سورة الجن: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) (الجن:16). وفي سورة فصلت: (أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) (فصلت: من الآية6). فهذه الآيات وغيرها تبينّ منزلة الاستقامَّة ومكانتها.
وحيث إنَّ لزوم الصّراط المستقيم استقامة على دين الله وشرعه، وهذا عين الوسطيَّة وجوهرها، فسأقف مع (الاستقامة) وقفة مناسبة، تعريفًا وبيانًا.
تعريف الاستقامة:
قال الراغب: استقامة الإنسان لزومه للمنهج المستقيم نحو: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) (فصلت: من الآية30)(2). وقال ابن القيّم: الاستقامة ضد الطّغيان، وهو مجاوزة الحدود في كل شيء(3).
وقال القرطبي: الاستقامة: الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشّمال (4).
وقال ابن القيم: قال عمر - رضي الله عنه - الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنّهي، ولا تَرُوغُ رَوَغَانَ الثّعالب(5).
وقال ابن القيم - أيضًا -: فأمر بالاستقامة وهي السّداد، والإصابة في النِّيَّات والأقوال والأعمال.
ثم قال: فالاستقامة: كلمة جامعة، آخذة بمجامع الدّين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصّدق، والوفاء بالعهد(6).
وهذه المعاني متقاربة، ويفسّر بعضها بعضًا.
أحاديث في الاستقامة:
في صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: - قلت يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدًا غيرك؟ قال: "قل آمنت بالله، ثم استقم" - (7).
وعن ثوبان - رضي الله عنه - عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - قال: - استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصّلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن - (8).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - - سدّدوا وقاربوا، واعلموا أنَّه لن ينجو أحد منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله برحمة منه وفضل - (9).
__________
(1) - انظر: الوسطيَّة في الإسلام لفريد عبد القادر ص (14).
(2) - انظر: المفردات للراغب مادة (قوم).
(3) - انظر: مدارج السالكين (2/104).
(4) - انظر: تفسير القرطبي (9/107).
(5) - انظر: مدارج السالكين (2/104)، وتفسير الطبري (24/115).
(6) - انظر: مدارج السالكين (2/105).
(7) - أخرجه مسلم (1/65) رقم (38). وأحمد (3/413).
(8) - أخرجه ابن ماجة (1/101، 102) رقم (277). ومالك في الموطأ (1/34) رقم (36). وأحمد (5/277، 280، 282). قال البوصيري في زوائد ابن ماجة (1/122): هذا الحديث رجاله ثقات أثبات إلا أنه منقطع بين سالم وثوبان فإنه لم يسمع منه بلا خوف. لكن له طريق أخرى متصلة أخرجها أبو داود الطيالسي في مسنده، وأبو يعلى الموصلي، والدارمي، وابن حبان في صحيحه من طريق حسان بن عطية أن أبا كبشة حدثه أنه سمع ثوبان. اهـ. وصححه الألباني كما في الإرواء رقم (412).
(9) - أخرجه البخاري (7/182). ومسلم (4/2170) رقم (1816).(/28)
وفي مسند الإمام أحمد عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - قال: - لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتَّى يستقيم لسانه - (1).
وفي رواية الترمذي عن أبي سعيد مرفوعًا وموقوفًا: - إذا أصبح ابن آدم فإنَّ الأعضاء كلّها تكفّر اللسان، فتقول: اتَّق الله فينا، فإنَّما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا - (2).
وروى الترمذي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - - أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - قرأ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: "قد قالها النَّاس، ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممّن استقام" - (3).
أقوال العلماء في الاستقامة:
سُئل الصديق - رضي الله عنه - عن الاستقامة فقال: ألا تشرك بالله شيئًا. قال ابن القيم: يريد الاستقامة على محض التّوحيد (4).
وفي قوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30). فسَّر السَّلف الاستقامة فقالوا: (5)
قال عمر - رضي الله عنه - استقاموا لله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثّعالب.
وقال عثمان بن عفان - رضي الله عنه - استقاموا: أخلصوا العمل لله.
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - استقاموا: أدّوا الفرائض.
وبمثل ذلك فسَّرها ابن عباس - رضي الله عنه -.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: استقاموا على محبّته وعبوديَّته، فلم يلتفتوا عنه يُمنة ولا يُسرة.
ومن أقوال العلماء في الاستقامة:
قال ابن القيم: الاستقامة تتعلّق بالأقوال، والأفعال، والأحوال، والنِّيَّات، فالاستقامة فيها: وقوعها لله، وبالله، وعلى أمر الله.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة(6).
وأختم الكلام عن الاستقامة بما قاله ابن القيّم في مدارج السَّالكين ممَّا يتَّضح معه علاقة الاستقامَة بالوسطيَّة، وأنَّه لا استقامة بلا وسطيَّة، ولا وسطيَّة دون استقامة.
قال (7) وهي - أي الاستقامة - على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد، لا عاديًا رسم العلم، ولا متجاوزًا حدّ الإخلاص، ولا مخالفًا نهج السنَّة.
قال ابن القيم شارحًا قول الهروي: هذه درجة تتضمَّن سنَّة أمور: عملا واجتهادًا فيه، وهو بذل المجهود، واقتصادًا، وهو السلوك بين طرفي الإفراط - وهو الجور على النّفس - والتَّفريط بالإضاعة.
ووقوفًا مع ما يرسمه العلم، لا وقوفًا مع داعي الحال، وإفراد المعبود بالإرادة، وهو الإخلاص.
ووقوع الأعمال على الأمر، وهو متابعة السنة. فبهذه الأمور الستَّة تتمّ لأهل هذه الدّرجة استقامتهم، وبالخروج عن واحد منها يخرجون عن الاستقامة، إمَّا خروجًا كليًّا، وإمّا خروجًا جزئيًّا.
والسّلف يذكرون هذين الأصلين كثيرًا، وهما:
الاقتصاد في الأعمال، والاعتصام بالسنَّة، فإنَّ الشّيطان يشمّ قلب العبد ويختبره، فإن رأى فيه داعية للبدعة، وإعراضًا عن كمال الانقياد للسنَّة، أخرجه عن الاعتصام بها، وإن رأى فيه حرصًا على السنَّة، وشدَّة طلب لها: لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها، فأمره بالاجتهاد، والجور على النّفس، ومجاوزة حدّ الاقتصاد فيها، قائلا له: إن هذا خير وطاعة، والزّيادة والاجتهاد فيها أكمل، فلا تفتر مع أهل الفتور، ولا تنم مع أهل النّوم، فلا يزال يحثّه ويحرّضه، حتَّى يخرجه عن الاقتصاد فيها، فيخرج عن حدّها، كما أن الأوّل خارج عن هذا الحدّ، فكذا هذا الآخر خارج عن الحدّ الآخر (8).
وهذا حال الخوارج الذين يحقر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم، وصيامهم مع صيامهم، وقراءتهم مع قراءتهم، وكلا الأمرين خروج عن السنَّة إلى البدعة، لكن هذا إلى بدعة التَّفريط والإضاعة، والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف.
وقال بعض السَّلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشّيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط، وإمّا إلى مجاوزة، وهي الإفراط، ولا يبالي بأيّهما ظفر، زيادة أو نقصان (9).
__________
(1) - أخرجه أحمد (3/198). قال الهيثمي في المجمع (1/58): وفي إسناده علي بن مسعدة، وثّقه جماعة، وضعفه آخرون. اهـ. قال الحافظ في التقريب ص (405): صدوق له أوهام.
(2) - أخرجه الترمذي (4/523) رقم (2407). وأحمد (3/96)، وعزاه السيوطي في الجامع لابن خزيمة والبيهقي - أيضًا- وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (351).
(3) - أخرجه الترمذي (5/351) رقم (3250). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وضعّفه الألباني كما في ضعيف الجامع رقم (4079).
(4) - انظر: مدارج السالكين (2/104).
(5) - انظر: تفسير الطبري (24/114)، ومدارج السالكين (2/104).
(6) - انظر: مدارج السالكين (2/105).
(7) - أي أبو إسماعيل الهروي صاحب منازل السائرين.
(8) - تأمل هذا الكلام تجد علاقته بالوسطيَّة وثيقة.
(9) - انظر: مدارج السالكين (2/107).(/29)
وهذا الكلام عن الاستقامة هو عين الوسطيَّة وجوهرها.
ثالثًا: اليسر ورفع الحرج
إنَّ من أوّل ما يتبادر إلى أذهاننا عندما ننطق كلمة (الوسطيَّة) هو معنى اليسر والتّيسير، ورفع الحرج، وهذا الفهم صحيح فإنَّ من أبرز سمات الوسطيَّة: التّيسير ورفع الحرج.
وقد تقرَّر فيما مضى أنَّ هذا الدّين هو دين (الوسط)، فلا غلوّ ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط.
واليسر ورفع الحرج مرتبة عالية بين الإفراط وبين التفريط، وبين التشدّد والتنطّع وبين الإهمال والتضييع.
قال الدكتور/ صالح بن حميد:
رفع الحرج والسّماحة والسّهولة راجع إلى الاعتدال والوسط، فلا إفراط ولا تفريط، فالتنطّع والتّشديد حرج من جانب عسر التكليف، والإفراط(1) والتّقصير حرج فيما يؤدّي إليه من تعطيل المصالح وعدم تحقيق مقاصد الشّرع. قال - تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). فالتوسّط هو منبع الكمالات، والتّخفيف والسّماحة ورفع الحرج على الحقيقة هو في سلوك طريق الوسط والعدل(2).
ولأهميَّة بيان عناية الإسلام بهذا الجانب وتأكيده عليه، فسأذكر بعض ما ورد في ذلك من الكتاب والسنة، وأئمة السّلف من الصّحابة وغيرهم، مع ذكر أقوال بعض المفسِّرين حول آيات التّيسير ورفع الحرج.
مع التنبيه إلى أنَّني لن أستقصي ما ورد في ذلك لصعوبته أوّلا، ولعدم الحاجة إلى ذلك ثانيًا، حيث يغني القليل عن الكثير. (وعن البحر اجتزاء بالوشل).
وقبل أن أدخل في ذكر الأدلّة من الكتاب والسنَّة أذكر تعريفًا موجزًا للتيسير ورفع الحرج فأقول:(3) .
أولا: تعريف اليسر والوسع:
قال البقاعي في تفسيره - نقلا عن الحرالي-: اليسر عمل لا يُجهد النّفس ولا يُثقل الجسم (4).
ونقل هذا القول القاسمي في تفسيره (5).
وقال الرازي: في معنى الوسع: إنَّه ما يقدر الإنسان عليه في حال السّعة والسّهولة، لا في حال الضّيق والشِّدَّة، وأمّا أقصى الطّاقة فيسمَّى جهدًا لا وسعًا، قال: وغلط من ظنَّ أن الوسع بذل المجهود(6).
وقال ابن منظور في تعريف اليسر: (7) .
اليسر: اللّين والانقياد.
والميسرة: السّعة والغنى.
وتيسير الشيء واستيسر: تسهّل.
واليسر: ضدّ العسر.
ويقول الدكتور/ صالح بن حميد بعد أن ذكر بعض هذه الأقوال:
يظهر من ذلك أن اليسر والوسع: ما يُقدم عليه الإنسان من غير أن يلحقه مشقَّة زائدة، ومن غير أن يحتاج لبذل كلّ ما لديه من طاقة ومجهود، وعقّب قائلا: ومن هذا فإنّ ما ذكره ابن حزم في أصول الأحكام من أنَّ: (العسر والحرج ما لا يستطاع، أمَّا ما استطيع فهو يسر). ليس بدقيق، ولا سيَّما في إطلاق الشرع، إذ أنَّ هناك أمورًا يستطيع المكلّف عملها، مع لحوق مشقَّة أو عسر، فجاء التَّخفيف فيها إلى ما هو أيسر، ولو بذل غاية جهده وطاقته لقام بها، ومنه يتبين أن عدم الاستطاعة ليست معيار العسر الشّرعي(8).
وأختم أقوال العلماء في تعريف اليسر والوسع بما قاله الزمخشري: "إن الوسع هو ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه، ولا يحرج فيه، فالله لا يكلّف النّفس إلا ما يتّسع فيه طوقها، ويتيّسر عليه دون مدى غاية الطّاقة والمجهود، فقد كان في طاقة الإنسان أن يصلّي أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من شهر، ويحجّ أكثر من حجّة" (9).
هذا ما يتعلّق بتعريف اليسر والوسع، أمّا رفع الحرج فإنَّ تعريفه يستلزم تعريف الحرج أولا: قال في لسان العرب:
الحرج: الإثم.
وقال أحمد بن يحيى: والتّحريج: التّضييق.
وقال ابن الأثير: الحرج في الأصل: الضيق.
وقيل: الحرج: أضيق الضّيق، ونسبه للزَّجَّاج في موضع آخر. وحرَّج فلان على فلان: إذا ضيَّق عليه(10).
هذا تعريف الحرج في اللغة، أمَّا في الاصطلاح: (كل ما أدَّى إلى مشقَّة زائدة في البدن أو النَّفس أو المال حالا أو مآلا)(11).
قال ابن عباس في قوله- تعالى-: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78). توسعة الإسلام، ما جعل الله من التّوبة والكفّارات(12).
وقال الضّحاك في تفسير الآية: جعل الدّين واسعًا ولم يجعله ضيِّقًا(13).
وقال مقاتل بن حيان: لم يضيق الدّين عليكم ولكن جعله واسعًا لمن دخله، وذلك أنَّه ليس مما فرض عليهم فيه إلا وقد ساق إليهم عند الاضطرار فيه رخصة(14).
__________
(1) - الصحيح والتفريط، ولعله خطأ مطبعي.
(2) - انظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ص (13).
(3) - انظر لكل ما سيأتي كتاب: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية للدكتور صالح بن حميد ص (46) وما بعدها.
(4) - انظر: تفسير البقاعي (3/62).
(5) - انظر: تفسير القاسمي (3/427).
(6) - انظر: تفسير الرازي (14/79).
(7) - انظر: لسان العرب مادة (يسر).
(8) - انظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ص (46).
(9) - انظر: الكشاف (1/408).
(10) - انظر: لسان العرب مادة (حرج).
(11) - انظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ص (47).
(12) - انظر: تفسير الطبري (17/206).
(13) - انظر: تفسير الطبري (17/207).
(14) - انظر: الدر المنثور (4/372).(/30)
وبعد هذا التّعريف للحرج يكون رفع الحرج هو:
(إزالة ما يؤدّي إلى هذه المشاقّ الموضَّحة في التَّعريف. ويتوجه الرّفع والإزالة إلى حقوق الله - سبحانه وتعالى - لأنَّها مبنيَّة على المسامحة، ويكون ذلك إمّا بارتفاع الإثم عند الفعل، وإمَّا بارتفاع الطّلب للفعل، وحينما يرتفع كل ذلك ترتفع حالة الضّيق التي يعانيها المكلّف حينما يستشعر أنَّه يقدم على ما لا يُرضي الله، وهذا هو الحرج النفسيّ والخوف من العقاب الأخرويّ.
كما يرتفع الحرج الحسيّ حينما يكون التّكليف شاقًّا فيأتي العفو من الله - سبحانه وتعالى - إمَّا بالكفّ عن الفعل الموقع في الحرج، وإمَّا بإباحة الفعل عند الحاجة إليه)(1).
ففي قوله، عليه السلام، حينما سئل عن التّرتيب بين أعمال يوم النّحر من الرّمي والحلق والطّواف والنَّحر: - افعل ولا حرج - (2). إباحة لترك التّرتيب بين هذه الشَّعائر، ورفع للإثم عمَّن لم يرتّب كترتيب رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - في نسكه حينما قال: - خذوا عنِّي مناسككم - (3).
وبعد أن تبيَّن لنا معنى التّيسير والوسع ورفع الحرج أذكر الأدّلة على ذلك من الكتاب والسنَّة، وأقوال السَّلف في ذلك:
الأدلة من القرآن الكريم:
وردت آيات كثيرة جدًّا تُبيِّن أنَّ هذا الدّين دين يسر، وأنَّ الله قد رفع الحرج عن هذه الأمَّة فيما يشقّ عليها، حيث لم يكلّفها إلا وسعها.
وسأذكر أدلَّة التّيسير، ثم أدلَّة رفع الحرج، ثم أدلَّة عدم التَّكليف بغير الوسع والطّاقة.
1- أدلة التيسير والتخفيف قال الله - تعالى-: (بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185).
وقال - سبحانه -: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً) (النساء:28).
وقال - عز وجل - (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) (الأعلى:8).
وقال في سورة الانشراح: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح:5، 6).
وفي سورة الطّلاق: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) (الطلاق: من الآية4).
وقال - جلّ من قائل -: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (الطلاق: من الآية7).
هذه بعض الآيات التي تفيد التّيسير على هذه الأمَّة.
قال القاسمي في تفسير أية البقرة: قال الشعبي: إذا اختلف عليك أمران، فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق لهذه الآية(4).
وقد ذكر المفسّرون في تفسيرهم لهذه الآيات أن الله أراد لهذه الأمَّة اليسر ولم يرد لها العسر(5).
2- أدلة رفع الحرج من أقوى الأدلّة وأصرحها في الدّلالة على رفع الحرج قوله - تعالى-: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78).
قال الطبري في تفسير هذه الآية: جعل الدّين واسعًا ولم يجعله ضيّقًا(6).
وقال ابن كثير: أي: ما كلّفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشقّ عليكم إلا جعل الله لكم فرجًا ومخرجًا(7).
وقال- سبحانه-: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة: من الآية6).
وفي سورة التوبة: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) (التوبة: من الآية91).
وقال في سورة الأحزاب: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ) (الأحزاب: من الآية38).
وفي سورتي الفتح والنور: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) (النور: من الآية61).
وفي هذه الآيات دلالة ظاهرة على رفع الحرج على هذه الأمَّة، وأنَّ الله لم يجعل في التّشريع حرجًا، وبعض هذه الآيات وإن كانت خاصّة في أحكام معيّنة، ولكنَّنا نجد التّعليل عامًّا، فكأنّ التّخفيف ورفع الحرج في هذه الأحكام والفروض بإعادة الشيء إلى أصله وهو رفع الحرج عن هذه الأمَّة، فكل شيء يؤدّي إلى الحرج لسبب خاصّ أو عامّ فهو معفوّ عنه، رجوعًا إلى الأصل والقاعدة.
__________
(1) - رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ص(48).
(2) - أخرجه البخاري (2/187، 188). ومسلم (2/948، 949) رقم (1306). وأبو داود (2/211) رقم (2014). والنسائي (5/272) رقم (3067). وابن ماجة (2/1013، 1014) رقم (3050، 3051، 3052).
(3) - أخرجه مسلم (2/943) رقم (1297). وأبو داود (2/201) رقم (1970). وأحمد (3/301، 318، 332، 337، 367، 378). والنسائي (5/270) رقم (3062) وغيرهم.
(4) - انظر: تفسير القاسمي (3/427).
(5) - انظر: تفسير الطبري (2/156) وتفسير ابن كثير (1/217) وغيرهما.
(6) - انظر: تفسير الطبري (17/207).
(7) - انظر: تفسير ابن كثير (3/236).(/31)
3- أدلة عدم التكليف بما يضاد الوسع والطاقة قال- سبحانه- في سورة البقرة: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286). وفي الآية نفسها: (رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) (البقرة: من الآية286).
وقال الله- تعالى- كما في الحديث الصحيح: - قد فعلت - (1) وكذلك قوله: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) (البقرة: من الآية286).
قال الشيخ الدكتور/ صالح بن حميد: (والوسع ما يسع الإنسان فلا يعجز عنه ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، فقوله- تعالى-: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286) أي: لا يحملها إلا ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه أو يحرجها دون مدى غاية الطّاقة، فلا يكلّفها بما يتوقَّف حصوله على تمام صرف القدرة، فإنَّ عامة أحكام الإسلام تقع في هذه الحدود، ففي طاقة الإنسان وقدرته الإتيان بأكثر من خمس صلوات وصيام أكثر من شهر، ولكنَّ الله جلّت قدرته ووسعت رحمته أراد بهذه الأمَّة اليسر ولم يرد بها العسر)(2).
ومن الأدلّة على أنَّ التكليف بحدود الوسع والطّاقة قوله- تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (لأعراف:42).
ويقول- سبحانه- في سورة المؤمنون: (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (المؤمنون: من الآية62).
قال القاسميّ: فسنة الله جارية على أنَّه لا يكلف النّفوس إلا وسعها (3).
بل جاء تقرير هذه القاعدة عند ذكر بعض الأحكام الجزئيَّة فقال- سبحانه-: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية233).
وكذلك في سورة الطلاق: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا) (الطلاق: من الآية7).
وكذلك- أيضًا- في سورة الأنعام: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (الأنعام: من الآية152).
هذه هي الآيات التي وردت مبيّنة أنَّ التّكليف بحسب الوسع والطّاقة، ولا شكَّ أنَّ الأحكام الشَّرعية إذا كانت مطلوبة في حدود الوسع والاستطاعة دون بلوغ غاية الطّاقة، ففي ذلك الدّلالة الظّاهرة على أن الحرج مرفوع، وأنَّ اليسر سمة هذا الدّين، والتّوسعة على العباد خاصِّيَّة من خصائصه، فهي الحنيفيَّة السّمحة والوسطيَّة التي لا عَنَتَ فيها ولا مشقَّة(4).
الأدلة من السنة النبوية:
جاء في سورة براءة وصف الرسول، - صلى الله عليه وسلم - (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128). وكذلك فقد جاءت الأحاديث عنه، - صلى الله عليه وسلم - تبين يسر هذا الدِّين، وتحمل النّهي عن التّشدّد والتّعمّق والغلوّ، بل ترك، - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا من الأعمال رحمة بأمّته وخشية من أن يشقّ عليها، وهذا يخالف يسر الدّين وسماحته (5).
وسأذكر بعض الأحاديث التي تؤكّد حقيقة يسر الإسلام وبعده عمَّا يخرج عن منهج الوسطيَّة.
وقد تنوَّعت أساليب رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - في توجيه أمّته لهذه الحقائق وتأصيلها.
فنجد في الأحاديث ما جاء صريحًا في بيان أنَّ هذا الدّين دين اليسر والسّماحة، وأنَّه، - صلى الله عليه وسلم - بُعِثَ بذلك.
فقد روت عائشة- رضي الله عنها- أنَّ رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - قال: - إنَّ الله لم يبعثني معنّتًا ولا متعنِّتًا، ولكن بعثني معلِّمًا ميسِّرًا - (6).
وقال لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لمَّا بعثهما إلى اليمن: - يَسِّرا ولا تُعسِّرا وبَشِّرا ولا تُنَفِّرا - (7).
وقال، - صلى الله عليه وسلم - مبَيِّنًا حقيقة هذا الدين: - إنَّ الدّين يسر ولن يشادّ الدّين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا - (8).
__________
(1) - أخرجه مسلم (1/116) رقم (126).
(2) - انظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ص (69)، وتفسير القرطبي (3/426).
(3) - انظر: تفسير القاسمي (12/4405).
(4) - انظر: رفع الحرج ص (73).
(5) - انظر: رفع الحرج ص (75)، والإشارة للغلو والمشقة.
(6) - أخرجه مسلم (2/1105) رقم (1478).
(7) - أخرجه البخاري (5/108). ومسلم (3/1359) رقم (1733).
(8) - أخرجه البخاري (1/15(.(/32)
وروى ابن عباس عنه، - صلى الله عليه وسلم - - أنه قال لما قيل له: يا رسول الله! أي الأديان أحبّ إلى الله؟ قال: "الحنيفيَّة السَّمحة" - (1).
وجاء في روايات أخرى: - بُعثت بالحنيفيَّة السّمحة - (2).
وفي رواية: - إنَّ أحبّ الدّين إلى الله الحنيفيَّة السّمحة - (3).
وعن عروة الفقيمي- رضي الله عنه- قال: - كنَّا ننتظر النبي، - صلى الله عليه وسلم - فخرج يقطر رأسه من وضوء أو غسل فصلّى، فلمّا قضى الصّلاة جعل النَّاس يسألونه: يا رسول الله! أعلينا من حرج في كذا، فقال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - "لا أيّها النّاس: إنَّ دين الله- عزّ وجلّ- في يسر، إنَّ دين الله- عزّ وجلّ- في يسر، إنَّ دين الله- عزّ وجلّ- في يسر" - (4). وما خير رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا (5).
وفي مسند الإمام أحمد، قال: قال، - صلى الله عليه وسلم - - إنَّ خير دينكم أيسره، إنَّ خير دينكم أيسره - (6).
وقال، - صلى الله عليه وسلم - في حديث محجن بن الأدرع: - إنَّ الله تعالى رضي لهذه الأمَّة اليسير وكره لها العسير - (7).
وهذه الأحاديث صريحة في بيان يسر هذا الدّين وسماحته.
ونجد من أساليبه، - صلى الله عليه وسلم - في هذا الجانب ما ورد في النّهي عن الغلوّ والتنطّع.
فعن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - - إيَّاكم والغلوّ في الدّين فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدّين - (8).
وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - - هلك المتنطّعون - قالها ثلاثًا (9).
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: - لا تُشّددوا على أنفسكم فيشدِّد الله عليكم، فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدّيارات رهبانيَّة ابتدعوها ما كتبناها عليهم - (10).
ومن أساليبه- أيضًا- - صلى الله عليه وسلم - ترك العمل مخافة المشقَّة على أمَّته: ومن ذلك قصَّة صلاة التَّراويح، - حيث صلى، - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة في رمضان فصلَّى بصلاته ناس، ثم صلَّى القابلة فكثر النّاس، ثم اجتمعوا في الليلة الثَّالثة أو الرّابعة فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أنيّ خشيت أن تُفرض عليكم" - وفي الرّواية الأخرى: - فتعجزوا عنها - (11).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - قال: - لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك عند كل صلاة - (12).
__________
(1) - أخرجه أحمد (1/236). والبخاري معلقًا (1/15) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/65): رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط والبزار، وفيه ابن إسحاق وهو مدلس، ولم يصرّح بالسماع. اهـ. وحسن الحافظ إسناده في الفتح (1/117).
(2) - أخرجه أحمد (5/266). قال الهيثمي في المجمع: (5/282): رواه أحمد والطبراني، وفيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف.
(3) - قال الهيثمي في المجمع (1/65). رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الله بن إبراهيم الغفاري منكر الحديث.
(4) - أخرجه أحمد (5/69). قال الهيثمي في المجمع (1/67)؛: رواه أحمد والطبراني في الكبير وأبو يعلى وفيه عاصم بن هلال، وثقه أبو حاتم وأبو داود، وضعفه النسائي وغيره. قال الحافظ في التقريب ص (286): فيه لين.
(5) - أخرجه أحمد (4/338)، (5/32). قال الهيثمي في المجمع (1/66): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
(6) - قال الهيثمي في المجمع (4/18): رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح.
(7) - قال الهيثمي في المجمع (4/18): رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح.
(8) - أخرجه النسائي (5/268) رقم (3057). وابن ماجة (2/1008) رقم (3029) وأحمد (1/215، 347)، وصححه الحاكم (1/466)، ووافقه الذهبي، وصححه - أيضًا- الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم (1283)، وصحيح الجامع رقم (2680).
(9) - أخرجه مسلم (4/2055) رقم (2670). وأبو داود (4/201) رقم (4608). وأحمد (1/386).
(10) - أخرجه أبو داود (4/276، 277) رقم (4904)، وأخرجه أبو يعلى، كما في المطالب العالية (1/117) رقم (422) وفي إسناد هذا الحديث: سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء؛ مختلف في توثيقه. قال الحافظ في التقريب ص (238) مقبول. وقال - أيضًا - في التهذيب (4/57): ذكره ابن حبان في الثقات، وروى له أبو داود حديثًا واحدًا.. وذكر هذا الحديث. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/259): رجاله رجال الصحيح، غير سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء وهو ثقة!! وضعف هذا الحديث العلامة الألباني كما في ضعيف الجامع رقم (6232)، والأقرب حسن هذا الإسناد. والله - تعالى - أعلم.
(11) - أخرجه البخاري (1/222). ومسلم واللفظ له (1/524) رقم (761).
(12) - أخرجه البخاري (1/214). ومسلم (1/220) رقم (252).(/33)
بل إنَّه يعمل العمل فيندم على ذلك مخافة المشقَّة على أمّته: فقد روت عائشة - رضي الله عنها- - أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها وهو مسرور ثم رجع إليها وهو كئيب، فقال: "إنّي دخلت الكعبة، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها، إنّي أخاف أن أكون قد شققت على أمّتي" - (1).
ووصل من رحمته، - صلى الله عليه وسلم - وتيسيره على أمّته وكرهه للمشقَّة عليهم ما يفيده هذا الحديث الذي رواه أبو قتادة، حيث قال، - صلى الله عليه وسلم - - إنّي لأقوم إلى الصّلاة وأنا أريد أن أطوّل فيها فأسمع بكاء الصّبي فأتجوّز كراهية أن أشقّ على أمّه - (2).
ومن أساليبه في ذلك نهيه، - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه عن أعمال تؤدي إلى المشقَّة والعسر:
- فقد جاء رجل إلى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنّي لأتأخرّ عن صلاة الصّبح من أجل فلان مما يطيل بنا - قال أبو مسعود الأنصاري راوي الحديث: فما رأيت النبي، - صلى الله عليه وسلم - غضب في موعظة قطّ أشدّ ممّا غضب يومئذ، فقال: - أيّها الناس إن منكم منفّرين، فأيّكم أمَّ النّاس فليوجز، فإنَّ من ورائه الكبير، والضعيف، وذا الحاجة - (3).
- ودخل مرَّة المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقالوا: حبل لزينب، فإذا فترت تعلَّقت به، فقال، - صلى الله عليه وسلم - حلّوه، ليصلّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد - (4).
وجاء في الصّحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - - أن النبي، - صلى الله عليه وسلم - رأى شيخًا يهادي بين ابنيه، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي، قال: إنَّ الله عن تعذيب هذا لنفسه لغني، وأمره أن يركب - (5).
ومثل ذلك - قصة الثلاثة الذين سألوا عن عبادة الرسول، - صلى الله عليه وسلم - فلما علموا ذلك كأنّهم تقالّوها! فقال أحدهم: أمّا أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أمّا أنا فأصّلي الليل أبدًا، وقال الآخر: لا أتزوجّ النساء، فقال - صلى الله عليه وسلم - أأنتم الذين قلتم كذا وكذا، أمَا والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكنيّ أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منِّي - (6).
وأختم هذه الأحاديث بهذا الحديث الذي رواه الدارقطني بسنده عن نافع عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: - خرج رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره فسار ليلا فمرَّ على رجل جالس عند مقراة له- وهي الحوض الذي يجتمع فيه الماء- فقال له عمر: يا صاحب المقراة: ولَغَتْ السّباع الليلة في مقراتك؟
فقال له النبي، - صلى الله عليه وسلم - "يا صاحب المقراة لا تخبره، هذا متكلّف، لها ما حملت في بطونها، ولنا ما بقي شراب طهور" - (7).
ومما سبق من هذه الأحاديث يتبيَّن لنا سماحة هذا الدّين ويسره، وبعده عن الغلوّ والتّشدّد وما يؤدّي إلى المشقَّة والعسر.
أقوال السلف (8)
ما ذكرته من الأدلّة من الكتاب والسنَّة يغني عمَّا سواه، بل إن آية واحدة أو حديثًا واحدًا صحيحًا حجَّة في ذلك.
ولكن لأبين أنَّ قضيّة يسر هذا الدّين وسماحته ووسطيَّته أصبحت منهجًا عمليًّا، استجابة لله ورسوله، فسأذكر بعض ما ورد عن السّلف في هذا الباب، مع الاختصار دون إخلال أو إقلال.
يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - مبيّنًا منهج الصّحابة في ذلك: "من كان منكم مستنًّا فليستنَّ بمن قد مات، فإنَّ الحيّ لا تُؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، - صلى الله عليه وسلم - كانوا أفضل هذه الأمَّة، أبرّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلّها تكلّفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه، - صلى الله عليه وسلم - ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتّبعوهم على أثرهم وسيرتهم، فإنَّهم كانوا على الهدي المستقيم" (9).
وقال- أيضًا- إيَّاكم والتّنطّع، إيَّاكم والتّعمّق، وعليكم بالعتيق (10).
وقال أنس بن مالك - رضي الله عنه - كنّا عند عمر - رضي الله عنه - فسمعته يقول: "نهينا عن التّكلّف" (11).
قال الدكتور/ صالح بن حميد: هذه الصّيغة وإن كان لها حكم المرفوع، غير أنَّها تدلّ على البعد عن التّكلّف هو منهج عمر وغيره من الصّحابة (12).
__________
(1) - أخرجه أبو داود (2/215) رقم (2029). وابن ماجة (2/1018، 1019) رقم (3064). وضعّفه الألباني كما في ضعيف الجامع رقم (2085).
(2) - أخرجه البخاري (1/173). وأبو داود (1/209) رقم (789).
(3) - أخرجه البخاري (1/172، 173). ومسلم (1/340) رقم (466، 467).
(4) - أخرجه البخاري (2/48). ومسلم (1/542) رقم (784).
(5) - أخرجه البخاري (7/234). ومسلم (3/1263، 1264) رقم (1642، 1643).
(6) - أخرجه البخاري (6/116). ومسلم بمعناه (2/1020) رقم (1401).
(7) - سنن الدارقطني (1/26).
(8) - انظر: رفع الحرج (87) وما بعدها.
(9) - إغاثة اللهفان (1/159) ورفع الحرج ص (87).
(10) - انظر: إغاثة اللهفان (1/159) ورفع الحرج ص (88).
(11) - انظر إغاثة اللهفان (1/159) ورفع الحرج ص (88).
(12) - انظر: رفع الحرج ص (88).(/34)
وقد مرَّ عمر- رضي الله عنه- في طريق فسقط عليه شيء من ميزاب، فقال رجل مع عمر: يا صاحب الميزاب، ماؤك طاهر أو نجس؟ فقال عمر: يا صاحب الميزاب: لا تخبرنا، ومضى (1).
وروي أن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- سئل عن الجبن الذي تصنعه المجوس؟ فقال: ما وجدته في سوق المسلمين اشتريته ولم أسأل عنه (2).
وقال الإمام الشعبي: إذا اختلف عليك أمران فإنَّ أيسرهما أقربهما إلى الحقّ لقوله- تعالى-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185).
وقال معمر وسفيان الثوري: إنما العلم أن تسمع بالرّخصة من ثقة. فأمَّا التّشديد فيحسنه كل أحد(3).
وقال إبراهيم النخعي: إذا تخالجك أمران فظنَّ أن أحبهما إلى الله أيسرهما (4).
وروي عن مجاهد وقتادة وعمر بن عبد العزيز: أفضل الأمرين أيسرهما لقوله- تعالى-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) (البقرة: من الآية185)(5).
والآثار في هذا كثيرة جدًّا، وما مضى فيه الكفاية- إن شاء الله-.
وبعد:
فإنَّ المتأمّل لهذه الآثار من الكتاب والسنَّة وأقوال سلف الأمَّة يلحظ أن هذا المعنى غائب عن واقع وفهم كثير من المسلمين، وقليل منهم من يدرك هذه الحقيقة ويتعامل معها، حيث إنَّه يوجد هناك من لو سئل عن هذا الأمر لأجاب الإجابة الصّحيحة، ولكن عند التأمّل في واقعه وتعامله والتزامه ومنهجه لا نجد إلا الإفراط أو التّفريط.
والعجب أن بعض هؤلاء كأنَّه أغير على دين الله من رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - بل من الله- جلّ وعلا- الذي يقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78). ويقول: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185). ويقول: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً) (النساء:28). وهذا لا يعني- أيضًا- التّفريط والتَّساهل والتّهاون بحجّة أن هذا الدّين يسر، وهو ما يبرّر به كثير من المقصّرين والعصاة أفعالهم، فإنَّ تحديد مفهوم اليسر والتّوسعة إلى الشَّارع لا إلى أهواء النَّاس ورغباتهم وما ألفوه ودرجوا عليه، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلوّ ولا جفاء (كلا طرفي قصد الأمور ذميم). ثمَّ إن قضيَّة التّيسير والتّوسعة قضيَّة منهج متكامل وليست تتعلّق بجزئيَّة أو جزئيَّات كما قد يتصَّور بعض النَّاس.
وبهذا التّعريف والشّمول ندرك أنَّ هذا الأمر يندرج في منهج الوسطيَّة التي هي سمة من سمات هذه الأمَّة، وخاصيَّة من خصائصها، فلن نستطيع أن ندرك حقيقة الوسطيَّة إلا إذا فهمنا سمة اليسر والتّوسعة ورفع الحرج، وإلا تصبح الوسطيَّة معنى مفرغًا من حقيقته، وقولا نظريًّا لا وجود له في الواقع، وبذلك يفقد هذا الدّين خاصيَّة لها أثرها في حياة النَّاس ومآلهم.
رابعًا البينيَّة
ذكرت في مبحث سابق أنَّ البينيَّة من لوازم وصفات الوسطيَّة، وحيث ذكرت ذلك مختصرًا فإنّي أزيده هنا وضوحًا وبيانًا، فأقول:
إنَّ إطلاق لفظ البينيَّة يدلّ على وقوع شيء بين شيئين أو أشياء، وقد يكون ذلك حسًّا أو معنى.
وعندما نقول: إنَّ (الوسطيَّة) لا بدّ أن تتَّصف بالبينيَّة، فإنَّنا لا نعني مجرَّد البينيَّة الظَّرفيَّة، بل إنَّ الأمر أعمق من ذلك، حيث إنَّ هذه الكلمة تعطي مدلولا عمليًّا على أن هذا الأمر فيه اعتدال وتوازن وبُعد عن الغلوّ والتّطرف أو الإفراط والتَّفريط.
وبهذا تكون البينيَّة صفة مدح، لا مجرَّد ظرف عابر.
ومن هذا التَّفسير جاءت علاقة البينيَّة بالوسطيَّة، وقد رأيت جمهورًا من العلماء ربطوا بين الوسطيَّة والبينيَّة، ولا غرابة في ذلك، فإنَّ لهذا أصلا في اللغة والاشتقاق، كما سبق بيان ذلك، وهو المتبادر إلى الأذهان عند إطلاق هذه الكلمة.
ولأهميَّة هذه القضيّة(6) فسأذكر بعض أقوال العلماء، ومن قال بذلك منهم في القديم والحديث:
1- الإمام الطبري: حيث قال في تفسيره: وأنا أرى أنَّ الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء، الذي هو بين طرفين، مثل وسط الدّار.
وأرى أن الله- تعالى ذكره- إنَّما وصفهم بأنَّهم وسط لتوسّطهم في الدّين، فلا هم أهل غلوّ فيه، غلوّ النّصارى الذين غلو بالتَّرهّب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه.
__________
(1) - انظر: إغاثة اللهفان (1/154) ورفع الحرج ص (89).
(2) - انظر: جامع العلوم والحكم ص (269) ورفع الحرج ص (91).
(3) - انظر: جامع بيان العلم وفضله ص (285)، ورفع الحرج ص (92).
(4) - انظر: رفع الحرج ص (92)، والآثار لأبي يوسف ص (196).
(5) - انظر: المغني (3/150)، ورفع الحرج ص (92).
(6) - وذلك أن أحد الباحثين ألَّف رسالة علمية وبناها على عدم التلازم بين الوسطيَّة والبينيَّة، واعتبر أن ذلك خطأ ممن قال به، وهو الأستاذ فريد عبد القادر في رسالته: الوسطيَّة في الإسلام.(/35)
ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله، وقتلوا أنبيائهم، وكذبوا على ربّهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسّط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها(1).
2- شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ذكرتُ كلامه سابقًا، وأُعيد بعضه هنا، حيث قال في العقيدة الواسطيَّة:
فإنَّ الفرقة الناجية أهل السنَّة والجماعة يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم الوسط في فرق الأمَّة، كما أنَّ الأمَّة هي الوسط في الأمم.
فهم وسط في باب صفات الله- تعالى- بين أهل التّعطيل الجهميَّة، وأهل التَّمثيل المشبّهة.
وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبريَّة والقدريَّة وغيرهم.
وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيديَّة من القدريَّة وغيرهم.
وفي باب أسماء الإيمان والدّين بين الحروريَّة والمعتزلة وبين المرجئة والجهميَّة.
وفي أصحاب رسول الله بين الرافضة والخوارج (2).
3- رشيد رضا حيث قال: قالوا: إنَّ الوسط هو العدل والخيار، وذلك أنَّ الزّيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنّقص عنه تفريط وتقصير، وكل من الإفراط والتَّفريط ميْل عن الجادّة القويمة، فهو شرّ ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسط بينهما.
ثم ذكر قولا لأستاذه محمد عبده حيث إنَّه يرى- أيضًا- أنَّ الوسط هو المتوسّط بين أمرين مع كونه خيارًا (3).
4- يوسف القرضاوي فقد قال: ونعني بها- أي الوسطيَّة- التوسّط أو التّعادل بين طرفين متقابلين أو متضادّين، بحيث لا ينفرد أحدهما بالتّأثير، ويطرد الطرف المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقّه، ويطغى على مقابله، ويحيف عليه، ثم ذكر بعض الأمثلة في ذلك (4).
5- محمد قطب حيث بين في كتابه "منهج التَّربية الإسلاميَّة" أنَّ الوسطيَّة هي التّوازن، والتّوازن هو العدل، حيث قال في قوله- تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). وسطًا في كل شيء، متوازنين، في كل ما تقومون به من نشاط.
ثم بين أنَّ الوسطيَّة تعني التَّوفيق بين أشياء كثيرة، كالتَّوفيق بين مطالب الفرد الواحد، وبين مطالب الجموع، والتَّوفيق بين العمل للعاجلة والآجلة... وهكذا(5).
6- عبد الرحمن بن ناصر السّعدي، وانظر ما قاله في رسالة القواعد الحسان لتفسير القرآن، القاعدة (24): وبالجملة فإن الله العليم الحكيم أمر بالتوسّط في كل شيء بين خلقين ذميمين، تفريط وإفراط، وقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143)(6).
7- عمر سليمان الأشقر، فقد اعتبر الوسطيَّة هي الأمر الوسط بين أمرين متطرّفين، حيث قال: من المعضلات التي لم ينجح المشرّعون من البشر في حلّها التّطرّف في التّشريع، فبعض القوانين تجنح إلى أقصى اليسار، وبعض آخر يجنح إلى أقصى اليمين، وقلّما يوفّق واضعو القوانين إلى التوسّط والاعتدال.
وقال في موضع آخر: وإذا نظرت إلى الشّريعة الإسلامية وجدتها وسطًا في كل أحكامها، فأحكامها بين الغالي والجافي(7).
8- عمر بهاء الدين الأميري، فقد تناول الوسطيَّة من منطلق التوسّط بين شيئين، حتى إنَّه اعتبر من وسطيَّة هذه الأمَّة التوسّط الجغرافي في المكان والمناخ. وممَّا قال: وقد كان من تدبير الله الحكيم العليم في هذه الأمَّة أن جعل وسطيَّتها في كل مجال:
فهي موطن الرّسالة الأولى، وفي ساحتها الحضاريَّة المشعّة المترامية الأطراف- من بعد- في مناخ محتمل، وجوّ مسعف، لا في مناطق بركانيَّة زلزاليَّة، ولا لاظية استوائيَّة، ولا متجمّدة قطبيَّة، حيث تقعد قساوة الطبيعة بالإنسان عن الحركة والنّشاط والإعمار الحضاري.
وهي وسط في موقعها الجغرافي المهمّ، حيث كانت مهابط الوحي، أرض الإسلام، ومهد الأمَّة الإسلاميّة الأولى.
فهي الوسط بين الشّمال والجنوب، والشرق والغرب، وهي مركز الوصل بين إفريقيا وآسيا، وطرف ممتدّ من أوروبا، وهي الرّباط البريّ بين الطّرق المائيَّة (8).
9- يوسف كمال، حيث قال: أمَّا الوسطيَّة في الإسلام فهي حدود لمنهج الحركة في طريق مستقيم إلى هدف، بعيد عن انحرافات في سبل شتّى تؤدّي للضّلال.
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (2/6).
(2) - انظر: شرح العقيدة الواسطيَّة ص (124).
(3) - انظر: تفسير المنار (2/4).
(4) - انظر: الخصائص العأمَّة للإسلام ص (127)، والوسطيَّة في الإسلام لفريد عبد القادر ص (ج).
(5) - انظر: منهج التربية الإسلامية (1/28).
(6) - انظر: القواعد الحسان ص (90).
(7) - انظر: خصائص الشريعة الإسلامية ص (86، 87)، والوسطيَّة في الإسلام لفريد عبد القادر (و).
(8) - انظر: وسطية الإسلام وأمَّته في ضوء الفقه الحضاري ص (58)، والوسطيَّة في الإسلام ص (و) لفريد عبد القادر.(/36)
قال عنه فريد عبد القادر: إلا أنَّه قد لازم عرضه فكرة التّوسّط بين أمرين (1).
ومن خلال ما سبق يتَّضح لنا أن صفة البينيَّة أمر أساسي في تحديد الوسطيَّة، وأنَّ هؤلاء العلماء والكُتّاب اعتبروا هذا الأمر قضيَّة مسلَّمة في تحديدهم، وتعريفهم للوسطيَّة.
وقد ذكرت الأدلّة من القرآن والسنَّة على أنَّ البينيَّة صفة لازمة للوسطيَّة، وذلك في مبحث (تحرير معنى الوسطيَّة).
وهذه البينيَّة ليست مجرّد الظّرفيَّة، وإنَّما هي التي تعطي الدَّلالة على التّوازن والاستقامَّة والعدل، ومن ثمَّ الخيريَّة، فهذه هي الوسطيَّة الحقَّة. وبهذا يتَّضح لنا الخطأ الذي وقع فيه الأستاذ فريد عبد القادر عندما ذهب إلى أنَّ الوسطيَّة لا تستلزم البينيَّة، ومن ثمَّ قام بتخطئة من ذهب إلى ذلك كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ممَّن ذكرت سابقًا، حيث قال:
لقد ركّزت الدّراسات السّابقة حول موضوع الوسطيَّة على مفهوم التّوسّط بين أمرين. (ثم قال):
فكانت فكرة التّوسّط بين أمرين مسيطرة على الأذهان والعقول أثناء البحث لإظهار وسطيَّة الإسلام، مع التّعبير عن هذه الوسطيَّة بالخيريَّة،(ثم حكم عليها قائلا): فكانت هذه الدّراسات تخلط أثناء البحث بين ملابسات صحيحة، ونتائج غير صحيحة.
ثم ذكر أمثلة تدلّ على عدم فهمه لما ذهب إليه أولئك الأعلام، ومن ثمَّ قام بالحكم الجائر إيَّاه (2).
العدل والحكمة
أمّا العدل فقد صحّ فيه الحديث عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - حيث فسَّر قوله- تعالى-: (أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) بقوله: عدولا: وذلك في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري، حيث قال، - صلى الله عليه وسلم - - والوسط والعدل - (3).
وفي رواية الطبري: قال: - أمَّة وسطًا - عدولا (4).
وقد بيّنت أنَّ الوسطيَّة بينيَّة، ومن ثمَّ لا بد من العدل في اختيار هذا الأمر الذي بين أمرين أو عدَّة أمور.
قال القرطبي: والوسط: العدل، وأصل هذا أنَّ أحمد الأشياء أوسطها.
ثم قال: قال علماؤنا: أنبأنا ربنا- تبارك وتعالى- في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة، وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعلنا أولا مكانًا، وإن كنَّا آخرًا زمانًا، كما قال، عليه السلام: - نحن الآخرون الأولون - (5). وهذا دليل على أنَّه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول الغير على الغير إلا أن يكون عدلا (6).
وممّا يدلّ على أنَّ العدل من ملامح الوسطيَّة قول الطبري: وأمَّا التّأويل فإنَّه جاء بأنّ الوسط العدل، وذلك معنى الخيار، لأنَّ الخيار من النَّاس عدولهم (7).
ثم ساق الأدلّة من السنَّة وأقوال السّلف في ذلك.
وقال رشيد رضا: قال الأستاذ: إنَّ في لفظ الوسط إشعارًا بالسببيَّة، فكأنَّه دليل على نفسه، أي: أنَّ المسلمين خيار وعدول لأنَّهم وسط (8).
وإذا كان الوسط شيء بين شيئين، فإنَّه يلزم لأن يكون وسطًا شرعيًا أن يكون عدلا، لأنَّه إذا لم يكن كذلك مال وانحرف إلى أحد الطّرفين، إمَّا إلى الإفراط، وإمَّا إلى التّفريط، وهذا خروج عن حقيقة العدل، ومن ثمَّ خروج عن الوسط، ولذلك جاءت صفة الحكمة ملمحًا من ملامح الوسطيَّة، وبيان هذا: أنَّ التوسّط هو توسّط معنوي، وتحديد هذا التوسّط يكون بمراعاة جميع الأطراف، تحقيقًا للمصالح، ودرءًا للمفاسد، وهذه هي الحكمة الشّرعيَّة. وبعبارة أخرى: فإنَّ الوسطيَّة أمر نسبي، يخضع تحديده لعوامل عدَّة لابدّ من مراعاتها، ولا يتحقَّق ذلك إلا بإتقان الحكمة.
ومن أجل إلقاء مزيد من الضّوء على هذه الحقيقة أذكر بعض ما ورد في الحكمة من أقوال المفسّرين، وتعريفات العلماء(9).
قال عبد الرحمن بن سعدي:
الحكمة: هي العلوم النّافعة، والمعارف الصّائبة، والعقول المسدّدة، والألباب الرزينة، وإصابة الصّواب في الأقوال والأفعال، ثم قال: وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة التي هي وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محلّ الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام. (10)..
__________
(1) - انظر: مستقبل الحضارة ليوسف كمال ص (127)، والوسطيَّة في الإسلام ص (ز).
(2) - انظر رسالته: وسطيَّة الإسلام ص (ب)، ومن هنا فإني أنصح طلاب العلم بعدم التعجل بتخطئة العلماء والمفكرين، وهذا لا يعني عصمتهم، ولكن كما قال الشاعر: وكم من عاتب قولا صحيحًا وآفته من الفهم السقيم.
(3) - انظر: تفسير الطبري (2/7). والحديث أخرجه الترمذي (5/190) رقم (2961) وأحمد (3/9) وعندهما "عدلا" بدل "عدولا".
(4) - انظر: تفسير الطبري (2/6).
(5) - أخرجه البخاري (1/211). ومسلم (2/585) رقم (855).
(6) - انظر: تفسير القرطبي (2/155).
(7) - انظر: تفسير الطبري (2/7).
(8) - انظر: تفسير المنار (2/4).
(9) - انظر المزيد من التفصيل لتعريف الحكمة: رسالة المؤلف (الحكمة).
(10) - انظر: تفسير ابن سعدي (1/332).(/37)
وقال سيد قطب: الحكمة: القصد والاعتدال، وإدراك العلل والغايات، والبصيرة المستنيرة التي تهديه للصّالح الصّائب من الحركات والأعمال (1) .
وكلام ابن سعدي وسيّد في غاية الدّلالة على صلة الحكمة بالوسطيَّة.
قال ابن القيّم: وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد ومالك: إنّها معرفة الحقّ والعمل به، والإصابة في القول والعمل.
وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن، والفقه في شرائع الإسلام، وحقائق الإيمان (2).
وقال في موضع آخر: هي: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي (3).
وقوله: (على الوجه الذي ينبغي) من أقوى دلالات الوسطيَّة.
وقال في موضع آخر: الحكمة: أن تعطي كل شيء حقّه، ولا تعدّيه حدّه، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخّره عنه (4).
ونخلص ممّا سبق: أن الحكمة لابدّ من اعتبارها عند تحديد معنى الوسطيَّة، بل إن الالتزام بالوسطيَّة وعدم الجنوح إلى الإفراط أو التّفريط هو عين الحكمة وجوهرها.
وذلك أنَّ الخروج عن الوسطيَّة له آثاره السلبيَّة، إمَّا عاجلا أو آجلا، وهذا يُخالف الحكمة ويُنافيها.
ومن الأمثلة التي توضّح ذلك:
أمر الابن بالصّلاة لسبع سنين، وضربه عليها ضربًا غير مبرِّح بعد بلوغ العاشرة، فإنَّنا نجد التوسّط في هذه القضية ظاهرًا بين الإفراط وبين التّفريط، وهذه هي الحكمة، حيث فرَّق بين من لم يبلغ السّابعة، وبين من بلغها، وكذلك من بلغ العاشرة يختلف أمره، ثم من أدرك الحلم يختلف عمَّا سبق.... وهكذا، فقد نزّل الأمور منازلها، ووضع الأشياء مواضعها.
وصدق الله العظيم: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (البقرة: من الآية269).
دليل تطبيقي لهذه الملامح
بعد أن بيّنت ملامح الوسطيَّة سأذكر دليلا عمليًّا تبرز فيه جميع هذه الملامح، حيث يمثّل أعلى درجات الوسطيَّة: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: - جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي، - صلى الله عليه وسلم - يسألونه عن عبادته، فلما أخبروا كأنَّهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن من النبي، صلى الله عليه وسلم؟ فقد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر.
فقال أحدهم: أمَّا أنا فأصلّي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدّهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبدًا.
فجاء رسول الله، صلى الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنّي لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النساء، فمن رغي عن سُنَّتي فليس منِّي - (5).
وسأذكر ملامح الوسطيَّة واحدة واحدة، مع بيان موضعها من الحديث:
أولا: الخيريَّة:
وهذا يتَّضح من قوله، - صلى الله عليه وسلم - - إنّي لأخشاكم لله، وأتقاكم له - ثمَّ يبينّ أنَّه يأخذ بالوسطيَّة: فيصوم ويفطر، ويصلّي وينام، ويتزوّج النّساء، فلولا أن هذا العمل لا يعارض الخشية والتّقوى، بل يطّرد معهما لم يذكرها في هذا المقام، واستخدم هذا أفعل التفضيل "أخشاكم - أتقاكم" وهي أعلى درجات الخيريَّة.
فاتَّضح أن هذه الوسطيَّة التي يرشدنا إليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تمثّل الخشية والتّقوى، وهذه هي الخيريَّة في أفضل صورها.
ثانيًا: الاستقامة: وتبرز هذه الحقيقة في قوله، - صلى الله عليه وسلم - - فمن رغب عن سنَّتي فليس منِّي -
إذن فالاستقامة هي بأن يصوم ويفطر، وينام ويرقد، ويتزوّج النّساء، والخروج عنها انحراف عن الاستقامة، فهذا العمل الذي يمثّل الوسطيَّة، لا نقول إنَّه لا يُعارض الاستقامة؛ بل هو الاستقامة بعينها، حيث جعله الرسول، - صلى الله عليه وسلم - من سنَّته، وهل الاستقامة إلا الالتزام بسنَّته والأخذ بها.
ثالثًا: اليسر ورفع الحرج: وهذا أمر جلّي وبيِّن، فنحن بين عملين وردا في هذا الحديث:
تبتّل وامتناع عن النّساء والزّواج مع ما في ذلك من مشقَّة وحرج.
ويقابله تزوّج النّساء مع ما في ذلك من قضاء الوطر، والمودّة والرّحمة، وإنجاب الأولاد.
الأول يمثل الانحراف عن سنة النبي، - صلى الله عليه وسلم - مع ما فيه من مشقّة وعسر، والثاني يمثّل الوسطيَّة مع ما فيه من تخفيف وتيسير ورحمة، ودفع للحرج.
وقل مثل ذلك في الصّيام، والقيام.
إذن فالوسطيَّة في اليسر ورفع الحرج، وليس في التّكلّف والمشقَّة والعَنَت.
رابعًا: البينيَّة:
والأمثلة تبرهن على ذلك:
1- امتناع عن الزّواج مطلقًا - إفراط.
ويقابله التَّفريط وهو اتّباع الشّهوات دون وازع أو قيد.
وبينهما: قضاء الشّهوة والوطر، ولكن ضمن الضّوابط الشّرعيَّة، ويتمثَّل في الزّواج وهذا هو الوسط، وهو المشروع.
2- صيام دائم - إفراط.
الإفطار دائمًا - تفريط.
الصيام أحيانًا - والفطر أحيانًا - وسط بين الأمرين - وهو المشروع في ضوابطه الشرعيَّة.
__________
(1) - انظر: في ظلال القرآن (1/312).
(2) - انظر: التفسير القيم ص (226).
(3) - انظر: مدارج السالكين (2/479).
(4) - انظر مدارج السالكين (2/478).
(5) - أخرجه البخاري (6/116). ومسلم بمعناه (2/1020) رقم (1401).(/38)
3- القيام مطلقًا - إفراط.
النوم مطلقًا - تفريط.
القيام والنوم حسب الطّاقة ودون تكلّف - وسط، وهذا هو المشروع.
خامسًا: العدل والحكمة: وتبرز صفة العدل بالنّظر إلى مطالب النّفس وواجبات العبادة، فقد جعل لكلِّ منها نصيبًا، فعدل بين حقّ الرّبّ وحقّ النّفس، ولم يكن في ذلك حيف أو شطط، وحاشاه من ذلك.
أمّا الحكمة: فإنَّه بالنّظر إلى قدرة النَّفس ومدى تحمّلها، وغفلة هؤلاء القوم عن قدرتهم في فورة الحماس والاندفاع، فجاء الرسول، - صلى الله عليه وسلم - يضع الأمور مواضعها، ويجعلها في مسارها الطّبيعي، فإنَّ أحبّ العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه(1) ولو التزم هؤلاء الرّجال بما قالوا لتعبوا عاجلا أو آجلا. ثمَّ إنَّ هذا الفعل نفسه مخالفة لصريح الحكمة وحقيقتها، وذلك أن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، والإصابة في القول والعمل، وهذا هو عين ما وجَّه إليه، - صلى الله عليه وسلم -.
ومن خلال هذا التّطبيق العمليّ لملامح الوسطيَّة في ضوء هذا الحديث، يتَّضح المراد، ممَّا يساعد على فهم الوسطيَّة، واستنباطها في المباحث التالية إن شاء الله.
القرآن يقرر منهج الوسطيَّة
نزل القرآن الكريم هدايةً للنّاس ونورًا، يُخرج به الله من شاء من الظّلمات إلى النور، ولزوم منهج الوسطيَّة عين الهداية، وحقيقتها، ولذلك فقد جاءت الآيات مستفيضةً ترسم منهج الوسطيَّة وتدلّ عليه.
والوسطيَّة ليست محصورةً في جزئية من الجزئيات، بل ولا في ركن من الأركان! وإنما هي منهج متكاملٌ شاملٌ، لا ينفصل بعضه عن بعض، فالإسلام كلّه وسطٌ، ولذلك فهذه الأمَّة هي أمَّة الوسط: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143).
والذين يغفلون عن هذه الحقيقة يغفلون عن جوهر القرآن ومقاصده.
ومن هذا المنطلق جاء القرآن الكريم مقرّرًا لمنهج الوسطيَّة في أبواب العبادات، والاعتقاد، والحكم والتحاكم، وفي باب الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغيرها من الأبواب والمجالات.
والناظر في كتاب الله لا يتلو بضع آيات إلا ويجد فيها ذلك صراحة أو إيماءً.
ولذلك فإن الذين حصروا الحديث عن الوسطيَّة في الآيات التي جاء فيها لفظ (الوسط) أو ما اشتق منه، قصروا الكل على بعض أجزائه، وإلا فإن بعض الآيات التي لم يرد فيها لفظ الوسط جاءت أقوى دلالة على الوسطيَّة من آيات ورد فيها هذا اللفظ.
وبيانًا لهذه الحقيقة وتجلية لها، سنعيش مع كتاب الله متأمّلين بعض ما ورد فيه، تقريرًا لهذا المنهج وتأصيلا له.
وتسهيلا للوصول إلى الهدف، سأذكر كل باب وبعض ما ورد فيه من آيات، معلّقًا على بعض الآيات بما يُبينّ المراد من إيرادها، ودلالتها على المنهج الذي نحن بصدده.
وأنبه إلى نقطتين مهمّتين:
الأولى: أن الآيات التي سأذكرها ليست على سبيل الحصر والاستقصاء، وإنما اكتفيت من الآيات بما كان أكثر دلالة من سواه، لأن المراد، هو بيان تقرير القرآن لمنهج الوسطيَّة، لا الحديث عن كل آية وردت تُقرّر منهج الوسطيَّة.
الثانية: أن الأبواب التي سأذكرها هي أبرز الأبواب التي تصلح منطلقًا للحديث عن هذا المنهج، وبخاصة أن انحراف الناس فيها عن منهج الوسطيَّة أكثر من غيرها، ولا يعني ذلك أن ماعداها ليس مهمًّا.
وهذه الأبواب هي:
1- الاعتقاد.
2- التشريع والتكليف.
3- العبادة.
4- الشهادة والحكم.
5- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
6- الجهاد في سبيل الله.
7- المعاملة والأخلاق.
8- كسب المال وإنفاقه.
9- مطالب النفس وشهواتها.
وقد أجد آية من الآيات تصلح دليلا في أكثر من باب، ولكنّي سألحقها بأقرب هذه الأبواب إليها، مراعاة للاختصار ودفعًا للتّكرار.
وحيث إن هناك عددًا من الآيات الدالة على الوسطيَّة غير داخلة تحت أي باب من هذه الأبواب، فسأجعلها تحت عنوان: (شواهد أخرى)، تكون ختامًا لهذه الأبواب ومكمّلة لها.
وسأفتتح الحديث عن تقرير القرآن لمنهج الوسطيَّة بوقفة مع سورة الفاتحة، في ضوء ما ورد فيها عن هذا المنهج.
ومن الله استمدّ العون وأسأله التّوفيق والسّداد.
وقفة مع سورة الفاتحة
أجد خير بداية لبيان المنهج القرآني في تقرير الوسطيَّة أن أقف مع أمّ الكتاب، حيث إنها من أولها إلى آخرها تقرّر هذه الحقيقة وتؤكدها.
ولكن أبرز آية فيها ناطقة بذلك هي قوله - تعالى – (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6). وما بعدها.
وهذه الآية صريحة في تحديد المنهج الوسط، ذلك أنّه بيّن أن هذا الصرّاط هو صراط الذين أنعم الله عليهم.
قال الطبري: أجمعت الأمَّة من أهل التأويل جميعًا على أنّ الصّراط المستقيم هو الطّريقُ الواضحُ الذي لا اعوجاج فيه، وكذلك ذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك قول جرير الخطفي:
أمير المؤمنين على صراطٍ ... إذا اعوج الموارد مستقيم
قال ابن عباس:
__________
(1) - أخرجه البخاري (1/16). ومسلم (1/542) رقم (785).(/39)
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6) يقول: ألهمنا الطّريق الهادي، وهو دين الله الذي لا عَوَجَ له(1).
ثم قال: وكلّ حائد عن قصد السّبيل وسالك غير المنهج القويم فضالٌّ عند العرب، لإضلاله وجه الطّريق (2).
وقد بيّن الله لنا أن الصّراط المستقيم هو منهج الوسط، حيث قال واصفًا الصراط المستقيم: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة: من الآية7) ومنهج المغضوب عليهم يمثل التفريط، بينما يمثل منهج الضّالين الإفراط، فهما منهجان دائران بين الغلوّ والجفاء.
قال ابن كثير: غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين فسدت إرادتهم، فعلموا الحقّ وعدلوا عنه، ولا صراط الضّالين، وهم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضّلالة، لا يهتدون إلى الحق (3).
وبهذا يتّضح لنا أن هناك ثلاثة سبل: سبيل الذين أنعم الله عليهم، وسبيل المغضوب عليهم، وسبيل الضالين.
ونحن مأمورون بالالتزام بسبيل الذين أنعم الله عليهم، لأنَّه هو الصّراط المستقيم، وهو المنهج الوسط بين طريقين منحرفين، وهما طريقا اليهود والنصارى، وكل طريق منحرف عن منهج الصّراط المستقيم فله حظّ. من أحد هذين السبيلين.
ولأن الاستقامَة تعني الوسطيَّة كما توضحها آية الفاتحة، وكما حرّرت ذلك في مبحث سابق، جاءت الآيات متعدّدة تدعو إلى الاستقامة بأساليب متعدّدة وألفاظ مُتقاربة، وهي تدور بين الخبر والإنشاء. ومن هذا المنطلق، وبعد أن تقرّر أن طريق الاستقامة هو طريق الأمَّة الوسط، فإن كل آية وردت في الاستقامة فهي آية في تحقيق الوسطيَّة والدّعوة إليها.
والآيات في هذا الباب كثيرة جدًّا أذكر بعضًا منها دلالة على المراد، وبيانًا لهذا المنهج.
قال - سبحانه -: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) (هود: من الآية1121). وقال: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (الشورى: من الآية15).
وأجد في هاتين الآيتين ما يستحقّ التّنبيه عليه، ونحن بصدد الحديث عن الوسطيَّة، وذلك أنّه قال في الآية الأولى: (وَلا تَطْغَوْا) (هود: من الآية1121) بعد أن أمر بالاستقامَّة، والطغيان هو مجاوزة الحدّ (4). وهو خروج عن منهج الوسطيَّة إلى الانحراف عن السبيل.
وفي الآية الثانية: قال: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (الشورى: من الآية15) واتباع الهوى خروج عن الاستقامَة، وانحراف عن منهج الوسط.
وتتواصل الآيات في هذا الشأن، ففي سورة البقرة: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة: من الآية142). وفي آل عمران: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (آل عمران: من الآية101). وفي الأنعام: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) (الأنعام: من الآية153). وفيها: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً) (الأنعام: من الآية161). وفي النحل: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النحل:76). وفي الزخرف: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الزخرف:43).
وفي سورة الملك: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الملك:22).
إلى غير ذلك من الآيات، حيث إن كل واحدة منها دالّة على أنّ الصّراط المستقيم هو الطّريق الذي أمرنا باتّباعه واجتناب ما عداه، لأنّه هو طريق الحقّ والعدل والوسط، وما عداه طريق الضّلال والغواية والانحراف عن الصّراط المستقيم، وهاهو الشّيطان يُعلن هذه الحقيقة قائلا كما ذكر الله في سورة الأعراف: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف: من الآية16)، وصدق الله العظيم. إذ يقول: (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأنعام: من الآية39).
وكما بدأنا في آيات الدعوة للاستقامة نختم بها، قال - سبحانه -: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الاحقاف:13).
وفي سورة الجن: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) (الجن:16). وفي التّكوير: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (التكوير:27، 28).
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (1/73،74).
(2) - انظر: تفسير الطبري (1/84).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (1/29).
(4) - انظر: تفسير القرطبي (9/107).(/40)
وهذه الآية نصّ في أنّ القرآن كله دعوة للاستقامة والسير على المنهج الحقّ، قال القرطبيّ: (إِنْ هُوَ) (التكوير: من الآية27) يعني القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) (التكوير: من الآية27) أيْ: موعظة وزجر. (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (التكوير:28) أي يتبع الحق ويُقيم عليه (1).
ومما سبق يتّضح لنا أن سورة الفاتحة وضعَت القاعدة والمنطلق، ورسمَت المنهج وحددت معالمه، ثم جاءت الآيات بعد ذلك مقرّرة لذلك، وداعية إليه.
أولا: الاعتقاد
لقد جاء تقرير القرآن لمنهج الوسطيَّة في العقيدة شاملا ومتكاملا، وذلك أنّ العقيدة هي الأساس، وعليها البناء، فأيّ انحراف فيها يسري على ما سواها ويؤثر فيه.
والعقيدة من أوسع الأبواب وأكملها، حيث تشتمل على الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره، وشرّه.
وكل قسم من هذه الأقسام يشتمل على عدّة موضوعات وأجزاء.
وسأسلك في بيان تقرير القرآن للوسطيَّة - في بعض أبواب الإيمان - المنهج الإجمالي (2). دون الدخول في التفاصيل والجزئيات، لأن ذلك يُؤدي بنا إلى التّفريع والدخول في الجزئيات، مما لا يستلزمه مثل هذا البحث، ولا تدعو الحاجة إليه هنا.
وما سيرد في ثنايا ذلك من جزئيات فليست إلا أمثلة مُختارة للوصول إلى تحقيق المعنى المراد وتقريره.
إن أعظم أصول الإيمان وأعلاها مرتبة هو الإيمان بالله، وتوحيده، توحيده في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته.
ولقد ضلّت طوائف كثيرة في هذا الباب، فهم بين إفراط وتفريط، وغلو وجفاء.
فنجد من الناس - كاليهود - من وصف الله - جل وعلا - بصفات النّقص التي يختصّ بها بعض المخلوقين، وشبهوا الخالق بالمخلوق، فقالوا: إنّه بخيل! وإنّه فقير! وإنّه لما خلق السماوات والأرض تعب فاستراح يوم السبت! إلى غير ذلك من صفات النقص التي لا تليق به - سبحانه - !!.
وجاء آخرون - كالنصارى - فوصفوا المخلوق بصفات الخالق التي يخْتّص بها، فشبّهوا المخلوق بالخالق، حيث قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم. وقالوا: المسيح ابن الله. وقالوا: إن المسيح يخلق، ويرزق، ويغفر، ويرحم، ونحو ذلك (3).
بل هناك من أنكر وجود الله - جلّ وعلا -، وآخرون ادعوا الألوهية كفرعون. (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) (النازعات: من الآية24). وقال: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص: من الآية38).
وجاء القرآن بالمنهج الوسط، وأنكر على كل فريق من هؤلاء وغيرهم ما ارتكبوه في جنب الله - تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا -.
وأزيد الأمور وضوحًا، فأقول:
جاء اليهود فوصفوا الله - جل وعلا - بالبخل والفقر! وهذه الصفات لا تليق بالبشر، فكيف بحق الله تعالى؟! وهذا القول والاعتقاد انحراف في العقيدة وضلال مبين.
فردّ الله عليهم بقوله: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) (آل عمران:181).
روى الطّبريّ بسنده عن ابن عباس، قال: دخل أبو بكر الصِّديق - رضي الله عنه - بيت المدارس، فوجد من يهود ناسًا كثيرًا، قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص، كان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حَبْر يُقال له أشيع، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - لفنحاص: ويحك يا فنحاص، اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم إن محمدًا رسول الله، قد جاءكم بالحق من عند الله، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل، قال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرّع إليه كما تضرّع إلينا، وإنّا عنه لأغنياء، ولو كان عنّا غنيًا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الرِّبا ويعطيناه، ولو كان غنيًّا عنّا ما أعطانا الرِّبا، فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله، فاكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين، فذهب فنحاص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله، إنّ عدوّ الله قال قولا عظيمًا، زعم أن الله فقير، وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، فضربت وجهه، فجحد ذلك فنحاص، وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله - تبارك وتعالى - فيما قال فنحاص ردًّا عليه وتصديقًا لأبي بكر: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) (آل عمران: من الآية181) الآية.
__________
(1) - انظر: تفسير القرطبي (19/343).
(2) - سأقتصر على ركني الإيمان بالله ورسله، لأنهما إذا تحققا على الوجه الصحيح، فتحقق غيرهما من لوازم ذلك.
(3) - انظر: وسطيَّة أهل السنة ص (257).(/41)
وأورد الطّبريّ عددًا من الروايات تُؤكّد سبب هذا النّزول (1). وكذلك لما قال اليهود يد الله مغلولة، نزل قوله - تعالى -: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) (المائدة: من الآية64). وردّ عليهم في قولهم: إنّ الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استراح في اليوم السابع، فقال: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) (قّ:38)(2).
والشاهد أنّ هذه الآيات وأمثالها جاءت لتردّ على هؤلاء وأمثالهم، وفي الوقت الذي جاءت لتردّ على هذا الانحراف فإنها تُقرّر المنهج الحق، وما يجب على المؤمن أن يعتقده في جنب الله - تعالى -.
وكذلك نجد الردّ على من أنكر الألوهية وادّعاها لنفسه في قصة إبراهيم مع نمروذ حيث ذكرها الله في سورة البقرة، فقال - سبحانه -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258).
قال ابن كثير في قوله - تعالى -: (حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ) (البقرة: من الآية258) أي: وجود ربه، وذلك أنّه أنكر أن يكون له إله غيره، كما قال بعده فرعون لملئه: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص: من الآية38)(3).
أما النصارى فقد شبهوا المخلوق بالخالق وأضفوا عليه من الصّفات والخصائص ما لا يليق إلا بالله - عز وجل - فقالوا عن المخلوق كقولهم في عيسى: إنه يخلق ويرزق، ويغفر ويرحم، ويتوب على الخلق، ويثيب ويُعاقب، إلى غير ذلك من خصائص الربوبية، وصفات الألوهية التي لا تكون إلا لله - سبحانه - (4) وهم بهذا القول قد جعلوا المسيح، عليه السلام، إلهًا، فجاء القرآن الكريم ليبينّ انحرافهم وخروجهم عن الصراط المستقيم، فقال - سبحانه -: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (المائدة:17). وقال: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المائدة:73).
ومن ضلال النصارى وانحرافهم أنهم سبّوا الله - عز وجل - وتنقّصوه من الوجه الذي أرادوا به تعظيمه، حيث قالوا: إن المسيح ابن الله. (وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) (التوبة: من الآية30). وقد ردّ الله عليهم وعلى أمثالهم مثل هذا القول وبين أنّه انحراف وضلال، فقال - سبحانه - منزهًا نفسه: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ) (البقرة: من الآية116). وقال: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (مريم:88-93). وقال في سورة الأنعام: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنعام:101).
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (4/194).
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (4/229).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (1/313).
(4) - انظر: وسطيَّة أهل السُنة ص (273).(/42)
وهناك من أرادوا تنزيه الله - جل وعلا - فنفوا عنه أسماءه وصفات الكمال التي وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله، - صلى الله عليه وسلم - فجاءت الآيات الكثيرة التي تثبت لله صفات الكمال وأسماء ذي الجلال، ومنها: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة:2، 3). وقوله: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (الأعراف: من الآية156). وقال: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) (الحشر: من الآية23). (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ) (الفتح: من الآية6). إلى غير ذلك من الآيات.
وخلاصة القول:
إن القرآن جاء ليُبيّن انحراف أولئك المنحرفين، ويرد عليهم ضلالهم، وانحرافهم، ويُقرّر المنهج الحقّ، ويُبيّن ما يجب أن يعتقده المسلم في الله، من الإيمان به - جل وعلا -. (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ) (البقرة: من الآية285). (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ) (البقرة: من الآية136). (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ) (الملك: من الآية29). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) (النساء: من الآية136). (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) (الحديد: من الآية19).
وكذلك يجب أن يثبت لله ما يثبته لنفسه أو أثبته له رسوله، - صلى الله عليه وسلم - وينفي عنه ما نفاه عنه نفسه أو نفاه عنه رسوله، - صلى الله عليه وسلم -.
قال - سبحانه -: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأعراف:180). فالإلحاد في أسماء الله وصفاته خروج عن منهج الوسطيَّة الذي رسمه القرآن وأثبته. (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) (الإسراء: من الآية110). والذين يصفون الله بغير ما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله، - صلى الله عليه وسلم - يُلحدون في آيات الله، وهذا انحراف عن الصّراط المستقيم. (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا )(فصلت: من الآية40).
والله - جل وعلا - له صفات الكمال وأسماء الإجلال: لا يُشبه أحدًا من خلقه، ولا يْشبهه أحد من خلقه. (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: من الآية11).
والآيات في كتاب الله كثيرة جدًّا، جاءت مثبتة ونافية، ومنزهة الله عما يصفه به الواصفون، - تعالى الله عما يقول الجاحدون علوًّا كبيرًا – (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ) (البقرة: من الآية116). (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ) (الأنعام: من الآية100). (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة: من الآية31). (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ) (النحل: من الآية57). (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً) (الإسراء:43). (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر: من الآية67). وصدق الله العظيم. (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (الإخلاص:1-4).
ومما سبق يتضح لنا صفاء عقيدة التوحيد وسلامتها من تأويل المؤولين وجحد الجاحدين، وتشبيه المشبّهين، وأن الجميع قد انحرفوا عن الصّراط المستقيم، نفيًا أو إثباتًا، إفراطًا أو تفريطًا، ولذلك جاءت الآيات تلو الآيات، إثباتًا ونفيًا، وإنكارًا وردًّا وتنزيهًا، لتقرّر المنهج الحق بين الغلوّ والجفاء، والنفي والإثبات، مما يليق به - سبحانه - وتقدّست أسماؤه، وعلا وعزّ شأنه وسلطانه.
ونجد من أصول الاعتقاد الإيمان برسل الله، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وذلك يقتضي إنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إيّاها.
وعند دراسة أحوال الأمم في هذه القضية نجد الاضطراب والتناقض والغلوّ والجفاء.
وكما ذكرنا اليهود والنصارى مثلين للانحراف في باب الإيمان بالله، فسأذكرهما هنا نموذجين - أيضًا - للانحراف في باب الإيمان بالرسل، وذلك لأن القرآن، ذكرهما في مواضع عدة، ولأنهما أشهر أُمتين قبل أمَّة محمد، - صلى الله عليه وسلم -.
ولنأخذ موقف اليهود من أنبياء الله ورسله (1) .
__________
(1) - انظر: في ذلك رسالة وسطيَّة أهل السنة ص (286) وما بعدها.(/43)
1- أنّهم فرّقوا بين الله ورسله، وآمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، بمجرّد التّشهّي والعادة، لا عن دليل قادهم إلى ذلك، فإنه لا سبيل إلى ذلك، بل بمجرّد الهوى والعصبية (1) قال - تعالى -: )إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (النساء:150) وهذا الأمر وإن كان يشترك فيه اليهود والنصارى، ولكنه في اليهود أكثر.
2- أنهم خذلوا أنبياءهم، ونقضوا العهود التي أخذوها عليهم، قال - سبحانه -: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) (المائدة: من الآية12).
وآيات أخذ العهد والميثاق على بني إسرائيل كثيرة جدًا(2) ولكن ماذا كانت النتيجة: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) (المائدة: من الآية13). ونقض العهد والغدر يُنبئ عن مكانة الأنبياء في نفوسهم وعقيدتهم فيهم.
3- أنهم تنقّصُوا بعض الأنبياء والرسل، عليهم الصلاة والسلام، ورموهم بارتكاب كبائر الذنوب، ورموهم بالنقائص والعيوب، والتوراة - المحرفة - مليئة بهذا اللون، وفيها من الخزي والعار ما ينَدى له الجبين.
فنسبوا لهارون، عليه السلام، أنّه صنع لهم العجل الذي عبدوه من دون الله، ورموا نبي الله سليمان، عليه السلام، بأنه في أواخر أيّامه مال إلى ممالأة نسائه على عبادة الأوثان، وبني لهن المعابد والأوثان، وأنّه لم يكن مخلصًا في إيمانه بربه - عز وجل -.
واتهموا نوحًا، عليه السلام، بأنّه كان يشرب الخمر، واتهموا داود ولوطًا، عليهما السلام، بالزنا، إلى غير ذلك من النقائص والتهم التي يقشعرّ لها قلب كل مؤمن (3).
ولا يُستغرب ذلك على أولئك الذين رموا رسولهم ونبيهم موسى، عليه السلام، بالنقائص والعيوب. فقال - سبحانه - مخبرًا عنهم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً) (الأحزاب:69).
4- قتلهم الأنبياء والرّسل، وقد ذكر الله ذلك في القرآن في أكثر من موضع: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (البقرة: من الآية87). وقال: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) (المائدة:70). وقال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (البقرة: من الآية61).
ومن أشهر من قتل اليهود من الأنبياء زكريا وابنه يحيى، عليهما السلام(4).
هذه عقيدة اليهود في أنبياء الله ورسله، والذي ينظر إلى مواقفهم مع موسى، عليه السلام، وهو نبيهم ومنقذهم من فرعون، يجد العجب(5). (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) (الصف: من الآية5). فكل من وقف من الأنبياء والرسل موقف تفريط وجفاء في اليهود أسوة وقدوة.
أمّا النصارى فإن عقيدتهم في الأنبياء والرسل تتلخص في موقفين (6) :
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (2/396).
(2) - انظر: تفصيل ذلك في كتاب العهد والميثاق في القرآن للمؤلف حيث تجد فصلا خاصًّا بذلك.
(3) - انظر: تفصيل ذلك وأدلته في وسطيَّة أهل السنة ص (289).
(4) - انظر: تفسير الطبري 6/284 ووسطيَّة أهل السنة ص (296).
(5) - انظر: تفصيل ذلك في ظلال القرآن تفسير سورة الصف، وكتاب العهد والميثاق في القرآن للمؤلف في فصل نقض بني إسرائيل للعهد.
(6) - انظر: وسطيَّة أهل السنة ص (301).(/44)
الأول: التفريط والجفاء مع أنبياء الله ورسله - عدا عيسى، عليه السلام، فلم يؤمنوا ببعضهم، وكفروا بمحمد، - صلى الله عليه وسلم - - قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (النساء:150). قال ابن جرير - رحمه الله – (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) (النساء: من الآية150) يعني أنهم يقولون: نصدق بهذا ونكذب بهذا، كما فعلت اليهود في تكذيبهم عيسى ومحمد، - صلى الله عليه وسلم - وتصديقهم بموسى وسائر الأنبياء قبلهم بزعمهم، (1) وكما فعلت النصارى من تكذيبهم محمدًا، - صلى الله عليه وسلم - وتصديقهم بعيسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم(2).
وقال - تعالى - مبينًا كفرهم بمحمد، - صلى الله عليه وسلم - (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) (الصف:6).
الثاني: الغلو والإفراط، ويتمثل ذلك في غلوهم في عيسى، عليه السلام، حيث رفعوه فوق المكانة التي جعله الله فيها، وأنزلوه فوق المنزلة التي أنزله الله إياها - زعموا -.
فلم يؤمنوا به عبدًا لله، ورسولا نبيًا، وإنما جعلوه هو الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة !! بل عبدوه من دون الله - عز وجل - وأضافوا إليه من الأفعال والأعمال ما لا يصح إضافته ونسبته إلا إلى الله - عز وجل - (3).
قال - تعالى -: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (المائدة: من الآية72). (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ) (المائدة: من الآية73). (وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) (التوبة: من الآية30).
وقال - صلى الله عليه وسلم - - لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا: عبد الله ورسوله - (4).
وهذان الموقفان - أي موقف اليهود وموقف النصارى - يمثلان مواقف الناس في الأنبياء والرسل في جانب الإفراط والتفريط والغلو والجفاء (5). أمّا الموقف الحق وهو الذي قررّه القرآن وبينه، فإنه بين هذين الموقفين، فهو وسط بين الغلو والجفاء، والإفراط والتفريط، ويمكن تلخيصه فيما يلي:
1- ردّ الله على أولئك الذين انحرفت عقيدتهم في رسل الله وأنبيائه، وردّهم عن الانحراف إلى المنهج الحق تقريرًا لهذا المنهج الذي أمر الله باتباعه والالتزام به، وهو العدل والصواب فيما يجب أن يعتقده المسلم ويعامل به أنبياء الله ورسله.
فقد ردّ الله على الذين فرّقوا بين الله ورسله، وآمنوا ببعضهم وكفروا ببعض، وبينّ خطأ اعتقادهم وضلال طريقهم، فقال - سبحانه -: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً) (النساء:151).
قال القرطبي - رحمه الله -: قوله - تعالى -: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً) (النساء: من الآية151) تأكيد يزيل التوهّم في إيمانهم حين وصفهم بأنهم يقولون نؤمن ببعض، وأن ذلك لا ينفعهم إذا كفروا برسوله، وإذا كفروا برسوله فقد كفروا به - عز وجل - وكفروا بكل رسول مُبشرٍ بذلك الرسول، فلذلك صاروا الكافرين حقًا (6).
أمّا الذين نقضوا العهود والمواثيق التي أخذها الله عليهم بالإيمان بالرسل ونصرتهم، فقد قال - سبحانه - مبينًا عاقبة جريرتهم: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) (المائدة: من الآية13). وقال في موضع آخر مبينًا عاقبة نقض العهد والميثاق: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد:25).
__________
(1) - تحفظ الطبري - رحمه الله - في مكانه، لأنهم في الحقيقة لم يؤمنوا بهم جميعًا.
(2) - انظر: تفسير الطبري (9/351).
(3) - انظر: وسطيَّة أهل السنة ص 301.
(4) - أخرجه البخاري (4/142) وأحمد (1/23، 24، 47، 55).
(5) - قد تكون هناك مواقف لبعض اليهود تتشابه مع موقف النصارى، كقول بعضهم "عزيز ابن الله" وكذلك قد تكون هناك مواقف لبعض النصارى تشابه موقف اليهود، كخذلان بعضهم لعيسى وعدم نصرته، والعبرة بالموقف لا بالأشخاص سواء أكانوا من اليهود أم النصارى أم المشركين أم غيرهم.
(6) - انظر: تفسير القرطبي (6/5).(/45)
والذين كفروا بالأنبياء، وفرّقوا بينهم قد نقضوا عهد الله وخانوا مواثيقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل.
قال القرطبي: (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) (الرعد: من الآية25) أي: من الأرحام، والإيمان بجميع الأنبياء(1).
أمّا الذين آذوا الأنبياء، وتنقّصوهم، واتهموهم بأبشع التهم، فقد جاء الردّ عليهم إمّا مباشرًا أو غير مباشر، فالذين اتهموا هارون بأنه أمرهم بالشرك وصنع لهم العجل، قال الله مبرءا هارون: (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (طه:90).
وقال عن سليمان (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (صّ: من الآية30).
أما نوح ولوط وداود، عليهم السلام، فقد قال الله عنهم وعن غيرهم من الأنبياء والرسل الذين ذكرهم - سبحانه - في سورة الأنعام: (أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) (الأنعام:89). وقال بعد ذلك مزكّيًا لهم وآمرًا رسوله، - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدى بهم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: من الآية90). وقال عن نوح: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً) (الإسراء:3). وقال عن داود: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (صّ: من الآية17).
أما الذين قتلوا الأنبياء والرسل فماذا كانت عاقبتهم جزاء انحرافهم عن الطريق السوي؟ تجيب هذه الآيات على هذا السؤال: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (البقرة: من الآية61). وقال - سبحانه -: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (آل عمران:21).
وكذلك نجد ردّ الله على النصارى وغلّوهم في عيسى عليه السلام، حيث حكم عليهم بالكفر واللعن، قال - سبحانه -: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (المائدة: من الآيتين17،72). وقال: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المائدة:73).
وقال - سبحانه -: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة:30).
2- إن الحكم على الانحراف وبيانه وسيلة مباشرة للوصول إلى الطريق الصحيح، والمنهج المستقيم، فبعد بيان خطأ هؤلاء الذين انحرفت عقيدتهم وضلوا في رسل الله نأتي إلى بيان المنهج الحق في أنبياء الله ورسله، كما قرره القرآن الكريم، ودعا إليه في أكثر من موضع.
قال - تعالى -: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:136).
قال قتادة: أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا ويصدّقوا بأنبيائه ورسله كلهم، ولا يفرقوا بين أحد منهم(2).
وقال سبحانه: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (البقرة: من الآية285).
وبين الله عبودية الأنبياء والرسل فقال سبحانه: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً) (الإسراء:3). وقال: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) (صّ:45).
__________
(1) - انظر: تفسير القرطبي (9/314).
(2) - انظر: تفسير الطبري (1/568).(/46)
أمّا عيسى فقد بينّ الله المنهج الحق فيه فقال: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) (النساء: من الآية172). وقال: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ) (المائدة: من الآية75) وقال: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) (النساء: من الآية171) (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:59).
أمّا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال فيه - سبحانه-:
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) (الإسراء: من الآية1). وقال: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) (النجم:10). وقال له الله - عز وجل - (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) (الأنعام: من الآية50).
وقال مبينًا حق رسوله على أمته: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) (الفتح: من الآية9). وقال: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: من الآية157). وقال: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (المائدة: من الآية92). وبينّ الله بشرية الأنبياء والرسل، فقال: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (الكهف: من الآية110). وقال: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) (إبراهيم: من الآية11). وقال: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) (الإسراء: من الآية93). ومما يرسم منهج التوسط في الأنبياء قوله - سبحانه -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً) (الرعد: من الآية38). وقال منكرًا على المشركين قولهم في محمد، - صلى الله عليه وسلم - (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان: من الآية7). فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان: من الآية20).
ومما سبق من الآيات اتضح لنا منزلة الأنبياء والرسل، وعلوّ مقامهم، والمنهج الحق فيهم، فلا يجوز الغلو فيهم مع الغالين قال، - صلى الله عليه وسلم - - لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله - (1). وقال، - - صلى الله عليه وسلم - - يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستجرينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، ورسول الله، والله ما أحبّ أن ترفعوني فوق ما رفعني الله - عز وجل - - (2).
وكذلك لا يجوز الحطّ من قدرهم أو انتقاصهم، بل يجب احترامهم والإيمان بهم وعدم التفريق بينهم، وكذلك يجب توقيرهم وحفظ جنابهم، فهم صفوة الخلق وأرفعهم مكانة ومنزلة. (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: من الآية90).
إن ما ذكرته من تقرير الإسلام لمنهج الوسطيَّة في باب الإيمان بالله ورسله دليل عملي على ما عداه من أبواب الاعتقاد، كالإيمان بالملائكة والكتب واليوم الآخر وبالقدر خيره وشرّه.
وكما ذكرت سابقًا فليس المراد هو استقصاء ما ورد في ذلك، وإنما المراد إرساء قواعد الوسطيَّة وبيان أنّها منهج إلهي، فمن انحرف عنها فقد ضلّ سواء السبيل.
ولذلك جاء قوله تعالى في سورة المائدة: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة:77).
بل قال قبل ذلك في سورة النساء: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) (النساء: من الآية171). وهاتان الآيتان جاءتا في سياق تقرير مسألة من مسائل الاعتقاد، وهي قضية اعتقاد النصارى في عيسى ابن مريم، عليه السلام، كما سبق بيانها.
__________
(1) - أخرجه البخاري (4/142) وأحمد (1/23، 24، 47، 55).
(2) - أخرجه أحمد (3/241) واللفظ له، وأبو داود (4/254) رقم (4806) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (4418).(/47)
وفي إطار تقرير منهج الوسطيَّة في العقيدة يأتي قوله - تعالى – (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (البقرة: من الآية130). وملّة إبراهيم، عليه السلام، هي الملة الحنيفيَّة السمحة لا إفراط فيها ولا تفريط.
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: فمن ترك طريقه هذا ومسلكه وملته واتبع طرق الضلالة والغي فأيّ سفه أعظم من هذا؟! قال أبو العالية وقتادة: نزلت هذه الآية في اليهود، أحدثوا طريقًا ليست من عند الله، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه، ويشهد لصحة هذا القول قوله - تعالى -: )مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران:67)(1).
وفي سورة يونس (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) (يونس: من الآية105). قال ابن كثير: أي أخلص العبادة لله وحده، (حَنِيفاً) (يونس: من الآية105) أي منحرفًا عن الشرك، ولهذا قال: (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يونس: من الآية105)(2).
وفي يوسف: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف: من الآية40). قال ابن كثير في تفسيرها: أي هذا الذي أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلاص العمل له هو الدين المستقيم الذي أمر الله به(3).
وخلاصة القول:
إنّ الآيات جاءت متوالية متتالية، تقرّر حقيقة الوسطيَّة في باب الاعتقاد، اطّرادًا مع منهج القرآن في تقريره ذلك في جميع الأبواب - كما سيأتي -.
ولولا خوف الإطالة لذكرت أمثلة تُؤكّد هذه الحقيقة وتبينها، ولكن لا أظن أنّها بعد ذلك تحتاج إلى بيان أو تأكيد.
وأشير إلى أنني اقتصرت على بابي الإيمان بالله ورسله، دون سواهما من أبواب الإيمان، لأنه إذا تحقّق الإيمان بالله ورسله على الوجه الصحيح فإن ذلك يستلزم تحقق بقية الأركان لا محالة، والحمد لله رب العالمين.
ثانيًا: التشريع والتكليف
سبق أن ذكرت أنّ ملامح الوسطيَّة اليسر، ورفع الحرج، وهذا أمر قرّره القرآن في أكثر من موضع، كقوله - تعالى -: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78). وقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185). وقوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286) وما ذكرته هناك متّصل بما سأذكره هنا في تقرير هذه القضية.
وسأجعل الحديث عن تقرير القرآن لمنهج الوسطيَّة في التشريع والتكاليف في فقرات متتالية، ليسهل تحرير القضية واستيعابها.
1- امتنّ الله على هذه الأمَّة في الكتاب العزيز بأن وضع عنها الإصر والأغلال التي كانت على من قبلها، ولم يحملها ما حَمَّل من قبلها، فكان ذلك مظهرًا من مظاهر وسطيَّة هذا الدّين.
يقول - تعالى - في وصف نبيه محمد، - صلى الله عليه وسلم - في كلامه - عز وجل - مع قوم موسى، عليه السلام: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: من الآية157). كما أن من جملة دعاء رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين: (رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا)(البقرة: من الآية286). وقد جاء في الحديث: "قال الله: قد فعلت". وفي رواية: "قال: نعم" (4).
والإصر هو العهد الثقيل الذي في تحمّله أشدّ المشقّة.
والأغلال هي الشّدائد التي كانت في عبادتهم.
روى الطبري عن الربيع قوله - تعالى -: (رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) (البقرة: من الآية286) يقول: التّشديد الذي شدّدته على من قبلنا من أهل الكتاب.
وقال مالك: الإصر: الأمر الغليظ(5).
وقال سعيد: الإصر: شدّة العمل(6).
وقال مجاهد: من اتبع محمدًا ودينه من أهل الكتاب، وضع عنهم ما كان عليهم من التّشديد في دينهم (7).
قال الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الإصر: هو العهد، وأن معنى الكلام: ويضع النبي الأمّي العهد الذي كان الله أخذ على بني إسرائيل من إقامة التوراة، والعمل بما فيها من الأعمال الشّديدة، كقطع الجلد من البول، وتحريم الغنائم، ونحو ذلك من الأعمال التي كانت مفروضة عليهم، فنسخها حكم القرآن (8).
وفي آيتي البقرة والأعراف إشارة إلى أنه، عليه السلام، قد جاء بالتيسير والسّماحة والوسطيَّة.
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (1/185).
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (2 /434).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (2/479).
(4) - أخرجه مسلم (1/116) رقم (126).
(5) - انظر: تفسير الطبري (3/158).
(6) - انظر: تفسير الطبري (9/85).
(7) - انظر: تفسير الطبري (9/85).
(8) - انظر: تفسير الطبري (9/85).(/48)
قال الجشمي: دلّت آية - الآية الأعراف - على أن شريعته أسهل الشّرائع، وأنه وضع عن أمته كل ثقل كان في الأمم الماضية (1).
وجاء في فوائد أبي عمرو بن مندة بسند صحيح عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: أقرأني النبي، - صلى الله عليه وسلم - "إن الدّين عند الله الحنيفيَّة السّمحة لا اليهودية ولا النصرانية". قال العلائي: وهذا إنما نسخ لفظه وبقي معناه (2).
ولبيان وسطيَّة الإسلام في التّكاليف في ضوء ما شرعه الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، - صلى الله عليه وسلم - أذكر نماذج من الأحكام التي جاءت في التوراة التي بين أيديهم، يتبيَّن منها الأغلال والآصار التي كانت عليهم (3).
جاء في سفر الخروج في الإصحاح الحادي والعشرين:
"من شتم أباه وأمه يُقتل قتلا. إذا نطح ثور رجلا أو امرأة وكان الثور نطاحًا من قبل، وقد أشهد على صاحبه ولم يضبطه فقتل رجلا أو امرأة فالثور يرجم وصاحبه يقتل".
وفي الإصحاح الخامس والثلاثين وفي السفر نفسه: "ولا تأخذوا فدية عن نفس القاتل المذنب للموت بل إنه يقتل".
وفي الإصحاح الحادي عشر من سفر اللاويين: "كل من مسّ حائضًا يكون نجسًا إلى المساء، وكل ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجسًا، وكل ما تجلس عليه يكون نجسًا، وكل من مسّ فراشها يغسل ثيابه، ويستحم بماء، ويكون نجسًا إلى المساء".
وفي الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التثنية: "لا تحرث على ثور وحمار معًا، ولا تلبس ثوبًا مختلطًا صوفًا وكتانًا معًا".
قال الدكتور صالح بن حميد بعد أن ساق هذه النماذج: وأصدق من ذلك وأبلغ قول الحق - تبارك وتعالى - في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه، تنزيل من حكيم حميد: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً) (النساء:160) وقوله - سبحانه - في بيان أنواع من المحرمات عليهم بسبب بغيهم: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) (الأنعام:146).
وكل ذلك ساقه الله في كتابه لبيان ما امتنّ به على هذه الأمَّة من التخفيف، والتيسير والتسهيل، ونعت نبيه، - صلى الله عليه وسلم - بأنَّه: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: من الآية157).
وقد ذكر علماؤنا - رحمهم الله - شيئًا من الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا، منها: قطع موضع النجاسة من الثوب أو منه، ومن البدن، وإحراق الغنائم، وتحريم السبت، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتعيّن القصاص في العمد والخطأ من غير شرع الدّية، وأمروا بقتل أنفسهم علامة على التوبة، وطلب منهم أداء ربع المال في الزكاة، وعدم جواز الصلاة إلا في البيعة، وحرمة الجماع في أيّام الصوم بعد العتمة والنّوم، وحرمة الطعام بعد النوم، وعدم التّطهير بالتيمم، وكتابة ذنب الّليل بالصّبح على الباب. (4).
ومما سبق يتّضح دلالة آيتي البقرة والأعراف على تقرير منهج الوسطيَّة في التّشريع والتّكليف.
2- وردت آيات كثيرة تُبيّن أن الله لا يُكلّف نفسًا فوق طاقتها، ولا يُكلّف نفسًا إلا وسعها وقدرتها، قال - تعالى -: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286). (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا) (الطلاق: من الآية7). وقال: (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية233) وقال - جل في علاه -: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (الأنعام: من الآية152) وقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (الأعراف: من الآية42) وقال تعالى: (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ) (المؤمنون: من الآية62).
وعلى الرغم من أن قوله - تعالى -: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286) ظاهر الدلالة على عدم التّكليف إلا في حدود القدرة والميسرة، إلا أن الله - سبحانه وتعالى - قد أعقب هذه الجملة بدعاء على لسان عباده المؤمنين، يُبيّن فيه أن ما امتنّ عليهم من عدم المؤاخذة بالخطأ والنّسيان، وحطّ الآصار والأغلال، وعدم التّكليف بما لا يُطاق، وقد انتظم ذلك في ثلاثة أمور:
__________
(1) - انظر: تفسير القاسمي (7/2882).
(2) - انظر قواعد العلائي لوحة (27)، نقلا عن رفع الحرج في الشريعة ص (158).
(3) - انظر لما سيأتي: رفع الحرج في الشريعة ص (158).
(4) - انظر: لكل ما سبق كتاب رفع الحرج في الشريعة ص (158) وما بعده.(/49)
الأول: قوله - تعالى -: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة: من الآية286).
الثاني: قوله: (رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) (البقرة: من الآية286).
الثالث: قوله - تعالى -: (رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) (البقرة: من الآية286). قال البقاعي تعليقًا على هذه الآية: وقد عرف الله عباده المؤمنين مواقع نعمه من دعاء رتّبه على الأخف فالأخف على سبيل التعلي، إعلامًا بأنه لم يؤاخذهم بما اجترحوه نسيانًا، ولا بما قارفوه خطأ، ولا حمل عليهم ثقلا، بل جعل شريعتهم خفيفة سمحة، ولا حمّلهم فوق طاقتهم، مع أنَّه له جميع ذلك، وأنَّه عفا عنهم في سترهم فلم يخجلهم بذكر سيئاتهم.(1).
قال الدكتور/ صالح بن حميد معلّقًا على آيات عدم التّكليف بما لا يُطاق: ولاشكّ أنّ الأحكام الشّرعية إذ كانت مطلوبة في حدود الوسع والاستطاعة دون بلوغ غاية الطّاقة، ففي ذلك الدّلالة الظّاهرة على أن الحرج مرفوع، وأنَّ الشريعة مبنية على التيسير، وعدم التعسير، فهي حنيفيَّة سهلة سمحة (وسطيَّة)، فلله الحمد والمنَّة(2).
وقال الإمام الطبري: يعني بذلك - جلّ ثناؤه -: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286) فيتعبدّها إلا بما يسعها، فلا يضيّق عليها، ولا يجهدها(3).
ففي كلام الطبري - رحمه الله - الدّلالة على أن هناك تكليفًا وأمرًا بالتعبد، ولكنه في حدود الوسع والطاقة، لا تضييق فيه ولا إجهاد، وهذه حقيقة الوسطيَّة.
وقال رشيد رضا في تفسير قوله - تعالى -: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: من الآية286) ولا يُحاسبها إلا على ما كلّفها، والتّكليف هو الإلزام بما فيه كلفة، والوسع ما تسعه قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر، وقال بعضهم: هو ما يسهل عليه من الأمور المقدور عليها، وهو ما دون مدى طاقته.
والمعنى: أنَّ شأنه - تعالى - وسنته في شرع الدّين ألا يُكلّف عباده ما لا يطيقون (4).
وخلاصة القول: إنّ هذه الآيات تُقرّر منهج الوسطيَّة في التكليف، فهناك أوامر ونواهي، ولكنها في حدود الوسع، وعدم المشقّة، وليس فيها تضييق وعسر وإحراج.
3- ومما يؤكّد ويقرّر منهج الوسطيَّة في التشريع والتّكليف الآيات التي وردت برفع الحرج، كقوله - تعالى -: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (المائدة: من الآية6). وقوله: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78). وقوله: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ) (الأحزاب: من الآية38).
ومثل ذلك الآيات التي جاءت تنفي الحرج عن فئة معينة، كقوله - تعالى - في سورتي النور(5) والفتح: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) (الفتح: من الآية17). وبعد أن بيّن - سبحانه - جواز الزواج من زوجة الابن المتبني حيث زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زينب بعد طلاق زيد لها، قال - سبحانه -: (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) (الأحزاب: من الآية37).
قال الدكتور/ صالح بن حميد: إن رفع الحرج، والسّماحة والسهولة راجع إلى الوسط والاعتدال، فلا إفراط ولا تفريط، فالتنطع والتّشديد حرج في جانب عسر التكاليف، والإفراط (6) والتقصير حرج فيما يؤدي إليه من تعطل المصالح وعدم تحقيق مقاصد الشرع.
قال - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). فالتوسط هو منبع الكمالات، والتّخفيف والسّماحة ورفع الحرج على الحقيقة هو في سلوك طريق الوسط والعدل.(7).
قال المفسّرون في آيتي المائدة والحج: إن الله - سبحانه وتعالى - ما كلّف عباده ما لا يطيقون، وما ألزمهم بشيء يشقّ عليهم إلا جعل الله لهم فرجًا ومخرجًا.
ولقد كانت الشّدائد والعزائم في الأمم، فأعطى الله هذه الأمَّة من المسامحة واللين ما لم يعط أحدًا قبلها، رحمة من الله وفضلا.
يقول ابن العربي: ولو ذهبت إلى تعديد نعم الله في رفع الحرج لطال المرام (8).
قال الطوفي الحنبلي: إن الله - تعالى - لم يشرع حكمًا إلا وأوسع الطريق إليه ويسره، حتى لم يبق دونه حرج ولا عسر.
__________
(1) - انظر: تفسير القاسمي (3/733)، وانظر: لما سبق كتاب رفع الحرج في الشريعة ص (71).
(2) - انظر: رفع الحرج في الشريعة ص (73).
(3) - انظر: تفسير الطبري (3/154).
(4) - انظر: تفسير المنار (3/145).
(5) - الآية: (61).
(6) - الصحيح: والتفريط، ولعله خطأ مطبعي.
(7) - انظر: رفع الحرج في الشريعة ص (13).
(8) - انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/1293) ورفع الحرج في الشريعة ص (60).(/50)
وقال: ويحتج بهذه الآية ونحوها من رأى أنه إذا تعارض في مسألة حكمان اجتهاديان خفيف وثقيل يرجح الخفيف دفعًا للحرج(1).
ويقرّر ذلك الكيا الطبري حيث يقول: ويحتج به في نفي الحرج والضّيق المنافي ظاهره للحنيفيَّة السّمحة. وقد علّق على ذلك القرطبي بقوله: وهذا بيّن(2).
وقال رشيد رضا في تفسير آية المائدة:
ولما بيّن فرض الوضوء وفرض الغسل، وما يحلّ محلهما عند تعذّرهما أو تعسرّهما، تذكيرًا بهما ومحافظة على معنى التعبّد فيهما - وهو التيمم - بيّن حكمة شرعهما لنا مبتدئًا ببيان قاعدة من أعظم قواعد هذه الشّريعة السمحة. فقال: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (المائدة: من الآية6). أي: ما يُريد الله ليجعل عليكم فيما شرعه لكم في هذه الآية - ولا في غيرها أيضًا - حرجًا ما. أي: أدنى ضيق وأقل مشّقة، لأنه - تعالى - غنّي عنكم، رءوف رحيم بكم، فهو لا يشرع إلا ما فيه الخير والنفع لكم(3).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78). أي ما كلّفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء يشقّ عليكم إلا جعل الله لكم فرجًا ومخرجًا، ولهذا قال، عليه السلام: - بعثت بالحنيفيَّة السمحة - (4). وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن: - بشّر ولا تُنفّرا ويسّرا ولا تُعسّرا - (5). والأحاديث في هذا كثيرة، ولهذا قال ابن عباس في قوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78) يعني من ضيق (6).
وقد اتضح لنا مما سبق أن آيات رفع الحرج دليل واضح وبرهان قاطع على وسطيَّة هذا الدين في تشريعه وتكاليفه.
4- ونواصل ذكر الأدلة من القرآن الكريم في باب التّشريع والتّكليف التي تقرّر منهج الوسطيَّة، وأنه سمة هذا الدّين، وسرّ من أسرار عظمته، وهذه الآيات هي آيات التّخفيف والتّيسير.
قال - سبحانه -: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185). وقال - جلّ في علاه -: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) (الأعلى:8). وقال: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح:5،6). وقال: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً) (النساء:28).
فهذه الآيات تبيّن أن الله أراد بهذه الأمَّة اليسر والتّخفيف، ونفي إرادة العسر والمشقّة.
وهذه الآيات وإن كان بعضها ورد في سياق قضية خاصة، كالآية الأولى وردت في شأن الرّخصة في الصيام إلا أن المراد منها العموم، كما صرح بذلك غير واحد من المفسّرين، ومثل ذلك آية النساء، فقد وردت في سياق ما أبيح من نكاح الإماء عند العجز عن الحرائر. إلا أن الذي صرح به كثير من المفسّرين أن المراد عموم التّخفيف في الشّريعة، وإرادة التيسير ورفع المشقّة(7).
قال القرطبي: قال مجاهد والضّحاك: اليسر الفطر في السّفر. والعسر: الصّوم في السفر. قال القرطبي: والوجه: عموم اللفظ في جميع أمور الدين، كما قال - تعالى -: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: من الآية78)(8).
وقال رشيد رضا في الآية: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: من الآية185). وهذا تعليل لما قبله، أي: يريد فيما شرعه من هذه الرخصة في الصيام، وسائر ما يشرعه لكم من أحكام، أن يكون دينكم يسرًا تامًّا لا عسر فيه(9).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً) (النساء:28). أي: في شرائعه، وأوامره، ونواهيه، وما يقدره لكم (10).
وقال مجاهد: أي في نكاح الأمَّة، وفي كل شيء فيه يسر (11). ومن هنا نخلص إلى أن آيات التيسير والتّخفيف جاءت لإرساء قواعد هذا الدِّين، وذلك أن الوسطيَّة ركن من أركان ديمومة هذا الدِّين وعالميته.
5- وأختم هذا الباب بذكر بعض الأدلّة العلمية التي تؤكّد وسطيَّه هذا الدين في باب التّشريع والتكليف:
__________
(1) - انظر: الإشارات الإلهية ص (132) مخطوط، ورفع الحرج ص (61).
(2) - انظر: تفسير القرطبي (3/432) ورفع الحرج ص (61).
(3) - انظر: تفسير المنار (6/258).
(4) - تقدم تخريجه ص (110).
(5) - تقدم تخريجه ص (109).
(6) - انظر: تفسير ابن كثير (3/236).
(7) - انظر: رفع الحرج في الشريعة ص (68).
(8) - انظر: تفسير القرطبي (2/301).
(9) - انظر: تفسير المنار (2/164).
(10) - انظر: تفسير ابن كثير (1/479) وتفسير القاسمي (5/1201).
(11) - انظر: تفسير الطبري (5/30).(/51)
(أ) قال - تعالى - في شأن المطلقات: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: من الآية236). وقال: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة:241). والقضية تدور على عدة محاور؛ فإما ألا يكون هناك أي تمتيع للمطلقة، وهذا له آثاره السلبية، وبخاصة على المطلّقة التي ستستقبل حياة جديدة، تحتاج إلى تخفيف وقع الطّلاق وأثره حسّيًّا ومعنويًّا. وإمّا أن يكون هناك تمتيع مغلّظ، وهذا فيه إثقال على الزوج المطلق.
وإما أن تكون هناك متعة يُراعى فيها ظروف الزوج وإمكاناته، مع عدم إهمال حقّ المطلقة في المتعة.
وهذا هو الأمر الوسط الذي أقرّه القرآن، وأصبح شرعًا من لدن حكيم عليم.
(ب) قال - تعالى -: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (البقرة:225). وفي سورة المائدة: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) (المائدة: من الآية89).
وموضوع الحنث في اليمين، إما أن يكون فيه كفارة بإطلاق، أو لا يكون فيه كفارة بإطلاق، أو التفصيل.
والأمر الأول: فيه من المشقّة والعسر ما لا يخفى.
والأمر الثاني: يُؤدّي إلى الاستهانة باليمين، وهو قادح من قوادح الإيمان.
أمّا التفصيل: وهو التفريق بين لغو اليمين الذي يصعب التحرز منها، فهذا معفو عنه، أمّا ما عداه ففيه الكفارة الشّرعية صيانة لليمين والقسم، فهذا هو الأمر الوسط، فلا إفراط فيه ولا تفريط.
(جـ) قال - تعالى - في بيان كفارة اليمين: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) (المائدة: من الآية89).
والوسطيَّة في هذه الآية من ثلاثة وجوه:
1- أنَّ إطعام المساكين يُراعى في نوعية الطعام أو الكسوة الوسط في ذلك، وجعل المقياس الذي يُرجع إليه في اختيار هذا الوسط إطعام الرجل لأهله أو كسوتهم، فينظر في ذلك ويخرج الوسط منه.
وفي هذا تتحقق الوسطيَّة من وجهين - أيضًا -.
الأول: مراعاة الوسط في حق كل إنسان، فلم يؤخذ من أعلى ماله أو أدناه، بل الوسط منه، مراعاة للفقير - أيضًا -.
الثاني: مراعاة الفرق بين حال الغني والفقير والمتوسط، وهذا فيه من معنى الوسطيَّة ما فيه، فلم يأت الحكم بالتسوية بينهم.
2- أنَّه جعل الكفارة تدور على أحد ثلاثة أمور: إمّا الإطعام، أو الكسوة، أو الإعتاق، والحالف مخيّر بينها دون إلزام بواحد منها، وهذا فيه من التوسعة والتيسير ما لا يخفى.
3- إذا لم يجد الحالف أو لم يستطع على أي نوع من هذه الثلاثة انتقل إلى الصيام، وهذه رحمة من الله وتوسعة على عباده.
وبهذا اجتمعت أطراف الوسطيَّة في هذه القضية، وهي قضية جزئية يسيرة، فلا شك أن ما كان أعلى منها وأشدّ كلفة تكون مراعاة الوسطيَّة فيه من باب أولى، لأن الله غني عنًا وعن أعمالنا، ولكن التّشريع ميدان للامتحان والابتلاء، والله بنا رءوف رحيم.
(د) كذلك نلحظ الوسطيَّة في هذا التشريع، قال - سبحانه -: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ) (المائدة: من الآية5). والوسطيَّة تبرز في موضوع الطعام، وموضوع النكاح من أهل الكتاب، مما لا يحتاج إلى شرح أو تفصيل.
(هـ) وكذلك نرى إقرار منهج الوسطيَّة في موضوع الطّلاق وأحكامُه فلم يحرم الطّلاق، ولم يجعله مُتاحًا دون قيد أو شرط أو وصف.
بل إنَّه فرّق بين الحالات التي تبينُ فيها المرأة من طلقة واحدة أو من ثلاث طلقات، وهكذا.
ولا شك أن موضوع الطّلاق وأحكامه من أقوى الأدلة على هذا المنهج الذي روعيت فيه أحوال وأوضاع تتعلّق بالرجل والمرأة والأسرة.
والآيات التي وردت في سورتي البقرة والطّلاق هي البرهان على ذلك.
هذه بعض الأدلّة العملية على الوسطيَّة التي رسمها القرآن، وأكدها في أكثر من موضع في باب التشريع والتّكاليف.(/52)
ومن خلال ما سبق، اتضحت المنطلقات الأساسية التي تُبيّن المنهج الشّرعي في التّشريع والتّكليف، حيث ذكرت أن الله وضع عنّا الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا، وأن الله لا يُكلّف نفسًا فوق طاقتها، بل لا يكلّف نفسًا إلا وسعها، وما آتاها، وآيات رفع الحرج دلالة قويّة على متانة هذا المنهج في وسطيَّة التّشريع، يؤكد ذلك ويقرّره ما صاحب ذلك من يسر ورفع للعسر والمشقة. كل ذلك أوصلنا للحقيقة التي استهدفناها، وبدأنا بها، وهي أنَّ القرآن الكريم عنى عناية تامة في رسم منهج الوسطيَّة وتثبيته.
العبادة (1)
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: - جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي، - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن من النبي، صلى الله عليه وسلم؟ قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر.
فقال أحدهم: أمّا أنا فأصلي الليل أبدًا.
وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر.
وقال آخر: أما أنا فلا أتزوج النساء أبدًا.
فجاء رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني - (2).
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: - دخل النبي، - صلى الله عليه وسلم - المسجد، فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلّقت به، فقال النبي، - صلى الله عليه وسلم - حلّوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد - (3).
وعن عائشة - رضي الله عنها - - أن النبي، - صلى الله عليه وسلم - دخل وعندها امرأة قال: من هذه؟ قالت: فلانة، تذكر من صلاتها، قال: مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملّوا -
وكان أحبّ الدّين إليه ما داوم عليه صاحبه (4).
هذه الأحاديث صريحة في رسم منهج الوسطيَّة في العبادة فالحديث الأول في غاية البيان والوضوح، والحديث الثاني - قصة زينب - قال فيه ابن حجر: فيه الحثّ على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمّق فيها (5) والثالث قال فيه ابن حجر - أيضًا -: "عليكم بما تطيقون": أي اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يُطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلّف ما لا يُطاق (6).
وهذه الأحاديث - وأمثالها - وهي كثيرة جدًّا - جاءت على نسق ما جاء في القرآن في تحديده مسار العبادة في ضوء المنهج الوسط، وتشنيعه على أولئك الذين خرجوا بالعبادة عن مسارها الصحيح.
وقبل أن ألجّ في بيان ذلك الإطار الذي حدّده القرآن الكريم، وأرى أنّ من المناسب ذكر المناهج السائدة فيما يتعلّق بالعبادة تفريطًا وإفراطًا، فأقول:
المنهج الأول: ويمثله اليهود في تفريطهم وجفائهم، فلو نظرنا إلى التوراة - بعد تحريفها - لوجدنا أن تقديس المادة غلب على بنودها، فلا تقرأ في أسفار التوراة ذكرًا للآخرة، حتى ما ورد فيها من وعد ووعيد فإنما هو متعلّق بالدنيا فقط، فلا يعمل الشّخص إلا لتحقيق كسب عاجل، أو خوفًا من عقوبة عاجلة.
بل بالغوا وطبقوا ماديتهم حتى في معرفة الله، فقالوا: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) (النساء: من الآية153). وقالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) (البقرة: من الآية55).
ووفقًا لهذا التصور المادي الدنيوي أغرق هؤلاء في تقديس المحسوسات، واتخذوها طريقًا للرقي، وأصبحت القيم المادية محور الحياة، وتحول الإنسان في نظر هؤلاء إلى آلة تتحرّك، ومعدة تهضم، وكائن يلهو.
وقد وصفهم القرآن الكريم، وبين مدى تعلّقهم بالحياة وحرصهم عليها، فقال - تعالى -: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) (البقرة: من الآية96). أي حياة، حتى لو كانت حياة البهائم ونحوها. وذلك لأنهم يخشون الموت: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) (البقرة: من الآية95). لأنهم ربطوا غايتهم بالدنيا، فعملهم للدنيا، وعبادتهم لمآرب دنيوية: فإذا انتهت الدنيا فقد فاتهم كل شيء.
فهم بهذا أغرقوا في الشهوات، وعبدوا أنفسهم للماديات، فهم كمشركي قريش الذين قالوا: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) (الجاثية: من الآية24)(7).
وهذا المنهج يمثل التفريط في أسوأ صوره وحالاته، ولذلك أمرنا الله أن نستعيذ منه في كل صلاة، ونسأله أن يجنّبنا إيّاه. (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة: من الآية7).
__________
(1) - الحديث عن العبادة سيشمل معناها الخاص والعام.
(2) - تقدم تخريجه ص (59).
(3) - أخرجه البخاري (2 /48)، ومسلم (1/542) رقم (784).
(4) - أخرجه البخاري (2/48)، ومسلم (1/542) رقم (785).
(5) - فتح الباري (3/37).
(6) - فتح الباري (1/102) وانظر: الغلو في الدين ص (78).
(7) - انظر: لما سبق الوسطيَّة في الإسلام د/ زيد الزيد ص (39).(/53)
أما المنهج الثاني وهو المنهج القائم على الروحانيات، وذلك بإعلائها وتمجيدها، وأغرقوا في مفهوم العبادة والرهبنة، ويمثل هذا المنهج النصارى، وهو منهج الإفراط والغلو.
وابتدع النصارى رهبانية قاسية على النفس، تحرّم الزواج، وتكبت الغرائز، وترفض كل أشكال الزينة، وطيبات الرزق، وترى ذلك رجسًا من عمل الشيطان، وبالغوا في العبادة، وأخرجوها عن كيفيتها، وعن المراد منها، وأصبحت رهبانية غالية مشوهة، معذبة للأجساد، ابتدعوها من أنفسهم، بلا حجة أو برهان. (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) (الحديد: من الآية27). ولذلك كانت حالهم ومآلهم: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً) (الغاشية:1-4)(1).
وهذا المنهج يمثل الإفراط والغلو، وهو الوجه الثاني من وجوه الانحراف عن الصّراط المستقيم، ولذلك أُمرنا بأن نسأل الله أن يجنّبنا إياه؛ (وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة: من الآية7).
وأمام هذا الغلو المادي الذي يمثّل التفريط في العبادة، والغلو الروحاني الذي يمثل الإفراط فيها والتفريط في حق البدن، جاء الإسلام ليُصحح المسألة، ويهدي الناس لأقوم السّبل، وأعدل الطّرق، طريق الوسط بين عبادة المادة ونسيان حق الرّوح، وبين إرهاق الروح ونسيان حق البدن، ليعطي كل ذي حقّ حقّه، وفقًا لقوله - تعالى -: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص: من الآية77).
ونجد أن القرآن الكريم قد قرّر هذا المنهج في آيات كثيرة، تنتظم فيما يلي:
أولا: الآيات التي تبيّن انحراف أولئك الذين صرفوا العبادة عن وجهها الصحيح، وذلك مثل قوله - تعالى -: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) (الزمر:64). وقوله: (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ) (النمل:43). وقوله: (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً) (المائدة: من الآية76). وقوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (الزمر: من الآية3). ومثل ذلك قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج:11).
فهذه الآيات وأمثالها ترسم منهج الوسطيَّة في العبادة ببيان انحراف طريق هؤلاء الذين قلبوا العبادة على وجهها الصحيح.
قال ابن كثير في قوله - تعالى -: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) (الحج: من الآية11) قال مجاهد وقتادة وغيرهما: (على حرف) على شك.
وقال غيرهم: على طرف، ومنه حرف الحبل، أي: طرفه، أي: دخل في الدين على طرف، فإن وجد ما يحبه استقر وإلا انشمر(2) .
وانظر إلى قول القرطبي، حيث إن قوله نصّ في دلالة الآية على المراد. قال: (على حرف). على شكّ، قاله مجاهد وغيره. وحقيقته أنه على ضعف في عبادته، كضعف القائم على حرف مضطرب فيه، وحرف كل شيء: طرفه وشفيره وحده، ومنه حرف الحبل، وهو أعلاه المحدّد.
وقيل: (على حرف)، أي على وجه واحد، وهو أن يعبده على السّراء دون الضرّاء، ولو عبدوا الله على الشكر في السّراء والصبر على الضرّاء لما عبدوا الله على حرف.
وقيل: (على حرف). على شرط(3).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) (الزمر: من الآية3). أي ليشفعوا لنا ويقرّبونا عنده منزلة، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجّوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدّهر وحديثه، وجاءتهم الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بردّها والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم لم يأذن الله فيه، ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه(4).
__________
(1) - انظر: الوسطيَّة في الإسلام د/ زيد الزيد ص (41).
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (3/209).
(3) - انظر: تفسير القرطبي (12/17).
(4) - انظر: تفسير ابن كثير (4/45).(/54)
ثانيًا: الآيات التي جاءت تأمر بعبادة الله وحده، وتصف عبادته بالاستقامة، وبأن عبادته هي الكلمة السواء، وغير ذلك مما يدل على أن عبادته هي الطريق الوسط السالم من الانحراف والضّلال: قال - تعالى -: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) (آل عمران: من الآية64). وقال في أكثر من موضع(1) (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (آل عمران:51).
وقال: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99) والآيات التي جاءت تأمر بعبادة الله وحده كثيرة جدًّا، فما من نبي إلا قال لقومه: "يا قوم اعبدوا الله". قال الطبري في قوله تعالى: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) (آل عمران: من الآية64). يعني بذلك - جلّ ثناؤه - قل يا محمد لأهل الكتاب، وهم أهل التوراة والإنجيل - تعالوا: هلمّوا إلى كلمة سواء، يعني إلى كلمة عدل بيننا وبينكم.
والكلمة العدل: هي أن نوحّد الله فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، فلا نشرك به شيئًا(2).
وقال ابن كثير في الآية نفسها: (سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) (آل عمران: من الآية64) أي: عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله: (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) (آل عمران: من الآية64). لا وثنًا ولا صليبًا ولا صنمًا ولا طاغوتًا ولا نارًا ولا شيء، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، هذه دعوة جميع الرسل، (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل: من الآية36)(3).
وقال رشيد رضا: قال الأستاذ الإمام في قوله - تعالى -: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) (آل عمران: من الآية64) لما نكلوا دعاهم إلى أمر آخر، هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء، وهو سواء بين الفريقين، أي عدل ووسط لا يرجح فيه طرف على آخر، وقد فسّره بقوله: (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) (آل عمران: من الآية64) الآية(4).
وبهذا يتضح لنا أن هذه الآية نصّ في الوسطيَّة في العبادة، وهي عبادة الله وحده.
أمّا قوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (آل عمران:51). فقد قال الطبري في معناها: ذلك هو الطريق القويم، والهدي المتين الذي لا اعوجاج فيه (5).
وقال في آية مريم: (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (مريم:36). يقول: هذا الذي أوصيتكم به، وأخبرتكم أن الله أمرني به هو الطريق المستقيم، الذي من سلكه نجا، ومن ركبه اهتدى، لأنه دين الله الذي أمر به أنبياءه (6).
وقال القاسمي:
(فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (مريم: من الآية36) أي: قويم، من اتبعه رشد وهدى، ومن خالفه ضلّ وغوى (7).
وقد سبق أن بيّنت أن الوسطيَّة تعني الاستقامة وأن قوله - تعالى -: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6). من أقوى الأدلة على منهج الوسطيَّة، كما يقرّره القرآن الكريم.
ثالثًا: الآيات التي جاءت في بعض أنواع العبادة في معناها الخاص كالصلاة والدعاء وغيرهما، حيث نجد فيها أمرًا بالتزام منهج الوسط، ونهيًا عن الإضاعة أو الرهبنة، وهو ما يمثل الإفراط والتفريط.
وسأذكر بعض الآيات التي وردت في ذلك، مقتصرًا على ما يُبيّن المراد، مع بيان دلالة الآية على الوسطيَّة.
1- ذمّ الله الإفراط في العبادة والغلو فيها، حيث قال في حق بني إسرائيل من النصارى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد: من الآية27).
قال القاسمي: الرهبانية هي المبالغة في العبادة، والرياضة والانقطاع عن الناس، وإيثار العزلة والتبتل (8).
وقال ابن كثير: "ورهبانية ابتدعوها" أي ابتدعتها أمَّة النصارى. (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) (الحديد: من الآية27) أي: ما شرعناها لهم، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم، (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) (الحديد: من الآية27) أي: فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا ذمّ لهم من وجهين:
__________
(1) - ففي سورة مريم، الآية: (36) (وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم). وفي سورة الزخرف، الآية: (64) (إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم).
(2) - انظر: تفسير الطبري (3/301).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (1/371).
(4) - انظر: تفسير المنار (3/325).
(5) - انظر: تفسير الطبري (3/283).
(6) - انظر: تفسير الطبري (16/85).
(7) - انظر: تفسير القاسمي (11/4137).
(8) - انظر: تفسير القاسمي (16/5698).(/55)
أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله.
الثاني: في عدم قيامهم بما التزموه، مما زعموا أنه قربة يقرّبهم إلى الله - عز وجل - (1).
وهذه الرّهبانية التي ابتدعها النصارى لم يشرعها الله، وهي غلوّ في العبادة، ولذلك كانت النتيجة عدم قدرتهم على المحافظة عليها لمشقّتها وصعوبتها.
وقول الله - جل وعلا -: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) (الحديد: من الآية27) دليل على أن الله لا يشرع ولا يكلّف بما فيه غلوّ ومشقّة، كما سبق بيانه.
ولقد اعترف عدد من متأخري النصارى بخطأ هذا الغلوّ والرهبنة التي ابتدعها أسلافهم، وأنها ليست من دين الله، ونحن لسنا بحاجة إلى ذلك لأن الله قد بين هذا الأمر في كتابه، ولكن هذا الاعتراف له دلالاته التي لا تخفى. وقد ذكر القاسمي بعض هذه الاعترافات تفصيلا، أذكر نتفًا منها(2).
قال صاحب ريحانة النفوس - وهو نصراني-: إنَّ الرهبنة قد نشأت من التوهّم بأن الانفراد عن معاشرة الناس، واستعمال التقشفات والتأملات الدينية، هي ذات شأن عظيم، ولكن لا يوجد سند لهذا الوهم في الكتب المقدسة، لأن مثال المسيح، ومثال رسله يضادانه باستقامة. ثم قال: ونحن نقول بكل جرأة: إنه لا يوجد في جميع الكتاب المقدس مثال للرهبنة، ولا يوجد أمر من أوامره يلزم بها، بل العكس.
وفي كتاب البراهين الإنجيلية ضد الأباطيل البابوية: إن ذم الزيجة خطأ، لأنها عمل الأفضل، لأن الرسول أخبر بأن الزواج خير من التوقّد بنار الشّهوة.
ثم قال: ومن المعلوم أن الطبيعة البشرية تغصب الإنسان على استيفاء حقها، ومن العدل أن نستوفيه - إلى أن قال -: ولذلك نرى كثيرًا من القساوسة والأساقفة والشمامسة، لا بل من البابوات المدعين بالعصمة، قد تكردسوا في هوة الزنا، لعدم تحصنهم بالزواج الشرعي.
ثم قال: فالطريقة الرهبانية هي اختراع شيطاني قبيح، لم يكن له رسم في الكتب المقدسة، ولا في أجيال الكنيسة الأولى.
وختم كلامه - الطويل - بقوله: ولا تتسع الصحف لشرح جميع الأضرار التي وقعت على العالم بسبب الرهبنات.
قال القاسمي معقبًا على ذلك: وهو حجة عليهم منهم (3).
هذه نتيجة الرهبنة والإفراط والغلوّ الذي ذمه الله، فقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) (النساء: من الآية171). وقال: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) (الحديد: من الآية27).
2- وكما ذم الله الغلوّ والرهبنة فقد ذم التفريط والتضييع والإهمال، فقال - سبحانه -: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم:59). قال ابن كثير مبينًا دلالة هذه الآية على الخروج عن منهج الوسطيَّة.
لما ذكر الله - تعالى - حزب السعداء، وهم الأنبياء، عليهم السلام، ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله، وأوامره، المؤدّين فرائض الله، التاركين لزواجره، وذكر أنه (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) (مريم: من الآية59) أي قرون أخر. (أَضَاعُوا الصَّلاةَ) (مريم: من الآية59) وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع، لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء سَيلقَون غيًّا، أي: خسارة يوم القيامة(4).
وقال الشنقيطي في تفسير الآية: فخلف من بعد أولئك النبيين خلف، أي: أولاد سوء.
ثم قال: إن هذا الخلف السيئ الذي خلف من بعد أولئك النبيين الكرام كان من صفاتهم القبيحة أنهم أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات.
ثم قال: فإذا عرفت كلام العلماء في الآية الكريمة، وأن الله توعّد فيها من أضاع الصلاة، واتبع الشهوات، بالغيّ الذي هو الشرّ العظيم، والعذاب الأليم، فاعلم أنه أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله في ذمّ الذين يضيعون الصلاة ولا يحافظون عليها وتهديدهم: )فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) (الماعون:4)
)الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) (الماعون:5)
)الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ) (الماعون:6). وأشار في مواضع كثيرة إلى ذم الذين يتّبعون الشّهوات، وتهديدهم، كقوله - تعالى -: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر:3).
ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة أن الخلف الطيبين لا يضيعون الصلاة، ولا يتّبعون الشّهوات، وقد أشار إلى هذا في مواضع كثيرة من كتابه، كما في سورة المؤمنين في وصف المؤمنين، وكقوله - تعالى -: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات:40، 41).
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4/315).
(2) - انظر: تفسير القاسمي (16/5698).
(3) - انظر: تفسير القاسمي (16/5700).
(4) - انظر: تفسير ابن كثير (3/137).(/56)
3- وبعد أن ذكرت الآيات التي تدل على النهي عن الغلوّ والإفراط أو التفريط والتضييع أذكر بعض الآيات التي تأمر بالتزام الوسط بين الإفراط والتفريط.
قال - تعالى -: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء: من الآية110).
قال ابن كثير:
قال الإمام أحمد (1) حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية ورسول الله، - صلى الله عليه وسلم - متوار بمكة: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) (الإسراء: من الآية110) قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن وسبّوا من أنزله، ومن جاء به، قال: فقال الله - تعالى - لنبيه، - صلى الله عليه وسلم - "ولا تجهر بصلاتك". أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، (وَلا تُخَافِتْ بِهَا) (الإسراء: من الآية110) عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك. (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء: من الآية110) أخرجاه في الصحيحين (2) من حديث أبي بشر جعفر بن إياس به (3).
وقال أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس: نزلت في الدعاء (4).
قال القرطبي:
روى مسلم عن عائشة في قوله - عز وجل - (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) (الإسراء: من الآية110) قالت: أنزل هذا في الدعاء (5). والشاهد أن هذه الآية تأمر بالتوسط بين أمرين منهي عنهما، وهما الجهر الشديد أو المخافتة والإسرار (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء: من الآية110).
وقال - تعالى -: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ )(لأعراف: من الآية205).
قال القرطبي: (ودون الجهر) أي دون الرفع في القول، أي: أسمع نفسك، كما قال: (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء: من الآية110). أي بين الجهر والمخافتة (6).
وقال ابن كثير:
(تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) (الأعراف: من الآية205) أي اذكر ربك في نفسك رغبة ورهبة، وبالقول لا جهرًا، ولهذا قال: (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) (الأعراف: من الآية205). وهكذا يستحب أن يكون الذكر، لا يكون نداء وجهرًا بليغًا (7).
وقال - تعالى – (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: من الآية16).
قال ابن كثير:
أي جهدكم وطاقتكم.
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله - تعالى -: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران: من الآية102). وقال: لما نزلت هذه الآية اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرّحت جباههم فأنزل الله - تعالى - هذه الآية، تخفيفًا على المسلمين: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: من الآية16). فنسخت الآية الأولى(8).
ودلالة الوسطيَّة على هذا القول واضحة جلية.
وأخيرًا: نقف أمام قوله - تعالى - في سورة المزمل: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل:1-4). ثم قال في آخر السورة: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (المزمل: من الآية20).
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (المزمل: من الآية20). أي من غير تحديد بوقت، أي: ولكن قوموا من الليل ما تيسر، وعبر عن الصلاة بالقراءة، كما قال في سورة (سبحان): (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) (الإسراء: من الآية110). أي بقراءتك(9).
وقال القرطبي:
قوله: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) (البقرة: من الآية187). قيل: أي فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم، وأصل التوبة الرجوع، فالمعنى: رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر(10).
وبعد:
فقد اتضح لنا من خلال ما سبق في هذا الباب من آيات أنّ الوسطيَّة أصل في باب العبادة في معناها الخاص والعام، وأن الغلوّ والجفاء، والإفراط والتفريط منفيان عنها كما نفيا عن غيرها.
الشهادة والحكم
__________
(1) - المسند (1/23، 215).
(2) - صحيح البخاري (5/229). ومسلم (1/329) رقم (446).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (3/68).
(4) - انظر: تفسير ابن كثير (3/69).
(5) - انظر: تفسير القرطبي (10/344). وانظر: صحيح مسلم (1/329) رقم (447).
(6) - انظر: تفسير القرطبي (7/355).
(7) - انظر: تفسير ابن كثير (2/281).
(8) - انظر: تفسير ابن كثير (4/376).
(9) - انظر: تفسير ابن كثير (4/438).
(10) - انظر: تفسير القرطبي (19/53).(/57)
سبق معنا في تفسير قوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). أن الرسول، - صلى الله عليه وسلم - فسّرها بقوله: "عدولا"(1). وكذلك فسّرها، - صلى الله عليه وسلم - بالشهادة، حيث ذكر شهادة هذه الأمَّة لنوح، عليه السلام، ثم قرأ، - صلى الله عليه وسلم - (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة: من الآية143). الآية (2).
ولا مُنافاة بين التفسيرين، بل أحدهما مكمّل للآخر، لأن الشهادة المعتبرة عند الله ما كانت عدلا.
ومن هذا المنطلق فقد جاءت آيات كثيرة تبيّن وجوب العدل في الشهادة، وكذلك في الحكم - أيضًا - والشهادة هي إحدى مقدّمات الحكم في كثير من الأحكام، بل في كلها إذا اعتبرنا إقرار المرء على نفسه شهادة، وهو كذلك.
وإذا كان العدل يعني الوسط، كما تقرّر، فإن أمر الله بالعدل في الشهادة والحكم هو أمر وإقرار لمنهج الوسطيَّة، ويتّضح ذلك - تفصيلا - من خلال ما سيأتي - إن شاء الله -:
1- قال - تعالى - في سورة النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء:135). ولنتأمل ما قاله الطبري في تفسيره للآية، فإننا نجد الدلالة البينة في هذه الآية على منهج العدل والوسط، والتّحذير من الحيف والجور واتباع الهوى، وإليك بعض ما قال:
يقول الله لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) (النساء: من الآية135). يقول: ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط، يعني العدل (شُهَدَاءَ لِلَّهِ) (النساء: من الآية135) معناه: قوموا بالقسط لله عند شهادتكم، أو حين شهادتكم (وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) (النساء: من الآية135). يقول: ولو كانت شهادتكم على أنفسكم، أو على والديكم أو أقربيكم، فقوموا فيها بالقسط والعدل، وأقيموا على صحتها بأن تقولوا فيها الحق، ولا تميلوا فيها لغني لغناه على فقير، ولا لفقير لفقره على غني فتجوروا، فإن الله الذي سوّى بين حكم الغني والفقير فيما ألزمكم أيّها الناس من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل أولى بهما، وأحقّ منكم، لأنه مالكهما، وأولى بهما دونكم، فهو أعلم بما فيها مصلحة كل واحد منهما في ذلك، وفي غيره من الأمور كلها منكم، فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليهما.
(فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) (النساء: من الآية135). فلا تتبعوا أهواء أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها، ولكن قوموا فيه بالقسط، وأدّوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها بالعدل لمن شهدتم عليه وله.
والتعبير بالغني والفقير هو في مقام العدو أو القريب كما سيأتي في آيتي المائدة والأنعام، ويمكن استعماله في الوجهين كما يدل عليه كلام الطبري، فقد يكون بعض الناس مع الغني ضد الفقير - وهو الغالب -، وقد يكون البعض مع الفقير لفقره، ضد الغني لغناه، ولكل حالة ما يناسبها.
2- قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: من الآية8).
قال الطبري في معنى الآية: يعني بذلك - جلّ ثناؤه -: يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله، شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم، فتجاوزوا ما حدّدت لكم في أعدائكم لعداوتهم لكم، ولا تقصّروا فيما حدّدت لكم في أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدّي، واعملوا فيه بأمري(3).
وهذا التفسير للآية واضح الدلالة على منهج الوسطيَّة في الشهادة والحكم، ومثل ذلك تفسير ابن كثير، حيث قال في قوله - تعالى -: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) (المائدة: من الآية8). أي: لا يحملنّكم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد، صديقًا كان أو عدوًّا، ولهذا قال: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: من الآية8)(4).
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (2/7). والحديث أخرجه الترمذي (5/190) رقم (2961) وأحمد (3/9) وعندهما "عدلا" بدل "عدولا".
(2) - انظر: تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمَّة وسطًا). في أول هذه الرسالة.
(3) - انظر: تفسير الطبري (6/141).
(4) - انظر: تفسير ابن كثير (2/30).(/58)
وقد جاء قبل هذه الآية قوله - تعالى -: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا) (المائدة: من الآية2).
قال الطبري في تفسيرها: فتأويل الآية إذن: لا يحملنّكم بغض قوم لأن صدوكم عن المسجد الحرام أيها المؤمنون. أن تعتدّوا حكم الله فيهم، فتجاوزوه إلى ما نهاكم عنه، ولكن ألزموا طاعة الله فيما أحببتم وكرهتم(1).
وقال رشيد رضا في تفسيره للآية: وأمّا الاعتداء على من تبغضونهم فلا يُباح لكم وأنتم حلّ، كما أنَّه لا يُباح لكم وأنتم حُرم، وإن كانوا صدّوكم عن المسجد الحرام من قبل، وهذا لا يمنع من الجزاء على الاعتداء بالمثل، لأنه نهى عن استئناف الاعتداء على سبيل الانتقام، فإن من يحمله البغض والعداوة على الاعتداء على من يبغضه يكون منتصرًا لنفسه لا للحق، وحينئذ لا يراعي المماثلة ولا يقف عند حدود العدل(2).
3- ومثل هذه الآية قوله - تعالى -: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)(الأنعام: من الآية152).
قال الطبري: يعني - تعالى ذكره - بقوله: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) (الأنعام: من الآية152) وإذا حكمتم بين الناس فتكلمتم، فقولوا الحق بينهم، واعدلوا، وأنصفوا، ولا تجوروا، ولو كان الذي يتوجه الحق عليه والحكم ذا قرابة لكم، ولا يحملنّكم قرابة قريب، أو صداقة صديق، حكمتم بينه وبين غيره، أن تقولوا غير الحق فيما احتكمتم إليه فيه (3).
وقال القرطبي: قوله - تعالى -: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) (الأنعام: من الآية152) يتضمّن الأحكام والشهادات، (وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام: من الآية152). أي ولو كان الحق على مثل قراباتكم، كما تقدّم في النساء(4).
وقد وقفت متأمّلا لآيتي المائدة والأنعام، فوجدت أن كلا منهما تأمر بالعدل وهو طريق الوسط، ولكن كل آية اختصت بمعنى ليس في الأخرى، فآية المائدة تنهى عن الحيف والجور في حق العدوّ، وأن عداوته وبغضه لا يجوز أن يكون حائلا دون العدل في حقه، شهادة أو حكمًا، فهي تنهي عن الإفراط والغلو بالنسبة لصدور الحكم ضده، وعن التفريط والجفاء بالنسبة لحفظ حقوقه وما يجب له.
أما آية الأنعام فإنها تُحذّر من الميل والإفراط في حقّ القريب، مما يكون سببًا لعدم ثبوت الحق عليه، وهذا غلو منهي عنه، كما تنهى عن التفريط في حق خصمه بسبب القرابة، فإن عدم أداء الشهادة محاباة للقريب فيه تفريط في حق الخصم وضياع للحقوق. ومن هنا فإن هاتين الآيتين بمجموعهما ترسمان خط الوسطيَّة، وترشدان إليه، وتحذران من الحيف والميل سواء أكان إفراطًا أو تفريطًا.
وقد يؤدي بغض العدوّ أو حبّ القريب إلى شهادة الزّور والكذب، فيحكم على العدوّ بما ليس عليه، ويحكم للقريب بما ليس له، وكل هذا خروج عن العدل، ومن الظلم الذي لا يرضاه الله أبدًا.
أمّا آية النساء فإنها جمعت بين المعنيين كما هو واضح من سياقها، وتفسير الطبري لها، وإن كانت لمعنى ما في سورة الأنعام أقرب منها لما في سورة المائدة.
4- ونجد تطبيقًا عمليًّا لمدلول هذه الآيات ما ذكره الله في سورة يوسف في قصة زوجة العزيز مع يوسف، عليه السلام، حين راودته عن نفسه: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) (يوسف: من الآية25). وهنا حدثت المفاجأة (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) (يوسف: من الآية25). وبسرعة مذهلة يدرك المرأة كيد النساء: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (يوسف: من الآية28)، فتقلب الدعوى على يوسف: (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (يوسف: من الآية25). وهذه دعوى خطيرة، ولكن يوسف، عليه السلام، يردّ هذه الدعوى: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) (يوسف: من الآية26)، ووقع العزيز في إشكال في هذه القضية، وبخاصة إذا كانت امرأة، لأن العادة الغالبة أنّ الرجل هو الذي يعتدي عليها، لا أن تعتدي هي عليه، وفي هذه اللحظات الحرجة يأتي الفرج: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (يوسف:26، 27)، إنها شهادة عجيبة تنطق بالعدل والصدق، مع قرابته للمرأة.
فقد وضع أمام العزيز ميزانًا دقيقًا دون حيف أو محاباة، وبدأ بما يتعلّق بالرجل أولا، وما أشبه فعل يوسف، عليه السلام به، عندما بدأ بأوعية إخوته قبل وعاء أخيه، ثم ذكر ما يتعلّق بالمرأة، ويظهر العدل في هذا من خلال ما يلي:
(أ) فعدم كتمانه للشهادة دليل على عدم محاباته للمرأة وهي قريبته.
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (6/69).
(2) - انظر: تفسير المنار (6/129).
(3) - انظر: تفسير الطبري (8/86).
(4) - انظر: تفسير القرطبي (7/137)، و(5/410).(/59)
(ب) البداءة بيوسف وعدم اقتصاره على ما يتعلق بالمرأة يدلّ على أنه لا يحابي يوسف، عليه السلام. وهنا صدر الحكم العادل المبني على شهادة العدل: (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) (يوسف:28، 29).
5- وردت آيات كثيرة تأمر بالعدل، وتنهى عن الهوى، وذلك مثل قوله - تعالى – (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء: من الآية58). وقوله - تعالى - في سورة النحل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل:90)، وكذلك قوله - تعالى - في سورة الأعراف: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) (الأعراف: من الآية29)(1)، وفي سورة (ص): (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (صّ: من الآية26) وقريب من هذه الآية ما جاء في سورة الشورى (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) (الشورى: من الآية15) ونجد في سورة النحل: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) (النحل: من الآية126)، والآيات في مثل هذا المعنى كثيرة ومعلومة، وكلها تأمر بالعدل، وتنهى عن البغي والعدوان، وهذه دلالة الوسطيَّة، والنهي عن الإفراط والتفريط.
6- ومن الأدلة العملية على وجوب التزام العدل وعدم البغي أو العدوان قوله - تعالى - في سورة الإسراء: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً) (الإسراء: من الآية33). فهنا ثلاث حالات - طرفان ووسط -
أ- ضياع حقّ أولياء المقتول، كما يقع في كثير من الأزمنة، وتحمي هذا الضياع أنظمة ودول وبخاصة في عصرنا الحاضر، وبالذّات الدول التي ألغت عقوبة الإعدام، إمّا نظامًا أو واقعًا، وهو الأكثر - وبخاصة إذا كان القاتل شريفًا فهيهات أن يؤخذ الحق منه.
ب- أن يأخذ أولياء المقتول أكثر مما لهم، وهو الإسراف في القتل، وهذا ما كان يجري في الجاهلية، ويوجد في عصرنا الحاضر في بعض المجتمعات التي تأخذ بالثأر، فتقتل غير القاتل دون ذنب إلا أنه من أقرباء القاتل، أو تقتل أكثر من فرد انتقامًا وثأرًا.
ج- أن يقتل القاتل قِصاصًا، أو تؤخذ الدية، أو يكون العفو برضى أولياء القتيل. والحالة الأولى تمثل التّفريط.
والحالة الثانية تمثل التّعدي والإفراط.
والحالة الثالثة هي العدل والوسط.
ولقد نزل القرآن بالحالة الثالثة، فقوله - تعالى -: (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً) (الإسراء: من الآية33) إثبات للحالة الثالثة، ونفي للحالة الأولى، فإثبات الحقّ نفي للتفريط وإضاعة الدم، وقوله: (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) (الإسراء: من الآية33) نهي عن الحالة الثانية، وهي التعدّي والإفراط.
قال الطبري: وأولى التأويلين بالصّواب في ذلك من تأوّل: أنّ السلطان الذي ذكر الله - تعالى - في هذا الموضع ما قاله ابن عباس: من أن لولي القتيل القتل إن شاء، وإن شاء أخذ الدّية، وإن شاء العفو، لصحة الخبر عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال يوم فتح مكة: - ألا ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين بين أن يقتل أو يأخذ الدية - (2).
وقوله: (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) (الإسراء: من الآية33) يقول: فلا تقتل بالمقتول ظلمًا غير قاتله.
وذلك أنّ أهل الجاهلية كانوا يفعلون ذلك، إذا قتل رجل رجلا عمد ولى القتيل إلى الشّريف من قبيلة القاتل فقتله بوليّه، وترك القاتل، فنهى الله - عز وجل - عن ذلك عباده، وقال لرسوله، - صلى الله عليه وسلم - قتل غير القاتل بالمقتول معصية وسرف، فلا تقتل به غير قاتله، وإن قتلت القاتل بالمقتول فلا تمثل به (3).
__________
(1) - العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(2) - أخرجه البخاري (8/38). ومسلم (2/988) رقم (1355).
(3) - انظر: تفسير الطبري (15/81).(/60)
وقال القاسمي: أي ومن قتل بغير حق - مما تقدم – (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ) (الإسراء: من الآية33) الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه. (سُلْطَاناً) (الإسراء: من الآية33) أي: تسلّطًا على القاتل في الاقتصاص منه، أو حجة يثب بها عليه، وحينئذ فلا يُسرف في القتل، أي: فلا يقتل غير القاتل، ولا اثنين والقاتل واحد، كعادة الجاهلية، كان إذا قُتل منهم واحد قتلوا به جماعة، (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً) (الإسراء: من الآية33) تعليل للنهي. يعني: حسبه أنّ الله قد نصره بأن أوجب له القصاص، فلا يستزد على ذلك(1).
وبهذا المثال ومن خلال ما سبق من آيات اتضح لنا منهج الوسطيَّة في الشهادة والحكم، لأن الله أمر بالعدل ونهى عن الظلم والبغي.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
نالت الأمَّة الخيريَّة لأسباب من أهمّها قيامها بواجب الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، واستمرار الخيريَّة مرهون بالأسباب التي نالت بها هذه الدّرجة الرفيعة.
والواقع المشاهد استمرار للواقع الماضي في أنّ هناك فئات كثيرة ضلّت في هذا الباب، فهناك كثيرون جدًّا تركوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو قصّروا فيها تقصيرًا شديدًا، وهؤلاء سلكوا سبيل التّفريط، وآخرون - وهم أقل من أولئك - قاموا بالأمر بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولكنهم لم يعرفوا مراتبه ودرجاته وحدوده، أو لم يلتزموا بها، فوقع كثير منهم في الغلو والإفراط.
والقلّة القليلة - ماضيًا وحاضرًا - من سلك السّبيل المستقيم، والطّريق القويم، والتزم بالمنهج الوسط الذي شرعه الله على لسان رسوله، - صلى الله عليه وسلم -.
وعناية بهذا الركن العظيم، ومن أجل القيام به على الوجه المشروع جاءت الآيات تلو الآيات تبيّن حكمه، وترسم معالمه وحدوده، وتزجر، عن الانحراف به وعنه ذات اليمين وذات الشمال.
وكل هذه الآيات في دلالتها جاءت لتقرّر منهج الوسطيَّة، وتصون هذا الركن عن الانحراف والتبديل، والتضييع والإهمال.
وسأختار بعض الآيات التي تبيّن هذه الحقيقة وتدلّ عليها، في ضوء المنهج الذي سلكته فيما مضى:
1- قال - سبحانه وتعالى -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110).
قال ابن كثير في تفسير الآية: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: من الآية110) يعني خير الناس للناس، والمعنى أنهم خير الأمم، وأنفع الناس للناس، ولهذا قال: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110) - إلى أن قال -: والصحيح ان هذه الآية عامة في جميع الأمَّة كل قرن بحسبه، وخير قرونهم الذين بعث فيهم، - صلى الله عليه وسلم - ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما قال في الآية الأخرى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) أي: خيارًا(2).
والشاهد هنا أن الخيريَّة تعني الوسطيَّة، كما وضّحت ذلك في مبحث (ملامح الوسطيَّة)، ولذلك فلابد أن يكون الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يُحقّق هذه الخاصية، وينطلق من ضوابطها.
2- نعى الله على الذين أضاعوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتركوا الدعوة إلى الله فقال - سبحانه -: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:78، 79).
وقال - سبحانه -: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة:63). وقال - سبحانه -: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران:187). وقال - جل وعلا -: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (البقرة:159).
قال ابن كثير في الآية الأولى: (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) (المائدة: من الآية79). أي: كان لا ينهى أحد منهم أحدًا عن ارتكاب المآثم، والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذّر أن يرتكب مثل الذي ارتكبوه، فقال: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة: من الآية79).
__________
(1) - انظر: تفسير القاسمي (10/3926).
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (1/391).(/61)
وقال القرطبي: (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ) (المائدة: من الآية79) أي لا ينهى بعضهم بعضًا. ) لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة: من الآية79) ذم لتركهم النهي، وكذا من بعدهم يذم من فعل فعلهم (1).
وقال الطبري في الآية الثانية: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ) (المائدة: من الآية63). هلاّ ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان وأكل الرشاء في الحكم من اليهود من بني إسرائيل ربانيوهم، وهم أئمتهم المؤمنون، وساستهم العلماء بسياستهم وأحبارهم، وهم علماؤهم وقوادهم.
(لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)(المائدة: من الآية63) وهذا قسم من الله أقسم به، يقول - تعالى ذكره -: أقسم: لبئس الصنيع كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار في تركهم نهي الذين يسارعون منهم في الإثم والعدوان، وأكل السّحت، عما كانوا يفعلون من ذلك، وكان العلماء يقولون: ما في القرآن أشدّ آية توبيخًا للعلماء من هذه الآية، ولا أخوف عليهم منها، ثم روي عن ابن عباس قوله: ما في القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الآية.
وكذلك روي عن الضّحاك قوله: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، إنّا لا ننهى (2).
وقال القرطبي: ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر، فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف، والنهي المنكر (3).
وقال ابن كثير في الآية الثالثة: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) (آل عمران: من الآية187).
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب.. إلى أن قال: وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم، فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدالّ على العمل الصّالح، ولا يكتمون منه شيئًا(4).
ومعنى الآية الرابعة قريب من معنى هذه الآية(5).
والخلاصة أن هذه الآيات - وأمثالها - جاءت لتبيّن خطورة ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن تضييع هذا الركن وعدم القيام به انحراف عن الصّراط المستقيم.
وهي بهذا تحذّر المؤمنين من سوء عاقبة هذا الأمر، وترشدهم إلى طريق الحق والسلامة والنّجاة.
3- وإذا كان ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، انحراف وخروج عن الصّراط المستقيم، وهو منهج المغضوب عليهم من اليهود وأشباههم، فإن هناك انحرافًا آخر قد لا ينتبه له كثير من الناس، وهو أن يأمر الإنسان وينهى، ولكنه لا يلتزم بما يدعو الناس إليه، وينهاهم عنه، ولذلك جاءت الآيات تبين خطأ هذا المسلك وسوء هذا الفعل.
قال - سبحانه -: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:44).
وقال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2، 3).
وقال - جل وعلا - حكاية عن شعيب، عليه السلام: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ) (هود: من الآية88).
وأنبّه هنا إلى أن الانحراف ليس بأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وإنما لمخالفة فعله قوله (6) قال ابن كثير والغرض أن الله - تعالى - ذمهم على هذا الصنيع، وليس المراد ذمّهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلّف عنهم، كما قال شعيب، عليه السلام: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) (هود: من الآية88)(7).
قال القرطبي في قوله - تعالى -: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (البقرة: من الآية44).
فالتأويل الذي يدلّ على صحته ظاهر التلاوة إذًا: أتأمرون الناس بطاعة الله، وتتركون أنفسكم تعصيه!! فهلا تأمرونها بما تأمرون به الناس من طاعة ربكم، فعيّرهم بذلك، ومقبّحًا إليهم ما أتوا به.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة: من الآية44) أفلا تفقهون وتفهمون قبح ما تأتون من معصيتكم ربكم التي تأمرون الناس بخلافها، وتنهونهم عن ركوبها، وأنتم راكبوها، وأنتم تعلمون أن الذي عليكم من حق الله وطاعته في اتباع محمد والإيمان به، وربما جاء به، مثل الذي على من تأمرونه باتباعه(8).
__________
(1) - انظر: تفسير القرطبي (6/253).
(2) - انظر: تفسير الطبري (6/298).
(3) - انظر: تفسير القرطبي (6/237).
(4) - انظر تفسير ابن كثير (1 /436).
(5) - انظر: تفسير ابن كثير (1/200).
(6) - انظر: القول البين الأظهر للشيخ عبد العزيز الراجحي ص (49).
(7) - انظر: تفسير ابن كثير (1/85).
(8) - انظر تفسير الطبري (1/259).(/62)
قال قتادة: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله، وبتقواه وبالبرّ، ويخالفون، فعيرهم الله (1).
وقال ابن جريج: أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصلاة والصوم، ويدعون العمل بما يأمرون به الناس، فعيّرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشدّ الناس فيه مسارعة (2).
وقال رشيد رضا في قوله: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة: من الآية44) يعني ألا يوجد فيكم عقل يحبسكم عن هذا السّفة، مثل من كانت هذه حاله، كمثل رجل أمامه طريق مضيء نصبت فيه الأعلام والصوى، بحيث لا يضلّ سالكه، ثم هو يسلك طريقًا آخر مظلمًا طامس الأعلام، وكلّما لقي في طريقه شخصًا نصحه ألا يمشي معه، وأن يرجع إلى طريق الهدى الذي تركه(3).
وأختم أقوال العلماء في هذه الآية بما قال عبد الرحمن بن سعدي: فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنقص الكامل أن يتركهما، وأمّا قيامه بأحدهما دون الآخر، فليس في رتبة الأول، وهو دون الأخير (4) - وأيضًا - فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يُخالف قوله فعله، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة (5).
أما آيتا الصف. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2،3). فإنهما وإن كانتا في قضية خاصة كما ذكر المفسرون، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب، كما هو مقرّر عند الأصوليين. ولذلك فإن دلالتها كدلالة أية البقرة: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) (البقرة: من الآية44) الآية.
وقال الطبري في آية هود: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) (هود: من الآية88) يقول:
وما أريد أن أنهاكم عن أمر، ثم أفعل خلافه، بل لا أفعل إلا بما آمركم به، ولا أنتهي إلا عمّا أنهاكم عنه(6).
وقال النّخعي: ثلاث آيات منعتني أن أقصّ على الناس(7) (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (البقرة: من الآية44) ، (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) (هود: من الآية88) ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2)(8).
والشاهد من قول النخعي أن هذه الآيات مدلولها واحد، وهو النهي عن مثل هذا الفعل، وبيان خطورة هذا الانحراف عن الصّراط السّوي.
4- وإذا كان إهمال الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو مخالفة الفعل للقول انحراف عن الصّراط المستقيم، وخروج عن منهج الوسطيَّة، فإن أعظم أنواع الانحراف في هذا الباب هو ما بيّنه الله تعالى في سورة التوبة مما هو من سمات المنافقين وأخلاقهم: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) (التوبة: من الآية67).
قال رشيد رضا: أي أهل النفاق من الرجال والنساء متشابهون فيه وصفا وعملا، كأن كلا منهم عين الآخر، كما قيل:
تلك العصا من هذه العصية ... هل تلد الحية إلا الحية!!
ثم بين هذا التشابه بقوله: (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) (التوبة: من الآية67) المنكر الشّرعي ما ينكره الشّرع ويستقبحه، والمنكر العقلي والفطري ما تستنكره العقول الراجحة، والفطر السليمة، لمنافاته للفضائل، والمنافع الفردية، والمصالح العامَة، والشّرع هو القسطاس المستقيم في ذلك كله.
والمعروف: ما يُقابل المنكر مقابلة تضاد.
ومن المنكر الذي يأمر به بعضهم بعضًا؟ الكذب والخيانة وإخلاف الوعود، والفجور، والغدر بنقض العهود.
ومن المعروف الذي ينهون عنه: الجهاد، وبذل المال في سبيل الله، للقتال وغير القتال (9).
ويقول سيد قطب وهو يفسر هذه الآية ويبين وجه انحراف المنافقين: أما سلوكهم - أي المنافقين - فهو الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وهم حين يأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، يستخفون بهما، ويفعلون ذلك دسًّا وهمسًا، وغمزًا ولمزًا، لأنهم لا يجرءون على الجهر إلا حين يؤمنون. (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (التوبة: من الآية67). فهم خارجون عن الإيمان، منحرفون عن الطّريق، وقد وعدهم الله مصيرًا كمصير الكفار(10).
وبهذا يتّضح لنا أن هذا المسلك أسوأ ألوان الانحراف في باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (1/258).
(2) - انظر: تفسير الطبري (1/258).
(3) - انظر: تفسير المنار (1/296).
(4) - أي دونه بالإثم وشناعة وقبح الفعل.
(5) - انظر: تفسير ابن سعدي (1/82).
(6) - انظر: تفسير الطبري (12/103).
(7) - هذه الآيات يجب أن تكون دافعة للعمل لا للتوقف عن الدعوة، وكلام الإمام من باب بيان عظم شأن هذه الآيات وغفلة الناس عنها.
(8) - انظر: تفسير القرطبي (18/80).
(9) - انظر: تفسير المنار (10/533).
(10) - انظر: في ظلال القرآن (3/1673).(/63)
5- ومن الآيات التي جاءت تحمل الدّلالة الصّريحة على أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، هو الطريق الصحيح، والمنهج الحق، وأنّه لا يستوي من قام به، ومن أهمله وفرّط فيه، قوله - تعالى -:
(لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران:113، 114).
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (لَيْسُوا سَوَاءً ) (آل عمران: من الآية113) أي: ليسوا كلّهم على حدّ سواء، بل منهم المؤمن ومنهم، المجرم، ولهذا قال - تعالى -: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) (آل عمران: من الآية113) أي: قائمة بأمر الله، مطيعة لشرعه، متبعة نبي الله، فهي قائمة يعني مستقيمة(1).
ومفهوم هذه الآية أن الأمَّة التي ليست كذلك، ولم تتصف بهذه الصفات، فهي أمَّة منحرفة ضالة زائغة.
6- والآيات السابقة جاءت مقرّرة أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، هو طريق الخيريَّة والاستقامة، وأن ما عداه طريق الانحراف والضّلالة.
ولكن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يختلف من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام، فليس كل من تصوّر أنّه قام به قد وافق الصّواب في ذلك، فكم من داعية يأمر وينهى - استجابة للآيات الداعية لذلك على وجه العموم - ضلّ في هذا الأمر، ولم يوفّق للمنهج الوسط، وهو المنهج الحق، فقد يتكلّم في مقام يجب فيه السّكوت، وقد يغلظ في حال تجب فيها اللين والرفق، وقد يلين القول فيما لا يجدي فيه إلا الغلظة والشدة، وهكذا.
ولذلك جاءت الآيات تبيّن المنهج القويم في مثل هذا الأمر، وترسم الطريق المستقيم الذي قد يخفى على الكثيرين.
ولصعوبة التفصيل في هذا الأمر، فسأذكر بعض الآيات التي تبيّن هذا المنهج وتدل عليه.
(أ) قال - تعالى -: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: من الآية108).
قال ابن عباس: قالت قريش: يا محمد: لتنتهين عن سبّك آلهتنا، أو لنهجونّ ربك، فنهاهم الله أن يسبّوا أوثانهم. وقال قتادة: كان المسلمون يسبُّون أصنام الكفّار، فيسبّ الكفار الله - عز وجل - عدوًا بغير علم، فأنزل الله هذه الآية(2).
وانظر - رحمك الله - إلى ما قاله القرطبي: قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمَّة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسبّ الإسلام أو النبي، - صلى الله عليه وسلم - أو الله - عز وجل - فلا يحلّ لمسلم أن يسبّ صلبانهم، ولا دينهم، ولا كنائسهم، ولا يتعرّض إلى ما يُؤدي إلى ذلك، لأنه بمنزلة البعث على المعصية(3).
وقال ابن الغرس: إنه متى خيف من سبّ الكفّار وأصنامهم أن يسبّوا الله أو رسوله أو القرآن، لم يجز أن يسبوا ولا دينهم، وهي أصل في قاعدة سدّ الذرائع(4).
وبعد هذا التأصيل لمدلول هذه الآية، أذكر بعض ما قيل حولها فيما يتعلّق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال السيوطي: وقد يستدلّ بها على سقوط وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إذا خيف من ذلك مفسدة أقوى، وكذا كل فعل مطلوب ترتّب على فعله مفسدة أقوى من مفسدة تركه (5).
وفصّل بعض العلماء في المسألة، ومن هؤلاء الحاكم، حيث قال: والذي يجب علينا بيان بغضها، وأنه لا تجوز عبادتها، وأنها لا تضرّ ولا تنفع، وأنّها لا تستحقّ العبادة، وهذا ليس بسبّ، ولهذا قال أمير المؤمنين يوم صفين: لا تسبُّوهم، ولكن اذكروا قبيح أفعالهم (6).
وقال الرازي: وفي الآية تأديب لمن يدعو إلى الدّين، لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب، لأن وصف الجمادات بأنها لا تضرّ ولا تنفع، يكفي في القدح في إلاهيتها، فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها(7).
وأختم هذا الكلام النفيس حول الآية، بما قاله الزمخشري: قال: فإن قلتَ: سبّ الآلهة حق وطاعة، فكيف صحّ النّهي عنه؟ وإنما يصحّ النّهي عن المعاصي؟
قلت: رُبَّ طاعة علم أنها تكون مفسدة، فتخرج عن أن تكون طاعة، فيجب النهي عنها لأنها معصية، لا لأنها طاعة كالنهي عن المنكر، وهو من أجلّ الطّاعات، فإذا علم أنّه يؤدي إلى زيادة الشرّ انقلب معصية، ووجب النّهي عن ذلك، كما يجب النّهي عن المنكر(8).
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (1/397).
(2) - انظر: القولين في تفسير ابن كثير (2/164).
(3) - انظر: تفسير القرطبي (7/61).
(4) - انظر: تفسير القاسمي (6/2463).
(5) - انظر: تفسير القاسمي (6/2463).
(6) - انظر: تفسير القاسمي (6/2463).
(7) - انظر: تفسير الرازي، وتفسير القاسمي (6/2463).
(8) - انظر: الكشاف، وتفسير القاسمي (6/2463).(/64)
ومما سبق يتّضح أن القرآن الكريم قد وضع قاعدة في رسم منهج الوسطيَّة، وأنّ الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وكذلك فمن الحق النظر إلى مآلات الأمور دون الوقوف عند ظواهرها فقط.
(ب) ونقف وقفة أخرى يتضح فيها أنّ الوسطيَّة في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر مسألة نسبيّة تختلف باختلاف ملابساتها والظروف المحيطة بها.
فإن هناك من يرى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجب أن يكون دائمًا باللّين، وخفض الجانب، ويستدلّ بقوله - تعالى -: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه:43، 44)، ووجه استدلاله من الآية: أن فرعون قد بلغ من العتوّ والطغيان والكبر ما لم يبلغه أحد من البشر، حيث ادّعى الألوهية، ومع ذلك يأمر الله بالإنة القول له، والرّفق معه. فإذا كان ذلك مع فرعون، فإن من هو دونه بالجرم والإثم أولى منه بالرّفق واللّين.
وآخرون يرون وجوب الشدّة والإغلاظ في القول مطلقًا، ويستدلّون بقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (التوبة: من الآية73). وقوله سبحانه: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) (التوبة: من الآية123). وقول موسى لفرعون: (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (الإسراء: من الآية102). فيقولون: إن هذه الآيات تدل على وجوب الإغلاظ والشدة مع هؤلاء، وأن اللين يكون مع المؤمنين، لقوله - تعالى -: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر: من الآية88)، وأمثالها.
والحق أن هذه الآيات هي التي تؤكد صحة ما قلته من أن الوسطيَّة مسألة نسبية، تختلف باختلاف ما يحفّ بها من قرائن وأحوال، يجب اعتبارها في مثل هذه المسائل.
والقول الأمثل أنّه يجب النظر في مجموع الأدلة، وعدم الاقتصار على بعضها دون الآخر، فضلا عن ضرب بعضها ببعض - كما يفعل أصحاب الأهواء -.
وهذا المسلك - مسلك النظر في جميع الأدلة - سيؤدي إلى إعمال كل دليل في موضعه، دون إهمال الدليل الآخر أو الغفلة عنه.
ولننظر - الآن - فيما ذكرته من أدلّة كل من الفريقين، فنجد أن أمر الله لموسى وهارون، عليهما السلام، باستعمال الرفق مع فرعون، كان في أول رسالة موسى، عليه السلام، كما يدلّ عليه سياق الآيات في سورة طه، ولذلك جاء الأمر معلّلا برجاء إسلامه وانقياده (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه:44).
قال ابن كثير - بعد أن ذكر أقوال المفسرين في القول اللين -: والحاصل من أقوالهم إن دعوتهما له تكون بكلام رقيق ليّن سهل رفيق، ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ وأنجع، كما قال - تعالى -: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: من الآية125).
قال الحسن البصري: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه: من الآية44) يقول: لا تقل أنت يا موسى وأخوك هارون أهلكه قبل أن أعذر إليه (1).
وقال القاسمي: وظاهر أن الرجاء في (لعله) إنما هو منهما لا من الله، فإنّه لا يصحّ منه، ولذا قال القاضي: أي باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما، أنه يثمر ولا يخيب سعيكما، فإن الراجي مجتهد، والآيس متكلّف.
والفائدة في إرسالهما، والمبالغة عليهما في الاجتهاد - مع علمه بأنه لا يؤمن - إلزام الحجة، وقطع المعذرة، وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من آيات (2).
أمّا آية الإسراء فإنها جاءت في نهاية المطاف مع فرعون، ولما لم تنفع جميع الآيات التي جاء بها موسى، عليه السلام، وهي تسع آيات عظيمة، فلم يكن بد من الإغلاظ له في القول (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (الإسراء: من الآية102). أي هالكًا، فإن الثبور: الهلاك والخسران (3). والدليل على أن هذا الأمر كان في نهاية الأمر معه قوله - تعالى - بعد هذه الآية: (فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) (الإسراء:103).
أمّا قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (التوبة: من الآية73). وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً)(التوبة: من الآية123). فإن هذا كان - أيضًا - في آخر العهد النبوي، حيث إن سورة التوبة من آخر ما نزل من القرآن، وكذلك سورة التّحريم متأخرة.
ومعنى هذا أنّ الرسول، - صلى الله عليه وسلم - قد خاطب المشركين قبل ذلك، ودعاهم إلى الله باللين، واستخدم معهم جميع وسائل الرفق، حتى لم يعد يُجدي معهم إلا السّيف والغلظة.
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (3/153).
(2) - انظر: تفسير القاسمي (11/4182).
(3) - انظر: تفسير القرطبي (10/337).(/65)
وكذلك المنافقون، لم تجد معهم وسائل المهادنة والوعظ، والرفق واللين، فكان لابدّ من الإغلاظ لهم بالقول، كالإغلاظ للكفّار بالسّيف.
وخلاصة القول: إن اللين والإغلاظ، أمران مشروعان، لا يجوز الاقتصار على أحدهما دون الآخر في كل الأحوال، وإنما الحق هو استخدام كل واحد منهما في موضعه. كما قال الشاعر:
ووضع الندي في موضع السيف بالعلا ... مُضرُّ كوضع السيف في موضع الندى
(ج) وأخيرًا نأتي لكلمة الفصل في هذه القضية: إذا كانت الوسطيَّة في هذا الباب تختلف باختلاف الحال والمحلّ، والزّمان والمكان، فما هو الضّابط لذلك؟
والجواب حسمه القرآن الكريم في آية واحدة، حيث قال - سبحانه وتعالى -: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: من الآية125).
فالحكمة هي الضّابط، والفيصل في ذلك، فحيث كانت الحكمة كانت الوسطيَّة، وحيث فقدت فإن هناك انحرافًا إلى ذات اليمين أو ذات الشمال.
ولعلّ من المناسب أن أختم هذا المبحث بتعريف الحكمة كما عرفها العلماء.
قال إبراهيم النخعي: الحكمة: الفهم. وقال زيد بن أسلم: الحكمة: العقل. وقال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله(1).
وقال عبد الرحمن بن سعدي: الحكمة: هي العلوم النّافعة، والمعارف الصّائبة، والعقول المسدّدة، والألباب الرّزينة، وإصابة الصّواب في الأقوال والأفعال.
ثم قال: وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة، التي هي: وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام (2).
وقال ابن عاشور: وفسّرت الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه، بما تبلغه الطاقة، أي: بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض، ولا يغلط في العلل والأسباب (3).
وقال سيد قطب: الحكمة: القصد والاعتدال، وإدراك العلل والغايات، والبصيرة المستنيرة التي تهديه للصّالح الصائب من الحركات والأعمال (4).
وجماع الحكمة في قول ابن القيم: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي(5).
وبعد: فإن منهج القرآن في تقرير الوسطيَّة في باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله واضح جليّ، زادته هذه الأدلة بيانًا وتفصيلا.
وهذا الباب من أهمّ الأبواب - العملية - التي يجب أن يتحرّى فيها الدعاة وطلاب العلم منهج القرآن، ويلتزموا به، حتى لا تزل العقول والأقدام، فيقعوا في الغلو والإفراط، نتيجة الحماس غير المنضبط، أو يقعوا في التّفريط والتّهاون استجابة لرغبات النفس وشهواتها.
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
الجهاد في سبيل الله
الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام (6) وهو ماضٍ إلى أن تقوم السّاعة (7).
ولا عزّة للأمة ولا فخر ولا سؤدد إلا بإقامة هذا الركن العظيم.
وما تركت أمة الجهاد في سبيل الله إلا ذلّت وضعفت، وهانت على الله ومن ثمّ على خلقه.
ولقد انقسم الناس - قديمًا وحديثًا - في موضوع الجهاد في سبيل الله إلى ثلاث طوائف:
1- فطائفة يغلب عليها الحماس، والاندفاع، والإقدام، ومن حرصها على ذلك أفرطت في موضوع الجهاد، ولذلك وقعت في مزالق كبيرة، وكان لهذا الأمر من السّلبيات ما لا يخفى.
2- وطائفة في مقابل هذه الطّائفة، فرّطت في الجهاد في سبيل الله، وتسعى دائمًا لإضاعة وإماتة هذا الرّكن العظيم، وإذا دعا داعي الجهاد، انتفضت خوفًا وفرقًا وذعُرًا، وذهبت تلتمس الأعذار للتخلّف والقعود.
3- أمّا الطائفة الثالثة فهي التي توسّطت بين الطّائفتين، فأحّبت الجهاد، ورغبت فيه، وسعت إليه، ولكن ذلك لم يدفعهم لأن يستعجلوا الشيء قبل أوانه، ولذلك التزموا بالضّوابط الشّرعية في الإعداد للجهاد، وإعلانه، والاستمرار فيه.
__________
(1) - انظر: هذه الأقوال الثلاثة - في تفسير ابن كثير 1/322. ورسالة الحكمة للمؤلف ص (17).
(2) - انظر: تفسير ابن سعدي (1/332).
(3) - انظر: التحرير والتنوير (3/61).
(4) - انظر: في ظلال القرآن (1/312).
(5) - انظر: مدارج السالكين (2/479)، وانظر: لكل ما سبق رسالة الحكمة للمؤلف ص (16) وما بعدها.
(6) - ورد ذلك في حديث أخرجه الترمذي (5/ 13) رقم (2616)، وابن ماجة (2/ 1314) رقم (3973)، قال الترمذي: حسن صحيح.
(7) - ترجم البخاري في الصحيح باب "الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر". وذكر قوله، صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". وقد روى أبو داود (3/ 18): عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة من أصل الإيمان" وذكر منها: "والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، ولا يبطله جور جائر ولا عدل عادل". حديث رقم (2532) وفي إسناده يزيد بن أبي نُشْبَة السُّلمي: مجهول من الخامسة. انظر: التقريب ص (605 (.(/66)
وكذلك إذا دعا داعي الجهاد، لم يقعدوا مع القاعدين، ولم يثّبطوا مع المثّبطين، بل سارعوا إلى إجابة المنادي غير خائفين أو وجلين.
ولقد جاء القرآن يبينّ خطأ الطائفتين، الأولى والثانية: الغالية والجافية، المفْرِطة والمفرّطة، ومن ثمّ يرسم المنهج الحقّ، منهج الطّائفة الوسط، مؤكدًا على خطورة الإفراط والتّفريط، داعيًا إلى الجهاد في سبيل الله، إذا توافرت أسبابه ودواعيه، وتحقّقت شروطه وضوابطه. وسأبيّن أسلوب القرآن في إقرار المنهج الحق، والدّلالة إلى الصّراط المستقيم.
ولنقف مع تشخيص القرآن للطّائفة الأولى:
قال الله - تعالى -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (البقرة:246).
هذه الآية خلّد الله فيها قصة من قصص بني إسرائيل، التي انحرفوا فيها عن السبيل القويم، والطّريق المستقيم.
ها نحن نرى الحماس والاندفاع للجهاد في سبيل الله، ويطالبون نبيهم، عليه السلام، بإعلان الجهاد واختيار قائد يقودهم إليه.
ويأتي نبيّهم، ويسألهم سؤالا يحمل الحقيقة: (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا) (البقرة: من الآية246)؟ وهنا يأتي الجواب الذي يردّده المتحمّسون دائمًا: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) (البقرة: من الآية246) ، وكيف كانت النتيجة: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (البقرة: من الآية246).
وفي ثنايا القصّة وتفاصيلها نعايش مشاهد تبخّر هذه الدّعوى والحماس، وأول ذلك: (قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) (البقرة: من الآية247). وتبدأ رحلة الجهاد، ويبدأ معها تحقق ما قاله نبيهم في خوفه من عدم صدقهم وثباتهم: (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) (البقرة: من الآية249). والنتيجة (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) (البقرة: من الآية249). وبعد ذلك تقول فئة من البقية الباقية: (لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) (البقرة: من الآية249).
وأخيرًا لا يثبت إلا فئة أقل من القليل، ولعل هذه الفئة التي قتلت جالوت، وانتصرت بعد ثباتها لم تكن من أولئك المتحمسين المندفعين، الذين كانوا أول الهاربين والمتخاذلين.
قال القرطبي في قوله - تعالى -: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ) (البقرة: من الآية246). أخبر - تعالى - أنه لما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة، ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب، وأن نفوسهم ربما قد تذهب (تَوَلَّوْا) (البقرة: من الآية246) أي اضطربت نياتهم وفترت عزائمهم، وهذا شأن الأمم الممتنعة، المائلة إلى الدعة، تتمنى الحرب أوقات الأنفة، فإذا حضرت الحرب كعت وانقادت لطبعها.
وعن هذا المعنى نهى النبي، - صلى الله عليه وسلم - بقوله: - لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا - (1) رواه الأئمة.
ثم أخبر الله عن قليل منهم أنهم ثبتوا على النية الأولى، واستمرت عزيمتهم على القتال في سبيل الله - تعالى - (2).
وقال ابن عباس: شربوا على قدر يقينهم، فشرب الكفار شرب الهيم، وشرب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفًا - قيل كان عددهم ثمانين ألفًا - وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئًا، وأخذ بعضهم الغرفة.
وقال ابن عباس والسدي: جاز معه في النهر أربعة آلاف رجل، فيهم من شرب، فلما نظروا إلى جالوت وجنوده، رجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون (3).
وهذا نموذج آخر من نماذج المتحمسين للقتال، الذي أفرطوا في طلبه والسعي إليه، فلما تحقق لهم ذلك خالفت أفعالهم أقوالهم.
وإذا كان المثل الأول كان في بني إسرائيل، فإن هذا المثل في أمة محمد، - صلى الله عليه وسلم - وهذا يؤكد حقيقة مهمة أن ذلك النموذج يتكرر في كل عصر وحين، وها نحن نراه ماثلا أمام أعيننا في زمننا الحاضر.
والحماس هو الحماس، والنهاية هي النهاية، وها هي الآيات تذكر البداية والنهاية:
__________
(1) - أخرجه البخاري (4/9، 24) ومسلم (3/ 1362) رقم (1742).
(2) - انظر: تفسير القرطبي (3/ 244).
(3) - انظر: تفسير القرطبي (3/254). وبالنسبة لعددهم ومقدار من رجع منهم من أخبار بني إسرائيل والمهم أن الأكثر هم الذين رجعوا.(/67)
قال - سبحانه -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (النساء:77).
قال الطبري: ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - كانوا قد آمنوا به، وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد، وقد فرض عليهم الصلاة والزكاة، وكانوا يسألون الله أن يفرض عليهم القتال، فلما فرض عليهم القتال شق عليهم ذلك، وقالوا ما أخبر الله عنهم في كتابه.
روى الطبري بسنده عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أتوا النبي، - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فقال: - إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا فلما حوله الله إلى المدينة أُمر بالقتال فكفوا، فأنزل الله - تبارك وتعالى -: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ - . الآية (1).
ولننظر فيما قاله سيد قطب في هذه الآية حيث يشخص الحقيقة في أدق تصوير، قال:
يعجب الله - سبحانه - من أمر هؤلاء الناس الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال، ويستعجلونه، وهم في مكة يتلقون الأذى والاضطهاد والفتنة من المشركين، حين لم يكن مأذونًا لهم في القتال للحكمة التي يريدها الله.
فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدره الله، وتهيأت الظروف المناسبة، وكتب عليهم القتال - في سبيل الله - إذا فريق منهم شديد الجزع، شديد الفزع، حتى ليخش الذين أمروا بقتالهم - وهم ناس من البشر- كخشية الله، القهار الجبار، أو أشد خشية، وإذا هم يقولون في - حسرة وخوف وجزع -: (رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ) (النساء: من الآية77).
إن أشدّ الناس حماسة واندفاعًا وتهورًا، قد يكونون هم أشدّ الناس جزعًا، وانهيارًا وهزيمة، عندما يجدّ الجدّ، وتقع الواقعة، بل إن هذه قد تكون القاعدة، ذلك أن الاندفاع والتهوّر والحماسة الفائقة - غالبًا ما تكون منبعثة من عدم التقدير لحقيقة التّكاليف، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار، كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال، قلة احتمال الأذى، والضيّق والهزيمة، فتدفعهم قلة الاحتمال إلى طلب الحركة، والدفع والانتصار بأي شكل دون تقدير لتكاليف الحركة، والدفع والانتصار، حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا، وأشقّ مما تصوّروا، فكانوا أول الصف جزعًا ونكولا وانهيارًا، على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت، ويعدّون للأمر عدته، والمتهورون المندفعون المتحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافًا، ولا يعجبهم تمهلهم، ووزنهم للأمور، وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالا، وأي الفريقين - كان - أبعد نظرًا كذلك (2).
إنها الحقيقة التي عبّر عنها سيد - رحمه الله -، تلك الحقيقة التي لا يدركها إلا من عاشها، وذاق مرارة هذا اللون من الاندفاع والحماس، مما نراه ماثلا أمام أعيننا في صنف من الناس، لا يقدرون عواقب الأمور، ويثورون لأقل الأسباب، غافلين عن السنن الربانية، والأحكام الشرعية، والقدرات البشرية، متصورين أن طيبتهم وحسن نيتهم، ومقصدهم تكفي سببًا لانتصارهم.
وكما جاءت آية النساء، فقد جاءت آية الصف، تعالج القضية نفسها، وتبين الحقيقة ذاتها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2،3).
__________
(1) - انظر: تفسير الطبري (5/170). والحديث أخرجه النسائي (6/3) رقم (3086). والبيهقي في السنن (9/11) والحاكم في المستدرك (2/307)، وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي - وانظر: الدر المنثور (2/328).
(2) - انظر: في ظلال القرآن (2/712).(/68)
قال ابن كثير: وحملوا الآية - أي الجمهور - على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم، فلما فرض نكل بعضهم، كقوله - تعالى -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) (النساء: من الآية77) الآية، وهكذا هذه الآية معناها، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2). قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله - عز وجل - دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لاشك فيه، وجهاد أهل معصية الذين خالفوا الإيمان، ولم يقروا به، فما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمر الله، فقال الله - سبحانه -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2)(1).
هذه حقيقة الاندفاع والحماس، عندما لا ينضبط بالضوابط الشرعية ولا السنن الربانية. إنه انحراف عن المنهج الحق، انحراف يمثل الغلو والإفراط، ومن ثم فهو خروج عن المنهج الوسط، المنهج الذي لا يلغي الاعتبارات المتعددة قبل اتخاذ القرار الحاسم، لخطورة هذه القضية وآثارها بعد ذلك.
ولعل في هذه الآيات عظة وذكرى لأولئك المغالين، وعبرة لهؤلاء المتعجلين المندفعين.
إن المنهج الذي يسلكه أولئك لا يؤدي إلى الأهداف التي شرع من أجلها الجهاد، بل قد يكون سببًا لتعطيل الجهاد، أو تأخيره سنوات وسنوات، ومن استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه.
وكما جاءت الآيات تعالج قضية الإفراط والغلو، فقد جاءت تعالج قضية التفريط والتضييع.
فإذا كان أولئك المتحمسون والمندفعون قد خالفوا الصراط المستقيم في قضية مشروعية الجهاد، فإن المثبطين والقاعدين يمثلون الوجه الآخر للانحراف والضلال. وقد جاءت الآيات تلو الآيات تبين خطورة هذه الفئة، وما تحدثه من خلل وانحراف.
قال - سبحانه -: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة:81). ثم يبين الله خطورة ما صنع هؤلاء، يتضح ذلك. من العقوبة القاسية التي أمر الله رسوله، - صلى الله عليه وسلم - أن يعاقب بها هؤلاء جزاء ما صنعوا:
(فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة:83، 84).
وقال - سبحانه -: (وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة:86).
وقال - جل وعلا - مبينًا خطورة القعود عن سبيل الله: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24).
وقال - جل وعلا - مهددًا ومتوعدًا القاعدين عن الجهاد في سبيل الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة:38، 39).
وقال: (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (التوبة:44،45).
وقال: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (التوبة:49).
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4/357).(/69)
وقال - جل ذكره - مصورًا حالة أولئك الذين لا يريدون الجهاد: (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) (محمد: من الآية20).
إلى غير ذلك من الآيات التي تبيّن خطورة هذا المسلك وسوء عاقبة أصحابه في الدنيا والآخرة(1).
ونقف مع تفسير هذه الآيات، وما قيل في معناها، مع الاقتصار على ما تدعو الحاجة إليه: قال الطبري في معنى قوله - تعالى -: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية81) فرح الذين خلفهم الله مع الغزو مع رسوله والمؤمنين، وجهاد أعدائه بمقعدهم (خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية81) يقول: بجلوسهم في منازلهم خلاف رسول الله، يقول: على الخلاف لرسول الله في جلوسه ومقعده وذلك أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالنفر إلى جهاد أعداء الله، فخالفوا أمره، وجلسوا في منازلهم(2).
وقال ابن كثير في قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) (التوبة: من الآية38) الآية. هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك حين طابت الثمار والظلال في شدّة الحرّ وحمارة القيظ (3).
وقال في قوله - تعالى -: (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة: من الآية86).
يقول - تعالى - منكرًا وذامًا للمتخلفين عن الجهاد، الناكلين عنه، مع القدرة عليه ووجود السعة والطول. واستأذنوا الرسول، - صلى الله عليه وسلم - في القعود، وقالوا: (ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة: من الآية86) ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء، وهن الخوالف بعد خروج الجيش، فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس، وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلامًا، كما قال - تعالى - عنهم في الآية الأخرى: (فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ) (الأحزاب: من الآية19)(4).
وقال رشيد رضا في قوله - تعالى -: (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (التوبة: من الآية45) الآية: والمعنى: إنما يستأذنك بالتخلف عن الجهاد الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لأنهم يرون بذل المال للجهاد مغرمًا يفوت عليهم بعض منافعهم به، ولا يرجون عليه ثوابًا كما يرجو المؤمنون.
ويرون الجهاد بالنفسي آلامًا ومتاعب، وتعرضًا للقتل الذي ليس بعده حياة عندهم، فطبيعة كفرهم بالله واليوم الآخر تقتضي كراهتهم للجهاد، وفرارهم منه ما وجدوا له سبيلا(5).
وقال سيد قطب في قوله - تعالى -: (إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (التوبة: من الآية39).
والخطاب لقوم معينين في موقف معين، ولكنه عام في مدلوله، لكل ذي عقيدة في الله، والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده، فهو كذلك عذاب الدنيا، عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح، والغلبة عليهم للأعداء، والحرمان من الخيرات، واستغلالها للمعادين، وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد، ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء.
وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل، فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء.
(وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) (التوبة: من الآية39). يقومون على العقيدة، ويؤدون ثمن العزة، ويستعلون على أعداء الله(6).
هذه بعض الآيات التي جاءت تبين انحراف المثبطين عن الجهاد، القاعدين عنه، الذين وصفهم الله بقوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) (الأحزاب:18).
والنتيجة التي نخلص منها بعد بيان طرفي الانحراف، سواء الذين أفرطوا وغلوا، أم الذين فرطوا وجفوا، تلكم النتيجة هي أن هناك منهجًا وسطًا لا إفراط فيه ولا تفريط.
__________
(1) - تعتبر سورة التوبة السورة التي فضحت المتخلفين عن الجهاد وبينت سوء مصيرهم وحكم الله فيهم.
(2) - انظر: تفسير الطبري (10/200).
(3) - انظر: تفسير ابن كثير (2/357).
(4) - انظر: تفسير ابن كثير (2/380).
(5) - انظر: تفسير المنار (10/469).
(6) - انظر: في ظلال القرآن (3/1655).(/70)
وذلكم أن الجهاد ذروة سنام الإسلام وركن من أركانه، وهو ماض إلى أن يأتي أمر الله، وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلاَّ ذّلوا، وضعفوا، وسلط الله عليهم عدّوهم. والجهاد له شروطه وضوابطه، وأسبابه وموانعه، فإذا توافرت الأسباب وانتفت الموانع، وتحقّقت الشروط وجب أن يُنادي المنادي حيّ على الجهاد، ووجب على القادرين أن يستجيبوا للنداء، فرض عين أو فرض كفاية.
وهذا هو المنهج الوسط الذي جاءت الآيات الكثيرة تدعو إليه وتأمر به وتحث عليه، وجاءت السنة شارحة ومبيّنة، ومفصّلة لأحكام الجهاد، كما جاءت مبينة أحكام السَلم والموادعة والمعاهدات.
وقد عني العلماء - قديمًا وحديثًا - في بيان هذه القضية، وأشبعوها بحثًا وتفصيلا، وهم بذلك لم يدعوا مجالا لانحراف منحرف بدعوى الجهل وعدم الوضوح.
وأخيرًا أختم هذا المبحث بذكر بعض الآيات التي تدعو إلى الجهاد، وتثني على المجاهدين، أولئك الذين لا يتأخرون لحظة إذا دعا داعي الجهاد، وهم كذلك يستجيبون لداعي السلم والموادعة إذا جاء وقتها، وتوافرت أسباب السلم ودواعيه.
قال - سبحانه -: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (التوبة:41). وقال مبينًا صفة المؤمنين إذا دعا داعي الجهاد (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (التوبة:44).
وقال - سبحانه -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) (الأنفال: من الآية65). وقال: (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (النساء: من الآية75).
وهذه بعض الآيات التي تأمر بالقتال:
(وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) (التوبة: من الآية36) (فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ) (التوبة: من الآية12). (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) (التوبة: من الآية29). (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (البقرة: من الآية193). (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال: من الآية39).
وقال مبينًا فضل المجاهدين في سبيل الله:
(الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ) (التوبة:20، 21). (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران:169). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الصف:10، 11).
وأختم هذه الآيات - آيات الجهاد - بهاتين الآيتين:
قال - سبحانه - في سورة النساء: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:95).
وقال - عز وجل - في سورة التوبة: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111).
ومما يؤكد وسطية هذا المنهج استجابتهم لأمر الله بالدخول في السلم، كاستجابتهم لأمره بالقتال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:208). (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (الأنفال: من الآية61)، ولكن السلم لا يعني الاستسلام والذل: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمد:35).(/71)
الأخلاق والمعاملة
سُئلت عائشة - رضي الله عنها - عن خلق رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - فقالت: "كان خلقه القرآن"
وقد أثنى الله على رسوله، - صلى الله عليه وسلم - فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).
أما المعاملة فهي قرينة الأخلاق، حيث إن معاملة المرء نتاج طبيعي لأخلاقه، ولقد رسم القرآن المنهج السوي لما يجب أن تكون عليه أخلاق المسلم ومعاملاته.
وهذا الباب يسوده الغلو والجفاء، ويندر فيه المنهج الوسط، ولذلك فقد عني القرآن الكريم به عناية خاصة، وجاءت الآيات تترى توضح هذا المنهج، وتدعو إليه، وتربي الأمة عليه، وتحذر مما يضاده غلوًا أو جفاء، إفراطًا أو تفريطًا.
ولطول الموضوع وتشعبه، وكثرة الآيات الواردة فيه، نظرًا لتعدد أجزائه ومنطلقاته، فسأقتصر على اختيار نماذج متفرقة تبين عناية القرآن الكريم به، في ضوء المنهج الذي سلكته في هذا البحث، ومن الله استمد العون والتوفيق.
الكبر والطغيان خلق ذميم، ذمه الله في أكثر من موضع في كتابه، لما له من الآثار السلبية على الفرد والمجتمع، والكبر خروج عن المنهج الوسط إلى الإفراط والغلو وحب الذات. والتفريط في حق الآخرين.
قال - تعالى - مبينًا أثر الكبر على الإنسان، وكيف أنه يؤدي إلى الحيلولة بينه وبين الإيمان. (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (غافر:56).
قال ابن كثير في تفسير الآية: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ) (غافر: من الآية35) أي: يدفعون الحق بالباطل، ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة، بلا برهان ولا حجة من الله (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) (غافر: من الآية56) أي: ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق واحتقار لمن جاءهم به(1).
وقال - تعالى -: (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) (غافر:27). وقال: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (غافر: من الآية35). وقال: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) (الزمر: من الآية60) وقال: (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (النحل: من الآية29).
وقال - سبحانه -: (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) (الإسراء:37).
ومن وصايا لقمان لابنه كما ذكر الله - عز وجل - (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان:18).
قال ابن كثير في تفسيرها: قال ابن عباس: يقول لا تتكبر فتحتقر عباد الله، وتعرض عنهم بوجهك إذا كلّموك(2).
والآيات في ذم الكبر والنهي عنه، وبيان عاقبة المتكبرين كثيرة جدًا.
ومن الآيات التي جاءت تنهي عن بعض الأخلاق الممقوتة، قوله - تعالى -: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان:19).
ونهى الله - سبحانه - عن كتمان الشهادة لما لها من آثار في إضاعة الحقوق وسوء المعاملة بين الناس، فقال - جل وعلا -: (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (البقرة: من الآية283).
ومن سوء أخلاق بني إسرائيل ما ذكره الله عنهم بقوله: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) (البقرة: من الآية55).
قال عبد الرحمن بن سعدي:
وهذه غاية الجرأة على الله وعلى رسوله(3).
وقال ابن عاشور:
تذكير بنعمة أخرى نشأت بعد عقاب على جفا طبع(4).
ونقض العهد والميثاق خلق فاسد ومعاملة ممقوتة(5) ولذلك جاء ذم الناكثين العهود الخائنين للمواثيق والعقود، قال - سبحانه -: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد:25). وقال: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) (المائدة: من الآية13).
__________
(1) - انظر: تفسير ابن كثير (4/84).
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (3/446).
(3) - انظر: تفسير ابن سعدي (1/86).
(4) - انظر: التحرير والتنوير (2/504).
(5) - انظر: تفصيل ذلك في رسالة المؤلف: العهد والميثاق في القرآن الكريم.(/72)
وفي مقابل الكبر نجد الذل والضعف والخور، وبخاصة أمام أعداء الله، فإنه خلق لا يرضاه الله - جل وعلا -، فلذلك قال - سبحانه -: واصفًا المؤمنين بما هم عليه من خلق رفيع: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة: من الآية54).
ومن هنا، ودلالة على أن الذل مسبة وعار، وليس خلقًا رفيعًا وسيرة محمودة، بين الله أنه جعله عقوبة لمن عصاه، وتكبر على رسله وهداه، فقال - سبحانه -: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) (البقرة: من الآية61).
وقال: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) (آل عمران: من الآية112). وقال: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الأعراف: من الآية152).
قال سيد قطب مبينًا أثر الذل على هؤلاء اليهود، إن فترة الإذلال التي قضوها تحت حكم فرعون الطاغية قد أفسدت فطرتهم إفسادًا عميقًا.
وليس أشد إفسادًا للفطرة من الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل، والذي يحطم فضائل النفس البشرية، ويحلل مقوماتها، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد، استخذاء تحت سوط الجلاد، وتمردا حين يرفع عنها السوط، وتبطرًا حين يتاح لها شيء من النعمة والقوة.
وهكذا كانت إسرائيل، وهكذا هي في كل حين (1) .
وإذا كان هؤلاء قد ضرب الله عليهم الذلة في الحياة الدنيا، فإن الذلة - أيضًا - جزاء هؤلاء وغيرهم ممن دُعي إلى عبادة الله فاستكبر وأبى، قال - تعالى -: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) (القلم:43). وقال: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) (المعارج:44).
وقال - سبحانه - ممتنًا على عباده حيث أعزهم بعد الذلة والانكسار: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (آل عمران:123).
وخلاصة الأمر: أن هذه الآيات تدل على أن تلك الأخلاق مما لا يقره الشرع لمخالفتها للمنهج الحق والطريق السوي، ولذلك جاءت الآيات تبين ما يجب أن يكون عليه المسلم من خلق صادق وحسن في المعاملة، بعيدًا عن الخلق الذميم سواء كان إفراطًا أو تفريطًا، وهذه الآيات هي التي ترسم المنهج الوسط في الأخلاق والمعاملة.
قال - تعالى - مثنيًا على نبيه، - صلى الله عليه وسلم - (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).
وقال - جل وعلا -: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران: من الآية159).
وقال: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199).
وقال: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء:215).
وقال - جل وعلا - واصفًا عباده المؤمنين وما هم عليه من خلق رفيع، ومعاملة حسنة: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) (الفرقان:63) ثم قال: )وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) (الفرقان:72) وهذا قمة الخلق وحسن الطوية، ولذلك قال في آيات أخرى: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (السجدة:15). أما غيرهم فكما أخبر الله عنهم )إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) (الصافات:35)، وفرق شاسع بين الخلقين.
ومما أمر الله به عباده، تربية على الخلق الحسن، ودفعًا لكيد الشيطان ونزغه ما قاله - سبحانه - في سورة المؤمنون: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) (المؤمنون:96).
وقال في سورة فصلت: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (فصلت:34-36).
__________
(1) - انظر: في ظلال القرآن (1/72).(/73)
وكذلك أمر الله بالوفاء بالعهود والمواثيق والعقود، وذلك من صميم المعاملة التي يجب أن تكون بين المسلمين، بل حتى ولو كانت مع الكافرين، فقال - جل وعلا -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: من الآية1) وقال: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ) (التوبة: من الآية4).
وقال: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) (الرعد:19، 20). وقال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (النحل:91). وقال: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسراء: من الآية34).
ومن الأخلاق التي أمر الله بها، ما أمر به الزوج عندما يطلق زوجته طلاقًا رجعيًا، حيث قال: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (البقرة: من الآية231). ومثل ذلك الآية التي جاءت في سورة الطلاق: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: من الآية2).
وكذلك من العدل وحسن الخلق في المعاملة ما جاء بالأمر بالوفاء بالكيل، قال سبحانه: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) (الإسراء: من الآية35) وقال: (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأعراف: من الآية85).
ولذلك شنع الله على أولئك الذين حادوا على المنهج الوسط في الكيل والميزان، فقال: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) (المطففين:1-5).
ومن الخلق التي أمر الله بها ما جاء في سورة المجادلة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) (المجادلة: من الآية11).
وإذا تأملنا سورة الحجرات وما فيها من أخلاق عالية أمر الله بها، ونهى عن سيئ الأخلاق وأرذلها، علمنا الجهد المبذول لتربية هذه الأمة على الأخلاق القويمة، وتجنيبها ما وقعت فيه بعض الأمم السابقة من أراذل الأخلاق وسفسافها كأهل الكتاب عمومًا واليهود خصوصًا.
وتأمّل هاتين الآيتين لترى كيف يرسم القرآن الكريم منهج الوسطية.
قال - تعالى - في سورة القصص مخبرًا عما جرى بين موسى وشعيب (1) عليهما السلام: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (القصص:27).
وقال في سورة النساء: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً) (النساء:148).
وأختم هذا المبحث بهذه الوقفة المهمة:
لما أثنى الله على رسوله، - صلى الله عليه وسلم - لحسن خلقه، فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4) قال بعد عدة آيات: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم:9).
قال ابن عباس:
لو ترخص لهم فيرخصون(2).
والوقفة هنا: هناك من يتصور أن من لوازم حسن الخلق المداهنة والمصانعة.
بل تعجب إذا سمعت من يرى أن ذلك من أسس الدعوة وأساليبها.
وهذا خلل في الفهم، وقصور في التصور، وذلك أنه في السورة التي أثنى الله فيها على رسوله، - صلى الله عليه وسلم - لأخلاقه الرفيعة العظيمة، نفى عنه المداهنة والمصانعة. (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) (القلم:9، 10) مع التنبيه إلى أن هناك فرقا بين المداهنة المحرمة، والمدرارة المشروعة فليعلم ذلك(3).
هذه بعض الأخلاق التي ذكرها الله في القرآن الكريم، جاءت لتربي الأمة على الأخلاق الفاضلة، والمعاملة المستقيمة دون تكبر وبطر وغمط لحقوق الناس، أو ضعف وخور وذلة.
__________
(1) - انظر: تفسير القرطبي (13/270).
(2) - انظر: تفسير ابن كثير (4/403).
(3) - انظر: كتاب: القول البين الأظهر للراجحي ص (115) فقد بين ذلك.(/74)
لقد اتصف اليهود بالكبر والتعالي والغطرسة حتى على أنبيائهم، ورسلهم، عليهم السلام، بل على ربهم - جلا وعلا -: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) (النساء: من الآية153) (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) (البقرة: من الآيات68،69، 70) (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا) (المائدة: من الآية24).
واتصف النصارى بالذل والجبن، حتى كان مما يتوارثونه. "إذا صفعك أحد على خدك الأيسر فأدر له خدك الأيمن". أما هذه الأمة فقد ربيت على العزة والكرامة، مع سمو الخلق وحسن التعامل، حتى مع الأعداء، بل وأثناء القتال والطعان، وهذه درجة لم تصل إليها أمة من الأمم الماضية، ولن تصل إليها أي أمة حاضرة: ولا عجب في ذلك فإنها أمة الإسلام، الأمة الوسط (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: من الآية110) ورسولها، - صلى الله عليه وسلم - قال فيه مولاه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).
كسب المال وإنفاقه
قضية المال من القضايا الكبرى التي عني بها الإسلام كسبًا، وحفظًا، وإنفاقًا.
وذلك أن المال عصب الحياة، وهو بالنسبة للحياة الدنيا كالماء الذي يمشي في غصون الشجر، وكالدماء التي تجري في عروق البشر.
ولقد سلك الناس - ولا يزالون - مسالك شتى في هذا المال، كسبًا، وجمعًا، وإنفاقًا.
والكثرة الكاثرة، والغالبية العظمى ضلوا الطريق، وحادوا عن سواء السبيل.
ولذلك جاء القرآن الكريم مبينًا خطورة هذا الانحراف، وهاديًا إلى الصراط المستقيم.
وفي ضوء المنهج الذي أشرت إليه مرارًا، سأذكر بعض ما ورد في كتاب الله من آيات تبين خطوط الانحراف، وطريق الوسط الذي يجب أن يسلكه المؤمنون. (أ) في جمع المال وحبه:
وردت عدة آيات تبين خطورة الانهماك في جمع المال والمبالغة، والإفراط في حبه، وقد وردت هذه الآيات في سياق الذم لذلك. ومن تلك الآيات:
قال - تعالى -: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً) (الفجر:19، 20).
وقد برر المتخلفون عن الجهاد من المنافقين وغيرهم سبب تخلفهم، بانشغالهم بأموالهم وأولادهم: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) (الفتح: من الآية11).
وقال - سبحانه -: (إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات:6-8).
وقال: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (التكاثر:4).
وقال: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) (الهمزة:1-4).
وقال - جل وعلا - عن أبي لهب: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ) (المسد:1-3).
وقال - سبحانه - مخبرًا عمن سيؤتى كتابه بشماله يوم القيامة حيث سيقول متحسرًا: (يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ) (الحاقة:27، 28).
وقال: (كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:6، 7).
وقال: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ) (القلم:13، 14).
وقال: (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) (الليل:11).
وقال: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً) (الكهف:34، 35).
وقصة قارون فيها العظة والعبرة، والتحذير من الإفراط في حب الدنيا، وعدم أداء حق الله فيها: (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (القصص: من الآية76) ثم يذكر الله حالة من حالات بطره وفرحه: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (القصص:79). وماذا كانت النتيجة: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) (القصص:81) ولم يخسر الدنيا فقط بل والآخرة: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83).(/75)