جـ440: فأجاب بقوله: لا شك أن انتساب النصارى إلى المسيح بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم انتساب غير صحيح لأنه لو كان صحيحاً لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فإن إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إيمان بالمسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام لأن الله تعالى قال: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين) ولم يبشرهم المسيح عيسى ابن مريم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا من أجل أن يقبلوا ما جاء به لأن البشارة بما لا ينفع لغو من القول لا يمكن أن تأتي من أدنى الناس عقلاً،جـ441: فضلاً عن أن تكون صدرت من عند أحد الرسل الكرام أولو العزم عيسى ابن مريم،جـ442: عليه الصلاة والسلام،جـ443: وهذا الذي بشر به عيسى ابن مريم بني اسرائيل هو محمد صلى الله عليه وسلم وقوله: (فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين) وهذا يدل على أن الرسول الذي بشر به قد جاء ولكنهم كفروا به وقالوا هذا سحر مبين،جـ444: فإذا كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فإن هذا كفر بعيسى ابن مريم الذي بشرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وحينئذ لا يصح أن ينتسبوا إليه فيقولوا إنهم مسيحيون،جـ445: إذ لو كانوا حقيقة لآمنوا بما بشر به المسيح ابن مريم لأن عيسى ابن مريم وغيره من الرسل قد أخذ الله عليهم العهد والميثاق أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم،جـ446: كما قال الله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه). قال: (أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) والذي جاء مصدقاً لما معهم هو محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم).
وخلاصة القول أن نسبة النصارى إلى المسيح عيسى ابن مريم نسبة يكذبها الواقع، لأنهم كفروا ببشارة المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وهو محمد صلى الله عليه وسلم وكفرهم به كفر بعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام.
س138: سئل فضيلة الشيخ: عن حكم قول "فلان المغفور له"،س139: "فلان المرحوم"؟
جـ447: فأجاب بقوله: بعض الناس ينكر قول القائل "فلان المغفور له،جـ448: فلان المرحوم" ويقولون: إننا لا نعلم هل هذا الميت من المرحومين المغفور لهم أو ليس منهم؟ وهذا الإنكار في محله إذا كان الإنسان يخبر خبراً أن هذا الميت قد رحم أو غفر له،جـ449: لأنه لا يجوز أن نخبر أن هذا الميت قد رحم،جـ450: أو غفر له بدون علم قال الله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) لكن الناس لا يريدون بذلك الإخبار قطعاً،جـ451: فالإنسان الذي يقول المرحوم الوالد،جـ452: المرحومة الوالدة ونحو ذلك لا يريدون بهذا الجزم أو الإخبار بأنهم مرحومون،جـ453: وإنما يريدون بذلك الدعاء أن الله تعالى قد رحمهم والرجاء،جـ454: وفرق بين الدعاء والخبر،جـ455: ولهذا نحن نقول فلان رحمه الله،جـ456: فلان غفر الله له،جـ457: فلان عفا الله عنه،جـ458: ولا فرق من حيث اللغة العربية بين قولنا "فلان المرحوم" و"فلان رحمه الله" لأن جملة "رحمه الله" جملة خبرية،جـ459: والمرحوم بمعنى الذي رحم فهي أيضاً خبرية،جـ460: فلا فرق بينهما أي بين مدلوليهما في اللغة العربية فمن منع "فلان المرحوم" يجب أن يمنع "فلان رحمه الله".
على كل حال نقول لا إنكار في هذه الجملة أي في قولنا "فلان المرحوم، فلان المغفور له" وما أشبه ذلك لأننا لسنا نخبر بذلك خبراً ونقول إن الله قد رحمه، وإن الله قد غفر له، ولكننا نسأل الله ونرجوه فهو من باب الرجاء والدعاء وليس من باب الإخبار، وفرق بين هذا وهذا.
س140: وسئل فضيلة الشيخ: عن هذه العبارة: "المكتوب على الجبين لا بد تراه العين"؟
جـ461: فأجاب بقوله: هذا وردت فيه آثار أنه يكتب على الجبين ما يكون على الإنسان،جـ462: لكن الآثار هذه ليست إلى ذاك في الصحة،جـ463: بحيث يعتقد الإنسان مدلولها،جـ464: فالأحاديث الصحيحة أن الإنسان يكتب عليه في بطن أمه أجله،جـ465: وعمله،جـ466: ورزقه،جـ467: وشقي أم سعيد.
س141: سئل فضيلة الشيخ: عن قول الإنسان إذا خاطب ملكاً "يا مولاي"؟
جـ468: فأجاب بقوله: الولاية تنقسم إلى قسمين:(/21)
القسم الأول: ولاية مطلقة وهذه لله عز وجل كالسيادة المطلقة، وولاية الله بالمعنى العام شاملة لكل أحد قال الله تعالى: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين) فجعل له سبحانه الولاية على هؤلاء المفترين، وهذه ولاية عامة، وأما بالمعنى الخاص فهي خاصة بالمؤمنين المتقين قال الله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) وقال الله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون) وهذه ولاية خاصة.
القسم الثاني: ولاية مقيدة مضافة، فهذه تكون لغير الله، ولها في اللغة معان كثيرة منها الناصر، والمتولي للأمور، والسيد، قال الله تعالى: (وان تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين) وقال صلى الله عليه وسلم (من كنت مولاه فعلي مولاه) وقال صلى الله عليه وسلم (إنما الولاء لمن اعتق).
وعلى هذا فلا بأس أن يقول القائل للملك: مولاي بمعنى سيدي ما لم يخش من ذلك محذور.
س142: وسئل فضيلة الشيخ: يحتج بعض الناس إذا نُهي عن أمر مخالف للشريعة أو الآداب الإسلامية بقوله: "الناس يفعلون كذا"؟
جـ469: فأجاب بقوله: هذا ليس بحجة لقوله تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله). ولقوله: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين). والحجة فيما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو كان عليه السلف الصالح.
س143: وسئل فضيلة الشيخ: عن قول الإنسان لضيفه: "وجه الله إلا أن تأكل"؟
جـ470: فأجاب بقوله: لا يجوز لأحد أن يستشفع بالله عز وجل إلى أحد من الخلق،جـ471: فإن الله أعظم وأجل من أن يتسشفع به إلى خلقه،جـ472: وذلك لأن مرتبة المشفوع إليه أعلى من مرتبة الشافع والمشفوع له،جـ473: فكيف يصح أن يجعل الله تعالى شافعاً عند أحد؟!.
س144: سئل الشيخ: عن قولهم "هذا نوء محمود"؟
جـ474: فأجاب بقوله: هذا لا يجوز وهو يشبه قول القائل مطرنا بنوء كذا وكذا الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله عز وجل : "من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فهو كافر بالله مؤمن بالكوكب".
والأنواء ما هي إلا أوقات لا تحمد ولا تذم، وما يكون فيها من النعم والرخاء فهو من الله تعالى وهو الذي له الحمد أولاً وآخراً، وله الحمد على كل حال.
س145: وسئل فضيلة الشيخ -حفظه الله- : عن قول "لا حول الله"؟
جـ475: فأجاب قائلاً: قول "لا حول الله"،جـ476: ما سمعت أحداً يقولها وكأنهم يريدون "لا حول ولا قوة إلا بالله" فيكون الخطأ فيها في التعبير،جـ477: والواجب أن تعدل على الوجه الذي يراد بها،جـ478: فيقال: "لا حول ولا قوة إلا بالله".
س146: سئل فضيلة الشيخ: ما رأيكم في هذه العبارة "لا سمح الله"؟
جـ479: فأجاب قائلاً: أكره أن يقول القائل "لا سمح الله" لأن قوله "لا سمح الله" ربما توهم أن أحداً يجبر الله على شيء فيقول "لا سمح الله" والله عز وجل كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "لا مكره له". قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يقول أحدكم اللهم اغفرلي أن شئت،جـ480: اللهم ارحمني إن شئت،جـ481: ولكن ليعزم المسألة،جـ482: وليعظم الرغبة فإن الله لا مكره له،جـ483: ولا يتعاظمه شيء أعطاه" والأولى أن يقول: "لا قدر الله" بدلاً من قوله: "لا سمح الله" لأنه أبعد عن توهم مالا يجوز في حق الله تعالى.
س147: سئل فضيلة الشيخ غفر الله له: ما حكم قول "لا قدر الله"؟
جـ484: فأجاب بقوله: "لا قدر الله" معناه الدعاء بأن الله لا يقدر ذلك،جـ485: والدعاء بأن الله لا يقدر هذا جائز،جـ486: وقول "لا قدر الله" ليس بمعناه نفي أن يقدر الله ذلك،جـ487: إذ أن الحكم لله يقدر ما يشاء،جـ488: لكنه نفي بمعنى الطلب فهو خبر بمعنى الطلب بلا شك،جـ489: فكأنه حين يقول "لا قدر الله" أي أسأل الله أن لا يقدره،جـ490: واستعمال النفي بمعنى الطلب شائع كثير في اللغة العربية وعلى هذا فلا بأس بهذه العبارة.
س148: سئل فضيلة الشيخ: عن قول بعض الناس إذا مات شخص (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية)؟
جـ491: فأجاب بقوله: هذا لا يجوز أن يطلق على شخص بعينه،جـ492: لأن هذه شهادة بأنه من هذا الصنف.
س149: سئل فضيلة الشيخ: ما رأيكم في قول بعض الناس "يا هادي،س150: يا دليل"؟
جـ493: فأجاب بقوله: "يا هادي،جـ494: يا دليل" لا أعلمها من أسماء الله،جـ495: فإن قصد به الإنسان الصفة فلا بأس كما يقول اللهم يا مجري السحاب،جـ496: يا منزل الكتاب وما أشبه ذلك،جـ497: فإن الله يهدي من يشاء و"الدليل" هنا بمعنى الهادي.
س151: وسئل غفر الله له: عن قول بعض الناس "يعلم الله كذا وكذا"؟(/22)
جـ498: فأجاب بقوله: قول "يعلم الله" هذه مسألة خطيرة ،جـ499: حتى رأيت في كتب الحنفية أن من قال عن شيء يعلم الله والأمر بخلافه صار كافراً خارجاً عن الملة،جـ500: فإذا قلت "يعلم الله أني ما فعلت هذا" وأنت فاعله فمقتضى ذلك أن الله يجهل الأمر،جـ501: "يعلم الله أني ما زرت فلاناً" وأنت زائره صار الله لا يعلم بما يقع،جـ502: ومعلوم أن من نفى عن الله العلم فقد كفر،جـ503: ولهذا قال الشافعي رحمه الله في القدرية قال: "جادلوهم بالعلم فإن أنكروه كفروا،جـ504: وإن أقروا به خصموا" ا.هـ. والحاصل أن قول القائل "يعلم الله" إذا قالها والأمر على خلاف ما قال فإن ذلك خطير جداً وهو حرام بلا شك.
أما إذا كان مصيباً، والأمر على وفق ما قال فلا بأس بذلك، لأنه صادق في قوله ولأن الله بكل شيء عليم كما قالت الرسل في سورة يس (قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون)( يس:16).(/23)
المنفرجة
لأبي الفضل يوسف ابن النحوي
اشتدي أزمة تنفرجي
وظلام الليل له iiسرج
وسحاب الخير لها iiمطر
وفوائد مولانا جمل
ولها أرج محي iiأبداً
فلربتما فاض المحيا
ونزولهم iiوطلوعهم
ومعايشهم iiوعواقبهم
حِكَمٌ نُسجت ثم iiاحتكمت
فإذا اقتصدت ثم iiانعرجت
شهدت لعجائبها iiحجج
ورضى بقضاء الله iiحجا
وإذا انفتحت أبواب هدى
وإذا حاولتَ iiنهايتها
لتكون من السباق iiإلى
فهناك العيش iiوبهجته
فهج الأعمال إذا iiركدت
ومعاصي الله iiسماجتها
ولطاعته iiوصباحتها
من يخطب حور الخلد iiبها
فكن المرضيَّ بها بتقى
واتلُ القرآن بقلب iiذي
وصلاة الليل مسافتها
وتأمّلها iiومعانيها
واشربْ تسنيم iiمفجرها
مدح العقل الأتيه iiهدى
وكتاب الله iiرياضته ... قد آذن ليلك iiبالبلج
حتى يغشاه أبو iiالسرج
فإذا جاء الابان iiتج
لسروج الأنفس iiوالمهج
فاقصد محيا ذاك iiالأرج
ببحور الموج من iiاللجج
فإلى درك وإلى درج
ليست في المشي على عوج
ثم انستجت بالمنتسج
فبمقتصد iiوبمنعرج
قامت بالأمر على iiالحجج
فعلى مركوزته iiفعج
فاعجل لخزائنها ولج
فاحذر إذ ذاك من iiالعرج
ما جئت إلى تلك iiالفُرَج
فلمبتهج iiولمنتهج
فإذا ما هجت إذن iiتهج
تزدان لذي الخلق iiالسمج
أنوار صباح منبلج
يظفر بالحور iiوبالغنج
ترضاه غداً وتكون iiنج
حُرَقٍ وبصوت فيه iiشج
فاذهب فيها بالفهم وج
تأت الفردوس iiوتنفرج
لا ممتزجاً iiوبممتزج
وهوى مُتْوَلٍّ عنه iiهج
لعقول الخلق iiبمندرج(/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنهج الإسلامي العلمي لتفسير الرؤيا
المقدمة
مقدمة الأصول الإسلامية
الظنية العلمية
البرهان
الناتج الإسلامي العلمي الختام
ملحق : الملاحظات المنهجية لتفسير الرؤيا
الخاتمة
المقدمة
هذا البحث يهدف إلي تحديد الخطوات الإسلامية العامة لحل لغز المنام ، أو تفسير الرؤيا.
أي أن فائدته : في تفسير ما أشكل من الرؤى ، وبالطبع الرؤى الصالحة ، لا حديث النفس ، ولا من رؤى الشيطان – أعوذ بالله-.
واستخدامه في : مجال تفسير الرؤى وعمل المعبرين ، ويستطيع مع شيء من الممارسة للشخص أن يعبر رؤيته بنفسه باعتباره خير من يعرف أحواله هذا والله أعلم.
وهو عملية تخصيص خطوات المنهج الإسلامي العلمي فى مجال تفسير الرؤيا ، بمنهج خاص بها، لأهمية الرؤيا وكيف أنها تلعب دورا هاما فى مجال الدراسات المستقبلية الإسلامية.
وكان من الممكن تخصيص خطوات المنهج الإسلامي العلمي مباشرة وتفصيلها على أساس تفسير الرؤيا ، ولكن تم البدء من القرآن والسنة ثانية لتأسيس منهج خاص بتفسير الرؤيا لأنه يجب دوما العودة للقرآن والسنة لاستخراج النتائج منهما مباشرة دون وجود فاصل وإن كان مستخرج منهما للتأكيد على هيمنة القرآن ، لا هيمنة النتائج المستخرجة منه
فكما الأحكام الشرعية تبني مباشرة على القرآن والسنة ( فلا يبني حكم شرعي على حكم شرعي) بل يجب العودة إلى القرآن والسنة لإعادة الإجتهاد فى ضوء المتغيرات الحادثة ، ولا بأس من إستخدام نفس القواعد التي إستخدمها المجتهد فى السابق.
فهنا أيضا فى مجال النتائج العلمية المستخرجة من القرآن الكريم ( لا الأحكام الشرعية) أيضا تبني على القرآن والسنة مباشرة ولا باس من إستخدام نفس المنهج التي إستخدمها الباحث فى إستخراج النتائج السابقة عنها ، ولكن نتائجه تكون مبنية مباشرة على القرآن والسنة كأصل أولي
ومن هنا كان البحث يعود ثانية للقرآن والسنة ، ليبدأ منهما بإستخراج منهج متخصص لتفسير الرؤيا ،
منهج البحث :
خطوات المنهج الإسلامي العلمي ، وبتتبع الروابط المنهجية التي تربط الأصول الإسلامية ببعضها
( راجع خطوات المنهج الإسلامي العلمي)
والآن مع البحث ، وهو كالآتي:
مقدمة الأصول الإسلامية
ونبدأ مع الأصول الإسلامية ، آية البداية هي رؤيا ذكرت فى القرآن وقام بتعبيرها نبي الله يوسف فى الآية:
سورة يوسف:
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
تفسير ابن كثير(/1)
(36)قَالَ قَتَادَة : كَانَ أَحَدهمَا سَاقِي الْمَلِك وَالْآخَر خَبَّازه قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق : كَانَ اِسْم الَّذِي عَلَى الشَّرَاب نبوا وَالْآخَر مجلث قَالَ السُّدِّيّ : كَانَ سَبَب حَبْس الْمَلِك إِيَّاهُمَا أَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّهُمَا تَمَالَآ عَلَى سَمِّهِ فِي طَعَامه وَشَرَابه وَكَانَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام قَدْ اُشْتُهِرَ فِي السِّجْن بِالْجُودِ وَالْأَمَانَة وَصِدْق الْحَدِيث وَحُسْن السَّمْت وَكَثْرَة الْعِبَادَة صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَامه وَمَعْرِفَة التَّعْبِير وَالْإِحْسَان إِلَى أَهْل السِّجْن وَعِيَادَة مَرَضَاهُمْ وَالْقِيَام بِحُقُوقِهِمْ وَلَمَّا دَخَلَ هَذَانِ الْفَتَيَانِ إِلَى السِّجْن تَأَلَّفَا بِهِ وَأَحَبَّاهُ حُبًّا شَدِيدًا وَقَالَا لَهُ : وَاَللَّه لَقَدْ أَحْبَبْنَاك حُبًّا زَائِدًا قَالَ بَارَكَ اللَّه فِيكُمَا إِنَّهُ مَا أَحَبَّنِي أَحَد إِلَّا دَخَلَ عَلَيَّ مِنْ مَحَبَّته ضَرَر أَحَبَّتْنِي عَمَّتِي فَدَخَلَ عَلَيَّ الضَّرَر بِسَبَبِهَا وَأَحَبَّنِي أَبِي فَأُوذِيت بِسَبَبِهِ وَأَحَبَّتْنِي اِمْرَأَة الْعَزِيز فَكَذَلِكَ فَقَالَا وَاَللَّه مَا نَسْتَطِيع إِلَّا ذَلِكَ ثُمَّ إِنَّهُمَا رَأَيَا مَنَامًا فَرَأَى السَّاقِي أَنَّهُ يَعْصِر خَمْرًا يَعْنِي عِنَبًا وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود إِنِّي أَرَانِي أَعْصِر عِنَبًا وَرَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم عَنْ أَحْمَد بْن سِنَان عَنْ يَزِيد بْن هَارُون عَنْ شَرِيك عَنْ الْأَعْمَش عَنْ زَيْد بْن وَهْب عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَرَأَهَا أَعْصِر عِنَبًا وَقَالَ الضَّحَّاك فِي قَوْله " إِنَى أَرَانِي أَعْصِر خَمْرًا " يَعْنِي عِنَبًا قَالَ وَأَهْل عُمَان يُسَمُّونَ الْعِنَب خَمْرًا وَقَالَ عِكْرِمَة : قَالَ لَهُ إِنِّي رَأَيْت فِيمَا يَرَى النَّائِم أَنِّي غَرَسْت حَبْلَة مِنْ عِنَب فَنَبَتَتْ فَخَرَجَ فِيهَا عَنَاقِيد فَعَصْرَتهنَّ ثُمَّ سَقَيْتهنَّ الْمَلِك فَقَالَ : تَمْكُث فِي السِّجْن ثَلَاثَة أَيَّام ثُمَّ تَخْرُج فَتَسْقِيه خَمْرًا وَقَالَ الْآخَر وَهُوَ الْخَبَّاز : " إِنِّي أَرَانِي أَحْمِل فَوْق رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُل الطَّيْر مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ " الْآيَة وَالْمَشْهُور عِنْد الْأَكْثَرِينَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُمَا رَأَيَا مَنَامًا وَطَلَبًا تَعْبِيره وَقَالَ اِبْن جَرِير : حَدَّثَنَا وَكِيع وَابْن حُمَيْد قَالَا : حَدَّثَنَا جَرِير عَنْ عُمَارَة بْن الْقَعْقَاع عَنْ إِبْرَاهِيم عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : مَا رَأَى صَاحِبَا يُوسُف شَيْئًا إِنَّمَا كَانَا تَحَالَمَا لِيُجَرِّبَا عَلَيْهِ .
(37)يُخْبِرهُمَا يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُمَا مَهْمَا رَأَيَا فِي مَنَامهمَا مِنْ حُلْم فَإِنَّهُ عَارِف بِتَفْسِيرِهِ وَيُخْبِرهُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْل وُقُوعه وَلِهَذَا قَالَ " لَا يَأْتِيكُمَا طَعَام تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ " قَالَ مُجَاهِد يَقُول " لَا يَأْتِيكُمَا طَعَام تُرْزَقَانِهِ" فِي يَوْمكُمَا " إِلَّا نَبَّأَتْكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْل أَنْ يَأْتِيكُمَا " وَكَذَا قَالَ السُّدِّيّ وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم رَحِمَهُ اللَّه حَدَّثَنَا عَلَيَّ بْن الْحُسَيْن حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْعَلَاء حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَزِيد شَيْخ لَهُ ثَنَا رِشْدِين عَنْ الْحَسَن بْن ثَوْبَان عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : مَا أَدْرِي لَعَلَّ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَعْتَاف وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنِّي أَجِد فِي كِتَاب اللَّه حِين قَالَ لِلرَّجُلَيْنِ" لَا يَأْتِيكُمَا طَعَام تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ" قَالَ إِذَا جَاءَكُمْ الطَّعَام حُلْوًا أَوْ مُرًّا أَعْتَاف عِنْد ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّمَا عُلِّمَ فَعَلِمَ وَهَذَا أَثَر غَرِيب ثُمَّ قَالَ وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ تَعْلِيم اللَّه إِيَّايَ لِأَنِّي اِجْتَنَبْت مِلَّة الْكَافِرِينَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر فَلَا يَرْجُونَ ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا فِي الْمَعَاد .(/2)
(38)" وَاتَّبَعْت مِلَّة آبَائِي إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب " الْآيَة يَقُول هَجَرْت طَرِيق الْكُفْر وَالشِّرْك وَسَلَكْت طَرِيق هَؤُلَاءِ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَهَكَذَا يَكُون حَال مَنْ سَلَكَ طَرِيق الْهُدَى وَاتَّبَعَ طَرِيق الْمُرْسَلِينَ وَأَعْرَضَ عَنْ طَرِيق الضَّالِّينَ فَإِنَّ اللَّه يَهْدِي قَلْبه وَيُعَلِّمهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَم وَيَجْعَلهُ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ فِي الْخَيْر وَدَاعِيًا إِلَى سَبِيل الرَّشَاد " مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِك بِاَللَّهِ مِنْ شَيْء ذَلِكَ مِنْ فَضْل اللَّه عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاس " هَذَا التَّوْحِيد وَهُوَ الْإِقْرَار بِأَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ " ذَلِكَ مِنْ فَضْل اللَّه عَلَيْنَا " أَيْ أَوْحَاهُ إِلَيْنَا وَأَمَرَنَا بِهِ " وَعَلَى النَّاس " إِذْ جَعَلَنَا دُعَاة لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ " وَلَكِنَّ أَكْثَر النَّاس لَا يَشْكُرُونَ " أَيْ لَا يَعْرِفُونَ نِعْمَة اللَّه عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُل إِلَيْهِمْ بَلْ " بَدَّلُوا نِعْمَة اللَّه كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمهمْ دَار الْبَوَار " وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن سِنَان حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة حَدَّثَنَا حَجَّاج عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ يَجْعَل الْجَدّ أَبًا وَيَقُول وَاَللَّه لَمَنْ شَاءَ لَاعَنْته عِنْد الْحِجْر مَا ذَكَرَ اللَّه جَدًّا وَلَا جَدَّة قَالَ اللَّه تَعَالَى يَعْنِي إِخْبَارًا عَنْ يُوسُف " وَاتَّبَعْت مِلَّة آبَائِي إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب" .
(39)ثُمَّ إِنَّ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام أَقْبَلَ عَلَى الْفَتَيَيْنِ بِالْمُخَاطَبَةِ وَالدُّعَاء لَهُمَا إِلَى عِبَادَة اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ وَخَلْع مَا سِوَاهُ مِنْ الْأَوْثَان الَّتِي يَعْبُدهَا قَوْمهمَا فَقَالَ " أَأَرْبَاب مُتَفَرِّقُونَ خَيْر أَمْ اللَّه الْوَاحِد الْقَهَّار " أَيْ الَّذِي دَلَّ كُلّ شَيْء لِعِزِّ جَلَاله وَعَظَمَة سُلْطَانه .
(40) ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمَا أَنَّ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا وَيُسَمُّونَهَا آلِهَة إِنَّمَا هِيَ جَعْل مِنْهُمْ وَتَسْمِيَة مِنْ تِلْقَاء أَنْفُسهمْ تَلَقَّاهَا خَلَفهمْ عَنْ سَلَفهمْ وَلَيْسَ لِذَلِكَ مُسْتَنَد مِنْ عِنْد اللَّه وَلِهَذَا قَالَ " مَا أَنْزَلَ اللَّه بِهَا مِنْ سُلْطَان " أَيْ حُجَّة وَلَا بُرْهَان ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْحُكْم وَالتَّصَرُّف وَالْمَشِيئَة وَالْمُلْك كُلّه لِلَّهِ وَقَدْ أَمَرَ عِبَاده قَاطِبَة أَنْ لَا يَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " ذَلِكَ الدِّين الْقَيِّم " أَيْ هَذَا الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيد اللَّه وَإِخْلَاص الْعَمَل لَهُ هُوَ الدِّين الْمُسْتَقِيم الَّذِي أَمَرَ اللَّه بِهِ وَأَنْزَلَ بِهِ الْحُجَّة وَالْبُرْهَان الَّذِي يُحِبّهُ وَيَرْضَاهُ" وَلَكِنَّ أَكْثَر النَّاس لَا يَعْلَمُونَ " أَيْ فَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرهمْ مُشْرِكِينَ " وَمَا أَكْثَر النَّاس وَلَوْ حَرَصْت بِمُؤْمِنِينَ" وَقَدْ قَالَ اِبْن جُرَيْج : إِنَّمَا عَدَلَ بِهِمْ يُوسُف عَنْ تَعْبِير الرُّؤْيَا إِلَى هَذَا لِأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّهَا ضَارَّة لِأَحَدِهِمَا فَأَحَبَّ أَنْ يَشْغَلهُمَا بِغَيْرِ ذَلِكَ لِئَلَّا يُعَاوِدُوهُ فِيهَا فَعَاوَدُوهُ فَأَعَادَ عَلَيْهِمْ الْمَوْعِظَة وَفِي هَذَا الَّذِي قَالَهُ نَظَر لِأَنَّهُ قَدْ وَعَدَهُمَا أَوَّلًا بِتَعْبِيرِهَا وَلَكِنْ جَعَلَ سُؤَالهمَا لَهُ عَلَى وَجْه التَّعْظِيم وَالِاحْتِرَام وَصْلَة وَسَبَبًا إِلَى دُعَائِهِمَا إِلَى التَّوْحِيد وَالْإِسْلَام لِمَا رَأَى فِي سَجِيَّتهمَا مِنْ قَبُول الْخَيْر وَالْإِقْبَال عَلَيْهِ وَالْإِنْصَات إِلَيْهِ وَلِهَذَا لَمَّا فَرَغَ مِنْ دَعَوْتهمَا شَرَعَ فِي تَعْبِير رُؤْيَاهُمَا مِنْ غَيْر تَكْرَار سُؤَال .(/3)
(41) " يَقُول لَهُمَا " يَا صَاحِبَيْ السِّجْن أَمَّا أَحَدكُمَا فَيَسْقِي رَبّه خَمْرًا " وَهُوَ الَّذِي رَأَى أَنَّهُ يَعْصِر خَمْرًا وَلَكِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنهُ لِئَلَّا يَحْزَن ذَاكَ وَلِهَذَا أَبْهَمَهُ فِي قَوْله " وَأَمَّا الْآخَر فَيُصْلَب فَتَأْكُل الطَّيْر مِنْ رَأْسه " وَهُوَ فِي نَفْس الْأَمْر الَّذِي رَأَى أَنَّهُ يَحْمِل فَوْق رَأْسه خُبْزًا ثُمَّ أَعْلَمهُمَا أَنَّ هَذَا قَدْ فَرَغَ مِنْهُ وَهُوَ وَاقِع لَا مَحَالَة لِأَنَّ الرُّؤْيَا عَلَى رِجْل طَائِر مَا لَمْ تُعَبَّر فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ وَقَالَ الثَّوْرِيّ عَنْ عُمَارَة بْن الْقَعْقَاع عَنْ إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه قَالَ : لَمَّا قَالَا مَا قَالَا وَأَخْبَرَهُمَا قَالَا مَا رَأَيْنَا شَيْئًا فَقَالَ " قُضِيَ الْأَمْر الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ " وَرَوَاهُ مُحَمَّد بْن فُضَيْل عَنْ عُمَارَةَ عَنْ إِبْرَاهِيم عَنْ عَلْقَمَة عَنْ اِبْن مَسْعُود بِهِ وَكَذَا فَسَّرَهُ مُجَاهِد وَعَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أَسْلَمَ وَغَيْرهمْ وَحَاصِله أَنَّ مَنْ تَحَلَّمَ بِبَاطِلٍ وَفَسَّرَهُ فَإِنَّهُ يُلْزَم بِتَأْوِيلِهِ وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيث الشَّرِيف الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَام أَحْمَد عَنْ مُعَاوِيَة بْن حَيْدَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الرُّؤْيَا عَلَى رِجْل طَائِر مَا لَمْ تُعَبَّر فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ وَفِي مُسْنَد أَبِي يَعْلَى مِنْ طَرِيق يَزِيد الرَّقَاشِيّ عَنْ أَنَس مَرْفُوعًا الرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِر .
(43) وَلَمَّا ظَنَّ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّ السَّاقِي نَاجٍ قَالَ لَهُ يُوسُف خُفْيَة عَنْ الْآخَر وَاَللَّه أَعْلَم لِئَلَّا يُشْعِرهُ أَنَّهُ الْمَصْلُوب قَالَ لَهُ " اُذْكُرْنِي عِنْد رَبّك" يَقُول اُذْكُرْ قِصَّتِي عِنْد رَبّك وَهُوَ الْمَلِك فَنَسِيَ ذَلِكَ الْمُوصَى أَنْ يُذَكِّر مَوْلَاهُ الْمَلِك بِذَلِكَ وَكَانَ مِنْ جُمْلَة مَكَايِد الشَّيْطَان لِئَلَّا يَطْلُع نَبِيّ اللَّه مِنْ السِّجْن هَذَا هُوَ الصَّوَاب أَنَّ الضَّمِير فِي قَوْله " فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَان ذِكْر رَبّه " عَائِد عَلَى النَّاجِي كَمَا قَالَهُ مُجَاهِد وَمُحَمَّد بْن إِسْحَاق وَغَيْر وَاحِد وَيُقَال إِنَّ الضَّمِير عَائِد عَلَى يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام رَوَاهُ اِبْن جَرِير عَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد أَيْضًا وَعِكْرِمَة وَغَيْرهمْ وَأَسْنَدَ اِبْن جَرِير هَهُنَا حَدِيثًا فَقَالَ : حَدَّثَنَا اِبْن وَكِيع حَدَّثَنَا عَمْرو بْن مُحَمَّد عَنْ إِبْرَاهِيم بْن يَزِيد عَنْ عَمْرو بْن دِينَار عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس مَرْفُوعًا قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ لَمْ يَقُلْ - يَعْنِي يُوسُف - الْكَلِمَة الَّتِي قَالَ مَا لَبِثَ فِي السِّجْن طُول مَا لَبِثَ حَيْثُ يَبْتَغِي الْفَرَج مِنْ عِنْد غَيْر اللَّه وَهَذَا الْحَدِيث ضَعِيف جِدًّا لِأَنَّ سُفْيَان بْن وَكِيع ضَعِيف وَإِبْرَاهِيم بْن يَزِيد هُوَ الْجَوْزِيّ أَضْعَف مِنْهُ أَيْضًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَن وَقَتَادَة مُرْسَلًا عَنْ كُلّ مِنْهُمَا وَهَذِهِ الْمُرْسَلَات هَهُنَا لَا تُقْبَل لَوْ قُبِلَ الْمُرْسَل مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي غَيْر هَذَا الْمَوْطِن وَاَللَّه أَعْلَم وَأَمَّا الْبِضْع فَقَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة هُوَ مَا بَيْن الثَّلَاث إِلَى التِّسْع وَقَالَ وَهْب بْن مُنَبِّه مَكَثَ أَيُّوب فِي الْبَلَاء سَبْعًا وَيُوسُف فِي السِّجْن سَبْعًا وَعُذِّبَ بُخْتنَصَّرَ سَبْعًا وَقَالَ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا" فَلَبِثَ فِي السِّجْن بِضْع سِنِينَ " قَالَ ثَنَتَا عَشْرَة سَنَة وَقَالَ الضَّحَّاك أَرْبَع عَشْرَة سَنَة .
وما زلنا مع المعبر نبي الله يوسف ، فى رؤيا الملك ، وتعبيره لها:
سورة يوسف:(/4)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
تفسير ابن كثير
(43-44)هَذِهِ الرُّؤْيَا مِنْ مَلِك مِصْر مِمَّا قَدَّرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهَا كَانَتْ سَبَبًا لِخُرُوجِ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ السِّجْن مُعَزَّزًا مُكَرَّمًا وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلِك رَأَى هَذِهِ الرُّؤْيَا فَهَالَتْهُ وَتَعَجَّبَ مِنْ أَمْرهَا وَمَا يَكُون تَفْسِيرهَا فَجَمَعَ الْكَهَنَة وَالْحَادَّة وَكِبَار دَوْلَته وَأُمَرَاءَهُ فَقَصَّ عَلَيْهِمْ مَا رَأَى وَسَأَلَهُمْ عَنْ تَأْوِيلهَا فَلَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ وَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ بِأَنَّهَا " أَضْغَاث أَحْلَام " أَيْ أَخْلَاط أَحْلَام اِقْتَضَتْهُ رُؤْيَاك هَذِهِ " وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَام بِعَالِمِينَ " أَيْ لَوْ كَانَتْ رُؤْيَا صَحِيحَة مِنْ أَخْلَاط لَمَا كَانَ لَنَا مَعْرِفَة بِتَأْوِيلِهَا وَهُوَ تَعْبِيرهَا فَعِنْد ذَلِكَ تَذَكَّرَ الَّذِي نَجَا مِنْ ذَيْنِك الْفَتَيَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَا فِي السِّجْن مَعَ يُوسُف وَكَانَ الشَّيْطَان قَدْ أَنْسَاهُ مَا وَصَّاهُ بِهِ يُوسُف مِنْ ذِكْر أَمْره لِلْمَلِكِ فَعِنْد ذَلِكَ تَذَكَّرَ بَعْد أُمَّة أَيْ مُدَّة وَقَرَأَ بَعْضهمْ بَعْد أَمَهٍ أَيْ بَعْد نِسْيَان فَقَالَ لَهُمْ أَيْ لِلْمَلِكِ وَاَلَّذِينَ جَمَعَهُمْ .
(45) لِذَلِكَ " أَنَا أُنَبِّئكُمْ بِتَأْوِيلِهِ" أَيْ بِتَأْوِيلِ هَذَا الْمَنَام " فَأَرْسِلُونِ أَيْ فَابْعَثُونِ إِلَى يُوسُف الصِّدِّيق إِلَى السِّجْن وَمَعْنَى الْكَلَام فَبَعَثُوهُ فَجَاءَ .
(46) فَقَالَ " يُوسُف أَيّهَا الصِّدِّيق أَفْتِنَا " وَذَكَرَ الْمَنَام الَّذِي رَآهُ الْمَلِك فَعِنْد ذَلِكَ ذَكَرَ لَهُ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام تَعْبِيرهَا مِنْ غَيْر تَعْنِيف لِلْفَتَى فِي نِسْيَانه مَا وَصَّاهُ بِهِ وَمِنْ غَيْر اِشْتِرَاط لِلْخُرُوجِ قَبْل ذَلِكَ .(/5)
(47) بَلْ قَالَ " تَزْرَعُونَ سَبْع سِنِينَ دَأَبًا " أَيْ يَأْتِيكُمْ الْخِصْب وَالْمَطَر سَبْع سِنِينَ مُتَوَالِيَات فَفَسَّرَ الْبَقَر بِالسِّنِينَ لِأَنَّهَا تُثِير الْأَرْض الَّتِي تَشْتَغِل مِنْهَا الثَّمَرَات وَالزُّرُوع وَهُنَّ السُّنْبُلَات الْخُضْر ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا يَعْتَدُّونَهُ فِي تِلْكَ السِّنِينَ فَقَالَ " فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُله إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ " أَيْ مَهْمَا اِسْتَغْلَلْتُمْ فِي هَذِهِ السَّبْع السِّنِينَ الْخِصْب فَادَّخِرُوهُ فِي سُنْبُله لِيَكُونَ أَبْقَى لَهُ وَأَبْعَد عَنْ إِسْرَاع الْفَسَاد إِلَيْهِ إِلَّا الْمِقْدَار الَّذِي تَأْكُلُونَهُ وَلْيَكُنْ قَلِيلًا قَلِيلًا لَا تُسْرِفُوا فِيهِ لِتَنْتَفِعُوا فِي السَّبْع الشِّدَاد وَهُنَّ السَّبْع السِّنِينَ الْمَحْل الَّتِي تَعْقُب هَذِهِ السَّبْع الْمُتَوَالِيَات وَهُنَّ الْبَقَرَات الْعِجَاف اللَّاتِي تَأْكُل السِّمَان لِأَنَّ سِنِي الْجَدْب يُؤْكَل فِيهَا مَا جَمَعُوهُ فِي سِنِي الْخِصْب وَهُنَّ السُّنْبُلَات الْيَابِسَات وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُنَّ لَا يُنْبِتْنَ شَيْئًا وَمَا بَذَرُوهُ فَلَا يَرْجِعُونَ مِنْهُ إِلَى شَيْء .
(48) وَلِهَذَا قَالَ " يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ " ثُمَّ بَشَّرَهُمْ بَعْد الْجَدْب الْعَامّ الْمُتَوَالِي بِأَنَّهُ يَعْقُبهُمْ بَعْد ذَلِكَ عَام فِيهِ يُغَاث النَّاس أَيْ يَأْتِيهِمْ الْغَيْث وَهُوَ الْمَطَر وَتَغِلّ الْبِلَاد وَيَعْصِر النَّاس مَا كَانُوا يَعْصِرُونَ عَلَى عَادَتهمْ مِنْ زَيْت وَنَحْوه وَسُكَّر وَنَحْوه حَتَّى قَالَ بَعْضهمْ : يَدْخُل فِيهِ حَلْب اللَّبَن أَيْضًا قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحه عَنْ اِبْن عَبَّاس " وَفِيهِ يَعْصِرُونَ " يَحْلِبُونَ .
(49-50) يَقُول تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ الْمَلِك لَمَّا رَجَعُوا إِلَيْهِ بِتَعْبِيرِ رُؤْيَاهُ الَّتِي كَانَ رَآهَا بِمَا أَعْجَبَهُ وَأَيْقَنَهُ فَعَرَفَ فَضْل يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَعِلْمه وَحُسْن اِطِّلَاعه عَلَى رُؤْيَاهُ وَحُسْن أَخْلَاقه عَلَى مَنْ بِبَلَدِهِ مِنْ رَعَايَاهُ فَقَالَ " اِئْتُونِي بِهِ " أَيْ أَخْرِجُوهُ مِنْ السِّجْن وَأَحْضِرُوهُ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُول بِذَلِكَ اِمْتَنَعَ مِنْ الْخُرُوج حَتَّى يَتَحَقَّق الْمَلِك وَرَعِيَّته بَرَاءَة سَاحَته وَنَزَاهَة عِرْضه مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَة اِمْرَأَة الْعَزِيز وَأَنَّ هَذَا السِّجْن لَمْ يَكُنْ عَلَى أَمْر يَقْتَضِيه بَلْ كَانَ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا فَقَالَ اِرْجِعْ إِلَى رَبّك " الْآيَة وَقَدْ وَرَدَتْ السُّنَّة بِمَدْحِهِ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّنْبِيه عَلَى فَضْله وَشَرَفه وَعُلُوّ قَدْره وَصَبْره صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِ فَفِي الْمُسْنَد وَالصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث الزُّهْرِيّ عَنْ سَعِيد وَأَبِي سَلَمَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْنُ أَحَقّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيم إِذْ قَالَ " رَبّ أَرِنِي كَيْف تُحْيِي الْمَوْتَى " الْآيَة وَيَرْحَم اللَّه لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْن شَدِيد وَلَوْ لَبِثْت فِي السِّجْن مَا لَبِثَ يُوسُف لَأَجَبْت الدَّاعِي وَفِي لَفْظ لِأَحْمَد : حَدَّثَنَا عَفَّان حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن سَلَمَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَمْرو عَنْ أَبِي سَلَمَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله " فَاسْأَلْهُ مَا بَال النِّسْوَة اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيهنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيم " فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كُنْت لَأَسْرَعْت الْإِجَابَة وَمَا اِبْتَغَيْت الْعُذْر وَقَالَ عَبْد الرَّزَّاق : أَخْبَرَنَا اِبْن عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرو بْن دِينَار عَنْ عِكْرِمَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ عَجِبْت مِنْ يُوسُف وَصَبْره وَكَرَمه وَاَللَّه يَغْفِر لَهُ حِين سُئِلَ عَنْ الْبَقَرَات الْعِجَاف وَالسِّمَان وَلَوْ كُنْت مَكَانه مَا أَجَبْتهمْ حَتَّى أَشْتَرِط أَنْ يُخْرِجُونِي وَلَقَدْ عَجِبْت مِنْ يُوسُف وَصَبْره وَكَرَمه وَاَللَّه يَغْفِر لَهُ حِين أَتَاهُ الرَّسُول وَلَوْ كُنْت مَكَانه لَبَادَرْتهمْ الْبَاب وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُون لَهُ الْعُذْر هَذَا حَدِيث مُرْسَل .
ويمكن تحليل معطيات الآيتان فى الجدول التالي:
جدول الرؤيا وتعبيرها للسجينين والملك
رؤيا السجينين ... رؤيا الملك
الرؤيا ... قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي
أَعْصِرُ خَمْرًا(/6)
وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي
أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ... وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى
سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ
التعبير ... أَمَّا أَحَدُكُمَا
فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا
وَأَمَّا الْآخَرُ
فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ ... قَالَ
تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
نقاط التشابه بين الرؤيتان:
إِنِّي أَرَانِي
تَأْكُلُ
نقاط التشابه فى التعبير
فَتَأْكُلُ
وسنحاول التوصل إلى أصول تعبير الرؤيا من القرآن مباشرة ، كالآتي:
أولا: رؤيا السجينين:
بشأن رؤيا السجين الأول ، بتتبع الروابط المنهجية ، من النوع اللغوي فى القرآن الكريم
بتتبع جذر ومعني " أَعْصِرُ " نجد:
سورة يوسف:
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
راجع تفسير ابن كثير لنفس الآية فى السابق
وبشأن رؤيا السجين الآخر ، بتتبع الروابط المنهجية ، من النوع اللغوي فى القرآن الكريم
فبتتبع جذر ومعني الطير نجد:
سورة الحج:
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
تفسير ابن كثير
" حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْر مُشْرِكِينَ بِهِ " وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ عَنْ عَاصِم بْن أَبِي النَّجُود عَنْ وَائِل بْن رَبِيعَة عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ : تَعْدِل شَهَادَة الزُّور الْإِشْرَاك بِاَللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَة وَقَوْله " حُنَفَاء لِلَّهِ " أَيْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين مُنْحَرِفِينَ عَنْ الْبَاطِل قَصْدًا إِلَى الْحَقّ وَلِهَذَا قَالَ " غَيْر مُشْرِكِينَ بِهِ " ثُمَّ ضَرَبَ لِلْمُشْرِكِ مَثَلًا فِي ضَلَاله وَهَلَاكه وَبُعْده عَنْ الْهُدَى فَقَالَ " وَمَنْ يُشْرِك بِاَللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاء " أَيْ سَقَطَ مِنْهَا " فَتَخْطَفهُ الطَّيْر " أَيْ تَقْطَعهُ الطُّيُور فِي الْهَوَاء " أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيح فِي مَكَان سَحِيق " أَيْ بَعِيد مُهْلك لِمَنْ هَوَى فِيهِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيث الْبَرَاء أَنَّ الْكَافِر إِذَا تَوَفَّتْهُ مَلَائِكَة الْمَوْت وَصَعِدُوا بِرُوحِهِ إِلَى السَّمَاء فَلَا تُفَتَّح لَهُ أَبْوَاب السَّمَاء بَلْ تُطْرَح رُوحه طَرْحًا مِنْ هُنَاكَ ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَة وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيث فِي سُورَة إِبْرَاهِيم بِحُرُوفِهِ وَأَلْفَاظه وَطُرُقه وَقَدْ ضَرَبَ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ مَثَلًا آخَر فِي سُورَة الْأَنْعَام وَهُوَ قَوْله " قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُون اللَّه مَا لَا يَنْفَعنَا وَلَا يَضُرّنَا وَنُرَدّ عَلَى أَعْقَابنَا بَعْد إِذْ هَدَانَا اللَّه كَاَلَّذِي اِسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِين فِي الْأَرْض حَيْرَان لَهُ أَصْحَاب يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى اِئْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّه هُوَ الْهُدَى " الْآيَة .
فنجد أن تتبع ذكر كلمة أَعْصِرُ مفسر للرؤيا فى آية آخري تفيد الرخاء ، وكذلك ذكر الطَّيْرُ مفسر للرؤيا فى آية آخرى تفيد الهلاك
__________________-
ثانيا: رؤيا الملك:
بينما إن تناولنا رؤيا الملك ، وتتبعنا تفسيرها بتتبع الروابط المنهجية اللغوية للبحث عن تعبير يوسف عليها السلام ، نجد الآتي:
بتتبع جذر ، ومعني يَأْكُلُهُنَّ:
سورة الأعراف:
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
تفسير المنتخب – تفسير الميسر
بتتبع جذر ، ومعني وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ:
سورة البقرة:
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
بتتبع حبة:
سورة الأنعام:(/7)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
( تلاحظ أن هذه الآية متلاقية مع آية البقرة 261 فى جذر ومعني حبة ، ومتلاقية مع الرؤيا في جذر ومعني خضرا)
سورة الأنعام:
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
( تلاحظ أن هذه الآية- الأنعام59- متلاقية مع آية البقرة 261 فى جذر ومعني حبة ، ومتلاقية مع الرؤيا في جذر ومعني يَابِسٍ)
وبتتبع "أَمْوَالَهُمْ " المذكورة فى آية البقرة 261:
سورة البقرة:
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
تفسير ابن كثير
ومن ثم عند تفسير الرؤيا في ضوء معطيات الآيات السابقة نجد تفسير رؤيا الملك هو:
سبع سنبلات خضر تفيد : سبع أحوال خصب
سبع سنبلات يابسات تفيد: سبع أحوال جدب
ومن تفسير سبع سنبلات خضر ، وسبع سنبلات يابس ، نستنتج أن سبع بقرات سمان هي ما يختزنه الناس مما تنتجه الأرض في السبع الخصب
... ... سبع بقرات عجاف هي ما يستهلكه الناس في السبع أحوال جدب من الذي تم إختزانه سابقا
من أسلوب تفسير الرؤيا السابق نستنج منهج تفسير الرؤيا كالآتي:
الظنية العلمية
منهج التفسير الإسلامي للرؤيا:
معرفة الرؤية ومعرفة حال رائيها
تحليل الرؤيا إلى عناصرها الأساسية التي بتفسيرها يتم تفسير الرؤيا.
جمع الأصول الإسلامية المفسرة لعناصر الرؤية التي تم تحليلها
تفسير عناصر الرؤيا الأساسية
استنتاج تفسير الرؤيا بناء على تفسير عناصر الرؤيا الأساسية.
الإعداد للاستفادة من وقوع الرؤيا
البرهان
البرهان هو نجاح تطبيق منهج تفسير الرؤيا على رؤية مذكورة فى القرآن قد تحققت:
وتم اختيار رؤيا يوسف ( المذكورة فى سورة يوسف الآية4)
نص الرؤيا:
قرآن كريم
سورة: يُوسُف
آية: 4
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ
تحديد عناصر الرؤية:
يوسف
الكواكب.
الشمس.
القمر.
جمع معلومات التعبير والانتقاء منها
الآيات القرآنية :
الأنعام
الصافات 6
إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب
ابن كثير
المعطيات:
زينة
الكواكب
قرآن كريم
سورة: النَّحْل
آية: 12
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
ابن كثير
المعطيات:
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ
قرآن كريم
سورة: لُقْمَان
آية: 20
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ
ابن كثير
أحوال الرائي:
له أب و"أم أو خالة "، وأحد عشر أخاً
التفسير الافتراضي
التفسير للرؤيا عند بدأ رؤيتها قبل تحقيقها :
يوسف سيكون له رفعة علي أبيه و خالته وأخوته.
تحقق الرؤيا
سورة: يُوسُف
آية: 100
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ البَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ
ابن كثير(/8)
وبهذا توافق تفسير الرؤيا مع تحقق الرؤيا ، وبهذا تم الإثبات ولله الحمد ، خاصة أن التفسير جاء من طريق بعيد عن التفسير القرآن لها والذي في آية 100 سورة يوسف ، والحمد لله.
الناتج الإسلامي العلمي الختام
المنهج الإسلامي لتعبير الرؤيا:
معرفة الرؤية ومعرفة حال رائيها
تحليل الرؤيا إلى عناصرها الأساسية التي بتفسيرها يتم تفسير الرؤيا.
جمع الأصول الإسلامية المفسرة لعناصر الرؤية التي تم تحليلها
تفسير عناصر الرؤيا الأساسية
استنتاج تفسير الرؤيا كليا بناء على تفسير عناصر الرؤيا الأساسية.
الإعداد لوقوع الرؤيا
ملحق : الملاحظات المنهجية لتفسير الرؤيا
الرؤيا فى الحديث الشريف
4366 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ عَنْ وَكِيعِ بْنِ عُدُسٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبَّرْ فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ قَالَ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَلَا تَقُصَّهَا إِلَّا عَلَى وَادٍّ أَوْ ذِي رَأْيٍ *
سنن أبي داود ، كتاب الأدب / السند ... مرفوع متصل ، سند واحد /مراتب عدالة الرواة ... الأولي ، والثانية ، والثالثة ، والسادسة / التخريج ... سنن الترمذي 2204 ، 2205 ؛ سنن ابن ماجه 3904 ؛ مسند أحمد 15593 ، 15602 ، 15606 ، 15616 ؛ سنن الدارمي 2055/ الترقيم ... ترقيم العالمية 4366 ، ترقيم محي الدين 5020.
وبمطالعة بعض كتب مفسرين الرؤيا ، نجد أن خلاصة الشروط التي يجب توافرها في المعبر إجمالاً :
العلم بكتاب الله وسنة رسوله ص.
اجتناب الشرك وشبهاته.
مراقبة الله في السر والعلن.
التورع عن الشبهات وأكل الحرام.
أن يكون عالماً بأحوال الناس وطبائعهم.
أن يكثر من الإطلاع في كتب أئمة المعبرين وأقوالهم.
أحكام الرؤي والأحلام ، في القرآن الكريم والسنة المطهرة ، اسامة محمد العوضي، مكتبة السنة1990
وللنفاذ في علم الرؤيا بثلاث أصناف من العلم لابد منها:
حفظ الأصول ووجوهها واختلافها وقوتها وضعفها في الخير أو في الشر ، لتعرف وزن كلام التأويل ، ووزن الأصول في الخفة والرجحان والوثائق ، فيما يرد عليك من المسائل ، فإن تكن مسألة تدل بعضها علي الشر ، وبعضها علي الخير وازن الأمرين والأصلين في نفسك ، وزناً علي قوة كل أصل منهما في أصول التأويل ، ثم خذ بأرجحهما وأقواهما في تلك الأصول.
تأليف الأصول بعضها إلي بعض ، حتى نخلصها كلاماً صحيحاً علي جوهر أصول التأويل وقوتها وضعفها ، وتطرح عنها من الأضغاث والتمني وأحزان الشيطان وغيرها ، مما وصفت لك ، أو يستقر عندك أنها ليست رؤيا ، ولا يلتئم تأويلها ، فلا تقبلها.
شدة فحصك وتثبتك في المسألة ، حتى تعرفها حق معرفتها ، وتستدل من سوء الأصول بكلام صاحب الرؤيا ومخارجه ومواضعها عل بتلخصيها وتحقيقها.
(تفسير الأحلام الكبير للإمام محمد بن سيرين المتوفي سنة 110هـ - دار الكتب العلمية ، القاهرة 1416- 1996)
العلم بالأصول وبذلك يستخرج ويتوصل العابر ، وإلا فالإقتداء بالماضيين من الأنبياء والرسل والحكماء في ذلك أقرب إلي الصواب إن شاء الله ، فافهم
إذا أردت أن تفهم وزن كلام الرؤيا في رجحان وزنه وخفته :
فاستدل في كل مسألة من الرؤيا بأن يكون معها شاهد أو شهدان ، تدل علي ترجيح التأويل
(تفسير الأحلام الكبير للإمام محمد بن سيرين المتوفي سنة 110هـ - دار الكتب العلمية ، القاهرة 1416- 1996)
إذا أشكلت الرؤيا فعليكم فخذوا بالأسماء
ملاحظات شخصية:
وهذه بعض ملاحظاتي الشخصية ناتجة من تعبير الرؤيا بالمنهج السالف ذكره ، وأجملها فى الآتي:
أولا: بالتجربة البحثية يجب جعل القرآن والسنة هما وسيلة التفسير الوحيدة للرؤيا. ... ...
حيث تبين أن الإعتماد الكامل علي القرآن والسنة فقط يؤدي لتوضيح وتفصيل التفسير الصحيح للرؤيا
وهذه شهادة بحثية مني فى ذلك.
ثانيا: التعبير الدقيق غير التعبير الإجمالي للرؤيا:
وبهذا بدأ ينشأ تعبير التعبير الدقيق للرؤيا ، حيث يختلف عن التفسير الإجمالي للرؤيا ( الذي هو عبارة عن تفسير عام لا يهتم بدقائق الرؤيا ) أما التفسير الدقيق للرؤيا ( فهو يهتم بكل تفصيلة ودقيقة ويبحث عن معناها) وهذا يتطلب شرح تفصيلي لكل الرؤيا لا يُغفَل منه شيء ، وهنا أفضل من يعبر الرؤيا هو من يعبرها لنفسه حيث يحيط بأموره وما ينفعه وأيضا بالرؤيا ودقائقها – هذا والله أعلم-
ثالثا: هناك بحث بالمعاني وبحث بالألفاظ :
البحث في الألفاظ للكلمات الواضحة في الرؤيا ( أكثر تحديد) ، أما البحث عن المعاني فيشمل سياق الرؤيا كله ( أكثر مرونة) - حتى تستطيع العثور علي التوافق القرآن والسني الكامل مع الرؤيا
رابعا: مراجعة عملية تفسير الرؤيا بعد تحقق الرؤيا أو تحقق بعض أجزائها قد يعطي ضوء جديد علي الرؤيا من خلال الأصول المفسرة مما قد يعدل التفسير
خامسا: وجود رابط الرؤيا:(/9)
مثل كلمة مشتركة بين أكثر من رؤيا
يتم الإستدلال بها علي معاني الرؤي التي توجد فيها ، وجمع الثلاث رؤيا في تفسير واحد
سادسا: علامات صحة تفسير الرؤيا:
1- لاحظت أن الآيات التي تنطبق وتفسر عنصر للرؤيا قد تفاجأ بان الآيات التي تسبق الآية أو تليها تفسر عناصر أخري في الرؤيا ،
حتي في تفسير العناصر المتباعدة في تفسير الرؤيا ، مما أدي إلي وجود آيات محددة تفسير أجزاء كبيرة متباعدة في الرؤيا .
وتكرر الأمر ، حتي أصبح من علامات صحة تفسير الرؤيا بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية هو تفسير الآيات والأحاديث لعناصر آخري في الرؤيا.
2- أن الأصول المفسرة – آيات قرآنية أو أحاديث – تكون موافقة لأكثر من رؤيا لنفس الشخص. ...
و عندما بدأت التفسر الإسلامي العلمي للرؤيا ، وأنا ألحظ أن التفسير الإسلامي العلمي للرؤيا يختلف تماما عن التصور التلقائي لتعبيرها لأول وهلة ،
3- تشابه مضامين تفاسير الرؤيا المختلفة لنفس الموضوع لدي الشخص الواحد أو أشخاص متفرقون.
وفي الختام
وفي الختام لا يسعنا بعد هذا البحث الذي وفقني الله إليه ، وعلمني إياه:
كيف أن منهج تفسير الرؤيا متشابه مع بحث خطوات المنهج الإسلامي العلمي ، رغم أننا عدنا لإستخراجه من القرآن والسنة مباشرة ، فلا ينبغي وضع حائل بين القرآن والفكر ، بل الفكر دوما يعود للقرآن والسنة لينطلق منهما لا ينطلق من أبحاث مبنية عليهما ( التأكيد على ضرورة هيمنة القرآن على الفكر).
فإن القرآن غاية في التقدم العلمي ، ومستواه العلمي فوق مستوانا بقرون ، ولكننا لا ندرك ولا نفهم منه إلا ما وافق طاقة عقلنا ومتسع فهمنا.
أي أن طريق التقدم العلمي والسبق والطفرات العلمية هو تثوير القرآن وتنقيبه بالبحث وبأحدث الأدوات العلمية التي تم التوصل إليها وبالأدوات العلمية المستخرجة منه وبغيره مما لا أعلمه ولعل السنون أو القرون القادمة تكشفه إن شاء الله – إن لم تقم الساعة -.
وفي الختام النور والتقدم كل التقدم للإسلام ، والتقهقر والتخلف كل التخلف لمن لا يؤمنون بوجود كل أنواع العلم في القرآن والسنة
بحث أول مرة 27 /01 /1424
بحث ثاني مرة 16 /06 /1427- 12 /07 /2006
يسرى أحمد حمدى أبو السعود
estratigy@yahoo.com(/10)
المنهج الصحيح في فهم صفات الله تعالى
الجواب على سؤال السائل عن حديث النزول الالهي
بقلم حامد بن عبد الله العلي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فقد ورد سؤال من مسلم بريطاني ، يستشكل فيه التوفيق بين الإيمان بحديث النزول الإلهي كل آخر ليلة حتى يطلع الفجر ، كما قال صلى الله عليه وسلم ك( ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا ، حين يبقى ثلث الليل الآخر ، فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ) متفق عليه ، وكون الزمن لا يخلو من ثلث أخير من الليل في كل لحظة في العالم ، ويحسن أن نجيب على هذا السؤال بجواب عام ، يحصل به إيضاح المنهج الصحيح في تلقي وفهم نصوص صفات الله تعالى في الكتاب والسنة ، فنقول وبالله تعالى التوفيق ، يجب أن نقدم خمس حقائق مهمة في هذا الباب العظيم :
الحقيقة الأولى : أن الله تعالى أمرنا أن نؤمن بما أنزله في كتابه في القرآن ، وبما أوحى به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم في السنة ، حتى لو لم تدركه عقولنا القاصرة ، قال تعالى ( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) و قال تعالى ( والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ) ، وهذا هو سبب تسمية اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إيمانا ، لان كلمة الإيمان تشتمل على بعد غيبي يصدق به المصدق ، وهو لا يشاهده بعينه ، فلم يطلق عليه ( تصديق) في الكتاب والسنة لهذا السبب ، لان المطلوب أن يسلم المؤمن بما جاء به الرسول حتى لو كان غيبا مغيبا .
الحقيقة الثانية : أنه يجب الإيمان بصفات الله تعالى الواردة في القرآن والسنة بلا تحريف لمعانيها ، أو تعطيل لما تدل عليه من أنها صفات الله تعالى الكاملة ، ولا إدعاء المعرفة بكيفياتها ، ولا تمثيل بينها وبين صفات المخلوق ، وعلى هذا الأصل العظيم مضى الصحابة الكرام ، ومن تبعهم من أهل الإسلام ، الذين ساروا على طريق الصحابة وهم أهل السنة والجماعة .
الحقيقة الثالثة : أن الله تعالى موصوف بصفات الكمال المطلق ، لا يتطرق إليه نقص بأي وجه من الوجوه ، واعتقاد النقص في صفاته كما فعلت اليهود والنصارى بعد تحريفهم لما جاءت به أنبياؤهم عليهم السلام ، هو شرك وكفر به سبحانه .
الحقيقة الرابعة : أننا مع إيماننا بكل صفات الله تعالى الواردة في الكتاب والسنة ، وان اتصاف الله تعالى بها هو على الحقيقة ، غير أننا نجهل كيفيتها ، لان عقولنا القاصرة عاجزة عن ذلك ، ولهذا قال تعالى ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ) أي أن علمه سبحانه محيط بالإنسان وبكل خلقه ، غير أن الإنسان لا يمكنه أن يحيط علما بالله تعالى .
ومن الأمثلة التي توضح هذه الحقيقة أننا نؤمن بالأحلام والرؤى التي نراها في منامنا ، غير أننا عاجزون تماما عن معرفة كيفيتها ، ونؤمن بوجود الروح في أجسادنا مع أننا عاجزون تماما عن معرفة كيفيتها ، ونؤمن بوجود الجن كذلك ، وأنهم يأكلون ويشربون ويتناكحون ويؤمنون ويكفرون ، كما ذكر الله تعالى ذلك في القرآن ، ونعجز عن معرفة كيفية أداءهم لعملياتهم العضوية عجزا تاما ، فإذن يمكن أن ينفصل الإيمان بوجود الشيء وأنه حقيقة قائمة ، عن الإحاطة بكيفيته .
ولله المثل الأعلى ، فالله تعالى نؤمن بذاته ولكننا نجهل كيفيتها ، ونؤمن باتصاف الذات الإلهية بصفاتها العليا ، مثل السمع والبصر والعلم ، ولكننا نجهل تماما كيفية اتصاف الذات الإلهية بتلك الصفات ، مع أننا نجزم أن ذلك الاتصاف ، يختلف تماما عن اتصاف ذواتنا بصفاتها ، مع أن الأسماء متحدة متشابهة ، فنحن أيضا لدينا ذوات تسمع وتبصر وتعلم ، لكن الحقائق مختلفة تماما ، فالله تعالى لا يماثل خلقه ، ولايمكن معرفة كيفية صفاته سبحانه .
ونحن نرى أن المخلوقات أحيانا تتشابه في إطلاق الأسماء والصفات عليها، وتختلف الكيفيات اختلافا كليا ، فمثلا نطلق صفة اليد على يد البعوضة ، ويد الفيل ، ويد الباب ، ويد الإنسان ، بينما الكيفيات تختلف اختلافا عظيما ، مع أن الاسم الذي فهم منه الصفة ، اسم واحد ، فإذا كان هذا الاختلاف بين المخلوقات ، فكيف بالاختلاف بين الخالق والمخلوق ، ولهذا فنحن نؤمن باتصاف الله تعالى بصفة اليد كما ورد في القرآن والسنة ، ولكن نجهل كيفيتها ، ولا نمثلها بأيدينا ، تعالى الله عن ذلك .
الحقيقة الخامسة : أن الوحي الإلهي لا يتضمن ما يحكم العقل باستحالته ، ونعني بذلك العقل السليم الذي يفهم الاستدلال الصحيح ، والبراهين السليمة ، وينقاد للحق ، وليس عقل المستكبر ، فإنه عقل فاسد أعماه العناد .(/1)
غير أن الوحي الإلهي قد يتضمن أحيانا ما يحتار فيه العقل ، لان في الوحي الإلهي حديث عن الغيب ، والإنسان يتحير فيما غاب عن عقله ، ولكنه ليس بالضرورة يحكم باستحالة وقوعه ، فثمة فرق بين الإيمان بالشيء مع تحير العقل فيه ، والحكم بالاستحالة ، ومن الأمثلة على هذه الحقيقة أعني الفرق بين الحيرة والحكم بالاستحالة ، أنك لو حدثت شخصا قبل مائتي عام مثلا ، أن الإنسان سيمكنه فيما يأتي من الزمان ، أن يتحدث مع شخص آخر ويراه وبينهما آلاف الأميال ، بحيث أن أحدهما في جوف الليل ، والآخر في وضح النهار ، لاحتار عقله في الإيمان بهذا ، وربما أداه ذلك إلى التكذيب ، بينما لو عرضه مرة أخرى على عقله وبحث عن دليل صحيح يحكم بامتناع وقوع ذلك ، لحكم بأنه غير مستحيل الوقوع البتة ، وها نحن نراه واقعا اليوم .
فكذلك نحن قد نؤمن ببعض صفات الله تعالى إيمانا لا يتطرق إليه ريب ، غير أن عقولنا تبقى متحيرة في كيفيتها ، كإيماننا بعلم الله تعالى العظيم المحيط بكل الكليات والجزيئات التفصيلية الدقيقة في الحياة التي هي غير متناهية ، كما قال تعالى ( ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) ، ومعلوم أن تساقط الأوراق متجدد باستمرار وكذلك ، حبوب الزروع المختفية في باطن الأرض ، وما تحمله من أرزاق ، وكل ما يقع في البر والبحر ، كل ذلك يتحير العقل البشري في إمكان أن يدركه مدرك في كل لحظة ، ولا يفوته منه شيء البتة ، قد أحاط علمه بكل ذلك على التفصيل حتى جريان الإلكترونات حول نوات الذرات ، في كل الأرض والسموات ، هذا كله يتحير فيه عقل المؤمن ، وتصيبه هذه الحيرة بالدهشة والشعور الغامر بعظمة الخالق ، ولكن مع ذلك هو مؤمن مصدق مطمئن قلبه بان ذلك حق ، وقس على هذا المثال إيمان المؤمن بكل صفات الله تعالى العلية .
وإذا تبينت هذه الحقائق الخمس فالجواب على سؤال السائل أن نقول :
إن حديث النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل ، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق كثيرة مستفيضة ، واتفق العلماء على صحته ، والإيمان به واجب ، ومعارضة ما دل عليه من معنى حق ، بعقولنا القاصرة ، يخالف ما أمرنا به من الإيمان ، والتسليم التام بكل جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .
وأما قول القائل أن الحديث يقتضي حدوث النزول الإلهي في كل لحظة ، لان ما من لحظة إلا ويكون في بعض الأرض ثلث أخير من الليل ، فالجواب أن هذا الفهم إنما سبق إلى عقل المعترض ، بسبب ظنه أن النزول الإلهي كنزول البشر ، يجري عليه ما يجري على حركات البشر من الخضوع لظرف الزمان ، والانتقال من مكان إلى المكان ، فسبق إلى ذهنه تمثيل الله تعالى بخلقه ، فأدى ذلك إلى استشكال معنى الحديث ، ولو أنه علم أن كل صفات الله تعالى ، لا يماثله فيها ـ سبحانه ــ شيء من خلقه ، ولا يجري عليها ما يجري على صفات المخلوقين من الأحكام واللوازم ، لو استحضر هذا العلم في قلبه عند قراء ة أو سماع الحديث ـ كما فعل الصحابة رضي الله عنهم ولهذا لم يثيروا هذا التساؤل ــ لما استشكل معنى الحديث ، ولفهمه على أن النزول الإلهي ، ليس كنزولنا نحن ، ولا يلزم عليه ما يلزم من حركاتنا وأفعالنا البشرية ، بل هو أمر آخر خفيت علينا كيفيته ، كما خفيت علينا كيفية سائر صفاته من السمع والبصر و العلم والحياة والإرادة والمحبة والغضب والرحمة والاستواء على عرشه ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده إلى سائر الصفات الذاتية والفعلية التي اتصف بها سبحانه ، فنحن نؤمن بها ونجهل كيفيتها وكذلك النزول الإلهي في الثلث الأخير من كل ليلة .
هذا وقد أجمع العلماء من سلف الأمة ومن بعدهم ، على أن القاعدة العامة التي تضبط هذا الباب الجليل ، هي التي أطلقها الإمام مالك رحمه الله ، إمام دار الهجرة ، عندما سأله سائل عن استواء الله على عرشه ، فقال قولته المشهورة : (الاستواء معلوم ، والإيمان به واجب ، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة ) وكذلك يقال في كل صفات الله تعالى الواردة في الكتاب والسنة .
وقال العلماء من أهل السنة والجماعة أن أسماء الله تعالى وصفاته تفهم على ضوء ثلاثة أصول :
الأول : الإيمان بكل ما ورد في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته ، إثباتا ونفيا ، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الأسماء والصفات ، وننفي ما نفاه الله ورسوله من الأسماء والصفات ، من غير اعتراض على شيء من ذلك بعقولنا ، فذلك مقتضى الإيمان والتسليم ، قال تعالى ( والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ) وقال تعالى : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسماءه ) .
الثاني : نفي التمثيل والتشبيه بين أسماء الله وصفاته ، وأسماء المخلوقين وصفاتهم قال تعالى ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) .(/2)
الثالث : قطع الطمع عن إدراك كيفية صفات الله تعالى قال تعالى ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ) .
وقد أخذت هذه الأصول الثلاث من طريقة الصحابة التي أجمعوا عليها ، فلم تكن طريقتهم في فهم نصوص صفات الله تعالى إلا بالإيمان بها وإمرارها كما جاءت من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل ولاتمثيل ولا تكييف ، وقد حكى إجماعهم على ذلك عامة العلماء من أهل السنة والجماعة .
قال الإمام الاوزاعي ( كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله عز وجل فوق عرشه ونؤمن بما ورد في السنة من صفاته ) رواه البيهقي في الأسماء والصفات ، وصححه ابن القيم رحمه الله .
وقال الإمام الشافعي رحمه الله ( القول في السنة التي أنا عليها ، ورأيت عليها الذين رأيتهم مثل مالك وسفيان وغيرهما ... وأن الله تعالى على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف يشاء ، وينزل إلى السماء الدنيا كيف يشاء .. وذكر سائر الاعتقاد على هذا النحو ) ذكره الذهبي في العلو للعلي الغفار .
وقال الحافظ الخطيب رحمه الله ( أما الكلام في الصفات ، فأما ما روي منها في السنن والصحاح ، فمذهب السلف ( أي الصحابة والتابعون وأتباعهم من علماء القرون الثلاثة المفضلة ) إثباتها ، وإجراؤها على ظواهرها ، ونفي الكيفية والتشبيه عنها ) ذكره الذهبي في المصدر السابق .
وبهذا يعلم انه لاوجه لإثارة السؤال بأن النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل ، يلزم منه كونه يحصل على مدار الساعة ، لان ذلك إنما يحصل لو كان النزول يشبه نزول البشر ، أما وهو أمر لانعلم كنهه ، ولاندرك كيفيته ، فليس علينا إلا الإيمان به والتسليم بأنه حق على الكيفية التي تليق بالله تعالى ، ويعلمها هو ولا نعلمها ، قال تعالى ( سبحانك لاعلم لنا إلا ما علمتنا ) وقال : ( والله يعلم وأنتم لاتعلمون ) والله أعلم .(/3)
المنهج المعكوس
أ. د. عماد الدين خليل 19/7/1427
13/08/2006
سيقف هذا المقال قليلاً لمناقشة المنهج المعكوس الذي يعتمده بعض الباحثين(1) في دراسة الحضارة الإسلامية، والذي يبدأ من الحديث عن اقتباسات المسلمين عن الآخرين، ثم يستنتج ، أو يوحي، بأن الحضارة الإسلامية لا تعدو أن تكون مجموعة من قطع الغيار استعيرت من الحضارات والثقافات الأخرى، وشُكّلت بها حضارة الإسلام، وكأن المسلمين خرجوا من جزيرتهم لا يحملون بذرة التحضر، أو أي شيء يمت إليها بصلة.
والخطأ الذي يقوم عليه هذا الافتراض هو أن أولئك الباحثين يغفلون حقيقة في غاية الأهمية وهي أن المسلمين خرجوا وهم يحملون رؤية جديدة قديرة إذا انصبت على الحضارات الأخرى، أن تصنع حضارة متميزة أصيلة، تعرف كيف تفيد من "الآخر"، ولكن بعد أن تخضع عناصر الأخذ للرؤية المتفردة بمواصفاتها الإيجابية التي لم تجتمع بهذا القدر من الغنى والتوافق في أي حضارة أخرى على الإطلاق.
لقد تأسست حضارة الإسلام في المجال الذي يعكس الشخصية الحضارية، والذي يبدأ بالعقيدة، ويمضي إلى الشريعة والنشاط المعرفي والثقافي عموماً (ولهذا ـ على سبيل المثال ـ تُرجمت فلسفة اليونان كأداة للجدل وليس كهدف معرفي، وفي المقابل فإن أدب اليونان القائم على الميثولوجيا الوثنية، لم يلق إقبالاً على ترجمته إلى العربية، وما تُرجم منه لم يلق رواجاً، وظل معزولا إلى حد كبير عن ذاكرة المسلمين ووجدانهم).
أما على مستوى العلوم الصرفة كالفلك والرياضيات والطبيعة والطب وعلوم الحياة .. الخ فإن الحضارات تنحو ـ بشكل عام ـ إلى اعتماد قانون تراكم الخبرة، والإضافة على ما قدمه الآخرون، وكان على الحضارة الإسلامية أن تعتمد القانون نفسه فحققت قفزات نوعية، بل إنها قدمت إضافة ذات قيمة بالغة في سياق مناهج العلوم وهي المختبر .. ومن ثم فإنها لم تكن مجرد "عالة" على الحضارات الأخرى بأي معيار من المعايير.
والحالة نفسها تنطبق على النظم الإدارية حيث تجد الحضارات الناشئة ـ في البداية ـ أن لا وقت لديها لتسيير المؤسسات، فتقتبس عن الآخرين، لكنها لا تلبث أن تبدل وتحور وتنقص وتزيد، وتؤصل ـ في نهاية الأمر ـ نظمها الخاصة بها (ولنتذكرـ على سبيل المثال ـ ما حدث بالنسبة لنمو الدواوين وتوزيع تخصصاتها فضلاً عن حركة التعريب المعروفة التي استهدفت المؤسسة الإدارية بالدرجة الأولى).
إن الباحثين المذكورين يعتمدون منهج الاستدلال بالجزئيات المنقولة عن الآخرين، ويعرضون منها حشوداً توحي للوهلة الأولى بأن حضارة الإسلام لا تعدو أن تكون ـ بالفعل ـ تجميعاً ميكانيكياً منقولاً عن الحضارات الأخرى. لكن هذا الأسلوب لا يلبث أن يتعرض للاهتزاز إذا تذكرنا مرة أخرى كيف أن هؤلاء الباحثين يتعمدون أو يغفلون الانطلاق من نقطة البداية الصحيحة، وهي الرؤية الشمولية للدين الجديد، والتي كان بمقدورها دائماً أن تخضع الجزئيات المقتبسة، بل تصهرها، من أجل إقامة الكيان الحضاري المتميز، الجديد. إن الذي حدث لم يكن ـ بأي صيغة من الصيغ ـ مجرد محاولة ميكانيكية، وإنما كان الأمر أعمق من هذا بكثير، إنه إعادة تركيب الجزئيات المقتبسة في كل حضاري يملك ملامحه المتميزة، ورؤيته المستقلة للكون والعالم والظواهر والأشياء.
إن الإسلام كدين، بخلاف النصرانية، كان تأسيساً حضارياً بمعنى الكلمة، وبالتالي فإن انتصاره وتفرده في القيادة كان يعني بالضرورة قيام حضارة متفردة جديدة. وإن بمقدور المرء أن يمضي إلى أبعد من هذا فيرى كيف أن الإسلام نظر إلى الحضارات الأخرى، أو ـ على الأقل ـ إلى أقسام واسعة منها، على أنها امتداد للجاهلية بشكل من الأشكال، وبالتالي فإن التعامل معها لم يكن بصيغة التقبل أو الانبهار، كما حدث للشرق الإسلامي في العصر الحديث، وإنما بصيغة فوقية تحمل أصالتها واعتدادها بالذات، دون أن يمس هذا البعد الإنساني المفتوح للحضارة الإسلامية التي تعاملت مع الإنسان حيثما كان، وكسرت حواجز الجغرافيا والطبقة والعرق واللون، بل إنها تجاوزت حتى حواجز المذاهب والأديان.
والباحثون المذكورون يعكسون الحالة مرة أخرى بادعائهم أن المغلوب هزم الغالب
حضارياً، والحال أن الغالب قدر في عقود معدودة على أن يطوي المغلوب على كل المستويات بدء من الدين والسياسة وانتهاء بمجمل المفردات الحضارية … وتمكّن من أن يأخذ ويدع، ويفكك ويذيب، إلى الحد الذي لم يبق معه للثقافات المحلية مقومات مستقلة اللهم إلاّ ما كان يتساوق منها مع معطيات الحضارة الناشئة.
إن الحضارة التي تقوم على الأخذ ليس بمقدورها أن تعطي أو تؤثر في الحضارات
الأخرى. والذي حدث بالنسبة لحضارة الإسلام هو العكس فإن تأثيرها كان عميقاً للغاية، ليس فقط بصيغة حماية التراث القديم، وإعادته منقحاً أو مضافاً عليه، وإنما أيضاً بصيغة تقديم معطيات أصيلة مبتكرة كان لها أبلغ الأثر في صيرورة الحضارات الأخرى، وبخاصة الغربية،(/1)
ومهما يكن من أمر فإن انعكاس المبادئ والقيم الإسلامية الأساسية على النشاط الحضاري عبر نشوئه وتناميه، منحه خصائصه المتميزة. وهذا الانعكاس أو الارتباط المؤكد بين العقيدة والحضارة يمثل -ولا ريب- نقطة البداية الصحيحة في منهج دراسة حضارة الإسلام، وليس العكس كما توهم بعض الباحثين، فأوقعهم الوهم في جملة أخطاء، وقادهم إلى استنتاجات مضللة...
ويكفي أن نؤشر هنا على بعض ما قاله الباحثون الغربيون لتأكيد هذا الانعكاس.
وهذا التأكيد يُعدّ -ولا ريب- ضرورة علمية بسبب من صعوبة الفصل بين النشاط الحضاري الإسلامي عبر التاريخ وبين البيئة الإسلامية التي تشكّل فيها، وتلقى عنها مؤثراته وحوافزه ومكوناته. وما من ريب، استناداً إلى هذا، في أن أي محاولة لتوهم فصل أو تعارض كهذا، إنما هو أسلوب مضلل في دراسة تراثنا الحضاري، ولن تكون نتيجته سوى حشود من الأوهام والأخطاء التي تنافي روح البحث العلمي الجاد.
فما الذي يقوله "الغير" بهذا الخصوص قبل أن يقوله المسلمون أنفسهم ويؤكدوه؟
يشير (روبرت برنشفك) أستاذ اللغة والحضارة العربيتين في جامعتي (بوردو) و(باريس) إلى
"أن تأثير الدين الإسلامي تتجلى قوته في عدد كبير من عناصر الثقافة الإنسانية: في اللغة والفنون والآداب والأخلاق والسياسة والتركيب الاجتماعي ونشاطه والقانون، بحيث لا نستطيع إذا أخذنا الوضعية كلا، أن نلاحظ مدنية مستقلة فيها لا تتميز (بالعنصر الإسلامي) فحسب ، بل (بالعامل) الإسلامي أيضاً"(2) لقد "أصبحت العقيدة الإسلامية خلال القرنين الثاني والثالث (الهجريين) نظاماً نما بصورة واسعة في نواح مختلفة، وكان شديد الرغبة في إظهار تماسكه في كل مدرسة أو نزعة تتضح في نطاقه .. وهكذا أخذ الإسلام مكانة عملية قُدّرت له في عدة ميادين ثقافية، وهو دور المؤثر والمتأثر، وهو مظهر مزدوج لا يصح الفصل بين جزئيه غالباً إلاّ بطريقة مصطنعة "(3).
ويمضي (برنشفك) في تحليله إلى أن "من الأصح ـ دون ريب ـ أن نعتبر العقيدة الإسلامية عاملاً، لا في الحالات التي يحدث أن تستمد منها حلاً جديداً من مواردها الخاصة بها فحسب، أو تأتي بحل جديد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ولكن في كل حالة تستوعب فيها حلاً داخلياً أو أجنبياً في نظامه، ويلونه بطريقته الخاصة، وبذلك تساعد على اقتباسه أو الاحتفاظ به. فكم من عمل لم تكن به من ناحية المبدأ صبغة إسلامية، طبعه الإسلام بطابعه إلى الحد الذي أصبح فيه عملاً مميزاً للإسلام، وذلك بفضل إسناد التربية الإسلامية المأثورة. ومن الممكن أن الصفة الإسلامية الخاصة لعنصر ثقافي في أكثر من حالة واحدة لا يدين بشيء إلى الأصل الذي نشأت عنه بل يعبر فقط عن الحقيقة: أن الإسلام باقتباسه العنصر المذكور طبعه بطابعه أو أراد اقتباسه وتمثيله "(4).
ويشير رجل القانون الدولي الفرنسي المعاصر(مارسيل بوازار) إلى أن الإسلام "اقترض ولا ريب، لكنه عرف كيف يحقق، بفضل روحه التوفيقي بشكل أساسي، بناء يحمل طابعه. فجميع بنائه الثقافي قائم على التكافل والتوفيق: مصادفة، واكتشاف، وتقبل، وتمثل، وتنمية وتطوير. وقد أضاف إليه الدين تلويناً خاصاً به، صادراً عن شعور بالسمو والانسجام، كما أنه صادر عن نوع من الوحدة في الاستلهام. وكانت مساهمة العالم الإسلامي الثقافية ضخمة"(5).
ويقول (موريس بوكاي) المفكر الفرنسي المعروف بأن "الإسلام قد اعتبر دائماً أن الدين والعلم توأمان متلازمان. فمنذ البدء كانت العناية بالعلم جزءاً لا يتجزأ من الواجبات التي أمر بها الإسلام. وأن تطبيق هذا الأمر هو الذي أدى إلى ذلك الازدهار العظيم للعلوم في عصر الحضارة الإسلامية، تلك التي اقتات منها الغرب نفسه قبل عصر النهضة في أوربا"(6).
ويلحظ المؤرخ البريطاني المعاصر (أرنولد توينبي) كيف أن الإسلام "وفق فيما أخفق
فيه سابقوه؛ لأنه استكمل عملية طرد الهلينية من العالم السوري. كما عاد فأدمج في الخلافة العربية، الدولة العالمية السورية التي اختزل اسكندر الأكبر حياتها بقسوة قبل أن تستكمل رسالتها .. وأخيراً منح الإسلام المجتمع السوري ـ بعد انقضاء قرون من توقف حيويته ـ على أن يسلم الروح، وهو متأكد أنه لن يزول دون أن يخلق عقباً؛ إذ غدت العقيدة الإسلامية اليرقة التي بزغت عنها في حينها الحضارتان العربية والإيرانية "(7).
ويعاين المستشرق الفرنسي (دومينيك سورديل): الفن الإسلامي من الوجهتين التاريخية والجغرافية، فيرى أنه يستحق" على الرغم من نزعته التجريدية، التي تدين للإسلام وللإسلام وحده بوحدته، أن يتوج الثقافة الإسلامية الضخمة، التي تتصف بدورها بالوحدة على الرغم من نزعاتها المتباينة. ومن ثم فلا يبدو لنا الإسلام دينا (فحسب) ولا أمة (فحسب)، بل ركنا لحضارة ينعش مظاهرها الدينية والفكرية والفنية ، أو يكيفها على الأقل"(8).(/2)
ويؤكد المفكر المجري ليوبولد فايس ( محمد أسد ) على " أن التاريخ يبرهن وراء كل إمكان للريب أنه ما من دين أبداً حث على التقدم العلمي كما حث عليه الإسلام، وأن التشجيع الذي لقيه العلم والبحث العلمي من الدين الإسلامي انتهى إلى ذلك الإنتاج الثقافي الباهر في أيام الأمويين والعباسيين وأيام دولة العرب في الأندلس. وأن أوروبة لتعرف ذلك حق المعرفة؛ لأن ثقافتها هي نفسها مدينة للإسلام بتلك النهضة على الأقل بعد قرون من الظلام الدامس"(9).
"إنها القوة العجيبة التي تشع من العقيدة الجديدة" كما يقول (فرانشيسكو كابرييلي)، كبير أساتذة اللغة العربية وآدابها في جامعة روما "ومن الدولة التي إقامتها هذه العقيدة، والتي نمت في كل اتجاه، وأنتجت حضارة موحدة إلى حد يدعو إلى الدهشة، وذلك على رغم من الاختلاف الشديد بين البيئات والمستويات الثقافية التي ازدهرت عليها …"(10) ويواصل (كابرييلي) "من الواضح أننا نعني بالإسلام هنا كل (الحضارة الإسلامية) التي تطورت بمالها من مظهر خاص، من آسيا الوسطى إلى المحيط الأطلسي، والتي قامت على الإيمان برسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم … ولا ريب أن العقيدة الدينية قد زودت هذه الحضارة ليس بعاملها المشترك. فحسب، بل بمحورها ومظهرها الأساسي أيضاً. وأن كل مظاهر الحياة الأخرى من مادية وروحية، ومن سياسية وأدبية واقتصادية واجتماعية، تحمل طابع هذا العنصر الديني، وتنعكس عليها ألوانه، وتنمو وتتسع تحت تأثيره. وقد قال أحدهم: إن الإسلام دين (عالمي شامل) أكثر من أي دين آخر، ويشمل تأثيره الإنسان بأكمله وليس شعوره الديني وحده"(11)، ثم يخلص (كابرييلي) إلى القول بأن "الطابع الإسلامي إذا غلب على أمة من الأمم لا يمكن محوه البتة …"(12).
ويذكر المستشرق الأمريكي (أدوين كالفرلي) بأن "المسلمين قد هضموا العلم والفلسفة الهلينية ثم حوروا فيهما ليلائموا بين معرفتهم الجديدة وبين روح العقيدة القرآنية"(13).
أما المستشرق البريطاني المعروف (هاملتون جب) فيلحظ كيف أن البيئات الثقافية المتنوعة في عالم الإسلام من تخوم الصين وسهوب جنوبي روسيا وإندونيسيا وشبه القارة الهندية إلى غربي آسيا وشمالي إفريقية وأسبانيا ظلت تحتفظ" مجتمعة ومنفردة بطابع إسلامي معين مشترك يمكن تبينه بسهولة"(14)، والسبب فيما يراه (فون كرونباوم) المستشرق النمسوي يكمن في "أن ثقافة الإسلام العامة تملك تحت تصرفها وسائل متعددة تساعد على التوفيق بين الثقافات المحلية. ومن هذه الوسائل التي يتميز بها الإسلام في الأخص: الإجماع .. الذي له سلطة الفصل في شرعية أي عمل أو عقيدة أخذتها الجماعة"(15) وهو يلحظ بأنه "حينما تُوضّح وجهة النظر الأجنبية في داخل إطار إسلامي وبتعابير إسلامية، يكون الإحساس بها إسلامياً صادقاً. ومن جهة أخرى فإن التوضيح التدريجي بحقائق الدين الأولى، ولما تشتمل عليه من ملابسات ثقافية، أخذ يساعد على توسيع الأساس الذي يقوم عليه التبادل بين الحضارات. وهكذا نجد أن ازدهار الحضارة العباسية إنما يمثل امتزاجاً ثانياً للحضارة الإسلامية، وقد فسحوا فيها المجال للتقاليد (المحلية) التي استمدوا جزءاً منها من الكتب، إلاّ أن معظمها دخل في التركيب الجديد عن سبيل حقائق التعايش الفعلي"(16).
ويذهب المفكر الفرنسي (غوستاف لوبون) إلى أن "العرب ذوو أثر بالغ في تمدين الأقطار التي خضعت لهم .. وأن كل بلد خفقت فوقه راية النبي الإسلام تحوّل بسرعة فازدهرت فيه العلوم والفنون والآداب والصناعة والزراعة أيّما ازدهار" (17) وأن "العرب أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين"(18).
وتقارن الباحثة الألمانية (سيغريد هونكة) بين الأمية المتفشية في الغرب ـ يومها ـ والتي بلغت 95% بما في ذلك الأباطرة والأمراء وبين ملايين البنين والبنات الذين كانوا يبدؤون بكتاب الله، وهم يمضون قدماً في سلم المعرفة .. "وكان الدافع إلى كل هذا هو رغبتهم الصادقة في أن يكونوا مسلمين حقاً، كما يجب أن يكون المسلم. فلم يجبرهم أحد على ذلك بل اندفعوا إليه عن رغبة وإيمان؛ لأن من واجب كل مسلم أن يقرأ القرآن. وهنا تتسع الهوة بين الشرق والغرب أيضاً، فالكتاب المقدس لا يجد الناس إليه سبيلاً إذا استثنينا الكهنة ورجال الدين.. ولم تكن هناك أي رغبة في تعليم الشعب أو تثقيفه"(19) وفي أسبانيا" كان أثر الإسلام على كل ناحية فكرية أو مادية هو الأساس الذي قامت عليه الحضارة هناك"(20).(/3)
ويعرف (كويلريونغ)، رئيس قسم اللغات والآداب الشرقية في جامعة (برنستون) ، المدلول الثقافي للإسلام بأنه يستعمل "بالمعنى الواسع ليدل على تلك المدنية المتجانسة ـ على الرغم من تنوعها ـ والتي وجّهها وسيطر عليها الدين الإسلامي منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً "(21) .. وعندما ظهر الإسلام "تحول التيار (الثقافي) إلى عكس الاتجاه الذي كان يسير فيه. وقد بدأ هذا التحوّل مفاجئاً في مظهره على الرغم من أنه يمكن للمؤرخ أن يتعرف على الأسباب التي تجمعت رويداً رويداً حتى أنتجت هذا الانعكاس في اتجاه التيار الثقافي. ومن جزيرة العرب اندفعت حماسة هؤلاء الساميين، ومعهم دينهم ولغتهم، إلى حدود الصين في الشرق وإلى جبال البرانس في الغرب .."(22).
ويفسر المستشرق البريطاني المعاصر (مونتجمري وات) قدرة المسلمين على احتواء الثقافات الأخرى والتفوق عليها، باعتقادهم العميق بأنهم أفضل من الآخرين ولقد "أرتبط بعض هذا الاعتداد بالنفس بالإسلام، الذي اعتبره المسلمون أعلى وأنقى صيغة من صيغ عبادة الله، ولم يؤكد هذا التعالي بصخب بحيث يثير شعوراً بشك، بل مضى بهدوء واستمرار" ولقد كانت "عملية استيعاب حكم وعلوم الآخرين عميقة جداً؛ إذ كان على الأناس الذين تعلموا في وقت ما التقاليد الفكرية السابقة، وأصبحوا مسلمين أن يصهروا بطريقتهم الخاصة معلوماتهم السابقة ضمن الدراسات القرآنية، وقد اندمجت مساهماتهم هذه في المجرى الرئيس للتفكير الإسلامي، وبهذا الأسلوب تكوّنت حضارة إسلامية مستقلة "(23) وهو يلحظ كيف أن المعرفة الإسلامية المستقلة هذه " أعطت أوروبا مفهوماً جديداً للعالم حيث حفز العلم الاهتمامات العلمية فانبثقت عنها نظرة كونية وميتافيزيقية أوسع. وعلى الرغم من أن الدراسات الدينية (النصرانية) لا تستند إلى الدراسات الكونية إلا أن الإنسان لا يستطيع ان يتحمل لفترة طويلة التناقض الجذري بين الكون الذي يحيا فيه وبين معتقده الديني، لذلك بدأ رجال الدين الأوربيون بالتوفيق بين الدين المسيحي والعلوم (الإسلامية) الجديدة "(24).
وثمة ـ أخيراً ـ تلك الملاحظات القيمة التي قدمها المفكر البريطاني (روم لاندو) بصدد الموضوع، فهو يقارن ـ مثلاً ـ بين حركة العلم الغربي والإسلامي، ويرى أن أولهما
انفصل، منذ عصر النهضة، انفصالاً أشد وضوحاً عن الدين، أو بتعبير آخر، تابع العلم سبيله غير ملتفت إلا قليلاً إلى مطالب الأخلاق وعلم الأخلاق. ففيما كان الإنسان في الغرب يكتسب معرفة متنامية أبداً بالكون الطبيعي، وسيطرة متعاظمة عليه، كان تقدمه الأخلاقي يتخلف
متلكئاً. وبتحرير العلم في القرون الوسطى من سلطان الكنيسة، لم يفصل الغرب العلم عن العقائد الدينية فحسب، بل فصله عن مفاهيم الإيمان والقيود الأخلاقية الملازمة لها أيضاً.
أما العلم الإسلامي فلم ينفصل عن الدين قط. والواقع أن الدين كان هو ملهمه وقوته الدافعة الرئيسية. ففي الإسلام ظهرت الفلسفة والعلم معاً إلى الوجود .. لإقامة الدليل على
(الألوهية) وتمجيدها. ومن هنا فليس عجيباً أن يكون العلم الإسلامي لم يجرد في أيما يوم من الأيام من الصفات الإنسانية ـ كما حدث في الغرب ـ ولكنه كان دائماً في خدمة الإنسان(25).
ويذكر (روم لاندو) بالمعرفة البدائية للعرب قبل الإسلام، وكيف أنهم أحرزوا خلال مئتي سنة انقضت على وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس غير، ذلك التقدم الثقافي الشامل العميق الذي يدعو إلى الذهول حقاً. وهو يذكر كذلك بأن النصرانية احتاجت إلى نحو من ألف وخمسمائة سنة لكي تنشئ ما يمكن أن يُدعى حضارة (مسيحية). ثم يتساءل عن الدوافع الرئيسة التي تكمن وراء الظاهرة فيجد من بينها: رغبة متقدة في اكتساب فهم أعمق للعالم كما خلقه الله .. قبول للعالم المادي، لا بوصفه دون العالم الروحي شأناً ومقاماً، ولكن بوصفه صنواً له في الصحة والرسوخ.. كان كل ما في الوجود صادراً عن الله .. كاشفاً عن قدرته، ومن هنا فهو جدير بالتأمل والدرس. ثم لا يلبث (لاندو) أن يخلص إلى النتيجة التالية: "في الإسلام لم يول كل من الدين والعلم ظهره للآخر ويتخذ طريقاً معاكسة. لا. والواقع أن الأول كان باعثاً من البواعث الرئيسية للثاني"(26).
ومرة أخرى .. فإن "الحقيقة التاريخية التي لا ريب فيها هي أن المسلمين وفقوا،
طوال خمسة قرون كاملة، إلى القيام بخطوات حاسمة في مختلف العلوم من غير أن يديروا ظهورهم للدين وحقائقه، وأنهم وجدوا في ذلك الانصهار عامل تسريع وإنجاح، لا عامل تعويق وإحباط"(27).
________________________________________
الهوامش
(1) ينظر على سبيل المثال: د. فيليب حتي ورفاقه: تاريخ العرب المطول، دار الكشاف، بيروت ـ 1965 م، الطبعة الرابعة.
(2) الوحدة والتنوع في الحضارة الإسلامية، تحرير فون غرونباوم، ترجمة د. صدقي حمدي، مكتب الدار المتنبي، بغداد ـ 1966 م، ص 74.
(3) المرجع نفسه، ص 79 ـ 80.
(4) المرجع نفسه، ص 80 ـ 81.(/4)
(5) إنسانية الإسلام، ترجمة د. عفيف دمشقية، دار الآداب، بيروت ـ 1980 م، ص 425.
(6) القرآن الكريم والتوراة والإنجيل (دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارك الحديثة)، دار المعارف، القاهرة ـ 1978 م، ص 14.
(7) مختصر دراسة للتاريخ، ترجمة فؤاد محمد شبل، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة ـ 1960 ـ 1965 م ، 1 / 241.
(8) الإسلام، ترجمة د. خليل الجر، المنشورات العربية، بيروت ـ 1977 م، ص 102.
(9) الإسلام على مفترق الطرق، ترجمة عمر فروخ، دار العلم للملايين، بيروت ـ 1965 م، الطبعة السادسة، ص 70 ـ 71.
(10) تراث الإسلام، تصنيف شاخت وبوزورث، ترجمة محمد زهير السمهوري ورفاقه، سلسلة عالم المعرفة، الكويت ـ 1978 م، 1 / 101.
(11) الوحدة والتنوع في الحضارة الإسلامية، ص 123.
(12) المرجع نفسه، ص 141.
(13) الشرق الأدنى: مجتمعه وثقافته، تحرير كويلر يونغ، ترجمة د. عبد الرحمن محمد أيوب، دار النشر المتحدة، القاهرة ـ بدون تاريخ، ص 174 ـ 175.
(14) دراسات في حضارة الإسلام، ترجمة د. إحسان عباس ورفاقه، دار العلم للملايين، بيروت ـ 1964 م ، ص 3 ـ 4.
(15) الوحدة والتنوع في الحضارة الإسلامية، ص 53.
(16) المرجع نفسه، ص 38 ـ 39.
(17) حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة ـ 1956 م، الطبعة الثالثة، ص 318.
(18) عن: محمد كرد علي: الإسلام والحضارة العربية، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة ـ 1968 م، الطبعة الثالثة، 1 / 54.
(19) شمس العرب تسطع على الغرب، ترجمة فاروق بيضون وكمال الدسوقي، المكتب التجاري، بيروت ـ 1964 م، ص 393 ـ 394.
(20) المرجع نفسه، ص 530.
(21) الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة.. بحوث ودراسات إسلامية، تأليف جماعة من الباحثين، جمع وتقديم محمد خلف الله، القاهرة ـ 1962 م، الطبعة الثانية، ص 232.
(22) الشرق الأدنى: مجتمعه وثقافته، ص 7.
(23) تأثير الإسلام على أوروبا في العصور الوسطى، ترجمة د. عادل نجم عبو، دار الكتب، الموصل ـ 1982 م، ص 18.
(24) المرجع نفسه، ص 124.
(25) الإسلام والعرب ، ترجمة منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت ـ 1977 م، الطبعة الثانية، ص 280 ـ 281.
(26) المرجع نفسه، ص 246.
(27) المرجع نفسه، ص 281.(/5)
المنهج مع الألفاظ المجملة
أ.د. ناصر العمر
الحمد لله رب العالمين، كتب العصمة في البلاغ لأنبيائه، والصلاة والسلام على المؤيدين بالوحي المسددين، وعلى آلهم ومن اقتفى آثارهم، وبعد فإن عوارض الألفاظ وما يعتريها من عموم وخصوص، وإجمال وبيان، أمور لا مندوحة عن بعضها في كثير من الأحيان، كيف لا وهي من عوارض كلام العرب، الذي يتحدث به الناس، غير أنه في مواطن ينبغي أن يتحرى المرء تبيين المجمل، كما أنه يتوجب عليه في مواطن ترك التعميم، أو التخصيص.
والأصل أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يسوغ، فمهما أردت بياناً فإياك والألفاظ المجملة والعبارات المحتملة فاجتنبها قدر الطاقة، ولا عصمة إلاّ لمن عصم الله.
بيد أن ما يغفل عنه بعض الطيبين الذين يحملون كلام بعض الفضلاء ولاسيما الدعاة والمصلحين، أوجهاً فيها شناعة، يغفلون في أحايين عن بعض الأوجه التي تبين كلامهم، فتراهم يشنعون على داعية أو مصلح أو علم بكلام غايته أن يكون مجملاً حملوه على معنى سيء أو ظن خاطئ، لتمسكهم بأحرف عجيبة، بحرفية جامدة فاقت جمود بعض الظاهرية على ما يحسبونه ظاهراً.
ولهذا يحسن التذكير بأن ذكر الألفاظ المجملة إنشاءً أو نقلاً عن قائليها سواء كانت إسرائليات أو أشعار أو غيرها قد شاع عند أهل العلم ولكن في سياق يوضح المراد من ذلك المجمل، فإن نقل أحد كلاماً مجملاً مكتنفاً لحق وباطل وجب أن ينظر في سياق كلامه ويحمل على الوجه الذي ذكره مستشهداً به عليه، ولا يحمل على غيره، وحمله على غيره حينها وإن كان مجملاً من تعسف الخابطين قال شيخ الإسلام _رحمه الله_: "واعلم أن من لم يحكم دلالات اللفظ ويعلم أن ظهور المعنى من اللفظ تارة يكون بالوضع اللغوي أو العرفي أو الشرعي ... وتارة بما اقترن باللفظ من القرائن اللفظية... وتارة بما يدل عليه حال المتكلِم والمخاطَب والمتَكلَم فيه وسياق الكلام الذي يعين أحد محتملات اللفظ ... إلى غير ذلك من الأسباب التي تعطي اللفظ صفة الظهور، وإلاّ فقد يتخبط في هذه المواضع"( ).
وقال الإمام ابن القيم: "السياق يرشد إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله في نظره غلط في مناظرته، فانظر إلى قوله _تعالى_: "ذق إنك أنت العزيز الكريم" كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير.."( ).
وبهذا يعلم غلط من تمسك بإجمال لفظ مجمل في الحطيطة من قائله أو ناقله، دون نظر منه إلى سياق الكلام الذي يبين إجماله، أو حال المتكلم المبينة لمراده، أو حال المخاطَب كما قال شيخ الإسلام.
كما يتبين غلط أولئك الآخذين بالجانب الذي لم يدل سياق كلام القائل أو الناقل على أخذه به وإنما ذكر تبعاً.
ولو قدر أن حال المتكلم أو المخاطَب أو سياق الكلام لم يظهر منها مراد المتكلم، فيظل المجمل مجملاً يتطلب من الناظر فيه استفصالاً من قائله قبل إصدار حكم عليه.
وكما يغلط أقوام في مثل هذا تغلط طائفة أخرى في مقابلة هؤلاء، فيعذرون بكل لفظ مجمل وإن كان سياق الكلام وحال المتكلم أو المخاطب لا تدل على خروج الاحتمال الباطل عن مراد المتكلم.
وهذا مما وقع بسببه خلط كثير أخذ بسببه فضلاء بغير جريرة على الحقيقة، واعتذر بل تعصب لأراذل من أصحاب الموبقات باعتذارات سمجة وتحميل لكلامهم ما لا تحتمله حالهم، والحق وسط بين طرفين، والله المسؤول أن يوفقني وإياك لمراعاته.
----------
) ) الفتاوى الكبرى 5/155.
) ) بدائع الفوائد 4/815.(/1)
المنهج وازدواجيّة المعايير
محمد عادل فارس
التزام منهج سليم في كلّ شأن من الشؤون أصل أصيل في حياة الإنسان ، وهو من الأمور التي تدلّ عليها نصوص الإسلام ومبادئه العامّة ، وهو في الوقت ذاته من العدل الذي أمرنا الله I به
وحضّنا عليه .
وممّا يُحزن أنّ هذا الأصل قد هجره كثير من الناس ، جهلاً أو تجاهلاً ، فنشأ عن ذلك اضطراب في الأحكام والمواقف . كيف لا ، وقد غاب المنهج والميزان ولم تتحكّم المعايير الصحيحة في التصرفات والمواقف ؟!
إنّك ترى بعض الناس يذهب بعيداً فيتحدّث عن الدول الغربيّة ذاكراً من عيوبها الخطيرة ازدواج المعايير في تعاملها الدوليّ ، فتارة هي مع حقوق الإنسان باندفاع وحماسة ، وتارة أخرى لا تحرّك هذه الدول ساكناً ، أو ربّما تتكلّم نفاقاً بكلام لا جدوى منه ، وهي ترى الإنسان يُطحن طحناً ، لأنّ الإنسان الذي يُطحن إنسانٌ مسلم لا يستحقّ الحياة في رأيهم ، فضلاً عن أن يكون له حقوق !! .
وتُدافع تلك الدول عن الديمقراطيّة ، فإذا أدّت الديمقراطيّة إلى نجاح التيار الإسلاميّ في دولة ما ، نقمت تلك الدول على تلك الديمقراطيّة المنحوسة وعملت على إجهاضها .
فالديمقراطيّة عندهم لا يجوز أن تسمح للمسلمين بالتقدّم ، بل يجب أن تكون دوما لمصلحة من يحارب الإسلام ، ويُصادر حقّه في الحياة .
والمشكلة التي نُريد أن نتكلّم عنها هي أنّ هؤلاء الناس الذين يأخذون على دول الغرب ازدواج المعايير وفقدان المنهج ، يحسبون أنّ هذا المرض خاصّ بالدول ، وما هذا بسديد ، وإنّما يقع فيه بعض المسلمين بوعي أو دون وعي ، وهو مرض يصيب الأفراد والجماعات ، كما يُصيب الدول .
تجد أحدهم يهاجم فلاناً من الناس ، أو يهاجم جماعة ما ، واصفاً إيّاها بالاستبداد والبعد عن الشورى ، فإذا ما خالطْتَه وقفتَ على العجب العجاب . حيث ترى هذا الإنسان إذا بدا له رأيٌ
وأعجبه ، يرفض بغضبٍ وحدّةٍ أيّ حوار يشمّ منه ردّاً لهذا الرأي أو تعديلاً عليه . ولا ينجو الإنسان الذي يُبدي ملاحظة على رأيه من لسانه الذي يسلقه دون كلال ، مدّة طويلة من الزمن .
بل إنّ واحداً ممّن يتّهمون الآخرين بالاستبداد وعدم إتاحة الفرصة للرأي الآخر سعى إلى حمل بعض إخوانه إلى أن يُقسموا بالله U على القيام بفعلٍ مُعيّن ليضمن قيامهم بهذا الفعل في غيابه . مع أنّ ما يطلبه منهم لم يرتضوه ولم تقبله عقولهم ولا معارفهم الشرعيّة الإسلاميّة .
فأين هذا من الشورى ، وهل مَنْعُ الناس من مجرّد مناقشة الرأي وحمْلُهم على الحلف بالله U ... من الإسلام ومن احترام الرأي الآخر ... ومن الشورى التي أمر بها الإسلام .؟! .
ورُبّما رأيتَ مسلماً يُطالبك بالدليل على حكم شرعيّ ، فإذا أتيته بالدليل زعم أنّ الحديث ضعيف لأنّ فلانا من المعاصرين ضَعَّفه ، مخالفاً أئمّة الإسلام وأعلام الحديث . ثمّ ، وهنا تكمن المشكلة ، يستشهد هو بحديث ضعيف على حكم من الأحكام ، وعلى المستمع أن يقبل دليله ، وإلاّ فهو مبتدع ضالّ من أهل النار . بل إنّ بعض جهلة المسلمين يستدلّ بأحاديث ضعيفة في مسائل العقيدة ، ويرفض استدلال غيره بأحاديث صحيحة ، لأنّ تلك الأحاديث الصحيحة لا توافق هوىً في نفسه ، ورأياً يميل أصلاً إليه .
وربّما تكلّم أحدهم فقال : إنّ من حقّ المتهم أن يحظى بمحاكمة عادلة ، وهذا من أبسط حقوق المواطن في الدولة الإسلاميّة ، فقد وقف أمير المؤمنين عليّ t أمام القاضي هو ويهوديّ من أجل درعٍ تنازعا ملكيّته ، ثمّ إذا دعوت هذا الإنسان إلى القضاء أو التحكيم أو ما هو في معناهما ، اعتبر نفسه فوق القضاء والمساءلة ، وأوحى كلامه وعباراته أنّه أكبر من المحاسبة والسؤال .
فتارة هو مع المساءلة والمحاسبة والمحاكمة ، وتارة يرى أنّ المساءلة ظلمٌ واعتداءٌ على مقامه ومقام أمثاله الذين يجب أن يكونوا فوق ذلك !! .
لذا لا بدّ من مراجعة كلّ منّا لنفسه والعمل على الالتزامٍ بمنهجٍ سليم نابع من مبادئ العدل التي جاء بها الإسلام . ولا بدّ من تطبيق ذلك في مناحي الحياة كلّها ، كي لا يقع أحدٌ في التناقض وازدواج المعايير . والله I نسأل أن يهدينا جميعاً إلى سواء السبيل .(/1)
المنهج القويم في تفسير القرآن الكريم
الشبكة الإسلامية
ليس للمفسر أن يسير في تفسيره لكتاب الله خبط عشواء، وإنما لابد له من منهج ينتهجه حتى يأتي بالتفسير على الصورة المرضية المقبولة، ولذلك قال أهل العلم: على من يفسر كتاب الله - تعالى - أن يبحث عن تفسيره في القرآن ـ فإن لم يجد فليطلبه فيما صح وثبت في السنة ، فإن لم يجد فليطلبه في أقوال الصحابة، وليتحاش الضعيف، والموضوع، والإسرائيليات، فإن لم يجد في أقوال الصحابة، فليطلبه في أقوال التابعين، فإن اتفقوا على شيء كان ذلك أمارة - غالبًا - على تلقيه عن الصحابة، وإن اختلفوا : تخير من أقوالهم، ورجح ما يشهد له الدليل، فإن لم يجد في أقوالهم ما يصلح أن يكون تفسيرًا للآية لكونه ضعيفًا، أو موضوعًا أو من الإسرائيليات التي حملوها عن أهل الكتاب الذين أسلموا: فليجتهد رأيه ولا يألوا -أي لا يقصر- ، إذا استكمل أدوات هذا الاجتهاد ، وعليه أن يراعي القواعد الآتية :
1- أن يتحرى في التفسير مطابقة التفسير للمفسَّر ، وأن يتحرز في ذلك عن نقص لما يحتاج إليه في إيضاح المعنى ، أو زيادة لا تليق بالغرض: أي لا يوجز فيخل ، ولا يطيل ويستطرد فيمل .
2- أن يُعنى بأسباب النزول؛ فإن أسباب النزول كثيرًا ما تعين على فهم المراد من الآية .
3- أن يُعنى بذكر المناسبات بين الآيات؛ لأن في ذلك الإفصاح عن خصيصة من خصائص القرآن الكريم وهي الإعجاز ، وللمناسبات في الكشف عن أسرار الإعجاز ضلع كبير .
وقد اختلفت مناهج المفسرين في هذين الأخيرين ، فمنهم : من يذكر المناسبة ، لأنها المصححة لنظم الكلام ، وهي سابقة عليه ، وبعضهم : يذكر السبب أولاً ، لأن السبب مقدم على المسبب .
والتحقيق: التفصيل بين أن يكون وجه المناسبة متوقفًا على سبب النزول كآية: ? إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ?[النساء:58]، فهذا ينبغي فيه تقديم السبب على المناسبة ، لأنه حينئذ من باب تقديم الوسائل على المقاصد ، وإن لم يتوقف وجه المناسبة على ذلك : فالأولى تقديم المناسبة على سبب النزول لبيان تآلف نظم القرآن ، وتناسقه ، وأخذ آياته بعضها بحجز بعض .
4- أن يجرد نفسه عن الميل إلى مذهب بعينه، حتى لا يحمله ذلك على تفسير القرآن على حسب رأيه ومذهبه، ولا يزيغ بالقرآن عن منهجه الواضح، وطريقه المستقيم.
5- مراعاة المعنى الحقيقي والمجازي ، حتى لا يصرف الكلام عن حقيقته إلى مجازه إلا بصارف ، وليقدم الحقيقة الشرعية على اللغوية وكذلك الحقيقة العرفية ، وليراع حمل كلام الله على معان جديدة أولى من حمله على التأكيد ، وليراع الفروق الدقيقة بين الألفاظ .
6- مراعاة تأليف الكلام ، والغرض الذي سبق له ، فإن ذلك يعينه على فهم المعنى المراد ، وإصابة الصواب ، قال الزركشي في البرهان : ليكن محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سبق له ، وإن خالف أصل الوضع اللغوي ، لثبوت التجوز .
7- يجب على المفسر البداءة بما يتعلق بالمفردات، وتحقق معانيها ثم يتكلم عليها بحسب التركيب ، فيبدأ بالإعراب إن كان خفيًا ، ثم ما يتعلق بالمعاني ، ثم البيان ، ثم البديع ، ثم ليبين المعنى المراد ، ثم ما يستنبط من الآيات من الأحكام والآداب ، وليراع القصد فيما يذكر من لغويات ، أو نحويات ، أو بلاغيات ، أو أحكام ، حتى لا يطغى ذلك على جوهر التفسير .
8- التحاشي عن ذكر الأحاديث والآثار الضعيفة والموضوعة ، والروايات المدسوسة : من الإسرائيليات ونحوها ، حتى لا يقع فيما وقع فيه كثير من المفسرين السابقين من الموضوعات ، والإسرائيليات في أسباب النزول ، وقصص الأنبياء والسابقين ، وبدء الخلق والمعاد ونحوها(/1)
المنهيات الشرعية في العقيدة
النهي عن الشرك عموماً الأكبر والأصغر والخفي 0
والنهي عن إتيان الكهان والعرّافين وعن تصديقهم ، وعن الذبح لغير الله ، وعن القول على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم 0 والنهي عن تعليق التمائم ومنها الخرز الذي يعلق لدفع العين ، وعن التِّوَلة ، وهي السحر الذي يعمل للتفريق بين شخصين أو الجمع بينهما 0
والنهي عن السحر عموماً ، وعن الكهانة والعرافة ، وعن الاعتقاد في تأثير النجوم والكواكب في الحوادث وحياة الناس ، وعن اعتقاد النفع في أشياء لم يجعلها الخالق كذلك 0
والنهي عن التفكر في ذات الله ، وإنما يتفكر في خلق الله .
والنهي أن يموت المسلم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى 0
والنهي أن يحكم على أحد من أهل الدين بالنار ، وعن تكفير المسلم بغير حجة شرعية ، وعن السؤال بوجه الله أمراً من أمور الدنيا وعن منع من سأل بالله أو بوجه الله ، بل يُعطى ما لم يكن إثماً وذلك تعظيماً لحق الله تعالى 0
والنهي عن سب الدهر ، لأن الله هو الذي يصرفه .
والنهي عن الطِّيَرة وهي التشاؤم 0
والنهي عن السفر إلى بلاد المشركين وعن مساكنة الكفار ، وعن اتخاذ الكافرين من اليهود و النصارى وغيرهم من أعداء الله أولياء من دون المؤمنين ، وعن اتخاذ الكفار بطانة فيرقبون للمشاورة والمودة 0
والنهي عن إبطال الأعمال ، كما إذا قصد الرياء و السمعة والمنَّ 0
والنهي عن السفر إلى بقعة للعبادة فيها ، إلا المساجد الثلاثة : المسجد الحرام ، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، والمسجد الأقصى ، وعن البناء على القبور واتخاذها مساجد 0
والنهي عن سب الصحابة ، وعن الخوض في ما حدث من الفتن بينهم ، وعن الخوض في القَدَر ، وعن الجدال في القرآن ، والمماراة فيه بلا علم ، وعن مجالسة الذين يخوضون في القرآن بالباطل ويتمارون فيه ، وعن عيادة المرضى من القدرية ومن شابههم من أهل البدعة ، وكذا شهود جنائزهم 0
والنهي عن سب آلهة الكفار إذا كان يؤدي إلى سب الله عز وجل 0
والنهي عن اتباع السبل أو التفرق في الدين ، وعن اتخاذ آيات الله هزواً ، وعن تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله ، وعن الانحناء أو السجود لغير الله ، وعن الجلوس مع المنافقين أو الفساق استئناساً بهم أو إيناساً لهم ، وعن مفارقة الجماعة وهم من وافقوا الحق 0
والنهي عن التشبه باليهود والنصارى والمجوس والكفار عموماً ، وعن بدء الكفار بالسلام ، وعن تصديق أهل الكتاب أو تكذيبهم فيما يخبرونه عن كتبهم مما لا نعلم صحته وبطلانه ، وعن استفتاء أحد من أهل الكتاب في أمر شرعي ( بقصد طلب العلم والفائدة ) 0
والنهي عن الحلف بالأولاد والطواغيت والأنداد ، وعن الحلف بالآباء وبالأمانة ، وعن قول ما شاء الله وشئت ، وأن يقول المملوك ربي وربتي ، وإنما يقول : مولاي وسيدي وسيدتي 0
والنهي أن يقول المالك عبدي وأمَتي ، إنما يقول فتاي وفتاتي وغلامي ، وعن قول : خيبة الدهر ، وعن التلاعن بلعنة الله أو بغضبه أو بالنار 0(/1)
المهدي المنتظر.. الحقيقة والخرافة
من هو المهدي المنتظر؟
محاضرة للشيخ/ عثمان الخميس
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إله الأولين والآخرين، وخالق الخلق أجمعين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الكريم، سيدنا وإمامنا وقدوتنا وقرة عيننا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد:
فإننا سنحاول أن نطرح طرحا موضوعياً علمياً لموضوع من أهم المواضيع التي كثر حولها الجدل، ألا وهو موضوع (المهدي المنتظر).
لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة ذكر المهدي، فمنها ما أخرجه الإمام أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد، لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض عدلاً).
وجاء كذلك عند أبي داود من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المهدي من عترتي، من ولد فاطمة) وجاء كذلك عند أحمد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المهدي منا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة).
وجاء كذلك عند أحمد: (المهدي مني، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، ويملك سبع سنين).
وجاء عند مسلم تنبيه على المهدي، من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى بن مريم، فيقول أميرهم: تعال صلِ لنا، فيقول: لا، بعضكم على بعض أمراء، تكرمه الله هذه الأمة).
وقد ذكر أهل العلم أن هذا الرجل الذي يتقدم ويصلي بعيسى هو المهدي، ثم بعد ذلك يتولى عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه زمام الأمور.
وفي رواية ذكر ابن القيم أن إسنادها جيد: (فيقول أميرهم المهدي)، ولذلك قال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى عن هذه الأحاديث: في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر التي أمكن الوقوف عليها -منها خمسون حديثاً فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر، وهي متواترة بلا شك أو شبهة.
كلامنا ليس لمناقشة أمر المهدي عند أهل السنة والجماعة، وإنما نريد أن نناقش المهدي الذي يتكلم عنه الشيعة، وأعني بالشيعة: الاثنى عشرية.
إن حكاية المهدي في معتقد الشيعة الاثنى عشرية حكاية غريبة نسج الخيال خيوطها، وصاغ أحداثها وأحوالها، وتحولت بعد ذلك إلى أسطورة من أساطير الزمان، يمجها العقل السليم والفطرة الصحيحة، حتى أنكرتها جل فرق الشيعة فضلاً عن غيرهم.
إن القصة بدأت بدعوى ولد للحسن العسكري اختفى، ثم تطورت إلى دعوى أخرى وهي أن هذا الولد إمام، ثم تطورت فجاءت دعوى النيابة عن هذا الإمام، ثم ادعاء أن هذا المختفي هو المهدي المنتظر.
إن غيبته عن الأنظار، وعدم خروجه، وقيادته للأمة سياسياً ودينياً، يشكل تحدياً كبيراً للقائلين بوجوده، وتمثل تناقضاً صارخاً مع القول بضرورة وجوده، فكيف يمكننا أن نقول: إن وجوده ضرورة لا بد منها، ثم نقول في الوقت نفسه: إنه غائب ولا بد له أن يغيب؟!
لذا فإننا بإثارة هذا الموضوع قد نوقظ الكثيرين من الاستغراق في حلم جميل، نوقظهم إلى واقع صحيح إن شاء الله تبارك وتعالى.
*عقيدة الشيعة في المهدي:
قال الشهرودي وهو أحد علمائهم: (لا يخفى علينا أنه عليه السلام وإن كان مخفياً عن الأنام ومحجوباً عنهم، ولا يصل إليه أحد، ولا يعرف مكانه، إلا أن ذلك لا ينافي ظهوره عند المضطر المستغيث به الملتجئ إليه، الذي انقطعت عنه الأسباب، وأغلقت دونه الأبواب، فإنه إغاثة الملهوف، وإجابة المضطر في تلك الأحوال، وإصدار الكرامات الباهرة، والمعجزات الظاهرة،هي من مناصبة الخاصة، فعند الشدة وانقطاع الأسباب من المخلوقين، وعدم إمكان الصبر على البلايا دنيوية أو أخروية، أو الخلاص من شر أعداء الإنس والجن، يستغيثون به، ويلتجئون إليه). قاله في كتابه: [الإمام المهدي وظهوره، ص:325]
هكذا يقولون، والله تعالى يقول في وصف الكفار: (( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ))[العنكبوت:65].
أما أولئك فيستغيثون به ويلجئون إليه في ضرهم وفي راحتهم، والعياذ بالله.
*أدلة الشيعة على وجود المهدي:
وحتى لا نظلمهم فإننا نبدأ بذكر أدلتهم على وجوده ثم نناقشها.
أولاً: أدلة العقل:
قالوا: ضرورة وجود إمام في الأرض عنده جميع علم الشريعة، يرجع الناس إليه في أحكام الدين، ثم ضرورة أن يكون هذا معصوماً، ثم ضرورة أن يكون من أولاد الحسين بن علي، ثم ضرورة الإيمان بوفاة الحسن العسكري، ثم ضرورة القول بالوراثة العمودية –يعني: من نسل الحسن يأتي مباشرة- ثم ضرورة أنه لا معصوم إلا محمد بن الحسن العسكري وهو الإمام المهدي المنتظر؛ ولذلك يقول المرتضى: [[إن العقل يقتضي بوجوب الرئاسة في كل زمان، وأن الرئيس لابد أن يكون معصوماً]].
وقال المفيد: (إن هذا أصل لا يحتاج معه لرواية النصوص، لقيامه بنفسه في قضية العقول).(/1)
وقال الطوسي: (إن كل زمان لا بد فيه من إمام معصوم، مع أن الإمامة لطف، واللطف واجب على الله في كل وقت).
وقال المجلسي: (إن العقل يحكم بأن اللطف على الله واجب، وأن وجود الإمام لطف، وأنه لابد أن يكون معصوماً، وأن العصمة لا تعلم إلا من جهته، وأن الإجماع واقع على عدم عصمة غير صاحب الزمان فيثبت وجوده).
هكذا صاغوا أدلتهم العقلية.. لابد من إمام.. لابد أن يكون معصوماً.. لابد أن يكون من أولاد الحسين بن علي.. لابد أن يكون ابناً للحسن العسكري.. لابد أن يكون الحسن العسكري قد مات.. لابد أن يكون هو محمد بن الحسن العسكري.. لابد.. لابد.. لابد..
لكن من أين جاءت هذه الأمور كلها؟! العقل يقول ذلك!!
ونحن نقول لهم جميعاً: أثبت العرش ثم انقش ما شئت.
*اختلاف الشيعة في المهدي:
القول بأنه لابد من إمام معصوم يرجع إليه الناس في أحكام دينهم. نقول: هذا حق، وهو واحد، وهو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وأما باقي كلامهم أنه لابد أن يكون من ولد الحسين وأنه هو المهدي المنتظر فهذا ما سيناقش في أدلتهم النقلية.
رووا عن أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال: [[إن الأرض لو خلت طرفة عين من حجة لساخت بأهلها]]. [الكافي (1/179)]
ورووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال للحسين: (هذا إمام ابن إمام أخو إمام، أبو أئمة تسعة، تاسعهم قائمهم، اسمه كاسمي، وكنيته ككنيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً).
وقالوا: هذا الحديث مشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد توارثته الشيعة في البلاد المتباعدة خلفاً عن سلف، وهناك أحاديث أخرى تدور حول هذا الموضوع بنفس هذه الروايات تقريباً.
أما الأثر الأول وهو: [[لو خلت الأرض طرفة عين من حجة لساخت بأهلها]] لا شك أنه كذب، وذلك أن الواقع يشهد ببطلانه، وقد كانت فترات بين الرسل ولم تسخ الأرض بأهلها.
وأما الحديث الذي نسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال للحسين: (هذا إمام، ابن إمام، أخو إمام أبو أئمة تسعة، تاسعهم قائمهم...) لا شك أنه كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذا قولهم: توارثته الشيعة في البلاد المتباعدة، خلفاً عن سلف، نقول: هذا أيضاً كذب حتى على الشيعة؛ وذلك أن هذا الحديث لا ينسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فرقة واحدة من فرق الشيعة التي بلغت قريباً من سبعين فرقة، كلها تكذب هذا الحديث، فرقة واحدة فقط من هذه السبعين من فرق الشيعة هي التي تؤمن بهذا الحديث، أما سائر طوائف الشيعة فيقولون عن هذا الحديث: إنه كذب كالزيدية، والإسماعيلية، والفطحية، والكيسانية، والبترية، والجارودية، والمختارية، والكربية، والهاشمية، والراوندية، والخطابية، والناوسية، والقرامطة، والواقفة، المنطورة، والنميرية وثلاث عشرة فرقة أخرى كلهم خالفوا الاثني عشرية في هذه العقيدة، وقالوا: إنه ليس هناك ولد بعد الحسن العسكري.
وأما الحديث الذي استدلوا به فالصحيح منه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من أهل بيتي اسمه كاسمي، واسم أبيه كاسم أبي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً) كما بينا ذلك قريبا.
ومن الأدلة على كذب الحديث الذي استدلوا به: أن كثيراً من الشيعة القدماء لم يكونوا على علم به؛ فدل على أن هذا الحديث مصنوع موضوع وضع بعد ذلك بمدة طويلة؛ ولذلك اختلف الشيعة تقريباً بعد وفاة كل إمام من يكون الإمام بعده، وهذا زيد بن علي بن الحسين -عم جعفر الصادق أخو محمد الباقر، ابن علي بن الحسين- بعث إلى الأحول وهو مستخف -بعث إليه زيد بن على بن الحسين- وطلب نصرته، فأبى الأحول وقال: [[إن كان الخارج أباك أو أخاك خرجت معه، أما أنت فلا، فقال له زيد: يا أبا جعفر! كنت أجلس مع أبي على الخوان -يعني: على طاولة الطعام- فيلقمني البضعة السمينة، ويبرد لي اللقمة الحارة حتى تبرد شفقة علي، ولم يشفق علي من حر النار إذ أخبرك بالدين ولم يخبرني به، فقال الأحول: جعلت فداك من شفقته عليك من حر النار لم يخبرك، خاف عليك ألا تقبله فتدخل النار –أي: لا تقبل أن المهدي أو إن الإمام بعد علي بن الحسين هو أخوك محمد ولست أنت، وبعد أخيك محمد هو جعفر ابنه ولست أنت- قال: ما أخبرني أبي بهذا، كيف أخبرك ولم يخبرني وهو أبي، يشفق علي من اللقمة الحارة، يبردها لي حتى يضعها في فيّ، ولا يشفق عليّ من حر النار، قال:خاف عليك ألا تقبل فتدخل النار، وأخبرني أنا فإن قبلت نجوت، وإن لم أقبل لم يبال أن أدخل النار]]. [أخرجه الكليني في الكافي (1/174)](/2)
وهذا الكلام باطل، إذ يلزم من هذا ألا يخبر جميع أهل البيت أولادهم ولا أعمامهم ولا أخوالهم ولا باقي أقاربهم خشية ألا يقبلوا فيدخلوا النار، وهكذا لا ينتهي هذا المسلسل من الطعن في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من شرذمة يدّعون محبتهم، الآن زيد وبعده سيأتينا الطعن في جعفر بن علي الهادي، كما طعنوا في أبناء عم الحسن العسكري، وقبلهم طعنوا في محمد بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن جعفر الصادق، وأولاد الحسن بن علي، والعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وابنه عبد الله بن عباس، ثم يدعون بعد ذلك محبة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، قبح الله تبارك وتعالى هذا الحب!
وكذلك ما يدل على كذب هذا الادعاء أنهم يقولون ويروون: إن الإمام السابق لا يموت حتى يعلمه الله إلى من يوصي،وأن الإمام التالي يعرف إمامته في آخر دقيقة من حياة الأول، وهذا موجود في كتاب: [تطور الفكر السياسي (ص64)].
وهذا زرارة بن أعين أوثق رواة الشيعة على الإطلاق ومن المقربين إلى الإمامين الباقر والصادق يموت وهو لا يعرف إمام زمانه، ولما وقع الموت في زرارة واشتد به، قال لعمته: [[ناوليني المصحف. فأخذ المصحف وفتحه ووضعه على صدره وقال: يا عمة! اشهدي أن ليس لي إمام غير هذا الكتاب]]. [هذا في رجال الكشي صفحة (139)]
ولما مات جعفر الصادق رضي الله عنه بايع أكثر أقطاب الإماميه ابنه عبد الله، وجاءوا يسألونه وهم هشام سالم الجواليقي، ومحمد بن النعمان الأحول -هذا الذي مر بن قريباً- وعمار السباطي وغيرهم حتى قال هشام بن سالم: [[خرجنا منه –أي: من عند عبد الله بن جعفر الصادق- ضلالاً لا ندري إلى أين نتوجه ولا من نقصد]]. [وهذا ذكره صاحب الكافي الكليني (1/351)]
إن الأدلة على عدم إمامتي الثاني عشر كثيرة، فمن كتب الشيعة: ما روي عن علي الهادي -جد المهدي المنتظر على حسابهم- قال: [[أبو محمد ابني -الحسن العسكري- أنصح آل محمد غريزة، وأوثقهم حجة، وهو الأكبر من ولدي، وهو الخلف، وإليه تنتهي عُرى الإمامة وأحكامها]]، هذا دليل على أنه لا أحد بعد الحسن العسكري.
وكذلك جاء في الحديث: (لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من أهل بيتي، اسمه على اسمي، واسم أبيه على اسم أبي)، والرسول صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم اسمه: محمد بن عبد الله، والمهدي عندهم اسمه محمد بن الحسن فكيف يكون اسمه على اسم النبي، واسم أبيه على اسم أبي النبي صلى الله عليه وسلم، هذه إشكالية عظيمة!
ولهذا حل هذه الإشكالية أبو الحسن الأربلي واسمعوا لهذا الجواب العجيب! قال: (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبطان أبو محمد الحسن وأبو عبد الله الحسين، ولما كان الحجة من ولد الحسين أبي عبد الله -الحجة يعني: المنتظر من أولاد الحسين أبي عبد الله- وكانت كنية الحسين أبا عبد الله، فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم على الكنية لفظ الاسم، لأجل المقابلة بالاسم في حق أبيه، وأطلق على الجد لفظه الأب فكأنه قال: اسمه اسمي فأنا محمد وهو محمد -هذه ما فيها إشكالية، الإشكالية أين؟ في اسم الأب- وتواطئ كنية جده الحسين هو أبو عبد الله). [وهذا في كتابه كشف الغمة في معرفة الأئمة (2/443)]
انظر أين رجع، هذه تصدق على كل أمة محمد، كل رجل اسمه محمد فتش عن أحد أجداده من أبيه أو من أمه اسمه أبو عبد الله أو اسمه عبد الله كي يصدق عليه أنه المهدي المنتظر، وهذا الهراء لا أظنه يقبله عاقل ولكن كما قال المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم
*بطلان وجود ولد للحسن العسكري:
جاء عند الكليني في الكافي ما يكذب هذا المدعى، والكافي -كما هو معلوم- هو أوثق كتاب عند الشيعة على الإطلاق، فهذا كتاب الكافي للكليني فيه: عن الحسن بن علي بن محمد بن الرضا قال له بعض من حضر مجلسه من الأشعريين: [[يا أبا بكر! فما خبر أخيه جعفر؟ -يسألون أحد علماءهم عن جعفر أخي الحسن العسكري، يعني: عم المهدي المنتظر- قال: ومن جعفر، فتسأل عن خبره؟! أوَ يقرن بالحسن جعفر معلن الفسق فاجر، ماجن شريب للخمور، أقل من رأيته من الرجال، وأهتكهم لنفسه، خفيف قليل في نفسه؟!]] هكذا يقولون عن عم المهدي، عن جعفر بن علي الهادي أخي الحسن العسكري، انظروا كيف يسبون أهل البيت!!
ثم يقول: [[لما اعتل الحسن العسكري بُعث إلى أبي: إن ابن الرضا قد اعتل -مرض الموت- فركب من ساعته، فبادر إلى دار الخلافة، ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة من خدم أمير المؤمنين، كلهم من ثقاتة وخاصته، فيهم تحرير الخادم، فأمرهم بلزوم دار الحسن وتعرف خبره وحاله، وبعث إلى نفر من المتطببين فأمرهم بالاختلاف إليه]] الآن المريض الحسن العسكري، الخليفة بعث ناساً ينظرون إلى الحسن العسكري حال مرضه، وأرسل له الأطباء حتى مات الحسن العسكري.(/3)
يقول: [[لما دفن أخذ السلطان والناس في طلب ولده -يبحثون عن ولد للحسن العسكري- وكثر التفتيش في المنازل والدور، وتوقفوا عن قسمة ميراثه، ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية –أي: جارية من جواريه- شكوا أن تكون حاملاً، فإذا كانت حاملاً، فالولد هو ابن للحسن العسكري- يقول:حتى تبين بطلان الحمل، فلما تبين بطلان الحمل قُسم ميراثه بين أمه وأخيه جعفر]]. إذاً: هذه رواية الكليني في الكافي (1/503) تثبت أنه لم يكن للحسن العسكري ولد.
المهدي المنتظر عند الشيعة
أسماؤه: المهدي.. محمد.. القائم.. الغائب.. الصاحب.. الحجة.. الخائف.. الخلف.. أبو صالح.. الناحية المقدسة، وغيرها كثير حتى بلغ بها النور الطبرسي بعدد أسماء الله الحسنى تسعة وتسعين اسماً.
*اختلاف الشيعة في اسم المهدي:
اختلفوا في هذا المهدي اختلافاً عظيماً، اختلفوا أولاً في تسميته: فرووا عن أبي عبد الله -جعفر الصادق- أنه قال: [[صاحب هذا الأمر رجل لا يسميه باسمه إلا كافر]]. [الأنوار النعمانية (2/53)]
ورووا عن أبي محمد الحسن العسكري أنه قال لأم المهدي: [[ستحملين ذكراً واسمه محمد وهو القائم من بعدي]]. [الأنوار النعمانية (2/55)]
فمرة يقولون: الحسن العسكري سماه محمداً، ومرة يقولون: من ناداه باسمه فهو كافر.
*اختلافهم في أم المهدي:
من الأدلة على عدم وجود هذا الشخص: أمه لا تُعرف، فأمه كما قال علماؤهم: جارية اسمها سوسن، وقيل: جارية اسمها نرجس، وقالوا: جارية اسمها صيقل، وقالوا: جارية اسمها مليكة، وقالوا: جارية اسمها خمط، وقالوا: جارية اسمها حكيمة، وقالوا: جارية اسمها ريحانة، وقيل: هي أمة سوداء، وقيل:هي امرأة حرة اسمها مريم، فأمه لا تعرف!!!
*اختلافهم في تاريخ ولادة المهدي:
متى ولد؟
ولد بعد وفاة أبيه بثمانية أشهر وقيل: ولد قبل، وفاة أبيه سنة 252، وقيل: ولد سنة 255، وقيل: ولد سنة 256، وقيل: ولد سنة 257، وقيل: ولد سنة 258، وقيل: ولد في 8 من ذي القعدة، وقيل: ولد في 8 من شعبان، وقيل: ولد في 15 من شعبان، وقيل: ولد في 15 من رمضان.
كيف حملت به أمه؟
قيل: حملت به في بطنها كما يحمل سائر النساء وقيل: حملته في جنبها ليس كسائر النساء.
كيف ولدته أمه؟
قيل: من فرجها كسائر النساء، وقيل: من فخذها على غير عادة النساء.
وللخروج من هذه التناقضات، جاء الجواب الغريب الذي يُنهي هذه التناقضات للنور الطبرسي فقال: (أمه مُليكة التي يقال لها في بعض الأحيان: سوسن، وفي بعضها تنادى بريحانة، وكان صيقل ونرجس أيضاً من أسمائها).
ولكنه نسى خمطة، وحكيمة، ومريم، ونسى أنها أحياناً تكون حرة، وأحياناً تكون أمه، ونسى أنها أحياناً تكون بيضاء وأحياناً تكون سوداء، ونسى أنها حملته مرتين، مرة في بطنها ومرة في جنبها، ونسى أنها ولدته مرتين مرة من فرجها ومرة من فخذها، وولد ثمان مرات وذلك للخروج من كل هذه التناقضات التي تحيط بهذه الولادة العجيبة الغريبة!!
*أشهر الروايات في ولادة المهدي:
رواية عمته حكيمة، وهي رواية ضعيفة من حيث الإسناد ثم هي متناقضة جداً، جاء في بعض روايات حديث حكيمة: [[أنها جاءت تقلب سوسن بطناً لظهر فلا ترى أثراً لحمل، فقال لها العسكري: إذا كان وقت الفجر يظهر لك الحبل]] يعني: الحمل.
وفي وراية: [[فلم أر جارية عليها أثر الحمل غير سوسن]]، وفي رواية: تقول حكيمة: [[فأجابني في بطن أمه وسلم علي]]، وفي رواية: [[اسمها سوسن وفي أخرى نرجس]].
كيف نشأ المهدي وأين يقيم؟
رووا عن أبي الحسن: [[إنا معاشر الأوصياء ننشأ في اليوم مثلما ينشأ غيرنا في الجمعة]]، وعن أبي الحسن قال: [[إن الصبي منا إذا أتى عليه شهر كان كمن أتى عليه سنة]]، وعن أبي الحسن أنه قال: [[إنا معاشر الأئمة ننشأ في اليوم كما ينشأ غيرنا في السنة ]] ... تناقضات لا تنتهي!!
أين يقيم؟
قالوا: في طيبة، ثم قالوا: لا، في جبل رضوى بالروحاء، وقالوا: لا، هو في مكة بذي طوى. ثم قالوا: لا هو في سامراء، حتى قيل:
ليت شعري استقرت بك النوى
بل أي أرض تقلك أو ثرى
أبرضوى أم بغيرها أم بذي طوى
أم في اليمن بوادي شمروخ
أم في الجزيرة الخضرا
هل يعود شاباً أو يعود شيخاً كبيراً؟
عن المفضل قال: [[سألت الصادق: يا سيدي! يعود شاباً أو يظهر في شيبه؟ قال: سبحان الله! وهل يعرف ذلك؟ يظهر كيف شاء وبأي صورة شاء...]]. [بحار الأنوار (53 /7)]
ثم في رواية أخرى: [[يظهر في صورة شاب موفق ابن اثنين وثلاثين سنة]]. [كتاب تاريخ ما بعد الظهور (ص:360)]
ثم في وراية أخرى: [[يخرج وهو ابن إحدى وخمسين سنة]]. [كتاب تاريخ ما بعد الظهور (ص:361)]
ثم في وراية أخرى: [[يظهر في صورة شاب موفق ابن ثلاثين سنة]]. [كتاب الغيبة للطوسي (ص:420)]
.... تناقضات لا تنتهي.
مدة ملكه كم؟
قال محمد الصدر: (وهي أخبار كثيرة ولكنها متضاربة في المضمون إلى حد كبير حتى أوقع كثيراً من المؤلفين في الحيرة والذهول). [هذا في تاريخ ما بعد الظهور (ص:433)](/4)
في رواية أخرى: (ملك القائم منا 19 سنة)، وفي رواية: (سبع سنين يطول الله له في الأيام والليالي حتى تكون السنة من سنيه مكان عشر سنين؛ فيكون سنين ملكه 70 سنة من سنيكم...). [تاريخ ما بعد الظهور (ص:436)]
ورواية أخرى: (أن القائم يملك 309 سنين كما لبث أهل الكهف في كهفهم) ... تناقضات لا تنتهي.
*تضارب الروايات في مدة غيبة المهدي:
كان مخترع فكرة الغيبة على درجة كبيرة من الدهاء، وكان الشيعة في ذلك الوقت ينقسمون إلى قسمين لا ثالث لهما:
القسم الأول: من رفض هذه الفكرة -فكرة الغيبة، فكرة وجود ولد للحسن العسكري- وهم أكثر فرق الشيعة كما ذكرنا، بل كل فرق الشيعة ما عدا فرقة واحدة.
القسم الثاني: من قبل هذه الفكرة، وهم القلة الذين كانوا يُمنون أنفسهم بقيام دولة لهم، وكان مخترعوها يُمنون أتباعهم بقصر المدة، فوضعوا روايات تفيد ذلك، فلما لم يظهر جاءت روايات أخرى تزيد في المدة، وهكذا حتى جعلوها غير محددة، والعجيب أنهم يجدون من يصدق …
فعن علي بن أبي طالب أنه قال: [[تكون له -أي للمهدي- غيبة وحيرة، يضل فيها أقوام ويهتدي آخرون، فلما سئل: كم تكون الحيرة؟ قال: ستة أيام أو ستة أشهر أو ست سنين]]. [الكافي (1/338)]
فكانت هذه الرواية مقبولة في البداية لتهدئة النفوس المضطربة، وليضمن النواب الأموال الذي يوصلونها إلى المهدي كما زعموا، ولكن مرت المدة ولم يظهر شيء، ذهبت ستة أيام، ومرت ستة أشهر، وتعدت ست سنوات ولم يظهر شيء، فجاءت الرواية الثانية:
عن أبي عبد الله أنه قال: [[ليس بين خروج القائم وقتل النفس الزكية إلا خمس عشرة ليلة]]، يعني: 140 للهجرة.
قال محمد الصدر عن هذا الخبر: [[خبر موثوق قابل للإثبات التاريخي -بحسب منهج هذا الكتاب- فقد رواه المفيد في الإرشاد عن ثعلبة بن ميمون عن شعيب الحداد عن صالح بن ميتم الجمال، وكل هؤلاء الرجال موثقون أجلاء]]. [تاريخ ما بعد الظهور (ص:185)]
لما لم يظهر في الرواية السابقة، جاءت الرواية عنه أيضاً أنه قال: [[يا ثابت! إن الله كان وقت هذا الأمر في السبعين، فلما أن قتل الحسين اشتد غضب الله على أهل الأرض فأخره إلى أربعين ومائة -اشتد غضب الله فأخر البداء المعروف عند الشيعة- قال: فحدثناكم أنه سيخرج سنة 140 فحدثناكم فأذعتم الحديث وكشفتم قناع الستر، فلم يجعل الله له بعد ذلك عندنا وقتاً]].
كيف يقولون هذا وخروج الحسين أصلاً كان بأمر من الله له كما يدّعون، وأن الحسين لا يموت إلا باختياره، وإنه إنما خرج بأمر الله تبارك وتعالى له، وإن الإمام عندهم لا يموت إلا بعلمه , فجاءت الرواية التي تكذب كل ما سبق عن أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال: [[كذب الوقاتون إنا أهل البيت لا نوقّت]].
طيب! والمواقيت التي مرت؟ لا شك أنها كذب على أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم جاءت الرواية الثانية عن أبي عبد الله التي قال فيها: [[من وقت لمهدينا وقتاً فقد شارك الله تعالى في علمه]]. [البحار (53/3)].
روايات مضطربة، فكيف الخروج من هذه الروايات؟؟
للخروج منها جاءت الرواية الفاصلة التي تقطع الإشكال كله، عن أبي جعفر أنه قال: [[إذا حدثناكم عن الحديث فجاء على ما حدثناكم به، فقولوا: صدق الله، وإذا حدثناكم الحديث، فجاء على خلاف ما حدثناكم به، فقولوا: صدق الله تؤجروا مرتين]].
وللأسف وجدت هذه الرواية آذانا صاغية، وقبلت هذه الرواية، وهم كما يرون عن أبي الحسن أنه قال: [[الشيعة تربى بالأماني منذ 200 سنة]]. [وهذا في الكافي (1/396)]
*سبب الخلاف في مدة غياب المهدي:
لماذا اختلفت هذه المدد؟ مرة بسبب قتل الحسين، ومرة بسبب أنهم أذاعوا الستر، ومرة يكذبون ما رووا، فيقولون: كذب الوقاتون، وهلك المستعجلون، والسبب في ذلك كله: هو أن الوضع والكذب يكون بحسب المناسبات، ثم باختلاف الأشخاص: (( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ))[النساء:82].
قال النعماني أحد علماء الشيعة الكبار وهو يصف حال الشيعة في ذلك الوقت -وهو من علماء القرن الرابع الهجري- يصف حال الشيعة في وقت الاضطراب والتخبط في الرويات يقول: (إن الجمهور منهم يقول في الخلف: أين هو؟ وأنى يكون هذا؟ وإلى متى يغيب؟ وكم يعيش؟ هذا وله الآن نيف وثمانون سنة، فمنهم من يذهب إلى أنه ميت، ومنهم من ينكر ولادته ويجحد وجوده…… ويستهزئ بالمصدق به، ومنهم من يستبعد المدة ويستطيل الأمر). [الغيبة (ص:103)]
ثم قال: (أي حيرة أعظم من هذه الحيرة التي أخرجت من هذا الأمر الخلق الكثير والجم الغفير ولم يبق إلا النذر اليسير؟ وذلك لشك الناس). [تطور الفكر السياسي (ص:120)]
وقال ابن بابويه: (رجعت إلى نيسابور وأقمت فيها، فوجدت أكثر المختلفين عليّ من الشيعة، قد حيرتهم الغيبة ودخلت عليهم في أمر القائم الشبهة). [قاله في: كمال الدين في المقدمة](/5)
وقال الطوسي: (تأملت مولد قائمنا وغيبته، وإبطائه، وبلوى المؤمنين من بعده في ذلك الزمان، وتولد الشكوك في قلوب الشيعة من طول غيبته، وارتداد أكثرهم عن دينه).
وكان الحل للخروج من هذه المعضلة العظيمة سهل جداً، حيث يوضع حديث عن أحد الأئمة وينتهي الأمر كله، فروي عن أبي جعفر الصادق أنه قال: [[إن للغلام غيبة قبل أن يقوم -وهو المنتظر- وهو الذي يشك في ولادته، منهم من يقول: مات أبوه بلا خلف، ومنهم من يقول: حمل، ومنهم من يقول: إنه ولد قبل موت أبيه بسنتين -وهو المنتظر- غير أن الله عز وجل يحب أن يمتحن الشيع؛ فعند ذلك يرتاب المبطلون]].
رواية جاءت بالمقاس تماماً على ما يحبون، ولكن للأسف جاءت رواية أخرى تكذب هذه الرواية، فتقول هذه الرواية: [[لو علم الله أنهم يرتابون ما غيب حجته طرفة عين أبداً]]. [وهذه في أصول الكافي].
روايات معلبة وجاهزة، وهي لحل جميع الإشكالات، وما عليك إلا أن تختار أحد الأئمة وتنسبها إليه وسوف تجد من يصدق ويصفق.
ومن تلك الروايات:
- [[إن للقائم غيبه يجحده أهله]].. [[يبعث الله لهذا الأمر غلاماً منا خفي الولادة والمنشأ]].
- [[من عرف هذا الأمر ثم مات قبل أن يقوم القائم كان له مثل أجر من قاتل معه]].
- [[أما في الحوادث الواقعة: فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم، كما أنا حجة الله عليهم]].
إنها روايات معلبة جاهزة تنهي جميع الإشكاليات.
المهدي المنتظر الغائب، هل هو غائب عن الجميع أو يظهر لبعض الناس؟
قال الطوسي: (إننا أولاً لا نقطع عن استتاره على جميع أوليائه، بل يجوز أن يظهر لأكثرهم، ولا يعلم كل إنسان حال نفسه، فإن كان ظاهراً له فعلته مزاحمة –يعني: يطلبه غيره- وإن لم يكن ظاهراً علم أنه لم يظهر له لأمر يرجع إليه -ضعف إيمان أو ما شابه ذلك- وإن لم يعلمه مفصل، لتقصير من جهته، وإلا لم يحسن تكليفه). [كتاب الغيبة]
يعني: هو موجود يظهر، لكن من لا يظهر له لا ينكر، فهو ما يظهر لك؛ لأنك ضعيف الإيمان أو أن هناك مزاحمة أي غيرك يريد رؤيته، فلذلك لا تنكر آمن واسكت، وهذا نظير جواب أحد القساوسة قرأته له في فتاوى، قيل له: كيف نؤمن أن الله واحد وأنه ثلاثة في نفس الوقت؟ -وهذا هو دين النصارى-
فأجاب قائلاً: أول شيء عليك أن تؤمن بأن الله واحد، وأن الله ثلاثة في نفس الوقت، فإذا آمنت جاءك عيسى وفهمك، فإذا لم يأتك فيعني أنك ما آمنت.
فيبقى الآن بين حالين: الحالة الأولى: جاءني عيسى وفهمني وأنا كامل الإيمان ويكذب على نفسه.
الحالة الثانية: أن يقول: ما جاءني ويتهم نفسه بأنه غير مؤمن.
وهكذا كذلك هنا، إن رأيت المهدي فمعناه أنك قمة في الإيمان، وأنت أصلاً لن تراه، فاكذب وقل: رأيته، حتى تكذب على نفسك وتصير قمة في الإيمان، وإذا ما رأيته فبسبب ضعف إيمانك وانتهى الأمر؛ ولذلك ادعى رؤية المهدي الكثير؛ حتى يقال: إيمانهم قوي بدليل رؤية المهدي، فإن قلت: ما ظهر لك فإيمانك ضعيف.
طيب في حياة أبيه... لما ولد المهدي في حياة أبيه هل رآه أحد؟ عن العسكري أنه قال لعمته حكيمة – عمة أبي المهدي -لما جاءت تسأل عنه بعد ولادته- أي: المهدي -بثلاثة أيام، قال لها الحسن العسكري: [[يا عمة! هو في كنف الله أحرزه وستره حتى يأذن الله له، فإذا غيب الله شخصي وتوفاني، ورأيتِ شيعتي قد اختلفوا، فأخبري الثقات منهم]]. [كتاب التطور (ص:145)]
فالأمر سري، يقول لها: انتظري حتى أموت، فإذا مت فأخبري الناس بوجود المهدي. فظاهر الرواية: أنه ما أحد رآه غيرها.
لكن انظروا كم واحد ادعى رؤية المهدي في حياة أبيه:
أولاً: خادما العسكري نسيم وماريا، كما في كتاب الطوسي (الغيبة).
ثانياًً: أحمد بن إسحاق ادعى أنه رآه، كما في كتاب (كمال الدين).
ثالثاً: الحسن بن الحسين العلوي ادعى أنه رآه، كما في كتاب (كمال الدين).
رابعاً: أبو هارون ادعى أنه رآه، كما في كتاب (كمال الدين).
خامساً: عمرو الأهوازي ادعى أنه رآه، ورجل من أهل فارس ادعى أنه رآه كما في الكافي.
سادساً: عثمان العمري مع مجموعة معه في كتاب الغيبة ادعوا أنهم رأوه.
سابعاً: طريف أبو نصر في كتاب الغيبة ادعى أنه رآه.
ثامناً: رجل سوري اسمه عبد الله في كتاب الغيبة ادعى أنه رآه.
تاسعاً: سعد القمي في كتاب كمال الدين ادعى أنه رآه.
عاشراً: من أمرهم الحسن العسكري أن يقعوا عند ولده، ادعوا أنهم رأوه في كتاب كمال الدين.
الحادي عشر: كامل بن إبراهيم المدني في كتاب الغيبة ادعى أنه رآه.
الثاني عشر: الخادم عقيل في كتاب الغيبة.
الثالث عشر: إسماعيل بن علي النوبختي في كتاب الغيبة ادعى أنه رآه، المهدي صلى على أبيه في جمع من الناس بينهم عمه جعفر كما في كمال الدين.
علي بن بلال، أحمد بن هلال، أحمد بن معاوية بن حكيم، الحسن بن أيوب بن نوح، ومعهم أربعون رجلا في كتاب الغيبة كل هؤلاء ادعوا أنهم رأوا المهدي في حياة أبيه، ثم يقولون: سر لا أحد يدري!!!(/6)
[[يا عمة! لا أحد يدري، حتى أموت أظهري المهدي]] لكن إن دروا صارت مشكلة!!!
وكل هؤلاء في كتب الشيعة يدعون أنهم رأوا المهدي في حياة أبيه، فهل يصدق بعد ذلك عاقل أن الولادة كانت سرية، ووجوده كان سرياً خوفاً عليه من بطش الحكام الذين لم يتمكنوا حتى من مجرد العلم بوجوده؟!
*ممن ادعى نيابة المهدي؟
بعد أن ادعوا أن المهدي موجود ادعوا أن له نواباً وأبواباً، فبعد أن أعلن عن وجود ولد مختف للحسن العسكري تبارى الناس في ادعاء النيابة عنه؛ وذلك للمردود المادي والمعنوي لهذه النيابة، فلها مردود مادي حيث تدفع لهم أموال حتى يوصلوها إلى المهدي، وكذلك مردود معنوي بحيث أنه يتميز بين الناس بصفته نائب الإمام المهدي؛ ولذلك ادعى النيابة من المهدي أربعة وعشرون، رضي الشيعة الاثنا عشرية منهم أربعة فقط، النواب الأربعة الشرعيون في نظر الشيعة الاثني عشرية هم:
- عثمان بن سعيد العمري
- ولده الحسين بن عثمان العمري
- الحسين بن روح النوبختي
- علي بن محمد السيمري
هؤلاء هم الأربعة الشرعيون، وهناك آخرون مدعون للنيابة وهم: الحسن الشريعي، محمد بن نصر النميري، أبو هاشم داود بن القاسم، إسحاق الأحمر، حاجز بن يزيد، حسين بن منصور، محمد بن غالب، أبو دلف الكاتب، القاسم بن العلاء،أحمد بن هلال العبرتائي، محمد بن صالح الحمداني، محمد بن إبراهيم بن مهزيار، أحمد بن إسحاق الأشعري، محمد بن صالح القمي، الحسن بن القاسم بن العلاء، محمد بن على بن بلال، محمد بن جعفر بن عون، جعفر بن سهيل الصيقل، القاسم بن محمد بن علي، محمد بن علي الشلمغاني، هؤلاء كلهم كذابون في نظر الشيعة الاثني عشرية ماعدا الأربعة الأوائل.
*أدلة تدل على كذب من ادعى نيابة المهدي:
نحن لو قلنا من جهتنا نكذب حتى الأربعة الأوائل، والأدلة على كذبهم كثيرة جداً، فمن ذلك: أولاً: أن هؤلاء الأربعة طعنوا في جعفر بن علي بن محمد بن علي بن موسى أخي الحسن العسكري، طعنوا في أخي الحسن العسكري عم المهدي وهو من سلالة آل البيت، سليل النسب الشريف، اتهموه بأشنع التهم؛ لأنه لم يوافقهم حيث قال: أخي مات وليس له ولد. فاتهموه وطعنوا به، فقالوا عنه: جاهل بالدين، فاسق، شريب للخمور، عاص لله، كذاب، حتى أنك لو قلت لأي شيعي: من هو جعفر الكذاب؟ لقال: هو عم المهدي المنتظر، يقال له: جعفر الكذاب، لا يعرف إلا بهذا اللقب والعياذ بالله، سليل النسب الشريف.. يروون عن السجاد أنه قال: [[كأني بجعفر الكذاب قد حمل طاغية زمانه على تفتيش أمر ولي الله المغيب]]. [أصول مذهب الشيعة (3/9)]
وثانياً: رووا عن العسكري أنه قال عن ابنه: [[أما إنكم لا ترونه بعد يومكم هذا]].
وهؤلاء النواب يدعون أنهم يرونه ويلتقون به، فهذا تكذيب للعسكري.
أحمد بن هلال العبرتائي: كان شيخ الشيعة في بغداد، وكان من أكثر المناصرين لعثمان بن سعيد العمري عندما قال: أنا النائب عن المهدي، ولكنه رفض الاعتراف بولده محمد، لماذا؟ العلم عند الله أنه كان يتمنى أن عثمان بن سعيد العمري يوصي له من بعده، ولكنه صدم أنه أوصى لولده محمد، وكذا الأمر بالنسبة لمحمد بن علي بن بلال.
الدليل الرابع على كذبهم: محمد بن على الشلمغاني، فهذا كان وكيلاً عن النائب الثالث الحسين بن روح، ثم انشق عنه وادعى النيابة لنفسه وقال: [[ما دخلنا مع أبي القاسم الحسين بن روح في هذا الأمر –يعنى: النيابة في حلب الأموال من الناس- إلا ونحن نعلم فيما دخلنا فيه، لقد كنا نتهارش على هذا الأمر كما تتهارش الكلاب على الجيف]]. [تطور الفكر السياسي (ص:226)]
خامساً: هؤلاء النواب لم يعرف عنهم أي دور تعليمي أو سياسي لخدمة الشيعة، ما عرف عنهم إلا أخذ الأموال من الشيعة، وإجابة الأسئلة عن طريق المهدي، أما إنهم علموا، أو درسوا، أو بينوا، أو خدموا الشيعة، لا، أبدا لا يعرف لهم شيء من ذلك.
والنائب الثالث الحسين بن روح النوبختي صارت له مشاكل مع أناس فذهب إلى علماء قم يسألهم عن الصحيح وعن السقيم، طيب أنت النائب عن الإمام تذهب إلى العلماء لماذا؟ فهذا دليل على كذبه في دعواه أنه نائب عن الإمام المهدي المنتظر!
الدليل السابع: سرية الخط،عثمان بن سعيد العمري يذهب إلى المهدي المنتظر معه أسئلة، ثم يأتي ويقول: هذه إجابة المهدي المنتظر، كذا وكذا وكذا.. انتهى
طيب دعنا نرى خط المهدي..، ما أحد يراه، جاء بعده ولده محمد نريد أنه نرى خط المهدي، سري [[لا تطلع على خطنا أحداً]] في رواية عن المهدي. الحسين بن روح النوبختي الخط سري، السيمري: الخط سري ما يطلع عليه أحد. لماذا؟ لأنه إذا اطلع على الخط فإنه سيظهر؛ فالخط سيختلف، خط عثمان بن سعيد العمري غير خط ولده وكذلك غير خط الحسين بن روح وأيضاً غير خط السيمري؛ لأنه لا يوجد مهدي أصلاً؛ ولذلك كانت الخطوط سرية لا يطلع عليها أحد، ورووا عن المهدي أنه قال: [[لا تظهر على خطنا الذي سطرناه أحداً]].(/7)
الدليل الثامن: النائب الأول عثمان العمري بعدما مات الحسن العسكري ذهب إلى أخيه جعفر وعزاه، طيب لو كنت أنت النائب عن المهدي المنتظر فلماذا تذهب وتعزي أخاه؟ الأصل أن تعزي الولد الإمام الذي يكون بعد أبيه.
تاسعاً: أهل البيت في هذا الوقت كلهم أنكروا أمر النواب، فعن إسحاق بن يعقوب قال: (سألت محمد عثمان العمري الباب الثاني -الأول أبو عثمان بن سعيد- سألته أن يوصل لي كتاباً إلى الحجة، وقد سألت فيه مسائل أشكلت علي، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان صلى الله عليه: أما ما سألت عنه أرشدك الله من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا؟ -إذاً كل هؤلاء منكرين- فاعلم أنه ليس بين الله عز وجل وبين أحد قرابة، ومن أنكر فليس مني وسبيله سبيل ابن نوح، وأما سبيل عمي جعفر وولده فسبيل إخوة يوسف)، وهذا عجيب! يكذب أشراف أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويصدق محمد بن عثمان العمري، ووالده عثمان بن سعيد العمري سمان يبيع السمن لا يعرف له شأن في دين ولا علم ولا نسب.
العاشر: إنكار باقي فرق الشيعة لهم، فقد انقسم الشيعة إلى عشرين فرقة بعد موت الحسن العسكري ووقعت الحيرة بينهم وتشتتوا، حتى اتهم بعضهم بعضاً بالكذب، ولعن بعضهم بعضاً وتفل بعضهم في وجوه بعض، كما ذكر ذلك المجلسي في الأنوار النعمانية.
الدليل الحادي عشر: المشاكل والخلافات التي كانت تقع بين الأبواب بسبب الأموال، محمد بن علي بن بلال كان وكيلاً عن عثمان العمري، ثم رفض بابية ابنه محمد واستأثر بالأموال التي عنده حتى لعنوه وتبرءوا منه، فكيف كان هذا المحتال في يوم من الأيام ثقة عند المهدي يزعمون أنه يعلم الغيب، ثم إنها لا شك عصابات لجمع الأموال من السذج باسم الإمام المنتظر، وهو كما قيل: "كلا يجر النار إلى قرصه".
الثاني عشر: جاءت توقيعات بلعن السفراء العشرين ماعدا الأربعة، وكل هذه التوقيعات تأتي باسم محمد بن عثمان العمري، فالنواب الأربعة يأتون بتوقيعات فيها: محمد بن علي بن بلال ملعون، الشلمغاني ملعون، العبرتائي ملعون -كل من خالفهم- ويقولون: عندنا كتاب من المهدي المنتظر لكن لا أحد يراه العبرتائي ملعون، علي بن بلال ملعون، الشلمغاني ملعون. وهكذا لعن العشرون وبقى الأربعة، ووجدوا من يصدقهم!
حكاية ولادة المهدي أصلها امرأة لم يروها غيرها، ولم يعلم بغيبته إلا هذه المرأة الوحيدة التي هي حكيمة عمة الحسن العسكري، فقد رووا عن الحسن العسكري أنه قال لعمته حكيمة: [[فإذا غيب الله شخصي وتوفاني، ورأيتِ شيعتي قد اختلفوا فأخبري الثقات منهم –يعني: عنده الخبر اليقين- فإن ولي الله يغيبه الله عن خلفه ويحجبه عن عباده، فلا يراه أحد حتى يقدم جبرائيل فرسه ليقضى الله أمراً كان مفعولاً]].
وهذا عجيب!! كيف يصدق الشيعة قول امرأة غير معصومة في أصل من أصول دينهم؟! ومن زعم أن الأمر متعلق بالروايات فيقال له: إن الروايات موضوعة ومتناقضة، وضعت في وقت متأخر بدليل عدم معرفة أكثر الشيعة بهذه الروايات.
نحن نعلم أن الشيعة الاثنى عشرية ينقسمون إلى فرق، ومن أشهر هذه الفرق: الأصولية، والإخبارية، والشيخية، الإخبارية ليس لديهم مشكلة؛ لأنهم يقبلون جميع الروايات ولا ينظرون في الأسانيد أصلاً، وكل الروايات عندهم مقبولة؛ لذلك سموا إخباريين، أي: الذين يقبلون الأخبار.
ولكن الأكثرية الآن هم الأصوليون، والأصوليون كثيراً ما نسمع منهم أنهم يقولون: لا نقبل من الأحاديث إلا ما صح سنده،عندنا أسانيد صحيحة ما نقبل إلا ما كان سنده صحيحاً، وإذا كان كذلك فإن العاملي -وهو أحد كبار علماء الشيعة في الحديث- يقول: [[يستلزم من اشتراط العدالة في الرواة: ضعف جميع أحاديثنا لعدم العلم بعدالة أحد من الرواة إلا نادراً]]. [خاتمة وسائل الشيعة (260)]
وروايات الشيعة قد بينا حالها بالتفصيل في كلامنا عن زواج المتعة فمن أراد فليرجع إليها.
لماذا إذاً يقول الأصوليون: إنا لا نقبل إلا الحديث الصحيح؟ لقد قالوا هذا للهروب من الأحاديث الطوام التي تزخر بها كتبهم، ونحن نذكرها من باب أنهم ألزموا أنفسهم، فنقول وبالله نستعين:
روى الكليني في كتابه الكافي واحد وثلاثين حديثاً في ولادة المهدي، والمجلسي في كتابه (مرآة العقول) حكم على اثنين وعشرين حديثاً منها بالضعف، فلم يبق إلا تسعة أحاديث، ولا يوجد حديث من هذه الأحاديث التسعة فيه نص على ولادة المهدي أو وجوده، بل كل هذه الأحاديث تقول: سمعنا منادياً ينادي: ادفع المال الذي خبأته، أموالك عددها كذا… وغير ذلك من الكلام. فإن صح هذا فلا يبعد أن يكون هذا جني يكلم الناس ليضلهم عن سبيل الله تبارك وتعالى.
أذكر هذه الأحاديث بسرعة، هذه الأحاديث هي: الرابع، والثامن، والخامس عشر، والعشرون، والرابع والعشرون، والخامس والعشرون، والسادس والعشرون، والتاسع والعشرون، والحادي والثلاثون في الكافي باب مولد الصاحب عليه السلام.
*روايات مولد المهدي حديثياً وهي ست عشرة رواية:(/8)
- أول رواية؛ رواية حكيمة التي قلنا أنها أشهر رواية في ولادة المهدي، ولها خمسة طرق، وكل الطرق الخمسة ضعيفة، الأول فيه الحسين بن رزق وهو مجهول، والثاني فيه محمد بن عبد الله الطهوي وهو مجهول،والرواية الثالثة فيها أحمد بن علي الرازي وهو ضعيف، والرابعة منقطعة، والخامسة فيها الرازي وهو ضعيف وفيها مجهولة لا تعرف. [هذه رواية حكيمة أشهر رواية عندهم]
- ثم الرواية الثانية رواية رجل من أهل فارس، ومدارها على هذا الرجل وهو مجهول لا يعرف.
- الثالثة فيها آدم البلخي وهو ضعيف، والرابعة فيها جعفر بن محمد وهو ضعيف، والخامسة ليس لها إسناد، والسادسة فيها مجاهيل، والسابعة فيها أحمد بن علي الرازي، والثامنة فيها جارية مجهولة، والتاسعة فيها أبو هارون وهو مجهول، والعاشرة فيها أحمد بن علي الرازي، والحادية عشرة والثانية عشرة كذلك من طريق أحمد بن علي الرازي، والثالثة عشرة من رواية جعفر بن محمد كذاب، والرابعة عشرة فيها أحمد بن علي الرازي وهو ضعيف، والخامسة عشرة من رواية آدم البلخي وهو ضعيف أيضا، فإذاً: لا تسلم لهم ولا رواية واحدة.
*قصة المهدي مع الأسود الضارية:
السادسة عشرة: ذكرها في كتاب إلزام الناصب علي الحائري، أحببت أن أقرأها لكم وهي إحدى هذه الروايات:(/9)
عن علي بن إبراهيم بن مهزيار –وقد كان خادماً للحسن العسكري عليه السلام- يقول: [[كان الحسن يأمرني بإحضار حجة الله من السرداب، فأنا أحضره عنده، ثم يأخذه ويقبله ثم أعيده مكانه، يقول: حتى كان يوم رجعت بالمهدي إلى مكانه فجئت إلى العسكري فرأيت أشخاصاً من خواص المعتمد العباسي –الخليفة- عند الإمام يقولون: إن الخليفة يقرئك السلام ويقول: بلغنا أن الله عز وجل أكرمك بولد -يعني: المهدي المنتظر- وكبر، فلمَ لا تخبرنا بذلك لكي نشاركك الفرح والسرور، ولا بد لك أن تبعثه إلينا، فإنا مشتاقون إليه؟ فقال ابن مهزيار: لما سمعت منهم هذه المقالة فزعت، وتضجرت، وتفجرت، واضطرب فؤادي، فقال الإمام: يا ابن مهزيار: اذهب بحجة الله إلى الخليفة، -أي: خذه له- يقول: فرأى اضطرابي وحيرتي لأني كنت متيقن أن الخليفة قد أراد قتله، فكنت أتعلل وأنظر إلى سيدي ومولاي العسكري عليه السلام، فتبسم في وجهي وقال: لا تخف، اذهب بحجة الله إلى الخليفة. قال: فأخذتني الهيبة ورجعت إلى السرداب، فرأيته يتلألأ نوره كالشمس المضيئة، فما كنت رأيته بذلك الحسن والجمال، وكانت الشامة السوداء على خده الأيمن كوكباً درياً، فحملته على كتفي وكان عليه برقع، فلما أخرجته من السرداب تنورت سامراء من تلك الطلعة الغراء، وسطع النور من وجهه إلى عنان السماء، واجتمع الناس رجالاً ونساءً في الطرق والشوارع وصعدوا على السطوح، فانسد الطريق علي، فلم أقدر على المشي إلى أن صار أعوان الخليفة يبعدون الناس من حولي حتى أدخلوني دار الإمارة، فرفع الحجاب، فدخلنا مجلس الخليفة، فلما نظر هو وجلساؤه إلى طلعته الغراء وإلى ذلك الجمال والبهاء أخذتهم الهيبة منه فتغيرت ألوانهم، وطاش لبهم، وحارت عقولهم، وخرست ألسنتهم، فصار الرجل منهم لا يتكلم ولا يقدر أن يتحرك من مكانه، فبقيت واقفاً والنور الساطع والضياء اللامع على كتفي، فبعد برهة من الزمن، قام الوزير وصار يشاور الخليفة، فأحسست أنه يريد قتله، فغلب علي الخوف من أجل سيدي ومولاي، فإذا الخليفة أشار إلى السيافين أن اقتلوه، فكل واحد منهم أراد سل سيفه من غمده، فلم يقدر عليه، ولم يخرج السيف من غمده، فقال الوزير: هذا من سحر بني هاشم، وليس هذا بعجيب، ولكن ما أظن سحرهم يؤثر في السيوف التي في خزانة الخليفة، فأمر بإتيان السيوف التي في الخزانة، فأتيت فلم يقدروا أيضاً على إخراجها من أغمادها، وجاءوا بالمواسي والسكاكين فلم يقدروا على فكها، ثم أمر الخليفة بإشارة من الوزير بالأسود الضارية، من بركة السباع، فأتىّ بثلاثة من الأسود الضارية والسباع العادية -لا تنسوا هذه أسود ضارية وسباع عادية- فأشار إليّ الخليفة وقال: ألقه نحو الأسود، فحار عقلي، وطاش لبي، وقلت في نفسي: إني لا أفعل ذلك ولو أني أقتل، فقرب -عجل الله فرجه- من أذني وقال لي: لا تخف، ألقني، فلما سمعت من سيدي ومولاي ذلك ألقيته نحو الأسود بلا تأمل، فتبادرت الأسود وتسابقت نحوه وأخذوه بأيديهم في الهواء ووضعوه على الأرض برفق ولين، ورجعوا القهقرى مؤدبين كأنهم العبيد في يدي المولى واقفين، ثم تكلم واحد منهم: فشهد بوحدانية الباري عز وجل، وبرسالة النبي المصطفى، وبإمامة علي المرتضى والزكي المجتبى، والشهيد بكربلاء، وعن الأئمة واحداً واحداً -هذا أسد- ثم قال: أي أسد هذا؟! –الآن الأسود كلها ضارية، وسباع عادية- فقال هذا الأسد: يا ابن رسول الله! لي إليك الشكوى فهل تأذن لي؟ فأذن له فقال: إني هرم -قبل قليل سباع ضارية وأسود عادية-، وهذان اللذان معي شابان، فإذا جيء إلينا بطعمة ما يراعياني، ويأكلان الطعمة قبل أن أكمل، فأبقى جائعاً، فقال عجل الله فرجه: مكافأتهما أن يصيرا مثلك وتصير مثلهما، فلما قال هذا الكلام صارا كما قال، وصار كما أراد، فعرض لهما الهرم، وعاد له الشباب -ما شاء الله- ولما رأى الحاضرون ذلك كبروا جميعاً بغير اختيار، وفزع الخليفة ومن كان معه، وتغيرت ألوانهم، فأمر برده إلى أبيه العسكري عليه السلام، فعدت ضاحكاً شاكراً لله، حامداً له، فأتيت به إلى أبيه وقصصت عليه القصة، فأمرني برده إلى السرداب فذهبت به]]. [إلزام الناصب في إثبات الحجة الغائب الجزء الأول صفحة (356)]
ذو العقل يشتي في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
لماذا قال الشيعة بالإمام الثاني عشر؟؟؟
إن هناك ولداً للحسن العسكري، وأنه هو المهدي، إن الشيعة الاثنى عشرية يشترطون أن تكون الإمامة في الأعقاب بعد الحسين بن علي، ثم الحسن، ثم أخوه الحسين ثم تكون في نسل الحسين في الأعقاب، قالوا: ولا يجوز انتقالها لأخ أو عم أو ابن عم وهكذا، فلما مات الحسن العسكري ولم يكن له عقب وقعوا في حيص بيص، وانسدت في وجوههم المخارج، فهم بين ثلاثة أمور:
الأول: إما أن يتنازلوا عن هذا الشرط، فيجعلونها في أخي الحسن –جعفر- وقد قال بهذا مجموعة من الشيعة.
الثاني: إما أن يسلموا بانقطاع الإمامة بعد الحسن العسكري لانقطاع الولد.(/10)
الثالث: إما أن يخترعوا ولداً للحسن يقوم مقامه. فكانت الثالثة.
ولذلك اختلف الشيعة بعد الحسن العسكري إلى عشرين فرقة، فرقة قالت: العسكري هو المهدي ولم يمت. وفرقة قالت: العسكري مات ثم عاش وهو المهدي. وفرقة قالت: الإمامة لجعفر وأبطلت إمامة الحسن. وفرقة قالت: الإمام بعده أخوه جعفر. وفرقة قالت بإمامة محمد بن علي الهادي وأبطلت إمامة الحسن، وفرقة قالت: للحسن ولد اسمه محمد ولد في حياة أبيه. وفرقة قالت: ولد له بعد موته بثمانية أشهر.
وهكذا افترقوا حتى قالت الفرقة الثانية عشرة وهم الإمامية: لله حجة من ولد الحسن العسكري، وليس للعباد أن يبحثوا في أمور الله ويقضوا بلا علم، ويطلبوا آثار ما ستر عنهم، ولا يجوز ذكر اسمه، ولا يجوز السؤال عن مكانه، وليس علينا البحث عن أمره، لا يجوز البحث.. ولا يجوز السؤال.. انتهى البحث انتهى الإشكال. هذه هي القصة.
ولنا سؤال: لماذا لم يخرج المهدي إلى الآن؟؟
كما هو معلوم، عمر المهدي الآن سبع وستون ومئة وألف سنة (1167 سنة) لمَ لم يخرج إلى الآن؟ أجابوا بأجوبة كثيرة عن هذا التساؤل منها: قالوا: إنه خائف، وهذا عليه أغلبهم إلى الآن؛ ولذلك من أسمائه أو من ألقابه الخائف.
قال الطوسي: (لا علة تمنع من ظهوره إلا خوفه على نفسه من القتل؛ لأنه لو كان غير ذلك لما جاز له الاستتار). [الغيبة (ص:203)]
قلت: إن كان الخوف من القتل فعليه ألا يظهر أبداً؛ لأن العداوة والحقد من طبع البشر دائماً، قال تعالى عن اليهود والنصارى: (( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))[المائدة:64]، فكلما ظهر إمام كان له عدو بالمرصاد، وعلى هذا فلن يخرج أبداً.
ثانياً: لمَ لم يغب الأنبياء والمرسلون، والأئمة السابقون؟ كيف وقد نص كثير من علماء الشيعة على أن جميع أئمتهم ماتوا إما مسمومين أو مقتولين، وهل أعداؤه إلا أعداء آبائه، كلهم كانوا يموتون مسمومين أو مقتولين، لماذا لم يخافوا؟ لماذا لم يختفوا؟ لماذا هو الوحيد الذي يخاف، وهو الوحيد الذي يختفي؟
ثالثاً: إن نظرية الخوف بعيدة جداً عن أخلاق أهل البيت، وحبهم للشهادة في سبيل الله خاصة وقد علم المهدي أنه يعيش إلى أن ينزل عيسى عليه السلام وأنه لا يقدر أحد على قتله حتى يملأ الأرض عدلاً، ثم هل قاهر الأعداء ومزلزل الدول يخاف كل هذا الخوف؟؟
هذا لا شك كلام باطل لا لب فيه، والاختفاء مناف تماماً لمنصب الإمامة الذي مبناه على الشجاعة والإقدام، فهلا خرج وصبر حتى يكون الظفر؟
رابعاً: نقول: قامت دول شيعية كثيرة كالفاطمية، والبويهية، والقرامطة الصفوية، والبهلوية، والخمينية، وغيرها، فلمَ لم يخرج فيأنسوا بطلعته، ويطمئنوا بصدق الوعد، ويستفيدوا من علمه؟ ثم إذا زالت دولتهم أو ضعفت غاب مرة أخرى ولا توجد مشكلة، يطلع ثم يغيب، لكن إذا صارت الدولة قوية لماذا لم يخرج؟
خامساً: لا نعرف سبباً مقنعاً للخوف الذي من أجله غاب الإمام المهدي، فما عٌلم أنهم أرادوا قتله أو غير ذلك، كله كذب كما هو في الرواية السابقة.
سادساً: كيف يخاف وقد رووا عن الرضا أنه قال: [[إن القائم إذا خرج كان في سن الشيوخ ومنظر الشباب، قوياً في بدنه حتى لو مد يده إلى أعظم شجرة على وجه الأرض لقلعها، ولو صاح بين الجبال لتدكدكت صخورها، يكون معه عصا موسى، وخاتم سليمان، ... إلخ]]، فهل مثل هذا يخاف؟؟
سابعاً: لماذا يخاف وقد جاءت الرواية التي تقول: [[إن الأئمة يعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلا باختيار منهم]]، ثم لماذا لم يقتل واحد من أولئك النواب الأربعة الذين يدعون الصلة بالإمام؟ لمَ لم يراقبوا حتى يصلوا إلى الإمام؟ أليس هؤلاء الأربعة كان يزعمون أمام الناس أنهم نواب عنه يذهبون إليه، فلماذا لم يعملوا مراقبة خلفهم حتى يصلوا إليه فيقتلونه؟ ولكنهم لم يفعلوا شيئاً من ذلك.
تاسعاً: نقول: لمَ لم يرحم المهدي الآلاف بل الملايين الذي يستغيثون به ليل نهار؟!
عاشراً: نقول: لقد اتفق عقلاء البشر على أن فاقد الشيء لا يعطيه، فكيف يتسنى لقوم أن يقولوا: إن مهديهم يعجز عن مواجهة أعدائه، ويخاف شدتهم وقسوتهم، ويخشى مرارة عذابهم، ثم يجيب المضطر ويكشف السوء؟
الحادي عشر: نحن نرى الآن في زماننا وقبل زماننا -كما قرأنا في الكتب- أن الكثيرين من الكذابين ادعوا النبوة، وادعوا المهدية وما قتلهم أحد، فقد تركوا حتى في زماننا هذا هناك من يقول: أنا المهدي. وما قتله أحد، خاصة في زماننا هذا لو خرج وقال: أنا المهدي. فمن سيقتله؟! ومن سيبحث عنه؟!
الثاني عشر: يقال: هل الاختفاء في حقه واجب أو مستحب؟ فإن كان الاختفاء واجباً فلمَ لم يأخذه من كان قبله؟ لماذا لم يتخف السابقون من الأئمة خاصة وأنهم كلهم قتلوا إما مسمومين وإما بالسيف؟ فإذا كان الاختفاء مستحباً لزم أن يكون ترك الواجب وهو الدعوة إلى الله تبارك وتعالى فيختفي؛ لأن الاختفاء مستحب، وترك الواجب وهو الدعوة إلى الله وإقامة الدولة.(/11)
إن القول بأن سبب الغيبة هو الخوف يحتاج من الشيعة الاثنى عشرية إلى خمسة أمور:
أولاً: إثبات أن هوية المهدي المنتظر كانت محددة من قبل، وقلنا: إن الأحاديث الواردة كلها ضعيفة.
ثانياً: إثبات ختم الإمامة به.
ثالثاً: إثبات حرمة استخدامه للتقية، لماذا لم يكن كآبائه ويستخدم التقية؟
رابعاً: إثبات الخوف للمهدي، وهو خلاف ما عُرف عن أخلاق أهل البيت.
خامساً: إثبات حرص الحاكم في ذلك الوقت على قتله، وإنه كان يبذل الأسباب في ذلك.
ومن غريب إجاباتهم ما أجاب به الطوسي في كتاب الغيبة، حيث قال: (لأنه كان من المعلوم من حال آبائه لسلاطين الوقت وغيرهم أنهم لا يرون الخروج عليهم، ولا يعتقدون أنهم يقومون بالسيف ويزيلون الدول بل كان المعلوم من حالهم أنهم ينتظرون مهدياً لهم).
هذا السبب أن الحكام في هذا الوقت كان عندهم علم اليقين أن جميع الأئمة لن يخرجوا عليهم، والوحيد الذي سيخرج عليهم هو المهدي، لذا كانوا حريصين على قتل المهدي، نقول: وكيف بخروج الحسين؟ نريد جواباً عن ذلك. ثم إن الحالة السياسية في وقت اختفاء المهدي تبطل ذلك، كان الخليفة في ذلك الوقت هو المعتمد أحمد بن جعفر، استمرت خلافته 23 سنة من 256-279 للهجرة، العسكري توفي سنة 260، يعني: عاش المهدي 19 سنة من خلافة المعتمد، خلال هذه الفترة قامت ثورات وقلاقل كثيرة، أولاً: ثورة الزنج بالبصرة، ثم استقلال الأندلس تحت حكم عبد الناصر الداخل، ثم ثورة بني الأغلب في الشمال الأفريقي، ثم ثورة يعقوب بن ليث الصفار في فارس والروم، ثورة الحسن زيد العلوي، وثورة القرامطة وأخذهم للحجر الأسود وعجز الخلفاء عن إعادته، وثورة المادراني في الري وأقام فيها دولة شيعية، وثورة الإسماعيلية في اليمن وأقاموا دولتهم هناك، وثورة البويهيين وسيطرتهم على بغداد.
أين الخوف؟ الدولة فوضى، كل هؤلاء خرجوا... لماذا لم يخرج كما خرج كل أولئك؟!!
ومن أجوبتهم عن سبب اختفائه: قالوا: من أجل التمحيص والامتحان، فعن أبي عبد الله أنه قال: [[ويل لطغاة العرب من أمر قد اقترب. قال ابن أبي يعقوب: جعلت فداك كم مع القائم من العرب؟ قال: نفر يسير، قال ابن أبي يعقوب: والله إن من يصف هذا الأمر منهم لكثير –يعني: الشيعة- قال: لا بد للناس من أن يمحصوا ويميزوا ويغربلوا ويستخرج من الغربال خلق كثير]].
قلت: إن الله تبارك وتعالى قال: (( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ))[البقرة:155]؛ فالامتحان لا يتعلق بغيبة أحد أو ظهوره، وقد كان الامتحان قبل ظهور الأئمة وعند ظهورهم وبعد ما ماتوا وهي سنة الله تبارك وتعالى في خلقه، كما قال تعالى: (( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ))[العنكبوت:1-3].
ومن أجوبتهم قالوا: غائب حتى لا تكون في عنقه بيعة لطاغوت، وهذه طامة كبرى. فقد سئل الباقر والصادق والرضا عن سبب الغيبة فقالوا: (لئلا يكون في عنقه بيعة إذا خرج بالسيف).
أي: يجوز له الخروج؛ لأنه ليس في عنقه بيعة، قال نعمة الله الجزائري: (وذلك أن كل واحد من آبائه الطاهرين قد وقع في عنقه بيعة لواحد من طواغيت زمانه، حتى أنه من جملة اعتذاره على القعود عن الخلافة: أنه قد اضطر أولاً للبيعة مع الثلاثة).
هذا هو السبب: أن في عنقه بيعة، وهذا قاله في الأنوار النعمانية (2/42)، ثم يروون عن الصادق أنه قال: [[كل بيعة قبل ظهور القائم فبيعته كفر ونفاق وخديعة، لعن الله المبايع والمبايع له]] أعوذ بالله. [بحار الأنوار (53/8)]
ومن أجوبتهم: لحكمة مجهولة، لا ندري، غائب فقط، لماذا؟ لا ندري.
قال الصدوق: (إن إيماننا بعصمة الإمام المهدي يقتضي منا التسليم بوجود حكمة مجهولة وراء الغيبة). [قال ذلك في كمال الدين (ص:21)]
قلت: هذا جواب ذكي، وهو يحل جميع الإشكالات.
هل كان الشيعة الأوائل يؤمنون أن هناك مهدي؟! وأنه فعلاً غاب؟!(/12)
إن من يتتبع كتب التاريخ يجد أن الثورات الشيعية خاصة عندما كانت تقوم، كانت تدعو للرضا من آل محمد دون تحديد شخص باسمه، وأنه لا بد أن يكون من أولاد الحسين بن علي، المهم أن يكون رضا، و(رضا) يعني: رضياً مقبولاً. وأن يكون من آل محمد، وممن خرج في ذلك الوقت وتبعته الشيعة: أبو هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب سنة 98هـ، وزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب سنة 122هـ، وعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب سنة 128هـ خرج بثورة، ومحمد بن عبد الله بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب الذي يقال له النفس الزكية سنة 130هـ، وهذا أشهر من عرف أنه المهدي المنتظر، وقد سمح جعفر الصادق لولديه موسى وعبد الله بالانضمام إلى ثورة محمد بن عبد الله النفس الزكية؛ لأنه اسمه اسم النبي محمد بن عبد الله، وهو من ذرية الحسن، وقام بثورة، وكان الجميع يرى أن هذا هو المهدي المنتظر؛ ولذلك أولاد جعفر الصادق موسى الإمام بعد جعفر، وعبد الله كلاهما بايع محمد بن عبد الله بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب، واستقرت الأمور له كثيراً رضي الله عنه حتى قتل، ثم خرج بعده محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المشهور بابن طبا طبا خرج سنة 199هـ.
محمد بن جعفر الصادق الذي اشتهر بالديباج لجماله رضي الله عنه سنة 200هـ، وممن قيل: إنه المهدي وإن لم يدعِ ذلك، وقد ذكرهم النوبختي في كتابه فرق الشيعة: علي بن أبي طالب ذكره صفحة (22)، ومحمد بن علي بن أبي طالب أتباعه الكيسانية. ذكره صفحة (29).
جعفر الصادق (النواسية) صفحة (69)، إسماعيل بن جعفر (الإسماعيلية) صفحة (67)، موسى بن جعفر (الواقفية) صفحة (80)، محمد بن على الهادي صفحة (94)، الحسن العسكري صفحة (92)، مهدي قائم غير محدد صفحة (105).
كل هذه الفرق وكل هؤلاء الشيعة لم يقل أحد منهم أن محمد بن الحسن العسكري هو المهدي وهو الإمام الثاني عشر، وأن الإمامة تنتهي عنده، ومما يدل على أن فكرة المهدي قديمة، أما تحديده بشخص معين وهو محمد بن الحسن فقد جاء هذا متأخراً، وهذا بعد وفاة الحسن العسكري.
ولذلك كبار الشيعة غفلوا عن هذا، ومنهم عمار الساباطي، جميل بن دراج، أبان بن تغلب، هشام بن الحكم، عبد الله بن أبي يعفور، هشام بن سالم الجواليقي، محمد بن النعمان الأحول (مؤمن الطاق عندهم) كل هؤلاء بايعوا عبد الله الأفطح بن جعفر الصادق، أين النص عن الأئمة عندهم؟!
حتى قال النوبختي: (جُل مشايخ الشيعة فطحية، يعني: تبع عبد الله الأفطح بن جعفر الصادق]]، قال هذا في فرق الشيعة صفحة (78)، وهذا زرارة بن أعين أوثق رواة الشيعة على الإطلاق يقول: (يموت زرارة، ولا يعرف إمام زمانه).
ولو قال القائل: إن الحق مع من يملك الدليل، وهو الروايات المنقولة عن المعصومين، فيقال له: قد مر بنا أن الأحاديث التي يستدلون بها ضعيفة، لا يثبت منها شيء.
وكما قيل:
لي حيلة في من ينم وليس لي في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة
ومثال على ذلك: فرقة الواقفة الذين وقفوا عند موسى الكاظم، ولم يقبلوا إمامة ولده علي، رووا عن الصادق أنه قال: [[إن جاءكم من يخبركم أن ابني هذا مات أو كفن أو قبر فلا تصدقوا به]].
وعن أبي جعفر أنه قال عن المهدي: [[هو سمي فالق البحر]]، من هو فالق البحر؟ إنه موسى، إذاً: المهدي عندهم هو موسى بن جعفر.
ورووا عن علي بن الحسين أنه قال: [[اسمه اسم لحديدة الحلاق]]، من هو؟ موسى، إذاً هذا هو المهدي.
ورووا أن الإمام إذا مات لا يغسله إلا إمام، والكاظم مات في بغداد والرضا كان في المدينة.
ما الذي يدلنا على أن الروايات وضعت متأخرة؟
روايات أخرى، رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي: (يا علي! إنه سيكون بعدي اثنا عشر إماماً من بعدهم اثنا عشر مهدياً). إذاً: لا يوجد شيء اسمه اثنا عشر مهدياً فقط. [الغيبة (ص:97)]
يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني واثنا عشر من ولدي، وأنت يا علي زر الأرض)، يعني: أوتادها وجبالها. [(الكافي: 1/534)]
يعني: كم يصيرون؟! ثلاثة عشر إمام!!
قال الصدوق: (لسنا مستعبدين في ذلك إلا بالإقرار باثني عشر إماماً واعتقاد كون ما يذكره الثاني عشر بعده)، يعني: احتمال أن يكون هناك ثالث عشر.
قال الكفعمي في المصباح عن المهدي: (اللهم صل على ولاة عهده والأئمة من بعده). إذاً: ليس هو آخر واحد، وهم ليسوا اثنا عشر، يعني: ممكن أن يكونوا أكثر من ذلك. [هذا في الصباح (ص:542)](/13)
قلنا: إن المهدي عمره الآن 1167 سنة، والسؤال: هل تزوج أم هو أعزب إلى الآن، وهل يجوز أن يبقى أعزب طوال هذه المدة (1167 سنة)؟ وإذا كان تزوج هل هي معمرة مثله أم كل (50 سنة) يتزوج واحدة جديدة غير الأولى؟ وهل عنده أولاد؟ وهل هم معمرون؟ أسئلة كثيرة لا تجد جواباً إلا عند صاحب كتاب الجزيرة الخضراء الذي قال: (المهدي موجود في الجزيرة الخضراء وعنده أزواج وذرية، وهم يملكون تلك الجزيرة، لكن لا أحد يعلم أين هذه الجزيرة)، وقالوا (90%) هي مثلث برمودا.
إذا خرج المهدي ماذا سيفعل؟
قالوا: أولاً يأتي بقرآن جديد، فلا يعجبه هذا القرآن!! وإنما يأتي بقرآن جديد.
عن أبي عبد الله قال: [[لكأني أنظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس على كتاب جديد، على العرب شديد]]. [كتاب الغيبة للنعماني (ص:102)]
قال محمد بن باقر الصدر: (أي: يأتي بتفسير جديد عميق موسع، وهذا أمر صحيح لا محيص عنه فإنه يمثل حقلاً مهما من العمق والشمول الذي يتصف به الوعي البشري، وهو فهم أعمق من كل الأفهام السابقة).
قلت: أعمق حتى من فهم الأئمة السابقين كعلي والباقر والصادق وغيرهم!!!
وعن علي رضي الله عنه قال: [[كأني أنظر إلى الشيعة وقد بنوا الخيام بمسجد الكوفة، وجلسوا يعلمون الناس القرآن الجديد]]. [الأنوار النعمانية (2/95)]
قال المفيد في المسائل السروية: (إن الذي بين الدفتين من القرآن جميعه كلام الله تعالى وتنزيله وليس فيه شيء من كلام البشر وهو جمهور المنزل -ليس كل المنزل- والباقي مما أنزله الله تعالى قرآناً عند المستحفظ للشريعة، المستودع للأحكام لم يضع منه شيئاً). [المسائل السروية نقلاً عن آراء حول القرآن (ص:133)]
يهدم المسجد: عن أبي جعفر قال: [[إذا قام القائم سار إلى الكوفة فهدم بها أربعة مساجد]]. [بحار الأنوار (52/339)]
يقيم الحد على أم المؤمنين عائشة: عن أبي جعفر قال: [[أما لو قام قائمنا وردت إليه الحميراء حتى يجلدها الحد وحتى ينتقم لابنة محمد فاطمة]]. [بحار الأنوار (52/314)]
[[يخرج أبي بكر وعمر من قبريهما ويصلبهما ويحرقهما]]. [الأنوار النعمانية (2/85)]
يبعثه الله نقمة: عن أبي جعفر قال: [[إن الله بعث محمداً رحمة، وبعث القائم نقمة]]. [بحار الأنوار (52/315)]
يقتل ذراري قتلة الحسين: قيل للرضا: [[يا ابن رسول الله! ما تقول في حديث روي عن الصادق أنه قال: إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين بفعل آبائها؟ قال: هو كذلك، قلت: وقول الله تعالى: (( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ))[الأنعام:164]؟ قال ذراري قتلة الحسين يرضون بفعال آبائهم ويفتخرون بها]].
المهدي حريص على قتل العرب: عن أبي عبد الله قال: [[ما بقي بيننا وبين العرب إلا الذبح...]]. نزعة فارسية. [الأنوار العمانية (52/349)]
وعن أبي عبد الله قال: [[اتق العرب، فإن لهم خبر سوء، أما إنه لم يخرج مع القائم منهم أحد]]. [بحار الأنوار (52/333)]
وعن أبي عبد الله قال: [[إذا قام القائم من آل محمد! -انظروا إلى هؤلاء الذين يعظمون آل بيت النبي ويعظمون قريشاً- أقام خمسمائة من قريش فضرب أعناقهم، ثم أقام خمسمائة مئة فضرب أعناقهم، ثم خمسمائة حتى يفعل ذلك ست مرات]] يعني: ثلاثة آلاف، قيل: أو يبلغ عدد هؤلاء هذا؟ لأن الرواية كانت في ذلك الزمان، وقريش قليلون في ذلك الزمن، وهذا يستغرب الرواية يصل عددهم ثلاثة آلاف!! قال: [[لا هم ومواليهم]]... حتى تمشى القضية!!
عن أبي جعفر قال: [[لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا خرج لأحب أكثرهم ألا يروه مما يقتل من الناس، أما إنه لا يبدأ إلا بقريش فلا يأخذ منها إلا السيف ولا يعطيها إلا السيف حتى يقول كثير من الناس: ليس هذا من آل محمد، لو كان من آل محمد لرحم]]. [بحار الأنوار (52/354)]
هذا الفعل موافق لقول الله تبارك وتعالى: (( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ))[الشورى:23]، هل هذه هي المودة في قربى النبي صلى الله عليه وسلم؟! (( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ))[الكهف:5].(/14)
المهدي عليه السلام
إن من حكمة الله عز وجل أن فاضل بين خلقه زمانا ، ومكاناً ، ففضل بعض الأزمنة على بعض ، وبعض الأمكنة على بعض ، وبعض البشر على بعض ؛ فأفضل الأزمنة في هذه الدنيا زمن النبوة والرسالة ، الذي تتصل فيه الأرض بالسماء ، وتتلقى فيه البشرية الهداية من الوحي ، وتبلغ الأمة فيه مبلغ الكمال البشري ، إلا أن النقص سرعان ما يداهم الأمم بعد موت أنبيائها ، وانقطاع وحيها ، وقد أتى على هذه الأمة ما أتى على الأمم قبلها ، بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، وما زال هذا النقص يتسع ويزداد ، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بهذه السنة الكونية ، فيما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم ) ، إلا أن رحمة الله عز وجل بعباده ، ورأفته بهم اقتضت أن يكون للناس أوقات يؤبون فيها إلى الهدى والرشاد ، وأزمنة يتذكرون فيها عهد الأمة الأول ، ومن تلك الأزمنة زمن خروج المهدي عليه السلام ، المهدي الذي يخرج على الأمة مصلحاً وهاديا بعد أن يعم الشر ، وينتشر الباطل ، وتملأ الأرض ظلما وجورا .
وقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بتجلية أمر هذا المصلح ، وبيان صفاته وخصائصه ، حتى إذا ظهر كانت الأمة معه على موعد ، فتنصره ولا تخذله ، لاسيما أن وقت نزوله وقت فتن وبلاء .
فقد ذكر صلى الله عليه وسلم : أن اسمه مثل اسمه ، واسم أبيه مثل اسم أبي النبي ، وأنه من بيت النبوة الطاهر ، والحديث الوارد في ذلك رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني .
وذكر صلى الله عليه وسلم صفاته الخَلْقية فقال : ( المهدي مني أجلى الجبهة ، أقنى الأنف ) رواه أبو داود وحسنه الشيخ الألباني . ومعنى " أجلى الجبهة " : أي : أنه عريض الجبهة لانحسار الشعر عن مقدم رأسه ، ومعنى " أقنى الأنف " أي : طويل الأنف، مع دقة في أرنبته ، وحدب في وسطه .
هذا عن اسمه وصفاته الخَلقية ، أما عن زمن خروجه فقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه يخرج في زمن ملئت فيه الأرض ظلما وجورا . وأما مكان خروجه فقد دلت الأحاديث على أنه يخرج من جهة المشرق ، ويبايعه المسلمون ، ويخوض بهم حروبا ينتصر فيها ، ويستقر الأمر له عليه السلام ويحكم بالإسلام فينتشر العدل ، وتشهد الأمة مرحلة من الرخاء الاقتصادي لم تشهد له مثيل من قبل ، حتى يُطلب من يقبل المال فلا يوجد ، وتخرج الأرض بركتها وتنزل السماء ماءها ، ويمكث في الأمة سبع سنين .
هذا هو المهدي عليه السلام الذي يكون خروجه في زمن كثرت فتنه ، وعم فساده ، وغلب شره ، وما ذكرناه لك أخي الكريم - من تفصيلات حياته عليه السلام هو مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وثبت في أحاديث كثيرة منها الصحيح ومنها الحسن ، وهي بمجموعها تشكل تواترا معنويا يثبت خروج المهدي عليه السلام .
لكن عليك أن تعلم - أخي الكريم - أن إيماننا بخروج المهدي عليه السلام لا يدفعنا إلى ترك العمل اتكالا عليه ، وانتظارا لخروجه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما أخبرنا به لنترك العمل ، وإنما كان إخباره به من أجل أن يبعث الأمل في نفوس الصالحين عند اشتداد الكرب وظهور الكفر وأهله ، لئلا يلحقهم من جراء ذلك يأس أو قنوط . نسأل الله العظيم أن يعيننا على طاعته ، وأن يجنبنا معصيته ، والله أعلم وصلى الله عليه وسلم .(/1)
المهزلة الأركونية في المسألة القرآنية
القرآن: مخيال جماعي أم وحي إلهي؟
د.إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
الدكتور محمد أركون أستاذ جزائرى من أصل بربرى، وُلِد عام 1928م، وتعلم العربية وآدابها على يد المستشرقين فى جامعة الجزائر التى أسسها الفرنسيون أيام احتلالهم لبلد "المليون شهيد"، ثم تابع دراساته العالية فى فرنسا حيث حصل على الدكتورية، وانتهى به الأمر إلى تعيينه أستاذا لتاريخ الفكر الإسلامى فى جامعة السوربون فى العاصمة الفرنسية. وكانت أول مرة أسمع فيها بالدكتور أركون فى أواخر سبعينات القرن الماضى حين كنت أتمشى فى بعض شوارع لندن عصر أحد الأيام الصيفية الجميلة، وفجأة وجدت مكتبة لبيع الكتب فدخلتها أسأل عما إذا كان لديهم ترجمات قرآنية، فتصادف أن وجدت ترجمة كازيميرسكى الفرنسية، وفيها مقدمة كتبها د.أركون. وكنت أرجع لتلك الترجمة بين الحين والحين، لكنى لم أعكف على دراستها كما عكفتُ على تلك التى قام بها سافارى أو مونتيه أو بلاشير أو بو بكر حمزة، ومن ثم لم تأت فرصة لقراءة المقدمة المذكورة. وفى الفترة الأخيرة تكررسماعى لاسم الرجل فى بعض الكتابات العربية مقرونا فى بعضها بالمدح الشديد، وفى بعضها الآخر بالذم الحاد، ولا أدرى بالضبط ما الذى دفعنى إلى الاهتمام به اهتماما خاصا حتى إنى فكرت أن أقرأ ما استطيع أن أُحَصِّله من كتبه وأكتب عنها إذا وجدت فيها ما يدفع لذلك. وقرأت فوجدت أن الرجل، رغم انتمائه إلى أسرةٍ وبلدٍ مسلمين، يعمل بكل جهده ووسعه للتشكيك فى القرآن، وإن ادعى وأغرق فى الادعاء أنه يريد دراسته دراسة علمية محايدة، فهو مثلا يسميه: "أساطير"، مما يذكِّرنا بالقرشيين، الذين كانوا كلما حَزَبَهم أمر هذا الكتاب ولم يستطيعوا أن يقفوا فى طريقه أو يردّوا على حُجَجه أو يأتوا بمثله حسبما تحداهم أكثر من مرة صاحوا قائلين: "أساطير الأولين" (الأنعام/ 25، والنحل/ 24، والمؤمنون/ 83، والفرقان/ 5، والنمل/ 68، والأحقاف/ 15، والقلم/ 15، والمطففين/ 13). يقصدون بذلك أن القرآن الذى نزّله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ليس إلا قصصا نقلها النبى عما خلَّفه السابقون وراءهم من قَصَص مسطور. يريدون أن يقولوا إن القرآن ليس وحيا إلهيا بل إنتاجًا بشريًّا، وإن محمدا ليس هو مؤلفه، إنما هو مجرد مردِّد له.
ولهذا كان النضر بن الحارث يعمد إلى الأماكن التى يتردد عليها الرسول بغية دعوة المكيين إلى دينه، فإذا ما فرغ، عليه الصلاة والسلام، من تلاوة آيات الذكر الحكيم على جمهور الحاضرين شرع هذا الشيطان يقرأ عليهم من كتاب يتضمن قصص رستم وإسفنديار وملوك الفرس، زاعما أن قصصه أحسن من قصص محمد حسبما ورد فى التفاسير وكتب أسباب النزول . فـ"الأساطير" هنا معناها الكلام المسطور، أى المكتوب. وفى "لسان العرب" و"تاج العروس" على سبيل المثال أن "الأساطير" جَمْع "سطر" أو جمع "أسطار"، الذى هو بدوره جمع لـ"سطر"، وإن كان هناك من يقول إنها جمع "أسطورة"، ومن يقول إنه جمع لا واحد له من لفظه. وقد ذكر بعض اللغويين أنها "الأباطيل" كما جاء فى "الصحاح" و"لسان العرب" أو "الأباطيل أو الأحاديث التى لا نظام لها" حسبما ورد فى "تاج العروس"، وإن لم يكن هذا شرطا فى رأيى، فهو ليس من أصل المادة، بل مجرد إسقاط لموقف الكفار، الذين كانوا يتعنتون على النبى الكريم ويعملون جهد طاقتهم على تكذيبه صلى الله عليه وسلم، على كلمة "أساطير"، لأن المادة التى اشتُقَّت منها هذه الكلمة ليس فيها معنى البطلان، بل هى مادة "السطر والتسطير" أى الكتابة لا غير. وكان ابن عباس يتأولها بهذا التأويل على ما ورد فى تفسير الطبرى للآية 25 من سورة "الأنعام" والآية 24 من سورة "النحل" مثلا. ولو كانت تعنى "البطلان" لقد كان النضر إذن يكذّب نفسه أيضا حينما كان يأتى بقصص رستم وإسفنديار وأخبار الأكاسرة ويقرؤها على الجمهور ليصرفهم عن آيات القرآن التى كان يتلوها على مسامعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا غير متصوَّر بطبيعة الحال!(/1)
جاء فى تفسير القرطبى أثناء كلامه فى الآية 25 من سورة "الأنعام" عن ابن عَبَّاس: أن المشركين "قَالُوا لِلنَّضْرِ بن الْحَارِث: مَا يَقُول مُحَمَّد؟ قَالَ: أَرَى تَحْرِيك شَفَتَيْهِ وَمَا يَقُول إِلا أَسَاطِير الأَوَّلِينَ مِثْلمَا أُحَدِّثكُمْ عَنْ الْقُرُون الْمَاضِيَة، وَكَانَ النَّضْر صَاحِب قَصَص وَأَسْفَار، فَسَمِعَ أَقَاصِيص فِي دِيَار الْعَجَم مِثْل قِصَّة رُسْتُم وإسفنديار فَكَانَ يُحَدِّثهُمْ". وقد أتاها هذا "البطلان" من موقف المشركين نفسه لا من شىء آخر كما قلنا، إذ كانوا يقصدون باستعمالها أن يقولوا إن ما يتلوه محمد ليس وحيا نزل من عند الله، بل هو كلام منقول عن السابقين مسطورٍ فى الكتب ويُتَعلَّم تعلّما ويستطيع أن ينسخه من يريد. فتكذيبهم بالوحى هو الذى خلع، من حيث الواقع العملى، على الكلمة معنى "البطلان"، وإلا فلو كانوا يقصدون أن يتهموا آيات القرآن بأنها قصص باطلة لا أساس لها لقالوا مثلا: "خُرافات" أو "أحاديثُ خُرافة".
وقد تعلق أركون بهذه الكلمة وعضّ عليها بالنواجذ ليصف بها القرآن الكريم بعد أن أعطاها المعنى الذى نستعملها به الآن، وهو معنى "الخرافة" كما سنوضح لاحقا، فلما هاجمه بعض الكتاب المسلمين الذين يغارون على دينهم وعلى الحقيقة التى يمثلها هذا الدين فى أصفى مجاليها وتجلياتها وأظهروا سخف ما صنع، أخذ يتمحّك قائلا إن المسؤول عن ذلك الالتباس هو د.عادل العوا (مترجم كتابه "الفكر العربى"). كما زعم فى محاضرة له بدمشق ضمن نشاط "أيام الفرنكفونية" أنه قد وقع بينهما خصام ومشادة بسبب ترجمته لعبارة "كتاب قصصى" بـ"كتاب أسطورى"! (انظر مقال أنور بدر فى صفحة "أدب وفن" من صحيفة "القدس العربى" اللندنية/ الجمعة 26 مارس 2004م). وهذا كلام عجيب لا يجوز ولا فى عقول البُلْه، إذ الدكتور العوا لم يصنع شيئا أكثر من أنه ترجم الكلمة التى استعملها أركون فى وصف القرآن مرارا وتكرارا فى كتبه ومقالاته وحواراته المختلفة، ألا وهى كلمة "un mythe, mythique"، التى لا تعنى ولا يمكن أن تعنى إلا "أسطورة، أسطورى" حسبما ترجمها العوا. ترى ماذا كان د.أركون يريد من الأستاذ المترجم؟ أكان يريد منه أن يلغى عقله وضميره حتى لا يكشف للقارئ العربى المسلم هذه العورة الفكرية؟ لكن ما الذى أدرى العوا بأن أركون لا يريد أن يعرف ذلك القارئ بهذا الذى يقوله فى القرآن؟ أكان يشمّ على ظهر يده؟ أتراه كان كاهنا، فهو يطلع على الغيب ويعرف مقدما أن د. أركون سوف يغضب من هذه الفضيحة غير المقصودة؟ جاء فى حوار أجراه محمد البنكى مع د. أركون فى عدد 6 يناير 200م من مجلة "أوان" التى تصدرها كلية الآداب بجامعة البحرين إشارة إلى ما كان الكاتب الجزائرى المتفرنس قد قاله فى كتابه الذى ترجمه عادل العوا: "الفكر العربى"، وهو أن "The Quran is a discourse with mythical structure"، ونقله العوا إلى لغة الضاد قائلا: "القرآن خطابٌ أسطورىُّ البنية"، وهى ترجمة سليمة ودقيقة ولا يمكن أن ينتطح فيها عنزان، أو حتى يتصارع دِيكان!(/2)
وقد ادعى أركون أن هذه الترجمة خاطئة، إذ القرآن يميز (حسبما قال) بين الأسطورة والقصص، فالكتب الدينية، وكذلك الفلسفية، تعتمد القصص والاستعارات والمجازات والرموز لقديم الحقائق والتعاليم الدينية بصورة أدبية، فكيف تترجم هنا بـ"الأسطورة"؟ هكذا يقول ويتساءل كاتبنا الأمين، وقد ارتسمت براءة الأطفال فى عينيه الجريئتين، وكأن الدكتور العوا قد اخترع كلمة "الأساطير" من لدنه وألبسها النص بعد أن لم تكن فيه! الواقع أن الدكتور أركون هو الذى يريد أن "يُلبسنا العِمّة"! لكن للأسف "خَرَجَتْ آوِتْ" يا دكتور! فالمعاجم الفرنسية، وكذلك المعاجم الفرنسية – العربية، تُجْمِع على أن معنى "mythe" هو "أسطورة، خرافة، وهم، تُرَّهة، شخص أو شىء خرافى" كما جاء بالنص فى معجم "المنهل" لجبور عبد النور وسهيل إدريس مثلا، ويؤيد ذلك ما أورده بتوسعٍ كلٌّ من "petit Larousse en couleurs" و"Grand Larousse encyclopedique" و"La Grande Encyclopedie (Larousse)" فى شرح الكلمة ذانها. فأين تهرب يا دكتور أركون؟ أما زلت مصرا على أن الغلط هو من صنع العوا؟ أهذا هو المنهج العلمى الذى تصدغ أدمغتنا بأنك جئتنا به لتعلمنا من خلاله كيف ندرس القرآن؟ يا رجل، إنك لا تقبل ما يقوله الإسلام من أن الوحى وما يتضمنه من عقائد وأخلاق وتوجيهات هو من الله، بل تنحاز إلى تفسير علماء النفس واللغة والأنثروبولوجيا له على أنه نتاج "الذات الجماعية الكبرى المعبرة عن مِخْيالٍ مصعَّد أو متسامٍ" (فى كتابك "الإسلام- أوربا- الغرب"/ ترجمة حبيبك وحواريّك ومروّجك فى السوق العربية د. هاشم صالح/ دار الساقى/ بيروت/ 1995م/ 112)، كما قلت إن الأديان (ومنها بل على رأسها الإسلام بطبيعة الحال لأنه هو المقصود بكلامك وانتقاداتك أولا وآخرا) تقوم على المعرفة الأسطورية لا العلمية (نفس المرجع/ 75)، فأنت إذن تضع "الأسطورى" فى مقابل "العلمى"، مثلما وضعته (فى كتابك "تاريخية الفكر العربى الإسلامى") فى مواجهة "العقلانى" (ترجمة هاشم صالح/ مركز الإنماء القومى ببيروت، والمركز الثقافى العربى بالدار البيضاء وبيروت/ 1998/ 16- 17). كما دعوتَ إلى وضع إستراتيجية تربوية لأكبر عدد من البشر تكون مهمتها "تغيير عقو ل الناس وتفكيك الأراء اللاهوتية القديمة والراسخة فى الذهن أبًا عن جَدّ منذ مئات السنين"، أى استبدال التفسير الأنثروبولوجى بالنظرة القديمة التى تقوم على الإيمان بالوحى الإلهى، وإن غلب عليك التشاؤم فقلتَ إن "الإنتاج المِخْيالى للمجتمعات البشرية والتأسيس الاجتماعى للروح والفكر يستمران فى الهيمنة سوسيولوجيا وسياسسيا"، وإن "التجليات التقليدية للأديان سوف تظل لوقت طويل وسائل جبارة للتعبئة الاجتماعية، وسوف تستمر التصورات التقليدية الموروثة عن الأنظمة اللاهوتية فى تحريك ملايين البشر" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ ترجمة وتعليق هاشم صالح/ دار الطليعة/ بيروت/ 2001م/ 78- 79/ هـ1). بل لقد وصفتَ كلام القرآن الكريم عن زيارة إبراهيم عليه السلام لمكة بأنه "خيال اسطورى" لا علاقة له بالتاريخ الحقيقى (الإسلام- أوربا- الغرب/ 75- 76).
وهذا موقف طبيعى جدا ممن يؤكد أن "الوظيفة النبوية والخطاب الذى يوضحها أو يجسدها لا يمكنهما ممارسة فعلهما إلا داخل سياق معرفى ومؤسساتى يفضل الأسطورة على التاريخ، والروحى على الزمنى، والعجيب المدهش أو الساحرالخلاب بصفته بنية أنثروبولوجية للمخيال على العقلانى الوضعى" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 86). وبالمناسبة فإن كاتبنا يأخذ على طه حسين أنه لم يطبق النظرية الأنثروبولوجية الخاصة بالمعرفة الأسطورية حين نفى زيارة الخليل إبراهيم لمكة هو أيضا فى كتابه "فى الشعر الجاهلى"، الذى صدر سنة 1926م (المرجع السابق/ 75). ونحب أن نعرّف د. أركون أن رائده المصرى لم يقصّر كما ظن (وبعض الظن إثم)، فقد قام بالواجب وزيادة، إذ قال عن هذه الزيارة وبناء الخليل عليه السلام للبيت الحرام هناك إنها ليست إلا أسطورة يهودية استغلها العرب لأسباب سياسية (فى الشعر الجاهلى/ مطبعة دار الكتب/ 1926م/ 28-29). ليس ذلك فقط، بل إنه زعم أيضا نفس الزعم الذى ينحاز إليه أركون، إذ قال إن الدين لم ينزل من السماء، وإنما نبع من الأرض، فهو نتاج اجتماعى، وإن الجماعة حينما تعبد الله فإنما تعبد (أو فلنقل: تؤله) نفسها (انظر كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"/ مطبعة الفجر الجديد/ القاهرة/ 1976م/ 24).(/3)
لكن يبدو أن معرفة د. أركون بالموضوعات التى يتحدث عنها هى معرفة ضحلة، ومن ثم فهو يحاول أن يغطى على هذا العوار المعرفى بكثرة ترديد المصطلحات الفارغة التى يحسب أنها قادرة على إرباك عقولنا ودفعنا إلى الإقرار بأستاذيته والاستسلام لما يهرف به. مسكين، ورب الكعبة! ثم إن درويشك وقرة عينك ولاعب الدور الأكبر فى تسويقك بين العرب "هاشم صالح" يا د. أركون قد ترجم كلمة "mythe"، فى كل مرة رآك تستخدمها، بـ"الأسطورة"، فلماذا قبلتَها منه ولم تتشاجر معه كما فعلت، أو تدَّعى أنك فعلت، مع د. عادل العوا لو كنت صادقا فى إنكارك على هذا الأخير؟ ألا ترى أنك تتخبط على غير هدى؟ من حقك أن تقول ما تشاء فى القرآن، سواء كان ذلك بعلم أو بجهل، لكن ليس من الحق ولا مما يتسق مع نبل العلم وجلاله أن يلجأ أحد ممن ينتسب للعلماء إلى أسلوب الحواة الذين يلاعبون المغفلين لعبة الـ3 ورقات! إذا كنت تظن أن عندك عقلا فالناس أيضا عندها، والله العظيم، عقول وذكاء قد يفوقان عقلك وذكاءك! ثم هذا هو درويشك وتابعك يقول فى موضوع الأساطير إن "عقلية الناس فى القرون الوسطى كانت ميالة إلى تصديق الحكايات الأسطورية بسهولة، ولم تكن تستطيع أن تميز بين ما حقيقى وما هو أسطورى كما نفعل اليوم، فينبغى ألا نُسْقِط عليهم عقليتنا المعاصرة، وإلا فلن نفهمهم. ولذلك نرى الطبرى يستتشهد بالحكايات الأسطورية الرومانية للبرهنة على صحة ما ورد فى القرآن من قصص! ولا يشعر القارئ بأى تناقض إذ يفعل ذلك. وحتى الحكايات التى رواها عن النبى موسى معظمها أسطورى ولا علاقة له بالحقيقة التاريخية. وأما جلجامش، الذى هو بطل الملحمة الآشورية- البابلية الشهيرة بنفس الاسم، فإنهم ينظرون إليه وكأنه شخصية واقعية أو تاريخية. ينبغى ألا ننسى أن الأديان التوحيدية ظهرت فى منظقة غنية بالأساطير والأديان القديمة من مصرية وبابلية وآشورية..." (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 163 فى الهامش). ألا تزال تظن أن بإمكانك المراوغة؟
ولقد حاول د. أركون أن يوحى لنا بأن المقصود هو اعتماد القرآن فى أسلوبه على القصص والاستعارات والمجازات والرموز. لكن هذه أيضا لعبة مكشوفة وسقيمة، فالعب غيرها من فضلك، فالقرآن لا يعتمد دائما على هذه الأدوات، إذ هناك التشريعات والتوجيهات الأخلاقية، وجانب كبير من العقائد أيضا، فأين المجاز أو القصص فيها؟ وحتى مع إدخال القصص والمجازات والاستعارات فى هذا المجال، أيمكن أن يعنى هذا أن بنية القرآن هى بنية أسطورية؟ ثم لماذا يقال هذا فى القرآن وحده، على حين أن الأدب يعتمد كثيرا على هذه الأدوات، ولم يقل أحد ولا حتى كاتبنا الهمام إنه أسطورى البنية؟ إن الناس جميعا يدركون الفرق بين الأسطورة والمجاز والقصص، إلا أن أركون يتعمد خلط الأوراق رغبة منه أن يربكنا ويشتت انتباهنا فلا نستطيع أن نرى يديه وهما تغيران الورقة التى تربح من بين الورقات الثلاث بورقة لا تربح! لكن الحاوى المسكين لا يدرى أنه قد جاء يبيع الماء قى حارة السقائين الذين لا يَرُوج بينهم سقّاء مبتدئ لم يتعلم الصنعة على أصولها! لو أنك قلت لنا منذ البداية فلربما كنا عهدنا بك إلى أحد صبية الحارة ليعلّمك كيف تحمل القربة وتدور بها فى الشوارع وتنادى على الماء بطريقة منغمة تصغو إليها الآذان وتنفتح لها القلوب، وكيف تُفْرِغ الماء فى الأزيار والطُّسُوت والقُلَل والأباريق دون أن تريقه على الأرض أو تبلّ به ملابسك وتجعل من نفسك أضحوكة الحارة! ما كل من ذهب لفرنسا، حتى لو أعطاه المستشرقون درجة الدكتورية ورَقَّوْه وجعلوه منه بروفيسيرا وعيَّنوه فى السوربون، يصلح أن يكون سقّاء أو حاويا فى حارتنا أُمّ البِدَع! فهذه نقرة، وتلك نقرة أخرى!(/4)
وفى النهاية هأنتذا تقول فى موضع آخر، وبعَظْمَة لسانك أيضا، إن ترجمة الجملة السابقة التى وردت فيها كلمة "أسطورة" وعِبْتَها على د. العوا هى ترجمة "صحيحة وسليمة لغويا" (تاريخية الفكر العربى/10). وهذا نص كلامك كاملا: "فعندما يقرأون ترجمة جملة كهذه: "Le Coran est un discours de nature mythique"، أى "القرآن خطاب أسطورى البنية" كما جاء فى ترجمة الدكتور عادل العوا، فإنهم يصرخون ويدينون... فى الواقع إن الترجمة صحيحة وسليمة لغويا، إلا أن مفهومات "خطاب" و"أسطورة" و"بنية" لم يفكَّر فيها بعد كما ينبغى فى الفكر العربى المعاصر. ولن تؤدى المناقشة إلى أية نتيجة إذا ما تمسك هذا الطرف المذكور بأحكام فقه اللغة التقليدى والتاريخ الروائى- الخَطّىّ واستخدام القرآن لمفهوم الأسطورة". طبعا علينا أن نلغى عقولنا والمعاجم التى بين أيدينا وما اصطلح عليه الناس فى استعمالاتهم اللغوية وننسى ما شرح به د. أركون نفسه معنى "الأسطورة" كما رأينا، ونصدق هذه البهلوانيات. وفوق ذلك كله علينا أن نمسح من ذاكرتنا أنه هو ذاته قد خطّأ عادل العوا فى هذه الترجمة التى يؤكد الآن أنها صحيحة وسليمة لغويا. مسكين أركون! يظن أنه أذكى من الناس مع أنهم قد يفوقونه ذكاء وانتباها! كما يظن أن فى مستطاعه اختراع عربية وفرنسية جديدتين غير اللتين نعرفهما ويعرفهما معنا أصحابهما!
وبالمناسبة فإن كلمة "الأساطير" ليست استخداما قرآنيا كما يزعم أركون فى النص الذى فرغنا منه لتونا، بل هو مجرد حاكٍ لما كان الكفار يقولونه. وهذا يذكرنى بما قاله الحاطبُ فى حبله وحبل أمثاله خليل عبد الكريم، إذ زعم هو أيضا أن القرآن الكريم سمَّى أتباعَ نوح بـ"الأرذلين"، مع أن أى طفل صغير قرأ القرآن يعرف تمام المعرفة أن الذى قال ذلك إنما هم الطائفة الكافرة من قوم ذلك النبى الكريم لا القرآن. وقد رددتُ عليه وأشبعتُه ما يحتاجه من تقريعٍ جرّاءَ هذا الجهل الفاضح الذى ارتكبه، وهو الذى لا يريحنا من ثرثراته وطنطناته البغيضة الثقيلة عن المنهجية والعلمية والتوثيقية والمهلَّبية ، والذى سُقْتُ من الأدلة القوية ما يجعلنى أستبعد أن يكون هو مؤلف الكتب التى تحمل اسمه. وهو ما يجده القارئ فى كتابىّ: "لكن محمدا لا بواكىَ له- الرسول يهان فى مصر ونحن نائمون"، و"اليسار الإسلامى وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة"، الذى كتب هو نفسه عنه عَرْضا فى مجلة "أدب ونقد"مدح فيه العبد لله مدحا لم يمدحنيه أشد الناس حبا لى، ورفعنى للسماء السابعة وجعلنى أوحد زمانى فى الأستاذية، ثم استغفلنى وكتب فى عنوان المقال أن اسم الكتاب هو: "اليسار الإسلامى وتطوراته..." (هكذا بالنص! فانظر، أيها القارئ الكريم، التدليس على أصوله، وكيف يمارسه جَنَابه عينى عينك، مغيرا "تطاولاته" إلى "تطوراته"، وحاذفا بقية الكلام مع الاستعاضة عنها بثلاث نقاط، حتى إذا ما اعترضتُ عليه ادعى أن "تطوراته" هى مجرد غلطة مطبعية، والقلم يغلط يا أخى كما يقولون عندنا فى القرية!).(/5)
خلاصة القول أن د. أركون قد أخذ كلمة "الأساطير" التى استعملها المشركون فى تكذيب النبى عليه السلام، ثم أفرغها من محتواها اللغوى القديم وأعطاها معنى الخرافة، وهو المعنى الذى شاع لها الآن ولم نعد نفكر فى غيره، فضلا عن أن نقصده. ثم لم يكتف الدكتور بهذا على فداحته، بل ادعى أنه لا يستعمل هذه الكلمة بالمعنى السئ الذى استعملها به القرآن. وكل دعاواه، كما وضحتُ ورأَى القراءُ معى، هى دعاوى غير صحيحة. كما أنه حريص على تغيير المصطلحات الإسلامية بمصطلحات أنثروبولوجية وألسنية كى يتسلل كالثعلب إلى عقول قرائه المسلمين المقصودين بكل هذه "الهيصة" التى يحدثها هو ودرويشه المنقطع له فلا يثيرهم شىء من انتقاده وتكذيبه للوحى. وقد تناول هاشم صالح هذه النقطة، ولكنه تمحك بالمنهجية والحيادية العلمية فقال فى أحد تعليقاته إن "أركون يستخدم مصطلحات ألسنية محضة للتحدث عن القرآن، فهو يقول: "المنطوقة" أو "العبارة اللغوية" بدلا من "الآية القرآنية"، ويقول: "المدوَّنة النَّصِّيّة" بدلا من "القرآن"...إلخ. وسبب ذلك هو أنه يريد تحييد الشحنات اللاهوتية التى سرعان ما تستحوذ على وعينا عندما نتحدث عن القرآن. فالقداسة اللاهوتية أو الهيبة اللاهوتية العظمى التى تحيط بالقرآن منذ قرون تمنعنا من أن نراه كما هو، أَىْ نَصّ لغوى مؤلف من كلمات وحروف وتركيبات لغوية ونحوية وبلاغية... بمعنى آخر إن المادة اللغوية للقرآن اختفت تماما أو غابت عن أنظارنا بسبب الهيبة العظيمة التى تحيط به. وميزة القراءة الألسنية هى أنها تحيِّد الهيبة، ولو للحظة، من أجل فهم التركيبة النصية واللغوية للقرآن" (القرآن من التفسير الموروث إلىتحليل الخطاب الدينى/ 119 فى الهامش). والذى يسمع كلام صالح دون أن تكون عنده فكرة عن حقيقة الأمر سوف يظن أنه، فى الوقت الذى يتحدث أركون عن القرآن وهو متمالك قواه العقلية والمنطقية، إذا بواحد مثلى ينخرط أثناء الرد عليه فى فاصل لا ينتهى من النهنهات والشهقات والتأوهات ولطم الخدود والرقص والتطوح والصراخ والزعيق كما يفعل المتواجدون فى حلقات الذكر بسبب ماحدث له من "لُطْف وانجذاب" بتأثير من "الهيبة اللاهوتية الأنثروبولوجية المخيالية" التى تلغى العقل وتُشِلّ الفكر والمنطق، مع سيول من الدموع المنهمرة التى لا تُعَدّ الدموع التى ذرفتْها مريم فخر الدين فى جميع أفلامها مع فريد الأطرش والعندليب الأسمر شيئا بالقياس إليها، والتى استهلكتُ لها قناطير من ورق الكلينكس المستورد كَلَّفَتِ الخزانة العامة مقدارا هائلا من العملة الصعبة كان يمكن أن يُنْفَق على البرنامج الأركونى الهادف إلى تغيير المخيال الجماعى واستبدال "الخيبة" الألسنية بـ"الهيبة" اللاهوتية حسبما مر منذ قليل!
وبهذا نكون قد "فكَّكْنا" اللعبة التى أراد سيادته أن يضحك بها على ذقوننا ظنًّا منه أننا "برِيَالة"، وعليه هو أن يلُمّ قِطَعها ويركّبها من جديد إن استطاع! أقول: "فكّكنا" رغم كراهيتى لهذا المصطلح لما أعرفه عمن يستخدمونه من بيننا والنيات التى يضمرونها من وراء هذا الاستخدام! هذا، وأكرر ما سبق أن قلته من أن كلمة "أساطير" لا تعنى "الباطل" فى أصل اشتقاقها، وأنها إن كانت تعنى هذا فى كلام المشركين فهو من أثر موقفهم المتعنت من رسول الله عليه الصلاة والسلام وتكذيبهم له واتهامهم إياه بأنه إنما يتلو عليهم قصص الأولين المسطورة فى الكتب لا وحيا إلهيا.
وإذا كنتُ قد سقتُ قبلا الأسباب التى حاجَجْتُ بها عن هذا الفهم، فهأنذا أضيف لما قلته شواهد من الشعر العربى وردت فيها هذه الكلمة بالمعنى الذى شرحته، وليس فيها معنى "البطلان". قال أُحَيْحَة بن الجلاح:
فلم يتركا إلا رسوما كأنها أساطير وحىٍ فى قراطيس مُقْتَرِى
أى سطور كتاب فى يد قارئ. وقال ابن الرومى:
سطَّر العابثون فيها أساطيـ ــر عَفَتْ متنها فما يُسْتبان
أى سطورًا امَّحَتْ، فلم تعد ظاهرة للعيون. وقال ابن الزقاق البلنسى:
سِيَرٌ تذكِّرنا أساطير الأُلَى كانوا الدعائم فى الزمان الأولِ
وقال الشريف الرضى:
تمحو أساطير الخطوب كما محا مَرّ الشمال من الغمام المثقلِ
أى ما خَطَّتْه الشدائد. وقال مهيار الديلمى:
نشرْتَ أساطير الكرام فشوهدَتْ أخابير كانت تُستراب مع النقلِ
أى ما كُتِب عنهم وعن كرمهم. يقصد أنه بكرمه قد أعاد إلى واقع الحياة ما كان الناس يسمعونه عن الكرام السابقين مجرد سماع، فأصبح أمرا يشاهده المشاهدون لا كلاما يسمعونه دون معاينة. وقال ناصيف اليازجى:
سواد الليالى فى بياض نهارها أساطير لا تُقْرَا لهنّ حروف
وقال نقولا الترك:
بدا عذار النهار فى سعد طلعته يحكى أساطير "بسم الله" فى الصحفِ(/6)
ولذلك فعندما أراد رفاعة الطهطاوى، فى كتابه "تخليص الإبريز"، أن يترجم مصطلح "mythologie"، الذى سمع به لأول مرة فى حياته فى عاصمة الفرنسيس لم يستخدم كلمة "أساطير"، بل قال ببساطة إنه "علم جاهلية اليونان وخرافاتهم" (المطبعة الأميرية ببولاق/ 1265هـ/ 164)، وهى الكلمة التى قلتُ إن الكفار كان ينبغى أن يستعملوها لو أنهم كانوا يقصدون أن الآيات التى يتلوها عليهم الرسول عليه السلام هى قصص خرافية باطلة بالمعنى الذى نفهمه نحن الآن من كلمة "أسطورة". كذلك حاولتُ أن أجد كلمة "أسطورة" بين موادّ "دائرة معارف البستانى" فلم أجد إلا مادة بعنوان "خرافة: superstition"، ذكر فيها كاتبها أن المترجمين قد عرَّبوا مصطلح "ميثولوجيا" بـ"الخرافة"، ثم أضاف أن "خرافةَ رجلٌ من بنى عذرة استهوته الجن على زعم بعضهم، فلما رجع أخبر بما رأى فكذّبوه حتى قالوا لما لا يُصَدَّق من الأحاديث: "حديث خرافة". وعليه قول بعض الجاهليين:
حياةٌ ثم موتٌ ثم نشرٌ حديث خرافةٍ يا أم عَمْرِ"
(دار المعرفة/ بيروت/ 7/ 356- 257). أما فى مقدمة سليمان البستانى للترجمة التى عملها للإلياذة فقد تحدث عن "أساطير" العرب وأخلاقها وعاداتها وآدابها فى الجاهلية، كما وصف كلامهم عن أول من نظم الشعر عندهم وهل هو عاد أو ثمود أو حِمْيَر قائلا إن هذا مما لا يتجاوز "الأساطير" الموضوعة ويأباه العقل ويعجز النقل عن إثبات شىء منه" (إلياذة هوميروس منظومة شعرا/ دار المعرفة/ بيروت/ 1/ 7، 108). كذلك نجد عند محمد فريد وجدى فى "دائرة القرن العشرين" (مادة "سطر") أن "أساطير الأولين" هى "ما سطروه من أعاجيب أحاديثهم، وهو جمع "إسطار"، وقيل: "جمع "أسطورة"، وهى ما يعبر عنه الأوربيون بالميتولوجيا" (دار الفكر/ بيروت/ 5/ 128). كما تحدث العقاد عن موضوعنا هذا فى مقال له بعنوان "آراء فى الأساطير" كرر فيه ذكر هذا المصطلح مرارا، وإن كان قد ترجم عنوان كتاب "Myth and Science" لـ Vignoli الإيطالى بـ"الخرافة والعلم" (الفصول/ المكتبة العصرية/ بيروت/ 34- 35. وقد صدر هذا الكتاب للمرة الأولى فى 1922م).
وبالمناسبة فما زال من الكتّاب إلى وقت غير بعيد من يقول: "أسطورة" للـ"legend"، أما الـ"myth" فيقول عنها: "ميثة" كما فى قاموس "المعجم الأدبى" لجبور عبد النور. ومن ثم كان كل من عبد الله يوسف على (فى ترجمته الإنجليزية للقرآن) ود. ماسون (فى ترجمتها الفرنسية) موفقا كل التوفيق فى ترجمة "أساطير الأولين" حين قال الأول: "tales of the ancients"، وقالت الثانية: "Anciens’des contes d" فى بعض المواضع، و"histoires racontees par les Anciens" فى المواضع الأخرى، فلم يخلعا على الكلمة شيئا من خارجها ليس لها فى الأصل.(/7)
والواقع أننى لا أدرى لم يحاول د. أركون أن يحدث كل هذا الضجيج حول الانتقادات التى وُجِّهت إليه بسبب استخدامه لمصطلح "أسطورة" للقرآن الكريم. أتراه يؤمن أن هذا الكتاب هو من عند الله؟ إن الرجل يعمل على التشكيك فى كل ما يتعلق بالقرآن: نصا وتاريخا وجمعا وتفسيرا وقدرة على أن يكون موضع استلهام للمسلمين فى محاولتهم النهوض من سباتهم كرة أخرى، فلم إذن هذه الضجة المستحدثة حول نقطة لا تقدم ولا تؤخر ما دام هذا موقفه من القرآن؟ تعالَوْا لنرى: إنه أولا يثير زوبعة حول إمكانية دراسة تاريخ النبى عليه السلام والوحى الذى كان ينزل عليه. لماذا يا ترى؟ يقول جَنَابه العالى إن "المعرفة التاريخية بـ"لحظة النبوة" أصبحت خارج نطاق إمكانياتنا إلى الأبد بسبب ضياع وثائق أولى أساسية كثيرة، ضياع لا مرجوع عنه ولا تعويض له" (الإسلام- أوربا- الغرب/ 115. وانظر كذلك كتابه "القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى"/ 106 فى المتن والتعليق فى الهامش). كما يؤكد أنه ما من أمل أى أمل فى بعث المشروعية الإسلامية (أو "المشروعية التقليدية" كما يسميها على سبيل المراوغة)، وأن المشروعية الوحيدة الحقيقية والعادلة هى التى لا تدين بالولاء إلا للعقل الحر المستقل عن أى ولاء أو خضوع لهيئة أخرى تتجاوزه (الإسلام- أوربا- الغرب/ 115- 116). وهو ما يعنى فى حالتنا هذه رفض الوحى والنبوة المحمدية، إذ ليس الوحى والنبوة من نتاج العقل، بل آتيين من خارجه، وإن لم يكن فيهما بالضرورة ما يرفضه هذا العقل بعد التفكير والتمحيص السليم حسب اعتقادنا نحن المسلمين فى ديننا وفى النبى الذى أتى به. لكن ما هذه الوثائق التى يقول كاتبنا إنها ضاعت ضياعا أبديا، ومن ثم لم يعد بإمكاننا دراسة "لحظة النبوة" كما يسمى الرسالة المحمدية على طريقته فى تغيير المصطلحات وابتداع مصطلحات أخرى بديلة لا يثير انتقادُ مفاهيمها، فيما يَتَصَوَّر، حساسيةً عند المسلمين؟ أليس القرآن بين أيدينا، وكذلك الأحاديث وكتب السيرة والتاريخ والنصوص الشعرية؟ بلى، بَيْد أن الدكتور أركون الذى لا يعجبه العجب يشكك فى النص القرآنى تشكيكا لم يشككه، فى حدود ما أذكر، أعتى المستشرقين والمبشرين كراهية لهذا الدين ونبيه والكتاب الذى أُنْزِل عليه، ودَعْنا من الحديث والسيرة وغيرهما، فما دام القرآن قد أصبح غير ذى موضوع من حيث الثقة به كوسيلة للاقتراب من فهم الرسول ورسالته، فإن أمر تلك الكتب لا يعود يساوى شيئا. أم تراه يقصد أنه كان للنبى عليه السلام متحف وطنى كانت محفوظة فيه وثائق الدولة التى لا يمكن الاطلاع عليها إلا بعد ثلاثين عاما من حفظها، ثم شَبَّ فيه حريق بيد فاعل مجهول من الذين يكثر أمثالهم فى بلادنا أيام جَرْد العُهْدة؟(/8)
لكنْ أية وثائق "أولى" و"أساسية" و"كثيرة" تلك التى تتحدث عنها يا دكتور؟ أأنت جاد فيما تقول؟ لقد أضحكتنى فى هذه الأيام السوداء التى تمر بها أمة محمد بن عبد الله الذى تشكك فيه وفى دينه والقرآن الذى نزل عليه، ظنًّا منك أنك ستفعل ما لم يستطعه أحد من أعداء الإسلام، من الوثنيين والشيوعيين واليهود والنصارى وعبّادِ الشياطين وعبّادِ البقر وعبّادِ الخنافس والثعابين وعبّاد ما لا أدرى ماذا أيضا (وكذلك عبّاد ما أدريه، ولكنه لا يقال على الملإ) على مدى أربعة عشر قرنا، ألا وهو تدمير الإسلام، انخداعا بالزَّلَمَة الذى باع لك ترام العتبة ومبانى الميدان كلها بما فيها المطافئ وقسم الشرطة، وأخذ يتخيل ويحلم أنه سيأتى الوقت الذى يتبين فيه أن الفكر الإسلامى والعربى بعد أركون شىء آخر مختلف تماما عن الفكر الإسلامى والعربى قبل أركون، أو بعبارته هو: "ربما راح هذا العمل يشطر تاريخ الفكر الإسلامى، وبالتالى العربى، إلى شطرين: ما قبل أركون، وما بعد أركون"! (انظر كتاب أركون: "الفكر الإسلامى- نقد واجتهاد"/ ترجمة وتعليق هاشم صالح/ دار الساقى/ لندن/ 1990م/ 230). أما إن كنت تقصد بالوثائق الضائعة نُسَخَ القرآن التى تخلص منها المسلمون على عهد عثمان درءًا للفتنة، فقد فاتك، لكونك قليل البضاعة من العلم بالموضوع الذى تتناوله رغم كل الطنطنات والمصطلحات العجيبة التى تكثر منها، أن كتب علوم القرآن، وبخاصة تلك التى تتناول تاريخه وطريقة جمعه، قد احتفظت لنا بأشياء كثيرة جدا جدا من المعلومات المتعلقة بهذا الموضوع بصراحة تامة. ليس هذا فحسب، بل إن تلك الكتب قد أوردت حتى القراءات الشاذة والقراء الذين كانوا يقرأون بها... إلخ دون أدنى حرج، اللهم إلا إذا كان د. أركون يقصد بالوثائق المذكورة شيئا آخر، وهو ما لا أستطيع إزاءه شيئا لأنى لا أُنَجِّم ولا أضرب الودع! ومن هذه الكتب، إذا أحب أن يرجع إليها: "تاريخ القرآن" للزنجانى، و"البرهان فى علوم القرآن" للزركشى، و"الإتقان فى علوم القرآن" للسيوطى، و"مناهل العرفان فى علوم القرآن" للزرقانى، و"الجمع الصوتى الأول للقرآن الكريم" للدكتور لبيب السعيد، و"مباحث فى علوم القرآن" للدكتور صبحى الصالح.
إن أركون يزعم أن ثمة تلاعبات قام بها العقل الإسلامى فى النص القرآنى أثناء "المرور من حالة الكلام الشفوى إلى حالة الكلام المكتوب...وهذا ما فعله أيضا ناشرو السيرة النبوية كابن هشام (مات عام 213 أو 218هـ/ 828 أو 833م)" (تاريخية الفكر العربى الإسلامى/ 85)، كما يزعم أنه لم يحدث "إجماع، بعد فترة طويلة من الاحتجاج والاختلاف، على شكل ومضمون النص القرآنى، الذى انضم إليه مؤخرا الحديث النبوى المُنْجَز من قِبَل البخارى ومسلم بالنسبة للسنيين، ومن قِبَل الكلينى بالنسبة للشيعيين" إلا فى القرن الرابع الهجرى (المرجع السابق/ 95). وبالمثل نراه يدّعى "أن المسلمين يرفضون منذ القرن العاشر الميلادى (أى منذ القرن الرابع الهجرى الذى قال إنهم قد أجمعوا فيه أخيرا على نص واحد للقرآن كما رأينا) أن يفتحوا تلك الإضبارة الشائكة المتعلقة بتاريخ تشكل المصحف الرسمى، أو بكيفية تشكل هذا المصحف الرسمى تاريخيا" (الإسلام- أوربا- الغرب/ 79). ولكن أية تلاعبات تلك التى تعرَّض لها النص القرآنى؟ كنا نحب لو أفصح الدكتور حتى نكون على بينة مما يقول ومما ينبغى أن نناقشه، لكنه للأسف لم يحاول أن يبصرنا بما يقصد! وأنا، فى الواقع، لا أستطيع إلا أن أرى فى هذا حيلة ماكرة (حسبما قدَّر، وإن كانت مكشوفة بل مفضوحة عندنا) لإيهام القارئ المسلم أن المسألة من الوضوح والبيان بحيث لا تحتاج لأى تحديد أو تفصيل!(/9)
والعجيب أنه يحدد القرن الرابع الهجرى، ولا أدرى على أى أساس ما دام قد أقر قبل ذلك بعدة أسطر بأن عثمان، رضى الله عنه وأرضاه، قد استطاع أن يضع حدا للخلاف فى قراءة القرآن فى فترة خلافته، أى بعد الهجرة بسنوات لا بقرون أربعة كما يحاول الكاتب الأمين أن يلقى فى رُوع قرائه! على أنه لا بد أن نوضح للقارئ الذى لا إحاطة له بمسألة جمع القرآن أن الحديث عن الخلاف فى قراءة القرآن لا يعنى أكثر من أن الرسول قد أخبر المسلمين بنزول القرآن الكريم على سبعة أحرف، إذ رُوعِىَ أن الأغلبية الساحقة من العرب آنذاك كان يصعب عليهم أن يتبعوا فى نطقه لهجة واحدة إذ لم يكن لهم قبل الإسلام دولة تضم شتاتهم ولها لغة رسمية يتبعها الجميع. ثم لما تحققت هذه الوحدة فى ظل الإسلام وترسخت مع الأيام، وأصبحت هناك لغة رسمية واحدة لهذه الدولة، رأى الخليفة وكبار الصحابة أنه لم تعد هناك حاجة للحروف السبعة إلا فى أضيق نطاق، كجمع كلمة أو إفرادها مثلا مما تحتمله الطريقة التى كُتِب بها القرآن وتواترت به الروايات، وإلإبقاء على الهمزة أو تسهيلها، وإخلاص المد بالألف أو إمالته، وهو ما يعرف الآن بالقراءات القرآنية، وهى مسألة محسوبة ومقنَّنة وتم مراعاتها فى طريقة كتابة المصحف التى تسمح بالنطقين عادةً دون أية مشاكل. هذه هى حقيقة المسألة التى يتعمد د. أركون أن يكون حديثه عنها مملوءا بالغموض كى يوحى للقارئ أنه بإزاء قضية خطيرة، وما هى بالخطيرة ولا يحزنون. أما بالنسبة للتلاعب الذى يزعم أنه قد وقع فى النص القرآنى عند انتقاله من المرحلة الشفاهية إلى المرحلة الكتابية فهو كلام لا معنى له ولا وجود إلا على ألسنة من يريدون استبلاهنا، فالقرآن إنما تم تسجيله كتابةً منذ اللحظة الأولى إلى جانب حفظه فى الأذهان مما يجعل من المستحيل التلاعب فيه، وبخاصة فى ظل تقديس المسلمين التام له حتى لقد كان الواحد منهم يفزع أشد الفزع إذا سمع أحدا يقرأ على حرف غير الذى يعرفه، ولا يهدأ له بال إلا حين يتضح له أنه حرف صحيح نزل به أيضا القرآن الكريم، وحين تُوُفِّىَ الرسول عليه السلام قام الصحابة بجمعه فى كتاب واحد بعد أن كان مكتوبا لكن دون أن يشكل كتابا يضمه غلاف...إلى أن جاء عثمان ووجد أن بعض المسلمين لم يتنبهوا إلى الحكمة من "الأحرف السبعة" التى نزل بها القرآن فى البداية تيسيرا عليهم، وظنوا أن القراءة التى يقرأ بها غيرهم على حرف مختلف عن الحرف الذى يقرأونه به هى قراءة خاطئة، مما كان من الممكن أن تترتب عليه فتنة لا يعلم مداها إلا الله، فقام بعد استشارة كبار الصحابة بجمع المسلمين على حرف واحد من هذه الحروف تقريبا وألغى الباقى، وقام بهذا العمل، كالعادة فى كل جمع قرآنى، لجنة وضعت لنفسها منهجا علميا سارت عليه كما يعرف ذلك كل من قرأ تاريخ جمع القرآن، وبهذا انحسمت المسألة. لكن د. أركون يتجاهل هذا كله زاعما أن كتابة القرآن (مجرد كتابته: لاحِظْ) لم تحدث إلا فى عهد عثمان (انظر كتابه "الفكر الإسلامى- نقد واجتهاد/ ترجمة وتعليق هاشم صالح/ دار الساقى/ لندن/77).
فانظر، أيها القارئ الكريم، الفرق بين ما حدث على أرض الواقع وبين ما يهوّل به الدكتور أركون، الذى لم أر، على طول ما قرأت للكتاب من مستشرقين وعرب، من يدانيه فى المقدرة على اللف والدوران حول الموضوع الذى يتناوله وإرهاق ذهن القارئ بإدخاله فى دوامة لا تكاد تنتهى من تفصيلاتِ تفصيلاتِ التفصيلات دون أن يصل به إلى شىء غير الطنطنة بأسماء العلوم الجديدة ومصطلحاتها، وعلى إحداث الفرقعات المخيفة تقليدا للطريقة التى اتبعتها أمريكا عند احتلالها العراق، طريقة "الصدمة والترويع". لكنْ فات الأستاذ الدكتور أن الرصاص الذى يطلقه فى الهواء هو من النوع الفِشِنْك الذى لا يصلح إلا للعب الصبيان!(/10)
ثم نصل إلى حكاية الإجماع على النص القرآنى الواحد الذى يقول إنه لم يحدث إلا فى القرن الرابع الهجرى، وكأننا بإزاء مجامع مقدسة كالتى عرفتها النصرانية والتى كانت تبدِّل وتخترع العقائد والطقوس، وتحلّل وتحرّم كما يحلو لها، وكأن الدين مسألة سياسية تخضع للمؤامرات والتربيطات، وليس عقائد وتشريعات ومبادئ خلقية موحًى بها من الله، وينبغى الحفاظ عليها كما أُنْزِلت من لدنه سبحانه وتعالى. وأرجو ألا يظن القارئ أننى، بإشارتى إلى المجامع المقدسة، أعطى كلام أركون معنى أبعد مما يقصد، فهاهو ذا الدرويش التابع يقول بصريح العبارة تعليقًا على كلام شيخه الذى لا يقوم على رجلين: "القرآن لم يُثَبَّت كليا أو نهائيا فى عهد عثمان على عكس ما نظن، وإنما ظل الصراع حوله محتدما حتى القرن الرابع الهجرى حين أُغْلِق نهائيا باتفاق ضمنى بين السنة والشيعة، وذلك لأن استمرارية الصراع كانت ستضر بكلا الطرفين. بعدئذ أصبح معتَبَرًا كنَصٍّ نهائى لا يمكن أن نضيف إليه أى شىء أو نحذف منه أى شىء، وأصبحوا يعاملونه كعمل متكامل على الرغم من تنوع سوره واختلافها فيما بينها من حيث الموضوعات والأساليب" (محمد أركون/ القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 114- تعليق بالهامش). وهذا كلام ككلام السكارى لا قيمة له! هل رأيت سكران وهو يتطوح فى الخمارة ثم يسقط تحت الأقدام صائحا بملء فمه: "أنا جدع"؟ فهذا مثل هذا، وإلا فليقل لى أركون أو تابعه: أَنَّى لهما بهذا الكلام الذى لم يرد فى كتب الأولين ولا الآخرين؟ ومتى اتفق السنة والشيعة على ما اتفقوا عليه؟ وأين؟ ربما كان ذلك فى شقة الدكتور أركون وبحضور هاشم صالح فى تلك الجلسة التى نزل الدرويش بعدها إلى شوارع باريس يستعجل فى حسرة تقطِّع القلوب (قلبى أنا على الأقل حتى لقد كدت أبكى لولا بقية من تماسك، رغم نفورى من أم الخبائث نفورا فطريا) مجىء اليوم الذى تصبح فيه المدن العربية مثل باريس تعج بخمارات كتلك التى تتلألأ أضواؤها من حوله؟ (الفكر الإسلامى- نقد واجتهاد/ 229- 230). أقول: "ربما"، فأنا لم أكن حاضرا هذا اللقاء التاريخى الذى كان شيخ الطريق ودرويشه يقرران فيه مصير الإسلام.
فانظر أيها القارئ الكريم لهذه البهلوانيات التى يراد منا أن نأخذها بجِدٍّ واهتمام بوصفها آخر المنجزات الفكرية. لكن، أيها الدرويش، هل نفهم من أن القرآن ظل نصًّا مفتوحا إلى القرن الرابع الهجرى أنه قد دخله مثلا بعض من رسائل عبد الحميد، على شىء من عبارات الجاحظ، على سطور من سهل بن هارون، على عدة سجعات من أبى العلاء...إلى آخر هذه الزمرة من الكتاب؟ فكيف يا ترى يمكن أن تختلط أساليب أمثال هؤلاء وأفكارهم بأسلوب القرآن وفكره، ومخيالُهم الجماعى (الله يخرب بيت هذا المخيال الجماعى الذى رَبَّى لى العَصَبِىّ!) أكثرُ تحضرا وأعمق ثقافة من مخيال المجتمع الذى كان ينتمى إليه محمد عليه السلام؟ طيب، هل تستطيع أنت أو شيخك العبقرى أن تتشطَّر وتدلّنا على رقعة من تلك الرقع الأسلوبية والفكرية التى دخلت القرآن طوال تلك القرون الأربعة؟ ثم أين كانت أمة المسلمين من ذلك كله حتى إنها لم تعترض أو حتى تعلق مجرد تعليق؟ أكانت مغيَّبة عن الوعى كلها على بكرة أبيها (إلا أنت وأستاذك طبعا، وإلا فكيف عرفتما ما عرفتماه؟) إلى أن تم المراد فأعطَوْها حقنة منبِّهة فقامت لتجد نفسها قد فقدت الذاكرة فى تلك الأثناء فلم تعرف ماذا تم؟(/11)
وعلى نفس النحو من اللامبالاة بالعلم وحقائق التاريخ يدعى د. أركون أن المسلمين لم يحاولوا قط منذ القرن الرابع الهجرى أن يفتحوا الملف الشائك الخاص بقضية جمع القرآن، وهى دعوى كاذبة، فالمعروف أن الكلام والبحث فى تاريخ القرآن وجمعه وقراءاته ورسمه ومكّيّه ومدنيّه وناسخه ومنسوخه وتلاوته وأسباب نزوله وإعرابه لم يتوقف يوما حتى هذه اللحظة. ومن الأسماء التى يمكن أن نذكرها بعد القرن الرابع ممن كتبوا فى ذلك الموضوع هذه العينة الضئيلة جدا، وهى مجرد مؤشّّر لما وراءها: مكى بن أبى طالب (ق 4- 5هـ) والواحدى (ق 4- 5هـ) والدانى (ق 5هـ) والشاطبى (ق 6هـ) والسخاوى (ق6- 7هـ) وابن أبى الإصبع المصرى (ق 6-7هـ) والخراز (ق 7- 8هـ) والعُكْبَرى (ق 7هـ) والزركشى (ق 8هـ) وابن القاصح (ق 9هـ) وابن الجزرى (ق 9هـ) والطبلاوى (ق 10هـ) والسيوطى (ق 10هـ) والدمياطى البنا (ق 12هـ) والصفاقسى (ق 12هـ)، وحفنى ناصف والزرقانى ومحمود خليل الحصرى ولبيب السعيد وصبحى الصالح ومحيى الدين الدرويش وعبد الصبور شاهين (ق 20 م). وهذه الأسماء لم تترك شيئا يتصل بالقرآن من غير أن تناقشه فى حرية وتفصيل ودون أية جمجمة، وقد وُجِد من بين العلماء من يبدون آراء تخالف ما عليه الجمهور بوجه عام قديما وحديثا، وهذا معروف عند دارسى علوم القرآن، علاوة على كتب التفسير المختلفة، وهى لا تكاد تُحْصَر، وتمثل محيطا زخّارا يضم فى جوفه الهائل المهول لآلئ لا تقدَّر بثمن من كل أنواع العلوم القرآنية كما هو معلوم. والقائمة أكبر كثيرا جدا من هذا على ما يعرف الدارسون، لكن أركون يطلق الكلام على عواهنه متصورا أن لَوْكه للمصطلحات الفارغة والتفيهق بها سوف يُشِلّ منا العقول فنخرّ صرعى أمام سحر بلاغته الطنطانة الفارغة، وقد فغرتْ أفواهنا اندهاشا بل انشداها بما يقول. مرة أخرى: مسكين! كان الله فى عونه!
لقد رأينا الدكتور أركون ينحاز للرأى القائل بإرجاع الدين إلى المخيال الجماعى، بمعنى أن الأنبياء ليسوا إلا معبرين عن ثقافة أممهم وتطلعاتها وأوهامها، فلا وحى ولا اتصال بالسماء البتة! وفاته أن يتنبه للواقع الذى يخزق الأعين والذى يجرى بعكس هذا الذى يزعمه تماما، فكلنا نعرف أن الأنبياء والمصلحين إنما يسبحون ضد التيار، ويظلون وقتا طويلا مكروهين من المجتمع الذى ينتمون إليه ويحاولون أن يهدوه سواء السبيل. بل إنهم ليتعرضون أثناء ذلك إلى ضروب من العنت والمشقة والأذى والإهانة والحصار والتضييق فى لقمة العيش، بل السجن والقتل أيضا. وهذا من الشهرة بحيث لا أظن أركون أو غير أركون يستطيع أن يجادل فيه ولو للحظة. ثم إن أممهم لا تؤمن، إن آمنت، إلا بعد اللَّتَيّا والّتِى حتى إن المستشرقين والمبشرين من أساتذتك وأحبابك، وقد فوجئوا بنجاح محمد ودينه على عكس ما كانوا يرغبون، قد زعموا، ويا لبؤس ما زعموا، أنه عليه السلام إنما أكره العرب بالسيف على الدخول فى دينه! كذلك قد يموت النبى أو المصلح دون أن يَحْدُث أى تغيير فى المجتمع الذى قام من أجل تطويره. ولا أدرى كيف نَسِىَ أركون ما أخذ يبدئ فيه ويعيد فى لذة شامتة من أن المشركين، حين أتاهم الرسول بدعوته، قد رفضوا أن يؤمنوا بما يقول إلا إذا جاءهم بدليل. على حين أن الدليل الذى يلح عليه سيادته لم يكن يزيد على بعض المطالب المتعنتة التى أراد المشركون من ورائها تغيير نظام الطبيعة دون أن يحاولوا إعمال عقولهم التى وهبها الله لهم لتُسْتَعْمَل فى مثل هذه المواقف لا لتُهْمَل ويتعلق أصحابها بتلك المطالب الطفولية التى كان لا بد أن تلقيها البشرية خلف ظهرها وتستقبل مرحلة أخرى يقوم الأمر فيها على الدليل العقلى لا الدليل الإعجازى الذى لجأ إليه أنبياءُ كُثْرٌ من قبل، ومع هذا لم يكن حالهم مع أقوامهم ولا النتيجة التى وصلوا إليها مع هؤلاء الأقوام أفضل مما وصل إليه محمد، بل ولا عشر معشار ما وصل إليه محمد!(/12)
وأذكِّرك يا دكتور، إن كنت قد نسيت على عادة من يغيرون كلامهم فى كل موقف ويلبسون لكل حال لبوسها ناسين كعادتهم أيضا أن يراعوا الحكمة القائلة: "إذا كنتَ كَذوبا فكن ذَكورا"، بأنك قلت إن المشركين فى مطالبهم تلك إنما كانوا يعبرون عن "الذات الجماعية" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 97)! فمن يعبر إذن عن المخيال الجماعى (أو الذات الجماعية: لا فرق ذا بال): الرسول أم المشركون من قومه؟ لقد احترتُ واحتار دليلى معك كما احتار دليل رامى وكوكب الشرق! لكن، أيها القارئ الكريم، لا تأخذ فى بالك، فالأستاذ الدكتور لا يدرى ماذا يقول، بل كل ما يريده هو محاربة الإسلام بأى شكل، على طريقة مبدإ مدربى الكرة الفاشلين عندنا: "الذى تغلب به، العبْ به" دون أن يكون للفن أو الموهبة أو متعة الجمهور أى اعتبار. المهم النقاط الثلاث! والنتيجة هى الصفر المونديالى الكبير! كذلك كيف تفسر لنا يا دكتور أركون كيف أن دين محمد قد انتشر هذا الانتشار الواسع خارج بلاد العرب والمجتمع العربى وما زال ينتشر حتى الآن، ودخل فيه أمثال دينيه وجِرْمانوس ولِنْجز وكاوون وجارودى وماسون وبوكاى وهوفمان وكلاى ويوسف إسلام وغيرهم بالملايين من الأوربيين والأمريكيين، ومنهم الآنسة الفرنسية الجميلة التى حلقت شعر رأسها احتجاجا على القانون الجائر الذى كنتَ من كبار عَرّابيه، وكلُّ شعب من الشعوب التى دخلت الإسلام مِخْيَالُه الجماعى يختلف عن مخيال العرب ومخاييل الشعوب الأخرى؟
ثم ما دامت النبوة والإصلاح هى من بنات "المخيال الجماعى"، فلماذا لا تقول هذا لنفسك وتَرْبَع على ظَلْعك وتريحنا وتستريح معنا، إذ معنى ذلك أن كل ما تتعب قلبك وقلوبنا لكى تقنعنا به لن يكون له أى تأثير علينا ولن يدخل فى عقولنا أو قلوبنا، لأنه ببساطة ليس نتاجا لمخيالنا الجماعى، الذى لا يعرف شيئا اسمه "العلمانية" أو "الحداثة" أو "عقل الأنوار"... إلى آخر هذه الرطانات التى تمضغها وتلوكها عبثا، والتى لا فائدة منها معنا حتى لو ظللت تمضغها وتلوكها وتنقلها عن هذا الشِّدْق لذاك من هنا إلى يوم يبعثون؟ "مخيالنا الجماعى"، يا خواجه أركون، هو مخيال "الفتَّة والطَّبْلِيّة ولعق الأصابع بعد الأكل بها وصلِّ على النبى وقال الله وقال الرسول، و(لا تنس بالمرة) الثلاث طوبات!"، أما هذا الذى تهذى به فهو ليس لنا بمخيال! أرأيت أنك لا تستطيع أن تقول شيئا متناسقا بعضه مع بعض؟ إن كلامك مفكَّك يُنْكِر ذيلُه رأسَه، بل لا رأس له فى الواقع أصلا ولا ذيل، ولا يترتب عليه إلا تصديع أدمغتنا بمصطلحاتك وتحليلاتك المملوءة ثرثرة بغيضة وتعالما وحذلقة ثقيلة الظل والروح! وفضلا عن ذلك هل تحسب أننا من البلاهة بحيث يمكن أن يدور فى وهمنا للحظة واحدة أن الغرب أو تلامذة الغرب وذيوله تهمهم مصلحتنا؟ إن المسألة كلها لا تخرج عن رغبة الغرب الحارقة فى القضاء على الإسلام فى عقولنا وقلوبنا على السواء حتى يكون مضغهم لنا وهضمهم للحومنا سَلِسًا لا غصّة فيه ولا عُسْر هضمٍ أو مَغْص! إنهم ينظرون فيَرَوْن أن المسلمين، رغم كل التخلف الذى هم فيه وقِصَر ذات يدهم علميا وإداريا وعسكريا وصناعيا، ما زالوا يقاومون ويقفون فى طريق المخططات التى يراد منها تركيعهم التركيع النهائى رغم أنه ليس فى أيديهم دبابة ولا قنبلة ولا طائرة دون أن يبالوا بأى شىء مسترخصين حياتهم وأموالهم فى سبيل الحفاظ على الدين والكرامة، وهذا ما يؤرق الغرب ويعمل بكل ما لديه من قوة على تحطيمه. وهو يعرف أن السر فى هذه القوة التى يرخص فيها كل شىء على نفس المسلم هو الإيمان بالجنة، ومن ثم فلا بد من القضاء على الإيمان بجنة محمد وقرآنه، ولا بد من تجنيد كل الإمكانات التى يؤمِّلون من ورائها بلوغ هذا الهدف الشيطانى، ومنها إطلاق الأذناب التى تتخذ أسماء إسلامية على أبناء الإسلام تشككهم فى دينهم، آملين أن يكون لتشكيكها أثر أقوى وأبعد، وأن تكون مقاومة هذا التشكيك أضعف وأسرع اضمحلالا! ولا تنس، بالله عليك أيها القارئ، أن تقرأ عنّى الفاتحة لسيدى "المخيال"، فسِرّه باتع كما يؤكد الشيخ أركون!(/13)
ولكى يكتمل النَّصْب ويكون نَصْبًا على أصوله يزعم هؤلاء أنهم إنما يفعلون ذلك لتحرير العرب والمسلمين. أى أن تشكيك العرب والمسلمين فى دينهم، وهو الورقة الأخيرة فى أيديهم التى يناضلون بها عن وجودهم وكيانهم وشخصيتهم حتى لا ينقرضوا، أو على الأقل حتى لا يذوبوا فى الغربيين ويصبحوا مجرد أذناب تفقد مسوغ وجودها مع الأيام فيقوم المجرمون ببترها لكى يثبتوا صحة نظرية "البقاء للأصلح" التى جاء بها تشارلز داروين. إن هاشم صالح لا يكتفى بترجمة ما يكتبه شيخه، بل يحرص فى كثير من الأحيان على التعليق عليه فى الهوامش تعزيزا وتعضيدا لأفكار شيخه كى يقال عنه إنه قد شارك فى التأليف، أو كما يكتب هو أحيانا على غلاف الكتاب: "ترجمة وإسهام فلان"، وكأن المسألة ناقصة هاشم صالح. فى كتاب لأركون اسمه "معارك من أجل الأنسنة فى السياقات الإسلامية" (يا حفيظ! استر علينا يا رب! أهذا بالله كلام يستحق الانتماء إلى لغة العرب، لغة الوضوح والإشراق والبيان؟ إنه عنوان يذكرنا بوجه الخنزير قُبْحًا، وذنَب الضَّب تعقيدًا! ولكن ما علينا، فلنعصر عليه ليمونة تدفع عنا شعور الغثيان ولنمض فيما نحن فيه!) فى ذلك الكتاب المذكور يتناول أركون كتاب "الإعلام بمناقب الإسلام" الذى وضعه أبو الحسن العامرى (ق 4هـ) يشيد فيه بدين محمد ويثبت أنه الدين الذى يضمن للمؤمنين به سعادة الدنيا والآخرة. وبطبيعة الحال لا يعجب هذا الكلام البروفيسور أركون فيلفّ ويدور كعادته آتيًا كم شقلباظا من شقلباظاته الفكرية ومرصِّعًا كلامه بِكَمْ مصطلح من مصطلحاته الحداثية لزوم الإبهار وتدويخ القارئ العربى وإيهامه بأنه أمام أستاذ خطير نحرير صاحب فكر عميق لا يصلح معه إلا التسليم به والخُرُور عليه فى صَمَمٍ وعَمًى وبَكَم تامّ دون أن يفتح فمه بكلمة ولو ليوحِّد بها الله. ومن بين ما فعله مؤلفنا الشقلباظى فى العيب على الكتاب المذكور والحطّ من شأنه اتهامُه بالدفاع عما سماه: "السياج المغلق"، يقصد أن يقول: الجمود الغبى الذى يسوّل للمسلم بأن يرى فى دينه أفضل الأديان، تعصّبًا منه لعقيدته التى لا تسمح بالمناقشة ولا المراجعة والتى لا تستطيع أن ترى أو تسير إلا فى اتجاه واحد دون عقل أو تفكير! يعنى: كالحصان الذى وضعوا على عينيه غمامتين فهو لا يرى إلا ما أمامه وفى أضيق نطاق.
وفى هذا السياق، وبدلا من اكتفاء هاشم صالح بالترجمة بأسلوبه المملوء بالأخطاء اللغوية، وبخاصةٍ لازمته العجيبة: "كما وأَنّ" التى لا أدرى أى شيطان زوَّده بها ونفخ فى رُوعه أن يكثر من ترديدها لدرجة تكاد تفقدنى رشدى لولا لطف الله بعبده الضعيف، نراه يتدخل بتعليقاته التى لا يخطر فى باله مرة أن يعتقنا منها قائلا فى الهامش تعليقا على مصطلح "السياج المغلق": "يمكن اعتبار فكر محمد أركون كله بمثابة تفكيك لهذا السياج المغلق والراسخ منذ العصور الوسطى. وهذا هو معنى نقد العقل الإسلامى. إنها محاولة لتبيان كيفية تشكُّل هذا العقل فى العصور الأولى وكيفية ترسُّخه فيما بعد بصفته عقلا مثاليا مطلقا لا يناقَش ولا يُمَسّ. ومن الواضح (وأرجو أن تأخذ بالك أيها القارئ لما يلى لترى الدَّجَل الشقلباظى كما ينبغى أن يكون، وإلا فلا)، ومن الواضح أنه لا يمكن أن يحصل أى تحرير فى الأرض العربية أو الإسلامية إن لم نبتدئ بتفكيك هذا الانغلاق التاريخى المزمن. فى الواقع إن العقل الإسلامى هو عقل تاريخى، أى أن له لحظة انبثاق تاريخية محددة تماما ويمكن الكشف عنها. وما إن تنكشف تاريخية العقل الإسلامى حتى تحصل زلزلة أرضية تشبه الزلزلة الفكرية التى حصلت فى أوربا بعد الكشف عن تاريخية العقل اللاهوتى المسيحى" (دار الساقى/ بيروت/ 2001م/ 252). ولقد أغنانا الحداثيون والعلمانيون والملاحدة عن أن ننتظر حتى يقع هذا الزلزال لنرى توابعه، فهاهم أولاء من حولنا فى كل مكان، ونعرف أخلاقهم وتصرفاتهم كما نعرف ظهور أَكُفِّنا وزيادة، وندرك جيدا ما الذى ينتظرنا لو نجح هذا المخطط الشيطانى نجاحا تاما ولم يقتصر أمره على هؤلاء الأكروباتيين بل عمَّ الأمة كلها. إن شقلباظيِّينا المفضوحين لا هَمَّ لهم إلا الخمر والجسد والدعوة إلى الحرية الجنسية بوصف ذلك كله وأمثاله حقا من حقوق الجسد وصاحبه.(/14)
وهاهم أولاء أيضا يقفون على النواصى ويعترضوننا فى الطرقات يسوِّقون التبعية الذليلة لأمريكا والغرب، تلك التبعية التى لا تؤدى إلا إلى الدمار والضياع. ليس ذلك فحسب، بل يقتحم كثير منهم أوطان الإسلام فوق دبابات المستعمر الذى جلبهم معه من بلاده حيث كانوا يعيشون بعيدا عن أمتهم وقد تخَلَّوْا عن دينها ونمط أخلاقها واتبعوا دينه وخلقه وسلوكه. ألم تكفنا العقود الطويلة التى اجتاح الجرادُ الغربىُّ فيها بلادنا ونهَب ثرواتنا وأذلَّنا وعمل كل ما فى طاقته للإبقاء علينا متخلفين لا نفكر فى شىء آخر غير أن نكون خدما بل عبيدا له؟ طيب يا أخى، إذا كانت أوربا قد نَضَتْ عن نفسها رداء الكهنوت الدينى فهذا أمر طبيعى كان ينبغى أن يتم منذ قرون حين جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالدين الصحيح ونبَّه أهل الإنجيل إلى ما صنعوه بدينهم من تزوير وتحريف وتوثين وتشويه للعقيدة والتشريع، أى حولوه من دين إلهى إلى فكر بشرى هو بطبيعته ابن الأرض ونتاج التاريخ، علاوة على أن دينهم قد نزل أصلا ليواجه مطالب مرحلة تاريخية فقط ولقوم معينين يعيشون فى بقعة جغرافية معينة، ثم يذهب لحال سبيله بعد أن يشرق نور الإسلام. أما نحن، أصحاب الرسالة العالمية التى لا تحدها أية حدود تاريخية أو جغرافية أو قومية، فماذا عندنا من تحريفٍ أو تشويهٍ لنصوص الوحى أو عبثٍ وتلاعبٍ بالعقائد والتشريعات الواردة فيه حتى نصنع ما صنعته أوربا؟ ألم يسمع مستشارو السوء بقول الرسول العظيم: "لا يكن أحدُكم إمَّعة"؟ بلى لقد سمعوا به وبغيره مما أتى به سيد الخلق لعزّ الدنيا والآخرة، لكنهم يكرهون العزة والكرامة ورسول العزة الكرامة، ويؤثرون عليهما الهوان والانبطاح أمام البلطجيين الدوليين.
إن الإسلام لا غيره، رغم قلة إمكانات المسلمين العلمية والاقتصادية والعسكرية والتنظيمية فى هذا الطور المخزى من تاريخهم، هو الذى حرر بلاد العرب والمسلمين من الاستعمار الغربى الكافر المجرم، وهو الذى لا يزال يقف شوكة فى حلوق هؤلاء البلطجية العالميين، وهم يريدون اقتلاع هذه الشوكة بكل الوسائل، ومن بينها أمثال هذه الكتب التى يؤلفها كاتبنا الشقلباظى، ويترجمها له ننُّوس عَيْنه. هذه هى الحكاية بالمفتشر، أما "الشقلباظات" الأركونية، وكذلك "الإسهامات" الهاشمية الصالحية (التى تريد أيضا أن تبعث من رقدة العدم منصور فهمى ورسالته التى شجعه المستشرقون على أن ينال فيها من الرسول والإسلام، إن لم يكن قد كتبوها بأنفسهم له حسبما قرأتُ مرةً لأحد العارفين بخفايا الأمر، ومنحوه عليها درجة الدكتورية، وكان مشرفه فيها هو البهودى ليفى بريل)، فهى شقلباظات وإسهامات ضالّة مضلّة لا تجوز إلا على النَّوْكَى والمغفَّلين، نعوذ بالله أن نكون من النَّوْكى أو المغفَّلين أو الشقلباظيين أو الإسهاميين. آمين، يا أكرم الأكرمين! إن ما ينادى به أركون وتابعه (...) لَيُشْبِه ما تقوم به أمريكا الآن فى العراق، الذى كان عامرا، والحمد لله. إنها تريد إعماره، وبما أنه كان عامرا فلا بد من تدميره إذن وتخريبه حتى يمكن تعميره لأن تعمير المعمَّر مستحيل كما هو معروف: فهذا شىء لزوم الشىء، أى أن الخراب هنا لازم لتحقيق العمار. وعلى نفس المنوال فلا بد أن يزلزل أركون وجماعته الإسلام (الذى يقاوم مخططات الاستعمار وعدواناته الإجرامية الوحشية وقام وما زال يقوم بمهمته التحريرية العظيمة على خير ما يرام) حتى يمكن أن يبثوا فى نفوس المسلمين الروح التحررية، إذ من غير الممكن أن تُبَثّ الروح التحررية فى نفوسهم فى الوقت الذى لا تزال هذه الروح موجودة بداخلهم. أى أن الخراب هنا أيضا لازم لتحقيق العمار! وعند خراب بصرة يكون قد تحقق، بحمدالله، تحرر المسلمين، ولكن مِنْ ماذا؟ من الإسلام طبعا، وهل هناك غيره؟ ومن ثم يكون قد تم القضاء على الروح التحررية تماما فى نفوس المسلمين. وهذا هو المطلوب، وهذه هى المهمة التى يمنّ علينا هاشم صالح بأن أركون يؤديها خدمةً لنا وعشقًا لسواد عيوننا! مسكين أركون وتابعه!(/15)
قلنا إن أركون يتباكى على ضياع "وثائق مهمة وأساسية" كانت كفيلة بأن تكشف لنا لغز النبوة لو لم تَضِع، ورغم أننا سخرنا من هذا الكلام المتهافت فإننا سنغضى على ما فيه من تفاهة وسنعامله على أنه كلام يقبل المناقشة: أتراك يا د. أركون لو وصلتْ إليك هذه الوثائق (رغم أنى لا أعرف عن أى وثائق تتحدث)، أكنتَ ستسكت فلا تكفّ عن إثارة الاعتراضات؟ لا إخال أبدا، بل أُرَجِّح، بل أكاد أجزم موقنا، أنك كنت ستتعلل بأنك لا تستطيع أن تصدر حكما فى الأمر لأنك لم تشاهد النبى وهو يمارس النبوة. وحتى لو تحققت لك هذه الأمنية فلا أحسب إلا أنك ستتحجج بأنك تريد أن تَخْبُر تجربة النبوة من الداخل بنفسك وأن تعيشها كما عاشها النبى ولا تكتفى بمشاهدته وهو يتلقى الوحى، أى أن تكون أنت أيضا نبيا. لكنك نسيت أنّ هذا، وإنْ حَلّ المشكلة بالنسبة لك، فلن يحُلّها بالنسبة للآخرين الذين سيكون من حقهم هم أيضا أن يقولوا، مثلما قلتَ، إنهم يريدون أن يَخْبُروا تجربة النبوة خُبْرًا مباشرا...وهكذا دواليك. وبهذه الطريقة سوف يصبح الناس جميعا أنبياء، ولكن إلى من يتوجهون بدعوتهم؟ إلى لا أحد، وبذلك تفقد النبوة معناها. لقد فاتك، فى الواقع، شىء مهم لم تُرِد أن تلمسه رغم أنه كان ينبغى أن يكون أول شىء تتناوله، ألا وهو دراسة شخصية النبى، والظروف التى كان الوحى ينزل فيها، والأعراض التى كانت تصاحبه، والمضمون الذى اشتمل عليه، والاتهامات التى وُجِّهَتْ إلى متلقى هذا الوحى زاعمة أنه إنما كان يعلمه بشر أو أن القرآن ليس سوى كلام من تأليفه هو...إلخ. فهل فى شخصية النبى ما يجعلك تشكّ فى إلاهية المصدر القرآنى، وبخاصة بعدما فندنا نظريتك المتهافتة فى "المخيال الجماعى" ؟ أقول: "نظريتك" على سبيل المجاز، فأنت لا تزيد على أن وجدتَها فى الفكر الأوربى فوضعتَ يدك عليها وقلت: ما المانع فى أن ننتفع بها فى الشغب على الإسلام؟ ترى هل كان النبى كذابا؟ أم هل كان من المصابين بالهَلاوِس أو الصَّرْع مثلا؟
لقد درستُ هذه الاتهامات بالتفصيل فى كتابى: "مصدر القرآن" وحاولتُ أن أعثر بين أوراق الدعاوى التى يرفعها مكذِّبو النبى فى وجهه على أية شهادة، مكتوبة أو شفوية، ذَكَر فيها أحدٌ ممن اتُّهِم النبى بالإفادة منهم أنه قد تعلم على أيديهم وأخذ مادة القرآن عنهم فلم أجد شيئا من هذا البتة! بالعكس لقد اتضح لى أن هؤلاء الذين اتُّهِم النبى بالاستفادة منهم إما أسلموا أو، إذا كانوا قد ماتوا قبل بعثته عليه السلام، قد أسلم أبناؤهم وأقاربهم. كما كان هناك أمية بن أبى الصلت، وكان قد طمع فى النبوة لنفسه زمنا، فلم يا ترى لم يقل إن محمدا قدتعلم منه، وقد كان شاعرا، وهو ما كان كفيلا أن يجعل كلامه يجلجل فى أرجاء الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها ويفضح النبى فضيحة الأبد؟ كذلك لِمْ لَمْ يفتح فمه بحيرا، الذى طالما أبدأ المرجفون باسمه وأعادوا، ويقول: نعم، لقد تعلم محمد منى كذا وكذا؟ لقد كان الرسول فى ذلك الوقت مستضعفا أشد الاستضعاف هو وأتباعه فى مكة، ومن ثم فليس من الممكن أن يتذرع أحد من المتَّهِمين بأن هؤلاء الشهود لم يتكلموا لأنهم كانوا يخشَوْن بأس محمد وسطوته وسلطانه، إذ لم يكن له فى أم القرى أى سلطان. ثم ها هى ذى حياة النبى عليه السلام واضحة جلية تمام الوضوح والجلاء، وليس فيها ما يمكن اتهامه بسببه بالكذب أو المرض النفسى والعصبى، علاوة على أن الأعراض التى كانت تصاحب الوحى لا تشبه من قريب أو من بعيد أَيًّا من أعراض الصَّرْع أو الهلوسات أو الهستريا على ما بَيَّنّا فى كتابنا المومإ إليه.
ولعله يحسن فى هذا السياق أن نشير إلى الطريقة التى اتبعها كاتب مادة "Muhammad" فى الطبعة الأولى من "Encyclopaedia of Islam"، وهى تشبه طريقة محمد أركون فى معاندة الحق واعتماد أسلوب اللف والدوران بغية تجنب المواجهة مع ذلك الحق فى عينيه، إذ زعم أن الأطباء النفسيين المحدثين يعترفون بصحة تشخيص الأعراض المصاحبة للوحى على أنها أعراض الصَّرْع، وإن سارع عقب هذا مباشرة إلى القول بأننا "يجب أن ندعهم يقررون بأنفسهم طبيعة حالته بدقة"، وذلك دون أن يذكر لنا اسما واحدا (واحدا فقط) من هؤلاء الأطباء المزعومين، فضلا عما فى كلامه من تناقض ساطع يراه حتى الأكمه، إذ بعد أن يؤكد أن الأطباء قد شخّصوا حالة الرسول صلى الله عليه وسلم على أساس إصابته بالصَّرْع يعود فى الحال قائلا: "فلنتركهم يقررون بأنفسهم طبيعة مرضه بدقة"، أى أنهم لم يقرروا بعدُ طبيعةَ مرضه، وهو ما يكشف أن كاتب هذا الهراء مستشرقٌ محترقٌ وكذابٌ أَشِرٌ من الذين سيَصْلَوْن جهنم فى الدرك السفل منها مع الأنذال الجامعين بين الكفر والنفاق. وغنىٌّ عن القول أن من بين المستشرقين والمبشرين من يعترض على اتهام الرسول بالصَّرْع مثل ألفرد جيوم فى كتابه "Islam" (Pelikan Books, 1964, P. 25).(/16)
كذلك عندنا مضمون الوحى، فهل فيه ما ينبئ أنه يعكس رغبات النبى وكراهاته أو آماله وآلامه أو أفراحه وأشجانه؟ أبدا، فقد ماتت خديجة مثلا هى وأبو طالب فى العام العاشر للبعثة، وكان حزن النبى عليهما من الشدة والألم أَنْ سُمِّىَ العام الذى ماتا فيه: "عام الحزن"، فهل يجد أحد فى القرآن أية كلمة فى هذا الموضوع؟ وبالمثل مات ابنه إبراهيم، الذى رُزِقَه على كبر، وبعد أن سمع سخفا كثيرا ووقاحة من المشركين فى بداية الدعوة مرارا وتكرارا ينبذونه بـ"الأبتر" جَرّاءَ موت أولاده الذكور واحدا واحدا فى صغرهم، فهل يجد أحد فى القرآن أية كلمة فى هذا الموضوع ولو لتعزية النبى والتسرية عن فؤاده؟ أبدا. ومعروف أنه كان يحب عائشة لجمالها وصباها وذكائها وشدة حبها له ولأنها، فوق ذلك كله، ابنة صديقه الحميم أبى بكر، فهل فى القرآن ما يمكن أن يُشْتَمّ منه رائحة الفرح حين بنى عليه السلام بها، وهو الذى قال المبشرون والمستشرقون فى زواجه منها وفارق السن بينه وبينها وتدلهه فى هواها الكثير؟ إن القرآن الكريم يخلو حتى من مجرد ذكر اسمها كما يعرف الجميع. وبالمثل هل يجد أحد فى القرآن ما يشى بوقع الانتصار العظيم الذى أحرزه المسلمون فى بدر على غير ما كانوا يتوقعون؟ أبدا...وهكذا، وهكذا مما يدل على أن هذا الكتاب لا يمكن أن يكون من لدن محمد على أى نحو من الأنحاء.
ويزيد الأمر يقينا الدراسة الطويلة والمفصلة التى قام بها كاتب هذه السطور بعنوان "القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية" والتى ثبت من خلالها بطريقة علمية إحصائية أن أسلوب القرآن شىء آخر مختلف تماما عن أسلوب الأحاديث. والكتاب يقع فى 600 صفحة لمن يريد أن يرسو على شاطئ اليقين لا أن يعاند لأن هناك من كلفه بالعناد والشغب على دين محمد. ثم هناك النبوءات، والحقائق العلمية القاطعة التى ذكرها القرآن الكريم، والروح الإلهى الذى يترقرق فى كل آية من آياته والذى يخلو تماما من أى ملمح إنسانى مهما صغر. وفضلا عن ذلك كله فالمقارنة بين القرآن والكتب التى يقال كذبا إنه مأخوذ منها تبرهن بأجلى برهان وأقواه أنه لا يمكن أن يكون قد تأثر بتلك الكتب لأنه كثيرا ما يخالف تلك الكتب ويكون الحق والمنطق وحقائق التاريخ والعلم فى جانبه هو. ويجد القارئ هذه الموضوعات فى كتبى التالية: "مصدر القرآن"، و"دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل" والدراسات التى وضعتها عن سُوَر "طه" و"المائدة" و"يوسف"...إلخ. حتى النصوص التى يزعم فريق من الشيعة أنها كانت فى القرآن ثم حذفها عثمان، وكأن القرآن لعبة فى يد مجموعة من الأطفال يعبثون بها ويحطمونها كما يشاؤون دون أن يجدوا من يعقّب عليهم، هذه النصوص قد اخترتُ من بينها السورة الكاملة، وهى سورة "النورين" التى لا تزيد على صفحتين بحال إن لم تقلّ، وحللتها فى خمسين صفحة كاملة لأجد فى نهاية المطاف أنه لا توجد أية وشيجة بينها وبين أسلوب القرآن ولو فى آية أو جملة واحدة. وهذا، لمن يبحث عن الحق لا المشاغبة، متاح فى كتابى "سورة النورين التى يزعم فريق من الشيعة أنها من القرآن الكريم- دراسة تحليلية أسلوبية"، فوق أن علماء الشيعة جميعا ينفون نفيا قاطعا أنه كان هناك فى يوم من الأيام نصوص قرآنية زيادة على تلك التى فى المصحف المعروف للناس كلهم. ومِثْلُ سورة "النورين" الجملتان اللتان تُسَمَّيان: "آيتَىِ الغرانيق" واللتان أقدم ريجى بلاشير بغَشْمٍ وتهورٍ على إثباتهما فى سورة "النجم" فى ترجمته الفرنسية للقرآن، فقد ثبت من خلال التحليل الأسلوبى المتأنى الذى قمتُ به فى كتابىَّ: "ماذا بعد إعلان سلمان رشدى توبته؟ دراسة فنية وموضوعية للآيات الشيطانية" و"دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل" أنهما لا تمتان لكتاب الله بأية صلة.(/17)
وأخيرًا، وليس آخِرًا، ما الذى جاء به القرآن فى مجال العقيدة والتوجيهات الأخلاقية والفكرية والاجتماعية والسياسية مما يمكن أن يكون محل انتقاد على أساس أنه يعوق سير الحضارة أو أنه يكبّل العقل البشرى بقيود تمنعه من أداء مهمته فى التفكير والاستكشاف مهما وقع أثناء ذلك من أخطاء؟ أهو التوحيدُ ومحاربةُ الثنويةِ والتثليثِ والوثنيةِ؟ أهو عالميّة الربوبية وعدم اقتصارها على قوم بعينهم مهما أثبتوا بسلوكهم الدنس وأنانيتهم البشعة أنهم لا يستحقون ذرة واحدة من هذا التركيز عليهم دون سائر الخلق؟ أهو الرحمة التى يكرر القرآن أن الله سيعامل بها عباده يوم الحساب، وأن الحسنة ستكون بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، على حين أن صاحب السيئة سيُجْزَى عليها بمثلها، وقد يغفرها الله له فلا يكون ثَمَّ حساب عليها أصلا؟ ولا نَنْسَ أيضا البعد الثقافى والافتصادى المتمثل فى الإعلاء من شأن العمل والإنتاج والإبداع والتنفير من الكسل والاعتماد على الآخرين دون موجب، هذا البعد الذى يكمّله الحث الدائم على الصبر، سواء فى ذلك الصبر على المكاره ومتاعب الحياة وحدثانها المزعجة أو على مشقات العمل والجهاد ومكافحة آفات النفس وعوامل الانهيار فى المجتمع، كما يكمّله التبغيض العنيف فى الاستسلام لمشاعر اليأس أو القنوط من رَوْح الله، مع التلويح من الجهة المقابلة بأن الرحمة الإلهية لا تغيب أبدا وأن مع العسر، مهما تكاثف واشتد، يُسْرَيْن لا يُسْرًا واحدا. وبالمثل لا ينبغى أن ننسى البعدَ الاجتماعى فى القرآن الكريم حيث جعل للفقراء والمحتاجين نصيبا مفروضا فى أموال الأغنياء يخرجونه على سبيل الوجوب لا مَنًّا ولا تفضُّلا. كذلك لا يفوتنا هنا أن نشير إلى قول الرسول عليه الصلاة والسلام إن المجتهد إذا أخطأ فله أجر. إنه لم يقل إن عقابه سيخفَّف، أو إنه سيحظى بالعفو، بل قال إنه يأخذ أجرا، وهو ما لا وجود له فى أى دين أو مذهب فلسفى أو أى نظام سياسى أو اجتماعى. والحق أنه لو لم يكن فى الإسلام فى مجال الفكر إلا هذا المبدأ الأخير لكفاه فخرًا واستحقاقًا لأن يُقْبِل الناس عليه إقبالا ويدخلوا فى فسطاطه مباهين!
على أن مناقشتنا للدكتور أركون فى موضوع القرآن لن تقف عند كلامه النظرى فيه، إذ إن له جهودا تطبيقية أراد بها أن يقدم تحليلا للخطاب القرآنى على حد تعبيره بدلا مما سماه: "التفسير الموروث". وهو فى هذه الجهود كثير الدعاوى يركب المراكب الوعرة ملوِّحًا بسوطه فى الهواء محدثًا فرقعاتٍ تلقى الرعب فى قلوب غير المتمرسين، إذ يظنون أن الرجل سوف يكرّ على خصومه فيزلزل الأرض من تحت أقدامهم ويفتك بهم كما تصنع الحمم البركانية بمن قدر له حظه التاعس أن يسكن قريبا من فوهة بركانها، ليفاجأوا به فى نهاية المطاف وقد ثَنَى عِنَان جواده الهزيل "للخلف دُرْ" وأخذ يعدو بأقصى سرعته وكأنه قد برز له عفريت فجأة ألقى الجزع والفزع فى قلبه الخفيف الرهيف. كذلك سوف نراه يتناقض من موضع إلى آخر، وقد يكون مجال التناقض فقرتين متتاليتين. ثم إنه كثيرا ما يَعْلَق فى شَرَكٍ يكون قد وضعه هو بنفسه فى التراب موهما نفسه وإيانا بأنه سوف يصطاد به الذئب ويجىء به من ذيله، لكنه سرعان ما يقع هو لا الذئب فى هذا الشَّرَك، ثم لا يستطيع تخليص نفسه منه ويظل يضرب بجناحه على غير هدى ولا أمل فى الفرج بأية حال. وإليكم البيان: فى إحدى هذه الفرقعات الخنفشارية، وتحديدا فى مدخل محاولته تحليل سورة "الفاتحة"، نراه يضع عدة "إضاءات" يقدم بها لهذا التحليل، وعلى رأس هذه الإضاءات قوله: "إن القرآن مدونة متجانسة...كل العبارات التى يحتويها كانت قد أُنْتِجِتْ فى نفس الوضعية العامة للكلام أو نفس الظرف العام للخطاب" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 114). وقد فسر تابعه "..." معنى الظرف العام للخطاب بأن "كل خطاب أو كلام يقال فى ظرف معين أو أحوال معينة، والذين يحضرون الجلسة التى قيل فيها هذا الكلام يفهمونه بشكل أفضل من الغائبين الذين يطَّلعون عليه قراءةً" (بالهامش). وليس لهذا من معنى إلا أن القرآن كله قد نزل فى نفس الظروف العامة للخطاب، وهى الظروف التى حددها أركون بعد أسطر بأنها ثلاث وعشرون سنة. أى أن القرآن قد انتهى تشكّله فى حياة الرسول، ولم يستمر نصًّا مفتوحا يُزاد فيه ويُنْقَص طَوال عدة قرون كما رأينا قبل قليل! ولعل القراء الكرام يذكرون أن الكاتب العبقرى قد قال فى موضع ثالث إن القرآن قد أخذ صورته النهائية على عهد عثمان. أرأيتم إلى هذا التناقض الفِجّ العارى فى هذه المساحة الضيقة من السطور والصفحات؟(/18)
كذلك ففى مقارنته بين طريقته فى تناول النص القرآنى التى يسميها: "بروتوكول القراءة الألسنى النقدى" وبين الطريقة التى يتبعها المفسرون المسلمون والتى يُطْلِق عليها سعادته: "البروتوكول التفسيرى" يبدأ بتعداد المبادئ التى تقوم عليها القراءة التفسيرية كما يراها والتى ينظر إليها بترفع بوصفها أثرا من مخلفات الماضى التى ينبغى أن تُزَال، ذاكرا من بينها أن الحقيقة التى يتضمنها القرآن، والتى هى الحقيقة الوحيدة حسب الرؤية التقليدية للمسلمين، لا يمكن أحدا أن يحددها أو يعرفها إلا "عن طريق الاستعانة بأقوال الجيل الشاهد عليها، أقصد جيل المؤمنين الأوائل الذين تَلَقَّوُا الوحى من فم النبى مباشرة، والذين طبقوه عمليا فيما بعد" (المرجع السابق/ 122). ومن الواضح الذى لا يحتاج إلى فضل بيان أن ذلك يتناقض تناقضا أبلق مع ما سماه: "الوضعية العامة أو الظرف العام للخطاب"، ومع ما شرح به تابعُه معنى هذا "الظرف العام للخطاب" مثلما رأينا قبل أسطر قلائل. فماذا ينبغى أن نسمى هذا أيضا؟ أما أنا فأسميه: "فرقعات خنفشارية". إنها قد تلقى الرعب فى قلوب العامة والصغار فيبصق الواحد منهم فى عُبّه وهو يبسمل لإزالة الخوف من قلبه، أما الذين ودَّكتهم الحياة فإنهم يبصقون، ولكن ليس فى عُبّهم!
هذا، ولم نغادر بَعْدُ "الظرف العام للخطاب"، الذى يحدده البروفيسير (على عادته فى المبالغات والفرقعات الخنفشارية التى تأخذ ذيلها فى أسنانها وتطلق ساقيها للريح عند أول عقبة) بأنه "مجمل الظروف التى جرى فى داخلها فعلٌ كلامىٌّ، سواء أكان مكتوبا أم شفهيا. ويخص ذلك فى آن معا المحيط الفيزيائى- المادى والاجتماعى الذى نُطِق فيه الكلام، كَمَا ويخصّ الصورة التى شكلها المستمعون عن الناطق لحظة تفوهه بالخطاب، ويخص هوية هؤلاء، والفكرة التى يشكّلها كل واحد منهم عن رأى الآخر فيه. كما ويخصّ الأحداث التى سبقت مباشرةً عملية التلفظ بالقول، وبخاصة العلاقات التى كان المخاطبون يتعاطَوْنها فيما بينهم، ثم بشكل أخصّ التبادلات التى اندرج فيها الخطاب المعنِىّ" (السابق/ 114). يا ألطاف السماوات! كل هذا يا دكتور أركون؟ لقد سببتَ لى الدُّوَار يا رجل! بالله عليك متى يمكننا أن ننتهى من فَهْمِ بَلْهَ شَرْحَ أىّ شىء فى القرآن إذا كان علينا أن نحيط بذلك كله قبل البدء فى عملية الفهم؟ إن هذا أمر أخشى، لو بدأنا فيه، أن يأخذنا هبوطا إلى آدم، وصعودا إلى يوم القيامة. ذلك أن الدنيا متشابكة بعضها مع بعض على نحو لا يكاد يُتَصَوَّر! ومع الفرقعات الخنفشارية نمضى خطوة أخرى لنرى إلامَ يأخذنا هذا التنطع الحداثى وعَمّ ينجلى فى نهاية المطاف!(/19)
إن الرجل لا يكتفى بهذا على ما فيه من استحالة التطبيق، بل يشترط قراءة كل ما كُتِب فى تفسير سورة "الفاتحة" من تفاسير منذ بداية التفسير القرآنى حتى اليوم ثم التقفية بما يحتاجه ذلك من جرد وفرز. إلا أنه سرعان ما يحيص قائلا إن هذا العمل "لا يمكن أن يقوم به شخص واحد، وإنما فريق كامل من فرق البحوث". وبالمناسبة فما "الفاتحة" إلا مجرد مثال لأية سورة أخرى نريد تحليلها طبقًا لبروتوكوله الألسنى النقدى. إننا لو رُمْنا ذلك فلن ننتهى أبدا من تحليل القرآن كما هو واضح! ثم فلنفترض أننا قد استطعناه، فمن ذا الذى يا ترى يمكنه الزعم بأنه سيكون التحليلَ المثالى الذى لا يخرّ الماء؟ إن هذا أيضا بدوره مستحيل! خلاصة الكلام أن البروفيسير قد انتهى إلى أنْ طامَنَ من غُلَوائه المتنطعة الفارغة وقنع من الغنيمة بالإياب فأخبرنا أنه سيكتفى بتفسير الرازى، الذى زعم أنه "قد جمع فى تفسيره أهم ما أنتجه الجهد التفسيرى خلال القرون الهجرية الستة الأولى السابقة له". لكنه ، ككل معّارٍ مُغْرَمٍ بالمطاوى (و"المطاوى" فى العامية المصرية هى الكلام الواسع الذى لا يصدقه ولا حتى صاحبه كما سبق القول)، قد عزَّ عليه أن ينهزم هكذا على الملإ أمام أول تجربة، بينما لا تزال ترن فى الآذان أصداء فرقعاته الألسنية المأمآنية، فأخذ يؤكد لنا أنه يزمع أن يقدم لتفسير الرازى طبعة محققة مصحوبة بقراءة تهدف للإجابة عما لا أدرى ماذا (السابق/ 135- 137). وليس لدىّ من تعليق على هذا إلا قول الرسول الكريم الذى يبدو وكأنه قد قاله خصيصا فى هذا الوعد: "أَفْلَحَ إنْ صَدَق"! ثم إنه بعد ذلك كله لم يرجع إلى الرازى إلا مرتين اثنتين لا غير نَقَلَ فى الأولى منهما ثلاثة أسطر ونصفا (ص 127)، وفى الثانية فقرةً لا تزيد على ثلاثة عشر سطرا (ص 139- 140)، ولشديد الأسى والأسف لم يحسن الاستفادة من أى النصين. وهكذا ينبغى أن تكون الفرقعات الخنفشارية، وإلا فلا! كذلك فإن تفسير الرازى، الذى تغلب عليه الصبغة الفلسفية، هو مجرد لون واحد من التفاسير لا يغنى عن غيره ولا يغنى غيره عنه، فهناك التفسير بالمأثور والتفسير الاعتزالى والتفسير الصوفى والتفسير الخارجى والتفسير الشيعى والتفسير اللغوى والتفسير الفقهى والتفسير العلمى...وهلم جرا. وحتى لو وافقْنا المؤلفَ على ما يقوله عن قيمة تفسير الرازى وأنه يغنى عن التفاسير السابقة عليه، فماذا نحن فاعلون فى التفاسير التى جاءت بعده؟
وعلى أية حال فلو تحوَّلنا بعد ذلك كله لنرى ماذا أنجز الأستاذ الدكتور فى التحليل الفعلى لسورة "الفاتحة من هذا كله راعَنا كثرة العناوين وتعمد الكاتب انتقاء الكلمات الضخمة التى تسبب الدوار للرأس دون أن يكون وراءها شىء بالمرة، أو على الأقل دون أن تقدِّم لنا ثمرة تستحق كل هذه الطنطنات والفرقعات. كيف ذلك؟ لنأخذ أولا العناوين، وسوف أوردها بالترتيب التى أتت به فى التحليل المذكور: "اللحظة الألسنية أو اللغوية: عملية القول أو عملية النطق، المحدِّدات أو المعرِّفات، الضمائر فى سورة "الفاتحة"، الأفعال فى سورة "الفاتحة"، الأسماء أو التحويل إلى اسم فى سورة "الفاتحة"، البِنْيات النحوية فى سورة "الفاتحة"، النظم والإيقاع. العلاقة النقدية- الفاتحة كمنطوقة أو عبارة: اللحظة التاريخية، النسق اللغوى أو الشيفرة اللغوية، النسق الدينى أو الشيفرة الدينية، النسق الثقافى أو الشيفرة الثقافية، النسق التأويلى أو الباطنى، اللحظة الأنثربولوجية". وهى، كما ترى، عناوين مخيفة تجعل قلب الواحد منا يسقط فى قدميه كما كنا نعتقد ونحن صغار، ثم ظننّا بعد أن كبرنا ونضجنا واتسع أفقنا الثقافى أن سقوط القلب فى الرجلين أمر خرافى ومستحيل...إلى أن وقعتُ على هذا الكلام الذى يقوله الدكتور أركون فتبين لى أن ما كنا نقوله ونحن صغار هو أمر صحيح لا وهم فيه ولا تخريف، فها هو ذا قلبى قد سقط فعلا فى رجلىّ. والتجربة، كما يقولون، خير برهان. ومن لا يرد أن يصدّق فليأت ولْيَرَ بنفسه! إلا أن المسألة لا تخلو مع هذا من الجانب الفكاهى، فهذه العناوين التى تخلع القلوب من أماكنها لا تساوى ثمن الحبر الذى كُتِبت به، إذ لا شىء وراءها، أو إذا كان وراءها شىء فإنه لا يستحق كل هذه الزيطة والزنبليطة. أى لحظات تاريخية؟ وأى بروتوكولات؟ وأى شفرات؟ أنحن داخلون حربا عالمية؟ المهم: لننظر مثلا تحت عنوان "النظم والإيقاع"، وهو، كما ترى معى أيها القارئ، مما يمكن فهمه. فماذا نجد تحته؟(/20)
لقد كتب المؤلف العبقرى تحت هذا العنوان أربعة عشر سطرا فى فقرتين: فأما فى الفقرة الأولى فقد أشار سيادته (مجرد إشارة عابرة ع الماشى) إلى أهمية الدور الذى يلعبه التشديد والإيقاع والنغم والمدة وارتفاع الصوت والكثافة فى عملية القول والعلاقة بين علم النحو والنبرة، وأننا فى اللغة العربية، والنص القرآنى بالذات، نمتلك أدبياتٍ (يعنى بلغتنا نحن عباد الله المتواضعى العقل والفهم: كتاباتٍ) غنيةً وغزيرةً خاصةً بالنظم والإيقاع، ولا تزال تنتظر من يدرسها طبقا للمناهج الحديثة فى التحليل العلمى، وأنه "من غير الممكن (فى الحالة الراهنة) المخاطرة بتفسيرٍ مُرْضٍ لنصٍّ قصيٍر كـ"الفاتحة". صحيح أن بروتوكول القراءة الشعائرية (يقصد الطريقة القديمة فى تفسير القرآن، وإن كان كلامه يوحى بأن المقصود هو قراءة القرآن على الجبّانات وفى المآتم، وإلا فما معنى مصطلح "الشعائرية" هنا بالله عليكم؟) وتقنين التجويد يقدمان لنا بعض التعليمات التى لم يُدْرَس تأويلها الصوتى والفونيمى والنظمى- الإيقاعى بشكل جاد حتى الآن" (بالمناسبة: الدكتور أركون دائما ما يقول عن أى شىء فى تراثنا إنه لم يُدْرَس بشكل جاد حتى الآن، أو لم يدرس أصلا لا بشكل جاد أو هازل. هذه شِنْشِنته على الدوام، وتحتاج إلى دراسة نفسية، لا ألسنية ولا شعائرية، ولا مارشات عسكرية، من التى تصاحب المراسم البروتوكولية، فى اللحظات التاريخية! فقط دراسة نفسية. أكرر: "فقط دراسة نفسية"! ويا بخته أنه لم يتقدم به الزمن كم عِقْدًا من السنين أو تأخر الزمن بالشدياق كم عِقْدا، وإلا لكان الكاتب اللبنانى الذى لم يكن يعجبه هذا التنطع الفارغ قد وضعه على السَّفُّود كما فعل مع المستشرقين الذين قُدِّر له أن يعمل معهم فى أواسط القرن التاسع عشر فى ترجمة الكتاب المقدس!). لكن حين جد الجِدّ أخذ ذيله فى أسنانه وولَّى هاربا ولم يعقّب!
وإليك كل ما قاله البروفيسير بعد هذه الطبول والزُّمُور المزعجة التى أصمَّت لنا الآذان وخلعتْ منا القلوب: قال لا فُضَّ فوه، ولا برئ من تباريح ألم الحقد شانئوه: "ولهذا السبب فإننا سنكتفى فقط بالتنبيه إلى الملاحظة البسيطة التالية، وهى وجود قافية "إيم" متناوبة مع قافية "إين" فى سورة "الفاتحة". أما فيما يخص الوحدات الصوتية الصغرى (الفونيمات) فإننا نلاحظ هيمنة الوحدات التالية: "ميم" 15 مرة، و"لام" 12 مرة، و"نون" 12 مرة، و"هاء" 5 مرات. نحن نعلم أن التفسير التقليدى يضفى قيمة رمزية على كل وحدة صوتية وعلى عدد التكرارات، وبالتالى فإن الدراسة النظمية أو الإيقاعية للعلامات أو الكلمات ينبغى أن تتلوها الدراسة الرمزية، أو ينبغى أن تستطيل عن طريق الدراسة الرمزية" (ص 134). أرأيت؟ إن الرجل لم يقدم شيئا على الإطلاق رغم كل الوعود الجبارة التى لا أظن إلا أنه سينجزها يوما ما، عندما تقوم القيامة بإذن الله، وتكون فى يد الواحد منا فسيلة فيغرسها طبقا لنصيحة الرسول عليه السلام ولا يتعلل بأن القيامة ستقوم.
وعَوْدًا إلى ما قاله د. أركون عن مبادئ البروتوكول التقليدى فى تفسير القرآن وما توجبه من الاستعانة بالنحو وعلم اللغة التاريخى والبلاغة والمنطق للوصول إلى معنى النص القرآنى، والفرق بينها وبين مبادئ بروتوكوله هو التى لا تعرف هذه الاستعانة ولا تبالى بها، نلفت نظر القارئ إلى أنه أمضى الصفحات التى خصصها لسورة "الفاتحة" فى الكلام عما تشتمل عليه السورة الكريمة من ضمائر وأسماء وأفعال وبنيات نحوية، محاولا الوصول إلى شىء من المعنى من وراء هذه الإحصاءات عبثا، ومتخبطا فى أثناء ذلك تخبطا لا يليق بمن يتصدى لتفسير كتاب الله العظيم حتى لو كان من طائفة البسبسانيين المأمآنيين! فمثلا يرى سيادته بعلمه العبقرى أن السورة تحتوى على فعلين مضارعين (هما: "نعبد، ونستعين") أُسْنِدا إلى البشر (جماعة المؤمنين)، وفعلٍ واحدٍ ماضٍ مسند إلى الله (هو: "أنعمتَ")، وأن السبب فى هذا أن الفعل المضارع يدل على استمرار المحاولة وديمومة التوتر، فهو يناسب البشر، بخلاف الماضى الذى يدل على أن الأمر قد تم وانتهى الأمر ولا مرجوع عنه، وهو ما يناسب القدرة الإلهية (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 130- 131).(/21)
وهذا كلامٌ خديجٌ لا نضج فيه، إذ كثيرا ما تُسْنَد الأفعال المضارعة إلى الله، والماضية إلى البشر، والعبرة بالسياق والمعنى لا بصيغة الفعل كما فى الشواهد التالية، وكلها من القرآن الكريم ذاته: "الله يستهزئ بهم ويَمُدّهم فى طغيانهم يعمهون"، "قال إنه يقول إنها بقرةٌ لا فارض ولا بِكْر"، "قد نرى تقلُّب وجهك فى السماء"، "والله يرزق من يشاء بغير حساب"، "يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم"، "الله ولىّ الذين آمنوا يُخْرِجهم من الظلمات إلى النور"، "قل: إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء"، "ولله ما فى السماوات وما فى الأرض، يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء"، "يُوصِيكم الله فى أولادكم: للذَّكَر مثل حظ الأُنْثَيَيْن"، "فأولئك يتوب الله عليهم"، "يريد الله أن يخفف عنكم"، "أولئك الذين يعلم الله ما فى قلوبهم"، "ويستفتونك فى النساء. قل: الله يفتيكم فيهن"، "لكنِ اللهُ يشهد بما أنزل إليك"، "يَهْدِى به الله من اتَّبع رضوانه سُبُل السلام"، "قد نعلم إنه لَيَحْزُنك الذى يقولون"- "لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم"، "فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه"، "وقالت اليهود: يد الله مغلولة"، "فقد كذَّبوا بالحق لما جاءهم"، "انظر كيف كذَبوا على أنفسهم"، "وَذَرِ الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولَعِبًا وغَرَّتْهم الحياة الدنيا"، "وما قَدَروا الله حَقَّ قَدْره"، "وجعلوا لله شركاءَ الجِنَّ"...إلخ إن كان لذلك من آخر. لكنك، يا بروفيسير، لا بضاعة علمية لديك ذات قيمة. إنما هى الحذلقة والانتفاش بما تظن أنه عندك من العلم الخطير العميق، وما هو بعميق ولا خطير. ومما قاله سيادته أيضا فى تحليله للسورة إن أداة التعريف "أل" التى تكررت فى قوله تعالى: "اهدنا الصراط المستقيم* صراط الذين أنعمتَ عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" تدل على أن "هذه التراكيب هى عبارة عن مفاهيم أو أصناف أشخاص محدَّدين بدقة من قِبَل المتكلم وقابلين للتحديد من قِبَل المخاطب عندما يصبح بدوره قائلا أو متكلما" (ص 127). ويزيد تابعُه "..." الأمرَ بيانا فيعلّق فى الهامش قائلا إن "المقصود بذلك أن كلمة "المغضوب عليهم" أو "الضالين" تدل على أشخاص محدَّدين بدقة فى مكة، وكانوا معادين للرسالة الجديدة، ولذلك دُعُوا بـ"المغضوب عليهم" و"الضالين". ولكن القرآن لا يحدد أسماءهم، وإنما يترك الصياغة عامة شمولية تنطبق على أعداء هذا الدين فى كل زمان ومكان"، مع أن المفسرين لا يذكرون أبدا أن المقصود أحد من أهل مكة ، فضلا عن أن يحددوا هذا "الأحد"، بل الموجود عادة فى كتب التفسير أنهم اليهود والنصارى ، وإن كنت أفهم الكلام فى الآية على أنه عام لا يختص بقوم دون غيرهم.(/22)
ولو كان القرآن يقصد أشخاصا بأعيانهم كما يزعم بروفيسيرنا لجاء تعبيره مختلفا مثلما هو الحال فى قوله تعالى: "عبس وتولَّى* أنْ جاءه الأعمى"، "أفرأيتَ الذى تولَّى* وأعطى قليلا وأكدَى؟* أعنده علم الغيب فهو يرى؟"، "ذرنى ومن خلقتُ وحيدا* وجعلت له مالا ممدودا* ومهَّدت له تمهيدا* ثم يطمع أن أزيد"، حيث يدل السياق الحكائى والتعبير اللغوى على أن الكلام يدور على شخص بعينه وليس كلاما عاما. أى أنه ليس فى أسباب النزول الخاصة بالسورة ولا فى طريقة التعبير فيها ما يمكن أن يفهم منه أن المقصود بـ"الضالين" و"المغضوب عليهم" أشخاص معينون من أهل مكة، وبخاصة أن "فاتحة الكتاب" هى النص القرآنى الوحيد الذى يجب الصلاة به، وفى كل ركعة منها لا فى واحدة وكفى، ولا تصحّ الصلاة من دونه، فلا يعقل أن يكون مدارها على شخص أو أشخاص بأعيانهم. وهكذا ترَوْن، أيها القراء، كيف أن الرجل الذى يقلل من شأن النحو واللغة فى عملية التفسير القرآنى كما رأينا، لم يستطع أن يتجاهل فيما يسميه: "تحليل الخطاب القرآنى" اللغة ولا النحو، لكن دون أن يستطيع الاستفادة منهما للأسف. ليس هذا فحسب، بل ثمة ارتباك واضطراب فى استعمال المصطلحات النحوية واضحان، وهو ما يؤكد ما قلناه مرارا عن قلة بضاعة البروفيسير من العلم بالموضوع الذى تصدى له رغم أنه هو الميدان الذى تخصص فيه وأصبح أستاذا. وهذا كل ما يقدمه لنا الدكتور أركون من خلال ما يسميه: "تحليل الخطاب الدينى"، وهو لا يشفى غليلا ولا يزيد القارئ علما بشىء فى السورة، فلا رجوع لأسباب النزول ولا تعمق فى تحليل دلالات الاختيارات المعجمية أو الصيغ الصرفية أو التراكيب النحوية التى رُوعِيَتْ فى كلمات السورة وبناء جملها وما فيها من تقديم وتأخير وحذف وذكر وتكرير وما إلى ذلك، ولا التفات لما تريد السورة أن تغرسه فى عقل المسلم وقلبه من عقائد ومشاعر ومفاهيم مما تعج به كتب التفسير، التى لا تعرف هذه البهلوانيات الألسنية الضحلة، ويعمل الأستاذ الدكتور عبثا على التقليل من شأنها. إن ما نطالبه به هو من الأمور الصعبة التى تحتاج إلى صبر وجِدّ، ولا يصلح فيها التنفج الكاذب، ومن هنا ينصرف عنها النابتة الجديدة ممن يُسَمَّوْن بـ"الكتاب الحداثيين" ممن يقبلون بغَشْم على نصوص الأدب والقرآن فيعيثون فيها فسادا كما يفعل الثور الهائج حين يقتحم محلا لبيع تحف الخزف، فهو يدوسها بأظلافه وينطحها بقرونه لأنه لا يدرك قيمتها!(/23)
وهذا المتنطس الذى لا يعجبه المنهج الذى يتبعه المفسرون المسلمون والذى يستعينون فيه، ضمن ما يستعينون، بالنحو والصرف والبلاغة، يغرق فى شبر ماء أمام كلمة "أَمْ" الواردة فى الآية التاسعة من السورة الثانية التى يريد تحليلها على منهجه (أو "بروتوكوله" حسب تعبيره، وكأننا بصدد تشريفات ملكية)، وهى سورة "الكهف" فلا يجد إلا ما يقوله الجاهل ريجى بلاشير (الذى أعماه الله سبحانه فى أخريات حياته حتى يكون عَمَاه من العَمَى الحيسى ويجمع بين عمى البصيرة والبصر)، فيردده فرحا به كأنه وقع على كنزٍ شماتةً منه بالقرآن، وكان الأحرى به بدلا من هذا أن يشعر بالخجل لأنه دائم التنفج فى كتاباته بأن منهجه الجديد (الذى هو آخر صيحة فى عالم الأزياء التحليلية) يختلف عن منهج المستشرقين السابقين البالى. إلا أن الكيد للإسلام يستحق أن يلحس أركون كلامه وتنفجاته وينسى ما صدع رؤوسنا به فى كثير من كتاباته ويجرى وراء المستشرقين الذين كانوا لا يعجبونه مرددا كلامهم. فماذا قال بلاشير وردده وراءه أركون دون أن يتمعن فيه؟ قال بلاشير إن "أَمْ" هذه لا تستعمل إلا للتناوب أو المفاضلة بين شيئين، لكن الملاحَظ أنها فى آيتنا هذه لا يسبقها شىء يمكن أن يشكّل الطرف الآخر فى عملية التناوب، ومن ثم فإن الآيات قد تعرضت لعملية تلاعب، وهذا التلاعب يدل عليه غياب الطرف الآخر للتناوب (ص 148). يقصد أن "أم" فى قولنا مثلا: "أتأكل تفاحا أم كمثرى؟" هى للمناوبة بين هاتين الفاكهتين اللتين ينبغى أن تختار واحدة منهما فقط. لكن فات بلاشير ومقلده أن "أم" لا تنحصر فى هذه الوظيفة، بل لها عدة وظائف: ففى قوله تعالى: "سواء عليهم أأنذرتَهم أم لم تُنْذِرهم: لا يؤمنون" نراها تدل على أنه لا فائدة فى هذا أو ذاك، فالنتيجة واحدة فى الحالتين. أما فى قولنا: "أزيد عندك أم عمرو؟" فتدل على الرغبة فى تحديد الموجود من الشخصين. وتسمى "أم" فى هذين التركيبين: "أم المتصلة"، لأنها متصلة بما قبلها، وهذا ما ظن بلاشير ومقلده أنه كل مهمتها. لكنهما قد فاتهما (أو بالأحرى: "فات بلاشير وحده" لأن أركون هنا إنما هو مجرد مردِّد لما قاله بلاشير دون تمعن، فينبغى ألا يُحْسَب له حساب) فات بلاشير أن هناك "أم" أخرى هى "أم المنقطعة" التى ليس للاسم الذى بعدها مناوبٌ قبلها، بل تنشئ كلاما جديدا كما هو الحال فى الآية محور الكلام، ونصها: "أم حَسِبْتَ أن أصحاب الكهف والرَّقِيم كانوا من آياتنا عَجَبا؟"، والتى يقول المفسرون إن معناها هنا "بل أ...؟"، وإن كانت تأتى أحيانا بمعنى "بل" فقط دون همزة كما فى قوله تعالى: "فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا؟" (النساء/ 109). وأنا أضيف حالتين أُخْرَيَيْن: أولاهما تأتى فيها "أم" للمناوبة بين طرفين، لكن الطرف الأول لا يُذْكَر، بل يُفْهَم ضمنيا من الكلام السابق، كما فى قول أحدنا مثلا: "رأيى أن تأخذ فلانا باللين والهوادة وأن تصبر عليه طويلا، ولسوف يَصْلُح حاله بهذا الأسلوب إن شاء الله. أم لك رأى آخر؟". والمعنى: "أتوافقنى على رأيى هذا أم إن لك رأيا آخر؟"، إلا أن عبارة "أتوافقنى على رأيى هذا" ليست مذكورة فى الكلام كما هو واضح، بل تُفْهَم فهمًا من السياق. والأخرى بمعنى: "أَتُراك...؟"، وهذا المعنى الأخير لا يكون إلا فى بعض حالاتِ مجيئها منقطعة، وأنا أفهم الآية على هذا المعنى. ومع ذلك كله لقد كان ينبغى على بلاشير ومقلده ألاّ يُطَنْطِنا بهذا الذى طَنْطَنَا به، فالنبى الذى جاء بالقرآن (أو "اخترعه" كما يقول من لا يؤمنون بنبوته عليه السلام) عربى، ومن ثم فإن ما يقوله هو الصواب لا ما يُرْجِف به هؤلاء الأعاجم. وحتى لو قلنا إن المسلمين قد غيَّروا فى القرآن من بعده صلى الله عليه وسلم، فالذين غيروا فيه هم أيضا عرب، ومن ثم فما يقولونه هو الصواب. أليس هذا ما يمليه المنطق؟ لكن القوم، حين يتعلق الأمر بالإسلام والقرآن، لا يهتمون بمنطق ولا عقل، بل تشغلهم أحقادهم وتُذْهِلهم عن كل شىء! وهذا الاستعمال قد تكرر فى القرآن كثيرا جدا بحيث لا يمكن، مهما تسامحنا مع الببغاوات، أن نظن أنه خطأ فى كل هذه المواضع! اللهم إلا أن يكون العرب والمسلمون من الجهل والبلادة فى لغتهم بدرجة ليس لها نظير فى التاريخ!(/24)
وقد رجعتُ إلى كتاب النحو الذى وضعه بلاشير (بمشاركة جودفروا ديمومبين) لطلاب الاستشراق فوجدتهما لا يذكران من "أم" إلا المتصلة، وهى التى سبقتها همزة، سواء كاتت همزة استفهام أو همزة تسوية، كما فى المثالين اللذين ضربتهما قبل قليل (Grammaire de L Arabe Classique, Maisonneuve et Larose, Paris, 1966, PP. 218, 469)، فهذه كل بضاعة النحو عند هذا المستشرق، وذلك هو السر فى الخبط الجاهل الذى تناول به الآية وزعم أنه قد سقط قبلها كلامٌ جرّاءَ العَبَث الذى وقع فى القرآن بعد وفاة النبى عليه السلام. وعلى أية حال هأنذا أورد العينة التالية من الشواهد القرآنبة على ذلك الاستعمال لمن يريد أن يطمئن على هذا الذى نقول: "أم حسِبْتم أن تدخلوا الجنة ولَمّا يأتكم مَثَلُ الذين خَلَوْا مِنْ قبلكم؟" (البقرة/ 214، ومثلها كل الآيات التى تبتدئ بعبارة "أم حسبـ(ـتَ/ تم))")، "أم يقولون: افتراه؟" (يونس/ 38، وهود/ 35 مرتين، والسجدة/ 3، والأحقاف/ 8)، "أم اتخذ مما يخلق بناتٍ وأَصْفاكم بالبنين؟" (الزخرف/ 16)، "ما لكم؟ كيف تحكمون؟* أم لكم كتاب فيه تَدْرُسون؟" (القلم/ 37). ومن يُرِدْ شواهد أخرى من القرآن فبمكنته أن يراجع المواضع التالية: البقرة/ 133، والنساء/ 53، والرعد/ 33، والأنبياء/ 21، 24، 43، والنمل/ 20، وفاطر/ 40، والصافات/ 156، وص/ 9، والزمر/ 43، والشورى/ 9، 21، 24، والأحقاف/ 4، ومحمد/ 29، والطور/ 30، والملك/ 20، والقلم/37. ومثلُ "لم" فى هذا استخدامُ القرآن للظرف "إذ" فى أول الكثير من قصصه دون أن يسبقه كلام، وهو ما لا أذكر أنى رأيته خارج القرآن شعرًا أو نثرا.وهذه الـ"إذ" يقابلها قولنا حين نريد أن نحكى لأحدٍ حكاية: "كان يا ما كان" أو "يحكى أن" أو "حدث ذات مرة" أو ما إلى ذلك. ويقول المفسرون بأن معناها: "اذكر"، وهو معنى لا يذهب بعيدا عما قلناه. فهل يصح أن يأتى من يتحامق قائلا إن هذا استعمال خاطئ، وإنه يدل على أنه كان ههنا كلام، ثم حُذِف؟ لكن أين ذهب؟ ألعله أكلته القطة؟
كذلك يقف أركون يفرك يديه ابتهاجا ساذجا إزاء قوله تعالى فى الآية الخامسة والعشرين من السورة ذاتها عن المدة التى بقيها أصحاب الكهف فى كهفهم: "ولبثوا فى كهفهم ثلاثَمائةٍ سنين وازدادوا تسعا"، وَهْمًا منه، وممن يردد كلامهم بعَبَله دون أن يتوقف ليتثبت منه قبل ترديده، أن فيها شذوذا لغويا، إذ كان ينبغى أن يكون الكلام فى رأيهم هكذا: "ثلاثَمائة ِسنةٍ" لا "ثلاثمائةٍ سنين"، وهو ما يرتبون عليه افتراض "العديد من الافتراضات حول شروط أو ظروف تثبيت النص" كما يقول بلاشير (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 148). ثم يضيف الدرويش فى الهامش قائلا إن "النقد الفيلولوجى يكشف عن أشياء مذهلة ويطرح تساؤلات عديدة، ولكن من دون أن يستطيع القطع بشىء". يقصد أن منهج المستشرقين السابقين لم يكن يساعدهم على الاستفادة من النتائج التى يتوصلون إليها، بخلاف أركون ومنهجه الذى يسوِّل له أن يطير بكل شبهة سخيفة مطنطنا بها ومخطِّئا القرآن دون تبصر أو مراجعة! ترى هل من المنهج العلمى أن يطير الباحث مع أوهامه دون أن يراجع نفسه لعله قد أخطأ أو تسرَّع أو سَهَا أو فاتته أشياء يجهلها؟ لماذا كلما كان الأمر ينصبّ فى ناحية الإساءة للقرآن والتشكيك فيه نرى أستاذك يفقد حذره ووسوساته التى يفلقنا بها دائما عندما تكون الوقائع كلها فى صف النص القرآنى؟ فمثلا معروف بين العالمين جميعا أن حرص المسلمين على قراءة القرآن فى الصلاة وخارج الصلاة يتعبدون به ويتقربون إلى الله منذ بداية نزوله حتى الآن كان له دور عظيم فى الحفاظ على النص القرآنى فى الذاكرة المسلمة، والدكتور محمد أركون لا يمارى فى ذلك، إذ يقول: "إن الاستخدام الطقسى أو الشعائرى للنص القرآنى ساهم بالتأكيد وبشكل مبكر فى تثبيته" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 155/ هـ1).(/25)
ويحسب القارئ المسكين أنه لا خلاف إذن بينه وبين الكاتب، بيد أن البروفيسير لا يعطيه فرصة للاستمتاع بهذا الوهم، إذ سرعان ما يسدد ضربة غير قانونية إلى فكه قائلا: "لكن لهذا الاستخدام بالذات تاريخ لا نعرفه، بمعنى أننا لا نعرف متى بدأ المسلمون يستخدمون النص القرآنى كنص عبادى فى الصلوات والطقوس، ولا كيف تطور ذلك على مدار التاريخ" (نفس المرجع والصفحة والهامش). ترى هل يُعْقَل أن أركون يجهل منذ متى شرع المسلمون فى قراءة القرآن فى صلواتهم وعبادتهم؟ إن قراءة القرآن هى فى حد ذاتها عبادة وقربى إلى الله، وهو ما يعنى، لهذا السبب على الأقل، أنها قد بدأت منذ اللحظة الأولى لنزوله. لكن الدكتور أركون لا يستطيع إلا أن يكون تلميذا وفيًّا لذلك الصنف من المستشرقين الذين لا يتركون أى شىء فى الإسلام إلا ويشككون فيه: هكذا "لله فى لله". ولنعد الآن لما كنا بسبيله، ولسوف أطرح عليه وعلى من ينقاد لهم دون تبصر أو تفكير عدة أسئلة لعلهم يحاولون الإجابة عليها فتتضح لهم على ضوء هذه المحاولة حقيقة الأمر، وإن كنت أشك فى ذلك كثيرا: هل يظن المستشرقون أن من حقهم، وهم الأعاجم، وبعد كل هذه القرون المتطاولة، أن يخطِّئوا أسلوب القرآن حتى لو قلنا معهم إن صاحبه هو محمدبن عبد الله؟ أليس ما يقوله محمد هو الصواب الذى يُحْتَجّ به لا الخطأ الذى يُسْتَدْرَك على صاحبه؟ إن محمدا لا يختلف فى هذه الحالة عن أى شاعر أو خطيب جاهلى، فضلا عن أى أعرابى ممن كان العلماء يسعَوْن إلى البادية للالتقاء بهم وأخذ اللغة عنهم، فلماذا هو من دون العرب جميعا الذى ينبغى أن يكون مخطئا؟ الأن هذا التركيب وأمثاله لم ترد فى كتب النحو التى تُدْرَس فى المدارس؟ لكن متى كانت هذه الكتب تستوعب كل إمكانات اللغة العربية فى الجاهلية قبل أن تُفَنَّن القواعد على النحو الذى نعرفه فى كتب النحو والصرف الخاصة بتلاميذ المدارس؟ إن القرآن نفسه رغم كونه المثال الأعلى فى الفصاحة العربية لا يستوعب هذه الإمكانات، فكيف يفكر أحد فى محاكمته إلى كتب الطلاب الصغار الذين أُريد الابتعاد بهم عن كل ما يخرج عن القوالب البسيطة المباشرة ولا يعرفون من هذه الإمكانات إلا أقل القليل؟ إن هذا لأشبه بمن يريد نَطْل البحر بكستبان إبرة!
على أن ليس معنى كلامى هذا أننى أغضّ الطرف على التشكيك فى مصدر القرآن الإلهى، بل كل ما أريد قوله أن الحجة التى يستند إليها من يقصد التشكيك فى هذا المصدر هى حجة داحضة لا تثبت على محكّ النقد على الإطلاق، ومن ثم فالاستناد إليها للتشكيك فى إلاهية المصدر القرآنى استناد إلى حائط مائل كما نقول فى مصر. أما إيمان أمثال هؤلاء أو كفرهم فلا يعنينى، فلست موكلا بالقلوب أهديها. إنما أنا واحد من أهل العلم مقتنع بأن هذا القرآن هو من عند الله، ولهذا أرى أنه لا بد من وقف هذه الهجمات الجَراديّة الحمقاء، بالمنطق طبعا والحجة والتدقيق فى الكلام والاستشهاد بالنصوص على الوجه المستقيم...إلخ. ولقد غَبَرَ علىّ زمان كنت أسارع فيه إلى تخطئة أىّ أسلوب لا يجرى على القواعد كما درسناها فى المدارس، والاعتراض على أية كلمة لا أجدها فى المعجم الصغير الذى لم أكن أملك غيره فى شبابى الأول. لكنى كلما كَبِرْتُ واسْتَحْصَدَتْ معارفى واتسع أفقى اللغوى تبين لى أن الأمور ليست كما كنت أظن، وأن اللغة بحرٌ هدّارٌ لا يستطيع السباحة فيه كل من هب ودب، وإلا فعلينا أن نخطّئ معظم الشعراء العرب الأقدمين، إن لم يكن كلهم، لأنهم لا يجرون دائما على قواعد النحو والصرف كما ندرسها فى المدارس، وهو ما لا يقول به أى عاقل، بل الحاقدون الموتورون وحدهم! وفى الكتب التى تُعْنَى بالصحة اللغوية كثير من الأقاويل التى شاعت وذاعت على غير أساس، ومع هذا يرددها الخلف عن السلف كأنها "قرآن منزل" (أكاد أضحك الآن على هذا التشبيه بعد أن ظهر لنا أمثال بلاشير وأركون وجماعات المبشرين الذين يتطاولون على القرآن ويخطّئونه).(/26)
لنأخذ مثلا تأكيدهم أن تكرار كلمةِ "بين" مع اسمين ظاهرين خطأ، فلا يصح أن نقول: "بين عمر وبين أحمد" بل لا بد أن نقول: "بين عمر وأحمد"، بخلاف ما لو كان أحد طرفَىِ البينيّة أو كلاهما ضميرا مثل: "بين محمد وبينى" أو "بينى وبينه"، مع أن العبد لله قد استطاع أن يضع يده قبل عدة أعوام على نحو ثلاثين شاهدا من عصور الاحتجاج اللغوى لتكرار "بين" مع اسمين ظاهرين أوردتُها فى كتابى "من ذخائر المكتبة العربية" فى آخر الفصل الخاص بكتاب "معجم البلدان" لياقوت الحموى، غير ماعثرت عليه بعد ذلك. كما ثارت بينى وبين زميل لى أحبه وأقدر علمه مناقشةٌ منذ وقت ليس بالبعيد حول مدى الصحة فى مجىء فعلِ" كلما" أو جوابِها مضارعا، وأردت أن أتثبت بنفسى من صواب رأى من يرفضون هذا ويلحّون على أنه لا بد أن يكون فعل هذه الأداة وجوابها كلاهما ماضيا، فإذا بى أجد نحو اثنى عشر شاهدا من الشعر القديم يستعمل فيها أصحابها فعلَ "كلما" وجوابَها مضارعا، وفى الحال تراجع الزميل الكريم عن موقفه الذى كنت فى البداية أكثر ميلا إليه تبعا لما كننت أسمع من تخطئة من يخالفونه. ومثل ذلك ما كنت قد قرأته فى مطلع شبابى عند بنت الشاطئ من أنه لا يصح أن نقول: "قد لا يأتى محمد"، بإدخال "لا" على "قد"، بل لا بد من استعمال "ربما" بدلا من "قد" فى حالة النفى، وإبقاء "قد" للإثبات فقط. ثم تبين لى فيما بعد أن من العرب القدماء من كان يجمع بين "لا" و"قد". إن السبب فى هذه المسارعة إلى التخطئة هو الظن بأننا قد أحطنا باللغة خُبْرا، على حين أن معرفتنا بها ليست بهذه الإحاطة التى يتصورها بعضنا، وقد كنت أنا من هؤلاء البعض يوما. أما الآن، وبعد انتشار الموسوعات والمعاجم الألكترونية، فقد أصبح من السهل علينا أن نعرف فى ثوانٍ قلائل ما كان أجدادنا ينفقون فى تحصيله الشهور، وربما السنين أيضا، وإن لم ينقص هذا من قدرهم، فقد كانوا عباقرة رغم ذلك!(/27)
هل هذا كل شىء؟ لا، فما زلنا فى بداية الكلام، فالصَّبْرَ الصَّبْرَ أيها القارئ لترى بنفسك السخف الشيطانى الصبيانى الذى يتعامل به أعداء القرآن مع هذا الكتاب العظيم يظنون أنهم قادرون على أن يطفئوا نور الشمس بنَفَسٍ من أنفاسهم الواهنة المنتنة. معروف أن اللغة العربية، بسبب من إعرابها الذى يحاربه هذه الأيام بعض من يكرهونها ولا يستطيعون أن يرَوْا بهاء محاسنها للرَّمَد الذى فى عيونهم، يعطيها مرونة عالية فى تركيب العبارة، إذ مهما قدّمنا أو أخرنا أو حذفنا فإن الإعراب يُسَهِّل التعرف على وظيفة الكلمة رغم ذلك فى معظم الأحيان، وهو ما لا يتوفر للّغات الأخرى بوجه عام. إن بلاشير، وأركون من ورائه، يتصوران أن اللغة العربية لا تعرف إلا وضعا واحدا لكل حالة من حالات التمييز، ومن هنا فإنهم لا يتخيلون أن من الممكن أن يجىء تركيب الكلام فى تمييز "ثلاثمائة" وأمثالها إلا هكذا: "ثلاثمائةِ سنةٍ، ستمائةِ امرأةٍ، تسعمائةِ كتابٍ" بإفراد التمييز وخفضه على الإضافة كما ترى. لكن هذا، وإن كان هو ما يعرف التلاميذ، ليس كل شىء، إذ كان العرب أيضا يجمعون المعدود فى هذه الحالة مع الإضافة أو قطعها، وإن لم يشتهر الجمعُ اشتهار الإفراد. وما دام هذا الاستعمال قد ورد فى القرآن فمعنى ذلك أنه صحيح، حتى لو كان محمد هو مؤلف القرآن، بل حتى لو قلنا إن القرآن قد تعرض لتدخل من العرب بعد وفاة الرسول حسبما يزعم الزاعمون السخفاء مثلما سبق أن شرحنا. إن القول بغير هذا هو العَتَه بعينه لأنه لا يحدث فى أية لغة فى العالم، إلا أن الحقد المجنون يريد أن يلغى لنا عقولنا فنردد حماقاته دون تبصر، والعياذ بالله! وفى المثال الذى نحن بصدده من سورة "الكهف" يمكننا أن نركِّب الكلام على أكثر من وضع فنقول: "ثلاثَمائةِ سنةٍ، ثلاثَمائةٍ من السنين، سنين ثلاثَمائةٍ، ثلاثمائةٍ سنين، ثلاث مئاتٍ من السنين"، ولكلٍّ نكهتها وظلالها الإيحائية, وأحب أن أقف عند التركيب الذى ظن بلاشير ومقلّده أركون أنه هو وحده لا سواه التركيب الصحيح، ثم أُقَفِّىَ بالكلام عن التركيب الذى اعترضا عليه، أو بالأحرى اعترض عليه بلاشير فاعترض معه آليا د. أركون. فأما التركيب المعتاد فهو يشير إلى "عدد الثلاثمائة" وأنه سنون، والخطاب فيه موجَّه إلى من لا يرى فى العدد ولا فى تمييزه ما يدعو إلى الاستغراب أو الاستنكار. ولذلك فنحن نستخدم هذا التركيب عادة عندما لا نريد أن نعبر عن أى شىء آخر غير هذا المعنى العام. أما إن كان المخاطَب متشككا فيما نقوله له أو يستهوله، كأن يستبعد أن يكون العدد ثلاثمائة أو أن يكون التمييز سنوات لا أياما مثلا، فعندئذ يكون هناك موضع للتركيب القرآنى، فكأن المتكلم يريد أن يقول: نعم، العدد ثلاثمائة، وهذه الثلاثمائة هى سنوات لا أيام ولا أسابيع ولا حتى شهور. إنها سنوات " كلّ سنةٍ تنطح الأخرى" بالتعبير المصرى الدارج. فـ"سنين" فى هذا التركيب الأخير هى بدل من "الثلاثمائة"، أى أن السنين ليست مجرد تمييز لها، بل هى الثلاثمائة نفسها عدًّا وإحصاءً. إن المفسرين ومُعْرِبى القرآن لا يتوقفون طويلا أمام هذا التركيب لأنهم ببساطة لا يجدون فيه شيئا، بخلاف الذين لا علم لديهم ويعترضون على ما يجهلون، فهم يعملون من الحبة قبة! أما أنا فلم أشأ أن أردد فقط ما قاله النحويون فى إعراب الآية، بل أردت أن أضيف لما يقولون ما لعله يكشف شيئا مما وراء ظاهر التعبير من أسرار النفس وأغراض البلاغة. ومثل هذا القلب الذى يقابلنا فى هذه الجملة (إذ هى فى الواقع محولة عن "سنين ثلاثمائة" لا عن "ثلاثمائة سنة") له نظائر فى اللغة كثيرة، فنحن نقول مثلا: "ضُرُوبًا من المنى، وأفانينَ من اللذات" على حين يقول ابن زيدون فى نونيته العبقرية: "مُنًى ضُروبًا ولذّاتٍ أفانينا" فيضفى على العبارة العادية حيوية مدهشة لم تكن لها. كما أننا نقول: "عدةَ سنوات" و"سنواتٍ عدة"، وفى هذه ما ليس فى تلك: فالأولى تعنى "عددا من السنوات"، أما الأخرى فتعنى "عددا كبيرا من هذه السنين"...وهكذا.(/28)
ومرة أخرى هل هذا كل شىء؟ والجواب: كلا، فما زال هناك ما يقال مما يمكن أن يتعلم منه المستشرقون وصبيانهم لا لأنى أذكى منهم أو أكثر علما، وإن كان هذا جائزا، فلست بالذى يعمل فى هذا المقام على أن يبخس نفسه حقها، ولكن لأنى أبذل كل ما لدىّ من جهد رغم أنى فى الظروف التى أنا فيها الآن لا أملك من المراجع ولا أدوات البحث ما يجده هؤلاء تحت أيديهم، فضلا عما أُحِسُّه فى أعماق ضميرى من الرغبة الحارقة المخلصة للوصول إلى برد اليقين. وعلى هذا فقد أخذت أنقّب بحثًا عن شواهد من خارج القرآن توضح ما أقول، لا لأنى أرى أن القرآن يحتاج لما يعضده (فقد شرحت كيف أن القرآن، حتى لو قلنا إن محمدا هو مؤلفه...إلخ، لا يمكن أن يكون محل شك عند من له مُسْكة من عقل)، بل لمزيد من التوضيح ونزولا إلى مستوى من نناقشهم. فقد قرأنا مثلا أن والدة الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان لم تكن تطمئن إلى ما يفتيها به، إذ كانت رغم كل شىء تنظر إليه على أنه ابنها لا ذلك العالم العملاق، فكانت تقصد أحد تلاميذه ممن تظن أن عنده من العلم ما ليس عند ابنها، وكان هذا يحرج التلميذ إحراجا شديدا. وهو نفسه ما يقاسيه بعضنا عندما يسألنا أحد أولادنا فى المرحلة الابتدائية أو الإعدادية مثلا عن شىء فى تخصصنا فنجيبه بما لم يسمع به فى المدرسة، فينظر إلينا فى تشكك ويأبى أن يقتنع ظنًّا منه أن الكتاب المدرسى والمدرس الذى يدخل عليهم الفصل فيقومون قياما على أمشاط أرجلهم وهم صامتون لدرجة أنك لو رميت الإبرة لَرَنَّتْ لا يمكن أن يخطئا، بل المخطئ هو بابا الذى يراه فى مباذله فى البيت أمامه ليلا ونهارا، ولا يوجب له نظامُ المنزل أن ينتصب له عند دخوله عليه واقفا أو يصمت فلا يتكلم.
وعلى ذلك فإننى أسوق الشواهد الشعرية التالية التى جاء فيها المعدود مجموعا لا مفردا، أو مقطوعا لا متصلا، أو الاثنين كليهما، فمن ذلك قول علقمة الفحل:
فكان فيها ما أتاك وفى تسعين أسرى مقرنين وصفد
وقول عمرو بن كلثوم:
رددت على عمرو بن قيس قلادة ثمانين سُودًا من ذُرَى جبل الهضب
وقول ربيعة بن ضبع الفزارى:
إذا عاش الفتى مائتين عامًا فقد ذهب اللذاذة والفتاءُ
وقول عمر بن أبى ربيعة:
أَبْرَزُوها مثلَ المهاة تَهَادَى بين خمسٍ كواعبٍ أترابِ
وقول السيد الحِمْيَرى:
ثلاثة آلافٍ ملائك سلّموا عليه فأدناهم وحَيّا ورحَّبا
وقول الوليد بن يزيد:
بَينَ خَمسٍ كَواعِبٍ أَكرَمُ الجِنسِ جِنسُها
وقول أبان اللاحقى:
يُجْرِى على أولاده خمسةً أرغفةً كالريش طيارة
وقول ابن المعتز:
وأجّلونى خمسةً أياما وطوّقونى مثلكم إنعاما
وقول ابن أبى الحديد:
عام ثلاث ثم أربعينا من بعد ستمائةٍ سنينا
وقول إبراهيم الحضرمى:
وخمس مثين بعد خمسين درهما
وقول أحمد بن مأمون البلغشى:
من عام خمسة وأربعينا بعد ثلاث عشرةٍ مئينا
وقول أحمد بن على بن مشرف:
إلى ثلاثمائةٍ سنينا يخادعون الله والذينا(/29)
ومضِيًّا فى سياستى فى النزول على شرط الخصم وعقليته أُضِيفُ، إلى ما سبق، الشواهد التالية مما يسمَّى: "الكتاب المقدس"، وقد يبدو ذلك غريبا، فلهذا أكرر هنا ما قلته من قبل من أننى أربأ بالقرآن أن يكون أى شىء آخر حاكما عليه، إلا أن المسألة لا تتعلق بى، بل بخصوم سخفاء لا يعجبهم العجب. لهذا رأيت أن أستشهد بالكتاب المقدس، فهو كتاب نصرانى كتبه نصارى، ومن ثم لا يمكن أن يقال إنهم يقلدون أسلوب القرآن أو يريدون الدفاع عنه. جاء فى الترجمة الكاثوليكية التى راجعها ونقّح أسلوبها الأديب والعالم اللغوى الشهير الشيخ إبراهيم اليازجى، الذى كان يتشدد فى مسألة السلامة اللغوية تشددا مرهقا: "هذه عشائر القهاتيين بإحصاء كل ذكرٍ من ابن شهر فصاعدا ثمانية آلافٍ وستمائةٍ قائمون بحراسة القدس" (العدد/ 4/ 28)، "وإخوتهم ورؤوس بيوت آبائهم ألفٌ وسبعمائةٍ وستون جبابرةُ بأسٍ لعمل خدمة بيت الله" (أخبار الأيام الأول/ 9/ 13)، "ومن الحبرونيين حَشَبْيا وإخوتُه ألفٌ وسبعمائةٍ ذوو بأس" (أخبار الأيام الأول/ 26/ 30)، "وإخوته ألفان وسبعمائةٍ ذوو بأس" (أخبار الأيام الأول/ 26/32)، وفى الترجمة اليسوعية: "فجعل منهم سبعين ألف حمّالٍ وثمانين ألف قطّاعٍ على الجبل وثلاثة آلافٍ وكلاءَ لتشغيل الشعب" (أخبار الأيام الثانى/ 2/ 18). والآن ماذا يا ترى يمكن أن يقول د. أركون؟ أيرى أنه يتبع فعلا منهجا علميا صارما ومتقشفا كما يلحّ ويكرر دون أن يمل حتى مللنا مللا شديدا من هذا التنفج الكاذب؟ إن الرجل لا يكلف نفسه أن يتعب قليلا للتثبت مما يرمينا به من كل مصيبة علمية وأختها. إنه ما إن يقع على أى شىء يحسب أن فيه إساءة للإسلام حتى يطير به فرحا، ولا أحب أن أصادر حقه فى هذا الفرح، فكل إنسان وما اختار لنفسه، لكنى أحب أن أُسِرّ إليه بنصيحة لعلها تنفعه إن أراد أن ينتصح وينتفع: ألا وهى التثبت مما يقول، ثم فليؤمن بعد ذلك بالقرآن ومحمد عليه السلام أو لا يؤمن، فهذه مسؤوليته هو. والذى أغضبنى هنا ليس أنه لا يؤمن بإلاهية المصدر القرآنى، بل عدوانه الأثيم على الحقيقة العلمية دون أن يطرف له جفن!
على أن د. أركون لا يقف عند هذه النقطة، بل يضيف شيئا آخر يظن أنه يستطيع به أن يسىء إلى النص القرآنى، وهو الابتهاج بما صنعه بلاشير بالآيات من 9 إلى 25، إذ زعم هذا الـ"بلاشير" أن السورة قد خضعت لتحويرات أخرى بعد أن اكتشف أن الآيات المذكورة ينبغى أن يعاد النظر فى ترتيبها، بل إنه رتبها فعلا، فجعل مجموعة الآيات من 9 إلى 16 مضافًا إليها الآيتان 24- 25، ومجموعة الآيات من 13 إلى 16 عبارة عن روايتين لشىء واحد، أى أنهما نصٌّ واحد أُورِدَ بروايتين مختلفتين. وهو ما يعنى أن إحدى المجموعتين زائدة لا لزوم لها (Blachere, Le Coran, Librairie Orientale et Americaine, Paris, 1957, PP. 318- 319. وهذه النسخة التى معى الآن من تلك الترجمة كانت تخص المستشرق البريطانى هاملتون جب، ثم انتقلت ملكيتها إلىّ فى يوليه 1982م. وقد وصلتنى اليوم صورة من صفحاتها التى تحتوى على نص ترجمة سورة "الكهف". ويجد القارئ كلام أركون فى ص 148 من كتابه "القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى"). من الذى أفتى لبلاشير بهذا؟ لا أحد بالطبع إلا شيطان السخف الاستشراقى الأثيم! وهَبْه كان مقتنعا فعلا بهذا الذى يزعم، أولم يكن ينبغى أن يورد النص القرآنى كما هو بما وقع فيه من عبث أو اضطراب على حسب أوهامه، ثم فَلْيُعَلِّقْ فى الهامش بما يعنّ له؟ لكن هذا ليس هو المراد، ولن يحقق له أهدافه الإبليسية، فالمقصود هو إيقاع الشك والارتياب فى النص القرآنى لإفقاده قدسيته وجلاله فيتعود القارئ على أن يتعامل معه على أنه نص عادى من النصوص التى يصنعها البشر بما يمكن أن يصيبه ما يصيب أى نص بشرى من عبث ونسيان وإضافة وحذف وتقديم وتأخير...إلخ. وهذا الهدف لا يتم على الوجه الناجع إلا إذا تقدم أحدهم ونفذه على أرض الواقع، ولم يكتف بالكلام النظرى الذى لا يمكن أن يكون فى قوة التطبيق العملى.(/30)
إن هذا الصنف من المستشرقين ليس له من عمل إلا التشكيك فى كل ما يتعلق بالإسلام والقرآن، حتى إنهم ليشككون مثلا فى نسب الرسول عليه السلام زاعمين أن "عبد الله" ليس أباه، بل هو مجرد اسم معناه: "إنسان" على اعتبار أن كل إنسان هو "عبد الله"، أى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن له أب معروف، فلذلك قيل إنه ابن عبد من عباد الله، بما يعنى أنه "ابن رجل"، والسلام. أما مَنْ هذا الرجل؟ فلا أحد يعرف! تالله إن من يقول هذا عن رسول الله إنما هو "مَرَة مِنْ ظَهْر مَرَة"! (مع احترامى الشديد للجنس اللطيف الذى لايمكن أن يدور فى بالى الإساءة إليه بحال، بل هو مجرد تعبير مجازى مغروس فى "المخيال" الشعبى أستعين به لغرض فنى ولإتاحة الفرصة لنفسى كى أتفيهق أنا أيضا، ولو مرةً فى العمر، بكلمة "مخيال"). ومن هذا الوادى أيضا قول مستشرق آخر إن خطبة الجمعة كانت بعد ركعتَىِ الصلاة كما هو الحال فى صلاة العيدين،، ثم أصبحتْ فى العصر الأموى قبلهما. ومنه كذلك زَعْمُ ثالثٍ أن عبد الملك بن مروان قد بنى قبة الصخرة كى يستعيض بها الحجاج الأمويون عن الحج، الذى يستلزم الذهاب إلى الحجاز حيث يبسط ابن الزبير نفوذه، ومن ثم يمكنه أن يؤثر فى ولاء حجاج الشام إذا ذهبوا إلى هناك. ومنه زَعْم هذا الأعمى البصر والبصيرة، متابعةً منه لكايتانى، أن "سدرة المنتهى" ليست شجرة سماوية، بل شجرة فى أطراف مكة، وأن "جنة المأوى" دارةٌ (فيللا) هناك. ألا ما أعجب هذا العلم الخارج من أستاه المستشرقين! هل من المعقول أن أى مستشرق تنبض فى استه فكرة ما تنغّص عليه توازنه وراحة باله لا يجد لها من حل إلا الافتراء على القرآن والزعم بأن هذه الآية أو تلك كان مكانها هناك، لكنها نُقِلت إلى هنا؟
وبالمناسبة فإن ما يقوله بلاشير، ويردده خلفه أركون، ليس له أى أساس من الصحة، لكنها السخافة الاستشراقية التى يدَّعى أركون أن منهجه يتخطاها، ثم يتضح أنه ليس إلا تقليدا لها! وهاتان هما المجموعتان المشار إليهما من آيات سورة "الكهف"، أضعهما تحت بصر القارئ كى يرى بنفسه الرقاعة الاستشراقية: "أم حسبتَ أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا؟/9* إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا: ربنا، آتنا من لدك رحمة وهَئِّ لنا من أمرنا رشدا/10* فضربنا على آذانهم فى الكهف سنين عددا/11* ثم بعثناهم لنعلم أىُّ الحزبين أَحْصَى لما لبثوا أمدا/12* ولبثوا فى كهفهم ثلاثمائةٍ سنين وازدادوا تسعا/ 24* قل: الله أعلم بما لبثوا. له غيب السماوات والأرض. أَبْصِرْ به وأَسْمِعْ! ما لهم من دونه من ولىٍّ، ولا يشرك فى حكمه أحدا/25" (مج 1) - "نحن نقصّ عليك نبأهم بالحق. إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى/13* وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا: ربُّنا ربُّ السماوات والأرض. لن ندعو من دونه إلها. لقد قلنا إذن شططا/14* هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة. لولا يأتون عليهم بسلطانٍ بيِّن؟ فمن أَظْلَمُ ممن افترى على الله كذبا؟/15* وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فَأْوُوا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهئِّ لكم من أمركم مِرْفَقا/16" (مج2). والآن أيمكن أن يكون لهذا الكلام التافه أية قيمة؟ أويمكن أن المجموعتين كانتا، كما يفترى هذا الأعجمى الخبيث، نصًّا واحدًا لكنه ورد بروايتين مختلفتين؟ ومع ذلك فإن أركون يبتهج به ويشمت رافعا ذيله تيهًا وعُجْبًا! إن كلا من النصين يتناول الموضوع من زاوية مختلفة ويورد تفاصيل مختلفة عما ينظر منه ويورده الآخر، وهذا من الوضوح بمكان إلا بالنسبة لمن أعمى الله قلبه وجعل على بصره غشاوة، فهو لا يهتدى للحق سبيلا!(/31)
وبالنسبة للقصص الثلاث التى تحتوى عليها سورة "الكهف" يقول أركون إنها "مغروسة عميقا فى الذاكرة الجماعية العتيقة للشرق الأوسط" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 151)، ومعنى هذا، مرة أخرى، أن القرآن ليس إلا النتاج المخيالى للبيئة التى ظهر فيها على عكس ما يتوهم المفسرون التقليديون الذين يرى سيادته أن منهجهم لا يصلح لتناول القرآن (ص153، 154- 155، 162). وهذا تدليس علمى على أخيب طراز. لماذا؟ لأن القرآن لم يورد هذه القصص الثلاث ابتداءً، بل أوردها ردًّا على التحدى الذى وجهه كفار قريش إلى الرسول بناءً على تحريض من أحبار اليهود، الذين قالوا لهم إن بإمكانهم أن يحرجوه بسؤاله عن أبطالها، على اعتبار أنه لن يعرف كيف يجيب على هذا التحدى، إذ لا علم له بهذه القصص الثلاث. فما معنى هذا؟ معناه أن أحبار اليهود كانوا متأكدين أن محمدا ليس عنده أى علم بهؤلاء الأشخاص، وأن قريشا نفسها لم تكن على علم بهم، وإلا لقالوا لليهود إن ذلك من تراثنا، ومن ثم فسوف يكون بمستطاع محمد الإجابة على السؤال فلا يحصل المراد من التحدى، ألا وهو تكذيبه فى قوله إنه يتلقى الوحى من السماء. أليس هذا هو ما يُفْهَم بكل جلاء من التحدى؟ ثم ينبغى ألا يفوتنا أن الوفد القرشى الذى ذهب إلى يثرب لمقابلة أحبار اليهود فى هذا الشأن كان مكونا من النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط، أو على الأقل كان النضر وعقبة على رأسه، وهذا موجود فى النص الذى نقله د. أركون عن الطبرى (ص157). ونحن نعرف أن النضر كان يتهم الرسول بأنه إنما يقص فى قرآنه أساطير الأولين، وعلى هذا فإن النضر لا بد أن يكون حريصا على ألا تكون الأسئلة التى يعود بها من يثرب هى من أساطير الأولين التى يمكن أن تطولها يد محمد. أما قول أركون إن هذه الحكايات الثلاث كانت مغروسة بعمق فى الذاكرة الجماعية العتيقة لشعوب الشرق الأوسط، فهو كلام فارغٌ أفرغُ من فؤاد أم موسى! لو كان ما يزعمه أركون صحيحا ما فكر أحبار اليهود الخبثاء أن يحرّضوا قريشا على تحدى الرسول بهذا السؤال، فالإنسان لا يقدم على مثل هذا التحدى الخطير إلا وهو موقن أن الخصم لن ينجح فى الجواب. أليس ذلك كذلك يا بروفيسير؟ وهب أن هذه النقطة قد فاتت اليهود، وهم أخبث أهل الأرض فلا يمكن أن تفوتهم، أفكانت تفوت مشركى قريش؟ وعندنا أيضا الشعر الجاهلى، وهو يخلو من الإشارة إلى أى من الحكايات الثلاث. ثم كيف نفسر تحير المفسرين فى شرح معنى "الرقيم"، وفى تحديد مكان الكهف، وفى معرفة الشخصية الحقيقية للعبد الصالح بل لموسى نفسه، وفى التعرف على مواضع البلاد التى بلغها ذو القرنين والأقوام الذين قابلهم... إلخ؟ كل هذا يجعلنا نلقى بنظرية "المخيال الجماعى" أو "الذاكرة الجماعية لشعوب الشرق الأوسط" فى القُمَامة، وضمائرنا مطمئنة. على أن د. أركون، عندما يدَّعِى أن محمدا قد استمد هذه القصص الثلاث من تراث البيئة التى ينتمى إليها، إنما يردد هنا أيضا مايقوله المستشرقون، الذين لا يكفّ أبدا عن التنفج بأن منهجه يتجاوز مناهجهم ويصل إلى نتائج لا يستطيعون أن يتوصلوا إليها بهذه المناهج. فهذا هو كاتب مادة "Ashab al-Kahf: أصحاب الكهف"، فى الطبعة الثانية من "Encyclopaedia of Islam"، يقول إن "محمدا قد ألمَّ بهذه الحكاية وكثير غيرها من الحكايات ذات الأصول اليهودية والنصرانية، ثم تمثَّلها واتخذ منها فى القرآن أداة للتربية الأخلاقية".(/32)
وأخيرا نختم بهذه الطرفة الأركونية: فبروفيسيرنا، بعبقريته البديعة التى لم تأت بمثلها ولاّدة، يتصور أن القرآن، عندما يقول: "إنما مَثَل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تَذْروه الرياح" إنما يريد أن يشبه سرعة زوال الحياة الدنيا بسرعة زوال المطر (ص149). فانظر بالله عليك إلى الرجل: كيف يتصدى لمناطحة القرآن، وهو لا يستطيع أن يعرف الطرف الثانى من التشبيه فى هذه الصورة البلاغية؟ إن المشبَّه به ليس هو الماء النازل من السماء، بل هو نبات الأرض الذى سيؤول رغم كل شىء فى النهاية إلى هشيم! أما ذِكْر ماء السماء فى الآية فلأنه هو الذى يساعد البذور على النمو ويخرجها من باطن الأرض نباتًا يغزر ويملأ الأراضى والحقول! ليس ذلك فحسب، بل إنه ليُقَوِّل كتابَ الله ما لم يقله، إذ يزعم أن "القرآن يلحّ فى أكثر من مكان على أهمية اللغة العربية ومزاياها من أجل التركيز على تمايزه واختلافه قياسا إلى الوحى السابق عليه" (الإسلام- الغرب- أوربا/ 80). ويجد القارئ هذه التقولات الكاذبة أيضا فى كتابه: "تاريخية الفكر الإسلامى" (مركز الإنماء القومى ببيروت، والمركز الثقافى العربى بالدار البيضاء وبيروت/ 1998/ 69)، حيث نقرأ أن مسألة "المكانة المتميزة والخاصة للّغة العربية بالقياس إلى اللغات الأجنبية...غالبا ما وردت فى القرآن. ذلك أنه كان من الضرورى تبرير اختيار اللغة العربية لنقل الوحى إلى البشر من دون سواها، ثم البرهنة على فكرة إعجاز النص القرآنى وعدم قدرة البشر على تقليده أو الإتيان بمثله". ترى أين نجد ذلك فى القرآن؟ إن كل ما يمكن أن يفكر الإنسان فيه فى هذا السياق هو وصف القرآن لنفسه بأنه قد نزل "بلسان عربى مبين"، ومعناه أن أسلوبه هو أسلوب عربى كله جلاء ووضوح.
فالكلام، كما نلاحظ، عن أسلوب القرآن لا عن تميز اللغة العربية وتسويغ انتقائها لغةً للوحى القرآنى! أرأيت، أيها القارئ الكريم، كيف أن د. أركون، أستاذ تاريخ الفكر الإسلامى، يجهل المضمون القرآنى إلى هذا الحد، ثم هو يتنفج مع ذلك على المفسرين والمفكرين المسلمين نافشا ريشه عليهم. ثم إنه، بعد ذلك كله، لا يترك المفسرين المسلمين فى حالهم رغم عجزه الفاضح عن مساماتهم، بل يتنقص منهم ويفترى عليهم المفتريات المضحكة، إذ يزعم أنهم، حين يتناولون القرآن بالتفسير، يعتقدون أنهم إنما يعبرون عن مقصد الله على نحو متطابق. وهذا واضح، حسب كلامه، فى أن الطبرى، بعد أن يورد الآية التى يتناولها بالتفسير، يضيف الكلمتين الآتيتين: "يقول الله تعالى:..."، ثم يضع نقطتين على السطر، ويذكر تفسيره للآية على أساس أن ذلك هو مقصد الله، غير واع أن ما يقوله إنما هو مجرد تأويل من التأويلات التى تقبلها الآية (الفكر الإسلامى- نقد واجتهاد/235- 236،291- 292). ووجه الافتراء هنا أن مفسرينا، على الضد من ذلك، كانوا واعين تماما أن ما يقولونه لا يعدو أن يكون مجرد اجتهاد. وهذا واضح من أنهم، بعد قولهم كلمتهم فى تفسير الآية، يردفونه عادة بقولهم: "والله أعلم". ومعروف عن الطبرى، الذى حظى بالنصيب الأكير من هجوم أركون، أنه كان يورد أولا كل الأقوال فى النقطة التى يتناولها فى الآية، سواء كانت لغوية أو تشريعية أو خاصة بأسباب النزول، ثم يوازن بينها قبل أن يقول كلمته هو، التى يقدم لها بالعبارة التالية: "وأولى الأقوال عندى بالصواب قول من قال كذا وكذا" أو ما يشبهها. فأين التعصب الذى يدعيه أركون عليه والاعتقاد بأن ما يقوله هو مقصد الله على وجه التطابق؟ أما القرطبى فهو، بعد إيراده الآراء المختلفة فى الآية، يعقب فى الغالب قائلا: "والرأى الفلانى أصح". كما يقول عادة: "فإن صحَّ هذا فيكون الأمر كذا وكذا"، أو "والله الموفق للصواب"، أو "والله أعلم"، بما يفيد أن المسألة لا تعدو عنده الترجيح بشروطه لا أكثر، وهو ما يكذِّب دعوى أركون على المفسرين القدماء وينسفها من جذورها، وإن لم يعن هذا أنهم لم يكن لهم موقف أو رأى خاص يتمسكون به ويناضلون دونه ويرَوْن أنه هو الرأى الأفضل، إذ إن هذه طبيعة بشرية فينا جميعا. لكن هذا شىء، والزعم بأنهم كانوا يظنون أن ما يقولونه فى تفسير الآية هو مقصد الله سبحانه، وأنهم قد احتكروا الحقيقة المطلقة، شىء آخرمختلف تمام الاختلاف!(/33)
وقد أشار د. أركون إلى شىء من هذا حين كان يتكلم عن الرازى ومحاولته العثور على الصلة التى تربط الآية التاسعة من سورة "الكهف" بالآيات التى سبقتها، إذ قال: "أما المفسر فخر الدين الرازى فيقترح وجود تمفصل مع الآية السابقة، ولكنه يبدو غير واثق تماما فيضيف قائلا: والله أعلم" (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 148). كذلك يدَّعى زورا وبهتانا أنهم لم يتنبهوا إلى أن فى القرآن مجازا واستعارات، وأنهم جميعا، من سنة وشيعة وإباضية...، كانوا يأخذون "كلام النص على حقيقته وكأنه خالٍ من المجاز. هذا فى حين أننا نعلم أن النص الدينى ملىء بالمجاز، بل وينفجر بالمجازات والاستعارات الخارقة والرائعة" (الإسلام- أوربا- الغرب/ 192). والواقع أن من الصعب علىّ أن أعرف عن أى مفسرين يتكلم د. أركون، فالمعروف أنهم كلهم تقريبا يفسرون آيات الجوارح الإلهية على أنها من باب المجاز، فما بالنا بالآيات التى لا تتعلق بهذا الموضوع ولا تثير أية حساسية فى تحليلها مجازيا؟ ومرة أخرى نرى أركون يناقض نفسه فى موضع آخر قائلا عن "المجاز" إنه "قد دُرِس كثيرا بصفته أداة أدبية لإغناء الأسلوب فى القرآن وتجميله"، وإنْ أضاف أنه "لم يُدْرَس أبدا فى بعده الإبستمولوجى بصفته محلا ووسيلة لكل التحويرات الشعرية والدينية والإيديولوجية التى تصيب الواقع" (تاريخية الفكر العربى الإسلامى/ 98)، فضلا عن اعترافه بأن من المفسرين من كان يتناول القرآن تأويلا رمزيا باطنيا فى مقابل من يأخذونه على ظاهره وحرفيته (الإسلام- أوربا- الغرب/193).
وفى النهاية أُحِبّ أن أؤكد أننى لا أعادى العلوم الجديدة كما قد يظن خطأً بعض من يقرأ هذه الدراسة لما يجده فيها من تهكمات على البروفيسير أركون فيحسب أنى أتهكم على تلك العلوم. والواقع أنى إنما أتهكم على من يظنون أن هذه العلوم هى فكرٌ مقدسٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبخاصة إذا تسرعوا فى تطبيقها على النص القرآنى متصورين أن كلمتها حاسمة فى هذا الموضوع لا ينبغى أن تناقَش، فضلا عن أخطائهم القاتلة فى التطبيق نتيجة لضعف إحاطتهم بالقضايا التى يناقشونها ولما دخلوا به الحَلْبة من موقفٍ مسبقٍ وهوًى فاشٍ غلابٍ لا يخفى على كل من له عينان! كذلك لست أنا بالذى يضيق بمناقشة النص القرآنى، وإلا لتجاهلت ما كتب الرجل وأمثاله ممن يعملون على التشكيك فى كتاب الله من مستشرقين ومبشرين وتابعين لهم من أبناء الإسلام الناشزين عليه ولما قارعت شبهاتهم بحججى شبهةً شبهةً لا أجمجم ولا أورِّى ولا أنادى أبدا بوجوب الابتعاد بالنص القرآنى عن المناقشة أو حتى التشكيك، بل أرهق نفسى وأغوص هنا وهناك فى كل المصادر والمراجع التى تتصل بالموضوع، مع عدم الرضا فى نهاية المطاف عما فعلتُ لمعرفتى أننى، مهما صنعتُ، فلن أوفى الموضوع حقه من البحث والجلاء. إن كاتب هذه السطور، على العكس من ذلك، يجد لذة عجيبة ورائعة فى قراءة مثل هذه الكتابات، إذ أراها فرصة لمراجعة نظرتى السابقة إلى ما أومن به لعلى أرى شيئا جديدا أضيفه لعلمى أو اقتناعى... إلخ، فضلا عن أنها تحرك منى العقل، وحركةُ العقل عند من يعرفون قيمة هذه النعمة الإلهية لا يمكن تقديرها بمال! ولعل القارئ يرى الفرق بين الطريقة التى يتبعها د. أركون وتلك التى أتبعها أنا، فهو فى كثير من الأحيان يلقى بحُكْمه لا يبالى أين يقع ولا كيف، ودون أن يكلّف نفسه إقامة الدليل على ما يقول أو الرجوع إلى أهل الاختصاص ليسترشد بما قالوا، بل دون أن يهتم مثلا باستنطاق المعاجم أو الاستعانة بالشواهد. وهذا ما يزعجنى فى كتاباته. إنها كتابات متسرعة لا ترفدها قراءات واسعة وعميقة بالرغم من الشقشقات الفارغة بأسماء العلوم ومصطلحاتها مما يحسب أنه يلقى الرهبة فى قلوب قرائه من أبناء العرب الذين يمثلون التخلف فى نظره لعدم انسياقهم معه وراء مايهرف به الغربيون فى ديننا وكتابنا، وفوق ذلك فهى كتابات منفوخة غرورا جَرّاء إحساسٍ حادٍّ ومتضخمٍ بالذات قائم على غير أساس كما أَثْبَتُّ فى هذه الدراسة! أما العلوم الجديدة فمرحبا بها وأهلا وسهلا، على أن نظل مفتَّحى الأعين والعقول والقلوب قلا نتحول إلى عبّاد لها كأننا وثنيون فى معبد أصنام.(/34)
لقد وقفتُ مثلا ضد ما كان د.محمد مندور قد كتبه فى بداية أربعينات القرن الماضى داعيًا إلى إبقاء النقد الأدبى بعيدا عن العلوم، وبخاصة علم النفس، الذى قال إن نتائجه غير نهائية ولا تنطبق على المتميزين من البشر كالأدباء مثلا، علاوة على أن محاولة تطبيقه فى ميدان النقد الأدبى معرَّضة للخطإ. وكان رأيه أن النقد لا ينبغى أن يستند إلى أى شىء سوى الذوق الأدبى، الذى أكد أنه لا يمكن اكتسابه على نحو مُرْضٍ إلا من خلال قراءة النصوص الأدبية. أما أنا فقد قلت إن النقد الأدبى يحتاج، فوق هذا، إلى أن نتذرع له بكل ما يمكننا تحصيله من علوم ومعارف، وأضفت أنى، رغم موافقتى للدكتور مندور على إمكانية الوقوع فى الخطإ عند تطبيق نتائج علم النفس على الأدب ونصوصه، أرى أن ذلك لا ينبغى أبدا أن يخيفنا، فهذه طبيعة الحياة، لا فى مجال النقد الأدبى فقط، بل فى كل المجالات، إذ لا بد أن تقع الأخطاء مهما احترزنا وأخذنا كل الاحتياطات اللازمة. ومع أنى كنت شديدا فى محاسبة أحد الأطباء النفسيين الذين أخطأوا فى تطبيق بعض مُعْطَيَات علم النفس على شِعْر المتنبى فقد ظللت على رأيى المبدئى فى وجوب الاستعانة بعلم النفس وغيره من العلوم فى مجال النقد رغم ذلك. ويجد القارئ الكريم كل هذا فى مفتتح الفصل الثالث من كتابى "مناهج النقد العربى الحديث"، وهو الفصل الخاص بـ"المنهج النفسى" (مكتبة زهراء الشرق/ 2004م/ 79 وما بعدها).(/35)
الموازنة بين السنة والرافضة
المحتويات
مقدمة
القرآن الكريم
الحديث الشريف
الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين
عقيدة التوحيد
الغيب
ما موقف الخميني؟
الخميني يكفر بالقرآن والسنة والإجماع
نداء إلى علماء الإسلام
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد فهذه نبذة مختصرة مقتبسه من بعض ما تعتقده الشيعة وما تدين به من دين، والقصد منها إظهار ما تبطنه الشيعة وما يسمونه بالتقية عندما يناقشهم مناقش فيظهرون له غير ما يبطنون من شر وانحراف عن الصراط المستقيم، يقابل ذلك ما يعتقده أهل السنة والجماعة وما يدينون الله به مع استعدادهم لقبول الحق والرجوع إليه، وبعد اطلاعك أيها القاريء على اعتقاد كل من الطرفين تستطيع بما وهبك الله من عقل أن تعرف أيهما على الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال..والله المستعان.
القران الكريم
أهل السنة:
متفقون على صحة القرآن الكريم وسلامته من الزيادة والنقصان ويفهم طبقا لأصول اللغة العربية وهم يؤمنون بكل حرف منه وأنه منزل غير مخلوق وهو المصدر الأول لكل عقائد وتشريعات المسلمين وأنه محفوظ بحفظ الله له.
الشيعة:
يطعنون بالقرآن الكريم ويشككون في صحته وذلك عند أكثرهم وإذا اصطدم بشيء من معتقداتهم يؤلونه تأويلات عجيبة، وكلام أئمتهم في مصادر التشريع عندهم المعتمدة لديهم أكثر من القرآن الكريم ومن أوامر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
أهل السنة:
عند أهل السنة الحديث هو المصدر الثاني للشريعة والمفسر للقرآن الكريم ولا تجوز مخالفة حديث صحيح منسوب للنبي صلى الله عليه وسلم. وكل الصحابة الذين صحبوا الرسول عليه الصلاة والسلام سواء من الرجال أو النساء ووثقت أحاديثهم فهم كلهم سواء عدول ثقات رضي الله عنهم أجمعين.
الشيعة:
لا تعتمد إلا على الأحاديث المنسوبة لآل البيت (بيت الرسول صلى الله عليه وسلم). ويرفضون ما سوى ذلك ولا يهتمون بصحة السند ويطعنون بأئمة الحديث كالبخاري ومسلم وغيرهما ولذلك أنكروا أغلب سنة النبي صلى الله عليه وسلم والمروية عن الصحابة من غير آل البيت لبغضهم لهم وقذفهم إياهم حتى وصل بهم الأمر إلى تكفير كبار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين
أهل السنة:
يحب أهل السنة جميع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الذين صحبوه وهم مؤمنون به ويترضون عنهم ويحترمونهم. ويعتقدون أنهم كلهم عدول فضلاء كرام ويعتبرون ما شجر بينهم من خلاف وغيره من قبيل الاجتهاد ومعروف أن المجتهد إذا اجتهد وأخطأ فله أجر بل إنهم رضي الله عنهم هم الذين قال الله فيهم خير ما قال في أمة فلا يحل لأحد من الناس بعد ذلك أن يتهمهم بشيء إذ قد مضوا ولا مصلحة في سبهم بل المطلوب هو الترحم عليهم والترضي عنهم نسأل الله أن يرضى عنهم ويجزيهم عن الإسلام خير الجزاء. أما عن علي بن أبي طلب رضي الله عنه فأهل السنة يعتقدون أنه أول من أسلم من الصبيان وأن الله قد أكرمه بالإسلام مبكراً ثم بمصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه رابع الخلفاء ومشهود له بالجنة ثم أكرمه الله بالشهادة. فرضي الله عن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهم.
الشيعة:
يرى الشيعة أن الصحابة قد كفروا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم بما في ذلك أبي بكر وعمر وعثمان ومن بشره الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة. فالكل قد كفروا وارتدوا عن الإسلام إلا عدد قليل يعد على أصابع اليد الواحدة ويضعون على بن أبي طالب رضي الله عنه في مكانة خاصة الخاصة.
فبعضهم يراه وصياً وبعضهم يراه نبياً وبعضهم يراه إلهاً. ثم يحكمون على المسلمين بالنسبة لموقفهم منه. ويرون أن كل من انتخب للخلافة قبله فهو ظالم أو كافر ويقصدون بذلك أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. ويعتقدون أن من خالف علي رضي الله عنه فهو كافر أو فاسق وكذلك الحال بالنسبة لمن خالف ذريته. ومن هنا أحدثوا في التاريخ فجوة هائلة من العداء والافتراء وصارت قضية التشيع مدرسة تاريخية تمضي بهذه التعاليم الضارة عبر الأجيال.
عقيدة التوحيد
أهل السنة:
يؤمن أهل السنة بأن الله هو الواحد القهار لا شريك له ولا ند ولا نظير. ولا واسطة بينه وبين عبادة. ويؤمنون بآيات الصفات كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه (ليس كمثله شيء) وأنه أرسل الأنبياء وكلفهم بتبليغ الرسالة فبلغوها ولم يكتموا منها شيئاً.
ويؤمنون بأن الغيب لله وحده. وأن الشفاعة مشروطة (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه). وأن الدعاء والنذر والذبح والطلب لا يكون إلا له سبحانه. ولا يجوز لغيره. وأنه وحده الذي يملك الخير والشر فليس لأحد معه سلطة ولا تصرف حياً كان أو ميتاً والكل محتاجون لفضله ورحمته. ومعرفة الله تجب عندهم بالشرع وبآيات الله قبل العقل. الذي قد لا يهتدي ثم يتفكر الإنسان بعقله ليطمئن.
الشيعة:(/1)
يؤمن الشيعة بالله تعالى ووحدانيته ولكنهم يشوبون هذا الاعتقاد وينقضونه بتصرفاتهم الشركية المخرجة عن الملة أحياناً.
فهم يدعون عباداً غير الله ويشركونهم معه فيقولون في دعائهم: يا علي ويا حسين ويا زينب. وينذرون ويذبحون لغير الله ويطلبون من الأموات قضاء الحوائج ولهم أدعية وقصائد كثيرة تؤكد هذا المعنى وهم يتعبدون بها ويعتقدون أن أئمتهم معصومون وأنهم يعلمون الغيب. ولهم في الكون تدبير مع الله، والشيعة هم الذين اخترعوا التصوف لتكريس هذه المعاني المنحرفة. ويزعمون أن هناك قدرة خاصة للأولياء والأقطاب وآل البيت.
الغيب
أهل السنة:
يعتقدون أن الله اختص بعلم الغيب دون أحد من خلقه وإنما أطلع أنبياءه ومن شاء من خلقه ومنهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على بعض أمور الغيب لضروريات معينة (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء).
الشيعة:
تزعم الشيعة أن معرفة الغيب من حق أئمتهم وحدهم وليس من حق النبي أن يخبر عن الغيب. ولذلك فإن بعضهم ينسب الألوهية لهؤلاء الأئمة. ويذهب بعض طوائف الشيعة إلى أبعد من هذا إذ يشركون أئمتهم مع الله في الخلق والتدبير. إذ ورد في كتابهم الكافي ص125-126: (الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا شيئاً أعلمهم الله إياه. وهم يعلمون متى يموتون ولا يموتون إلا باختيارهم وهم يعلمون علم ما كان وعلم ما يكون ولا يخفى عليهم شيء).
وكذلك يقولون أن عند الأئمة جميع الكتب التي نزلت من الله وهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها ص107 وعند الأئمة اسم الله الأعظم ص110-112.
وعندهم (أي الأئمة) الجفر وهو وعاء من أدم فيه علم النبيين والوصيين وعلم الذين مضوا من بني إسرائيل ص115، وقال أبو جعفر: أن الله علّم علمه ملائكته ورسله فما علمه ملائكته ورسله فنحن نعلمه ص113.
وقال في كتاب الوشيعة: كان الصادق يقول: إني لأعلم ما في الجنة وما في النار وأعلم كل ما كان وكل ما يكون ولو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما إني أعلم منهما ولنبأتهما بما ليس لهماص193.
كما أنهم يعتقدون أن خلق أئمتهم خلقاً آخر غير خلق البشر حتى أنه يمتاز عن خلق وإيجاد سيد الخلق نبينا محمد صلى الله عليه.
فهم يقولون عن أئمتهم إذا أراد الله أن يخلق الإمام من الإمام بعث ملكاً فأخذ شربة من تحت العرش ودفعها إلى الإمام يشربها فيمكث في الرحم أربعين يوماً لا يسمع الكلام فإذا وضعته أمه بعث الله إليه ذلك الملك فكتب على عضده الأيمن (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته).
فإذا قام بهذا الأمر رفع الله له في كل بلدة مناراً ينظر به إلى أعمال العباد ص196 والملائكة تدخل بيوت الأئمة وتطأ بسطهم وتأتيهم بالأخبار ص199.
والأئمة هم أركان الأرض أن تميد بأهلها وحجته على من فوق الأرض ومن تحت الثرى ص93-ج1.
ومنها ما ورد في كتابهم الكافي ص179-ج1:
أن الإمام مؤيد بروح القدس وبينه وبين الله عز وجل عمود من نور يرى فيه أعمال العباد وكلما احتاج إليه لدلالة اطلع عليه.
هذه نماذج من اعتقاداتهم الباطلة في أئمتهم بها يتضح للمسلم الناشد للحق وهو ضالة كل مؤمن أن القوم في واد والإسلام في واد آخر وأنهم لا يدينون دين الحق وهم الذين يتهمون القرآن بالنقص والزيادة ويكذبون الله إذ يقول (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
وهم الذين يكفّرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم. بل يطعنون ويلعنون أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبابكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين.
كما أنهم مقابل ذلك يغلون في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويخالفون آراءه ومعتقده رضي الله عنه فهو من عقيدتهم المنحرفة المشركة الضالة براء.
وسوف تجد ما ينقل إليك من كتبهم المعتمدة ماذا يقولون في علي رضي الله عنه وماذا يفترون على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى علي نفسه رضي الله عنه.
فقد ورد في كتابهم تفسير البرهان للبحراني مقدمة ص27 أن سلمان رضي الله عنه دخل على علي رضي الله عنه فسأله عن نفسه فقال: يا سلمان. أنا الذي دعيت الأمم كلها إلى طاعتي فكفرت فعذبت في النار وأنا خازنها عليهم حقاً أقول يا سلمان: أنه لا يعرفني أحد حق معرفتي إلا كان معي أخذ الله الميثاق لي فصدق من صدق وكذب من كذب. قال سلمان: لقد وجدتك يا أمير المؤمنين في التوراة كذلك وفي الإنجيل كذلك بأمي أنت وأمي يا قتيل الكوفة.
أنت حجة الله الذي تاب به على آدم (عليه السلام) وبك أنجى يوسف من الجب. وأنت قصة أيوب عليه السلام وسبب تغير نعمة الله عليه. فقال أمير المؤمنين عليه السلام أتدري ما قصة أيوب؟ (عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم).(/2)
قال الله أعلم وأنت (يا أمير المؤمنين) قال لما كان عند الانبعاث للمنطلق شك أيوب في ملكي فقال: هذا خطب جليل وأمر جسيم فقال الله يا أيوب أتشك في صورة أقمته أنا إني ابتليت آدم بالبلاء فوهبته له وصفحت بالتسليم عليه بإمامة أمير المؤمنين فأنت تقول خطب جليل وأمر جسيم فوعزتي لأذيقنك عذابي أو تتوب إلي بالطاعة لأمير المؤمنين ثم أدركته السعادة بي (أي بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه) يعني أنه تاب وأذعن بالطاعة لعلي عليه السلام.
ومن كذبهم على الله وتحريفهم للقرآن الكريم قولهم في كتابهم الصحيح لديهم كالبخاري عند المسلمين المسمى (الكليني) فقد روى عن الصومالي عن جعفر عليه السلام قال: (أوصى الله نبيه صلى الله عليه وآله "فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم" قال: إنك على ولاية علي وعلي هو الصراط المستقيم،ج2.
وذكر العياشي في تفسيره عن أبي عبدالله جعفر أنه قال: المؤمنون بعلي هم الخالدون في الجنة وإن كانوا في أعمالهم مسيئة وحب لعلي عليه السلام لا تضر معه سيئة وبغضه معصية لا تنفع معها حسنة.
وكذبوا أيضا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قالوا أنه قال: سمعت الله عز وجل يقول: علي بن أبي طالب حجتي على خلقي وثورى في بلادي وأمين على علمي لا أدخل النار من عرفه وإن عصاني ولا أدخل الجنة من أنكره وإن أطاعني.
وقد ذهب القوم إلى أبعد من هذا فأنزلوا علياً رضي الله عنه منزلة أعلى من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم الكريم صلى الله عليه وسلم بل شبهوا علياً بالله جل عما يقولون علواً كبيراً فقالوا في تفسيرهم المسمى البرهان ج2-ص404: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما عرج بي إلى السماء دنوت من ربي حتى كان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى قال: يا محمد من تحبه من الخلق قلت يارب علياً قال: التفت يا محمد فالتفت عن يساري فإذا علي بن أبي طالب عليه السلام.
بل وأكبر من هذا الافتراء فقد قالوا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم بأي لغة خاطبك ربك ليلة المعراج قال: خاطبني بلغة علي بن أبي طالب حتى قلت أنت خاطبتني أم علي؟ من كتاب كشف الغمة ج1-ص106.
فانظر أخي في الله كيف تجرأ أعداء الله وأعداء رسوله على الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم وشبهوا الله تعالى عز وجل عما يقولون بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى زعموا زوراً وبهتاناً أنه اشتبه على الرسول صلى الله عليه وسلم أيكلمه الله أم علي؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
وقالوا أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما عرج بي إلى السماء رأيت علياً وأولاده قد وصلوا إليها من قبل فسلمت عليهم وقد فارقتهم في الأرض،ص6.
ومما تقدم يظهر أن الإسلام في واد وأن هؤلاء القوم واد آخر. بل إن معتقداتهم هذه أشد مما اعتقده أبو لهب وأبو جهل إذ لم يسبقهم إلى هذه المفتريات أحد حتى فرعون الذي ادعى الربوبية لم يدع أنه صعد إلى السماء بل حاول أن يبني صرحاً.
أما موقفهم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فمعروف تقدم نموذج منه وجملته أنهم يكفرون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بل يسبونهم ويلعنونهم بما في ذلك أبوبكر وعمر وعثمان وغيرهم من كبار الصحابة رضي الله عنهم.
وكذلك زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين لم يسلمن من أذاهم ومن اتهامهم لهن بكل سوء.
حتى اجتماع الصحابة رضي الله عنهم كلهم بما في ذلك علي رضي الله عنهم عندما بايعوا أبا بكر بالخلافة لم يرق لهم ذلك واعتبروا ذلك معصية وكفراً وضلالاً أن يبايع الصحابة أبابكر رضي الله عنهم. فقد قالوا في كتابهم لسليم بن قيس ص80و81: أن علياً رضي الله عنه قال لسلمان رضي الله عنه: تدري أول من بايع أبابكر حين صعد المنبر؟ قلت لا ولكن رأيت شيخاً كبيراً يتوكأ على عصاه بين عينيه سجادة شديدة التشمين صعد المنبر أول من صعد وهو يبكي ويقول الحمد لله الذي لم يمتنِ حتى رأيتك في هذا المكان ابسط يدك فبسط يده فبايعه ثم قال: يوم كيوم آدم ثم نزل فخرج من المسجد.
فقال علي عليه السلام يا سلمان أتدري من؟ قلت لا ولكن ساءتني مقالته كأنه شامت بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال علي عليه السلام فإن ذلك إبليس إلى أن قال: "ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين".
ومما يعتقد القوم في مهديهم المنتظر أنه سوف يخرج في آخر الزمان ويسمونه القائم. وأنه سوف يحيي الموتى ومن بينهم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويخرجهما من جوار النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ويعذبهما عذاباً شديداً ثم يأمر بهما فيقتلان في كل يوم وليلة ألف قتلة ويردان إلى أشد العذاب. من كتاب الأنوار العمانية للجزائري ج2 ص86-87.
هذا ولو تتبع الإنسان جميع مفترياتهم لوجد العجب العجاب ولكن هذه نماذج من المعتقدات لدى القوم ولو بحثت في منهجهم في العبادة وفتاوى علمائهم لضحك منها الصبيان فضلاً عن العقلاء.(/3)
فمما يفتون به ويعتقدون أن الشيعة مهما علموا من المعاصي فهم للجنة وغيرهم مهما عمل من الحسنات فهم في النار وأن الله أخرج جميع خيرات الأرض للشيعة وغيرهم يأكلون حراماً وينكحون حراماً حيث ذكر هذا في الصراع بين الإسلام والوثنية( ص ز)
قال: قال في الكافي: قال الله تبارك وتعالى: لأعذبن كل رعية في الإسلام دانت بولاية كل إمام جائر ليس من الله وإن كانت الرعية في أعمالها بر تقية. ولأعفون عن كل رعية في الإسلام دانت بولاية إمام عادل من الله وإن كانت الرعية في أنفسها مسيئة، ص190.
والنصوص في كتب هؤلاء في تثبيت هذا البلاء متواترة فأهل السنة الموالون لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما لن تقبل منهم حسنة. والشيعة الهجاؤن لأبي بكر وعمر المؤمنين بالإمام المنتظر لن يؤاخذوا بسيئة واحدة فأظلم الشيعة صائر إلى الجنة ولا بد.
وأتقى أهل السنة صائر إلى النار ولا بد فهؤلاء لن تنفعهم الحسنات وهؤلاء لن تضرهم السيئات.
ما موقف الخميني ثائر إيران مما ذكر؟
لا يخفى على من يتتبع تصريحات وكتابات الخميني الذي هو من أصل هندي ابتليت به إيران. فالمذكور مؤمن بكل ما في كتب الشيعة ويحاول تطبيقه على من قهرهم بحكمة الظالم إذ جاء قوله في كتاب (ولاية فقيه در خصوص حكومت إسلامي) ص58:
أن من ضروريات مذهبنا أنه لا ينال أحد المقامات المعنوية الروحية للأئمة حتى ملك مقرب ولا نبي مرسل. كما روي عندنا بأن الأئمة كانوا أنواراً تحت ظل العرش قبل تكوين هذا العالم. وأنهم قالوا أن لنا مع الله أحوالاً لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل وهذه المعتقدات من الأسس والأصول التي قام عليها مذهبنا.
أما موقف الخميني من أفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم فموقف خبيث مخرج من ملة الإسلام حيث قال في كتابه كشف الأسرار ص110 وما بعدها عن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم:
"إن أبابكر وعمر وعثمان لم يكونوا خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بل وأكثر من ذلك أنهم غيروا أحكام الله وحللوا حرام الله وظلموا أولاد الرسول صلى الله عليه وسلم وجهلوا قوانين الرب وأحكام الدين".
فمن يعتقد هذه الاعتقادات ويكذب القرآن والسنة فلا شك في كفره وإن ثار باسم الإسلام وادعى أنه مصلح وحاكم إسلامي يدعو إليه.
الخميني يكفر بالقرآن والسنة والإجماع
إذا اعتقد الخميني أو غيره من حكام إيران وغيرهم من فرق الشيعة الاعتقادات الباطلة السابق ذكرها فلا شك في كفرهم، وأخيرا إلى أولئك المغرورين بدجل وافتراء الخميني نقول لهم قد يكون معكم بعض العذر لأن علماء المسلمين قصروا في دراسة نفسية الخميني وأتباعه فلم يتعبوا أنفسهم بكشف أسراره وحياته ومنشأه إذ أنه من أصل هندي حاقد على العرب والمسلمين مدفوع من قبل الصهيونية العالمية باسم الإسلام ينادي ولمبادئه يدعو وقد خفي أمره حتى على العامة من أبناء إيران منهم بعض الشيعة والسنة على السواء.
فها هنا بكتاباته ينكر خلافة الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ويقول إنهم ليسوا خلفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم أحلوا الحرام وحرموا الحلال. سبحانك هذا بهتان عظيم.
إذا لم يعرف الحلال والحرام هؤلاء الذين هم أفضل أمة محمد بعد نبيها صلى الله عليه وسلم ومعهم علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم إذا لم يعرف هؤلاء فهل يعرفه الخميني الذي يحل القتل وهتك الأعراض. كما ذكر ذلك عنه.
إذ أصدر فتواه لحرسه الثوري بالاعتداء على بنات معارضيه وهتك أعراضهن ليؤهلن بزعمه إلى النار. حيث قال: (إن الأبكار لا تدخلن النار) فهو يريد إزالة بكارتهن ليستحققن بزعمه النار. ذكر ذلك في كتاب الثورة اليائسة.
نداء إلى علماء الإسلام
أيها العلماء هذه الأسطر تذكرة لكم لتبينوا للناس الحق وتطلعوهم على معتقدات الشيعة وما تعقدونه في ربكم وقرانكم وخلفاء رسولكم الكريم وسنته صلى الله عليه وسلم إذ أن كل معتقد لديهم فيما ذكر مخرج من الملة وهذا عند أغلب الشيعة.
أما البعض الآخر فمساكين أخفيت عليهم الحقيقة: وزودوا بمضاد قوي جداً لا يصل معه أي نداء أو توجيه وهو ما يسمونه (بالتقية).
فهلموا لإظهار الحق وبيانه للناس وكشف أسرار القوم وما لديهم من معتقدات وما يريدونه للعالم الإسلامي سيما العربي منه من قتل ودمار واستيلاء على مقدساته وخيراته وتعاون وثيق مع أعداء الأمة الإسلامية ولا سيما اليهود لتدمير معالم الإسلام. ويأبى الله إلا أن يتم نوره ويحفظ هذا الدين ويظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
أسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين وأن يوحد كلمتهم على الحق وأن يكبت أعداءهم ويفرق كلمتهم. آمين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
(مسلم يرجو عفو ربه)
المصادر
1- الشيعة وأهل البيت للشيخ إحسان إلهي ظهير
2- الشيعة والتشيع للشيخ إحسان إلهي ظهير
3- الصراع بين الإسلام والتشيع لعبدالله القصيمي
4- الخطوط العريضة لمحب الدين الخطيب(/4)
الموالد بين نابليون بونابرت وجورج بوش
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد ..عندما قامت أمريكا بحملتها الصليبية الظالمة على أفغانستان وحركة طالبان كانت تهدف في المقام الأول إسقاط الحكم الإسلامي والنبتة الإسلامية الوليدة بهذا البلد المسلم لتجهض المشروع الإسلامي المرشح للتطبيق والتنفيذ في غيرها من البلاد الإسلامية ولحكمة يعلمها الله عز وجل وبجيل من الناس استطاعت أمريكا تنحية حركة طالبان عن الحكم ووضعت حكومة عميلة يقودها أفغاني المولد أمريك المنشأ والمشرب فهو 'قرضاي' , حتى هنا لا عجب لكن العجب الذي رأيناه وسمعناه عبر وكالات الأنباء هذه الفرحة الغامرة والرنة الشديدة عند الطرق الصوفية البدعية والتي كانت ترتع في أرض أفغانستان قبل مجيء حركة طالبان حيث كانت المزارات والأضرحة والموالد الصوفية وخرافات الأولياء لها دولة عظيمة وسطوة نافذة وسوق رائجة عند أهل البلد فلما جاء الحكم الإسلامي القويم عطل كل هذه المشاهد وأوقف كل الاحتفالات البدعية وقامت السنة وخمدت البدعة , فماذا حدث عند مجيء الصليبيين الأمريكان ؟كان أول ما قاموا به فتحوا المزارات والأضرحة وسمحوا للموالد أن تقام وروجوا لها , يقول أحد شيوخ الطرق واسمه 'صوفي محمد' وهو في الستين من عمره لوكالة رويتر إن حركة طالبان المتعصبة أغلقت المزارات وأوقفت الاحتفالات ومنعتنا من حلقات الذكر والإنشاد طوال فترة حكمها رغم أنها لم تتوقف حتى في وجود الحكم الشيوعي والاحتلال الروسي , وأنا سعيد جداً بسقوط تلك الحركة المتعصبة وأمريكا سمحت لنا بممارسة طقوسنا وإقامة موالدنا ونحن نشكر لها ذلك وبشدة ' هكذا قال وهكذا فعلت أمريكا فتحت الأضرحة وأقامت الموالد لإحياء البدعة ومحاربة السنة ولتشويه الإسلام ومحاربة الحكم القويم لما يحدث بهذه الموالد من مخالفة للإسلام عقائدياً وأخلاقياً .ونحن عندما نسمع هذا ونراه نقول سبحان الله ما أشبه الليلة بالبارحة هذا السلاح الذي استخدمه الأمريكان مع الأفغان هو نفس السلاح الذي استخدمه نابليون بونابرت مع المصريين عندما احتل الفرنسيون مصر سنة 1210هـ , وهيا بنا نغوص في كتب التاريخ لنرى التشابه الشديد بين نابليون بونابرت وجورج بوش والكفر ملة واحدة .جاء في تاريخ الجبرتي في أحداث السنة 1214هـ ما نصه كما يلي 'وفي عشرين ربيع الثاني كان يوم الأحد نودي بعمل مولد السيد علي البكري' المدفون بجامع الشرايبي بالأزبكية بالقرب من الرويعي وأمروا الناس بوقود قناديل بالأزقة في تلك الجهات وأذنوا لهم بالذهاب والمجئ ليلاً ونهارًا من غير حرج , وكان خبر هذا الرجل أنه كان رجلاً من البله وكان يمشي في الأسواق عرياناً مكشوف الرأس والسوأتين غالباً وله أخ صاحب دهاء ومكر فبدا له أن يستغل أخاه عندما رأى ميل الناس إليه واعتقادهم فيه كما هي عادة أ÷ل مصر في أمثاله , فأخذه وحجر عليه في داره وألبسه ثياباً وأظهر للناس أنه قد صار قطباً كبيراً فأقبلت الرجال والنساء على زيارته والتبرك وسماع ألفاظه والإنصات إلى تخليطاته وتأويلها بما في نفوسهم , وطفق أخوه المذكور يرغبهم ويبث لهم في كراماته وأنه يطلع على خطرات القلوب والمغيبات وينطق بما في النفوس فأنهمكوا في الترداد عليه وأقبلوا عليه بالهدايا والإمدادات الواسعة من كل شيء خصوصاً من نساء الأمراء والأكابر وراجت حاله واتسعت أمواله ونفقت سلعته وصادت شبكته وسمن الشيخ من كثرة الأكل والدسومة والفراغ والراحة حتى صار مثل البغل العظيم فلم يزل على ذلك حتى مات سنة 1207هـ فدفنوه بمعرفة أخيه في قطعة حجر عليها هذا المسجد من غير مبالاة ولا مانع وعمل عليه مقصورة ومقاماً وواظب عنده بالمقرئين والمداحين والمنشدين بذكر كراماته وأوصافه في قصائدهم ومدحهم ونحو ذلك ويتواجدون ويتصارخون ويمرغون وجوههم على شباكه وأعتابه ويغرفون بأيديهم من الهواء المحيط به ويضعونه في أعبابهم وجيوبهم .فلما حضرت الفرنساوية إلى مصر تشاغل عنه الناس وأهمل شأنه في جملة المهملات وترك مع المتروكات ولكن الفرنساوية رخصوا للناس في إعادة الموالد لما رأوا فيه من الخروج على الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات وكان هذا المولد من جملة الموالد التي أعيد لهذا الهدف الخبيث' , هكذا انتهي كلام الجبرتي ولا تعليق لنا إلا أن نقول ما أشبه الليلة بالبارحة وما أشبه جورج بوش بنابليون بونابرت .(/1)
الموت والشهادة في سبيل الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ?[ آل عمران : 102 ] ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاً? [النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
الموت قدر محتوم على كل مخلوق، والشهادة في سبيل الله أسمى صور الموت وأعلاها، يصطفي الله لها من يشاء من عباده ، ولما للشهادة عند الله من علو المنزلة وعظيم الأجر ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي نفس محمد بيده لوددت أن أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا فأقتل )(1) كان أبو هريرة يقولها ثلاثاً.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه وسلم قال: "ما أجد أحداً يدخل الجنة فيتمنى أن يخرج منها وأن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع فيقتل عشر مرار، لما رأى من كرامة"(2)
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه سئل عن أرواح الشهداء، قال قد سألنا عن ذلك، فقال: "أرواحهم كطير خضر لها قناديل معلقة في العرش تسرح حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديلها فبينما هم على ذلك إذ اطلع عليهم ربهم اطلاعة فيقول ما تشتهون؟ فيقولون وما نشتهي ونحن في الجنة نسرح حيث شئنا فإذا رأوا أن لابد من أن يسألوا قالوا: ترد أرواحنا في أجسادنا فنقاتل في سبيل الله فنقتل مرة أخرى.)(3)
المؤمن مأمور على كل حال بالاستعداد للموت، فمن كانت أمنيته الشهادة كان أولى بالاستعداد، وأحرى بالتطلع لاصطفاء الله له. إن بعض الصادقين من طلاب الشهادة يكونون شهداء وهم يمشون على وجه الأرض كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلحة: "شهيد يمشي على وجه الأرض"(4) وفي رواية: "هذا ممن قضى نحبه"(5)
فكيف تستعد للشهادة وتتهيأ لها لتكون من أهلها؟ لعل الله يرزقنا الشهادة في صورة من صورها.
أول العدة للشهادة التوبة الصادقة/ جاء في الحديث الصحيح: "يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد"(6)، فليس غريباً أن ينال الشهادة من كان له ماضٍ جاهلي تاب منه، وقد رُوِيَتْ نماذج على مر التاريخ أبلت بلاء حسناً في التضحية والجهاد ، بعد ماضٍ سيئ يتوب الله على من تاب.
ولا بد بعد الاستعداد للموت في سبيل الله أن يستتبع التوبة إصلاح العمل، وقد كان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. ومعنى ذلك كما يقول الإمام ابن حجر: اعمل ما تلقى نفعه بعد موتك، وبادر أيام صحتك بالعمل الصالح، فإن المرض قد يطرأ فيمنع من العمل فيخشى على من فرط في ذلك أن يصل إلى المعاد بغير زاد.
إن الإكثار من ذكر الموت والحساب ليجدد الدافع لدى الإنسان بإصلاح العمل، وإذا أراد الله بعبد خيراً استعمله، قالوا وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل موته.
أيها المؤمنون: لا يثبت لإنسان صدق سعيه للشهادة بغير التضحية، لأن الجهاد يكون بالنفس والمال، وكلاهما يحتاج إلى جود وتضحية ، فمن لم يعد نفسه ليقدم ويبذل ويعطي فكيف يحلم بالجنة؟! عن بشير بن الخصاصية أنه قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أبايعه، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله،وتصوم رمضان، وتحج البيت وتؤدي الزكاة وتجاهد في سبيل الله؟ قال: قلت : يا رسول الله ، أما اثنتان فلا أطيقهما، أما إتيان الزكاة فمالي إلا عشر ذود هن رسل أهلي وحمولتهن، وأما الجهاد فيزعمون أنه من ولى فقد باء بغضب من الله عز وجل، فأخاف إن حضرني قتال جنبت نفسي وكرهت الموت، فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده ثم حركها، وقال: لا صدقة ولا جهاد فبم تدخل الجنة؟ فبايعه عليهن كلهن.)(7)
فالمسألة جد ولا تحتمل المساومة ولا التنازل، ولا تضحية بغير جرأة ، ولذلك عُدَّ من الشهداء من قُتِل دون دمه أو عرضه أو ماله، كما في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد"(8) وذلك لتبقى روح المقاومة ورفض الظلم، ومقاومته حية في النفوس فإن لم يرزق صاحبها الشهادة لم يفته أجرها بإذن الله.(/1)
إن المؤمن الصادق يبذل قصارى جهده وغاية وسعه في نصرة الإسلام والذود عن حياضه ويمثل هذا المعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح ابن ماجة: "خير معايش الناس لهم: رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، ويطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه إليها، يبتغي الموت أو القتل مظانه"(9)
وصورة أخرى للمجاهد الجاد الصادق في طلب الشهادة عامر بن الأكوع الذي قتل خطأً بارتداد سيفه على ركبتيه فقال بعض الصحابة: حبط عمله، لظنهم أنه قتل نفسه فذهب أخوه سلمة بن الأكوع يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله: "إن له لأجرين"(10)ـ وجمع بين اصبعيه ـ، وكانت شهادة من رسول الله على نيله أجر القتل في سبيل الله، وأجر الجد والنشاط فيه رغم المشقة، وهذا شأن المتحفزين للشهادة.
إن المؤمن المستعد للشهادة حقاً يكون قد وطن نفسه لما قد يصيبه من البلاء، وروض نفسه على الصبر عن الفرار، ولو أدى هذا الصبر إلى الموت، روى البخاري أن نافعاً سُئل عن أي شيء بايع الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ على الموت؟ قال: لا بل على الصبر.
وفي حديث البيعة أنهم بايعوه على الموت ، قال شارح البخاري الإمام ابن حجر، ولا تنافي بين قولهم بايعوه على الموت وعلى عدم الفرار، لأن المراد بالمبايعة، أن لا يفروا ولو ماتوا ، وليس المراد أن يقع الموت ولا بد، وهو الذي أنكره نافع وعدل إلى قوله. بل بايعهم على الصبر، أي على الثبات، وعدم الفرار، سواء أفضى بهم ذلك إلى الموت أم لا ، ويؤكد هذا المعنى ما أخرجه أبو داؤود أن أبا أمامة رجا من رسول الله في مواقف متفرقة أن يدعو له بالشهادة فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم سلمهم وغنمهم"(11) ، فالأصل أن حياة المسلم تزيد سواد المسلمين وتقوي شوكتهم وتغيظ الكفار، ولكنه مع ذلك مهيأ للثبات، مستعد للصبر مهما عظم البلاء.
ومثل هذه التربية على الاستعداد للشهادة هي التي تجعل من ينشد الشهادة جريئاً في الحق لا يخاف في الله لومة لائم كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر"(12) ، وبغير هذه النفسية تكون الأمة غثاء كغثاء السيل، وتكون نتيجة تلك الغثائية ، أن الله ينتزع المهابة من قلوب عدوكم ، ويجعل في قلوبكم الوهن) كما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وحين سئل الصحابة رسول الله عن الوهن ما هو وما سببه ، قال: "حب الدنيا وكراهية الموت"(13) ، وذلك الوهن هو الذي يجعل الأمة تستمرئ الذل وترضى بالدنية وتسود حياتها ثقافة الانهزام والنفاق والعبودية لغير الله رب العالمين.
إن ملاك الأمر في التربية النفسية والاستعداد للشهادة هو الإقبال على الله عز وجل والصدق معه وتجريد النية من كل الشوائب ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من سأل الله الشهادة يصدق، بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه "(14) ، والإخلاص لا يعلمه إلا الله، ولا تنقيه إلا محاسبة النفس. فحاسب نفسك أيها المسلم، وراقب قلبك وضع نفسك في الميزان لترى مدى استعدادك للشهادة عسى أن تكون ?... مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ?[ النساء:69 ].
أيها المؤمنون لعلكم تابعتم لقاء الزعماء العرب وسمعتم القرارات والتوصيات التي صدرت عنهم ، فجاء الرد اليهودي العملي على تلك القرارات هجوم شامل على كل الأراضي الفلسطينية ، وقصف لمقر القيادة الفلسطينية ومحاصرتها بالدبابات . وتجري الآن معارك بين جيش معتد غاصب مزود بأحدث ما أنتجته مصانع الأسلحة الأمريكية وبين شعب أعزل لا يملك إلا الإيمان بالله ثم التمسك بعدالة قضية المقاومة بإمكانياته البدائية.
لقد أعلن اليهود بوضوح تخليهم عن السلام المزعوم ورفضهم للعرض الذي تقدم به زعماء العرب .. فماذا ينتظر العرب وما الذي يفكر فيه الزعماء والقادة أصحاب الألقاب الفخمة .. وما هي مواقف الشعوب الإسلامية والعربية مما يجري لإخوانهم من قتل وذبح وتشريد .. وما تتجرعه الأمة من ذل ومهانة واستخفاف .. بسبب التخاذل والتقاطع والتدابر والاختلاف الذي زرعه الاستعمار بيننا .. فصادف نفوساً خوارة في القيادات وشعوباً قد فسقت عن أمر ربها ورسله .. فكان هذا الذل الذي تتجرعه الأمة ولا تكاد تسيغه.(/2)
أيها المؤمنون .. إن الهروب عن الجهاد وتكاليفه والنهوض به رسمياً وشعبياً إنما هو انحدار وخزي وعار وذل واستسلام ، ولقد حذرنا الله من هذه العواقب والعقوبات الدنيوية والأخروية ، إن نحن تركنا أمره وكرهنا الجهاد في سبيله: ? قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ?[التوبة:24]، وقال جل وعلا مستنهضاً همم المؤمنين وشاحذاً لعزائمهم: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?[التوبة:38-39].
أيها المؤمنون .. على الرغم من كل ما يجري فإن المؤمن لا ييأس ولا يضعف بل ينبغي أن يحدوه الأمل والاستبشار بنصرة هذا الدين وأهله ما رجعوا إلى ربهم ودينهم، ولقد بشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته ببشريات تذيب كل يأس، وتدفع كل قنوط ، وتثبت كل صاحب محنة، وتريح كل قلب فاقدٍ للأمل بأبناء هذه الأمة، حين لا يجد بصيص أمل يلمع له حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب "(15) ، والجهاد ماض ومستمر إلى يوم القيامة ، والطائفة الظاهرة على الحق لا يضرها من خذلها، وهي مستمرة حتى يأتي وعد الله، وفي ذلك يقول - صلى الله عليه وسلم - : "لن يبرح هذا الدين قائماً، يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة"(16)
إن المقاييس البشرية قاصرة عاجزة .. وإن الله تعالى يجعل من الضعف قوة ومن القوة ضعفاً .. وهذا واضح في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين قال: "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم"(17).
راجعه: عبد الحميد أحمد مرشد.
ـ صحيح البخاري، ج4 باب: ما جاء في التمنِّي، ومن تمنَّى الشهادة.الحديث رقم: 6800
ـ صحيح مسلم ج3 كتاب الإمارة . باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى. الحديث رقم: 1877.
ـ صحيح مسلم. ج3 كتاب الإمارة. باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة. وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون الحديث رقم: 1887
ـ صححه الأللباني في صحيح ابن ماجة ج1 باب المناقب . ص27 رقم الحديث 102
ـ صححه الألباني في السلسلة الصحيحة ج1 ص 248 رقم الحديث : 126
ـ صحيح البخاري ج2كتاب الجهاد والسير. باب: الكافر يقتل المسلم، ثم يسلم، فيستشهد بعد الحديث رقم: 2771 وصحيح مسلم.ج3 كتاب الإمارة. باب بيان الرجلين، يقتل أحدهما الآخر، يدخلان الجنة. الحديث رقم: 1890
ـ المستدرك على الصحيحين 2 / 89 ، حديث رقم: 2421 ، وصححه الذهبي في التلخيص.
ـ صحيح البخاري ج2كتاب المظالم. باب: من قاتل دون ماله. الحديث رقم: 2348وصحيح مسلم ج1كتاب الإيمان باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه، وإن قتل كان في النار، وأن من قتل دون ماله فهو شهيد. الحديث رقم: 225
ـ صححه الألباني في صحيح ابن ماجة ج2 ص360 رقم الحديث: 3212
ـ صحيح البخاري، ج3كتاب المغازي باب: غزوة خيبر. الحديث رقم:3960
ـ مسند الإمام أحمد 5 / 248 ، حديث رقم: 22194، وقال عنه شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم، ورجاله ثقات رجال الشيخين غير واصل مولى أبي عيينة.
ـ صححه الألباني في صحيح ابن ماجة ج2 ص369 رقم الحديث: 2340
ـ صححه الألباني في السلسلة الصحيحة ج2 ص647 رقم الحديث : 958 ونصه (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها . فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ؛ ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن . فقال قائل : يا رسول الله ! وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت)
ـ صحيح مسلم.ج3 كتاب الإمارة. باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى. الحديث رقم: 1908
ـ مسند أحمد 5/ 134 ، حديث رقم: 21260 ، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن من أجل يحيى بن يمان العجلي الكوفي.
ومسند الإمام أحمد. ج5 مسند الأنصار رضي الله عنهم. حديث أبي العالية الرياحي عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه
ـ صححه الألباني في السلسلة الصحيحة ج2 ص652 رقم الحديث :963(/3)
ـ سنن النسائي، ج6 كتاب الجهاد. باب الاستنصار بالضعيف وصححه الألباني في التوسل رقم :103(/4)
الموت ...
الموت هو الحقيقة الغائبة الحاضرة ؛ الغائبة لأن أكثر الناس قلما يفكرون فيها ، والحاضرة لأنه واقع مشاهد ، فالناس يرونه كل يوم ، لا يخفى على أحد ، ولا يمكن أن يتجاهله أحد . إنه الحقيقة التي سلم بها كل مخلوق ، وأيقن بها كل إنسان ، جعله الله فاصلا بين حياتين ،الحياة الدنيا والحياة الآخرة ، فالمؤمن ينتقل به من تعب الدنيا ونصبها إلى راحة الآخرة ونعيمها ، والكافر ينتقل به من متع الدنيا ولذاتها إلى ضيق الآخرة وشقائها .
والعاقل الفطن من اتخذ هذه الدار سبيلا وطريقا إلى دار السعادة ، يعمل فيها بالصالحات ، ويسارع فيها بالخيرات ، مستحضرا دوما قوله تعالى : { إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ } (غافر:39) ومتذكراً قوله تعالى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } (البقرة: 197) .
والشقي الغافل من شغلته دنياه عن آخرته ، وأقبل على الله خالياً إلا من المعاصي والسيئات ، وقد قال تعالى في حق هذا الصنف : { أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } (النحل:108)
وقال أيضاً : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } (الروم:7)
. قال الشاعر :
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولا قيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله وأنك لم ترصد لما كان أرصدا
وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بالإكثار من ذكر الموت فقال : ( أكثروا ذكر هاذم اللذات ) رواه الترمذي وصححه . وهاذم اللذات أي : قاطعها ، ذلك أن ذكر الموت يزهد العبد في الدنيا فينقطع عن اللذات ، ويقبل على الطاعات ، ومن أكثر من ذكر الموت قنع من الدنيا باليسير ، وسارع إلى التوبة ، وتزود من الأعمال الصالحة . ومن غفل عن ذكره ابتلي بضد ذلك نسأل الله السلامة والنجاة .
ومما يعين على ذكر الموت ، ودوام استحضاره ، زيارة القبور : فزيارة القبور تورث القلب رقة ، وتدفع الزائر إلى الاتعاظ بحال أهل القبور ، لأجل ذلك أمر صلى الله عليه وسلم بزيارة المقابر فقال : ( فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ) رواه مسلم . وفي رواية لابن ماجة ( فإنها تذكر الآخرة ) . ومما يعين على ذكر الموت أيضاً حضور مجالس الوعظ ، وسماع أخبار الصالحين : فمن حضر مجالس الوعظ ، وداوم على سماع أخبار الصالحين ، وعلم ما كانوا عليه من الزهد في الدنيا والتطلع إلى الآخرة لم يغب عنه ذكر الموت والتزود لما بعده . ومن أقوى ما يعين على ذكر الموت تلاوة كتاب الله عز وجل وتدبر آياته نحو قوله تعالى : { وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } (البقرة:281) وقوله أيضاً : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } (آل عمران:185) . فمن تدبر كتاب الله عز وجل وما فيه من المواعظ والآيات لم يغب ذكر الموت عنه وسارع إلى التزود بالأعمال الصالحة قبل قدومه . ومما يعين على ذكر الموت التقلل من الدنيا وتقصير الأمل فيها لذلك أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمر بذلك فقال : ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) . وكان ابن عمر يقول : ( إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك ) رواه البخاري
فهذا هو الموت ، وتلك هي الأسباب المعينة على ذكره ، فينبغي للمسلم أن يضع الموت نصب عينيه ، لا على أنه النهاية ، بل على أنه بداية الحياة الحقيقية ، الحياة التي إما أن تكون نعيما سرمديا ، أو عذابا أبدياً ، نسأل الله العظيم أن يجعل الحياة لنا زادا من كل خير ، والموت راحة لنا من كل شر ، وأن يعيننا على العمل بكتابه ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم . والله الموفق .(/1)
الموتى لا يتكلمون
د. عبدالوهاب بن ناصر الطريري 19/12/1423
20/02/2003
ينتهي موسم الحج مودعاً دائماً بعبارة: (نجاح موسم حج هذا العام)، ويتكرر النجاح دائماً وكاملاً، وأما ما يحفل به من حوادث وأحياناً كوارث فإن التعامل الإعلامي معها يتم بطريقة غاية في الغرابة والعجب!!
إننا بحاجة - بعد كل موسم- إلى أن نواجه الحوادث بالبحث عن أسبابها، والحديث الصريح عن جدوى الخطط المعمول بها، وعن أخطاء التنفيذ، وعن التجاوزات التي تعكر روحانية النسك، وتشوه ضخامة الإنجازات، وكم من أخطاء تبدو صغيرة لكنها تحجب أعين الحجاج عن رؤية كثير مما يفعل من أجلهم.
في الأعوام السابقة تعاقبت حوادث كانت الوفيات فيها بالمئات، وكان آخرها حادث هذا العام الذي انكشف عن وفاة أربعة عشر حاجاً - نسأل الله لهم الرحمة والغفران- طالعنا الخبر وما قيل عما حدث، وقرأنا الحروف ونقاطها، والسطور وما بينها؛ نبحث عن عبارات تدل على فداحة زهوق الأرواح، وشناعة الميتة التي واجهها هؤلاء الحجاج في هذا الصعيد المعظم فلم نجد! بحثنا عن وعد بالتحقيق فيما جرى ومتابعة للأسباب، وعلاج لها في المستقبل فلم نجد!
قرأت الخبر فإذا هو يتضمن:
(أ) نعياً لأولئك الحجاج.
(ب) تحميلهم المسؤولية عمّا جرى، وأن السبب في ذلك الطبيعة الإنسانية التي لا يمكن التحكم فيها؟!.
(ج) الافتراض المسبق بأن الإجراءات سليمة، ولا خطأ فيها بحال، وليست سبباً، ولا يمكن أن تكون.
شعرت بالفجيعة، وتساءلت:لماذا نتعامل مع هذه الحوادث الكارثية بطريقة
(المرحوم كان غلطان؟)
إن من المسلّمات التي يدركها العقلاء جميعاً أن (الموتى لا يتكلمون) ولن يستطيعوا أن يدافعوا عن أنفسهم، ولا أن يبرّروا ما حصل منهم، ويدينوا ما حصل لهم.
كيف سيكون شعور كلٍّ منّا لو كان أحد المتوفَيْن قريبه القريب، أو صديقه الحميم؟ بل هل نتصور حالنا مكان واحد من هؤلاء الذين ماتوا بتلك الطريقة الشنيعة ركلاً بالأرجل ودهساً بالأقدام؟ هل نقبل أن يكون السبب هو السبب، والخبر هو الخبر؟
إن هلكة أكثر من ألف نفس في نفق، أو المئات حول الجمرات، أو أربعة عشر في طريق سالكه من طرق المشاعر يجب أن يتعامل معه بما يليق بعظم الفاجعة، وحجم الكارثة، وحرمة النفس المسلمة، وإن نفساً واحدة من هؤلاء هي أعظم حرمة عند الله من الكعبة المشرفة التي يحج إليها الملايين من عباده.
إن الحج ليس مفاجأة في وقته ولا في مكانه ولا في شعائره، فهذه أيامه وأماكنه وأحكامه منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، فلماذا تتكرر هذه الأخطاء والحوادث والكوارث المروعة حتى أصبحت جزءاً من شعائر الحج؟!
إن التكتّم على الأخطاء خطيئة، وأخطر من ذلك تبرير الأخطاء، وتهوين المصائب، وتطبيع الحوادث، والتبري من وصف ما حدث بأنه خطأ أو تهاون، ولا ندري
ما الكلمات التي ستسعفنا لوصف ما حدث بغير ذلك؟
إن علينا أن نتجاوز العبارات التي مضى عليها الزمن، وقتلها التكرار حتى فقدت معناها مثل: (نجاح موسم حج هذا العام) (تم تصعيد الحجاج إلى عرفات بيسر وسهولة) (تمت نفرة الحجاج إلى مزدلفة في وقت قياسي)؟ ونحوها، لماذا لا نتجاوز ذلك إلى ما هو أجدى وأنفع، لماذا لا نستنفر الناس لا إلى الإشادة والإطراء ولكن إلى النقد والمصارحة، واكتشاف الأخطاء، وتسليط الضوء على مكامن الخلل وأنواع التجاوز، وأسباب الكوارث، وأن ننقد أنفسنا قبل أن ينتقدنا غيرنا، وأن نعترف بأخطائنا قبل أن ننبز بها؟.
وبذلك يقصر عُمْر الأخطاء، وتحاصر السلبيات، وتتسع رقعة الإيجابيات، وبدون ذلك ستستمر الأخطاء وتنمو وتتشعب، في ظلمة الصمت، ومغالطة التبرير، والتنصل من أن يقال للمخطئ: أخطأت، كما يقال للمصيب: أصبت.
إن ضوء الشمس يقتل الجراثيم، ونور المصارحة يُحجِّم الأخطاء، ويحاصر التجاوز، ونحن أحوج ما نكون إلى فتح القلوب والآذان لسماع المصارحة الصادقة، والنصيحة الخالصة، بعيداً عن ملق الثناء وإطراء المديح.(/1)
الموجز الفارق من معالم ترجمة الإمام جعفر الصادق
الشيخ علي الشبل
اسمه ونسبه:
هو الإمامُ جعفرُ بنُ محمدِ بنِ علي زين العابدين بنِ الحسينِ السبط بن الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزوج ابنته فاطمة البتول رضي الله عنها وأرضاها.
هذا نسبهُ من جهةِ أصولهِ ، ومن جهةِ أخوالهِ فهو ابنُ أبي بكر الصديق أفضلُ أولياءِ اللهِ ، وصحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهتين ، حيث كان جعفرُ الصادقُ يقولُ : ولدني أبو بكر الصديق مرتين .
وذلك أن أمَهُ هي : أمُ فروة بنتُ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق . وأمها -أي جدتهُ من قِبلِ أمهِ - هي أسماءُ بنتُ عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين ، فإذا كان هؤلاءِ أخوالهُ ، وهذا الصديقُ جدهُ من الجهتين فلا يتصورُ في مثلِ جعفر بن محمد وهو من هو في دينهِ وقربهِ من الأصلِ النبوي ، أن يكون شاتماً أو مبغضاً أو حاقداً على جدهِ ، إذ لا تُقرهُ مروءتُهُ وشيمتُهُ وعروبتُهُ فضلاً عن دينهِ وكمالِ علمهِ وفضلهِ .
ولد سنةَ ثمانين من الهجرةِ ، وتوفي سنةَ 148هـ وعمرهُ ثمانٌ وستون سنةٍ ، وبالمدينةِ ولادتُهُ ووفاتُهُ .
لقبه:
لقب جعفرُ بنُ محمدٍ بالصادقِ ، وغلب هذا اللقبُ عليه ، فلا يكادُ يذكرُ إلا وانصرف إليه ؛ وسببُهُ أنهُ كان صادقاً في حديثهِ وقولهِ وفعلهِ ، لا يُعرفُ عنه سوى الصدق ولم يُعرف عنه كذبٌ قط .
بأبيهِ اقتدى عديٌّ بالكرمِ * * * * ومن يُشابِهُ أباهُ فما ظلم
حيث جده هو الصديقُ الذي نزل فيه قولُهُ تعالى في آخرِ التوبةِ : " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللَّه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " [ التوبة : 119 ] .
وقد اشتهر لقبهُ هذا بين المسلمين ، وكثيراً ما يلقبُهُ به الشيخُ ابنُ تيميةَ وغيرُهُ .
ومن ألقابِهِ الإمامُ وهو جديرٌ به ، والفقيهُ . وليس هو بالمعصومِ كما يطلقهُ عليه مخالفوهُ ، لأنهُ نفاها عن نفسهِ ، وليست العصمةُ لأحدٍ إلا لرسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فيما بلغهُ عن ربهِ .
أولاده:
الإمامُ جعفرُ الصادق من أكثرِ آبائِهِ أولاداً ، فقد خلف من الأبناءِ :
1 - إسماعيلُ وهو أكبرُهم ، وقد مات في حياتهِ سنةَ 138 هـ ، وأرث ابناً اسمه محمدُ بنُ إسماعيل ، وله بنون كثيرون متناسلون .
2 - عبدُ اللهِ ، وبه كان يكنى .
3 - موسى الملقبُ بالكاظمِ ، وهو الإمامُ بعد أبيه عند الاثني عشريةِ . وفيه اختلفتُ الإماميةُ مع الإسماعيليةِ حول إمامتهِ : بين موسى الملقب بالكاظمِ وإسماعيل سالفُ الذكرِ .
4 - إسحاقُ .
5 - محمدُ .
6 - علي .
7 - فاطمةُ .
أهم شيوخه:
أخذ جعفرُ بنُ محمدٍ الصادق عن عاليةٍ من العلماءِ العلمَ والحديثَ ، حيث أدرك أواخرَ الصحابةِ ؛ منهم سهلُ بنُ سعدٍ الساعدي ، وأنسُ بنُ مالك رضي اللهُ عنهما .
وأكثر الروايةَ عن أبيهِ محمدِ بنِ علي الباقر وهو ثقةٌ فاضلٌ ، روى له الجماعةُ ، مات سنةَ مائة وبضعة عشرة . وأكثرُ رواياتهِ من طريقِ أبيهِ عن جدهِ الحسينِ بنِ علي أو علي بنِ أبي طالب عن رسولِ الله صلى اللهُ عليه وآله وسلم ، وهي أعلى مروياتهِ سنداً ، وهي أمثلُ نماذجِ روايةِ الأبناءِ عن آبائهم !
ومن شيوخهِ سيدُ التابعين عطاءُ بنُ أبي رباحٍ ، وعن محمدِ بنِ شهابٍ الزهري ، وعن عروةَ بنِ الزبير ، وعن محمدِ بنِ المنكدر ، وعن عبدِ الله بنِ أبي رافع ، وعكرمةَ مولى أبنِ عباس .
كما روى عن جدهِ القاسمِ بنِ محمدِ بنِ أبي بكر ، وأكثرُ شيوخهِ من علماءِ المدينةِ .
وهؤلاءِ كلهم أئمةٌ ثقاتٌ أهلُ ديانةٍ وصدقٍ وأمانةٍ وعدالةٍ رحمهم اللهُ .
أبرز تلاميذه:
أخذ عنه العلمَ روايةً وفقهاً جمعٌ كبيرٌ من العلماءِ الحفاظِ الثقاةِ من أشهرِهم :
يحيى بنُ سعيدٍ الأنصاري القطان ، ويزيدُ بنُ عبدِ الله بنِ الهاد الليثي المدني ، وهو أكبرُ من جعفر ، ومات قبله بعشرِ سنين ، وعبدُ الملك بنُ عبدِ العزيز بنِ جريج ، وهو من أقرانهِ، وأبانُ بنُ تغلب ، وأيوبُ السختياني ، وأبو عمرو بنُ العلاء ، ومالكُ بنُ أنسٍ الأصبحي إمامُ الهجرةِ ، وسفيانُ الثوري ، وشعبةُ بنُ الحجاجِ إمامُ النقادِ ، وسفيانُ بنُ عيينةَ ، ومحمدُ بنُ ثابتٍ البناني ، وغيرهم كثيرٌ ، لكن منهم المتفقهُ عليه والراوي عنه والمجالسُ له وهم : مالك وأبوحنيفة خصوصاً .
وروى له جماعةُ الكتبِ الستةِ إلا البخاري فلم يخرج لهُ في صحيحهِ بل في غيرهِ .
وقد كان رحمهُ اللهُ ثقةً صدوقاً إماماً فقيهاً .
كرمه وسخاؤه:
بلغ في الكرمِ شأناً عظيماً ، ومبلغاً كريماً ، وليس بغريبٍ عليه وعلى بيتهِ النبوي الكريمِ ، وجدهُ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وآله وسلم كان أجودَ من الريحِ المرسلةِ شهدت له المواقفُ العديدةُ في المدلهماتِ والغزواتِ وغيرها بالكرمِ البالغِ الذي لا يخشى معه الفقرَ عليه الصلاة والسلام .(/1)
وأما جعفرُ بنُ محمد الصادق رحمة اللهُ عليه فمما جاء في كرمهِ وبذلهِ ما رواه تلميذهُ هياجُ بنُ بسطام التميمي قال : كان جعفرُ بنُ محمدٍ يُطعِمُ حتى لا يبقى لعيالهِ شيءٌ .
وهذا عطاءُ من لا يخشى الفقرَ .
وروي أنهُ لما سئل عن علةِ تحريمِ الربا فقال : لئلا يتمانع الناسُ المعروفَ ، وهذا يدلُ على أريحيةِ نفسٍ وسخائها.
وذكروا عنه أنه كان يمنعُ الخصومةَ بين الناسِ ، بتحملهِ الخسائر على نفسهِ وإيثارِ الصلح بينهم .
كما ذكروا عنه أنهُ شابه جدهُ علي بن الحسين زين العابدين رضي اللهُ عنه في الإنفاقِ سراً ، وذلك أنهُ إذا كان الغلسُ في الليلِ حمل جراباً فيه خبزٌ ولحمٌ ودراهمٌ على عاتقهِ ، ثم وزعهُ على ذوي الحاجاتِ من فقراءِ المدينة ، دون أن يعلموا به ، حتى مات ، وظهرت الحاجةُ فيمن كان يعطيهم بعد موتهِ .
فرحمةُ اللهِ عليه وإني لأرجو أن يكونَ فيمن يقولُ اللهُ فيهم : " وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " [ الحشر : 9 ] .
حكمته وسعة فهمه:
أكثر مترجموا الإمامِ جعفر الصادق من نقلِ حِكمِهِ ، وأجوبتهِ المسكتةِ للأسئلةِ المشكلةِ ، تلك الأجوبةُ التي تبينُ عن سعةِ علمهِ وبعد فهمهِ ، وما حباهُ اللهُ به من سرعةِ البديهةِ ، واللسانِ المفصحِ عن جوامعِ المعاني ، وفقههِ لمقاصدِ التشريعِ وأسرارهِ ، وهو فضلُ اللهِ يؤتيهِ من يشاءُ .
فقد سألهُ تلميذهُ سفيانُ الثوري بمكةَ في موسمِ الحجِ ، فقال : قَدِمْتُ مَكَّةَ ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِي عَبْدِ اللهِ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ قَدْ أَنَاخَ بِالأَبْطَحِ ، فَقُلْتُ : يَا ابْنَ رَسُوْلِ اللهِ ! لِمَ جُعِلَ المَوْقِفُ مِنْ وَرَاءِ الحَرَمِ ، وَلَمْ يُصَيَّرْ فِي المَشْعَرِ الحَرَامِ ؟ فَقَالَ : الكَعْبَةُ بَيْتُ اللهِ ، وَالحَرَمُ حِجَابُه ، وَالمَوْقِفُ بَابُه ، فَلَمَّا قَصَدَه الوَافِدُوْنَ ، أَوْقَفَهَم بِالبَابِ يَتَضَرَّعُوْنَ ، فَلَمَّا أَذِنَ لَهُم فِي الدُّخُولِ ، أَدْنَاهُم مِنَ البَابِ الثَّانِي وَهُوَ المُزْدَلِفَةُ ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى كَثْرَةِ تَضَرُّعِهِم ، وَطُولِ اجْتِهَادِهِم ، رَحِمَهُم ، أَمَرَهُم بِتَقْرِيْبِ قُربَانِهم ، فَلَمَّا قَرَّبُوا قُربَانَهم ، وَقَضَوْا تَفَثَهُم ، وَتَطَهَّرُوا مِنَ الذُّنُوْبِ الَّتِي كَانَتْ حِجَاباً بَيْنَهُ وَبَيْنَهُم ، أَمَرَهُم بِزِيَارَةِ بَيْتِه عَلَى طَهَارَةٍ . قَالَ : فَلِمَ كُرِهَ الصَّومُ أَيَّامَ التَّشرِيْقِ ؟ قَالَ : لأَنَّهم فِي ضِيَافَةِ اللهِ ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الضَّيفِ أَنْ يَصُوْمَ عِنْدَ مَنْ أَضَافَه .
وروى أبو نعيم في الحليةِ بسندهِ إلى أحمدَ بنِ عمرو بنِ المقدم الرازي قال : وقع الذبابُ على المنصور - أبي جعفر الخليفةِ العباسي - فذبهُ عنهُ ، فعاد فذبهُ حتى أضجرهُ فدخل جعفرُ بنُ محمدٍ عليه ، فقال المنصورُ : يا أبا عبدِ اللهِ لِمَ خَلَقَ اللهُ الذُّبَابَ ؟ قَالَ : لِيُذِلَّ بِهِ الجَبَابِرَةَ .
وقال جعفرُ الصادق لتلميذهِ سفيانَ الثوري : لاَ يَتِمُّ المَعْرُوْفُ إِلاَّ بِثَلاَثَةٍ : بِتَعجِيْلِه ، وَتَصْغِيْرِه ، وَسَترِه .
وروى تلميذهُ عَائِذُ بنُ حَبِيْبٍ - وهو صدوقٌ رمي بالتشيعِ - أن جعفرَ الصادق قال : لاَ زَادَ أَفْضَلُ مِنَ التَّقوَى ، وَلاَ شَيْءَ أَحْسَنُ مِنَ الصَّمتِ ، وَلاَ عَدوَّ أَضرُّ مِنَ الجَهْلِ ، وَلاَ دَاءَ أَدْوَأُ مِنَ الكَذِبِ .
وقال مرةً يوصي ابنهُ موسى ( الكاظم ) : يَا بُنَيَّ ! مَنْ قَنعَ بِمَا قُسِمَ لَهُ ، اسْتَغْنَى ، وَمَنْ مَدَّ عَيْنَيْهِ إِلَى مَا فِي يَدِ غَيْرِه ، مَاتَ فَقِيْراً ، وَمَنْ لَمْ يَرضَ بِمَا قُسِمَ لَهُ ، اتَّهمَ اللهَ فِي قَضَائِهِ ، وَمَنِ اسْتَصْغَرَ زَلَّةَ غَيْرِه ، اسْتَعْظَمَ زَلَّةَ نَفْسِه ، وَمَنْ كَشَفَ حِجَابَ غَيْرِه ، انكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ ، وَمَنْ سَلَّ سَيْفَ البَغْيِ، قُتِلَ بِهِ ، وَمَنِ احْتَفَرَ بِئْراً لأَخِيْهِ ، أَوقَعَهُ اللهُ فِيْهِ ، وَمَنْ دَاخَلَ السُّفَهَاءَ ، حُقِّرَ ، وَمَنْ خَالطَ العُلَمَاءَ، وُقِّرَ ، وَمَنْ دَخَلَ مَدَاخِلَ السُّوءِ ، اتُّهِمَ .
يَا بُنَيَّ ! إِيَّاكَ أَنْ تُزرِيَ بِالرِّجَالِ ، فَيُزْرَى بِكَ ، وَإِيَّاكَ وَالدُّخُوْلَ فِيْمَا لاَ يَعْنِيكَ ، فَتَذِلَّ لِذَلِكَ .(/2)
يَا بُنَيَّ ! قُلِ الحَقَّ لَكَ وَعَلَيْكَ، تُسْتَشَارُ مِنْ بَيْنِ أَقْرِبَائِكَ ، كُنْ لِلْقُرْآنِ تَالِياً ، وَللإِسْلاَمِ فَاشِياً ، وَللمَعْرُوْفِ آمِراً ، وَعَنِ المُنْكرِ نَاهِياً ، وَلِمَنْ قَطَعَكَ وَاصِلاً ، وَلِمَنْ سَكَتَ عَنْكَ مُبتَدِئاً ، وَلِمَنْ سَألَكَ مُعطِياً ، وَإِيَّاكَ وَالنَّمِيْمَةَ ، فَإِنَّهَا تَزرَعُ الشَّحْنَاءَ فِي القُلُوْبِ ، وَإِيَّاكَ وَالتَّعَرُّضَ لِعُيُوْبِ النَّاسِ ، فَمَنْزِلَةُ المُتَعَرِّضِ لِعُيُوبِ النَّاسِ ، كَمَنْزِلَةِ الهَدَفِ ، إِذَا طَلَبْتَ الجُوْدَ ، فَعَلَيْكَ بِمَعَادِنِهِ ، فَإِنَّ لِلْجُوْدِ مَعَادِنَ ، وَللمَعَادِنِ أُصُوْلاً ، وَللأُصُوْلِ فُرُوعاً ، وَلِلفُرُوعِ ثَمَراً ، وَلاَ يَطِيْبُ ثَمَرٌ إِلاَّ بِفَرعٍ ، وَلاَ فَرعٌ إِلاَّ بِأَصلٍ ، وَلاَ أَصلٌ إِلاَّ بِمَعدنٍ طَيِّبٍ ، زُرِ الأَخْيَارَ ، وَلاَ تَزُرِ الفُجَّارَ ، فَإِنَّهُم صَخْرَةٌ لاَ يَتَفَجَّرُ مَاؤُهَا، وَشَجَرَةٌ لاَ يَخضَرُّ وَرَقُهَا ، وَأَرْضٌ لاَ يَظْهَرُ عُشْبُهَا .
ومن سرعةِ بديهتهِ وموفورِ حكمتهِ أن أصحابَهُ سألوهُ مرةً : لِمَ حَرَّمَ اللهُ الرِّبَا ؟ قَالَ : لِئَلاَّ يَتَمَانعَ النَّاسُ المَعْرُوْفَ .
وهذا في الحقيقةِ من فواتحِ اللهِ له في معرفةِ مقاصدِ الشرائعِ . وهذا لا يحصلُ بالتكسبِ والتعليمِ - لكنه فضلٌ يهبهُ اللهُ لمن شاءَ من عبادهِ ، وربنا ذو فضلٍ عظيمٍ .
ومن النوادرِ في أجوبتهِ المسكتةِ الحاضرةِ ما نقلهُ صاحبُ ربيعِ الأبرارِ : أن رجلاً قال لجعفر الصادق بن محمد : ما الدليلُ على اللهِ ؟ ولا تذكر لي العالمَ والعرضَ والجوهرَ ، فقال له : هل ركبت البحر ؟ قال : نعم ، قال : هل عصفت بكم الريحُ حتى خفتم الغرق ؟ قال : نعم ، قال : فهل انقطع رجاؤك من المركبِ والملاحين ؟ قال : نعم ، قال : فهل تتبعت نفسك أن ثَمّ من ينجيك ؟ قال : نعم ، قال : فإن ذاك هو اللهُ ، قال الله تعالى : " وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ " [ الإسراء : 67 ] ، " وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ " [ النحل : 53 ] .
ولذا نص أبو حنيفة على أنه لم ير أفقه من جعفر بن محمد .
هيبته:(/3)
رزق اللهُ الإمامَ الصادقَ مع كريمِ سجاياه وتواضعهِ هيبةً ووقاراً ، خضع له به أكبرُ ملوكِ الأرضِ في وقتهِ وهو الخليفةُ العباسي أبو جعفر المنصور ؛ حيث روى شمسُ الدين الذهبي بسندهِ إلى الفضلِ بنِ الربيع عن أبيهِ قال : دعاني المنصور فقال : إِنَّ جَعْفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ يُلحِدُ فِي سُلْطَانِي، قَتَلَنِي اللهُ إِنْ لَمْ أَقتُلْهُ . فَأَتَيْتُهُ ، فَقُلْتُ : أَجِبْ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ . فَتَطَهَّرَ ، وَلَبِسَ ثِيَاباً - أَحْسِبُهُ قَالَ : جُدُداً - فَأَقبَلْتُ بِهِ ، فَاسْتَأْذَنتُ لَهُ ، فَقَالَ : أَدخِلْهُ ، قَتَلنِي اللهُ إِنْ لَمْ أَقتُلْهُ . فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ مُقْبِلاً ، قَامَ مِنْ مَجْلِسِه ، فَتَلَقَّاهُ ، وَقَالَ : مَرْحَباً بِالنَّقِيِّ السَّاحَةِ ، البَرِيْءِ مِنَ الدَّغَلِ وَالخِيَانَةِ ، أَخِي وَابْنِ عَمِّي . فَأَقعَدَهُ مَعَهُ عَلَى سَرِيْرِه ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ ، وَسَأَلَه عَنْ حَالِه ، ثُمَّ قَالَ : سَلْنِي عَنْ حَاجَتِكَ . فَقَالَ : أَهْلُ مَكَّةَ وَالمَدِيْنَةِ قَدْ تَأَخَّرَ عَطَاؤُهُم ، فَتَأْمُرَ لَهُم بِهِ . قَالَ : أَفْعَلُ . ثُمَّ قَالَ : يَا جَارِيَةُ ! ائْتِنِي بِالتُّحْفَةِ . فَأَتَتْهُ بِمُدْهنٍ زُجَاجٍ فِيْهِ غَالِيَةٌ ، فَغَلَّفَه بِيَدِهِ ، وَانْصَرَفَ . فَاتَّبَعْتُه ، فَقُلْتُ : يَا ابْنَ رَسُوْلِ اللهِ ! أَتَيْتُ بِكَ وَلاَ أَشُكُّ أَنَّهُ قَاتِلُكَ ، فَكَانَ مِنْهُ مَا رَأَيْتَ ، وَقَدْ رَأَيْتُكَ تُحَرِّكُ شَفَتَيْكَ بِشَيْءٍ عِنْدَ الدُّخُولِ ، فَمَا هُوَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : اللَّهُمَّ احرُسْنِي بِعَيْنِكَ الَّتِي لاَ تَنَامُ ، وَاكْنُفْنِي بِرُكنِكَ الَّذِي لاَ يُرَامُ ، وَاحْفَظْنِي بِقُدرَتِكَ عَلَيَّ ، وَلاَ تُهلِكْنِي وَأَنْتَ رَجَائِي ، رَبِّ كَمْ مِنْ نَعمَةٍ أَنْعَمتَ بِهَا عَلَيَّ قَلَّ لَكَ عِنْدَهَا شُكرِي ، وَكَم مِنْ بَلِيَّةٍ ابْتَلَيْتَنِي بِهَا قَلَّ لَهَا عِنْدَك صَبْرِي ؟ فَيَا مَنْ قَلَّ عِنْدَ نِعمَتِه شُكرِي ، فَلَمْ يَحرِمْنِي ، وَيَا مَنْ قَلَّ عِنْدَ بَلِيَّتِهِ صَبْرِي ، فَلَمْ يَخْذُلْنِي ، وَيَا مَنْ رَآنِي عَلَى المَعَاصِي ، فَلَمْ يَفضَحْنِي ، وَيَا ذَا النِّعَمِ الَّتِي لاَ تُحصَى أَبَداً ، وَيَا ذَا المَعْرُوْفِ الَّذِي لاَ يَنْقَطِعُ أَبَداً ، أَعِنِّي عَلَى دِيْنِي بِدُنْيَا ، وَعَلَى آخِرَتِي بِتَقْوَى ، وَاحفَظْنِي فِيْمَا غِبتُ عَنْهُ ، وَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي فِيْمَا خَطَرتُ ، يَا مَنْ لاَ تَضُرُّه الذُّنُوبُ ، وَلاَ تَنقُصُه المَغْفِرَةُ ، اغْفِرْ لِي مَا لاَ يَضُرُّكَ ، وَأَعْطِنِي مَا لاَ يَنْقُصُكَ ، يَا وَهَّابُ ! أَسْأَلُك فَرَجاً قَرِيْباً ، وَصَبراً جَمِيْلاً ، وَالعَافِيَةَ مِنْ جَمِيْعِ البَلاَيَا ، وَشُكرَ العَافِيَةِ . اهـ.
وهذا الذي وقع له - فأبدل اللهُ قلبَ خصمهِ من السخطِ حباً ، والبعدَ قرباً - هو كرم اللهُ وعنايتهُ ولطفهُ بأوليائهِ ، مع ما كان بين العباسِ وآلِ علي بنِ أبي طالب من الأمورِ العظامِ التي لا يناسبها هذا التكريم لأحدِ كبرائهم، فسبحان من جعل القلوبَ بين إصبعين من أ صابعهِ يقلبها كيف يشاءُ .
ثناء العلماء عليه:
حسبُك أن تعلمَ من ذلك أنهُ روى له جماعةُ الكتبِ الستِ في كتبهم خلا الإمام البخاري فلم يخرج له في الصحيح ولكن في بقيةِ كتبهِ .
ولذا قال ابنُ حجرٍ في ترجمتهِ في " التقريبِ " : " صدوقٌ فقيهٌ إمامٌ ... " .
وقد أكثر العلماءُ - علماءُ الحديثِ والنقدِ - من الثناءِ عليه ، ومدحهِ ووصفهِ بالأوصافِ اللائقةِ بهِ .
فقال أبو حاتم الرازي : " ثِقَةٌ ، لاَ يُسْأَلُ عَنْ مِثْلِهِ " ، كما في الجرح (2/487) ، ووثقهُ الشافعي وابنُ معين وغيرهما. وقال ابنُ حبان : هو من ساداتِ أهلِ البيتِ ، وعبادِ أتباعِ التابعين ، وعلماءِ أهلِ المدينةِ .
وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ في " المنهاج " (2/245) : " ... فإن جعفرَ بنَ محمدٍ من أئمةِ الدينِ باتفاقِ أهلِ السنةِ ..." ، ونص على ذلك في موضعٍ آخر (4/108-110) : " وإمامتهم فيما دلت الشريعةُ على الائتمامِ بهم فيه ..." .(/4)
وقال أبو حنيفةَ النعمانُ بنُ ثابتٍ الكوفي - لما سُئل عنهُ : مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَفْقَهَ مِنْ جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ ، لَمَّا أَقدَمَهُ المَنْصُوْرُ الحِيْرَةَ ، بَعَثَ إِلَيَّ ، فَقَالَ : يَا أَبَا حَنِيْفَةَ ! إِنَّ النَّاسَ قَدْ فُتِنُوا بِجَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ ، فَهَيِّئْ لَهُ مِنْ مَسَائِلِكَ الصِّعَابِ . فَهَيَّأْتُ لَهُ أَرْبَعِيْنَ مَسْأَلَةً ، ثُمَّ أَتَيْتُ أَبَا جَعْفَرٍ وَجَعْفَرٌ جَالِسٌ عَنْ يَمِيْنِه ، فَلَمَّا بَصُرتُ بِهِمَا ، دَخَلَنِي لِجَعْفَرٍ مِنَ الهَيْبَةِ مَا لاَ يَدْخُلُنِي لأَبِي جَعْفَرٍ ، فَسَلَّمتُ ، وَأَذِنَ لِي ، فَجَلَستُ . ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ جَعْفَرٌ ، فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ ! تَعْرِفُ هَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، هَذَا أَبُو حَنِيْفَةَ . ثُمَّ أَتْبَعَهَا : قَدْ أَتَانَا . ثُمَّ قَالَ : يَا أَبَا حَنِيْفَةَ ! هَاتِ مِنْ مَسَائِلِكَ ، نَسْأَلُ أَبَا عَبْدِ اللهِ . فَابتَدَأْتُ أَسْأَلُه ، فَكَانَ يَقُوْلُ فِي المَسْأَلَةِ : أَنْتُم تَقُوْلُوْنَ فِيْهَا كَذَا وَكَذَا ، وَأَهْلُ المَدِيْنَةِ يَقُوْلُوْنَ كَذَا وَكَذَا ، وَنَحْنُ نَقُوْلُ كَذَا وَكَذَا ، فَرُبَّمَا تَابَعَنَا ، وَرُبَّمَا تَابَعَ أَهْلَ المَدِيْنَةِ ، وَرُبَّمَا خَالَفَنَا جَمِيْعاً ، حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى أَرْبَعِيْنَ مَسْأَلَةً ، مَا أَخْرِمُ مِنْهَا مَسْأَلَةً . ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ : أَلَيْسَ قَدْ رَوَيْنَا أَنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ أَعْلَمُهم بِاخْتِلاَفِ النَّاسِ ؟
هذا نزرُ يسيرٌ من ثناءِ الأئمةِ عليهِ . وللشيخِ ابنِ تيميةَ من الثناءِ عليه لوحده ومع آبائهِ من آلِ البيت ما لو جُمع لكفى عن غيرهِ . وإنما في التنويعِ فوائدٌ .
موقفه من الشيخين أبي بكر وعمر:
الأولُ جدهُ من جهتينِ من ناحيةِ أخوالهِ ، وكلاهما وزيرا جدهِ ، محمد صلى اللهُ عليه وآله وسلم .
فقد كان محباً لهما ومعظماً ومزكياً لهما ، مبغضاً لمن أبغضهما ، فلأجله كان يبغضُ الرافضةَ ويمقتها لموقفهم من جدهِ أبي بكر وصاحبهِ الفاروق .
قال عَبْدُ الجَبَّارِ بنُ العَبَّاسِ الهَمْدَانِيُّ : أَنَّ جَعْفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ أَتَاهُم وَهُم يُرِيْدُوْنَ أَنْ يَرْتَحِلُوا مِنَ المَدِيْنَةِ ، فَقَالَ : إِنَّكُم - إِنْ شَاءَ اللهُ - مِنْ صَالِحِي أَهْلِ مِصرِكُم ، فَأَبلِغُوهُم عَنِّي : مَنْ زَعَمَ أَنِّي إِمَامٌ مَعصُومٌ ، مُفتَرَضُ الطَّاعَةِ ، فَأَنَا مِنْهُ بَرِيْءٌ ، وَمَنْ زَعَمَ أَنِّي أَبْرَأُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَأَنَا مِنْهُ بَرِيْءٌ .
وروى ابنُ أبي عمر العدني ، عن جعفرِ بنِ محمد الصادق ، عن أبيه : كَانَ آلُ أَبِي بَكْرٍ يُدْعَونَ عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آلَ رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وقَالَ زُهَيْرُ بنُ مُعَاوِيَةَ : قَالَ أَبِي لِجَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ : إِنَّ لِي جَاراً يَزْعُمُ أَنَّكَ تَبرَأُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . فَقَالَ جَعْفَرٌ : بَرِئَ اللهُ مِنْ جَارِكَ ، وَاللهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَنْفَعَنِي اللهُ بِقَرَابَتِي مِنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَلَقَدِ اشْتكَيتُ شِكَايَةً ، فَأَوصَيتُ إِلَى خَالِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ القَاسِمِ .
وقال مُحَمَّدُ بنُ فُضَيْلٍ : عَنْ سَالِمِ بنِ أَبِي حَفْصَةَ ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ وَابْنَه جَعْفَراً عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَقَالَ : يَا سَالِمُ ! تَوَلَّهُمَا ، وَابْرَأْ مِنْ عَدُوِّهِمَا ، فَإِنَّهُمَا كَانَا إِمَامَيْ هُدَىً . ثُمَّ قَالَ جَعْفَرٌ : يَا سَالِمُ ! أَيَسُبُّ الرَّجُلُ جَدَّه ، أَبُو بَكْرٍ جَدِّي ، لاَ نَالَتْنِي شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ القِيَامَةِ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَتَوَلاَّهُمَا ، وَأَبرَأُ مِنْ عَدوِّهِمَا .
وَقَالَ حَفْصُ بنُ غِيَاثٍ : سَمِعْتُ جَعْفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ ، يَقُوْلُ : مَا أَرْجُو مِنْ شَفَاعَةٍ عَلَيَّ شَيْئاً ، إِلاَّ وَأَنَا أَرْجُو مِنْ شَفَاعَةِ أَبِي بَكْرٍ مِثْلَه ، لَقَدْ وَلَدَنِي مَرَّتَيْنِ .
وقد روى تلميذهُ المتقنُ الثقةُ عَمْرُو بنُ قَيْسٍ المُلاَئِيُّ ، سَمِعْتُ جَعْفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ يَقُوْلُ : بَرِئَ اللهُ مِمَّنْ تَبَرَّأَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ .
فهذهِ النصوصُ من جعفرٍ الصادق رحمهُ اللهُ صريحةٌ في محبتهِ للشيخين وتوليهِ لهما ، وتقربهِ إلى اللهِ بذلك ، كما تدلُ أيضاً على بغضهِ لمن أبغضهما ، وبراءته ممن تبرأ منهما ، أو ادعى عصمتَهُ هو في نفسهِ . كما دعا اللهَ بأن يتبرأَ ممن تبرأَ منهما.(/5)
وهذا يهدمُ أصلاً عظيماً من أصولِ القومِ الذي يعتقدونهُ في وزيري نينا محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم ، ومن ثم بقيةُ جماهيرِ صحابةِ جدهِ صلى اللهُ عليه وآله وسلم .
وأيضاً شهد لهما بالجنة ، وأولئك الأباعدُ يشهدون عليهما بالنارِ والخلودِ فيها ؛ فقد روى الدارقطني بإسنادهِ إلى حَنَانَ بنِ سَدِيْرٍ ، سَمِعْتُ جَعْفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ ، وَسُئِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَقَالَ : إِنَّكَ تَسْأَلُنِي عَنْ رَجُلَيْنِ قَدْ أَكَلاَ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ .
أي إن أرواحهما في الجنة تغدو وتروحُ كما تشاءُ ، وليس وراءَ ذلك شيءٌ إلا التقيةَ المحضةَ ، وهي النفاقُ المحضُ ، نعوذ بالله .
موقفه من الجدال والقياس في الدين:
درج الإمامُ جعفرُ بنُ محمدٍ رحمةُ اللهِ عليه على ما درج عليه أجدادُهُ - من النبي عليهِ السلامُ ، والصديقِ ، وعلي بنِ أبي طالبٍ ، وعمومِ الصحابةِ والتابعين وتابعيهم - من التحذيرِ من الجدالِ والمراءِ في الدينِ وفي كتابِ اللهِ وشرائعهِ . وهذا الأمرُ - أعني التحذيرَ من الجدالِ وتوابعهِ وآثارهِ على الدينِ والقلوبِ - من الأمورِ المسلمةِ عند المسلمين ، مضى على التحذيرِ منهُ والتشديدِ فيه صدرُ الأمةِ وسلفُها الصالحُ في كل قرنٍ إلى عصرنا هذا ممن تبع السلفَ في مذهبهم ، ومضى على منهجهم ومنوالهم.
ومن أقوالِ الإمامِ الصادقِ في هذا ، مارواهُ الذهبي بسندهِ إلى عَنْبَسَةَ الخَثْعَمِيُّ - وَكَانَ مِنَ الأَخْيَارِ - سَمِعْتُ جَعْفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ ، يَقُوْلُ : إِيَّاكُم وَالخُصُومَةَ فِي الدِّيْنِ ، فَإِنَّهَا تَشغَلُ القَلْبَ ، وَتُورِثُ النِّفَاقَ .
وهذه العبارةُ تواترت في الحقيقةِ عن جمعٍ كبيرٍ من أئمةِ السلفِ رحمهم اللهُ ، تناقلها العلماءُ في كتبِ أصولِ السنةِ في هذا البابِ .
فهذا نموذجٌ في ذمِ الجدالِ ؛ وهو المراءُ وطلبُ المغالبةِ ، ومستلزمٌ للخصومةِ في الدينِ .
ومن ذمهِ للقياسِ قصةٌ رواها أبو نعيمٍ في " الحلية " بسنده إلى عمرو بنِ جميعٍ ، قال : دخلتُ على جعفرِ بنِ محمدٍ أنا وابنُ أبي ليلى وأبو حنيفة ، وقال عبدُ اللهِ بنُ شُبرمةَ الكوفي - وهو ثقةٌ فقيهٌ من أقرانِ الصادقِ - قال : دخلتُ أنا وأبو حنيفة على جعفرِ بنِ محمدٍ ، فقال لابنِ أبي يعلى : من هذا معك ؟ قال : هذا رجلٌ له بصرٌ ونفاذٌ في أمرِ الدينِ . قال: لعلهُ يقيسُ أمرَ الدينِ برأيهِ . قال: نعم ، قال : فقال جعفرُ لأبي حنيفةَ : ما اسمك ؟ قال: نعمان . قال : يا نعمانُ ، هل قست رأسَك بعدُ ؟ قال : كيف أقيسُ رأسي ؟! ، قال : ما أراك تحسنُ شيئاً ، هل علمت ما الملوحة في العينين ، والمرارة في الأذنين ، والحرارة في المنخرين ، والعذوبة في الشفتين ؟ قال : لا ! ، قال : ما أراك تحسنُ شيئاً. قال : فهل علمت كلمةً أولها كفرٌ وآخرُها إيمانٌ ؟ فقال ابنُ أبي ليلى : يابنَ رسولِ الله ، أخبرنا بهذهِ الأشياءِ التي سألتُهُ عنها . فقال : أخبرني أبي عن جدي أن رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قال : " إن اللهَ تعالى بمنهِ وفضلهِ جعل لابنِ آدمَ الملوحةَ في العينينِ ؛ لأنهما شحمتان ولولا ذلك لذابتا، وإن اللهَ تعالى بمنهِ وفضلهِ ورحمتهِ على ابنِ آدم جعل المرارةَ في الأذنين حجاباً من الدوابِ ؛ فإن دخلت الرأسَ دابةٌ والتمست إلى الدماغِ ، فإذا ذاقت المرارةَ التمست الخروجَ ، وإن اللهَ بمنهِ وفضلهِ ورحمتهِ على ابنِ آدم جعل الحرارةَ في المنخرين يستنشقُ بهما الريحَ ولولا ذلك لأنتن الدماغُ ، وإن اللهَ تعالى بمنهِ وفضلهِ ورحمتهِ على ابنِ آدم جعل العذوبةَ في الشفتينِ ؛ يجدُ بهما استطعامَ كلِ شيءٍ ويسمعُ الناسُ بها حلاوةَ منطقهِ . فقال : فأخبرني عن الكلمةِ التي أولها كفرٌ وآخرُها إيمانٌ . فقال : إذا قال العبدُ : لا إله ، فقد كفر ، فإذا قال : إلا الله ، فهو إيمانٌ . ثم أقبل على أبي حنيفةَ فقال : يا نعمانُ ، حدثني أبي عن جدي أن رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قال : " أولُ من قاس أمرَ الدينِ برأيهِ إبليسُ . قال اللهُ تعالى لهُ : اسجد لآدمَ ، فقال : " أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ " [ الأعراف : 12 ] فمن قاس الدينَ برأيهِ قرنهُ اللهُ تعالى يومَ القيامةِ بإبليسَ ؛ لأنه اتبعهُ بالقياسِ .
زاد ابنُ شبرمةَ في حديثهِ : ثم قال جعفرُ : أيهما أعظمُ : قتلُ النفسِ أو الزنا ؟ قال : قتلُ النفسِ . قال : فإن اللهَ عز وجل قبل في قتلِ النفسِ شاهدين ، ولم يقبل في الزنا إلا أربعةً . ثم قال : أيهما أعظمُ : الصلاةُ أم الصومُ ؟ قال : الصلاةُ ، قال : فما بال الحائض تقضي الصومَ ولا تقضي الصلاةَ ؟ فكيف - ويحك - يقومُ لك قياسك ؟!. اتقِ اللهَ ولا تقسِ الدينَ برأيك !
من أقواله في صفات الله تعالى:(/6)
وأكثرُ ما نقل عنه نموذجٌ من الصفاتِ الإلهيةِ المقدسةِ ، في كلامِ اللهِ تعالى ، لا سيما وزمنهُ زمن بدعةِ الجعدِ بنِ درهم ، وتلقي الجهمُ بنُ صفوان السمرقندي لها.
حيثُ روى عنهُ تلميذهُ مُعَاوِيَةُ بنُ عَمَّارٍ الدهني - وهو صدوقٌ - قال : سَأَلْتُ جَعْفَرَ بنَ مُحَمَّدٍ عَنِ القُرْآنِ ، فَقَالَ : لَيْسَ بِخَالِقٍ ، وَلاَ مَخْلُوْقٍ ، وَلَكِنَّهُ كَلاَمُ اللهِ .
وقد أسندها عنهُ ابنُ جريرٍ الطبري في عقيدتهِ " صريح السنة " ، أي أن كلامَ اللهِ الذي هو صفتُهُ ، ليس قائماً بذاتهِ فيخلقُ ويبدعُ ؛ لأنهُ صفةٌ والصفةُ لا تقومُ بنفسها أبداً فلا بد من قيامها بموصوفٍ .
وليس كلامُ اللهِ مخلوقاً ؛ إذ لو كان كذلك لامتنع عن الاتصافِ بالكلامِ . فعُطل عنه . وهذا القولُ من الإمامِ الصادقِ خالف فيه شيعتُهُ ومتأخريهم ؛ الذين وافقوا المعتزلةَ في قولهم بأن القرآنَ مخلوقٌ ، ومع هذا خالفوا إمامَهم المعصوم ؟!
ونقل ابنُ تيميةَ عن جعفرٍ الصادق - وعن غيرهِ ممن قبلهُ من الصحابةِ ومعاصريهِ - ومن بعده : أن اللهَ لم يزل متكلماً إذا شاء كيف شاء ، وأن الفعلَ من لوازمِ الحياةِ ، والربُ لم يزل حياً ، فلم يزل فعالاً . ذكر ذلك في المنهاج (1/215) و(2/386) .
وفي بابِ القضاءِ والقدرِ ، وافق الإمامُ جعفرُ الصادق أئمةَ أهلِ السنةِ في إثباتِ إرادةٍ للهِ خاصةٍ شاملةٍ ، وإرادةٍ للمخلوقِ خاصةٍ بهِ ؛ كما قالهُ ابنُ تيميةَ في " المنهاج " (3/169) : " لكن التحقيق إثباتُ النوعين - أي من الإرادتين - كما أثبت ذلك السلفُ والأئمةُ ؛ ولهذا قال جعفر : " أراد بهم وأراد منهم " فالواحدُ من الناسِ يأمرُ غيرهُ وينهاهُ مريداً النصيحةَ ، وبياناً لما ينفعهُ ، إن كان مع ذلك لا يريدُ أن يعينهُ على ذلك الفعل ..." . وقال عن القدرِ : هو أمرٌ بين أمرينِ لا جبرٌ ولا تفويضٌ .
وقال أيضاً : إن اللهَ أراد بنا شيئاً ، وأراد منا شيئاً ، فما أرادهُ بنا طواهُ عنا. وما أرادهُ منا أظهرهُ لنا، فما بالنا نشتغلُ بما أرادهُ بنا عما أرادهُ منا. اهـ. من لوامع الأنوار (2/251) .
وهذا معنى قولِ جدهِ على بنِ أبي طالب رضي اللهُ عنه : القدرُ سرٌ من أسرارِ اللهِ فلا نكشفهُ ! .
والمقصودُ أن أصولَ جعفرٍ الصادق وآبائِهِ هي أصولُ السنةِ وأئمةِ الدينِ في صفاتِ اللهِ ؛ بإثباتِ ما يجبُ له من صفاتِ الكمالِ مما أثبتهُ لنفسهِ أو أثبتهُ لهُ رسولهُ صلى اللهُ عليه وسلم ، ونفي ما نفاهُ اللهُ عن ذاتهِ ، أو نفاهُ عنهُ رسولهُ صلى اللهُ عليه وآله وسلم ، وإن خالفهم الرافضةُ .
قال ابنُ تيميةَ في " المنهاج " (2/368) : " ولكن الإمامية تخالفُ أهلَ البيتِ في عامةِ أصولِهم ، فليس في أئمةِ أهلِ البيتِ - مثل : علي بنِ الحسين ( زين العابدين ) وأبي جعفر الباقر، وابنه جعفرِ بنِ محمدٍ الصادق ، - ومن كان ينكرُ الرؤيةَ أو يقولُ بخلقِ القرآنِ ، أو ينكرُ القدرَ ، أو يقولُ بالنصِ على علي ، أو بعصمةِ الأئمةِ الاثني عشر أو يسبُ أبا بكر وعمرَ .
والمنقولاتُ الثابتةُ والمتواترةُ عن هؤلاءِ معروفةٌ موجودةٌ ، وكانت مما يعتمدُ عليه أهلُ السنةِ .
وشيوخُ الرافضةِ معترفون بأن هذا الاعتقادَ في التوحيدِ والصفاتِ والقدرِ لم يتلقوهُ ، لا عن كتابٍ ولا سنةٍ ولا عن أئمةِ أهلِ البيتِ ، وإنما يزعمون أن العقلَ دلهم عليه ، كما يقولُ ذلك المعتزلةُ . وهم في الحقيقةِ إنما تلقوهُ عن المعتزلةِ وهم شيوخُهم في التوحيدِ والعدلِ " .ا.هـ.
وعليه فلا يُعرفُ عن الإمامِ الصادقِ ولا أحدٍ ممن قبلهُ - من أئمةِ أهلِ البيتِ خصوصاً- ما يتناقلهُ عنهم الغالون فيهم ، بل كلُ ما ينقلونهُ عنهم كذبٌ وافتراءٌ على ألسنةِ أؤلئك الأئمةِ .
فهذه الاعتقاداتُ التي يتصورها الرافضةُ وغيرُهم - مما يحكونهُ عن الصادقِ خصوصاً ومن قبلهُ من آلِ البيتِ - إنما هي أساطيرٌ نسجوها هم حول أولئك الأئمةِ ، وأقاويلٌ تقولوها عليهم وأجروها على ألسنتهم كذباً وزوراً .
كذب الرافضة عليه:
مع ما تبوأ الإمامُ جعفرُ الصادق من المنزلةِ عند الشيعةِ ؛ إذ هو الإمامُ السادسُ من سلالةِ الحسينِ بنِ علي عندهم . ولكنهم مع هذا افتروا عليه كذباً مستطيراً لم يفتروهُ على مثلهِ من أئمتهم .
- وأولُ ذلك : ما حكاهُ شيخُهم أبو محمد الحسينُ النوبختي (310 هـ) في كتابهِ " فرق الشيعة " ؛ حيث ذكر عن الذين قالوا بإمامةِ جعفرٍ الصادق على محمد بن عبد الله بن الحسين ذى النفس الزكية ، حيث ذاع منهم من قال : إن جعفراً لما أشار إلى إمامةِ إسماعيلَ ابنه ثم مات في حياةِ أبيهِ ، أنهُ كذبهم ، ولم يكن بذلك إماماً عليهم ؛ لأن الإمامَ لا يكذبُ ولا يقولُ ما لا يكونُ ...
حتى حاولوا تسديدَ قولهِ هذا ؛ فقالوا بالبداءةِ على اللهِ ؛ أي أنه قد يبدو للهِ شيىءٌ لم يكن قبلُ في سابقِ علمهِ أن يكونَ . وإن أنكرَ البداءةَ نفر منهم .(/7)
- فهذا أولُ كذبٍ عليه في حياتهِ ، كما كذبوا عليه بادعاءِ الإمامةِ المعصومةِ له ، وسبق لنا في موقفهِ من الشيخين قوله لعبدِ الجبارِ الهمداني : مَنْ زَعَمَ أَنِّي إِمَامٌ مَعصُومٌ ، مُفتَرَضُ الطَّاعَةِ ، فَأَنَا مِنْهُ بَرِيْءٌ .
- وأيضاً الكذبُ على الإمامِ جعفر بأنهُ قال : " التقيةُ ديني ودينُ آبائي " . واعتمدوها أصلاً من أصولهم ، لا ينفكون عنهُ ، ويحرفون آيةَ آلِ عمران إليهِ .
- وأشنعُ ما افتراهُ غلاةُ الشيعةِ من الرافضةِ على الإمامِ الصادقِ : القولُ بألوهيتهِ كما صرحت به طائفةٌ البزيغية ، وهم أتباعُ بزيغِ بنِ موسى الحائك من أصحابِ جعفر ، وإن كان عامةُ الرافضةِ يلعنونهم كما في " رجال الكشي " ( ص257-258 ) ، و " أعيان الشيعة " للعاملين (13/231) ، و " رجال الطوسي " ( ص159 ) .
- ومن كذبهم عليه اعتقادُ بقائهِ وعدمِ موتهِ ، وبعضهم يعتقدُ ذلك في ابنِ موسى الكاظم ، ومنهم من يعتقدُ ذلك في غيرهِ من متقدمي آلِ البيتِ .
وهو خطأٌ بينٌ ؛ إذ الموتُ لابد منهُ ، ولم يختص أحدٌ من آلِ البيتِ لا علي ولا غيرهُ دوامَ أو بقاءَ زيادةٍ على غيرهِ ، فأعمارُهم أعمارُ غيرهم ، بل النادرُ منهم من يتجاوزُ المائةَ سنةٍ عمراً .
- وأيضا كذبهم عليه وعلى أبيهِ فيما ينقلونهُ عنه من أصولِ الدينِ وفروعهِ ، وينقلون عنهم بدونِ إسنادٍ ، أو بإسنادٍ موضوعٍ أو ضعيفٍ أو مقطوعٍ ؛ لا يتوفرُ فيه أسبابُ القوةِ في نسبةِ القولِ إليهم ، بل تتوفرُ فيه أسبابُ طعنِ نسبتهِ إلى أحدٍ من أولئك الأئمةِ .
قال ابنُ تيميةَ في " المنهاج " (5/162) : " وأما شرعياتهم فعمدتُهم فيها على ما ينقلُ عن بعضِ أهلِ البيتِ مثل : أبي جعفر الباقر، وجعفرِ بنِ محمدٍ الصادق ، وغيرهما.
ولا ريب أن هؤلاءِ من ساداتِ المسلمين ، وأئمةِ الدينِ ، ولأقوالهم من الحرمةِ والقدرِ ما يستحقهُ أمثالُهم ، لكن كثيرٌ مما ينقلُ عنهم كذبٌ ، والرافضةُ لا خبرةَ لهم بالأسانيدِ والتمييزِ بين الثقاتِ وغيرهم ؛ بل هم في ذلك من أشباهِ أهلِ الكتابِ ؛ كل ما يجدونه في الكتبِ منقولاً عن أسلافهم قبلوه ، بخلافِ أهلِ السنةِ فإن لهم من الخبرةِ بالأسانيدِ ما يمتازون به بين الصدقِ والكذبِ " . انظر نحوه في " المجموع " (11/581) .
ولئن كان الإماميةُ الرافضةُ ينقلون عن الإمام الصادقِ ذمهُ ومناظرتهُ للزنادقةِ من غلاةِ الرافضةِ ؛ وهم الباطنيون وأحزابهم ، فإن كلامه في هدمِ أصولِ الرافضةِ مثلُ ذلك ، لكنهم يخفونهُ ويخفضونهُ ولا يرفعونهُ ، ويحملونهُ على محملِ التقيةِ وغيرها . فكلا الطائفتينِ مردودٌ عليها من كلامهِ. والمقصودُ أنهُ لم يُكذب على أحدٍ مثلُ ما كُذب على جعفرٍ الصادق رحمةُ اللهِ عليه ، مع براءتهِ مما كُذب بهِ عليهِ .
مؤلفاته وآثار الصادق العلمية:
بالعطفِ على ما سبق من كثرةِ الكذبِ على الإمامِ الصادقِ رضي اللهُ عنه ، فقد افتروا على الإمامِ كتباً ورسائل قالوا : إنها من تأليفِهِ ، وهو باطلٌ نص عليه أهلُ المعرفةِ بهِ ، ومن جهةٍ أخرى لا بد من استصحابِ أن القرنَ الذي عاش فيه الإمامُ جعفرُ رضي اللهُ عنهُ ( 80 - 148 هـ ) تميز بندرةِ التأليفِ ، حتى لم يؤثر عن أهلهِ إلا أقوالٌ رويت عنهم ، وهي متفرقةٌ لم تصل إلى حدِ التأليفِ ، وكثرةِ الكتبِ والرسائلِ .
والقاعدةُ في هذا وغيرهِ : أننا لا نقبلُ قولاً عن الصادقِ ، ولا غيرهِ من أئمةِ الدينِ ومن أقلُ منهم ، إلا بالسندِ المتصلِ إليهم ، المسلسلِ بالثقاتِ والمعروفين من النقلةِ أو ما وافق الحقَ وشابههَ الدليل فيقبلُ منهُ ، ولا يردُ والحالةُ هذهِ ، وما سواهُ فلا يلتفتُ إليه أبداً .
ومن الكتبِ التي نص المحققون على أنها مكذوبةٌ عليهِ رحمهُ اللهُ :
1 - نسبوا إليهِ كذباً كتابَ " رسائل إخوانِ الصفا " ، وهو كتابٌ لم يؤلف إلا في القرنِ الثالثِ أيامَ دولةِ بني بويه .
2 - كتابُ " الْجَفْر " . وهو كتابُ تنبؤ بالحوادثِ ، وعلمِ الغيبِ المستقبلي .
3 - كتابُ " عِلمِ الْبِطَاقَةِ " .
4 - كتابُ " الْهَفْتِ " .
5 - كتابُ " اخْتِلَاجِ الْأَعْضَاءِ " ، وهي الحركاتُ السفليةُ .
6 - كتابُ " الْجَدَاوِلِ " أو " جدولِ الهلالِ " . وقد كذبهُ عليهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ أحدُ المشهورين بالكذبِ .
7 - كتابُ " أحكامِ الرعودِ والبروقِ " ، وحركات الأفلاكِ ، وما يكونُ في العالمِ . كالذي قبلهُ .
8 - كتابُ " منافعِ القرآنِ " .
9 - كتابُ " قراءةِ القرآنِ في المنامِ " .
10 - كتابُ " تفسيرِ القرآنِ " . وكثيرٌ مما نقلهُ صاحبُ حقائقِ التفسيرِ - وهو أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي الصوفي - عن جعفر الصادق هو من الكذبِ 0
11 - كتابُ " الكلامِ على الحوادثِ " ، وموضوعُهُ كتابُ " الْجَفْر " .
12 - كتابُ " تفسيرِ قراءةِ السورةِ في المنامِ 0
13 - كتابُ " قوسِ قزح "0 ويسمى قوسُ اللهِ 0(/8)
هذا وإن كانت لهذهِ الكتبِ مخطوطاتٌ متفرقةٌ في ثنايا المكتباتِ كما حشدها بروكلمان وسزكين .
قلتُ : فإنه لا يغني عن اعتقادِ كذبها ، حيثُ تكونُ كتبت على لسانِ جعفرٍ ونسبت إليه مِن أتباعهِ والغالين فيه ، أو من الزنادقةِ والباطنيةِ 0
مع اعتبارِ أن أصحابَ المكتباتِ والمفهرسين ليس لديهم العنايةُ بتحقيقِ نسبةِ الكتبِ إلى مؤلفيها ، وإنما ما ذكرهُ المترجمون ، أو وجد مكتوباً على طرةِ المخطوطةِ منسوباً إلى رجلٍ نسبوهُ إليهِ وكفى .
وأيضاً يبرهنُ الرافضةُ على كثرةِ مؤلفاتِ الإمامِ الصادقِ بما جمعهُ أبو موسى جابرُ بنُ حيان الصوفي الطرطوسي الكيمائي الشهير ( ت200 هـ ) الفيلسوف المترجم 0
فقد قالوا : إنهُ صحب جعفرَ الصادق ، وكتب عنهُ رسائلهُ وعددها خمسمائة في ألفِ ورقةٍ كما ذكرهُ ابنُ خلكان0 وهو موضوعُ شكٍ كبيرٍ ، لأن جابراً هذا متهمٌ في نفسهِ اتهاماً بليغاً ، في دينهِ وأمانتهِ ، وأيضاً في صحبتهِ للإمامِ الصادقِ المتوفى سنة ( 148 هـ ) ، إذ المشهورُ صحبتهُ لجعفرِ بنِ يحيى البرمكي لا لجعفرٍ الصادق ، وهذا بالمدينةِ وذاك ببغداد ، وأيضاً انشغالُ جابرٍ بعلومهِ الطبيعيةِ ، ولعل هذا ما يفيدُ الربط بينهُ وبين جعفرٍ الصادق ، الذي تنسبُ إليه تلك المؤلفاتُ والآراءُ في علومِ الطبيعةِ والفلكِ والكيمياءِ والجداولِ .
وعلى كلِ حالٍ ؛ هذهِ الرسائلُ لا يمكننا اعتقادُ نسبتها إلى الإمامِ الصادقِ والحالةُ هذهِ - انظر : " الأعلام للزركلي " (2/103-104) - ولو كانت صحيحةَ النسبةِ لتلقاها أبناؤُهُ وتلاميذُهُ عنهُ ، وذاع انتشارها عن مثلهِ . كذلك بعد حصولِ هذا الكمِ من التأليفِ في أولِ القرنِ الثاني . إلى أمورٍ كثيرةٍ تَردُ في التشكيكِ بهذهِ النسبةِ .
مصادر ترجمته:
- تهذيبُ الكمالِ للمزي ص202 .
- تهذيبُ التهذيبِ لابنِ حجرٍ (2/103-105) .
- تقريبُ التهذيبِ لابنِ حجرٍ رقم 950 .
- التاريخُ الكبيرُ للإمامِ البخاري (2/198) .
- التاريخُ الصغيرِ للإمامِ البخاري (2/91) .
- تاريخُ خليفة بنِ خياطٍ ص 424 .
- طبقاتُ خليفة بنِ خياطٍ ص 269 .
- تاريخُ ابنِ جريرٍ الطبري في حوادث سنةِ 145 هـ .
- تاريخُ ابنِ كثيرٍ - البداية والنهاية - (10/108) .
- تذكرةُ الحفاظِ للذهبي (1/166) .
- تذهيبُ التهذيبِ للذهبي ، عند اسمهِ جعفر بن محمد .
- خلاصةُ التذهيبِ للزركشي 63 .
- الجمعُ بين كتابي الكلاباذي والأصبهاني في رجالِ البخاري ومسلم ص 70 .
- حليةُ الأولياءِ لأبي نعيمٍ (3/192-206) .
- الجرحُ والتعديلُ لابنِ أبي حاتمٍ (2/487) .
- تاريخُ الإسلامِ للذهبي (6/45) .
- صفةُ الصفوةِ لابنِ الجوزي (2/94) .
- تاريخُ التراثِ العربي لسزكين (3/276-273) .
- طبقاتُ الحفاظِ للسيوطي ص 79 .
- شذراتُ الذهبِ لابنِ العمادِ الحنبلي (1/20) .
- الكاملُ في التاريخِ لابنِ الأثيرِ حوادث سنة 145 هـ .
- الكاملُ لابنِ عدي (2/131-134) .
- مشاهيرُ علماءِ الأمصارِ لابنِ حبان 127 .
- وفياتُ الأعيانِ لابنِ خلكان (1/327-328) .
- سيرُ أعلامِ النبلاءِ للذهبي (6/255-270) .
- طبقاتُ القراءِ لابنِ الجوزي (1/196) .
- دولُ الإسلامِ للذهبي (1/102) .
- طبقاتُ علماءِ الحديثِ لابنِ عبدِ الهادي رقم 152 .
- الثقاتُ للعجلي ص 98 .
- فرقُ الشيعةِ للنوبختي ص 55 - 66 .
- المعارفُ لابنِ قتيبةَ ص 87 - 110 .
- الأعلامُ للزركلي (1/126) .
- معجمُ المؤلفين لكحالة (1/495) .
- ميزانُ الاعتدالِ للذهبي (1/414-415) .
- ومواضعُ من منهاجِ السنةِ النبويةِ ومجموعِ الفتاوى ورد بعضها خلال الترجمةِ .
- الأنسابُ للسمعاني (8/8) .
- اللبابُ في تهذيبِ الأنسابِ لابنِ الأثير (2/299) .
- العبرُ في خبرِ من غبر الذهبي (1/209) .
- الإمامُ الصادقُ حياتهُ وعصرهُ وآراؤهُ وفقههُ لمحمد أبي زهرة ، وهو أوسعُ الدراساتِ المعاصرةِ .
- جعفرُ بنُ محمدٍ الصادق لعبدِ العزيزِ الأهل .
- بروكلمان (1/181) .
جزى اللهُ الشيخَ الفاضلَ علي الشبلُ خيرَ الجزاءِ على هذا الموجزِ الفارقِ من معالمِ ترجمةِ جعفرٍ الصادق رحمهُ اللهُ فقد أجاد وأفاد ..
وما بقي إلا أن نضع المناظرة الشهيرة للإمام جعفر الصادق مع الرافضي التي أرفقها الشيخ في كتابه::
مناظرة بين الإمام جعفر الصادق والرافضي
هذه مناظرة بين الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه مع أحد الرافضة وتوجد منها نسختان: النسخة الأولى نسخة تركيا في خزانة شهيد علي باشا باستنبول ضمن مجموع رقمه 2764 حوى عدة رسائل في العقيدة والحديث هذه الرسالة الحادية عشرة منه. النسخة الثانية نسخة الظاهرية وقد وقعت ضمن مجاميعها في المجموع رقم 111 وهي الرسالة التاسعة عشر منه. محقق الكتاب : علي بن عبدالعزيز العلي آل شبل. الناشر : دار الوطن - السعودية - الرياض هاتف 4644659-4626124.
نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم(/9)
حدثنا الشيخ الفقيه أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن سعيد الأنصاري البخاري - قراءة عليه بمكة حرسها الله سنة خمس وثلاثين وأربعمائة قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن مسافر قال أخبرنا أبو بكر بن خلف بن عمر بن خلف الهمذاني قال حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن أزمة قال: حدثنا أبو الحسن بن علي الطنافسي قال : حدثنا خلف بن محمد القطواني قال : حدثنا علي بن صالح قال :
جاء رجل من الرافضة إلى جعفر بن محمد الصادق كرم الله وجهه ، فقال :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فرد عليه السلام فقال الرجل :
1- يابن رسول الله من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
فقال جعفر الصادق رحمة الله عليه : أبو بكر الصديق رضي الله عنه .
2- قال : وما الحجة في ذلك ؟
قال : قوله عز وجل (( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن 'ن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها )){التوبة 40} فمن يكون أفضل من اثنين الله ثالثهما ؟ وهل يكون أحد أفضل من أبي بكر إلا النبي صلى الله عليه وسلم ؟!
3- قال له الرافضي : فإن علي بن أبي طالب عليه السلام بات على فراش النبي صلى الله عليه وسلم غير جزع ولا فزع .
فقال له جعفر : وكذلك أبو بكر كان مع النبي صلى الله عليه وسلم غير جزع ولا فزع .
4- قال له الرجل : فإن الله تعالى يقول بخلاف ما تقول !.
قال له جعفر : وما قال ؟
قال : قال الله تعالى (( إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا )) فلم يكن ذلك الجزع خوفاً ؟ (في نسخة الظاهرية \" أفلم يكن..\"
قال له جعفر : لا ! لأن الحزن غير الجزع والفزع ، كان حزن أبي بكر أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يدان بدين الله فكان حزن على دين الله وعلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن حزنه على نفسه كيف وقد ألسعته أكثر من مئة حريش فما قال : حس ولا ناف!
5- قال الرافضي : فإن الله تعالى قال (( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون )){المائدة 55} نزل في علي بن أبي طالب حين تصدق بخاتمه وهو راكع فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((الحمد لله الذي جعلها في وفي أهل بيتي ))
فقال له جعفر : الآية التي قبلها في السورة أعظم منها ، قال الله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه )){المائدة 54} وكان الارتداد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ارتدت العرب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واجتمعت الكفار بنهاوند وقالوا : الرجل الذين كانوا يتنصرون به - يعنون النبي - قد مات ، حتى قال عمر رضي الله عنه: اقبل منهم الصلاة ، ودع لهم الزكاة ، فقال : لو منعوني عقالا مما كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ولو اجتمع علي عدد الحجر والمدر والشوك والشجر والجن ولإنس لقاتلتهم وحدي . وكانت هذه الآية أفضل لأبي بكر.
6- قال له الرافضي : فإن الله تعالى قال : (( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية)) نزلت في علي عليه السلام كان معه أربعة دنانير فأنفق ديناراً بالليل وديناراً بالنهار وديناراً سراً وديناراً علانية فنزلت فيه هذه الآية . فقال له جعفر عليه السلام : لأبي بكر رضي الله عنه أفضل من هذه في القرآن ، قال الله تعالى (( والليل إذا يغشى )) قسم الله ، ((والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى فأما من أعطى وأتقى وصدق بالحسنى )) أبو بكر (( فسنيسره لليسرى)) أبو بكر (( وسيجنبها الأتقى )) أبو بكر (( الذي يؤتي ماله يتزكى )) أبو بكر ((وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى )) أبو بكر ، أنفق ماله على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين ألفاً حتى تجلل بالعباء ، فهبط جبريل عليه السلام فقال الله العلي الأعلى يقرئك السلام ، ويقول : اقرأ على أبي بكر مني السلام ، وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا ، أم ساخط ؟ فقال : أسخط على ربي عز وجل ؟! أنا عن ربي راض ، أنا عن ربي راض ، أنا عن ربي راض . ووعده الله أن يرضيه.
7- قال الرافضي : فإن الله تعالى يقول (( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله )) { التوبة 19} نزلت في علي عليه السلام .
فقال له جعفر عليه السلام : لأبي بكر مثلها في القرآن ، قال الله تعالى (( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى )){ الحديد 10}(/10)
وكان أبو بكر أول من أنفق ماله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأول من قاتل ، وأول من جاهد . وقد جاء المشركون فضربوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى دمي ، وبلغ أبي بكر الخبر فأقبل يعدو في طرق مكة يقول : ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم ؟ فتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخذوا أبا بكر فضربوه ، حتى ما تبين أنفه من وجهه.
وكان أول من جاهد في الله ، وأول من قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول من أنفق ماله ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما نفعني مال كمال أبي بكر )).
8- قال الرافضي فإن علياً لم يشرك بالله طرفة عين .
قال له جعفر : فإن الله أثنى على أبي بكر ثناءً يغني عن كل شئ ،قال الله تعالى (( والذي جاء بالصدق )) محمد صلى الله عليه وسلم ، ((وصدق به )){الزمر33} أبو بكر .
وكلهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم كذبت وقال أبو بكر : صدقت ، فنزلت فيه هذه الآية : آية التصديق خاصة ، فهو التقي النقي المرضي الرضي ، العدل المعدل الوفي .
9- قال الرافضي : فإن حب علي فرض في كتاب الله ؛ قال الله تعالى (( قل لا أسألكم عليه إلا المودة في القربى ))
قال جعفر : لأبي بكر مثلها ، قال الله تعالى (( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا انك غفور رحيم )){الحشر10}
فأبو بكر هو السابق بالإيمان ، فالاستغفار له واجب ومحبته فرض وبغضه كفر .
10- قال الرافضي : فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، وأبوهما خير منهما ))
قال له جعفر : لأبي بكر عند الله أفضل من ذلك ؛ حدثني أب عن جدي عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وليس عنده غيري ، إذ طلع أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( يا علي هذان سيدا كهول أهل الجنة وشبابهما -في الظاهرية شبابهم- فيما مضى من سالف الدهر في الأولين وما بقي في غابره من الآخرين ، إلا النبيين والمرسلين .لا تخبرهما يا علي ما داما حيين)) فما أخبرت به أحداً حتى ماتا.
11- قال الرافضي : فأيهما أفضل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم عائشة بنت أبي بكر ؟
فقال جعفر : بسم الله الرحمن الرحيم ((يس والقرآن الحكيم )) ، (( حم والكتاب المبين ))،
فقال : أسألك أيهما أفضل فاطمة ابنة النبي صلى الله عليه وسلم أم عائشة بنت أبي بكر ، تقرأ القرآن ؟!
فقال له جعفر : عائشة بنت أبي بكر زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في الجنة ، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدة نساء أهل الجنة .
الطاعن على زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنه الله ، والباغض لابنة رسول الله خذله الله .
12- فقال الرافضي : عائشة قاتلت علياً ، وهي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال به جعفر : نعم ، ويلك قال الله تعالى (( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله )) {الأحزاب 53}
13- قال له الرافضي : توجد خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي في القرآن ؟
قال نعم ، وفي التوراة والإنجيل .قال الله تعالى ((وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات )) {الأنعام165}
وقال تعالى (( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض )){النمل62}
وقال تعالى ((ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم)){النور55}
14- قال الرافضي : يابن رسول الله ، فأين خلافتهم في التوراة والإنجيل ؟
قال له جعفر : ((محمد رسول الله والذين معه )) أبو بكر ، ((أشداء على الكفار )) عمر بن الخطاب ، (( رحماء بينهم )) عثمان بن عفان ، ((تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً )) علي بن أبي طالب (( سيماهم في وجوههم من أثر السجود )) أصحاب محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ، (( ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل )).(/11)
قال : ما معنى في التوراة والإنجيل ؟ قال : محمد رسول الله والخلفاء من بعده أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، ثم لكزه في صدره ! ، قال : ويلك ! قال الله تعالى (( كزرع أخرج شطأه فآزره )) أبو بكر (( فأستغلظ )) عمر ((فاستوى على سوقه)) عثمان ((يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار )) علي بن أبي طالب ((وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً )) أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم ، ويلك !، حدثني أبي عن جدي عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أنا أول من تنشق الأرض عنه ولا فخر ، ويعطيني الله من الكرامة ما لم يعط نبي قبلي ، ثم ينادي قرّب الخلفاء من بعدك فأقول : يا رب ومن الخلفاء ؟ فيقول : عبد الله بن عثمان أبو بكر الصديق ، فأول من ينشق عنه الأرض بعدي أبو بكر ، فيوقف بين يدي الله ، فيحاسب حساباً يسيراً ، فيكسى حلتين خضراوتين ثم يوقف أمام العرش .
ثم ينادي منادٍ أين عمر بن الخطاب ؟ فيجئ عمر وأوداجه تشخب دماً فيقول من فعل بك هذا ؟ فيقول : عبد المغيرة بن شعبة ، فيوقف بين يدي الله ويحاسب حساباً يسيراً ويكسى حلتين خضراوتين ، ويوقف أمام العرش .
ثم يؤتى عثمان بن عفان وأوداجه تشخب دماً فيقال من فعل بك هذا ؟ فيقول : فلان بن فلان ، فيوقف بين يدي الله فيحاسب حساباً يسيراً ويكسى حلتين خضراوتين ، ثم يوقف أمام العرش .
ثم يدعى علي بن أبي طالب فيأتي وأوداجه تشخب دماً فيقال من فعل بك هذا ؟ فيقول : عبدالرحمن بن ملجم ، فيوقف بين يدي الله ويحاسب حساباً يسيراً ويكسى حلتين خضراوتين ، ويوقف أمام العرش.
قال الرجل : يابن رسول الله ، هذا في القرآن ؟ قال نعم قال الله تعالى (( وجئ بالنبيين والشهداء)) أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ((وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ))
فقال الرافضي : يابن رسول الله ، أيقبل الله توبتي مما كنت عليه من التفريق بين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ؟
قال : نعم ، باب التوبة مفتوح فأكثر من الاستغفار لهم .أما انك لو مت وأنت مخالفهم مت على غير فطرة الإسلام وكانت حسناتك مثل أعمال الكفار هباءً منثوراً .
فتاب الرجل ورجع عن مقالته وأناب .
نقلها أبو عمر المنهجي - شبكة الدفاع عن السنة(/12)
الموسم الأخير
إنها أفضل أيام الدنيا إنها العشر التي أقسم الله تعالى بها في كتابه (والفجر وليال عشر) إنها الأيام المعلومات التي شرع الله تعالى فيها ذكره (ويذكروا أسم الله في أيام معلومات) ويقول صلى الله عليه وسلم (أفضل أيام الدنيا أيام العشر ) صححه الالباني. فما من أيام يحب الله العمل الصالح فيها أكثر من هذه الأيام يقول الحبيب صلوات الله وسلامه عليه ( ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) رواه البخاري إنها العشر التي بها يوم عرفة ذلك اليوم الذي يدنو الله تعالى فيه ثم يباهي بأهل الموقف ملائكة السماء (فما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبيدا من النار من يوم عرفة) صيامه لغير الحاج يكفر سنتين : السنة الماضية والقابلة. إنها العشر التي جمع الله فيها أمهات العبادات كلها فما من عبادة في الإسلام الا ولها مكان في العشر إنها الموسم الأخير في هذا العام العمل الصالح فيه محبوب إلى الملك الديان - أفلا تحب أيها العبد ما احب مولاك ؟ تذكر أن بلوغ هذه العشر بعد رمضان نعمة عظيمة فكم من نفس أدركت رمضان لم تدرك العيد بعده وكم نفس أدركت عيد الفطر لم تدرك عشر ذي الحجة والعيد بعدها فاحمد الله على نعمة بلوغ هذا الموسم من مواسم الجنة . تذكر أن هذه العشر هي العزاء لمن فرط في رمضان فهاهو مولاك جل وعلا يمهلك ويمد في عمرك .... فماذا أنت فاعل؟! تذكر كم مرت عليك في أوائل الشهور من عشر لم يكن لها ميزة أما هذه العشر فقد ميزها خالقها وجعلها خير أيام العام فاستغل الفرصة فإنها عشر مباركة قد لا تعود ثم تذكر أن هذه العشر في شهر ذي الحجة وهو آخر شهور العام فعما قليل ستطوى صحائفه ... فاختم عامك أيها المسلم بخير فان العبرة بالخواتيم تذكر انك في موسم فاق العمل الصالح فيه – حبا الى الله – الجهاد في سبيل الله مع أن الجهاد ذروة سنام الدين فالمحروم من ضيع الفرصة والتي قد لا تعود وهاك أخي الكريم أختي الكريمة أنواع العمل الصالح التي يتقرب بها إلى الله عز وجل في هذه العشر المباركة :(/1)
أولا : التوبة النصوح : وذلك بالإقلاع عن الذنوب والمعاصي والندم على ما مضى والعزم على ألا يعود وان تكون خالصة لله ثانيا : الحرص على أداء الصلاة جماعة والتبكير الى المساجد وان تحرص على إدراك تكبيرة الإحرام وأداء السنن الرواتب والنوافل المطلقة كصلاة الضحى والوتر وان تعود إلى قيام الليل يا من تركته بعد رمضان وليعلم المسلم أن افضل ما انشغل به مسلم أن يقف بين يدي الله مصليا ثالثا : أداء الحج والعمرة : وليتذكر المسلم أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة وان جائزة أهل عرفات أن يقال لهم انصرفوا مغفورا لكم. وأنت يا من تركت حج فرضك مؤجلا و متكاسلا مع استطاعتك ماليا و بدنيا خوفا من الزحام أو الحر تذكر زحام المحشر وحر جهنم ثم تذكر أن الحج باب لنفي الفقر والذنوب والبخيل من بخل على نفسه. رابعا : صيام تسعة أيام من هذه العشر أو ما تيسر وخاصة يوم عرفة يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده) و تذكر أن من صام يوما في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا ) وقد نقل بعض أزواجه عليه الصلاة والسلام انه كان يصوم تسع ذي الحجة .. الحديث رواه الامام احمد والنسائي وصححه الألباني خامسا : بر الوالدين وخاصة الأم والإحسان إليهما وخدمتهما و الحرص على إدخال السرور إلى قلبيهما اما بكلمة طيبة او هدية حسنة. فبر الوالدين من اعظم القربات الى الله تعالى سادسا : التكبير والذكر في كل وقت فهو شعار أهل الإيمان في هذه الأيام ولا يمنعك الخجل أيها المسلم من الجهر بالتكبير فقد كان أصحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم ومنهم ابن عمر وابو هريرة يخرجان الى الأسواق لا لحاجة الشراء وانما لاحياء هذه السنة وصفتها (الله اكبر الله اكبر لا اله إلا الله والله اكبر الله اكبر ولله الحمد) سابعا : الصدقة والإحسان الى الخلق : وتذكر انك بهذا تحسن إلى نفسك قبل إحسانك إلى المحتاجين – أحرص على أن تتصدق في كل يوم ولو بريال واحد عسى ان ترفع إلى السماء من المنفقين و تضاعف لك (اللهم أعط منفقا خلفا) واعلم ان الله تعالى يقبل الصدقة ولو كانت تمرة و تمعن في قول الحبيب صلى الله عليه وسلم (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله الا طيبا فان الله يقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل العظيم) ثامنا : الأضحية فان احب الأعمال إلى الله يوم النحر (العاشر من ذي الحجة) اهراق الدم تقربا إلى الله فان للمضحي بكل شعرة حسنة فطب بها نفسا وأحذر من البخل بها وتصدق منها و أهدي إلى جيرانك وأعلم أنها سنة مؤكدة مشروعة في حق الأحياء يكره لمن وجد سعة ان يبخل بها ( واعلم ان من أراد الأضحية فليمسك عن شهره وظفره أيام العشر و من اخذ من ذلك متعمدا لحاجة ماسة فلا يمنع ذلك من الأضحية ولكن ينقص أجرها وعليه التوبة) تاسعا : الاستزادة من الأعمال الصالحة على سعتها وكثرتها مثل تلاوة القرآن وختمته في هذه العشر و حسن الخلق مع الناس وصلة الأرحام والإحسان الى الجيران ولا تتهاون في صلاة العيد فإنها من إقامة ذكر الله وفي الختام تذكر أن الأجور في هذا الموسم تتضاعف فاجعلها نقطة الانطلاق إلى رحاب الايمان والمسارعة الى الخيرات واحذر أخي المؤمن ان تهدم ما بنيته من عمل صالح بختام هذه العشر او ان تجعل ايام العيد اشر وبطر وانتهاك حرمات الله أعاننا الله تعالى وإياك على استغلال هذا الموسم وبلغنا مواسم الخير في الأعوام القادمة وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد أعداد / سعد بن عتيق العتيق أمام وخطيب جامع اسكان كلية الملك خالد العسكرية(/2)
الموسيقى في العروض العسكرية
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ وسائل الإعلام والترفيه/الترفيه والألعاب
التاريخ ... 6/12/1424هـ
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
سؤالي هو: جندي في القوات المسلحة يقول نقوم بين فترة وأخرى بعروض عسكرية، ولا تخلو هذه العروض من الموسيقى، فما حكم المشاركة في هذه العروض؟ مع العلم أنها إجبارية، ومن يتأخر فإنه عرضة للجزاء الرادع . وجزاكم الله خيراً ونفع بكم.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الموسيقى التي تستخدم عادة بالعروض العسكرية ليست كغيرها من أنواع الموسيقى الأخرى من حيث رقة الصوت الداعي إلى اللهو والفحش والرذيلة، بعكس الموسيقى العسكرية المتسمة بالجد والخشونة والرهبة، وإن كانت الموسيقى بأنواعها كلها داخلة في معنى المعازف والمزامير التي جاءت النصوص الشرعية بالنهي عنها، غير أن الموسيقى العسكرية تختلف عن غيرها من حيث الهدف والقصد والتأثير على السامعين،ولا أعرف أحداً من العلماء نص على تحريمها بعينها مع قدم ظهورها في عصرنا الحاضر في المملكة العربية السعودية، حيث عرفت في عهد الملك عبد العزيز – رحمه الله- مما يقرب من مائة سنة، علم بها العلماء والمشايخ وربما شهدها بعضهم مع الملك، ولم ينقل عن أحد منهم فيها شيء مع حرصهم على النصيحة والإنكار لما هو أقل من شهرتها، ولو أنكروها لنقل ذلك، ولعل سكوتهم عنها حمل لها على طبول الحرب، المتعارف عليها بالجواز عند المسلمين في جميع الأقطار، وقد سألت سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله- عن حكم الموسيقى العسكرية، وهل نقل عن أحد من العلماء في عهد الملك عبد العزيز شيء فيها؟ فقال: لا أعلم في ذلك شيئاً، وأقول: ما دمت كارهاً لها فجزاك الله خيراً ولا شيء عليك إن شاء الله؛ لأنك مجبر عليها بحكم عملك. والله أعلم.(/1)
الموضوعيّة والالتزام: هل ثمّة تناقض؟
أ. د. عماد الدين خليل 19/3/1427
17/04/2006
بعض الدارسين يقيم صراعاً، قد يكون مصطنعاً، بين الموضوعية والالتزام عند دراسة الإنسان الفرد، والإنسان والمجتمع والتاريخ والحضارة والمستقبل. وهذا يثير إشكالية تبحث عن جواب ..
بإيجاز شديد، نحن كمسلمين نؤمن -حتى النخاع- بمصداقية عقيدتنا الإسلامية في تعاملها مع الإنسان والمجتمع والنشاط الحضاري .. أي بموضوعيتها، وإلاّ ما غدونا مسلمين: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً). [الأحزاب:36]. (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً)[المائدة: من الآية3].. فالإسلام ـ كما هو بديهي ـ كلمة الله الأخيرة إلى الإنسان، ومنهجه الخاتم في الأرض، وما يقوله بصدد الفرد والمجتمع والنشاط الحضاري هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (ويجب أن نفرّق هنا بين معطيات كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبين اجتهادات المسلمين أنفسهم).
فليس ثمة خط فاصل ـ في الرؤية الإسلامية ـ بين الموضوعية والالتزام. بل على العكس، إن الالتزام بالمفهوم هذا يمنحنا معايير صادقة ومنضبطة للحكم بموضوعية على مفردات التعامل.
والقرآن الكريم يقولها بوضوح: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). [المائدة:8]. (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى). [الأنعام: من الآية152].
إنها دعوة صريحة مؤكدة للتعامل العادل مع الجماعات والظواهر والأشياء، بغض النظر عن اختلاف المبادئ والمنطلقات.
ثمة شيء مدهش إذا صحّ التعبير ما عرفه مذهب من المذاهب في التعامل " الموضوعي " العادل مع "الآخر"، ولكنه في تقاليدنا القرآنية والنبوية يصير ظاهرة مؤكدة بل أمراً ملزماً!
لنسترجع معاً هذه الآيات من سورة النساء، ثم لنتأمل المغزى الذي يتشكل في كل حرف أو كلمة فيها، مما يبدو ـ بحق ـ قمة تتضاءل دونها سائر القمم الأخرى في مجال التعامل الموضوعي العادل كالصراط مع الظواهر والأشياء، ومع الإنسان أياً كان موقعه في الزمن أو المكان أو الطبقة أو العرق أو المكانة أو ـ حتى ـ الدين: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) [النساء105-113].(/1)
هذه الآيات، كما يحدّثنا الشهيد سيّد قطب في (الظلال): "تحكي قصة لا تعرف لها الأرض نظيراً، ولا تعرف لها البشرية شبيهاً. وتشهد وحدها، بأن هذا القرآن وهذا الدين لابدّ أن يكون من عند الله؛ لأن البشر ـ مهما ارتفع تصوّرهم، ومهما صفت أرواحهم، ومهما استقامت طبائعهم ـ لا يمكن أن يرتفعوا ـ بأنفسهم ـ إلى هذا المستوى الذي تشير إليه هذه الآيات، إلاّ بوحي من الله .. "إنه في الوقت الذي كان اليهود في المدينة يطلقون كل سهامهم المسمومة التي تحويها جعبتهم اللئيمة على الإسلام والمسلمين.. في الوقت الذي كانوا فيه ينشرون الأكاذيب، ويؤلّبون المشركين، ويشجعون المنافقين، ويرسمون لهم الطريق، ويطلقون الإشاعات، ويضللون العقول، ويطعنون في القيادة النبوية، ويشككون في الوحي والرسالة، ويحاولون تفسيخ المجتمع المسلم من الداخل، في الوقت الذي يؤلبون عليه خصومه ليهاجموه من الخارج. والإسلام ناشئ في المدينة، ورواسب الجاهلية لا يزال لها آثارها في النفوس، ووشائج القربى والمصلحة بين بعض المسلمين وبعض المشركين والمنافقين، واليهود أنفسهم، تمثل خطراً حقيقياً على تماسك الصف المسلم وتناسقه. في هذا الوقت الحرج، الخطر.. كانت هذه الآيات كلها تتنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى الجماعة المسلمة لتنصف رجلاً يهودياً اتهم ظلماً بسرقة، ولتدين الذين تآمروا على اتّهامه، وهم بيت من الأنصار في المدينة. والأنصار يومئذ هم عدة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجنده، في مقاومة هذا الكيد الناصب من حوله، ومن حول الرسالة والدين والعقيدة الجديدة!
" .. إن المسألة لم تكن مجرّد تبرئة بريء، تآمرت عليه عصبة لتوقعه في الاتهام ـ وإن كانت تبرئة بريء أمراً هائلاً ثقيل الوزن في ميزان الله ـ إنما كانت أكبر من ذلك. كانت هي إقامة الميزان الذي لا يميل مع الهوى، ولا مع العصبية، ولا يتأرجح مع الموّدة والشنآن
أياً كانت الملابسات والأحوال. وكانت المسألة هي تطهير هذا المجتمع الجديد وعلاج عناصر الضعف البشري فيه مع علاج رواسب الجاهلية والعصبية في كل صورها، حتى في صورة
العقيدة، إذا تعلّق الأمر بإقامة العدل بين الناس، وإقامة هذا المجتمع الجديد، الفريد في تاريخ البشرية، على القاعدة الطيّبة النظيفة الصلبة التي لا تدنّسها شوائب الهوى والمصلحة والعصبية، والتي لا تترجرج مع الأهواء والميول والشهوات.
"ولقد كان هناك أكثر من سبب للإغضاء عن الحادث، أو عدم التشديد فيه والتنديد به، وكشفه هكذا لجميع الأبصار. بل فضحه بين الناس، على هذا النحو العنيف المكشوف. كان هناك أكثر من سبب لو كانت الاعتبارات الأرضية هي التي تتحكم وتحكم، ولو كانت موازين البشر ومقاييسهم هي التي يرجع إليها هذا المنهج! كان هناك سبب واضح عريض. أن هذا المتهم
" يهودي " من يهود .. يهود التي لا تدع سهماً مسموماً تملكه إلاّ أطلقته في حرب الإسلام وأهله، والتي يذوق منها المسلمون الأمرّين .. والتي لا تعرف حقاً ولا عدلاً ولا نصفة، ولا تقيم اعتباراً لقيمة واحدة من قيم الأخلاق في التعامل مع المسلمين على الإطلاق !
"وكان هنالك سبب آخر، أنّ الأمر في الأنصار الذين آووا ونصروا. والذين قد يوجد هذا الحادث بين بعض بيوتهم ما يوجد من الضغائن. بينما أن اتجاه الاتهام إلى يهودي يبعد شبح الشقاق! وكان هنالك سبب ثالث هو عدم إعطاء اليهود سهماً جديداً يوجّهونه إلى الأنصار، وهو أن بعضهم يسرق بعضاً ثم يتهمون اليهود! ولا يدعون هذه الفرصة تفلت للتشهير بها.
" ولكن الأمر كان أكبر من هذا كله .. أن يُقام ميزان العدل في الجماعة المسلمة لتحكم به بين الناس، مجرداً من جميع الاعتبارات الأرضية والمصالح القريبة الظاهرة، والملابسات التي يراها الناس شيئاً كبيراً لا يقدرون على تجاهله!
" .. ومن ثم لم يكن هناك مجال للياقة! ولا للكياسة ولا للسياسة! ولا للمهارة في إخفاء ما يحرج، وتغطية ما يسوء. ولم يكن هناك مجال لمصلحة الجماعة المسلمة الظاهرية ومراعاة الظروف الوقتية المحيطة بها! هنا كان الأمر جداً خالصاً، لا يحتمل الدهان ولا التمويه. وكان هذا الجد هو أمر هذا المنهج الرباني وأصوله، وأمر هذه الأمة التي تعدّ لتنهض بهذا المنهج وتنشره. وأمر العدل بين الناس في هذا المستوى الذي لا يرتفع إليه الناس إلاّ بوحي من الله.
".. وينظر الإنسان من هذه القمة السامقة على السفوح الهابطة في جميع الأمم على مدار الزمان، فيراها هنالك في السفوح، ويرى بين تلك القمة السامقة والسفوح الهابطة صخوراً متردية، هنا وهناك، من الدهاء والمراء والسياسة والكياسة والبراعة والمهارة ومصلحة الدولة ومصلحة الوطن ومصلحة الجماعة، إلى آخر الأسماء والعنوانات، فإذا دقّق الإنسان فيها النظر رأى من تحتها الدود ..".
دعونا نسرد ـ في مقابل هذا ـ بعض الشواهد على العلاقة (الحرّة !) بين الموضوعية والالتزام في الحياة الغربية.(/2)
كلنا يذكر الفيلسوف الألماني (الكبير!) هيغل صاحب التفسير المثالي للتاريخ، والذي كان من أبرز دعاة العرقية الألمانية والتفوّق الجرماني. فلما غزا نابليون بونابرت ألمانيا، بعد أن اكتسح مساحات واسعة من أوروبا، اعتبره هيغل المعبّر عن العقل الكلي، المهيمن على قدرات الصيرورة التاريخية، و (البطل) الذي جاء (على حصانه الأشهب) لكي يصنع التاريخ. على الرغم من أن عسكرية نابليون، وما أدّعاه من التبشير بمبادئ الثورة الفرنسية في الوقت نفسه، يتناقضان في الأساس مع نموّ القومية الألمانية وفلسفتها وأهدافها.
وكلّنا يذكر ما فعله فيلسوف الاجتماع (الكبير!) أوغست كونت عندما بعث رسالة بعنوان (رسالة فلسفية في التذكار الاجتماعي) إلى محبوبته (كلوتليد دي فو) يغير رأيه في المرأة ومكانتها الاجتماعية تغييراً تاماً. فقد كان منذ أشهر يكتب إلى تلميذه (ستورات مل) فيرى أنه ليس في المرأة أمل ولا خير، أما الآن فهو يرى المرأة عنصراً أساسياً في الإصلاح الاجتماعي الذي وقف نفسه عليه. والسبب في هذا الانقلاب الفجائي من النقيض إلى النقيض هو أنه في الأولى كان يحب امرأة قبلت الزواج، ولكنها خدعته فدفعته إلى محاولة الانتحار والالتحاق بمستشفى المجانين حيناً من الدهر، وفي الثانية أحب فتاة لم يُتح له الزواج بها، لكنها منحته نفسها، وأحبّته حباً صادقاً. وهكذا أصبح الحكم على جنس المرأة مستمداً من خبرة الفيلسوف الشخصية ومطارحاته ونزواته.
هناك ـ أيضاً ـ حادثة المدرّسة الفرنسية الخاصة التي استقدمها ستالين، أيام زعامته للاتحاد السوفياتي المندثر، لتعليم أبنائه. لقد اكتشفت نسخة من رواية (الحرب والسلام) لتولستوي وعلى هوامشها ملاحظات بخط ستالين تحمل معنى التحامل على تمجيد الأبطال، وتكرار جملة "خطأ اشتراكي".
فهل ثمة في التاريخ المعاصر، بل ربما في مساحات واسعة من التاريخ البشري، غير هتلر وموسوليني، من مارس في سلوكه وسياساته مفهوم البطولة الطاغية وشرب كأسها حتى الثمالة مثل ستالين؟ والمجازر الجماعية التي نفذها؟ وحصاد الملايين من أبناء أمته، ما كانت في جانب من جوانبها سوى تعبير عن هذا التفرّد الطاغي الذي يصل على يدي ستالين حدّ التألّه، وليس مجرد البطولة التي اعتبرها "خطأ اشتراكياً"!
لنرجع إلى إسلامية المعرفة، أو التأصيل الإسلامي للنشاط العلمي والمعرفي عموماً، فإننا سنجده يعكس ـ بشكل من الأشكال ـ هذا التماسك العميق في الإسلام بين الحقائق والتصورات، أي بين الموضوعية والالتزام. بل إن بمقدور المرء أن يمضي خطوة أخرى فيقول بأن إسلامية المعرفة هي وضع للأمور في نصابها الحق. ذلك أن الالتزام بالمعايير الإسلامية يمنح من المحفزات والضوابط (معاً) ما يتطلب التسريع بالكشف والابتكار والتنمية العلمية، وجعل هذا كله لصالح الإنسان والجماعات البشرية وليس (ضدّها)، كما يحدث في بعض حلقات العلم الغربي.
وهذا لا يعني من قريب أو بعيد دخول مفردات التصوّر الإسلامي إلى المختبر للحكم على الظواهر والأشياء وإرغامها على الدخول من هذه القناة أو تلك، مما هو نقيض العلم ابتداء. هذا ما يتصوره أو يوهم به أعداء المشروع وخصومه أو بعض السذّج من المسلمين أنفسهم. والمقصود شيء آخر تماماً يتمثل في رسم إطارات شاملة ومرنة لحركة العلم وتوظيف نتائجه، لا تخترق على رجال المختبر خلوتهم، ولكنها تعطيهم المؤشرات التصوّرية التي تمكنهم من جعل الكشف أكثر موضوعية، وأقدر على تأكيد الإيمان في هذا العالم لا نفيه والاصطراع معه. وهذا على وجه التحديد ما نستطيع أن نقرأه في المعطيات الأكثر حداثة للعلماء وفلاسفة العلم المعاصرين على الرغم من أنهم لا ينتمون للإ(/3)
الموقف الشرعي من أباطيل الترابي الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة*
الحمد لله مؤيد الحق وناصره، وداحض الباطل وكاسره، ومعز الطائع وجابره، ومذل الباغي وداثره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في أعظم ما أنزله من صحفه ورسائلِه :}وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ{ )الأنعام : 55( ونصلي ونسلم على سيدنا محمد ، عبده ورسوله، خير داعِ لله وسائله ، المعصوم القائل فيما صح من أنباءه وزوا جره : (( يكون في آخر الزمان دجالون كذابون. يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم . فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم )) رواه مسلم (7). أما بعد .
فقد ثارت حمية الغيرة على حياض دين الله العظيم، لدى عامة المسلمين وخاصتهم من أهل العلم والدعوة إلى الإسلام ، لما بلغهم عن الترابي ، من قوله في مقابلة أجرته معه صحيفة الرأي العام السودانية (العدد (3062) بتاريخ : 11/ 3/2006م ) حيث صرح قائلا : " الخمر لا تصبح أمر قانون إلا إذا تحولت لعدوان " ، ولما بلغ عنه قبل هذا ببضعة أشهر - في محاضرة بور تسودان ؛التي نشرتها صحيفة ألوان (بتاريخ29/12/2005م)- من إنكاره نزول المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام في آخر الزمان ، ووصفه شروط الإمامة التي أجمعت عليها الأمة، بأنها "شروط منحطة" و"سخيفة"!! ،وقوله بجواز إمامة المرأة الرجال في الصلاة !! وزاد على ذلك في ندوة له بدار حزب الأمة (صحيفة الحياة والناس ، بتاريخ 9/4/2006) وقال :" إنه للرجال والنساء الصلاة معا ولكن دون إلصاق " ! ثم أكد ما يقوله من قبل "بأن المسلمة يجوز لها الزواج من كتابي " (في مقابلة قناة العربية بتاريخ 11/4/2006م). إلى غير ذلك من الأباطيل والهرطقيات ،والرجل له شهوة جامحة بالوقيعة في أصول دين الله رب العالمين ، الذي به يعتز المؤمنون ، وعن بيضته ينافحون، وليست هذه أول بوائق الرجل ومصائبه ، بل هنالك ما هو أنكى وأشد ، أعلنها من قبل في عقوده الماضية، ثم عاد يجترها من جديد في عجافه الحاضرة، مثيرا بها نقعاً وعجاجاً أشبه باضطراب الموتور أو المذبوح، مع ما في إثارة تلك الزوبعة من صرف الأنظار عن قضية القضايا وأصل الأصول التي يحاول أعدائنا العبث بها ، ألا وهي طمس هويتنا الإسلامية بتكريس صنم العلمانية.
ولما كان الواجب على أهل العلم والدعوة إلى دين الله القيام ببيان الحق ، ونصح الخلق ، والأخذ على كل (( ساع إلى فتنة)) لكي لا يتسع الخرق ، ويعسر على المصلحين الرتق . وتلك مهمة العلماء من أهل الإسلام في كل عصر ومصر ، تبصرة وتجلية لأنوار الهدى، وقياما بالمحجة بين الورى ، كما قال المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين )) رواه البيهقي في السنن الكبرى 10/209 .
ومن الجدير ذكره أننا ما نذكر قولاً من أقواله إلا ولدينا المصدر الذي اعتمدنا عليه، مما هو في شريط بصوته منطوق ، أو صحيفة وكتاب ثابت عنه مقروء:
أولاً:إستباحته الإرتداد عن الإسلام ، وإنكاره إقامة الحد على المرتد :
يرى الترابي أن من حق أي مواطن في دولة الإسلام تغيير دينه إذا اقتنع بغيره، يقول في مقابلة له مع جريدة المحرر اللبنانية (العدد: 263، آب 1994): "حتى إذا ارتد المسلم تماماً وخرج من الإسلام ويريد أن يبقى حيث هو، فليبق حيث هو. لا إكراه في الدين.. لا إكراه في الدين.. وأنا لا أقول إنه ارتد أو لم يرتد فله حريته في أن يقول ما يشاء، شريطة أن لا يفسد ما هو مشترك بيننا من نظام".ويقول أيضاً:
"وأود أن أقول: إنه في إطار الدولة الواحدة والعهد الواحد يجوز للمسلم كما يجوز للمسيحي أن يبدل دينه.. أما الردة الفكرية البحتة التي لا تستصحب ثورة على الجماعة ولا انضماماً إلى الصف الذي يقاتل الجماعة كما كان يحدث عندما ورد الحديث المشهور عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فليس بذلك بأس يذكر، ولقد كان الناس يؤمنون ويكفرون، ثم يؤمنون ويكفرون، ولم يطبق عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم حد الردة" ، ولهذا لما سئل الترابي عن فتوى ردة (سلمان رشدي) صاحب كتاب ( آيات شيطانية ) قال الترابي :( هذه الفتوى لا تمثل أكثر من رأي فقهي) صحيفة الأنباء بتاريخ24/1/1998م . ويقول منكرا حد الردة، بإفك وكذب: (( أولا: لم يأمر النبي مطلقا بقتل أي شخص ارتد عن الإسلام، ثانيا: هناك حديث واحد فقط يخرج عن بقية السياق يقول: (من بدل دينه فاقتلوه). )) صحيفة الأنباء بتاريخ24/1/1998م .(/1)
ويسأل بعدها في ذات الصحيفة: إذا قامت دولة إسلامية أو جماعة من المسلمين بقتل مرتد ، هل هذا حلال ومباح في نظر الإسلام؟فأجاب :" هذا ليس عدلا " ! بل شنع أكثر من هذا فقال :"هذا السلوك يعود بنا إلى أوروبا في القرون الوسطى" ! وفي إشارة منه على عدم احترامه للمصادر الشرعية يقول: ".. وهذه لا تحتاج إلى الرجوع إلى قول فلان ورد فلان على فلان. حرية العقيدة أصل من أصول القرآن، لكن أكثر المسلمين انقطعوا عن أصولهم تماماً، وبدءوا يأخذون عمن أخذ عمن أخذ عمن أخذ من الأصول!! وهذه واحدة من ظواهر التخلف عن دواعي الدين ".
إن الترابي بأقواله في الردة عن الإسلام قد ارتكب جرمين :
أحدهما : إباحته الردة عن الإسلام ، وهذا صريح في قوله " وأنا لا أقول إنه ارتد أو لم يرتد فله حريته " وقوله : " يجوز للمسلم كما يجوز للمسيحي أن يبدل دينه " وهذا فيه استباحة لما ثبت في القرآن حرمته ، قال تعالى: }وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{)البقرة:217)يقول ابن قدامة رحمه الله: "ومن اعتقد حِلَّ شيءٍ أُجمع على تحريمه وظهر حكمه بين المسلمين، وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه، كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه، كفر".
وجرمه الثاني : إنكاره لحد الردة في الإسلام ، ووصفه ذلك بالظلم وعدم العدل ،مع أن الأدلة على قتل وقتال المرتد كثيرة:
منها آية البقرة آنفة الذكر وقد استدل بها الشافعي وغيره ، ومنها ما رواه الجماعة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" وما رواه أحمد والنسائي عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا من ثلاثة: إلا من زنا بعد ما أحصن، أو كفر بعد ما أسلم، أو قتل نفساً فقتل بها" وروى مسلم معناه.
وبعد كل هذه النصوص يدعي الترابي بأن الردة ليس فيها إلا حديث واحد، وهذا غاية في الكذب والافتراء والغش للأمة، ولكن ما ظنك بامرئ الصدقُ محمودٌ إلا منه. يقول ابن قدامة رحمه الله: "وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتدين، وروي ذلك عن أبي بكر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد رضي الله عنهم، وغيرهم، ولم يُنْكَرْ ذلك، فكافر إجماعاً" هذا ولا يصح احتجاجه بالآية الكريمة }:لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{ )البقرة: 256(. على عدم قتل المرتد، لأن الآية تتحدث عن موقف المسلمين من الكافر الأصلي، والمرتد مسلم فارق الجماعة، ومما يبين ذلك: سبب نزول هذه الآية: وهو أنه لما أجلي بنو النضير -وكان فيهم من تهود من أبناء الأنصار- قالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله "لا إكراه في الدين" رواه أبو داود والنسائي .
ومعنى الآية: أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في الإسلام، فإنه بيّن واضح، جلية دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه.(ابن كثير في تفسيره).
أما قتل المرتد عن دينه المفارق للجماعة المسلمة، فهذا حكم الله ورسوله. قال صلى الله عليه وسلم : "من بدل دينه فاقتلوه". (رواه البخاري) . وأما الزعم بأننا لو أخذنا بظاهر هذا الحديث: "من بدَّل دينه فاقتلوه"، لقتلنا من بدَّل دين النصرانية بالإسلام، فنقول: النصرانية، واليهودية، والشيوعية ليست أدياناً، وإنما الدين عند الله هو الإسلام، فما حجته تلك إلا تلبيس وتدليس.
ثانياً : قوله :بأن اليهود والنصارى مؤمنون ، وأنهم ليسوا بكفار:
قال الترابي: "إن قيام جبهة المؤمنين هو مطلب الساعة، وينبغي ألا تحول دونه المخاوف والتوجسات التاريخية، فنحن نعلم جميعاً أن الكثير من الحروبات التي شنت باسم الدين والاضطهاد الذي وقع باسم الدين كان الدين منه براء، لأن الأديان السماوية لا تدعو لنشر رسالتها - رسالة الفضيلة والسلام - بحد السيف أو بالقنابل والمدافع، ونحن نقرأ تاريخ الحروب الصليبية التي شنت على الشرق فنراها حملات استعمارية، استخدم فيها بعض ملوك أوربا شعار الصليب واسم المسيحية ليحققوا توسعاً استعمارياً تتعبأ فيها جماهيرهم المؤمنة، ويمدهم بالموارد وبكنوز الشرق التي كانوا يسمعون بها، وكذلك جاءت الموجة المتأخرة من الاستعمار واستخدمت اسم الدين ودعاوى التبشير لتبسط نفوذها على الأرض والناس تتخذهم سلعة لتجارة الرقيق وسخرياً لتحقيق مآربها الدنيوية المفارقة لهدي الأديان جميعاً، ولقد جاءت الموجة الاستعمارية بعرقيتها وعنصريتها مخالفة لهدي الإخاء المسيحي الذي لا يرى فرقاً بين أبيض وأسود إلا بالتقوى" .
وقال: " وهذه هي دعوتنا اليوم: أن تقوم جبهة أهل الكتاب، والكتاب عندنا يطلق في القرآن يقصد به كل كتاب جاء من عند الله".(/2)
إذن: يدعو الترابي إلى قيام جبهة أهل الإيمان (المسلمون، والنصارى، واليهود) على أساس الملة الإبراهيمية، وكان منذ القديم يطرح هذه الأفكار في منتدياته، يقول في مقابله له مع مجلة المجتمع (العدد: 736، تاريخ 8/10/1985):
"إن الوحدة الوطنية تشكل واحدة من أكبر همومنا، وإننا في الجبهة الإسلامية نتوصل إليها بالإسلام على أصول الملة الإبراهيمية التي تجمعنا مع المسيحيين بتراث التاريخ المشترك وبرصيد تاريخي من المعتقدات والأخلاق، إننا لا نريد الدين عصبية عداء، ولكن وشيجة إخاء في الله الواحد".وفي مقابلة له مع المحرر اللبنانية (العدد 263، آب 1994) يقول: "إنني لأعتقد أن النصراني أقرب إلي ممن ينافقني ويدعي الإسلام، ابتغاء مكسب)) وصرح في محاضرة بعنوان الدولة بين النظرية والتطبيق: النصارى ما كفار هم بيؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض ، والمسلم ممكن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض )).
إن كل مسلم له حظ من العلوم الشرعية يعلم أن الترابي فيما يدعيه ويدعو إليه يُكذِّبُ قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح بن مريم) (المائدة:17). وقوله:(لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) (المائدة:73)، وقوله: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه)(المائدة:18) ، وقوله: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل، قاتلهم الله أنى يؤفكون، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيحُ ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون)(التوبة:30 – 31). أما تغني كل هذه النذر والأحكام التي تجلت؟ وليست الإبل بأغلظ أكباداً ممن له قلب لا يبالي بالآيات كثرت أو قلت.
ولقد أجمع علماء الملة على كفر اليهود والنصارى، وكفر من لم يكفرهم أو شك في كفرهم ولذلك قال القاضي عياض في الشفا (2/286) ": ولهذا نُكفّر من لا يُكفّر من دان بغير ملّة المسلمين من الملل أو وقف فيهم أو شك أو صحّح مذهبهم، وإن أظهر بعد ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه ، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك " أهـ .قال القاضي أبو بكر" : لأن التوقيف والإجماع اتفقا على كفرهم فمن توقف في ذلك فقد كذّب النص والتوقيف أو شك فيه ، والتكذيب أو الشك فيه ، لا يقع إلا من كافر" ويسمع في هذه وتلك ردود العلماء فما تزيده إلا إصراراً على بدعته ودأباً في الدعوة إليها.
ثالثاً : إنكار الترابي نزول المسيح عليه السلام:
ليست محاضرة بور تسودان وحدها هي التي أنكر فيها هذا الشَرَط من أشراط الساعة فقد جاء في كتابه "قضايا التجديد.. نحو منهج أصولي" مايلي :
"وفي بعض التقاليد الدينية تصور عقدي بأن خط التاريخ الديني بعد عهد التأسيس الأول ينحدر بأمر الدين انحطاطاً مضطرداً لا يرسم نمطاً روحياً. وفي ظل هذا الاعتقاد تتركز آمال الإصلاح أو التجديد نحو حدث أو عهد واحد بعينه مرجو في المستقبل يرد أمر الدين إلى حالته المثلى من جديد. وهذه عقيدة نشأت عند اليهود واعترت النصارى، وقوامها انتظار المسيح يأتي أو يعود عندما يبلغ الانحطاط ذروته بعهد الدجال قبل أن ينقلب الحال صاعداً بذلك الظهور، ولعلها تحريف للبشريات التي جاءت في الوحي القديم بمبعث عيسى ثم بمبعث محمد عليهما السلام.
وقد انتقلت هذه العقيدة بأثر من دفع الإسرائيليات إلى المسلمين. وما يزال جمهور من عامة المسلمين يعولون عليها في تجديد دينهم))
أيها المسلمون..
إن عقيدة نزول المسيح عليه السلام آخر الزمان ثابتة في القرآن الكريم، وفي الأحاديث الصحيحة، ومنها صحيحا البخاري ومسلم، وعدّها كثير من أئمة الحديث من الأحاديث المتواترة، فابن حجر العسقلاني تتبع طرقها واحداً واحداً وأثبت بأنها متواترة، وذكر الشوكاني في توضيحه تسعة وعشرين حديثاً ما بين صحيح وحسن وضعيف منجبر، منها ما هو مذكور في أحاديث الدجال، ومنها ما هو مذكور في أحاديث المهدي المنتظر، وتنضم إلى ذلك أيضاً الآثار الواردة عن الصحابة فلها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد في ذلك. ونقل النووي عن القاضي عياض قوله : " ونزول عيسى وقتله الدجال حق وصحيح عند أهل السنة للأحاديث الصحيحة في ذلك ، وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطله فوجب إثباته"
فهذه التي يسميها الترابي ((تقاليد)) والتي يسميها ((إسرائيليات)) أحاديث نبوية صحيحة. والقائلون به من أئمة المسلمين إنما هم متبعون للقرآن والسنة المتواترة، فمن يا ترى هو الكذاب الأشر؟!.(/3)
صحَّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم، حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبل أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها"، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: واقرؤوا إن شئتم: "وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا".
وأما قول الله عز وجل: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}( سورة آل عمران: 40). فالوفاة هنا بمعنى النوم، فالقرآن يوضح بعضه بعضاً، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْل } ( الأنعام : 60 ). وقوله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}) الزمر :42(. إذن النوم يسمى وفاة وقد دلت الأدلة على عدم موته عليه السلام فوجب حمل الآية على وفاة النوم جمعا بين الأدلة. قال الشيخ بن باز رحمه الله:" من قال..... إنه ليس هناك مسيح ينزل من السماء فقد أعظم على الله الفرية بل هو مكذب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ومن كذب الله ورسوله فقد كفر، والواجب أن يستتاب من قال مثل هذه الأقوال، وأن توضح له الأدلة من الكتاب والسنة فإن تاب ورجع إلى الحق وإلا قتل كافرا".
رابعاً: الاتحاد والفناء في ذات الله بالفن:
يعتبر الترابي الفن بكل أشكاله –رقصا وغناء وموسيقى- قسماً من أقسام التوحيد والعقيدة الإسلامية يقول :
"منها أن فقه العقيدة الموروث الذي نشأنا عليه لا يجعل الفن شعبة من شعاب إيماننا وتوحيدنا ولا يهيئنا لأن نتذكر الله بالجمال وصنعه ولا نعبده من خلاله". كتابه: (قيمة الدين.. رسالية الفن). الناشر: اتحاد طلاب جامعة القاهرة بالخرطوم.
وعن الرقص يقول:
"الرقص كذلك تعبير جميل يصور معنى خاصاً بما تنطوي عليه النفس البشرية.. إلى أن قال: ولا ننكر أن في الغرب رقصاً يعبر عن معانٍ أخرى كريمة"جريدة الصحافة: 15/11/79 والبيان الثاني للإخوان المسلمين: 23/9/1980
ويقول أيضاً : "فبالتوحيد يتخذ الإنسان الفن وسيلة إلى الله يأخذه بذات خصائصه دون كبت أو تعطيل ويسخره للعبادة، بل يرقى بطبيعته تلك ليرقى به قدر العبادة.. فلا بد إذن من اتخاذ الفن مادة لعبادة الله". سبحانك ربي !
ما علاقة الفن والرقص بالعقيدة ؟ أوَ يقول ذلك عاقل؟!أي نوع من البشر هذا المفتون المتهوك؟
خامساً : تطاوله على الأنبياء صلى الله عليهم وسلم :
يقول عن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في محاضرة مسجلة بصوته : "ده شخص راق لكن ما تقولوا: معصوم ما يعمل حاجة غلط". بل وقال عنه : ويقول أخبار تطلع غلط" .
وعن إبراهيم عليه السلام قال:
"كان شاكاً في ربه عابداً للكواكب قبل البعثة".
وفي موضع آخر زعم بأن الله سبحانه وتعالى لم يعصم رسولنا صلى الله عليه وسلم إلا من الناس مستدلاً بقوله تعالى: ((والله يعصمك من الناس)))المائدة: 67(.
ويقول أيضاً: "هسع كلمة العصمة دي، الصحابة كانوا بيعرفوها، هسع لو جابوا الصحابة كلهم قعدوهم بيعرفوا عصمة النبي؟ وما عصمة النبي؟ يقولوا لهم النبي كذاب. يقولوا: كلا حاشا ما نبي كذاب، لكن ما بيعرفوا كلمة العصمة، دي كلمة عملوها المتكلمين".
إن عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فى عقيدتنا أصل من أصول الإيمان والإسلام، وهى عقيدة لا تنفك عن شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. والطعن في عصمة البلاغ طعن في هذه الشهادة، وهى أيضاً دليلنا على حجية الوحي الإلهي ،ومن هنا تناول علماء الأصول العصمة في مباحث القرآن الكريم والسنة الشريفة، لتوقف حجيتهما على عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يستلزم أن كل خبر بلاغي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق مطابق لما عند الله إجماعاً ،فيجب التمسك به0يدل على ذلك قوله تعالى : (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحى يوحى)( النجم 3،4) فكلمة "ينطق" في لسان العرب تشمل كل ما يخرج من الشفتين قولاً أو لفظاً أي ما يخرج نطقه صلى الله عليه وسلم عن رأيه، إنما هو بوحي من الله عز وجل"الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 17/84(/4)
وعن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإنى لن أكذب على الله عز وجل" أخرجه مسلم (2361)ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأتيه من قبل قرينه الجني ما ينتاب غيره من الوسوسة لأن قرينه أسلم فلا يأمر إلا بخيركما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة، قالوا : وإياك يا رسول الله؟ قال : "وإياي. إلا أن الله أعانني عليه فأسلم. فلا يأمرني إلا بخير" أخرجه مسلم (2814)0وقد حكي القاضي عياض اتفاق السلف وإجماعهم على أنه لا يصدر عنه صلى الله عليه وسلم خبر بخلاف إخباره عنه، قال ابن تيمية : " الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَعْصُومُونَ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَفِي تَبْلِيغِ رِسَالَاتِهِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ وَلِهَذَا وَجَبَ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أُوتُوهُ" "وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة فان النبي هو المنبأ عن الله و الرسول هو الذي أرسله الله تعالى وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين" فتاوى ابن تيمية ج10/ص290. ومع هذا كله فإن الترابي لا يزال مردداً في منتدياته بإصرار أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بمعصوم بل هو معتصم! .
سادساً : تكذيبه بما هو معلوم ثبوته من القرآن بالضرورة .
1) إقرارالترابي بأن الإنسان أصله قرد وأن نظرية (داروين) لا تعارض القرآن:
حيث سئل في حوار أجرته معه صحيفة الأنباء بتاريخ24/1/1998م:هل تقرون الادعاء بأن الإنسان ينحدر من سلالة القردة؟! فأجاب الترابي بالنص: (( لا أرى في ذلك تناقضا مع النص القرآني ، كما في الإنجيل يقول الإسلام أن الله خلق الإنسان من طين غير أن النباتات والحيوانات والإنسان تتركب من نفس العناصر، إلى أن قال : (( يجب الأخذ في الاعتبار هذه النظرية الأساسية ثم توسيعها)). وهذه زندقة مكشوفة ، ومعارضة للقرآن مفضوحة ، فبئس المنتجع، ولبئست الهواية ، ويا ويحه يوم تبلى السرائر يوم القيامة.
يقول الله تعالى عن الإنسان وأطوار خلقه: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ،ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ) ) المؤمنون 12-16( وبين الله تعالى أنه خلق الإنسان في أحسن صورة قائما معتدلا كما قال تعالى : ( الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ ) )الإنفطار 7-8(. وقال: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) )التين:4(.إن كل ذي لب وعينين،ممن هداه الله النجدين؛ يعلم علم اليقين أن نظرية (دارون)التي روج لها اليهود (إخوان القردة)؛ تناقض ما أخبر الله به في خلق الإنسان جملة وتفصيلاً ، فيا لله من هذا البهتان .
لقد تلقف الترابي عن الملاحدة الغربيين الذين رضع من لبانهم فأعجب بهم حتى الثمالة في نظرياتهم وزبالات أذهانهم ، بل ورقصهم ! ما ذهبوا إليه في فكرة التطور المطلق، بما في ذلك قولهم بتطوير الأديان ، مسميا إفكه ذلك في تطوير الدين الإسلامي وأصوله :(التجديد)
وإنما يريد بالتجديد حده الأعلى كما يدعي وهو التطوير، وليس التجديد بمفهومه الشرعي وهو: إحياء ما اندثر من شرع الله وهداه عن طريق إحياء السنن وإماتة البدع. وإليكم المزيد من البرهان على ذلك من كلام الترابي في الفقرة التالية.
2- قوله بتطوير الدين والشريعة حتى في نصها :
يقول الترابي: (( وليست صورة التدين ولا مشكلاته التي عاشها الرعيل الأول هي صورة الإسلام الوحيدة)) ويقول أيضا :((ليس في تصريف الشرع ما ينكر ، فالخطاب الشرعي لم يكن خطاب عين إلا لمن عناهم ذاتا فلا يلي خلفهم بنصه ولفظه المباشر )) كما يقول في موضع آخر من نفس الكتاب ))بل جاءت شريعته –وهي دليل التدين الإسلامي- تحمل قابلية التجديد في طبيعتها ونصها ، وأوصى رسولها علماء الأمة أن يكونوا لها كما كان بني إسرائيل للشريعة الموسوية)).ويقول أيضا: (( ولم تعد بعض صور الأحكام التي كانت تمثل الدين منذ ألف عام تحقق مقتضى الدين اليوم ولا توافي المقاصد التي يتوخاها ، لأن الإمكانات قد تبدلت وأسباب الحياة قد تطورت ".نقلا عن كتاب قضايا التجديد للترابي.(/5)
سبحان الله ! (أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) )النور : 50(. إن قول الترابي هذا يعني عدم صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان ، وأنها نزلت في وقت معين ،بل ولأشخاص معينين كما صرح بذلك قائلا :" فالخطاب الشرعي لم يكن خطاب عين إلا لمن عناهم ذاتاً فلا يلي خلفهم بنصه ولفظه المباشر" والمعنى أن الشريعة لابد أن تتطور لتوافق النمط الاجتماعي الجديد، ولو كان في هذا تجاوز لأحكام الله المنزلة المحكمة ، وهذه هي ذات الدعوة التي صرخ بها المنافقون المنحرفون كمحمد أحمد خلف الله ، وعلي عبد الرازق ،ولكن قالها أولئك بوضوح وجلاء ، بينما الترابي دبجها بمواربة والتواء ،على طريقة ما حكاه القرآن عن المنافقين؛ في سورة النساء :
( فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً ) )النساء : 62 ( ، ويم الله إن المقاصد والمصلحة والإحسان كله إنما هو في شريعة الله وهداه الذي أنزله الله تعالى وارتضاه ، وخير مانقذف به باطلهم فيدمغه قول الله تعالى: ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) )الجاثية : 18(. ومن شك فيما فهمناه من كلام الترابي فليتأمل هذه المقابلة التي أجرتها مجلة "دير شبيغل" الألمانية مع د. الترابي في (17/4/1995):
السؤال: ".. لكن لا يوجد تفسير موحد للشريعة، هل يجب قطع يدي ورجلي السارق؟، وهل جزاء المرتدين عن الدين القتل؟".فقال: "هذه الحدود لا تقام اليوم في السودان، لأن تفسيرنا للشريعة متطور أكثر مما هو عليه الحال في البلاد الإسلامية الأخرى لا يوجد أحد قط في مؤتمرنا الشعبي الإسلامي يُحرِّم المرأة من حق توليها مناصب عامة في الدولة، أو ينكر لها الحق في تولي منصب رئاسة الدولة أو رئاسة الوزراء". وفي مقابلته له مع جريدة القدس يقلل من شأن إقامة الحدود. ويهاجم العلماء لأنهم لا يحملون إلا التراث محفوظاً في أذهانهم، ويعتقد أن بعض الأحكام مثل "الربا" تحتاج إلى اجتهاد جديد، كما اجتهد من قبل في الردة فألغاها جريمة وعقوبة.
يقول علماؤنا: "من المسائل المجمع عليها قولاً واعتقاداً أن إباحة المجمع على تحريمه: كالزنا، والسكر، واستباحة الحدود، وشرع ما لم يأذن به الله كفر وردة". (تفسير المنار: 6/367).
وبعد هذا فلا غرو من دعوى الترابي أن في الإسلام جوانب كثيرة علمانية، كما صرح بذلك في جريدة الراية القطرية (19/10/1986) قائلاً:
"إن للإسلام جوانب علمانية كثيرة.. وإن العلمانية لا دينية سياسية.. ليس لأنها ضد الدين، ولكنها ليست من الدين في شيء.. كما أنها لا تريد أن تلغي دور الدين أو تهمله في الحياة عامة.. فلا شأن لها بذلك.. ولكنها نظرية أو مذهب أو عقيدة سياسية يحسن أن نسميها اللادينية السياسية".
3- زعم الترابي أن حواء أول الخلق وليس آدم عليه السلام.
وذلك في محاضرة بعنوان ( المرأة والبندقية): وهذا قول شاذ لم يقل به أحد. قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَآءً} (سورة النساء/1) وقوله: (واحدة) على تأنيث لفظ النفس. ولفظ النفس يؤنث وإن عنى به مذكر. ويجوز في الكلام من نفس واحد وهذا على مراعاة المعنى إذ المراد بالنفس آدم قاله مجاهد و قتادة . وهي قراءة ابن أبي عبلة واحد بغير هاء. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (سورة الأعراف/189) وقد خلق الله تعالى أمنا حواء من ضلع آدم الأيسر الأقصر كما جاء في الحديث الذي رواه الشيخان: "ولأمّ مكانه لحمًا" قيل لذلكَ سميت حواء بهذا الاسم لأنها خلقت من شيء حيّ، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضِلَع، وإنَّ أعوجَ شيء في الضّلع أعلاه، فإن ذَهبتَ تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء" الحديث. ويعني بزوجها في الآيتين: حواء، والزوج في لغة العرب:امرأة الرجل، ويقال:زوجة، قاله ابن عطية في تفسيره
4- أنكاره أن يكون في الجنة حور عين:
وكان ذلك في محاضرة له في جامعة القرآن ،وفي ذلك ردٌ لقوله عز وجل: "حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ. فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ"، مدعيا أن نساء الدنيا هن نساء أهل الجنة.
5- دعواه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفسر القرآن لهذا اليوم .(/6)
ألقى الترابي محاضرة بجامعة الخرطوم (في: 30/4/1995)، وقد احتوت على أهم آرائه في علم التفسير والمفسرين، وكان مما قاله: إن كتب التفسير عبارة عن حكايات وقصص وآراء شخصية لمؤلفيها، وسخر من بعض ما ورد فيها وخاصة في تفسير القرطبي، وأضاف بكل استهتار:
"الرسول بشر مثلنا يوحى إليه - ماحَيْفَسر القرآن لهذا اليوم، لأنه لا يعرف هذا اليوم". ومعنى ذلك أن ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم غير مواكب لعصرنا هذا ، لأنه لا يعرف يومنا ، مع أن الله تعالى قد جعل نبيه صلى الله عليه وسلم مبينا لمراد الله من كلامه قال الله تعالى}:وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) )ا لنحل :44( .
سابعا : طعونه في السنه النبوية :
بعد إنكار الترابي عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في البلاغ،ذهب يتطاول على أعلام الإسلام من الصحابة نقلة السنة : فاتهمهم باتباع الهوى، يقول في هذا الشأن:
"إذا رأينا نأخذ كل الصحابة أو لا نأخذ، قد نجيء بعمل تنقيح جديد. نقول الصحابي إذا روى حديثاً عنده فيه مصلحة نتحفظ فيه، نعمل روايته درجة ضعيفة جداً. وإذا روى حديثاً ما عنده فيه مصلحة نأخذ حديثه بقوة أكثر ويمكن تصنيف الصحابة مستويات معينة في صدق الرواية".
وقال في موطن آخر من المحاضرة نفسها مشككاً بعدالة الصحابة وبصحيح البخاري:
"لازم لمن تجي تقوم تمتحن ضوابطه )أي البخاري( لمن تجي وأنت مؤتمن البخاري.. المسلمين.. آه .. آه.. آه خلاص ما في شيء.. من وثقه فهو كذا.. ومن جرحه فهو مجروح.. ومن عدله فهو عدل.. كل الصحابة عدول ليه؟ ما شرط يشترط ذلك في كثير أو قليل. يمكن لنا اليوم عندنا وسائل كثيرة جداً، البخاري ما كان يعرفها!!".
قال ابن حجر –رحمه الله- في الإصابة في تمييز الصحابة (ج1 ص162) ما نصه: "(اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول (يعني الصحابة رضي الله عنهم)، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة، وقد ذكر الخطيب في الكفاية فصلاً نفيساً في ذلك، فقال: عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم، فمن ذلك قوله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" )آل عمران: 110(، وقوله: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" )البقرة: 143(، وقوله: "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم" )الفتح: 18(، وقوله: "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه( )التوبة: 100(. إلى أن قال: (في آيات كثيرة يطول ذكرها وأحاديث شهيرة يكثر تعدادها، وجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله له إلى تعديل أحد من الخلق، على أنه لو لم يرد من الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم- فيهم شيء مما ذكرنا لأوجبت الحال التي كانوا عليها - من الهجرة والجهاد، ونصرة الإسلام، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأبناء، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين - القطع على تعديلهم، والاعتقاد بنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع الخالفين بعدهم، والمعدلين الذين يجيئون من بعدهم، هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتمد قوله.
ثم روى بسنده إلى أبي زرعة الرازي قال: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة..).
ولما كان الترابي لا يرى عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في البلاغ،ويطعن في الصحابة ، ويتهمهم بعدم العدالة فإنه عمد إلى جملة من الأحاديث الصحيحة فردها بمحض الهوى منها :
1- حديث الذبابة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينتزعه فإن في إحدى جناحيه داء وفي الأخرى شفاء".ورد من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك.
تعرض الترابي لهذا الحديث في محاضرة له بجامعة الخرطوم بتاريخ 12/8/1982، فكان مما قاله: "في الأمور العلمية يمكن أن آخذ برأي الكافر، وأترك رأي النبي، ولا أجد في ذلك حرجاً البتة، ولا أسأل فيه أيضاً عالم الدين".
2- ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ» رواه البخاري. فهذا الحديث الصحيح يدل على معنى ما رواه أبو داود في سننه من قوله صلى الله عليه وسلم : «وَالْغَزْ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ إِلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ لَا يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ وَلَا عَدْلُ عَادِلٍ» أنكر الترابي حكم مضي الجهاد فقال:(/7)
"القتال حكم ماض، هذا قول تجاوزه الفكر الإسلامي الحديث، في الواقع الحديث، ولا أقول إن الحكم قد تغير، ولكن أقول إن الواقع قد تغير، هذا الحكم عندما ساد كان في واقع معين، وكان العالم كله قائماً على علاقة العدوان، لا يعرف المسالمة، ولا الموادعة، كانت إمبراطوريات، إما أن تعدو عليها أو تعدو عليك. ولذلك كان الأمر كله قتالاً في قتال، أو دفاعاً في دفاع - إن شئت -"ندوة تلفزيونية حول الشريعة، ونشرتها جريدة الأيام السودانية في 20/6/1988قوله هذا مخالف للقرآن والسنة والإجماع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن السبب الذي ذكره حجة عليه وليس له لأن هذه الإمبراطوريات - الدول الكبرى - ما زالت تعدو علينا، وتحرض حلفاءها في المنطقة ضدنا،
وإذا كان هذا هو شأن القتال عند الترابي ، فإن لعبة كرة القدم عنده : جهاد ، يقول الترابي : " إن الكرة لم تعد الآن لعباً ولهواً، فهي جهاد في سبيل الله". (جريدة "الكورة" السبت 14 يناير 1995، الموافق 13 شعبان 1415 هـ). القتال حكم ماض تجاوزه الفكر الإسلامي الحديث. أما لعب الكرة فهو جهاد في سبيل الله!!!، والفن -الرقص والغناء والموسيقى- من عقيدة التوحيد الإسلامية : }وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ) )الأنعام :69( .
ثامنا : قول الترابي : لست سنياً ولا شيعياً:
عن موقفه من السنة والشيعة يقول:
"كنت أتحدث في مؤتمر مع مسلمين وعرب في المؤتمر العربي والإسلامي. قلت لهم: .. أنا لست سنياً ولا أدرك ما معنى السني والشيعي.
وسئل: هل أنت على المذهب الشيعي؟ فأجاب: أنا لا أسمي نفسي شيعياً ولا سنياً، سني وشيعي لا تعني أنه يتبع سنة الرسول أو لا يتبعها.
أما التراث السني والشيعي ففيه من الترهات والخرافات عند أهل السنة والشيعة، وفيه فوائد"
تاسعا :تجويزه زواج المسلمة من يهودي أو نصراني :
لقد أطلق الترابي هذا القول كثيرا وهو أن " المسلمة يجوز لها الزواج من كتابي " وهاهو يجدد ذلك (في مقابلة قناة العربية بتاريخ 11/4/2006م). وهو قول باطل ظاهر البطلان ، لأن الله تعالى يقول :: " وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ " )البقرة: 221 ) فالآية صريحة في تحريم نكاح المسلمة من الكافر سواء كان وثنيا أو يهوديا أو نصرانيا . وقال ابن كثير في تفسيره (1/474) : هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا من المشركات من عبدة الأوثان ثم إن كان عومها مراداً وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية فقد خُص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله : " وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ " . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : " وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ " استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب ."أ.هـ ، وأما الجزء الآخر في الآية وهي قوله تعالى: " وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا " فإنه لا تخصيص فيه قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي – رحمه الله – في تيسير الكريم المنان (ص99)) : " وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا " وهذا عام لا تخصيص فيه .ا.هـ"(/8)
قال ابن كثير في تفسيره (8/93) : وقوله : " لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ " هذه الآية حَرّمَت المسلمات على المشركين ، وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة .ا.هـ. فهذان دليلان من كتاب الله صريحان في تحريم زواج الكافر من المسلمة روى ابن جرير الطبري في تفسيره (4/366) بإسناده عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال : "المسلم يتزوج النصرانية ، ولا يتزوج النصراني المسلمة" وصح موقوفا على جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما - ، كما رواه البيهقي في الكبرى (7/172) : " نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا" .، وذلك لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه والقوامة في الزواج للزوج قطعا لجانب الرجولة ، وإن تعادلا في الحلية بالعقد ، لأن التعادل لا يلغي الفوارق كما في ملك اليمين ، فإذا امتلك رجل امرأة حلَّ له أن يستمتع منها بملك اليمين ، والمرأة إذا امتلكت عبدا لا يحل لها أن تستمتع منه بملك اليمين ، ولقوامة الرجل على المرأة وعلى أولادها وهو كافر لا يسلم لها دينها ، ولا لأولادها . قال ابن عبد البر في التمهيد (12/21) : ومما يدل على أن قصة أبي العاص منسوخة بقوله : " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ " إلى قوله : " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " إجماع العلماء على أن أبا العاص بن الربيع كان كافرا وأن المسلمة لا يحل أن تكون زوجة لكافر .ا.هـ.
وقال القرطبي في " جامع أحكام القرآن " (3/72) : الأولى : قوله تعالى : " وَلَا تُنكِحُوا " أي لا تزوجوا المسلمة من المشرك ، وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام .
عاشراَ: دعوته إلى الإختلاط والسفور :
دعا الترابي إلى ضرورة الاختلاط بين الجنسين في المجتمع وذلك في كتيب سماه (المرأة في تعاليم الإسلام) فقال :" إن عزل الرجال عن النساء يضر بالمجتمع وينشر فيه الرجس وعدم الطهر "، مصادما بذلك القرآن لفظا ومعنى قال الله تعالى}:وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) )الأحزاب : 33(
وأما حجاب المرأة المسلمة فقال عنه في ذات الكتاب : " الحجاب خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، لأن حكمهن ليس كحكم أحد من النساء، ولا يجوز زواجهن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فإن آية الحجاب نزلت في السنة الخامسة للهجرة، ولم يتأثر بها وضع سائر المسلمات" .
حادي عشر: قوله بجواز إمامة المرأة الرجال في الصلاة :
إجماع الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم على أن المرأة لا تؤم الرجال ، وقد استدل الفقهاء جميعا في المذاهب الأربعة على مذهبهم بقوله تعالى : " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما انفقوا من أموالهم "(سورة النساء : 34) . ووجه الدلالة في الآية : أن الله تبارك وتعالى لم يجعل القوامة للنساء ، ولم يجعل الولاية إليهن ، بل جعلها للرجال ، وإمامة الصلاة نوع ولاية ، فلا تصح إمامة بمن هو قيم عليها ،قال الشافعي في الأم 1/191: "وإذا صلت المرأة برجال ونساء وصبيان ذكور فصلاة النساء مجزئة، وصلاة الرجال والصبيان الذكور غير مجزئة ; لأن الله عز وجل جعل الرجال قوامين على النساء وقصرهن عن أن يكن أولياء، ولا يجوز أن تكون امرأة إمام رجل في صلاة بحال أبدا".
كما استدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ) خير صفوف الرجال أولها ، وشرها آخرها ، وخير صفوف النساء آخرها ، وشرها أولها (. رواه مسلم كتاب باب تسوية الصفوف ، والترمذي كتاب 2 الصلاة باب 52 ما جاء في فضل الصف الأول .
فهذا الحديث يدل على تأخير النساء ، فكيف ستتقدم المرأة لتؤم وهي مطالبة شرعا ً بالتأخر عن الرجال ؟ فلا شك أن دلالته على عدم جواز إمامة المرأة للرجال في الصلاة واضحة .
ثم إنه لم ينقل عن الصدر الأول أن امرأة أمت الرجال ، فلو كان ذلك جائزا ً لحصل ولو مرة ، وحيث لم يحصل هذا أبدا في الصدر الأول ، فهذا غير جائز لأنه لو كان جائزاً لنقل ذلك عن الصدر الأول .
وأما حديث أم ورقة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تؤم أهل دارها. رواه أبو داود (592).(/9)
فالجواب عنه أولا: أنه حديث ضعيف، فقد قال عنه الباجي في المنتقى شرح الموطأ: "هذا الحديث مما لا ينبغي أن يعول عليه". وقال ابن حجر في التلخيص الحبير 2/56: "في إسناده عبد الرحمن بن خلاد، وفيه جهالة".
الثاني: أن المقصود بأهل دارها النساء منهم دون الرجال، قال ابن قدامة في المغني 2/16: "وحديث أم ورقة إنما أذن لها أن تؤم (نساء) أهل دارها , كذلك رواه الدارقطني. وهذه زيادة يجب قبولها , ولو لم يذكر ذلك لتعين حمل الخبر عليه ; لأنه أذن لها أن تؤم في الفرائض , بدليل أنه جعل لها مؤذنا , والأذان إنما يشرع في الفرائض، ولو قدر ثبوت ذلك لأم ورقة , لكان خاصا بها , بدليل أنه لا يشرع لغيرها من النساء أذان ولا إقامة , فتختص بالإمامة لاختصاصها بالأذان والإقامة".
قال ابن شاس المالكي في عقد الجواهر: (وأما المرأة فلا تصح إمامتها للرجال ولا للنساء، وروى ابن أيمن جوازها)، أي للنساء، كما أجاز إمامتها للنساء والأطفال الشافعي وأحمد، شريطة أن تقف وسطهن، وتجهر أدنى الجهر. قال ابن حزم الظاهري رحمه الله في الفِصَل، وكذلك القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: (جميع أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة المرأة إلا فرقة من فرق الخوارج وهي الشبيبية – نسبة إلى شبيب بن يزيد الشيباني). وقد ورد ذلك عن امرأة من الخوارج تدعى غزالة ، وفي عصرنا أمينة ودود، الأمريكية التي أمت بعضاً من الرجال والنساء في صالة كنيسة. فهنيئاً لمن كانت أسوته غزالة الخارجية وأمينة الأمريكية ، وسلفه الخوارج "الشبيبية".
وأما قول الترابي أخيرا :" إنه للرجال والنساء الصلاة معا ولكن دون إلصاق " ! (صحيفة الحياة والناس ، بتاريخ 9/4/2006). فإنه يعارض به النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال :" خير صفوف الرجال أولها ، وشرها آخرها ، وخير صفوف النساء آخرها ، وشرها أولها ". رواه مسلم والترمذي
فحسبنا فيه وفي أترابه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة إذا لم تستحي فافعل ما شئت) رواه البخاري(3296)
ثاني عشر : إباحته الخمر لمدة عام ،بل لا يكون حدالخمر قانوناَ إلا إذا تحولت لعدوان :
يقول الترابي في كتابه (( نظرات في الفقه السياسي)): 171:)) هكذا أرجوا أن يكون شأننا مع أهلنا المخمورين. كأننا عند سريان القانون سندخلهم في معتقل واسع يحول ما بينهم وبين الخمور في مظاهر الحياة العامة وتتاح لهم لعام كامل رخصة قانونية لتعاطي الحرام في خاصتهم حتى يهيئوا أنفسهم ، ثم يقع الحظر وتجف الخمر )) ،وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ( ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ) رواه البخاري وأبوا داود.
ثم ها هو الترابي اليوم يذهب إلى أبعد مما كتبه بالأمس:
وإني وإن كنت الأخير زمانُهُُُ لآت بما لم تستطعه الأوائلُ
إذ يرى دستوريُّ الزمان - الآن- أن عقوبة شرب الخمر لا تكون قانوناَ إلا إذا اقترن بعدوان كما قال آخراَ، وربما لن يكون أخيراَ:
" الخمر لا تصبح أمر قانون إلا إذا تحولت لعدوان" الرأي العام السودانية (بتاريخ: 1/ 3/2006م ).وهذه حيلة منه لإبطال حد الخمر ، لإن العدوان وحده جريمة ، سواء كان المعتدي سكرانا حال اعتدائه أم لا .
أيها المسلمون ..
لقد كان هذا شأن الترابي في جميع المراحل السابقة، من قبل ضربه على أم رأسه في (كندا) ومن بعد ذلك ، فليس هو المعتوه والمجنون فيما يزعمه ويعتزيه ، ولا هو الجاهل فيما يهرف به ويستبيح ، ولكنه في كل حين يمتطي ظهر التيه ، مبرهنا علي الغي الموفي به إلي الزندقة ، عن طريق مجاهرته بأفكاره الكفرية ومعتقداته، مع الحرص الشديد على الختل والروغان كالثعالب إذ يستطيع أن يكون علمانياً وإسلامياً في الوقت ذاته، قومياً وأممياً في الآن ومن دون أن يشعر بتناقضه أو انفصامه ، وما الجماهير والعواطف الإسلامية،إلا سلم لأحلامه وأطماعه . لقد كان خلاف الترابي طوال العقود السابقة مع العلماء حول أصول الدين والاعتقاد، وليس حول أمور قابلة للاجتهاد وفق ضوابط الاجتهاد الشرعي.
إننا ننبه عامة المسلمين وأهل الفكر منهم خاصة، في داخل السودان وخارجه إلى أن التربي ، في حقيقته داعية إلى غير دين الإسلام ، هذا وإن كشف الأهواء والفتن المضلة ،ودحض المقالات المخالفة للكتاب والسنة ، وتعرية حقيقة الداعية إليها ، وهجره ،وتحذير الناس من شره ، وإقصاءه ، والبراءة من فعالته لمن أوجب الواجبات ، وسنة ماضية في تاريخ الدعاة ، حتى لايلتبس الأمر على الأغرار، فيسلكوا بسبب وساوسه وأوهامه سبيل الفجار.
وحقٌ على من ولي أمر المسلمين في هذه البلاد ،قطع تطاول الترابي على المحكمات المبينات ومقاضاته في محاكمة شرعية عادلة ،عل غرار ما حوكم به سلفه من قبل" محمود محمد طه" الذي تفاقم شره ،فقيض الله تعالى بتقديره من قطع دابره ،ولابد أن يتصدى العلماء لهذا المتجرئ على حرمات الدين كما تصدوا لمن قبله ويطالبوا بإنزال شرع الله عليه.(/10)
وإننا ندعو المعجبين به عن جهالة إلى قراءة متأنية لأفكاره، والوقوف بعناية على تصريحاته ، وقد رد عليه أهل العلم والإيمان، وأبطلوا مقالاته بغاية البيان، وساطع البرهان، فنعوذ بالله من زيغ القلوب والتباس الأمور ومضلات الفتن ونزغات الشيطان،ندعوهم إلى ذلك قبل فوات الأوان: }مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ {)الروم : 43( } وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً ، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً { )الفرقان:27-29( وما كتبنا هذا البيان إلا تحذيرا لكل مسلم، من سبيل من أحاطت به خطيئته ، تبياناً لما وجدنا و إفصاحاً بالحق فيما تيقنا، وما شهدنا إلا بما علمنا . ونسأله عز وجل أن يعصمنا والمسلمين من طاعة الهوى والشيطان إنه على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(/11)
الموقف الشرعي من العولمة
26/12/1424
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
الموقف الشرعي من العولمة
يرفض قطاع عريض من البشر العولمة _كما سلف_ ولكن رفضه من قبل المسلمين أشد، وليس ذلك للتصور الذي يحاول أن يرسمه بعض الغربيين، فبعض مثقفيهم نمى إلى علمه أن الله هو الذي يشرع لعباده في نظر المسلمين فقرر متوهماً أنه "لا توجد بالنسبة إلى المسلم سلطة تشريعية بشرية، اللَّه هو الوحيد مصدر القانون" (1)، وردّد قوله هذا (لوي غارديه)، فقال: "اللَّه هو الشارع بامتياز"(2).
ولاشك أن المسلمين يؤمنون بأن التشريع من خصائص الربوبية "ألا له الخلق والأمر" (3) "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله" (4) ، "ولايشرك في حكمه أحداً" (5) ،قال العلامة الشنقيطي _رحمه الله_: "ولما كان التشريع وجميع الأحكام، شرعية كانت أم كونية قدرية، من خصائص الربوبية.. كان كل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرع رباً، وأشركه مع الله"(6).
ولكن ما يغفل عنه هؤلاء هو أن المقصود بهذا كل تشريع يتعبد به الناس، ولهذا قال: "من الدين"، فكل ما شرعه الله دين لا تجوز مخالفته، وكل تشريع في الدين بغير دليل باطل يرد ولا يقبل "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (7) ، ولا يعني هذا المنع من وضع قوانين تنظم الأمور الدنيوية والحياتية وتحكم الوسائل وفقاً للشرع فيما سُكت عن النص عليه، فضلاً عن عد ذلك مصادماً لتشريع الله كما قالت الكنيسة! ولكن يجب أن تكون تلك القوانيين والنظم تحت إطار تلك التشريعات الربانية والموجهات العامة والخاصة، وهذا ما فهمه من أنزل عليهم الوحي، وخاطبهم النبي _صلى الله عليه وسلم_، وكانوا أشد هذه الأمة تمسكاً بما جاء به، ففي تاريخنا نجد أن أول من دون الدواوين، وجعلها على الطريقة الفارسية لإحصاء الأعطيات وتوزيع المرتبات لأصحابها حسب سابقتهم في الإسلام، وأول من استحدث التأريخ الهجري، وأول من وضع وزارة للمالية (بيتاً للمال)، هو الخليفة الراشد عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_.
فالشارع الحكيم وضع أحكاماً عامة وخاصة في كثير من الأمور الحياتية الدنيوية، وأوكل مهمة سن الآليات التنفيذية والقضايا التنظيمة إلى البشر، بحسب ما يتوافر لهم من وسائل قادتهم إليها مبتكرات عصرهم، ما لم تخالف الشرع، وفي صحيح مسلم عن عائشة وأنس _رضي الله عنهما_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" (8).
فلم يمنع الإسلام فيما يتعلق بأمور الدنيا وتنظيم المعاش من سن تشريعات ليست من الدين ولكنها تنظم أمر المعاش، شريطة أن تكون خاضعة للتشريعات الإلهية العامة والخاصة لا تناقضها، تقود إلى العمل بها لا تعارضها، وبناء على هذا فالإسلام يرفض العولمة لكونها غير خاضعة لتشريعاته السمحة، التي جاءت لهداية البشرية وإرشادها للطريق الأقوم، وهذا يعني أن رفض الإسلام للعولمة معللاً لاعتقاد المسلمين أن تشريع الخالق العليم أحكم "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" (9) ، وليس هذا الرفض رفضاً مجرداً عن التعليل أو تقديم البديل، ولكنه رفض مع تبين الطريق الأرشد، كما أنه ليس رفضاً مطلقاً لكافة تفاصيل العولمة وآلياتها، ولكن لما خالفت فيه التشريعات الربانية، بحجة تحصيل المصلحة الشخصية أو المحدودة على حساب مصلحة الأمم والمجتمعات.
والحقيقة التي لابد من الاعتراف بها، أن للعولمة قوانينها ونظمها، وهذه القوانين والنظم لابد لها من يحكمها، فمن يكون؟
والحقيقة التي لابد من الاعتراف بها، أن للعولمة قوانينها ونظمها، وهذه القوانين والنظم لابد لها من يحكمها، فمن يكون؟
لسان حال دعاة العولمة يقول: يحكمها الأقوى وفقاً للمصالح التي يراها، فيجيز ما أراد ويمنع ما أراد، ويقترح السبل والوسائل التنظيمية التي أراد.
وهذا ما يرفضه قطاع عريض، وتيارات متباينة من البشر، فليست مصلحة الأقوى أولى، وليست شريعة الغاب دستوراً يُرضى.
أما المسلمون فيقولون: يحكمها الأصلح للبشرية جمعاء، وهذا له شقان؛ شق نزل من السماء، وأهل الإسلام يؤمنون بأنه الأصلح، فعلى الأقل ليس لغيرهم أن يلزمهم بسواه، ولهم أن يدعوا الناس لهداه، وشق آخر لا يعارض ما جاء به الأنبياء، فهو محل نظر وتقييم ولكل رأيه الذي من حقه أن يبديه، ولكل نظامه الذي يرتئيه.
الفرق بين رفض العولمة والتعامل معها بسياسة الرفض
إن رفض العولمة، لا يعني الانزواء في ركن قصي، مع المبالغة في إغماض العينيين، فهذا أمر لا يليق بأمة الرسالة، التي ابتعثها الله لتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
ومن الملحوظ على هذه الأمة في عصورها المتأخرة، مواقف السلب وعدم الإيجابية، فقد رضيت أن تكون في صفوف المتفرجين، وعلى هامش الحياة، فإذا ما وقع حدث ما أو كاد أن يقع، هبت تصرخ وتولول، وتنادي بالويل والثبور وعواقب الأمور.(/1)
إن أمر هذه الأمة أمر عجب، فلم يكن هذا دأبها فيما مضى، وليست هذه سِمَتها، ولم يكن كذلك سَمْتها، بل كانت هي الأمة الرائدة، الأمة القائدة، فهل عقمت؟ أم ماذا حل بها؟ وما سر تغير حالها وتبدل شأنها؟
تأملت هذا الواقع فأزعجني ما أرى، وأقض مضجعي ما أشاهد، ثم ازددت يقينا أن سر قوة هذه الأمة، ومكمن عزها، ومنبع مجدها، هو في دينها وعقيدتها، ومدى التزامها بمبادئها، ولا يعود هذا إلى أصلها ونسبها ولغتها، كما تصور الواهمون ونادى المضللون.
إن أمر هذه الأمة أمر عجب، فلم يكن هذا دأبها فيما مضى، وليست هذه سِمَتها، ولم يكن كذلك سَمْتها، بل كانت هي الأمة الرائدة، الأمة القائدة، فهل عقمت؟ أم ماذا حل بها؟ وما سر تغير حالها وتبدل شأنها؟
لذا فإننا سنظل عالة على الأمم، كالأيتام على موائد اللئام، والخدم في قصور الأسياد، ما لم نعد إلى ديننا، ونعرف حقيقة عزنا ومجدنا "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ " (10).
وهناك لن نقف مكتوفي الأيدي أمام مكائد الشرق ومؤامرات الغرب، بل سيهرع الشرق والغرب والشمال والجنوب يخطب ودنا، ويستجدي رضانا، ويتسول ما يفيض به كرمنا، مع أننا سنكون أكرم من أن ننتظر السائل حتى يسأل والمحتاج حتى يطلب، وسنجود بمهجنا وأرواحنا -فضلا عن أموالنا- في سبيل نشر عقيدتنا، وترسيخ مبادئنا، إذا أصر الظالمون إلا على الحيلولة بيننا وبين نشر الخيرية التي منحنا الله إياها.
إن هذه الأمة لم تعقم، ولن تعقم _بإذن الله_، والطريق أمامنا مفتوح، والسبيل سالك والمنهج واضح، فعلينا أن ننبذ الكسل والخمول:
لا تصحب الكسلان في حالاته كم صالح بفساد آخر يفسد
عدوى البليد إلى الجليد سريعة كالجمر يوضع في الرماد فيخمد
ولكن علينا أن ندرك أنه لا بد من تحمل الصعاب وبذل المهج والأرواح، وإلا:
فمن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام
وبذلك يكون يصدق فينا قول الله _عز وجل_:
"كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" (11).
وحتى يتحقق هذا الأمل الموعود لابد من العمل على محاور ثلاثة:
المحور الأول: تطوير النظم الإسلامية وآليات تفعيلها، ثم تطبيقها في المجتمعات الإسلامية، ومن ثم إخراجها للناس، ودعوتهم إليها.
المحور الثاني: بيان ما في العولمة الوافدة من مثالب، وبيان الحلول الشرعية، والبرامج الإسلامية التي يمكن أن تحل محلها، مع توضيح الوجه الذي جعلها تفضل غيرها.
المحور الثالث: تحصين المجتمع المسلم من مثالب العولمة، وما فيها من أخطاء.
وجماع هذا كله، بناء المجتمع المسلم، المؤهل في كافة المجالات، وعلى أكتاف هذا المجتمع تقوم الدول التي إن قالت سمع لها.
وقد شاركت في ندوة بجامعة أم القرى حول البث المباشر(12) وبعد انتهاء الندوة قام الأستاذ أحمد محمد جمال(13) فعلق على الندوة بكلام جيد، وكان مما قال: "إن الحل أو المواجهة ليست بأيدي الشعوب المستضعفة، كما لا يمكن ولا يجوز الانتظار حتى نصلح شأننا، ونقوم إعوجاجنا، ولكن الحل أو المواجهة بأيدي ولاة أمور المسلمين -على مد أقطارهم- فهم أصحاب السلطة المادية والسياسية والتنفيذية، وهم القادرون على التجمع والاتفاق على خطة للمواجهة الجماعية.
ولاة أمور المسلمين هم القادرون على المواجهة بالأسلوب الذي يتفقون عليه، سواء أكان....، أم بمقاطعة دبلوماسية واقتصادية وسياسية للدول صاحبة هذه الأقمار المعادية، أو انسحاب جماعي من المنظمات الدولية، أم بأية وسيلة حاسمة يتفقون عليها، ويبادرون بتنفيذه دون إبطاء ولا استثناء"(14).
وما ذكره الأستاذ أحمد من الحلول الحاسمة لأحد مظاهر العولمة (البث المباشر)، أتفق معه فيه على وجه الإجمال، ويصلح أن يقال حول مظاهر العولمة الأخرى، وإن كنا لا نتوقع حدوث ذلك، في واقعنا الحاضر، ولكن مع العمل الدؤوب في بناء المجتمعات، والجيل الذي يمثل مؤسسات الدولة وقطاعتها المختلفة، فسنصل إلى نتيجة، كما وصل سلفنا الصالح ونبينا الكريم، والذي بدأ دعوته فرداً.
على الرغم من الترحيب المصرح به وغير المصرح بالعولمة وضرورة اللحاق بركبها، من قبل كثير من المسؤولين العرب، مع هذا أقول لو صدقت النوايا، وسرنا في مشروع البناء، لأمكن تحقيق البرنامج الإسلامي والنزول به إلى أرض الواقع، بل ودعوة الآخرين إليه، وهذا ممكن عقلاً جائز وقوعه، ولكنكم قوم تستعجلون.
--------------------------------------------------------------------------------
1 زاعمه هو (برنارد لويس)، وهو كما يقول عنه فهمي هويدي: "صاحب الموقع المشهود في معسكر الخصوم الذين يتحدثون عن الأمة باحتقار وازدراء شديدين".(/2)
2 الحياة الاجتماعية والسياسية في المدينة الإسلامية، مجلة المقاصد، العدد 12، ص137.
3 سورة الأعراف جزء من الآية: 54.
4 سورة الشورى: 21.
5 سورة الكهف جزء من الآية: 26.
6أضواء البيان 7/169.
7 حديث عائشة وهو متفق عليه انظر البخاري 2/959، ومسلم 3/1343.
8 صحيح مسلم 4/1836.
9 سورة الملك: 14.
10سورة المنافقون آية: 8.
11سورة آل عمران آية: 110.
12وذلك في 15-8 -1410 هـ، وقد شارك في الندوة كل من د/ عبد القادر طاش و د/ أحمد البناني، وذلك بدعوة من رئيس اللجنة الثقافية د/ عبد العزيز العقلا.
13الأستاذ بجامعة أم القرى والكاتب المعروف.
14انظر مجلة التضامن الإسلامي عدد شوال 1410 هـ ، حيث نشر هذا الكلام، وقد اقتصرت على مكان الشاهد.(/3)
الموقف بين قضايا الساعة وتربية الناشئة
22/2/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
لا شك أن الأحداث تتوالى، والفتن يتبع بعضها بعضاً، وهذا الواقع المرير الذي تعيشه الأمة، لا يمكن أن تخرج منه بردود الأفعال، وكذلك المد التغريبي والغزو الصليبي، لا يمكن أن يقوم له أهل الشهوات، ولهذا كان إعداد العدة، وتهيئة الشباب للنهضة بالأمة، في كافة المجالات من أحد المهمات، فعملية بناء أجيال الغد وتنشئتهم التنشئة الصحيحة، عملية حيوية لا ينبغي أن يُشتغل عنها بالعوارض التي لا تنتهي.
والله _عز وجل_ عندما ذكر الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، وذكر الأجر العظيم المرتب عليه "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (التوبة:120، 121) بعد كل هذا الترغيب، وبعد أن ذكر هذا الأجر العظيم يعقب فيقول: "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" (التوبة:122).
فانظر كيف أمر طائفة بملازمة العلماء الربانيين للتفقه في الدين، بينما يقاتل إخوانهم الكافرين، أي نازلة وأي قضية أعظم من هذه؟ ومع ذلك لم تشغل المجتمع عن البناء والتربية والتعليم.
إذن تربية الأجيال وظيفة مهمة، واستراتيجية أساسية في بناء الأمة، لا ينبغي أن تشغل عنها الشواغل أو تصرف عنها الصوارف مهما عظمت.
ولا يعني هذا إهمال هموم الأمة وأحداثها العظام، بل ينبغي أن يتصدى لمعالجة قضايا الأمة العلماء الراسخون، والأئمة المرضيون، والدعاة المخلصون، وينبغي كذلك أن يُحَمَّل همها النشء لينوء برفعها إذا اشتد ساعده، وليحل بعضهم محل بعض من خرمتهم أيدي المنون من العلماء والمصلحين.
فعلى العلماء والدعاة معالجة القضايا وتولي الردود، وعلى المربين والقادة استثمار الأحداث في التربية والتوجيه، لا أن تشغلهم عن المشاريع المهمة، وتصرفهم عن العناية بالشباب.
والعلماء الكبار، والأئمة الهداة على مر التاريخ، هم من يجمع بين الأمرين بتوازن واطراد، دون طغيان جانب على آخر، يستمدون من كل حدث دروساً وعبراً، ويخضعون الأحداث للشريعة حكماً ووصفاً.
والناس حيال واقع الأحداث طرفان ووسط، فطرف يتعامل بردود الأفعال، فكلما وقع حدث اشتغل به وجعله همه ومقصده، وانجر معه إلى حيث ساقه، وطرف آخر معرض عنها كأنها لا تعنيه، وكأن من أصيب لا ينتمي إلى أمته أو ملته، وقليل من يستثمر الحدث لخدمة أهداف استراتيجية، ويستفيد منه في تربية الناشئة والذرية.
أسأل الله أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصبحه أجمعين.(/1)
الموقف من أعمال السلب والنهب في العراق
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 6/9/1424هـ
السؤال
ما قول السادة العلماء الأجلاء في أعمال السلب والنهب التي وقعت في العراق مؤخرا؟ هل يجوز لأصحاب الممتلكات الدفاع عن ممتلكاتهم وأروحهم أم لا؟ فإن قلتم: نعم. فما قولكم في الحديث الصحيح الذي يأمر بترك المقاتلة حال الفتنة من عدم وجود نظام حاكم وكثرة الهرج والمرج وغير ذلك؟ وهل هذا عام في كل ناهب سواء كان مسلما أولا؟ وإن قلتم: لا. فما قولكم في الحديث الصحيح أيضا: من قتل دون ماله فهو شهيد؟ وكيف نوفق بين الحديثين؟ جزاكم الله خيرا.
الجواب
حرمة مال المسلم ثابتة في القرآن والسنة، قال تعالى: "وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" [البقرة:188]، وقال نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – في خطبة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، في شهركم هذا ". أخرجه البخاري(4406)، ومسلم(1679) من حديث أبي بكرة – رضي الله عنه-، ومن رعاية الإسلام للمال أنه قدمه الله في أكثر من آية على الأنفس، كقوله تعالى: "فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى" [النساء: من الآية95]، وقدمه على الأولاد في مواضع كثيرة؛ منها: قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" [آل عمران:116]، وأوجب في السرقة من المال النصاب المقدر لقطع اليد، وما حصل في العراق من نهب للأموال والممتلكات حرام لا يجوز، وعلى صاحب المال أن يحفظ ماله ويدافع عنه، وإن قتل دونه فهو شهيد؛ لحديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما-: "من قتل دون ماله فهو شهيد" أخرجه البخاري(2480)، ومسلم(141)، وما جاء في النهي عن المقاتلة في زمن الفتنة فهو محمول عند العلماء على ما إذا كانت المقاتلة بغير تأويل سائغ، ووقوع الظلم على المسلم أو غيره بنهب ماله مسوغ شرعي للدفاع عنه، ولا شك أن أكثر ما وقع من الحروب ولا زال يقع بين المسلمين إنما هو بسبب الأموال والممتلكات بالاعتداء عليها من أحد الطرفين، ومع ذلك سماهم الله مؤمنين وأمر بقتال الطائفة المعتدية: "وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [الحجرات:9]، وغير المسلم إذا اعتدي على ماله وجب عليه الدفاع عنه غير أنه إن قتل لا يسمى شهيداً، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.(/1)
المولد النبوي : تاريخه، حكمه ، آثاره 1 / 2 / 3
أقوال العلماء فيه على اختلاف البلدان والمذاهب
· مقدمة: (نداء إلى كل مسلم يريد الوصول إلى الحق وأن يعبد الله على بصيرة).
أخي المسلم، أختي المسلمة : لاشك أننا جميعا نُكِنُ في صدورنا محبة لرسولنا الكريم وحبيبنا العظيم وقدوتنا وإمامنا صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن عمل بسنته واهتدى بهديه إلي يوم الدين ، وإن هذه المحبة تعتبر من أصول الدين ومن لا يحب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كافر وممن نتقرب إلى الله ببغضه وهي من صفات المنافقين الذي قال الله فيهم أنهم في : ( الدرك الأسفل من النار)
وإنني أضع بين يديك هذا البحث المتواضع لتقرأه بعين البصيرة تقرأه بغية الوصول للحق وتقرأه بعيدا عن التعصب لعلماء بلدك أو مذهبك أو ما تعوّدت عليه فإن كان ما فيه حقاً قبلته وعملت فيه طاعة لله ورسوله الذي أمرنا باتباع الحق وما كان فيه من باطل أو خطأ فأعيذك بالله أن تتبعه لأننا لسنا متعبدون إلا بالحق الذي دل عليه الدليل الشرعي.
وفقنا الله وإياك لسلوك الطريق المستقيم الذي ارتضاه لنا نبينا الكريم والله الموفق وعليه المعتمد والاتكال وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ،،،،.
· تاريخه:
إن الناظر في السيرة النبوية وتاريخ الصحابة والتابعين وتابعيهم وتابع تابعيهم بل إلى ما يزيد على ثلاثمائة وخمسين سنة هجرية لم نجد أحدا لا من العلماء ولا من الحكام ولا حتى من عامة الناس قال بهذه العمل أو أمر به أو حث عليه أو تكلم به .
قال الحافظ السخاوي في فتاويه :"عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة وإنما حدث بعد".أهـ( )
إذن السؤال المهم : " متى حدث هذا الأمر -أعني المولد النبوي-وهل الذي أحدثه علماء أو حكام وملوك وخلفاء أهل السنة ومن يوثق بهم أم غيرهم ؟"
والجواب على هذا السؤال عند المؤرخ السني ( الإمام المقريزي ) رحمه الله :
· يقول في كتابه الخطط ( 1/ ص 490وما بعدها):" ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعياداً ومواسم تتسع بها أحوال الرعية وتكثر نعمهم"
· قال:" وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم وهي مواسم( رأس السنة)،ومواسم ( أول العام )،( ويوم عاشوراء) ،( ومولد النبي صلى الله عليه وسلم ) ، ( ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ) ، ( ومولد الحسن والحسين عليهما السلام )، ( ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام )،(ومولد الخليفة الحاضر )، ( وليلة أول رجب ) ، ( ليلة نصفه ) ، ( وموسم ليلة رمضان ) ، ( وغرة رمضان )،(وسماط رمضان)،( وليلة الختم )،( وموسم عيد الفطر )،( وموسم عيد النحر )،( وعيد الغدير)،( وكسوة الشتاء)،( وكسوة الصيف )،( وموسم فتح الخليج )،( ويوم النوروز)،(ويوم الغطاس) ، ( ويوم الميلاد ) ،( وخميس العدس) ، ( وأيام الركوبات )"أ.هـ.
· وقال المقريزي في إتعاظ الحنفاء(2/48)سنة (394):
"وفي ربيع الأول ألزم الناس بوقود القناديل بالليل في سائر الشوارع والأزقة بمصر".
· وقال في موضع آخر (3/99)سنة (517):
"وجرى الرسم في عمل المولد الكريم النبوي في ربيع الأول على العادة".وانظر (3/105).
· ووصف المقريزي هيئة هذه الاحتفالات التي تقام للمولد النبوي خاصة وما يحدث فيها من الولائم ونحوها ( أنظر الخطط1/432-433 ، صبج الأعشى للقلقشندي3/498-499).
· ومن النقل السابق تدبر معي كيف حُشِر المولد النبوي مع البدع العظيمة مثل:
-بدعة الرفض والغلو في آل البيت المتمثل في إقامة مولد علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم.
وسيأتي مزيد بسط لبيان أن الدولة العبيدية التي تدعي أنها فاطمية: بأنها دولة باطنية رافضية محاربة لله ولرسوله ولسنته ولحملة السنة المطهرة .
- بدعة الاحتفال بعيد النيروز وعيد الغطاس وميلاد المسيح وهي أعياد نصرانية .
يقول ابن التركماني في كتابه" اللمع في الحوادث والبدع" (1/293-316 ) عن هذه الأعياد النصرانية :"فصل ومن البدعة أيضا والخزي والبعاد ما يفعله المسلمون في نيروز النصارى و مواسمهم و الأعياد من توسع النفقة " قال :" وهذه نفقة غير مخلوفة وسيعود شرها على المنفق في العاجل والآجل " وقال : " ومن قلة التوفيق والسعادة ما يفعله المسلم الخبيث في يعرف بالميلادة ( أي ميلاد المسيح) ".، ونقل عن علماء الحنفية أن من فعل ما تقدم ذكره ولم يتب منه فهو كافر مثلهم .وذكر عدد من الأعياد التي يشارك فيها جهلة المسلين النصارى وبين تحريمها بالكتاب والسنة ومن خلال قواعد الشرع الكلية .
· ذكر من أبطلها من خلفاء الدولة العبيدية الفاطمية:(/1)
قال المقريزي في خططه (1/432):"وكان الأفضل بن أمير الجيوش قد أبطل أمر الموالد الأربعة : النبوي ، والعلوي ، والفاطمي ، والإمام الحاضر وما يهتم به وقدم العهد به حتى نسي ذكرها فأخذ الأستاذون يجددون ذكرها للخليفة الآمر بأحكام الله ويرددون الحديث معه فيها ويحسنون له معارضة الوزير بسببها وإعادتها وإقامة الجواري والرسوم فيها فأجاب إلى ذلك وعمل ما ذكر.."أ.هـ
فعلى هذا أول من أحدث ما يسمى بالمولد النبوي هم بنو عبيد الذين اشتهروا بالفاطميين ( ).
· ماذا قال أهل العلم عن الدولة الفاطمية العبيدية التي أحدثت هذا الأمر ( المولد النبوي)؟:
قال الإمام أي شامة المؤرخ المحدث صاحب كتاب الروضتين في أخبار الدولتين ص 200-202عن الفاطميين العبيديين:
" أظهروا للناس أنهم شرفاء فاطميون فملكوا البلاد وقهروا العباد وقد ذكر جماعة من أكابر العلماء أنهم لم يكونوا لذلك أهلا ولا نسبهم صحيحا بل المعروف أنهم (بنو عبيد ) ؛ وكان والد عبيد هذا من نسل القداح الملحد المجوسي وقيل كان والد عبيد هذا يهوديا من أهل سلمية من بلاد الشام وكان حدادا .
وعبيد هذا كان اسمه ( سعيدا) فلما دخل المغرب تسمى ب( عبيد الله ) وزعم أنه علوي فاطمي وادعى نسبا ليس بصحيح -لم يذكره أحد من مصنفي الأنساب العلوية بل ذكر جماعة من العلماء بالنسب خلافه -
ثم ترقت به الحال إلى أن ملك وتسمى ب(المهدي) وبنى المهدية بالمغرب ونسبت إليه وكان زنديقا خبيثا عدوا للإسلام متظاهرا بالتشيع متسترا به حريصا على إزالة الملة الإسلامية قتل من الفقهاء والمحدثين جماعة كثيرة وكان قصده إعدامهم من الوجود لتبقى العالم كالبهائم فيتمكن من إفساد عقائدهم وضلالتهم والله متم نوره ولو كره الكافرون.
ونشأت ذريته على ذلك منطوين يجهرون به إذا أمكنتهم الفرصة وإلا أسروه ، والدعاة لهم منبثون في البلاد يضلون من أمكنهم إضلاله من العباد وبقي هذا البلاء على الإسلام من أول دولتهم إلى آخرها وذلك من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين (299) إلى سنة سبع وستين وخمسمائة ( 567)،.
وفي أيامهم كثرة الرافضة واستحكم أمرهم ووضعت المكوس على الناس واقتدى بهم غيرهم وأفسدت عقائد طوائف من أهل الجبال الساكنين بثغور الشام كالنصيرية والدرزية والحشيشية نوع منهم وتمكن رعاتهم منهم لضعف عقولهم وجهلهم مالم يتمكنوا من غيرهم وأخذت الفرنج أكثر البلاد بالشام والجزيرة إلى أن من الله على المسلمين بظهور البيت الأتابكي وتقدمه مثل ( صلاح الدين ) فاستردوا البلاد وأزالوا هذه الدولة عن أرقاب العباد .
وكانوا أربعة عشر مستخلفا ... يدّعون الشرف ونسبتهم إلى مجوسي أو يهودي حتى اشتهر لهم ذلك بين العوام فصاروا يقولون الدولة الفاطمية والدولة العلوية وإنما هي ( الدولة المجوسية أو اليهودية الباطنية الملحدة ) . .
ومن قباحتهم انهم كانوا يأمرون الخطباء بذلك (أي أنهم علويون فاطميون ) على المنابر ويكتبونه على جدران المساجد وغيرها وخطب عبدهم جوهر الذي أخذ لهم الديار المصرية وبنى لهم القاهرة ( المعزية) بنفسه خطبة قال فيها اللهم صلي على عبدك ووليك ثمرة النبوة وسليل العترة الهادية المهدية معد أبي تميم الإمام المعز لدين الله أمير المؤمنين كما صليت على آبائه الطاهرين وسلفه المنتخبين الأئمة الراشدين ) كذب عدوّ الله اللعين فلا خير فيه ولا في سلفه أجمعين ولا في ذريته الباقين والعترة النبوية الطاهرة منهم بمعزل رحمة الله عليهم وعلى أمثالهم من الصدر الأول .
والملقب بالمهدي لعنه الله كان يتخذ الجهال ويسلطهم على أهل الفضل وكان يرسل إلى الفقهاء والعلماء فيذبحون في فرشهم وأرسل إلى الروم وسلطهم على المسلمين وأكثر من الجور واستصفاء الأموال وقتل الرجال وكان له دعاة يضلون الناس على قدر طبقاتهم فيقولون لبعضهم (هو المهدي ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجة الله على خلقه ) ويقولون لآخرين (هو رسول الله وحجة الله ) ويقولون لاخرى (هو الله الخالق الرازق) لا اله إلا الله وحده لا شريك له تبارك سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ولما هلك قام ابنه المسمى بالقائم مقامه وزاد شره على شر أبيه أضعافا مضاعفة وجاهر بشتم الأنبياء فكان ينادى في أسواق المهدية وغيرها (العنوا عائشة وبعلها العنوا الغار وما حوى ) اللهم صلي على نبيك وأصحابه وأزواجه الطاهرين وألعن هؤلاء الكفرة الفجرة الملحدين وارحم من ازالهم وكان سبب قلعهم ومن جرى على يديه تفريق جمعهم وأصلهم سعيرا ولقهم ثبورا وأسكنهم النار جمعا واجعلهم ممن قلت فيهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .(/2)
ولو وفق ملوك الإسلام لصرفوا أعنة الخيل إلى مصر لغزو الباطنية الملاعين فإنهم من شر أعداء دين الإسلام وقد خرجت من حدّ المنافقين إلى حد المجاهرين لما ظهر في ممالك الإسلام من كفرها وفسادها وتعين على الكافه فرض جهادها وضرر هؤلاء أشدّ على الإسلام وأهله من ضرر الكفار إذا لم يقم بجهادها أحد إلى هذه الغاية مع العلم بعظيم ضررها وفسادها في الأرض ".أ.هـ بتصرف يسير.
وانظر رحمك الله إلى ما قرره هذا العالم المؤرخ وهو قريب عهد منهم حيث عاش ما بين سنة (599-665)للهجرة النبوية ، وكيف تألم لما حل بالمسلمين من كرب وضيق من جرّاء حكم هؤلاء الباطنيين وعلى هذا فالمولد النبوي أصله ومنشئه من الباطنيين ذي الأصول المجوسية اليهودية المحيين شعائر الصليبية ، ونحن هنا نقول لكل منصف هل يصح أن نجعل أمثال هؤلاء مصدر عباداتنا وشعائرنا ونحن نقول مرة أخرى إن القرون المفضلة التي عاش فيها سلفنا الصالح لم يكن فيها أثر لمثل هذه العبادة منهم أو من أعدائهم أو حتى من جهلتهم وعامتهم أفلا يسعنا ماوسعهم .
· بيان حكم المولد النبوي وبيان فساد قول من قال بمشروعيته من أوجه عديدة:
إعلم رحمني الله وإياك أن ما يسمى بالمولد النبوي ليس مشروعا ولم يدل عليه دليل من كتاب ولاسنة لاإجماع ولاقياس صحيح ولا حتى دليل عقلي ولا فطري وما كان بهذه الصيغة فهو بدعة مذمومة.
قال الحافظ ابن رجب ( ) :" والمراد بالبدعة ما أحدث مما لاأصل له في الشريعة يدل عليه ".
ويقول أيضاً ( ) : " فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين بريء منه ، وسواء في ذلك مسائل الاعتقاد أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة".
والبدعة كذلك " مالم يشرعه الله من الدين فكل من دان الله بشيء لم يشرعه الله فذاك بدعة وإن كان متاولاً".( )
ويظهر فساد القول بجوازه ومشرعية من خلال الأوجه التاليه:
- الوجه الأول :
أن هذا الفعل لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولاأمر به ولافعله صحابته ولاأحد من التابعين ولا تابعيهم ولا فعله أحد من أهل الإسلام خلال القرون المفضلة الأولى وإنما ظهر- كما تقدم- على ايدي أناس هم أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان وهم الباطنيون.
إذا تقرر هذا فالذي يفعل هذا الأمر داخل ضمن الوعيد الذي توعد الله عزو جل صاحبه وفاعله بقوله ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) والذي يفعل ما يسمى بالمولد لاشك انه متبع لغير سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين وتابعيهم .
- الوجه الثاني:
أن الذي يمارس هذا الفعل واقع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال " إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وجاء في رواية أخرى ( وكل ضلالة في النار ).
فقوله (كل بدعة ضلالة ) عموم لا مخصص له يدخل فيه كل أمر مخترع محدث لا أصل له في دين الله والعلماء مجمعون على انه أمر محدث فصار الأمر إلى ما قلنا أنه بدعة ضلالة تودي بصاحبها إلى النار أعاذنا الله وإياك منها.
الوجه الثالث :
أن فاعل هذه البدعة غير مأجور على فعله بل مردود على صاحبه لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) ولايكفي حسن النية بل لابد من متابعة النبي صلى الله عليه وسلم.
- الوجه الرابع:
قال الله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم أتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ).
والذي يقول إن المولد عبادة نتعبد لله تعالى بها فهو مكذب بهذه الآية وهو كفر بالله عزوجل فان قال انه مصدق بها لزمه ان يقول ان المولد ليس بعبادة ويكون اقرب الى العبث واللعب منه الى ما يقرب الى الله عزوجل.
وقلنا له أيضاً كأنك مستدرك على الله وعلى رسوله بأنهم لم يدلونا على هذه العبادة العظيمة التي تقرب إلى الله والرسول .
فان قال أنا لا أقول أنها عبادة ولا استدرك على الله ورسوله ومومن بهذه الآية لزمه الرجوع إلى القول الحق وأنها بدعة محدثة هدانا الله وكل مسلم لما يحبه ربنا ويرضى.
- الوجه الخامس :
أن الممارس لهذا الأمر- اعني بدعة المولد- كأنه يتهم للرسول صلى الله عليه وسلم بالخيانة وعدم الأمانة -و العياذ بالله- لأنه كتم على الأمة ولم يدلها على هذه العبادة العظيمة التي تقربها إلى الله
قال الإمام مالك - رحمه الله ( )-: " من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم ان محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة لأن الله يقول ( اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا".
- الوجه السادس ( ) :(/3)
أن فاعل المولد معاند للشرع ومشاق له لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقا خاصة على وجوه وكيفيات خاصة وقصر الخلق عليها بالأوامر والنواهي وأخبر أن الخير فيها والشر في مجاوزتها وتركها لأن الله اعلم بما يصلح عباده وما أرسل الرسل ولا أنزل الكتب إلا ليعبدوه وفق ما يريد سبحانه والذي يبتدع هذه البدعة راد لهذا كله زاعم أن هناك طرقا أخرى للعبادة وان ما حصره الشارع أو قصره على أمور معينة ليس بلازم له فكأنه يقول بلسان حاله إن الشارع يعلم وهو أيضا يعلم بل ربما يفهم أن يعلم أمرا لم يعلمه الشارع سبحانك هذا بهتان عظيم وجرم خطير وإثم مبين وضلال كبير.
- الوجه السابع :
أن في إقامة هذه البدعة تحريف لأصل من أصول الشريعة وهي محبة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه ظاهرا وباطنا واختزالها في هذا المفهوم البدعي الضيق الذي لايتفق مع مقاصد الشرع المطهر إلى دروشة ورقص وطرب وهز للرؤوس لان الذي يمارسون هذه البدعة يقولون ان هذا من الدلائل الظاهرة على محبته ومن لم يفعلها فهو مبغض للنبي صلى الله عليه وسلم
وهذا لاشك تحريف لمعنى محبة الله ومحبة رسول لان محبة الله والرسول تكون باتباع سنته ظاهرا وباطنا كما قال جل وعلا( قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )
فالذي يجعل المحبة باقامة هذه الموالد محرف لشريعة الله التي تقول ان المحبة الصحيحة تكون باتباعه صلى الله عليه وسلم ، بل محو لحقيقة المحبة التي تقرب من الله وجعلها في مثل هذه الطقوس التي تشابه ما عند النصارى في أعيادهم وبهذا يعلم أنه ( ما أحييت بدعة إلا وأميتت سنة ).
- الوجه الثامن :
أن هذا المولد فيه مشابهة واضحة لدين النصارى الذين يحتفلون بعيد ميلاد المسيح وقد نهينا عن التشبه بهم كما قال صلى الله عليه وسلم ( ومن تشبه بقوم فهو منهم ).( )
- الوجه التاسع:
أن فيه قدحا في من سبقنا من الصحابة ومن أتى بعدهم بأننا أكثر محبة للنبي صلى الله عليه وسلم منهم ، وأنهم لم يوفوه حقه من المحبة والاحترام لان فاعلي المولد يقولون عن الذين لا يشاركونهم انهم لا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم وهذه التهمة منصرفة إلى أصحابه الأطهار الذين فدوه بأرواحهم وبآبآءهم وأمهاتهم رضي الله عنهم وأرضاهم .
- الوجه العاشر :
ان فاعل هذا المولد واقع فيما نهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته صراحة فقد قال صلى الله عليه وسلم ( لاتطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ) فقد نهى عن تجاوز الحد في إطرائه ومدحه وذكر أن هذا مما وقع فيه النصارى وكان سبب انحرافهم .
وما يفعل الآن من الموالد من أبرز مظاهر الإطراء وإذا لم يكن في الموالد-( التي تنفق فيها الاموال الطائلة وتنشد فيها المدائح النبوية التي تشتمل على أعظم أنواع الغلو فيه صلى الله عليه وسلم من إعطائه خصائص الربوبية كما سوف يمر معنا)- إطراء ففي ماذا يكون الإطراء؟
الوجه الحادي عشر :
وبدعة المولد النبوي مجاوزة في الحد المشروع، ومجاوزة في حد ما امرنا به من محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومجاوزة للحد المشروع في إقامة الأعياد فليس في شرعنا للمسلمين إلا عيدان فقط ومن أتى بثالث فهو متجاوز للحد المشروع . .
الوجه الثاني عشر:
أن فعل المولد غلو مذموم في شخص النبي صلى الله عليه وسلم و من أعظم الذرائع المؤدية للشرك الأكبر وهو الكفر المخرج من الملة لأن الغلو في الصالحين كان سبب وقوع الأمم السابقة في الشرك وعبادة غير الله عزوجل.
وقد جاءت الشريعة بسد الذرائع الموصلة للشرك .
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من ذلك فقال صلى الله عليه وسلم إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو) ( ) وهذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال وإن كان سبب وروده في في لقط الجمار ونهيه عن لقط الكبار من الجمار لأنه نوع من الغلو في العبادة ومجاوزة للحد المشروع .
ومعلو ان سبب الشرك الذي وقع في بني آدم هو مجاوز الحد والغلو في تعظيم الصالحين فقد جاء في البخاري برقم ( 4920) عن ابن عباس" في قول الله تعالى ( وقالوا لاتذرن ألهتكم ولا تذرن ودّا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسراً ) قال : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك اولئك ونسي العلم عبدت ".
وقارن بما حصل عند قوم نوح مع أنهم لم يصرفوا شيئا من العبادة في أول الأمر حتى وقعوا في الشرك والسبب هذه التماثيل وهي مظهر من مظاهر الغلو وانظر ما حصل ويحصل في الموالد فهو ليس من ذرائع الشرك فحسب؛ بل يحصل الشرك بعينه من دعاء لغير الله عزوجل وإعطائه صلى الله عليه وسلم بعض خصائص الرب جل وعلا كالتصرف في الكون وعلم الغيب ففي هذه الموالد يترنمون بالمدائح النبويةوعلى رأسها بردة البوصيري الذي يقول:
ياأكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم(/4)
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
ويقول أحمد بن محمد ابن الحاج السلمي:
نور الهدى قد بدا في العرب والعجم سعد السعود علا في الحل والحرم
بمولد المصطفى أصل الوجود ومن لولاه لم تخرج الأكوان من عدم
فماذا بقي لرب العباد إن هذا ليس شركا في الألوهية بل هو شرك في الربوبية وهو أعظم من شرك كفار قريش والعياذ بالله لأن كفار قريش كانوا يعتقدون أن المتصرف في الكون هو الله عزو جل لا أصنامهم وهؤلاء يزعمون أن المتصرف في الكون الذي بيده الدنيا والآخرة هو النبي صلى الله عليه وسلم .
وانظر الى قوله ( يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ) فهو يعتبر رسول الله هو الملاذ وهو الذي يستغاث به ويدعوه عند الملمات وهذا هو عين شرك كفار قريش الذي يعبدون الاوثان بل هم احسن حالا منه فهم عند الشدائد يخلصون الدعاء والعبادة والبوصيري عند الشدائد والملمات يدعوا غيرالله .
والموالد لايمكن ان تقوم بغير أبيات البردة والله المستعان فهي الشعيرة والركيزة الأساسية في هذه الموالد البدعية.
ولولم يكن فيها إلا هذه المفسدة لكفى بها مبرراً لتحريمها والتحذير منها .
وإن زعم شخص انه سوف يخليه مما تقدم قلنا له المولد بحد ذاته هو مظهر من مظاهر الغلو المذموم فضلا عما يحتويه من طوام عظيمة وبدعة في الدين محدثة لم يشرعهاولم يأذن بها الله .
الوجه الثالث عشر:
أن الفرح بهذا اليوم والنفقه فيه وإظهار الفرح والسرور فيه قدح في محبة العبد لنبيه الكريم إذ هذا اليوم باتفاق هو اليوم الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يفرح فيه والله المستعان.
وأما يوم مولده فمختلف فيه ،فكيف تكون عبادة عظيمة تقرب إلى الله واليوم الذي يحتفل فيه غير مجزوم به .
يقول الحافظ في فتح الباري ( شرح حديث برقم 3641 :" . وَقَدْ أَبْدَى بَعْضهمْ لِلْبُدَاءَةِ بِالْهِجْرَةِ مُنَاسَبَة فَقَالَ : كَانَتْ الْقَضَايَا الَّتِي اُتُّفِقَتْ لَهُ وَيُمْكِن أَنْ يُؤَرَّخ بِهَا أَرْبَعَة : مَوْلِده وَمَبْعَثه وَهِجْرَته وَوَفَاته , فَرَجَحَ عِنْدهمْ جَعْلهَا مِنْ الْهِجْرَة لِأَنَّ الْمَوْلِد وَالْمَبْعَث لَا يَخْلُو وَاحِد مِنْهُمَا مِنْ النِّزَاع فِي تَعْيِين السَّنَة , وَأَمَّا وَقْت الْوَفَاة فَأَعْرَضُوا عَنْهُ لِمَا تُوُقِّعَ بِذِكْرِهِ مِنْ الْأَسَف عَلَيْهِ , فَانْحَصَرَ فِي الْهِجْرَة "أ.هـ
ويقول ابن الحاج في المدخل (2/15):" ثم العجب العحيب كيف يعملون المولد للمغاني والفرح والسرور لأجل مولده عليه الصلاة والسلام كما تقدم في هذا الشهر الكريم وهو عليه الصلاة والسلام فيه انتقل إلى كرامة ربه عزو جل وفجعة الأمة فيه وأصيبت بمصاب عظيم لايعدل ذلك غيرها من المصائب أبداً فعلى هذا كان يتعين البكاء والحزن الكثير وأنفراد كل إنسان بنفسه لما أصيب به ......". أهـ
الوجه الرابع عشر:
اشتمال هذه الموالد على كثير من كبائر وعظائم الأمور والتي يرتع فيها أصحاب الشهوات ويجدون فيها بغيتهم مثل: الطرب والغناء واختلاط الرجال بالنساء ويصل الأمر في بعض البلدان التي يكثر فيها الجهل أن يشرب فيها الخمر وكذلك إظهار ألوان من الشعوذة والسحرومن يحضر هذه الأماكن بغير نية القربة فهو آثم مأزور غير مأجور فكيف إذا انضم إليه فعل هذه المنكرات على أنها قربة إلى الله عزوجل فأي تحريف لشعائر الدين أعظم من هذا التحريف.( )
الوجه الخامس عشر:
اشتماله على أنواع عظيمة من البذخ والتببذير وإضاعة الأموال وإنفاقها على غير اهلها.
الوجه السادس عشر:
أن في هذه الموالد والتي كثرت وانتشرت حتى وصلت في بعض الأشهر أن يحتفلوا بثمان وعشرين مولدا أن فيها من استنفاد الطاقات والجهود والأموال واشغال الأوقات وصرف للناس عن ما يكاد لهم من قبل أعدائهم فتصبح كل أيامهم رقص وطرب وموالد فمتى يتفرغون لتعلم دينهم ومعرفة ما يخطط لهم من قبل أعدائهم ولهذا لما جاء المستعمرون للبلاد الإسلامية حاولوا القضاء على كل معالم الإسلام وصرف الناس عن دينهم ومحاولة إشاعة الرذيلة بينهم وما كان من تصرفات المسلمين فيه مصلحة لهم وفت في عضد المسلمين وإضعاف لشانهم فإنهم باركوه وشجعوه مثل الملاهي والمحرمات ونحوها ومن ذلك البدع المحدثة التي تصرف الناس عن معالم الإسلام الحقيقية مثل بدعة المولد وغيرها من الموالد ، بل مثل هذه البدع من أسباب تخلف المسلمين وعدم تقدمهم على غيرهم .(/5)
يقول السيد رشيد رضا في المنار (2/74-76):" فالموالد أسواق الفسوق فيها خيام للعواهر وخانات للخمور ومراقص يجتمع فيها الرجال لمشاهدة الراقصات المتهتكات الكاسيات العاريات ومواضع أخرى لضروب من الفحش في القول والفعل يقصد بها إضحاك الناس ....(إلى أن قال ): فلينظر الناظرون إلى أين وصل المسلمون ببركة التصوف واعتقاد أهله بغير فهم ولا مراعاة شرع اتخذوا الشيوخ أنداداً وصار يقصد بزيارة القبور والأضرحة قضاء الحوائج وشفاء المرضى وسعة الرزق بعد أن كانت للعبرة وتذكرة القدوة وصارت الحكايات الملفقة ناسخة فعلا لما ورد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على الخير ونتيجة لذلك كله ؛ أن المسلمين رغبوا عما شرع الله إلى ما توهموا أنه يرضي غيره ممن اتخذوهم أنداداً وصاروا كالإباحيين في الغالب فلاعجب إذا عم فيهم الجهل واستحوذ عليهم الضعف وحرموا ماوعد الله المؤمنين من النصر لأنهم انسلخوا من مجموع ما وصف الله به المؤمنين ولم يكن في القرن الأول شيئ من هذه التقاليد والأعمال التي نحن عليها بل ولا في الثاني ولايشهد لهذه البدع كتاب ولاسنة وإنما سرت إلينا بالتقليد أو العدوى من الامم الأخرى ، إذ رأى قومنا عندهم أمثال هذه الاحتفالات فظنوا أنهم إذا عملوا مثلها يكون لدينهم عظمة وشأن في نفوس تلك الأمم فهذا النوع من اتخاذ الأنداد كان من أهم أسباب تأخر المسلمين وسقوطهم فيما سقطوا فيه ".أ.هـ
نابليون المستعمر الفرنسي يحي المولد ويدعمه:
واسمع إلى ما يحدثنا به المؤرخ المصري الجبرتي في كتابيه عجائب الآثار(2/249،201) ومظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس ص47
تحدث وذكر ان المستعمرين الفرنسيين عندما احتلوا مصر بقيادة نابليون بونابرت انكمش الصوفيه واصحاب الموالد فقام نابليون وامرهم بإحياءها ودعمها
قال في مظهر التقديس :" وفيها (أي سنة 1213هـ في ربيع الأول ):سأل صاري العسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم فاعتذر الشيخ البكري بتوقف الأحوال وتعطل الأمور وعدم المصروف فلم يقبل وقال (لابد من ذلك ) واعطى الشيخ البكري ثلاثمائة ريال فرانسة يستعين بها فعلقوا حبالا وقناديل واجتمع الفرنسيس يوم المولد ولعبوا ودقوا طبولهم واحرقوا حراقة في الليل وسواريخ تصعد في الهواء ونفوطاً".
ولعل سائلا يسأل ما هدفهم من تأييد ودعم مثل هذه البدع وهذه الموالد؟
ندع الجواب للمؤرخ الجبرتي المعاصر لهم حيث يقول في تاريخ عجائب الآثار(2/306):
" ورخص الفرنساوية ذلك للناس لما رأوا فيه من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات ".
· أقوال أهل العلم في المولد :
لقد أفتى علماء العالم الإسلامي على اختلاف أماكنهم وأزمانهم ومذاهبهم الفقهية بحرمة عمل المولد وأنه من البدع المحدثة التي لاأصل لها وإليك بعضهم:
* شيخ الإسلام ابن تيمية وهو من علماء الشام ومن المجتهدين.(انظر اقتضاء الصراط المستقيم ( 2 /619 )، ومجموع الفتاوى( 1/312 ) .
* العلامة الشيخ تاج الدين عمر بن علي اللخمي السكندري المشهور بالفاكهاني له رسالة بعنوان (المورد في الكلام على عمل المولد). وهو عالم مالكي المذهب ت بالاسكندرية سنة 734هـ.
* الاستاذ ابو عبد الله محمد الحفار له فتاوى ذكرها الونشريسي في المعيار المعرب.وهو من علماء المغرب.
* العلامة ابن الحاج ابو عبد ال محمدبن محمد بن محمد العبدري الفاسي المالكي ت بالقاهرة (732هـ)له كلام نفيس في المدخل بداية الجزالثاني
* الشيخ العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي مفتي الديار المصرية.
* الشيخ على محفوظ في كتابه الإبداع في مضار الابتداع .
* الإمام الشاطبي وله كلام نفيس في فتوى له في كتاب طبع باسم فتاوى الإمام الشاطبي وهو عالم مالكي أندلسي.
* الشيخ رشيد رضا في أكثر من موضع من مصنفاته كما في المنار (9/96)، (2/74-76) (17/111) (29/ 664-668).وفتاواه (الجزء الخامس في الصفحة 2112-2115) و(الجزء الرابع في الصفحة 1242-1243).
v الشيخ أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي وهو من علماء الهند ( أنظر رسالة الشيخ حمود التويجري ص235 ط. العاصمة ضمن المجموع في الرسائل الخاصة ببدعة المولد ).
* الشيخ بشير الدين القنوجي وهو من علماء الهند وهو شيخ أبي الطيب ( المصدر السابق ).
* الشيخ فوزان السابق كما في كتابه البيان والإشهارص 299.
* الشيخ محمد بن عبد السلام خضر الشقيري في كتابه السنن والمبتدعات .
* شيخ الإسلام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله .
* العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ كما في الدرر السنية.
* العلامة الشيخ محمد بن ابراهيم له رسالة في إنكار عمل المولد وانظر مجموع فتاواه (3/48-95)فقد اشتملت على عدد من الفتاوى المتنوعة حول المولد .
* العلامة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد في رسالته هداية الناسك إلى أهم المناسك .
* العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز له رسالة في حكم الاحتفال بالمولد النبوي .(/6)
* العلامة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في رسالة بعنوان ( الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي وبيان أخطائهم في المولد النبوي).
* الشيخ العلامة إسماعيل الأنصاري له رسالة وهي من أجود مارأيت بعنوان القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل.
* العلامة الشيخ محمد الصالح العثيمين.
* الشيخ العلامة عبد الله بن جبرين .
* الشيخ صالح بن فوزان الفوزان .
* هناك فتاوى متناثرة في مجلة التوحيد التي تصدر في مصر عن جماعة أنصار السنة المحمدية .
في الختام أسأل الله العلي القدير ان يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
Honini48@hotmail.com
المصدر / شبكة الفجر(/7)
المولد النبوي شبهات و ردود
أخي المسلم، أختي المسلمة: لاشك أننا جميعا نُكِنُ في صدورنا محبة لرسولنا الكريم وحبيبنا العظيم وقدوتنا وإمامنا، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن عمل بسنته واهتدى بهديه إلي يوم الدين؛ فهذه المحبة تعد من أصول الدين. ومن لا يحب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كافر نتقرب إلى الله ببغضه.
ولكن انظر ما حصل ويحصل في المولد فهو ليس من ذرائع الشرك فحسب؛ بل يحصل الشرك بعينه من دعاء لغير الله عز وجل وإعطائه صلى الله عليه وسلم بعض خصائص الرب جل وعلا كالتصرف في الكون وعلم الغيب ففي هذه الموالد يترنمون بالمدائح النبوية وعلى رأسها بردة البوصيري الذي يقول:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
ويقول أحمد بن محمد ابن الحاج السلمي:
نور الهدى قد بدا في العرب والعجم سعد السعود علا في الحل والحرم
بمولد المصطفى أصل الوجود ومن لولاه لم تخرج الأكوان من عدم
فماذا بقي لرب العباد؟! إن هذا ليس شركا في الألوهية بل هو شرك في الربوبية. وهو أعظم من شرك كفار قريش والعياذ بالله؛ لأن كفار قريش كانوا يعتقدون أن المتصرف في الكون هو الله عز وجل لا أصنامهم وهؤلاء يزعمون أن المتصرف في الكون الذي بيده الدنيا والآخرة هو النبي صلى الله عليه وسلم .
وانظر إلى قوله ( يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ) فهو يعتبر رسول الله هو الملاذ وهو الذي يستغاث به ويدعوه عند الملمات وهذا هو عين شرك كفار قريش الذي يعبدون الأوثان بل هم أحسن حالا منه فهم عند الشدائد يخلصون الدعاء والعبادة. والبوصيري عند الشدائد والملمات يدعو غير الله .
والموالد لا يمكن أن تقوم بغير أبيات البردة والله المستعان فهي الشعيرة والركيزة الأساسية في هذه الموالد البدعية.
ولو لم يكن فيها إلا هذه المفسدة لكفى بها مبرراً لتحريمها والتحذير منها .
وإن زعم شخص انه سوف يخليه مما تقدم قلنا له المولد بحد ذاته هو مظهر من مظاهر الغلو المذموم فضلا عما يحتويه من طوام عظيمة وبدعة في الدين محدثة لم يشرعها ولم يأذن بها الله .
اعلم أنه على مدى ما يزيد على ثلاثمائة وخمسين سنة من بعثة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، لم يحتفل أحد من العلماء ولا من الحكام ولا حتى من عامة الناس بالمولد النبوي، ولا أمر به أو حث عليه أو تكلم به. قال الحافظ السخاوي: "عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة وإنما حدث بعد".أهـ
لقد أحدث هذا الأمر -أعني المولد النبوي- الخلفاء الفاطميون. يقول الإمام المقريزي، رحمه الله: " وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم وهي: رأس السنة.. وأول العام..ويوم عاشوراء.. ومولد النبي صلى الله عليه وسلم..، ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولد الحسن والحسين رضي الله عنهما، ومولد فاطمة الزهراء رضي الله، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وموسم فتح الخليج، ويوم النيروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس، وأيام الركوبات"• وقال المقريزي: "وفي ربيع الأول ألزم الناس بوقود القناديل بالليل في سائر الشوارع والأزقة بمصر". وقال: "وجرى الرسم في عمل المولد الكريم النبوي في ربيع الأول على العادة"..
وقال: "وكان الأفضل بن أمير الجيوش قد أبطل أمر الموالد الأربعة : النبوي ، والعلوي ، والفاطمي ، والإمام الحاضر ولكن أعادها الخليفة الآمر بأحكام الله"أ.هـ
فعلى هذا أول من أحدث ما يسمى بالمولد النبوي هم بنو عبيد الذين اشتهروا بالفاطميين.
قال الإمام أبو شامة المؤرخ المحدث صاحب كتاب الروضتين في أخبار الدولتين ص 200-202عن الفاطميين العبيديين:
" أظهروا للناس أنهم شرفاء فاطميون فملكوا البلاد وقهروا العباد وقد ذكر جماعة من أكابر العلماء أنهم لم يكونوا لذلك أهلا ولا نسبهم صحيحا بل المعروف أنهم (بنو عبيد)؛ وكان والد عبيد هذا من نسل القداح الملحد المجوسي وقيل كان والد عبيد هذا يهوديا من أهل سلمية من بلاد الشام وكان حدادا .
فلما دخل المغرب تسمى ب( عبيد الله ) وزعم أنه علوي فاطمي وادعى نسبا ليس بصحيح -لم يذكره أحد من مصنفي الأنساب العلوية بل ذكر جماعة من العلماء بالنسب خلافه -
ثم ترقت به الحال إلى أن ملك وتسمى ب(المهدي) وبنى المهدية بالمغرب ونسبت إليه وكان زنديقا خبيثا عدوا للإسلام متظاهرا بالتشيع متسترا به حريصا على إزالة الملة الإسلامية قتل من الفقهاء والمحدثين جماعة كثيرة وكان قصده إعدامهم من الوجود لتبقى العامة كالبهائم فيتمكن من إفساد عقائدهم وضلالتهم والله متم نوره ولو كره الكافرون.(/1)
ونشأت ذريته على ذلك منطوين يجهرون به إذا أمكنتهم الفرصة وإلا أسروه ، والدعاة لهم منبثون في البلاد يضلون من أمكنهم إضلاله من العباد وبقي هذا البلاء على الإسلام من أول دولتهم إلى آخرها وذلك من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين (299) إلى سنة سبع وستين وخمسمائة ( 567)، وفي أيامهم كثرت الرافضة واستحكم أمرهم ووضعت المكوس على الناس واقتدى بهم غيرهم وأفسدت عقائد طوائف من أهل الجبال الساكنين بثغور الشام كالنصيرية والدرزية (والحشيشية نوع منهم) وتمكن رعاتهم منهم لضعف عقولهم وجهلهم مالم يتمكنوا من غيرهم وأخذت الفرنج أكثر البلاد بالشام والجزيرة إلى أن من الله على المسلمين بظهور البيت الأتابكي وتقدمه مثل ( صلاح الدين ) فاستردوا البلاد وأزالوا هذه الدولة عن رقاب العباد .
خطب عبدهم جوهر الذي أخذ لهم الديار المصرية وبنى لهم القاهرة ( المعزية) بنفسه خطبة قال فيها: "اللهم صلي على عبدك ووليك ثمرة النبوة وسليل العترة الهادية المهدية معد أبي تميم الإمام المعز لدين الله أمير المؤمنين كما صليت على آبائه الطاهرين وسلفه المنتخبين الأئمة الراشدين".
كذب عدوّ الله اللعين فلا خير فيه ولا في سلفه أجمعين ولا في ذريته الباقين والعترة النبوية الطاهرة منهم بمعزل رحمة الله عليهم وعلى أمثالهم من الصدر الأول .
والملقب بالمهدي لعنه الله كان يتخذ الجهال ويسلطهم على أهل الفضل وكان يرسل إلى الفقهاء والعلماء فيذبحون في فرشهم وأرسل إلى الروم وسلطهم على المسلمين وأكثر من الجور واستصفاء الأموال وقتل الرجال وكان له دعاة يضلون الناس على قدر طبقاتهم فيقولون لبعضهم (هو المهدي ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجة الله على خلقه) ويقولون لآخرين (هو رسول الله وحجة الله ) ويقولون لآخرين (هو الله الخالق الرازق)!! لا اله إلا الله وحده لا شريك له تبارك سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
يقول ابن هانىء الأندلسي في مدح الخليفة الفاطمي الإمام المعز لدين الله الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي محمد وكأنما أنصارك الأنصار
أنت الذي كانت تبشرنا به في كتبها الأحبار و الأخبار
هذا إمام المتقين ومن به قد دوخ الطغيان و الكفار
هذا الذي ترجى النجاة بحبه وبه يحطّ الإصر و الإزار
هذا الذي تجدي شفاعته غدا حقًّا و تخمد إن تراه النار
ولما هلك قام ابنه المسمى بالقائم مقامه وزاد شره على شر أبيه أضعافا مضاعفة وجاهر بشتم الأنبياء فكان ينادى في أسواق المهدية وغيرها (العنوا عائشة وبعلها، العنوا الغار وما حوى)
وانظر رحمك الله إلى ما قرره هذا العالم المؤرخ وهو قريب عهد منهم حيث عاش ما بين سنة (599-665)للهجرة النبوية ، وكيف تألم لما حل بالمسلمين من كرب وضيق من جرّاء حكم هؤلاء الباطنيين وعلى هذا فالمولد النبوي أصله ومنشئه من الباطنيين ذي الأصول المجوسية اليهودية المحيين شعائر الصليبية ، ونحن هنا نقول لكل منصف هل يصح أن نجعل أمثال هؤلاء مصدر عباداتنا وشعائرنا ونحن نقول مرة أخرى إن القرون المفضلة التي عاش فيها سلفنا الصالح لم يكن فيها أثر لمثل هذه العبادة منهم أو من أعدائهم أو حتى من جهلتهم وعامتهم أفلا يسعنا ماوسعهم .
إعلم رحمني الله وإياك أن ما يسمى بالمولد النبوي ليس مشروعا ولم يدل عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح ولا حتى دليل عقلي ولا فطري وما كان بهذه الصيغة فهو بدعة مذمومة.
قال الحافظ ابن رجب:" والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه".
ويقول أيضاً: " فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين فهو ضلالة والدين بريء منه ، وسواء في ذلك مسائل الاعتقاد أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة".
**أولا:
إن هذا الفعل لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمر به ولا فعله صحابته ولا أحد من التابعين ولا تابعيهم ولا فعله أحد من أهل الإسلام خلال القرون المفضلة الأولى وإنما ظهر- كما تقدم- على أيدي أناس هم أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان وهم الباطنيون.
إذا تقرر هذا فالذي يفعل هذا الأمر داخل ضمن الوعيد الذي توعد الله عزو جل صاحبه وفاعله بقوله ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) والذي يفعل ما يسمى بالمولد لاشك انه متبع لغير سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين وتابعيهم .
**ثانيا:
إن الذي يمارس هذا الفعل واقع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال " إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة". وجاء في رواية أخرى ( وكل ضلالة في النار).
**ثالثا:
إن فاعل هذه البدعة غير مأجور على فعله بل مردود على صاحبه لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)
**رابعا:
قال الله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم أتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ).(/2)
والذي يقول إن المولد عبادة نتعبد لله تعالى بها فهو مكذب بهذه الآية وهو كفر بالله عز وجل فان قال انه مصدق بها لزمه أن يقول ان المولد ليس بعبادة ويكون اقرب الى العبث واللعب منه إلى ما يقرب إلى الله عز وجل.
وقلنا له أيضاً كأنك مستدرك على الله وعلى رسوله بأنهم لم يدلونا على هذه العبادة العظيمة التي تقرب إلى الله والرسول .
فان قال أنا لا أقول أنها عبادة ولا استدرك على الله ورسوله ومؤمن بهذه الآية لزمه الرجوع إلى القول الحق وأنها بدعة محدثة هدانا الله وكل مسلم لما يحبه ربنا ويرضى.
**خامسا :
إن الممارس لبدعة المولد كأنه يتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيانة وعدم الأمانة - و العياذ بالله- لأنه كتم على الأمة ولم يدلها على هذه العبادة العظيمة التي تقربها إلى الله
قال الإمام مالك - رحمه الله-: " من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا".
**سادسا:
إن فاعل المولد معاند للشرع ومشاق له؛ لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقا خاصة على وجوه وكيفيات خاصة وقصر الخلق عليها بالأوامر والنواهي وأخبر أن الخير فيها والشر في مجاوزتها وتركها؛ لأن الله اعلم بما يصلح عباده وما أرسل الرسل ولا أنزل الكتب إلا ليعبدوه وفق ما يريد سبحانه والذي يبتدع هذه البدعة راد لهذا كله زاعم أن هناك طرقا أخرى للعبادة وان ما حصره الشارع أو قصره على أمور معينة ليس بلازم له فكأنه يقول بلسان حاله إنه يعلم أمرا لم يعلمه الشارع. سبحانك هذا بهتان عظيم وجرم خطير وإثم مبين وضلال كبير.
**سابعا :
إن في إقامة هذه البدعة تحريف لأصل من أصول الشريعة وهي محبة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه ظاهرا وباطنا واختزالها في هذا المفهوم البدعي الضيق الذي لا يتفق مع مقاصد الشرع المطهر إلى دروشة ورقص وطرب وهز للرؤوس لأن الذين يمارسون هذه البدعة يقولون إن هذا من الدلائل الظاهرة على محبته ومن لم يفعلها فهو مبغض للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا لاشك تحريف لمعنى محبة الله ومحبة رسول لأن محبة الله والرسول تكون باتباع سنته ظاهرا وباطنا كما قال جل وعلا( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )
فالذي يجعل المحبة بإقامة هذه الموالد محرف لشريعة الله التي تقول إن المحبة الصحيحة تكون باتباعه صلى الله عليه وسلم ، بل محو لحقيقة المحبة التي تقرب من الله وجعلها في مثل هذه الطقوس التي تشابه ما عند النصارى في أعيادهم وبهذا يعلم أنه ( ما أحييت بدعة إلا وأميتت سنة).
**ثامنا :
إن هذا المولد فيه مشابهة واضحة لدين النصارى الذين يحتفلون بعيد ميلاد المسيح وقد نهينا عن التشبه بهم كما قال صلى الله عليه وسلم ( ومن تشبه بقوم فهو منهم ).
**تاسعا:
إن فيه قدحا في من سبقنا من الصحابة ومن أتى بعدهم بأننا أكثر محبة للنبي صلى الله عليه وسلم منهم ، وأنهم لم يوفوه حقه من المحبة والاحترام؛ لأن فاعلي المولد يقولون عن الذين لا يشاركونهم أنهم لا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم وهذه التهمة منصرفة إلى أصحابه الأطهار الذين فدوه بأرواحهم وبآبآءهم وأمهاتهم رضي الله عنهم وأرضاهم .
**عاشرا :
إن فاعل هذا المولد واقع فيما نهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته صراحة فقد قال صلى الله عليه وسلم ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ) فقد نهى عن تجاوز الحد في إطرائه ومدحه وذكر أن هذا مما وقع فيه النصارى وكان سبب انحرافهم .
وما يفعل الآن من الموالد من أبرز مظاهر الإطراء وإذا لم يكن في الموالد-( التي تنفق فيها الأموال الطائلة وتنشد فيها المدائح النبوية التي تشتمل على أعظم أنواع الغلو فيه صلى الله عليه وسلم من إعطائه خصائص الربوبية)- إطراء ففي ماذا يكون الإطراء؟
** حادي عشر:
وبدعة المولد النبوي مجاوزة في الحد المشروع من محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومجاوزة للحد المشروع في إقامة الأعياد فليس في شرعنا للمسلمين إلا عيدان فقط ومن أتى بثالث فهو متجاوز للحد المشروع
** ثاني عشر:
إن فعل المولد غلو مذموم في شخص النبي صلى الله عليه وسلم ومن أعظم الذرائع المؤدية للشرك الأكبر وهو الكفر المخرج من الملة لأن الغلو في الصالحين كان سبب وقوع الأمم السابقة في الشرك وعبادة غير الله عز وجل.
وقد جاءت الشريعة بسد الذرائع الموصلة للشرك .
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو". وهذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال
ثالث عشر:
إن الفرح بهذا اليوم والنفقه فيه وإظهار الفرح والسرور فيه قدح في محبة العبد لنبيه الكريم إذ هذا اليوم باتفاق هو اليوم الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يفرح فيه والله المستعان.(/3)
يقول ابن الحاج في المدخل (2/15):" ثم العجب العحيب كيف يعملون المولد للمغاني والفرح والسرور لأجل مولده عليه الصلاة والسلام كما تقدم في هذا الشهر الكريم وهو عليه الصلاة والسلام فيه انتقل إلى كرامة ربه عز وجل وفجعت الأمة فيه وأصيبت بمصاب عظيم لا يعدل ذلك غيرها من المصائب أبداً فعلى هذا كان يتعين البكاء والحزن الكثير وانفراد كل إنسان بنفسه لما أصيب به ......". أهـ
** رابع عشر:
اشتمال هذه الموالد على كثير من كبائر وعظائم الأمور والتي يرتع فيها أصحاب الشهوات ويجدون فيها بغيتهم مثل: الطرب والغناء واختلاط الرجال بالنساء ويصل الأمر في بعض البلدان التي يكثر فيها الجهل أن يشرب فيها الخمر وكذلك إظهار ألوان من الشعوذة والسحر ومن يحضر هذه الأماكن بغير نية القربة فهو آثم مأزور غير مأجور فكيف إذا انضم إليه فعل هذه المنكرات على أنها قربة إلى الله عز وجل فأي تحريف لشعائر الدين أعظم من هذا التحريف.
** خامس عشر:
اشتماله على أنواع عظيمة من البذخ والتبذير وإضاعة الأموال وإنفاقها على غير أهلها.
** سادس عشر:
إن في هذه الموالد والتي كثرت وانتشرت حتى وصلت في بعض الأشهر أن يحتفلوا بثمان وعشرين مولدا أن فيها من استنفاد الطاقات والجهود والأموال وإشغال الأوقات وصرف للناس عن ما يكاد لهم من قبل أعدائهم فتصبح كل أيامهم رقص وطرب وموالد فمتى يتفرغون لتعلم دينهم ومعرفة ما يخطط لهم من قبل أعدائهم؟ ولهذا لما جاء المستعمرون للبلاد الإسلامية حاولوا القضاء على كل معالم الإسلام وصرف الناس عن دينهم ومحاولة إشاعة الرذيلة بينهم وما كان من تصرفات المسلمين فيه مصلحة لهم وفت في عضد المسلمين وإضعاف لشانهم فإنهم باركوه وشجعوه مثل الملاهي والمحرمات ونحوها ومن ذلك البدع المحدثة التي تصرف الناس عن معالم الإسلام الحقيقية مثل بدعة المولد وغيرها من الموالد ، بل مثل هذه البدع من أسباب تخلف المسلمين وعدم تقدمهم على غيرهم .
يقول السيد رشيد رضا في المنار (2/74-76):" فالموالد أسواق الفسوق فيها خيام للعواهر وخانات للخمور ومراقص يجتمع فيها الرجال لمشاهدة الراقصات المتهتكات الكاسيات العاريات ومواضع أخرى لضروب من الفحش في القول والفعل يقصد بها إضحاك الناس ....(إلى أن قال ): فلينظر الناظرون إلى أين وصل المسلمون ببركة التصوف واعتقاد أهله بغير فهم ولا مراعاة شرع اتخذوا الشيوخ أنداداً وصار يقصد بزيارة القبور والأضرحة قضاء الحوائج وشفاء المرضى وسعة الرزق بعد أن كانت للعبرة وتذكرة القدوة وصارت الحكايات الملفقة ناسخة فعلا لما ورد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على الخير. ونتيجة لذلك كله أن المسلمين رغبوا عما شرع الله إلى ما توهموا أنه يرضي غيره ممن اتخذوهم أنداداً وصاروا كالإباحيين في الغالب فلا عجب إذا عم فيهم الجهل واستحوذ عليهم الضعف وحرموا ما وعد الله المؤمنين من النصر؛ لأنهم انسلخوا من مجموع ما وصف الله به المؤمنين ولم يكن في القرن الأول شيء من هذه التقاليد والأعمال التي نحن عليها بل ولا في الثاني ولا يشهد لهذه البدع كتاب ولا سنة وإنما سرت إلينا بالتقليد أو العدوى من الأمم الأخرى ، إذ رأى قومنا عندهم أمثال هذه الاحتفالات فظنوا أنهم إذا عملوا مثلها يكون لدينهم عظمة وشأن في نفوس تلك الأمم فهذا النوع من اتخاذ الأنداد كان من أهم أسباب تأخر المسلمين وسقوطهم فيما سقطوا فيه ".أ.هـ
** نابليون المستعمر الفرنسي يحي المولد ويدعمه:
واسمع إلى ما يحدثنا به المؤرخ المصري الجبرتي في كتابيه عجائب الآثار(2/249،201) ومظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس ص47 : ذكر أن المستعمرين الفرنسيين عندما احتلوا مصر بقيادة نابليون بونابرت انكمش الصوفية وأصحاب الموالد فقام نابليون وأمرهم بإحيائها ودعمها. في سنة 1213هـ في ربيع الأول: سأل صاري العسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم فاعتذر الشيخ البكري بتوقف الأحوال وتعطل الأمور وعدم المصروف. فلم يقبل وقال (لابد من ذلك ) وأعطى الشيخ البكري ثلاثمائة ريال فرنسية يستعين بها فعلقوا حبالا وقناديل واجتمع الفرنسيس يوم المولد ولعبوا ودقوا طبولهم واحرقوا حراقة في الليل وصواريخ تصعد في الهواء ونفوطاً".
ولعل سائلا يسأل ما هدفهم من تأييد ودعم مثل هذه البدع وهذه الموالد؟
ندع الجواب للمؤرخ الجبرتي المعاصر لهم حيث يقول في تاريخ عجائب الآثار(2/306):
" ورخص الفرنساوية ذلك للناس لما رأوا فيه من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات ".
وليس يجهل ما يراد بنا إلا الجواميس أو شبه الجواميس(/4)
الميزات العامة الباررة للفتوحات الإسلامية
تدل الدراسات الموضوعية في علم وفن الحرب الحديث أن لكل حرب قديمة أو حديثة صفات أو مميزات عسكرية بارزة تميّزها عن غيرها من الحروب حتى التي جرت أحداثها في نفس الحقبة التاريخية. والفتوحات الإسلامية التي بدأت بانتهاء حروب الردة في عهد الخليفة الصحابي الجليل "أبو بكر الصديق" رضي الله عنه وتوقفت إثر عملية فتح القسطنطينية على يد السلطان "محمد الفاتح" رحمه الله، تميزت بخصائص عسكرية معينة وصفات استراتيجية بارزة من أهمها: تبني عقيدة الجهاد في سبيل الله، والالتزام الدائم والدقيق بمباديء الحرب، ووحدة القيادة ومركزيتها، وتنسيق التعاون بين الجبهات، وبين القوات على الجبهة الواحدة، وتطبيق رائع لاستراتيجية نظرية الردع الإسلامية، وتوجيه الضربات الاستباقية المسبقة والمحضرة، وترجيح العامل المعنوي، والالتزام الدقيق بإنسانية الحرب.
وفي هذا المقال الموجز سنستعرض ـ إن شاء الله ـ لمحة مختصرة عن الفتوحات العربية الإسلامية أولاً، ثم ندرس كل مزيَّة من هذه المزايا الإيجابية العسكرية كل على حدة.مُراعين في ذلك نوعيَّة الأسلحة ووسائط الصراع المسلح في تلك العهود التأريخية، وكذلك تنظيمات وترتيبات قتال القوات الإسلامية، وأساليب خوضها للمعركة والموقعة التي كانت متبعة في تلك الحقبة الزمنية، وتطويرها لتلك الأساليب القتالية، ومسائل القيادة الاستراتيجية، ومعاملة المسلمين لسكان وأهالي البلاد المفتوحة.
لمحة مُوجزةٌ عن الفتوحات الإسلامية:
ما أن تحققت وحدة المسلمين، بانتهاء حروب الردة، وأصبحت الجبهة الداخلية لدولة الإسلام قوية ومتماسكة، حتى أطلق الخليفة "أبو بكر الصديق" رضي الله عنه جيوش المسلمين لفتح بلاد الشام والعراق ومصر سنة 12هـ (633م)، وفي سنة 92هـ (710م) كان المسلمون قد فتحوا الأندلس غرباً ووصلوا شرقاً حتى خوارزم وسمر قند في آسيا الوسطى،مع احتلال جزر البحر الأبيض المتوسط ما بين قبرص وسردينيا وصقلية ونهايةً بجزر البالتيار، فشكلوا بذلك أعظم دولة عرفها العالم القديم، خلال فترة قياسية من الزمن. وكان العامل المعنوي هو العامل الأساسي فيما تم احرازه من انتصارات رائعة. ولهذا فقد ظهر هناك شبه إتفاق بين المؤرخين والباحثين على تمييز الحروب الإسلامية بصفة "حروب الإيمان" أو "حروب جيوش المجاهدين في سبيل الله". وكانت هذه الفتوحات الإسلامية قد سارت كما يلي:
أـ لقد بدأت هذه الفتوحات عندما أطلق الخليفة "أبو بكرالصديق"رضي الله عنه أربعة جيوش لفتح الشام وخصص لكل جيش منها منطقة عملياته، فكلف "أبا عبيدة بن الجراح" رضي الله عنه بقيادة جيش وخصص له منطقة (حمص) للعمل فيها، ووجه جيشاً بقيادة "يزيد بن أبي سفيان" وخصص له العمل في منطقة (دمشق) ووجه جيشاً ثالثاً بقيادة "شرحبيل بن حسنة" وخصص له (الأردن) منطقة عمله. أما الجيش الرابع فكان بقيادة "عمرو بن العاص" وحددت له (فلسطين) لتكون مسرح عملياته. وكانت قوة كل جيش من هذه الجيوش تتراوح بين ستة آلاف، وثمانية آلاف مجاهد. كما أن الخليفة الأول قد وَجَّهَ أيضاً قوة بقيادة "خالد بن سعيد" لتكون رداء حماية لجيوش المسلمين عند انطلاقها للفتح وأمره بأن يمكث "بتيماء" وألا يبرحها.
عندما علم الروم ـ البيزنطيون ـ بتحرك قوات المسلمين إلى الشام زجوا في مواجهة كل جيش من جيوش المسلمين، جيشاً في ستين إلى تسعين ألف مقاتل. ووجد قادة الجيوش في الشام أنه من الصعب عليهم مجابهة القوى الرومانية المتفوقة فتكاتبوا وكتبوا إلى أبي بكر الصديق فأمرهم بالتجمع، وانسحب المسلمون إلى (أذرعات) ومنها إلى اليرموك.
ب ـ وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه قد بعث إلى العراق جيشين أولهما بقيادة "خالد بن الوليد" رضي الله عنه، وثانيهما بقيادة "عياض بن غنم" وكتب لهما بأن يبدأ خالد من الجنوب، وأن يبدأ عياض من الشمال وحَدَدَ لهما "الحيرة" لتكون نقطة التقاء الجيشين.
وسارت عمليات فتح العراق بنجاح مطرد، غير أن قيام الروم بحشد قوات ضخمة في مواجهة جيوش الشام حمل الخليفة أبا بكر على إعطاء الأفضلية الأولى لمسرح عمليات الشام. فأمر خالد بن الوليد باصطحاب نصف جيشه الموجود في العراق والسير به لنجدة جيوش الشام. ولكن الموقف على جبهة العراق لم يلبث أن تدهور. وجاء قائد جيش العراق "المثنى بن حارثة الشيباني" إلى المدينة يطلب دعم الخليفة، فقابل أبا بكر الصديق وهو على فراش الموت، فاستدعى عمر بن الخطاب وأمره بأن يندب الناس مع المثنى .(/1)
برزت المعالم الواضحة لفن الحرب الإسلامي في عهد الفتوحات أيام الخليفة الثاني "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه وذلك بسبب اتساع دائرة الفتوح وتطورها، فما أن وُلِّي عمر بن الخطاب، حتى أخذ في حشد القوى واستنفارها، وندب المسلمين للقتال في العراق، وفي هذه الأثناء كان المسلمون قد حققوا انتصارهم الرائع في "موقعة اليرموك" فأمرهم الخليفة أن يتابعوا فتح المدن السورية ويحرروا فلسطين والأردن من قبضة الروم. وحدد لكل جيش مهمته اللاحقة وعَيَّنَ الأمراء على الجيوش.
ثم عَيَّنَ الصحابي الجليل "سعد بن أبي وقاص"رضي الله عنه قائداً لجبهة العراق، وأمده باثني عشر مقاتل وأمره بالسير نحو "القادسية" فانتصر المسلمون في القادسية وأنهوا فتح العراق ـ كما أنهوا قبل ذلك فتح بلاد الشام.
وفي سنة 21هـ وجه الخليفة عمر بن الخطاب، قوات المسلمين بقيادة "النعمان بن المقرن" لقتال ملك الفرس فانتصر المسلمون في معركة "فتح الفتوح" وقُتِلَ ملك الفرس "يزدجرد" وانضمت بلاد فارس إلى الدولة الإسلامية.
جـ ـ استمرت أعمال فتح المسلمين للأندلس أربعة أعوام، ولكن الصراع المسلح كان محدوداً، فباستثناء معركة وادي "لكة" سنة 92هـ ، ومعركة وادي السواقي 94هـ ،وباستثناء بعض المقاومات في المدن والانتفاض أو الارتداد، فإن أعمال الفتح كانت أشبه بالمسيرة، ولو أنها مسيرة شاقة ومضنية، بسبب صعوبة الإقليم الجغرافية، علاوةً على صعوبة "تغير المناخ".
ثم تعاقب على حكم الأندلس بعد الفتح عدد من الأمراء إلى أن جاء "عبدالرحمن الداخل" فأقام الحكم الأموي في الأندلس سنة 138هـ(755م).وقد سبق ذلك متابعة الفتح داخل بلاد الفرنج (فرنسا) فكانت معركة يوم "التروية" عام 102هـ ثم معركة "بواتيه" بلاط الشهداء سنة 112هـ . وبقي المسلمون في الأندلس حتى القرن الخامس عشر الميلادي.
د ـ وثمة عدد من المؤرخين من يضيف قتال الأتراك (السلاجقة) بقيادة (ألب أرسلان) للروم المتفوقين الذين كانوا بقيادة الأمبراطور البيزنطي "رومان الرابع ديوجين" في موقعة (ملاذكرد) وانتصار المسلمين على الروم وأسر الامبراطور البيزنطي من الفتوحات الإسلامية المظفرة، وكذلك يضيفون أيضاً عملية "فتح القسطنطينية على يد السلطان "محمد الفاتح" وما سبقها من أعمال متتالية ضد البيزنطيين من الفتوحات الإسلامية أيضاً، فقد كان هدف الأتراك العثمانيين متابعة دور المسلمين في رفع راية الإسلام، وتعريف الناس به، والدفاع عنه ، وأدت الفتوحات العثمانية في أوربا والقفقاس إلى انتشار الإسلام على نطاق واسع في تلك الأصقاع الشمالية ودخل الناس في الدين الله أفواجاً.
تميزت الفتوحات الإسلامية التي استعرضنا بعض وقائعها الأساسية بصفات عسكرية بارزة تميزها ـ كما أسلفنا ـ عن غيرها من الحروب التي عاصرتها أو رافقتها من أبرزها:
1ـ عدالة حروب الفتوحات الإسلامية ونبل مقصدها:
لاتوجد في القرآن الكريم آية واحدة تدل أو تشير إلى أن القتال في الإسلام شرع لحمل الناس على اعتناقه، وإنما تدل آيات القتال، على أن القتال شرع للأغراض الآتية: رد العدوان، والدفاع عن الدعوة الإسلامية وحرية التدين. وقتال من يقف في وجه الدعوة ليمنعها من الوصول إلى الناس والإسلام حينما شرع القتال نأى به عن الطمع والاستئثار وإذلال الضعفاء، وابتغاء طريق "السلام" والاطمئنان وتركنو الحياة على موازين العدل والمساواة. لقد كان للإسلام السبق في إيجاد نظام شامل للحرب يتسم بالرحمة والعدل وحسن المعاملة. وهذا ثابت فيما تضمنه القرآن الكريم والسنة النبوية القولية والعملية وأعمال الخلفاء من بعد في تقنين شامل للحرب. وضبط أحكامها وقواعدها.
إن تعريف الحروب العادلة، كما تنص عليه مصادر القانون الدولي العام بالنسبة لكافة الحروب قديماً وحديثاً ـ بالرغم من أنه حبر على ورق ـ يبقى قاصراً عن الوفاء بحق تعريف القتال في الإسلام.
وإن أصح تعبير يمكن إطلاقه على الحروب الإسلامية بأنها "حروب مثالية" وهي مثالية لأن أهدافها التمكين لدين الله والدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه، ولأنها تصون أرواح وأموال الأبرياء والضعفاء، وتعطف على الأسرى والرهائن، وتواسي المرضى والجرحى، ولاتمثل بالقتلى الأعداء بل تدفنهم كقتلاها ولاتثيرها الأغراض الشخصية ولا العصبية ولا المنافع المادية ولا الاستغلال والاستعمار، فإذا لم تكن هذه الحرب مثالية، فأي حرب في التأريخ كله يمكن أن يطلق عليها هذا التعبير؟..
فلا عجب إذن إذا استطاعت الحرب الإسلامية أن تسيطر على العقول بالمثل العليا قبل أن تسيطر على الحصون والقلاع بالرجال والسلاح.
إن هذه الحرب المثالية جعلت جراح المغلوبين تلتئم بسرعة فينضمون طائعين إلى الغالبية ليكونوا جميعاً تحت راية واحدة، هي راية الإسلام، ولو كانت حرباً ظالمة لما دَاََمَ الظلم، لأن الظلم لايدوم وإن دام دَمَّرَ الغالب والمغلوب، ولكنها كانت حرباً عادلة إلى حدود المثالية.(/2)
فاستجاب المسلمون لأهدافها العالية، ثم حملوا تلك الأهداف إلى العالم، واستجاب لها الفرس والروم وكثير من الأمم والقوميات الأخرى، ثم حملوا بدورهم مشعل هدايتها شرقاً وغرباً، فاستنار الشرق بنور الإسلام، في حين كان الغرب يتخبط في دياجير الجهل والظلام.
ذكر الفيلدمارشال "مونتغمري" البريطاني في كتابه (الحرب عبر التاريخ) عن انسانية حروب الإسلام قوله: "...كانوا يُستقبلون في كل مكان يصلون إليه كمحررين للشعوب من العبودية وذلك لما اتسموا به من تسامح وانسانية وحضارة، فزاد إيمان الشعوب بهم، علاوة على تميزهم في نفس الوقت بالصلابة والشجاعة في القتال. وقد أدى كل هذا إلى اعتناق معظم الشعوب التي انتصر عليها العرب الدين الإسلامي...".
ولاشك أن ذلك ينطق به الواقع التأريخي ويدل عليه بقاء الإسلام عند هذه الشعوب. ذلك لأن جوهر العسكرية الإسلامية "عقيدة الجهاد" مادة وروح، فيه الدعوة إلى السلام والخير، وإلى الحق والعدل، وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه البعد عن الاستغلال والاستعباد، والجور والغدر، وكلمة (سبيل الله) توحي بكل هذه القيم والمقاصد السامية النبيلة، ويدخل في مفهومها كل ماشرعه الله وارتضاه.
2ـ الإلتزام الدائم والدقيق بمباديء الحرب والعمل على تطوير هذه المبا ديء:
إن الميزة الثانية في فن الحرب ـ الإسلامي، هو التزام قادة المسلمين بمباديء الحرب، والعمل على تطوير هذه المباديء من خلال التجارب الذاتية، ومن خلال الصراع المسلح مع الآخرين كالفرس والروم خاصة، وكذلك مع الفرنجة فيما بعد، ومباديء الحرب التي نقصدها هي: الاستخدام الكثيف للقوى ووسائط الصراع المسلح في اللحظة الحاسمة وعلى الاتجاه الحاسم، التخطيط الدقيق والبساطة في الفكرة الحربية وتحديد الهدف في الأعمال القتالية، الطابع الهجومي للأعمال القتالية، المفاجأة، الاقتصاد في استخدام القوى والوسائط القتالية، القيام بالمناورة، وحدة القيادة، والتأمين القتالي والإداري للقوات.
يذكر الجنرال "زارين" الروسي في مؤلفه "تاريخ فن الحرب" الصادر في موسكو عام 1955م عن خصائص فن الحرب لدى القوات العربية خلال الفتوحات الإسلامية. قوله: "...وقد حددت الحروب التي خاضها العرب طابع استراتيجيتهم التي اتصفت بالمناورات السريعة والحاسمة والتي أمكن تحقيقها نتيجة الحركية العالية للقوات العربية، كما أتقنوا في المجال التكتيكي الأعمال الدفاعية الهادفة إلى اضعاف العدو واعتمدوا لتدميره على الهجمات المعاكسة الحاسمة، وعلى المطاردة يساعدهم في ذلك الانضباط الجيد والترتيب القتالي المجزأ مما سهل لهم السيطرة على القوات المعادية في المعارك وكانت المشاة تدعم الخيالة، وتعتبر عماد الترتيب القتالي، وكان التعاون الوثيق بين الخيالة والمشاة أساس النجاح في المعركة حتى إن القرآن ألح على ذلك بقوله: >> إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص << (الصف-4).
يقول المارشال "مونتغمري" البريطاني عن هذه الناحية ".. ومن العوامل التي جعلت العرب قوماً لايقهرون شجاعتهم وإقدامهم وحشدهم لقواتهم". وقد وصفهم القائد البيزنطي "نقفور فوقاس" فقال: ".. عندما يتوقعون النصر فهم قوم غاية في الجسارة، يصمدون بثبات في صفوفهم، ويقاتلون باصرار في وجه أعنف الهجمات، وعندما يلاحظون أن وحشية (مقاومة) عدوهم بدأت تتراخى يحشدون قواتهم ويهاجمون باستماتة". وتحت عنوان الإسلام محرر الشعوب من العبودية يقول مونتغمري أيضاً: "...إن أهم مميزات الجيوش الإسلامية لم تكن في المعدات أو التسليح أو التنظيم،بل كانت الروح المعنوية العالية النابعة من قوة إيمانهم بالدعوة الإسلامية، وفي خفة الحركة التي ترجع إلى مهارتهم في سرعة التحرك بالجمال والخيل، وأيضاً في قوة احتمالهم وجلدهم نتيجة لحياتهم الصعبة في الصحراء التي تعودوا عليها".
3ـ وحدة القيادة وظهور عدة أجيال من القادة الميدانيين الأكفاء:
يقرر العلم العسكري أن الهدف الأسمى للقيادة العسكرية هو "الحصول على النصر في الحرب بدون أو بأقل خسائر ممكنة في الأرواح والمعدات وفي أقل وقت ممكن" ومن ذلك يتضح أن القيادة العسكرية تسعى بكل ما لديها من فكر ووسائل إلى تحقيق النصر بلا خسائر على الاطلاق وتلك أعلى مرتبة من مراتب تحقيق الأهداف، فإذا لم يتسير لها ذلك فليكن النصر بأقل قدر ممكن من التكاليف، أو الخسائر في الأرواح والمعدات وفي أقل وقت ممكن.(/3)
وتدل خبرة الحروب الإسلامية أن إدارة الحرب في مفهوم الخليفة أبي بكر الصديق ـ مثلاً ـ قد حددت بتوجيه القوات إلى مسارح العمليات وتأمين متطلباتها من الدعم وتنسيق التعاون فيما بينها، وإعطاء الأفضلية لمسارح العمليات وتحقيق التوازن الاستراتيجي فيما بينها، مع ترك حرية العمل المطلقة لقادة مسارح العمليات في تنفيذ الأهداف المحددة لهم، كما تميزت إدارة الحرب في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كمثل آخر ـ بالمركزية القوية في القيادة بحيث كان عمر يقوم بتعيين قادة العمليات، وفي تحديد المهمات والواجبات. غير أنه كان يترك لقادته حرية العمل في إطار الواجب المحدد لاختيار أساليب العمليات والأساليب التعبوية التكتيكية . وتميزت أيضاً بتحقيق التوازن على مسارح العمليات بفضل الاحتياطات الاستراتيجية (قوات التدخل السريع من الفرسان) وبتنسيق التعاون بين الجبهات والقوات على الجبهة الواحدة.
وقد ظهر جيل أو أجيال من القادة المسلمين على درجة عالية من الكفاءة والقيادة سواء على مستوى إدارة الحرب والسياسة الاستراتيجية والذي تمثل بدور الخلفاء الراشدين والأمويين، أو على مستوى قيادة مسارح العمليات بداية من أبي عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، وسعد بين أبي وقاص، والمثنى بن حارثة الشيباني، وعمرو بن العاص، والنعمان بن المقرن }، ونهاية بعقبة بن نافع، وموسى بن نصير، وطارق بن زياد، ومحمد بن القاسم الثقفي، وقتيبة بن مسلم الباهلي، وسواهم كثير بحيث يصعب أن يتوافر لأمة من الأمم أجيال من القادة الأكفاء ما توافر لأجيال قادة الفتح.
4ـ المعنويات العالية لأفراد جيوش الإسلام:
تعتبر الروح المعنوية العالية من أهم عوامل النصر في الحرب إذ هي الباعث الأساسي لإرادة القتال، وهي مستودع القوة والقدرة على مواجهة مشاق المعركة وأهوالها والتغلب عليها والتصميم على إحراز النصر على العدو مهما كانت التضحيات. كذلك تعتبر الروح المعنوية العالية في وقت السلم من أهم الدوافع إلى الإخلاص والايجابية والحماسة في العمل في مجالات الاستعداد والتدريب القتالي والحراسة والمرابطة وغيرها من أسباب إعداد القوة وهي ـ بلا شك ـ مطلب حيوي للنصر في الحرب.
كان المقاتل المسلم خلال حقبة الفتوحات الإسلامية يقاتل كمجاهد في سبيل الله، وهو يدرك تمام الإدراك أنه يخوض حرباً عادلة شريفة المقاصد والوسائل، وأن الله تعالى شَرَّفَهُ باختياره للجهاد في سبيله، ويدرك مغزى الاختيار وما ينطوي عليه من التزام بأن يكون عند حسن ظن ربه به، كما أن إحساسه بأنه جندي من جند الله وثقته في معيّة الله له بالتأييد والنصر، كل ذلك من أعظم الحوافز المعنوية التي تجلت خلال مجرى الفتوحات الإسلامية.
5ـ انسانية الحرب، في الفتوحات الإسلامية:
روي عن رسول الله { قوله لجيشه: "انطلقوا باسم الله ـ تعالى ـ ولله وعلى بركة الله، ... لاتقتلوا شيخاً فانياً ولاطفلاً ولا امرأةً، ولاتفلوا وضموا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنيين" وقوله عليه السلام أيضاً "سيروا باسم الله، في سبيل الله، وقاتلوا أعداء الله ولاتغلوا (أي لاتخونوا) ولاتغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا الذرية" وعن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله { إذا أمَّر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً ثم قال: "اغزوا في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولاتغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع" رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوصي جيشه عندما يطلقه بقوله: "... لاتعصوا ولا تغلوا ولا تجبنوا، ولا تهدموا بيعة ولا تفرقوا نخلاً ولا تحرقوا زرعاً ولابهيمة ولا تقطفوا شجرة مثمرة، ولا تقتلوا شيخاً كبيراً، ولا صبياً صغيراً، وستجدون أقواماً قد حبسوا أنفسهم للذي حبسوها فذروهم وما حبسوا أنفسهم له" ومن جملة وصيته رضي الله عنه ليزيد بن سفيان قوله: ".. وإذا قدم عليك رُسل عدوك فأكرمهم، وأقلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك، وامنع من قبلك من محادثتهم، وكن أنت المتولى لكلامهم ولاتجعل سرك لعلانيتك فيختلط أمرك".
وعلى هذا فقد منع الإسلام أتباعه ـ خلال الحروب ـ من قتل الضعفاء وغير المقاتلين ومنع التخريب، ومنع التمثيل بجثت القتلى أو تعذيب الجرحى والأسرى، وأمر بإكرام الأسرى وحسن معاملتهم، وأمر بمجاملة رسل العدو "ممثلي العدو" وعدم التعرض لهم بأذى، كما أسقط الإسلام الجزية عن الفقير والصبي والمرأة والراهب المنقطع إلى العبادة والأعمى والمقعد وذوي العاهات،من أجل ذلك فلا غرابة في أن تكون حروب الإسلام حروباً فاضلة، فهى حروب مقيدة بشرع الله السماوي، ولا يمكن أن يبيح الشرع انتهاك الحرمات وإهدار الكرامة الإنسانية. وثمة شهادات عديدة من مفكرين أجانب حول سماحة الإسلام، وأبرزها قول "جوستاف لوبون" : "...والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب".(/4)
الخاتمة:
إن الحروب الإجماعية أو الحروب الاعتصابية، أو الحرب الشاملة، مصطلحات عسكرية معروفة تدل على معنى عسكري واحد. ومعناها: هو حشد الطاقات المادية والمعنوية كافة للأمة، لا للجيش النظامي وحده، أو للقوات العسكرية النظامية وحدها، من أجل المجهود الحربي. ونحن المسلمين نعتقد أن الإسلام هو الذي وضع أسس الحرب الإجماعية بنص القرآن الكريم والحديث الشريف، والمسلمون هم الذين طبقوا هذه الحرب عملياً في عهد الرسول {، وفي أيام الفتح الإسلامي العظيم في القرن الأول الهجري الذي كان خير القرون، ولئن كانت الحرب الإجماعية في الدول الحديثة حرباً عدوانية هدفها استعباد الشعوب، واستغلال الطاقات، والسيطرة على الموارد الاقتصادية والخامات، فإن الحرب الإجماعية في الإسلام حرب عادلة، هدفها هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور وصدق الله العظيم: >> ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز << (الحج-40).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
@ مراجع ومصادر البحث:
1ـ كتاب (الاستراتيجية السياسية العسكرية. العماد الدكتور مصطفى طلاس ـ دار طلاس دمشق، سوريا 1991م.
2ـ كتاب (جيش الرسول {) اللواء الركن محمود شيت خطاب ـ دار قتيبة دمشق، سوريا 1403هـ .
3ـ كتاب (المدخل إلى العقيدة الاستراتيجية العسكرية الإسلامية). اللواء الركن محمد جمال الدين محفوظ دار الاعتصام القاهرة، 1977م.
4ـ كتاب (تاريخ فن الحرب) الجنرال آ. آ. ستروكوف ترجمة وتوزيع وزارة الدفاع السورية دمشق 1968مـ.
5ـ كتيب (رسالة في فن الحرب عند العرب) اللورد مونستر توزيع وطباعة إدارة الشئون العامة للجيش السوري دمشق 1964م.
6ـ كتاب (الغزوات النبوية من وجهة نظر فن الحرب) العميد الركن إبراهيم كاخيا، دار حسان دمشق 1413 هـ ـ 1993م(/5)
المُفَصَّل
في أحكام العقيقة
تأليف
الدكتور حسام الدين بن موسى عفانه
الأستاذ المشارك في الفقه والأصول
كلية الدعوة وأصول الدين
جامعة القدس
الطبعة الأولى
القدس / فلسطين
1424 هـ
2003 م
طبع هذا الكتاب على نفقة فاعل خير جزاه الله أفضل الجزاء
طباعة وتنسيق : شفاء بنت حسام الدين عفانه
C
قالوا في العقيقة
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى )
قال الإمام مالك بن أنس : وليست العقيقة بواجبة ولكنها يستحب العمل بها وهي من الأمر الذي لم يزل عليه الناس عندنا .
وقال أبو الزناد من فقهاء التابعين : العقيقة من أمر المسلمين الذي كانوا يكرهون تركه .
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري شيخ الإمام مالك : أدركت الناس لا يدعون العقيقة عن الغلام وعن الجارية .
وقال سفيان الثوري : ليست العقيقة بواجبة وإن صنعت فحسن .
وقال ابن الحاج المالكي : وفي فعل العقيقة من الفوائد أشياء كثيرة منها : امتثال السنة وإخماد البدعة ولو لم يكن فيها من البركة إلا أنها حرز للمولود من العاهات والآفات كما ورد فالسنة مهما فعلت كانت سبباً لكل خير وبركة والبدعة بضد ذلك .
مقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } آل عمران الآية 102 .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } النساء الآية 1 .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } الأحزاب الآيتان 70-71 .
وبعد …
فقد كنت قبل حوالي عشر سنوات ، قد ألَّفتُ كتاباً بعنوان أحكام العقيقة في الشريعة الإسلامية ، جمعت فيه أهم أحكام العقيقة باختصار ( 70 صفحة ) ، وبعد إعادة النظر فيه ، رأيت أن مسائل العقيقة تحتاج إلى بحث أوسع ، ودراسة أكثر تفصيلاً ، فعزمت على تأليف هذا الكتاب المفصل في أحكام العقيقة ، وقد جاء بحمد الله ،اسمه مطابقاً لمسماه ،حيث إنني جمعت فيه كل مسائل العقيقة ، التي تكلم عليها العلماء ، مما وقفت عليه ، وجمعت فيه كل ما وقفت عليه من الأحاديث النبوية الواردة في العقيقة ، فبلغت ثلاثين حديثاً ، وذكرت اثنين وعشرين أثراً ، من الآثار عن الصحابة والتابعين ، وفصلت المسائل الفقهية ، بذكر أقوال أهل العلم وأدلتهم ، ورجحت ما وسعني الترجيح ، ثم جعلت ملحقاً للكتاب ، ذكرت فيه السنن المتعلقة بالمولود ، كالتحنيك ، والأذان في أذن المولود ، وحلق رأسه ، وختانه وتسميته ، والتهنئة بقدومه . وبعد هذا كله أرجو أن يكون هذا الكتاب مفيداً لقارئه، ونافعاً بمضمونه كل من وهب له شيء من الأولاد ، وإحياءً لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حيث إننا نعيش في زمان ابتعد فيه الناس عن السنن النبوية ، واستبدلوها بالعادات والتقاليد الغربية ، فيحتفلون بأعياد ميلاد أولادهم في كل عام ، ويصنعون الحفلات وينشدون النشيد المعروف بهذه المناسبة ، ويصنعون كعكة خاصة لهذه المناسبة ويضعون حولها الشموع ، وتكون بعدد سنوات عمر الولد المحتفل به … إلخ هذه التقاليد المستوردة ، والمخالفة لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد ثبت في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) رواه مسلم . لهذا كله أحببت أن أجمع هذا الكتاب ، لأقدم للناس البديل الشرعي لتلكم التقاليد الغربية الوافدة ، وإحياءً لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد ورد في الحديث عن بلال بن الحارث - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :( من أحيا سنة قد أُميتت بعدي ، فإن له من الأجر مثل من عمل بها من الناس ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، ومن ابتدع بدعة لا ترضي الله ورسوله ، فإن له مثل إثم من عمل بها من الناس ، لا ينقص ذلك من آثام الناس شيئاً ) رواه الترمذي وقال:هذا حديث حسن، ورواه ابن ماجة أيضاً ، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 1/41-42(/1)
وختاماً أقول ما قاله العلامة ابن منظور صاحب لسان العرب :[ وليس لي في هذا الكتاب فضيلة أّمتُّ بها ولا وسيلة أتمسك بها سوى أني جمعت فيه ما تفرق في كتب السابقين ] . وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
29 جمادى الأولى 1422هـ
وفق 28/7/ 2003 م كتبه د. حسام الدين بن موسى عفانه
الأستاذ المشارك في الفقه والأصول / كلية الدعوة وأصول الدين
منسق برنامج ماجستير دراسات إسلامية معاصرة / جامعة القدس
الفصل الأول
ما يتعلق بالعقيقة وفيه المباحث التالية :
المبحث الأول : تعريف العقيقة .
المبحث الثاني : مشروعية العقيقة .
المبحث الثالث : معنى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل غلام مرتهن بعقيقته .
المبحث الرابع : الحكمة من مشروعية العقيقة .
المبحث الخامس : هل يكره تسمية العقيقة بهذا الاسم ؟
المبحث السادس : حكم العقيقة واختلاف الفقهاء فيها وبيان الراجح
المبحث السابع : شروط العقيقة .
المبحث الثامن : ما هو الأفضل في العقيقة ؟
المبحث التاسع : في حق من تشرع العقيقة .
المبحث العاشر : الاشتراك في العقيقة .
المبحث الحادي عشر : تفاضل الذكر والأنثى في العقيقة .
المبحث الثاني عشر : التصرف في العقيقة ( الانتفاع بها ) .
المبحث الثالث عشر : حكم تلطيخ رأس المولود بدمها .
المبحث الرابع عشر : اجتماع الأضحية والعقيقة .
المبحث الأول
تعريف العقيقة لغةً واصطلاحاً
أولاً : تعريف العقيقة لغةً :
العقيقة : هي الشَّعر الذي يولد به الطفل لأنه يشق الجلد ، قال امرؤ القيس :
أيا هند لا تنكحي بُوهةً ... عليه عقيقته أحسَبَا (1)
وهي مأخوذة من عَقَّ ، يَعِقُّ ويعَقُّ ، فنقول عق عن ابنه بمعنى حلق عقيقته أي حلق شعر رأسه أو ذبح الشاة المسماة عقيقة ، قال ابن منظور :[ وقيل للذبيحة عقيقة لأنها تذبح فيشق حلقومها ومريئها وودجاها قطعاً كما سميت ذبيحة بالذبح وهو الشق ] (2) .
وقال الجوهري :[ وشعر كل مولود من الناس والبهائم الذي يولد عليه عقيقة ... ومنه سميت الشاة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه عقيقة ] (3) .
وقال الإمام النووي :[ ( عقق ) قال الإمام أبو منصور الأزهري قال أبو عبيد قال الأصمعي وغيره العقيقة أصلها الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد وإنما سميت الشاة التي تذبح عنه في تلك الحال عقيقة لأنه يحلق عنه ذلك الشعر عند الذبح ولهذا قال في الحديث :( أميطوا عنه الأذى ) يعني بالأذى ذلك الشعر الذي يحلق عنه . قال : وهذا مما قلت لك أنهم ربما سموا الشيء باسم غيره إذا كان معه أو من شبهه فسميت الشاة عقيقة لعقيقة الشعر . قال أبوعبيد : وكذلك كل مولود من البهائم فإن الشعر الذي يكون عليه حين يولد عقيقة وعقة . وقال الأزهري : ويقال لذلك الشعر عقيق بغير هاء . قال الأزهري : العق في الأصل الشق والقطع وسميت الشعرة الذي يخرج الولد من بطن أمه وهي عليه عقيقة لأنها إذا كانت على رأس الإنسي حلقت فقطعت وإن كانت على البهيمة فإنها تتنسل ، وقيل للذبيحة عقيقة لأنها تذبح أي تشق حلقومها ومريئها وودجاها قطعاً كما سميت ذبيحة بالذبح وهو الشق . قال ابن السكيت : عق فلان عن ولده إذا ذبح عنه يوم أسبوعه ، قال : وعق فلان أباه يعقه عقاً . وقال غيره : عق فلان والديه يعقهما عقوقاً إذا قطعهما ولم يصل رحمه منهما وجمع العاق القاطع لرحمه عققة ، ويقال أيضاً : رجل عق ، قال ابن الأعرابي : العقق قاطع الأرحام ] (4) .
ثانياً : تعريف العقيقة اصطلاحاً :
عرف الفقهاء العقيقة بعدة تعريفات منها :
قال الإمام البغوي :[ اسم لما يذبح عن المولود ] (5) .
وقال الحافظ العراقي :[ العقيقة : الذبيحة التي تذبح عن المولود ] (6) .
وقال ابن عرفة المالكي :[ العقيقة ما تقرب بذكاته من جذع ضأن أو ثني سائر الأنعام سليماً من عيب مشروطاً بكونه في نهار سابع ولادة آدمي حي ] (7) . وتعريف ابن عرفة هذا فيه شروط غير مسلمة عند جماعة من الفقهاء كما سيأتي بيانه .
__________
(1) البوهة : الرجل الضعيف الطائش ، وقيل أراد بالبوهة الأحمق ، وعقيقته شعره الذي ولد به ، يريد أنه لا يتهيأ ولا يتنظف ، والأحسب : الذي ابيضت جلدته من داء ففسد شعره ، ومعنى البيت أن الشاعر يطلب من أخته أن لا تتزوج رجلاً ضعيفاً أحمقاً لم تحلق عقيقته حتى شاخ واختلف لون شعره ، لسان العرب 1/544 ، 3/265-266 ، 9/323-324.
(2) لسان العرب 9/325 .
(3) الصحاح 4/1527 ، وانظر النهاية في غريب الحديث 3/276 .
(4) تهذيب الأسماء واللغات 2/2/31-32 .
(5) التهذيب 8/47 وانظر فتح الباري 12/3 ، المهذب مع المجموع 8/426 ، طرح التثريب 5/205.
(6) طرح التثريب 5/205 .
(7) التاج والإكليل 4/389 .(/2)
ويمكنني القول بأن العقيقة هي : الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم سابعه شكراً لله سبحانه وتعالى على نعمة الولد ذكراً كان أو أنثى (1) .
وقد عرفها د.محمد أبو فارس بقوله :[ هي الشاة التي تذبح عن المولود …](2).
وهذا التعريف غير جامع لأن فيه قصراً للعقيقة على الشياه فقط وهذا على قول بعض الفقهاء الذين لا يجيزون العقيقة من الإبل والبقر وهو قول مرجوح كما سيأتي بيانه .
فالأولى أن نعبر بقولنا هي الذبيحة فإن ذلك يعم الغنم والبقر والإبل حيث تصح العقيقة من هذه الأنواع كما سيأتي .
وكلمة الذبيحة تقال في الشياه والبقر والإبل قال ابن منظور :[ الذبيحة الشاة المذبوحة وشاة ذبيحة … وكذلك الناقة … قال الأزهري : الذبيحة اسم لما يذبح من الحيوان ] (3) .
المبحث الثاني
مشروعية العقيقة
وفيه مطالب :
المطلب الأول : العقيقة قبل الإسلام :
كانت العقيقة معروفة عند العرب في الجاهلية ، قال الماوردي :[ فأما العقيقة فهي شاة تذبح عند الولادة كانت العرب عليها قبل الإسلام ] (4).
وقال ولي الله الدهلوي :[ واعلم أن العرب كانوا يعقون عن أولادهم وكانت العقيقة أمراً لازماً وسنةً مؤكدةً ، وكان فيها مصالح كثيرة راجعة إلى المصلحة الملية والمدنية والنفسانية ، فأبقاها النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمل بها ورغب الناس فيها ] (5).
ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : سمعت أبي - بريدة - رضي الله عنه - - يقول : كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران ]. رواه أبو داود والنسائي وأحمد والبيهقي وقال الحافظ في التلخيص : وسنده صحيح . وقال الشيخ الألباني : حسن صحيح . وصححه الحاكم وقال : على شرط الشيخين . ووافقه الذهبي . وقال الشيخ الألباني : إنما هو على شرط مسلم (6) .
ويدل على ذلك أيضاً ما ورد عن عائشة رضي الله عنها في حديث العقيقة قالت :( وكان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة ويجعلونه على رأس الصبي فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل مكان الدم خلوفاً ) رواه البيهقي ، وقال النووي إسناده صحيح (7).
وذكر السيوطي أن عبد المطلب جد النبي- صلى الله عليه وسلم - قد عق عنه في سابع ولادته (8) .
وقال السيوطي :[ وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما ولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عنه عبد المطلب بكبش وسماه محمداً فقيل له يا أبا الحارث : ما حملك على أن سمّيته محمداً ولم تسمه باسم آبائه ؟ قال : أردت أن يحمده الله في السماء ويحمده الناس في الأرض ] (9) كما أن العقيقة كانت معروفة في شريعة موسى عليه السلام فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( إن اليهود تعق عن الغلام ولا تعق عن الجارية فعقوا عن الغلام شاتين وعن الجارية شاه ) رواه البيهقي ، ورواه ابن أبي الدنيا ، وقال محققه : وفي إسناده أبي حفص الشاعر وأبوه وهما مجهولان ، ورواه البزار ، وذكره الحافظ بن حجر ولم يتكلم عليه بشيء (10) .
وقال الألباني :[ بإسناد رجاله ثقات لكن فيه عنعنة ابن جريج لكن قد صرح بالتحديث عند ابن حبان فصح الحديث والحمد لله ] (11) ، ورواه ابن حبان وقال شعيب الأرناؤوط : إسناده صحيح (12) .
المطلب الثاني : العقيقة في الإسلام :
ثبتت مشروعية العقيقة بالسنة النبوية من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن فعله ، ووردت فيها آثار كثيرة عن السلف وإليك بيان ذلك :
أولاً : السنة القولية فقد وردت فيها أحاديث كثيرة منها :
__________
(1) انظر المغني 9/458 ، المهذب مع المجموع 8/426 ، نيل الأوطار 5/149 ، شرح الخرشي 3/46 ، سبل السلام 4/179 ، الشرح الممتع 7/536 .
(2) أحكام الذبائح ص 168 .
(3) لسان العرب 5/22 .
(4) الحاوي الكبير 15/126
(5) حجة الله البالغة 2/260-261
(6) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 8/33 ، صحيح سنن أبي داود 2/548 ، التلخيص الحبير 4/147 ، سنن البيهقي 6/101 ، المستدرك 4/238 ، إرواء الغليل 4/389 .
(7) سنن البيهقي 9/303 ، المجموع 8/428 ، إرواء الغليل 4/389 ، الإحسان 12/124 .
(8) الحاوي للفتاوي 1/196 .
(9) الخصائص الكبرى 1/134 ، وانظر السيرة الحلبية 1/128 .
(10) شعب الإيمان 6/391 ، السنن الكبرى 9/302 ، كتاب العيال 1/212 ، انظر مجمع الزوائد 4/58 ، فتح الباري 12/9 .
(11) إرواء الغليل 4/389 .
(12) الإحسان 12/124 .(/3)
1. روى الإمام البخاري بسنده عن سلمان بن عامر الضبي - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :( مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى ) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد والدارمي والبيهقي (1) .
وقوله :( فأهريقوا ) مأخوذ من هرق بمعنى : أراق ، تقول العرب : أراق الماء يريقه وهراقه يهريقه بفتح الهاء هراقة ، ويقال فيه : أهرقت الماء أهرقه إهراقاً ، وهذا فيه إبدال للهمزة بالهاء وقد يجمع بين البدل والمبدل منه كما في (أهريقوا ) (2) .
2. عن سَمُرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمَّى ) رواه أبو داود واللفظ له ، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وأحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وقال الترمذي : حسن صحيح . وقال الشيخ ناصر الدين الألباني : صحيح (3) .
3. عن أم كُرْز الكعبية رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول :( عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ) رواه أبو داود واللفظ له وأحمد والبيهقي (4).
قال الإمام النووي :[ قوله - صلى الله عليه وسلم - :( شاتان مكافئتان ) أي متساويتان وهو بكسر الفاء وبهمزة بعدها هكذا صوابه عن أهل اللغة وممن صرح به الجوهري في صحاحه قال : ويقوله المحدثون مكافَئتان يعني بفتح الفاء والصحيح كسرها ] (5) .
4. وفي رواية أخرى لحديث أم كرز أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة فقال :( نعم عن الغلام شاتان وعن الأنثى واحدة ، لا يضركم ذكراناً أم إناثاً ) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وأحمد ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، وصححه النووي . وقال الألباني : صحيح . وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط : حديث صحيح (6) .
5. عن يوسف بن ماهك قال : دخلنا على حفصة بنت عبد الرحمن فسألناها عن العقيقة فأخبرتنا أن عائشة أخبرتها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :( عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة ) رواه ابن حبان واللفظ له ورواه أحمد والترمذي وابن ماجة وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط : إسناده صحيح (7) .
6. وفي رواية أخرى للحديث السابق :( أن عائشة أخبرتهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرهم عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ) رواه الترمذي ، وقال : حسن صحيح . ورواه أيضاً البيهقي وقال الألباني : صحيح (8) .
7. عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( العقيقة حق عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ) رواه أحمد والطبراني وقال الهيثمي رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله محتج بهم (9).
8. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال :( مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى ) قال الهيثمي رواه البزار ورجاله رجال الصحيح (10).
9. عن يزيد بن عبدٍ المزني عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :( يُعق عن الغلام ولا يُمس رأسه بدم ) رواه ابن ماجة والطحاوي والطبراني في الأوسط وفي الكبير
وقال الهيثمي : ورجاله ثقات ، وقال البوصيري في الزوائد : إسناده حسن وصححه الألباني (11) .
__________
(1) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 12/9 ، سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 8/30 ، سنن الترمذي 4/82 ، سنن النسائي 7/166 ، سنن البيهقي 9/299 ، مسند أحمد 7/17 ، سنن ابن ماجة 2/1056 .
(2) انظر النهاية في غريب الحديث 5/260 ، المصباح المنير ص248 .
(3) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 8/28 ، سنن الترمذي 4/82 ، سنن النسائي 7/166 ، سنن ابن ماجة 2/1057 ، المستدرك 4/237 ، سنن البيهقي 9/299 ، صحيح سنن النسائي 3/885 ، إرواء الغليل 4/385 ، مسند أحمد 5/7-8 ،12، 17 ، 18 .
(4) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 8/27 ، مسند أحمد 6/422 ، سنن البيهقي 9/301.
(5) المجموع 8/429 ، وانظر طرح التثريب 5/214 ، فتح الباري 12/9 .
(6) عون المعبود 8/26 ، سنن الترمذي 4/83 ، سنن النسائي 7/165 ، سنن ابن ماجة 2/1056 ، المجموع 8/428 ، صحيح سنن النسائي 3/885 ، الإحسان12/128 ، إرواء الغليل 4/391 ، سنن البيهقي 9/200 .
(7) الإحسان 12/126 ، سنن الترمذي 4/81-82 ، سنن ابن ماجة 3163 ، المسند 6/31 .
(8) سنن الترمذي 4/81-82، سنن البيهقي 9/301 ، صحيح سنن الترمذي 2/92 ، إرواء الغليل 4/389 .
(9) مجمع الزوائد 4/57 ، وانظر فتح الباري 12/9 ، الفتح الرباني 13/121 .
(10) مجمع الزوائد 4/58 .
(11) سنن ابن ماجة 2/1057 ، مجمع الزوائد 4/58 ، صحيح سنن ابن ماجة 2/207 ، السلسلة الصحيحة 4/652، إرواء الغليل 4/389 .(/4)
10. عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بتسمية المولود يوم سابعه ووضع الأذى عنه والعق ) رواه الترمذي وقال حسن غريب . وقال الألباني : حسن (1) .
11. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( إذا كان يوم سابعه فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى وسمُّوه ) رواه الطبراني في الأوسط والكبير ورجاله ثقات كما قال الهيثمي (2) .
12. عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( للغلام عقيقتان وللجارية عقيقة ) قال الهيثمي : رواه البزار والطبراني في الكبير وفيه عمران بن عيينة وثقه ابن معين وابن حبان وفيه ضعف (3).
وقال الشيخ الألباني : أخرجه الطحاوي بسند جيد في الشواهد وذكر أن طريق الطحاوي سالمة من الضعف (4) .
13. عن عائشة رضي الله عنها قالت في حديث العقيقة :( وكان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة ويجعلونه على رأس الصبي فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل مكان الدم خلوفاً ) (5) .
14. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( إن اليهود تعق عن الغلام ولا تعق عن الجارية فعقوا عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة ) (6) .
15. عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( العقيقة تذبح لسبع أو أربع عشرة أو أحد وعشرين ) رواه الطبراني ، وقال : لم يروه عن قتادة إلا إسماعيل تفرد به الخفاف (7) .
16. عن أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في العقيقة قال :( من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فليفعل ) رواه الطبراني وقال : لم يرو هذا الحديث عن الزهري إلا إسماعيل ، وإسماعيل بن مسلم ضعيف (8) .
17. عن القاسم بن عبد الرحمن عن محمد بن علي عن أبيه قال : عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن والحسين عن كل واحد منهما بكبش ودينار ودخل رسول الله على فاطمة في عقيقة أحدهما فقال :( يا فاطمة ما فعل لحم عقيقتكم قالت : يا رسول الله أكلنا وأطعمنا وتصدقنا وقد بقي منه قالت فناولته الذراع وهو قائم فأكله بغير خبز ثم دخل في الصلاة وما مس ماءً ) رواه ابن أبي الدنيا ، وهو حديث مرسل في إسناده القاسم بن عبد الرحمن وهو ضعيف جداً (9) .
18. عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال :( سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة فقال : لا أحب العقوق ، وكأنه كره الاسم . فقالوا : يا رسول الله إنما نسألك عن أحدنا يولد له . قال : من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي .
وقال الشيخ ناصر الدين الألباني : حسن صحيح .
وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط : وهذا سند حسن .
والحديث رواه البيهقي من طريقين الأول طريق عمرو بن شعيب المذكورة أعلاه ، والثانية عن زيد بن أسلم عن رجل من بني ضمرة عن أبيه فذكره ثم قال :[ وهذا إذا انضم إلى الأول قويا ] (10) .
19. عن أبي رافع - رضي الله عنه - أن الحسن بن علي حين ولدته أمه أرادت أن تعق عنه بكبش عظيم فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لها لا تعقي عنه بشيء ولكن احلقي شعر رأسه ثم تصدقي بوزنه من الورق في سبيل الله عز وجل أو على ابن السبيل وولدت الحسين من العام المقبل فصنعت مثل ذلك ) رواه البيهقي وقال : تفرد به ابن عقيل وهو إن صح فكأنه أراد أن يتولى العقيقة عنهما بنفسه كما رويناه فأمرها بغيرها وهو التصدق بوزن شعرهما من الوَرِق (11) .
20 . عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين ( أن يبعثوا إلى القابلة منها برجل وكلوا وأطعموا ولا تكسروا منها عظماً ) رواه أبو داود في المراسيل كما ذكره البيهقي (12) .
21. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( عن الغلام عقيقتان وعن الجارية عقيقة ) رواه الطحاوي والبزار والطبراني في الكبير وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني (13) .
ثانياً : السنة الفعلية الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنها أحاديث :
__________
(1) سنن الترمذي 5/121، صحيح سنن الترمذي 2/371 ، وانظر نيل الأوطار 5/152.
(2) مجمع الزوائد 4/58 .
(3) المصدر السابق .
(4) إرواء الغليل 4/392 .
(5) سبق تخريجه .
(6) سبق تخريجه .
(7) المعجم الصغير 2/29 .
(8) المعجم الأوسط 2/173 ، وانظر الفتح الرباني 13/124 .
(9) كتاب العيال 1/185.
(10) سنن البيهقي 9/330 ، وانظر المستدرك 4/238 ، صحيح سنن النسائي 3/884 ، الإحسان 12/132 ، المجموع 8/427-428
(11) سنن البيهقي 9/304 .
(12) سنن البيهقي 9/302 .
(13) صحيح الجامع الصغير 2/755 ، إرواء الغليل 4/362.(/5)
1. عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما :( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقّ عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً ) رواه أبو داود (1). وقال النووي : رواه أبو داود بإسناد صحيح (2). وقال الألباني : وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري وقد صححه عبد الحق الإشبيلي في الأحكام الكبرى (3) . وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط : وأخرجه ابن الجارود والطبراني وإسناده صحيح (4) .
2. وفي رواية أخرى لحديث ابن عباس السابق :( أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين بكبشين كبشين ) رواه النسائي وقال الألباني : صحيح (5) .
3. عن بريدة - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - :( عق عن الحسن والحسين ) رواه أحمد والنسائي والطبراني (6) ، وقال النووي رواه النسائي بإسناد صحيح (7) .
وقال الألباني : صحيح (8) . وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط : وإسناده صحيح على شرط مسلم (9) .
4. عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال :( عقَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حسن وحسين بكبشين) رواه ابن حبان وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط : حديث صحيح (10) .
وأخرجه الطحاوي في مشكل الآثار وأبو يعلى والبزار والبيهقي ، وصححه عبدالحق في الأحكام الكبرى وقال الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح. وقال الساعاتي ورجاله ثقات (11) .
5. عن عائشة رضي الله عنها قالت :( عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حسن وحسين يوم السابع وسماهما وأمر أن يماط عن رأسهما الأذى ) رواه ابن حبان وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط : إسناده حسن . ورواه البيهقي وقال النووي : بإسناد حسن (12) ، ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي .
6. وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - :( عق عن الحسن والحسين وقال : قولوا بسم الله والله أكبر اللهم لك وإليك هذه عقيقة فلان ) رواه البيهقي بإسناد حسن كما قال النووي (13) .
7. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما :( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين عن كل واحد منهما كبشين اثنين مثلين متكافئين ) قال الشيخ الأرناؤوط : أخرجه الحاكم بسند حسن في الشواهد (14) .
8. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما :( أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين ) رواه أبو يعلى والطبراني ، قال الشيخ الألباني :[ ورجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير المغيرة بن مسلم وهو القسملي وهو ثقة لكن أبا الزبير مدلس وقد عنعنه ولولا ذلك لقلنا بصحته وقال الهيثمي : رواه أبو يعلى ورجاله ثقات ] (15) . وقال الساعاتي : رجاله ثقات (16) .
9. عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال :( عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن بشاة وقال يا فاطمة احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة قال فوزنته فكان وزنه درهماً أو بعض درهم ) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب . وحسنه الألباني (17) .
ثالثاً : هل عق النبي- صلى الله عليه وسلم - عن ولده إبراهيم ؟
وردت بعض الأحاديث التي تفيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عقَّ عن ولده إبراهيم ولكن هذه الروايات فيها نظر فمن هذه الروايات :
1. ما ذكره الزبير بن بكار الزبيري بسنده :( أن مارية القبطية وضعت إبراهيم فلما كان يوم سابعه عق عنه بكبش وحلق رأسه وتصدق بوزن شعره على المساكين وَرِقاً ) (18) .
2. وقال المحب الطبري :[ الفصل الثالث في ذكر إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر أمه وميلاده وعقيقته وما يتعلق بذلك ، أمه مارية القبطية … فلما كان يوم سابعه عق عنه بكبش وحلق رأسه … وسمَّاه يومئذ وتصدق بزنة شعره وَرِقاً على المساكين ] (19) .
__________
(1) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 8/30 .
(2) المجموع 8/428 .
(3) إرواء الغليل 4/379 .
(4) الإحسان 12/130 .
(5) صحيح سنن النسائي 3/885 ، إرواء الغليل 4/380 .
(6) المسند 5/355 ، سنن النسائي 7/166 .
(7) المجموع 8/427 .
(8) صحيح سنن النسائي 3/884 .
(9) الإحسان 12/131 .
(10) الإحسان 12/125 .
(11) سنن البيهقي 9/299 ، إرواء الغليل 4/382 ، مجمع الزوائد 4/58 ، الفتح الرباني 13/124 .
(12) الإحسان 12/127 ، المجموع 8/428 ، سنن البيهقي 9/299-300 ، المستدرك 4/237 .
(13) المجموع 8/428 .
(14) الإحسان 12/130 .
(15) إرواء الغليل 4/382-383 ، وانظر : مجمع الزوائد 4/59 .
(16) الفتح الرباني 13/124 .
(17) سنن الترمذي 4/84 ، صحيح سنن الترمذي 2/93 .
(18) المنتخب من كتاب أزواج النبي 1/58-59 .
(19) ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى 1/153 .(/6)
3. وقال القسطلاني :[ ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة وقيل ولد بالعالية ذكره الزبير بن بكار وكانت سلمى زوج أبي رافع مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قابلته فبشر أبو رافع به النبي - صلى الله عليه وسلم - فوهب له عبداً وعق عنه يوم سابعه بكبشين وحلق رأسه أبو هند وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ وتصدق بزنة شعره ورقاً على المساكين ودفنوا شعره في الأرض ] (1) .
وقال الزرقاني :[ وعق عنه – أي عن إبراهيم - يوم سابعه بكبشين وفي العيون بكبش فيحتمل أنه تعدد الذبح فأخبر من حضر التعدد به ومن لم يحضره بخلافه ] (2) .
4. وذكر ابن كثير عن الواقدي أنه لما ولدت مارية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلاماً سماه إبراهيم وعق عنه بشاة يوم سابعه وحلق رأسه وتصدق بزنة شعره فضة على المساكين وأمر بشعره فدفن في الأرض وسماه إبراهيم ] (3) .
5. وذكر الحافظ ابن عبد البر كلام الزبير بن بكار المتقدم ، ثم قال :[ والحديث المرفوع أصح من قوله وأولى إن شاء الله عز وجل حدثنا سعيد بن نصير قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا شبابة بن سوار قال حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( ولد لي الليلة غلام فسميته باسم إبراهيم ) قال الزبير ثم دفعه إلى أم سيف امرأة قين بالمدينة يقال له أبو سيف ، قال أبو عمر رحمه الله في حديث أنس تصديق ما ذكره الزبير ] (4) .
هذه هي الروايات التي وقفت عليها في عقيقة إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن هذه الروايات ليست ثابتة كما قال أهل العلم . قال العلامة ابن كثير:[ وكذا ما رواه الزبير بن بكار في كتاب النسب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عق عن ولده إبراهيم وسماه إبراهيم فإسناده لا يثبت وهو مخالف لما في الصحيح ولو صح لحمل على أنه اشتهر اسمه بذلك يومئذ والله أعلم ] (5) .
وقال الحافظ ابن حجر :[ وكذلك إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن الزبير فإنه لم ينقل أنه عق عن أحد منهم ] (6) .
وقال التهانوي :[ وأما عقيقة إبراهيم فهو قول الزبير بن بكار ولم يذكر له سنداً فكيف يجوز الاحتجاج بالقول الذي لا سند له ولو كان عقيقة إبراهيم ثابتاً لروي بالأسانيد الصحيحة كما رويت أحاديث الوليمة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدل ذلك أنه ليس بثابت وصرح الحافظ في الفتح بأنه لم ينقل أحد أنه عق عنه ، وإذا كان كذلك فهو حجة لنا لأنه لو لم ينتسخ العقيقة لكان إبراهيم أحق بالعقيقة من غيره ومما يرد قول الزبير أنه قال : سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم السابع .
وقد روى ابن عبد البر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سماه إبراهيم ليلة ولد وقال : الحديث المرفوع أولى من قول الزبير وأسنده الطحاوي في مشكله عن ثابت البناني عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( ولد لي الليلة غلام فسميته بأبي إبراهيم ) رجاله كلهم ثقات وهو متفق عليه فدل ذلك أن قول الزبير جزاف ولا يلتفت إليه ] (7) .
وخلاصة الأمر أنه لم يثبت بطريق صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن ولده إبراهيم والله أعلم .
رابعاً : الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين في العقيقة :
1. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ( أنه لم يكن يسأله أحد من ولده عقيقة إلا أعطاه إياها وكان يعق عن أولاده شاة شاة عن الذكر والأنثى ) رواه مالك والبيهقي (8) .
2. عن هشام بن عروة أن أباه عروة بن الزبير كان يعق عن بنيه الذكور والإناث شاة شاة ) رواه البيهقي (9) .
3. عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين بكبش كبش قال جابر : وفي العقيقة تقطع أعضاء وتطبخ بماء وملح ثم يبعث به إلى الجيران فيقال هذا عقيقة فلان قال أبو الزبير فقلت لجابر أيضع فيه خلاً ؟ قال : نعم هو أطيب له . رواه ابن أبي الدنيا في كتاب العيال وقال محققه حديث صحيح وأبو الزبير وإن كان مدلساً إلا أنه صرح بسماعه من جابر كما في آخر الرواية وبهذا يزول التردد الذي وقع للشيخ الألباني في تصحيح هذا الحديث لعلة التدليس هذه (10) .
4. عن عطاء قال سألت عائشة رضي الله عنها عن العقيقة قيل لها : أرأيت إن نحر إنسان جزوراً فقالت عائشة : السنة أفضل . رواه ابن أبي الدنيا (11) .
__________
(1) المواهب 2/68 .
(2) شرح المواهب 4/345 .
(3) البداية والنهاية 5/264 .
(4) الاستيعاب 1/54 .
(5) تفسير ابن كثير 1/360 .
(6) فتح الباري 12/3 .
(7) إعلاء السنن 17/120-121 .
(8) الموطأ 2/400 ، السنن الكبرى 9/302.
(9) السنن الكبرى 9/302 .
(10) كتاب العيال 1/188 .
(11) كتاب العيال 1/196 .(/7)
5. عن ابن أبي مليكة قال قيل لعائشة وولد لابن أختها غلام فقالوا عقوا عن ابن أختك جزورتين قالت : معاذ الله ولكن ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاتان مكافئتان . رواه ابن أبي الدنيا في كتاب العيال وقال محققه إسناد حسن (1) .
6. عن عطاء أنه قال في العقيقة تقطع جدولاً وتطبخ بماء وملح ولا تقدح ولا يكسر منها عظم . رواه ابن أبي الدنيا (2) .
7. عن حسين المعلم قال سألت عطاء فقال عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة تذبح يوم السابع إن تيسر وإلا فأربع عشرة وإلا فإحدى وعشرين . رواه ابن أبي الدنيا في كتاب العيال ، وقال محققه إسناد صحيح (3) .
8. عن جابر قال كان علي بن حسين يولم في الولادة . رواه ابن أبي الدنيا (4) . 9. عن عون العقيلي قال أول مولود ولد بالبصرة عبد الرحمن بن أبي بكرة فنحر أبوه أبو بكرة جزوراً ودعا الناس وأطعمهم . رواه ابن أبي الدنيا (5) .
10. قال ابن أبي الدنيا حدثني أبو بكر بن محمد قال سمعت أبا عبد الله أحمد ابن حنبل يُسأل عن العقيقة كيف يصنع بها قال : قال ابن سيرين اصنع بلحم العقيقة كيف شئت قيل كيف يأكلها كلها قال يأكل ويطعم . رواه ابن أبي الدنيا (6) .
11. عن ابن سيرين قال : اصنع بلحم العقيقة كيف شئت . رواه ابن أبي الدنيا (7) .
12. عن ابن جريج قال عطاء يبدأ بالذبح قبل الحلق ويعق عنه يوم سابعه فإن أخطأهم فالسابع الآخر وقال كل واهدِ . وقلت لعطاء ما المكافئتان قال مثلان والضأن أحب إليه من المعز ، ذكرانها أحب إليه من إناثها رأي من عطاء . رواه ابن أبي الدنيا (8).
13. وعن عطاء في لحم العقيقة تقطع أعضاءً ، قال أبو عبد الله – أحمد بن حنبل - يعني لا يكسر لها عظم قال وهذا أعجب إلي . رواه ابن أبي الدنيا (9).
14. عن الحسن أن أنس بن مالك - رضي الله عنه - كان يعق عن ولده بالجزور (10) .
15. عن سعيد قال : سئل قتادة كيف تنحر العقيقة ؟ قال : يستقبل القبلة بها ثم يضع الشفرة على حلقها ثم يقول : اللهم منك ولك عقيقة فلان باسم الله ، الله أكبر ثم يذبحها (11) .
16. وعن قتادة قال: يُسمَّى على العقيقة كما يُسمَّى على الأضحية باسم الله عقيقة فلان (12) .
17. عن محمد بن سيرين قال : لو أعلم أنه لم يعق عني لعققت عن نفسي (13) .
18. عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم قال : كان يؤمر بالعقيقة ولو بعصفور (14) .
19. عن محمد بن سيرين قال : كان لا يرى بأساً أن يعق قبل السابع أو بعده وكان يقول اجعل لحم العقيقة كيف شئت (15) .
20. وعن الحسن قال : العقيقة شاة تذبح عنه يوم سابعه ويحلق رأسه ويسمى(16) .
21. عن هشام عن الحسن وابن سيرين أنهما كانا يكرهان من العقيقة ما يكرهان من الأضحية وقال وهي عندهم بمنزلة الأضحية يأكل ويطعم (17) .
22. وأخرج ابن حزم عن بريدة الأسلمي قال : إن الناس يعرضون يوم القيامة على العقيقة كما يعرضون على الصلوات الخمس (18) .
المبحث الثالث
معنى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل غلام مرتهن بعقيقته
ورد في الحديث عن سَمُرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمَّى ويحلق رأسه ) (19) ، وفي رواية عند أحمد والنسائي :( كل غلام رهين بعقيقته ) (20) ، وفي رواية عند الترمذي وابن ماجة :( كل غلام مرتهن بعقيقته ) (21) ، وقد اختلف العلماء في تفسير ذلك :
1. قال الخطابي :[ قال أحمد : هذا في الشفاعة يريد أنه إن لم يعق عنه فمات طفلاً لم يُشفع في والديه . وقوله ( رهينة ) بإثبات الهاء ، معناه مرهون فعيل بمعنى مفعول ، والهاء تقع في هذا للمبالغة ، يقال فلان كريمة قومه أي محل العقدة الكريمة عندهم ] (22) .
وقول أحمد هذا روى البيهقي مثله عن عطاء الخراساني حيث روى بسنده عن يحيى بن حمزة قال :[ قلت لعطاء الخراساني ما مرتهن بعقيقته ؟ قال : يحرم شفاعة ولده ] (23) .
__________
(1) كتاب العيال 1/201
(2) كتاب العيال 1/203 .
(3) كتاب العيال 1/204 .
(4) كتاب العيال 1/210 .
(5) كتاب العيال1/211 .
(6) كتاب العيال 1/214.
(7) كتاب العيال 1/215 .
(8) كتاب العيال 1/222 .
(9) كتاب العيال 1/223 .
(10) المصنف لابن أبي شيبة 8/245 .
(11) المصنف لابن أبي شيبة 8/245 .
(12) المصنف لابن أبي شيبة 8/244 .
(13) المصنف لابن أبي شيبة 8/236 .
(14) المصنف لابن أبي شيبة 8/236 .
(15) المصنف لابن أبي شيبة 8/241 .
(16) المصنف لابن أبي شيبة 8/241 .
(17) المصنف لابن أبي شيبة 8/242 .
(18) المحلى 6/637 ، وانظر فتح الباري 12/12 .
(19) سبق تخريجه .
(20) الفتح الرباني 13/13 ، صحيح سنن النسائي 3/885 .
(21) صحيح سنن الترمذي 2/94 ، صحيح سنن ابن ماجة 2/206 .
(22) معالم السنن 4/264-265 ، شرح السنة 11/268 .
(23) سنن البيهقي 9/299 .(/8)
2. وقال الملا علي القاري :[ ( بعقيقته ) : يعني أنه محبوس سلامته عن الآفات بها أو إنه كالشيء المرهون لا يتم الاستمتاع به دون أن يقابل بها لأنه نعمة من الله على والديه فلا بد لهما من الشكر عليه وقيل : معناه أنه معلق شفاعته بها لا يشفع لهما إن مات طفلاً ولم يعق عنه .
قال التوربشتي في قوله : ( مرتهن ) نظر لأن المرتهن هو الذي يأخذ الرهن والشيء مرهون ورهين ولم نجد فيما يعتمد من كلامهم بناء المفعول من الارتهان فلعل الراوي أتى به مكان الرهينة من طريق القياس قال الطيبي : طريق المجاز غير مسدود وليس بموقوف على السماع ولا يستراب أن الارتهان هنا ليس مأخوذاً بطريق الحقيقة ويدل عليه قول الزمخشري في أساس البلاغة في قسم المجاز : فلان رهن بكذا ورهين ورهينته ومرتهن به مأخوذ به ، وقال صاحب النهاية : معنى قوله :( رهينة بعقيقته ) أن العقيقة لازمة له لا بد له منها . فشبهه في لزومها له وعدم انفكاكه منه بالرهن في يد غير المرتهن والهاء في الرهينة للمبالغة لا للتأنيث كالشتم والشتيمة أ. هـ .
وهو بحث غريب واعتراض عجيب فإن كلام التوربشتي في أن لفظ المرتهن بصيغة المفعول غير مسموع وأن الراوي ظن أن المرتهن يأتي بمعنى الرهينة الثابتة في الرواية فنقله بالمعنى على حسبانه وأما كون الرهن في هذا المقام ليس على حقيقته بل على المجاز فلا يخفى على من له أدنى تأمل وتعقل فكيف على الإمام الجليل المحقق في المنقول والمعقول والجامع بين الفروع والأصول بل ما ذكره عن الأساس والنهاية يدل على مراده وبحثه في الغاية وسيأتي في كلامه أيضاً ما يبين هذا المبحث لفظاً ومعنىً . وفي شرح السنة : قد تكلم الناس فيه وأجودها ما قاله أحمد بن حنبل معناه أنه إذا مات طفلاً ولم يعق عنه لم يشفع في والديه . وروي عن قتادة : أنه يحرم شفاعتهم . قال الشيخ التوربشتي : ولا أدري بأي سبب تمسك ولفظ الحديث لا يساعد المعنى الذي أتى به بل بينهما من المباينة ما لا يخفى على عموم الناس فضلاً عن خصوصهم والحديث إذا استبهم معناه فأقرب السبب إلى إيضاحه استيفاء طرقه فإنها قلما تخلو عن زيادة أو نقصان أو إشارة بالألفاظ المختلف فيها رواية فيستكشف بها ما أبهم منه وفي بعض طرق هذا الحديث ( كل غلام رهينة بعقيقته ) أي مرهون والمعنى أنه كالشيء المرهون لا يتم الانتفاع والاستمتاع به دون فكه والنعمة إنما تتم على المنعم عليه بقيامه بالشكر ووظيفة الشكر في هذه النعمة ما سنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أن يعق عن المولود شكراً لله تعالى وطلباً لسلامة المولود ويحتمل أنه أراد بذلك أن سلامة المولود ونشوءَه على النعت المحبوب رهينة بالعقيقة وهذا هو المعنى اللهم إلا أن يكون التفسير الذي سبق ذكره متلقى من قبل الصحابة ويكون الصحابي قد اطلع على ذلك من مفهوم الخطاب أو قضية الحال ويكون التقدير شفاعة الغلام لأبويه مرتهن بعقيقته قال الطيبي : ولا ريب أن الإمام أحمد بن حنبل ما ذهب إلى هذا القول إلا بعدما تلقى من الصحابة والتابعين على أنه إمام من الأئمة الكبار يجب أن يتلقى كلامه بالقبول ويحسن الظن به ] (1) .
2. وقيل إن المعنى أن الغلام مرهون بأذى شعره ويدل على ذلك قوله :( فأميطوا عنه الأذى ) (2) .
3. وقيل إنه مرهون بالعقيقة بمعنى أنه لا يسمى ولا يحلق شعره إلا بعد ذبحها (3) .
ولم يرتض الشيخ ابن القيم هذه التفسيرات للحديث وردَّها وقال :[ وفيه نظر لا يخفى فإن شفاعة الولد في الوالد ليست بأولى من العكس وكونه والداً له ليس للشفاعة فيه .
وكذا سائر القرابات والأرحام وقد قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا } سورة لقمان الآية 30 . وقال تعالى : { وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } سورة البقرة الآية 48 . وقال تعالى : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ } سورة البقرة الآية 254 . فلا يشفع أحد لأحد يوم القيامة إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ، فإذنه سبحانه وتعالى في الشفاعة موقوف على عمل المشفوع له من توحيده وإخلاصه . ومن الشافع من قربه عند الله ومنزلته ليست مستحقة بقرابة ولا بنوة ولا أبوة .
وقد قال سيد الشفعاء وأوجههم عند الله لعمه ولعمته وابنته :( لا أغني عنكم من الله شيئاً ) وفي رواية :( لا أملك لكم من الله شيئاً ) وقال في شفاعته العظمى لما يسجد بين يدي ربه ويشفع :( فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ) فشفاعته في حدٍ محدودٍ يحدّهم الله سبحانه له ولا تجاوزهم شفاعته .
__________
(1) مرقاة المفاتيح 7/745-746.
(2) معالم السنن 4/265 .
(3) نيل الأوطار 5/150 .(/9)
فمن أين يقال إن الولد يشفع لوالده فإذا لم يعق عنه حبس عن الشفاعة له ولا يقال لمن يشفع لغيره أنه مرتهن ولا في اللفظ ما يدل على ذلك والله سبحانه وتعالى يخبر عن ارتهان العبد بكسبه كما قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } وقال تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا } سورة الأنعام الآية 70 .فالمرتهن هو المحبوس إما بفعل منه أو فعل من غيره ، وأما من لم يشفع لغيره فلا يقال له مرتهن على الإطلاق ، بل المرتهن هو المحبوس عن أمر كان بصدد نيله وحصوله ولا يلزم من ذلك أن يكون بسبب منه بل يحصل ذلك تارة بفعله وتارة بفعل غيره .
وقد جعل الله سبحانه النسيكة عن الولد سبباً لفك رهانه من الشيطان الذي يعلق به من حين خروجه إلى الدنيا وطعن في خاصرته فكانت العقيقة فداءً وتخلصاً له من حبس الشيطان له وسجنه في أسره ومنعه له من سعيه في مصالح آخرته التي إليها معاده فكأنه محبوس لذبح الشيطان له بالسكين التي أعدها لأتباعه وأوليائه وأقسم لربه أنه ليستأصلن ذرية آدم إلا قليلاً منهم فهو بالمرصاد للمولود من حين يخرج إلى الدنيا فحين يخرج يبتدره عدوه ويضمه إليه ويحرص على أن يجعله في قبضته وتحت أسره ومن جملة أوليائه وحزبه فهو أحرص شيء على هذا ... فكان المولود بصدد هذا الارتهان فشرع الله سبحانه للوالدين أن يفكا رهانه بذبحٍ يكون فداه ، فإذا لم يذبح عنه بقي مرتهناً به فلهذا قال - صلى الله عليه وسلم - :( الغلام مرتهن بعقيقته فأريقوا عنه الدم وأميطوا عنه الأذى ) فأمر بإراقة الدم عنه الذي يخلص به من الارتهان ، ولو كان الارتهان يتعلق بالأبوين لقال فأريقوا عنكم الدم لتخلص إليكم شفاعة أولادكم . فلما أمرنا بإزالة الأذى الظاهر عنه وإراقة الدم الذي يزيل الأذى الباطن بارتهانه علم أن ذلك تخليص للمولود من الأذى الباطن والظاهر ، والله أعلم بمراده ورسوله ] (1) .
المبحث الرابع
الحكمة من مشروعية العقيقة
لا شك أن للعقيقة حكماً وفوائد كثيرة منها :
أولاً : قال ولي الله الدهلوي :[ وكان فيها مصالح كثيرة راجعة إلى المصلحة الملية والمدنية والنفسانية ، فأبقاها النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمل بها ورغب الناس فيها .
فمن تلك المصالح التلطف بإشاعة نسب الولد إذ لا بد من إشاعته لئلا يقال ما لا يحبه ولا يحسن أن يدور في السكك فينادي أنه ولد لي فتعين التلطف بمثل ذلك
ومنها اتباع داعية السخاوة وعصيان داعية الشح .
ومنها أن النصارى كان إذا ولد لهم ولد صبغوه بماء أصفر يسمونه المعمودية وكانوا يقولون يصير الولد به نصرانياً وفي مشاكلة هذا الاسم نزل قوله تعالى : { صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً } سورة البقرة الآية 138 ، فاستحب أن يكون للحنيفيين فعل بإزاء فعلهم ذلك يشعر بكون الولد حنيفياً تابعاً لملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وأشهر الأفعال المختصة بها المتوارثة في ذريتهما ما وقع له عليه السلام من الإجماع على ذبح ولده ثم نعمة الله عليه أن فداه بذبح عظيم وأشهر شرائعهما الحج الذي فيه الحلق والذبح فيكون التشبه بهما في هذا تنويهاً بالملة الحنيفية ونداء أن الولد قد فعل به ما يكون من أعمال هذه الملة .
ومنها أن هذا الفعل في بدء ولادته يخيل إليه أنه بذل ولده في سبيل الله كما فعل إبراهيم عليه السلام وفي ذلك تحريك سلسلة الإحسان والانقياد كما ذكرنا في السعي بين الصفا والمروة ] (2).
ثانياً : الشكر لله سبحانه وتعالى على نعمة الولد فإنها من أعظم النعم ، والأولاد زينة الحياة الدنيا ، قال تعالى: { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } سورة الكهف الآية 46 . وفطر الله الإنسان على السرور والبهجة عند قدوم المولود فكان حرياً بالإنسان أن يشكر الله الخالق الواهب وقد ورد في الأثر عن الحسين - رضي الله عنه - في تهنئة من رزق مولوداً أن يقال له :( بارك الله لك في الموهوب وشكرت الواهب وبلغ أشده ورزقت بره ) (3) ، فالعقيقة نوع من أنواع الشكر لله تعالى والتقرب إليه .
ثالثاً : فيها فكاك المولود وفديته كما فدى الله سبحانه إسماعيل الذبيح بالكبش وقد كان أهل الجاهلية يفعلونها ويسمونها عقيقةً ويلطخون رأس الصبي بالدم ، فأقرها الإسلام ونهى عن تلطيخ رأس المولود بالدم .
وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ما يذبح عن المولود إنما ينبغي أن يكون على سبيل النسك كالأضحية والهدي فقال :( من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل ) فجعلها على سبيل الأضحية التي جعلها الله نسكاً وفداء لإسماعيل عليه السلام وقربة إلى الله عز وجل . وغير مستبعد في حكمة الله في شرعه وقدره أن يكون سبباً لحسن إثبات الولد ودوام سلامته وطول حياته في حفظه من ضرر الشيطان حتى يكون كل عضو منها فداء كل عضو منه (4) .
__________
(1) تحفة المودود ص 57-59 .
(2) حجة الله البالغة 2/261
(3) الأذكار ص 246 .
(4) انظر تحفة المودود ص 54-55 .(/10)
رابعاً : الإعلان والأخبار بأن هذا الشخص قد رزق مولوداً وسماه كذا فيظهر ذلك بين الناس من الأهل والجيران والأصدقاء فيقدم هؤلاء لتهنئته وحضور عقيقته مما يؤدي إلى زيادة روابط الألفة والمودة بين المسلمين .
خامساً : فيها نوع من أنواع التكافل الاجتماعي في الإسلام حيث إن الذي يعق عن ولده يذبح الذبيحة ويرسل منها للفقراء والأصدقاء والجيران أو يدعوهم إليها ويسهم هذا الأمر في تخفيف معاناة الفقراء والمحتاجين (1) .
وقال ابن الحاج :[ وفي فعل العقيقة من الفوائد أشياء كثيرة منها : امتثال السنة وإخماد البدعة ولو لم يكن فيها من البركة إلا أنها حرز للمولود من العاهات والآفات كما ورد فالسنة مهما فعلت كانت سبباً لكل خير وبركة والبدعة بضد ذلك .
وقد حكي عن بعضهم أنه دخل عليه بعض أصحابه فوجدوا الذهب والفضة منثورين في بيته وأولاده ذاهبون وراجعون عليها فقالوا له : يا سيدنا أما هذا إضاعة مال ؟ قال : بل هي في حرز قالوا له : وأين الحرز ؟ قال لهم : هي مزكاة وذلك حرزها فكذلك فيما نحن بسبيله من عق عنه فهو في حرز من العاهات والآفات وأقل آفة تقع بالمولود يحتاج وليه أن ينفق عليه قدر العقيقة الشرعية أو أكثر منها فمن كان له لب فليبذل جهده على فعلها لأنها جمعت بين حرز المال والبدن . أما البدن فسلامة المولود سيما من الآفات والعاهات كما تقدم وأما كونها حرزاً للمال فإن النفقة في العقيقة نزر يسير بالنسبة إلى ما يتكلفونه من العوائد المتقدم ذكره وغيرها من النفقات فيما يتوقع على المولود من توقع العاهات والآفات وفيها كثرة الثواب الجزيل لأجل امتثال السنة في فعلها وتفريقها سيما في هذا الزمان فإن فيها الأجر الكثير لقلة فاعلها ] (2) .
المبحث الخامس
هل يكره تسمية العقيقة بهذا الاسم ؟
ذهب بعض أهل العلم إلى كراهة تسمية العقيقة بهذا الاسم – عقيقة - وقالوا الأولى أن تسمى نسيكة أو ذبيحة (3) .
واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال :( سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة فقال : لا أحب العقوق ، وكأنه كره الاسم . فقالوا : يا رسول الله إنما نسألك عن أحدنا يولد له . قال : من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي (4).
وقال الشيخ ناصر الدين الألباني : حسن صحيح (5) .
وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط : وهذا سند حسن (6) .
والحديث رواه البيهقي من طريقين الأول طريق عمرو بن شعيب المذكورة أعلاه ، والثانية عن زيد بن أسلم عن رجل من بني ضمرة عن أبيه فذكره ثم قال :[وهذا إذا انضم إلى الأول قويا ] (7) . وقال ابن التركماني معلقاً على كلام البيهقي السابق :[ اقتصر على هذين الوجهين للحديث وللحديث وجه ثالث أحسن منهما قال ابن أبي شيبة : ثنا عبد الله بن نمير ثنا داود بن قيس وقال عبدالرزاق أنا داود بن قيس سمعت عمرو بن شعيب يحدث عن أبيه عن جده قال :( سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة فقال : لا أحب العقوق ) الحديث وأخرجه النسائي عن أحمد بن سليمان هو الرهاوي الحافظ عن أبي نعيم عن داود كذلك (8) .
ورواه مالك في الموطأ والبيهقي في معرفة السنن والآثار عن زيد بن أسلم عن رجل من بني ضمرة عن أبيه . الحديث (9) .
قال الإمام الباجي :[ قوله - صلى الله عليه وسلم - :( لا أحب العقوق ) ظاهره كراهية الاسم لما فيه من مشابهة لفظ العقوق وآثر أن يسمى نسكاً ] (10) .
وقد أجاب عن ذلك الحافظ ابن عبد البر فقال :[ وفي هذا الحديث كراهية ما يقبح معناه من الأسماء وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب الاسم الحسن ويعجبه الفأل الحسن وقد جاء عنه في حرب ومرة ونحوهما ما رواه مالك وغيره وذلك معروف ستراه في بابه من كتابنا هذا إن شاء الله . وكان الواجب بظاهر هذا الحديث أن يقال للذبيحة عن المولود نسيكة ولا يقال عقيقة لكني لا أعلم أحداً من العلماء مال إلى ذلك ولا قال به وأظنهم والله أعلم تركوا العمل بهذا المعنى المدلول عليه من هذا الحديث لما صح عندهم في غيره من لفظ العقيقة وذلك أن سمرة بن جندب روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :( الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ) ] (11) .
__________
(1) انظر أحكام الذبائح ص 169 ، تربية الأولاد في الإسلام 1/99-100 .
(2) المدخل 3/228-229 .
(3) فتح الباري 12/4 ، نهاية المحتاج 8/137 ، المنتقى 4/199، تحفة المودود ص 42
(4) انظر نيل الأوطار 5/152 ، سنن البيهقي 9/300 ، المستدرك 4/238 ، المجموع 8/427-428 .
(5) صحيح سنن النسائي 3/884 .
(6) الإحسان 12/132 .
(7) سنن البيهقي 9/300 .
(8) الجوهر النقي 9/300 .
(9) الموطأ ص399، معرفة السنن والآثار 14/70 .
(10) المنتقى4/199.
(11) فتح المالك 7/101-102 .(/11)
وقال الحافظ ابن عبد البر في موضع آخر بعد أن ذكر الحديث السابق :[ وكان الواجب بظاهر هذا الحديث أن يقال للذبيحة عن المولود في سابعه نسيكة ، ولا يقال عقيقة ، إلا أني لا اعلم خلافاً بين العلماء في تسمية ذلك عقيقاً – كذا والصواب عقيقةً - فدل على أن ذلك منسوخ ، واستحباب واختيار . فأما النسخ، فإن في حديث سمرة بن جندب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى ) . وفي حديث سلمان بن عامر الضبي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى ) . ففي هذين الحديثين لفظ العقيقة فدل ذلك على الإباحة لا على الكراهة في الاسم . وعلى هذا كُتب الفقهاء في كل الأمصار ، ليس فيها إلا العقيقة لا النسيكة ، على أن حديث مالك هذا ليس فيه التصريح بالكراهة . وكذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وإنما فيهما فكأنه كره الاسم وقال من أحب أن ينسك عن ولده ) (1) .
وقال الحافظ العراقي :[ إن قلت كان ينبغي العدول عن لفظ العقيقة إلى لفظ النسيكة ونحوها لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن عمرو لما سئل عن العقيقة لا يحب الله العقوق وكأنه كره الاسم قلت قال ابن عبد البر كان الواجب بظاهر هذا الحديث أن يقال لذبيحة المولود نسيكة ولا يقال عقيقة لكني لا أعلم أحداً من العلماء قال به وكأنهم والله أعلم تركوا العمل به لما صح عندهم في غيره من لفظ العقيقة انتهى . قلت : لفظ نسيكة لا يدل على العقيقة لأنه أعم منها ولا دلالة للأعم على الأخص وليس في الحديث تصريح بأنه كره الاسم وإنما هذا من فهم الراوي ولم يجزم به وكأنه عليه الصلاة والسلام إنما ذكر قوله :( لا يحب الله العقوق ) عند ذكر العقيقة لئلا يسترسل السائل في استحسان كل ما اجتمع مع العقيقة في الاشتقاق فبين له أن بعض هذه المادة محبوب وبعضها مكروه وهذا من الاحتراس الحسن وإنما سكت عنه في وقت آخر لحصول الغرض بالبيان الذي ذكره في هذا الحديث أو بحسب أحوال المخاطبين في العلم وضده فيبين للجاهل ويسكت عن البيان للعالم ولعله كان مع عبد الله ابن عمرو من احتاج إلى البيان لأجله فإن عبد الله بن عمرو صاحب فهم وعلم والله أعلم ] (2) .
وقد أجاب الملا علي القاري عن ذلك بقوله :[ وكأنه : أي النبي - صلى الله عليه وسلم - كره الاسم هذا كلام بعض الرواة أي أنه عليه السلام يستقبح أن يسمى عقيقة لئلا يظن أنها مشتقة من العقوق وأحب أن يسمى بأحسن منه من ذبيحة أو نسيكة على دأبه في تغيير الاسم القبيح إلى ما هو أحسن منه كذا في النهاية قال التوربشتي : هو كلام غير سديد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر العقيقة في عدة أحاديث ولو كان يكره الاسم لعدل عنه إلى غيره ومن عادته تغيير الاسم إذا كرهه أو يشير إلى كراهته بالنهي عنه كقوله :( لا تقولوا للعنب الكرم ) ونحوه من الكلام وإنما الوجه فيه أن يقال : يحتمل أن السائل إنما سأله عنها لاشتباه تداخله من الكراهة والاستحباب أو الوجوب والندب وأحب أن يعرف الفضيلة فيها ولما كانت العقيقة من الفضيلة بمكان لم يخف على الأمة موقعه من الله وأجابه بما ذكر تنبيهاً على أن الذي يبغضه الله من هذا الباب هو العقوق لا العقيقة ، ويحتمل أن يكون السائل ظن أن اشتراك العقيقة مع العقوق في الاشتقاق مما يوهن أمرها فأعلمه أن الأمر بخلاف ذلك ويحتمل أن يكون العقوق في هذا الحديث مستعاراً للوالد كما هو حقيقة في المولود وذلك أن المولود إذا لم يعرف حق أبويه وأبى عن أدائه صار عاقاً فجعل إباء الوالد عن أداء حق المولود عقوقاً على الاتساع فقال : لا يحب الله العقوق أي ترك ذلك من الوالد مع قدرته عليه يشبه إضاعة المولود حق أبويه ولا يحب الله ذلك ] (3) .
وقال ابن الأثير :[ ومنه الحديث:( أنه سئل عن العقيقة فقال : لا أحب العقوق ) ليس فيه توهين لأمر العقيقة ولا إسقاط لها وإنما كره الاسم وأحب أن تسمى بأحسن منه كالنسيكة والذبيحة جرياً على عادته في تغيير الاسم القبيح ] (4) .
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمال اسم العقيقة في أحاديث منها :
أ. حديث سمرة - رضي الله عنه - :( كل غلام رهينة بعقيقته ... ) .
ب. وحديث سلمان بن عامر الضبي - رضي الله عنه - :( مع الغلام عقيقته ) .
جـ . وحديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها :( العقيقة عن الغلام شاتان … ) .
د. وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - :( مع الغلام عقيقته … ) .
هـ . وحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( للغلام عقيقتان وللجارية عقيقة ) (5) .
__________
(1) الاستذكار 15/367-368 .
(2) طرح التثريب في شرح التقريب 5/216 .
(3) مرقاة المفاتيح 7/749 .
(4) النهاية في غريب الحديث 3/277 .
(5) سبق تخريج هذه الأحاديث .(/12)
ففي هذه الأحاديث استعمل النبي- صلى الله عليه وسلم - لفظ العقيقة فدل على الإباحة لا على الكراهة .
وكذلك فقد سبق ذكر طائفة من الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين التي استعملوا فيها لفظ العقيقة بدون كراهة للّفظ ، كما أن فقهائنا يستعملون هذه اللفظة في كتبهم ولا يستعملون لفظة نسيكة (1) .
المبحث السادس
حكم العقيقة
اختلف الفقهاء في حكم العقيقة على خمسة أقوال :
القول الأول : أنها سنة مؤكدة وهذا قول جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين والفقهاء وهو قول الشافعية والمالكية والمشهور المعتمد في مذهب الحنابلة وبه قال الجمهور من العترة ، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية (2) .
ونقل هذا القول عن ابن عباس وابن عمر وعائشة وفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهم وبه قال القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وعطاء والزهري وإسحاق وأبو ثور وغيرهم (3) .
قال ابن القيم :[ فأما أهل الحديث قاطبة وفقهاؤهم وجمهور أهل السنة ، فقالوا : هي من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) (4) .
القول الثاني : إنها فرض واجب وهذا قول الظاهرية وعلى رأسهم صاحب المذهب داود بن علي وابن حزم ونقل عن بريدة بن الحصيب الأسلمي من الصحابة وعن أبي الزناد وهو قول الحسن البصري إلا أنه يرى وجوبها عن الذكر دون الأنثى ، والقول بالوجوب رواية عن الإمام أحمد اختارها جماعة من الحنابلة وبه قال الشيخ الألباني من المحدثين (5) .
القول الثالث : للحنفية وقد اختلفت الروايات في مذهبهم في حكم العقيقة والذي تحصَّل لي بعد البحث ثلاثة أقوال لهم هي :
أ. أنها تطوع من شاء فعلها ومن شاء تركها ، قاله الطحاوي في مختصره وابن عابدين في العقود الدرية (6)، ونقله الشيخ نظام عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد (7) ، وهذا موافق لقول الجمهور بشكل عام .
ب. أنها مباحة قاله المنبجي ونقله ابن عابدين عن جامع المحبوبي (8) .
جـ . أنها منسوخة يكره فعلها وهو منقول عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة حيث قال :[ أما العقيقة فبلغنا أنها كانت في الجاهلية وقد فعلت في أول الإسلام ثم نسخ الأضحى كل ذبح كان قبله ] (9) .
وقال الخوارزمي الكرلاني :[ كان في الجاهلية ذبائح يذبحونها منها العقيقة ومنها الرجبية ... وكلها منسوخ بالأضحية ] (10) .
والقول بالنسخ هو المذهب عند الحنفية قال التهانوي :[ نص الروايات ظاهر في أن مذهب أبي حنيفة هو أن العقيقة منسوخة وغير مشروعة ، وما نقله الشامي – أي ابن عابدين – عن جامع المحبوبي أنها مباحة وشرح الطحاوي أنها مستحبة ليس بنقل للمذهب ، بل هو رأي منهما رأياه لما ورد في ذلك من الأخبار ] (11).
وأما ما نسب لأبي حنيفة أن العقيقة بدعة كما نقله العراقي وغيره (12) فهو مردود وباطل .
قال العيني :[ هذا افتراء فلا يجوز نسبته إلى أبي حنيفة وحاشاه أن يقول مثل هذا ، وإنما قال ليست سنة ، فمراده إما ليست سنة ثابتة ، وإما ليست سنة مؤكدة ] (13) .
وقد تطاول ابن حزم على أبي حنيفة وتعدّى عليه فقال :[ ولم يعرف أبو حنيفة العقيقة فكان ماذا ؟ ليت شعري إذ لم يعرفها أبو حنيفة ما هذا بنكرة فطالما لم يعرف السنن ] (14) .
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي :[ وجعلها أبو حنيفة من أمر الجاهلية وذلك لقلة علمه ومعرفته بالأخبار ] (15) .
وسامح الله الشيخ ابن قدامة فما كان ينبغي أن يصدر هذا الكلام منه في حق أبي حنيفة ، وأقول كلٌ يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقول ابن حزم وابن قدامة في حق أبي حنيفة ينبغي تركه .
وليت ابن حزم وابن قدامة رحمهما الله تعالى التمسا عذراً لأبي حنيفة رحمه الله لكان أولى من هذا اللمز .
__________
(1) انظر تحفة المودود ص 42 .
(2) مغني المحتاج 4/293 ، المجموع 8/429 ، بداية المجتهد 1/275 ، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 32/206 ، الإقناع 2/282 ، كفاية الأخيار ص 534 ,المغني 9/459 ، نيل الأوطار 5/150 ، الفروع 3/563 ، كشاف القناع 3/24 ، تحفة المودود ص 32 ، أحكام الذبائح ص 170 ، الفقه الإسلامي وأدلته 3/637 .
(3) المغني 9/459 ، المجموع 8/447 .
(4) تحفة المودود ص 32 .
(5) المحلى 6/234 ، المجموع 8/447 ، المغني 9/459 ، الإنصاف 4/110 ، زاد المعاد 2/326 ، تحفة المودود ص 43 ، الفروع 3/556 .
(6) مختصر الطحاوي ص299 ، العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 2/212 ، بدائع الصنائع 4/203.
(7) الفتاوى الهندية 5/304 .
(8) اللباب في الجمع بين السنة والكتاب 2/648 ، حاشية ابن عابدين 6/336 .
(9) الموطأ برواية محمد ص226 ، وانظر الآثار لأبي يوسف ص 238 ، بدائع الصنائع 4/204 ، بذل المجهود 13/79 ، إعلاء السنن 17/113.
(10) الكفاية على الهداية 8/428 .
(11) إعلاء السنن 17/113.
(12) طرح التثريب 5/206 .
(13) عمدة القاري 14/463.
(14) المحلى 6/241 .
(15) المغني 9/459 .(/13)
ولقد أحسن الشوكاني إذ قال :[ وحكى صاحب البحر عن أبي حنيفة أن العقيقة جاهلية محاها الإسلام وهذا إن صح حمل على أنها لم تبلغه الأحاديث الواردة في ذلك ] (1)، وهكذا ينبغي أن نحسن الظن بعلمائنا فهم أتقى وأورع من أن يتعمدوا مخالفة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقال التهانوي :[ وعلى هذا فلا يصح إيراد ابن حزم على أبي حنيفة ، وكل ما ذكره ردٌ عليه فافهم ، وفي البدائع في باب اشتراك سبعة في بدنة الأضحية ما نصه : ولو أرادوا القربة بالأضحية أو غيرها من القرب أجزأهم ، سواء كانت واجبة أو تطوعاً ، لأن المقصود من الكل التقرب إلى الله تعالى ، وكذلك إن أراد بعضهم العقيقة عن ولدٍ وُلد له من قبل ، لأن ذلك جهة التقرب إلى الله عز شأنه بالشكر على ما أنعم عليه من الولد .كذا ذكره محمد رحمه الله في نوادر الضحايا، ولم يذكر الوليمة ، وينبغي أن يجوز ، لأنها إنما تقام شكراً لله تعالى على نعمة النكاح ، وقد وردت السنة بذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال :( أولم ولو بشاة ) فإذا قصد بها الشكر وإقامة السنة فقد أراد بها التقرب إلى الله عز وجل . أ. هـ ملخصاً . وهو صريح في كون العقيقة قربة كالوليمة ، فمن عزا إلى أبي حنيفة أنه قال : هي بدعة لا يلتفت إليه ، نعم أنكر أبو حنيفة كونها إراقة دم بالشرع تعبداً كالأضحية ، ولم ينكر كونها قربة بقصد الشكر على نعمة الولد فإنها تكون إذاً كالوليمة تقام شكراً لله تعالى على نعمة النكاح ، فافهم ] (2).
وينبغي أن يعلم أن الذي عليه العمل عند الحنفية الآن هو استحباب العقيقة قال التهانوي :[ وليعلم أن عمل الحنفية اليوم على استحبابها عملاً بما في شرح الطحاوي والأمر واسع لما فيه من الاختلاف ، فتدبر ] (3).
وقال أيضاً :[ هذا وإنما أخذ أصحابنا الحنفية في ذلك بقول الجمهور وقالوا باستحباب العقيقة لما قال ابن المنذر وغيره : إن الدليل عليه الأخبار الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة والتابعين بعده ، قالوا : وهو أمر معمول به في الحجاز قديماً وحديثاً . قال : وذكر مالك في الموطأ : أنه الأمر الذي لا اختلاف فيه عندهم قال : وقال يحيى بن سعيد الأنصاري التابعي ، أدركت الناس وما يدعون العقيقة عن الغلام والجارية . وممن كان يرى العقيقة ابن عمر وابن عباس وعائشة وبريدة الأسلمي والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وعطاء والزهري وآخرون من أهل العلم يكثر عددهم قال : وانتشر عمل ذلك في عامة بلدان المسلمين أ.هـ شرح المهذب ملخصاً ( 8/447 ) ، فزعموا أن الأمر كان مختلفاً فيه بين الصحابة والتابعين ثم اتفق جمهور العلماء وعامة المسلمين على استحبابه ، فأخذوا به وأفتوا بالاستحباب ، ووافقوا الجمهور ، وإن كان قول الإمام قوياً من حيث الدليل كما ذكرنا،ولكن خلافه هو القول المنصور والله تعالى أعلم بما في الصدور ] (4) .
القول الرابع : تجب العقيقة في الأيام السبع الأولى من الولادة فإن فاتت لم تجب بعد السبع وهو قول الليث بن سعد كما حكاه عنه الحافظ ابن عبد البر حيث قال :[ وقال الليث بن سعد : يعق عن المولود في أيام سابعه ، في أيها شاء ، فإن لم تتهيأ لهم العقيقة في سابعه فلا بأس أن يعق عنه بعد ذلك وليس بواجب أن يعق عنه بعد سبعة أيام ، وكان الليث يذهب إلى أنها واجبة في السبعة الأيام ] (5) .
القول الخامس : العقيقة عن الغلام فقط دون الجارية فلا يعق عنها ، وبه قال الحسن البصري على سبيل الوجوب كما حكاه عنه ابن عبد البر وهو قول قتادة كما حكاه ابن المنذر عنهما ، وحكاه ابن حزم عن محمد بن سيرين وأبي وائل شقيق بن سلمة ، حيث نقل ابن حزم عن ابن سيرين أنه كان لا يرى على الجارية عقيقة وعن أبي وائل قال : لا يعق عن الجارية ولا كرامة (6) .
الأدلة :
أدلة القول الأول : احتج الجمهور على أن العقيقة سنة بما يلي :
1. عن سلمان بن عامر الضبي - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :( مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى ).
2. وعن سَمُرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويُسمَّى ) .
3. وعن أم كُرْز الكعبية رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :( عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ) .
4. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين.
__________
(1) نيل الأوطار 5/150 .
(2) إعلاء السنن 17/ 127 .
(3) إعلاء السنن 17/121 .
(4) إعلاء السنن 17/126 .
(5) فتح المالك 7/104 ، وانظر طرح التثريب 5/206 .
(6) فتح المالك 7/104 ، المحلى 6/241 ، الحاوي الكبير 15/128 ،عمدة القاري 14/463 ، طرح التثريب 5/207 ، فتح الباري 12/9 .(/14)
5. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة (1) .
وجه الاحتجاج بهذه الأحاديث :
قال الجمهور إن هذه الأحاديث تدل على أن العقيقة سنة مستحبة أكدها النبي- صلى الله عليه وسلم - بقوله وفعله ، حيث إنه قد عق الحسن والحسين رضي الله عنهما .
وقالوا أيضاً إن الأمر في حديث عائشة رضي الله عنها ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم … ) مصروف عن الوجوب إلى الندب ويؤيد ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلها لرغبة المسلم واختياره ، وما كان سبيله كذلك لا يكون واجباً ، فقد جاء في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة فقال :( لا يحب الله العقوق ) كأنه كره الاسم وقال :( من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك ) (2) .
وقالوا أيضاً إنها لو كانت واجبة لكان وجوبها معلوماً من الدين لأن ذلك مما تدعو الحاجة إليه ، وتعم به البلوى فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبين وجوبها للأمة بياناً عاماً كافياً تقوم به الحجة ، وينقطع معه العذر (3) .
6. واحتجوا أيضاً بالإجماع على أنها سنة ، قال ابن قدامة :[ والإجماع ، قال أبو الزناد : العقيقة من أمر الناس كانوا يكرهون تركه ] (4) ، وقول أبي الزناد من أمر الناس تفيد أن العقيقة متروكة لرغبتهم لم يوجبها الشارع ولو كانت واجبة لما تركوها كما أن ترك الواجب يكون حراماً وليس مكروهاً فقط .
7. وقالوا إنها ذبيحة لسرور حادث فلم تكن واجبة كالوليمة والنقيعة (5).
8. وقالوا أيضاً فعله - صلى الله عليه وسلم - لها لا يدل على الوجوب إنما يدل على الاستحباب (6).
9. وقالوا إنها إراقة دم من غير جناية ولا نذر فلم تجب كالأضحية (7).
أدلة القول الثاني : واحتج الظاهرية ومن وافقهم على أنها واجبة بما يلي :
1. حديث سلمان بن عامر الضبي السابق وفيه :( مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً ) .
2. وحديث أم كُرْز السابق وفيه :( وعن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ) .
3. وحديث سَمُرة السابق وفيه :( كل غلام رهينة بعقيقته ) .
وقد ساق ابن حزم هذه الأحاديث بإسناده بعدة روايات ثم قال :[ فهذه الأخبار نص ما قلنا وهو قول جماعة من السلف ] (8) ، ثم ذكر آثاراً عن جماعة من السلف منهم : حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر ، وابن عباس ، وعطاء ، وابن عمر ، وبريدة الأسلمي حيث نقل عنه قوله :[ إن الناس يعرضون يوم القيامة على العقيقة كما يعرضون على الصلوات الخمس ] ثم قال :[ أمره عليه الصلاة والسلام بالعقيقة فرض كما ذكرنا لا يحل لأحد أن يحمل شيئاً من أوامره عليه الصلاة والسلام على جواز تركها إلا بنص آخر وارد بذلك وإلا فالقول بذلك كذبٌ وقفوٌ لما لا علم لهم به ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) (9) ، هذه حجج ابن حزم على الوجوب .
4. واحتج غير ابن حزم على وجوبها بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بها وعمل بها ، وقال الغلام مرتهن بعقيقته ومع الغلام عقيقة (10) .
قالوا وهذا يدل على الوجوب من وجهين: أحدهما قوله ( مع الغلام عقيقة ) وهذا ليس إخباراً عن الواقع بل عن الواجب ثم أمرهم بأن يخرجوا عنه هذا الذي معه ، فقال :( أهريقوا عنه دماً ) (11).
5. واحتجوا أيضاً بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن :( الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بتسمية المولود يوم سابعه ووضع الأذى عنه والعق ) (12) .
6. واحتجوا بحديث يوسف بن ماهك وفيه أن عائشة أخبرتهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - :( أمرهم عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة ) (13) .
وجه الاستدلال بهذين الحديثين أن فيهما الأمر النبوي بالعقيقة والأصل في الأمر أن يحمل على الوجوب .
7. واحتجوا أيضاً بحديث يزيد بن عبدٍ المزني عن أبيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال
:( يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم ) (14) ، وقالوا هذا خبر بمعنى الأمر (15) .
أدلة القول الثالث : واحتج الحنفية بما يلي :
أولاً : بالنسبة للقول الأول عند الحنفية وهو استحباب العقيقة فأدلتهم عليه هي أدلة الجمهور السابقة .
__________
(1) سبق تخريج هذه الأحاديث .
(2) سبق تخريجه وانظر نيل الأوطار 5/150 .
(3) تحفة المودود ص 47 .
(4) المغني 9/459 ، وانظر أحكام الذبائح ص 173 .
(5) المغني 9/459 ، والوليمة : اسم لكل طعام يتخذ لكل جمع ، وقيل هي طعام العرس ، والنقيعة : هي طعام يصنع عند قدوم المسافر ، انظر المصباح المنير ص622، 672.
(6) تحفة المودود ص 48 ، سبل السلام 4/180 .
(7) المهذب مع المجموع 8/426 .
(8) المحلى 6/236 .
(9) المحلى 6/237 ، والحديث الذي ذكره ابن حزم رواه البخاري ومسلم .
(10) انظر تحفة المودود ص 43 .
(11) المصدر السابق ص 46 .
(12) سبق تخريجه .
(13) سبق تخريجه .
(14) سبق تخريجه .
(15) تحفة المودود ص47 .(/15)
ثانياً : بالنسبة للقول بأنها مباحة فاحتجوا عليه بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده السابق ، وفيه :( من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك ... الخ ) وهو يفيد الإباحة كما قالوا (1) .
ثالثاً : وأما قولهم بأنها منسوخة فدليلهم ما ذكره الكاساني :[ وإنما عرفنا انتساخ هذه الدماء بما روي عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت :( نسخ صوم رمضان كل صوم كان قبله ، ونسخت الأضحية كل دم كان قبلها، ونسخ غسل الجنابة كل غسل كان قبله ) والظاهر أنها قالت ذلك سماعاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن انتساخ الحكم مما لا يدرك بالاجتهاد ] (2) .
واحتجوا أيضاً بما رواه أبو يوسف في الآثار عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم أنه قال :[ كانت العقيقة في الجاهلية فلما جاء الإسلام رفضت ] (3) .
وبما رواه أبو يوسف أيضاً عن أبي حنيفة عن رجل عن محمد بن الحنفية :[ أن العقيقة كانت في الجاهلية فلما جاء الأضحى رفضت ] (4) .
قال التهانوي :[ وحجة المانعين هو ما روي عن إبراهيم ومحمد بن الحنفية أنها رفضت في الإسلام ، وما روي من الأخبار لا ترد عليهما ، لأنهما لا ينكران المشروعية أصلاً ، بل يقولان بالمشروعية في الجملة ، ولكنهما يدعيان أنها رفعت ، فعندهما زيادة علم ليس عند من يجوزها ، وهما إمامان لا يقولان جزاف فيكون قولهما حجة لأن حجة المجوزين عدم وقوفهم على الناسخ ، وحجتهما الاطلاع عليه ، وباليقين قول من يدعي العلم حجة دون من ينكره . فإن قلت : في رواية ابن الحنفية رجل مبهم ، قلنا : هذا الإبهام ليس بمضر ، لأن الراوي عنه صاحب المذهب وهو أعرف به ] (5) .
واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده السابق وفيه :( سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة ، فقال : لا يحب الله العقوق ) .
واحتجوا أيضاً بحديث أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :( لما ولدت فاطمة حسناً ، قالت : ألا أعق عن ابني بدم ؟ قال : لا ، ولكن احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره فضة على المساكين والأوفاض . ففعلت ذلك فلما ولد حسيناً فعلت مثل ذلك ) وفي رواية أخرى قال عليه السلام :( لا تعقي عنه ) رواه الإمام أحمد وقال الهيثمي : رواه أحمد والطبراني في الكبير وهو حديث حسن (6) .
وقال الساعاتي :[ وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل ، فيه لين وله شواهد تعضده ولعل الحافظ الهيثمي حسنه لذلك ] (7) .
وأما ما احتج به الحنفية على قولهم من جهة النظر [ فإن إراقة الدم بمجردها لم تعهد قربة إلا حيث ورد بها النص لا غير ، وإذا تعارضت النصوص في كونها مشروعة في العقيقة أو منسوخة وباليقين ندري أنه كان في الإسلام إراقات قد نسخت فيما بعد ، كالفرع والعتيرة ونحوها ، كان الترجيح لما يدل على كونها منسوخة ، لأنها لو كانت مشروعة لكانت مستحبة لا غير ، ولو كانت منسوخة كانت بدعة في الإسلام ، وإذا دار الأمر بين الاستحباب والابتداع والإباحة والحظر ترجح الحاظر على المبيح ، وإذا تعارض المحرم والمبيح وجهل التاريخ يجعل المحرم متأخراً كيلا يلزم النسخ مرتين ، ومعنى قوله :( محا ذبحُ الأضاحي كل ذبحٍ كان قبله ) أي محا وجوبه كل ذبح قبله ، فلا يرد علينا كون الأضحية قد شرعت في السنة الثانية ، وعقيقة الحسن والحسين في الثالثة ، أو الخامسة وسماع أم كرز حديث العقيقة في الحديبية في السنة السادسة ، لأنا نقو ل: كانت الأضحية إذ ذاك مشروعة لا واجبة ، ثم وجبت بعد ذلك عند فرض الحج ، فمحا وجوبها كل ذبح كان قبله ولأجل ذلك لم يعق النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ابنه إبراهيم رضي الله عنه بدليل أنه سماه ليلة ولد ولو كان قد عق عنه لسماه في اليوم السابع ] (8) .
ردُّ الحنفية على أدلة الجمهور :
أجاب التهانوي من الحنفية عن الأحاديث الواردة في العقيقة عن الحسن والحسين - سبق ذكرها - بقوله :[ والجواب عنه أن رواية العقيقة عنهما مضطربة لأنه روى الحاكم من طريق محمد بن عمر واليافعي عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت : عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن والحسين يوم السابع وسماهما وأمر أن يماط عن رؤوسهما الأذى ، وقال : صحيح الإسناد .
وأقره الذهبي عليه ، وتبعه ابن حجر في الفتح وهو عجيب منهما ، فإن محمد ابن عمرو اليافعي ، قال ابن القطان : لم تثبت عدالته ، وذكره الساجي في الضعفاء ، وقال ابن عدي : له مناكير ، وقال ابن معين : غيره أقوى منه ، كذا في التهذيب .
__________
(1) اللباب 2/648 .
(2) بدائع الصنائع 4/204.
(3) كتاب الآثار ص 238 .
(4) المصدر السابق .
(5) إعلاء السنن 17/113 .
(6) مجمع الزوائد 4/57 .
(7) الفتح الرباني 13/126-127 ، والأوفاض أناس من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - محتاجون كانوا في المسجد أو في الصفة . المصدر السابق .
(8) إعلاء السنن 17/122.(/16)
قال العبد الضعيف : هو من رجال مسلم والنسائي قال الذهبي : ما علمت أحداً ضعفه وذكره ابن حبان في ثقاته وقول ابن القطان : لم تثبت عدالته ، وقول ابن عدي : له مناكير ، وقول ابن معين : غيره أقوى منه ليس من الجرح في شيء لما في المقدمة ، قال : فالرواية ضعيفة وليست بصحيحة . قلت : كلا بل هي صحيحة على شرط مسلم ، ظ . قال : ولو سلم فيحتمل أن يكون مراد عائشة من العقيقة حلق الشعر والتصدق بالفضة كما في رواية أبي رافع : لا إهراق الدم.
وأخرج الحاكم أيضاً عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن محمد ابن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب قال : عق رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عن الحسين بشاة وقال : يا فاطمة ! احلقي رأسه تصدقي بزنة شعره فوزناه فكان درهماً . ولكنه اختلف فيه على محمد بن إسحاق لأن الحاكم رواه عن عبيد عن محمد بن إسحاق … عن عبد الله بن أبي بكر عن محمد بن علي عن أبيه عن جده عن علي متصلاً رواه الترمذي عن عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن محمد بن علي عن علي مرسلاً ثم محمد بن إسحاق مع ما فيه من الكلام مدلس يدلس عن الساقطين ، وقد عنعن في الرواية فلا تقبل عنعنته ثم هو تفرد بزيادة قوله :( عق عن الحسين بشاة ) ولم يروه علي بن الحسين عن أبي رافع ولا محمد بن علي عند سعيد بن منصور ثم لو كان عن علي بن الحسين رواية عن أبيه عن جده لم يحتج إلى ما رواه عن أبي رافع فهذه أمور تدل على أن رواية محمد بن إسحاق ساقطة فلا يعارض رواية أبي رافع ولا يقوي رواية عائشة ، قال : قلت : أخرج الحاكم في فضائل الحسين من طريق حسين بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر فاطمة فقال :( زني شعر الحسين وتصدقي بوزنه فضة وأعطي القابلة رِجل العقيقة ) وقال : صحيح الإسناد .
قلت : تعقبه الذهبي في التلخيص وقال : لا . قلت : وكذا لا يصح ما روى
أبو داود في المراسيل عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين أن يبعثوا إلى القابلة برِجل وكلوا وأطعموا ولا تكسروا منها عظماً ) لأن المرسل لا يعارض المسند الذي رواه علي بن الحسين عن أبي رافع ولم أقف على من رواه عن جعفر ، فليحقق .
فإن قلت : يعضده ما رواه أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً وإسناده صحيح .
قلنا : يعارضه ما رواه النسائي عن عكرمة عن ابن عباس ( أنه - صلى الله عليه وسلم - عق عنهما كبشين كبشين ) وسنده أيضاً صحيح فإذا تعارضا تساقطا فلا يصلح للتأييد .
وقال في الجوهر النقي : قد اضطرب فيه على عكرمة من وجهين أن أبا حاتم قال : روى عكرمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً وهو الأصح .
والثاني : أن النسائي أخرج من حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عق عن الحسن والحسين بكبشين كبشين . الجوهر النقي 2/223 .
ورجح ابن حجر في الفتح 9/511 روايةً بما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه عق عنهما بكبشين كبشين .(/17)
قلت : أخرجه الحاكم وسكت عنه وتعقبه الذهبي فقال : سوار ضعيف وإن كان روايته تؤيد رواية كبشين فرواية ابن إسحاق تؤيد رواية الكبش فلا ترجيح وقال ابن أبي حاتم في العلل 2/49 : سألت أبي عن حديث رواه عبد الوارث عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين كبشين ( أي كبشاً للحسن وكبشاً للحسين ) قال أبي : هذا وهم حدثنا أبو معمر وعن عبد الوارث هكذا ورواه وهب وابن علية عن أيوب عن عكرمة عن النبي- صلى الله عليه وسلم - مرسلاً قال أبي : وهذا أصح . وقال أيضاً : سألت أبي عن حديث رواه المحاربي عن يحيى بن سعيد عن عكرمة عن ابن عباس أن الحسن والحسين عق عنهما . قال أبي : هذا خطأ إنما هو عن عكرمة . قوله : من حديث يحيى ابن سعيد الأنصاري . قلت : كذا حدثنا الأشج عن أبي خالد الأحمر عن يحيى عن عكرمة أن حسناً وحسيناً عق عنهما . قال أبي : لم تصح رواية يحيى بن سعيد عن عكرمة فإنه لا يرضى عكرمة فكيف يروي عنه ؟ وقال أيضاً : سألت أبي عن حديث رواه ابن وهب عن جرير بن حازم عن قتادة عن أنس قال :( عق رسول الله عن الحسن والحسين بكبشين ) . قال أبي : أخطأ جرير في هذا الحديث إنما هو قتادة عن عكرمة قال : عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرسل أ. هـ . ويظهر منه اضطرابان آخران : الأول أنه روى يحيى بن سعيد عن عكرمة أنه - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين بدون قوله : كبشاً أو كبشين . وقال أيوب : كبشاً كبشاً وقال قتادة : كبشين كبشين . والآخر أنه روى جرير عن قتادة عن أنس وغيره عن قتادة عن عكرمة . فالحديث لا يصلح أن يكون معارضاً لما رواه أبو رافع . قال ابن حزم بعد سرد طرقه : واختلاف الرواة في إرساله ورفعه وفي عدد الكبش والشاة ما نصه : وبأقل من هذا يتعللون في رد الأخبار ويدعون أنه اضطراب أ. هـ ( 9/531 ) .
ويمكن أن يقال : إن ابن عباس روى لعكرمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين بدون قوله : كبش أو كبشين كما رواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن عكرمة وكما روت عمرة عن عائشة وكان مراده أنه أمر أنه يحلق رأسهما والتصدق بوزن شعرهما كما رواه أبو رافع . فتوهم منه الرواة أنه أهراق عنهما دماً . فرووه باجتهادهم أنه عق عنهما كبشين أو أربعة . وعلى هذا لا يكون رواية ابن عباس معارضاً لرواية أبي رافع وتجتمع الروايات كلها ] (1) .
__________
(1) إعلاء السنن 17/115-117 .(/18)
وأجابوا عن حديث أم كرز الكعبية ( أن حديث أم كرز مضطرب اضطراباً شديداً لأنها رويت عنها من وجوه مختلفة ، وأمثلها طريق سباع بن ثابت وهو أيضاً مضطرب . لأن سفيان يرويه ويقول تارة : عن عبد الله بن أبي يزيد عن أبيه عن سباع بن ثابت عن أم كرز ، وأخرى عن عبيد الله عن سباع عن أم كرز ، وابن جريح يرويه عن عبيد الله عن سباع بن ثابت عن محمد بن ثابت بن سباع عن أم كرز . وحماد بن زيد يرويه عن عبيد الله ويقول في حديثه : حدثني عبدالله بن أبي يزيد قال : حدثني سباع عن أم كرز . وهل هذا إلا اضطراب . ثم يقول سفيان : إن أم كرز قالت : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية وذهبت أطلب من اللحم فسمعته يقول : عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة ويقول ابن جريج في حديث : أنها سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة فقال :( يعق عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة ) ، ويقول حماد بن زيد في حديثه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال :( عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة ) . والأول : يدل على أنها سمعته يقول في الحديبية ، ولم تكن سألته والثاني : يدل على أنها سألته ، والثالث : لا يدل على واحد منهما . قال والذي يترجح أن رواية سفيان وابن جريج وهم ، والصحيح ما رواه حماد بن زيد ، لأنه لو وقع هذا السؤال والجواب في الحديبية لروي عن غير واحد من الصحابة ، لأنهم كانوا مجتمعين فيها ، فتفرد أم كرز بالرواية يدل على أن هذا ليس من قصة الحديبية ، ثم إذا نظرنا أن الحديبية لم تكن محلاً لهذه المسألة . ولا كان أهم لأم كرز السؤال عن العقيقة من سائر أمور الدين . لأنهم قالوا : إنها أسلمت في الحديبية يزداد هذا الظن قوة ثم إذا رأينا الحاكم قد روى عن عبد المالك بن عطاء عن أم كرز وأبي كرز أنها نذرت امرأة من آل عبد الرحمن بن أبي بكر إن ولدت امرأة عبد الرحمن نحرنا جزوراً فقالت عائشة : لا ، بل السنة أفضل : عن الغلام شاتان ، وعن الجارية شاة ، الحديث . ويحصل لهذا الظن مزيد قوة أنها لم تسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - بل سمعت من عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأرسلت في الرواية وروت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رواه عنها حماد بن زيد . يؤيده أيضاً أن أكثر الروايات عنها بالعنعنة لا بالسماع والسؤال ، وذكر الحديبية لم يقع إلا في حديث سفيان ولأجل هذه الأمور لم يخرج الشيخان هذه الرواية في صحيحهما فلا يرد الاعتراض لهذا الحديث على حديث أبي رافع ) (1) .
وردَّ الشيخ ظفر التهانوي على الكلام السابق بقوله :( قال العبد الضعيف : وهذا ليس من الاضطراب في شيء ، وأي بعد في أن يكون ذهبت لطلب اللحم وسألته عن العقيقة أيضاً : وقولها : فسمعته يقول : عن الغلام شاتان إلخ أي بعد أن سئل عن العقيقة ) (2) .
وقال الشيخ ظفر التهانوي ردَّاً على ما سبق :[ قال العبد الضعيف : عدم إخراجهما شيئاً لا يدل على ضعفه ، وقوله : إن الحديبية ليست محلاً لهذه المسألة ولا كانت مما يهم أم كرز فكله كلام لا طائل تحته ، ولا يعل بمثله الأحاديث . والذي روته أم كرز عن عائشة من إنكارها نحر الجزور في العقيقة غير ما روته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكيف يكون ذلك دليلاً على الإرسال كما ادعاه ، واضطراب السند مرتفع بما في حديث حماد بن زيد من التصريح بسماع عبيد الله بن أبي يزيد من سباع وبسماع سباع من أم كرز ، فيكون ما سوى ذلك من المزيد في الإسناد فالأولى أن يقال : إن العقيقة بإراقة الدم كانت مشروعة إلى زمن الحديبية ثم نسخت بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعق عن ابنه إبراهيم ولو كانت واجبةً أو سنةً لعق عنه ، فإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظ ) (3) .
__________
(1) إعلاء السنن 17/118- 119 .
(2) إعلاء السنن 17/118 .
(3) إعلاء السنن 17/119 .(/19)
وقالوا أيضاً في الجواب عن العقيقة عن إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - :[ وأما عقيقة إبراهيم فهو قول الزبير بن بكار ، ولم يذكر له سنداً . فكيف يجوز الاحتجاج بالقول الذي لا سند له ، ولو كان عقيقة إبراهيم ثابتاً لروي بالأسانيد الصحيحة كما رويت أحاديث الوليمة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدل ذلك أنه ليس بثابت . وصرح الحافظ في الفتح بأنه لم ينقل أحد أنه عق عنه 9/507 وإذا كان كذلك فهو حجة لنا .لأنه لو لم ينتسخ العقيقة لكن إبراهيم أحق بالعقيقة من غيره ، ومما يرد قول الزبير أنه قال : سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومه السابع . وقد روى ابن عبدالبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سماه إبراهيم ليلة ولد وقال : الحديث المرفوع أولى من قول الزبير . وأسنده الطحاوي في مشكله عن ثابت البناني عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( ولد لي الليلة غلام ، فسميته بأبي إبراهيم ) 1/454 رجاله كلهم ثقات وهو متفق عليه . فدل ذلك أن قول الزبير جزاف ولا يلتفت إليه ] (1) .
وأجاب الحنفية على تضعيف الجمهور لحديث علي ( محا ذبح الأضاحي كل ذبح قبله ) [ بأن حديث علي مروي من طريقين ، وإن كان كل واحد منهما ضعيف بانفراده إلا أن بمجموعهما يحصل له قوة ، وإن لم تصل تلك القوة إلى حد يصح به الاحتجاج ، فلا أقل من أن يحصل له قوة يصلح به للاستشهاد وتقوية حديث أبي رافع . ثم قال ابن حجر في الدراية : إنه ضعيف ، فإن عبدالرزاق أخرجه موقوفاً وهذا يدل على أن الضعيف رفعه ، وأما الموقوف فصحيح وهو كاف لنا ] (2) .
أدلة القول الرابع :
لعلهم يحتجون بحديث سَمُرة - رضي الله عنه - وفيه :( تذبح عنه يوم سابعه ) وبحديث عمرو بن شعيب وفيه :( يوم سابعه ) .
وبحديث عائشة رضي الله عنها قالت :( عقَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حسن وحسين يوم السابع وسمَّاهما وأمر أن يماط عن رأسهما الأذى ) . وغير ذلك من الأحاديث .
أدلة القول الخامس :
احتجوا بما يلي :
1. بحديث سلمان بن عامر الضبي قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :( مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً ... ) .
2. وعن سَمُرة أنه عليه الصلاة والسلام قال :( كل غلام مرتهن بعقيقته ... ) .
3. وعن أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال :( مع الغلام عقيقة ... ) (3) .
تمسك هؤلاء بظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -:( مع الغلام ) والغلام اسم الذكر دون الأنثى (4) .
قال الحافظ ابن عبد البر :[ انفرد الحسن وقتادة بقولهما إنه لا يعق عن الجارية بشيء وإنما يعق عن الغلام فقط بشاة ، وأظنهما ذهبا إلى ظاهر حديث سلمان : مع الغلام عقيقة ، وإلى ظاهر حديث سَمُرة :( الغلام مرتهن بعقيقته ) (5) .
قلت : ولم ينفرد الحسن وقتادة بهذا القول بل نقله ابن حزم عن أبي وائل شقيق بن سلمة وهو من فقهاء التابعين حيث قال : لا يعق عن الجارية ولا كرامة ] (6) .
وقال ابن قدامة محتجاً لهؤلاء :[ لأن العقيقة شكر للنعمة الحاصلة بالولد والجارية لا يحصل بها سرور فلا يشرع لها عقيقة ] (7).
وقال الماوردي محتجاً لهم :[ لأن العقيقة السرور ، والسرور يختص بالغلام دون الجارية ] (8) .
والتعليل الذي ذكره الماوردي وابن قدامة مستبعد عن هؤلاء العلماء الأجلاء فكيف لا يحصل بولادة الأنثى سرور للمسلم وهو يعلم أن ذلك بيد الله سبحانه ولقد نعى الله على أهل الجاهلية تشاؤمهم بقدوم الأنثى وأبطل ذلك . قال تعالى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } .سورة النحل الآيتان 58-59 .
فلا يقبل من المسلم أن يتذمر إذا رزق ببنت أو بنات فإن الأمور كلها بيد الله سبحانه وتعالى وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل من ربى البنات وعلمهن وأدبهن وصبر عليهن وأنهن يكن له حجاباً من النار .
مناقشة وترجيح :
بعد إجالة النظر والفكر في أدلة العلماء في هذه المسألة يتضح لي رجحان قول جمهور أهل العلم بأن العقيقة سنة مؤكدة، وليست فرضاً واجباً كما قال الظاهرية ، ولا مكروهة ولا منسوخة ، كما قال بعض الحنفية .
قال الإمام الشافعي :[ أفرط فيها - أي في العقيقة - رجلان قال أحدهما : هي بدعة ، والآخر قال : واجبة ] (9) .
__________
(1) إعلاء السنن 17/120- 121 .
(2) إعلاء السنن 17/120 .
(3) سبق تخريج هذه الأحاديث الثلاثة .
(4) تحفة المودود ص 52 .
(5) فتح المالك 7/107 .
(6) المحلى 6/241 .
(7) المغني 9/460 .
(8) الحاوي الكبير 15/128.
(9) فتح الباري 12/4 .(/20)
والعقيقة كانت معروفةً عند سلف الأمة ويعملون بها ويحافظون على هذه السنة النبوية قال الإمام مالك :[ وليست العقيقة بواجبة ولكنها يستحب العمل بها وهي من الأمر الذي لم يزل عليه الناس عندنا ] (1) .
وقال الإمام أحمد :[ إنها من الأمر الذي لم يزل عليه أمر الناس عندنا ] (2) .
وقال أبو الزناد :[ العقيقة من أمر المسلمين الذي كانوا يكرهون تركه ] (3) .
وقال يحيى الأنصاري :[ أدركت الناس لا يدعون العقيقة عن الغلام وعن الجارية ] (4) .
وقال الثوري :[ ليست العقيقة بواجبة وإن صنعت فحسن ] (5) .
وقال ابن المنذر :[ وهو - أي أمر العقيقة - معمول به بالحجاز قديماً وحديثاً … قال : وانتشر عمل ذلك في عامة بلدان المسلمين متبعين في ذلك ما سنَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : وإذا كان كذلك لم يضر السنة من خالفها وعدل عنها ] (6) .
وقال ابن رشد الجد :[ إن من تركها تهاوناً بها من غير عذر فإنه يأثم كسائر السنن ] (7) .
ومما يؤكد لنا هذا الترجيح :
إن الأدلة التي ساقها الظاهرية ومن وافقهم على وجوب العقيقة مصروفة عن ظاهرها بالنص وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - :( من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك ) فعلق ذلك على المحبة والاختيار فهذه قرينة منصوصة ، صرفت الأمر من الوجوب إلى الندب ، وأحاديثهم محمولة على تأكيد الاستحباب ، جمعاً بين الأخبار .
وأما أدلة الحنفية على كراهيتها أو نسخها فالجواب عنهما بما يأتي :
1. إن الحديث الذي احتج به الحنفية أولاً :( نسخت الأضحية كل دم كان قبلها ...) حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به ، وقد روي هذا الحديث من عدة طرق ذكرها الدارقطني في سننه وبين ضعفها كما يلي :
أ. حدثنا أبي أن محمد بن حرب نا أبو كامل نا الحارث بن نبهان نا عتبة بن يقظان عن الشعبي عن علي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( محا ذبح الأضاحي كل ذبح قبله ... ) هذا الحديث فيه عتبة بن يقظان وهو متروك كما قال الدارقطني (8) ، وقال الحافظ في التقريب : ضعيف (9).
ب. نا محمد بن يوسف بن سليمان الخلال نا الهيثم بن سهل نا المسيب بن شريك نا عبيد المكتب عن عامر عن مسروق عن علي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( نسخ الأضحى كل ذبح ... ) هذه الرواية فيها المسيب بن شريك قال فيه يحيى بن معين :[ ليس بشيء . وقال أحمد : ترك الناس حديثه . وقال مسلم : متروك ] (10). وضعفه الزيلعي أيضاً (11) .
جـ . نا محمد بن عبد الله الشافعي نا محمد بن تمام بن صالح النهراني بحمص نا المسيب بن واضح نا المسيب بن شريك عن عتبة بن يقظان عن الشعبي عن مسروق عن علي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن ونسخ صوم رمضان كل صوم ونسخ غسل الجنابة كل غسل ونسخت الأضاحي كل ذبح ) (12) ، وفيه أيضاً المسيب بن شريك وعتبة بن يقظان وعرفت ما قيل فيهما فلا يحتج بهما . وقال صاحب التعليق المغني على الدارقطني :[ حديث علي مروي من طرق وكلها ضعاف لا يصح الاحتجاج بها ] (13) ، وقال النووي :[ اتفق الحفاظ على ضعفه ] (14) .
وقال الألباني عن هذا الحديث :[ ضعيف جداً . رواه الدارقطني في سننه ص543 من طريق الهيثم بن سهل المسبب بن شريك : نا عبيد المكتب عن عامر عن مسروق عن علي مرفوعاً . وقال : خالفه المسيب بن واضح عن المسيب - هو ابن شريك - وكلاهما ضعيفان ، والمسيب ابن شريك متروك . ثم ساقه من طريق ابن واضح نا المسيب بن شريك عن عتبة بن يقظان عن الشعبي عن مسروق به . وقال : عتبة بن يقظان متروك أيضا ً . ورواه البيهقي 9/261-262 عن ابن شريك بالوجهين . ونقل عن الدارقطني ما سبق من التضعيف الشديد وأقره عليه .
__________
(1) الموطأ 2/ 400 .
(2) عمدة القاري 14/462 .
(3) طرح التثريب 5/206 ، وانظر المجموع 8/ 447.
(4) طرح التثريب 5/206 ، وانظر المجموع 8/ 447.
(5) فتح المالك 7/105.
(6) المجموع 8/ 447 .
(7) مواهب الجليل 4/390 .
(8) سنن الدارقطني 4/281 ، التعليق المغني على الدارقطني 4/278 .
(9) التقريب ص232 .
(10) التعليق المغني على الدارقطني 4/279 .
(11) نصب الراية 4/208.
(12) سنن الدارقطني 4/281 .
(13) التعليق المغني على الدارقطني 4/278 .
(14) المجموع 8/386 .(/21)
ومن آثار هذا الحديث السيئة أنه صرف جماً غفيراً من هذه الأمة . عن سنة صحيحة مشهورة ، ألا وهي العقيقة ، وهي الذبح عن المولود في اليوم السابع ، عن الغلام شاتين وعن الأنثى شاةً واحدةً ، وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة تراجع في كتاب تحفة الودود في أحكام المولود للعلامة ابن القيم ، اجتزئ هنا بإيراد واحد منها وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - :( مع الغلام عقيقة ، فأهريقوا عنه دماً ) رواه البخاري 9/486 . وغيره من حديث سلمان بن عامر الضبي مرفوعاً . لقد ترك العمل بهذا الحديث الصحيح وغيره مما في الباب حتى لا تكاد تسمع في هذه البلاد وغيرها أن أحداً من أهل العلم والفضل – دع غيرهم – يقوم بهذه السنة! ولو أنهم تركوها إهمالاً كما أهملوا كثيراً من السنن الأخرى لربما هانت المصيبة، ولكن بعضهم تركها إنكاراً لمشروعيتها ! لا لشيء إلا لهذا الحديث الواهي ! فقد استدل به بعض الحنفية على نسخ مشروعية العقيقة ! فإلى الله المشتكى من غفلة الناس عن الأحاديث الصحيحة ، وتمسكهم بالأحاديث الواهية الضعيفة ] (1) .
وأجاب ابن حزم عن احتجاجهم بنسخ الأضحى كل ذبح قبله بقوله :[ واحتج من لم يرها واجبة برواية واهية عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين :( نسخ الأضحى كل ذبح كان قبله ) وهذا لا حجة فيه لأنه قول محمد بن علي ، ولا يصح دعوى النسخ إلا بنص مسند إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] (2) .
وقال الإمام أحمد في الأحاديث المعارضة لأحاديث العقيقة :[ ليست بشيء ولا يعبأ بها ] (3) .
وادعاء الحنفية بأن الأضحية نسخت العقيقة باطل لأن الأضحية شرعت في السنة الثانية للهجرة وعق النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن والحسين في السنتين الثالثة والرابعة ، وحديث أم كرز في العقيقة كان عام الحديبية وهي في السنة السادسة للهجرة والعقيقة عن إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت سنة ثمان للهجرة ، فكيف ينسخ المتقدم المتأخر وهذا باطل (4) .
وقال الحافظ ابن عبد البر :[ ليس ذبح الأضحى بناسخ للعقيقة عند جمهور العلماء ولا جاء في الآثار المرفوعة ولا عن السلف ما يدل على ما قال محمد بن الحسن ولا أصل لقوله في ذلك ] (5) .
وأما احتجاج الحنفية بحديث :( لا يحب الله العقوق ) فلا دلالة فيه على كراهة العقيقة لأن بقية الحديث تثبتها وهي :( من ولد له فأحب أن ينسك عن ولده فلينسك ) .
قال البغوي :[ وليس هذا الحديث عند العامة على توهين أمر العقيقة ولكنه - صلى الله عليه وسلم - كره تسميتها بهذا الاسم على مذهبه في تغيير الاسم القبيح إلى ما هو أحسن منه فأحب أن يسميها بأحسن منها من نسيكة أو ذبيحة أو نحوها ] (6) .
وأما الجواب عن احتجاجهم بحديث :( لا تعقي ) ، فما قاله الحافظ العراقي في شرح الترمذي يحمل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عق عنه ثم استأذنته فاطمة أن تعق هي عنه أيضاً فمنعها .
وقال الحافظ ابن حجر :[ ويحتمل أن يكون منعها لضيق ما عندهم حينئذ فأرشدها إلى نوع من الصدقة أخف ، ثم تيسر له عن قرب ما عق به عنه ] (7) .
وقال ابن القيم :[ ولو صح قوله ( لا تعقي ) عنه لم يدل ذلك على كراهية العقيقة لأنه عليه الصلاة والسلام أحب أن يتحمل عنها العقيقة فقال لها :( لا تعقي ) وعق هو عليه الصلاة والسلام عنهما وكفاهما المؤنة ] (8) .
وقال الشوكاني :[ قوله :( لا تعقي ) قيل يحمل هذا على أنه قد كان- صلى الله عليه وسلم - عق عنه ، وهذا متعين ] (9) .
هذا هو الظاهر لأن الأحاديث قد ثبتت ثبوتاً لا مجال للشك فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين فحصل أصل السنة بعق الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنهما ولا داع لأن تعق فاطمة عنهما مرة ثانية . والله أعلم .
ولا بد أن أذكر أن بعض علماء الحنفية لم يتعصب لمذهبه بل خالف المذهب اعتماداً على ما صح من الأحاديث والآثار في إثبات مشروعية العقيقة ومن هؤلاء المنصفين العلامة أبو الحسنات اللكنوي حيث قال معلقاً على قول محمد بن الحسن بنسخ العقيقة ( وإن أريد أنها كانت في الجاهلية مستحبة أو مشروعة ، فلما جاء الإسلام رفض استحبابها وشرعيتها فهو غير مسلم ، فهذه كتب الحديث مملوءة من أحاديث شرعية العقيقة واستحبابها …) (10) .
وأما ما احتج به أصحاب القول الرابع فلا حجة فيه لأنه جمود على ظاهر النصوص التي جعلت العقيقة في اليوم السابع فقط .
__________
(1) السلسلة الضعيفة 2/304-305 .
(2) المحلى 6/241 .
(3) تحفة المودود ص 37 .
(4) انظر التعليق المغني على الدارقطني 4/279-280 .
(5) الاستذكار 15/373 .
(6) شرح السنة 1/263-264 .
(7) فتح الباري 12/13 .
(8) تحفة المودود ص 37-38 .
(9) نيل الأوطار 5/155 .
(10) التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل ص 823 الحاشية .(/22)
وأما ما احتج به أصحاب القول الخامس على عدم مشروعية العقيقة عن الأنثى فترده الأحاديث الثابتة في ذلك كحديث أم كرز وعائشة وأسماء ، ولعل هذه الأحاديث لم تبلغهم . والله أعلم .
المبحث السابع
شروط العقيقة
وفيه مطلبان :
المطلب الأول : هل يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية ؟
يرى جمهور أهل العلم أنه يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية ، من حيث كونها من الأنعام ومن حيث السن ومن حيث السلامة من العيوب ، قال الإمام مالك :[ إنما هي بمنزلة النسك والضحايا لا يجوز فيها عوراء ولا عجفاء ولا مكسورة ولا مريضة ] (1) .
وقال الإمام الترمذي :[ وقالوا لا يجزئ في العقيقة من الشاء إلا ما يجزئ في الأضحية ] (2) .
وقال ابن قدامة :[ وجملته أن حكم العقيقة حكم الأضحية في سنها ] (3) .
وقال ابن رشد :[ وأما سن هذا النسك وصفته فسن الضحايا وصفتها الجائزة ] (4) .
وقال النووي :[ المجزئ في العقيقة هو المجزئ في الأضحية فلا تجزئ دون الجذعة من الضأن أو الثنية من المعز والإبل والبقر هذا هو الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور وفيه وجه حكاه الماوردي وغيره أنه يجزئ دون جذعة الضأن وثنية المعز والمذهب الأول ] (5).
والوجه الذي حكاه الماوردي نصره الشوكاني وقال إنه الحق ، فقال :[ هل يشترط فيها ما يشترط في الأضحية ؟ وفيه وجهان للشافعية . وقد استدل بإطلاق الشاتين على عدم الاشتراط وهو الحق ، لكن لا لهذا الإطلاق ، بل لعدم ورود ما يدلّ ههنا على تلك الشروط والعيوب المذكورة في الأضحية ، وهي أحكام شرعية لا تثبت بدون دليل . وقال المهدي في البحر : مسألة الإمام يحيى : ويجزئ عنها ما يجزئ أضحية بدنة أو بقرة أو شاة ، وسنها وصفتها ، والجامع التقرّب بإراقة الدم انتهى . ولا يخفى أنه يلزم على مقتضى هذا القياس أن تثبت أحكام الأضحية في كل دم متقرب به ، ودماء الولائم كلها مندوبة عند المستدل بذلك القياس ، والمندوب متقرب به ، فيلزم أن يعتبر فيها أحكام الأضحية . بل روي عن الشافعي في أحد قوليه أن وليمة العرس واجبة . وذهب أهل الظاهر إلى وجوب كثير من الولائم ، ولا أعرف قائلاً يقول بأنه يشترط في ذبائح شيء من هذه الولائم ما يشترط في الأضحية ، فقد استلزم هذا القياس ما لم يقل به أحد ، وما استلزم الباطل باطل ] (6) ، و إلى هذا ذهب ابن حزم فلم يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية فقال :[ ويجزئ المعيب سواء كان مما يجوز في الأضاحي أو كان مما لا يجوز فيها ، والسالم أفضل ] (7) . والقول بأنه يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية هو الراجح والأقوى .
المطلب الثاني شروط العقيقة :
وبناءً على ما سبق قال جمهور العلماء يشترط في العقيقة ما يلي :
الشرط الأول : أن تكون العقيقة من الأنعام وهي الضأن والمعز والإبل والبقر ولا تصح العقيقة بغير هذه الأنواع كالأرنب والدجاجة والعصفور وهذا قول جماهير أهل العلم من الفقهاء والمحدثين وغيرهم (8) .
قال الحافظ ابن عبد البر:[ وقد أجمع العلماء أنه لا يجوز في العقيقة إلا ما يجوز في الضحايا من الأزواج الثمانية ، إلا من شذ ممن لا يعد خلافاً ] (9) .
وخالف ابن حزم الظاهري فخص العقيقة بالغنم فقط – الضأن والماعز – ومنع جوازها بالبقر والإبل فقال:[ ولا يجزئ في العقيقة إلا ما يقع عليه اسم الشاة إما من الضأن وإما من الماعز فقط ولا يجزئ في ذلك من غير ما ذكرنا لا من الإبل ولا من البقر الإنسية ولا من غير ذلك ] (10) ، ونقل هذا القول عن حفصة بنت عبدالرحمن بن أبي بكر وهو رواية عن الإمام مالك وهو قول أبي إسحاق بن شعبان من المالكية والبندنيجي من الشافعية حيث نقل عنه ابن السبكي ذلك :[ قال أبو نصر البندنيجي في المعتمد : ليس للشافعي نص في غير الغنم في العقيقة وعندي لا يجزئ غيرها ] (11) .
واحتج هؤلاء بظاهر الأحاديث التي ذكر فيها لفظ الشاة والكبش كحديث ابن عباس رضي الله عنهما:( عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً ) ، وكحديث أم كرز رضي الله عنها:( عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة ) قالوا لفظ الشاة يطلق على الواحدة من الضأن والمعز .
قال ابن حزم :[ واسم الشاة يقع على الضائنة والماعز بلا خلاف ] (12) .
__________
(1) الموطأ 2/400 .
(2) سنن الترمذي مع شرحه التحفة 6/ 96 .
(3) المغني 9/369 .
(4) بداية المجتهد 1/377 .
(5) المجموع 8/429 .
(6) نيل الأوطار 5/156 وانظر سبل السلام 4/1362.
(7) المحلى 6/234 .
(8) انظر المجموع 8/448 ، شرح الخرشي 3/47 ، بداية المجتهد 1/376 ، كفاية الأخيار 535 ، فتح الباري 12/ 10.
(9) الاستذكار 15/383 .
(10) المحلى 6/234 .
(11) طبقات الشافعية الكبرى 4/207 ، وانظر شرح السنة 11/264 ، المنتقى 4/202-203، المجموع 8 /448 ، طرح التثريب 5/208 ، فتح الباري 12/10 ، الفتح الرباني 13/125 .
(12) المحلى 6/237 .(/23)
واحتج ابن حزم أيضاً بما رواه بسنده عن يوسف بن ماهك أنه دخل على حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر وقد ولدت للمنذر بن الزبير فقلت لها :[ هلا عققت جزوراً عن ابنك قالت : معاذ الله كانت عمتي عائشة تقول على الغلام شاتان وعلى الجارية شاة ] (1) .
وروى مالك بسنده عن إبراهيم التيمي أنه قال :[ تستحب العقيقة ولو بعصفور ] (2) .
قال الحافظ ابن عبد البر :[ وليس في هذا الخبر أكثر من استحباب العقيقة … وأما قوله ولو بعصفور فإنه كلام خرج على التقليل والمبالغة كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر - رضي الله عنه - في الفرس :( ولو أعطاكه بدرهم ) وكما قال في الأمة إذا زنت :( بعها ولو بضفير ) (3) .
وقال الباجي :[ قوله ( يستحب العقيقة ولو بعصفور ) قال ابن حبيب : ليس يريد أن يجزي العصفور وإنما أراد بذلك تحقيق استحباب العقيقة وأن لا تترك وإن لم تعظم فيها النفقة .
وقد روى ابن عبد الحكم عن مالك : لا يعق بشيء من الطير ولا الوحش . ووجه أن العقيقة نسك يتقرب به فلم يجز من غير بهيمة الأنعام كالأضحية والهدي ] (4) .
وأما الجمهور فيمكن الاحتجاج لهم بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :( مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً ) ولم يذكر دماً فما ذبح عن المولود على ظاهر هذا الخبر يجزئ .
ويمكن أن يستدل للجمهور بإجزاء الإبل والبقر بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :( من ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل ) فالنبي - صلى الله عليه وسلم - سماه نسكاً وهو يعم الإبل والبقر والغنم (5) .
وقال الحافظ ابن حجر :[ والجمهور على إجزاء الإبل والبقر أيضاً وفيه حديث عند الطبراني وأبي الشيخ عن أنس رفعه ( يعق عنه من الإبل والبقر والغنم ) ] (6) ، ولم يتكلم الحافظ على الحديث السابق بشيء .
ويستدل للجمهور بما روي في الحديث عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:( من ولد له غلام ، فليعق عنه من الإبل والبقر والغنم ) . رواه الطبراني في المعجم الصغير بسند ضعيف ورواه ابن حبان في الأضاحي بسند حسن كما قال العراقي ، وقال الهيثمي : رواه الطبراني في الصغير وفيه كذاب (7) . وأشار التهانوي إلى أن الحديث ضعيف .
ولعل الأصح في الاحتجاج لقول الجمهور هو قياس العقيقة على الأضحية والهدي كما ذهب إليه كثير من العلماء ، قال الإمام مالك :[ وإنما هي - العقيقة - بمنزلة النسك والضحايا ] (8)، وأشار إليه النووي وابن قدامة وغيرهما (9) .
وكذلك نقل عن جماعة من السلف جواز العقيقة من الإبل والبقر فعن قتادة :( أن أنس بن مالك كان يعق عن بنيه الجزور ) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح قاله الهيثمي (10) .
وعن أبي بكرة أنه نحر عن ابنه عبد الرحمن جزوراً فأطعم أهل البصرة (11) .
وأما ادعاء ابن حزم بأن ذكر الشاة في الأحاديث يعني عدم جواز أن تكون العقيقة من الإبل والبقر فمردود ، لأن الأحاديث لا تحصر العقيقة في الشياه وإنما ذلك على سبيل التمثيل ولأنه المتيسر للناس أكثر من الإبل والبقر واعتاد الناس على ذبح الشياه أكثر من الإبل والبقر (12) .
قال الشوكاني :[ ولا يخفى أن مجرد ذكرها - الشاة - لا ينفي إجزاء غيرها ] (13) ، هذا من جهة ومن جهة أخرى لا نسلم أن لفظ الشاة خاص بالضأن والمعز ، صحيح أنه المشهور في ذلك ولكن ورد في اللغة إطلاق الشاة على البقر وغيرها ، قال ابن منظور :[ والشاة الواحد من الغنم تكون للذكر والأنثى وقيل الشاة تكون من الضأن والمعز والظبا والبقر والنعام وحمر الوحش ] (14) .
وخلاصة القول أنه يجوز أن تكون العقيقة من الضأن والمعز والإبل والبقر كما قال الجمهور . ولا تصح العقيقة بغيرها كالعصفور والدجاجة .
الشرط الثاني : أن تكون العقيقة سليمة من العيوب وهذا مذهب جمهور أهل العلم (15).
__________
(1) المحلى 6/236 ، تحفة المودود ص 56 .
(2) المنتقى 4/202 .
(3) الاستذكار 15/383 .
(4) المنتقى 4/202 .
(5) انظر إعلاء السنن 17/129 –130 .
(6) فتح الباري 12/10 .
(7) طرح التثريب 5/209 ، مجمع الزوائد 4/58 ، إعلاء السنن 17/128-129 .
(8) الموطأ 2/400 .
(9) المجموع 8/429 ، المغني 9/463 ، مجمع الزوائد 4/59 ، وانظر الفتح الرباني 13/124 ، تحفة المودود ص 65 ، شرح السنة 11/264 .
(10) مجمع الزوائد 4/59 ، وانظر الفتح الرباني 13/124 ، تحفة المودود ص 65 ، شرح السنة 11/264 .
(11) مجمع الزوائد 4/59 ، وانظر الفتح الرباني 13/124 ، تحفة المودود ص 65 ، شرح السنة 11/264 .
(12) أحكام الذبائح ،ص177 .
(13) نيل الأوطار 5/156 .
(14) لسان العرب 7/244 .
(15) المجموع 8/429-430 ، المغني 9/463 ، شرح السنة 11/267 ، حاشية العدوي على شرح الخرشي3/47 ، بداية المجتهد 1/377 ،كفاية الأخيار ص 535 ، تحفة المودود ص 63 .(/24)
قال الحافظ ابن عبد البر:( على هذا جمهور الفقهاء أنه يجتنب في العقيقة من العيوب ما يجتنب في الأضحية ) (1) .
والمقصود بالعيوب هي ذاتها التي تمنع الإجزاء في الأضحية كما نص عليه كثير من أهل العلم .
قال الإمام مالك :[ وإنما هي - العقيقة - بمنزلة النسك والضحايا لا يجوز فيها عوراء ولا عجفاء ولا مكسورة القرن ولا مريضة ... ] (2) .
ونقل الإمام الترمذي عن أهل العلم قولهم [ لا يجزئ في العقيقة من الشاة إلا ما يجزئ في الأضحية ] (3) .
وقال الخرقي :[ ويجتنب فيها من العيب ما يجتنب في الأضحية ] . وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً كلام الخرقي :[ وجملته أن حكم العقيقة حكم الأضحية في سنها وأنه يمنع فيها من العيب ما يمنع فيها ، ويستحب فيها من الصفة ما يستحب فيها ، وكانت عائشة تقول :[ ائتوني به أعين أقرن ] ، وقال عطاء :[ الذكر أحب إليَّ من الأنثى والضأن أحب من المعز ] فلا يجزئ فيها أقل من الجذع من الضأن والثني من المعز ولا يجوز فيها العوراء البين عورها والعرجاء البين ظلعها ، والمريضة البين مرضها . والعجفاء التي لا تنقي والعضباء التي ذهب أكثر من نصف أذنها أو قرنها وتكره فيها الشرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة ويستحب استشراف العين والأذن كما ذكرنا في الأضحية سواء لأنها تشبهها فتقاس عليها ] (4) .
وقال أبو إسحاق الشيرازي :[ ولا يجزئ إلا السليم من العيوب لأنه إراقة دم بالشرع فاعتبر فيه ما ذكرناه كالأضحية ] (5) .
وبناءً على ذلك لا يجزئ في العقيقة العرجاء البين عرجها ، ولا العوراء البين عورها ، ولا المريضة البين مرضها ، ولا العجفاء الهزيلة ، ولا العمياء ، ولا الكسيرة ، ولا الكسيحة ، وهذه العيوب ذكرت في حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - الوارد في الأضحية وفيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( أربع لا تجوز في الأضاحي : العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين عرجها والكسير التي لا تنقي ) . قال : - أي الراوي عن البراء وهو عبيد بن فيروز - : قلت : فإني أكره النقص في السن . قال : - أي البراء - : ما كرهت فدعه ولا تحرمه على أحد ] رواه أصحاب السنن الأربعة ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم . وصححه الشيخ الألباني (6) . والكسير التي لا تنقي هي التي لا تقوم ولا تنهض من الهزال .
ولا يجزئ في العقيقة - كما في الأضحية - ما كان من العيوب أشد مما ذكر في حديث البراء ، قال الحافظ ابن عبد البر :[ أما العيوب الأربعة المذكورة في هذا الحديث فمجتمع عليها لا أعلم خلافاً بين العلماء فيها ومعلوم أن ما كان في معناها داخل فيها ولا سيما إذا كانت العلة فيها أبين ، ألا ترى أن العوراء إذا لم تجز فالعمياء أحرى ألا تجوز ، وإذا لم تجز العرجاء فالمقطوعة الرِجل أو التي لا رِجل لها المقعدة أحرى أن لا تجوز ، وهذا كله واضح لا خلاف فيه ] (7) .
والعقيقة قربة يتقرب بها العبد إلى الله سبحانه وتعالى فينبغي أن تكون سليمة من العيوب سمينة طيبة فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً .
وخالف ابن حزم فأجاز المعيبة ولم يشترط سلامة العقيقة من العيوب وإن كان الأفضل عنده هو السلامة من العيوب فقال :[ ويجزئ المعيب سواء كان مما يجوز في الأضحية أو كان مما لا يجوز فيها والسالم أفضل ](8).
ووافق الشوكانيُّ ابنَ حزمٍ في عدم اشتراط شروط الأضحية في العقيقة فقال :[ هل يشترط فيها ما يشترط في الأضحية ؟ وفيه وجهان للشافعية ، وقد استدل بإطلاق الشاتين على عدم الاشتراط وهو الحق ، لكن لا لهذا الإطلاق ، بل لعدم ورود ما يدل ههنا على تلك الشروط والعيوب المذكورة في الأضحية ، وهي أحكام شرعية لا تثبت بدون دليل ] (9) .
وقول الجمهور أقوى وأولى وقد ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول :( ائتوني به أعين أقرن ).
الشرط الثالث : أن تتوافر الأسنان المطلوبة في العقيقة كما هو الحال في الأضحية فلا تجوز العقيقة بالغنم إلا إذا أتمت الشاة سنة من عمرها ، ويجب أن تتم البقرة سنتين من عمرها والإبل أن تتم خمساً من عمرها ، وهذا القول بناء على إلحاق العقيقة بالأضحية وعليه جمهور أهل العلم (10) .
__________
(1) الاستذكار 15/384 وانظر فتح المالك 7/109 .
(2) الموطأ 2/400 .
(3) سنن الترمذي 4/86 .
(4) المغني 9/463 .
(5) المهذب مع المجموع 8/ 427 .
(6) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 7/357-358 ، سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/67 ، سنن النسائي 7/214 ، سنن ابن ماجة 2/1050 ، إرواء الغليل 4/361 .
(7) فتح المالك 7/6 .
(8) المحلى 6/234 .
(9) نيل الأوطار 5/156 .
(10) التاج والإكليل 4/390 ،الحاوي 15/128 ، طرح التثريب 5/208 ، المفصل في أحكام الأضحية ص 50 فما بعدها .(/25)
نقل الخلال في الجامع أن الإمام أحمد قال :[ وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :( من ولد له فأحب أن ينسك عنه فليفعل ) فالدليل على أنه إنما يجزئ فيها ما يجزئ في النسك سواء من الضحايا والهدايا ولأنه ذبح مسنون إما واجباً وإما استحباباً يجري مجرى الهدي والأضحية في الصدقة والهدية والأكل والتقرب إلى الله فاعتبر فيها السن الذي يجزئ فيهما ولأنه شرع بوصف التمام والكمال ولهذا شرع في حق الغلام شاتان وشرع أن تكونا متكافئتين لا ينقص أحدهما عن الأخرى فاعتبر أن يكون سنهما سن الذبائح المأمور بها ولهذا جرت مجراها في عامة أحكامها ](1).
وقال الماوردي :[ وهي من النعم كالضحايا وفي أسنانها من الجذع من الضأن والثني من المعز ، فإن عدل عن الغنم إلى البدن من الإبل والبقر كان أزيد من المسنون وأفضل ، وإن عق دون الجذع من الضأن ودون الثني من المعز ففي إقامته لسنة العقيقة به وجهان : أحدهما : لا تقوم به سنة العقيقة اعتباراً بالأضحية وتكون ذبيحة لحم ليست بعقيقة لأنهما مسنونتان ، وقد قيد الشرع سن إحداهما فتقرر به السن فيهما ، فعلى هذا لو عين العقيقة في شاة وأوجبها وجبت كالأضحية ولم يكن له أن يبدلها بغيرها ويجب أن يتصدق منها على الفقراء لحماً نيئاً ولا يخص بها الأغنياء . والوجه الثاني : أنه يقوم بما دون من الأضحية سنة العقيقة ، لأن الأضحية أوكد منها لتعلقها بسبب راتب واحد عام، فجاز أن تكون في السن أغلظ منها ] (2) .
قال ابن قدامة المقدسي :[ وجملته أن حكم العقيقة حكم الأضحية في سنها ] (3) .
وقال ابن رشد القرطبي :[ وأما سن هذا النسك وصفته فسن الضحايا وصفتها الجائزة ] (4) .
وقال الإمام النووي :[ المجزئ في العقيقة هو المجزئ في الأضحية فلا تجزئ دون الجذعة من الضأن أو الثنية من المعز والإبل والبقر هذا هو الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور ، وفيه وجه حكاه الماوردي وغيره أنه يجزئ دون جذعة الضأن وثنية المعز والمذهب الأول ] (5) .
وقد رجح الحافظ ابن حجر ما صححه النووي فقال :[ واستدل بإطلاق الشاة والشاتين على أنه يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية وفيه وجهان للشافعية وأصحهما يشترط وهو بالقياس لا بالخبر ] (6).
وقال ابن الحاج المالكي :[ وحكمها حكم الأضحية في السن والسلامة من العيوب ] (7) .
وقال ابن حبيب من المالكية :[ سنها واجتناب عيوبها ومنع بيع شيء منها مثل الأضحية الحكم واحد ] (8) .
المبحث الثامن
ما هو الأفضل في العقيقة ؟
العقيقة قربة يتقرب بها العبد إلى ربه عز وجل فينبغي أن تكون أطيب ما تكون من حيث السلامة من العيوب وبلوغ السن المطلوب شرعاً كما سبق وكذلك ينبغي استسمانها واستعظامها واستحسانها وأن تكون خالية من كل ما تنفر منه الطباع السليمة .
وقد ورد في الحديث عن أم كرز الكعبية رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ) .
قال أبو داود :[ سمعت أحمد قال : مكافئتان مستويتان أو متقاربتان ] (9)، ووقع في رواية أخرى لحديث أم كرز ( مثلان ) رواه أبو داود أيضاً .
ولا بأس أن تكون العقيقة من الذكور أو الإناث لما في حديث أم كرز :( لا يضركم أذكراناً كن أم إناثاً ) .
والذكر أفضل إذا كان أسمن وأطيب ولأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين بالكباش ، قال الحافظ العراقي : ( اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - في عقيقة ولديه الأكمل وهو الضأن والذكورة ) (10) .
والأفضل في لونها البياض قياساً على الأضحية . وقالت عائشة :( ائتوني به أعين أقرن ) (11) ، وأعين أي واسع العينين ضخمهما (12) .
ونقل البيهقي عن عطاء أن الضأن أحب إليه من المعز والذكور أحب إليه من الإناث (13) .
وورد عن الإمام أحمد أنه سئل عن العقيقة :[ تجزئ بنعجة أو حمل كبير ؟ قال : فحلٌ خير ](14).
واختلف العلماء في الأفضل من هذه الأنواع :
فقال الشافعية في الأصح عندهم وبعض المالكية إن البدنة أفضل ثم البقرة ثم جذعة الضأن ثم ثنية المعز ، قالوا لأنها نسك فوجب أن يكون الأعظم فيها أفضل قياساً على الهدايا (15) .
__________
(1) تحفة المودود ص 63 .
(2) الحاوي الكبير 15/128.
(3) المغني 9/369 .
(4) بداية المجتهد 1/377 .
(5) المجموع 8/429 .
(6) فتح الباري 12/10 .
(7) المدخل 3/277 .
(8) التاج والإكليل 4/390 .
(9) عون المعبود 8/25 .
(10) طرح التثريب 5/208 ،215 .
(11) المغني 9/460 ، الفتح الرباني 13/121 ، عون المعبود 8/27 ، فتح الباري 6/9 .
(12) لسان العرب 9/505 .
(13) سنن البيهقي 9/301 .
(14) تحفة المودود ص 63 .
(15) المجموع 8/ 430 ، بداية المجتهد 1/376 ، والهدايا جمع هدي .(/26)
وقال الإمام مالك :[ الضأن أفضلها ثم المعز أحب إليه من الإبل والبقر لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( عق عن الحسن والحسين بشاة شاة ) ]. وهذا وجه آخر للشافعية وهو الأرجح لأنه الثابت بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله (1).
ونقل هذا القول عن بعض السلف فقد روى الحاكم بإسناده عن عطاء عن أم كرز وأبي كرز قالا : نذرت امرأة من آل عبد الرحمن بن أبي بكر إن ولدت امرأة عبد الرحمن نحرنا جزوراً فقالت عائشة رضي الله عنها : لا بل السنة أفضل، عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ، تقطع جدولاً ولا يكسر لها عظم، فيأكل ويطعم ويتصدق ، وليكن ذاك يوم السابع ، فإن لم يكن ففي أربعة عشر، فإن لم يكن ففي إحدى وعشرين ) قال الحاكم : صحيح الإسناد (2) .
وروى ابن حزم بسنده عن يوسف بن ماهك أنه دخل على حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر وقد ولدت للمنذر بن الزبير فقلت لها :[ هلا عققت جزوراً عن ابنك قالت : معاذ الله كانت عمتي عائشة تقول على الغلام شاتان وعلى الجارية شاة ] (3) .
المبحث التاسع
في حق من تشرع العقيقة ؟
وهل العقيقة أفضل من التصدق بثمنها أم لا ؟
وفيه مطلبان :
المطلب الأول : في حق من تشرع العقيقة ؟
العقيقة من السنن الثابتة عن النبي- صلى الله عليه وسلم - كما سبق وإن إحياء السنن أمر مطلوب من المسلم فينبغي المحافظة على هذه السنة في حق كل من كان مستطيعاً لها ، فالأفضل لمن أراد العقيقة أن يكون مستطيعاً فإذا كانت الواجبات الشرعية كالحج قد اشترط فيها الاستطاعة فمن باب أولى السنن (4).
وقال بعض أهل العلم إنها مشروعة في حق الفقير الذي لا يملك ثمنها ، بل إن الإمام أحمد يرى أنه يستحب للمسلم إن كان معسراً أن يستقرض ويشتري عقيقة ويذبحها إحياءً للسنة ، وقد ورد عنه عدة نصوص في هذه المسألة منها :
1. نقل الخلال في رواية أبي الحارث وقد سئل عن العقيقة إن استقرض ، قال أحمد :[ رجوت أن يخلف الله عليه ، أحيا سنة ].
2. وقال له صالح ابنه :[ الرجل يولد له وليس عنده ما يعق أحب إليك أن يستقرض ويعق عنه أم يؤخر ذاك حتى يوسر ؟ قال : أشد ما سمعنا في العقيقة حديث الحسن عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :( كل غلام مرتهن بعقيقته ) وإني لأرجو إن استقرض أن يعجل الله الخلف لأنه أحيا سنة من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتبع ما جاء عنه (5) .
وعقب ابن المنذر على هذه الروايات بقوله :[ صدق أحمد إحياء السنن واتباعها أفضل وقد ورد فيها من الأخبار التي رويناها ما لم يرد في غيرها ولأنها ذبيحة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها فكانت أولى كالوليمة والأضحية ] (6) .
وقال ابن القيم معقباً على كلام الإمام أحمد ما نصه :[ وهذا لأنه سنة ونسيكة مشروعة بسبب تجدد نعمة الله على الوالدين وفيها سر بديع موروث عن فداء إسماعيل بالكبش الذي ذبح عنه وفداه الله به فصار سنة في أولاده بعده أن يفدي أحدهم عند ولادته كما كان ذكر اسم الله عليه عند وضعه في الرحم حرزاً له من ضرر الشيطان ... ] (7) .
وقال الإمام النووي :[ فعل العقيقة أفضل من التصدق بثمنها عندنا ، وبه قال أحمد وابن المنذر ] (8) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ ومن عدم ما يضحي به ويعق اقترض وضحى وعق مع القدرة على الوفاء ] (9) .
وقال ابن الحاج المالكي :[ وقد قال علماؤنا رحمة الله عليهم فيمن كان له ثوب للجمعة ولا فضل عنده غيره :فإنه يبيعه حتى يضحي ، فكذلك يبيعه حتى يعق عن ولده ، وكذلك قالوا : أنه يتداين للأضحية فكذلك يتداين للعقيقة سواء بسواء ] (10) .
__________
(1) الموطأ 2/400 ، المنتقى 4/202 ، المجموع 8/430 ، كفاية الأخيار ص 535 .
(2) المستدرك 5/338.
(3) المحلى 6/236 .
(4) انظر الشرح الممتع 7/536 ، وقد سبق أن الظاهرية يرون وجوبها ويجبر الإنسان عليها إذا فضل له عن قوته مقدارها . المحلى 6/234 .
(5) تحفة المودود ص 50-51 .
(6) المغني 9/460 .
(7) تحفة المودود ص51 .
(8) المجموع 8/433 .
(9) الاختيارات ص 71 وانظر الإنصاف 4/110 ، الفروع 3/564.
(10) المدخل 3/229(/27)
وينبغي أن يعلم أن كثيراً من الناس ينفقون نفقات باهظة عند الولادة في شراء الملابس والحلويات وغيره ويقيمون حفلات عيد الميلاد المحرمة شرعاً ويبخلون عن العقيقة فلا يعقون عن أولادهم ، ويظهر أن تباخل الناس بالعقيقة قديم فقد قال ابن الحاج المالكي :[ ثم العجب ممن يدعي الفقر منهم ويعتل به على ترك سنة العقيقة ، ويتكلف لبعض العوائد التي أحدثوها ما يزيد على ثمن العقيقة الشرعية . فمن ذلك ما يفعله بعضهم في اليوم السابع من عمل الزلابية أو شرائها وشراء ما تؤكل به ما ثمنه أضعاف ما يفعل به العقيقة الشرعية . هذا ما يفعله بعضهم في اليوم السابع مع وجود النفقة الكثيرة فيه لغير معنى شرعي ، بل للبدعة والظهور والقيل والقال . وبعضهم يفعل ذلك أيضاً في اليوم الثاني من الولادة . وبعضهم يفعل ذلك في اليوم السابع ، وفي اليوم الثاني والثالث من الولادة . وبعضهم يقتصر على أحدهما ويعتلون في ذلك بكونهم لا يقدرون على العقيقة والعقيقة الشرعية ثمنها أيسر وأخف من ذلك ، بل لو اقتصر على ترك ما أحدثوه في العصيدة من البدعة لكان فيه ثمن العقيقة الشرعية وزيادة ، لأن العصيدة لا يحتاج إليها إلا النفساء وحدها فزبدية واحدة أو دونها تكفيها وهم يعملون العصيدة ويشترون ما تؤكل به ويفرقون ذلك على الأهل والجيران والمعارف ، وهذا شيء لم يتعين عليهم ولم يندبهم الشرع إليه وإن كان إطعام الطعام مندوباً إليه في الشرع الشريف ، لكن ما لم يعارض ذلك ترك سنة وهم لو اشتروا بثمن العصيدة وما تؤكل به ما يعق به على الوجه الشرعي ، لكان فيه الكفاية وزيادة . ثم يزيدون مع ذلك ما يتخذونه من النُّقل ليلة السابع ويفرقونه في يومه كما تقدم بيانه . وهذا في حق الفقير منهم . ومنهم من يعوض عن النُّقل المذكور حلاوة على صفة معلومة تشبه النُّقل ، يسمونها بالمغزدرات وبعضهم يسمونها بالنثور ، وذلك من باب السرف والبدعة ومحبة الظهور والخيلاء وترك السنن والاهتبال بأمرها واغتنام بركتها . ثم مع ذلك زادوا عادة ذميمة وهو أنهم لا بد أن يجددوا كسوة لأهل البيت ، كذلك كل ما يحتاج إليه البيت حتى الحصير لا بد من تجديدها إلى غير ذلك مما اعتادوه . فانظر رحمنا الله تعالى وإياك ، إلى صرف هذه النفقات وكثرتها وتشعبها ثم إنهم مع ذلك يعتلون لترك العقيقة الشرعية بعدم القدرة عليها . وبعضهم يتداين لتلك العوائد ولبعضها ويعتلون بأن العقيقة لا تجب عليهم ، فلا يشغلون ذمتهم بالدين لأجلها ويشغلون ذمتهم بالدين لأجل تلك العوائد ، عكس ما يندبون إليه ويطلب منهم في الشرع الشريف . ثم إن التداين لأجل العقيقة الشرعية يخلف على المنفق عليها وييسر عليه وفاء دينها كالأضحية لبركة امتثال السنة فيها ، وكذلك في جميع أمور الامتثال ولا شك أن الشيطان اللعين ألقى إليهم ذلك حتى يحرمهم بركة امتثال السنة ، لأجل أن فعلها بركة وخير وغنيمة وهي بالنسبة إلى ما يكلفهم من العوائد يسيرة النفقة ، وفيها الثواب الجزيل وفي العوائد ضد ذلك ، ولو لم يكن من فعل البدعة من الذم ، إلا أن النفقة فيها لا تخلف ولا يثاب عليها مع تعبه لأجلها ، ففيها التعب دنيا وأخرى ] (1) .
المطلب الثاني : العقيقة أفضل من التصدق بثمنها ولو زاد :
وقد نص الفقهاء على أن العقيقة أفضل من التصدق بثمنها ولو زاد الثمن عن قيمة العقيقة وإنني خلال بحثي لموضوع العقيقة لم أجد أحداً من أهل العلم قال بإخراج القيمة في مسألة العقيقة وكلهم فيما أعلم على أن الأصل هو اتباع السنة النبوية في هذا المقام ، قال الخلال :[ باب ما يستحب من العقيقة وفضلها على الصدقة أخبرنا سليمان بن الأشعث قال : سئل أبو عبد الله وأنا أسمع عن العقيقة أحب إليك أو يدفع ثمنها للمساكين ؟ قال : العقيقة ] (2) .
وقال النووي :[ العقيقة أفضل من التصدق بثمنها عندنا وبه قال أحمد وابن المنذر ] (3) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ والأضحية والعقيقة والهدي أفضل من الصدقة بثمن ذلك ] (4) .
وقال ابن القيم :[ فكان الذبح في موضعه أفضل من الصدقة بثمنه ولو زاد من الهدايا والأضاحي فإن نفس الذبح وإراقة الدم مقصود فإنه عبادة مقرونة بالصلاة كما قال تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } سورة الكوثر الآية 2. وقال : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } سورة الأنعام الآية 162 . ففي كل ملة صلاة ونسيكة لا يقوم غيرهما مقامهما ولهذا لو تصدق عن دم المتعة والقِران بأضعاف القيمة لم يقم مقامه ] (5) .
المبحث العاشر
هل يصح الاشتراك في العقيقة ؟
__________
(1) المدخل 3/227-228 .
(2) تحفة المودود ص50 .
(3) المجموع 8/433 ، وانظر الإنصاف 4/110 .
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 26/304 .
(5) تحفة المودود ص 51 .(/28)
وتوضيح المسألة : أن يشترك سبعة أشخاص في جزور أو بقرة عن سبعة أولاد ، أو يشترك سبعة بعضهم يريد اللحم وبعضهم يريد العقيقة في جزور أو بقرة ، فهل يجزئ هذا الاشتراك في العقيقة ؟
اختلف العلماء في المسألة على قولين :
القول الأول : يجوز ذلك وهو قول الشافعية ، قال النووي :[ ولو ذبح بقرة أو بدنة عن سبعة أولاد أو اشترك فيها جماعة جاز سواء أرادوا كلهم العقيقة أو أراد بعضهم العقيقة وبعضهم اللحم كما سبق في الأضحية ] (1) .
وقال الحافظ ابن حجر :[ وذكر الرافعي بحثاً أنها تتأدى بالسُبُع كما في الأضحية ] (2) .
القول الثاني : لا يجوز الاشتراك في العقيقة فإذا أراد شخص أن يعق ببقرة أو جزور فيجوز ذلك عن مولود واحد فقط وهو قول الحنابلة ونص عليه الإمام أحمد (3) . قال الخلال في جامعه :[ باب حكم الجزور عن سبعة : أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد أنه قال لأبي عبد الله - الإمام أحمد - يعق بجزور وقال الليث قد عق بجزور . قلت : يعق بجزور عن سبعة ؟ أنا لم أسمع في ذلك بشيء ورأيته لا ينشط لجزور عن سبعة في العقوق ] (4).
فالحنابلة يرون أن الرأس من البقر أو الإبل يجزئ عن مولود واحد فقط ولا يصح أن تكون البقرة عن سبعة ولا الناقة عن سبعة ، قال المرداوي :[ ولو عق ببدنة أو بقرة لم يجزه إلا كاملة ] (5) ، وهو قول المالكية فيما يظهر لي (6) .
وحجة الشافعية القياس على الأضحية والهدي حيث يجوز الاشتراك في الأضحية والهدي والبدنة أو البقرة عن سبعة أشخاص فقد ورد في الحديث عن جابر قال : نحرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة ) رواه الترمذي وقال هذا حديث صحيح حسن والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم (7) .
وحجة الحنابلة في عدم الجواز عدم ورود دليل على ذلك (8) .
قال العلامة ابن عثيمين معلقاً على قول موسى الحجاوي المقدسي :[ وحكمها كالأضحية إلا أنه لا يجزئ فيها شِرْك في دم - أي العقيقة لا يجزئ فيها شِرْك دم - ، فلا تُجزئ البعير عن اثنين ، ولا البقرة عن اثنين ، ولا تجزئ عن ثلاثة ولا عن أربعة من باب أولى . ووجه ذلك : أولاً : أنه لم يرد التشريك فيها ، والعبادات مبنية على التوقيف . ثانياً : أنها فداء ، والفداء لا يتبعض ؛ فهي فداء عن النفس ، فإذا كانت فداء عن النفس فلا بد أن تكون نفساً ، والتعليل الأول لا شك أنه الأصوب ؛ لأنه لو ورد التشريك فيها بطل التعليل الثاني ، فيكون مبنى الحكم على عدم ورود ذلك ] (9) .
وعلل ابن القيم عدم جواز الاشتراك في العقيقة بكلام لطيف حيث قال :[ لما كانت هذه الذبيحة جارية مجرى فداء المولود كان المشروع فيها دماً كاملاً لتكون نفسٌ فداء نفسٍ ، وأيضاً فلو صح فيها الاشتراك لما حصل المقصود من إراقة الدم عن الولد ، فإن إراقة الدم تقع عن واحد ويحصل لباقي الأولاد إخراج اللحم فقط والمقصود نفس الإراقة عن الولد ، وهذا المعنى بعينه هو الذي لحظه من منع الاشتراك في الهدي والأضحية ولكن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق وأولى أن تتبع وهو الذي شرع الاشتراك في الهدايا وشرع في العقيقة عن الغلام دمين مستقلين لا يقوم مقامهما جزور ولا بقرة والله أعلم ] (10) ، كذا قال وينبغي أن يقال سبع جزور ولا سبع بقرة .
ومع أن الحنابلة ممن يرون أن حكم العقيقة هو حكم الأضحية إلا أنهم استثنوا هذه المسألة من ذلك كما ذكر المرداوي :[ ويستثنى من ذلك أنه لا يجزئ فيها شرك في بدنة ولا بقرة ] (11) .
وقال ابن القيم :[ ولا يجزئ الرأس إلا عن رأس هذا بتمامه تخالف فيه العقيقة الأضحية والهدي ] (12) .
العقيقة عن التوائم :
ويلحق بالمسألة السابقة ما لو ولدت امرأة توأمين فبم يعق عنهما ؟
اتفق العلماء على أنه إذا ولد اثنان في بطن واحد فلا تجزئ عقيقة واحدة عنهما ولا بد من عقيقتين (13) .
قال الحافظ ابن عبد البر :[ وقال الليث بن سعد في المرأة تلد ولدين في بطن واحد ، أنه يعق عن كل واحد منهما ، وقال أبو عمر : ما أعلم عن أحد من فقهاء الأمصار خلافاً في ذلك والله أعلم ] (14) .
__________
(1) المجموع 98/429 ، وانظر مغني المحتاج 4/293 ، طرح التثريب 5/208 .
(2) فتح الباري 12/10
(3) الإنصاف 4/111 ، كشاف القناع 3/25 ، الفروع 3/564 .
(4) تحفة المودود ص 64 .
(5) الإنصاف 4/111 وانظر التوضيح 2/544 .
(6) لم أقف على نص صريح عن المالكية في هذه المسألة إلا ما قاله الباجي في مسألة التوأمين ، حيث منع مالك أن يضحى عن ابنين بشاة واحدة ولا بشاتين يشترك بينهما في كل واحدة . المنتقى 4/202 .
(7) سنن الترمذي 4/75-76.
(8) كشاف القناع 3/25 .
(9) الشرح الممتع 7/ 547 .
(10) تحفة المودود ص 64 .
(11) الإنصاف 4/113 .
(12) تحفة المودود ص 64 .
(13) فتح المالك 7/105 ، المجموع 8/429 ،مواهب الجليل 4/390 , التاج والإكليل 4/389 ، فتح الباري 12/9 .
(14) فتح المالك 7/105 .(/29)
قال الباجي :[ وإذا ولدت المرأة توأمين فقد روى ابن حبيب عن مالك كل واحد منهما بشاة ] (1).
وقال الإمام النووي :[ ولو ولد له ولدان فذبح عنهما شاة لم تحصل العقيقة ](2).
وقال الحافظ ابن حجر :[ فلو ولد اثنان في بطن استحب عن كل واحد عقيقة ] (3) .
المبحث الحادي عشر
في تفاضل الذكر والأنثى في العقيقة
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : عن الغلام شاتان وعن الأنثى شاة واحدة ، وبه قال الشافعية والحنابلة وبعض المالكية والظاهرية ، وهو قول ابن عباس وعائشة وإسحاق وأبو ثور وغيرهم (4) .
إلا أنه ينبغي أن يعلم أن الظاهرية يرون أن الشاتين عن الغلام على سبيل الوجوب ،فلو عق عن الغلام شاة واحدة لا يجزئ (5) ، وهو قول الشوكاني (6) ، بخلاف بقية العلماء المذكورين أعلاه ، فيرون أن الأكمل والأفضل شاتان عن الغلام فإن لم يتيسر فتجزئ شاة عن الغلام .
قال الإمام النووي :[ السنة أن يعق عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة ، فإن عق عن الغلام شاة حصل أصل السنة ] (7)، وقال المرداوي :[ إن خالف وعق عن الذكر بكبش أجزأ ] (8) .
وقال بعض المالكية :[ والعقيقة ذبح شاة عن المولود يوم سابعه والأفضل عن الذكر شاتان ] (9) .
القول الثاني : يذبح عن الغلام شاة واحدة وكذلك يذبح عن الأنثى شاة واحدة وبه قال الإمام مالك والهادوية ، ونقل عن ابن عمر وأسماء بنت أبي بكر وعروة بن الزبير وأبي جعفر محمد بن علي (10) .
قال الإمام مالك :[ الأمر عندنا في العقيقة ، أن من عق فإنما يعق عن ولده بشاة شاة ، الذكور والإناث ] (11) .
أدلة الفريق الأول : احتجوا بما يلي :
حديث أم كرز رضي الله عنها وفيه سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :( عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ) ، وفي رواية أخرى :( عن الغلام شاتان وعن الأنثى واحدة لا يضركم ذكراناً كنَّ أم إناثاً ) .
حديث حفصة أن عائشة رضي الله عنها أخبرتها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :( عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة ) قال ابن رشد :[ من عمل به فما أخطأ ولقد أصاب ] (12).
3. وفي رواية أخرى أن عائشة :( أخبرتهم أن الرسول أمرهم عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ) .
4. حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( العقيقة عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ) وقد أخذ الظاهرية بظاهر هذه الأحاديث وتمسكوا بألفاظها فأوجبوا عن الغلام شاتين وعن الأنثى شاة .
5. حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفيه :( من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة )(13).
وهذه الأحاديث ظاهرة في التفاضل بين الذكر والأنثى في العقيقة .
وقد علل العلامة ابن القيم هذا التفاضل بين الذكر والأنثى بقوله :[ وهذه قاعدة الشريعة فإن الله سبحانه وتعالى فاضل بين الذكر والأنثى وجعل الأنثى على النصف من الذكر في المواريث والديات والشهادات والعتق والعقيقة كما رواه الترمذي وصححه من حديث أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( أيما امرئ مسلم أعتق مسلماً كان فكاكه من النار يجزئ كل عضو منه عضواً منه ، وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزئ كل عضو منهما عضواً منه ). وفي مسند الإمام أحمد من حديث مرة بن كعب السلمي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :( أيما رجل أعتق رجلاً مسلماً كان فكاكه من النار يجزئ بكل عضو من أعضائه عضواً من أعضائه ، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار يجزئ بكل عضو من أعضائها عضواً من أعضائها ). رواه أبو داود في السنن فجرت المفاضلة في العقيقة هذا المجرى لو لم يكن فيها سنة كيف والسنن الثابتة صريحة بالتفضيل (14) .
وقال ابن القيم أيضاً :[ إن الله سبحانه وتعالى فضل الذكر على الأنثى كما قال : { و َلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى } سورة آل عمران الآية 36 ، ومقتضى هذا التفاضل ترجيحه عليها في الأحكام وقد جاءت الشريعة بهذا التفضيل في جعل الذكر كالأنثيين في الشهادة والميراث والدية فكذلك ألحقت العقيقة بهذه الأحكام ](15) .
__________
(1) المنتقى 4/204 .
(2) المجموع 8/429 .
(3) فتح الباري 12/9 .
(4) المجموع 8/447-448 ، المغني 9/460 ، بداية المجتهد 1/376 ، المحلى 6/241، الاستذكار 15/ 377-378 ، فتح المالك 7/105-106 ، طرح التثريب 5/207-208 ، مواهب الجليل 4/390 .
(5) المحلى 6/242 .
(6) السيل الجرار 4/91 .
(7) المجموع 8/429 .
(8) الإنصاف 4/110 .
(9) مواهب الجليل 4/390.
(10) شرح الخرشي 3/47 ، بداية المجتهد 1/376 ، سبل السلام 4/181 ، المجموع 8/447 ، شرح السنة 11/265 ، موسوعة فقه علي بن أبي طالب ص468 .
(11) الموطأ 2/400 .
(12) مواهب الجليل 4/390 .
(13) سبق تخريج هذه الأحاديث .
(14) تحفة المودود ص 53-54 .
(15) زاد المعاد 2/331 .(/30)
وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر طائفة من الأحاديث السابقة :[ وهذه الأحاديث حجة للجمهور في التفرقة بين الغلام والجارية ، وعن مالك هما سواء فيعق عن كل واحد منهما شاة ، واحتج له بما جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً ، أخرجه أبو داود ولا حجة فيه ، فقد أخرجه أبو الشيخ من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ ( كبشين كبشين ) وأخرج أيضاً من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله وعلى تقدير ثبوت رواية أبي داود فليس في الحديث ما يرد به الأحاديث المتواردة في التنصيص على التثنية للغلام بل غايته أن يدل على جواز الاقتصار وهو كذلك فإن العدد ليس شرطاً بل مستحب . وذكر الحليمي أن الحكمة في كون الأنثى على النصف من الذكر أن المقصود استبقاء النفس فأشبهت الدية وقواه ابن القيم بالحديث الوارد في أن من أعتق ذكراً أعتق كل عضو منه ومن أعتق جاريتين كذلك إلى غير ذلك مما ورد فيحتمل أن يكون في ذلك الوقت ما تيسر العدد ] (1) .
أدلة الفريق الثاني : احتجوا بما يلي :
1. عن ابن عباس - رضي الله عنه -:( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً ) .
2. عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال :( عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن والحسين بكبشين ) .
3.روى أبو داود بسنده عن عبد الله بن بريدة قال : سمعت أبي - بريدة - رضي الله عنه - - يقول :( كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران ) .
4. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ( أنه لم يكن يسأله أحد من ولده عقيقة إلا أعطاه إياها وكان يعق عن أولاده شاة شاة عن الذكر والأنثى ) رواه مالك والبيهقي ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط إسناده صحيح (2) .
5. وكان علي - رضي الله عنه - يعق عن ولده بشاة شاة للذكور والإناث (3) .
6. عن هشام بن عروة أن أباه عروة بن الزبير كان يعق عن بنيه الذكور والإناث شاة شاة ) . رواه مالك ، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط : وإسناده صحيح ، ورواه البيهقي أيضاً (4) .
7. عن أسماء بنت أبي بكر :( أنها كانت تعق عن بنيها وبني بنيها شاة شاة الذكر والأنثى ) (5) .
8. قالوا إن هذا ذبح متقرب به فاستوى فيها الذكر والأنثى كالأضحية والهدي وهذا ما تدل عليه الأحاديث السابقة من استواء الذكر والأنثى في العقيقة (6).
مناقشة وترجيح :
الذي يظهر للناظر والمتمعن في أدلة العلماء في هذه المسألة أن قول الجمهور هو أرجحها فالسنة أن يعق عن الذكر بشاتين وعن الأنثى بشاة واحدة لما يلي :
1. إن حديث ابن عباس ورد برواية أخرى وفيها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - :( عق عن الحسن والحسين بكبشين كبشين ) قال الشيخ الألباني عن الرواية الأولى لحديث ابن عباس :[ صحيح لكن في رواية النسائي كبشين كبشين وهو الأصح ] (7) .
إن الروايات التي ذكرت شاتين عن الغلام تضمنت زيادة على الأخرى وزيادة الثقة مقبولة لا سيما إذا جاءت من طرق مختلفة المخارج كما هو الشأن هنا (8).
وقال الألباني :[ يلاحظ القارئ الكريم أن الروايات اختلفت فيما عق به- صلى الله عليه وسلم - عن الحسن والحسين رضي الله عنهما ، ففي بعضها أنه كبش واحد عن كل منهما، وفي أخرى أنه كبشان . وأرى أن هذا الثاني هو الذي ينبغي الأخذ به والاعتماد عليه ، لأمرين : الأول: أنها تضمنت زيادة على ما قبلها ، وزيادة الثقة مقبولة، لا سيما إذا جاءت من طرق مختلفة المخارج كما هو الشأن هنا . والآخر:إنها توافق الأحاديث الأخرى القولية في الباب ، والتي توجب العق عن الذكر بشاتين ] (9) .
3. إن الأحاديث التي ذكرت شاتين عن الغلام من قول النبي- صلى الله عليه وسلم - والتي ذكرت شاة عن الغلام من فعله وإذا تعارض القول والفعل فالقول مقدم على الفعل لأن القول عام وفعله يحتمل الاختصاص به - صلى الله عليه وسلم - (10).
__________
(1) فتح الباري 12/10
(2) سبق تخريج هذه الأحاديث .
(3) كشف الغمة 1/234 نقلاً عن موسوعة فقه علي بن أبي طالب ص468 .
(4) الموطأ 2/400، شرح السنة 11/265 الهامش ، السنن الكبرى 9/302 .
(5) شرح السنة 11/265 .
(6) المنتقى 4/204، بداية المجتهد 1/376 .
(7) صحيح سنن أبي داود 2/547 .
(8) المحلى 6/242 ، زاد المعاد 2/330 ، إرواء الغليل 4/384 .
(9) إرواء الغليل 4/ 384 .
(10) زاد المعاد 2/330 .(/31)
4. إن قصة الذبح عن الحسن والحسين كانت عام أحد والعام الذي بعده والذي ثبت عن أم كرز أنها سألت الرسول - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية أي سنة ست للهجرة ، فقد روى ابن حزم بسنده عن أم كرز قالت :( أتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بالحديبية أسأله عن لحوم الهدي فسمعته يقول : على الغلام شاتان وعلى الجارية شاة ، لا يضركم ذكراناً كانت أم إناثاً ) ، فيؤخذ من هذا أن حديث أم كرز متأخر عن قصة العقيقة عن الحسن والحسين فيكون الحكم للقول المتأخر لا للفعل المتقدم (1) .
5. روى ابن حزم بسنده عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده :( أن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقت عن الحسن والحسين حين ولدتهما شاة شاة )، ثم قال ابن حزم :[ لا شك في أن الذي عقت به فاطمة رضي الله عنها هو غير الذي عق به رسول الله فاجتمع من هذين الخبرين أنه - صلى الله عليه وسلم - عق عن كل واحد منهما بكبش وعقت فاطمة عن كل واحد منهما بشاة فحصل عن كل واحد منهما كبش وشاة كبش وشاة ](2).
ويمكنني القول بأنه يمكن الجمع بين أدلة الجمهور وأدلة الفريق الثاني فنعمل بموجب تلك الأدلة مجتمعة فيكون الأكمل والأفضل في هذه السنة النبوية ذبح شاتين عن الغلام وإن لم يتيسر ذلك أو اقتصر على شاة واحدة عن الغلام أجزأ وحصل المقصود بهذه السنة .
قال الإمام النووي :[ السنة أن يعق عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة فإن عق عن الغلام شاة حصل أصل السنة ] (3) .
وقال الصنعاني :[ يجوز أنه - صلى الله عليه وسلم - ذبح عن الذكر كبشاً لبيان أنه يجزئ وذبح الإثنين مستحب ] (4) .
وذكر المرداوي أن العقيقة عن الذكر بكبش مجزئة (5).
المبحث الثاني عشر
التصرف بالعقيقة
وفيه مطالب :
المطلب الأول: الانتفاع بها :
حكم العقيقة بعد ذبحها حكم الأضحية من حيث التصرف فيها عند أهل العلم
وهذه أقوال بعض العلماء في كيفية التصرف بالعقيقة بعد ذبحها :
قال الحسن البصري : يصنع بالعقيقة ما يصنع بالأضحية (6) .
وقال عطاء : يأكل أهل العقيقة ويهدونها أمر - صلى الله عليه وسلم - بذلك – زعموا – وإن شاء تصدق (7).
وعنه أيضاً : في العقيقة تطبخ بماء وملح آراباً وتهدى في الجيران والصديق ولا يتصدق منها بشيء (8) .
وقال ابن جريج :[ تطبخ أعضاءً ويؤكل منها ويهدى ولا يتصدق بشيء منها ] (9) .
وقال ابن حزم :[ ويؤكل منها ويهدى ويتصدق هذا كله مباح لا فرض ] (10).
وقال الحافظ ابن عبد البر : ويسلك بها مسلك الضحايا : يؤكل منها ويتصدق ويهدي إلى الجيران وروي مثل ذلك عن عائشة وعليه جمهور
العلماء (11).
فتوزع أثلاثاً ، ثلث لأهل البيت وثلث للصدقة وثلث للهدية .
وقال الخرقي :[ وسبيلها في الأكل والهدية والصدقة سبيلها ] أي سبيل الأضحية (12).
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً كلام الخرقي السابق :[ وبهذا قال الشافعي وقال ابن سيرين : اصنع بلحمها كيف شئت ، وقال ابن جريج : تطبخ بماء وملح وتهدى الجيران والصديق ولا يتصدق منها بشيء ، وسئل أحمد عنها فحكى قول ابن سيرين وهذا يدل على أنه ذهب إليه وسئل هل يأكلها كلها ؟ قال : لم أقل يأكلها كلها ولا يتصدق منها بشيء والأشبه قياسها على الأضحية لأنها نسيكة مشروعة غير واجبة فأشبهت الأضحية ولأنها أشبهتها في صفاتها وسنها وقدرها وشروطها فأشبهتها في مصرفها وإن طبخها ودعا إخوانه فأكلوها فحسن ] (13) .
وقال الحافظ ابن عبد البر :[ ويطعم منها الجيران ولا يدعى الرجال كما يفعل بالوليمة ] (14) .
وجاء في مختصر خليل :[ وكُرِه عملها وليمة ] وقال المواق : سمع ابن القاسم : تطبخ العقيقة ويأكل منها أهل البيت ويطعم الجيران ، وأما الدعاء إليها فإني أكره الفخور ، وزاد في سماع القرينين : إن أرادوا صنيعاً صنعوا من غيرها ودعوا إليه الناس ، وكان ابن عمر يدعو إلى الولادة وإلى ختان الذكور ] (15).
قال النووي :[ ويستحب أن يأكل منها ويتصدق ويهدي كما قلنا في الأضحية ] (16)، وقال النووي أيضاً :[ قال أصحابنا حكم العقيقة في التصدق منها والأكل والهدية والادخار وقدر المأكول وامتناع البيع وتعين الشاة إذا عينت للعقيقة كما ذكرنا في الأضحية سواء لا فرق بينهما وحكى الرافعي وجهاً أنه إذا جوزنا العقيقة بما دون الجذعة لم يجب التصدق وجاز تخصيص الأغنياء بها . والله أعلم ] (17) .
__________
(1) المحلى 6/242 ، زاد المعاد 2/331 .
(2) المحلى 6/243 .
(3) المجموع 8/429 ، المغني 9/460.
(4) سبل السلام 4/182 .
(5) الإنصاف 4/110 .
(6) المحلى 4/237 .
(7) المحلى 4/237 .
(8) المحلى 4/240 فتح المالك 7/109.
(9) الاستذكار 15/385 .
(10) المحلى 4/234 .
(11) فتح المالك 7/109 .
(12) المغني 9/463 .
(13) المغني 9/463 .
(14) الاستذكار 15/384 .
(15) التاج والإكليل 4/393-394 .
(16) المجموع 8/430 .
(17) المجموع 8/432.(/32)
واستحب كثير من أهل العلم أن لا يتصدق بلحمها نيئاً بل يطبخ ويتصدق به على الفقراء بإرساله لهم وفضلوا ذلك على دعوة الفقراء إلى بيت صاحبها .
قال النووي :[ قال جمهور أصحابنا يستحب أن لا يتصدق بلحمها نيئاً بل يطبخه وذكر الماوردي أنا إذا قلنا بالمذهب أنه لا تجزئ دون الجذعة والثنية وجب التصدق بلحمها نيئاً وكذا قال إمام الحرمين إن أوجبنا التصدق بمقدار من الأضحية والعقيقة وجب تمليكه نيئاً والمذهب الأول وهو أنه يستحب طبخه وفيما يطبخ به وجهان : أحدهما : بحموضة ونقله البغوى عن نص الشافعي لحديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( نعم الأدام الخل ) رواه مسلم . وأصحهما وأشهرهما وبه قطع المصنف والجمهور يطبخ بحلو تفاؤلاً بحلاوة أخلاقه وقد ثبت في الصحيح ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الحلوى والعسل ) وعلى هذا لو طبخ بحامض ففي كراهته وجهان حكاهما الرافعي والصحيح أنه لا يكره لأنه ليس فيه نهي . قال أصحابنا والتصدق بلحمها ومرقها على المساكين بالبعث إليهم أفضل من الدعاء إليها ولو دعا إليها قوماً جاز ولو فرَّق بعضها ودعا ناساً إلى بعضها جاز ] (1) .
وقال البغوي :[ ويستحب ألا يتصدق بلحمها نيئاً بل يطبخه ويبعث إلى المساكين بالصحاف ولو دعا إليه قوماً جاز ] (2) .
[ قال الشافعي : ويطبخها بحموضة ، لعله ذهب إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :( نعم الإدام الخل ) ، وقيل لا يطبخها بحموضة تفاؤلاً بحلاوة أخلاقه ] (3) .
[ وقال في المستوعب : يستحب أن يطبخ منها طبيخ حلو تفاؤلاً بحلاوة أخلاقه ] (4) .
وقال العلامة ابن عثيمين :[ والغريب أن بعض الناس قال : وينبغي أن تطبخ بالحلو أي يوضع فيها سكر تفاؤلاً بحلاوة أخلاق الطفل ، وهذا قول ضعيف ؛ لأنه ليس فيه دليل ، ومسألة التفاؤل لا ينبغي أن نتوسع فيها هذا التوسع ] (5) .
ولو دعا إليها قوماً فلا بأس في ذلك فيجوز لصاحبها أن يأكل منها وأن يطبخها ويرسل منها إلى الفقراء ويجوز أن يدعو أصدقائه وأقاربه وجيرانه والفقراء إلى أكلها في بيته فله أن يتصرف فيها كيفما يشاء . قال محمد بن سيرين من التابعين :[ اصنع بلحمها كيف شئت ] (6) وفضل الإمام أحمد طبخها :[ فقد قيل له : تطبخ العقيقة ؟ قال : نعم . قيل له : يشتد عليهم طبخها . قال : يتحملون ذلك ].
قال ابن القيم :[ وهذا لأنه إذا طبخها فقد كفى المساكين والجيران مؤنة الطبخ وهو زيادة في الإحسان وفي شكر هذه النعمة ، ويتمتع الجيران والأولاد والمساكين بها هنيئةً مكفية المؤنة فإن من أهدي إليه لحم مطبوخ مهيأ للأكل مطيب كان فرحه وسروره به أتم من فرحه بلحم نيء يحتاج إلى كلفة وتعب ] (7) .
وقد ورد عن الإمام مالك أنه عق عن ولد له فوصف لنا كيف صنع بالعقيقة ، قال مالك في المبسوط :[ عققت عن ولدي وذبحت ما أريد أن أدعو إليه إخواني وغيرهم ، وهيأت طعامهم ، ثم ذبحت شاة العقيقة فأهديت منها للجيران ، وأكل منها أهل البيت ، وكسروا ما بقي من عظامها فطبخت ، فدعونا إليها الجيران فأكلوا وأكلنا ، قال مالك : فمن وجد سعة فأحب له أن يفعل هذا ومن لم يجد فليذبح عقيقة ثم ليأكل وليطعم منها ] (8) .
المطلب الثاني : إعطاءُ القابلةِ رِجْلَ العقيقةِ :
استحب بعض أهل العلم أن تعطى القابلة رِجْل العقيقة (9) .
واحتجوا بما ورد عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين رضي الله عنهما :( أن ابعثوا إلى بيت القابلة برجل وكلوا وأطعموا ولا تكسروا منها عظماً ) رواه أبو داود في المراسيل والبيهقي ، وقال الشيخ الأرناؤوط وفيه انقطاع (10)، وفي سنده حسين بن زيد العلوي فيه ضعف ، وذكر النووي أنه روي موقوفاً على علي - رضي الله عنه - ، وذكر البيهقي الرواية الموقوفة وهي : أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أعطى القابلة رِجْل العقيقة ) (11) .
روى الخلال أن الإمام أحمد سئل عن العقيقة :[ قيل : يبعث منها إلى القابلة بشيء . قال : نعم ] (12) .
المطلب الثالث : إطعام غير المسلم من العقيقة :
كره بعض أهل العلم إطعام الكافر منها [ قال في العتبية في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الضحايا : وسألته – أي مالك - عن الضحية والعقيقة أيطعم منها أحد من النصارى أو غيرهم ممن على غير الإسلام ؟ فقال: ما سمعت ذلك وأحب إليَّ أن لا يطعم أحداً منهم شيئاً ] (13) .
__________
(1) المجموع 8/430.
(2) التهذيب 8/49 .
(3) التهذيب 8/49 .
(4) الإنصاف 4/114.
(5) الشرح الممتع 7/546 .
(6) المغني 9/463 .
(7) تحفة المودود ص 59-60 ، وانظر الإنصاف 4/113 .
(8) المنتقى4/205.
(9) المجموع 8/430 ، الإنصاف 4/114 ، إعلاء السنن 17/131 .
(10) زاد المعاد 2/332 ، سنن البيهقي 9/302 .
(11) تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج 2/539 ، المجموع 8/431 ، سنن البيهقي 9/304 .
(12) تحفة المودود ص 67 .
(13) مواهب الجليل 4/393 .(/33)
ونقل عن الإمام مالك جواز ذلك في الأضحية وتقاس العقيقة عليها (1).
ولا أرى مانعاً من إطعام أهل الذمة منها وخاصة إذا كانوا فقراء أو جيراناً أو قرابة .
المطلب الرابع : حكم جلدها وسواقطها :
الأصل أن لا يباع شيء من العقيقة حيث إنها ملحقة بالأضحية في معظم أحكامها وقد نص الفقهاء على أنه لا يجوز بيع شيء من الأضحية لا لحمها ولا جلدها ولا أطرافها ، واجبة كانت أو تطوعاً. قال الإمام أحمد : لا يبيعها ولا يبيع شيئاً منها .
وقال أيضاً : سبحان الله كيف يبيعها وقد جعلها لله تبارك وتعالى ؟
وأجاز ابن عمر - رضي الله عنه - أن يبيع الجلد ويتصدق بثمنه ، ونقله ابن المنذر عن أحمد وإسحاق (2) .
ويجوز أن ينتفع بالجلد ، بأن يجعله سقاءً أو فرواً أو نعلاً أو غير ذلك .
فقد ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت : يجعل من جلد الأضحية سقاء ينبذ فيه .
وعن مسروق أنه كان يجعل من جلد أضحيته مصلىً يصلي فيه .
وعن الحسن البصري قال : انتفعوا بمُسُوك – جلود – الأضاحي ولا تبيعوها (3).
ويدل على ذلك ما ورد في حديث علي - رضي الله عنه - قال :( أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بُدْنه ، وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها ، وأن لا أعطي الجزَّار منها. وقال نحن نعطيه من عندنا ) رواه البخاري ومسلم . فقد أمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتصدق بلحومها وجلودها وجلالها ، كما أنه قد جعلها قربة لله تعالى فلم يجز بيع شيء منها كالوقف (4) .
وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :( من باع جلد أضحيته فلا أضحية له ) رواه الحاكم ، وقال : حديث صحيح . ورواه البيهقي وقال الشيخ الألباني : حسن. (5) .
وقال الحافظ المنذري :[ وقد جاء في غير ما حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن بيع جلد الأضحية ] (6) .
وجاء في الحديث عن قتادة بن النعمان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( … لا تبيعوا لحوم الهدي والأضاحي ، فكلوا وتصدقوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها ، وإن أُطعمتم من لحمها فكلوا إن شئتم ) رواه أحمد وذكره الهيثمي وقال : في الصحيح طرف منه . رواه أحمد وهو مرسل صحيح الإسناد (7) .
وأما الانتفاع بجلدها فلا بأس به على أي وجه كان ، ويدل على ذلك ما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها قالت :( دفَّ ناس من أهل البادية ، حضرة الأضحى زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله : ادخروا ثلاثاً ثم تصدقوا بما بقي ، فلما كان بعد ذلك قالوا :يا رسول الله إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويجملون منها الودك ، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - . وما ذاك ؟ قالوا : نهيتَ أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث .فقال : إنما نهيتكم من أجل الدافة فكلوا وادخروا وتصدقوا ) رواه مسلم (8) .
والأسقية ، جمع سقاء ويتخذ من جلد الحيوان ، وفي الحديث إشارة إلى أنه يتخذ من جلود الأضحية ، وقولها :( ويجملون منها الودك ) أي يذيبون شحمها (9) ، وقد أقرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك (10) .
هذا ما قرره الفقهاء بالنسبة للأضحية وقد ألحق المالكية والشافعية والحنابلة في رواية ، العقيقة بها فمنعوا بيع أي شيء من العقيقة ، قال الإمام مالك :[ ولا يباع من لحمها شيء ولا جلدها ] (11) .
وقال ابن رشد :[ وأما حكم لحمها وجلدها وسائر أجزائها فحكم لحم الضحايا في الأكل والصدقة ومنع البيع ] (12) .
وقال البغوي :[ ولا يجوز أن يبيع شيئاً منها لأنه ذبحها قربة إلى الله تعالى كالأضحية ] (13) .
ويرى الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه جواز بيع جلد العقيقة ورأسها ونحو ذلك ويتصدق بثمنه ، فقد روى الخلال أن أحمد سئل في العقيقة :[ الجلد والرأس والسقط يباع ويتصدق به ، قال : يتصدق به ](14).
__________
(1) مواهب الجليل 4/393 .
(2) المغني 9/450.
(3) معجم فقه السلف 4/148 .
(4) المغني 9/451 .
(5) سنن البيهقي 9/294 ، صحيح الجامع الصغير 2/1055 ، صحيح الترغيب والترهيب ص455 .
(6) الترغيب والترهيب 2/156 ، وانظر صحيح الترغيب والترهيب ص 455 .
(7) الفتح الرباني 13/54 .
(8) صحيح مسلم مع شرح النووي 5/112-113 .
(9) شرح النووي على صحيح مسلم 5/113 .
(10) انظر المفصل في أحكام الأضحية ص 153 -154.
(11) الموطأ 2/400 ، وانظر مواهب الجليل 4/394 .
(12) بداية المجتهد 1/377 .
(13) التهذيب 8/49 .
(14) تحفة المودود ص 70 ، وانظر كشاف القناع 3/31 .(/34)
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي :[ قال أحمد يباع الجلد والرأس والسقط ويتصدق به ، وقد نص في الأضحية على خلاف هذا وهو أقيس في مذهبه لأنها ذبيحة لله فلا يباع منها شيء كالهدي ولأنه تُمكِن الصدقة بذلك بعينه فلا حاجة إلى بيعه وقال أبو الخطاب يحتمل أن ينقل حكم إحداهما إلى الأخرى فيخرج في المسألتين روايتان ويحتمل أن يفرق بينهما من حيث إن الأضحية ذبيحة شرعت يوم النحر فأشبهت الهدي والعقيقة شرعت عند سرور حادث وتجدد نعمة فأشبهت الذبيحة في الوليمة ولأن الذبيحة ههنا لم تخرج عن ملكه فكان له أن يفعل بها ما شاء من بيع وغيره و الصدقة بثمن ما بيع منها بمنزلة الصدقة به فضلها وثوابها وحصول النفع به فكان له ذلك ] (1) .
المطلب الخامس : هل يكره كسر عظام العقيقة ؟
في المسألة قولان :
القول الأول : قال الشافعية والحنابلة يستحب أن تذبح العقيقة وتقطع على المفاصل ، ولا تكسر عظامها وتطبخ جُدُولاً (2)، ونقل هذا عن عائشة وعطاء وابن جريج (3) ، وذكر البيهقي أن عطاءً كان يقول : تقطع جدولاً ولا يكسر لها عظم (4) . ونص على ذلك الإمام أحمد ، فقد روى الخلال عن عبد الملك بن عبد الحميد أنه سمع أبا عبد الله يقول في العقيقة :[ لا يكسر عظمها ولكن يقطع كل عظم من مفصله فلا تكسر العظام ](5). وقد اعتبر الحنابلة أن من الفوارق بين العقيقة وبين الأضحية أن العقيقة لا يكسر عظمها (6).
قال الحافظ العراقي :[ وقال أصحابنا إن ذلك خلاف الأولى فقط ، واختلفوا في كراهته على وجهين : أصحهما أنه لا يكره ، وعلله النووي في شرح المهذب بأنه لم يثبت فيه نهي مقصود ، وفيه نظر فإن النهي الصريح قد رواه الحاكم في مستدركه وصححه كما تقدم ، ولعل النووي لا يوافق على صحته ] (7) .
القول الثاني : ذهب الإمام مالك إلى جواز كسر عظمها بل استحب ذلك ، لمخالفة أهل الجاهلية الذين كانوا لا يكسرون عظم الذبيحة التي تذبح عن المولود وبه قال الزهري وابن حزم الظاهري ، وهو وجه للبصريين من الشافعية (8) .
قال الزهري في العقيقة : تكسر عظامها ورأسها (9).
وقال ابن رشد :[ واستحب كسر عظامها لما كانوا في الجاهلية يقطعونها من المفاصل ] (10).
الأدلة :
احتج الفريق الأول بما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين رضي الله عنهم :( أن ابعثوا إلى بيت القابلة برجل وكلوا وأطعموا ولا تكسروا منها عظماً ) رواه البيهقي وغيره وهو ضعيف كما سبق .
واحتجوا أيضاً بما ورد عن عائشة أنها قالت :( تقطع جدولاً ولا يكسر لها عظم ) سبق تخريجه وجعله الألباني مدرجاً في الحديث من كلام عطاء وأيد ذلك بما ذكره البيهقي :[ وكان عطاء يقول تقطع جدولاً ولا يكسر لها عظم ](11).
وقالوا إن كراهة كسر عظامها إنما هو من باب التفاؤل بالسلامة للمولود وطيب العيش (12) .
واحتج الفريق الثاني بأنه لم يثبت في كسر عظامها نهي مقصود ، قال ابن حزم :[ ولم يصح في المنع من كسر عظامها شيء ](13). وضعف ابن حزم ما ورد عن عائشة في ذلك (14).
وقالوا إن كسر عظامها فيه مخالفة لأهل الجاهلية ، قال الباجي :[ قال ابن حبيب : إنما قاله مالك - أي كسر عظامها - لأن أهل الجاهلية كانوا إذا عقوا عن المولود لم يكسروا العظام وإنما كانت العقيقة تفصل من مفصل إلى مفصل فأتى الإسلام بالرخصة في ذلك إن أحب أهلها يصنعون من ذلك ما وافقهم ، وفي الجملة إن كسر عظامها ليس بلازم وإنما لا يجوز تحري الامتناع عنه ، والعقيقة في ذلك كسائر الذبائح وربما كان لها مزية المخالفة لفعل أهل الجاهلية ](15).
وقالوا إن العادة جرت بكسر العظام ، وفي ذلك مصلحة لتمام الانتفاع بها ولا مصلحة تمنع من ذلك ولم يصح في المنع من ذلك ولا في كراهته سنة يجب المصير إليها (16).
وقال الماوردي معللاً عدم كراهة كسر عظامها: ( لأنه طيرة وقد نهي عنها ، ولأن ذبحها أعظم من كسر عظمها ) (17) .
__________
(1) المغني 9/463وانظر الإنصاف 4/113-114.
(2) الجُدُول بضم الجيم وبضم الدال ، جمع جَدْل وهو كل عظم موفر كما هو لا يكسر أي تقطع العقيقة عضواً عضواً ولا يكسر لها عظم ، لسان العرب 2/211 .
(3) المجموع 8/430 ، المغني 9/463 ، المحلى 6/240 ، مغني المحتاج 4/394 ، كشاف القناع 3/30 ، طرح التثريب 5/215.
(4) السنن الكبرى 9/302 .
(5) تحفة المودود 60/61 .
(6) الإنصاف 4/113.
(7) طرح التثريب 5/215 وانظر المجموع 8/430.
(8) شرح الخرشي 3/48 ، الموطأ 2/400 ، المنتقى 4/204، المحلى 6/240 ، المجموع 8/448 ، الحاوي 15/130 ، التاج والإكليل 4/393.
(9) المحلى 6/240.
(10) بداية المجتهد 1/377 .
(11) سنن البيهقي 9/302 ، إرواء الغليل 4/396 .
(12) الحاوي 15/129.
(13) المحلى 6/240 ، انظر المجموع 8/430 .
(14) المحلى 6/240.
(15) المنتقى 4/204-205 .
(16) تحفة المودود ص 62 .
(17) الحاوي 15/130.(/35)
والذي يظهر لي أنه لا بأس بكسر عظامها إن احتيج لذلك ، وإن قطعت على المفاصل فهو أفضل لما ورد في الآثار وإن لم يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد وردت الآثار عن طائفة من السلف كعائشة وعطاء وجابر كما ذكره البيهقي وغيره (1).
ويضاف إلى ما سبق أن القائلين بعدم تكسير عظامها ذكروا وجوهاً في الحكمة من ذلك تميل إليها النفس ذكرها ابن القيم وهي :
1. أنها جرت مجرى الفداء فاستحب أن لا تكسر عظامها تفاؤلاً بسلامة أعضاء المولود وصحته وقوتها وبما زال من عظام فدائه من الكسر .
2. إظهار شرف الإطعام وخطره إذا كان يقدم للآكلين ويهدى إلى الجيران ويطعم للمساكين فاستحب أن يكون قطعاً كل قطعة تامة في نفسها لم يكسر من عظامها شيء ولا نقص العضو منها شيئاً ، ولا ريب أن هذا أجل موقعاً وأدخل في باب الجود من القطع الصغار .
3. أن الهدية إذا شرفت وخرجت عن حد الحقارة وقعت موقعاً حسناً عند المهدى إليه ودلت على شرف نفس المهدي وكبر همته ، وكان في ذلك تفاؤلاً بكبر نفس المولود وعلو همته وشرف نفسه (2) ] . والله أعلم .
المبحث الثالث عشر
حكم تلطيخ رأس المولود بشيء من دم العقيقة
للعلماء في هذه المسألة قولان :
القول الأول : ذهب جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث إلى كراهة تلطيخ رأس المولود بشيء من دم العقيقة ، لأن ذلك من عادة أهل الجاهلية ، وهو قول الزهري وإسحاق وابن المنذر وداود (3) .
وقال بعض الشافعية بتحريم ذلك ، قال الحافظ العراقي :[ وأنكر شيخنا الإمام جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي على أصحابنا اقتصارهم على كراهة لطخ رأس المولود بدم العقيقة وقال المشهور تحريم التضمخ بالنجاسة ويحرم على الولي أن يفعل به شيئاً من المحرمات على المكلفين كسقيه الخمر … فينبغي في اللطخ مثله ] (4) .
القول الثاني : ذهب الحسن البصري وقتادة من التابعين وابن حزم الظاهري إلى أن ذلك مستحب فيلطخ رأس المولود بدم العقيقة ثم يغسل بعد ذلك ، ونقله ابن حزم عن ابن عمر وهو قول عند الحنابلة (5).
قال الحافظ ابن عبد البر :[ ولا أعلم أحداً من أهل العلم قال : يدمَّى رأس الصبي إلا الحسن وقتادة فإنهما قالا : يطلى رأس الصبي بدم العقيقة ، وأنكر ذلك سائر أهل العلم وكرهوه ] (6) .
وذكر الحافظ ابن حجر أنه قد ورد عن الحسن كراهة التدمية رواه ابن أبي شيبة عنه بسند صحيح (7) .
واحتج هؤلاء بما رواه همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال :( كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويحلق ويدمَّى ) فكان قتادة إذا سئل عن الدم كيف يصنع به قال :[ إذا ذبحت العقيقة أخذت منها صوفة واستقبلت بها أوداجها ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط ثم يغسل رأسه بعد ويحلق ] (8) .
وروى ابن حزم بسنده عن ابن عمر قال :[ يحلق رأسه ويلطخه بالدم ] (9) .
وقد أجاب الجمهور على هذا الاستدلال وبينوا أن هذا القول شاذ وأن الرواية المحفوظة لحديث سمرة ( يسمَّى ) وليست ( يدمَّى ) وهذا بيان ما قالوه :
1. قال أبو داود صاحب السنن بعد روايته للحديث المذكور :[ هذا وهم من همام ويدمَّى . قال أبو داود : خولف همام في هذا الكلام وهو وهم من همام وإنما قالوا
يسمَّى . فقال : همام : يدمَّى . قال أبو داود وليس يؤخذ بهذا ] (10) .
2. وقال أبو داود بعد أن ساق الرواية الثانية لحديث سَمُرة وفيها :( يسمَّى ) ، قال أبو داود :[ ويسمَّى أصح ، كذا قال سلام بن أبي مطيع عن قتادة وإياس ابن دغفل وأشعث عن الحسن قال : ويسمَّى ، ورواه أشعث عن الحسن عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال : ويسمَّى ] (11) .
3. نقل الخلال عن الإمام أحمد أنه سئل :[ فيحلق رأسه ؟ قال : نعم . قلت : فيدمَّى ؟ قال : لا هذا من فعل الجاهلية . قلت : فحديث قتادة عن الحسن كيف ويدمَّى ؟ فقال : أما همام فيقول : ويدمَّى وأما سعيد فيقول ويسمَّى ] .
وقال في رواية الأثرم :[ قال ابن عروبة : يسمَّى ، وقال همام : يدمَّى . وما أراه إلا خطأ ] (12) .
__________
(1) سنن البيهقي 9/302 .
(2) تحفة المودود ص 62 .
(3) المجموع 8/432 ، 448 ، المغني 9/462 ، عون المعبود 8/28 ، شرح الخرشي 3/48 ، بداية المجتهد 1/377 ، الإنصاف 4/112 ، التهذيب 8/50 ، التاج والإكليل 4/394 .
(4) طرح التثريب 5/216.
(5) المحلى 6/234 ، المجموع 8/432 ، المغني 9/462 الإنصاف 4/112.
(6) فتح المالك 7/108 .
(7) فتح الباري 12/12.
(8) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 8/27 .
(9) المحلى 6/236 .
(10) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 8/27-28 .
(11) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 8/29 .
(12) تحفة المودود ص 35-36.(/36)
4. ويرى الشيخ ناصر الدين الألباني أن رواية الحديث بلفظ :( ويسمَّى ) هي التي ينشرح لها الصدر لاتفاق الأكثر عليها ولا سيما أن لها متابعات وشواهد بخلاف رواية ( ويدمَّى ) فهي غريبة وأكد كلام أبي داود في تخطئة همام في قوله ( ويدمَّى ) وإن كان ثقة فقال :[ وهذا وإن كان بعيداً بالنسبة للثقة فلا بد من ذلك ليسلم لنا حفظ الجماعة فإنه إذا كان صعباً تخطئة الثقة الذي زاد على الجماعة فتخطئة هؤلاء ونسبتهم إلى عدم الحفظ أصعب ] (1) .
وقال الجمهور لو سلمنا أن رواية ( يدمَّى ) ثابتة ومحفوظة ، فهي منسوخة (2).
5. وأكد الجمهور قولهم بأن التدمية منسوخة أنها كانت من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أبطلها ويدل على نسخها وإبطالها ما يلي :
أ. حديث عبدالله بن بريدة عن أبيه قال : سمعت أبي - بريدة - يقول :[ كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها ، فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران ] (3) .
ب. عن عائشة رضي الله عنها في حديث العقيقة قالت :( وكان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة ويجعلونه على رأس الصبي فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل مكان الدم خلوقاً ) رواه البيهقي وهذا لفظه (4)، وقال النووي بإسناد صحيح (5) . وقال الحافظ ابن حجر :[ وزاد أبو الشيخ ( ونهى أن يمس رأس المولود بدم ) ] (6). وقال الألباني :[ بإسناد رجاله ثقات لكن فيه عنعنة ابن جريج لكن قد صرح بالتحديث عند ابن حبان فصح الحديث والحمد لله ] (7)، ورواه ابن حبان وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط : إسناده صحيح (8).
والخَلوق : بفتح الخاء هو طيب معروف مركب يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب وتغلب عليه الحمرة والصفرة ، قاله الإمام النووي (9).
ج. عن يزيد بن عبدٍ المزني عن أبيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال :( يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم ) (10). [ قال مهنا بن يحيى الشامي : ذكرت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل حديث يزيد بن عبدٍ المزني عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم ) فقال أحمد : ما أظرفه ! ورواه ابن ماجة في سننه ولم يقل عن أبيه ] (11) .
فهذه الأحاديث تدل على نسخ التدمية وأنها كانت من أمر الجاهلية ، قال ابن رشد :[ وجميع العلماء على أنه كان يدمَّى رأس الطفل في الجاهلية بدمها وأنه نسخ في الإسلام بحديث بريدة ... ](12).
6. قالوا لقد ورد في حديث سلمان بن عامر الضبي :( ... وأميطوا عنه الأذى ) وهذا يفسر بترك ما كانت الجاهلية تفعله في تلطيخ رأس المولود بدم العقيقة (13).
وقالوا أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( أميطوا عنه الأذى ) والدم أذى فيكف يؤمر بأن يصاب بالأذى ويلطخ به (14).
7. وقالوا إن الدم نجس فلا يشرع إصابة الصبي به كسائر النجاسات (15).
وبعد هذا الاستعراض لحجج الفريقين أرى أن قول الجمهور هو الصحيح وأن التدمية غير جائزة وأن تدمية رأس المولود كانت من أمر الجاهلية ونسخها الإسلام .
قال ابن القيم :[ ولما أقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقيقة في الإسلام وأكد أمرها وأخبر أن الغلام مرتهن بها . نهاهم أن يجعلوا على رأس الصبي من الدم شيئاً وسن لهم أن يجعلوا عليه شيئاً من الزعفران لأنهم في الجاهلية إنما كانوا يلطخون رأس المولود بدم العقيقة تبركاً به فإن دم الذبيحة كان مباركاً عندهم حتى كانوا يلطخون منه آلهتهم تعظيماً لها وإكراماً فأمروا بترك ذلك لما فيه من التشبه بالمشركين وعوضوا عنه بما هو أنفع للأبوين وللمولود وللمساكين وهو حلق رأس الطفل والتصدق بزنة شعره ذهباً أو فضة وسن لهم أن يلطخوا الرأس بالزعفران الطيب الرائحة الحسن اللون بدلاً عن الدم الخبيث الرائحة النجس العين ، والزعفران من أطيب الطيب وألطفه وأحسنه لوناً ] (16).
وقال الإمام النووي :[ ولا بأس بلطخه بخلوق أو زعفران ] (17) .
المبحث الرابع عشر
حكم اجتماع الأضحية والعقيقة
إذا اجتمعت الأضحية والعقيقة ، كأن أراد شخصٌ أن يعقَ عن ولده يوم عيد الأضحى ، أو في أيام التشريق ، فهل تجزئ الأضحية عن العقيقة ؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين :
__________
(1) إرواء الغليل 4/387-388 .
(2) الاستذكار 15/381 ، فتح المالك 7/109 ، فتح الباري 12/11.
(3) سبق تخريجه ص 8 .
(4) سنن البيهقي 9/303 .
(5) المجموع 8/428 .
(6) فتح الباري 12/11 .
(7) إرواء الغليل 4/389 .
(8) الإحسان 12/124 .
(9) المجموع 8/429 ، وانظر المصباح المنير ص 180.
(10) سبق تخريجه .
(11) شرح ابن القيم على سنن أبي داود 8/28 ، وانظر المغني 9/462.
(12) بداية المجتهد 1/377 .
(13) الاستذكار 15/382 ، شرح الخرشي 3/48 .
(14) تحفة المودود ص 36 .
(15) شرح ابن القيم على سنن أبي داود 8/29 ، المغني 9/462.
(16) تحفة المودود ص 56 .
(17) المجموع 8/432.(/37)
القول الأول : تجزئ الأضحية عن العقيقة ، وبه قال الحسن البصري ومحمد ابن سيرين وقتادة وهشام - من التابعين - وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد (1) . وبه قال الحنفية ، قال ابن عابدين :[… وكذا لو أراد بعضهم العقيقة عن ولد قد ولد له من قبل ، لأن ذلك جهة التقرب بالشكر على نعمة الولد ذكره محمد ] (2) .
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن الحسن قال :[ إذا ضحوا عن الغلام فقد أجزأت عنه من العقيقة ] ورواه أيضاً عبد الرزاق (3) .
وروى ابن أبي شيبة عن هشام وابن سيرين قالا :[ يجزئ عنه الأضحية من العقيقة ] (4) .
وروى عبد الرزاق أيضاً عن قتادة قال:[ من لم يعق عنه أجزأته أضحيته ] (5).
وقال الخلال :[ باب ما روي أن الأضحية تجزئ عن العقيقة ، ثم ذكر عن الميموني أنه قال لأبي عبد الله – أحمد بن حنبل – : يجوز أن يضحى عن الصبي مكان العقيقة ؟ قال : لا أدري . ثم قال : غير واحد يقول به .
قلت: من التابعين . قال نعم … ثم قال : ذكر أبو عبد الله أن بعضهم قال : فإن ضحى أجزأ عن العقيقة … ثم قال: إن أبا عبد الله قال : أرجو أن تجزئ الضحية عن العقيقة إن شاء الله تعالى لمن لم يعق …ثم قال ورأيت أبا عبد الله اشترى أضحية ذبحها عنه وعن أهله وكان ابنه عبد الله صغيراً فذبحها أراه أراد بذلك العقيقة والأضحية وقسم اللحم وأكل منها ] (6) .
وترى هذه الطائفة من أهل العلم أن المقصود بالأضحية والعقيقة يحصل بذبح واحد ، وفي ذلك نوع شَبَهٍ من الجمعة والعيد إذا اجتمعتا .
وكما لو صلى ركعتين ينوي بهما تحية المسجد وسنة المكتوبة ، أو صلى بعد الطواف فرضاً أو سنة مكتوبة ، وقع عنه وعن ركعتي الطواف .
وكذلك لو ذبح المتمتع والقارن شاة يوم النحر أجزأ عن دم المتعة وعن الأضحية (7).
القول الثاني : لا تجزئ الأضحية عن العقيقة وهو قول المالكية والشافعية (8) والرواية الأخرى عن الإمام أحمد ، فقد روى الخلال عن عبد الله بن أحمد قال :[ سألت أبي عن العقيقة يوم الأضحى تجزئ أن تكون أضحية وعقيقة ؟ قال: إما أضحية وإما عقيقة على ما سمَّى ] (9) ، وعلى هذه الرواية أكثر الحنابلة (10).
وحجة هؤلاء أن كلاً من الأضحية والعقيقة ذبحان بسببين مختلفين ، فلا يقوم الواحد عنهما ، كدم التمتع ودم الفدية (11) .
وقالوا أيضاً إن المقصود بالأضحية إراقة الدم في كل منهما ، ولا تقوم إراقة مقام
إراقتين (12) .
وسئل الشيخ ابن حجر المكي عن ذبح شاة أيام الأضحية بنيتها ونية العقيقة ، فهل يحصلان أو لا ؟
فأجاب :[ الذي دل عليه كلام الأصحاب وجرينا عليه منذ سنين أنه لا تداخل في ذلك ، لأن كلاً من الأضحية والعقيقة ، سنةٌ مقصودةٌ لذاتها ، ولها سبب يخالف سبب الأخرى ، والمقصود منها غير المقصود من الأخرى ، إذ الأضحيةُ فداءٌ عن النفس ، والعقيقةُ فداءٌ عن الولد ، إذ بها نُمُّوهُ وصلاحهُ ، ورجاءُ بِرِّهِ وشفاعته ، وبالقول بالتداخل يبطل المقصود من كلٍ منهما ، فلم يمكن القول به نظير ما قالوه في سنة غسل الجمعة وغسل العيد ، وسنة الظهر وسنة العصر ، وأما تحية المسجد ونحوها فهي ليست مقصودة لذاتها بل لعدم هتك حرمة المسجد ، وذلك حاصلٌ بصلاة غيرها ، وكذا صوم نحو الاثنين ، لأن القصد منه إحياء هذا اليوم بعبادة الصوم المخصوصة ، وذلك حاصلٌ بأي صومٍ وقع فيه .
وأما الأضحية والعقيقة ، فليستا كذلك كما ظهر مما قررته وهو واضح ، والكلام حيث اقتصر على نحو شاة أو سُبُع بدنة أو بقرة ، أما لو ذبح بدنة أو بقرة عن سبعة أسباب ، منها ضحية وعقيقة والباقي كفارات في نحو الحلق في النسك فيجزي ذلك ، وليس هو من باب التداخل في شيء لأن كل سبع يقع مجزياً عما نوى به .
وفي شرح العباب: لو ولد له ولدان ، ولو في بطن واحدة ، فذبح عنهما شاة ، لم يتأدى بها أصل السنة كما في المجموع وغيره ، وقال ابن عبد البر: لا أعلم فيه خلافاً أ.هـ . وبهذا يعلم أنه لا يجزي التداخل في الأضحية والعقيقة من باب أولى ، لأنه إذا امتنع مع اتحاد الجنس فأولى مع اختلافه ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ](13).
__________
(1) فتح الباري 12/13 ، شرح السنة 11/267 ، الإنصاف 4/111 ، كشاف القناع 3/29 ، الفروع 3/564 ، تحفة المودود ص68 .
(2) حاشية ابن عابدين 6/326 .
(3) مصنف ابن أبي شيبة 8/244 ، مصنف عبد الرزاق 4/331 .
(4) مصنف ابن أبي شيبة 8/244 .
(5) مصنف عبد الرزاق 4/333 .
(6) تحفة المودود ص 68 .
(7) تصحيح الفروع 3/564 ،تحفة المودود ص69 .
(8) شرح الخرشي 3/41، الذخيرة 4/166 ، الفتاوى الكبرى الفقهية 4/256 .
(9) تحفة المودود ص68 .
(10) تصحيح الفروع 3/565 ، قواعد ابن رجب 1/156.
(11) تحفة المودود ص68 .
(12) الذخيرة 4/166 ، حاشية العدوي 3/48 .
(13) الفتاوى الكبرى الفقهية 4/256 .(/38)
والذي أراه راجحاً هو عدم إجزاء الأضحية عن العقيقة ، وعدم إجزاء العقيقة عن الأضحية ، لأن كلاً منهما لها سببها الخاص في إراقة الدم ، ولا تقوم إحداهما مقام الأخرى . والمسائل التي ذكروها ليست مسلَّمةً عند جميع العلماء ، فحصول العبادتين بنية واحدة ، أجازه من أجازه من أهل العلم ، لأنهم عدُّوها من قبيل الوسائل لا المقاصد ،كما لو نوى بغسله رفع الحدث الأصغر والأكبر ، أو نوى بالغسل الجمعة والجنابة ، وخالف في ذلك ابن حزم ،وأمَّا حصول تحية المسجد وسنَّة المكتوبة ، فلأن تحية المسجد تحصل وإن لم يقصدها ، وأمَّا ما صححوه من تجويز عبادتين بنيَّةٍ واحدةٍ فالذي يظهر أنَّ الشارع قد اعتبر فيه الأمرين المقصودين ولو لم يقصدهما الفاعل ،كمن يتصدق على ذي رحمه ينال أجرين : أجر الصدقة وأجر صلة الرحم (1).
الفصل الثاني
ما يتعلق بمن يتولى العقيقة ووقت ذبحها وفيه مباحث:
المبحث الأول : من يتولى العقيقة ؟
المبحث الثاني : وقت العقيقة .
المبحث الثالث : حكم من لم يُعَق عنه صغيراً هل يَعُقُّ عن نفسه إذا بلغ ؟
المبحث الرابع : التسمية والنية عند ذبح العقيقة .
المبحث الأول
من يتولى العقيقة ( من يَعُق عن المولود )
اختلف الفقهاء فيمن يتولى العقيقة على عدة أقوال :
القول الأول : يعق عن المولود أبوه ولا يلزم أحداً من الأقارب غير الأب وهذا قول المالكية والحنابلة ، وقال الحنابلة أيضاً :[ إن كان الأب غير موجود ومات وابنه حَمْلٌ فإن الأم تقوم مقام الأب في العقيقة ] (2) .
قال المرداوي :[ لا يَعقُّ غيرُ الأب على الصحيح في المذهب ونص عليه أكثر الأصحاب ] (3) . ويستدل لهم بما ورد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه - صلى الله عليه وسلم - قال :( من وُلِد له ولدٌ فأحب أن ينسك عنه فليفعل ) قالوا هذا يقتضي أن العقيقة في مال الأب عن ابنه ولذلك قال :( فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل ) فأثبت ذلك في جهة الأب عن الابن (4).
ونقل عن الإمام أحمد أنها على الأب :[ قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي : سألت أحمد عن الرجل يخبره والده أنه لم يعق عنه هل يعق عن نفسه ؟ قال : ذلك على الأب ] (5).
واحتجوا أيضاً بأن الأب هو المأمور بها في الأحاديث كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -
:( فأهريقوا عنه دماً ) (6) .
القول الثاني :إن كان للمولود مال فهي في ماله فإن لم يكن له مال وله أب فهي على الأب فإن لم يكن له أب وله أم فهي على الأم وبهذا قال ابن حزم (7).
القول الثالث : يعق عن المولود من تلزمه نفقته من مال العاق لا من مال المولود، وهو مذهب الشافعية ، قال الماوردي :[ والذي يتحملها ويختص بذبحها هو الملتزم لنفقة المولود من أبٍ أو جدٍ أو أمٍ أو جدةٍ لأنها من جملة مؤونة وإن كانت نفقته من ماله كأن يكون غنياً بميراث وعطية لم يجز أن يخرج من ماله لأنها ليست بواجبة كما لا يخرج منه الأضحية ، وكان الأب أو من قام مقامه في التزام النفقة مندوباً إلى ذبحها عنه كما لو كان الولد فقيراً ولا يكون سقوط النفقة عنه مسقطاً لسنة العقيقة عنه فإن كان الأب معسراً بالعقيقة ثم أيسر بها نظر يساره ] (8).
وهذا القول من الشافعية اقتضاهم أن يؤولوا ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عق عن الحسن والحسين بعدة تأويلات ذكرها النووي بقوله :[ قال الأصحاب وهو متأول على أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أباهما بذلك أو أعطاه ما عق به . أو أن أبويهما كانا عند ذلك معسرين فيكونان في نفقة جدهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] (9) .
وقال الحافظ العراقي :[ ويحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - تبرع بذلك بإذن أبيهما ويحتمل أن يكون ذلك من خصائصه أن له التبرع عمن شاء من الأمة كما ضحى - صلى الله عليه وسلم - عمن لم يضح من أمته فإنه من الخصائص ] (10) .
وقد رد الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس هذه التأويلات فقال :
1. إن القول بأن النبي- صلى الله عليه وسلم - أمر أباهما بالعقيقة مجرد دعوى تحتاج إلى برهان واحتمال بعيد بل معارض بما رواه البيهقي ومالك وأبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى فاطمة أن تعق عن الحسن بقوله :( لا تعقي ).
__________
(1) انظر مقاصد المكلفين ص 255 –256 .
(2) المنتقى 4/199، كشاف القناع 3/24 ، الشرح الممتع 7/536.
(3) الإنصاف 4/112 .
(4) المنتقى 4/199، مواهب الجليل 4/390 .
(5) تحفة المودود ص 46 .
(6) المصدر السابق .
(7) المحلى 6/235 .
(8) الحاوي 15/129 ، وانظر المجموع 8/432 ، طرح التثريب 5/207 ، مغني المحتاج 4/293.
(9) المجموع8/432 ، وانظر فتح الباري 12/13 .
(10) طرح التثريب 5/207 .(/39)
2. والقول أن أباهما كانا معسرين فيكونان في نفقة جدهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوى تحتاج إلى بينة ، والبينة قائمة على خلاف ذلك ، فالحديث المتقدم عن أبي رافع ينص على أن فاطمة رضي الله عنها كانت تريد أن تعق عن الحسن فأمرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ألا تعق عنه …
3. والقول بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعطى أباهما ليعق عنهما قول لا بينة عليه والدلائل والأخبار المتقدمة تدل على خلاف ذلك (1).
القول الرابع : يعق عن المولود غير الأب وغير من تلزمه نفقة المولود وبه قال الحافظ ابن حجر والصنعاني والشوكاني (2).
وحجة هؤلاء ما ورد في حديث سَمُرة ( تُذبح عنه يوم سابعه ) قال الحافظ ابن حجر :[ وقوله ( تُذبح ) بالضم على البناء للمجهول فيه أنه لا يتعين الذابح ] (3).
وقال الشوكاني :[ قوله ( تُذبح عنه يوم سابعه ) وفيه دليل على أنه يصح أن يتولى ذلك الأجنبي كما يصح أن يتولاه القريب عن قريبه ] (4) ، ويؤيد ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد عق عن الحسن والحسين .
مناقشة وترجيح :
الذي يظهر لي أن الأمر فيه سعة ، وأولى الناس بالعق عن المولود هو الأب أو من تلزمه نفقة المولود .
ولو رغب أحد الأقارب في تولي العقيقة فلا بأس في ذلك ، فإذا عق الجد أو الأخ أو العم أو الخال وإن لم تكن النفقة واجبة عليه فيكون بعمله ذلك قد أصاب السنة إن شاء الله تعالى .
العقيقة عن اليتيم :
من المعلوم أن اليتيم من بني آدم هو من مات أبوه قبل البلوغ ، وأما اليتيم من الحيوان فهو من ماتت أمه (5) .
وقد اختلف أهل العلم في العقيقة عن اليتيم فقال الشافعية لا يعق عنه من ماله (6) .
وقال المالكية يعق عنه من ماله (7).
والذي يظهر لي أنه يعق عن اليتيم من ماله إن كان له مال زائد عن حوائجه الأصلية إقامة لهذه الشعيرة ، فإن لم يكن له مال وتبرع أحد بالعقيقة عنه فأرجو أن تكون مجزئة .
المبحث الثاني
في وقت العقيقة
وفيه مطالب :
المطلب الأول :العقيقة في اليوم السابع :
وردت الأحاديث النبوية التي تحدد وقت العقيقة باليوم السابع من ولادة المولود منها :
1. حديث سَمُرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى ).
2. حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - :( أمر بتسمية المولود يوم سابعه ووضع الأذى عنه والعق ) .
3. حديث عائشة قالت :( عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حسن وحسين يوم السابع وسمَّاهما وأمر أن يماط عن رأسهما الأذى ) (8) .
فيؤخذ من هذه الأحاديث أن الوقت المستحب للعقيقة هو اليوم السابع من الولادة وهذا باتفاق علماء المسلمين للأحاديث الواردة في ذلك (9) .
قال الإمام الترمذي بعد أن ساق حديث سَمُرة :[ والعمل على هذا عند أهل العلم يستحبون أن يذبح عن الغلام العقيقة يوم السابع … ] (10) .
وبيَّن العلامة ابن القيم الحكمة من اختصاص العقيقة باليوم السابع للولادة فقال :[ وحكمة هذا والله أعلم أن الطفل حين يولد يكون أمره متردداً بين السلامة والعطب ولا يدرى هل هو من أمر الحياة أو لا ؟ إلى أن تأتي عليه مدة يستدل بما يشاهد من أحواله فيها على سلامة بنيته وصحة خلقته وأنه قابل للحياة وجعل مقدار تلك المدة أيام الأسبوع فإنه دور يومي كما أن السنة دور شهري ... والمقصود أن هذه الأيام أول مراتب العمر فإذا استكملها المولود انتقل إلى المرتبة الثانية وهي الشهور فإذا استكملها انتقل إلى الثالثة وهي السنين فما نقص عن هذه الأيام فغير مستوف للخليقة وما زاد عليها فهو مكرر يعاد عند ذكره اسم ما تقدم من عدده فكانت السنة غاية لتمام الخلق وجمع في آخر اليوم السادس منها فجعلت تسمية المولود وإماطة الأذى عنه وفديته وفك رهانه في اليوم السابع ](11).
__________
(1) أحكام الذبائح ص 183-184 .
(2) فتح الباري 12/6 ، سبل السلام 4/183، نيل الأوطار5/150-153 ، وانظر الشرح الممتع 7/536 .
(3) فتح الباري 12/13 .
(4) نيل الأوطار 5/150 .
(5) المصباح المنير ص679 .
(6) المجموع 8/448 .
(7) مواهب الجليل 4/390 .
(8) سبق تخريج هذه الأحاديث .
(9) بداية المجتهد 1/376 ، الإنصاف 4/111 ، المحلى 6/234 ، المجموع 8/431 ، المغني 9/461 ، عون المعبود 8/28 .
(10) سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/95-96 .
(11) تحفة المودود ص 75-76 .(/40)
وقال الشيخ ابن عثيمين :[ يسن أن تذبح في اليوم السابع ، فإذا ولد يوم السبت فتذبح يوم الجمعة يعني قبل يوم الولادة بيوم ، هذه هي القاعدة ، وإذا ولد يوم الخميس فهي يوم الأربعاء وهلمَّ جرا ، والحكمة في أنها تكون في اليوم السابع ، أن اليوم السابع تختم به أيام السنة كلها فإذا ولد يوم الخميس مرَّ عليه الخميس والجمعة والسبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء فبمرور أيام السنة يُتفاءل أن يبقى هذا الطفل ويطول عمره ] (1) .
وبعد اتفاق العلماء على أن اليوم السابع هو المستحب للعقيقة اقتداءً برسول الله- صلى الله عليه وسلم - الذي عق عن الحسن والحسين فيه اختلفوا في بعض فروع هذه المسألة :
المطلب الثاني : حكم ذبح العقيقة قبل اليوم السابع :
في المسألة قولان :
القول الأول : أجاز الشافعية والحنابلة ذبح العقيقة قبل اليوم السابع من الولادة ونقله ابن حزم عن محمد بن سيرين من التابعين (2) .
قال ابن القيم :[ والظاهر أن التقييد بذلك - السابع - استحباب وإلا فلو ذبح عنه في الرابع أو الثامن أو العاشر أو ما بعده أجزأت ] (3) .
القول الثاني : قال المالكية لا يجوز ذبح العقيقة قبل اليوم السابع وهو قول ابن حزم الظاهري والأمير الصنعاني (4) ، لأنه خلاف النص لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - :( تُذبح عنه يوم سابعه ) فيه تحديد لوقتها فلا تشرع قبله (5) .
المطلب الثالث : حكم ذبح العقيقة بعد اليوم السابع :
للفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوال :
القول الأول : لا يجوز ذبح العقيقة بعد اليوم السابع وهذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك وبه قال الأمير الصنعاني والمباركفوري وصاحب عون المعبود(6) .
ودليلهم الأحاديث السابقة حيث وقع فيها تحديد وقت ذبح العقيقة باليوم السابع ، قال المباركفوري :[ والظاهر أن العقيقة مؤقتة باليوم السابع ، فقول مالك هو الظاهر والله تعالى أعلم ، وأما رواية السابع الثاني والسابع الثالث فضعيفة ] (7) .
القول الثاني : يجوز ذبح العقيقة في السابع الثاني - اليوم الرابع عشر - وفي السابع الثالث - الحادي والعشرون - ولا يجوز بعد ذلك . ونقل عن عائشة وإسحاق وهذا قول في مذهب الإمام الشافعي وهو رواية ابن حبيب عن الإمام مالك ، وقيده الحافظ ابن عبد البر بالسابع الثاني فقط كما رواه ابن وهب عن مالك (8) .
وهو رواية عن الإمام أحمد :[ قال صالح بن أحمد : قال أبي في العقيقة تذبح يوم السابع فإن لم يفعل ففي أربعة عشر فإن لم يفعل ففي أحد وعشرين ] (9) .
وقال الإمام الترمذي بعد أن ساق حديث سمرة :[ والعمل على هذا عند أهل العلم يستحبون أن يذبح عن الغلام العقيقة يوم السابع فإن لم يتهيأ يوم السابع فيوم الرابع عشر فإن لم يتهيأ عق عنه يوم إحدى وعشرين ] (10).
وقال عطاء : إن أخطأهم أمر العقيقة يوم السابع أحببت أن يؤخروه إلى يوم السابع الآخر .
وقال ابن وهب من المالكية لا بأس أن يعق عنه في السابع الثالث (11).
وحجة هؤلاء ما رواه البيهقي بسنده عن إسماعيل بن مسلم عن قتادة عن عبدالله ابن بريدة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( العقيقة تذبح لسبع ولأربع عشرة ولإحدى وعشرين ) رواه البيهقي (12) ، وذكر الحافظ ابن حجر أن الطبراني أخرجه من رواية إسماعيل بن مسلم عن عبد الله بن بريدة وإسماعيل ضعيف وذكر الطبراني أنه تفرد به (13)، فالحديث ضعيف كما قال الشيخ الألباني (14)، وورد هذا الحديث موقوفاً على عائشة رواه الحاكم في المستدرك بسنده عن عطاء عن أم كرز وأبي كرز قالا :( نذرت امرأة من آل عبد الرحمن بن أبي بكر إن ولدت امرأة عبد الرحمن نحرت جزوراً . فقالت عائشة رضي الله عنها : لا بل السنة أفضل عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة تقطع جُدولاً ولا يكسر لها عظم فيأكل ويطعم ويتصدق وليكن ذلك يوم السابع فإن لم يكن ففي أربعة عشر فإن لم يكن ففي إحدى وعشرين ) وقال الحاكم : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي (15) .
__________
(1) الشرح الممتع 7/538-539.
(2) المحلى 6/240 ، وانظر المجموع 8/431 ، المغني 9/461 .
(3) تحفة المودود ص 50 .
(4) شرح الخرشي 3/47 ، المحلى 6/234، 240 ، المنتقى 4/200، سبل السلام 4/181 .
(5) المحلى 6/240 ، سبل السلام 4/181 .
(6) شرح الخرشي 3/47 ، المنتقى4/204 ، سبل السلام 4/181 ، عون المعبود 8/28.
(7) تحفة الأحوذي 5/98.
(8) فتح المالك 7/105 ، المجموع 8/431 ، المغني 9/461 .
(9) تحفة المودود ص 48 ، وانظر فتح الباري 12/12 .
(10) سنن الترمذي 4/86 .
(11) فتح المالك 7/105.
(12) سنن البيهقي 9/303 .
(13) فتح الباري 12/12 ، وانظر مجمع الزوائد 4/59 .
(14) إرواء الغليل 4/395 .
(15) المستدرك 5/238 .(/41)
وقال الشيخ الألباني :[ رجاله كلهم ثقات معروفون رجال مسلم غير إبراهيم بن عبد الله وهو السعدي النيسابوري وهو صدوق كما قال الذهبي في الميزان . وغير أبي عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني وهو حافظ كبير مصنف ويعرف بابن الأحزم توفي سنة 344 هـ له ترجمة في التذكرة 3/76-77 . قلت - الألباني - : وعلى هذا فظاهر الإسناد الصحة ولكن له عندي علتان ] (1)، ثم ذكر أن فيه انقطاعاً وشذوذاً وإدراجاً .
وحجتهم في هذا الحديث أن هذا تقدير والظاهر أن عائشة لا تقول ذلك إلا توقيفاً (2) .
القول الثالث : تجوز العقيقة في أي وقت كان بعد اليوم السابع مع مراعاة الأسابيع على رواية عند الحنابلة وبه قال أبو عبد الله البوشنجي من أئمة الشافعية .
وبدون مراعاة الأسابيع أي على حسب الإمكان وبدون تحديد عند الشافعية في المختار عندهم ، قال الإمام النووي :[ مذهبنا أن العقيقة لا تفوت بتأخيرها عن اليوم السابع وبه قال جمهور العلماء منهم عائشة وعطاء وإسحاق ] (3) .
قال في كفاية الأخيار :[ والمختار أن لا يتجاوز بها النفاس فإن تجاوزته فيختار أن لا يتجاوز بها الرضاع فإن تجاوز فيختار أن لا يتجاوز بها سبع سنين فإن تجاوزها فيختار أن لا يتجاوز بها البلوغ ] (4) .
وهو رواية أخرى عند الحنابلة قال المرداوي :[ تنبيه : مفهوم قوله :[ فإن فات ] يعني لم تكن في سبع [ ففي أربع عشرة فإن فات ففي إحدى وعشرين ] أنه لا يعتبر الأسابيع بعد ذلك ، فيعق بعد ذلك في أي يوم أراد وهو أحد الوجهين . وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب وصححه ابن رزين في شرحه . قلت وهو الصواب . قال في الرعاية الكبرى :[ فإن فات ففي إحدى وعشرين أو ما بعده ] . قال في الكافي :[ فإن أخرها عن إحدى وعشرين ذبحها بعده ، لأنه قد تحقق سببها ] (5) .
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي :[ وإن ذبح قبل ذلك أو بعده أجزأه ، لأن المقصود يحصل ، وإن تجاوز أحداً وعشرين احتمل أن يستحب في كل سابع فيجعله في ثمانية وعشرين ، فإن لم يكن ففي خمسة وثلاثين ، وعلى هذا قياساً على ما قبله ، واحتمل أن يجوز في كل وقت لأن هذا قضاء فائت ، فلم يتوقف – كذا والصواب لم يتوقت – كقضاء الأضحية وغيرها ] (6) .
وهو قول ابن حزم الظاهري والليث بن سعد ومحمد بن سيرين (7).
قال الحافظ ابن عبد البر :[ وقال الليث : يعق عن المولود في أيام سابعه كلها في أيها شاء منها ، فإن لم تتهيأ لهم العقيقة في سابعه فلا بأس أن يعق عنه بعد ذلك ، وليس بواجب أن يعق عنه بسبعة أيام ] (8) .
وقال ابن حزم :[ فإن لم تذبح في اليوم السابع ذبح بعد ذلك متى أمكن فرضاً ](9) .
المطلب الرابع: حكم العقيقة إذا مات المولود قبل اليوم السابع :
للفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوال :
القول الأول : تستحب العقيقة عن المولود إذا مات قبل اليوم السابع وهذا قول الشافعية ، قال النووي :[ لو مات المولود قبل اليوم السابع استحب العقيقة عندنا ](10) .
القول الثاني : قال ابن حزم بوجوب العقيقة عن المولود إذا مات مطلقاً سواء قبل اليوم السابع أو بعده (11) .
القول الثالث : قال المالكية لا تستحب العقيقة عن المولود إذا مات قبل اليوم السابع وهو قول الحنابلة وبه قال الحسن البصري (12) .
ورجح الشيخ ابن عثيمين أن العقيقة تسن ولو مات المولود قبل اليوم السابع (13) .
المطلب الخامس: حكم العقيقة إذا مات المولود بعد اليوم السابع ولم يعق عنه في اليوم السابع فهل يعق عنه بعد موته ؟
للفقهاء في هذه المسألة أقوال :
القول الأول : قال ابن حزم بوجوب العقيقة عن المولود الميت مطلقاً كما سبق (14).
القول الثاني : يستحب أن يعق عن المولود في هذه الحالة ، وهذا القول هو أصح وجهين في مذهب الشافعية ذكرهما الرافعي ، وهو قول الحنابلة (15).
القول الثالث : تسقط العقيقة في هذه الحالة وهو وجه آخر عند الشافعية وهو مقتضى قول المالكية (16) .
المطلب السادس: هل يحسب يوم الولادة في الأيام السبعة أم لا ؟
في المسألة قولان :
__________
(1) إرواء الغليل 4/395-396 .
(2) المغني 9/461 .
(3) المجموع 8/448 .
(4) كفاية الأخيار ص 534 .
(5) الإنصاف 4/112 ، وانظر الفروع 3/564 .
(6) المغني 9/461.
(7) المحلى 6/234 -240، المجموع 8/431 تحفة المودود ص 49-50.
(8) الاستذكار 15/375 .
(9) المحلى 6/234 .
(10) المجموع 8/448 .
(11) المحلى 6/234-235.
(12) المنتقى 4/200، مواهب الجليل 4/391 ، المجموع 8/448 ، الشرح الممتع 7/539 .
(13) الشرح الممتع 7/539.
(14) المحلى 6/234 .
(15) الشرح الممتع 7/540.
(16) المجموع 8/432 المنتقى 4/200.(/42)
القول الأول : قال الإمام مالك لا يعد اليوم الذي ولد فيه إن ولد نهاراً أي بعد الفجر وإن ولد قبل الفجر حسب ضمن الأيام السبعة وهو قول في مذهب الشافعية ، ورجحه الإسنوي وقال إن الفتوى عليه عند الشافعية وتبعه الحافظ العراقي في شرح الترمذي (1) .
القول الثاني : وقال الشافعية يحسب يوم الولادة من الأيام السبعة وهو قول الأكثرين منهم كما قال الماوردي وبه قال عبد الملك بن الماجشون من المالكية (2).
قال الإمام النووي :[ فإن ولد في الليل حسب اليوم الذي يلي تلك الليلة بلا خلاف ] (3). وهو قول الحنابلة ، قال الشيخ ابن عثيمين :[ يسن أن تذبح في اليوم السابع ، فإذا ولد يوم السبت فتذبح يوم الجمعة يعني قبل يوم الولادة بيوم هذه هي القاعدة ، وإذا ولد يوم الخميس فهي يوم الأربعاء وهلم جرّا ] (4) .
المطلب السابع: حكم ذبح العقيقة قبل الولادة :
لا يجزئ ذبح العقيقة قبل الولادة لأن سببها لم يوجد وهذا باتفاق الفقهاء ، فإذا ذبحها قبل الولادة فلا تكون عقيقة بل شاة لحم فقط قال النووي :[ وإن ذبحها قبل الولادة لم تجزه بلا خلاف بل تكون شاة لحم ] (5) .
المطلب الثامن: أفضل وقت للذبح نهاراً :
قال الإمام النووي :[ يستحب ذبح العقيقة في صدر النهار كذا نص الشافعي عليه في البويطي وتابعه الأصحاب ] (6).
وقال بعض الشافعية يستحب ذبحها عند طلوع الشمس (7) .
وقال المرداوي من الحنابلة :[ يستحب ذبح العقيقة ضحوة النهار ] (8) .
وقال بعض المالكية :[ تذبح نهاراً من فجر السابع لغروبه قياساً على الهدي لا على الأضحية ] (9) .
وعند المالكية اختلاف في مبدأ وقت الإجزاء ، فقيل وقتها وقت الأضحية ، أي ضُحىً .
وقيل بعد الفجر قياساً على قول مالك في الهدي (10) . وجعل بعض المالكية وقتها على ثلاثة أقسام :
الأول : مستحب ، وهو الضحوة إلى الزوال .
الثاني : مكروه ، بعد الزوال إلى الغروب وبعد الفجر إلى طلوع الشمس ولكنها مجزئة على القول الأظهر عندهم (11) .
الثالث : ممنوع ، وهو ذبحها ليلاً فلا تجزئ إذا ذبحت ليلاً (12) .
المطلب التاسع: حكم ذبح العقيقة ليلاً :
يجوز ذبحها ليلاً ، قال ابن رشد :[ ولا شك أن من أجاز الضحايا ليلاً أجاز هذه - العقيقة - ليلاً ] (13) ، ومنع من ذلك بعض المالكية كما سبق في الحكم الذي قبله .
المطلب العاشر: أيهما يقدم ذبح العقيقة أم حلق رأس المولود ؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين :
الأول : ذهب جماعة من أهل العلم إلى تقديم ذبح العقيقة على حلق رأس المولود ، قال البغوي :[ ويستحب أن يحلق رأس الصبي بعد ذبح العقيقة ] (14).
وقد صحح الإمام النووي هذا القول فقال :[ وهل يقدم الحلق على الذبح ؟ فيه وجهان : أصحهما وبه قطع المصنف والبغوي والجرجاني وغيرهم يستحب كون الحلق بعد الذبح وفي الحديث إشارة إليه ] (15) .
والحديث الذي يشير إليه هو حديث سمرة :( كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى ) . ولكن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب .
وأورد الحافظ ابن حجر رواية أخرى للحديث السابق عن أبي الشيخ بلفظ :( تذبح يوم سابعه ثم يحلق ) (16) . ويدل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين يوم السابع وأمر أن يماط عن رأسهما الأذى ) (17) .ويدل على ذلك أيضاً ما أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج قال :[ يبدأ بالذبح قبل الحلق ] (18) .
القول الثاني : أنه يبدأ بالحلق قبل الذبح ونقل عن عطاء فقد روى عبد الرزاق عن عطاء : يُبدأ بالحلق قبل الذبح (19) .
ونقل الروياني ذلك عن الشافعي (20).
الرأي المختار في وقت العقيقة والفروع المتعلقة به :
__________
(1) التاج والإكليل 4/390 ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/112 ، بداية المجتهد 1/376 ، الحاوي 15/129 ، الفتح الرباني 13/130 ، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/282 ، كفاية الأخيار ص 534 .
(2) الحاوي 15/129 ، كفاية الأخيار ص 534 ، بداية المجتهد 1/376 .
(3) المجموع 8/431.
(4) الشرح الممتع 7/538 .
(5) المجموع 8/431 وانظر الإنصاف 4/111 ، كشاف القناع 3/35 .
(6) المجموع 8/432 .
(7) كفاية الأخيار ص 535 .
(8) الإنصاف 4/110 ، وانظر كشاف القناع 3/25 .
(9) شرح الخرشي 3/47 .
(10) الاستذكار 15/372 ، بداية المجتهد 1/377 .
(11) التاج والإكليل 4/390 .
(12) التاج والإكليل 4/390 ، مواهب الجليل 4/392 ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/112 .
(13) بداية المجتهد 1/377 .
(14) التهذيب 8/50 .
(15) المجموع 8/433 .
(16) فتح الباري 12/13 .
(17) وانظر طرح التثريب 5/213 .
(18) مصنف عبد الرزاق 4/333 .
(19) مصنف عبد الرزاق 4/333 .
(20) المجموع 8/433 ، طرح التثريب 5/213، فتح الباري 12/13، التاج والإكليل 4/390 .(/43)
لا ريب أن أفضل وقت للعقيقة هو اليوم السابع للولادة لما جاء في الأحاديث المذكورة في أول هذه المسألة . ولو ذبح العقيقة قبله أو بعده فإن أصل السنة يحصل إن شاء الله تعالى ولا بأس بذلك لأن المقصود من العقيقة يحصل فلا أظن أن التحديد بالسابع حتمي ولكنه الأفضل فإن فات السابع الأول فلا بأس بمراعاة الأسابيع إن تيسر ذلك فإن لم يتيسر ، ذبحها في أي وقت . ولا أرى جواز تقديم العقيقة عن الولادة لأن سببها لم يقع بعد .
ولا أميل إلى العق عن المولود الميت سواءً مات قبل اليوم السابع أو بعده لأن العقيقة إشعار بالسرور بسلامة المولود ولم يسلم .
ولا بأس بذبح العقيقة في أي ساعة من ليل أو نهار حسب ظروف الشخص وأحواله . والذبح ليلاً جائز ولا شيء فيه وخاصة مع وجود وسائل الإضاءة فلا يخطئ الذابح في الذبح ومع وجود وسائل التبريد فلا يتعرض اللحم للتلف .
ويستحب ذبح العقيقة أولاً ثم حلق رأس المولود . والله أعلم .
المبحث الثالث
حكم من لم يُعَق عنه صغيراً هل يَعُقُّ عن نفسه إذا بلغ ؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : يستحب لمن لم يعق عنه صغيراً أن يعق عن نفسه كبيراً وبه قال عطاء والحسن ومحمد بن سيرين ، وذكر الحافظ العراقي أن الإمام الشافعي يرى أنه مخير في العقيقة عن نفسه ، واستحسن القفال الشاشي من الشافعية أن يعق عن نفسه كبيراً ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وعلق الشوكاني القول به على صحة الحديث المذكور أدناه .
القول الثاني : لا يعق عن نفسه وبه قال المالكية ،وقالوا إن العقيقة عن الكبير لا تعرف بالمدينة ، وهو رواية عن أحمد ونسب إلى الشافعي ، وضعف هذه النسبة الإمام النووي والحافظ ابن حجر وغيرهما ، والصحيح عن الشافعي ما ذكرته أولاً (1).
أدلة القول الأول :
استدلوا بما روي :( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن نفسه بعد النبوة ) وهذا الحديث تكلم عليه المحدثون كلاماً طويلاً أذكر خلاصته :
فالحديث رواه عبد الرزاق عن عبد الله بن محرر عن قتادة عن أنس - رضي الله عنه - (2) .
ورواه البيهقي بسنده عن عبد الله بن محرر عن قتادة عن أنس - رضي الله عنه - :( أن النبي- صلى الله عليه وسلم - عق عن نفسه بعد النبوة ) قال عبد الرزاق إنما تركوا عبد الله بن محرر لحال هذا الحديث . ثم قال : وقد روى من وجه آخر عن قتادة . ومن وجه آخر عن أنس وليس بشيء ] (3) .
قال الحافظ ابن حجر :[ وكأنه أشار بذلك إلى أن الحديث الذي ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن نفسه بعد النبوة لا يثبت وهو كذلك فقد أخرجه البزار من رواية عبدالله بن محرر وهو بمهملات عن قتادة عن أنس ، قال البزار : تفرد به عبدالله وهو ضعيف أ . هـ . وأخرجه أبو الشيخ من وجهين آخرين أحدهما : من رواية إسماعيل بن مسلم عن قتادة وإسماعيل ضعيف أيضاً وقد قال عبد الرزاق إنهم تركوا حديث عبد الله بن محرر من أجل هذا الحديث ، فلعل إسماعيل سرقه منه . ثانيهما : من رواية أبي بكر المستملي عن الهيثم بن جميل وداود بن المحبر قالا : حدثنا عبد الله بن المثنى عن ثمامة عن أنس ، وداود ضعيف ، لكن الهيثم ثقة ، وعبد الله من رجال البخاري ، فالحديث قوي الإسناد . وقد أخرجه محمد بن عبد الملك بن أيمن عن إبراهيم بن إسحق السراج عن عمرو الناقد ، وأخرجه الطبراني في الأوسط عن أحمد بن مسعود كلاهما عن الهيثم بن جميل وحده به ، فلولا ما في عبد الله بن المثنى من المقال لكان هذا الحديث صحيحاً ، لكن قد قال ابن معين ليس بشيء . وقال النسائي ليس بقوي ، وقال أبو داود لا أخرج حديثه ، وقال الساجي فيه ضعف ، لم يكن من أهل الحديث روى مناكير . وقال العقيلي لا يتابع على أكثر حديثه ، وقال ابن حبان في الثقات ربما أخطأ . ووثقه العجلي والترمذي وغيرهما ، فهذا من الشيوخ الذين إذا انفرد أحدهم بالحديث لم يكن حجة . وقد مشى الحافظ الضياء على ظاهر الإسناد فأخرج هذا الحديث في الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين ، ويحتمل أن يقال : إن صح هذا الخبر كان من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - كما قالوا في تضحيته عمن لم يضح من أمته ] (4) .
وقال الحافظ ابن عبد البر :[ وعبد الله بن محرر ليس حديثه بحجة ] (5) .
وقال النووي :[ وهذا حديث باطل ، قال البيهقي : هو حديث منكر ... فهو حديث باطل وعبد الله بن محرر ضعيف متفق على ضعفه . قال الحفاظ : هو متروك ] (6) .
__________
(1) المجموع 8/431 ، المغني 9/461 ، شرح السنة 11/264 ، المحلى 6/240 ، طرح التثريب 5/209 ، الإنصاف 4/113 ، مغني المحتاج 4/293 ، الفروع 3/564 ، كشاف القناع 3/25 ، فتح الباري 12/12-13 ، كفاية الأخيار ص 535 ، تحفة المودود ص 69 ، نيل الأوطار 5/153، الفروع 3/564 الحاوي 15/129 ، مواهب الجليل 4/391 .
(2) مصنف عبد الرزاق 4/229 .
(3) سنن البيهقي 9/300 .
(4) فتح الباري 12/12-13 ، وانظر التلخيص الحبير 4/147 .
(5) الاستذكار 15/376.
(6) المجموع 8/431-432 .(/44)
وقال الحافظ أبو زرعة العراقي :[ له طريق لا بأس بها رواها أبو الشيخ وابن حزم من رواية الهيثم بن جميل عن عبد الله المثنى عن ثمامة عن أنس ] (1) .
وذكر الذهبي في ترجمة عبد الله بن محرر أنه متروك ، وأن من بلاياه أنه روى عن قتادة عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن نفسه بعدما بعث (2) .
وقال الهيثمي :[ رواه البزار والطبراني في الأوسط ورجال الطبراني رجال الصحيح خلا الهيثم بن جميل وهو ثقة وشيخ الطبراني أحمد بن مسعود الخياط المقدسي ليس هو في الميزان ] (3) .
وقد صحح الشيخ الألباني الحديث في سلسلة الأحاديث الصحيحة الحديث رقم 2726 ، وتكلم عليه كلاماً طويلاً ، وذكر أن للحديث طريقين عن أنس - رضي الله عنه - : الأولى : عن عبد الله بن محرر عن قتادة عنه : ثم ذكر من أخرج الحديث من هذا الطريق وذكر تضعيفهم له ، ثم قال الشيخ الألباني :[ والطريق الأخرى عن الهيثم بن جميل حدثنا عبد الله بن المثنى بن أنس عن ثمامة بن أنس عن أنس به . أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار 1/461 والطبراني في المعجم الأوسط 1/55/2 رقم 976 – بترقيمي ، وابن حزم في المحلى 8/321 ، والضياء المقدسي في المختارة ق71/1 .
قلت – الألباني - : وهذا إسناد حسن رجاله ممن احتج بهم البخاري في صحيحه غير الهيثم بن جميل ، وهو ثقة حافظ من شيوخ الإمام أحمد وقد حدث عنه بهذا الحديث كما رواه الخلال عن أبي داود قال : سمعت أحمد يحدث به ، كما في أحكام المولود لابن القيم ص88 – دمشق ، ومن العجيب أنه أتبع هذه الطريق بالطريق الأولى وقال : قال أحمد : منكر ، وضعف عبد الله بن محرر . ولم يتعرض لهذه الطريق الأخرى بتضعيف ! وكذلك فعل الطحاوي وابن حزم ، فيمكن اعتبار سكوتهم عنه إشارة منهم لقبولهم إياه ، وهو حري بذلك فإن رجاله ثقات اتفاقاً، غير عبد الله بن المثنى وهو ابن عبد الله بن أنس بن مالك ، فإنه وإن احتج به البخاري فقد اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً كما ترى في التهذيب وغيره ، وذكره الذهبي في المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد 129/190 . فهو وسط . وأفاد الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح ص416 أن البخاري لم يحتج به إلا في روايته عن عمه ثمامة وأنه إنما روى له عن غيره متابعة . قلت : فلعل ذلك لصلة عبدالله بعمه ومعرفته بحديثه فهو به أعرف من حديث غيره فكأن البخاري بصنيعه هذا الذي أشار إليه الحافظ يوفق بين قول من وثقه وقول من ضعفه ، فهو في روايته عن عمه حجة ، وفي روايته عن غيره ضعيف . ولعل هذا هو وجه إيراد الضياء المقدسي للحديث في المختارة ، وسكوت من سكت عليه من الأئمة، كما أشرت إليه آنفاً .
وأما الحافظ ابن حجر فقد تناقض كلامه في هذا الحديث تناقضاً عجيباً ، فهو تارة يقويه ، وتارة يضعفه في المكان الواحد ! فقد نقل في الفتح 9/594-595 عن الإمام الرافعي أن الاختيار في العقيقة أن لا تؤخر عن البلوغ ، وإلا سقطت عمن كان يريد أن يعق عنه ، لكن إن أراد أن يعق عن نفسه فعل ، فقال الحافظ عقبه :[ وكأنه أشار بذلك إلى أن الحديث الذي ورد :( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن نفسه بعد النبوة ) لا يثبت وهو كذلك ] . ثم أخرجه من رواية البزار الضعيفة ، ثم قال :[ وأخرجه أبو الشيخ من وجهين آخرين :
أحدهما : من رواية إسماعيل بن مسلم عن قتادة عن أنس . وإسماعيل ضعيف أيضاً . فلعله سرقه من عبد الله بن محرر .
ثانيهما : من رواية أبي بكر المستملي عن الهيثم بن جميل … والهيثم ثقة ، وعبد الله من رجال البخاري . فالحديث قوي الإسناد ، وقد أخرجه ابن أعين … والطبراني في الأوسط … فلولا ما في عبد الله بن المثنى من المقال لكان هذا الحديث صحيحاً .
ثم ذكر أقوال العلماء فيه ممن وثقه وضعفه ، ثم قال : فهذا من الشيوخ الذين إذا انفرد أحدهم بالحديث لم يكن حجة ] .
قلت – الألباني - : وهذا الإطلاق فيه نظر ، يتبين لك من شرحنا السابق لتفريق البخاري بين رواية عبد الله بن المثنى عن عمه ؛ فاحتج بها ، وبين روايته عن غيره ؛ فاعتبر بها ، وهو مما استفدناه من كلام الحافظ نفسه في المقدمة ، فلعله لم يستحضره حين كتب هذا الإطلاق . على أن ابن المثنى لم يتفرد بالحديث ، بدليل متابعة قتادة عند إسماعيل بن مسلم – وهو المكي البصري – وهو وإن كان ضعيفاً فإنه لم يتهم ، بل صرح بعضهم أنه كان يخطئ . وقال أبو حاتم فيه – وهو معدود في المتشددين – :[ ليس بمتروك ، يكتب حديثه ] . أي للاعتبار والاستشهاد به ، ولذلك قال ابن سعد :[ كان له رأي وفتوى ، وبصر وحفظ للحديث ، فكنت أكتب عنه لنباهته ] .
قلت – الألباني - : فمثله يمكن الاستشهاد بحديثه فيقوى الحديث به .
وأما قول الحافظ المتقدم فيه :[ لعله سرقه من ابن المحرر ] فهو مردود بأن أحداً لم يتهمه بسرقة الحديث مع كثرة ما قيل فيه . والله أعلم .
__________
(1) طرح التثريب 5/210 وانظر المحلى 6/239.
(2) ميزان الاعتدال 2/500 .
(3) مجمع الزوائد 4/59.(/45)
ومما سبق يظهر لك أن الوجه الآخر عن قتادة مما أشار إليه البيهقي في كلامه المتقدم نقلاً عن الحافظ في التلخيص وقال هذا فيه :[ لم أره مرفوعاً ] ، قد رآه بعد وذكره في الفتح ، وهو رواية إسماعيل هذه . وبالله التوفيق .
وإذا تبين لك ما تقدم من التحقيق ظهر لك أن قول النووي في المجموع شرح المهذب 8/431-432 :[ هذا حديث باطل ] .
أنه خرج منه دون النظر في الطريق الثاني وحال راويه ابن المثنى في الرواية ، ولا وقف على المتابعة المذكورة ، والله أعلم ، وقد قال الهيثمي في مجمع الزوائد :[ رواه البزار والطبراني في الأوسط ، ورجال الطبراني رجال الصحيح ، خلا الهيثم بن جميل ، وهو ثقة ، وشيخ الطبراني أحمد بن مسعود الخياط المقدسي ليس هو في الميزان ] .
قلت : يشير إلى تمشيته ، وقد تابعه جمع من الثقات منهم الإمام أحمد كما تقدم .
والحديث قواه عبد الحق الإشبيلي في الأحكام ، وقد ذهب بعض السلف إلى العمل به ، فروى بن أبي شيبة في المصنف 8/235-236، عن محمد بن سيرين قال :[ لو أعلم أنه لم يعق عني لعققت عن نفسي ] . وإسناده صحيح ؛ إن كان أشعث الراوي له عن ابن سيرين هو ابن عبد الله الحداني أو ابن عبدالملك الحمراني ، وكلاهما بصري ثقة . وأما إن كان ابن سوار الكوفي فهو ضعيف ، وثلاثتهم رووا عن ابن سيرين ، وعنهم حفص – وهو ابن غياث – وهو الراوي لهذا الأثر عن أشعث !
وذكر ابن حزم في المحلى 8/322 ، من طريق الربيع بن صبيح عن الحسن البصري :[ إذا لم يعق عنك ، فعق عن نفسك وإن كنت رجلاً ] . وهذا إسناد حسن ] (1) .
أدلة الفريق الثاني :
قالوا إن العقيقة مشروعة في حق الوالد فلا يفعلها الولد إذا بلغ فالسنة ثبتت في حق غيره . وقالوا أيضاً إن الحديث الذي احتج به الفريق الأول ليس ثابتاً كما سبق الكلام عليه ، ولو ثبت يمكن أن يحمل على أنه خاص به - صلى الله عليه وسلم - (2).
مناقشة وترجيح :
إن الحديث الذي احتج به الفريق الأول مختلف في ثبوته عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فمن العلماء من ضعفه وهم كثر ومنهم من صححه واحتج به فيمكن الاستئناس بهذا الحديث على جواز أن يعق الإنسان عن نفسه كبيراً إذا لم يعق عنه صغيراً .وأما الادعاء بأن الحديث إن ثبت فهو من خصوصياته - صلى الله عليه وسلم - فهذه الدعوى تحتاج إلى دليل على الخصوصية ، ولا أعلم دليلاً على ذلك .
كما أنه لم يرد ما يمنع من العقيقة حال الكبر ووردت آثار عن بعض السلف تجيز ذلك منها :
1. عن الحسن البصري قال :[ إذا لم يعق عنك فعق عن نفسك وإن كنت رجلاً ] (3) .
2. وقال محمد بن سيرين :[ عققت عن نفسي ببختية بعد أن كنت رجلاً ] (4).
3. ونقل عن الإمام أحمد أنه استحسن إن لم يعق عن الإنسان صغيراً أن يعق
عن نفسه كبيراً وقال :[ إن فعله إنسان لم أكرهه ] (5) .
وبناءً على ما تقدم فلا بأس أن يعق الإنسان عن نفسه حال الكبر إن لم يعق عنه حال الصغر والله أعلم .
المبحث الرابع
التسمية والنية عند ذبح العقيقة
ما يقال عند ذبح العقيقة :
تجب التسمية عند ذبح العقيقة كغيرها من الذبائح لأن التسمية واجبة عند الذبح كما هو مذهب جمهور أهل العلم ويرى الشافعية أن التسمية على العقيقة مستحبة كقولهم في التسمية على الذبائح (6) .
ويقول الذابح : بسم الله والله أكبر اللهم لك وإليك هذه عقيقة فلان .
وقد ورد هذا في حديث عائشة رضي الله عنها :( عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن والحسين وقال : قولوا بسم الله والله أكبر اللهم لك وإليك هذه عقيقة فلان ) رواه البيهقي (7) ، وقال النووي : بإسناد حسن (8) .
وفي رواية أخرى عن عائشة رضي الله عنها قالت :( فعق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن والحسين شاتين شاتين يوم السابع وأمر أن يماط عن رأسه الأذى وقال : اذبحوا على اسمه وقولوا بسم الله الله أكبر منك ولك هذه عقيقة فلان ... ) .
قال الهيثمي :[ رواه أبو يعلى والبزار باختصار ورجاله رجال الصحيح خلا شيخ أبي يعلى إسحاق فإني لم أعرفه ] (9).
ولا يشترط التلفظ في ذلك ، قال ابن المنذر : [ وإن نوى العقيقة ولم يتكلم به أجزأه إن شاء الله ] (10).
ملحق بالمندوبات المتعلقة بالمولود وهي :
الأذان في أذن المولود .
التحنيك .
حلق شعر رأسه والتصدق بزنته .
التسمية .
الختان .
التهنئة .
أولاً : الأذان في أذن المولود :
__________
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة 6/1/503-506 .
(2) المغني 9/461 ، فتح الباري 12/13 ، تحفة المودود ص 69 .
(3) المحلى 2/240 ، شرح السنة 11/264 .
(4) شرح السنة 11/264 ، والبختية : الأنثى من الجمال البخت وهي جمال طوال الأعناق .
(5) تحفة المودود ص 69 .
(6) المجموع 8/428 .
(7) سنن البيهقي 9/303 .
(8) المجموع 8/428 .
(9) مجمع الزوائد 4/58 .
(10) تحفة المودود ص 74 .(/46)
يستحب أن يؤذن في أذن المولود اليمنى والإقامة في أذنه اليسرى عند ولادته ذكراً كان أو أنثى ويكون الأذان بلفظ أذان الصلاة (1) ويكون ذلك يوم الولادة كما يؤخذ من الأحاديث التالية :
1.عن أبي رافع - رضي الله عنه - قال :( رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذَّن في أُذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة ) رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث صحيح , ورواه البيهقي والحاكم وصححه ، وحسنه الألباني (2) .
2.وعن ابن عباس رضي الله عنهما ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذّن في أُذن الحسن بن علي يوم ولد فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى ) رواه البيهقي(3) .
3.وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى رفعت عنه أم الصبيان ) رواه البيهقي ورواه ابن السني (4) .
وهذا الحديث ضعيف ضعفه ابن القيم ، ولكن الشيخ الألباني يرى أن الحديث موضوع ولا يصلح شاهداً لما قبله من الأحاديث فقد ذكره في السلسلة الضعيفة وحكم عليه بالوضع وتكلم على إسناده وذكر من رواه ثم قال :[ وقد خفي وضع هذا الحديث على جماعة ممن صنفوا في الأذكار والأوراد كالإمام النووي رحمه الله فإنه أورده في كتابه برواية ابن السني دون أن يشير ولو إلى ضعفه فقط وسكت عليه شارحه ابن علان 6/95 فلم يتكلم على سنده بشيء ! ثم جاء ابن تيمية من بعد النووي فأورده في الكلم الطيب ثم تبعه تلميذه ابن القيم فذكره في الوابل الصيب إلا أنهما قد أشارا إلى تضعيفه بتصديرهما إياه بقولهما ويذكر وهذا وإن كان يرفع عنهما مسؤولية السكوت عن تضعيفه فلا يرفع مسؤولية إيراده أصلاً فإن فيه إشعاراً أنه ضعيف فقط وليس بموضوع وإلا لما أورداه إطلاقاً وهذا ما يفهمه كل من وقف عليه في كتابيهما ولا يخفى ما فيه فقد يأتي من بعدهما من يغتر بصنيعهما هذا وهما الإمامان الجليلان فيقول : لا بأس فالحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال ! أو يعتبره شاهداً لحديث آخر ضعيف يقويه به ذاهلاً عن أنه يشترط في هذا أو ذاك أن لا يشتد ضعفه وقد رأيت من وقع في شيء مما ذكرت فقد روى الترمذي بسند ضعيف عن أبي رافع - رضي الله عنه - قال :( رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة ) . وقال الترمذي حديث صحيح والعمل عليه . فقال شارحه المباركفوري بعد أن بين ضعف إسناده مستدلاً عليه بكلمات الأئمة في رواية عاصم بن عبيدالله : فإن قلت : كيف العمل عليه وهو ضعيف ؟ قلت : نعم هو ضعيف ، لكنه يعتضد بحديث الحسين بن علي رضي الله عنهما الذي رواه أبو يعلى الموصلي وابن السني . فتأمل كيف قوى الضعيف بالموضوع وما ذلك إلا لعدم علمه بوضعه واغتراره بإيراده من ذكرنا من العلماء .
نعم يمكن تقوية حديث أبي رافع بحديث ابن عباس رضي الله عنهما :( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذّن في أذن الحسن بن علي يوم ولد وأقام في أذنه اليسرى ) أخرجه البيهقي في الشعب مع حديث الحسن بن علي وقال : وفي إسنادهما ضعف . ذكره ابن القيم في التحفة ص 16 .
قلت : فلعل إسناد هذا خير من إسناد حديث الحسن بحيث أنه يصلح شاهداً لحديث رافع ، والله أعلم ] (5) .
وذكر الإمام النووي الحديث في المجموع ولم يتكلم عليه وقال :[ وأم الصبيان هي التابعة من الجن ] (6) .
وروي أن عمر بن عبد العزيز كان يؤذن في اليمنى ويقيم في اليسرى إذا ولد الصبي . رواه عبد الرزاق في المصنف ، وذكره البغوي في شرح السنة ، وقال الحافظ ابن حجر : لم أره عنه مسنداً وقد ذكره ابن المنذر عنه (7) .
ويؤخذ من هذه الأحاديث أن الأذان في أذن المولود اليمنى والإقامة في أذنه اليسرى من السنة وهذه الأحاديث تصلح لإثبات هذا الأمر الذي يعد من فضائل الأعمال .
قال الإمام النووي :[ السنة أن يؤذن في أذن المولود عند ولادته ذكراً كان أو أنثى ويكون الأذان بلفظ أذان الصلاة ] (8) .
وذكر ابن العربي المالكي أن ذلك من السنة وقال :[ وقد فعلت ذلك بأولادي والله يهب الهدى ] (9) .
__________
(1) المجموع 8/442 ، المغني 1/464 ، عون المعبود 14/7 ، تحفة المودود ص25 ، زاد المعاد 2/333 .
(2) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 14/7 ، المستدرك 4/175 ، صحيح سنن أبي داود 3/961 ، سنن الترمذي 4/82 ، سنن البيهقي 9/305 .
(3) شعب الإيمان 6/390 .
(4) شعب الإيمان 6/390 ، عمل اليوم والليلة ص 378.
(5) سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/330-331 .
(6) المجموع 8/443 .
(7) مصنف عبد الرزاق 4/336 ، شرح السنة 11/273 ، التلخيص الحبير 4/149 .
(8) المجموع 8/442 .
(9) التاج والإكليل 4/391 .(/47)
وقد بين ابن القيم الحكمة من الأذان في أذن المولود فقال:[ وسر التأذين والله أعلم : أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثره به وإن لم يشعر مع ما في ذلك من فائدة أخرى وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان وهو كان يرصده حتى يولد فيقارنه للمحنة التي قدرها الله وشاءها فيسمع شيطانه ما يضعفه ويغيظه أول أوقات تعلقه به .
وفيه معنىً آخر وهو أن تكون دعوته إلى الله وإلى دينه الإسلام وإلى عبادته سابقة على دعوة الشيطان كما كانت فطرة الله التي فطر الناس عليها سابقة على تغيير الشيطان لها ونقله عنها ولغير ذلك من الحكم ] (1)
ثانياً :التحنيك :
التحنيك : وهو في لغة العرب من حنَّكت الصبي تحنيكاً أي مضغت تمراً ودلكت به حنكه (2) .
قال الحافظ ابن حجر :[ والتحنيك مضغ الشيء ووضعه في فم الصبي ودلك حنكه به ، يصنع ذلك بالصبي ليتمرن على الأكل ويقوى عليه وينبغي عند التحنيك أن يفتح فاه حتى ينزل جوفه وأولاه التمر فإن لم يتيسر تمر فرطب وإلا فشيء حلو وعسل النحل أولى من غيره ثم ما لم تمسه نار كما في نظيره مما يفطر الصائم عليه ] (3) .
والتحنيك بالتمر مستحب ولو حنكه بغيره كالعسل حصل التحنيك ولكن التمر أفضل (4) .
اتفق العلماء على أن تحنيك المولود من السنن المستحبة ، قال الإمام النووي :[ اتفق العلماء على استحباب تحنيك المولود عند ولادته بتمر فإن تعذر فما في معناه وقريب منه من الحلو فيمضغ المحنكُ التمرَ حتى تصير مائعة بحيث تبتلع ثم يفتح فم المولود ويضعها فيه ليدخل شيء منها في جوفه فإن لم يكن حاضراً حمل إليه ] (5) .
ويدل على استحباب التحنيك الأحاديث التالية :
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : ولد لي غلام ، فأتيت به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسماه إبراهيم فحنكه بتمرة ودعا له بالبركة ودفعه إليَّ وكان أكبر ولد أبي موسى ) رواه البخاري ومسلم (6) .
عن عائشة رضي الله عنها قالت :( أُتِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بصبي يحنكه فبال عليه فأتبعه الماء ) رواه البخاري (7) .
عن أسماء رضي الله عنها :أنها حملت بعبد الله بن الزبير بمكة قالت : فخرجت وأنا متم فأتيت المدينة فنزلنا قباء فولدت بقباء ثم أتيت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعته – أي في حجره - ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه . فكان أول شيء دخل في جوفه ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم حنكه بالتمرة ثم دعا له فبرك عليه وكان أول مولود ولد في الإسلام ففرحوا به فرحاً شديداً لأنهم قيل لهم : إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم ) رواه البخاري ومسلم (8) . ومعنى ( برَّك عليه ) أي دعا له بالبركة بأن يقول للمولود : بارك الله عليك
عن أنس - رضي الله عنه - قال : كان ابن أبي طلحة يشتكي فخرج أبو طلحة فقبض الصبي فلما رجع أبو طلحة قال : ما فعل ابني ؟ قالت أم سليم : هو أسكن ما كان فقربت إليه العشاء ثم أصاب منها فلما فرغ قالت : وارِ الصبي فلما أصبح أبو طلحة أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أعرستم الليلة ؟ قال : نعم قال : اللهم بارك لهما في ليلتهما فولدت غلاماً قال لي
أبو طلحة : احفظه حتى تأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرسلت معه بتمرات فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أمعه شيء ؟ قالوا : نعم تمرات . فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - فمضغها ثم أخذ من فيه فجعلها في فيّ الصبي وحنكه به وسماه عبد الله ) رواه البخاري (9) .
وفي رواية أخرى عن أنس - رضي الله عنه - قال : ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة الأنصاري إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ولد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عباءة يهنأ بعيراً له فقال : هل معك تمر ؟ فقلت : نعم فناولته تمرات فألقاهن في فيه فلاكهن ثم فغر فا الصبي فمجه في فيه فجعل الصبي يتلمظه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( حب الأنصار التمر ) وسماه عبد الله ) رواه مسلم (10) .
__________
(1) تحفة المودود ص25-26 .
(2) المصباح المنير ص154 .
(3) فتح الباري 12/4 .
(4) المجموع 5/303 .
(5) شرح النووي على صحيح مسلم 5/302 ، المجموع 8/443 ، الإنصاف 4/114 ، التهذيب 8/51 ،
(6) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 4/12 ، صحيح مسلم مع شرح النووي 5/304 .
(7) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 12/5 .
(8) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 12/5-6 ، شرح النووي على صحيح مسلم 5/304 .
(9) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 12/6 .
(10) شرح النووي على صحيح مسلم 5/302 .(/48)
عن عائشة رضي الله عنها قالت : جئنا بعبد الله بن الزبير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحنكه فطلبنا تمرة فعز علينا طلبها ) رواه مسلم (1) .
الحكمة من التحنيك :
قال الحافظ ابن حجر:[ يصنع ذلك ليتمرن على الأكل ويقوى عليه ] (2) .
واعترضه العيني شارح البخاري:[ وأين وقت الأكل من وقت التحنيك ؟ وهو حين يولد والأكل غالباً بعد سنتين أو أقل أو أكثر ؟ والحكمة فيه أنه يتفاءل له بالإيمان لأن التمر ثمرة الشجرة التي شبهها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمؤمن وبحلاوته أيضاً ولا سيما إذا كان المحنك من أهل الفضل والعلماء والصالحين لأنه يصل إلى جوف المولود من ريقهم ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حنك عبد الله بن الزبير حاز من الفضائل والكمالات ما لا يوصف ؟ وكان قارئاً للقرآن عفيفاً في الإسلام وكذلك عبد الله بن أبي طلحة كان من أهل العلم والفضل والتقدم في الخير ببركة ريقه المبارك ] (3) .
ويستحب أن يكون المحنك من الصالحين لحديث أنس في قصة عبد الله بن أبي طلحة .
قال النووي :[ وينبغي أن يكون المحنك من أهل الخير فإن لم يكن رجلاً فامرأة صالحة ] (4) .
وقال العيني :[ وحمله إلى صالح يحنكه ](5) .
ثالثاً :حلق رأس المولود والتصدق بزنة شعره :
وردت الأحاديث الكثيرة في حلق رأس المولود وإماطة الأذى عنه والتصدق بزنة شعره فضة .
وقد اتفق أهل العلم على أن ذلك من السنن .
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي :[ ويستحب أن يحلق رأس الصبي يوم السابع ويسمى لحديث سمرة وإن تصدق بزنة شعره فضة فحسن … ] (6) .
وقال الإمام النووي :[ يستحب حلق رأس المولود يوم سابعه قال أصحابنا ويستحب أن يتصدق بوزن شعره ذهباً فإن لم يفعل ففضة سواء فيه الذكر والأنثى ] (7) .
ويدل على هذه السنة أحاديث كثيرة منها :
عن سلمان بن عامر الضبي - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :( مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى ).
وعن سَمُرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمَّى ) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال :( مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى ) .
وعن أبي رافع - رضي الله عنه - أن الحسن بن علي حين ولدته أمه أرادت أن تعق عنه بكبش عظيم فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لها لا تعقي عنه بشيء ولكن احلقي شعر رأسه ثم تصدقي بوزنه من الورق في سبيل الله عز وجل أو على ابن السبيل وولدت الحسين من العام المقبل فصنعت مثل ذلك ) .
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال :( عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن بشاة وقال يا فاطمة احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة قال فوزنته فكان وزنه درهماً أو بعض درهم ) .
وعن عبد الله بن بريدة قال : سمعت أبي - بريدة - يقول : كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران .
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال :( عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن بشاة وقال : يا فاطمة احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة . قال : فوزنته فكان وزنه درهماً أو بعض درهم ) (8).
والذكر والأنثى في حلق الرأس سواء ويدل على ذلك ما رواه مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه قال : وزنت فاطمة بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - شعر حسن وحسين وزينب وأم كلثوم فتصدقت بزنة ذلك فضة (9).
وإماطة الأذى المذكورة في الأحاديث تشمل تنظيف المولود من كل قذر وتشمل أيضاً حلق الرأس .
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني :[ قوله ( الأذى ) وقع عند أبي داود من طريق سعيد بن أبي عروبة وابن عون عن محمد بن سيرين قال : إن لم يكن الأذى حلق الرأس فلا أدري ما هو ؟ وأخرج الطحاوي من طريق يزيد بن إبراهيم عن محمد بن سيرين قال : لم أجد من يخبرني عن تفسير الأذى أ.هـ . وقد جزم الأصمعي بأنه حلق الرأس وأخرجه أبو داود بسند صحيح عن الحسن كذلك ، ووقع في حديث عائشة عند الحاكم ( وأمر أن يماط عن رؤوسهما الأذى ) ولكن لا يتعين ذلك في حلق الرأس فقد وقع في حديث ابن عباس عند الطبراني ( ويماط عنه الأذى ويحلق رأسه ) فعطفه عليه ، فالأولى حمل الأذى على ما هو أعم من حلق الرأس ويؤيد ذلك أن في بعض طرق حديث عمرو بن شعيب ( ويماط عنه أقذاره ) ] (10) .
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 5/305 .
(2) فتح الباري 12/4 .
(3) عمدة القاري 14/464 .
(4) المجموع 8/443 .
(5) عمدة القاري 14/465 .
(6) المغني 9/461 .
(7) المجموع 8/432 .
(8) سبق تخريج هذه الأحاديث .
(9) الموطأ 2/399 ، وانظر الاستذكار 15/370 .
(10) فتح الباري 12/10 ، وانظر المجموع 8/429 ، سنن البيهقي 9/303 .(/49)
وورد في الأحاديث أيضاً استحباب الصدقة بالفضة وينوب عنها الصدقة بالنقود المتداولة اليوم .
رابعاً : التسمية :
التسمية : هي جعل الاسم للمولود (1) .
وقت التسمية : وقد وردت التسمية للمولود في اليوم السابع من ولادته كما في
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي- صلى الله عليه وسلم - أمر بتسمية المولود يوم سابعه ووضع الأذى عنه والعق ) .
وعن سَمُرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمَّى ) (2) .
وغير ذلك من الأحاديث .
وإذا سمي المولود قبل اليوم السابع أو بعده فهو جائز ولا حرج فيه قال ابن القيم :[ إن التسمية لما كانت حقيقتها تعريف الشيء المسمى لأنه إذا وجد وهو مجهول الاسم لم يكن له ما يقع تعريفه به فجاز تعريفه يوم وجوده وجاز تأخير التعريف إلى ثلاثة أيام وجاز إلى يوم العقيقة عنه ويجوز قبل ذلك وبعده والأمر فيه واسع ] (3) .
وورد في حديث أنس - رضي الله عنه - السابق ( قال لي أبو طلحة : احفظه حتى تأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرسلت معه بتمرات فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أمعه شيء ؟ قالوا : نعم تمرات . فأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - فمضغها ثم أخذ من فيه فجعلها في فيّ الصبي وحنكه به وسماه عبد الله
وعن أنس - رضي الله عنه - أيضاً قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( ولد الليلة لي غلام فسميته باسم أبي إبراهيم ) رواه مسلم .
الأسماء ما يستحب منها وما يكره وما يحرم :
ويجوز للإنسان أن يسمي مولوده بما يشاء من الأسماء فالأصل في ذلك الإباحة والجواز إلا ما استثني على سبيل الكراهة أو التحريم فينبغي للمسلم أن يختار اسماً حسناً لمولوده ذكراً كان أو أنثى . فقد ورد في الحديث عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم ] رواه أبو داود بإسناد جيد كما قال النووي (4) .
فيستحب تحسين الاسم وأفضل الأسماء عبدالله وعبدالرحمن كما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( إن أحب أسمائكم إلى الله عز وجل عبدالله وعبدالرحمن ) رواه مسلم (5).
وعن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل :( سمِّ ابنك عبد الرحمن ) رواه البخاري (6).
وعن أبي وهب الجشمي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( تسموا بأسماء الأنبياء، أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة ) رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني دون قوله ( تسموا بأسماء الأنبياء ) (7) .
ومن الأسماء ما يحرم التسمية به فقد اتفق العلماء على تحريم كل اسم معبد لغير الله سبحانه وتعالى كعبد الرسول وعبد النبي وعبد عمرو وعبد علي وعبد الحسين (8) .
وتحرم التسمية بملك الملوك وسلطان السلاطين ونحوها وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( إن أخنع اسم عند الله رجل يُسمَّى ملك الأملاك ) رواه البخاري ومسلم .
ويلحق به التسمية بقاضي القضاة على قول جماعة من أهل العلم قال ابن القيم :[ وفي معنى ذلك كراهية التسمية بقاضي القضاة وحاكم الحكام فإن حاكم الحكام في الحقيقة هو الله وقد كان جماعة من أهل الدين والفضل يتورعون عن إطلاق لفظ قاضي القضاة وحاكم الحكام قياساً على ما يبغضه الله ورسوله من التسمية بملك الأملاك وهذا محض القياس ] (9) .
وتكره التسمية ببعض الأسماء كرباح ويسار ونجاح وفلاح لما ورد في الحديث عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( لا تسمين غلامك يساراً ولا رباحاً ولا نجيحاً ولا أفلح ) . رواه مسلم (10).
وتكره التسمية بأسماء الفراعنة والجبابرة كفرعون وهامان وقارون .
وتكره التسمية بالأسماء التي لها معان تكرهها النفوس كحرب ومرة وكلب وحبة ونحوها وقد سبق في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - :( وأقبحها حرب ومرة ) .
وتكره التسمية بالأسماء الأعجمية كجورج وحنا وانطوان ونحوها وهذا باب واسع ومن أراد التوسع فيه فليرجع لكتاب ابن القيم تحفة المودود ففيه فوائد كثيرة .
وقد ذكر د.بكر أبو زيد مراتب الأسماء استحباباً وجوازاً كما يلي :
__________
(1) المصباح المنير ص 291 .
(2) سبق تخريج الحديثين .
(3) تحفة المودود ص 88 .
(4) المجموع 8/436 .
(5) صحيح مسلم مع شرح النووي 5/294.
(6) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 10/699.
(7) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 14/200 ، صحيح سنن أبي داود 3/935 .
(8) تحفة المودود ص90 .
(9) تحفة المودود ص91 .
(10) صحيح مسلم مع شرح النووي 5/298.(/50)
استحباب التسمية بهذين الاسمين ( عبدالله وعبدالرحمن ) وهما أحب الأسماء إلى تعالى كما ثبت بذلك الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - … وفي الصحابة نحو ثلاثمائة رجل كل منهم اسمه عبدالله وبه سمي أول مولود للمهاجرين بعد الهجرة إلى المدينة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما .
ثم استحباب التسمية بالتعبيد لأي من أسماء الله الحسنى كعبد العزيز وعبد الملك وأول من تسمى بهما ابنا مروان بن الحكم والرافضة لا تسمي بهذين الاسمين منابذة للأمويين وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : أن الهروي رحمه الله سمَّى أهل بلده بعامة أسماء الله الحسنى وقال كذلك أهل بيتنا .
التسمية بأسماء الأنبياء والرسل ( وقد سمَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنه باسم أبيه إبراهيم ) رواه مسلم .
بأسماء الصالحين من المسلمين فقد ثبت من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :( أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين من قبلهم ) رواه مسلم .
ثم يأتي من الأسماء ما كان وصفاً صادقاً للإنسان بشروطه وآدابه .
ثم قال د.بكر أبو زيد:[ … يتبين أن اسم المولود يكتسب الصفة الشرعية متى توفر فيه هذان الشرطان:
الشرط الأول : أن يكون عربياً .
الشرط الثاني : أن يكون حسن المبنى والمعنى لغة وشرعاً ] (1) .
سادساً : الختان :
وهو قطع القلفة من الذكر وقطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج من الأنثى والختان من سنن الفطرة فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( الفطرة خمس : الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط ) رواه البخاري ومسلم (2).
قال ابن القيم :[ فجعل الختان رأس خصال الفطرة وإنما كانت هذه الخصال من الفطرة لأن الفطرة هي الحنيفية ملة إبراهيم وهذه الخصال أُمر بها إبراهيم وهي من الكلمات التي ابتلاه ربه بهن … ] (3) .
وقد ورد في الختان أحاديث أخرى غير ما ذكر .
خامساً :التهنئة بالمولود :
والتهنئة بالمولود من الأمور المستحبة عند جمهور الفقهاء (4) .
قال الإمام النووي :[ يستحب تهنئة المولود له قال أصحابنا : ويستحب أن يهنأ بما جاء عن الحسين - رضي الله عنه - أنه علّم إنساناً التهنئة فقال : قل : بارك الله لك في الموهوب لك وشكرت الواهب وبلغ أشده ورزقت بره .
ويستحب أن يرد على المهنئ فيقول : بارك الله لك وبارك عليك ، أو جزاك الله خيراً ورزقك الله مثله ، أو أجزل الله ثوابك ونحو هذا ] (5) .
تمَّ الكتاب والحمد لله رب العالمين
قائمة المصادر
القرآن الكريم .
الآثار / أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي / دار الكتب العلمية .
الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان / علاء الدين الفارسي / حققه شعيب الأرناؤوط / مؤسسة الرسالة .
أحكام الذبائح في الشريعة الإسلامية / د. محمد أبو فارس /مكتبة المنار/الأردن.
الاختيارات العلمية / شيخ الإسلام ابن تيمية / مطبعة كردستان العلمية / سنة 1329هـ / القاهرة .
الأذكار / يحيى بن شرف النووي / بدون معلومات طبع .
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل / محمد ناصر الدين الألباني / المكتب الإسلامي / ط 1 .
الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار / الحافظ ابن عبد البر / تحقيق د. عبد المعطي قلعجي / مؤسسة الرسالة / ط 1 .
الاستيعاب / الحافظ ابن عبد البر / تحقيق علي محمد البجاوي / دار الجيل / ط 1 .
إعلاء السنن / ظفر أحمد التهانوي / دار الكتب العلمية .
الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع / محمد الشربيني الخطيب / دار الفكر.
الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل / موسى بن أحمد الحجاوي المقدسي .
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف / علاء الدين المرداوي / دار إحياء التراث العربي / ط 2 .
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع / علاء الدين الكاساني/ مؤسسة التاريخ العربي/ ط 1 .
بداية المجتهد ونهاية المقتصد / ابن رشد الحفيد / دار الفكر العربي .
البداية والنهاية / الحافظ ابن كثير / دار الريان / ط1 .
بذل المجهود في حل أبي داود / خليل أحمد السهارنفوري /دار الكتب العلمية.
التاج والإكليل/ محمد ن يوسف المواق / دار الكتب العلمية / ط1 .
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي / الحافظ محمد عبد الرحمن المباركفوري ط1 سنة 1410هـ - 1990م / دار الكتب العلمية.
تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج / ابن الملقن / دار حراء .
تحفة الودود في أحكام المولود لابن القيم / المكتبة القيمة / القاهرة .
تربية الأولاد في الإسلام / عبد الله ناصح علوان / دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع / ط3 .
__________
(1) نقلاً عن حاشية الشرح الممتع 7/541-542 .
(2) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 12/456، صحيح مسلم مع شرح النووي 1/491 .
(3) تحفة المودود ص126 .
(4) المغني 9/464 ، الموسوعة الفقهية الكويتية 14/98 ، تحفة المودود ص23 .
(5) الأذكار ص 246-247 .(/51)
الترغيب والترهيب / الحافظ زكي الدين المنذري / دار إحياء التراث العربي.
تصحيح الفروع / علاء الدين المرداوي / عالم الكتب .
التعليق المغني على سنن الدارقطني / شمس الحق العظيم أبادي .
تفسير ابن كثير / الحافظ ابن كثير / دار إحياء التراث العربي .
تقريب التهذيب / الحافظ ابن حجر العسقلاني / دار نشر الكتب الإسلامية /الباكستان / ط1 .
التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير / الحافظ أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني / طبعة عبد الله هاشم اليماني المدني .
التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل / عبد الرحمن بن يحيى المعلمي ايماني / تخريج وتعليق محمد ناصر الدين الألباني وزهير الشاويش وعبد الرزاق حمزة / ط2 سنة 1406هـ - 1986م / المكتب الإسلامي .
التهذيب في فقه الإمام الشافعي / أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي / تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض / ط1 سنة 1418هـ - 1997م / دار الكتب العلمية / لبنان .
تهذيب الأسماء واللغات / أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي / دار الكتب العلمية .
التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح / أحمد بن محمد الشويكي / تحقيق ناصر الميمان / المكتبة المكية / ط1 .
الجوهر النقي ( مطبوع مع سنن البيهقي ) / علاء الدين المارديني الشهير بابن التركماني / دار الفكر .
حاشية ابن عابدين ( رد المحتار على الدر المختار ) / محمد أمين الشهير بابن عابدين / مطبعة مصطفى البابي الحلبي / ط2 .
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير / شمس الدين محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي / دار إحياء الكتب العربية .
حاشية العدوي على شرح الخرشي / علي بن أحمد العدوي المالكي / دار صادر .
الحاوي الكبير / أبو الحسن علي بن محمد الماوردي / دار الكتب العلمية /ط1.
حجة الله البالغة / أحمد شاه ولي الله الدهلوي / دار الكتب العلمية / ط1 .
ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى / محب الدين الطبري / دار الكتب المصرية .
الذخيرة / شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي / تحقيق د.محمد حجي / دار الغرب الإسلامي / ط1 .
زاد المعاد في هدي خير العباد / شمس الدين أبو عبد الله ابن القيم / حققه شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط / ط12 سنة 1406هـ - 1986م / مؤسسة الرسالة .
سبل السلام شرح بلوغ المرام / محمد بن إسماعيل الصنعاني / دار إحياء التراث العربي .
سلسلة الأحاديث الصحيحة / محمد ناصر الدين الألباني / المكتب الإسلامي / ط2 .
سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة / محمد ناصر الدين الألباني / المكتب الإسلامي / ط2 .
سنن ابن ماجة / أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني / تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي / دار الكتب العلمية .
سنن أبي داود ( مطبوع مع عون المعبود ) / سليمان بن الأشعث السجستاني / دار الكتب العلمية / ط1 .
سنن البيهقي ( السنن الكبرى ) / أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي / دار الفكر .
سنن الترمذي / أبو عيسى الترمذي / دار الكتب العلمية .
سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي / ط1 سنة 1418هـ - 1997م / دار الكتب العلمية .
سنن الدارقطني / علي بن عمر الدارقطني / عالم الكتب / ط2 .
سنن النسائي / أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي / دار الكتب العلمية.
السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار / محمد بن علي الشوكاني / دار الكتب العلمية .
شرح ابن القيم على سنن أبي داود بهامش عون المعبود / ابن القيم / دار الكتب العلمية .
شرح الخرشي على مختصر سيدي خليل / محمد الخرشي المالكي / دار صادر .
شرح السنة / الحسين بن مسعود البغوي / حققه شعيب الأرناؤوط ومحمد زهير الشاويش / ط2 سنة 1403هـ - 1983م / لمكتب الإسلامي
الشرح الممتع على زاد المستقنع / محمد بن صالح العثيمين / مؤسسة آسام / ط 4 .
شرح المواهب اللدنية / أحمد بن محمد القسطلاني / دار الكتب العلمية / ط1 .
شعب الإيمان / أحمد بن الحسين البيهقي / تحقيق محمد السعيد زغلول / دار الكتب العلمية / بيروت .
الصحاح / إسماعيل بن حماد الجوهري / دار العلم للملايين / ط2 .
صحيح البخاري مع الفتح ( مطبوع مع شرحه فتح الباري ) / محمد بن إسماعيل البخاري / مطبعة مصطفى البابي الحلبي .
صحيح الترغيب والترهيب/ محمد ناصر الدين الألباني /ط2 سنة 1406هـ - 1986م / المكتب الإسلامي .
صحيح الجامع الصغير / محمد ناصر الدين الألباني / المكتب الإسلامي / ط2 .
صحيح سنن ابن ماجة / محمد ناصر الدين الألباني / المكتب الإسلامي / ط1 .
صحيح سنن أبي داود / محمد ناصر الدين الألباني / المكتب الإسلامي / ط1 .
صحيح سنن الترمذي / محمد ناصر الدين الألباني / المكتب الإسلامي / ط1 .
صحيح سنن النسائي / محمد ناصر الدين الألباني / المكتب الإسلامي / ط 1 .
صحيح مسلم ( مطبوع مع شرح النووي ) / مسلم بن الحجاج النيسابوري / دار الخير / ط1 .(/52)
طبقات الشافعية الكبرى / تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي / تحقيق محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو / دار إحياء الكتب العربية .
طرح التثريب في شرح التقريب / زين الدين العراقي / دار إحياء التراث العربي .
العقود الدرية على الفتاوي الحامدية / ابن عابدين .
عمدة القاري شرح صحيح البخاري / بدر الدين محمود العيني / دار إحياء التراث العربي .
عمل اليوم والليلة / أبو بكر أحمد بن محمد المعروف بابن السني / حققه عبد الرحمن البرني / ط1 سنة 1418هـ - 1998م / دار الأرقم .
عون المعبود شرح سنن أبي داود / محمد أشرف بن أمير الصديقي العظيم أبادي / دار الكتب العلمية / ط1 .
الفتاوى الكبرى الفقهية / أحمد بن شهاب الدين بن حجر المكي الهيتمي / دار صادر .
الفتاوى الهندية / جماعة من علماء الهند / دار الفكر .
فتح الباري بشرح صحيح البخاري / الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني / مطبعة مصطفى البابي الحلبي .
الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني / أحمد عبد الرحمن البنا / دار إحياء التراث العربي .
فتح المالك بتبويب التمهيد على موطأ مالك /الحافظ ابن عبد البر / ترتيب د.مصطفى صميدة / دار الكتب العلمية / ط1 .
الفروع / شمس الدين محمد بن مفلح الحنبلي / عالم الكتب .
الفقه الإسلامي وأدلته / د. وهبه الزحيلي / دار الفكر .
القواعد الفقهية / زين الدين بن رجب الحنبلي / دار ابن عفان / ط 1 .
كتاب العيال / عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا / حققه نجم خلف / دار ابن القيم / ط1 .
كشاف القناع عن متن الإقناع / منصور بن يونس البهوتي الحنبلي / دار الفكر .
كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار / تقي الدين أبو بكر بن محمد الحصني / دار الخير / ط1 .
الكفاية على الهداية / جلال الدين الخوارزمي الكرلاني / دار إحياء التراث العربي .
اللباب في الجمع بين السنة والكتاب / علي بن زكريا المنبجي / دار الشروق .
لسان العرب / العلامة ابن منظور / تعليق علي شيري / دار إحياء التراث العربي / ط1 .
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد / نور الدين علي الهيثمي / دار الكتاب العربي / ط3 .
المجموع شرح المهذب / أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي / دار الفكر .
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية / جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد العاصمي النجدي / دار العربية .
المحلى بالآثار / علي بن أحمد ابن حزم الظاهري / دار الفكر .
مختصر الطحاوي لأبي جعفر الطحاوي .
المدخل / محمد بن محمد المالكي المعروف بابن الحاج / دار الكتب العلمية .
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح / ملا علي القاري / تحقيق صدقي العطار / دار الفكر .
المستدرك على الصحيحين / أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم / دار المعرفة / ط1 .
المسند للإمام أحمد بن حنبل الشيباني .
المصباح المنير في غريب الشرح الكبير / أحمد بن محمد الفيومي / المكتبة العلمية.
المصنف / الحافظ عبد الله بن محمد بن أبي شيبة / تحقيق عبد الخالق الأفغاني الدار السلفية/ ط2 .
المصنف / الحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني / حققه حبيب الرحمن الأعظمي / ط2 سنة 1403هـ - 1983م / المكتب الإسلامي .
معالم السنن شرح سنن أبي داود / أبو سليمان الخطابي / دار الكتب العلمية .
100. المعجم الأوسط / للطبراني / تحقيق طارق عوض الله / دار الحرمين .
101. المعجم الصغير / للطبراني / تحقيق محمد شكور امرير / دار عمار / ط1 .
102.معجم فقه السلف / محمد المنتصر الكتاني / مطابع الصفا / مكة المكرمة .
103.معرفة السنن والآثار / أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي / تحقيق د. عبد المعطي قلعجي / مطابع دار الوفاء / ط1 .
104.مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج / محمد الخطيب الشربيني / دار الكتب العلمية / ط1 .
105.المغني على مختصر الخرقي / عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي / مطبعة الفجالة الجديدة .
106.المفصل في أحكام الأضحية / د.حسام الدين عفانه / مطبعة الأمل .
107.مقاصد المكلفين / د. عمر الأشقر / دار النفائس .
108.المنتخب من كتاب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - / الزبير بن بكار / تحقيق سكينة الشهابي / مؤسسة الرسالة / ط1 .
109.المنتقى شرح الموطأ / أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي / دار الكتب العلمية / ط 1 .
110.المهذب مع المجموع / أبو إسحاق الشيرازي / دار الفكر .
111.الموسوعة الفقهية الكويتية / وزارة الأوقاف الكويتية / طباعة ذات السلاسل / ط2 .
112.مواهب الجليل / محمد بن محمد المغربي المعروف بالحطاب / دار الكتب العلمية / ط 1.
113.المواهب اللدنّية بالمنح المحمدية / أحمد بن محمد القسطلاني / تحقيق صالح الشامي / ط1 1412هـ - 1991م / المكتب الإسلامي .
114.الموطأ / الإمام مالك بن أنس / تعليق محمد فؤاد عبد الباقي / دار الحديث / القاهرة / ط 2 .
115.موطأ الإمام مالك بن أنس برواية محمد بن الحسن الشيباني / المكتبة العلمية / ط2 .(/53)
116.ميزان الاعتدال / الإمام الذهبي / تحقيق علي محمد البجاوي / دار المعرفة .
117.نصب الراية لأحاديث الهداية / جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي / دار المأمون / المجلس العلمي / ط1 .
118.نهاية المحتاج شرح المنهاج / شمس الدين محمد الرملي الشافعي / دار الفكر .
119.النهاية في غريب الحديث / ابن الأثير الجزري / دار الفكر .
120.نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار / محمد بن علي الشوكاني / مطبعة مصطفى البابي الحلبي .
المحتويات
الموضوع ... الصفحة
مقدمة ... 5
الفصل الأول : ما يتعلق بالعقيقة ... 7
المبحث الأول : تعريف العقيقة لغةً واصطلاحاً ... 9
تعريف العقيقة لغة ... 9
تعريف العقيقة اصطلاحاً ... 10
المبحث الثاني : مشروعية العقيقة ... 12
المطلب الأول : العقيقة قبل الإسلام ... 12
المطلب الثاني : العقيقة في الإسلام : السنة القولية فيها ... 14
السنة الفعلية ... 20
هل عق النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ولده إبراهيم ؟ ... 22
الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين في العقيقة ... 25
المبحث الثالث : معنى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل غلام مرتهن بعقيقته ... 30
المبحث الرابع : الحكمة من مشروعية العقيقة ... 35
المبحث الخامس : هل يكره تسمية العقيقة بهذا الاسم ؟ ... 39
المبحث السادس : حكم العقيقة ... 45
القول الأول ... 45
القول الثاني ... 45
القول الثالث ... 46
القول الرابع ... 50
القول الخامس ... 50
الأدلة : أدلة القول الأول ... 50
أدلة القول الثاني ... 53
أدلة القول الثالث ... 54
رد الحنفية على أدلة الجمهور ... 57
أدلة القول الرابع ... 64
أدلة القول الخامس ... 65
مناقشة وترجيح ... 66
المبحث السابع : شروط العقيقة ... 74
المطلب الأول : هل يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية ؟ ... 74
المطلب الثاني : شروط العقيقة ... 76
الشرط الأول : أن تكون العقيقة من الأنعام ... 76
الشرط الثاني: أن تكون العقيقة سليمة من العيوب ... 80
الشرط الثالث: أن تتوافر الأسنان المطلوبة في العقيقة ... 83
المبحث الثامن : ما هو الأفضل في العقيقة ؟ ... 86
المبحث التاسع : المطلب الأول : في حق من تشرع العقيقة ؟ ... 89
المطلب الثاني : العقيقة أفضل من التصدق بثمنها ولو زاد ... 93
المبحث العاشر : هل يصح الاشتراك في العقيقة ؟ ... 95
العقيقة عن التوائم ... 98
المبحث الحادي عشر : تفاضل الذكر والأنثى في العقيقة ... 99
المبحث الثاني عشر : التصرف في العقيقة المطلب الأول : الانتفاع بها ... 107
المطلب الثاني : إعطاء القابلة رِجْل العقيقة ... 111
المطلب الثالث : إطعام غير المسلم من العقيقة ... 112
المطلب الرابع : حكم جلدها وسواقطها ... 112
المطلب الخامس : هل يكره كسر عظامها ؟ ... 116
المبحث الثالث عشر : حكم تلطيخ رأس المولود بشيء من دم العقيقة ... 120
المبحث الرابع عشر : حكم اجتماع الأضحية والعقيقة ... 126
الفصل الثاني : ما يتعلق بمن يتولى العقيقة ووقت ذبحها ... 131
المبحث الأول : من يتولى العقيقة ... 133
المبحث الثاني : في وقت العقيقة ... 138
المطلب الأول : العقيقة في اليوم السابع ... 138
المطلب الثاني : حكم العقيقة قبل اليوم السابع ... 140
المطلب الثالث : حكم ذبح العقيقة بعد اليوم السابع ... 141
المطلب الرابع : حكم العقيقة إذا مات المولود قبل اليوم السابع ... 145
المطلب الخامس : حكم العقيقة إذا مات المولود بعد اليوم السابع ولم يعق عنه ... 146
المطلب السادس : هل يحسب يوم الولادة في الأيام السبعة أم لا ؟ ... 146
المطلب السابع : حكم ذبح العقيقة قبل الولادة ... 147
المطلب الثامن : أفضل وقت للذبح نهاراً ... 147
المطلب التاسع : حكم ذبح العقيقة ليلاً ... 148
المطلب العاشر : أيهما يقدم ذبح العقيقة أم حلق رأس المولود ؟ ... 148
الرأي المختار في وقت العقيقة والفروع المتعلقة به ... 150
المبحث الثالث : حكم من لم يُعق عنه صغيراً هل يَعق عن نفسه إذا بلغ ؟ ... 151
المبحث الرابع : التسمية والنية عند ذبح العقيقة ... 160
ملحق بالمندوبات المتعلقة بالمولود ... 161
الأذان في أذن المولود ... 163
التحنيك ... 167
حلق رأس المولد والتصدق بزنة شعره ... 171
التسمية ... 174
الختان ... 179
التهنئة بالمولود ... 180
قائمة المصادر ... 181
فهرس الموضوعات ... 192
تمت
الأعمال العلمية للمؤلف الدكتور . حسام الدين عفانه
الأدلة الشرعية على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية ( كتاب )
أحكام العقيقة في الشريعة الإسلامية ( كتاب )
يسألونك الجزء الأول ( كتاب )
يسألونك الجزء الثاني ( كتاب )
بيع المرابحة للآمر بالشراء على ضوء تجربة شركة بيت المال الفلسطيني العربي( كتاب )
صلاة الغائب دراسة فقهية مقارنة ( كتاب )
يسألونك الجزء الثالث ( كتاب )
يسألونك الجزء الرابع ( كتاب )
يسألونك الجزء الخامس ( كتاب )
المفصل في أحكام الأضحية ( كتاب )(/54)
شرح الورقات في أصول الفقه لجلال الدين المحلي( دراسة وتعليق وتحقيق )
فهارس مخطوطات مؤسسة إحياء التراث الإسلامي 12 جزءً بالاشتراك
( صدر الأول منها )
الفتاوى الشرعية (1) بالاشتراك ( هيئة الرقابة الشرعية لشركة بيت المال الفلسطيني العربي )
الفتاوى الشرعية (2) بالاشتراك ( هيئة الرقابة الشرعية لشركة بيت المال الفلسطيني العربي )
الشيخ العلامة مرعي الكرمي وكتابه دليل الطالب ( بحث )
الزواج المبكر ( بحث )
الإجهاض ( بحث )
مسائل مهمات في فقه الصوم والتراويح والقراءة على الأموات ( كتاب )
مختصر كتاب جلباب المرأة المسلمة للعلامة المحدث الألباني ( كتاب )
اتباع لا ابتداع ( كتاب )
بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود للغزي التمرتاشي ( دراسة وتعليق وتحقيق )
يسألونك الجزء السادس ( كتاب )
رسالة إنقاذ الهالكين للعلامة محمد البركوي ( دراسة وتعليق وتحقيق )
الخصال المكفرة للذنوب ( يتضمن تحقيق مخطوط للخطيب الشربيني ) ( كتاب )
أحاديث الطائفة الظاهرة وتحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ( كتاب )
التنجيم ( بحث بالاشتراك )
الحسابات الفلكية ( بحث بالاشتراك )
يسألونك الجزء السابع ( كتاب )
المفصل في أحكام العقيقة ( هذا الكتاب )(/55)
المُوْسِيْقِي العَاشِقْ
قال لي أمس صديقي حسني: إني لأعلم شغفك بالموسيقى، وحبك الفن القديم، فهل لك في سماع رجل وهو أحد أعمدة هذا الفن في دمشق ومن أساطينه، وهو هامة اليوم أو غد، فإذا انهار أوشك ألا يقوم مثله أبدا؟
قلت ما أحوجني إلى ذلك، فمن هو هذا الموسيقي الذي لا أعرفه إلى اليوم؟
قال: هو شوقي بك رجل تركي، كان من موسيقيي القسطنطينية أيام السلطان عبد الحميد، وانتهت إليه رياسة (العود) فيها، وله أسطوانات هي عند الموسيقيين، كرسائل الجاحظ عند جماعة الأدباء، واسمع فعندي واحدة منها.
وقام إلى (الحاكي) فأداره، ووضع أسطوانة عتيقة، فسمعت شيئا ما حسبت مثله يكون، وبدا لي كل ما سمعت إلى اليوم من ضرب الموسيقيين كأنه إلى جانبه لعب أطفال، وخربشة مبتدئين.
قلت: ويحك قم بنا إليه الآن.
فقمنا وأخذنا معنا شيخ الموشحات في دمشق الشيخ صبحي واثنين من مجودي المغنين، وذهبنا إليه.
**********
ضربنا في الجبل حتى جاوزنا الدور الفخمة والقصور العامرة، ووصلنا إلى طائفة من المساكن هي أشبه بأكواخ، قد بنيت من الطين وقامت دوين الصخر، فوقفنا عند واحد منها، وقرع الباب دليلنا الأستاذ حسني كنعان، ففتح لنا رجل طويل، عريض الألواح، حليق الوجه محمره، ولكن الكبر ظاهر عليه، قد جعد وجهه وإن لم يحن ظهره، ولم يهصر عوده، ورحب بنا على الطريقة التركية، وبالغ في الترحيب بنا ودعانا إلى الدخول فدخلنا، فإذا رحبة نظيفة خالية من الأثاث، ما فيها إلا أشباه كراسي، وسدة من الخشب مفروشة ببساط هي السرير وهي المجلس، وإذا الفقر باد، ولكن مع الفقر ذوقا ونظافة… فقعدنا، وحلفنا عليه أن لا يصنع لنا شيئا، فما نريد إكراما منه إلا بإسماعنا ضربه.
أخذ قيثارته (كمانه) وقسم (تقاسيم) هزت حبة قلبي، فأحسست بلذة ما عرفتها من قبل، ومع اللذة شيء من السحر، يجعلك تتطلع إلى المجهول، وتسمو إلى عالم الروح، ويوقظ فيك ذكرياتك وآمالك كلها دفعة واحدة.
فلما انتهى، عرض عليه حسني العود، فأبى واعتذر وقال: إنه لا يضرب عليه.
قال حسني: كيف وأنت إمام الضاربين.
قال: إنني لا أستطيع.
فلما حلفنا عليه وألححنا قال: إن لذلك قصة ما قصصتها على أحد، فاسمعوها، ولو أني وجدت ما أكرمكم به لما قصصتها عليكم، ولكني لا أملك شيئا، ولن أجمع عليكم حرمان السماع وكتمان السبب.
**********
وهذه هي القصة مترجمة إلى لغة القلم:
قال: كان ذلك منذ أمد بعيد نسيه الناس وأدخلوه في منطقة التاريخ المظلمة، فلا يرون منه إلا نقطا مضيئة مثلما يرى راكب الطيارة من مدينة يمر بها ليلا. أما أنا فلا أزال أحس به بجوارحي كلها، ولا يزال حيا في نفسي، بل أنا لا أزال أحيا فيه، وما عشت بعده قد إلا بذكراه. ولقد مر على قصتي زمن طويل عندكم لأنكم تقدرونه بعدد السنين، نصف قرن… أما أنا فأقدره بذكراه الحية في نفسي فأجده ساعة واحدة… لحظة… إني أنظر الآن إلى عينيها، وأشم عطرها، وأجلس في مجلسها. إن ما أراه حولي ظلال، وتلك المشاهد هي الحقيقة. أفعلمتم من قبل أن ذكرى قد تضح وتظهر حتى تطمس المرئيات، وتغطي على الحقائق، هذه هي ذكرياتي.
كان أبي من الباشوات الكبار المقربين من السلطان، فلما علم أني اشتغلت بالموسيقى، كره ذلك مني، وصرفني عنه، وعاقبني عليه، فلما أصررت عليه، أهملني واطرحني، وطردني من داره، فلبثت أتنقل في بيوت أقربائي وأصدقاء أبي، أمارس تعليم الموسيقى لأبناء الأسر الكبيرة، وكان (فلان) باشا من الآخذين بأسباب الحياة الجديدة، يحب أن يقبس عن أوروبا طرائقها في معيشتها ويقلدها في السير عليها لا يدري أنه لا يأخذ عاداتها لحياته، بل سمومها لدينه وخلقه، فدعاني لأعلم ابنته، وكنت يومئذ في الثلاثين، ولكنهم كانوا يقولون عني: ((إنه أجمل شاب في حاضرة الخلافة))… وأحسب أني كنت كذلك، ولكني -ولست أكذبكم- ما عرفت طريق الحرام، والحلال ما استطعت سلوك طريقه.
قابلت الباشا، فأدخلني على ابنته لأعلمها، فنظرت إليها، فإذا هي ملتفة بـ (يمشق) من الحرير الأبيض، لا يبدو منه إلا وجهها، وإنه لأشد بياضا ولينا من هذا الحرير، لا البياض الذي تعرفونه من النساء، بل بياض النور، لا، لم أستطع الإبانة عما في نفسي، إنه ليس كذلك، هو شيء ثمين عذب مقدس، يملأ نفسك عاطفة لا شهوة، وإكبارا لا ميلا، وتقديسا لا رغبة، وكانت عيناها مسبلتين حياء وخفرا، تظهر على خديها ظلال أهدابها الطويلة فلم أر لونها، وكانت في نحو السادسة عشرة من عمرها، مثل الفلة الأرجة إبان تفتحها.(/1)
وانصرف أبوها بعدما عرفني بها وعرفها بي، وبدأ الدرس على استحياء مني ومنها. ورفعت عينيها مرة، فمشى بي منهما مثل الكهرباء إن لمست سلكتها… عينين واسعتين، فيهما شيء لا يوصف أبدا، ولكنك تنسى إن رأيتهما أن وراءك دنيا… إنها تصغر دنياك حتى تنحصر فيهما، فلا تأمل إن رأيتهما في شيء بعدهما… العفو يا سادة أنا لست أديبا، ولا أحسن رصف الكلام، ففسروا أنتم كلامي، وترجموه إلى لسان الأدب، وأين الأديب الذي يملك من الكلام ما يحيط بأسرار العيون؟ إنه العلم أوسع وأعمق من الفلسفة والكيمياء والفلك… أعندكم في وصفها إلا أن تقولوا: عينان سوداوان أو زرقاوان، واسعتان أو ضيقتان، حوراوان دعجاوان، وتخلطوا ذلك بشيء من تشبيهاتكم؟ اعرضوا عيون الفتيات تروا أنكم لم تصفوا شيئا، هاتان عينان متشابهتان في سعتهما ولونهما وأهدابهما، ولكن في هذه، الجمال الوادع الحالم، وفي تلك الجمال الشرس الأخاذ، وفي أخرى العمق والرهبة، وفي هذه الأمل، وعين فيها فتنة، وعين فيها خشوع، وعيون فيها شيء لا تعرف ما هو على التحقيق، ولكنه يبدل حياتك، ويقلب عليك دنياك باللمحة الخاطفة.
ولما تكلمت سمعت صوتها كأنما هو… مالي وللتشبيهات التي لا أحسنها؟ وأين ما يشبه به صوتها، وفيه الخفر وفيه الرقة وفيه فتنة وفيه رفاهية؟ لا تعجبوا فإن من الأصوات الصوت المهذب والصوت الوقح، والصوت المرفه، والصوت البائس، وصوتا خليعا وآخر صينا. إن الصوت لينطلق من غير حروف. ورب ناطقة بلا إله إلا الله، وصوتها يدعو إلى الفحشاء، وقائلة كلمة الفجور وصوتها ينهى عنه، وإنك لتستطيع أن تتخيل المرأة من صوتها. ولم يكن في زماننا هذا الهاتف (التلفون) ولكني أعذر من أسمع عنهم أنهم يعشقون بالتلفون. فالأذن تعشق قبل العين أحيانا.
لم أجاوز الدرس ولم أقل فوقه كلمة واحدة. وكنت أشد منها حياء وخجلا، ولم يكن أبناء زماننا أولي وقاحة وجرأة كهذه الجرأة التي نراها اليوم، وندر فيهم من كان مثل (الباشا) يسمح لابنته الناهد أن تتلقى العلم عن الرجال - وهو يعلم أن الشاب والشابة في الطريق أو المدرسة يتخاطبان بلغة العيون خطاب الرجل والمرأة، قبل أن يتحرك اللسانان بحديث المعلم والتلميذة. وانقضى الدرس بسلام، ولكني لما فارقتها رأيت كل شيء قد تبدل، فقد تعلقت بالحياة وكنت بها زاهدا، ورأيت ضوء الشمس أشد نورا وأحسست بالوجود من حولي وقد كنت أنظر إليه غافلا، وكان لي أصحاب لم أكن أعدل بمجلسهم وصحبتهم شيئا ففارقتهم تلك الليلة وهربت منهم، وذهبت إلى غرفتي لم أطق فيها قرارا، ولا اشتهيت طعاما ولا شرابا، ووجدتني أخرج على الرغم مني، فأؤم دارها، فيردني بابها فأهيم حولها، أوغل السير في التلال الشجراء عند (بيوغلي) لا أستطيع النأي عن دارها.
صارت هي كوني ودنياي، قد تبدلت قيم الأشياء في نظري، فعز ما كان منها يمت بصلة إليها، وهان كل شيء سواه، وانطويت على نفسي أفكر فيها وأتصور أدق حركة أو سكنة منها. وكلما ذكرتها يهز شيء قلبي فيخفق كجناح طائر علقت رجله بالفخ، ثم يندفع الشيء إلى عيني فيفيضان بالدمع. ولا أدري كيف أمضيت ليلتي، حتى أزف موعد الدرس الثاني شعرت كأني عدت إلى جنتي التي خرجت منها، وعشت ساعة في لذة لو جمعت لذاذات الأرض كلها ما بلغت نقطة من بحرها. وعندما ودعتها نظرت إلي نظرة شكت كبدي وزلزلتني زلزالا، وكدت من سروري بها أطير فوق رؤوس الناس خفة وفرحا، فقد علمت أن لي عندها مثل الذي لها عندي، على أني ما كلمتها في غير موضوع الدرس كلمة ولا لمست لها طرف ثوبها، وما هي إلا نظرة واحدة ولكنها قالت فأبلغت، وحدثت فأفهمت.
**********
وسكت الموسيقي وجال الدمع في عينيه، ثم قال وهو يكاد يشرق بدمعه وقد ضاع في رنة البكاء صوته:
أتدرون ما عمري اليوم؟ أنا فوق الثمانين، وقد مر على هذا الحب دهر، ولكني أراه كأنه كان أمس، وكأني لا أزال شابا ينطوي صدره على قلب صبي. ولقد حسبت أني أستطيع أن أتحدث عنه كما يتحدث الشيوخ عن ماضيات لياليهم فوجدتني لا أستطيع، لا أستطيع فاعذروني. إن هذه الذكرى قد خالطت شغاف قلبي، ومازجت لحمي وعظمي، وإني لأحس وأنا أحدثكم أني أمزق جسدي لأستل منه هذه الذكريات.
قلت: فأخبرنا ماذا كان بعد ذلك؟
قال: كان ما أخشى التحدث عنه، إني لا أحب أن أهيج الذكرى وأثيرها، إنكم لا تدرون ماذا تصنع بي؟ إنها تحرقني، تنتزع روحي.(/2)
كان يا سادة، أني تدلهت بحبها، وهمت بها، وجعلتها هي كل شيء إن كنت معها لم أذكر غيرها، وإن فارقتها ذكرتها وفكرت فيها. فهي ماضي وحاضري ومستقبلي، وهي ذكرياتي كلها وآمالي، أراها طالعة علي من كل طريق أسير فيه، وأرى صورتها في صفحة البدر إن طلع علي البدر، وفي صحيفة (النوطة) إن جلست إلى (البيان)، ومن سطور الكتاب إن عمدت إلى القراءة في كتاب، فإذا جلست إليها والعود في حجري، وعيناها في عيني، وأذناها إلى عودي، تخيلت أني معانقها هي، لا العود، وغبت عني، وسمت روحي إلى عالم أعرفه ولا أعرف ما اسمه، فرجعت منه بالسحر فجرت به يدي على العود، فمن هناك تلك (الأسطوانات) التي كنتم تعرفونها لي.
لا، لا تلحفوا علي (سألتكم بالله)، لن أذكر لكم هذه التفاصيل، إنني انتزعتها من لحمي ودمي، فدعوها لي، إنها حظي من حياتي أتعلل بها وحدي. لا أحب أن تلوكها الأفواه ويلتهي بها قراء المجلات. لقد كانت الخاتمة أن أصدقاء أبي عطفوا علي، فخطبوها لي وكان العقد وصارت زوجتي، ولكن الله لم يشأ أن تتم سعادتي فمرضت ثم …
وغلب عليه البكاء، فلم يستطع أن يخرج الكلمة، فأداها بإشارة مبتلة بالدمع، محروقة بأنفاس الألم.
وسكتنا - فقال بعد هنية:
وقد ذهبت أودعها، فأخذت يدها بيدي، كأني أنازع الموت إياها، وأسحبها منه، فقالت لي:
- إنك غدا، تحب غيري، وتضرب لها على عودك.
قلت: لكِ علي عهد الحب، لا نظرت بعدك إلى امرأة، ولا أجريت يدي على عود.
**********
وسكت، ونظر إلى العود كأنه يريد أن يعتنقه لينطقه بالمعجزات، ويترجم به لواعجه، ثم غلبه البكاء مرة ثانية فقام، وانسللنا واحدا بعد واحد، وأغلقنا الباب ونحن نسمع نشيجه.(/3)
الناس بخير د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
ا هذا اليأس؟ ولماذا كلُّ هذا القنوط؟ وكيف وصل بك سوء الظنِّ إلى هذا المستوى من الشك والرِّيبة في كل شيء؟
لم أجدْ بُدَّاً من توجيه هذه الأسئلة بهذه الصورة المباشرة إلى ذلك الشاب الذي أمطرني بعبارات معتمة تدلُّ على أنَّه قد نفض يديه من الناس، فما عاد يثق في أحدٍ أبداً، ولا عاد يطمئن إلى أحدٍ أبداً. قال لي: السبب في كلِّ هذا ما لقيته في حياتي من ظلم الناس، وتجاهل الأهل, وخداع الأصدقاء, وإعراض أهل العلم والرَّأي، الناس يسعون إلى مصالحهم الشخصية فقط، ويرون أنفسهم فقط، ويحترمون الأقوياءَ الذين يحققون عن طريقهم مآربهم فقط، نعم. لقد أصبحت على يقين من هذا بعد أن سلكت عشرات الطرق، وطرقت عشرات الأبواب لأجد عملاً، فلم أجد عملاً، ولا أملاً، ولا عطفاً ولا حناناً، وبعد أنْ خدعني معظم أصدقائي وجفاني معظم أقربائي، فأصبحت لا أرى إلا خيبة الأمل أمامي، وخذلان الناس ورائي، فكيف يمكن - بعد هذا كله - أن أثق بأحدٍ من البشر.
الناس مخدوعون بدنياهم، وبمراكزهم وأموالهم، وعائلاتهم، ومظاهرهم الكاذبة، منصرفون عن المحتاج، والمسكين، والضعيف الذي لا يقوى على مجارات الأقوياء، أو ملاحقتهم، أنا أعلن بأسى من الناس إعلاناً لا يقبل التراجع أبداً.
قلت له: هذا الأسلوب الذي تحسم به الأمر بهذه الصورة القاطعة كان سبباً في ضياع كثير من الناس قبلك، وسيكون سبباً في ضياعك إن بقيت مصرَّاً على استخدامه، إنَّه قَتْلٌ للإنسان بسلاح اليأس الفتَّاك، وطعن لعزيمته بسهم الشكِّ المسموم. على رسلك أيُّها الأخ الكريم، فأنت تسلك طريق هلاكٍ تحقَّق، وتدمير عنيفٍ لطموحك وهمِّتك، أنت تشنق نفسك بحبال يأسك وقنوطك، وتنسى في غَمْرة شعورك المهزوم أن الدنيا بخير، وأنَّ في الناس خيراً كثيراً لا ينقطع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ثم أستأذنته في سؤاله عن طريقة حياته وأسلوب تعامله، وطلبت منه جواباً صريحاً، وشرحاً وافياً، وفرحت حين أجاب وشرح لأنني عرفت أسرار دائه، وأسباب يأسه وسوء ظنِّه.
إنَّه يتعامل مع كل من حوله بالرِّيبة والشك، ويستثير شكوك الآخرين بهذا الأسلوب فتنغلق دونه نفوسهم، وتقطِّب في وجهه وجوههم، وينصرفون عنه، يفعل ذلك وهو لا يدري أنَّ كلَّ ما يراه من سلبيَّات في تعامل الناس معه، إنما هو صدىً لسلبيَّات تعامله معهم.
قلت له: أنت الذي بدأت معركة سوء الظن, وجرَّدت سيوف الشكِّ، فلابد أن يُواجهك الناس بمثل سلاحك.
قال: ماذا أفعل؟ قلت: أعد ترتيب حياتك، واغسل قلبك بمراجعة نفسك، واجعل علاقتك بالله تعالى قرآناً وسنّةً وعبادةً وذكراً طريقك الأمثل الذي تسلكه دائماً، وابتسم لنفسك قبل أن تطلب من الناس أن يبتسموا لك، جرِّب أن تسلِّم على أهلك بثقة كاملةٍ فيهم. وأنت مبتسم، غرِّد بعبارات الحبِّ في منزل وبين أهلَك وأصدقائك، ضع في نفسك - من الآن - شعوراً بالاطمئنان أنك محب للخير، وأنك من أهل الخير، وأنك تحبُّ للناس ما تحبُّ لنفسك.
وحينما حاول فتح باب جدالٍ حول الموضوع، قلت له: لا مكان للجدال هنا، أسلك الطريق الذي يخرجك من الدائرة السوداء، فإنك سترى أنَّ الناس بخير، مهما كثر أهل الشر في هذه الأرض.
إشارة:
علِّم فؤادك أنْ يَظَلَّ
على الوفاءِ ولا يميلْ(/1)
الناسخ والمنسوخ ... ... ...
... ...
... ...
28-03-2004
أ- تعريف النسخ
1- لغة: الإزالة. يقال: نسخت الشمس الظّل، أي: أزالته. ويأتي بمعنى التبديل والتحويل، يشهد له قوله تعالى: { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } [النحل: 101].
2- اصطلاحاً: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر. فالحكم المرفوع يسمى: المنسوخ، والدليل الرافع يسمى: الناسخ، ويسمى الرفع: النسخ.
فعملية النسخ على هذا تقتضي منسوخاً وهو الحكم الذي كان مقرراً سابقاً، وتقتضي ناسخاً، وهو الدليل اللاحق.
ب- شروط النسخ
1- أن يكون الحكم المنسوخ شرعياً.
2- أن يكون الدليل على ارتفاع الحكم دليلاً شرعياً متراخياً عن الخطاب المنسوخ حكمه.
3- ألا يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيداً بوقت معين مثل قوله تعالى: { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [البقرة:109] فالعفو والصفح مقيد بمجيء أمر الله.
جـ- حكمة وقوع النسخ:
1- يحتل النسخ مكانة هامة في تاريخ الأديان، حيث أن النسخ هو السبيل لنقل الإنسان إلى الحالة الأكمل عبر ما يعرف بالتدرج في التشريع، وقد كان الخاتم لكل الشرائع السابقة والمتمم له ما جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبهذا التشريع بلغت الإنسانية الغاية في كمال التشريع.
وتفصيل هذا: أن النوع الإنساني تقلب كما يتقلب الطفل في أدوار مختلفة، ولكل دور من هذه الأدوار حال تناسبه غير الحال التي تناسب دوراً غيره، فالبشر أول عهدهم بالوجود كانوا كالوليد أول عهده بالوجود سذاجة وبساطة وضعفاً وجهالة، ثم أخذوا يتحولون من هذا العهد رويداً رويداً، ومروا في هذا التحول أو مرت عليهم أعراض متبانية، من ضآلة العقل وعماية الجهل وطيش الشباب وغشم القوة، على التفاوت في هذا بينهم، اقتضى وجود شرائع مختلفة لهم تبعاً لهذا التفاوت.
حتى إذا بلغ العالم أوان نضجه واستوائه، وربطت مدنيته بين أقطاره وشعوبه، جاء هذا الدين الحنيف ختاماً للأديان ومتمماً للشرائع، وجامعاً لعناصر الحيوية ومصالح الإنسانية ومرونة القواعد، جمعاً وفَّقَ بين مطالب الروح والجسد، وآخى بين العلم والدين، ونظم علاقة الإنسان بالله وبالعالم كله من أفراد وأسر وجماعات وأمم وشعوب وحيوان ونبات وجماد، مما جعله بحق ديناً عاماً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
2- ومن الحكم أيضاً التخفيف والتيسير: مثاله: إن الله تعالى أمر بثبات الواحد من الصَحابَة للعشرة في قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [ الأنفال:65] ثم نسخ بعد ذلك بقوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:66] فهذا المثال يدل دلالة واضحة على التخفيف والتسير ورفع المشقة، حتى يتذكر المسلم نعمة الله عليه.
3- مراعات مصالح العباد.
4- ابتلاء المكلف واختباره حسب تطور الدعوة وحال الناس.
د- أقسام النسخ في القرآن الكريم:
1- نسخ التلاوة والحكم معاً.
رُوي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما نزل من القرآن:"عشر رضعات معلومات يحرّمن " فنسخن خمس رضعات معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مما يقرأ من القرآن". ولا يجوز قراءة منسوخ التلاوة والحكم في الصلاة ولا العمل به، لأنه قد نسخ بالكلية. إلا أن الخمس رضعات منسوخ التلاوة باقي الحكم عند الشافعية.
2- نسخ التلاوة مع بقاء الحكم.
يُعمل بهذا القسم إذا تلقته الأمة بالقبول، لما روي أنه كان في سورة النور: { الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالاً من الله والله عزيز حكيم }، ولهذا قال عمر: لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي.
وهذان القسمان: (1- نسخ الحكم والتلاوة) و(2- نسخ التلاوة مع بقاء الحكم) قليل في القرآن الكريم، ونادر أن يوجد فيه مثل هذان القسمان، لأن الله سبحانه أنزل كتابه المجيد ليتعبد الناس بتلاوته، وبتطبيق أحكامه.
3- نسخ الحكم وبقاء التلاوة.
فهذا القسم كثير في القرآن الكريم، وهو في ثلاث وستين سورة.
مثاله:
1- قيام الليل:
المنسوخ: قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا}[المزمل: 1- 3].
الناسخ: قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } [المزمل:20].
النسخ: وجه النسخ أن وجوب قيام الليل ارتفع بما تيسر، أي لم يَعُدْ واجباً.
2- محاسبة النفس.
المنسوخ: قوله تعالى: { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } [البقرة: 284].(/1)
الناسخ: قوله تعالى: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } [ البقرة:286 ].
النسخ: وجهه أن المحاسبة على خطرات الأنفس بالآية الأولى رُفعت بالآية التالية.
3- حق التقوى.
المنسوخ: قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران: 102].
الناسخ: قوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16].
النسخ: رفع حق التقوى بالتقوى المستطاعة.
- ما الحكمة من نسخ الحكم وبقاء التلاوة؟
1- إن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه، والعمل به، فإنه كذلك يُتلى لكونه كلام الله تعالى، فيثاب عليه، فتركت التلاوة لهذه الحكمة.
2- إن النسخ غالباً يكون للتخفيف، فأبقيت التلاوة تذكيراً بالنعمة ورفع المشقة، حتى يتذكر العبد نعمة الله عليه.
هـ- النسخ إلى بدل وإلى غير بدل
1- النسخ إلى بدل مماثل، كنسخ التوجه من بيت المقدس إلى بيت الحرام: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } [البقرة :144].
2- النسخ إلى بدل أثقل، كحبس الزناة في البيوت إلى الرجم للمحصن، والجلد لغير المحصن. ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان.
3- النسخ إلى غير بدل، كنسخ الصدقة بين يدي نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم.
4- النسخ إلى بدل أخف: مر معنا في الأمثلة السابقة ( قيام الليل ).
و- أنواع النسخ
النوع الأول: نسخ القرآن بالقرآن، وهو متفق على جوازه ووقوعه.
النوع الثاني: نسخ القرآن بالسنة وهو قسمان.
1- نسخ القرآن بالنسبة الآحادية، والجمهور على عدم جوازه.
2- نسخ القرآن بالسنة المتواترة.
أ- أجازه الإمام أبو حنيفة ومالك ورواية عن أحمد، واستدلوا بقوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] فقد نسخت هذه الآية بالحديث المستفيض، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " ألا لا وصية لوارث " ولا ناسخ إلا السنة . وغيره من الأدلة .
ب- منعه الإمام الشافعي ورواية أخرى لأحمد، واستدلوا بقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] قالوا: السنة ليست خيراً من القرآن ولا مثله.
النوع الثالث: نسخ السنة بالقرآن: أجازه الجمهور، ومثلوا له بنسخ التوجه إلى بيت المقدس الذي كان ثابتاً بالسنة بالتوجه إلى المسجد الحرام. ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان. ... ...(/2)
النبي العظيم صلى الله عليه وسلم
أي قلم يُحيط وصفه ببعض نواحي تلك العظمة النبوية، وأية صحيفة تتسع لأقطار هذه العظمة التي شملت كل قطر، وأحاطت بكل عصر، وكُتب لها الخلود أبد الدهر، وأي مقال يكشف لك عن أسرارها وإن كُتب بحروف من النور، وكان مداده أشعة الشمس.
على أنك تعجب حين ترى هذه العظمة التي فرعت الأوصاف، وتعالت على متناول الألسنة والأقلام والعقول والأفهام، ماثلة في كل قلب، مستقرة في كل نفس، يستشعرها القريب والبعيد، ويعرف بها العدو والصديق، وتهتف بها أعواد المنابر، وتهتز لها ذوائب المنائر.
ألم تر أن الله خلَّد ذكره إذ قال في الخمس المؤذن: أشهد
وشقّ له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
وإن العظيم ليكون عظيمًا بإحدى ثلاث:
1- بمواهب تميزه وتعلو به عمن سواه، وتجعله بين الناس صنفًا ممتازًا مستقلاً بنفسه عاليًا برأسه، يجلّ عن المساماة ويعظم على المسابقة.
2- أو بعمل عظيم يصدر عنه ويُعرف به، ويعجز الناس عن الإتيان بمثاله، أو النسج على منواله.
3- أو فائدة يُسديها إلى الجماعات وينفع بها الناس، وبقدر ما يكون العظيم متمكنًا من وصفه مُفيدًا في إنتاجه بقدر ما تكون درجته من العظمة ومنزلته من التقدير.
4- ولهذا تفاوتت منازل العظماء واختلفت مراتبهم، فمنهم سابق بلغ ذؤابات العظمة، ومقتصد بلغ من حدودها ما يرفعه إلى مصاف العظماء، ومقصر كان يصيبه منها أن نسب إليها ولصق بها أو لصقت به.
والناس ألفٌ منهم بواحد وواحدٌ كالألف إن أمرٌ عَنَى.
كذلك يكون العظيم عظيمًا بواحدة من هذه الثلاث، وبجزء من الواحدة يصل إليه، فكيف إذا جمعها جميعًا ووصل في كل منها إلى الغاية التي ليس بعدها غاية، وجاوز في علوه الحدود التي وضعها الناس للعظمة والعظماء، وذلك ما اختصّ به الله تبارك وتعالى نبيه المًُجتبى وحبيبه المصطفى سيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم-.
رُتَبٌ تَسقط الأماني حَسْرى دونها ما وراءهن وراء.
مواهبة التي تميز بها -صلى الله عليه وسلم-:
فأما عن المواهب التي ميزه الله بها عن غيره فحدّث عن الفيض ولا حرج، فلقد كان -صلى الله عليه وسلم- من شرف النسب وكرم الأصل في صميم قريش ولبها وذروة الشرف وسنامه، لم تزل في ضمائر الكون تختار له الأمهات والآباء فهو من خير أسرة، في أنبل قبيلة لأكرم شعب، وأزكى جنس، ولا غرو فهو -صلى الله عليه وسلم- خيار من خيار من خيار.
شرف يقرع النجوم برقيه وعز يقلقل الأجيالا
وهو من حيث الجمال الخِلْقي في أسمى معانيه وأعلى رتبه، قوي البنية تام الخِلْقة، وأجمل الناس طلعةً وأوفرهم هيبةً، وأوضاهم وجهًا، وأعذبهم ابتسامةً وأحلاهم منطقًا، إذا تبسم كأنما يفتر عن حَب الغمام، وإذا ضحك رُؤِيَ كالنور يخرج من بين ثناياه.
وإذا نظرت إلى أَسِرّة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل.
وإن ذلك لمعنىً عرضي من معاني الكمال الذاتي الذي أودعه الله نفس نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- ولَع الناس بالتمدح به والإغراق في ذكره، وهم لو التفتوا إلى سواه من معاني الكمال المحمدي لوجدوا في ذلك البحر الذي لا ينضب معينه، والمصباح الذي لا يخبو نوره وإنما ذكرناه في معرض التحدث عن العظمة المحمدية؛ لأنه كمال انفرد به المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ولم يشاركه فيه أحد سواه.
خلقه -صلى الله عليه وسلم-:
وهو من حيث الكمال الخُلقي بالذروة التي لا تُنال، والسمو الذي لا يُسامى، أوفر الناس عقلاً، وأسداهم رأيًا، وأصحهم فكرةً، وحسبك أنه ساسَ هذه القبائل الجافية والنفوس القوية العاتية، ولم يستخدم في ذلك الإغراء بالمال ولا الإرهاب بالقوة، فلقد كان في قلٍّ من الثروة وضعف من العدد والعُدة، لكن العزم الماضي والرأي الثاقب والتأييد الإلهي والكمال المحمدي.
أسخى القوم يدًا، وأنداهم راحة، وأجودهم نفسًا أجود بالخير من الريح المرسلة، يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر، يبيت على الطوى وقد وُهب المئين، وجاد بالآلاف، لا يحبس شيئًا وينادي صاحبه: "أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً".
أرحب الناس صدرًا، وأوسعهم حلمًا، يحلم على من جهل عليه، ولا يزيده جهل الجاهلين إلا أخذًا بالعفو وأمرًا بالمعروف، وتواتيه المقدرة ويمسك بغرة النصر فلا يلقى منه خصمه إلا نبلاً وكرمًا وسماحًا وشممًا، ينادي أسراه في كرم وإباء: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
أعظم الناس تواضعًا، يُخالط الفقير والمسكين، ويُجالس الشيخ والأرملة، وتذهب به الجارية إلى أقصى سكك المدينة فيذهب معها ويقضي حاجتها، ولا يتميز عن أصحابه بمظهر من مظاهر العظمة ولا برسم من رسوم الظهور، ويقول لهم في ذلك ما معناه: "إن الله يكره أن يمتاز الشخص عن أصحابه".
ألين الناس عريكةً وأسهلهم طبعًا، ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مُحرمًا، وهو مع هذا أحزمهم عند الواجب وأشدهم مع الحق، لا يغضب لنفسه، فإذا انتُهِكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، وكأنما يُفقأ في وجهه حب الرمان من شدة الغضب.(/1)
أشجع الناس قلبًا وأقواهم إرادةً، يتلقى الناس بثبات وصبر، تمر به الأبطال كَلْمَى هزيمة، وهو ضاحك السن باسم الثغر وضّاح الجبين، يُنادي بأعلى صوته:
"أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب"
وهو من شجاعة القلب بالمنزلة التي تجعل أصحابه إذا اشتد البأس يتقون برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن قوة الإرادة بالمنزلة التي لا ينثني معها عن واجب، ولا يلين في حق، ولا يتردد ولا يضعف أمام شدة، ويضرب المثل العملي في ذلك لأصحابه فيقول لهم: "ما كان لنبي إذا لبس لأْمَةَ حربه أن يرجع".
أعف الناس لسانًا، وأوضحهم بيانًا، يسوق الألفاظ مُفصلة كالدر مشرقة كالنور، طاهر كالفضيلة في أسمى مراتب العفة وصدق اللهجة، يقول لأصحابة ما معناه: "لم أُبْعث فاحشًا ولا متفحشًا، ولا لعانًا ولا صخابًا بالأسواق، إنما بُعثت هاديًا ورحمة".
أعدلهم في الحكومة وأعظمهم إنصافًا في الخصومة يَقِيدُ من نفسه ويقضي لخصمه، يقيم الحدود على أقرب الناس، ويقسم بالذي نفسه بيده: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
أسمى الخليقة روحًا، وأعلاها نفسًا، وأزكاها وأعرفها بالله، وأشدها صلابة وقيامًا بحقه، وأقومها بفروض العبادة ولوازم الطاعة، مع تناسق غريب في أداء الواجبات، واستيعاب عجيب لقضاء الحقوق، يُؤتي كل ذي حق حقه، فلربه حقه، ولصاحبه حقه، ولزوجه حقها، ولدعوته حقها، وكل واجب من واجبات الإنسانية ما يتطلبه من أداء وإتقان.
أزهد الناس في المادة وأبعدهم عن التعلق بعرض هذه الدنيا، يطعم ما يقدم إليه، ولا يعيب طعامًا قط، وإذا لم يجد ما يأكل قال: "إني صائم"، وينام على الحصير والأدم المحشو بالليف، ويقول في المنعمين والمترفين: "إن لهم الدنيا ولنا الآخرة".
قضى زهرة شبابه مع امرأة من قريش تكبره بخمس عشرة سنة، قد تزوجت من قبله وقضت زهرة شبابها مع غيره، ولم يتزوج معها أحدًا وما تزوج بعدها لمتعة، وما كان في أزواجه الطاهرات بكرًا غير عائشة التي أعرس بها وسنها تسع سنين، يسرب إليها الولائد يلعبن معها بالدمي وعرائس القطن والنسيج.
أرفق الناس بالضعفاء وأعظمهم رحمة بالمساكين والبائسين، شملت رحمته وعطفه الإنسان والحيوان، يغذيهم بحنانه، ويعطف على الكل بجنانه، ويقول: "في كل ذات كبد رطبة أجر"، ويعد الرفق بالحيوان قربة إلى الله يشكر عليها عبده ويُكافئ فيها خلقه، ويعتبر القوة جريمة حتى على الحيوان الأعجم، ويحذر أصحابه، فيقول لهم: "إن امرأة دخلت النار بسبب هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض".
وهو -صلى الله عليه وسلم- مع رجاحة عقله ونضوج فكره وقوة إرادته أرق الناس عاطفة وأرقهم شعورًا وإحساسًا. يجد لزوجه من الحنان والوفاء ما يجعله يقول: "حُبّب إليّ من دنياكم ثلاث: النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة".
ويجد لابنه من الشفقة والحب ما يجعله يقول عند فقده ما معناه: "إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يُرضي الرب، وإنا بعدك يا إبراهيم لمحزونون".
ويجد الحب لوطنه والميل لبلده التي نشأ فيها ونما بها ما يجعله تغرورق عيناه، ويقول لأصيل الغفاري وقد أخذ يصف مكة بعد الهجرة: "لا تشوقنا يا أصيل ودع القلوب تقرّ".
ذلك قبس من نور النبوة، وشعاع من مشكاة الخلق المحمدي الطاهر، وإن في القول بعد لسعة وفي المقام تفصيلاً.
وقد وجدت مكان القول ذا سعة فإن وجدت لسانًا قائلاً فقل
وإنك لتلقى العظيم يعظم في قومه ويسود في عشيرته بخصلة واحدة من هذه الخصال، فكيف بمن حيزت له بحذافيرها، بلغت في كل منها نهايتها.
وإنك لتجد لكل عظيم هفوة، ولكل سيد كبوة، ولكل نابهٍ نقيصة أُخذت عليه وعُرفت عنه، كأنه الكَلَف يشين وجه البدر، أو الغمام يحجب نور الشمس، وسل التاريخ ينبئك على أنك لست بواجد شيئًا من هذا أمام عظمة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد عُصم من النقائص، وعلا عن الهفوات، وجلّ مقامه عن أن تلصق به هفوة.
خُلقتَ مُبرءًا من كل عيب كأنك قد خُلقت كما تشاء
ذلك من حيث المواهب التي اختص الله بها نبيه العظيم، وحَبَا بها رسوله الكريم.
عظمة العمل:
وأما من حيث عظمة العمل الذي قام به سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- فبربك قل لي: أي عمل أعظم من الرسالة العظمى والنبوة الكبرى والدعوة العامة والإصلاح الشامل لكل الأمم، بل للجن والإنس في كل ناحية من نواحي الحياة الدنيا وفي الآخرة؟ وأي أثر أخلد من القرآن الكريم والتشريع القويم، الذي تركه النبي -صلى الله عليه وسلم- للإنسانية من بعده تهتدي بهديه، وتسير على ضوئه، وتصلح بتعاليمه، وتلجأ إليه، ييأس الناس مما في أيديهم ويفلسون من نظمهم وقواعدهم؟ ?سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ? (فصلت: 53).(/2)
لو لم يكن للنبي -صلى الله عليه وسلم- من الفضل إلا أنه الواسطة في حمل هداية السماء إلى الأرض، وإيصال هذا القرآن الكريم إلى العالم لكان فضلاً لا يستقل العالم بشكره، ولا تقوم الإنسانية بكفائه، ولا يُوفى الناس حامله بعض جزائه.
وناهيك بكتاب ضمن للناس إن اتبعوه صلاح الدنيا وسعادة الآخرة وعلاج المشكلات ودواء المعضلات، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
وأنت إذا أمعنت النظر في كتاب الله تبارك وتعالى رأيته القانون الشامل والتشريع الكامل الذي ضمن للفرد حقوقه وحريته، وحدد له واجباته العامة والخاصة، لله ولنفسه ولأسرته ووطنه وللعالم كله، وضمن للأسرة سعادتها وهناءتها ببنائها على أفضل الأسس وأدق القواعد النفسية الاجتماعية، ووصف أحسن العلاج لما يطرأ على الأسر من عوامل الانحلال والفناء، مع بيان أفضل الوسائل في توثيق الروابط بين أفراد الأسرة الواحدة على أساس تقدير الجميل والتعاون على الخير، ووضع للأمة بعد ذلك أحكم النظم التي تبين صلة الحاكم بالمحكوم، وتجعل الأمر شورى، والناس سواسية لا يتفاضلون إلا بأعمالهم، ولا يتفاوتون إلا بحقهم.
ثم قفَّى على ذلك ببيان الصلة بين الأمم بعضها ببعض، ووجوب تعاون بني الإنسان على خير البشرية العام والرقي بمستواها إلى نهاية ما قُدر لها من الكمال الممكن.
كل ذلك عرض له القرآن الكريم في لفظ بليغ وإيجاز محكم، وجاءت السنة المطهرة ففصلت مجمله وحددت مطلقه، واستقصت جزئياته، فكان تشريع الإسلام وهو ثمرة البادية ووليد الصحراء وابن الفيافي القاحلة أدق تشريع وأكمله وأرقاه وأصلحه، مع سموه عن النقد وتجافيه عن الخطأ ?وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ? (آل عمران: 85)، فأي عمل أعظم من هذا، وأي أثر أخلد منه.
وإن العالم كله أجمع على عظمة "أفلاطون" لفلسفته وجمهوريته، وعلى فضل "أرسطو" وتبريزه في أخلاقه وقوانينه، وعلى تقدير "نابليون" لعزيمته وتشريعه، مع تعرض كل هؤلاء للهفوات والنقد المر، ومع أن معظم نظراتهم حُبالى لا تثبت أمام التفنيد، ولا تتفق مع الواقعيات، ومع أنهم جميعًا كان لهم من دراستهم وتقلبهم في معاهد العلم ومدارس الثقافة ما يجعل ذلك ليس غريبًا منهم ولا بعيدًا عليهم.
إذا كان ذلك كذلك فإن من واجب العالم كله – ولا محيص لهم عن ذلك – أن يجعل عظمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في الخلق جميعًا فوق كل عظمة، وفضله فوق كل فضل، وتقديره أكبر من كل تقدير، وقداسته أسمى من كل قداسة، ولو لم يكن له -صلى الله عليه وسلم- من مؤيدات نبوته وأدلة رسالته إلا سيرته المطهرة وتشريعه الخالد لكانا كافيين، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم.
الإمام حسن البنا.(/3)
النجاح في الحياة
... ...
المقدمة:
كلنا يبحث عن النجاح والسعادة . . فما هو النجاح ؟
هل النجاح هو الغنى ؟
يقول الله تعالى: [ يحسب أن ماله أخلده ] ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: [ تَعس عبد الدينار ...]، فالذي يعيش لأجل المال وصفه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه تَعِس.. إذا تحولت الحياة إلى مال وصار هذا هو الهدف من الحياة، فهي حياة تعيسة.
لا شك أن المال هو عصب الحياة، ولا شك أن النجاح يحتاج إلى الدعم المالي، لكن فرق كبير بين من يجعل المال في يده، ومن يجعل المال في قلبه.
فالنجاح ليس هو المال، وإن كان المال يساعد على النجاح.
هل النجاح هو الشهرة ؟
وصول الإنسان إلى المنصب، إلى أن يتحدث عنه الناس.. هل هذا هو النجاح؟
كم من مشهور تعيس؟ .. كم من مشهور يَتمنّى أن يسير في الأسواق بدون مجاملات؟..كم من إنسان يظهر أمام الناس بابتسامات عريضة وكلام حلو، ولكن عندما يخلو وحده مع نفسه يبكي دماً؟ !.. كم من مشهور في عائلة محطمة وأولاد منحرفين؟
ما هو النجاح ؟
النجاح أن ينجح الإنسان، ليس في مجال واحد، وإنما أن ينجح وبتوازن في أربع مجالات: ... ...
... ... ... ... ...
... ... ... ... ...
... ... ... ... ...
... ... ... ... ...
... ... المجال الأول : الإنجاز مع النفس
نحن نعيش في حياة فيها صراع وفيها حركة وفيها سرعة.. نحن نعيش أحيانا حياة معاناة، نعاني من أجل طلب الرزق أحيانا، نعاني من أجل الترفيه!..حتى لكي نترفّه لا بد أن نتعب !.. طبعا ليس هناك راحة حقيقية بدون نصَب ولا تعب كالراحة التي وُعدنا بها في الجنة إن شاء الله، لكن ما دمنا في هذه الحياة، فنحن نعيش في حياة تَعب، في حياة نَصَب.. حتى في علاقاتنا مع أهلنا وأولادنا نعيش أحيانا حياة تعب.
لكن أعظم معركة هي معركة الإنسان مع نفسه.. أعظم معركة هي المعركة الداخلية.. لو استطعتَ أن تنتصر على ذاتك وتعرف حقيقة نفسك، عندها تكون خطوت الخطوة الرئيسية في طريق النجاح.
التغيير: [ إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ]
الدنيا تدور والدنيا تتغير، والعالم من حولنا ليس بثابت، لكن التغيير الحقيقي هو الذي ينبع من داخل الإنسان.. مهما حاولتُ أن أغيّر هذا الإنسان، مهما حاولتُ أن أغيّر ابني، أن أغيّر ابنتي، أن أغيّر زوجتي، أن أغيّر أهلي... لا أستطيع. لن يحدث التغيير إلا إذا نبع من داخل الذات، من داخل الإنسان. وهذا معنى عميق.. دعونا نفصل فيه قليلا:
متى يحدث التغيير؟
بعض الناس لا يتغيرون إلا إذا أصابتهم مصيبة، كأن يموت لهم عزيز، أو تصيبه صدمة عاطفية... ينتظرون شيء يحدث. بعض الناس يتغيرون عندما يحدث منعطفا في حياتهم: لما يتزوج، لما يتخرج من الجامعة.وضعوا عمرا مُعيّناً، حدثا مُعيّناً، سببا مُعيّناً للتّغيير.. لكن أعظم التغيير هو التغيير المقصود والواعي، النابع من تأمل الإنسان في نفسه، ومن الإرادة والشعور بالمسؤولية، وليس الذي يفرض علينا بسبب شيء يحدث في حياتنا. عندما يحدث هذا النوع من التغيير، تحدث قفزات في حياة الإنسان، لأنه ليس تغييرا بسيطا أو مؤقتا، وإنما تغيير عميق وجذريّ.. تغيير أصيل وثابت، لأنه نابع عن قناعة وإرادة وتأمل، وليس عن حدث يحدث للإنسان
قدراتك جبارة:
عندما يريد الإنسان أن يَتغيّر، يتذكر أن القدرات التي عنده جبارة، والله سبحانه وتعالى يقول:[ وإن كان مكره لتزول منه الجبال ]. إذا الإنسان قَصد وخطّط ورتّب، فله من القدرات ما يجعله يستطيع أن يُزيل الجبال، فما بالُكم بتغيير نفسه وعمل إنجازات محدودة.
من نحن ؟.. هل تعرف نفسك ؟
نحن لسنا مشاعرنا، ولا أفكارنا، لأننا نستطيع أن نُفكّر في أفكارنا، نستطيع أن نفكر في مشاعرنا، نستطيع أن نُبدّلها كيف نشاء.
إذًا نحن نختلف عن مشاعرنا، ونختلف عن أفكارنا.. من نحن إذا ؟ !
عندما يفكر الإنسان في هذا السؤال العميق، عندما يفكر ويَعي ذاته، عندما يفكر في نفسه، عندما يفهم هذا، يُدرك أن له القدرة أن يُغيّر الأفكار ويُغيّر المشاعر ويُغيّر السّلوك ويُغيّر العلاقات ويُغيّر الأهداف.. نحن نستطيع أن نتحكّم في هذه الأمور.. كثير من الناس لا يفهم هذا، ولذلك يحدث الفشل.
كثير من الناس لا يفكر أصلا في هذه المسائل، هو يتخيل أنها مفروضة عليه فرضاً.
من أين يأتينا تشكيل المشاعر والسلوك والعلاقات ؟
أصلها في بداية حياتنا.. [ كل مولود يولد على الفطرة ...]
كل إنسان يُولَد سليماً من أيّ انحراف عقلي أو عقائدي أو سلوكي، إلا الذي ابتلاه الله تعالى بتخلّف أو غيره، لكن أنا أتكلم عن الإنسان السويّ. لو لم تحدث التأثيرات السلبية على الإنسان في نشأته الأولى لنشأ في منتهى الاستقامة، في سلوكه، في مشاعره، في عواطفه، في أحاسيسه، في أفكاره… لكن ما الذي حدث له خلال حياته؟. فكّر معي.. نحن نتصرف بطريقة مُعَيّنة لأننا أحسسنا بمشاعر معينة..(/1)
لماذا نفكر بطريقة معينة؟.. كل هذا يرجع إلى أصل البيئة، أصل الاحتكاك.. أول ست سنوات في حياة الإنسان هي التي تشكل أصل التفكير، أصل العقيدة، أصل القيم، أصل المبادئ، أصل المشاعر، أصل السلوك... يخطئ الكثيرون عندما يظنون أن أول ستّ سنوات هي لعب !.. مصيبة كبيرة تحدث في نظام التعليم والتربية عندنا، عندما نتخيل أن هذه المرحلة مرحلة لعب.
جريمة كبرى تُمارس كل يوم في رياض الأطفال، عندما تتحوّل إلى موسيقى وأناشيد وألعاب فقط.. ولا أعني أن نكبّر الطفل قبل الوقت، ولكن أن نوجّه اللعب ضمن منهج يَصنع الشخصية التي ننشدها.
هل القِيَم التي نشأت عليها قابلة للتغيير ؟ وبماذا نبدأ ؟
إذا كنت قد تربّيت على معاني معينة، على قِيَم وأصول معينة.. هل هي قابلة للتغيير، وبماذا نبدأ؟. هذا هو السؤال الرئيسي، هذا هو السؤال الحاسم. نحن نستطيع أن نغير هذه الأمور.. لكي نتغير لابد أن نبدأ من الأصل، والأصل هو المبادئ والتصورات..
ولذلك نجد على مدى التاريخ أن أكثر من كان يُغيّر هم الأنبياء والفلاسفة، وليس المهندسين والأطباء، وإنما الذين يتعاملون مع المبادئ والتصورات هم الذين يُغيرون الدنيا.
لا بد أن نعيد النظر في حياتنا وما بعد حياتنا. ماذا أريد؟ ليس الآن .. بعد عشر سنين.. عشرين سنة... - هل أنا راض بما أنا عليه؟ هل أفضل أن أكون أفضل من هذا الوضع؟ هل هناك بعض التصرفات نقوم بها ونحن لها كارهين؟ السؤال الأعمق: هل أنا سعيد ؟
هذا الذي يبحث عنه الإنسان في النهاية .. يبحث الإنسان عن السعادة. لكن هل هي سعادة حقيقية؟ .. هل عندما تكون وحدك تشعر بارتياح، أو تشعر بأسَى؟ ! هناك أحد الأمريكيين كتب كتابا من سبع مجلدات عن ظاهرة الانتحار، تفصيلا للظاهرة.. لماذا ينتحر الناس؟.. طبعا المنتحر وصل إلى قاع اليأس وفقد الأمل بكل شيء حتى برحمة الله، ولذلك عذابه في النار، لأنه يئس ليس فقط من نفسه ومن البشر، وإنما يئس حتى من الله.. صاحبُنا الذي ألف هذا الكتاب انتحر !!. فالموضوع ليس موضوع علم، هي قضية أكبر من العلم، هي قضية شعور وقضية إرادة تُحرّك سلوك الإنسان.
السؤال الرئيسي: من أنا ؟.. هل تعرف نفسك؟
كثير من الناس صدقوني، لم يسأل نفسه في يوم من الأيام هذا السؤال.. كثير من الناس مشغول بطاحونة الحياة، يوما بعد يوم، لحظة بعد لحظة.. وفيه أناس يعيشون أسوأ من هذا، حياة روتين: يُولَد.. يدرس.. يدخل الجامعة.. يتخرج.. يتوظّف.. يتزوج.. يُكبّر العيال.. يُزوّج العيال ... ويموت !!!
لماذا أنت موجود على الأرض أصلا؟.. ما هدف حياتك؟
أنت نسيج وحدك : [ كل ميسّرٌ لما خُلق له]
تذكر معنى رئيسي، معنى التفرّد.. في اللحظة التي تحاول أن تكون فيها شخصا آخر، أن تقلد بلا وعي وبلا وضوح، فقط لأنك أعجبت بهذا الإنسان، تفقد قيمتك كإنسان وتفقد الأساس والمنطلق للنجاح، لأنه إذا أراد الإنسان أن يكون شخصا آخرا، وهو لا يُريد أن يَكُون نفسَه، يُصبح فورا على هامش الحياة، وانتهت المعادلة.
معرفة الذات والقدرات:
لا يمكن أن ينجح الإنسان إلا إذا فهم أمرا عظيما.. إذا عرف ذاته وعرف قدراته.. عندما يعرف الإنسان ذاته ويعرف قدراته، عندها يكون قد خطا أول خطوة صادقة وجادّة نحو النجاح.كيف يحدث هذا؟ يحدث هذا بمرور الإنسان بمراحل النضج، ونحن كآباء وأمهات لنا دور غير عادي بأن نساعد أولادنا على استعجال مراحل النضج.. دعونا نفكر سويا في هذا الأساس، الذي سيكون سببا رئيسيا في الانطلاق نحو النجاح:
مراحل نضج الشخصية:
المرحلة الأولى: مرحلة الاعتماد على الغير (أنت المسؤول ):
أوّل ما يُولد الإنسان يكون معتمدا على غيره في التغذية والرعاية والإرشاد.. أهله هم الذين يقومون بأمره، هم الذين يرعونه ويطعمونه ويختارون له كل شيء حتى ملابسه التي يلبسها.. فالذي يشكل حياة الإنسان هو شخص آخر.
المرحلة الثانية: مرحلة الاستقلال عن الغير ( أنا المسؤول ):
ثم يكبر الإنسان وينطلق نحو الاستقلال بالنفس، ويعتمد على نفسه.. لا ينضج الإنسان إلا إذا انتقل من الاعتماد على الآخرين إلى الاستقلال بالنفس، وعلى طول هذه المرحلة، على مدى تأخر النجاح.. لا يمكن أن ينجح الطفل ما دام معتمدا على أبويه وعلى غيره، وعند الأبوين وبالذات الأم روح السيطرة على أولادها، هذه السيطرة مقصود منها الحماية، هو هدف نبيل وشريف، ولكن التصرّف سيئ.
الحرص الشديد والمبالغة في الحماية من الأبوين، وخاصة الأم،هي التي تقتل الشخصية القيادية في الطفل.
المرحلة الثالثة: مرحلة الاعتماد المتبادل ( نحن المسؤولون ):(/2)
النجاح الحقيقي يأتي عندما ينتقل الإنسان نحو مرحلة ثالثة، وهي مرحلة الاعتماد المتبادل.. وصاحب هذه الدرجة لا يفكر وحده ولا يعمل وحده، وإنما يفكّر مع الآخرين ويعمل لتحقيق أفضل النجاحات وأعظم الإنجازات. وللأسف عندنا في العالم الشرقي بالذات هذا النضج قليل. نحن نتصور أن النجاح لما يستقل الإنسان بنفسه، لما يعتمد على نفسه، بينما بالتأمل في التاريخ، وفي دعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وحتى دراسات النجاح المختلفة كلها تشير إلى مبدأ رئيسي، أنّ الإنسان لا ينجح وحده.
كثير من الناس يريد أن يشق طريق الحياة وحده، بجهده، بعقله، بذاته.. ممكن، لكن حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان لهم أصحاب وحواريين يعينونهم، ويَحملون عنهم الأعباء، ويساعدوهم ويناصروهم ويشيرون عليهم.. إذا فيه إنسان عنده القدرة أن يستقل بنفسه فهم الذين يأتيهم الوحي من السماء، ومع ذلك كان من سُنّتهم أن يعتمدوا على وجود بشر معهم يعينونهم. هذه هي الحياة الجماعية.. أن يفهم الإنسان أنه محتاج، وبلا اعتماد وتواكل، وإنما بوعي وفهم واضح .. أنا محتاج لك وأنت محتاج لي، وبلا حرج وبغضّ النظر إن كان الآخر أصغر مني سناّ.. لا يَهُمّ.
مشكلة البشر أنهم عندما يصلون إلى الاستقلال بالنفس، أحيانا يصلون إلى الغرور بالنفس الذي يجعل الإنسان يظن أنه لا يحتاج أحدا، وهذه قمة الضعف..
قمة النّضج أن يعرف الإنسان أنه مُيسّر لما خُلق له.. فعندي قدرات ليست عند غيري، وغيري له قدرات ليست عندي، ولا حرج أن أسأل غيري إذا جهلتُ أمرا.. فالبديل لهذا: التظاهر بالعلم، وهذا قمّة الجهل.
خلاصة ما نريد أن نصل إليه، أن نقول للإنسان:
كن مسؤولا : [ نحزن وما نقول إلا ما يرضي ربنا ]. نعم قد تحدث مواقف تؤثر عليك وعلى عواطفك، وعلى مشاعرك، وتحزن كما حدث حتّى للرسول (صلى الله عليه وسلم)، لكن قِمّة المسؤولية أن يُفرّق الإنسان بين ما يَحدث له وبين ما يفعل.. دعونا نفكر في هذا الموضوع بشكل أعمق:
حياتنا نحن المسؤولين عنها.. سلوكنا نحن المسؤولين عنه.. عندما أتصرف بطريقة معينة أنا الذي قررت أن أتصرف بطريقة معينة.. فالذي يغضب ويضرب رجله على الحائط لم يُجبره أحد على التصرف بهذه الطريقة، كان من الممكن أن يغضب ويذهب ليتوضأ مثلا.. فالقرار نابع من الذات..
نعم قد تكون المشاعر بنت لحظتها.. حدث شيء يخيف فخفت، وقد تكون المشاعر حتى خارجة عن إرادة الإنسان.. يَحدث موقف مُحزن فيَحزن الإنسان .. نحن لا نريد من الناس أن يُغيّروا مشاعرهم، المهمّ أن يُغيروا سلوكهم .. الرسول (صلى الله عليه وسلم) عندما مرّ على امرأة من الصحابة، وكانت تبكي على زوجها القتيل في المعركة، هدّأها (صلى الله عليه وسلم) فقالت: إليك عني ! فقالوا لها كيف تقولين هذا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقالت: والله ما عرفته. وجاءت إليه تعتذر، فكان ردّ النبي (صلى الله عليه وسلم): [إنما الصبر عند الصدمة الأولى ]. يعني كونك حزينة هذا أمر طبيعي، لكن كيف يتصرف الإنسان بعدما يحزن؟ هل يتصرف تصرف الإنسان غير المسؤول؟ تصرف أهوج، أم يتصرف تصرفا هو المُقرّر لهذا التصرف..
نحن مسؤولون عن حياتنا، وسلوكنا نابع من قراراتنا وليس مفروضا علينا من الظروف المحيطة.
لا تكن عَبداً.. كن حُرًّا :
الحُرية أن تفعل ما تشاء متى شئت كيف شئت، لا يتحكم بك أحد. ولما نقول هذا نقصد الحرية بمعناها الشامل.. لا يتحكم بك أبٌ ولا أمٌ ولا زوج ولا زوجة ولا أولاد ولا رئيس في العمل ولا حكومة.. لكن هذه الحرية بهذه الصورة المطلقة وجد البشر أنها مؤذية لهم، ولذلك كل البشر- بغض النظر عن أديانهم أو عقائدهم أو مناهجهم الفكرية أو السياسية- وضعوا لهذه الحرية قواعدا وأصولا.. نحن عندنا قواعد وأصول لهذه الحرية.. أصول البشر قابلة للانحراف، قابلة للظلم، أما الأصول التي تأتينا من الله سبحانه وتعالى فهي العدل الكامل، العدل المحض الذي ليس فيه ظلم..
فكن عبد الله ولكن كن حُرّا في غير ذلك.. معنى ذلك أنك حاول أن تصل إلى نقطة من الحرية فيها توازن بين القيم وبين ما تريد..أحيانا ما نريد يخرج عن القيم، فتأتي قيمة العبودية لله وتحدّ لنا هذا الأمر.. دعونا نُفصّل في هذا الأمر أكثر..
حرية الاختيار: [ وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ] عندنا حرية الاختيار، خلقنا الله عز وجل واختلفنا عن السماء والأرض والجبال والحيوانات، اختلفنا عنها بأننا عندنا حرية الاختيار.. نحن نُقرّر ما نريد، نحن نقرر ما نفعل، نحن نقرر ما نؤمن به.. نحن الذين نقرر ذلك. لدينا حرية الاختيار، وحرية الاختيار العميقة هي التي تنبع من إدراك الذات، تنبع من ضمير حيّ، تنبع من عزيمة مستقلة.. هذه أسس النجاح.
لدينا حرية الاختيار القائمة على :إدراك الذات، والضمير الحي، والعزيمة المستقلة.(/3)
العلم الحقيقي: علّموا أولادكم هذه المعاني.. علموهم أنهم يفهموا من هُم.. ما هي قدراتهم؟.. علموهم أن يكون عندهم قِيَم، ضمير حي، مبادئ، أخلاق ينطلقون منها في التعامل مع البشر.. علموهم أن لديهم الإرادة والعزيمة التي لا تخضع لأحد إلا لخالقها.. علموهم العلم الحقيقي.. علموهم كيف يفهمون الحياة.. علموهم العقيدة والتصورات والقِيم والمبادئ وفهم الذات.. علموهم أن تصرفاتهم واستجاباتهم تخضع لقِيم ولا تخضع لمشاعر وأحاسيس.
يجب أن تخضع استجاباتنا للقِيَم وليس للمشاعر والأحاسيس.
كن فعّالا: أذكر لما رجعتُ من أمريكا، بعد غيبة طويلة، لاحظت ظاهرة في مجتمعاتنا، ظاهرة التذمر والشكوى.. الكل يشتكي.. ظاهرة يعيشها كثير من الناس يتكلمون عن دائرة اهتماماتهم، لكن لا يتكلمون عن دائرة نفوذهم.. طيّب إذا أزعجك شيء هل تتفرج أم تحاول أن تفعل شيئا؟ هذا هو الفرق بين الذي يعيش حياة خمول، والذي يعيش حياة نجاح. صاحب الخمول يشتكي من الداخلية ويشتكي من الدفاع ويشتكي من الأمن ويشتكي من الصحة ويشتكي من الأشغال ويشتكي من الإسكان ويشتكي من الكهرباء... كل شيء يشتكي منه، أما صاحب المبادرة يسأل نفسه هذا السؤال: ماذا أستطيع أن أفعل؟ كم أستطيع أن أغير؟
إذا لكي تكون فعالا، حاول أن تنتقل من الحديث عن دوائر الاهتمامات، ولا تفعل شيئا، إلى التركيز على دائرة النفوذ، واعمل على توسعتها. ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ... ... ...
... ...
...
... ... المجال الثاني : الإنجاز في العلاقات
التحفيز من الخارج: [ إنك لا تهدي من أحببت ] كثير من الناس يحاول أن يُحرّك من حوله، سواءً كانوا أولادا أو موظفين... بأسلوب التحفيز بالمادة. طبعا بعض الناس عندهم المال وكسب الثروة والازدياد منها هو هدف الحياة.. هو الغاية.. هل تريدون أن تكونوا أنتم بهذه الصورة ؟ بالتأكيد لا.. هل تريدون أن يكون أولادكم بهذه الصورة، حيث يصبح المال هو المحرك لهم، هو المُحفّز لهم، هو الهدف في الحياة لهم؟ هل هذا الذي تريدونه؟ أيضا بالتأكيد لا. إذاً، لا تجعلوهم يفعلون هذه الأمور مقابل المال.. تجعل مكافأة مالية لكل عمل يقوم به.. أنت تغرس معنى أن نشتري ظهور الناس.. يمكن أن أجعل الآخر يعمل من أجل المال، لكن هل أستطيع أن أشتري قلبه؟ هل أستطيع أن أشتري ولاءه؟ هل أستطيع أن أشتري حماسه؟ هل أستطيع أن أشتري عقله؟ بالتأكيد لا، كنت أدردش مرة مع أحد المسؤولين، وقلت له بأن نظام التحفيز عندكم غلط. قال: لم؟ قلت: أعطيك مثالا.. في نهاية السنة أنتم تعطون مكافأة للإنتاج المتميز، هذا صحيح؟ قال: نعم. قلت: وفي السنة التي بعدها هل تعطون المكافأة لنفس الشخص؟ قال:لا. قلت: لماذا وأنت قد حمسته، وزاد عطاؤه، فمن المطلوب أن تكافئه. تقول: لقد أعطيناه. والباقي ما مصيرهم؟ ستُرسّخ لديهم بأن هذا الذي يفوز، أما نحن فلا أمل لنا!، مثل كثير من المدارس التي تقيم حفلات للمُتفوقين.. ماذا تقول من خلال هذه الحفلات؟ هي تقول للآخرين: أنتم فاشلين، هذه هي الرسالة.. هي تقول باختصار أن هذا الطفل لا يمكنه أن ينافس الفائز، فهو من أساسه قَويّ. فما هو البديل إذا كان التحفيز من الخارج غير ممكن، وهو غير ممكن ليس فقط بأسلوب المال، بل هو بكل أسلوب غير ممكن، حتى بالإقناع، حتى بالدليل والبرهان والحجة.. لو كان ممكنا لاستطاع الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يهدي عمّه أبو طالب، ألم يملك النبي (صلى الله عليه وسلم) الحُجّة والدليل والبرهان؟ بَلى، ومع ذلك ما استطاع.. ما هو البديل؟.البديل هو التحفيز من الداخل.. أن نترك الإنسان يُحفّز نفسه. فما دورنا نحن ؟ ! هل نتفرج ؟ !لا. دورنا أكبر بكثير من أن نتفرج.. دورنا هو الحبّ وبلا شروط.
الحبّ بلا شروط :
لا تجعلوا الحُبّ ثمناً في العلاقات:
أنا أتكلم على العلاقات مع الأولاد، العلاقات الزوجية، حتى العلاقات مع الأصحاب.. لا تجعلوا الحب ثمنا.. ما معنى هذا الكلام؟ يعني مثلا، في العلاقة مع الأولاد، أن نُحبّ الولد ونقرّبه إذا كان شاطرا وناجحا في دراسته، وإلا فلا.. الحُبّ يجب أن يكون أصيلا ونابعا من القلب. أن أحب ولدي كما هو، كما خلقه الله عزّ وجل، وأسعد به كما هو، نجح في الدراسة أو فشل في الدراسة، ما هو معيار الحبّ؟ ما هو مقياس الحب؟، مقياس الحُبّ أنّ الحُبّ ما له شروط.
لا تجعلوا الحب سببا للسكوت عن الخطأ:
فإذا كنت تحب ابنك فلا تتركه على هواه.. هناك قضيتين أساسيتين لا يجب أن تتساهلوا فيها بسبب أنكم تحبون أولادكم:
القضية الأولى: الأمن. فلا تتساهلوا في قضية فيها خطر عليهم في صحتهم أو أمنهم...
القضية الثانية: الأخلاق. لا تتركوهم في خطر أخلاقي باسم الحب.(/4)
أهم من أن نُدرّس أولادنا الرياضيات والعلوم واللغات والكمبيوتر.. أهم من هذا أن نعلمهم كيف يختارون أصحابهم. أكثر انحرافات الأطفال بسبب الأصحاب.. كيف نستطيع أن نُغيّر هذه المسألة؟
الحب السلوكي: ( تهادوا تحابّوا )
الحُبّ ثمرة أُحبّ (الفعل).. فللحُبّ علامات ومؤشرات.. فمن العلامات أن نرى مجموعة من الأفعال تشير إلى الحب.. كلمات رقيقة، أسلوب راقي في التعامل، الحرص على أن تكون قرب المحبوب باستمرار، الاشتياق... وسلفنا الصالح تكلموا في هذه المسألة كابن القيم وابن حزم وغيرهما. إذا الحب ثمرة أحب.. لنحول الحب إلى فعل، نفكر فيه بطريقة أخرى.. كما أن الإنسان الذي يحب هناك ثمرة، فكذلك الثمرة فعلها يُولّد الحب. أذكر أنني لما غبت في أمريكا لفترة طويلة، كثير من أصحابي وأصدقائي ما سأل عني ولا اتصل بي ولا أرسل لي رسالة.. طبعا أنا أعذر الناس فإن مشاغلهم كثيرة، لكن فيهم واحد ما نساني أبدا، لا تمرّ فترة إلا ويتصل بالتلفون أو يرسل مكتوب أو يقضي لي حاجة من تلقاء نفسه وبمبادرة منه. كيف كانت النتيجة كيف صار شعوري تجاهه؟ أحببتُه طبعا ! .. ما كان شعوري نحوه بنفس الصورة قبل هذا..
دوام الحُبّ في مراعاة الأدب: (فيكتور هيجو)
تَخيّلوا إنسان يتعامل مع إنسان آخر بكلمات قاسية وكلمات جارحة، يُلبّي حاجاته ولا يُراعي حاجات الآخر، ثم يطلب الحُبّ. لا يمكن !.. لكي يَتولّد الحُبّ هناك ثمار للحب، لابد أن تُمارس، فهي دائرة الأولى تَجرّ إلى الثانية.. كلما زاد الحُبّ زادت الثمار، وكلما زادت الثمار زاد الحُبّ.. ونمشي في هذا الطريق.هذا الطريق ممكن أن يمشي بالعكس، لو مارسنا ثمار الحب بطريقة مختلفة سنمشي في الطريق الآخر.. استعملوا أسلوب الشتيمة والكلمات الجارحة والأسلوب القاسي وعدم التسامح.. ألبي حاجاتي ولا أبالي بحاجات من أمامي... ماذا سيحدُث؟ سيموت الحُبّ !. إذا الحب ثمرة ( أحبّ ).
ركّز على العلاقة وليس على نتائجها: كيف نُنَمّيها؟.. نُنميها بطريقة [ لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ].. نُنميها بطريقة بناء العلاقة لأجل العلاقة.. أنا لا أحب ابني أو ابنتي لأني أريد منه شيئا في المستقبل.. أريد أن يرفع رأسي ويرفع اسمي.. هذا مبدأ خطأ.. الأصل والبناء مبنيّ على علاقة غلط. العلاقة لا بد أن تَنبني على أساس العلاقة نفسها، على أساس الحب نفسه، بغض النظر على نتائجه، وبالتالي سأتعامل مع ابني الفاشل أو ابنتي الفاشلة بنفس المَحبّة. كثير من الناس يُشكل الحُبّ حسب فوائد هذه العلاقة له هو.. فالذي يُفيدني أكثر أحبه أكثر، والذي يفيدني أقل سأحبه أقلّ. هذا منطلق خاطئ في بناء العلاقات، ليس فقط مع الأولاد وإنما مع الناس كلهم.
لا بد أن ننطلق من مبدأ أن نفهم الآخرين: لا بد أن نفهم أولادنا، نفهم أزواجنا وزوجاتنا، نفهم موظفينا، نفهم رؤساءنا... كيف نفهم؟ نحاول أن ندخل في دخائل نفوسهم.. ونحاول أن نفهم هؤلاء لماذا يتصرفون بطريقة معيّنة. هذا الموظف الذي بدأ يتكاسل عن الدوام لماذا بدأ يتكاسل؟ هناك شيء حدث. أما أن أبدأ في تحليل ظواهر الأمور فقط.. كان نشيطا وصار كسولا .. كان مُجدّا وصار فاشلا!.. هذه ظواهر وليست أسباب وأصول..إذا فهمنا هذا سنُقنع الناس أكثر، لأننا سنفهم أكثر، وستكون مصداقيتي معهم أكبر، لأنني فتحت صدري لأن أسمع من ابني وبنتي وزوجتي والموظف الذي عندي.. وعندما نفعل هذا وبصدق وبجدّ، عنها المشاعر تبدأ في التغيّر، وتصير في اتجاهين وليس في اتجاه واحد.. نحن نتعامل مع الناس في كثير من الأحيان في اتجاه واحد.. أريد من ابني وبنتي وزوجتي وموظفي أن يتصرف كما أريد أنا، ولا يَهمّني ماذا يريد هو.
عندما تفهم دخائل نفوس الآخرين ستكون أقدر على إقناعهم،
وستكون مصداقيتك عندهم أكبر، وسيتبادلون المشاعر معك.
تعقل وكن شجاعا: نتعقل بأن نُحلل الأمور ونفهمها كما هي، على حقيقتها، على واقعها، على أصلها، لا كما نريد نحن، وإنما نفهم الآخرين أيضا ماذا يريدون، وتكون عندنا الشجاعة الكافية لأن نقول: آسف أنا غلطان ! هي كلمة صعبة جدا.. أؤكد لكم أن من أصعب الأمور على الأب والأم أن يقول لولده الصغير: أنا غلطان..(/5)
فن الإنصات.. هو طريق الفهم المتبادل: لكي نستطيع أن نقوم بهذا الأمر الصعب نحتاج أن نستمع.. نستمع لكل شيء.. نسمع الغث والسمين، ونُحلل ونميز ونفهم.. نُميّز بين الحقائق والمشاعر والآراء والأفكار، ونسمع مثلما سمع النبي (صلى الله عليه وسلم) لعتبة بن أبي ربيعة وهو يَعرض مساومات قادة مكة التافهة، والتي تختلف تماما عن المُهمّة التي جاء من أجلها الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ومع هذا ما قاطعه (صلى الله عليه وسلم) وما قال له مقاطعا: أنا أفهم ما تريد قوله.. لا، وإنما استعمل أسلوب [ أفرغت؟ اسمع مني]. كم من الآباء والأمهات يمارسون مع أبنائهم وبناتهم هذا الأسلوب؟ كم موظف صغير يجد في مسؤوله الكبير أذن صاغية تسمع له وبلا مقاطعة، وبلا دفاع، ولا تبرير.. لكي نفهم الناس علينا أن نستعمل فن الإنصات.
الإنصات الجيّد يتطلب وقتاً وجهداً، ولكنه أهون من نتائج سوء الفهم.
فن الإنصات يدور حول مبادئ:
تنوع الإنصات حسب الشخص المقابل هو أحد مهارات الاتصال: الإنصات يتنوع حسب الشخص المقابل، يعني لا أسمع لكل الأشخاص بنفس الأسلوب، كل إنسان له أسلوب يناسبه، ولكي نستطيع هذا، نحتاج أن نفهم الناس ونتعرف عليهم.
التعارف الوثيق يسهل عملية التفاهم:عندما أتعرف على الشخص الذي أمامي عندها أستطيع أن أمارس فن الإنصات بشكل صحيح، إذا لا أعرف الذي أمامي سأستعمل الأسلوب العام، وهو أني أسمع بأذني وأسمع بعيني وأسمع بهزات رأسي.. هذا هو الأسلوب العام، لكن هناك بعض الناس يحتاجون إلى أسلوب آخر.
معظم الناس يريدون أن يفهمهم الآخرون، وعندما يستمعون فهم يجهّزون الردّ: أحيانا نحن نحاول أن نسمع، نحاول أن نفهم ليس من أجل فهم الآخرين وتحقيق أهدافهم، وإنما لكي نحقق أهدافنا.. أشخاص مثل "ديل كارنيجي" الذي كتب كتبه المشهورة التي انتشرت في العالم العربي والتي هي أساس من أسس خراب الفكر الغربي، والتي تقول باختصار: ابتسم للناس.. لمّا تكون مع موظفك اربت على كتفه، وشجعه بكلمات حلوة... ما هي الرسالة التي يحاول أن يوصلها "ديل كارنيجي" وأمثاله؟ كثير من الدورات والمحاضرات والكتب، وكثير من أساليب التربية تركز على مثل هذه المعاني.. كيف تسمع؟.. كيف تبتسم؟.. كيف تهز رأسك؟... من أجل ماذا؟ باختصار لكي تمصّ دم الذي أمامك. فأنت تسمع لابنك أو ابنتك ليس من أجل أن تفهم ماذا يريدون لكن لكي ينجح في دراسته.. من أجل أهدافنا وليس أهدافهم. كثير من الناس ليس له الجرأة لكي يواجه نفسه بهذه الحقيقة، كثير من الناس حتى عندما يسمع وعندما يحسن الإنصات، يبدأ يفسر الكلام حسب خلفيته هو وقناعته هو. قد يقول قائل أن هذا أمر طبيعي. ليس بالضرورة إذا استعملت مبدأ آخر..
التواصل أهم مهارة في حياتنا. فهم الناس وحسن الاستماع إليهم أهم مقومات التعامل الناجح معهم.
مبدأ العدل والإنصاف: مبدأ الاستعداد أن يقول الإنسان لنفسه قبل أن يقول للناس: والله فعلا أنا كنت غلطان.. فعلا أسلوبي مع ولدي كان خاطئا. كثير من الأولاد الذين رأيت عندهم مشاكل، كثير منها تَعود لنشأتهم الأولى، لما كانوا في الروضة.. الولد المائع أؤكد لكم لو رجعتم ورأيتموه وهو صغير كيف كانوا يُلبّسونه ملابس بنات، ويتركوه يرقص.. لا بد أن نعترف بأخطائنا، لا بد أن نعترف بقصورنا.. الموظف غير النشط قد أكون فعلا وعدته بوعد وما التزمت به، أو كان يتوقع مني توقعا وما حدث.. لا بد أن يكون عندي استعداد لأن أواجه نفسي وأواجهه وأقول له: والله أنا آسف، كنت غلطان !. ما عندي مشكلة لأن أقول هذا. عندما نصل إلى هذا المستوى من التعامل مع النفس أولا، قبل التعامل مع الناس، عندها نكون صادقين.
مهارة التثبت: كثير من أخطائنا في مهارة الاستماع سببها عدم التثبت.. أسمع من طرف ولا أسمع من طرف ثاني.. أسمع من جهة وأحكم.. الرّسول (صلى الله عليه وسلم) يعلمنا مبدأ بسيطا جدا، يقول (صلى الله عليه وسلم): [ إذا جاءك الرجل وقد فُقئت عينه، فلا تحكم له حتى ترى الآخر فلعله فقئت عيناه ].. ولا تأخذنا العواطف في مثل هذه المسائل. شُرَيح القاضي من أعدل قضاة الإسلام، كان يحكم بين الناس، دخلت عنده امرأة وعنده العلامة الكبير الشّعبي رحمهما الله، فبدأت المرأة تعرض أمرها وأخذت تبكي بكاءً شديدا، فرقّ قلب الشّعبي وقال: يا شُرَيح ألا ترى بكاءها ؟!.. يعني أحكم لها فالأمر واضح. قال: يا رجل ليس هكذا القضاء فإن اخوة يوسف جاءوا أباهم عشاءً يبكون !.
ما هي نيتك ؟ وهل أهدافك واضحة وسليمة؟ والأهم من هذا كله نيتك أنت، وهذه النية لا يستطيع أن يطلع عليها أحد إلا أنت والله سبحانه. اسأل هذه الأسئلة:
ماذا أقصد من هذا العمل؟..
ماذا أقصد من هذه التصرفات؟..
ماذا أقصد من هذه المعاملة؟..
إذا استطعت أن أخدعكم فلن أستطيع أن أخدع نفسي وأخدع ربي..(/6)
الصدق هو منطلق العلاقات الإنسانية: مصيبة الدورات التي تعلم العلاقات تركز على شكليات العلاقات، بما فيها الكثير من الدورات التي تتكلم على العلاقات الزوجية، لكن حقيقة العلاقات هي ما هي نيتك أنت؟ ما هي أهدافك أنت؟ هل هي واضحة وسليمة؟
بناء العلاقات لا بد أن يُبنى على مبدأ ( أكسِبْ وكَسّبْ ) [ لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ]
كثير من العلاقات تُبنى على مبدأ أنا أكسب وأنت تخسر، أو تُبنى على طريقة أنا أخسر وأنت تكسب، وهذا يمارسه على وجه الخصوص الزوج مع زوجته والزوجة مع زوجها، إذا رأى الطرف الآخر مصرا على شيء، وخاصة المرأة إذا بدأت تبكي، يتنازل الزوج وهو غير مقتنع ولا هو راضٍ.. وهناك طريقة أسوأ من هذا، وهي طريقة أنا أخسر وأنت تخسر.. أحد الأزواج في أمريكا طلّق زوجته.. (وفي أمريكا عند الطلاق، تأخذ المرأة نصف مال الزوج) فهذا حكمت عليه المحكمة بأن تذهب نصف أمواله لزوجته، بما فيه البيت والسيارة... لا بد أن يبيع الكل ويعطيها نصفه.. وهو يكرهها كرها عظيما، فباع البيت بمائة دولار !! والسيارة بعشرة دولارات !!...عليّ وعلى أعدائي !!. فطريقة أنا أكسب وأنت تكسب تقول أن الحل أحيانا غير جاهز، أحيانا الحل يحتاج إلى أن ننضج ونكبر قليلا، ولا نتعامل كأطفال.. نتأمل: ما الذي ينفعني وينفع الذي أمامي؟. نحتاج صبرا، نحتاج إلى إبداع، وأن نفكر بحل غير عادي وغير تقليدي.. نفكر بطريقة مختلفة.. نفكر في حل يُرضي الطرفين ويُحقّق أهدافهما. هذا الأسلوب يُبنى على أسس هامة:
النزاهة والاستقامة: ومعناها أن يعيش الإنسان منسجما مع قِيَمه التي يؤمن بها في جميع مواقفه وعلاقاته اليومية.
الابتعاد على عقلية: أبيض وأسود.
التوازن بين الشجاعة والحكمة.
عقلية الكفاية لا عقلية الندرة والجدب: وخلاصتها أن هناك من الأرباح ما يكفي الجميع. فالكثير من الناس، خاصة السياسيين والتجار، يشتغلون بعقلية الندرة.. إما أن أفوز أنا أو الآخر.. عقلية لا بدّ أن يخسر أحد الطرفين. لكي نصل إلى عقلية الكفاية لا بد أن نبني علاقات فيها مشاركة، فيها إيجابية، وفيها خطوات محددة وواضحة.. لنحاول فهم الآخر، ونُحدد نقاط الاختلاف الحساسة ونقاط الاتفاق، لنحدد النتائج التي تُرضي الطرفين..
أسلوب ( أنا أكسب وأنت تكسب ) يحتاج إلى نضج، وتأمل وصبر وإبداع للوصول إلى حل يرضي الطرفين ويحقق أهدافهما.
عقلية: الكُلّ يَكسب: وهناك عقلية أفضل من عقلية "أكسب وكسّب" التي أخذتها عن "ستيفن كوفي".. لنفكر، هل هناك عقلية أفضل؟ نعم. هي عقلية " الكل يكسب".. أفضل من عقلية " أكسب وكسّب ما هي فلسفة عقلية "الكل يكسب" ؟
أحيانا عقلية أنا أكسب وأنت تكسب تكون على حساب أطراف أخرى، لكن عقلية الكل يكسب مبنية فعلا على مبدأ الكفاية لا الندرة، عقلية التسامح لا التعصب، عقلية المرونة لا الحزبية، عقلية الكل يكسب تفكر في البيئة، وتفكر في النهضة، وتفكر في التنمية، وتفكر في الأسرة… عقلية الكل يكسب أكبر وأعظم من عقلية أكسب وكسب.. لكي نصل إلى هذه العقلية لابد ألا نستعجل الحلول، ولا بد أن بحث على البدائل ولا نأخذ بالحل الأول الذي يأتينا.
زواج بين خبرة الشيوخ وحماسة الشباب:ولابد أن نسمع لحكمة كبار السن.. كثير من الشباب المتحمس ينظر إلى حكمة الكبار على أنها بُطء أو تأخر أو تخلف... لا هؤلاء ناس عركتهم الدنيا وعلمتهم التجارب.. نحن نريد حكمة الشيوخ وحماس الشباب.
التاريخ: ومن أعظم ما يتعلم به الإنسان كيف يتعامل مع البشر أن يقرأ التاريخ وبالذات قصص الأنبياء وسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم). هؤلاء أناس عاشوا للناس، عاشوا للبشرية، عاشوا للنهضة، عاشوا للحضارة، عاشوا للتقدم، عاشوا لتغيير النفوس، عاشوا للخلق.. وإلا إذا استثنينا هذا سنعيش حياة مادية قاسية، تطحننا في طاحونتها..
ما خاب من استشار: يتجاوز الإنسان مرحلة الاستقلال بالنفس، ويفهم أنه عندما يشاور يستخدم عقلين بدل عقل واحد، ويشاور عدد أكبر فيستخدم عدة عقول، ولا يتكبر الإنسان عن المشاورة، لو استغنى إنسان عن المشاورة لاستغنى عنها محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو الموحَى إليه من السماء، ومع ذلك كان يشاور، وأمر بها وهو أكثر الناس استغناءً عنها.. هذا مبدأ.
الوفاء بالوعود: [ إن العهد كان مسؤولا ]مبدأ آخر ينضج العلاقات ويُنَمّيها.. فمن أعظم ما يخرب العلاقات إخلاف الوعود.(/7)
ضبط النفس: [ إنما الصبر عند الصدمة الأولى ]الذي يتكلم كلام غير موزون هو أكبر من يخسر العلاقات.. يلقي كلمات جارحة، ثم يأتي من بعد ذلك ويعتذر ويتأسف.. هذا غير مقبول.. اضبط نفسك، كل إنسان له القدرة على ضبط سلوكه.. المشاعر ليست بأيدينا لكن السلوك نحن نتحكم فيه.الخلاصة أن يعيش الإنسان حياة جماعية، يعيش عمل جماعي، يعيش مع جماعة، يعيش مع الناس ويعرف كيف يتعامل معهم، وكيف ينفعهم ويستفيد منهم، ويعرف إذا أخطأ كيف يتعامل مع الخطأ، لا يتعامل بأسلوب الدفاع والتبرير الحذر وعدم الثقة.. لا يمكن أن تبني علاقات بهذه العلاقة.. لا يمكن أن تبنى العلاقات إلا إذا كانت صادقة مع الجميع..
الذين يفقدون القدرة على الحياة الجماعية، يفقدون قدرا هائلا من الطاقة.
الأدوار المختلفة: [ فاعط كل ذي حق حقّه ] كل إنسان له مجموعة من الأدوار في الحياة وليس دورا واحدا فقط، من أمثال هذه الأدوار أن الإنسان أب أو أم، زوج أو زوجة، موظف أو مدير، صديق، سياسي، مفكر... أدوار كثيرة في الحياة.. مهم جدا أن يعرف الإنسان كيف يبني العلاقة في كل واحدة منها.. لا بد أن تبنى هذه العلاقات بأهداف واضحة، وكل ما كان هدف الإنسان في الحياة واضحا عندها يستطيع أن يبني أدواره بشكل أفضل.
أول هذه الأدوار: دورك تجاه نفسك وأهلك [ قوا أنفسكم وأهليكم نارا ]
وأهم أدوار الوالدين ليس دراسة الأولاد أو ضبطهم باللوائح والقوانين والنُّظُم، وإنما كما يقول "ستيفن كوفي" زرع القيم والتوجيه في الحياة وتنمية العواطف الأسرية.. مرة أخرى، أهم من الدراسة والواجبات والقوانين أن نعطي أولادنا وبناتنا قِيَم ومهارات الحياة.
حسن الأدب: [ إن فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة ]
وفي كل هذه الأدوار نتذكر حسن الأدب.. الحلم (عدم الغضب)، الأناة (عدم الاستعجال)، حسن الأدب في الحديث والاستماع، حسن الأدب في الاستئذان.. متى أساء الإنسان الأدب انهارت العلاقات، وهذه من المعاني الرئيسية التي يجب أن نعطيها لأولادنا.. نعلمهم حسن الأدب. مهارة اكسب وكسب ومهارة الاتصال الفعال هي التي ستعيننا على مواجهة التحديات التي تواجه البلد ككل والأمة ككل. أنا أستطيع أن أغير على المستوى الفردي لكن على مستوى الأمة احتاج إلى جهد جماعي.
بنك العواطف: [ ادفع بالتي هي أحسن ]العلاقة عبارة عن بنك، والبنك فيه رصيد، فالكلمة الطيبة والهدية، الصفح والتسامح، الاستماع الجَيّد ... هي رصيد نُضيفه إلى هذا البنك. والكلمة القاسية، التجاهل، عدم الوفاء... هو رصيد نسحبه من هذا البنك. إذا انتهى الرصيد انهارت العلاقة !.لماذا يحدث الطلاق بين الزوجين بعدما كانوا يتبادلون الحُبّ؟ لأن كل واحد منهم كان يسحب من الرصيد ولا أحد يُضيف إليه.. انتهى الرصيد وانهارت العلاقة. فكروا بنفس الطريقة في علاقتكم مع أولادكم وزملائكم، في كل علاقاتكم.. كلها عبارة عن بنك.
كن إنسانا: [ من لا يَرحم لا يُرحم ] أساس العلاقة أن يشعر الإنسان أنه لا يتعامل مع آلات تحركها مال وتحركها كلمات وتحركها توجيه خارجي، وإنما يتعامل مع بشر، لهم أحاسيس ومشاعر وأهداف ومنطلقات ومبادئ وقِيَم.. تعاملوا مع البشر كبشر ولا تتعاملوا معهم كآلات.
النيّة ثم النيّة: [ إنما الأعمال بانيات ]
أصل المسألة كلها يدور حول مبدأ النية.. ما نيتك في هذه العلاقة؟.. احرص على صدقك مع نفسك ... ...
المجال الثالث : الإنجاز في العطاء
لا يكفي أن يكون للإنسان إنجاز مع نفسه، لا يكفي أن يكون للإنسان علاقات جيدة وممتازة، بل يحتاج أن يُطلق لنفسه الخيال، ليُنجز إنجازا يُفيد البشر.. حاول أن ترى نفسك في آخر عمرك، وتلتفت وتنظر إلى حياتك.. ماذا تركت وراءك؟ ما هي الإنجازات التي تركتها في حياتك.. فكر في هذا.. فكر في نفسك واسأل نفسك هذا السؤال:هل أهمّ شيء في حياتك، هو فعلا أهم شيء في حياتك ؟
سألتُ أحد الأمهات في دورة من الدورات: ما هو أهم شيء في حياتك؟ قالت: أولادي. قلت: كم ساعة تجلسين إليهم، أعني جلسات التربية وليس جلسات حل واجبات وجلوس إلى التلفزيون.. إذا كان هذا أهم شيء في حياتكم اجعلوه فعلا أهم شيء في حياتكم.. أهمّ من الأنشطة والعلاقات الأخرى، أهم يا إخواني من الديوانيات والمجالس..
كن قادرا على قول " لا ": لكي يكون أهم شيء في حياتك فعلا هو أهم شيء، لا بد أن يكون لديك الاستعداد لأن تقول لبعض الأشياء الأخرى: لا أنا آسف.
حدّد هدفك بوضوح: ماذا تريد ؟ ما هو المشروع الذي تريد أن تعيش من أجله ؟(/8)
لا بد أن يكون لك فهم واضح للنهاية. تبدأ بغموض ثم تتضح أكثر فأكثر، تعرف طريقك الذي تمشي عليه، وتتأكد أنك تمشي في الطريق الصحيح، وتأكد أنك مشغول بالأمر الصحيح وليس بالأمر الخطأ لتكون فعالا. كم من نجاح للإنسان إذا تأمل فيه سيجد أنه هامشي.. كم من امرأة وصلت إلى منصب عالي ثم التفتت ووجدت عيالها ضاعوا.. نحن طبعا نشجع النساء على المشاركة في الحياة، والفعالية في كل جوانبها، لكن أهم شيء في الحياة أن نجعله فعلا أهم شيء في الحياة.
من السهل أن تكون مشغولا دون أن تكون فعالا..وما أكثر النجاحات في أمور هامشيّة !
الإدارة والقيادة.. ما الفرق بينهما ؟
دعونا نفكر هل نفضل الإدارة أو القيادة ؟..
الإدارة: هي الأداء الصحيح للأمور. القيادة: هي أداء الأمور الصحيحة.
فالإنسان لا يحتاج إلى الإدارة بقدر ما هو محتاج إلى القيادة، أن نقوم بالأمر الصحيح.. وإليكم هذا المثال البسيط لنقرب المعنى..
الجهد الضائع : (لا تصعد على الحائط الخطأ !): إحدى الشركات في أمريكا أخذت مقاطعة لقص الشجر التي فيها لفترة محدودة، سنتين وينتهي العقد، فوضعوا خطة وبرنامج ووزعوا الأعمال، وأحضروا الآلات وكل المستلزمات حتى يقطعوا أكبر كمية ممكنة في أسرع وقت، وفعلا في اليوم المنشود راح كل الفريق من المدير والموظفين وجهزوا كل شيء بدقة حسب المشروع.. أحد العمال صعد على شجرة عالية وأخذ ينظر ويتأمل ثم صرخ بأعلى صوته " Stop ! " ، وتعجب المدير فلا مجال للتوقف والعمل قد انطلق والوقت محدود ولا بد من الإنتاج وأخذ يصرخ بدوره "Don’t stop" ليس لدينا دقيقة نضيعها.. فهذا يقول: " Stop ! " والمدير يقول: " Don’t stop". فصاح الموظف بأعلى صوته: Stop.. نحن في الغابة الغلط !!.كثير من الجهود التي تُبذل، تبذل في المكان الخطأ كأنّ الإنسان يصعد على الحائط الخطأ. كم من إنسان يعيش حياته بهذه الطريقة؟ هناك إنجاز، وهناك شغل، وهناك إنتاج، ولكن أين؟ وفي أي اتجاه؟ وفي أي مجال؟.. كثير من الناس لا يعرف ذاته، ولا يعرف ماذا يريد، ولذلك يترك الظروف ويترك الآخرين هم الذين يُشكّلون له حياته.. إذاً حَدّد الأولويات، وضع مشروعا وإجراءات للوصول إلى الهدف.
إدارة الوقت: كثير من الناس لما يشاركون في دورات إدارة الوقت، ينظرون إلى إدارة الوقت بالشكل الآتي: على الساعة الثامنة ماذا أعمل.. على التاسعة ماذا سيحدث.. وتتحول الحياة إلى حياة ميكانيكية.. أنا أعطيكم نصيحة إذا درّسكم أحد إدارة الوقت بهذه الطريقة قولوا له: آسف، تحتاج إلى إدارة وقتك أنت !!.
إدارة الوقت هي عادات تَخدُمنا ولا تقيّدنا، كثير من الناس المشغولين بجدول أعمال وبرنامج.. ولا يدخل عليه أحد إلا بمقابلة.. وماذا بعد ذلك؟ هل أنت فعلا تَسير في اتجاه أهدافك.. أنظر لأداء إدارة الوقت على أنها إدارة للعمر.. رتب أولوياتك.. ترتيب الأولويات في الحياة أهم من إدارة الوقت.. تقضي ساعتين تلعب مع عيالك، شكلها ما فيه إنجاز، لكنها أهم من عشرين مقابلة. لا بد أن ننظر إلى إدارة الوقت على أنها أداء، تخدمنا وتفيدنا ولا تتحول إلى قيود تُقيّدنا.. وإنما هي أحد الأدوات التي نريد من ورائها أن نحقق إنجازات.
أنظر لإدارة الوقت على أنها أداة لإدارة لعمل.
ترتيب أولويات الحياة أهم من إدارة الوقت.
إدارة الوقت يجب ألا تتحول إلى قيود تعيق لحركة.
فهناك إنجازات تركها وراءه، هذه الإنجازات قد تكون أولاد متميزين، مثلما يذكرون أن إحدى الصالحات تركت من ورائها عشرة أولاد كلهم علماء. أيّ إنجاز عظيم هذا !.. هل تعلمون أن تيمية كانت جَدّة شيخ الإسلام ابن تيمية، فهي التي علمته العلم، وأخرجت للأمة عالما بهذا المستوى !!. وقد تكون إنجازات على شكل مشاريع هائلة وضخمة يتركها الإنسان وراءه في أنحاء الأرض، كالعمل الطيب الذي يقوم عليه الدكتور جاسم المهلهل حفظه الله في اللجان الخيرية...
التوازن بين العطاء القريب والبعيد: لا يكون تفكيرك فقط في الإنجازات البعيدة، وتترك واجباتك القريبة، أدوارك في الحياة. بعض الناس مشغولين بأعمال ضخمة، أمورٌ تَهمّ الأمة وأولادُه ضائعون !.
قانون الحصاد: (من زرع حصد) إن القانون الرئيسي في العلاقات والعطاء: قانون الحصاد .. فالله تعالى جعل في الحياة سُنَن، ومنها هذا القانون: من زرع حصد. لا يمكن أن تنتج علاقات ممتازة بدون زراعة لهذه العلاقات .. العلاقات لا تأتي وحدها بل تُزرع زرعا.. في علاقاتكم مع أولادكم.. في علاقتكم مع الناس.. لا تتعامل مع الناس بقسوة وتقول بأنهم يفهمون قصدي.. هذا غير صحيح. وكذلك في الإنجازات، لكي ننجز مشاريع كبيرة، لابد لها من تفكير عميق، وجهد كبير، وبذل وعلاقات ومال... وحتى لو لم يكن لدى الإنسان مال.. إذا كان مؤمنا بفكرته، سيجد من يدعمه بالمال..
العلاقات والإنجازات تُزرع زرعاً وتُسقَى وتُرعى ونَنتظر .. ثم نَحصِد.
المجال الرابع : الإنجاز تجاه الآخرة(/9)
تكلم "ستيفن كوفي" في إشارات بسيطة ومحدودة لقضية الرّوح، وأهمية التوازن في هذا الجانب. أما نحن الذين نؤمن بوجود آخرة، نفهم أن النجاح يتجاوز النجاح في الدنيا ليصل إلى النجاح في الآخرة. لا بد أن نعيش حياة تتجاوز هذه الحياة.. يجب أن نفهم أن معيشة الإنسان إذا كانت فقط من أجل الدنيا، فالدنيا قصيرة جدا، والآخرة هي الحياة الخالدة.. ولا بد أن نفكر دائما كمؤمنين.. ما الأهم في كل شيء؟.. عندما يصل الإنسان إلى لحظة النعي ويلتفت وراءه، ويلتفت أمامه.. أمامه الآخرة ووراءه الدنيا.. ما الأهم. الذي يريد أن ينجح، والذي يريد أن ينجح أولاده في الدنيا فقط، ضَيّعهم وضاع.
الهدف من الحياة يجب أن يتجاوز هذه الحياة.
النضج الأعلى: مرحلة التوكل على الله عز وجلّ: يقول "ستيفن كوفي" أن هناك ثلاثة مراحل للنضج، وأنا أقول كمؤمن أن هناك أربعة مراحل للنضج:
1– الاعتماد على الآخرين (أنت).
2– الاعتماد على النفس (أنا).
3– الاعتماد المتبادل (نحن).
هذه هي نظرية " ستيفن كوفي ". لكن نظرية المؤمن..
4– مرحلة التوكل على الله سبحانه وتعالى ( هو ).
مقياس التوكل على الله عز وجل: خلاصتها كما يقول العلماء" ترك اتخاذ الأسباب معصية، والتوكل على الأسباب شرك".
يعني أن الله تعالى أمرنا عندما نعمل في هذه الدنيا، أن نبذل، أن نخطط، أن نبني علاقات، أن نعمل كل ما في وسعنا.. هذا يسمّى في الشرع الأسباب المؤدية للنتائج.. إذا تركنا الأسباب عصينا الله، كالذي يقول: يا الله ارزقني وهو قاعد في بيته. مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رجل جالس في المسجد، يصلّي ويتعبّد، فقال: من يطعمه؟ فقيل له: أخوه. قال: أخوه خير منه.. وقال: قم يا رجل واعمل، فإن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة.. لا بد أن نعمل لكن في نفس الوقت لا بد أن نتوكل على الله.
القوة الحقيقية تنطلق من إيمان الإنسان واعتماده على القوي العزيز.
البُعد الغيبي وتأثيره الفعلي في الحياة : هناك معاني إضافية لم يذكرها "كوفي" ولا أمثاله، لكن نحن كمؤمنين نؤمن بها، فالمؤمن الصادق في نيته، المخلص مع الله تعالى يُوفقه الله..
التوفيق الرباني:ما معنى توفيق الله؟.. يعني بدل أن يَمرّ الإنسان مثلا بعشرين طريق لكي يعرف الطريق الصحيح، يهديه الله تعالى إلى الصواب من أول مرة.
البركة: وهناك معنى آخر وهو معنى البركة، بمعنى أن الإنسان يبذر بذرة صغيرة ويحصد ثمار كبيرة.
التفكر والتأمل: التفكر والتأمل هو الذي يُعطيك الهمّة ويعطيك الطاقة.. ليس هناك ما يُعطي الإنسان قوّة على مواجهة الحياة ومشاكلها ومصاعبها مثل لحظات التفكر والتأمل [ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار فقنا عذاب النار ]
مارس أدوارك في الحياة ملتزما بالنية الصادقة، وأداء الواجب الشرعي في كل علاقاتك، واربط كل أعمالك بمعايير الحلال والحرام، لا تفعل حراما باسم الكسب، فالكسب مؤقت، حتى لو كسبت في الدنيا فستخسر في الآخرة.
الإحساس بالرضا لا يأتي إلا من الإيمان وتقبل الهزيمة. النجاح أن يستمر الإنسان ويحاول.. لا يفشل الإنسان ما دام يحاول. متى يفشل؟.. عندما ييأس.. عندها يكون الفشل.
خلاصة طريق النجاح
ما هي السذاجة؟
يقول " إينشتاين ": السذاجة أن نعمل نفس الأمور بنفس الطريقة، ثم نتوقع نتائج مختلفة !. ويقول أيضا -الحكمة ضالة المؤمن-: لا يُمكن حلّ المشاكل التي تواجهنا بنفس العقلية التي أوجدت تلك المشاكل.
لكي أعمل شيئا جديدا، لا بد أن أعمل شيئا مختلفا، وهذا يتطلب مني أن أفكر بطريقة مختلفة، لابد أن أفكر بتوازن بين أربعة جوانب: العقل والعاطفة والجسم والروح.
1- العقل: ما هو العقل؟.. في النهاية هو الإحساس بالحرية واستقلال الذات.. كثير من الناس يهمل عقله بعد الانتهاء من الدراسة.. ويتثقف من خلال التلفزيون فقط.. التلفزيون لا يعطي ثقافة. الثقافة الحقيقية لا تأتي إلا بالقراءة.. عمق الحِكَم تجدونها في القراءة. التلفزيون قد يحقق شيئا من المتعة والثقافة..ولكن أهم مصدر لتنمية العقل هو القراءة.. القراءة .. القراءة.
الفهم المتوازن للواقع: وتأتي كذلك من فهم متوازن للحياة في جوانبها المختلفة.. يحتك بأهل الاجتماع، ويحتك بأهل السياسة... يعرف الواقع المحيط.. لا بد أن نعيش هذا الجو الواقعي، لا جو الدراسة وفقط.. لا بد للطفل أن يعرف واقعه، يعرف ما معنى حكومة أو بنك أو اقتصاد... لا بد له من أساسيات لفهم الحياة حتى ينجح في الحياة.. الطفل الذي لا يعرف إلا الرياضيات والكيمياء والجغرافيا لا ينجح، وهذا خلل في مناهج التربية والتعليم التي تحتاج إلى تعديل جذري.(/10)
الإبداع: لابد أن نُربّي ونشجع أولادنا على الإبداع.. هي صفة عند جميع الناجحين على مدى الزمان. " ستيفن كوفي " لم يذكر هذه الصفة في صفات الناجحين وهذا خلل. الإبداع أن تأتي بجديد تتميز به، وتغير به من حولك. والإبداع قابل للتعلم وقابل للاكتساب.. سبعة مراحل يمشي بها الإنسان ويبدع، فالإبداع منهج قابل للتعلّم والتّعليم. وأيضا من خلل المناهج التربوية عندنا أنها خالية من تعليم الإبداع. الإبداع صفة مشتركة عند كل الناجحين على مدى الزمان
2- العاطفة:والعاطفة تستوجب التواصل والإنصات، وهذه هي أساسياتها، مع المبادئ الأخرى التي ذكرناها.
3- الجسم:أن يحرص على صحّة جسمه، بالحركة والتمارين الرياضية.
4- الروح:وذكرنا التأمل في الموت وما بعدها، التأمل في الحياة، والتأمل في حقيقة البشرية وحقيقة الإنسان.
لماذا نعيش؟.. إلى أين نحن ذاهبون؟.. ما هو مصيرنا بعد الموت؟...
اصبر وتجلّد: لكي ننجح لا بد من الصبر والإصرار والتحدي، ولا نيأس من أول محاولة أو ثاني محاولة... فالمصابيح الكهربائية التي نستعملها، اخترعها "توماس إديسون" الذي أجرى 260 محاولة قبل أن ينجح في صناعتها.. فشل 260 مرّة، لو يئس لبقينا في الظلام أو بمصابيح الزيت !، وله كلمة جميلة جدا، يقول: أنا أعرف 260 طريقة لا تستطيعون أن تصنعوا من خلالها مصباح !!.
الصبر والإصرار وتحدّي العوائق والعقبات عادة حميدة لدى كل الناجحين.
الضعف: [ إن الإنسان خلق هلوعا ]. يتذكر الإنسان أنه ضعيف، رغم كل جبروته وإمكانياته وطاقات، وأنه يحتاج إلى المناجاة.. يحتاج إلى ربه ليعينه ويوجهه ويُوفّقه ويبارك له.. قال تعالى: [ فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان ].
فلسفة التحفيز: تتذكرون لما حدثتكم عن المدارس التي تُكرّم المتفوقين آخر السنة.. أنا لا أومن بهذا، أعتقد أن كل إنسان لا بد أن يكون متفوقا، وأعتقد أن كل إنسان حاول سيكون متفوقا.. متفوّق على ماذا؟
الخطأ الكبير أننا نقارن البشر ببعضهم، ونقول هذا أحسن من هذا، إذا كان الطفل بدأ من الصفر ووصل إلى سبعين، لا نكرمه ونكرم الذي كان (70) مثلا وصار (95) أو كان (99) وضلّ (99).. الأول يستحقّ التكريم أكثر من هذا. هذه هي فلسفة أن تكرم كل من حاول، كل من بذل جهدا، كل من حاول أن يصل إلى التوازن، كل من حاول أن ينجح. كثير من مدرّسي التربية البدنية يقيمون مسابقات ركض، ويعطون جائزة للفائز.. كنت أتكلم مع أستاذ التربية البدنية عندنا وقلت له: والمسكين السمين هذا.. دائما لا يفوز !قال: وماذا أفعل؟ قلت: في بداية السنة نقيس كل واحد.. في كم من الوقت يقطع كل واحد منهم الميل مثلا..وبعد ذلك نقيس، من تقدم يأخذ جائزة.. نكرّ الجميع ولكن بشرط، أن يكون قد حاول وبذل جهدا.. هذه الفلسفة التي نريدها.
إذا هممتَ فبادر، وإذا عزمتَ فثابر، واعلم أنّه لا يُدرك المفاخر من رضيَ بالصفّ الآخر. قال عمر بن عبد العزيز: خُلِقَت لي نفسٌ توّاقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلمّا نِلتُها تاقَت إلى الخلافة، فلمّا نِلتُها تاقت إلى الجنّة. المدهش لابن الجوزي /228 .
وختاما
أحببتُ أن أختم هذه المحاضرة، وفكرت كثيرا بما أختمها، ووصلت إلى عبارة أبدعتها، أرجو أن تشاركونني فيها:
ضعيف وجبّار في نفس الوقت.. جبار بطاقاته، جبار بقدراته، جبار بعقله.. جبار لو أراد، ضعيف لو خنع، ضعيف لو لم يثق بنفسه، ضعيف إذا اتكل على نفسه ولم يتوكل على ربه.. ضعيف جبّار..
حتى تنجح:
ثق بنفسك،
توكل عل ربك،
توازن في حياتك..
انطلق نحو النجاح.
... ... ... ...(/11)
النحو بين التيسير والتعسير
د. محمد أحمد الشامي*
مقدمة:
قد عَجَّمْتُ عود النحو فوجدته صلبًا، ولم يكن الأمر كما كنا نسمع من مشايخنا من أنك ترى النحو أسدًا فإذا دخلته وجدته خروفًا، وكدت أقول مع المبرد حين يأتيه شخص ليقرأ عليه كتاب سيبويه [هل ركبت البحر] أو أقول مع القائل – [على أنني راضٍ بأن أحمل الهوى فأخلص منه لا عليّ ولا ليَّا] غير أني عدلت عن ذلك إلى القول مع القائل "سعاد التي أضناك حب سعاد"، فعشت في كتب النحاة منذ غضاضة العمر حتى هذا اليوم الذي تجاوزت فيه الخمسين، – وهي فترة زمنية كافية لأن يكون للإنسان رؤية فيما أحسب – تعينه على فهم النحو ودروبه ومسالكه بحيث يتمكن من سلوك الطريق الذي يساعده إن شاء الله على فهم النحو وتقريب قصيه، وشغلت كثيرًا بهموم هذا النحو العربي كغيري من الحادبين، لا سيما وأن شغفي بالعربية يحدوني دومًا لتمكين الآخرين منها، من الطلاب والأصحاب سواء أكان ذلك عن طريق المدارسة أم المساءلة أم المراسلة، ولكم وددت أن أجمع ما يعنّ لي من مسائل وأطروحات في مقام واحد أستمع لرأي الآخرين فيها أناقشهم ويناقشونني أبادلهم الرأي بالرأي والمحاورة بالمحاورة، حتى تتجلى لنا الحقائق وتستبين المعالم فترتاح قليلاً من وعثاء السفر، لا سيما في عصرنا هذا الذي فقد مثل ذلك الاعرابي الذي أجاب على الأخفش حين سأله بعد حضور مجلسه الذي كان يقوم فيه بتدريس النحو – "ما نسمع أخا العرب؟" فقال الاعرابي الذي كان يستمع في تعجب تتكلمون بكلامنا في كلامنا مما ليس من كلامنا(1).
هذا وأبناء عصرنا يحملون كثيرًا من الأسئلة التي يحاولون الإجابة عنها، فمنهم من بدأ في الإجابة ومنهم من لا ندري أهي من مخطوطاته أم اختطفته المنايا وفي نفسه شيء من أسئلته، كأستاذنا المرحوم الدكتور حسن عون الذي قال: "إن السؤال الذي يفرض نفسه علينا الآن هو:
* هل هناك من سبيل لوضع النحو العربي، ولا نقول إصلاح النحو العربي لأنه ليس فاسدًا – وضْعًا جديدًا في الإطار الذي ينبغي أن يكون فيه، حتى نستطيع أن نخفف من أعباء دراسته، وإن نبعث الحياة في مسائلة، وفصوله وأبوابه وأن نخلصه مما علق به وليس منه، وأن نجعله يساير الظروف اللغوية التي نعيشها".
إلى أن يقول: "نعم هناك سبيل لوضع النحو العربي لا بدّ أن يوائم ظروفنا وينسجم مع تطورنا الثقافي والاجتماعي. وهذا هو الذي عقدنا العزم عليه"(2).
ولكن فيما أحسب أن الأستاذ حسن عون لم يشف غليل نفسه مما ذكره، خاصة في مسألة إعراب الأفعال، إذ أذكر أنه عندما كان يناقشني في مدرج كلية الآداب بجامعة القاهرة الأم ويحضر الأستاذ الدكتور رمضان عبد التواب والأستاذ الدكتور عبد الله درويش في قولي بأن الفعل المضارع معرب إطلاقًا، قال إنه ذهب إلى أكثر من ذلك ذهب إلى إعراب الأمر والماضي، ولكم تمنيت أن أرى ذلك مكتوبًا وهو أمر لم أصل إليه حتى الآن.
أقول إن أبناء عصرنا في نفوسهم كثير من القضايا والمسائل ووجهات النظر، وهم في النهاية كما أحسبهم واصلون إلى إقناع محدد بأن الآراء من حيث صوابها وخطؤها تخدم درسنا النحوي. فتعديل الخطأ وتأكيد الصواب هو من صميم عمل الباحثين ودأبهم، وان المراحل المختلفة التي مر بها النحو العربي على مسار الزمن الطويل كفيلة بالوقفة تلو الوقفة لتبعث فيه العافية وتجدد منه الشباب، فليس ثمة اقتناع على الإطلاق باحتراق النحو، وإلا لذهب النحو وأدراج الرياح وأصبح من الذكريات الخالية من مخلفات التاريخ، كما أننا لا تقنعنا أبدًا عبرات الباكين على السالفين منه فنردد مع علقمة بن عبده الأسدي:
ولكنا نقول:
إن حقيقة النحو العربي بطريقته العربية تلك التي كانت رهينة النص وحبيسة التذوق؛ قد بعدت الآن فغدا محكومًا بالبراعة التي توسعت في العلل وكثرت فيها الإجتهادات التي ربما كان بعضها قاصرًا عن بلوغ مراده، في وضع يقنع الواقف أمامه. فوجدنا التخريج يصدر في مهارة، والتفسير يحدث ببراعة، كما وجدنا بعض أهل النحو من سلفنا يصطلحون على مسائل أطلقوا على بعضها النكات النحوية أو عويصات المسائل، مما جعل بعض المتأخرين يجنح لتضعيفها باطلاق قد عَدّه لطيفًا مثل قوله: "إنّ نكات النحو كالورد تُشَم ولا تُدْعَك"، وليت شعري هل مثل يصل عند المحدثين ذكرًا، ولما كنا هنا في مجال ذكر جهود علمائنا في النحو؛ لابد من الاشارة إلى أمر مهم نوثق فيه نحاتنا السالفين، فهم على ما رأيت لم يعرفوا بالتدليس كما هو الشأن عند بعض أصحاب الفنون. فرؤيتهم ومقولاتهم نقلاً ووصفًا هي من عندهم ومن قناعتهم، ولم تكن موضوعاتهم طائشة أو معممة ولكن هي الحقيقة التي اقتنعوا بها حسب جهدهم وكسبهم، ولم نعرف منهم من طلق النحو في بينونة صغرى أو كبرى، وتلك محمدة لأهل علم أجلاء كان الاخلاص رائدهم، والوفاء سلوكهم، حتى نهضوا بواجبهم وفق ما اقتضته ظروفهم، وحياتهم وأوضاعهم الثقافية والاجتماعية.(/1)
إن نحاتنا من سالف أيامهم قد اجتهدوا واستخدموا الأقيسة التي بدت لبعضهم كالجربانات كما قال أبو منصور بن الجيّان: "قياسات النحو تتوقف ولا تطرد كقميص له جربانات فصاحبه كل ساعة يخرج رأسه من جربانة"(3).
وأظن أن الخروج من جربانة إلى أخرى لا يمكن أن يصل بالإنسان إلى غايته الكاملة ما دامت العلوم كلها لا تدرك قيعانها في عمر المرء القصير وكما قيل: فإن العلم بحرٌ زخار لا يدرك له من قرار. وطود شامخ لا يسلك إلى قننه ولا يصار. من أراد السبيل إلى استقصائه لم يبلغ إلى ذلك وصولاً، ومن رام الوصول احصائه لم يجد إلى ذلك سبيلا. كيف وقد قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاَ}.
ورحم الله الزركشي في آخر مقولته: "فإن الصناعة طويلة والعمر قصير وماذا عسى أن يبلغ لسان التقصير..."
من أجل هذا دعونا ننظر في درسنا النحو بما يلائم روحه ويساير طبيعته، عسانا نجيب أبناء عصرنا فيه فيقدموا على أبوابه وفصوله ومسائله بما يخدم لغة القرآن العظيم.
هذا وهنا أشير إلى وجهة نظر تمثلت لي خلال دراستي للنحو وتدريسه، تلك هي أن دراسة النحو على طريقة القدماء من خلال اللغة نفسها هو ما ينبغي أن يدور فيه تعليمه ومدارسته معنىً وشكلاً، وذلك مفهوم أحسب أن التماساته لم تنعدم في يوم من الأيام، وخلال الحقب المتتالية من علماء العربية الأجلاء. ولا أظن أن نواياهم وأعمالهم كانت قاصرة في مجموعهم. وكل متناول لمسائل النحو وقضاياه الأساسية في العربية لا أظنه يغفل الاعتبار الكافي الذي يلزمه أن يحفظ لسلفنا الصالح كل اجتهادهم وإخلاصهم للعلم والتجرد له. لكنا نود الإشارة إلى حقيقة مهمة تتمثل في أن النحو العربي تشابكت فيه عدة عوامل نتج عنها ما يلي:
أ/ تذاءبت على النمو المذاهب المختلفة.
ب/ احتضن النحاة اللهجات العربية التي اعترفوا بها فقط في مجال الإصلاح النحوي الذي اتفق عليه.
ج/ كثرت الاجتهادات في التخريج المرهق.
د/ قل الحافز نحو الترغيب.
هـ/ تدخلت المعالجة الشكلية المفرطة مع الاصرار والمحافظة على القائم من مسائل النحو والمتابعة القاسية لكل ما جدّ وظهر، دون الاهتمام بعامل الزمن وتنوع الرغبات والبيئات ووحدة العلوم العربية التي أسسها جِلّة من الأوئل والسير على طريقة العربي في لغتهم بمختلف لغاتها في براح وإفساح.
عوامل العسر
أ/ تختلف الأسباب التي تدعو لنشأة ظاهرة ما. فمنها أحيانًا طبيعة الظاهرة ذاتها وما تفرضه، ومنها ما هو من صنع الإنسان نفسه، فمثلاً ما نحن بصدده من عوامل التعسير في النحو العربي؛ فإننا نجد الانبعاج والترهل الذي أصابه على يد أهله بسبب حرصهم على استقصاء كل ما يتعلق بمسائله سالكين لذلك كل السبل التي تيسرت لهم من حركة وثقافة وعلوم. مما أدى بطبيعة الحال إلى فتور التلاميذ وقصور هممهم.
ب/ عامل يعود إلى صاحب الصنعة نفسه، حينما حاول بعضهم أن يتكسب بهذا العلم ويتخذه مظهرًا اجتماعيًا يجلب له الوجاهة والتفرد في مجتمعه، فصار يدخله في مسائل لا تسمن ولا تغني من جوع، ومن ثم نجد من دخل في ديار النحو طلبًا للمال ومناصرة للمذاهب، فغدا النحو مخيفًا فشاب من شاب خوفًا منه ومات من مات كمدًا ومكايدة في مجالسه، وهذا فيما أحسب من العوامل الحادة التي جعلت النحو يتحرك في دائرة حرمته كثيرًا من الافكار النيرة والوقفات الصائبة. ولننظر فيما يأتي من الأقوال كنماذج لهذه المسألة فالنحاة أحيانًا يتجاوزون لأكثر من علة كسؤال السائل عن زيد في (قام زيد) لم رفع؟ فيقال لأنه فاعل مرفوع (هذه العلة الأولى) فيقول لم رفع الفاعل؟ فيقال للفرق بين الفاعل والمفعول (هذه العلة الثانية) – فيقول فلم لم تعكس القضية بنصب الفاعل ورفع المفعول؟ فيقال لأن الفاعل قليل والمفعولات كثيرة فأعطى الأثقل الذي هو الرفع الفاعل وأعطى الأخف الذي هو النصب للمفعول لأن الفاعل واحد والمفعولات كثيرة، ليقل في كلامهم ما يستثقلون ويكثر في كلامهم ما يستخفون. فهل مثل هذا يزيدنا علمًا، أظن الاجابة سالبة إذ لو جهلنا ذلك، لم يضرنا جهله لأنه في الواقع رفع الفاعل الذي هو مطلوب الدارس. هذا ومن وجوه التفسير ذلك الحديث الذي جرى بين من ينتحل النحو وآخر ذي إلمام – في قول كثير:(/2)
قال بعضهم البحاتر مبتدأ وشر النساء خبره، وقال بعضهم يجوز أن يكون شر النساء هو المبتدأ والبحاتر خبره، وكان هناك من يرى أن الشاعر لا يريد إلا أن يخبر أنّ البحاتر شر النساء وأنكر صحة غيره ... وجعل يكثر من ذكر الموضوع والمحمول، ويورد الألفاظ المنطقية التي يستعملها أهل البرهان فقلت له أنت تريد أن تدخل صناعة المنطق في صناعة النحو وصناعة النحو تستعمل فيها مجازات ومساحات لا يستعملها أهل المنطق، وقد قال أهل الفلسفة يجب أن تحمل كل صناعة على القوانين المتعارفة بين أهلها، وكانوا يرون أن إدخال بعض الصناعات في بعض إنما يكمن من جهل المتكلم أو عن قصد منه للمخالطة واستراحة بالانتقال من صناعة إلى أخرى إذا ضاقت عليه طرق الكلام(4).
ومما يؤيد هذا المنحى ذا الجذور ما روى عن سبب وضع الفرَّاء للحدود واملائه:
إنّ جماعة من أصحاب الكسائي صاروا إليه وسألوه أن يُملي عليهم أبيات النحو ففعل، فلما كان المجلس الثالث قال بعضهم لبعض إن دام هذا على هذا علم النحو الصبيان. والوجه أن يُقعَد عنه فقعدوا. فغضب وقال: سألوني القعود. فلمّا قعدت تأخروا والله لأملين النحو ما اجتمع اثنان فأملى ذلك ست عشرة سنة.
وعند إنعام النظر إلى هذا النص ترى من يريد النحو لاسم لا يفقهها كل الناس حتى لا يشاع، بينما نرى إصرار الفراء على التيسير وما أظن الرجل إلا مريدًا بذلك الخروج من حزن إلى سهل حتى يستجم الدارس ويلتقط أنفاسه ويدفع عنه الملل، وما أظن أولئك الممتنعين والقاعدين إلا آمّين الحزن من المسائل، وبهذا يقطعون ظهر الدارس ويبتّون قواه الذهنية والبدنية، فيقف دون مرامه فيكون لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى. وإذا كان أساسًا الهدف من تعليم النحو عند قدمائنا الأجلاء محاولة فهم القرآن وإدراك معانيه، فما العيب في أن يفهمه الصبيان، وكان من الجميل جدًا عند المرغبين الميسرين أن تتجه هممهم للتعمق في الصوت وفي اللفظة وفي الجملة، مما اقتضاهم طرق كل باب يفضي إلى الإفصاح عن أسرار التركيب القرآني، ومن ثم نتابع النحاة في هذه القرون الممتدة يؤصلون، ويفصلون، ويشرحون ويعللون وهم في ذلك لا يغفلون لحظة عن الهدف الذي من أجله ولد علم النحو هذا.
وأحسب أن هذا الفهم والهدف هو الذي دفع أبا عبيدة معمر بن المثني (ت 308هـ) إلى تأليف كتابه في مجازالقرآن، محاولاً بما أوتي من قوة ملاحظة ومشاهدة دقيقة أن يسلك بدرس النحو سبلاً أخرى تربطه بالنصوص وتوسع من دائرته وتسهل عويصه الصناعي. فاتخذ من بعض المسائل موضوعًا للتأميل في ربطها بالنص، وكان يهدف من وراء ذلك العمل إلى الكشف عن الحقيقة العلمية الكامنة وراء النصوص. فجاء عمله طيبًا وفق جهده فتناول مسائل متعددة من تقديم وتأخير وحذف وغيرها.
وعله بهذا العمل فيما نحسب يود أن يسعى إلى طريقة حسنة تفيد في تناول مسائل النحو وقضاياه، بدل البحث عن العلل الأوائل والثواني وكلها كانت من الطرق التي تلتمس لفهم طريقة لغة العرب ونحوها بمعناه الواسع المفيد. وهذا التناول قد فتح الباب أمام نظرات جديدة للنحو تتمثل في الجهد الذي ظهر في القرن الخامس على يد العلامة الشيخ عبد القاهر الجرحاني (471 هـ).
فكان النحو عنده ليس علامات الإعراب وحدها، أو النظر إلى أواخر الكلمات وليست البلاغة في التشبيه وبراعته ومحدودية النظر، وإنما سبيل العربية المطلوب هو الإبانة والفهم ووسائل العربية كثيرة، منها التنكير والتعريف والتقديم والتأخير والفصل والوصل والتحول من الاسم إلى الفعل ومن صيغة لأخرى.
وقد كان الرجل عظيمًا حين أسند وجوه البيان والافهام إلى علم النحو، وعاب على بعض القوم زهدهم في النحو وعلى آخرين اغفالهم لمعناه الواسع الجميل. قال عن المستهينين "وأما زهدهم في النحو واحتقارهم له أو إصغارهم أمره وتهاونهم به فصنيعم في ذلك أشنع .. وأشبه بأن يكون صدًا عن كتاب الله وعن معرفة معانيه وذلك بأنهم لا يجدون بدًا من أن يعترفوا بالحاجة إليه فيه. إذا كان قد علم أن الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتِّقها، وأن الأغراض كامنة فيها. حتى يكون هو المستخرج لها.. ولا ينكر ذلك إلا من ينكر حسه وإلا من غالط في الحقائق نفسه، وإذا كان الأمر كذلك فليت شعري ما عذر منه تهاون به وزهد فيه، ولم ير أن يستسقيه من مصبه ويأخذه من معدنه ورضى لنفسه بالنقص والكمال لها معرض وأثر الغبينة وهو يجد إلى الربح سبيلاً"(5).(/3)
فعبد القاهر بمثل هذه الملاحظات يؤكد أن أمر التدريس النحوي مرتبط بفك المغلق واستخراج الأغراض الكامنة وليس هو أمر ما يلحق أواخر الكلام. هذا والذي أصاب النحو قبل فترة هذا العالم قد أبعده كثيرًا عن هذه الدوائر وصار مسائل كالألغاز عند بعضهم، وتلاعبًا بالصور والأشكال كما في قرينة الصرف كتلك الأقوال التي نعرفها من مثل: كيف تبني من كذا كذا، أو ما هو وزن كذا ثم ما وزن عزويت أو قولهم لو سميت رجلاً بكذا فكيف يكون الحكم (6) فمثل هذا وما أشبهه لا يثمر إلا كدّ الفكر وإضاعة الوقت وجلب الوهن، وعكسه نجده في ترغيب عبد القاهر الجرجاني في بعض المسائل البلاغية المختلطة بالأداء النحوي مما نحسبه صنيعًا محببًا للنفس الطموحة التي تشرئب لفهم العربية بأصلها، ولننظر في مثال واحد تناوله في الدلائل وهو "اشتعل الرأس شيبًا"(7). نحن في دراستنا النحوية نمثل به في باب التمييز المحول عن فاعل دون تلمس الوجوه الجمالية فيه. والمعاني الجمّة التي يشتمل عليها كما يتناوله البلاغيون الحرفيون يقول:
"ومن دقيق ذلك أنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى: {واشتعل الرأس شبيًا} لم يزيدوا فيه على ذكرالاستعارة، ولم ينسبوا الشرف إلا إليها ولم يروا موجبًا للمزية سواها، هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم وليس الأمر على ذلك ولا هذا الشرف العظيم.. ولكن لأن يسلك بالكلام طريق ما يسند الفعل فيه إلى الشيء وهو لما هو من سببه فيرفع به ما يسند إليه ويؤتى بالذي الفعل له في المعنى منصوبًا بعده مبينًا أن ذلك الاسناد وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل هذا ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة كقولهم طاب زيد نفسًا وقرّ عمرو عينًا ... وأعلم أن في الآية شيئًا آخر من جنس النظم وهو تعريف الرأس بالألف واللام وأفادة معنى الإضافة وهو أحد ما أوجب المزية ولو قيل "واشتعل رأس فصرح بالاضافة" لذهب بعض "الحسن" فأرفه(8).
وقال: "اعلم أنه ليس النظم إلا أن تضع الكلام الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، فينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك زيد منطلق، وزيد ينطلق، وينطلق زيد ومنطلق زيد والمنطلق زيد وزيد هو المنطلق وينظر إلى التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير والحذف والتكرار والإضمار والإظهار فيضع كلا من ذلك مكانه ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغي له"(9).
هذا وعلى أية حال؛ إن وضع النحو يحتاج إلى معالجة واعية ليس فيها على قدمائنا تطاول وليس فيها على المحدثين تهاون، فزماننا قد وهنت فيه الهمم وأشأم الناس وتيمن النحو وصار مدرسو النحو مع طلابهم كالمنكح الثريا سهيلاً، فالاستعداد في النفوس حادث ليبلغ أهل العربية العربية على وجه يرضى الله ويرضيهم، ويرفع عنهم كوالح المسائل وعويصاتها، ويوجد لهم المصطلحات ومنابعها ويحبذ لهم منهج المتذوقين، والمستبصرين الذي يجمعون المتفرّقات ويربأون عن الخلافات ويحسنون جمال القول في براعة التركيب وبلاغة الفصحى، ولا أحسبنا بمبتعدين عن الصواب إن جارينا قدماءنا في روحهم الوثابة في التعامل مع عصورهم فقد وجدناهم دومًا يشيرون إلى حال العصر الذي يعيشون ويتعاملون معه بواقعية مشهودة، فيصفون قصور الهمم وكثرة الشواغل كل هذه في زمانهم فماذا يكون الحال في عصرنا الذي صارت بضاعة العلوم فيه من حيث هي مزجاة أما النحو العربي فلا بواكي له.
وأما سدّ باب الاجتهاد على النحاة في أي عصر من العصور، فلا حجة في ذلك لا سيما بعد التطور البشري في وسائل المعرفة وفي إدراكنا لنعم الله على عباده، فقد يفتح الله لعالم بعد آخر من الأبواب مالم يتطرق إليه من المتقدمين أحد. ولا أظن الأمر يحتاج إلى عرك أذن أو عراك أبدان، وإنما الفكر والرؤية والتريث بعد النظر والاستعداد. فالخلاف الذي لا يقوم على عصبية مذهبية في النحو عند أبناء عصرنا لا يثير التخوف ولا يصد عن السبيل – فهم على استعداد حميد لقبول الرأي الآخر والرأي الموافق على وجه يجلى الغموض ويستبعد الحرفية المدلجة.
النحو والمناكفات(/4)
لم يطرح النحاة التثريب على بعضهم جانبًا وإنّما كانوا يتعمدون أحيانًا إثارة المسائل في المجامع وأمام الأمراء ويعقدون المجالس لإحراج بعضهم بعضًا تارة، ولإظهار البراعة تارة أخرى، وللوصول إلى المقاييس أو التصويب تارة ثالثة. ولعل الدارس للنحو يدرك تمامًا المناظرات المختلفة والمجالس التي عقدت ودار فيها مثل هذا العمل، كالصنيع الذي نجده بين أعلام النحو العربي إذا استعرضنا النحاة البارزين من أمثال سيبويه، ابن السراج، الكسائي، الفرّاء، الأخفش، المبرد، الزجاج، ثعلب، الزجاجي، السيرافي، ابن كيسان، ابن برهان، ابن جنّي، ابن الأنباري، الزمخشري، ابن مضاء، ابن خروف، الشلوبيني، ابن عصفور وابن الحاجب، وغيرهم من أعلام النحو. لوجدنا لأكثرهم لقاءات ومحاورات وردودًا على من تعاطى هذه الصنعة من أقرانهم ومعاصريهم أو على من سبقهم يمكننا أن نجد بعضًا من ذلك في – مناظرة الكسائي واليزيدي، ومجلس أبي إسحق الزجاج وجماعته ومجلس ثعلب والمبرد ومجلس أبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر ومجلس الزجاج مع رجل غريب، ومجلس ثعلب مع ابن كيسان ومجلس ابي عثمان المازني مع ابي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش ولا يخفى ذلك الجمع المشهود الذي هباه يحيى البرمكي بين سيبويه والكسائي في المسألة الزنبورية.
مما هيأ الجو في مجال النحو للبعد به عن التسهيل والترغيب فنشأ جيل تعاطى النحو وبرع فيه براعة مشهودة مما جعل نفرًا منهم يتخذه مباهاة فحال هذا العمل ببين النحو للجميع وبين الناس، فظهرت المشكلات والمسائل العويصات كالأحاجي والمجالس والمناظرات في أمور نحسبها لم تعط النحو دفعات أو تطورًا أو يجني الدارسون منها ثمرة عملية تطبيقية، ويمكن تصور هذا الذي نقول إذا رأينا الفتاوي النحوية التي ربما جاءت نتيجة للتطور الذي نشأ من خلال تلك الممارات والمناظرات والمجالس والأحاجي. وسأسوق هنا أمثلة متنوعة على ذلك.
نموذج للمناكفات:
في نظري أن افتعال المسائل الصعبة أو السهلة في حد ذاته يدل على تعقيدات لا مبرر لها في مجال الدراسات النحوية والصرفية التي مجالها العطاء لا المحاجة ومما جاء في هذا المجلس أبي عثمان المازني مع يعقوب ابن السكيت (186 – 244) جاء فيه:
"أخبرنا أبو إسحق الزجاج قال أنبأنا أبو العباس عمر بن يزيد عن أبي عثمان قال:
جمعني وابن السكيت بعض المجالس فقال لي بعض من حضر: سله عن مسألة، وكان بيني وبين ابن السكيت ودٌ، فكرهت أن أتجهه بالسؤال لعلمي بضعفه في النحو – [بمعناه العام] فلما ألح عليّ قلت ما تقول في قول الله عز وجل {فارسِلْ مَعْنَا أَخَانَا نَكْتَل}(10).
ما وزن نكتل من الفعل ولم جزمه، فقال وزنه نفعل وجزمه لأنه جواب الأمر قلت فما ماضيه ففكر وتشوّر فاستحييت له. فلما خرجنا قال لي – ويحك ما حفظت الودّ خجَّلتني بين الجماعة فقلت: - والله ما أعرف في القرآن أسهل منها قال فإن وزن نكتل نفتعل من اكتال يكتال وأصله نكتيل فقلبت الواو لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم حذفت الألف لسكونها وسكون اللام فصارت نكتل(11).
الفتاوي النحوية:
لقد تطور أمر المناكفات فاتخذ شكل فتاوي نحوية لزداد الأمر تعقيدًا ومن أمثال ذلك ما تقول السادة النحويون أحسن الله توفيقهم في قول العرب يا أيّها الرجُل هل ضمة الرجل ضمة إعراب وهل الألف واللام فيه للتعريف؟
فكان جواب المكني بأبي نزار:
الضمة ضمة بناء وليست ضمة إعراب، لأنّ ضمة الإعراب لابدّ من عامل يوجبها إذ لا عامل هنا يوجب هذه الضمة والألف واللام ليست هنا للتعريف... والصحيح أنها دخلت بدلاً من ياء، وأيّ وإن كان منادى فنداؤه لفظيٌّ، والمنادى على الحقيقة هو الرجل، وجاءت إجابة الشيخ أبي منصور موهوب ابن أحمد: "ضمة اللام ضمة إعراب ولا يجوز أن تكون ضمة بناء ومن قال ذلك فقد غفل عن الصواب وذلك أن الواقع عليه النداء أي المبني على الضم لوقوعه موقع الحرف والرجل وإن كان مقصودًا بالنداء فهو صفة أي محال أن يبنى أيضًا لأنه مرفوع رفعًا صحيحًا، ولهذا أجاز فيه أبو عثمان النصب على الموضع كما يجوز في يا زيد الظريف .. والألف واللام فيه للتعريف.
قال بن الشجري: الجواب والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب أن ضمة اللام ضمة إعراب لأن ضمة المنادى المفرد (المعرفة) لها باطراد منزلة بين المنزلتين فليست كضمة حيث لأن ضمة حيث غير مطردة وذلك لعدم اطراد العلة التي أوجبتها ولا كضمة زيد نحو خرج زيد لأن هذه حدثت بعامل لفظي (وذكر هنا كلامًا كثيرًا استغرق صفحة كاملة في التعليل والاسترسال) إلى أن يقول والألف واللام هنا لتعريف الحضرة كالتعريف في قولك جاء هذا الرجل(12).
هذا ولم تقف المناكفات وإنما أمتدت إلى الأدباء والشعراء وغيرهم فتصدى أولئك للنحاة وعلمهم فنالوا منهم على طرائق مختلفة. وهذه نماذج من ذلك فيما بينهم كأصحاب صناعة وفيما بينهم وبين الشعراء والأدباء وغيرهم.(/5)
فمما جاء في ذلك ما وراء صاحب نزهة الألباب أن أعرابيًا وقف على حلقة أبي زيد فظنه جاء يسأل عن شيء في النحو، فقال له: سل يا أعرابي حاجتك فأنشد على البديهة:
هذا والذي يبدو أن لهذا الاعرابي معرفة بأمثلة النحاة ومحيطهم الذي يضرب فيه زيد عمرًا وبالعنت الحادث خلال مداخلاتهم كما قال الشاعر السوداني التجاني يوسف بشير:
وقال رؤبة بن العجاج ليونس بن حبيب(14):
حتى متى تسألني عن هذه الأباطيل وأذوقها لك؟ أما ترى الشيب قد بلغ في رأسك ولحيتك؟
وكان أبو حاتم السجستاني وهو على علم باللغة إذا التقى هو والمازني في دار عيسى بن جعفر الهاشمي تشاغل خوفًا أن يسأله المازني في النحو(15).
وهذه المرتبة من العلم في هذا النحو امتاز بها المازني لأنه كان علمًا في الأعراب وإن كان من بين اولئك العلماء من برع في الجميع كالرياشي الذي يفزع إليه أهل البصرة إذا اختلفوا في شيء وقالوا فيه ما قال الرياشي انقيادًا لفضله وروايته.
هذا ومن بين ما تناول النحاة في بعض شعره فغضب منهم عمار الكلبي وسجل ذلك في أبيات قال فيها:
ومما جاء في هجاء النحاة قول يريد بن الحكم الثقفي:
وقال عبد الله الحضرمي للفرزدق بعد أن أنشد قوله:
لم رفعت مجلف قال الفرزدق:
بما يسوؤك وينوءك لنا أن نقول وعليكم أن تتأولوا. ثم هجاه بعد ذلك حين عرف الرجل بما سعى في تخطئته والتقليل من شأنه إذا ظهر جانب الصواب فقال:
وجاء في الخصائص. قال أبو عبيدة معمر بن المثني للمازني ما أكذب النحويين! وهذا يعني استنكاره لبعض المسائل النحوية والرجل يريد فهمًا آخر لا يعني رفضه للنحو من حيث هو وقال ما أكذب النحويين: يقولون إن هاء التأنيث لا تدخل على ألف التأنيث وهم يقولون علقاة فقيل لأبي عثمان المازني لِمَ لَمْ تفسر له؟ فقال لم أفسر له لأنه كان أغلظ من أن يفهم مثل هذا، يريد الفرق بين ألف الإلحاق وهي هنا للإلحاق وبين ألف التأنيث(18).
بدع نحوية وصرفية
لقد أدخل المتكلمون بالعربية بدعًا كثيرة عليها. حدث ذلك في صيغها الصرفية وتراكيبها النحوية وضوابطها اللغوية وكان ذلك يحدث في عصور مختلفة، وأخطر تلك البدع فيما أحسب تجاهل الفصحى ومحاولة استبدالها بالعامية وعدم التعامل معها حتى في حجرات الدراسة وقاعات المؤتمرات، ومن أفدحها أن يكون أستاذ اللغة العربية نفسه من المتحدثين بالعامية لمن يقوم بتدريسهم العربية أو يلتزم السكون كما هو الشائع في كل المفردات والعبارات جريًا على المقولة المعروفة (سكن تسلم) بينما يعلم أولو الألباب أن العربية لغة حركة دائبة وتتمثل حيويتها في تلك الحركة.
كذلك تتسع الفداحة حيث يقدمون دروسهم باللهجة الدارجة، بل يزداد المرء تعجبًا حين يقف على كثير من الرسائل الجامعية المعدة بالعربية في مختلف الجامعات العربية فإذا به يجد الأخطاء النحوية والصرفية والإملائية تأخذ طريقها وسط الطالب والمشرف، لكن أكبر من كل ذلك حين يحضر المرء مناقشة رسالة علمية في مدرج مفتوح فيسمع كثيرًا مما ينغص، وبرغم ذلك يتجاوز الناس هذا التساهل ويخرجون بتقديرات يتعجب منها الحضور قبل الفاحص المتلمس. ومادروا أن الأخطاء الصرفية والنحوية واللغوية مما يجب الوقوف عنده ومحاسبة من يرتكبه باعتباره بدعة صارفه عن الحق وتستاهل ردّ الرسائل ومؤاخذة الفاحصين مهما كانت مواقعهم في الجامعات والمعاهد العليا من أهل اللغة وأهل قرباها – بل لقد وصل الأمر في هذا المجال إلى أن تعقد مؤتمرات للغة العربية ويكون الحديث فيها بالعامية، ويدار النقاش بها – بل نجد التهاون في العربية حتى في المحافل الدولية، حيث يتكلم أحد المسئولين العرب بها فلا حرمة لقاعدة ولا طريقة.
بل نجد الافتراء والاستهوان. هذا وفيما يلي الوقوف على بعض النماذج لهذه البدع من ذلك: علاقة بالكسر يقولونها للعلاقات المعنوية بينما هي علاقة بفتح العين وليس كسرها لأن الكسر للحسيات وليس للمعنويات ومن ذلك ابدال ال أم متابعة للنادر فيقولون جئت أم بارح – بدل البارح ويقول فناء المدرسة بفتح الفاء في كلمة (فناء) والصواب كسرها لأن الفناء بالفتح الموت – ويقولون في الإذاعات وغيرها وصلنا الخبر الآتي. بدل وصل الينا لأنّ وصلنا تعني أعطانا صلة من الصلات المتكرم بها.(/6)
ومن ذلك أيضًا الوقوف بالتنوين على الاسم المنون مثلاً يقولون: جلس علىُّ "مُنفردًا" بتنوين منفرد عند الوقوف بدل "منفردا" بغير تنوين حيث يكون الوقف على الألف. كما نجد بعض المتكلمين لا يفرقون بين الكلمات التي على صورة المبني للمجهول من غيرها وهم على مستويات ثقافية مشهودة فيقول: استهتر فلان بفتح التاء الأولى والثانية بدل ضم التاء الأولى وكسر الثانية. ويقولون عني بفتح العين بدل عني بضمها وكسر النون. كما نجد البدع فاشية في حروف المضارعة في الفعل الرباعي مثل أريد، وأحب، ويشبه فبدل ضم الهمزة والياء الحادثة في أول الفعل لأنها أفعال رباعية نجدهم يفتحونها ويزيدون كذلك حرف أنّ المصدرية متصلاً بضمير في الجملة التي تتكون من هب مثلاً:
هبني أني قلت هذا بدل هبني قلت هذا. قال الشاعر:
كما ظهرت البدع في خلط الأفعال المتعدية بنفسها وتلك التي تتعدّى بحروف الجر أو العكس. فنجد مثل التراكيب كان عليّ يسير ليلاً بقرب القرية وقد نبحت عليه الكلاب .. وفي الحقيقة هذا الفعل يتعدى بنفسه تقول نبحته الكلاب. ومثله قولهم أنعشه الجو وأطربه جدًا والحقيقة هي نعشه الجو يتعدى بذاته بدل الهمزة: كما تتضح هذه البدع في عدم التفريق بين صيغة اسم الفاعل وصيغة اسم المفعول في شهرة عجيبة يقول أحدهم قرأت المعوذتين بتشديد الواو وفتحها بصيغة اسم المفعول بينما الذي يطلق على هاتين السورتين. قل أعوذ برب الناس، وقل أعوذ برب الفلق "المعوذتين" بتشديد الواو وكسرها بصيغة اسم الفاعل. ومن ذلك أيضًا وصلهم بين لولا وضمير المخاطب فيقولون:
لولاك والوارد مكانها لولا أنت بضمير الرفع المنفصل قال القرآن الكريم {لَولاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤمِنِين} ومن إدخال أل على بعض وكل، في شيوع غير محدد. وكذلك ادخالهاعلى كافة وهذه تضاف دومًا إلى غيرها مثلاً – حدثني كافة الناس ولي الكافة.
ومن البدع الصرفية أيضًا التي يمكن للإنسان أن يحدث عنها بدون حرج لأنها بدأت منذ أن سمع أول لحن في البادية حين قال ذلك العربي "هذه عصاتي بدل عصاي"(20).
إذ يقول عرب اليوم عجوزة أو العجوزة – بدل عجوز وامرأة عجوز/ كرجل عروس وامرأة عروس.
ومما جاء في عين الكلمة من حيث "الضم والفتح والكسر" قولهم عَجِز بكسر الجيم والصواب فتحها قال الله تعالى: {يَا وَيلَتَا أَعَجَزتُ أَنْ أَكُونَ مِثلَ هَذَا الغُرَاب}(21).
ويقولون رغم بكسر الغين المعجمة والصحيح رغم بفتحها، ومما هو مشتهر "نعيٌّ" بإسكان العين وتخفيف الياء. والصواب نه نعيُّ بكسر وتشديد الياء، ويقولون مشْورة بسكون الشين والصواب ضمها مشُورة هذا ولم يخل فاء الكلمة من البدع أيضًا يقولون: وقود بضم الواو والصواب فتحها قال تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَة}(22).
ويقولون نفاية بكسر النون والصواب نُفاية الشيء رداءته. ويقولون "قتله" بفتح القاف وسكون التاء والصواب كسرها، ومن البدع حذف الهمزة من الفعل (أضج) فيقولون القوم ضجوا ومنها كذلك "أسيته" فيقولون: واسيته في مثل (استخفيت) من فلان، اختفيت بدون سبب وهلم جرا. وقد أشار بن الجوزي رحمه الله لمثل هذه البدع في زمانه، ولكننا اليوم نراها قد اتخذت شكلاً بعيدًا إذ عمت الأسماء والأفعال صحيحها ومعتلها إلى درجة الطغيان، ولا أرى مخرجًا منها إلا بالتمكين للعربية الفصحى في كل أنواع المعرفة والوسائل السمعية والبصرية ورفع قدرها في المؤسسات الرسمية والاعتماد بها في الأجهزة الإعلامية ومن المؤسف مثلاً أن تذكر للمسئول الأول في الأجهزة الإعلامية أخطاء محددة من أناس محددين فلا يزيد إلا ضحكًا. فأنت تسمع الثلاثة (الأول) بتشديد الواو/ وفي كلمة الأول بضم الهمزة وتخفيف الواو وتسمع "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم" تسمع قراءة "يخزيهم" بفتح الياء وكسر الخاء وسكون الزاي والكلمة بضم الياء وسكون الخاء وكسر الزاي من الفعل أخْزَى وليس وخز وغيرها مما لا حاجة لنا لذكره. وتسمع صورة الحجر بفتح الحاء المهملة والجيم. بدل كسر الحاء وسكون الجيم، وسمعنا مكررًا لا تسافر المرأة إلا ومعها مُحْرم بضم الميم وسكون الحاء وكسر الراء، والصواب فتح الميم وسكون الحاء وفتح الراء، وسمعنا ولا تجعلوا الله عرضة لإيمانكم بكسر الهمزة في كلمة أيمان بفتحها وهناك فرق بين الحلف والتصديق بالقلب والآية بفتح الهمزة إذ المراد الحلف وغير ذلك مما يرد يوميًا.
استشراف المستقبل النحوي(/7)
حين نتحدث عن هذا الاستشراف للمفهوم النحوي والأداء اللغوي للعربية، يجب أن نضع في اعتبارنا دور اللغة الخطير في المفهوم الحضاري للأمة، ومقدرة الأجيال القادمة ومعرفتها بتراثها وأصالتها، واستحضار ذلك في كل مراحل النشاط وصياغته وتمثله كتابة وقراءة والمحافظة المستمرة على ما ورثنا من السلف، مع التركيز دائمًا على النقاء والبقاء لهذا الموروث اللغوي الحضاري، ما كتب فيه وما قيل عنه وما قيل عنه وما يحمله من قيم ونشاط وما دار فيه من مواقف ومناقشات، بما يحسن بنا أن نفهم في المراحل العالية – القضايا والمسائل التي دار فيها النقاش أو المجالس التي عقدت والمؤلفات وأغراضها ودوافعها وما حققته من نتائج، كما يفهم الدارس ما حدث من استدراكات ودوافعها وما ألف من حواش وما أسقط كذلك وما استجد من تقريرات، ويتعرف الدارس أيضًا على بعض المؤلفات وأسمائها ودلالة تلك المسميات والنظر في الواقع الذي تشتمل عليه تلك الكتب ومعرفة أسماء علماء العربية الذين ألفوا والذي لم تعرف لهم مؤلفات أو لم يصل إلينا منها ما يعرف من مؤلفات. مقرونًا كل ذلك بالواقع الاجتماعي والثقافي لتلك الأجيال وتلك العصور، مقارنًا ذلك بما استجد من آراء وما حدث من تطور ويتم كل ذلك في دراسة وصفية كوسيلة لرصد المتغيرات التي تحدث للنحو بخاصة واللغة بعامة. في نفوس الدارسين والمتلقين وما يصدر من كتب وصحف تتعلق بهذا الأمر. وهنا يحضرنا كثير مما تناوله بعض السلف في الدرس النحوي الذي راعوا فيه الواقع الاجتماعي والثقافي إذ نجد المؤلفات المنظومة وذلك في حد ذاته هدف كما نجد الشروح المطولة والشروح المختصرة ومسمياتها ونجد الاستدراكات والتتبع والكتب التي رامت الغايات التعليمية كصنيع الأبناء [ابن مالك وابن هشام وابن عصفور].
وسنستعين في هذا الموضع بمقدمات بعض المؤلفات في هذا العلم الجليل الأمر الذي يجعلنا عادّين الذين قاموا بها من الساعين لتسهيل النحو وتذليل كل صعوباته، هذا وسأختار ثلاثة مقدمات على حسب التسلسل التاريخي – وثلاثة نصوص لكل منهم ليتبين لنا تنفيذ منهجهم الذي اختطوه في المقدمات مع الواقع الطبيعي للغة والدرس النحوي مما نعتبره نماذج طيبة. وإن كنا لا نغفل بعض الرجال الذين كانت لهم جهود في الدرس النحوي ظهرت في مسميات كثيرة منها المختصرات والإيضاحات والصغار والاستدراكات والمقنع والمغني كما نجد أسماء تدلنا على المتابعة مثل كتب اللحن – وتقويم اللسان إلى غير ذلك مما سعوا فيه، وأتوا بما عندهم من جهد يشكرون عليه مدى التاريخ النحوي واللغوي.
هذا وليس من فضول القول إن ذكرت أن هؤلاء الأبناء جاءوا بعد زمن نضج فيه النحو وظهرت كل معالمه وتطوراته وبانت للعيان والمسامع والقلوب ثمراته الحلوة والمرة. ولنبدأ بابن مالك.
ابن مالك (ت 672هـ)
يعد ابن مالك من المرغبين في النحو الذين سعوا في جهود مكثفة لتقديمه للناس والدارسين، فدأب يقرب الفهم ويوضح الغامض وكانت محاولات تأليفه كلها تدور في هذا الجانب، فهو يسعى من وراء تلك المؤلفات والمنظومات والشروح أن يخدم العربية ويسهلها لأبنائها، ولم أر من النحاة على الإطلاق من اجتهد اجتهاده وسعى سعيه في حماس دافق وطي للزمان حتى يقدم ما قدمه، ولقد ذكر د. محمد كامل بركات محقق التسهيل أنه من الميسرين في الشكل والموضوع يقول (التيسير هذا من ناحية الشكل والمنهج العام في التأليف، أما من ناحية الموضوع فالسمة الغالبة على بن مالك في النحو توخي السهولة والتيسير في كل ما ذهب إليه من آراء واتجاهات. حتى أنه ليصرح في كثير من المناسبات بأنه اختار هذا المذهب لأنه المذهب الأسهل أو لبعده عن التكليف والتعقيد. واسم التسهيل أوضح دليل على اتجاه ابن مالك العام في التحويل ان اكثاره من النظم انما هو لتيسير الحفظ والضبط على الدارسين)(23).
ويظهر لنا هذا الأثر حقًا في متابعتنا للمصطلحات التي استخدمها بن مالك فعلى سبيل المثال:
عبارة (نائب الفاعل) وعند الجمهرة المفعول الذي لم يسم فاعله وتظهر لنا دِقته إذا تبين لنا أنه ينوب عن الفاعل الظرف والجار والمجرور.
والبدل المطابق – بدل عبارة بدل كل من كل – المعرف بأداة التعريف – بدل المعرف بأل –
- لغة يتعاقبون فيكم – بدل أكلوني البراغيث، وغير هذا وثبوت مثل هذه الأشياء تظهر لنا الأدلة التي تقول أنه كان حقًا من الميسرين الساعين لتقريب النحو ومصطلحاته.
هذا ولننظر إليه في التسهيل
قال في المقدمة باسطًا منهجه:
(هذا كتاب في النحو جعلته بعون الله مستوفيًا لأصوله، مستوليًا على أبوابه وفصوله، فسميته لذلك تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد فهو جدير بأن يلبي دعوته الألبّاء، ويجتنب منابذته النجباء، ويعترف العارفون برشد المعرَى بتحصيله، وتأتلف قلوبهم على تقديمه وتفصيله. فليثق متأمله ببلوغ أمله، وليتلق بالقبول ما يرد من قبله...)(/8)
وإذا كانت العلوم منحًا إلهية، ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين أعاذنا الله من حسد يسد باب الإنصاف ويصد عن جميع الأوصاف وألهمنا شكرًا يقتضي توالي الآلاء ويقتضي بانقضاء اللأواء وها أنا شارع فيما انتدبت إليه مستعينًا بالله عليه ختم الله لي ولقارئيه بالحسنى. وختم لي ولهم الحظ الأوفى في المقر الأسنى بمنه وكرمه.
وها هو نموذج للتسهيل يمثل لغة سهلة وقواعد ميسرة نجده واضحًا في باب "حبذا"
قال: أصل "حب" من "حبذا" حَبُب أي صار حبيبًا فأدغم كغيره وألزم منع التصرف، وايلاءً "ذا" فاعلاً في إفراد وتذكير وغيرها. وليس هذا التركيب مزيلاً فعليه "حب" فتكون مع "ذا" مبتدأ خلافًا للمبرد وابن السراج ومن وافقهما، ولا أسميّه "ذا" فيكون مع "حب" فعلاً فاعله المخصوص، خلافًا لقوم وتدخل عليهما "لا" فتحصل موافقة "بئس" معنى، ويذكر بعدهما المخصوص بمعناهما مبتدأ مخبرًا عنه بهما أو خبر مبتدأ لا يظهر، ولا تعمل فيه النواسخ ولا يقدم، وقد يكون قبله أو بعده تمييز مطابق أو حال عامله "حب" وربما استغنى به أو بدليل آخر عن المخصوص. وقد تفرد حب فيجوز نقل ضمة عينها إلى فائها، وكذا كل فعل حلقي الفاء مراد به مدع أو تعجب وقد يجر فاعل "حب" بباء زائدة تشبهًا بفاعل أفعل تعجبًا.
ابن هشام (ت 761 هـ)
من العلماء الأفذاذ الذين عركوا النحو وعايشوه وجدانًا وعقلاً ومارسوه في كل منعطفاته، شيخ العربية المشرقي الذي ترامى ذكره في أرجاء كثيرة من عالم العربية ونطاقها، فالرجل قد حاول بلطافته وأدبه أن يلطف النحو ويؤدبه ويحلي جيده بالسهولة واللغة والنصوص وخير دليل على ذلك كتابه شذور الذهب الذي يقول في مقدمته:
(وبعد فهذا كتاب شرحت فيه مختصري المسمى بـ "شذور الذهب في معرفة كلام العرب" تممت به شواهده وجمعت به شوارده، ومكنت من اقتناص أوابده. قصدت فيه إلى إيضاح العبارة لا إلى إخفاء الإشارة وعمدت فيه إلى لف المباني والأقسام لا إلى نشر القواعد والأحكام. والتزمت فيه أنّي كلما مررت ببيت من شواهد الأصل ذكرت إعرابه وكلما أتيت على لفظ مستغرب أردفته بما يزيل استغرابه وكلما انهيت مسألة ختمتها بآية تتعلق بها من أي التنزيل واتبعتها بما تحتاج إليه من إعراب وتفسير وتأويل، وقصدي تدريب الطالب وتعريفه السلوك إلى أمثال هذه المطالب)(24).
وهذا نموذج من منهجه:
في شرحه لبانت سعاد يقول: في مقدمته لها:
والذي دعاني إلى هذا التأليف غرضان سنيان:
أحدهما التعرض لبركات من قيلت فيه صلى الله عليه وسلم.
الثاني: اسعاف طالب علم العربية بفوائد جليلة أوردها وقواعد عديدة أسردها(25).
قال: ولا تمسك بالعهد الذي زعمت، إلا كما يمسك الماء الغرابيل قوله: "ولا تمسك" عطف على فما تدوم وتمسك أما بضم التاء وكسر السين المشددة مضارع "مسك" بالتشديد وأما بفتحها مضارع "تمسك" والأصل تتمسك فحذفت احدى التاءين يقال مسك بالشيء وتمسك به وأمسك واستمسك بمعني واحد وقرئ (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) بضم التاء وفتح الميم بضم التاء وسكون الميم وقرئ في غير السبع بضمها.
وقال تعالى: {فقد استمسك} قيل وفي التشديد معنى التكثير وهذا وهم، وانما بغير التشديد التكثير إذا لم يكن الفعل موضوعًا عليه كما في حدث وخير ولم يكن لإفادة تعديه القاصر إلى المفعول كما في فرحته ولا التعدي لواحد إلى التعدي لاثنين، كعلمته الحساب ومثال ذلك قتلت وكسرت وحولت وطوفت.
وقوله: زعمت اما بمعني تكلفت ومصدره الزعم بالفتح والزعامة والتقدير: الذي زعمت به. كما قال تعال {وأنا به زعيم}
بن عصفور (ت969هـ)
ألف هذا الرجل كتبًا مختلفة في النحو والتصريف حاول من خلالها تبسيط الدرس النحوي وتهوين أمره على الدارسين وقد دعاه ذلك لتناول من سبقوه في آرائهم وكتبهم، وكان هناك من يتعصب لأولئك فقابلوا آراءه بالاستهجان والاستنكار وحاولوا الرد عليه وهذا أمر وارد في كل عصر لكن المهم عندنا هي تلك الآراء والمشاعر التي أبداها الرجل نحو مادة النحو ودرسها، وخير مثال له نجده في كتابه المقرب – يقول في منهجه عندما قدم له:
(فلما كان علم العربية من أجلّ العلوم قدرًا وأعظمها خطرًا إذ به تقوم للإنسان ديانته فتتم صلاته وتصح قراءته وكانت أكثر الموضوعات فيه لا تبرد غليلاً ... ولا تحصل لطالبه مأمولاً. وأنها بين مطولة قد أسرف فيها غاية الإسراف ومختصرة قد أجحف فيها غاية الإجحاف ... أثار من النجح معقود بنواصي آرائه ... أبو زكريا ... إلى وضع تأليف منزه عن الإطناب الممل والاختصار المخل، محتو على كلياته مشتمل على فصوله وغاياته، عارٍ عن إيراد الخلاف والدليل مجرد أكثره عن ذكر التوجيه والتعليل يشرف الناظر فيه على جملة العلم في أقرب زمان ويحيط بمسائله في أقرب أوان)(26)
ولننظر الآن كيف تناول ابن عصفور المنادى بصورة قيّمة سهلة تفي بالغرض وتقرّب فعْلاً ألقاصي من هذا الباب الأسلوبي.
باب النداء(/9)
(1) حروف النداء: (يا)، (أيا)، (هيا)، (وا)، (أي)، والهمزة، ممدودتين ومقصورتين.
(2) اختصاصاتها: فـ (وا)، منها للمندوب وما جرى مجراه خاصة.
و(يا): تستعمل في جميع ضروب المناديات من: مندوب، ومتعجب منه، ومستغاث به، وغير ذلك، قريبًا كان أو بعيدًا، وسائرها لا يستعمل إلا في النِّداء الخالص.
فأما الهمزة، منها فللقريب خاصة، وسائرها للبعيد مسافة أو حكمًا كالنائم، وقد تكون للقريب.
(3) أصول المنادى: والاسم المنادى غير المندوب، والمستغاث به، والمتعجب منه، أمّا أن يكون مفردًا أو مضافًا، فإن كان مضافًا كان منصوبًا بإضمار فعلٍ لا يجوز إظهاره.
وإن كان مفردًا، فإما أن يكون مطولاً أو غير مطول، فإن كان مطولاً، وأعني به ما كان عاملاً في غيره، لم يجز فيه أيضًا إلا النصب، نحو قولك: "يا ضاربًا زيدًا". وإن كان غير مطول: فإما أن يكون معرفة أو نكرة، فإن كان معرفة بُني على الضم، ويكون في موضع نصب بإضمار فعل أيضًا.
وإن كان نكرة، فإما أن تكون مُقْبلاً عليها، أو غير مقبل عليها، فإن كان مقبلاً عليها، فهي أيضًا مبنية على الضم، كالعلم، وإن كانت غير مقبل عليها، كانت منصوبة بإضمار فعل.
(4) الأسماء والنداء: والأسماء كلها يجوز نداؤها إلا المضمرات، والأسماء المعرَّفة بالألف واللام، والأسماء غير المتصرفة، والأسماء اللازمة للصدر.
وقد يُنادى المضمر المخاطب في نادر الكلام، أو ضرورة شعر، وتكون صيعته صيغة المنصوب، نحو ما حكى من قول بعضهم:
"يا اِيّاكَ قد كفيتُك"(27)
وقد تكون كصيغة (28) المرفوع، نحو قوله(29):
فإن أردت كلامًا فيه الألف واللام، توصلت إلى ذلك بأي، أو اسم إشارة، نحو قولك:
"يا أيها الرجل، ويا هذا الرجل"، أو بهما معًًا وذلك قليلُ، نحو قوله:
ولا ينادي منها بغير وصلةٍ، إلا اسم الله تعالى، لكثرة الاستعمال مع معاقبتهما لهمزة من (الإله)، أو في ضرورة، نحو قوله(30):
(5) حذف حرف النداء:
ويجوز حذف حرف النداء، وإبقاءُ المنادَى، نحو قوله تعالى: {يوسف أعرض عن هذا}(31).
إلا أن يكون المنادى اسم إشارة، أو نكرة، مقبلاً عليها، أو غير مقبل، وقد يحذف من النكرة المقبل عليها في ضرورة، نحو قوله(32):
أو في شاذّ من الكلام، نحو قولهم: "افْتدِ مخْنوق" و"أطْرِق كرا" و"ثوبي حجَرَ".
ولا يحذف مع اسم الإشارة أصلاً، ولذلك لحنّ المتنبئ في قوله(33):
ولم يترك الرجل من منهجه الذي اختطه شيئًا إلا طبقهُ. ونظرة واحدة لهذا الباب في كتب النحو تجعل المرء على اقتناع كامل بأن الرجل كان حريصًا على التطبيق فلم يوجز بإخلال ولم يطنب في إسراف. ورغم ذلك كان هناك من يناكفه وينتقده وربما يمكننا ضم نقدهم هذا إلى الأنواع السابقة التي ترفض السهل الميسر وقد تمثل هذا في تلك العاصفة القوية التي أثارها بعض النحاة من المغاربة في الأندلس وغيرهم من النحاة المشرقيين لا لأمر خطير وإنما للتيسير والتقريب الذي قام به عالم جليل من علماء العربية هو ابن عصفور رحمه الله.
فقد تناوله فريق منهم بالنقد والتجريح والتشنيع – حتى إن بعضهم حاول أن يرد ما فيه من براعة وجودة إلى فضل غير ابن عصفور من النحاة – ومن الذين انتقدوه ابراهيم بن أحمد بن محمد الجزري الأنصاري الخزرجي – أحد علماء الأندلس ومن آثاره .. المنهج المعرب في الرد على المقرّب – وابن الحاج أحد علماء العربية في الأندلس الذي قال: "إذا مِتّ بِفعل ابن عصفور في كتاب سيبويه ما شاء. وقد رد على ابن عصفور في كتاب سماه الإيرادات على المقرب .. وحازم القرطبي وله شدّ الزناد على جحفله الحمار(34).
هذا ومؤلفات ابن عصفور في نظري من النماذج الطيبة الميسرة التي تعمق الفكرة وتريح النفس ولا تكلفها شططًا الشيء الذي يساعدنا في ترسم السبيل التي نعالج بها بعض قضايا النحو المعاصرة.
استشراف المستقبل في آراء معاصرة
لست أول من بث رأيًا في مسألة التيسير هذه وإن اختلفت المسميات من تيسير وتسهيل وتفقيه الخ... ولكن طبيعة التناول قد اختلفت تمامًا من حيث الوضع التاريخي والاستقراء العملي والاستبيان الذي يساعد على إكمال الصورة وإصدار الأحكام في شأنها وقد ذكرت أن الذين مارسوا تدريس النحو هم أقدر الناس على الإحساس بمشاكله، وبما يعانيه طلاب العربية في شأنه سواء أكان ذلك في مدرجات الجامعات أو الفصول الدراسية، في التعليم العام أو العالي وسنقدم النماذج على ذلك بدءًا بالشيخ إبراهيم مصطفى الذي يقول:(/10)
"هذا بحث من النحو عكفت عليه سبع سنين وأقدمه إليك في صفحاته أطمع أن أغير منهج البحث النحوي للغة العربية، وأن أرفع عن المتعلمين إصر هذا النحو وأبدلهم منه أصولاً سهلة يسيرة تقربهم من العربية وتهديهم إلى حظ من الفقه بأساليبها، ولقد بذل في تهوين النحو جهود مجيدة واصطنعت أصول التعليم اصطناعًا بارعًا ليكون قريبًا واضحًا، على أنه لم يتجه إلى القواعد نفسها وإلى طريقة وضعها فيسأل "ألا يمكن أن تكون تلك الصعوبة من ناحية وضع النحو وتدوين قواعده وأن يكون الدواء في تبديل منهج البحث النحوي للغة العربية.
هذا السؤال هو الذي بدا لي وهو الذي شغلني جوابه طويلاً.
وتناول ذات الأغراض أيضًا د. شوقي ضيف والدكتور مازن المبارك في تقديمه للإيضاح في علل النحو. حيث يقول دكتور شوقي ضيف في (ص 5):
"ولعلي لا أبعد إذا قلت إن واجبًا على من يحاولون تيسير نحونا أن يحيوا نصوصه لقديمة حتى يضطلعوا بما يريدون من هذا التيسير عن علم وبصيرة"(35).
ويقول د. مازن المبارك:
"وحسب صاحبه أنه كان من الرواد الأوائل الذين فقهوا وتعمقوا أسرار قواعدها ثم حاولوا التبسيط والتيسير ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً".
ويقول عن إغراض الزجاجي في الإيضاح:
"فمن هذه الأغراض مثلاً أن يسعى لتقريب النحو من الفهم وتيسير الوقوف على أسراره وقد عني الزجاجي بالمبتدئين واهتم بهم وألّف لهم. وكذلك هو في الإيضاح يهتم بهم ويجعل تقريب النحو لهم من أغراضه ولو أدّى به ذلك لتغيير ألفاظ النحاة قال:
"والاحتجاجات على ثلاثة أضرب منها ما كان مسطرًا في كتب البصريين والكوفيين بألفاظ مستغلقة صعبة فعبرت عنها بألفاظ قريبة من فهم الناظرين في هذا الكتاب فهذبتها وسهلت مراتبها والوقوف عليها.
ويقول دكتور حماسة:
"إنه إذا أريد للنحو أن يكون له دور واضح في حياتنا المعاصرة سوى التخطئة والتصويب ... أن يسلك أحد سبيلين:
أولاهما: أن يتجه النحو إلى العربية المعاصرة في نصوصها الفصيحة فيجمع تراكيبها ويصف أنماطها ويقدم وصفًا دقيقًا لها...
والأخرى: أن يعمد النحويون المعارون إلى النصوص العربية قديمها وحديثها كما فعل الأسلاف العظماء مع القرآن الكريم والشعر ودواوينه ومختاراته فيحاولون أن يكشفوا دور النحو في بنائها ويبينوا ما تقوم بها المعطيات النحوية في تركيبها وترابط أجزائها واستواء هيئتها وما تقدمه في إنتاج دلالاتها وقيمة هذا الدور في تحديد الدلالة وبذلك يرتبط النحو في الأذهان – وخاصة أذهان الناشئة بجانب عملي نافع مفيد من جانب وبالدلالة من جانب آخر(36).
أما فيما يقوله مدرسو العربية في التعليم العام فتقول إحدى أستاذات اللغة العربية في تقرير لها:
"في السنة الثالثة بمدرسة البلك الثانوية للبنات – القسم العلمي، حيث ضم الفصل قرابة السبعين دارسة وبعدما قدمت لهن إحدانا من تعريف لما حضرنا من أجله وملأت قرابة الخمس عشرة طالبة الاستبيان طلبنا من البعض القراءة الجهرية لبعض النصوص التي بكتبهن وقد لاحظت أن معظم القارئات لم يبنّ ويفصحن بين السين والثاء، والظاء تحول مخرجها فصار خلف الأسنان أو من اللثة بدلاً من بين الأسنان وقد نحت القاف نحو الغين في نطقها. وإن ظهرت جودة قراءة البعض لنصوص قرآنية أما الشرح والتفسير فكانت غالبية الكلمات ساكنة وحتى التي تود أن تقرأ بالشكل لا تستطيع قراءة سطرين كاملين أو جملتين كاملتين مجردتين عن الأخطاء النحوية. كما لاحظت عدم التمييز بين أل الشمسية وأل القمرية.
أما عن الإنشاء فقد جاءت بأسلوب أشبه بالعامية منها للفصحى مثل! قال الزُرّاع: نتوجه صباح اليوم الثاني إلى المحافظة".
وعن بعض الأسئلة التي طرحت إليهن للإجابة عليها أجابت بعض الطالبات:
1/ ما مدى أهمية دراسة اللغة العربية بوصفك طالبة بالقسم العلمي؟
* قالت إحدى الطالبات إن اللغة العربية سوف لن تفيدها بشيء لأنها تتحدث العامية وهي لغتها الأم، وليس هناك كبير فرق بين ما نتحدثه في العامية وبين ما ندرسة في المدرسة سوى بعض الدروس النحوية المعقدة التي ذكرتها وزميلاتها في استبيانهن. وقالت أخرى: مؤكدة حديثها "بإذن الله" سوف لن تزيد على ما تلقت من علوم العربية ودراستها أكثر من عامها هذا، وقد هاجمتنا بسؤالها عن أهمية حفظ المعلقة بالنسبة لهن وما هي الفائدة من هذا الأسلوب القديم لفظًا ومعنىً وشحن عقولهن به.
2/ كيف يمكن لَكُنَّ حفظ التراث العربي وكتابته وصيانته؟
فردت إحداهن إننا نستطيع أن نكتبه بما تعلمنا فقط وسوف لن نحتاج إلى مزيد.
3/ وسألتهن عن مدى تأثرهن بوصفهن طالبات بالقسم العلمي عن المادة إذا ما قدمت إليهن بأسلوب جميل مصوغ باللغة الفصحى وعن نتاج ما قدم إليهن بأي طريقة؟
فأجابت إحداهن لا يهمنا إلا الحقيقة العلمية ونتيجة التجربة فقط ونسجلها كما يحلو لنا وبأي طريقة شئنا.
4/ أعربي: يا عبادي لا تقنطوا من رحمة الله.(/11)
بعد ضجة شديدة ورفض للإعراب حاولت إحداهن ولم توفق ولم تقدم أي طالبة أخرى لخوض هذه التجربة.
5/ الشعر العربي القديم والحديث ماذا تعرفين عنه ووجهة نظرك؟
لم تكن من بين الطالبات من تهتم بالشعر العربي ولم تكن هناك أديبة.
هذا بعض ما سجلته أستاذة اللغة العربية في بعض المدارس الثانوية وكان ذلك من قبل أربعة عشر عامًا.
هذا ومن قبيل الاستكمال لهذه الصورة المعيشة أود أن أقول إنه من الأمور التي أدخلت السرور على نفسي وأنا أعالج هذا الموضوع إنّي وجدت بحمد الله استطلاعًا نموذجيًا كذلك لبعض طالبات المدارس الثانوية وكان ذلك في عام 1979م واستخدمت في مكان النحو كلمة قواعد عند تسجيل الأسئلة إليهن لأنهن كن لا يفهمن النحو بالاصطلاح المعروف عند توجيه الأسئلة إليهن دون طلب ذكر الاسم تشجيعًا للصدق في الإجابة ورفعًا للحرج كما كنا نهدف من خلال هذا العمل والإيضاح أن نربط النحو بالمجتمع وبالواقع المعاش حتى يتضح العمل الذي يتوجب على أهل العربية القيام به لتكتمل الصورة مع صنيع علمائنا في الوقت الحاضر ممن سعوا في هذا المنحى، وممن قاموا بمحاولة تجديدات وما حدث لعملهم من تطور أو إقبار مما يدخل كله في المنهج الذي سلكناه في استخدام المنهج الوصفي كوسيلة لرصد المتغيرات كلها حتى هذه الساعة في الفهم واللغة وفي المجتمعات، وكل ذلك كان الغرض من ورائه تحقيق الغاية العلمية الخالصة أو يمكن القول بأنها غاية علمية ممزوجة بالتلعم.
أما الأسئلة التي وضعت فكانت كما يلي:
1- ما نوع الدروس التي تركت في نفسك أثرًا عند دراستك للُّغة العربية منذ المرحلة الابتدائية؟
2- ما الأبواب التي دُرِّست لك في القواعد وكانت لك مزعجة؟
3- إذا كانت هناك صعوبة أو سهولة على ما ذكرت فهل كان ذلك في نظرك يرجع إلى الأستاذ أم إلى الكتاب؟
4- هل تفضلين أن تدرس لك القواعد مباشرة عن طريق الأمثلة التي توضح القاعدة أم عن طريق النصوص؟
5- لو طلبت منك أن ألقي عليك درسًا في القواعد فما الباب الذي تفضلين أن يُدرّس لك؟
6- ما هو إحساسك حين تستمعين إلى شخص يتحدث باللغة العربية الفصحى؟
# وقد تفاوتت الإجابة على هذه الأسئلة لكن هذه إجابة خمس طالبات كما ذكرت دون تعديل فيها ليتحدث الواقع عن نفسه:
هذه إجابة الطالبات
الطالبة الأولى:
1- الإنشاء لو أنها كانت تعطى أسبوعيًا إلا أننا نكتب كل عام أقل من خمسة موضوعات. الأدب أحبه منظومًا ولا أحبه نثرًا.
2- الاعلال – التصغير.
3- كان باب الاعلال صعبًا علىّ لأنني لم أحضر أول حصة دُرِّست فيه فتعسر عليّ فهمه.
4- أحب أن تدرس مباشرة.
5- أحبها من البداية.
الطالبة الثانية:
1- أحب دراسة الأدب وقد تركت أثرًا عميقًا في نفسي، وبصراحة كنت لا أحب دراسة القواعد ولا زلت ربما لا أفهمها. وعندما أقرؤها يصيبني صداع وأبتلع بعده حبة أسربين.
2- في الابتدائية والثانوي العام كنت لا أجد صعوبة في دروس القواعد والإعراب خاصة ولكن عندما وصلت المرحلة الثانوية العليا وجدت نفسي قد نسيت الدروس وأصبحت القواعد شيئًا غير مريح بالنسبة لي إلا أنه توجد بعض الدروس كانت سهلة لطيفة سريعة الفهم وربّما كان للأستاذ أثر في ذلك.
3- طبعًا للأستاذ الأثر الأعظم، وله دور كبير في التأثير على نفوس تلاميذه فكلما كان الأستاذ واضح العبارات وكان ذا حماس للدروس التي يلقيها كلما تركت هذه الدروس نفسها أثرًا على الطالب وشدت انتباهه.
4- أفضل أن تدرس القواعد عن طريق النصوص كالآيات القرآنية والأحاديث والأشعار، لأن هذه الطريقة تجعل الطالب منتبهًا لكل كلمة يقولها الأستاذ ويكون متشوقًا لمعرفة القاعدة.
5- أحب أن أدرس مبادئها.
6- أحب دائمًا أن يعبر الإنسان عن نفسه باللغة العربية وإن من يتحدثها لابد أن يجيدها.
الطالبة الثالثة:
1- من القواعد نائب الفاعل أما دراسة الإنشاء فكانت "نص نص" أما التوجيه الأدبي والمطالعة التوجيهية فلا أود الحديث عنها لكرهي الشديد لها.
2- (المزعجة) المبتدأ والخبر. اسم كان والفعل المعتل وأقسامه من الثانوية العامة واسم إنّ. أما الدروس المريحة فكانت الفاعل والمفعول به والمطلق والمفعول لأجله واسم الهيئة والحال ونائب الفاعل والمقصور والمنقوص.
3- في رأيي أن الكتاب كان في بعض الدروس على شيء من النقص أم العبء الأكبر من الدروس التي لم أفهمها كان يرجع إلى الأستاذ فلو كان يعطي الدروس على شيء من الثقة ارتحت له وفهمت ما يعنية ولكن كان يعيب الأستاذ والأستاذة على السواء النقص في سرد المادة.
4- أفضل الدروس عن طريق الأمثلة على السبورة لسهولتها وسهولة معانيها حتى يُفهم الدرس من أول وهلة أما النصوص فعلى شيء من التعقيد لأنها تحتاج إلى شرح أولاً ثم الفهم بعد ذلك.
5- الاعلال.
6- أفضل المتحدث بالعربية الفصحى لأنه عربي ويجب أن يعتز بعربيته وقوميته ويجيدها.
الطالبة الرابعة:(/12)
1- أحببت القواعد منذ السنين الأولى في الابتدائية إلا أنني في الثانوية العامة أصبحت أكرهها.
2- أحب البلاغة.
3- يرجع إلى الكتاب لأن الأمثلة غالبًا ما تكون من الشعر وتحتاج إلى شرح وذلك مما يعقد في الكتاب.
4- مباشرة على السبورة.
5- الاعلال والإبدال.
6- أنزعج وأغضب جدًا عندما يتكلم إنسان باللغة العربية ويخطئ فيها.
الطالبة الخامسة:
1- دروس القواعد – دروس البلاغة لا يستفيد منها الإنسان في حياته اليومية – دروس الإنشاء غير مفيدة لأنها كانت نفس (المواضيع) (الصواب الموضوعات) في كل المراحل – في الصف الثالث التوجيه الأدبي والمطالعة التوجيهية (ما مفيدة).
2- المزعجة الإعلال والإبدال – المنقوص والمقصور – الأفعال الخمسة والأبواب التي كانت مريحة مثلاً:
الفاعل – المفعول به – النسب – اسم الفاعل – اسم المفعول.
3- بعض الكتب التي لم يكن فيها التوضيح التام – بعض الأساتذة (يكلفتون) المادة التي تدرس ولم يشرحوها شرحًا تامًا وافيًا ويعطون ملخص الدروس من غير شرح.
4- أفضل عن طريق السبورة وتكون واضحة.
5- الإعلال والإبدال لأنني لم أفهمه جيدًا.
6- أن كان يجيدها أرتاح له وأ، كان يخطئ فإنه يسبب لجميع الناس (ضيقًا) في النفس ولا يجب أن يتحدث بها.
الطالبة السادسة:
1- دروس الأدب في الابتدائي والثانوي العام كانت جيدة – ولكن القواعد كانت تدرس بطريقة رديئة وفي الثانوي العام بالذات – أما البلاغة فندرسها بطريقة تجارية. أما المطالعة التوجيهية والتوجيه الأدبي فلا فائدة فيها ولا ثمرة لها أما الإنشاء فكل المواضيع (الموضوعات) جافة لا تستحق الكتابة.
2- في الابتدائية كانت القواعد بسيطة وفي الثانوي العام (حاجات) عدة لا أحبها (ناس) اسم كان واسم إن والمقصور والمنقوص والضمائر (وناس) الأفعال الخمسة والأسماء الخمسة أما في الثانوي العام (كانت في دروس ثقيلة).
3- الصعوبة أن الكتاب لا يفي بالشرع والأستاذ ربما كان (شاطر) ولكنه لا يدرس مادته بإتقان فينقلها نقلاً من الكتاب. (تحدثت هذه الطالبة عن كراهتها للأستاذ الذي يدرس من كتاب يحمله في يده أو يضعه على التربيزة وهو مفتوح وتقول: هذا الكلام لا ينطبق على الأدب.
4- عن طريقة مباشرة.
5- أحس بالفخر عندما أسمع شخصًا يجيد اللغة العربية لأنها لغتنا ولكن أحس (بالقرف) عندما أسمعها (وهي مكسرة) وغير مجادة.
هذا ومن خلال هذا الطرح من قبل الطالبات الثانويات يظهره لنا بوضوح ما يعانيه الطلاب من الدرس النحوي، فتارة نرى مصدر الصعوبة منذ تأسيس المادة وتلقيها من البداية والاستمرار على ذلك النمط. وتارة نرى الطالبات يرجعن الصعوبة التي تقابلهن إلى الكتاب وطريقته وبعضهن يرجعن سبب الصعوبة إلى الأستاذ الذي لم يكن يجيد تقديمه للمادة من حيث الشرح والتوضيح وتكرار ما يستحق التكرار وعدم الحماس للمادة التي يقوم بتدريسها.
كما أننا نلاحظ أن أبوابًا كثيرة أشارت الطالبات لها مما يؤكد عموم الصعوبة واكتنافها لمعظم أبواب النحو باستثناء الفاعل والمفعول به والمفعول المطلق، أما الصرف فكان الإجماع على صعوبته مما يؤكد ضعف المعالجة من الكتاب والأستاذة إذ لو كان الأمر يتعلق بالأستاذ لوجدنا بعض الإشارة إليه أو من الكتاب وحده لوجدنا ذلك أيضًا مما يوجب على المدرسين للعربية إعادة النظر في طرائقهم وفي كتبهم ومحاولة تحبيب أبناء العربية فيها مع استلطاف التلاميذ وتسهيل الصعب وإن أدى الأمر إلى إعادة الدرس كرات وكرات. والاهتمام بالكيف أولى من الاهتمام بالكم. والتنويع في تقديم المادة من حيث الأمثلة المجردة تارة وعن طريق النصوص تارة أخرى أمر لابد منه. وهو ما يمكن أن نسميه أسلوب المزاوجة بين التجريد والتطبيق.
هذا كما نلاحظ ضعف الأساليب والتعبيرات عند ذات المجيبات واستخدام بعض الكلمات العامية في أثناء الإجابة عن الأسئلة مما يدل على ترهل واضح في العربية برغم أن بعضهن يبدين التقزز من سواهن ممن يخطئ في العربية.
وقفة ونتائج
أولاً:
دراسة تاريخ النحو وما ألف فيه وما دار من مناقشات وما عقد من مجالس وما تم من مناظرات وما حدث من استدراكات ومختصرات وتفريعات وما ألحق من حواشٍ أو ما أسقط، ومعرفة من ألف من العلماء ومن لم يؤلف.
ثانيًا:
التعرض للواقع النحوي في أزمنة مختلفة ويعني ذلك الوقوف المتأني لعلاقة النحو بالمجتمع وماذا صنع النحاة إزاء ذلك الواقع مقارنًا بما صنعه النحاة في وقتنا الحاضر وما قاموا به من محاولات وتجديدات وما حدث لذلك من تطور أو إقبار حتى نربط دور اللغة المتواصل في المفهوم الحضاري للأمة ومدى مقدرة الأجيال على فهم التراث واستحضاره. والمحافظة على إبقائه ونقائه.
ثالثًا:
السعي الدائم لمعرفة الأسس والطرق والوسائل التي تكفل الترغيب في النحو وتعطي الثمرة المرجوة من دراسته.
رابعًا:(/13)
استخدام الدراسة الوصفية لرصد التغيرات التي تحدث للدراسة النحوية الساعية نحو الغاية العلمية الخالصة الممزوجة بالتعلم والتعليم التي تستعين بالمجهود القديم والحديث لتحقيق الغرض من دراسة اللغة كصيغ الخطيب التبريزي والمبرد وابن مالك وابن هشام وابن عصفور وغيرهم من علماء العربية مقرونًا بمسعي المحدثين الذين هضموا القديم واطلعوا على الجديد مما يمكن أبناء العربية منها فهمًا وممارسة.
كل ذلك يعيننا في تناول (جذور الفكرة العربية الشاملة ومناهجها التي فحواها ألا توزع المواد إلى بلاغة ونحو وصرف وقراءة وأدب إلى غير ذلك دون ربط وإنها تعطي في شكل جرعات مركزة – نتناول جزئيات بعينها مترابطة في تطبيقات محسوبة بحيث تشمل كل المطلوب من إعطائه للكليات التي سنصل إليها في النهاية، ونحن بهذا التصور نحتاج إلى الفهم العميق وسنقابل دون شك العنت والمشقة ونحتاج إلى جماعة من النحاة واللغويين يتوفرون على إخراج مؤلفات محددة لتفي بهذا الغرض في منهجية واضحة، ولعل ما قام به المبرد في الكامل له دلالته الكبرى. وعلى العموم فإن المنهج الذي تتبعه الأسلاف في تيسير العربية على الناشئة كما رأينا والعمق فيها وشمولها وتعليمها تعليمًا سهلاً كان واضحًا في كل أعمالهم، وهو يضمن لنا قواعدها الأساسية في صيغ أشبه ما تكون بقوانين مركزة كي يحفظها الناشئة حتى يتسنّى لهم اليوم درسها وتدريسها دراسة تتيح لهم استيعاب أوضاعها وأسرارها وتمثلها تمثلاً بينًا.
بحيث يخدمها في بنيتها اللفظية وتراكيبها التعبيرية ودلالتها وعطائها المعنوي واستجابتها لكل حاجات الإنسان وتطورات حياته أصالة ومعاصرة.
----------
(1)الإمتاع والمؤانسة لأبي حبان التوحيدي ص 139.
(2)دراسات في اللغة والنحو العربي ص 88 – د. حسن عون.
(3)إرشاد الأديب لياقوت ص 46.
(4) الأشباه والنظائر ص 72 السيوطي.
(5)دلائل الإعجاز ص 21 عبد القاهر الجرجاني.
(6)المرجع نفسه ص ...
(7)المرجع نفسه ص ...
(8)المرجع نفسه ص 21 – 68.
(9)سورة يوسف الآية 63.
(10)الأشباه والنظائر ص 3 وص 34 – 35 للسيوطي.
(11)المرجع السابق ص 3 و64 – 68.
(12)نزهة الألياء في طبقات الأدباء، لأبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري ص 187.
(13)طبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي ص 581 طبعة دار المعارف مصر.
(14)أخبار النحويين البصريين ص 71.
(15)الخصائص ص 239 – 240 ابن جني.
(16)المغتضب ص 143 للمبرد.
(17)الخصائص ص 1 ، ص 272 ابن جني.
(18)تقويم اللسان ص 205 ابن الجوزي.
(19)إصلاح المنطق ص 297 ابن السكيت.
(20)تقويم اللسان ص 205 ابن الجوزي.
(21)سورة المائدة الآية 31.
(22)سورة التحريم الآية 6.
(23)التسهيل لابن مالك، ص 44 تحقيق محمد كامل بركات.
(24)شذور الذهب لابن هشام.
(25)شرح بانت سعاد لابن هشام ص 146 – 147.
(26) المقرب لابن عصفور.
(27)أنظر: أوضح المسالك 2/72.
(28)في د: (تكون صيغته صيغة المرفوع).
(29)هو سالم بن دارة، يقوله في: (مر بن واقع) ونسبه الأزهري تبعًا للعيني إلى الأحوص، وصدره في: أوضح المسالك: يا مر يا بن واقع يا أنتا.
أنظر أوضح المسالك ج2 ص 72، وشرح المفصل 1/127 – 130.
(30)هذان شطران من الرجز المشطور، وقائلها مجهول، وهما في شرح المفصل 2/9 وشرح الكافية 1/132، والخزانة 1/358، والإنصاف 1/336.
(31)سورة يوسف الآية 29.
في د: (تكون صيغته صيغة المرفوع).
(32)هو العجاج بن رؤبة، وأنشده بن هشام في أوضح المسالك 2/102.
(33)أنظر ديوانه ج2 ص 259 وفيه: انثنبت.
(34)بغية الدعاة ص 204 – نفح الطيب ص 522 ط أوربا – مقدمة المقرب للمحقق ص 44 – 45.
(35)الإيضاح في علل النحو ص 16 ص ص – 5 – وصفحة 19/15 19/15 الزجاجي النحوي.
(36)الجملة في الشعر العربي ص 16 – 17 د. محمد حماسة.
المراجع
1-القرآن الكريم.
2-إحياء النحو – الأستاذ إبراهيم مصطفى – مطبعة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة.
3-أخبار النحويين البصريين – لأبي سعيد السراقي – تحقيق د. محمد إبراهيم ألبنا دار الاعتصام مصر 1405هـ 1985م.
4-إرشاد الأديب. لياقوت الحموي دار المأمون 1323.
5-الأشباه والنظائر لجلال الدين السيوطي – دار الكتب العلمية بيروت 1405 هـ 1984م.
6-إصلاح المنطق لابن السكيت. تحقيق – أحمد محمد شاكر – وعبد السلام هرون.
7-الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي.
8- الإنصاف في مسائل الخلاف لأبي البركات الأنباري – القاهرة 1364.
9-أوضح المسالك لأبن هشام القاهرة 1354.
10-الإيضاح في علل النحو لأبي القاسم عبد الرحمن الزجاجي النحوي. تحقيق د. مازن المبارك – دار العروبة.
11-بغية الدعاة – لجلال الدين السيوطي، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم – المكتبة العصرية بيروت.
12-تقويم اللسان للإمام أبي الفرح عبد الرحمن الجوزي، تحقيق د. عبد العزيز مطر – دار المعرفة القاهرة ط أولى 1966م.
13-التسهيل – لابن مالك، تحقيق د. محمد كامل بركات.(/14)
14-الجملة في الشعر العربي، د. محمد حماسة.
15-الخصائص – لابن جنّي، تحقيق محمد علي النجار – دار الكتاب بيروت.
16-دراسات في اللغة والنحو د. حسن عون.
17-دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني المطبعة العربية بمصر.
18-ديوان رؤية بن العجاج – عني بتصحيحه وليم بن الورد الروس دار الآفاق الحديث.
19-طبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي دار المعارف مصر.
20-المقتضب للمبرد. تحقيق عبد الخالق عضيمة عالم الكتب ببيروت.
21-المقرب لابن عصفور – تحقيق أحمد الجبوري وآخرون مطبعة العاني بغداد.
22-شرح بانت سعاد – لإبن هشام، تحقيق د. أبو ناجي.
23-نزهة الألباء في طبقات الأدباء، لأبي البركات عبد الرحمن محمد الأنباري – مطبعة إحياء ثائر العرب – العرب – القاهرة 1294هـ
المساءلة:
1-مساءلة: قامت بها مدرسات بالمدارس الثانوية.
2-مساءلة: د. محمد أحمد الشامي.
* الأستاذ المشارك بكلية الآداب وعميد كلية الآداب جامعة أمدرمان الإسلامية(/15)
النخاسون الجدد !!
د. حلمي القاعود 8/7/1425
24/08/2004
أعلنت إحدى القنوات الفضائية عن مسابقة لملكة جمال مصر (مس إيجيبت)، وربطت هذه المسابقة بمساعدة الأيتام!
واضح أن هذه المسابقة لا تبغي مساعدة الأيتام في حقيقة الأمر؛ لأن مساعدتهم لا تقتضي هذا السلوك المشين الذي يحوّل الفتاة المسلمة إلى مجرد سلعة تُعرض أمام المستهلكين ليحكموا بجودتها أو رداءتها؛ فمساعدة الأيتام تقتضي مالاً طاهرًا نقيًّا، ونية حسنة خالصة لوجه الله يشعر أصحابها بواجبهم الشرعي والاجتماعي تجاه من حُرموا الآباء والأمهات؛ فيتقدمون عن رضا وطيب خاطر للبذل والعمل لرعاية هؤلاء المحرومين والعطف عليهم حتى يبلغوا مبلغ الرجال والنساء الذين يخوضون معترك الحياة.
مسابقة ملكة الجمال مشروع تجاري رخيص بعيد عن الأخلاق والحياء والآداب العامة، ويتنافى مع الشرائع السماوية التي تحفظ كرامة الإنسان عامة، والمرأة خاصة، وما عرف المسلمون قبلاً هذا التلوث الخُلقي الذي ابتلينا به على يد القنوات الفضائية والأرضية، ورأيناه يحوّل المرأة العربية المسلمة إلى مجرد جسد عار تنهشه الأنظار والأبصار، ويهيئه بعد ذلك لمهمات غير خلقية وغير إنسانية بالمرة.
ولا أدري كيف يستبيح هؤلاء التجار الذين يقيمون مسابقات ملكات الجمال لأنفسهم أن يعيدوا المرأة العربية المسلمة إلى قرون الظلام الأوروبية التي كانت تباع فيها المرأة وتُشترى، أو على أحسن الفروض لا تملك من أمرها شيئًا.
إن ربط قيمة المرأة بجمال الجسد هو عدوان على المرأة بصفة عامة، والمرأة غير الجميلة بصفة خاصة، واختزال لمعنى النسوية في صورة الأنثى التي يجب أن تكون مجرد غانية أو جارية ترضي الرجل وتشبع رغباته وتطلعاته؛ أما المرأة الإنسان.. المرأة العقل.. المرأة العطاء؛ فهذه مسألة بعيدة عن أذهان تجار الأجساد العارية في القنوات الفضائية وغيرها.
بمقاييس هؤلاء التجار؛ الفلاحة المصرية التي تبذل جهدًا مضاعفًا في الحقل والبيت وتربية الأبناء تبدو امرأة لا قيمة لها بجوار الجثة التي تقدمها القنوات التلفزيونية بوصفها ملكة جمال مصر المحروسة.
في حين أن الفلاحة المصرية هي ملكة جمال، وعقل، وتاريخ مصر على امتداد مسيرتها الزمنية الطويلة.
المفارقة أن الجمعيات والمجالس والمؤتمرات والروابط والمؤسسات التي تملأ بلادنا العربية وتتحدث صباح مساء عن حرية المرأة، وكرامة المرأة، ومستقبل المرأة لا تستنكر بيع المرأة في سوق النخاسين الذي يسمى مسابقة ملكة جمال مصر.
النخاسون الذين يطعنون المرأة العربية في شرفها وعفتها، وكرامتها يلقون ترحيبًا من جماعات تحرير المرأة؛ لأن التحرير في نظرهم أن تتعرى المرأة، وتتحول إلى جسد للعرض ثم البيع؛ فلا يصدرون كلمة واحدة دفاعًا عن المرأة ولا حقها في الحياة الحقيقية الحرة!
وتأتي هذه المسابقات الماجنة في وقت تتعرض فيه المرأة العراقية لأبشع أنواع العنف، والوحشية، والهمجية، والاغتصاب من قبل جيش الولايات المتحدة الاستعماري (في الأسبوع الأول من المواجهات بين شعب الفلوجة والهمجية الاستعماري الأمريكية قُتلت مائتا امرأة برفقتهن ستون طفلاً).. هذا في الوقت الذي تبتهج فيه القنوات العربية لتعلن عن مسابقة ملكة جمال مصر أو (مس إيجيبت) بينما (مس إيراك) تُقتل، وتُغتصب، وتشرد في صحارى الفلوجة، ولا نجد شيئًا من الحياء أو مراعاة الحال ومشاعر الأشقاء.
كان دم الشهيد (عبد العزيز الرنتيسي) ينزف ويموت وتشيعه الجماهير الفلسطينية، وتتظاهر من أجله الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، والقنوات العربية تتحفنا بالجديد من ألبومات "البورنو كليب".. حيث تتلوى جثث الفتيات العاريات على مدار اليوم والليلة، ولا تستحيي هذه القنوات ولا تخجل مما تمارسه من فحش وبذاءة واستهانة بمشاعر الملايين.
لا ريب أن العيب فينا نحن الذين تركنا بناتنا للمشاركة في سوق الجواري الجديد.. حيث غاب الأب والأم والمجتمع عن توجيه البنات والأبناء وغابت المدرسة عن التربية والتعليم جميعًا، وتفرغت لمحاربة ما يُسمى التطرف، والفتنة الطائفية، وحضر الإعلام ليدشن بطولات العوالم والغوازي، والطبالين والزمارين، والمشخصاتية، ولاعبي كرة القدم بوصفهم أبطال الأمة وفرسانها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي الع(/1)
سليمان بن ناصر بن عبد الله العلوان
النزعات في المهدي
عن حفص بن غياث رحمه الله تعالى قلت لسفيان الثوري : يا أبا عبد الله إن الناس قد أكثروا في المهدي فما تقول فيه ؟ قال : ( إن مر على بابك فلا تكن منه في شيء ، حتى يجتمع الناس عليه ) ذكر ذلك أبو نعيم في الحلية 0
سليمان بن ناصر بن عبد الله العلوان
بسم الله الرحمن الرحيم
... المهدي المنتظر محمد (بن عبد الله) من آل البيت ليس بنبي ولا يدعي النبوة ، تواترت فيه الأحاديث وأخبرت عنه بأنه خليفة راشد ، ولا يختلف أهل السنة أنه بشر من البشر ليس بنبي ولا معصوم ، يملأ الأرض قسطاً ، وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ، مهمته الإصلاح والحكم بالعدل ، والقسط ، والقضاء على الظلم والجور ، وهدم القوانين الوضعية ، والتشريعات الجاهلية ، بمعاول الحق والحكمة ، ويكافح أهل الخرافات والدجالين الكذابين الذين ابتلوا بالهوس والجنون ، والذين استحكمت فيهم الأمراض النفسانية ، واستحوذ عليهم الشيطان فصدهم عن سواء السبيل 0
... وإن في كل قرن وجيل تبتلى الأمة الإسلامية ، بمغرضين وضآلين عن الهدى المستقيم لا يعرفون العلم ولا يؤمنون بالمشورة ، لهم أغراض سيئة ، ومآرب قبيحة وأهداف عليلة تراكمت عليهم ظلمات الجهل ، وتجارت بهم الأهواء ، وأسرهم الضلال وتمكن من قلوبهم ، يحسنون الهدم ، ولا يفقهون الإصلاح ، يعظمون موافقيهم ، ويبدعون أو يكفرون مخالفيهم ، يظلمون العباد ، ويبغون في الأرض الفساد ، يستحلون الكذب لترويج ضلالهم ويسخرون من العلماء حين يكشفون حقائقهم 0
... وإن من هؤلاء النابتة شرذمة مريضة خرجت في هذا العصر ، تسمي نفسها بالمهدوية نسبة إلى كبيرهم الذي أضلهم ، فجعل من نفسه المهدي المنتظر ، فجهل الحقائق وقفز على الواقع ، فلبس ودلّس ، فكان منه العجب ، فقد سرى فيه الغرور والإعجاب ولا عجب فهذا وذاك داء أهل الضلال !! 0
... ويخطىء من يكذب بالصدق لكثرة الكذابين ، وينفي الحقائق لكثرة الملبسين فالحق أبلج والباطل لجلج ، وعلامات المهدي الثابتة في الأحاديث الصحيحة واضحة المعالم فحذار حذار ، من خرافات الرافضة في مهديهم ، وحذار حذار ، من ردّ الأحاديث الصحيحة ، والتكذيب بالحق ، والتنازع في الصدق ، فقد افتُعلت في هذا العصر نزعات متعددة ، وذهب أعداد من الناس في المهدي إلى مذاهب شتى
... (1)- فقسم خرج عن الاعتدال الذي أمر الله به ورسوله ، وترك الاتزان والوسطية في هذه القضية الكبيرة ، والمسألة المهمة ، وارتكب شططاً في إنكار المهدوية ، وأنه خرافة لا حقيقة ، وكذب جملة من الأحاديث المتواترة ، والأخبار الصحيحة ، ورد الحجج الدامغة وزعم أن هذا من أساطير الأولين ، وأقوال المخرفين ، ويقول قائلهم (ودعوى المهدي في مبدئها ومنتهاها مبنية على الكذب الصريح ، والاعتقاد السيئ القبيح وهي في الأصل حديث خرافة ، يتلقفها واحد عن الآخر ، وقد صيغت لها الأحاديث المكذوبة سياسة للإرهاب والتخويف ، حيث غزا بها قوم على آخرين ، و إلا فمن المعلوم قطعاً أن الرسول الكريم ( عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) لذا فلن يفرض على أمته التصديق برجل من بني آدم ، مجهول في عالم الغيب ، ليس بملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، ولا يأتي بدين جديد من ربه بما يجب الإيمان به ، ثم يترك أمته يتقاتلون على التصديق والتكذيب به إلى يوم القيامة ، إن هذا من المحال أن تأتي الشريعة به إذ هو جرثومة فتنة دائمة ، ومشكلة لم تحل والرسول جاء بمحاربة الفتن ... ) 0
... ويقول آخر منهم ( وجرّت هذه العقيدة – يعني : عقيدة المهدي - على المسلمين شقاء طويلاً ، إذ قام فيهم كثيرون بهذه الدعوى ، وخرجوا على الحكام فسفكت بذلك دماء غزيرة ... ) 0
... ولا يخفى على ذي علم وبصيرة أن هذا شطط في التعامل مع القضايا العلمية وجور في الحكم ، وخروج عن العدل الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم وكم في هذا الكلام من شطحات ومخالفات أصولية علمية ، وكم فيه من البعد عن الوسطية ، وعدم الاتزان في الحوارات الهادئة الشرعية الهادفة للحقيقة والواقعية ، وكم في هذا الكلام من ترك الحق للباطل ، والهدى للضلال ، ولا ريب أن هذا خطأ في المنهج والفكر ، فلا يجوز ترك الحق للباطل ، وقد ادعى قوم النبوة ! فما نقول ؟ ونفت الجهمية ومن نحا نحوهم عن الله تعالى أسمائه وصفاته فهل نعطل الله تعالى عن ذلك ؟ حاشى وكلا! قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى ( لا نزيل عن الله صفة من صفاته بشناعة شنعت ) 0(/1)
... (2)- وقسم من البشرية ، لم تصح الأحاديث لديهم ، ولم يفهموا ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث في هذا الباب ، وأدى إليهم اجتهادهم بعد البحث الشديد ، وتحري الحق إلى إنكاره وعدم الإيمان به ، فأولئك لهم أجر واحد بنص قوله صلى الله عليه وسلم ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ) متفق على صحته من طريق يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص0
... (3)- وقسم من الناس قبلوا كل ما هب ودب ، ولم يكن لديهم فرقان بين الشحم والورم ، فقبلوا الأخبار الموضوعة ، والحكايات المكذوبة ، والحجج الواهية وكانوا كحاطب ليل ، وصارت أسانيدهم عن هيان بن بيان وطبقته 0
... وصنف من هؤلاء ، يعيشون على الرؤى والمنامات ، ويخلطون بين الحق والباطل والصدق والكذب ، ويأتون إلى الأحاديث الصحيحة في المهدي فيربطونها بالأحاديث الضعيفة ، ويخرجون بنتائج مضحكة ، وأراء شاذة ، وقد جزم أحدهم بتحديد وقت خروج المهدي بموت فلان أحد ملوك هذا العصر ، وهذا من الجهل والتعويل على الظن الذي هو أكذب الحديث 0
... (4)- وقسم صاروا في حيرة مظلمة ، وتذبذب مَقيتْ ، وفوضوية عريضة ، فما بين مصدق ومكذب ، ومنكر ومثبت ، وقديماً قيل ( لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف ) ومع غياب العلماء والمصلحين تسود الفوضى ، ويكثر اللغط ، ويفتقد الانضباط والاعتدال ، ويقول كل من المهوسين ومن في قلوبهم مرض أنا لها أنا لها ، ويدلي كل بدلوه ، ويتصدر للخوض في هذه المسائل من ليس للكلام أهلاً ، وحين تختفي الأسود تظهر الثعالب 0
نبئت أن النار بعدك أوقدت ... واستب بعدك يا كليب المجلس
وتحدثوا في أمر كل عظيمة ... لو كنت حاضرهم بها لم ينبسُوا
(5)- وقسم عرفوا الحق فاتبعوه ، فآمنوا في المهدي وصدقوا به ، ويقولون بأنه من سلالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة وأنه ليس بنبي ولا معصوم ولا يدعي النبوة ، وأنه بشر كآحاد البشرية إلا أن الله اصطفاه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً ( وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) وهؤلاء أئمة الحديث والمنتخبون من العلماء في كل عصر ، فلا يبالغون في الإثبات ، ويحددون خروجه بالرؤى والتكهنات ، ولا ينكرون الروايات الثابتة ، لقيام طوائف منحرفة ، وجماعات ضالة تدعي في مهديها الظلوم ، أنه الإمام المعصوم ، فالحق هدى بين ضلالتين ، ورحمة بين عذابين ، ووسط بين باطلين 0
قال التابعي المشهور محمد بن سيرين رحمه الله ( المهدي من هذه الأمة ، وهو الذي يؤم عيسى بن مريم ) ذكره عنه ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي أسامة ، عن هشام عن ابن سيرين 0
... وقال الإمام البربهاري في شرح السنة ( والإيمان بنزول عيسى بن مريم عليه السلام ينزل فيقتل الدجال ...... ويصلي خلف القائم من آل محمد صلى الله عليه وسلم) 0
... وعقد الإمام ابن حبان في صحيحه عدة أبواب في ذكر المهدي 0
... وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في إغاثة اللهفان ( والمسلمون ينتظرون نزول عيسى بن مريم من السماء ، لكسر الصليب ، وقتل الخنزير ، وقتل أعدائه من اليهود ، وعُبَّادِه من النصارى ، وينتظرون خروج المهدي من أهل بيت النبوة ، يملأ الأرض عدلاً ، كما ملئت جوراً ) 0
... وقال أيضاً في المنار المنيف - بعد أن ساق بعض أحاديث المهدي – ( وهذه بعض الأحاديث وإن كان في إسنادها بعض الضعف والغرابة ، فهي مما يقوي بعضها بعضاً ويشد بعضها ببعض ، فهذه أقوال أهل السنة ) 0
... وقال السفاريني في عقيدته
وما أتى في النص من أشراط ... فكله حق بلا شطاط
منها الإمام الخاتم الفصيح ... محمد المهدي والمسيح
... وقال على شرحه لهذه الأبيات ( كثرت الأقوال في المهدي حتى قيل "لا مهدي إلا عيسى" والصواب الذي عليه أهل الحق أن المهدي غير عيسى ، وأنه يخرج قبل نزول عيسى عليه السلام ، وقد كثرت بخروجه الروايات ، حتى بلغت حد التواتر المعنوي وشاع ذلك بين علماء السنة ، حتى عدَّ من معتقداتهم ) 0
... والذين ينادون بأنه لا مهدي إلا عيسى ، لا يملكون أدلة على هذا ، ولا يقدرون على تضعيف الروايات الثابتة في المهدي ، وحديث ( لا مهدي إلا عيسى ) لا يثبت بوجه من الوجوه ، وقد رواه ابن ماجه في سننه (1341) والحاكم في مستدركه (4/441) والخطيب في تاريخه (5/361) من طريق يونس بن عبد الأعلى المصري ، ثنا محمد بن إدريس الشافعي ، حدثني محمد بن خالد الجندي ، عن أبان بن صالح ، عن الحسن ، عن أنس رضي الله عنه 0(/2)
وقد حكم عليه بالنكارة ، النسائي ، والحاكم ، والبيهقي ، والذهبي ، والقرطبي والصغاني ، وأبو الفتح الأزدي ، وقال: وإنما يحفظ عن الحسن مرسلاً ، رواه جرير بن حازم عنه0
ويرى الذهبي أن يونس بن عبد الأعلى لم يسمع هذا الخبر من الشافعي 0
وذكر ابن الصلاح في أماليه أن أبان بن صالح لم يسمع من الحسن 0
وقال البيهقي رحمه الله ( والأحاديث في التنصيص على خروج المهدي أصح البتة إسناداً ) 0
وقال صديق حسن خان ( وأحاديث المهدي بعضها صحيح ، وبعضها حسن وبعضها ضعيف ، وأمره مشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار ) 0
وقال الفاسي في ( المراصد )
وخبر المهدي أيضاً وردا ... ذا كثرة في نقله فاعتضدا
ونصوص أهل التحقيق والعرفان في ذلك كثيرة جداً 0
... قال ابن القيم في المنار المنيف ( وأما الرافضة الإمامية فلهم قول رابع وهو أن المهدي هو محمد بن الحسن العسكري المنتظر ، من ولد الحسين بن علي لا من ولد الحسن الحاضر في الأمصار الغائب عن الأبصار الذي يورث العصا ، ويختم الفضا دخل سرداب سامراء طفلاً صغيراً من أكثر من خمس مئة سنة ، فلم تره بعد ذلك عين ، ولم يحس فيه بخبر ولا أثر ، وهم ينتظرونه كل يوم يقفون بالخيل على باب السرداب ، ويصيحون به أن يخرج إليهم أخرج يا مولانا ، أخرج يا مولانا . ثم يرجعون بالخيبة والحرمان ، فهذا دأبهم ودأبه ولقد أحسن من قال
ما آن للسرداب أن يلد الذي ... كلمتموه بجهلكم ما آنا
فعلى عقولكم العفاء فإنكم ... ثلثتم العنقاء والغيلانا
ولقد أصبح هؤلاء عاراً على بني آدم وضحكة يسخر منها كل عاقل ) 0
... وأما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في خروج مهدي أهل السنة ، فقد جاءت بأسانيد صحيحة ، وقال غير واحد من العلماء بتواترها ، وصنف الشوكاني رحمه الله رسالة سماها ( التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح ) وجاء في هذه الرسالة قوله ( والأحاديث المتواترة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثاً فيها الصحيح ، والحسن ، والضعيف المنجبر ، وهي متواترة بلا شك ولا شبهة بل يصدق وصف التواتر على ما دونها على جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول)0
... وقال الإمام أبو الحسن الآبري في كتاب مناقب الشافعي ( وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر المهدي ، وأنه من أهل بيته ، وأنه يملك سبع سنين ، وأنه يملأ الأرض عدلاً ، وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال وأنه يؤم هذه الأمة ، ويصلي عيسى خلفه ) وقد تناول جمع من العلماء هذا الكلام من الآبري كابراً عن كابر فنقله عنه ابن القيم في المنار المنيف ، والحافظ المزي في تهذيب الكمال ، وابن حجر في الفتح ، ولم يتعقبه أحد على هذا 0
... وقال صديق حسن خان ( والأحاديث الواردة في المهدي – على اختلاف رواياتها – كثيرة جداً ، تبلغ حد التواتر ) والصواب من قولي العلماء أن التواتر ليس له حد محصور ، فقد يحصل بخبر الواحد ، حين يتلقاه الأئمة بالقبول 0
... ومن الأحاديث في هذا الباب ، حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا مني أو من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي - وجاء في بعض رواياته - يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ) وهذا الخبر رواه أبو داود في سننه (4282) والترمذي في جامعه (2231) وابن حبان في صحيحه (15/236) وغيرهم من طريق زائدة وأبي بكر بن عياش وعمر بن عبيد وفطر كما عند أبي داود ، وسفيان الثوري كما عند ابن حبان ، وسفيان بن عيينة في رواية عنه ، عند نعيم بن حماد في الفتن ، وشعبة كما عند الحاكم تعليقاً ، والأعمش كما عند ابن عدي ، وسليمان بن قرم ويحيى بن ثعلبة وحماد بن سلمة وقيس بن الربيع كما عند أبي عمر الداني والخطيب في تاريخه ، وعثمان ابن شبرمة ، وعمرو بن أبي قيس كما عند الطبراني ، ولفظ ابن شبرمة عند ابن حبان في صحيحه [يواطىء اسمه اسمي ، وخلقه خلقي] كلهم عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه 0
... ولم يتفرد به عاصم عن زر ، فقد تابعه أبو إسحاق الشيباني ، جاء هذا في طبقات المحدثين بأصبهان 0
... ورواه عن عاصم ، هشامُ بن معاذ كما عند الطبراني في الكبير ، وسفيانُ بن عيينة وسفيان الثوري كما عند الترمذي ، وعمر بن عبيد الطنافسي كما عند أحمد ، وأبو إسحاق الشيباني كما عند البزار في مسنده ، وحمزة الزيات كما عند ابن عدي ، وواسط بن الحارث وأبو الأحوص سلام بن سليم كما عند الطبراني ، ومحمد بن عياش بن عمرو العامري كما عند أبي عمرو الداني بلفظ ( يواطئ اسمه اسمي ) ولم يذكروا ( واسم أبيه اسم أبي ) 0(/3)
... وجاء الخبر من طريق عبد الله بن عمر بن أبان ، عن يوسف بن حوشب الشيباني عن أبي يزيد الأعور ، عمرو بن مرة ، عن زر ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تذهب الدنيا حتى يملك رجل من أهل بيتي يوافق اسمه اسمي ) رواه الطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية وابن عدي في الكامل 0
... واختلف فيه على الأعمش وشعبة وسفيان الثوري فمرة يذكرونها ومرة يتركونها0
... وقد صححه الترمذي وابن حبان وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم وغيرهم من أهل الحديث 0
... وجاء في سنن أبي داود (4285) من طريق عمران القطان ، عن قتادة ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( المهدي مني أجلى الجبهة ، أقنى الأنف ، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما ملئت جوراً وظلماً يملك سبع سنين ) 0
قال ابن القيم في المنار المنيف ، إسناده جيد 0
... وفيه عمران القطان صدوق يهم قاله البخاري ، وقال الدارقطني كثير المخالفة والوهم ، وقال النسائي ضعيف ، وذهب جماعة إلى أنه صالح الحديث ، وذكره ابن حبان في ثقاته 0
وقد جاء شاهد له رواه الإمام أحمد في مسنده (3/36) قال حدثنا محمد بن جعفر ثنا عوف ، عن أبي الصديق الناجي ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تقوم الساعة حتى تمتلأ الأرض ظلماً وعدواناً ، قال : ثم يخرج رجل من عترتي - أو من أهل بيتي - يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً ) قال أبو نعيم الأصبهاني في الحلية على هذا الحديث ( مشهور من حديث أبي الصديق عن أبي سعيد) 0
... وجاء في صحيح مسلم (2913) من طريق إسماعيل بن إبراهيم ، عن الجريري عن أبي نضرة قال : كنا عند جابر بن عبد الله فقال : يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم ، قلنا : من أين ذاك ؟ قال : من قبل العجم ، يمنعون ذاك ، ثم قال يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مدى ، قلنا : من أين ذاك ؟ قال : من قبل الروم ، ثم سكت هنية ، ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثياً لا يعده عدداً )
قال : قلت لأبي نضرة وأبي العلاء : أتريان أنه عمر بن عبد العزيز : فقالا : لا 0
... وقد حمل الهيثمي ، والسيوطي ، هذا الحديث على المهدي 0 ...
وقد جاء في بعض الأحاديث أنه من ولد الحسن بن علي رضي الله عنهما ، قال أبو داود في سننه (4290) حدثت عن هارون بن المغيرة قال ثنا عمرو بن أبي قيس ، عن شعيب بن خالد ، عن أبي إسحاق قال : قال علي رضي الله عنه ونظر إلى ابنة الحسن فقال : ( إن ابني هذا سيد كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم ، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخُلُقِ ولا يشبهه في الخَلْقِ . ثم ذكر قصة : يملأ الأرض عدلاً) 0
وهذا الإسناد فيه ضعف ، لم يسمع أبو إسحاق من علي ، وفيه علل أخرى 0
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في المنار المنيف ( وأكثر الأحاديث على هذا تدل وفي كونه من ولد الحسن سر لطيف ، وهو أن الحسن رضي الله تعالى عنه ، ترك الخلافة لله فجعل الله من ولده من يقوم بالخلافة الحق ، المتضمن للعدل الذي يملأ الأرض ، وهذه سنة الله في عباده ، أنه من ترك لأجله شيئاً أعطاه الله ، أو أعطى ذريته أفضل منه ، وهذا بخلاف الحسين رضي الله عنه فإنه حرص عليها وقاتل عليها فلم يظفر بها ، والله أعلم 0
وقد قال بعض المفسرين على قول الله تعالى ( لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) أن الخزي في الدنيا هو خروج المهدي 0
قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره حدثنا موسى ، قال ثنا عمرو ، قال ثنا أسباط ، عن السدي ، قوله ( لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ) أما خزيهم في الدنيا فإنه إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية ، قتلهم ، فذلك الخزي ، وأما العذاب العظيم فإنه عذاب جهنم ، الذي لا يخفف عن أهله ، ولا يقضى عليهم فيها فيموتوا ) 0
وحكى الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى عن السدي وعكرمة ووائل بن داود أنهم فسروا الخزي في الدنيا بخروج المهدي ................ وصحح رحمه الله أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله 0
وهذا مجرد اجتهادٍ من هؤلاء المفسرين عليهم رحمة الله تعالى ، وقد جاءَت الإشارة إليه استئناساً وشاهداً ، لا احتجاجاً واستدلالاً 0
وهذه طريقة كثير من الأئمة يوردون مثل هذا عقيب سرد الأدلة الصحيحة والأصول الثابتة ، فلا مناص عن التصديق بخروج المهدي ، وأنه من آل البيت ، وأنه حاكم عادل ، فينشر العدل ويرفع الظلم ، ويعطي كل ذي حق حقه ، وفقاً لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه لو خرج لو جب على المسلمين ، مبايعته وطاعته ومناصرته 0(/4)
وليس معنى ذلك أن يُتبع كل من يدعي المهدوية ويتزعمها ، ويقول أنا لها ، وأنا الحائز على شرفها ، فالدجالون كثر ، والمخرفون أكثر ، ومن في قلوبهم مرض زاد شرهم وطغى ، وفي كل يوم نسمع بمهوس يدعي المهدوية ويقول أنا المهدي المبشر به ، وقد أوحت إليه الشياطين بهذا ، فغرته وأردته الهاوية ، والله تعالى يقول ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ) وقال تعالى ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ . وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ . حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) ولذلك صار هؤلاء فريسة رهطهم من الشياطين ، وضُحكة المجتمع ، وطُرفة الزمن ، والبعض من هؤلاء يتورط فيها بسبب أحلام يظنها يقضه ، وخيال يحسبه حقيقة ( وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) وقدجروا بهذا الفعل القبيح ، والعمل الفظيع على الأمة الإسلامية محناً ، وأثمرت دعاويهم فتناً وحَكّمُوا عقولهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة على الشريعة بدلاً من أن يحكموها (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) 0
ولو أن هؤلاء كان لهم بصر نافذ ، واطلاع على التاريخ ، لكفوا عن ذلك ولأحسنوا الخروج من التورط في هذه الضلالات والموبقات ( والعاقل ينظر قبل أن يمشي والأحمق يمشي قبل أن ينظر ) ولو قلبوا صفحات التاريخ لنكلوا عن ذلك ، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ، ولكن أنى لهم بتلك العبر ( وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً ) 0
ولله در الإمام أبي عبد الله سفيان الثوري رحمه الله تعالى ، ذي البصر النافذ والعقل الراجح ، حيث لزم التأني وعدم التعجل والفوضوية في هذا الأمر الكبير ، فعن حفص بن غياث رحمه الله تعالى قال : قلت لسفيان الثوري : يا أبا عبد الله ، إن الناس قد أكثروا في المهدي فما تقول فيه ؟ قال : ( إن مر على بابك ، فلا تكن منه في شيء ، حتى يجتمع الناس عليه ) ذكر ذلك أبو نعيم في الحلية (7/31) 0
وهكذا يكون العلماء الراسخون ، والدعاة الربانيون ، لا تطوف عليهم هذه الخزعبلات والترهات ، فينظرون بنور الشريعة ، حسب ما يدلهم عليه كتاب ربهم ، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، عن طريق الأدلة الصحيحة الصريحة عنه صلى الله عليه وسلم0
وثمت طائفة من الناس يولد عنده هذا الحديث ، وهذه البشائر والمفرحات ، انهزاماً روحياً ، وإحباطاً في الإنتاج ، وخللاً في العمل من نشر العلم ، وتبليغ الدين ، ومواجهة الانحرافات في الأمة ، ويعكس هذا عنده أموراً سلبية ، فيتكل على تلك ، وينكل عن العمل الجاد المثمر ، ويكون عنده من الأماني التي هي رأس مال المفاليس ما لا يخطر على بال ، ولا يدور في خيال ، ولا ريب أن هذا من مصائد الشيطان ومكائده ، وإن هذا الظن الكاذب ، والجهل المركب ، يجر الأمة إلى كوارث مدلهمة ، وأزمات متتالية 0
وإن الإنسان الجاد في فكاك نفسه ، الحاذق في فهمه ، الحريص على ما ينفعه صاحب الهمة العالية ، هو الذي يتخذ من تلك المحفزات والمبشرات ، أعظم الإيجابيات ، وأكبر المحفِّزات في مواصلة العمل الجاد لتبليغ دين الله تعالى ، وتوعية البشرية وتبصيرهم بأمور دينهم الذي به قوامهم وعزهم ، والسعي الحثيث والعمل المتواصل لتوطيد شرع الله في أرضه ، والنأي بهم عن مراتع الذل والهوان ، والركون إلى أعداء الله تعالى ، وموالاة الذين كفروا 0
ذلك أن الحديث عن المهدي ونحوه من المبشرات من أعظم ما يحفز على الاجتهاد والركوب في سفينة النجاة ، وميل القلب والقالب إلى التعلق بالله تعالى ، والاستعداد إلى لقاء الله تعالى بالأعمال الصالحات ، والعمل على نشر الدين الخالص ، والعقيدة الصافية وتمكين الثوابت الشرعية ، والأصول العقدية ، في جذر القلوب ، ودليل ذلك قوله صلى الله صلى الله عليه وسلم ( بادوا بالأعمال ستّاً الدجال ، والدخان ودابة الأرض ، وطلوع الشمس من مغربها ، وأمر العامة وخويصة أحدكم ) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (2947) من طريق قتادة ، عن الحسن ، عن زياد بن رياح ، عن أبي هريرة 0
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليفعل ) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/191) والبخاري في الأدب المفرد (146) وأبو داود الطيالسي في مسنده (3/545) وعبد بن حميد في المنتخب من مسنده (1214) والضياء في المختارة (7/264) كلهم من طريق حماد بن سلمة ، عن هشام بن زيد ، عن أنس .. به 0(/5)
وقد روي من وجه آخر ، رواه ابن الأعرابي في معجمه (1/116) من طريق عبد الحميد بن صالح ، نا وكيع ، عن شعبة ، عن هشام بن زيد ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم ( إن قامت على أحدكم الساعة ، وفي يده فسيلة فليغرسها ) ويشبه أن يكون هذا الطريق غير محفوظ ، فقد رواه الإمام أحمد في مسنده (3/184) عن وكيع ، عن حماد بن سلمة ، عن هشام بن زيد ، عن أنس به ، وهذا هو المحفوظ 0
وروي من وجه آخر عن شعبة ، رواه ابن عدي في الكامل (5/38) من طريق عمر بن حبيب القاضي ، عن شعبة ، عن هشام بن زيد ، عن أنس به 0
وقد أنكر هذا الطريق ابن عدي ، فقال عقبه : وهذا من حديث شعبة ، عن حماد ابن زيد ، لا يرويه غير عمر بن حبيب ، وهذا الحديث معروف بحماد بن سلمة ، عن هشام بن زيد 0
وعمر بن حبيب : قال عنه البخاري يتكلمون فيه ، وقال عنه ابن معين والنسائي ضعيف 0
وقد أدرك ذلك علماء الإسلام ، ووعاه أصحاب الإرث النبوي ، أسوة بنبيهم صلى الله عليه وسلم ، قال داود ابن أبي داود المدني : قال لي عبد الله بن سلام ( إن سمعت بالدجال قد خرج وأنت على ودية تغرسها فلا تعجل أن تصلحها فإن للناس بعد ذلك عيشاً ) رواه البخاري في الأدب المفرد (169) من طريق سليمان بن بلال ، قال : أخبرني يحيى بن سعيد ، قال : أخبرني محمد ابن يحيى بن حبان ، عن داود به 0
وقال العلائي مقصود هذه الأخبار ، الحث على البداءة بالأعمال قبل حلول الآجال ، واغتنام الأوقات قبل هجوم الآفات ، وقد كان صلى الله عليه وسلم من المحافظة على ذلك بالمحل الأسمى ، والحظ الأوفى ، قام في رضى الله حتى تورمت قدماه 0
قال القاضي – على حديث (بادروا بالأعمال) - أمرهم أن يبادروا بالأعمال قبل نزول هذه الآيات ، فإنها إذا نزلت أدهشت وأشغلت عن الأعمال أو سد عليهم باب التوبة وقبول العمل 0
كتبه
سليمان بن ناصر بن عبد الله العلوان
23/11/1423هـ(/6)
النزهة العاشرة
? إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية الفلسطينية ، فالأجدر بنا أن نغير المدافعين ، لا أن نغير القضية { الشهيد غسان كنفاني }.
? اللذة الحقيقة التي تجعل للحياة قيمة ، ليست حيازة ذهب أو شرف نسب أو علو منصب ولا أي شيء من الأشياء التي يجري خلفها الناس عادة ، وإنما هي أن يكون الإنسان قوة عاملة ذات أثر خالد { قاسم أمين }.
? ليست العبرة بمجد السلف ، بل بقدرة الخلف { دانتي }.
? ذوي النفوس الدنيئة يجدون اللذة في التفتيش عن أخطاء الشرفاء { شوبنهاور آرثر – فيلسوف ألماني - }.
? أصحاب العقول الصغيرة تناقش في الأشخاص والعقول المتوسطة تناقش في الأشياء أما العقول الكبيرة فإنها تناقش في المبادئ {حكمة صينية }.
? البشر ثلاثة أقسام : أناس يجعلون الأمور تحدث ، أناس يشاهدون الأمور تحدث ، أناس لا يعرفون ما يحدث { الكاتبة الأميركية دوان لوندن }.
? تحتاج الأم إلى عشرين عاماً لكي تجعل من إبنها رجلاً يستطيع أن يعتمد على نفسه ، بينما لا يحتاج الأمر لأكثر من عشرين دقيقة بالنسبة لامرأة أخرى لكي تجعل من هذا الرجل إنساناً أحمق لا يستطيع السيطرة على تصرفاته { هيلين رولاند }.
? إن الذين يتنازلون عن حرياتهم مقابل أمان مؤقت ، لا يستحقون لا الحرية ولا الأمان { فرنكلين روزفلت }.
? النجاح هو الخطيئة الوحيدة التي يرتكبها الإنسان بحسن نية ، ومع ذلك لا يغفرها له زملاؤه { امبروز بيرس }.
? من كثر إحتماله وظهر حلمه قل ظلمه وكثر أعوانه ، ومن قل همه على ما فاته استراحت نفسه وصفا ذهنه { سقراط }.
? من لا يتنازل عن رأيه لا يُصحح أخطاءه { جوناثان أدوارد }.
? همس المرأة الحسناء ، أعلى من صوت الضمير الداعي للقيام بالواجب { بلزاك }.
? العظيم من يبتسم عندما تكون دموعه على وشك الإنهمار { بونارلي }.
? إن قلباً مفطوراً على الاستقامة لا يرضي عن هفوات الأخلاق { سيسل }.
? تعلم أنك عاشق حينما تبدأ بالتصرف ضد مصلحتك الشخصية { أحلام مستغانمي }.
? ليست الدرجة العلمية هي التي تصنع الكاتب إن أهم شيء يحتاج إليه أن يكون لدى هذا الكاتب قصة يستطيع أن يكتبها ويستطيع أن يجذب الملايين إلى قرائتها { أوسكار وايلد }.
? الجاهل يؤكد والعالِم يشك والعاقل يتروى { أرسطو }.
? إننا لا نهتم بالناس حتى يهتموا بنا { يبليليوس }.
? لو كان الموتى يتكلمون ، لأصبح التاريخ مجموعة من الأكاذيب السخيفة { الكاتب الأميركي مارك توين }.
? الصحافة حبر وورق وحرية { الصحفي الفرنسي كلمنصو }.
? إذا أردت أن تحيا بعد موتك فأفعل واحداً من أثنين : أكتب شيئاً يستحق أن يقرأ ، أو أفعل شيئاً يستحق الكتابة { الفيلسوف الفرنسي جان جاك رسو }.
? أثمن كنوز الدنيا : الصمت الحسن { شكسبير }.
? قد نعترف بهفواتنا الصغيرة لنوهم الناس بأنه ليست لنا هفوات كبيرة { لارشفوكو }.
? ليس السخاء بأن تعطيني ما أنا في حاجة إليه أكثر منك ، بل السخاء أن تعطيني ما تحتاج إليه أكثر مني { جبران خليل جبران }.
? ليس من الشجاعة أن تعرف الحق ولا تتبعه { كونفوشيوس }.
? في الأفكار قوة ، وفي الشخصية خلود ، إن إتحاد الأثنين يصنع التاريخ { هنري جيمس }.
? الحبر مهما كان شاحباً فهو خير من أقوى ذاكرة { مثل صيني }.
? أن أفلاطون صديقي والحق صديقي ، فإذا تنازعنا فالحق أولى بالصداقة { أرسطو }.
? الغبي فقط هو الذي لا يتطور مع الزمن { عن مجلة باري ماتش الباريسية }.
? لا أحد يستطيع أن يشتري حريتي في مشاعري { دييغو أرمندو مارادونا }.
? عندما تكره المرأة رجلاً إلى درجة الموت فتيقنوا أنها كانت تحبه إلى درجة الموت { مارك توين }.
? قررت أن أكون سعيداً ، فذلك مفيد للصحة { فولتير }.
? يا لغرائب البيروقراطية !!! الجهاز الذي يقدّم خدمة عامة للجمهور يريد حماية رئيسه من هذه الخدمة التي يقدمها { غازي القصيبي }.
? السن لا يحميك من الحب ولكن الحب ينسيك سنك.
? الناس نوعان ذوي أخلاق وذوي لا أخلاق مهما كانت ديانتهم أو تعليمهم.
? الجهل هو أن تستخدم كلمات رنانة للتعبير عن معانٍ تافهة.
? قل الحق ولو قتلك ، فإن الموت من أجل الحق خيرٌ من حياة على باطل.
? الحرب لا تعرف البراءة.
? إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك.
? ما أشد الحاجة إلى الحذر في أوقات الأمن.
? لا أحد ينجو من الخطأ.
? البشر يصنعون الأزمنة ، لا الأزمنة تصنع البشر.
? الأبرياء دائماً يدفعون الثمن.
? إذا كان حتى الحديث هو بداية الحرية فان ضرورة الإصغاء تعطي ذلك الحق أهميته.
? يولد بعض الناس عظماء وآخرون يحصلون عليها إغتصاباً ، بينما تأتي للبعض وهو في بيته.
? إن قضيّة الموت ليست على الإطلاق قضيّة الميت ، إنها قضيّة الباقين المنتظرين بمرارة دورهم لكي يكونوا درساً صغيراً للعيون الحيّة .
? يوجد سعادة واحدة في الحياة هي عندما تحب وتكون محبوباً.
? هذا هو الغد الذي أقلقك البارحة.
? الكلام بلا تفكير يشبه إطلاق النار بلا تصويب.(/1)
? قال أحد المتشائمين : كلما تذكرت أن أسوأ مخاوفي لم تتحقق ، فإني أكاد أنقلب متفائلاً.
? من الأدلة على زحف الهرم إلينا هو ابتهاجنا بقول الآخرين أننا نبدو صغاراً.
? الجمال بلا فضيلة يشبه منزلاً بلا باب وسفينة بدون شراع وربيع بلا زهور.
? الماء هو الذي يجري لا النهر ، ونحن الذين نمضي لا الوقت.
? ما رأيت تبذيراً قط إلا وإلى جانبه حق ضائع.
? الخوف هو أن تُعاقب الضعيف فقط.
? التسلط على الضعفاء لؤم وسوء كبيعة.
? لا يوجد منصب مهما أرتفع شأنه ومقام صاحبه يخلو من مشاغل روتينية لا تنتهي.
? أصعب شيء في كسب الرزق هو أنك مضطر لعمله كل يوم.
? الإرادة التي لا تنثني تعلو على كل شيء حتى القوة.
? الإداري الناجح هو الذي يستطيع تنظيم اللأمور على نحو لا يعود العمل بحاجة إلى وجوده.(/2)
النساء ينافسن الرجال، باستحياء، على القمة
في يوم المرأة العالمي..المرأة الى اين؟
ازداد عدد النساء اللواتي يتولين السلطة في بلادهن مثل ايلين جونسون سيرليف في ليبيريا وميشال باشليت في تشيلي وانغيلا ميركل في المانيا لكن هذه الظاهرة العالمية لا تنعكس بالضرورة على اختراق في مجال مساواتهن في الحقوق مع الرجال.
فمن اوروبا الى اسيا مرورا باميركا وافريقيا وسواء انتمين الى اليمين او اليسار تتبوأ النساء عن طريق الانتخابات اعلى المهام وذلك بعد اقل من قرن على حصولهن على حق الاقتراع.
وطالما كانت الدول الاسكندينافية في طليعة المساواة بين الرجال والنساء من حيث العدد في حين كانت البريطانية مارغريت ثاتشر التي تولت السلطة من 1979 الى 1990 تشكل حالة استثنائية بين "كبرى" الدول الغربية.
لكن يبدو ان الموجة النسائية وصلت الى هذه الدول وعلى رأسها المانيا التي اختارت السنة الماضية انغيلا ميركل اول مستشارة في تاريخها.
ولم تتأخر افريقيا حيث انتخب الليبيرييون ايلين جونسون سيرليف (67 سنة) اول رئيسة دولة في هذه القارة.
وفي فرنسا تفيد الاستطلاعات ان الوزيرة الاشتراكية السابقة سيغولين روايال تتصدر منذ اسابيع لائحة المرشحين اليساريين الى الانتخابات الرئاسية عام 2007.
وقوبلت تطلعاتها بين بعض زملائها الاشتراكيين بملاحظات ذات طابع ذكوري لا تنسجم مع الرأي العام الفرنسي الذي يرى بنسبة 94% تولي امراة رئاسة البلد امرا طبيعيا.
وفي الجانب الاخر من المحيط الاطلسي لم يعد تولي امرأة شؤون اكبر قوة في العالم من المحرمات حيث تعتبر النائبة في مجلس الشيوخ هيلاري كلينتون مرشحة بقوة للرئاسة في المعسكر الديمقراطي.
كذلك ذكر اسم وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس بالحاح لدى الجمهوريين حتى وان كانت المعنية لم تبد تطلعات رئاسية. وبكونها امرأة سوداء سيكون انتخابها، اذا حصل، فريدا من نوعه.
وفي خطوة رمزية قوية زارت رايس برفقة لورا بوش، زوجة الرئيس الاميركي، في كانون الثاني/يناير ليبيريا لحضور حفل اداء الرئيسة جونسن سيرليف اليمين.
لكن تولي امرأة شؤون الدولة لا يضمن بالضرورة نهاية انعدام المساواة وانتهاك حقوق النساء.
ففي الهند وباكستان مثلا تولت امرأتان رئاسة الوزراء وهما انديرا غاندي وبناظير بوتو (اول رئيسة وزراء في دولة اسلامية) لكن وضع النساء ما زال هشا لا سيما تعرضهن لما يسمى جرائم الشرف والزواج القسري.
وفي الدول الغربية ما زالت الطريق المؤدية الى المساواة في الفرص بين الرجال والنساء طويلة.
وتعد كندا التي لم تتول فيها منصب رئيسة وزراء سوى امراة واحدة (كيم كامبل عام 1993) تشكل النساء 20% من مجلس العموم بينما يعد الكونغرس الاميركي 16% من النساء.
وبين الدول الاعضاء الـ25 في الاتحاد الاوروبي تحتل فرنسا مرتبة متأخرة حيث لا تتجاوز فيها نسبة النائبات 12.8% متقدمة فقط على ايطاليا وسلوفينيا وبعيدا وراء السويد (45%) وبلجيكا (35%) او المانيا (31.6%).
اما البلدان العربية فانها ما زال تأخرها كبيرا في مجال حقوق المرأة رغم حصول شيء من التقدم. فعلى سبيل المثال اعترفت الكويت السنة الماضية بحق النساء في الاقتراع ترشيحا وتصويتا.
واعلنت زوجة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير تشيري خلال زيارة الى السعودية "لم يصل اي بلد في العالم لمساواة حقيقية بين الجنسين".
يذكر ان وضع النساء في السعودية صعب حيث لا يستطعن قيادة سيارة او الذهاب الى المطعم بمفردهن.(/1)
النسخ في القرآن الكريم
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ أصول الفقه / الأحكام وأدلتها/أدلة الأحكام
التاريخ ... 7/9/1422
السؤال
أرجو التكرم بالإجابة بالتفصيل عن موضوع الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم؛ لأنه يوجد من يدعي أنه لا نسخ في القرآن، وأن من يقول ذلك يعد كافراً، مع العلم أن هذا الأمر مذكور في الصحيحين، فضلاً عن كتاب الله العزيز وفي أكثر من موضع، ولكنه الجدل الذي لا دليل معه .
الجواب
أجيب عن السؤال بخمس نقاط على الإيجاز والاختصار، فأقول :
الأولى : المعنى اللغوي للنسخ : النسخ في اللغة مصدر للفعل الثلاثي نسخ ينسخ نسخاً ، ويطلق في اللغة على معانٍ أربع، هي :
(1) الإزالة تقول: نسخت الشمس الظل إذا أزالته، ومنه قوله – تعالى -:" .. فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته ". [الحج : 52].
(2)التبديل والتغيير كقولك: نسخت الريح آثار الديار أي: بدلتها وغيرت هيئتها، ومنه قوله – تعالى -: " وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر " [النحل:101].
(3) التحويل كالمناسخات في المواريث، وهو: أن يموت الميت، ثم يموت وارثه قبل أن تقسم تركة الميت الأول، وهكذا .
(4) بمعنى: النقل من موضع إلى آخر، تقول: نسخت الكتاب إذا نقلت ما فيه إلى موضع آخر من كتاب ونحوه حاكياً للفظه، ومنه قوله – تعالى -:" إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ". [الجاثية : 29].
الثانية : أجمعت الأمة من السلف والخلف على جواز النسخ ووقوعه في القرآن الكريم بدليل قوله – تعالى - :" ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير " [البقرة : 106]، وقوله:" يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " [الرعد : 39]، وقوله: " وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعقلون " [النحل : 101]. فهذه الآيات نصت على أن الله إذا أراد نسخ حكم أو تأجيله أتى بحكم مثله أو أفضل منه؛ لأن علمه محيط بكل شيء في هذا الكون، ومسطور عنده في اللوح المحفوظ، ويمحو الله منه ما يشاء ويثبت ما يشاء ممّا فيه مصلحتهم، وهو العليم في إبداله آية مكان أخرى، وحكماً مكان آخر، وبهذا يتبين أن كل المعاني اللغوية في النسخ متحققة في معناه الشرعي ، على أن السلف من الصحابة والتابعين أكثر ما يطلقون لفظ النسخ في القرآن يريدون به التخصيص وهو غير ما يريده أو عرفه به علماء الأصول، حيث هو عندهم : ( رفع الحكم السابق بحكم لاحق بدليل شرعي متراخياً عنه ) ، فالمعنى عند السلف حين فسروا النسخ بالتخصيص أوسع من تعريف المتأخرين، وقد بالغ بعض المفسرين في تعيين المنسوخ من آيات القرآن حتى عدوا جميع آيات الجهاد في القرآن وقالوا : نسختها آية واحدة هي آية السيف " وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة " [التوبة : 36]، وقالوا: إن هذه الآية نسخت ما يقرب من (500) آية من القرآن، وهذه المبالغة في هذا التوجه إنما هو مسايرة للمفهوم الأول للنسخ ، المعروف عند السلف من الصحابة والتابعين كعبد الله بن عباس، وابن عمر، ومجاهد، والحسن البصري ، ولو طبق على كل هذا العدد من الآيات التي يقال إنها منسوخة. - الاصطلاح الثاني – اصطلاح المتأخرين من علماء أصول التفسير والفقه لا نحصر هذا إلى عدد رؤوس الأصابع، فمثلاً الإمام محمد بن جرير الطبري شيخ المفسرين يرى أن آيات الجهاد والقتال ليس فيها ناسخ ومنسوخ، بل تحمل آيات القتال والغزو على حال ما إذا كانت الأمة المسلمة قوية ، وتحمل آيات الصبر والموادعة والمهادنة على ما إذا كانت الأمة ضعيفة مغلوبة على أمرها ، وهذا رأي راشد وسديد ، وعليه لا تكون آية السيف ناسخة لذلك العدد الكبير من آيات القتال .
وقد تتبع الحافظ بن جرير الطبري الآيات التي يمكن أن يقال إنها منسوخة فوجهها توجيهاً سديداً، وبقي عنده قرابة إحدى عشرة آية فقط هي منسوخة الحكم قطعاً لتغير الحكم اللاحق عن السابق بنص قطعي من القرآن الكريم، أو السنة الصحيحة، وهي معروفة عند أهل الاختصاص في علوم القرآن .
وعلم الناسخ والمنسوخ من أهم علوم القرآن، روي عن علي بن أبي طالب أنه سمع واعظاً يعظ الناس، فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ في القرآن ؟ قال : لا ، فقال له : لقد هلكت وأهلكت .(/1)
الثالثة : قال بمنع وقوع النسخ في القرآن قديماً اليهود - عليهم لعائن الله - وتبعهم أبو مسلم الأصبهاني المعتزلي ( ت 459هـ )، وبعض الكتاب المعاصرين كعبد الكريم الخطيب، وعبد المتعال الجبري، ووجه منع وقوعه في القرآن الكريم عند اليهود أن القول بالنسخ يعني القول بالبداء، وهو: الظهور بعد الخفاء، أما من جاء بعدهم فوجه منعه عندهم لئلا يأتي أحد فيغير حكم الله، ثم يقول: إن هذا كان منسوخاً، ودليل هؤلاء وأولئك في المنع ظاهر قوله - تعالى - في وصف القرآن :" لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " [فصلت : 42]، والباطل ضد الحق .
ولكن أولئك نسوا أن الله هو منزل القرآن وهو المتكفل بحفظه " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " [الحجر : 9]. كما نسوا أو تناسوا أن الحافظ لهذا الكتاب من أن يقع فيه باطل أو تحريف، هو الذي أوجد فيه الناسخ والمنسوخ لحكمة يعلمها- سبحانه - .
واليهود قد تذرعوا ظاهراً لما منعوا وقوع النسخ في كلام الله – بالبداء، وهو: الظهور بعد الخفاء، وتبعهم الرافضة الغلاة، ويروون عن جعفر الصادق أنه قال:" البداء ديني ودين أبائي "، ومتى كان اليهود يقصدون التنزيه للباري - سبحانه -، وهم الذين وصفوه بأحط الصفات – تعالى - الله عن ذلك علواً كبيراً، وقالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، وقالوا: عزير ابن الله، وقالوا: الملائكة بنات الله .. إلخ . وإنما كان قصد اليهود في مقالتهم تلك لما منعوا وقوع النسخ في كلام الله كتمان الحق، وكراهية أهله، وبغضاً لمحمد – صلى الله عليه وسلم – الذي يعرفونه حق المعرفة " الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ..." [الأعراف:157].
أما إنكار أبي مسلم الأصبهاني المعتزلي ( ومخالفته لجمهور المعتزلة أيضاً )، وبعض الكتاب المعاصرين إنما كانت مخالفتهم لجهلهم باللغة العربية، وأقوال سلف الأمة، ومحبتهم للتجديد والمخالفة طلباً للشهرة واتباعاً لكل قول مطمور مهجور .
الرابعة : سبق أن ذكرت بأن التخصيص ( النسخ عند السلف ) أعم من النسخ عند المتأخرين؛ لأن التخصيص قد يكون بالتقييد بعد الإطلاق، أو بالتفصيل بعد الإجمال، أو بالوصف، أو الاستثناء .. إلخ، وهذا معلوم في مظانِّه وعند أهله المتخصصين به .
ويجب أن يعلم أن النسخ في القرآن لا يقع إلا في خطاب الأمر والنهي ، ولا يقع في الأخبار ، فلم يقع في قصص الماضين، ولا في أمور الاعتقاد؛ كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ولا في أسماء الله وصفاته، كما لا يقع النسخ في الأمور الكونية كقوله:" الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " [الملك : 3]. ونحو قوله:" وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون " [يس : 37].
الخامسة : بعض الآيات المنسوخة حكماً عند جمهور الأمة من السلف والخلف:
1)نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة في المسجد الحرام.
2)عدة المرأة المتوفى عنها زوجها كانت عدتها من أول الأمر سنة كاملة، ثم نسخ ذلك فصارت أربعة أشهر وعشراً .
3)المصابرة في مقابلة العدو كان في أول الأمر يجب أن يثبت المسلم أمام عشرة من الكفار، ثم نسخ ذلك بأخف منه لما علم الله ضعف المسلمين، فلزم أن يثبت المسلم أمام اثنين من الكفار فقط .
4) كانت الخمر حلالاً في مثل آية البقرة، ثم نسخ ذلك بآية الخمر في سورة المائدة .
5) نسخ الصدقة عند إرادة مناجاة الرسول كما في سورة المجادلة .
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد .(/2)
النصر المظفر في الرد على السبئيين ومجلتهم المنبر
بقلم حامد بن عبد الله العلي
***مقدمة :
ــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى أصحابه الغر الميامين ، الذين زكاهم الله تعالى في كتابه الكريم ، وجعل مبغضهم من الكافرين ، وعلى آله ، عترته الطاهرة ، الذين تبرؤا ممن ينتحلهم بالباطل ، ويكذب عليهم في المحافل ، وينسبهم كذبا وزورا إلى مشاقة الصديق والفاروق وذي النورين أولى الفضائل .
وبعد ،،،،
فقد اطلعت على صحيفة شبكة الحوادث ، العدد 121 وما قبله ، وذلك بعدما كثرت شكوى الناس ، مما نقلته هذه الصحيفة عن مجلة تدعى ( المنبر) ، من أقوال تقشعر لها جلود المؤمنين ، ولا يفرح بها إلا أعداء الإسلام من الكافرين والمنافقين .
كما كثرت الشكاوى على الطاعن على المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ، وأنه هو الذي يقف وراء هذه المجلة ، وأنه قد تجرأ على أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، بالكذب والافتراء ، وقول الباطل ، في محفل عام في الدولة ، مما يستوجب أشد العقوبة والنكال ، غير أنه لم ينل أي عقوبة على ما فعل !!
وجاءتني رسائل كثيرة ، لا أحصيها ، تطلب التحرك ، لوضع حد لهذه الفوضى ، وقال قائل منهم : أيعقل أن يصل الأمر أن تباع أشرطة ( فيديو) تصور الصديقة مريم عليها السلام ، ومسرحيات أخرى ، وأفلام ، صورت في إيران ، تشتمل على الطعن في الصحابة ، وتصوير بعضهم ، جهارا نهارا ، وتباع في الكويت .
ثم ينشر فيها أقوال هي الكفر البواح ، ويتطاول على مقام أمهات المؤمنين ، ويطعن في الصحابة ، ويمر ذلك كله مرورا بلا نكير ، كأن شيئا لم يكن ، بينما كان قبل أربع سنوات ، أن علق أحد الشباب المتحمسين ، لوحة مكتوب عليها ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) منددا بما يجري في هلا فبراير من المنكرات ، فأقيمت الدنيا عليه ولم تقعد ، وشهروا فيه في كل مكان ، ولاحقوه على كل منبر ، فسبحان الله ، أيشهر فيمن يعلق آية من القرآن في تلك الأيام ، بينما يسكت اليوم عن كل هذه العظائم والآثام .
أعز عليكم ( هلا فبراير ) ومنكراته إلى هذه الدرجة ، وهان عليكم دين الله تعالى ، فلم يستحق حتى أن يصدر ـ في أقل تقديرـ تصريح واحد من وزارة الإعلام ، يطمئن الناس أن يد العدالة ستطول هؤلاء المتهورين السبأئية ، الذين تقيئوا كل هذا القيح الأسود النتن ، ( وما تخفي صدورهم أكبر ) ، متطاولين على كل ثوابت الأمة الإسلامية ، مشككين في القرآن ، طاعنين في بيت النبوة ، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
*************************
هذا وقد تضمنت هذه المجلة السبأية ( مجلة المنبر ) افتراءات كثيرة ، لامجال لحصرها هنا ، وترجع في الجملة إلى :
1ـ التشكيك في القرآن الكريم ، ونفي أنه محفوظ كل تحريف .
2ـ الشرك الأكبر في دعاء غير الله تعالى وتوجيه العبادة إلى سواه .
3ـ ترويج بيع (صكوك الغفران) تحت ذريعة الشفاعة !! .
4ـ الطعن في الصحابة .
5ـ وأمهات المؤمنين .
وقبل الشروع في الرد عليهم نورد ملحوظات عامة :
1ـ يلاحظ أن هذه المجلة تركز على هدم ثلاثة أشياء لا يقوم دين الإسلام إلا بها :
الأول : القرآن العظيم .
الثاني : الصحابة الذين نقلوا الدين ، ومن العجائب أنهم يقولون نحن لا نطعن في الصحابة الذين ماتوا في زمن النبوة ، بل الذين بقوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، والهدف واضح ، وهو أن الذين بقوا هم الذين نقلوا دينه من بعده ، فالطعن فيهم طعن في القرآن وفي السنة وفي الدين كله .
الثالث : تشويه صورة بيت النبوة نفسه ، بالطعن في أمهات المؤمنين .
2ـ أن هجوم هذه المجلة على ثوابت الإسلام ، انتشر بقوة في الوقت الذي تقع فيه منطقة الخليج تحت مخطط الهيمنة الغربية ، والمؤامرة الصهيونية ، فالعجب من هذا التساوق المريب !!!!.
3ـ أن الهجوم الأعظم إنما هو على أبطال الإسلام ، وتاريخ الإنجازات العظيمة للمسلمين ، وفترة الخلافة التي كثرة فيها الفتوح ، واتسعت رقعة الإسلام !!!
مما يدل على أن الهجوم لا يأتي اعتباطيا ، بل يُقطع أن ثمة مؤامرة ما ، تريد إسقاط هذا الدين بتحطيم كل مقوماته وثوابته الفكرية ، والتاريخية ، ورموزه ، في هذه الحقبة بالذات ، في ظل هيمنة القطب الواحد على النظام العالمي ، وسعيه للقضاء على الإسلام ، بالاستعانة بأعداء من المنافقين من داخل حصون الإسلام نفسه !!!
ولنبدأ الآن بالرد على ما ورد في مجلة (المنبر ) :
***************************
أما التشكيك في القرآن :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقد نقلت شبكة الحوادث عن المنبر قولها ( كان أعداء علي عليه السلام كثيرين ، ومبغضوه أكثر ، وكان من السهل التأثير على كتّاب الوحي ، والحفظه ، لتحريف القرآن ، وحذف الآيات التي ذكر فيها علي ، وهكذا صار القرآن محرفا ، والأمة كقطيع الإبل السائبة ) المنبر عدد 18
وقد اتفق العلماء على أن المشكك في حفظ القرآن كافر ، لانه :(/1)
أولا : مكذب للقرآن في قوله تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) .
ثانيا : مبطل لآية الإسلام الخالدة التي تحدى الله تعالى بها الإنس والجن إلى قيام الساعة قال تعالى ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ، ومعلوم أن كل نبي آتاه الله آية مؤقتة بزمنه ، لان أحدا منهم لم تكن رسالته خالدة ، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد جعل الله تعالى رسالته باقية ، فكانت آيته العظيمة وهي القرآن باقية ببقاء رسالته ، ولهذا فمن يشكك في حفظ الله للقرآن ، ويدعي أن الصحابة غيروه ، وبدلوه ، وعبثت به الأيدي ، فهو مبطل لآية الإسلام ، وكفى بهذا كفرا مبينا .
ثالثا : أن إدعاء إمكان تحريف القرآن ، فضلا عن القول بتحريفه ، إبطال للشريعة كلها ، لان كل آية سيحتمل وقوع التحريف فيها على هذا القول ، فتذهب فائدة الانتفاع به ، وتبطل الشريعة ، وكفى بهذا شركا وافتراءا على دين الله .
رابعا : لم يشكك في حفظ القرآن ، إلا المستشرقون بغية هدم الدين ، وهؤلاء الضالون السبئية ساروا معهم في هذا الكفر المبين ، وبهذا يعلم أن الهدف واحد وهو القضاء على دين الإسلام ، بالتشكيك بأعظم ما فيه وهو كتا ب الله تعالى .
أما الشرك في عبادة الله تعالى :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقد نقلت مجلة شبكة الحوادث ما يلي :
1ـ (الزوجة الهندوسية نادت يا حسين الشيعة ، فظهر لها جسم نوراني ، وأعاد الرأس المقطوعة إلى مكانها ، فوقف الزوج حيا ، وانتقم من القتلة المنبر عدد 24 )
2ـ (الام تعلقت بضريح باب الحوائج للعباس عليه السلام ، فأعاد الحسين عليه السلام ولدها إلى الحياة المنبر عدد 23 ) .
وهذا كله من الشرك في عباده الله تعالى ، لان الدعاء عبادة ، وفي الحديث ( الدعاء هو العبادة ) والشرك هو توجيه العبادة لغير الله تعالى ، كما قال تعالى ( قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا ) وقال ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ) وقال ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) وقال ( وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) ، وقال ( إياك نعبد وإياك نستعين ) , وقال ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) والصلاة إنما هي دعاء من أولها إلى آخرها ، وقال تعالى على لسان ابراهيم عليه السلام إمام الموحدين ( الذي خلقني فهو يهدين ، والذي هو هو يطعمني ويسقين ، وإذا مرضت فهو يشفين ، والذي يميتني ثم يحيين ، والذي اطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) .
وفي الحديث الصحيح ( إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ) ،والنصوص في هذا الباب كثيرة ، وهي دالة بلا ريب ، أن كل من يوجه دعاءه لغير الله تعالى ، فيما لايجوز سؤاله من غير الله تعالى ، فهو مشرك ، لانه عابد لذلك الغير مع الله تعالى .
ومن هؤلاء المشركين ، الداعين لغير الله تعالى ، من يقول : نحن لا ندعوهم لاعتقادنا أنهم يخلقون ويرزقون ويحيون ويميتون ، وإنما نستشفع بهم إلى الله تعالى ، ومع أنهم يكذبون في هذا الزعم ، بل هم يعتقدون أنهم يخلقون ويرزوقون ويحيون ويميتون ، ويعلمون الغيوب ، وهذا شرك في الربوبية مع ما فيه من شرك في الالوهية ، ولكن ـ على سبيل التنزل ـ نقول لهم حتى لو زعمتم أنكم إنما تدعونهم من دون الله تعالى ، بقصد الاستشفاع بهم إلى الله ، فهذا لاينفعكم ، بل هو أيضا شرك في عبادة الله تعالى .
بل هذا الذي تقولونه ، هو مقصد الكفار الأولين ومرادهم ، بعينه لايعدوه قيد أنملة ، فلم يكن مراد كفار قريش في شركهم وعبادتهم غير الله تعالى ، أن آلهتهم تخلق أو ترزق، أو تنفع أو تضر بنفسها، فإن ذلك يبطله ما ذكره الله عنهم في القرآن، وأنهم أرادوا شفاعتهم وجاههم، وتقريبهم إلى الله زلفى، كما قال سبحانه وتعالى في سورة يونس عليه الصلاة والسلام: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ فرد الله عليهم ذلك بقوله: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الارْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ، فأبان سبحانه أنه لا يعلم في السموات ولا في الأرض شفيعا عنده على الوجه الذي يقصده المشركون، وما لا يعلم الله وجوده لا وجود له؛ لأنه سبحانه لا يخفى عليه شيء، وقال تعالى في سورة الزمر: ( تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) .(/2)
فبين سبحانه في هذه المواضع ، أن العبادة لاتكون إلا له وحده، وأنه يجب على العباد إخلاصها له جل وعلا؛ لأن أمره للنبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص العبادة له، أمر للجميع .. ومعنى الدين هنا هو العبادة، والعبادة هي اسم يجمع كل ما يتقرب به إلى الله من الاعمال والاقوال الظاهرة والباطنة ، ويدخل فيها الدعاء والاستغاثة، والخوف، والرجاء والذبح والنذر.
كما يدخل فيها الصلاة والصوم وغير ذلك، مما أمر الله به ورسوله، ثم قال عز وجل بعد ذلك: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) ، أي يقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى فرد الله بقوله سبحانه: ( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) ، فأوضح سبحانه في هذه الآية الكريمة: أن الكفار ما عبدوا الأولياء من دونه إلا ليقربوهم إلى الله زلفى.
والمقصود أن هذا هو زعم الكفار المشركين بالله تعالى منذ القدم ، يزعمون أنهم يعبدون ما يعبدونه من دون الله ، ليقربهم إلى الله زلفى ، ولكن الله تعالى ، قد أبطل ذلك بقوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ 9 ، فأوضح سبحانه كذبهم في زعمهم أن آلهتهم تقربهم إلى الله زلفى، وكفرهم بما صرفوا لها من العبادة .
وبذلك يتضح جليا أن الكفار الأولين إنما كان كفرهم وشركهم ، باتخاذهم المعبودات من دون الله ، شفعاء بينهم وبين الله ، كما يشفع المقربون عند الملوك ، فقاسوه عز وجل على الملوك والزعماء، وقالوا: كما أن من له حاجة إلى الملوك والرؤساء يتشفع إليه بالخواص ، والوزراء ، والمقربين ، فهكذا نحن نتقرب إلى الله بعبادة أنبيائه وأوليائه، وهذا هو الكفر بعينه ، والشرك باسمه ورسمه .
لأنه سبحانه لا شبيه له، ولا يقاس بخلقه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه في الشفاعة، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد، وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وهو أرحم الراحمين، لا يخشى أحدا ولا يخافه ، ولايتوقف عطاؤه على إذن آذن ، ولا مكره له سبحانه ، يحمله أن يعطي مالايريد أن يعطي ، او ما لايحب أن يفعل ، ولهذا صح في الحديث ( إذا دعا أحدكم ربه فليعزم المسألة ولايقول اللهم أغفر إن شئت ، فإن الله تعالى لامكره له ) .
لأنه سبحانه هو القاهر فوق عباده، والمتصرف فيهم كيف يشاء، بخلاف الملوك والزعماء فإنهم لا يقدرون على شيء ، فلذلك يحتاجون إلى من يعينهم على ما قد يعجزون عنه، من وزرائهم وخواصهم وجنودهم، كما يحتاجون إلى تبليغهم حاجات من لا يعلمون حاجته، فيحتاجون إلى من يستعطفهم ويسترضيهم من وزرائهم وخواصهم .
أما الله تعالى فهو سبحانه غني عن جميع خلقه، وهو أرحم بهم من أمهاتهم، وهو الحكم العدل، يضع الأشياء في مواضعها، على مقتضى حكمته ، وعلمه ، وقدرته، فلا يجوز أن يقاس بخلقه .
ولهذا أوضح سبحانه في كتابه: أن المشركين كانوا يعتقدون في الله تعالى ، أنه هو الخالق الرازق ، وأنه هو الذي يجيب المضطر، ويكشف السوء، ويحيي ويميت، إلى غير ذلك من أفعاله سبحانه .
وإنما الخصومة بين المشركين وبين الرسل في إخلاص العبادة لله وحده، كما قال عز وجل: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وقال تعالى: ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالارْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالابْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الامْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وكلها تدل على أن النزاع بين الرسل وبين الأمم، إنما هو في إخلاص العبادة لله وحده، كقوله سبحانه: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ، وما جاء في معناها من الآيات .
وقد بين سبحانه في مواضع كثيرة من كتابه الكريم شأن الشفاعة، فقال تعالى في سورة البقرة: ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) ، وقال في سورة النجم: ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ) .
وقال في سورة الأنبياء في وصف الملائكة: ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) ، وأخبر عز وجل أنه لا يرضى من عباده الكفر، وإنما يرضى منهم الشكر، والشكر هو توحيده والعمل بطاعته، فقال تعالى في سورة الزمر: ( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) .(/3)
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" أو قال "من نفسه"
وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا .
*********************************
وأما بيع صكوك الغفران :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقد نقلت شبكة الحوادث ما يلي :
( شهادة توثيقية صادرة باسم هيئة خدام المهدي ، مدفوعة الثمن ، توضع في كفن المتوفى ، فتكون سببا في نيل الشفاعة يوم القيامة ، والثمن من 15ـ 20 دينارا )
فهذه الخرافة ، ندعها بلا تعليق ، وإذا بلغ الامر بالانحطاط بالعقول الانسانية إلى هذه الدرجة ، فالرد على مثل هذا يكون ضربا من العبث الذي لامعنى له ، لان الخطاب لايكون فيه للعقلاء اصلا، فلا فائدة فيه إذن .
*************************
وأما الطعن في الصحابة :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقد نقلت مجلة الحوادث عدد 120 ، وما قبله ، نقولا كثيرة لا تحصى في الطعن في الصحابة ، وقد وصل الأمر إلى اتهام الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه ، بانه مصاب الشذوذ الجنسي ، وكل من يدافع عنه من علماء المسلمين مثله !! كما نقلت شبكة الحوادث عن مجلة المنبر السبئية.
وسأنقل فيما يلي ، نقولا من أهل العلم تبين ، منزلة الصحابة رضي الله عنهم ، وحكم من يطعن فيهم .
فضل الصحابة :
ــــــــ
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله : ( فإن الله تعالى أثنى على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من السابقين والتابعين لهم بإحسان . وأخبر أنه رضي عنهم ورضوا عنه ؛ وذكرهم في آيات من كتابه .
مثل قوله تعالى { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } .
وقال تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا } .
وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه } .
وقد اتفق أهل السنة والجماعة على ما تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما واتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة عثمان بعد عمر رضي الله عنهما .
وقال صلى الله عليه وسلم { عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة } .
وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه آخر الخلفاء الراشدين المهديين . وقد اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا : أبو بكر ثم عمر ؛ ثم عثمان ؛ ثم علي رضي الله عنهم . ودلائل ذلك وفضائل الصحابة كثير ؛ ليس هذا موضعه .
وكذلك نؤمن " بالإمساك عما شجر بينهم " ونعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب وهم كانوا مجتهدين ؛ إما مصيبين لهم أجران ؛ أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم ؛ وما كان لهم من السيئات - وقد سبق لهم من الله الحسنى - فإن الله يغفرها لهم : إما بتوبة أو بحسنات ماحية أو مصائب مكفرة ؛ أو غير ذلك . فإنهم خير قرون هذه الأمة كما قال صلى الله عليه وسلم { خير القرون قرني الذي بعثت فيهم ؛ ثم الذين يلونهم } وهذه خير أمة أخرجت للناس . ونعلم مع ذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان أفضل وأقرب إلى الحق من معاوية وممن قاتله معه لما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق } .
وفي هذا الحديث دليل على أنه مع كل طائفة حق ؛ وأن عليا رضي الله عنه أقرب إلى الحق . وأما الذين قعدوا عن القتال في الفتنة ؛ كسعد بن أبي وقاص وابن عمر وغيرهما رضي الله عنهم فاتبعوا النصوص التي سمعوها في ذلك عن القتال في الفتنة وعلى ذلك أكثر أهل الحديث .(/4)
وكذلك " آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم " لهم من الحقوق ما يجب رعايتها فإن الله جعل لهم حقا في الخمس والفيء وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لنا : { قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد . وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد } . وآل محمد هم الذين حرمت عليهم الصدقة هكذا قال الشافعي وأحمد بن حنبل ؛ وغيرهما من العلماء - رحمهم الله - فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد } .
وقد قال الله تعالى في كتابه : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } وحرم الله عليهم الصدقة لأنها أوساخ الناس وقد قال بعض السلف : حب أبي بكر وعمر إيمان ؛ وبغضهما نفاق . وفي المسانيد والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس - لما شكا إليه جفوة قوم لهم قال : { والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي } . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله اصطفى بني إسماعيل ؛ واصطفى بني كنانة من بني إسماعيل ؛ واصطفى قريشا من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش ؛ واصطفاني من بني هاشم } .
انتهى كلام شيخ الاسلام ابن تيمية .
ــــــــــــــــــــــــــــ
قلت : ومعلوم أن الطعن في الصحابة الكرام ، هو اتهام لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه بالفشل في رسالته ، وأنه لم يقدر أن يؤسس له اتباعا مخلصين ، فكان ـ على زعم هؤلاء المنافقين الذين يطعنون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، الذين هم خاصة أتباعه الذين لايفارقونه حضرا ولا سفرا ، وأصهاره ، ووزراءه ،كانوا لايؤمنون بما يقول ، بل يضمرون النفاق والخيانة له طيلة وقت صحبتهم له .
ثم إنه بعد موته ، خانوه في أعظم أمور الدين ـ ويزعم هؤلاء الذين يطعنون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن الامامة هي أعظم أمور الدين ـ خانوه في هذا الامر العظيم ، وبذلك يكون الصحابة رضي الله عنهم ، قد أثبتوا للناس جميعا ـ كما هو لازم قول هؤلاء ـ أن النبي الذي اصطفاه الله على البشر أجمعين ، كان مثالا لاكبر فشل في التاريخ ، وكان دينه الذي فضله الله تعالى على كل الاديان ، كان أسوأ الاديان حظا من التوفيق الالهي ، فلم يحمله بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا الخونة ، ولم ينشره في الارض إلا أهل النفاق والريب فيه ، وأن القرآن الذي هو أعظم الكتب ، صار بيد أشد الناس خيانة في التاريخ ؟؟!!
فتأمل ما الذي يؤدي إليه الطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، من الشناعات التي لايقرها شرع ولا عقل ، والله ثم والله ، لايطعن فيهم إلا حاقد على هذا الدين ، ساع في إفساده وإبطاله .
والطعن في الصحابة نفاق ، كما قال صلى الله عليه وسلم : رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يحب الأنصار إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق, فمن أحب الأنصار أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله)) ، وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم قد أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) ،
و الطعن في الصحابة عموماً طعن في القرآن وتكذيب للآيات من سورة الحشر فقد أثنى الله عز وجل علي المهاجرين من أصحاب نبيه بقوله للفقراء والمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون )
وأثنى الله تعالى عن الأنصار من أصحاب نبيه بقوله: والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) ، الدار والإيمان اسمان من أسماء هذه المدينة المباركة .
ثم وصف الله تعالى حال المؤمنين من بعدهم المؤمنون الذين لزموا الجماعة وتمسكوا بالسنة المؤمنون الذين أعظم ما في قلوبهم حب الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين والدعاء للصحابة والاستغفار لهم قال تعالى: والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا انك رؤوف رحيم [الحشر:10]
*****************************
رسالة مفيدة جدا في فضل الصديق
ــــــــــــــــــ(/5)
وننشر هنا رسالة لاتخلو من فائدة ، تتضمن الرد المفصل على من فضل عليا رضي الله عنه على الصديق ، ونحن هنا لا نثبت صحة الاسناد ، ولا كل ما ورد في الرسالة من مضامين ، على أنها مسلمة صحيحة ، وإنما نحيل القارىء على الاسناد ، ونذكرها لما فيها من الفوائد الجليلة الدالة على فضل الصحابة رضي الله عنهم، ولما فيها من الجدل الحسن القاطع لبعض شبه السبئيين ، فهذا هو مقصودنا :
قال محقق الرسالة الشيخ علي بن عبدالعزيز العلي :
هذه مناظرة بين الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه مع أحد الرافضة وتوجد منها نسختان: النسخة الأولى نسخة تركيا في خزانة شهيد علي باشا باستنبول ضمن مجموع رقمه 2764 حوى عدة رسائل في العقيدة والحديث هذه الرسالة الحادية عشرة منه. النسخة الثانية نسخة الظاهرية وقد وقعت ضمن مجاميعها في المجموع رقم 111 وهي الرسالة التاسعة عشر منه.
الناشر : دار الوطن - السعودية - الرياض هاتف 4644659-4626124.
نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
رب اعن
حدثنا الشيخ الفقيه أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن سعيد الأنصاري البخاري - قراءة عليه بمكة حرسها الله سنة خمس وثلاثين وأربعمائة قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن مسافر قال أخبرنا أبو بكر بن خلف بن عمر بن خلف الهمذاني قال حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن أزمة قال: حدثنا أبو الحسن بن علي الطنافسي قال : حدثنا خلف بن محمد القطواني قال : حدثنا علي بن صالح قال : جاء رجل إلى جعفر بن محمد الصادق كرم الله وجهه ، فقال :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فرد عليه السلام فقال الرجل :
1- يابن رسول الله من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
فقال جعفر الصادق رحمة الله عليه : أبو بكر الصديق رضي الله عنه .
2- قال : وما الحجة في ذلك ؟
قال : قوله عز وجل (( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن 'ن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها )){التوبة 40} فمن يكون أفضل من اثنين الله ثالثهما ؟ وهل يكون أحد أفضل من أبي بكر إلا النبي صلى الله عليه وسلم ؟!
3- قال له الرجل : فإن علي بن أبي طالب عليه السلام بات على فراش النبي صلى الله عليه وسلم غير جزع ولا فزع .
فقال له جعفر : وكذلك أبو بكر كان مع النبي صلى الله عليه وسلم غير جزع ولا فزع .
4- قال له الرحل : فإن الله تعالى يقول بخلاف ما تقول !.
قال له جعفر : وما قال ؟
قال : قال الله تعالى (( إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا )) فلم يكن ذلك الجزع خوفاً ؟ (في نسخة الظاهرية " أفلم يكن.."
قال له جعفر : لا ! لأن الحزن غير الجزع والفزع ، كان حزن أبي بكر أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يدان بدين الله فكان حزن على دين الله وعلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن حزنه على نفسه كيف وقد ألسعته أكثر من مئة حريش فما قال : حس ولا ناف!
5- قال الرجل : فإن الله تعالى قال (( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون )){المائدة 55} نزل في علي بن أبي طالب حين تصدق بخاتمه وهو راكع فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((الحمد لله الذي جعلها في وفي أهل بيتي ))
فقال له جعفر : الآية التي قبلها في السورة أعظم منها ، قال الله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه )){المائدة 54} وكان الارتداد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ارتدت العرب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واجتمعت الكفار بنهاوند وقالوا : الرجل الذين كانوا يتنصرون به - يعنون النبي - قد مات ، ، فقال : لو منعوني عقالا مما كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ولو اجتمع علي عدد الحجر والمدر والشوك والشجر والجن ولإنس لقاتلتهم وحدي . وكانت هذه الآية أفضل لأبي بكر.
6- قال له الرجل : فإن الله تعالى قال : (( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية)) نزلت في علي عليه السلام كان معه أربعة دنانير فأنفق ديناراً بالليل وديناراً بالنهار وديناراً سراً وديناراً علانية فنزلت فيه هذه الآية .(/6)
فقال له جعفر عليه السلام : لأبي بكر رضي الله عنه أفضل من هذه في القرآن ، قال الله تعالى (( والليل إذا يغشى )) قسم الله ، ((والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى فأما من أعطى وأتقى وصدق بالحسنى )) أبو بكر (( فسنيسره لليسرى)) أبو بكر (( وسيجنبها الأتقى )) أبو بكر (( الذي يؤتي ماله يتزكى )) أبو بكر ((وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى )) أبو بكر ، أنفق ماله على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين ألفاً حتى تجلل بالعباء ، فهبط جبريل عليه السلام فقال الله العلي الأعلى يقرئك السلام ، ويقول : اقرأ على أبي بكر مني السلام ، وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا ، أم ساخط ؟ فقال : أسخط على ربي عز وجل ؟! أنا عن ربي راض ، أنا عن ربي راض ، أنا عن ربي راض . ووعده الله أن يرضيه.
7- قال الرجل : فإن الله تعالى يقول (( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله )) { التوبة 19} نزلت في علي عليه السلام .
فقال له جعفر عليه السلام : لأبي بكر مثلها في القرآن ، قال الله تعالى (( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى )){ الحديد 10}
وكان أبو بكر أول من أنفق ماله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأول من قاتل ، وأول من جاهد . وقد جاء المشركون فضربوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى دمي ، وبلغ أبي بكر الخبر فأقبل يعدو في طرق مكة يقول : ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم ؟ فتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخذوا أبا بكر فضربوه ، حتى ما تبين أنفه من وجهه.
وكان أول من جاهد في الله ، وأول من قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول من أنفق ماله ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما نفعني مال كمال أبي بكر )).
8- قال الرجل فإن علياً لم يشرك بالله طرفة عين .
قال له جعفر : فإن الله أثنى على أبي بكر ثناءً يغني عن كل شئ ،قال الله تعالى (( والذي جاء بالصدق )) محمد صلى الله عليه وسلم ، ((وصدق به )){الزمر33} أبو بكر .
وكلهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم كذبت وقال أبو بكر : صدقت ، فنزلت فيه هذه الآية : آية التصديق خاصة ، فهو التقي النقي المرضي الرضي ، العدل المعدل الوفي .
9- قال الرجل : فإن حب علي فرض في كتاب الله ؛ قال الله تعالى (( قل لا أسألكم عليه إلا المودة في القربى ))
قال جعفر : لأبي بكر مثلها ، قال الله تعالى (( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا انك غفور رحيم )){الحشر10}
فأبو بكر هو السابق بالإيمان ، فالاستغفار له واجب ومحبته فرض وبغضه كفر .
10- قال الرجل : فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، وأبوهما خير منهما ))
قال له جعفر : لأبي بكر عند الله أفضل من ذلك ؛ حدثني أب عن جدي عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وليس عنده غيري ، إذ طلع أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( يا علي هذان سيدا كهول أهل الجنة وشبابهما -في الظاهرية شبابهم- فيما مضى من سالف الدهر في الأولين وما بقي في غابره من الآخرين ، إلا النبيين والمرسلين .لا تخبرهما يا علي ما داما حيين)) فما أخبرت به أحداً حتى ماتا.
11- قال الرجل : فأيهما أفضل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم عائشة بنت أبي بكر ؟
فقال جعفر : بسم الله الرحمن الرحيم ((يس والقرآن الحكيم )) ، (( حم والكتاب المبين ))،
فقال : أسألك أيهما أفضل فاطمة ابنة النبي صلى الله عليه وسلم أم عائشة بنت أبي بكر ، تقرأ القرآن ؟!
فقال له جعفر : عائشة بنت أبي بكر زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في الجنة ، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدة نساء أهل الجنة .
الطاعن على زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنه الله ، والباغض لابنة رسول الله خذله الله .
12- فقال الرجل : عائشة قاتلت علياً ، وهي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال به جعفر : نعم ، ويلك قال الله تعالى (( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله )) {الأحزاب 53}
13- قال له الرجل : توجد خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي في القرآن ؟
قال نعم ، وفي التوراة والإنجيل .قال الله تعالى ((وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات )) {الأنعام165}
وقال تعالى (( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض )){النمل62}
وقال تعالى ((ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم)){النور55}
14- قال الرجل : يابن رسول الله ، فأين خلافتهم في التوراة والإنجيل ؟(/7)
قال له جعفر : ((محمد رسول الله والذين معه )) أبو بكر ، ((أشداء على الكفار )) عمر بن الخطاب ، (( رحماء بينهم )) عثمان بن عفان ، ((تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً )) علي بن أبي طالب (( سيماهم في وجوههم من أثر السجود )) أصحاب محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ، (( ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل )).
قال : ما معنى في التوراة والإنجيل ؟ قال : محمد رسول الله والخلفاء من بعده أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، ثم لكزه في صدره ! ، قال : ويلك ! قال الله تعالى (( كزرع أخرج شطأه فآزره )) أبو بكر (( فأستغلظ )) عمر ((فاستوى على سوقه)) عثمان ((يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار )) علي بن أبي طالب ((وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً )) أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم ، ويلك !،
فقال الرجل : يابن رسول الله ، أيقبل الله توبتي مما كنت عليه من التفريق بين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ؟
قال : نعم ، باب التوبة مفتوح فأكثر من الاستغفار لهم .أما انك لو مت وأنت مخالفهم مت على غير فطرة الإسلام وكانت حسناتك مثل أعمال الكفار هباءً منثوراً .
فتاب الرجل ورجع عن مقالته وأناب .
تم بحمد الله وصلواته على محمد وآله وأصحابه وأزواجه وسلامه ، على يد العبد المذنب الراجي عفو الله الخائف من عقاب الله يوسف بن محمد بن يوسف الهكاري في شهر الله الأحد رجب من سنة تسع وستين وستمائة .
انتهت الرسالة .
وهذه المناظرة ، قد يكون ـ على فرض صحة الاسناد ـ وافق فيها جعفر الصادق رحمه الله ، هذا المعترض عليه ، على سبيل التنزل والجدل ، وإلا ففيها أمور في فضل الصديق وعلي رضي الله عنهما ، لادليل عليها ، فليتنبه القارىء لهذا الأمر ، مع أن فضلهما، وغيرهما من الصحابة ، ثابت بالنصوص المتواترة .
***************************
حكم من طعن في أمهات المؤمنين :
ــــــــــــــــــــ
اتفق العلماء على أن كل ما جاء في تحريم سب الصحابة من آيات قرآنية و أحاديث نبوية فإن ذلك يشمل أمهات المؤمنين بدلالة العموم ، بل هن من أولى من يدخل في دلالة العموم ، وذلك لما لهن من المنزلة العظيمة ، حتى سماهن الله تعالى ( أمهات المؤمنين ).
و قد روى أبو محمد بن حزم الظاهري بإسناده إلى هشام بن عمار قال : سمعت مالك بن أنس يقول من سب أبا بكر و عمر جلد ، و من سب عائشة قتل ، قيل له : لم يقتل في عائشة ؟ قال : لأن الله تعالى يقول في عائشة رضي الله عنها {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين }، قال مالك فمن رماها فقد خالف القرآن ، و من خالف القرآن قتل . قال أبو محمد رحمه الله : قول مالك هانا صحيح و هي ردة تامة و تكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها. المحلي ( 13/504) .
و حكى أبو الحسن الصقلي أن القاضي أبا بكر الطيب قال : إن الله تعالى إذا ذكر في القرآن ما نسبه إليه المشركون سبح نفسه لنفسه ، كقوله {و قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه }، و ذكر تعالى ما نسبه المنافقون إلى عائشة فقال {ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك } ، سبح نفسه في تبرئتها من السوء كما سبح نفسه في تبرئته من السوء ، و هذا يشهد لقول مالك في قتل من سب عائشة ، ومعنى هذا و الله أعلم أن الله لما عظم سبها كما عظم سبه وكان سبها سباً لنبيه ، و قرن سب نبيه وأذاه بأذاه تعالى ، وكان حكم مؤذيه تعالى القتل ، كان مؤذي نبيه كذلك.
الشفاء للقاضي عياض ( 2/267) .
و قال أبو بكر بن العربي : إن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله ، فكل من سبها بما برأها الله منه فهو مكذب لله ، و من كذب الله فهو كافر ، فهذا طريق قول مالك ، و هي سبيل لائحة لأهل البصائر ولو أن رجلاً سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب . أحكام القرآن ( 3/1356)
قال أبو السائب القاضي : كنت يوماً بحضرة الحسن بن زيد الدعي بطبرستان ، و كان بحضرته رجل فذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة ، فقال : يا غلام اضرب عنقه ، فقال له العلويون : هذا رجل من شيعتنا ، فقال : معاذ الله إن هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى { الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات ، والطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات ، أولئك مبرءون مما يقولون ، لهم مغفرة و رزق كريم } ، فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث ، فهو كافر فاضربوا عنقه ، فضربوا عنقه و أنا حاضر .
و روي عن محمد بن زيد أخي الحسن بن زيد أنه قدم عليه رجل من العراق فذكر عائشة بسوء فقام إليه بعمود فضرب دماغه فقتله ، فقيل له : هذا من شيعتنا و من بني الآباء ، فقلا : هذا سمى جدي قرنان – أي من لا غيرة له - ، و من سمى جدي قرنان استحق القتل فقتلته .(/8)
و قال القاضي أبو يعلى : من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف ، و قد حكي الإجماع على هذا غير واحد ، و صرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم .
و قال أبي موسى – و هو عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن جعفر الشريف الهاشمي إمام الحنابلة ببغداد في عصره - : و من رمى عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فقد مرق من الدين ولم ينعقد له نكاح على مسلمة . الصارم المسلول لابن تيمية ص 566
و قال ابن قدامة المقدسي : ومن السنة الترضي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء ، أفضلهم خديجة بن خويلد وعائشة الصديقة بنت الصديق التي برأها الله في كتابه ، زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا و الآخرة ، فمن قذفها بما برأها الله منه فقد كفر بالله العظيم . لمعة الاعتقاد ص 29
وقال الإمام النووي في صدد تعداده الفوائد التي اشتمل عليها حديث الإفك : الحادية و الأربعون : براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك و هي براءة قطعية بنص القرآن العزيز ، فلو تشكك فيها إنسان والعياذ بالله صار كافراً مرتداً بإجماع المسلمين ، قال ابن عباس و غيره : لم تزن امرأة نبي من الأنبياء صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين ، و هذا إكرام من الله تعالى لهم .
شرح النووي ( 18/117)
و قد حكى العلامة ابن القيم اتفاق الأمة على كفر قاذف عائشة رضي الله عنها ، حيث قال : واتفقت الأمة على كفر قاذفها . زاد المعاد لابن القيم ( 1/106)
و قال الحافظ ابن كثير عند قوله تعالى {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة و لهم عذاب عظيم } ، قال : أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية ، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن . تفسيره ( 5/76)
و قال بدر الدين الزركشي : من قذفها فقد كفر لتصريح القرآن الكريم ببراءتها . ص 45
و قال السيوطي عند آيات سورة النور التي نزلت في براءة عائشة رضي الله عنها من قوله تعالى { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم .. الآيات } ، قال : نزلت في براءة عائشة فيما قذفت به ، فاستدل به الفقهاء على أن قاذفها يقتل لتكذيبه لنص القرآن ، قال العلماء : قذف عائشة كفر لأن الله سبح نفسه عند ذكره فقال سبحانك هذا بهتان عظيم ، كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجة والولد . الاكليل في استنباط التنزيل ص 190
ــــــــــــ
وبهذا يعلم أن من يقذف عائشة رضي الله عنها أو يكفرها فهو كافر مكذب للقرآن ، وكذا حكم من يقذف أي واحدة من أمهات المؤمنين
و قد قال كثير من أهل العلم أن بقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لهن حكم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، أما عائشة فقد أجمعوا على كفر من رماها لانه تكذيب بالقرآن .
قال أبو محمد ابن حزم بعد أن ذكر أن رمي عائشة رضي الله عنها ردة تامة و تكذيب للرب – جلا وعلا – في قطعه ببراءتها ، قال : و كذلك القول في سائر أمهات المؤمنين ولا فرق ، لأن الله تعالى يقول { و الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ، أولئك مبرؤون مما يقولون } ، فكلهن مبرآت من قول إفك والحمد لله رب العالمين .
**************
الخلاصة :
ــــــــ
أن هذه المجلة ( المنبر ) ليست سوى دسيسة خبيثة على الاسلام وأهله ، فهي تشتمل على كل العقائد الكفيلة بتقويض دين الاسلام ، من الطعن في القرآن ، وتاريخ الاسلام ، والخلفاء الراشدين ، والصحابة الكرام ، وبيت النبوة وأمهات المؤمنين ، وهدفها واضح ، وهو ضرب الامة الاسلامية في قوام دينها ، وتشكيكها في كل الطرق التي تلقى بها المسلمون دينهم .
وقد ظهرت فجأة في ظروف مريبة ، وجاءت في وقت تعاني فيه الامة من خطط ومؤامرات من الاعداء ، تهدف إلى زعزعة ثقافتها ، وطمس هويتها ، ونشطت هذه المجلة نشاطا غريبا في إثارة قضايالامصلحة من إثارتها سوى إشعال نار الفتنة ، والهجوم على الاسلام ، بطريقة لم يجرؤ عليها أحد ، وهي مع ذلك معتمدة ـ فيما يبدو ـ على دعم خفي مريب ، يثير كثير من التساؤلات ، بم ، وكيف يفسر السكوت على انتشارها؟
ولاريب أن منعها ، وعقوبة القائمين عليها ، من أعظم الواجبات في الدين ، وتركهاتفتري على دين المسلمين ، مجلبة لكل فتنة ، ومدعاة لكل مصيبة ومحنة ، والسعي لايقافها من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن يخذل دين الله تعالى ، يخذله ويبتليه بالذل ، ومن ينصر دين الله ينصره ويعزه ، وحسبنا الله تعالى ونعم والوكيل نعم المولى ونعم النصير ، اللهم منزل الكتاب ، مجري السحاب ، هازم الاحزاب، رب النبيين الاخيار ، وحوارييهم الابرار ، عليك بأعداء الدين ، خذهم أخذ عزيز مقتدر .
تمت رسالة النصر المظفر في الرد على السبئيين ومجلتهم ( المنبر ) .والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
*****************
ملحق في بيان حكم تمثيل الصحابة :
ــــــــــــــــــــــ(/9)
فتوى هيئة كبار العلماء في تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قررت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية منع تمثيل الصحابة رضي الله عنهم والنبي -صلى الله عليه وسلم- من باب أولى وذلك بقرارها رقم 13 وتاريخ 16 / 4 / 1393 هـ الآتي نصه: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن هيئة كبار العلماء في دورتها الثالثة المنعقدة فيما بين 1 / 4 / 1393 هـ و 17 / 4 / 1393 هـ قد اطلعت على خطاب المقام السامي رقم 44 / 93 وتاريخ 1 / 1 / 1393 هـ الموجه إلى الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد والذي جاء فيه ما نصه: نبعث إليكم مع الرسالة الواردة إلينا من طلال بن الشيخ محمود البني المكي مدير عام شركة لونا فيلم من بيروت بشأن اعتزام الشركة عمل فيلم سينمائي يصور حياة (بلال) مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نرغب إليكم بعد الاطلاع عليها عرض الموضوع على كبار العلماء لإبداء رأيهم فيه وإخبارنا بالنتيجة، وبعد اطلاع الهيئة على خطاب المقام السامي وما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ذلك وتداول الرأي قررت ما يلي:-
1- إن الله سبحانه أثنى على الصحابة وبين منزلتهم العالية ومكانتهم الرفيعة وفي إخراج حياة أي واحد منهم على شكل مسرحية أو فيلم سينمائي منافاة لهذا الثناء الذي أثنى الله عليهم به، وتنزيل لهم من المكانة العالية التي جعلها الله لهم وأكرمهم بها.
2- إن تمثيل أي واحد منهم سيكون موضعا للسخرية والاستهزاء ويتولاه أناس غالبا ليس للصلاح والتقوى مكان في حياتهم العامة والأخلاق الإسلامية مع ما يقصده أرباب المسارح من جعل ذلك وسيلة إلى الكسب المادي وأنه مهما حصل من التحفظ فسيشتمل على الكذب والغيبة كما يضع تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم في أنفس الناس وضعا مزريا فتتزعزع الثقة بأصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتخف الهيبة التي في نفوس المسلمين من المشاهدين وينفتح باب التشكيك على المسلمين في دينهم والجدل والمناقشة في أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويتضمن ضرورة أن يقف أحد الممثلين موقف أبي جهل وأمثاله ويجري على لسانه سب بلال وسب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما جاء به الإسلام ولا شك أن هذا منكر، كما يتخذ هدفا لبلبة أفكار المسلمين نحو عقيدتهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم محمد -صلى الله عليه وسلم-.
3- ما يقال من وجود مصلحة وهي إظهار مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب مع التحري للحقيقة وضبط السيرة وعدم الإخلال بشيء من ذلك بوجه من الوجوه رغبة في العبرة والاتعاظ فهذا مجرد فرض وتقدير، فإن من عرف حال الممثلين وما يهدفون إليه عرف أن هذا النوع من التمثيل يأباه واقع الممثلين ورواد التمثيل وما هو شأنهم في حياتهم وأعمالهم.
4- من القواعد المقررة في الشريعة أن ما كان مفسدة محضة أو راجحة فإنه محرم، وتمثيل الصحابة على تقدير وجود مصلحة فيه فمفسدته راجحة فرعاية للمصلحة وسدا للذريعة وحفاظا على كرامة أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- منع ذلك: وقد لفت نظر الهيئة ما قاله طلال من أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- وخلفاءه الراشدين هم أرفع من أن يظهروا صورة أو صوتا في هذا الفيلم، لفت نظرهم إلى أن جرأة أرباب المسارح على تصوير بلال وأمثاله من الصحابة إنما كان لضعف مكانتهم ونزول درجتهم في الأفضلية عن الخلفاء الأربعة، فليس لهم من الحصانة والوجاهة ما يمنع من تمثيلهم وتعريضهم للسخرية والاستهزاء في نظرهم فهذا غير صحيح؛ لأن لكل صحابي فضلا يخصه وهم مشتركون جميعا في فضل الصحبة وإن كانوا متفاوتين في منازلهم عند الله جل وعلا وهذا القدر المشترك بينهم وهو فضل الصحبة يمنع من الاستهانة بهم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. انتهى.(/10)
ولكل ما تقدم وما سوف يفضي إليه الإقدام على هذا الأمر من الاستهانة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وبأصحابه رضي الله عنهم وتعريض سيرته وأعماله وسيرة أصحابه وأعمالهم للتلاعب والامتهان من قبل الممثلين وتجار السينما يتصرفون فيها كيف شاءوا ويبرزونها على الصفة التي تلائمهم بغية التكسب والاتجار من وراء ذلك؛ ولما في هذا العمل الخطير من تعريض النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم للاستهانة والسخرية وجرح مشاعر المسلمين فإني أكرر استنكاري بشدة لإخراج الفيلم المذكور, وأطلب من جميع المسلمين في كافة الأقطار استنكارهم لذلك كما أرجو من جميع الحكومات والمسئولين بذل جهودهم لوقف إخراجه. وفي إبراز سيرته -صلى الله عليه وسلم- وسيرة أصحابه رضي الله عنهم بالطرق التي درج عليها المسلمون من عهده -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا ما يكفي ويشفي ويغني عن إخراج هذا الفيلم, وأسأل الله عز وجل أن يوفق المسلمين جميعا وحكوماتهم لكل ما فيه صلاح المسلمين في العاجل والآجل ولكل ما فيه تعظيم نبيهم -صلى الله عليه وسلم- التعظيم الشرعي اللائق به وبأصحابه الكرام، والحذر من كل ما يفضي إلى التنقص لهم أو السخرية منهم أو يعرضهم لذلك إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
حامد بن عبدالله العلي
غرة ذي الحجة من عام 1423هـ
www.h-alali.net(/11)
النصر المظفر في الرد على السبئيين ومجلتهم ( المنبر)
بقلم حامد بن عبد الله العلي
***مقدمة :
ــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى أصحابه الغر الميامين ، الذين زكاهم الله تعالى في كتابه الكريم ، وجعل مبغضهم من الكافرين ، وعلى آله ، عترته الطاهرة ، الذين تبرؤا ممن ينتحلهم بالباطل ، ويكذب عليهم في المحافل ، وينسبهم كذبا وزورا إلى مشاقة الصديق والفاروق وذي النورين أولى الفضائل .
وبعد ،،،،
فقد اطلعت على صحيفة شبكة الحوادث ، العدد 121 وما قبله ، وذلك بعدما كثرت شكوى الناس ، مما نقلته هذه الصحيفة عن مجلة تدعى ( المنبر) ، من أقوال تقشعر لها جلود المؤمنين ، ولا يفرح بها إلا أعداء الإسلام من الكافرين والمنافقين .
كما كثرت الشكاوى على الطاعن على المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ، وأنه هو الذي يقف وراء هذه المجلة ، وأنه قد تجرأ على أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، بالكذب والافتراء ، وقول الباطل ، في محفل عام في الدولة ، مما يستوجب أشد العقوبة والنكال ، غير أنه لم ينل أي عقوبة على ما فعل !!
وجاءتني رسائل كثيرة ، لا أحصيها ، تطلب التحرك ، لوضع حد لهذه الفوضى ، وقال قائل منهم : أيعقل أن يصل الأمر أن تباع أشرطة ( فيديو) تصور الصديقة مريم عليها السلام ، ومسرحيات أخرى ، وأفلام ، صورت في إيران ، تشتمل على الطعن في الصحابة ، وتصوير بعضهم ، جهارا نهارا ، وتباع في الكويت .
ثم ينشر فيها أقوال هي الكفر البواح ، ويتطاول على مقام أمهات المؤمنين ، ويطعن في الصحابة ، ويمر ذلك كله مرورا بلا نكير ، كأن شيئا لم يكن ، بينما كان قبل أربع سنوات ، أن علق أحد الشباب المتحمسين ، لوحة مكتوب عليها ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) منددا بما يجري في هلا فبراير من المنكرات ، فأقيمت الدنيا عليه ولم تقعد ، وشهروا فيه في كل مكان ، ولاحقوه على كل منبر ، فسبحان الله ، أيشهر فيمن يعلق آية من القرآن في تلك الأيام ، بينما يسكت اليوم عن كل هذه العظائم والآثام .
أعز عليكم ( هلا فبراير ) ومنكراته إلى هذه الدرجة ، وهان عليكم دين الله تعالى ، فلم يستحق حتى أن يصدر ـ في أقل تقديرـ تصريح واحد من وزارة الإعلام ، يطمئن الناس أن يد العدالة ستطول هؤلاء المتهورين السبأئية ، الذين تقيئوا كل هذا القيح الأسود النتن ، ( وما تخفي صدورهم أكبر ) ، متطاولين على كل ثوابت الأمة الإسلامية ، مشككين في القرآن ، طاعنين في بيت النبوة ، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
*************************
هذا وقد تضمنت هذه المجلة السبأية ( مجلة المنبر ) افتراءات كثيرة ، لامجال لحصرها هنا ، وترجع في الجملة إلى :
1ـ التشكيك في القرآن الكريم ، ونفي أنه محفوظ كل تحريف .
2ـ الشرك الأكبر في دعاء غير الله تعالى وتوجيه العبادة إلى سواه .
3ـ ترويج بيع (صكوك الغفران) تحت ذريعة الشفاعة !! .
4ـ الطعن في الصحابة .
5ـ وأمهات المؤمنين .
وقبل الشروع في الرد عليهم نورد ملحوظات عامة :
1ـ يلاحظ أن هذه المجلة تركز على هدم ثلاثة أشياء لا يقوم دين الإسلام إلا بها :
الأول : القرآن العظيم .
الثاني : الصحابة الذين نقلوا الدين ، ومن العجائب أنهم يقولون نحن لا نطعن في الصحابة الذين ماتوا في زمن النبوة ، بل الذين بقوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، والهدف واضح ، وهو أن الذين بقوا هم الذين نقلوا دينه من بعده ، فالطعن فيهم طعن في القرآن وفي السنة وفي الدين كله .
الثالث : تشويه صورة بيت النبوة نفسه ، بالطعن في أمهات المؤمنين .
2ـ أن هجوم هذه المجلة على ثوابت الإسلام ، انتشر بقوة في الوقت الذي تقع فيه منطقة الخليج تحت مخطط الهيمنة الغربية ، والمؤامرة الصهيونية ، فالعجب من هذا التساوق المريب !!!!.
3ـ أن الهجوم الأعظم إنما هو على أبطال الإسلام ، وتاريخ الإنجازات العظيمة للمسلمين ، وفترة الخلافة التي كثرة فيها الفتوح ، واتسعت رقعة الإسلام !!!
مما يدل على أن الهجوم لا يأتي اعتباطيا ، بل يُقطع أن ثمة مؤامرة ما ، تريد إسقاط هذا الدين بتحطيم كل مقوماته وثوابته الفكرية ، والتاريخية ، ورموزه ، في هذه الحقبة بالذات ، في ظل هيمنة القطب الواحد على النظام العالمي ، وسعيه للقضاء على الإسلام ، بالاستعانة بأعداء من المنافقين من داخل حصون الإسلام نفسه !!!
ولنبدأ الآن بالرد على ما ورد في مجلة (المنبر ) :
***************************
أما التشكيك في القرآن :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقد نقلت شبكة الحوادث عن المنبر قولها ( كان أعداء علي عليه السلام كثيرين ، ومبغضوه أكثر ، وكان من السهل التأثير على كتّاب الوحي ، والحفظه ، لتحريف القرآن ، وحذف الآيات التي ذكر فيها علي ، وهكذا صار القرآن محرفا ، والأمة كقطيع الإبل السائبة ) المنبر عدد 18
وقد اتفق العلماء على أن المشكك في حفظ القرآن كافر ، لانه :(/1)
أولا : مكذب للقرآن في قوله تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) .
ثانيا : مبطل لآية الإسلام الخالدة التي تحدى الله تعالى بها الإنس والجن إلى قيام الساعة قال تعالى ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ، ومعلوم أن كل نبي آتاه الله آية مؤقتة بزمنه ، لان أحدا منهم لم تكن رسالته خالدة ، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد جعل الله تعالى رسالته باقية ، فكانت آيته العظيمة وهي القرآن باقية ببقاء رسالته ، ولهذا فمن يشكك في حفظ الله للقرآن ، ويدعي أن الصحابة غيروه ، وبدلوه ، وعبثت به الأيدي ، فهو مبطل لآية الإسلام ، وكفى بهذا كفرا مبينا .
ثالثا : أن إدعاء إمكان تحريف القرآن ، فضلا عن القول بتحريفه ، إبطال للشريعة كلها ، لان كل آية سيحتمل وقوع التحريف فيها على هذا القول ، فتذهب فائدة الانتفاع به ، وتبطل الشريعة ، وكفى بهذا شركا وافتراءا على دين الله .
رابعا : لم يشكك في حفظ القرآن ، إلا المستشرقون بغية هدم الدين ، وهؤلاء الضالون السبئية ساروا معهم في هذا الكفر المبين ، وبهذا يعلم أن الهدف واحد وهو القضاء على دين الإسلام ، بالتشكيك بأعظم ما فيه وهو كتا ب الله تعالى .
أما الشرك في عبادة الله تعالى :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقد نقلت مجلة شبكة الحوادث ما يلي :
1ـ (الزوجة الهندوسية نادت يا حسين الشيعة ، فظهر لها جسم نوراني ، وأعاد الرأس المقطوعة إلى مكانها ، فوقف الزوج حيا ، وانتقم من القتلة المنبر عدد 24 )
2ـ (الام تعلقت بضريح باب الحوائج للعباس عليه السلام ، فأعاد الحسين عليه السلام ولدها إلى الحياة المنبر عدد 23 ) .
وهذا كله من الشرك في عباده الله تعالى ، لان الدعاء عبادة ، وفي الحديث ( الدعاء هو العبادة ) والشرك هو توجيه العبادة لغير الله تعالى ، كما قال تعالى ( قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا ) وقال ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ) وقال ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) وقال ( وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) ، وقال ( إياك نعبد وإياك نستعين ) , وقال ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) والصلاة إنما هي دعاء من أولها إلى آخرها ، وقال تعالى على لسان ابراهيم عليه السلام إمام الموحدين ( الذي خلقني فهو يهدين ، والذي هو هو يطعمني ويسقين ، وإذا مرضت فهو يشفين ، والذي يميتني ثم يحيين ، والذي اطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) .
وفي الحديث الصحيح ( إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ) ،والنصوص في هذا الباب كثيرة ، وهي دالة بلا ريب ، أن كل من يوجه دعاءه لغير الله تعالى ، فيما لايجوز سؤاله من غير الله تعالى ، فهو مشرك ، لانه عابد لذلك الغير مع الله تعالى .
ومن هؤلاء المشركين ، الداعين لغير الله تعالى ، من يقول : نحن لا ندعوهم لاعتقادنا أنهم يخلقون ويرزقون ويحيون ويميتون ، وإنما نستشفع بهم إلى الله تعالى ، ومع أنهم يكذبون في هذا الزعم ، بل هم يعتقدون أنهم يخلقون ويرزوقون ويحيون ويميتون ، ويعلمون الغيوب ، وهذا شرك في الربوبية مع ما فيه من شرك في الالوهية ، ولكن ـ على سبيل التنزل ـ نقول لهم حتى لو زعمتم أنكم إنما تدعونهم من دون الله تعالى ، بقصد الاستشفاع بهم إلى الله ، فهذا لاينفعكم ، بل هو أيضا شرك في عبادة الله تعالى .
بل هذا الذي تقولونه ، هو مقصد الكفار الأولين ومرادهم ، بعينه لايعدوه قيد أنملة ، فلم يكن مراد كفار قريش في شركهم وعبادتهم غير الله تعالى ، أن آلهتهم تخلق أو ترزق، أو تنفع أو تضر بنفسها، فإن ذلك يبطله ما ذكره الله عنهم في القرآن، وأنهم أرادوا شفاعتهم وجاههم، وتقريبهم إلى الله زلفى، كما قال سبحانه وتعالى في سورة يونس عليه الصلاة والسلام: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ فرد الله عليهم ذلك بقوله: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الارْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ، فأبان سبحانه أنه لا يعلم في السموات ولا في الأرض شفيعا عنده على الوجه الذي يقصده المشركون، وما لا يعلم الله وجوده لا وجود له؛ لأنه سبحانه لا يخفى عليه شيء، وقال تعالى في سورة الزمر: ( تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) .(/2)
فبين سبحانه في هذه المواضع ، أن العبادة لاتكون إلا له وحده، وأنه يجب على العباد إخلاصها له جل وعلا؛ لأن أمره للنبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص العبادة له، أمر للجميع .. ومعنى الدين هنا هو العبادة، والعبادة هي اسم يجمع كل ما يتقرب به إلى الله من الاعمال والاقوال الظاهرة والباطنة ، ويدخل فيها الدعاء والاستغاثة، والخوف، والرجاء والذبح والنذر.
كما يدخل فيها الصلاة والصوم وغير ذلك، مما أمر الله به ورسوله، ثم قال عز وجل بعد ذلك: ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) ، أي يقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى فرد الله بقوله سبحانه: ( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) ، فأوضح سبحانه في هذه الآية الكريمة: أن الكفار ما عبدوا الأولياء من دونه إلا ليقربوهم إلى الله زلفى.
والمقصود أن هذا هو زعم الكفار المشركين بالله تعالى منذ القدم ، يزعمون أنهم يعبدون ما يعبدونه من دون الله ، ليقربهم إلى الله زلفى ، ولكن الله تعالى ، قد أبطل ذلك بقوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ 9 ، فأوضح سبحانه كذبهم في زعمهم أن آلهتهم تقربهم إلى الله زلفى، وكفرهم بما صرفوا لها من العبادة .
وبذلك يتضح جليا أن الكفار الأولين إنما كان كفرهم وشركهم ، باتخاذهم المعبودات من دون الله ، شفعاء بينهم وبين الله ، كما يشفع المقربون عند الملوك ، فقاسوه عز وجل على الملوك والزعماء، وقالوا: كما أن من له حاجة إلى الملوك والرؤساء يتشفع إليه بالخواص ، والوزراء ، والمقربين ، فهكذا نحن نتقرب إلى الله بعبادة أنبيائه وأوليائه، وهذا هو الكفر بعينه ، والشرك باسمه ورسمه .
لأنه سبحانه لا شبيه له، ولا يقاس بخلقه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه في الشفاعة، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد، وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وهو أرحم الراحمين، لا يخشى أحدا ولا يخافه ، ولايتوقف عطاؤه على إذن آذن ، ولا مكره له سبحانه ، يحمله أن يعطي مالايريد أن يعطي ، او ما لايحب أن يفعل ، ولهذا صح في الحديث ( إذا دعا أحدكم ربه فليعزم المسألة ولايقول اللهم أغفر إن شئت ، فإن الله تعالى لامكره له ) .
لأنه سبحانه هو القاهر فوق عباده، والمتصرف فيهم كيف يشاء، بخلاف الملوك والزعماء فإنهم لا يقدرون على شيء ، فلذلك يحتاجون إلى من يعينهم على ما قد يعجزون عنه، من وزرائهم وخواصهم وجنودهم، كما يحتاجون إلى تبليغهم حاجات من لا يعلمون حاجته، فيحتاجون إلى من يستعطفهم ويسترضيهم من وزرائهم وخواصهم .
أما الله تعالى فهو سبحانه غني عن جميع خلقه، وهو أرحم بهم من أمهاتهم، وهو الحكم العدل، يضع الأشياء في مواضعها، على مقتضى حكمته ، وعلمه ، وقدرته، فلا يجوز أن يقاس بخلقه .
ولهذا أوضح سبحانه في كتابه: أن المشركين كانوا يعتقدون في الله تعالى ، أنه هو الخالق الرازق ، وأنه هو الذي يجيب المضطر، ويكشف السوء، ويحيي ويميت، إلى غير ذلك من أفعاله سبحانه .
وإنما الخصومة بين المشركين وبين الرسل في إخلاص العبادة لله وحده، كما قال عز وجل: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وقال تعالى: ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالارْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالابْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الامْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وكلها تدل على أن النزاع بين الرسل وبين الأمم، إنما هو في إخلاص العبادة لله وحده، كقوله سبحانه: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ، وما جاء في معناها من الآيات .
وقد بين سبحانه في مواضع كثيرة من كتابه الكريم شأن الشفاعة، فقال تعالى في سورة البقرة: ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) ، وقال في سورة النجم: ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ) .
وقال في سورة الأنبياء في وصف الملائكة: ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) ، وأخبر عز وجل أنه لا يرضى من عباده الكفر، وإنما يرضى منهم الشكر، والشكر هو توحيده والعمل بطاعته، فقال تعالى في سورة الزمر: ( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) .(/3)
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" أو قال "من نفسه"
وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا .
*********************************
وأما بيع صكوك الغفران :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقد نقلت شبكة الحوادث ما يلي :
( شهادة توثيقية صادرة باسم هيئة خدام المهدي ، مدفوعة الثمن ، توضع في كفن المتوفى ، فتكون سببا في نيل الشفاعة يوم القيامة ، والثمن من 15ـ 20 دينارا )
فهذه الخرافة ، ندعها بلا تعليق ، وإذا بلغ الامر بالانحطاط بالعقول الانسانية إلى هذه الدرجة ، فالرد على مثل هذا يكون ضربا من العبث الذي لامعنى له ، لان الخطاب لايكون فيه للعقلاء اصلا، فلا فائدة فيه إذن .
*************************
وأما الطعن في الصحابة :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقد نقلت مجلة الحوادث عدد 120 ، وما قبله ، نقولا كثيرة لا تحصى في الطعن في الصحابة ، وقد وصل الأمر إلى اتهام الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه ، بانه مصاب الشذوذ الجنسي ، وكل من يدافع عنه من علماء المسلمين مثله !! كما نقلت شبكة الحوادث عن مجلة المنبر السبئية.
وسأنقل فيما يلي ، نقولا من أهل العلم تبين ، منزلة الصحابة رضي الله عنهم ، وحكم من يطعن فيهم .
فضل الصحابة :
ــــــــ
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله : ( فإن الله تعالى أثنى على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من السابقين والتابعين لهم بإحسان . وأخبر أنه رضي عنهم ورضوا عنه ؛ وذكرهم في آيات من كتابه .
مثل قوله تعالى { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } .
وقال تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا } .
وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه } .
وقد اتفق أهل السنة والجماعة على ما تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما واتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة عثمان بعد عمر رضي الله عنهما .
وقال صلى الله عليه وسلم { عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة } .
وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه آخر الخلفاء الراشدين المهديين . وقد اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا : أبو بكر ثم عمر ؛ ثم عثمان ؛ ثم علي رضي الله عنهم . ودلائل ذلك وفضائل الصحابة كثير ؛ ليس هذا موضعه .
وكذلك نؤمن " بالإمساك عما شجر بينهم " ونعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب وهم كانوا مجتهدين ؛ إما مصيبين لهم أجران ؛ أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم ؛ وما كان لهم من السيئات - وقد سبق لهم من الله الحسنى - فإن الله يغفرها لهم : إما بتوبة أو بحسنات ماحية أو مصائب مكفرة ؛ أو غير ذلك . فإنهم خير قرون هذه الأمة كما قال صلى الله عليه وسلم { خير القرون قرني الذي بعثت فيهم ؛ ثم الذين يلونهم } وهذه خير أمة أخرجت للناس . ونعلم مع ذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان أفضل وأقرب إلى الحق من معاوية وممن قاتله معه لما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق } .
وفي هذا الحديث دليل على أنه مع كل طائفة حق ؛ وأن عليا رضي الله عنه أقرب إلى الحق . وأما الذين قعدوا عن القتال في الفتنة ؛ كسعد بن أبي وقاص وابن عمر وغيرهما رضي الله عنهم فاتبعوا النصوص التي سمعوها في ذلك عن القتال في الفتنة وعلى ذلك أكثر أهل الحديث .(/4)
وكذلك " آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم " لهم من الحقوق ما يجب رعايتها فإن الله جعل لهم حقا في الخمس والفيء وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لنا : { قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد . وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد } . وآل محمد هم الذين حرمت عليهم الصدقة هكذا قال الشافعي وأحمد بن حنبل ؛ وغيرهما من العلماء - رحمهم الله - فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد } .
وقد قال الله تعالى في كتابه : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } وحرم الله عليهم الصدقة لأنها أوساخ الناس وقد قال بعض السلف : حب أبي بكر وعمر إيمان ؛ وبغضهما نفاق . وفي المسانيد والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس - لما شكا إليه جفوة قوم لهم قال : { والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي } . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله اصطفى بني إسماعيل ؛ واصطفى بني كنانة من بني إسماعيل ؛ واصطفى قريشا من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش ؛ واصطفاني من بني هاشم } .
انتهى كلام شيخ الاسلام ابن تيمية .
ــــــــــــــــــــــــــــ
قلت : ومعلوم أن الطعن في الصحابة الكرام ، هو اتهام لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه بالفشل في رسالته ، وأنه لم يقدر أن يؤسس له اتباعا مخلصين ، فكان ـ على زعم هؤلاء المنافقين الذين يطعنون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، الذين هم خاصة أتباعه الذين لايفارقونه حضرا ولا سفرا ، وأصهاره ، ووزراءه ،كانوا لايؤمنون بما يقول ، بل يضمرون النفاق والخيانة له طيلة وقت صحبتهم له .
ثم إنه بعد موته ، خانوه في أعظم أمور الدين ـ ويزعم هؤلاء الذين يطعنون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن الامامة هي أعظم أمور الدين ـ خانوه في هذا الامر العظيم ، وبذلك يكون الصحابة رضي الله عنهم ، قد أثبتوا للناس جميعا ـ كما هو لازم قول هؤلاء ـ أن النبي الذي اصطفاه الله على البشر أجمعين ، كان مثالا لاكبر فشل في التاريخ ، وكان دينه الذي فضله الله تعالى على كل الاديان ، كان أسوأ الاديان حظا من التوفيق الالهي ، فلم يحمله بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا الخونة ، ولم ينشره في الارض إلا أهل النفاق والريب فيه ، وأن القرآن الذي هو أعظم الكتب ، صار بيد أشد الناس خيانة في التاريخ ؟؟!!
فتأمل ما الذي يؤدي إليه الطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، من الشناعات التي لايقرها شرع ولا عقل ، والله ثم والله ، لايطعن فيهم إلا حاقد على هذا الدين ، ساع في إفساده وإبطاله .
والطعن في الصحابة نفاق ، كما قال صلى الله عليه وسلم : رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يحب الأنصار إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق, فمن أحب الأنصار أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله)) ، وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم قد أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) ،
و الطعن في الصحابة عموماً طعن في القرآن وتكذيب للآيات من سورة الحشر فقد أثنى الله عز وجل علي المهاجرين من أصحاب نبيه بقوله للفقراء والمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون )
وأثنى الله تعالى عن الأنصار من أصحاب نبيه بقوله: والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) ، الدار والإيمان اسمان من أسماء هذه المدينة المباركة .
ثم وصف الله تعالى حال المؤمنين من بعدهم المؤمنون الذين لزموا الجماعة وتمسكوا بالسنة المؤمنون الذين أعظم ما في قلوبهم حب الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين والدعاء للصحابة والاستغفار لهم قال تعالى: والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا انك رؤوف رحيم [الحشر:10]
*****************************
رسالة مفيدة جدا في فضل الصديق
ــــــــــــــــــ(/5)
وننشر هنا رسالة لاتخلو من فائدة ، تتضمن الرد المفصل على من فضل عليا رضي الله عنه على الصديق ، ونحن هنا لا نثبت صحة الاسناد ، ولا كل ما ورد في الرسالة من مضامين ، على أنها مسلمة صحيحة ، وإنما نحيل القارىء على الاسناد ، ونذكرها لما فيها من الفوائد الجليلة الدالة على فضل الصحابة رضي الله عنهم، ولما فيها من الجدل الحسن القاطع لبعض شبه السبئيين ، فهذا هو مقصودنا :
قال محقق الرسالة الشيخ علي بن عبدالعزيز العلي :
هذه مناظرة بين الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه مع أحد الرافضة وتوجد منها نسختان: النسخة الأولى نسخة تركيا في خزانة شهيد علي باشا باستنبول ضمن مجموع رقمه 2764 حوى عدة رسائل في العقيدة والحديث هذه الرسالة الحادية عشرة منه. النسخة الثانية نسخة الظاهرية وقد وقعت ضمن مجاميعها في المجموع رقم 111 وهي الرسالة التاسعة عشر منه.
الناشر : دار الوطن - السعودية - الرياض هاتف 4644659-4626124.
نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
رب اعن
حدثنا الشيخ الفقيه أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن سعيد الأنصاري البخاري - قراءة عليه بمكة حرسها الله سنة خمس وثلاثين وأربعمائة قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن مسافر قال أخبرنا أبو بكر بن خلف بن عمر بن خلف الهمذاني قال حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن أزمة قال: حدثنا أبو الحسن بن علي الطنافسي قال : حدثنا خلف بن محمد القطواني قال : حدثنا علي بن صالح قال : جاء رجل إلى جعفر بن محمد الصادق كرم الله وجهه ، فقال :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فرد عليه السلام فقال الرجل :
1- يابن رسول الله من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
فقال جعفر الصادق رحمة الله عليه : أبو بكر الصديق رضي الله عنه .
2- قال : وما الحجة في ذلك ؟
قال : قوله عز وجل (( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن 'ن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها )){التوبة 40} فمن يكون أفضل من اثنين الله ثالثهما ؟ وهل يكون أحد أفضل من أبي بكر إلا النبي صلى الله عليه وسلم ؟!
3- قال له الرجل : فإن علي بن أبي طالب عليه السلام بات على فراش النبي صلى الله عليه وسلم غير جزع ولا فزع .
فقال له جعفر : وكذلك أبو بكر كان مع النبي صلى الله عليه وسلم غير جزع ولا فزع .
4- قال له الرحل : فإن الله تعالى يقول بخلاف ما تقول !.
قال له جعفر : وما قال ؟
قال : قال الله تعالى (( إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا )) فلم يكن ذلك الجزع خوفاً ؟ (في نسخة الظاهرية " أفلم يكن.."
قال له جعفر : لا ! لأن الحزن غير الجزع والفزع ، كان حزن أبي بكر أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يدان بدين الله فكان حزن على دين الله وعلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن حزنه على نفسه كيف وقد ألسعته أكثر من مئة حريش فما قال : حس ولا ناف!
5- قال الرجل : فإن الله تعالى قال (( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون )){المائدة 55} نزل في علي بن أبي طالب حين تصدق بخاتمه وهو راكع فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((الحمد لله الذي جعلها في وفي أهل بيتي ))
فقال له جعفر : الآية التي قبلها في السورة أعظم منها ، قال الله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه )){المائدة 54} وكان الارتداد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ارتدت العرب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واجتمعت الكفار بنهاوند وقالوا : الرجل الذين كانوا يتنصرون به - يعنون النبي - قد مات ، ، فقال : لو منعوني عقالا مما كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ولو اجتمع علي عدد الحجر والمدر والشوك والشجر والجن ولإنس لقاتلتهم وحدي . وكانت هذه الآية أفضل لأبي بكر.
6- قال له الرجل : فإن الله تعالى قال : (( الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية)) نزلت في علي عليه السلام كان معه أربعة دنانير فأنفق ديناراً بالليل وديناراً بالنهار وديناراً سراً وديناراً علانية فنزلت فيه هذه الآية .(/6)
فقال له جعفر عليه السلام : لأبي بكر رضي الله عنه أفضل من هذه في القرآن ، قال الله تعالى (( والليل إذا يغشى )) قسم الله ، ((والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى فأما من أعطى وأتقى وصدق بالحسنى )) أبو بكر (( فسنيسره لليسرى)) أبو بكر (( وسيجنبها الأتقى )) أبو بكر (( الذي يؤتي ماله يتزكى )) أبو بكر ((وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى )) أبو بكر ، أنفق ماله على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين ألفاً حتى تجلل بالعباء ، فهبط جبريل عليه السلام فقال الله العلي الأعلى يقرئك السلام ، ويقول : اقرأ على أبي بكر مني السلام ، وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا ، أم ساخط ؟ فقال : أسخط على ربي عز وجل ؟! أنا عن ربي راض ، أنا عن ربي راض ، أنا عن ربي راض . ووعده الله أن يرضيه.
7- قال الرجل : فإن الله تعالى يقول (( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله )) { التوبة 19} نزلت في علي عليه السلام .
فقال له جعفر عليه السلام : لأبي بكر مثلها في القرآن ، قال الله تعالى (( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى )){ الحديد 10}
وكان أبو بكر أول من أنفق ماله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأول من قاتل ، وأول من جاهد . وقد جاء المشركون فضربوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى دمي ، وبلغ أبي بكر الخبر فأقبل يعدو في طرق مكة يقول : ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم ؟ فتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخذوا أبا بكر فضربوه ، حتى ما تبين أنفه من وجهه.
وكان أول من جاهد في الله ، وأول من قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول من أنفق ماله ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما نفعني مال كمال أبي بكر )).
8- قال الرجل فإن علياً لم يشرك بالله طرفة عين .
قال له جعفر : فإن الله أثنى على أبي بكر ثناءً يغني عن كل شئ ،قال الله تعالى (( والذي جاء بالصدق )) محمد صلى الله عليه وسلم ، ((وصدق به )){الزمر33} أبو بكر .
وكلهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم كذبت وقال أبو بكر : صدقت ، فنزلت فيه هذه الآية : آية التصديق خاصة ، فهو التقي النقي المرضي الرضي ، العدل المعدل الوفي .
9- قال الرجل : فإن حب علي فرض في كتاب الله ؛ قال الله تعالى (( قل لا أسألكم عليه إلا المودة في القربى ))
قال جعفر : لأبي بكر مثلها ، قال الله تعالى (( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا انك غفور رحيم )){الحشر10}
فأبو بكر هو السابق بالإيمان ، فالاستغفار له واجب ومحبته فرض وبغضه كفر .
10- قال الرجل : فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، وأبوهما خير منهما ))
قال له جعفر : لأبي بكر عند الله أفضل من ذلك ؛ حدثني أب عن جدي عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وليس عنده غيري ، إذ طلع أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( يا علي هذان سيدا كهول أهل الجنة وشبابهما -في الظاهرية شبابهم- فيما مضى من سالف الدهر في الأولين وما بقي في غابره من الآخرين ، إلا النبيين والمرسلين .لا تخبرهما يا علي ما داما حيين)) فما أخبرت به أحداً حتى ماتا.
11- قال الرجل : فأيهما أفضل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم عائشة بنت أبي بكر ؟
فقال جعفر : بسم الله الرحمن الرحيم ((يس والقرآن الحكيم )) ، (( حم والكتاب المبين ))،
فقال : أسألك أيهما أفضل فاطمة ابنة النبي صلى الله عليه وسلم أم عائشة بنت أبي بكر ، تقرأ القرآن ؟!
فقال له جعفر : عائشة بنت أبي بكر زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في الجنة ، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدة نساء أهل الجنة .
الطاعن على زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنه الله ، والباغض لابنة رسول الله خذله الله .
12- فقال الرجل : عائشة قاتلت علياً ، وهي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال به جعفر : نعم ، ويلك قال الله تعالى (( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله )) {الأحزاب 53}
13- قال له الرجل : توجد خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي في القرآن ؟
قال نعم ، وفي التوراة والإنجيل .قال الله تعالى ((وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات )) {الأنعام165}
وقال تعالى (( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض )){النمل62}
وقال تعالى ((ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم)){النور55}
14- قال الرجل : يابن رسول الله ، فأين خلافتهم في التوراة والإنجيل ؟(/7)
قال له جعفر : ((محمد رسول الله والذين معه )) أبو بكر ، ((أشداء على الكفار )) عمر بن الخطاب ، (( رحماء بينهم )) عثمان بن عفان ، ((تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً )) علي بن أبي طالب (( سيماهم في وجوههم من أثر السجود )) أصحاب محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ، (( ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل )).
قال : ما معنى في التوراة والإنجيل ؟ قال : محمد رسول الله والخلفاء من بعده أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، ثم لكزه في صدره ! ، قال : ويلك ! قال الله تعالى (( كزرع أخرج شطأه فآزره )) أبو بكر (( فأستغلظ )) عمر ((فاستوى على سوقه)) عثمان ((يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار )) علي بن أبي طالب ((وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً )) أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم ، ويلك !،
فقال الرجل : يابن رسول الله ، أيقبل الله توبتي مما كنت عليه من التفريق بين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ؟
قال : نعم ، باب التوبة مفتوح فأكثر من الاستغفار لهم .أما انك لو مت وأنت مخالفهم مت على غير فطرة الإسلام وكانت حسناتك مثل أعمال الكفار هباءً منثوراً .
فتاب الرجل ورجع عن مقالته وأناب .
تم بحمد الله وصلواته على محمد وآله وأصحابه وأزواجه وسلامه ، على يد العبد المذنب الراجي عفو الله الخائف من عقاب الله يوسف بن محمد بن يوسف الهكاري في شهر الله الأحد رجب من سنة تسع وستين وستمائة .
انتهت الرسالة .
وهذه المناظرة ، قد يكون ـ على فرض صحة الاسناد ـ وافق فيها جعفر الصادق رحمه الله ، هذا المعترض عليه ، على سبيل التنزل والجدل ، وإلا ففيها أمور في فضل الصديق وعلي رضي الله عنهما ، لادليل عليها ، فليتنبه القارىء لهذا الأمر ، مع أن فضلهما، وغيرهما من الصحابة ، ثابت بالنصوص المتواترة .
***************************
حكم من طعن في أمهات المؤمنين :
ــــــــــــــــــــ
اتفق العلماء على أن كل ما جاء في تحريم سب الصحابة من آيات قرآنية و أحاديث نبوية فإن ذلك يشمل أمهات المؤمنين بدلالة العموم ، بل هن من أولى من يدخل في دلالة العموم ، وذلك لما لهن من المنزلة العظيمة ، حتى سماهن الله تعالى ( أمهات المؤمنين ).
و قد روى أبو محمد بن حزم الظاهري بإسناده إلى هشام بن عمار قال : سمعت مالك بن أنس يقول من سب أبا بكر و عمر جلد ، و من سب عائشة قتل ، قيل له : لم يقتل في عائشة ؟ قال : لأن الله تعالى يقول في عائشة رضي الله عنها {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين }، قال مالك فمن رماها فقد خالف القرآن ، و من خالف القرآن قتل . قال أبو محمد رحمه الله : قول مالك هانا صحيح و هي ردة تامة و تكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها. المحلي ( 13/504) .
و حكى أبو الحسن الصقلي أن القاضي أبا بكر الطيب قال : إن الله تعالى إذا ذكر في القرآن ما نسبه إليه المشركون سبح نفسه لنفسه ، كقوله {و قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه }، و ذكر تعالى ما نسبه المنافقون إلى عائشة فقال {ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك } ، سبح نفسه في تبرئتها من السوء كما سبح نفسه في تبرئته من السوء ، و هذا يشهد لقول مالك في قتل من سب عائشة ، ومعنى هذا و الله أعلم أن الله لما عظم سبها كما عظم سبه وكان سبها سباً لنبيه ، و قرن سب نبيه وأذاه بأذاه تعالى ، وكان حكم مؤذيه تعالى القتل ، كان مؤذي نبيه كذلك.
الشفاء للقاضي عياض ( 2/267) .
و قال أبو بكر بن العربي : إن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله ، فكل من سبها بما برأها الله منه فهو مكذب لله ، و من كذب الله فهو كافر ، فهذا طريق قول مالك ، و هي سبيل لائحة لأهل البصائر ولو أن رجلاً سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب . أحكام القرآن ( 3/1356)
قال أبو السائب القاضي : كنت يوماً بحضرة الحسن بن زيد الدعي بطبرستان ، و كان بحضرته رجل فذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة ، فقال : يا غلام اضرب عنقه ، فقال له العلويون : هذا رجل من شيعتنا ، فقال : معاذ الله إن هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى { الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات ، والطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات ، أولئك مبرءون مما يقولون ، لهم مغفرة و رزق كريم } ، فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث ، فهو كافر فاضربوا عنقه ، فضربوا عنقه و أنا حاضر .
و روي عن محمد بن زيد أخي الحسن بن زيد أنه قدم عليه رجل من العراق فذكر عائشة بسوء فقام إليه بعمود فضرب دماغه فقتله ، فقيل له : هذا من شيعتنا و من بني الآباء ، فقلا : هذا سمى جدي قرنان – أي من لا غيرة له - ، و من سمى جدي قرنان استحق القتل فقتلته .(/8)
و قال القاضي أبو يعلى : من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف ، و قد حكي الإجماع على هذا غير واحد ، و صرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم .
و قال أبي موسى – و هو عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن جعفر الشريف الهاشمي إمام الحنابلة ببغداد في عصره - : و من رمى عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فقد مرق من الدين ولم ينعقد له نكاح على مسلمة . الصارم المسلول لابن تيمية ص 566
و قال ابن قدامة المقدسي : ومن السنة الترضي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء ، أفضلهم خديجة بن خويلد وعائشة الصديقة بنت الصديق التي برأها الله في كتابه ، زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا و الآخرة ، فمن قذفها بما برأها الله منه فقد كفر بالله العظيم . لمعة الاعتقاد ص 29
وقال الإمام النووي في صدد تعداده الفوائد التي اشتمل عليها حديث الإفك : الحادية و الأربعون : براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك و هي براءة قطعية بنص القرآن العزيز ، فلو تشكك فيها إنسان والعياذ بالله صار كافراً مرتداً بإجماع المسلمين ، قال ابن عباس و غيره : لم تزن امرأة نبي من الأنبياء صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين ، و هذا إكرام من الله تعالى لهم .
شرح النووي ( 18/117)
و قد حكى العلامة ابن القيم اتفاق الأمة على كفر قاذف عائشة رضي الله عنها ، حيث قال : واتفقت الأمة على كفر قاذفها . زاد المعاد لابن القيم ( 1/106)
و قال الحافظ ابن كثير عند قوله تعالى {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة و لهم عذاب عظيم } ، قال : أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية ، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن . تفسيره ( 5/76)
و قال بدر الدين الزركشي : من قذفها فقد كفر لتصريح القرآن الكريم ببراءتها . ص 45
و قال السيوطي عند آيات سورة النور التي نزلت في براءة عائشة رضي الله عنها من قوله تعالى { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم .. الآيات } ، قال : نزلت في براءة عائشة فيما قذفت به ، فاستدل به الفقهاء على أن قاذفها يقتل لتكذيبه لنص القرآن ، قال العلماء : قذف عائشة كفر لأن الله سبح نفسه عند ذكره فقال سبحانك هذا بهتان عظيم ، كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجة والولد . الاكليل في استنباط التنزيل ص 190
ــــــــــــ
وبهذا يعلم أن من يقذف عائشة رضي الله عنها أو يكفرها فهو كافر مكذب للقرآن ، وكذا حكم من يقذف أي واحدة من أمهات المؤمنين
و قد قال كثير من أهل العلم أن بقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لهن حكم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، أما عائشة فقد أجمعوا على كفر من رماها لانه تكذيب بالقرآن .
قال أبو محمد ابن حزم بعد أن ذكر أن رمي عائشة رضي الله عنها ردة تامة و تكذيب للرب – جلا وعلا – في قطعه ببراءتها ، قال : و كذلك القول في سائر أمهات المؤمنين ولا فرق ، لأن الله تعالى يقول { و الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ، أولئك مبرؤون مما يقولون } ، فكلهن مبرآت من قول إفك والحمد لله رب العالمين .
**************
الخلاصة :
ــــــــ
أن هذه المجلة ( المنبر ) ليست سوى دسيسة خبيثة على الاسلام وأهله ، فهي تشتمل على كل العقائد الكفيلة بتقويض دين الاسلام ، من الطعن في القرآن ، وتاريخ الاسلام ، والخلفاء الراشدين ، والصحابة الكرام ، وبيت النبوة وأمهات المؤمنين ، وهدفها واضح ، وهو ضرب الامة الاسلامية في قوام دينها ، وتشكيكها في كل الطرق التي تلقى بها المسلمون دينهم .
وقد ظهرت فجأة في ظروف مريبة ، وجاءت في وقت تعاني فيه الامة من خطط ومؤامرات من الاعداء ، تهدف إلى زعزعة ثقافتها ، وطمس هويتها ، ونشطت هذه المجلة نشاطا غريبا في إثارة قضايالامصلحة من إثارتها سوى إشعال نار الفتنة ، والهجوم على الاسلام ، بطريقة لم يجرؤ عليها أحد ، وهي مع ذلك معتمدة ـ فيما يبدو ـ على دعم خفي مريب ، يثير كثير من التساؤلات ، بم ، وكيف يفسر السكوت على انتشارها؟
ولاريب أن منعها ، وعقوبة القائمين عليها ، من أعظم الواجبات في الدين ، وتركهاتفتري على دين المسلمين ، مجلبة لكل فتنة ، ومدعاة لكل مصيبة ومحنة ، والسعي لايقافها من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن يخذل دين الله تعالى ، يخذله ويبتليه بالذل ، ومن ينصر دين الله ينصره ويعزه ، وحسبنا الله تعالى ونعم والوكيل نعم المولى ونعم النصير ، اللهم منزل الكتاب ، مجري السحاب ، هازم الاحزاب، رب النبيين الاخيار ، وحوارييهم الابرار ، عليك بأعداء الدين ، خذهم أخذ عزيز مقتدر .
تمت رسالة النصر المظفر في الرد على السبئيين ومجلتهم ( المنبر ) .والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
*****************
ملحق في بيان حكم تمثيل الصحابة :
ــــــــــــــــــــــ(/9)
فتوى هيئة كبار العلماء في تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قررت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية منع تمثيل الصحابة رضي الله عنهم والنبي -صلى الله عليه وسلم- من باب أولى وذلك بقرارها رقم 13 وتاريخ 16 / 4 / 1393 هـ الآتي نصه: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن هيئة كبار العلماء في دورتها الثالثة المنعقدة فيما بين 1 / 4 / 1393 هـ و 17 / 4 / 1393 هـ قد اطلعت على خطاب المقام السامي رقم 44 / 93 وتاريخ 1 / 1 / 1393 هـ الموجه إلى الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد والذي جاء فيه ما نصه: نبعث إليكم مع الرسالة الواردة إلينا من طلال بن الشيخ محمود البني المكي مدير عام شركة لونا فيلم من بيروت بشأن اعتزام الشركة عمل فيلم سينمائي يصور حياة (بلال) مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نرغب إليكم بعد الاطلاع عليها عرض الموضوع على كبار العلماء لإبداء رأيهم فيه وإخبارنا بالنتيجة، وبعد اطلاع الهيئة على خطاب المقام السامي وما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ذلك وتداول الرأي قررت ما يلي:-
1- إن الله سبحانه أثنى على الصحابة وبين منزلتهم العالية ومكانتهم الرفيعة وفي إخراج حياة أي واحد منهم على شكل مسرحية أو فيلم سينمائي منافاة لهذا الثناء الذي أثنى الله عليهم به، وتنزيل لهم من المكانة العالية التي جعلها الله لهم وأكرمهم بها.
2- إن تمثيل أي واحد منهم سيكون موضعا للسخرية والاستهزاء ويتولاه أناس غالبا ليس للصلاح والتقوى مكان في حياتهم العامة والأخلاق الإسلامية مع ما يقصده أرباب المسارح من جعل ذلك وسيلة إلى الكسب المادي وأنه مهما حصل من التحفظ فسيشتمل على الكذب والغيبة كما يضع تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم في أنفس الناس وضعا مزريا فتتزعزع الثقة بأصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتخف الهيبة التي في نفوس المسلمين من المشاهدين وينفتح باب التشكيك على المسلمين في دينهم والجدل والمناقشة في أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، ويتضمن ضرورة أن يقف أحد الممثلين موقف أبي جهل وأمثاله ويجري على لسانه سب بلال وسب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما جاء به الإسلام ولا شك أن هذا منكر، كما يتخذ هدفا لبلبة أفكار المسلمين نحو عقيدتهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم محمد -صلى الله عليه وسلم-.
3- ما يقال من وجود مصلحة وهي إظهار مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب مع التحري للحقيقة وضبط السيرة وعدم الإخلال بشيء من ذلك بوجه من الوجوه رغبة في العبرة والاتعاظ فهذا مجرد فرض وتقدير، فإن من عرف حال الممثلين وما يهدفون إليه عرف أن هذا النوع من التمثيل يأباه واقع الممثلين ورواد التمثيل وما هو شأنهم في حياتهم وأعمالهم.
4- من القواعد المقررة في الشريعة أن ما كان مفسدة محضة أو راجحة فإنه محرم، وتمثيل الصحابة على تقدير وجود مصلحة فيه فمفسدته راجحة فرعاية للمصلحة وسدا للذريعة وحفاظا على كرامة أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- منع ذلك: وقد لفت نظر الهيئة ما قاله طلال من أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- وخلفاءه الراشدين هم أرفع من أن يظهروا صورة أو صوتا في هذا الفيلم، لفت نظرهم إلى أن جرأة أرباب المسارح على تصوير بلال وأمثاله من الصحابة إنما كان لضعف مكانتهم ونزول درجتهم في الأفضلية عن الخلفاء الأربعة، فليس لهم من الحصانة والوجاهة ما يمنع من تمثيلهم وتعريضهم للسخرية والاستهزاء في نظرهم فهذا غير صحيح؛ لأن لكل صحابي فضلا يخصه وهم مشتركون جميعا في فضل الصحبة وإن كانوا متفاوتين في منازلهم عند الله جل وعلا وهذا القدر المشترك بينهم وهو فضل الصحبة يمنع من الاستهانة بهم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. انتهى.(/10)
ولكل ما تقدم وما سوف يفضي إليه الإقدام على هذا الأمر من الاستهانة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وبأصحابه رضي الله عنهم وتعريض سيرته وأعماله وسيرة أصحابه وأعمالهم للتلاعب والامتهان من قبل الممثلين وتجار السينما يتصرفون فيها كيف شاءوا ويبرزونها على الصفة التي تلائمهم بغية التكسب والاتجار من وراء ذلك؛ ولما في هذا العمل الخطير من تعريض النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم للاستهانة والسخرية وجرح مشاعر المسلمين فإني أكرر استنكاري بشدة لإخراج الفيلم المذكور, وأطلب من جميع المسلمين في كافة الأقطار استنكارهم لذلك كما أرجو من جميع الحكومات والمسئولين بذل جهودهم لوقف إخراجه. وفي إبراز سيرته -صلى الله عليه وسلم- وسيرة أصحابه رضي الله عنهم بالطرق التي درج عليها المسلمون من عهده -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا ما يكفي ويشفي ويغني عن إخراج هذا الفيلم, وأسأل الله عز وجل أن يوفق المسلمين جميعا وحكوماتهم لكل ما فيه صلاح المسلمين في العاجل والآجل ولكل ما فيه تعظيم نبيهم -صلى الله عليه وسلم- التعظيم الشرعي اللائق به وبأصحابه الكرام، والحذر من كل ما يفضي إلى التنقص لهم أو السخرية منهم أو يعرضهم لذلك إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
حامد بن عبدالله العلي
غرة ذي الحجة من عام 1423هـ
www.h-alali.net(/11)
النصرانية ديانة لا تعرف محبة الآخر
محمد جلال القصاص
حادث سبِّ النبي صلى الله عليه وسلم في الصحف الأوروبية، ومن قبل امتهان أوراق القرآن الكريم، والتعدي على المصحف، وغير هذا مما يحدث من (أهل الكتاب) في واقعنا المعاصر، وما حدث منهم على مر التاريخ، حين دخلوا بيت المقدس وسفكوا فيه دم مائة ألف من النساء والأطفال ومن وضعوا السلاح حتى صار الدم بِرِكٌ تسبح فيها الخيل، وما حدث في البوسنة والهرسك في العقد الماضي، وما حدث في العراق من قصف ملاجئ الآمنين وطوابير المُنسحبين وحصارٍ دامَ لسنين، وما حدث في الصومال من تجويع وتخريب، وما حدث في أفغانستان ... كل هذا -وغيره- أمارات بيّنة على أن دعوى المحبة عند القوم كاذبة.
يدّعي النصارى أن النصرانية دين محبة، ويرددون نصاً من الإنجيل (حبوا أعدائكم، باركوا لاعنيكم، صلّوا من أجل الذين يسيئون إليكم).
ويتكلم النصارى أن قلوبهم تفيض حباً وشفقة على الغير، وأن المسيح ما جاء إلا للفداء، وأنه جاء ليلقي سلاماً على الأرض... وكله كذب!
أين هذا على أرض الواقع؟ بل أين هذا في كتابهم (المقدس)؟
نحن لا نتكلم عن مسابّة بين شخصين من عوام الناس، بل تهكم على أغلى ما عند المسلمين، النبي والقرآن، وبأسلوب يُستقبح من السفهاء وعوام الناس فما بالك بالمفكرين وأرباب الإعلام؟
ونحن لا نتكلم عن حادث فردي حدث مرة أو مرتين، وإنما عادة للقوم تتكرر في كل مكان وزمان حين يكون لأهل الصليب شوكة.
الحدث ليس فردياً؛ فصحيفة نشرت، وجمهور قرأ ولم ينكر، ومثقّفون لم يعتذروا أو يتبرؤوا، و (رجال دين) سكتوا سكوت المقرّ الراضي بالحدث، وحكومة سيق إليها كل عزيز كي تعتذر ولم تعتذر، ولم تر في الأمر شيئاً!!
وقل مثل هذا على باقي الأحداث التي تحدث هنا وهناك، والتي حدثت بالأمس، والتي تحدث اليوم.
فأين المحبة يا أدعياء المحبة؟!
إن الحقيقة التي لا مراء فيها أن دين النصرانية دين لا يعرف أدباً مع المخالف، أي أدب! وأن دين النصارى دين إرهاب هذا ما تقوله نصوص كتابهم المقدس في (العهد الجديد) و (العهد القديم).. وهذا ما يحدث على أرض الواقع بتمامه. وأنقل لك -أخي القارئ- بعض ما يقوله كتّابهم لتعرف كيف يتطابق مع الواقع، وأن القوم في سفاهتهم وبطشهم ينطلقون من منطلق عقدي ديني وليس تصرفات فردية كما يخدعون عوام الناس.
جاء على لسان المسيح -كما يزعمون-: "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض. ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً" [متّى: 10: 34].
وجاء في سفر حزقيال [9 : 5 ـ 7] على لسان (الرب): "اعْبُرُوا فِي الْمَدِينَةِ خَلْفَهُ وَاقْتُلُوا. لاَ تَتَرََّأفْ عُيُونُكُمْ وَلاَ تَعْفُوا. أَهْلِكُوا الشَّيْخَ وَالشَّابَّ وَالْعَذْرَاءَ وَالطِّفْلَ وَالنِّسَاءَ. وَلَكِنْ لاَ تَقْرَبُوا مِنْ أَيِّ إِنْسَانٍ عَلَيْهِ السِّمَةُ، وَابْتَدِئُوا مِنْ َقْدِسِي. فَابْتَدَأُوا يُهْلِكُونَ الرِّجَالَ وَالشُّيُوخَ الْمَوْجُودِينَ أَمَامَ الْهَيْكَلِ. وَقَالَ لَهُمْ : نَجِّسُوا الْهَيْكَلَ وَامْلَأُوا سَاحَاتِهِ بِالْقَتْلَى، ثُمَّ اخْرُجُوا. فَانْدَفَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَشَرَعُوا يَقْتُلُون"
أليس هذا ما حدث في بيت المقدس حين دخله الصليبيون أول مرة ؟؟!!
و (الكتاب المقدس) هو الكتاب الوحيد الذي يأمر بقتل الأطفال!!(/1)
جاء في سفر العدد (31: 1ـ 18): "وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: انْتَقِمْ مِنَ الْمِدْيَانِيِّينَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَعْدَهَا تَمُوتُ وَتَنْضَمُّ إِلَى قَوْمِكَ. فَقَالَ مُوسَى لِلشَّعْبِ: جَهِّزُوا مِنْكُمْ رِجَالاً مُجَنَّدِينَ لِمُحَارَبَةِ الْمِدْيَانِيِّينَ وَالانْتِقَامِ لِلرَّبِّ مِنْهُمْ. فَحَارَبُوا الْمِدْيَانِيِّينَ كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ وَقَتَلُوا كُلَّ ذَكَرٍ؛ وَقَتَلُوا مَعَهُمْ مُلُوكَهُمُ الْخَمْسَةَ: أَوِيَ وَرَاقِمَ وَصُورَ وَحُورَ وَرَابِعَ، كَمَا قَتَلُوا بَلْعَامَ بْنَ بَعُورَ بِحَدِّ السَّيْفِ. وَأَسَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ نِسَاءَ الْمِدْيَانِيِّينَ وَأَطْفَالَهُمْ، وَغَنِمُوا جَمِيعَ بَهَائِمِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ وَسَائِرَ أَمْلاَكِهِمْ، وَأَحْرَقُوا مُدُنَهُمْ كُلَّهَا بِمَسَاكِنِهَا وَحُصُونِهَا، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى كُلِّ الْغَنَائِمِ وَالأَسْلاَبِ مِنَ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ، ... فَخَرَجَ مُوسَى وَأَلِعَازَارُ وَكُلُّ قَادَةِ إِسْرَائِيلَ لاِسْتِقْبَالِهِمْ إِلَى خَارِجِ الْمُخَيَّمِ ، فَأَبْدَى مُوسَى سَخَطَهُ عَلَى قَادَةِ الْجَيْشِ مِنْ رُؤَسَاءِ الأُلُوفِ وَرُؤَسَاءِ الْمِئَاتِ الْقَادِمِينَ مِنَ الْحَرْبِ، وَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا اسْتَحْيَيْتُمُ النِّسَاءَ؟ إِنَّهُنَّ بِاتِّبَاعِهِنَّ نَصِيحَةَ بَلْعَامَ أَغْوَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِعِبَادَةِ فَغُورَ، وَكُنَّ سَبَبَ خِيَانَةٍ لِلرَّبِّ، فَتَفَشَّى الْوَبَأُ فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ. فَالآنَ اقْتُلُوا كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الأَطْفَالِ، وَاقْتُلُوا أَيْضاً كُلَّ امْرَأَةٍ ضَاجَعَتْ رَجُلاً، وَلَكِنِ اسْتَحْيَوْا لَكُمْ كُلَّ عَذْرَاءَ لَمْ تُضَاجِعْ رَجُلاً".
وجاء في سفر إشعيا (13 : 16) يقول (الرب): "وتحطم أطفالهم أمام عيونهم وتنهب بيوتهم وتفضح نساؤهم".
أليس هذا بتمامه ما شاهدناه في البوسنة والهرسك؟ ألم يكونوا يحطّمون الأطفال -وليس فقط يقتلونهم، يضعونهم في خلطات الأسمنت ويعلقونهم بمسامير كبيرة في الأشجار ويتركونهم ينزفون حتى الموت!! ألم تفضح نساء المسلمين في البوسنة والهرسك أمام أعين الرجال؟ ألم تنهب البيوت؟!
إنها تعاليم الكتاب المقدس!
واسمع إلى إله الكتاب المقدس وهو يأمر بحرب إبادة كاملة: "أما مُدُنُ الشُّعُوبِ الَّتِي يَهَبُهَا الرَّبُّ إِلَهُكُمْ لَكُمْ مِيرَاثاً فَلاَ تَسْتَبْقُوا فِيهَا نَسَمَةً حَيَّةً، بَلْ دَمِّرُوهَا عَنْ بِكْرَةِ أَبِيهَا، كَمُدُنِ الْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ كَمَا أَمَرَكُمُ الرَّبُّ " جاء في سفر التثنية (20 : 16).
وغير هذا كثير، أمسكتُ عنه لضيق المقام، وهو معروف مشهور للمتخصصين، فمن شاء رجع إليه.
والمقصود أن هذا هو الوجه الحقيقي للنصرانية، أنها لا تحب أحداً، وأنها لا تحمل وقاراً (للآخر)، وليس عندها إلا القتل والسفك إن قدرت. هذا ما يقوله التاريخ، وما ينطق به الواقع في (أبو غريب) و (جوانتنامو) و (قلعة حاجي) في أفغانستان وغيرهم.
وصدق الله العظيم {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:8].
وأين هذا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للجيش حين يغزوا: «انطلقوا باسْمِ الله وَبالله وَعَلَى مِلّةِ رَسُولِ الله، وَلا تَقْتُلُوا شَيْخاً فَانِياً وَلاَ طِفْلاً وَلا صَغيراً وَلا امْرَأةً، وَلا تَغُلّوا وَضُمّوا غَنَائِمَكُم وَأصْلِحُوا وَأحْسِنُوا إنّ الله يُحِبّ المُحْسِنِينَ». (زيادة الجامع الصغير- للإمام السيوطي)وقوله عليه الصلاة والسلام: «سِيُروا بِاسْمِ اللهِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ. قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، وَلاَ تَمْثُلُوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيداً». رواه ابن ماجه.
نعم، عندنا الولاء والبراء، ونعم {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]
ولكن الكره والسيف عندنا لمن حادّ الله ورسوله، لمن كفر وحمل الناس على الكفر، لمن ضلّ وأضلّ وأبى إلا ذلك بعد بذل كل سبل الحسنى له..
السيف عندنا لمن حمل في وجهنا السيف، أما من وضعه وأغلق عليه باب داره فلا حاجة لنا فيه.(/2)
السيف عندنا بعيد كل البعد عن النساء والأطفال ومن ليس من أهل القتال.
لا نفعل بالنساء والأطفال والضعاف ما فعله القوم في بيت المقدس وما فعلوه في فلسطين والعراق والشيشان والبوسنة والهرسك وأفغانستان كما أمرهم كتابهم (المقدس)، بل عندنا: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8].
وليس في شرعنا ولا في تاريخنا ولا في واقعنا المعاصر أننا سببنا نبياً أو رسولاً، أو استهزأنا بعقيدة ما وإن كنا نقر بأنها محرفه.
فأيُّنا المحب للخير؟
وأيُّنا المؤدب؟(/3)
النصيحة الشرعيّة للمسلمين و ممثليهم في الديار الغربيّة بشأن التحاكم إلى المحاكم الوضعيّة
الحمد لله و كفى و صلاةً و سلاماً على عباده الذين اصطفى ، و بعد :
فطالما سُئِلتُ عن حُكم الشرع في الاحتكام إلى القضاء الايرلندي ؛ للفصل في نزاع طويل حول الحقِّ في إدارة المركز الثقافي الإسلامي بدَبلن ( ICCI ) بين كبرى الهيئات الممثلة للمسلمين في إيرلندا و أقدَمِها ، و هي الجمعيّة الإسلاميّة الايرلندية ( IFI ) ، و بين مؤسسة خيريّةٍ خاصّة أسسها المتبرّع بتكاليف تأسيسِ و تشغيلِ ذلك المركز ، و نَقَلَ إليها حقَّ إدارته ، متراجعاً بذلك عن منح هذا الحق لمدّة خمسٍ و ثلاثين عاماً من تاريخ افتتاح المركز عام 1407 للهجرة إلى الجمعيّة الإسلاميّة الايرلندية الحاصلة على صكٍّ مسجّلٍ لدى السلطات المحليَّة ينصُّ على حقّها في موضوع النزاع للمدّة المذكورة على سبيل الإيجار ( و قد نُصَّ في العقد على الإيجار لعدم إقرار القانون الإيرلندي لعقود الوقف ) مع اتّفاق الطرفين على أنَّ العقدَ عقدُ وقفٍ و ليس عقدَ إيجار ، و إن سُمّيَ كذلك اضطراراً .
و قد تفاقم الخلاف بين الجهتين خلال السنوات الأخيرة ، ممّا دفعَ بالجمعيّة الإسلاميّة الايرلندية ( IFI ) إلى رَفع الأمر إلى القضاء الوضعي سعياً لاسترداد ما يراه القائمون عليها حقّاً لها ، و انقسمت بذلك الجالية – على قلّة عدد أبنائها – إلى مُقرٍٍٍ لهذا الإجراء ، و مُعارضٍ له ، و غيرِ مبالٍ به و لا بما يترتّب عليه .
و أمام كثرة الإلحاح ، و قلّة الساعين إلى الإصلاح ، و فشل جهودهم في هذا السبيل ، رأيتُ أن أضع بين أيدي أبناء الجالية و القائمين على أمرها على اختلاف نزعاتهم و مشاربهم رؤيةً شرعيّةً لمسألة التحاكم إلى غير ما أنزل الله في هذه الحالة و نظائرها ممّا يكثر وقوعه في بلاد الغرب ، و أُقدّمَهما لمن يعنيه الأمر أداءً للأمانة ، و نُصحاً للأمّة ، و إبراءً للذمّة ، فقلتُ مستعيناً بالله تعالى :
لا يخفى على متدبّرٍ لنصوص الكتاب و السنّة ، و أقوال أهل العلم من السلف الصالح رضوان الله عليهم ، فمَن بعدهم من أهل العلم و الفضل أنّ الاحتكام إلى الشريعة فيما شجر بين المسلمين من نزاعٍ و خصومات ، و ما طرأ عليهم أو عَرَض لهم من المسائل و النوازل ؛ واجبٌ متعيّن ، لقوله تعالى : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تأويلاً ) [ النساء : 59 ] .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله : ( يزولُ الإيمان بمجرَّد الإعراض عن حكم الرَّسول و إرادة التَّحاكم إلى غيرِه ) [ الصارم المسلول ، ص : 43 ] .
و قال شمس الدين ابن القيّم رحمه الله : ( أمرنا الله برد ما تنازعنا فيه إليه و إلى رسوله صلى الله عليه و سلم ، فلم يُبَح لنا قط أن نرد ذلك إلى رأي و لا قياس و لا رحمة إمام و لا منام و لا كشوف و لا إلهام و لا حديث قلب و لا استحسان و لا معقول و لا شريعة الديوان و لا سياسة الملوك و لا عوائد الناس التي ليس على شرائع المسلمين أضر منها فكل هذه طواغيت من تحاكم إليها أو دعا منازعه إلى التحاكم إليها فقد حاكم إلى الطاغوت ) [ أعلام الموقعين 1 / 244 ] .
و قال رحمه الله أيضاً : ( إن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه و تعالى هو الرد إلى كتابه ، و الرد إلى الرسول صلى الله عليه و سلم هو الرد إليه نفسه في حياته و إلى سنته بعد وفاته ... و جعل هذا الرد من موجبات الإيمان و لوازمه فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه و لا سيما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين و كل منهما ينتفي بانتفاء الآخر ثم ) [ أعلام الموقعين 1 / 49 و 50 ] .
و قال مفتي الديار السعوديّة السابق الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في رسالته الشهيرة ( تحكيم القوانين ) : ( إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين علي قلب محمد صلى الله عليه و سلم ليكون من المنذرين ، بلسان عربي مبين ، في الحكم به بين العالمين ، و الرد إليه عند تنازع المتنازعين ، مناقضة و معاندة لقول الله عز وجل : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تأويلاً ) [ النساء : 59 ] . اهـ .
و واجب الرد و الاحتكام إلى ما أنزل الله تعالى لا يُعدَلُ به غيره ، و لا يعدِلُ عنه إلى سواه ، مع الاستطاعة و الاختيار إلا كافرٌ كفراً أكبَرَ مخرجاً من الملّة ، لقوله تعالى : ( فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) [ النساء : 65 ] .(/1)
و من دُعيَ إلى التحاكم الشرعيِّ وجبَ عليه أن ينصاع امتثالاً ، لقوله تعالى : ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا وَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [ النور : 51 ] .
و لا يجوز له الإعراض عن حُكم الله بحالٍ ، لقوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا - وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ) [ النساء : 60 و 61 ] .
قال الحافظ ابن كثير في تفسير هاتين الآيتين : (هذا إنكار من الله عز و جل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله و على الأنبياء الأقدمين و هو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله و سنة رسوله ... و الآية ... ذامة لمن عدلوا عن الكتاب و السنة و تحاكموا إلى ما سواهما من الباطل و هو المراد بالطاغوت هنا ) .
و قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره : ( كل من لم يرض بحكم الحاكم – أي بما أنزل الله - و طعن فيه و رده فهي ردة يستتاب ) [ الجامع لأحكام القرآن : 5 / 267 ] .
و قال الإمام النووي رحمه الله في قوله تعالى : ( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ) ؛ يكفرون به .اهـ . [ شرح صحيح مسلم : 11 / 108 ] .
و قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله معلّقاً على هذه الآية الكريمة : ( فذم الذين أوتوا قسطاً من الكتاب لما آمنوا بما خرج عن الرسالة و فضلوا الخارجين عن الرسالة على المؤمنين بها ... كما ذم المدعين الإيمان بالكتب كلها و هم يتركون التحاكم إلى الكتاب و السنة و يتحاكمون إلى بعض الطواغيت المعظمة من دون الله كما يصيب ذلك كثيراً ممن يدعي الإسلام و ينتحله في تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أو غيرهم أو إلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة الإسلام من ملوك الترك و غيرهم و إذا قيل لهم : تعالوا إلى كتاب الله و سنة رسوله أعرضوا عن ذلك إعراضاً ) .
و قال الإمام ابن القيّم رحمه الله : ( أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم ما جاء به الرسول فقد حكَّم الطاغوت و تحاكم إليه ، و الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إلى غير الله و رسوله ، أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله ، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله فهذه طواغيت العالم إذا تأملتَها و تأملتَ أحوال الناس معها رأيتَ أكثرهم عدلوا عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت و عن التحاكم إلى الله و إلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت ، و عن طاعته و متابعة رسوله إلى الطاغوت و متابعته ، و هؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة ؛ و هم الصحابة و من تبعهم و لا قصدوا قصدهم بل خالفوهم في الطريق و القصد معاً ) [ أعلام الموقعين 1 / 50 ] .
و قال الشيخ حمد بن عتيق النجدي رحمه الله في معرض كلامه عن التحاكم إلى الطاغوت ، و تقرير كُفر فاعله و التشنيع عليه : ( إذا كان هذا كُفراً ، و النزاعُ إنّما يكون لأجل الدنيا ، فكيف يجوز أن تَكفُرَ لأجل ذلك ؟! ) ، إلى أن قال : ( لو ذَهَبَت دنياك كلُّها لما جاز لك المحاكمة إلى الطاغوت لأجلها ، و لو اضطرَّك أحدٌ و خيَّرك بين أن تُحاكِمَ إلى الطاغوت أو تبذُلَ دنياك لوجب عليك البذل ، و لم يجُز لك التحاكم ) [ الدرر السنيّة في الأجوبة النجديّة : 8 / 273 ] .
و ذكر العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله بعض ما آلت إليه أحوال المسلمين في العصر الحاضر ، و من ذلك إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه و على لسان رسوله محمد ، ثمّ عقَّبَ بقوله : ( فهذا الفعل إعراض عن حكم الله سبحانه وتعالى وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه ) .
و قال الشيخ المبارَك محمد الأمين بن المختار الشنقيطي رحمه الله : ( و لما كان التشريع ، و جميع الأحكام ؛ شرعيةً كانت أو كونية قدرية ، من خصائص الربوبية ... كان كل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرِّعَ رباً ، و أشركه مع الله ) [ أضواء البيان : 7 / 162 ] .
و قال أيضاً في تفسير قوله تعالى : ( و لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ) : أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم ، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته ، وأعماه عن نور الوحي مثلهم ) .(/2)
و إذا تقرَّرَ بُطلان التحاكم إلى المحاكم الوضعيّة الصادّة عن سبيل الله في ديار الإسلام أو خارجها ، ترتّب على ذلك بُطلان الأحكام الصادرة عنها ، و عدم صلاحيَّتِها للإلزام ، و كانت كعدمها لا تُحلُّ حراماً ، و لا تحرِّم حلالاً ، و لا تنقل ملكاً ، و لا تُبطِلُ حقاً أو تقرُّه ، بل يجب على من صدر الحكم بحقّه أن يرُدّه ، و يردّ الخلاف إلى الشرع للفصل فيه .
روى الشيخان و غيرهما عَنْ أمّ المؤمنين عَائِشَةَ بنتِ الصدِّيق رضي الله عنهما ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم : « مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ » ، و في روايةٍ عند مسلمٍ و غيره : « من عمِلَ عملاً ليس عليه أمرنا » .
و قوله « فَهُوَ رَدٌّ » أي : مردود ، و هو باطل غير معتد به , و يحتج بهذا الحديث في إبطال جميع العقود المنهية و عدم وجود ثمراتها المرتبة عليها و أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر ، كما قرّر ذلك الحافظ في ( الفتح ) .
و قد ثبت النكير و اشتدّ الوعيد لمن أخذ مالا حقَّ له فيه ، و إن حكم له به - لقوّته في الخصومة ، و كونه ألحَنَ من خصمه في الحجّة - خيرُ الخلق صلّى الله عليه و سلّم ، فكيفَ لو حكم له به مبدّلٌ أو مشرّع من دون الله ، أو حاكمٌ بما لم يأذن به الله أصلاً ؟!
روى أصحاب الكتب الستّة و مالك و أحمد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قَالَ : « إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِليَّ ، وَ لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً بِقَوْلِهِ ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا » .
و إذا كان هذا الوعيد الشديد لمن تذرّع بخطأ الحاكم بشرع الله في الحُكم ؛ ليقتطع به شيئاً من حقّ غيره ، فما ظنّكَ بمن يتذرّع إلى ذلك بقرار محكمةٍ لا تقيم لشرع الله وزناً ، و لا تعدو أن تكون دارَ ضرار يضاهِؤُ قضاتُها بالقوانين الوضعيّة ما جاء في كتاب الله و سنّة رسوله ؟!
قال العلاّمة صدِّيق حسن خان : ( من حُكمَ عليه بغير الشريعة المحمّديّة إن كان يلزم عليه تحليل حرامٍ أو تحريم حلالٍ شرعاً ؛ فلا يجوز له قبوله و لا امتثاله ، و عليه ردّ ذلك و كراهته إلاّ أن يُكرَه عليه بما يسمّى إكراهاً شرعاً ) [ العبرة فيما ورد في الغزو و الشهادة و الهجرة ، ص : 252 ] .
قلتُ : فإن لم يكن في البَلَد من يحكُمُ بشَرعِ الله ، وجَبَ على المتخاصمين بذلُ وسعهم في الوصول إلى من يحكم به ، أو دعوته إلى الفصل بينهم بما أراهُ الله ، و هذا الواجب ينبغي أن تقوم به المؤسسات و الجمعيّات الإسلاميّة و من في حُكمها في هذا الشأن ، لأنّهم رعاةٌ مسؤولون عن رعاياهم و إن قلُّوا .
روى الشيخان و أبو داود و الترمذي و أحمد عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم يَقُولُ : « كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَ كُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ » الحديث .
فإن قصَّر من لا عُذر له في إيجاد البديل الشرعي للمحاكم الوضعيّة الوضيعة ، في ديار الحرب أو غيرها ( كما هو الواقع في الحالة المسؤول عنها ) ، فليربأ المسلم الغيور على دينه و عقيدته من السعي إلى تلك المحاكم بمحض إرادته ، و إن ألجئ إليها على سبيل الاضطرار لا الاختيار و حُكِمَ عليه بخلاف شريعة الله المطهّرة فليتبرّأ من الحُكم و الحاكم به و المتسبب في تعريضه له على سواء ، و ليَنجُ بنفسه و ليصُن إيمانه .
أما إذا ( حُكِمَ عليه بما يوافق الشريعة المحمّديّة قبِلَ ضرورةً ، و ليسَ له أن يمتهِن نفسه بتعريضها لأحكامهم و هو يقدر على الهجرة ، و إلاّ كان في ذلك إذلالاً للدين و استخفافاً بالإسلام و المسلمين ، و الله تعالى يقول : " وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً " الآية من سورة النساء ) [ تضمينٌ من كتاب : العبرة فيما ورد في الغزو و الشهادة و الهجرة ، للعلاّمة صدِّيق حسن خان ، ص : 252 ] .
و بناءً على ما تقدّم فإني أوصي إخواني طَرَفي النزاع في هذه القضيّة بإيقافها فوراً ، و الاحتكام إلى أهل العلم الشرعي ، و هم كُثُرٌ و الحمد لله ، و ليحتسبوا عند الله تعالى أجر ما قد يكلّفهم السعي إلى أهل العلم من مشاقَّ و تكاليف ، و ما دام ذلك في سبيل الله فحاشاه تعالى أن يُضيعَ أجرهم ، أو أن يَتِرَهم أعمالهم .(/3)
و إذا حكَم أهل الشرعِ لأحد المتنازعين في المسألة بحقٍّ وَجب تمكينُه منه ، فإن حيلَ بينه و بين حقّه بعد الحكم الشرعيِّ الصادر لصالحه ، و لم يجِد سبيلاً لوضع يده عليه إلاّ بقانون البلد الذي يقيم فيه ، فأَخَذَ حقّه أو طلبه عن طريق ذلك القانون ؛ جاز له ذلك ، و لم يكُن بالإقدام عليه متحاكماً إلى الطاغوت في هذه الحال ، لأنّ قضاة الشرع قد قضوا له مسبقاً ، و ما جدَّ من أمره إلاّ السعي لإنفاذ حُكم الشريعة و حسب .
و ليسَ فيما اطّلعتُ عليه من سير القضيّة المشار إليها آنفاً و حيثيّاتها حكمٌ قضائيٌّ شرعيٌّ معتبرٌ لأيٍّ من الطرفين يسوّغ له الاستعانة في تطبيقه بالسلطات المحلّيّة ، القائمة على القوانين الوضعيّة .
قلتُ : و إن أبى الطرفان أو أحدهما إلاّّّ التحاكم إلى الطاغوت بعدَ بلوغهم النصيحة و قيام الحجّة عليهم بها ، فقد آذَنوا بفسادٍ عظيمٍ يبوئون بإثمه في الحياة و بعد الممات ، و من ورائه إثمُ من ائتمَّ بهم أو جاراهم في هذا العمل مطمئنّةً نفسُه إليه بسبب صدوره أو صدور مثله عن مؤسسة تمثّل الجالية المسلمة في ديار الغرب إلى أن يرِثَ الله الأرضَ و من عليها .
و رُبَّما سوَّغت خطواتهم التي يخطونها نحوَ القضاء الوضعي الوضيع ، لمن يتربَّصُ بهم أن يخطو نحو إشاعة الفتنة و الإيقاع بين أبناء الجالية متذرّعاً بالتصدي لمسعاهم الفاسد هذا ، و لمن يريد الصلاحَ و الإصلاح أن يطعنَ في شرعيّة تمثيلهم للجالية ، و يسعى لإنكار المنكر ، و تغييره باليد أو اللسان أو القلب ، و في هذا و ذاك ما لا تحمد عُقباه ، و لا يؤمن وقوع الناس في أذاه .
إنَّها - و الله - فتنّة ، إن لم نحذَر و نحاذر من الوقوع فيها ابتداءً ، فمن لنا بالنجاة منها بعدَ أن تحلّ بساحتنا ؟
و إنّه و الله لامتحان عظيم لا يُوَفَّق فيه إلا من قدّم الهُدى على الهوى ، كما هو الحال عند وقوع الفتن .
قال رجل لسعيد بن المسيب رحمه الله تعالى : يا سعيد في الفتنة يتبين لك من يعبد الله ممن يعبد الطاغوت [ الابانة الكبرى ، لابن بطة : 2/ 769 ].
فمن الضلال الحذَرَ الحذَرَ ، و إلى التدارك قبل التهالك البِدارَ البدار ، و السعيد من قدّم التوبة ، و بادر بالرجوع و الأوبة ، و هذا ظنّنا بإخواننا ، إذ نحسبهم على خير ، و نرجو لهم الخير ، و نسعى معهم للخير ، و الله على ما نقول شهيد .
و الحمد لله ربّ العالمين ، و الصلاة و السلام على خاتم النبيّين و المرسلين ، و آله و صحبه أجمعين .
و كتب
أحمد بن عبد الكريم نجيب
( الملقّب بالشريف )
دَبْلِن ( إيرلندا ) في الثاني و العشرين من ربيع الأوّل عام 1423 للهجرة
الموافق للرابع من يونيو ( حزيران ) عام 2002 للميلاد
http://www.saaid.net/Doat/Najeeb
alhaisam@msn.com(/4)
النصيحة لاالتعيير، والإصلاح لاالتشهير
الكاتب: الشيخ د.عبد الرحمن بن أحمد الجرعي
تمر الصحافة هذه الأيام ببعض القضايا الساخنة التي تتناولها أطراف مختلفة المشارب ،كل ينزع من بئر ، والملاحظ حدة اللغة التي يستعملها المتحاورون ، مع التسفيه للآخر ، ورميه بأقبح النعوت ، من التخلف والجهل، والتطرف ، والكفر، . . .الخ
وكل يتبرأ من المبالغة والتهويل ، ويرى نفسه في هذا الطرح صاحب حق ، وصاحب مشروع مشروع، فتبدأ المقالة بإعطاء القارئ مايشبه إبرة التخدير بأن مايرد في المقالة إنما هو رغبة في الإصلاح ، وشفقة على الأمة وأبناءها ، ولاتعدو أن تكون وجهة نظر، ثم يبدأ الكاتب بفتح النار على المخالفين ، بل والاستعداء ، والمطالبة بما لايقره عقل ولانقل ، وتجد التضخيم لبعض الأخطاء الفردية ، وتعميمها على الجميع، وهذا من الظلم البين، ولو جمعت فلتات هذا الكاتب وسقطاته في سائر أيامه ، ووضعت في لوحة أمام الناس لماسرّه ذلك ، ولشعر بفداحة الظلم ، ومرارة البغي، لكنه حين يمسك بالقلم ينسى ذلك ، ولايدري كم من القلوب يكوي، وكم من النفوس يؤذي ، والبرءاء من الضحايا يضجون بالشكوى لمن يعلم السر وأخفى.
إن الكلمة أمانة، ومامن كاتب إلا سيفنى ويبقي الدهر ماكتبت يداه ، والكلمة المدوية ، وإن شهرت صاحبها يوما، فإن الحساب عليها قائم ، والقراء يمرون عليها وقد يعجبون لحظتها بها وقد يساؤون ، لكن غرمها أو غنمها لصاحبها.
ولعل ملاحقة بعض الصحف للكتاب ، والتزامهم اليومي أو الأسبوعي يجعله نهبا للبدوات والخاطرات الفجة ، وغير الناضجة ، فيبعث بالمقال ربما قبل أن يجف حبره، والنكاية تعظم حين يشعل هذا المقال أو ذاك ضجة تكمن في تصفية حسابات، وتنفيس عن ذحول وثارات ، كانت تنتظر مثل هذه اللحظة ، فوجدت الظرف مناسبا فشوى هؤلاء سمكتهم في الحريق، وإن الدين والشرف ، والرجولة تأبى ذلك .
فهل فكر بعض كتابنا أو خطبائنا في الأثر الذي تحدثه مثل كلماتهم التي على هذه الشاكلة.
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
إن مسيرة الإصلاح يجب أن يشترك فيها الجميع ، فهذه غنيمة كل له فيها سهم، ويجب إحسان الظن بالمسلمين ، وسعة الصدر لهم ، وترك المبادرة للاتهام دون دليل ، فالشكوك والاوهام لم تكن يوما بالدليل المعتبر . والله الموفق(/1)
النضج المبكر نظرة جديدة
ـ ابنتي ذات التسع سنوات فجأة تغيرت، تبدلت، تغير طولها، زاد وزنها، وبدت عليها سمات أجسام النساء ثم بلغت مبلغ النساء، فذهبت بها إلى الطبية لأطمئن عليها وأسأل هل هذا طبيعي؟ أم أن الأمر غريب؟
فقالت لي: لا تقلقي هذا طبيعي عند الفتاة فمن سن التاسعة فصاعدًا تنتظر البلوغ.
فسألت: وهل تبلغ هذه ذات التسع سنوات؟
'قصة واقعية'
ـ وهذه فتاة تقول لأمها:
أمي .. هل أستطيع أن أستعير طاقم الإكسسوار الأخير منك اليوم؟
أمي .. هل أستطيع أن ألبس ثوبك البنفسجي اليوم؟
أمي .. هل تحتاجين ساعتك الثمينة الليلة؟ أعتقد أنها تلائم ما ألبسه.
أمي .. حذاؤك كبير بعض الشيء لكنه يناسب الملابس التي أرتديها.
أمي ... أمي ... أمي ... حقًا إن خزانتي مليئة بالملابس إلا أن أثوابها تروق لي. حتى أبي كم كنت أحاول دائمًا أن أثير انتباهه لي ولرأيي كلما وجدته يتحدث مع والدتي في الأمور المختلفة.
النضج المبكر:
ما الذي يحدث للفتاة فجأة؟
ولماذا تحول الفتاة التخفي بجسمها أو ببعض أعضاء جسمها عن الكبار؟
ولماذا تقلد الفتاة أمها وقد تستولي على ملابسها واكسسواراتها إذا شارفت على البلوغ؟
أسئلة كثيرة واستفسارات عديدة تطرح نفسها مع النضج المبكر للفتاة، فنجد الإجابة عنها في علم النفس: 'إن جسد المراهق يواجه عملية تحول كاملة في وزنه وحجمه وشكله، ويُعد هذا التحول الجسدي ميزة لمرحلة المراهقة، ومن أبرز معالمها'.
ـ وتتعجب الأم كثيرًا عندما تفاجأ بها وقد تغير طولها وزاد وزنها، وبدت عليها سمات أجسام النساء.
ـ هذه التغيرات التي تصيب الفتاة تتصف بالجدة والسرعة والتزامن، مما يجعلها ملحة ومستغربة لدى الفتاة وأهلها:
1ـ الجدة: المقصود بها أن معظم التغيرات التي تحدث بجسم المراهقة هي تغيرات جديدة في نوعها لم تسبق للمراهقة المرور بها من قبل، فظهور الشعر في مواضع معينة، وظهور الطمث، وتغير الصوت للنعومة، وإفرازات الغدد التناسلية كلها تغيرات نوعية جديدة تظهر على المراهقة وتبرز في جسدها أو هيئتها أو حديثها، وهي توحي لها بأن في الأمر جديد، وأن وضعها قد اختلف عما سبق من حال، وأنها تستعد لعمل جديد ومهمة مختلفة بقدر اختلاف حالتها وتحولات جسدها.
2ـ السرعة: فالسرعة في نمو العظام وفي زيادة الوزن والطول تكون ملفتة ومفاجأة للمراهقة ولبيئتها، وتقوم هذه التغيرات بتحويل الطفلة إلى عالم جديد، وفي نفس الوقت تكون في مجال نفسي عجيب وغامض، وفي مرحلة انعدام وزن، فهي لا تعرف موقعها هل تنتمي إلى عالم الكبار لها ما لهم وعليها ما عليهم، أما أنها مازالت منتمية إلى عالم الصغار.
3ـ هذه التغيرات متزامنة ومتقاربة:
فالتغير لا يحدث لجزء واحد، وهو لا يحدث لعدة أجزاء من الجسم في أوقات متباعدة، بل إن هذه التغيرات متزامنة ومتتابعة تحدث في فترة محدودة.
[المراهقون د/عبد العزيز محمد النغيمشي]
ـ ما أسباب النضج المبكر؟
لماذا هذه التغيرات العضوية والتبدلات الجسدية؟
ولماذا تحدث التحولات الملفتة للفتاة من ظهور الطمث، ونمو الصدر، ونعومة الصوت، ونبوت الشعر في بعض الأماكن؟
يرجع ذلك إلى سرعة النمو الفسيولوجي الحيوي والنمو السريع الزائد للغدد.
وهي بذلك تستعد لوظيفة الأنوثة ومهماتها، وكل ذلك تقتضيه السنة الحياتية والإنسانية بأمر الله تعالى.
ـ البلوغ هو سن التكليف الشرعي:
يعتبر سن البلوغ هو سن التكليف في الإسلام لحديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: 'رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم' [رواه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم ـ صحيح الجامع الصغير].
والمتعارف عليه أن فترة المراهقة تبدأ في سن الخامسة عشر غالبًا، وقد تسبق هذا السن وتختلف الفتاة عن الفتى في سرعة النضج والبلوغ.
ـ وتعتبر الفتاة مكلفة بعد البلوغ بالصلاة والصوم وسائر العبادات، والله الذي خلقها هو أعلم سبحانه بمدى طاقتها وتحملها للتكاليف، يقول الأستاذ محمد قطب: 'ومما يلفت النظر أنه في هذا الوقت ـ أي البلوغ ـ بالذات تصبح الصلاة والصيام فرضًا، والمنهج الإسلامي يضيف إلى التكليف الشرعي حمل التكاليف الدنيوية كذلك، فقد صار الفتى منذ اليوم مسئولاً في البيت والمجتمع لأنه 'بلغ مبلغ الرجال' فصار واحدًا منهم يتصرف مثلهم، ويُعهد إليه بالأمور مثلهم، وقد صارت الفتاة مسئولة في البيت ـ ميدانها الأصيل ـ لأنها بلغت مبلغ النساء، ودخلت عالمهن بالفعل فصارت واحدة منهن يُعهد إليها بما يُعهد إليهن من أمور' [منهج التربية الإسلامية ـ محمد قطب].
ـ وقد أمَّر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسامة بن زيد على جيش لمحاربة الروم ولما لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره بعد.
فالأحكام الشرعية لا تعترف بفترة انتقالية بين الطفولة والرشد كما يسن في القوانين الوضعية التي لا تعتبر الإنسان رجلاً يطبق عليه القانون قبل الثامنة عشرة من عمره.(/1)
ـ وتظهر حكمة الشرع في قول رسولنا الكريم: 'مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر' حيث إن من المحتمل أن تبلغ الفتاة أو الفتى على عشر سنوات، فتكون قد تعودت على الصلاة وسهل الالتزام بها بمجرد بلوغها.
ـ ولا يعني أن الفتاة في مرحلة البلوغ والمراهقة تكون في سلسلة من التغيرات العضوية والجسمية وكثيرة النوم، أن تهمل التكاليف الشرعية، لا فالله الذي كلفها بذلك هو أعلم منها بنفسها، وأنها ستكون قادرة على القيام بسائر العبادات المفروضة على المسلم.
ويأتي هنا السؤال ما مشكلات النضج المبكر؟
1ـ الشعور بالحرج نتيجة للطول المفرط أو الوزن الزائد أو تضخم الصدر والأرداف مما قد يؤدي إلى الحساسية والانطواء أو كراهية الذات.
2ـ التغيرات الناتجة عن اختلاف أعضاء الجسم في درجة النمو والسرعة، قد تؤدي بالبعض إلى سوء التكليف حيث تشك الفتاة في كونها طبيعية كما تشك في تقبل المجتمع لها، وذلك حين نرى بعض الآباء والأمهات يهمزون أو يلمزون بناتهم لما بدا من تغير أجسادهم أو أشكالهم كالبدانة أو الطول المصاحب للنحافة، أو طول الساقين، أو ضخامة القدمين والكفين وبسبب ذلك تحدث التعليقات أو المداعبات المشوبة بالاستغراب، وأحيانًا بالسخرية والاحتقار المنبعث عن شعور الكبار بسرعة التحول والتغير عن الطفولة إلى سمات الأنوثة المؤذنة بالاكتمال.
3ـ وقد يحصل الاختلال الحركي عند المراهقين ويفقدون الاتزان في المشي والجري وحمل الأشياء والعمل اليدوي.
4ـ وهناك تغيرات أخرى في نظام الجسم الداخلي، من ذلك انخفاض نبض القلب، وارتفاع ضغط الدم تدريجيًا، وتؤدي هذه التغيرات إلى شعور المراهق بالجهد والتعب والرغبة في الراحة، ويكون المراهق حساسًا للنقد الجسمي والشكلي من ذويه وزملائه ومدرسيه ومن الجنس الآخر [سيكولوجية المراهق ـ إبراهيم قشقوش].
ـ دور الفتاة يبدأ مع البلوغ:
وهنا أضرب مثلاً لدور الفتاة المسلمة بعد بلوغها وهي فتاة بني هلال: تلك الفتاة التي كانت تسكن في أطراف المدينة قالت لأمها ليلاً عندما أمرتها أن تمذق اللبن بالماء وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قد أمر ألا يمذق اللبن، قالت الفتاة لأمها: 'والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء'.
وكان أمير المؤمنين يسمع قولها، فأعجب بأمانتها أيما إعجاب وزوجها من ولده عاصم، وقد ولدت له بنتًا أسماها 'أم عاصم'، تزوج عبد العزيز بن مروان أم عاصم، فولدت له الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز.
إن صلاح هذه الفتاة وقيامها بدور في أسرتها لفت نظر أمير المؤمنين فزوجها من ولده عاصم، وكانت نعم المرأة جدة الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز.
ـ وأخيرًا أقول للمربي الفاضل، إن التربية المتوازنة في ظل العقيدة والإيمان يبدل مرحلة المراهقة إلى فترة عمل وعطاء ودعوة.
وعلى المربي دفع الفتاة بمجرد البلوغ إلى الالتزام بالتكاليف الشرعية، ولا يجوز تجاوز التكاليف الشرعية بحجة أنها مازالت صغيرة أو لا تستطيع، فالله الذي كلفها هو الذي خلق الخلق وهو أعلم بمدى تحمل عباده لهذه التكاليف.
وتذكر فضل الطاعة من الصغر الذي جاء في حديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : 'سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظله إلا ظله ... ومنهم شاب نشأ في طاعة الله'.
إعداد :فريق الاستشارات التربوية بموقع مفكرة الإسلام(/2)
النظافة من الإيمان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين القائل: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين والصلاة والسلام على أطهر خلق الله، الذي دعا إلى نظافة القلوب والأبدان، من كل رجس ودرن، والقائل: (إن الله جميل يحب الجمال)، وعلى آله وصحبه الأطهار.
إنه يجري على ألسنة الناس هذه الكلمة الرائعة "النظافة من الإيمان" ويسندوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن صح كونها من قول النبي عليه الصلاة والسلام وإلا ففي الإسلام من الآيات والأحاديث الكثيرة ما يشهد بصحة معناها، وأن النظافة حقاً من الإيمان.
ذلك أنه لم يترك الإسلام جانباً من جوانب المرء: مأكله ومشربه وملبسه ومطعمه وبدنه بل ومنكحه وعموم هيئته إلا ودعا المسلم فيها إلى النظافة. وسوف نبين كل هذه الأحوال. جاعلين مرجعنا في ذلك كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فأولاً: بلغت النبي صلى الله عليه وسلم أحوال عامة ينبغي للمسلم تعاهدها، وأنها من صميم الدين، فيقول عليه الصلاة والسلام "الفطرة خمس: الختان والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط"، والمراد بالفطرة الدين، وهي التي فطر الله الناس عليها أي أن هذه الأمور الخمسة من الدين، وهي الختان والمراد به: قطع قلفة الذكر، فإن بقاءها يسبب تراكم النجاسات والأوساخ فتحدث الأمراض والجروح.
والاستحداد: حلق الشعر التي حول الفرج قُبُلاً كان أو دبراً، فإن بقاءها يعرضها للتلوث بالنجاسة، وربما أخلت بالطهارة الشرعية، كما أن ترك الشارب بدون قص، يشوه الخلقة، ويكره الشراب بعد صاحبه، ويوجب التشبه بالمجوس.
ونحن نعرف جميعاً ماذا يسبب عدم تقليم الأظافر، من تجمع الأوساخ، فتخالط الطعام فيحدث المرض. وعدم نتف الإبط يجلب الرائحة الكريهة.
ففي هذه الأمور وأمثالها تتجلى مدى ما يريده لنا ديننا من النظافة التامة، وعدم التعرض لشيء من الأقذار التي تسبب أمراضاً على الفرد أو المجتمع، فلم يترك الإسلام خيراً إلا دعا إليه، ولا شراً إلا حذر منه.
أما بعد:
فإننا إذ نشيد بالنظافة وندعو إليها ونجعل لها أهمية كبيرة في حياتنا، فإن ذلك ليس بِدْعَاً جئنا به واختلقناه ولم يكن تقليداً لأمة غير مسلمة أشادت هي كذلك بالنظافة وإنما ديننا هو الذي وضع أسس هذا الأمر ودعا إليه بل وجعله جزءاً من العبادة إلى جانب أنه لاحظ فيها المصلحة التي تعود على الإنسان من حيث الحفاظ على صحته فالمصالح التي راعاها. ونحن اليوم نتكلم عن طرق منها وهي المصلحة التي راعاها الدين في تشريع النظافة نقول:
ثانياً: النظافة في ملبس الإنسان ومظهره وإليكم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الشأن.
روى مسلم في صحيحه: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، قال –يعني النبي صلى الله عليه وسلم-: إن الله تعالى جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس" والمراد ببطر الحق تسفيهه ورده وعدم الخضوع له، وغمط الناس: احتقارهم. يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من أحقر شيء من الكبر فيظن أحد السامعين، أن الزينة قد تكون نوعاً من الكبر، فيخاف الوقوع فيه، ويسأل الني صلى الله عليه وسلم عما يحب الرجل من جمال المظهر وتحسين الثوب والنعل ويبين صلى الله عليه وسلم، أن ذلك مما يحبه الله تعالى فيقول: إن الله جميل أي متصف بصفات الكمال، يحب الجمال أي حسن المظهر في عبده المؤمن الجميل في باطنه. وهناك أحاديث تدعوا أصحاب اليسر إلى إظهار نعمة الله عليهم، وأن التظاهر بعكس ما عليه الإنسان من اليسر، قد يكون فيه إنكار لنعمة الله تعالى.
روى الترمذي عن عمر بن شعيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده). وروى أحمد والنسائي عن جابر، قال: "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم زائراً، فرأى رجلا شعثاً، قد تفرق شعره، فقال: ما كان يجد هذا ما يسكن به رأسه"-أي ما يلم شعثه ويجع تفرقه- وفي رواية لهما عن أبي الأحوص عن أبيه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ثوب درن، فقال لي: "ألك مال"، قلت نعم. قال: من أي المال؟ قلت من كل المال، قد أعطاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: فإذا آتاك الله مالا فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته).(/1)
وأما النظافة في المأكل فإن الشارع لم يقتصر فيها على النظافة فحسب، بل حرم من الأطعمة، ما يعود على الإنسان بالضرر، كالخنزير والميتة، ولذا سمى الله تعالى كل محرم خبيث في قول تعالى ? وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ?[الأعراف: 157]. كما أرشد الآكل إلى آداب منها انه لا يترك يده تطيش في الصحفة، كما في حديث عكراش بن ذؤيب من رواية الترمذي، "أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان يأكل معه فيخبط بيده في الإناء: يا عكراش كل من موضع واحد فإنه طعام واحد".
وأما في الشراب فقد حرم الشارع كذلك ما هو خبيث من الشراب كالخمر والدم، كما أرشد إلى آداب، هي من صميم النظافة، حرصاً على صحة الإنسان، فنهى صلى الله عليه وسلم عن الشرب من فم الإناء كما هو ثابت عن بن عباس في الصحيحين، ونهى عن التنفس فيه. روى أبو داوؤد عن أبي سعيد الخدري: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من ثلمة الإناء، وأن ينفخ في الشراب".
وأما النظافة في البدن، فالحديث عنها يطول جداً وقد انتهى الحث عليها إلى أن جعلها الشارع مفتاحاً للصلاة التي هي رأس العبادات، فكما أن من العبادات ما فيه طهر معنوي كذلك منها ما فيه طهر حسي، فجعل الوضوء شرطاً لصحة الصلاة، كما كاد الشارع أن يوجب السواك لما فيه من الفوائد الجمة، لولا خوف المشقة على أمته، ومع هذا فإنه صلى الله عليه وسلم قد حث كثيراً وكثيراً على السواك كما كان يستاك على كل أحواله.
والنظافة في الثياب، حيث المثول بين يدي الله تعالى في بيوته مطلوبة شرعاً، يقول الله تبارك وتعالى: ? يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ?[الأعراف: 31].وقد فسر بعض العلماء الزينة، بما يتزين به المرء، كما هو المتبادر من مدلول الآية.
وأوجب الشارع كذلك النظافة من البول والغائط، وبين طريقة إزالتهما من القبل والدبر، بالاستجمار أو الاستنجاء، أو بالجمع بينهما، وأن من لم يتنزه عن بوله فقد ارتكب إثماً ليس باليسير، بل إنه ليعذب على ذلك في قبره. روى في الصحيحين عن ابن عباس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال:" إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله –وفي رواية مسلم-لا يستنزه من البول- وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" ثم أخذ جريدة رطبة وشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة، قالوا يا رسول الله لم صنعت هذا قال: " لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا".
ومن نظافة البدن أيضاً، أن دعانا صلى الله عليه وسلم إلى الغسل فجعله واجباً تارة، وحث عليه أخرى مع كونه سنة ورتب عليه أجراً كبيراً فهو واجب على الجنب وعلى الحائض والنفساء بعد انقطاع الدم، وهو قريب من الواجب في يوم الجمعة إلى جانب التزين بأحسن الثياب والتطيب، وكذا الاغتسال ليوم العيد وللإحرام وبعد غسل الميت وغير ذلك.
وأما في النكاح فيقول تبارك وتعالى: ? وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ?[البقرة: 222 ].
وإذا كان ديننا قد وصل بنا في الحث على النظافة، والتنزه عن الأقذار والأوساخ والخبائث إلى هذا الحد فإنه من حق المسلم أن يكون دائماً في كل أحواله وشئونه على خير حال، فلا يترك للأوساخ مجالا إلاً وأبعدها عنه، سواء في نفسه أو بيته، أو شارعه، وأن الإنسان لا يهتم بهذا في يوم أو أسبوع، وإنما في كل لحظة من لحظات حياته وفقنا الله تعالى إلى التمسك بكل شعب الإيمان التي أعلاها لا إله الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والسلام.
روى ابن ماجه، عن أيوب، وجابر، وأنس. أن هذه الآية لما نزلت ? فيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ? [التوبة: 108]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا معشر الأنصار، إن الله قد أثنى عليكم في الطهور. فما طهوركم؟ قالوا نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة؟ ونستنجي بالماء، قال: "فهو ذاك فعليكموه".
راجعه: عبد الحميد أحمد مرشد.
مسلم، 1/ 93، حديث رقم: 91.
- متفق عليه من حديث أبي هريرة وهو عند البخاري، كتاب اللباس 61 – باب قص الشارب برقم 5550 بـ(د.مصطفى ديب البغا) ج5، وعند مسلم ج1، كتاب الطهارة باب خصال الفطرة رقم 257. وغيرها.
- مسلم ج1 كتاب الإيمان باب تحريم الكبر وبيانه برقم 147.
ـ سنن الترمدذي، 5/123.(/2)
- صحيح سنن الترمذي ج2/2260-2985، وقال الألباني حسن صحيح. وحسنه الترمذي في ج5/2819 (أحمد محمد شاكر).
- المسند 4 برقم 19877 د.سمير طه المجذوب.
- صحيح أبي داؤود ج2/3428-4063، وفي صحيح النسائي 5223/4819.
- ضعفه الألباني في ضعيف أبي داود (319-1935)، وضعيف بن ماجه 706-3274.
- البخاري ج1 الوضوء برقم 152 ومسلم ج1 كتاب الطهارة (63-267 وكلاهما عن أبي قتادة عن أبيه.
- أبو داود 2/363، صحيح أبي داود 2/3165. باب الشرب من ثلمة القدح – الصحيحة 287.
- متفق عليه البخاري، ج1 الوضوء برقم 213 ومسلم ج1 كتاب الطهارة 111 – 292.
- ابن ماجه 1/127، قال الألباني صحيح، أنظر صحيح بن ماجه ج1 برقم 285-355 ، صحيح أبي داود 34 المشكاة 369، الروض 756.(/3)
النظام الاقتصادي في الحضارة الإسلامية
مفكرة الإسلام : جاء الإسلام بدعوة خاتمة لكل الرسالات والدعوات, ونزل القرآن مصدقًا لما بين يديه من الكتب السابقة ومهيمنًا عليها, وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم كخاتم المرسلين بالرسالة العالمية الجديدة للبشر كافة والعالمين أجمعين، لذلك فقد اقتضت عالمية الرسالة الخاتمة أن تكون جامعة مانعة جامعة لها خير يحتاج إليه الإنسان في دنياه وأخراه, ومانعة لها ما يؤذيه ويكدر صفو حياته ويعطل سيره لأخراه, فجاء الإسلام بدعوة دين ودولة ودعوة حياة اجتماعية وسياسية واقتصادية وفكرية ووضع أسس العقيدة النقية ونظم العلاقات على كل المستويات لتنتج لنا في النهاية مجتمعًا مسلمًا متميزًا في كل شئ عقديًا وسلوكيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وفكريًا وحضاريًا.
ومن أبرز ما تميزت به الحضارة الإسلامية والتي تمثل تفاعل كافة القيم والتعاليم الإسلامية مع المجتمع البشري هي تلك النظم التي قامت عليها تلك الحضارة الإسلامية والتي شملت أمور الحكم والإدارة والسلام والحب والاجتماع والاقتصاد وكل ما يتصل بتنظيم أمور الدولة المسلمة التي هي المحتوي العلمي لقيم الحضارة الإسلامية, وحديثنا في هذا المقام عن النظام الاقتصادي في الحضارة الإسلامية.
* بيت المال 'وزارة المالية':
تعتبر الحضارة الإسلامية الرائدة في مجال تنظيم الأموال الاقتصادية والموارد المالية للأمة الإسلامية وعرفت البشرية أول وزارة للمالية على نفس النمط الذي يسود الآن في أرقى الدول المتحضرة وهذه الوزارة الرائدة كانت 'بيت المال', ويعتبر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من أنشأ بيت المال بسبب الفتوحات العظيمة التي تمت في عهده والخيرات التي تدفقت على الدولة المسلمة, فقد روى ابن سعد في طبقاته أن أبا هريرة قدم على عمر من البحرين فلقيه في صلاة العشاء الآخرة فسلم عليه ثم سأله عن الناس ثم قال لأبي هريرة: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم, قال: ماذا تقول؟ قلت: مائة ألف، مائة ألف، مائة ألف حتى عددت خمسًا، فقال عمر، إنك ناعس فارجع إلى أهلك فنم, فإذا أصبحت فأتني، قال أبو هريرة: فغدوت إليه فقال: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم, قال عمر: 'أطيب' قلت: نعم لا أعلم إلا ذلك، فقال عمر للناس: إنه قد قدم علينا مال كثير, فإن شئتم أن نعده لكم عدًا وإن شئتم أن نكيله لكم كيلاً، ونشأت من يومها فكرة بيت المال.
ولقد أنشأ عمر بيت المال الفرعي في كل ولاية يكون خاصًا بموارد ومصارف تلك الولاية وما يزيد يرد على بيت المال العام أو المركز الرئيس بالمدينة, وجعل له أمينًا مستقلاً في عمله عن الوالي وعن القاضي وهو ما عرفه العالم بعد ذلك باسم 'مبدأ فصل السلطات'.
وتعالوا سويًا نقترب من بيت مال المسلمين لنتعرف على موارد ومصارف هذا البيت والذي يمثل للنظام الاقتصادي للدولة الإسلامية، وما يوضح عظمة الحضارة الإسلامية وريادتها في هذا المجال وغيره.
موارد بيت المال:
تنقسم موارد بيت المال في الدولة المسلمة إلى عدة موارد ومصادر تحت القاعدة الأصولية العامة [إن الأصل في الأموال الحرمة وما أبيح أخذه يكون بنص].
وهي القاعدة المستفادة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع [[إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ...]] وهذه الموارد كما يلي:
[1] أولاً: الزكاة: وهي ركن من أركان الإسلام وفريضة محكمة وثابتة إلى قيام الساعة وهي مقدار معلوم من مال الأغنياء يرد إلى إخوانهم الفقراء وهي أرقى صور التكافل والتراحم الاجتماعي والذي لا يعرف نظيره في أي مجتمع من المجتمعات السابقة أو اللاحقة، والمال الواجب فيه الزكاة، أربعة أقسام، [1] زكاة النقد [2] زكاة السوائم والأنعام والماشية [3] زكاة الزروع والثمار [4] زكاة الركاز والمعادن.
وهذا المورد من موارد بيت مال الدولة المسلمة يتميز عن باقي الموارد بتحديد مصارفه وأوجه إنفاقه وهي المذكورة في الآية رقم 60 من سورة التوبة.
[2] ثانيًا: الخراج: لما فتح المسلمون بلاد العراق وأزالوا دولة الفرس المجوس منها وأيضا فتحوا الشام والجزيرة وطردوا الروم منها طلب كثير من كبار الصحابة من الخليفة عمر بن الخطاب أن يقسم الأرض المفتوحة على الفاتحين والمجاهدين كما قسم عليها الغنائم المنقولة من سلاح ومتاع ولكن عمر رأى أن تكون الأرض المفتوحة فيئًا لعموم المسلمين على مر العصور, واستند في رأيه على آيات الفيء الموجودة في سورة الحشر, وأية الفيء هذه لعموم المسلمين حتى في العصور القادمة، وألح عليه الصحابة في تقسيم الأرض ولكنه أبى وأيده في رأيه عبد الرحمن بن عوف وشرح الله عز وجل صدر الفاروق لهذا الرأي الذي كان فيه الفلاح والصلاح للأمة المسلمة، وجعل عمر هذا الأرض عليها مقدار معين من المال تدفعه كل عام وهو ما عرف بالخراج، والأرض الخراجية تنقسم إلى نوعين هما:(/1)
1ـ الأراضي التي فتحت عنوة وبقى عليها أهلها دون أن يدخلوا في الإسلام، يفلحونها لحاجة الدولة لخبراتهم على أن يدفعوا خراجها وينتفعوا بالباقي مقابل عملهم في الأرض.
2ـ الأراضي التي فتحت صلحًا واتفق المسلمون مع أهلها على أداء خراجها مقابل أن تبقي في أيديهم يتوارثونها طالما يدفعون خراجها ولا يستطيع أحد أن يأخذها.
وكان الخراج أحيانًا في صورة مال أو حاصلات زراعية وكان يجبى بعد الحصاد, وحولُه شمسي لا قمري لارتباط الزراعة بالنظام الشمسي والفصول الأربعة.
مع ملاحظة حقيقة هامة تضمن استمرارية الخراج كمصدر هام من مصادر الأموال في الدولة المسلمة وهي أن الخراج لا يسقط عن الأرض أبدًا حتى ولو أسلم أصحابها، ويعتبر كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة من أفضل وأول ما كتب في مصادر بيت مال الدولة ومصارفه كتبه بناءً على طلب الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي أراد ضبط الأمور المالية في خلافته.
كيف تعامل عمر مع أرض الخراج؟
لما اتضح لعمر رأيه في الأرض المغنومة أرسل من قبله رجالاً لمسح أرض السواد 'بالصراق' فبلغت مساحتها 26 مليون جريب، والجريب مساحته تقدر بألف ومائتان متر، أي أن كل 3,5 جريب يوازي فدان زراعي الآن، وجعل عمر على كل جريب مقدارًا معينًا من الدراهم يختلف من جريب لآخر حسب طبيعة الزراعة أو الثمار والزروع, فالكرم والنخل تختلف عن القمح, والشعير عن القطن عن القصب وهكذا, وبلغت قيمة خراج أرض السواد قبل وفاة عمر بعام واحد مائة مليون درهم.
وقد بقي لنا من عهد المأمون العباسي أثر تاريخ هام يدل على مقدار الجباية الخراجية من جميع الأقاليم, وقد ذكره ابن خلدون في مقدمته نقلاً عن كتاب جراب الدولة ولما في ذلك الأثر من الفائدة والتوضيح نذكره كما هو:
الإقليم الخراج النقدي الخراج العيني
1ـ أرض السواد 27800000 درهم 200 ثوب
2ـ كسكر 11600000 درهم 240 رطلاً من التين
3ـ كور دجلة 20800000 درهم
4ـ حلوان 4800000 درهم
5ـ الأهواز 25000000 30 ألف زجاجة ماء ورد/ 30000 رطل سكر
6ـ فارس 27000000 30200 رطل زيت/ 20000 رطل تمر/ 500 ثوب
7ـ كرمان 4200000
8ـ مكران 400000 150 رطل عود هندي
9ـ السندوماييه 12500000 200 ثوب
10ـ سجستان 4000000 ألفان نقرة فضة/ 40000 برذون/ 1000 رأس رقيق
11ـ خراسان 28000000 20000 ثوب
12ـ جرجان 12000000 30000 رطل أهليلج ونوع من الفاكهة
13ـ قومي 1000000 1000 ثوب حريري
14ـ الرويان ودنباوند 6300000 250 كساء/ 500 ثوب/ 300 منديل/ 3000 إناء فضة
15ـ الري 12000000 20000 رطل عسل
16ـ همذان 11300000 1000 رطل رمان / 12000 رطل عسل
17ـ البصرة / الكوفة 10700000
18ـ ماسبذان والريان 4000000
19ـ شهررؤر 6700000
20ـ الموصل 24000000 20000 رطل عسل
21ـ الجزيرة 34000000 1000 رأس رقيق/ 12000 زق عسل/ 10 صقور
22ـ أرمينية 13000000
23ـ برقة 1000000
24ـ أفريقية 'تونس' 13000000
25ـ قنرين 4000000 دينار
26ـ دمشق 420000 دينار
27ـ الأردن 97000 دينار
28ـ فلسطين 310000 دينار
29ـ مصر 1920000 دينار
30 اليمن 370000 دينار
31ـ الحجاز 3000000 دينار
فيكون بهذا الأثر دخل الدولة الإسلامية من الخراج فقط كمورد من موارد الدولة يبلغ 31960000 درهم 3817000 دينار هذا غير العروض الأخرى المذكورة والتي لو قومت لبلغت مبلغًا كبيرًا كل ذلك يرد إلى بيت مال المسلمين ببغداد.
ثالثا: العشور:
ليست كل أراضي الدولة الإسلامية المفتوحة تعتبر أرضًا خراجية بل هناك نوع آخر من الأراضي لا يفرض عليها الخراج وهي التي يفرض عليها عشر غلتها واسمها الأرض العشرية وهي ثلاثة أنواع:
أـ الأرض التي أسلم أهلها وهم عليها من غير قتال ولا حرب.
ب ـ الأرض التي لم يعرف لها صاحب ووزعت على الفاتحين بإذن الإمام.
ج ـ الأرض البور أو الموات التي فتحها المسلمون وقاموا باستصلاحها.
ويلاحظ أنه لا يجوز تحويل الأرض العشرية إلى أرض خراج كما لا يجوز تحويل أرض الخراج إلى أرض عشرية.
رابعًا: الجزية:
تأمر شريعة الإسلام السمحة النقية أنه إذا أراد المسلمون غزو بلد وجب عليهم أولاً دعوة أهله إلى الدخول في الإسلام فإذا لم يسلموا يبقون على دينهم ويدفعون الجزية مقابل دفاع المسلمين عنهم ورد العدوان عن بلادهم وتمتعهم بجميع حرياتهم, وهي تقابل الزكاة المفروضة على المسلمين وتتبين لنا عظمة هذا الدين القويم في أن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال دون النساء والصبيان ولا تؤخذ من مسكين ولا من أعمى ولا من مقعد لا مال له ولا من راهب ولا من شيخ كبير لا يستطيع العمل ولا من المرضى الزمنى, وليس في أموال أهل ذمة المسلمين زكاة، وتتضح أيضًا عظمة هذا الدين في أن مقدارها يختلف من حالة لأخرى حسب يسر الدافع, وقد ذكر أبو يوسف في كتابه الخراج ثلاثة فئات 58 درهمًا على الموسرين، و24 على المتورطين، و12 على العمال، والجزية لا تسقط عن الذمي إلا في حالة واحدة وهي إسلامه 'بخلاف الخراج'.(/2)
وليست الجزية من مستحدثات الإسلام فلقد عرفتها الأمم السابقة, فلقد فرض اليونان القدامى على سكان سواحل آسيا الصغرى في القرن الخامس قبل الميلاد ضريبة أشبه بالجزية مقابل حمايتهم من هجمات الفينيقيين كما فرضها الروم على الشعوب التي أخضعوها لحكمهم وتبعهم الفرس، وكانت الجزية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق على أهل الكتابين اليهود والنصارى, فلما كان عهد عمر بن الخطاب ألحق بهما المجوس عملاً بشدة عبد الرحمن بن عوف, فلما كان عهد المأمون العباسي ألحق بهم 'الصابئة'.
خامسًا: الغنائم:
وهي بحل ما غنمه المسلمون في حربهم ضد الكفار والمشركين من غير الملة, وقد أباحها الله عز وجل لهذه الأمة لما رأى ضعفها وقصر أعمارها وكثرة أعدائها وهي من خصوصيات هذه الأمة الخاتمة ولم تكن لأمة ولا نبي من قبل, وهذه الغنائم عبارة عن المتاع والسلاح والخيل والأموال المنقولة من ذهب وفضة وغير ذلك ولا يستثنى إلا الأرض عملاً بمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في جعلها وقفًا لعموم المسلمين.
والغنائم لا يدخل منها في بيت المال إلا الخمس أما باقي الأخماس الأربعة فتوزع على المجاهدين سواء كانوا من الجند النظاميين أو من المتطوعين، أما مصرف الخمس فهو مذكور في قوله عز وجل في الآية رقم 41 من سورة الأنفال كما يلي:
[1] سهم للرسول صلى الله عليه وسلم ينفق منه على نفسه وأزواجه وفي صالح المسلمين, وقد أسقط أبو بكر هذا السهم بعد وفاة النبي [2] سهم ذي القربى وهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من بنى هاشم وبني عبد المطلب وقد أسقط أبو بكر أيضًا هذا السهم [3] سهم لليتامى [4] سهم للمساكين [5] سهم لأبناء السبيل، وعندما جاء عمر اتفق مع الصحابة على جعل سهم الرسول وسهم قرابته في الكراع والسلاح ومصالح المسلمين وهذا ما عليه الراجح من أقوال أهل العلم.
سادسًا: عشور التجارة:
ولم تكن عشور التجارة من الموارد التي ذكرها القرآن الكريم ولكنها أحدثت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا وسبب ذلك أن أبا موسى الأشعري كتب إليه أن تجاراً من قبلنا من المسلمين يأتون أرض الحرب فيأخذون منهم العشر ـ ويعني أرض الحرب كل أرض أهلها غير مسلمين ـ فكتب إليهم عمر: وخذ أنت منهم كما يأخذون من تجار المسلمين.
وروي أن أهل مدينة 'مبنج' وكانوا نصارى في شمال الجزيرة كتبوا إلى عمر بن الخطاب يقولون: دعنا ندخل أرضك تجاراً وتعشرنا, فشاور عمر الصحابة في ذلك فوافقوا فأصبحت سنة ماضية, وإذا كان القادم بالتجارة من المسلمين فيُسأل هل أدى زكاة هذه التجارة أم لا؟ ويقبل يمينه على ذلك, وهكذا نرى أن العشور تختلف تمامًا عن صورة الجمارك المفروضة اليوم على كل ما يأتي من الخارج سواء كان التاجر مسلمًا أو غير مسلم.
هذا بالنسبة بموارد بيت مال المسلمين أو ما يطلق عليه في الصورة الحديثة بند 'الإيرادات'، أما بالنسبة للمصروفات أو مصارف بيت المال فهي كالآتي:
أولاً: أرزاق الولاة والقضاة وموظفو الدولة والعمال في المصلحة العامة ومن هؤلاء أمير المؤمنين أو الخليفة نفسه.
ثانيًا: رواتب الجند والعسكر, ولم يكن هناك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مرتبات معينة للجند لأن الجميع كانوا جنودًا ولم يكن هناك جيش نظامي بالمعنى المعروف وكان الجميع يأخذ من أربعة أخماس الغنائم والخراج ولما ولي أبو بكر ساوى بين الناس في الأعطيات فلما جاء عمر بن الخطاب قسم العطاء مفضلاً الأسبق فالأسبق وعلى هذه القاعدة كانت المرتبات كالآتي:
12000 درهم لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولعمه العباس/ 5000 درهم لأهل بدر وألحق بهم الحسن والحسين، 4000 درهم لمن كان إسلامه كأهل بدر ولكن لم يشهدها وألحق بهم أسامة بن زيد/ 3000 لعبد الله بن عمر وبعض أبناء المهاجرين والأنصار كعمر بن أبي سلمة/ 2000 درهم لأبناء المهاجرين والأنصار/ 800 درهم لأهل مكة 400/300 لسائر الناس/ 600 إلى 200 لنساء المهاجرين والأنصار/ 9000 لأمراء الجيوش والقراء، وهكذا كان الحال, فلما كثر الناس عن حاجة الغزو والجهاد ولدواعي قيام الحضارة العمرانية اشتغل كثير من الأمة بغير الجهاد من الصنائع فلجأت الدولة للجيش النظامي وأصبح هناك دواوين خاصة بالجند ينالون منها الرواتب الخاصة بهم على رأس كل سنة.
ثالثًا: تجهيز الجيوش وآلات القتال من سلاح وذخائر وخيل وما يقوم مقامهما.
رابعًا: إقامة المشروعات العامة من جسور وسدود وتمهيد الطرق والمباني العامة ودور الاستراحة والمساجد.
خامسًا: مصروفات المؤسسات الاجتماعية مثل المستشفيات والسجون وغير ذلك من مرافق الدولة.(/3)
سادسًا: توزيع الأرزاق على الفقراء واليتامى والأرامل وكل من لا عائلة له, فالدولة تعوله وتكفله, ومن العرض السابق يتضح لنا النظام الاقتصادي الدقيق الذي ابتكرته الحضارة الإسلامية في خطواتها الأولى ومبكرًا جدًا قبل أي حضارة أخرى سابقة أو حتى لاحقة, فهي صاحبة السبق في تنظيم الموارد والمصارف المالية الخاصة بالدولة، ويبقى بعد هذه الموارد والمصارف كلها أنه قد تفاجئ الدولة بكارثة أو مجاعة أو قحط شديد أو وباء قاتل، وهنا يكون ندب الأغنياء من المسلمين من غير إكراه للصدقة والعطاء لإنقاذ جمهور المسلمين كما فعل عثمان بن عفان مع المجاعة في عهد أبي بكر الصديق عندما تصدق بأموال طائلة لنجدة المسلمين وكما فعل عبد الرحمن بن عوف أيام عمر بن الخطاب وأمثال ذلك كثير عبر التاريخ الإسلامي مما يضمن استمرارية تدفق الأموال على خزينة الدولة دون إكراه أو مصادرة أو إجبار.
وهكذا نرى أن المنظومة الاقتصادية في الحضارة الإسلامية كانت تمثل معلمًا بارزًا من معالم تلك الحضارة ضمنت لتلك الحضارة وتلك الدولة المسلمة الاستقلالية والاستمرارية والتوسع والانتشار وأيضًا الشفافية في التعامل والحرية في اتخاذ قراراتها فإن الدولة متى اعتمدت على غيرها في المساعدات والقروض فقد تخلف طواعية عن سيادتها واستقلاليتها لصالح من تأخذ منه الأموال وهذا وقع بالفعل لكثير من بلاد المسلمين الآن وهذا رغم تراثهم العظيم والحافل من رصيد التجربة في الحضارة الإسلامي(/4)
النظام العالمي والعدالة الاجتماعيّة "المساواة" (1/2)
د.عبدالله بن هادي القحطاني * 4/6/1426
10/07/2005
إن من المسلّمات التي لا يمكن التنازل عنها لأي نظام يصبو إلى العالميّة هو تحقيق المساواة بين كافة الشعوب، وكفالة العدالة الاجتماعيّة لهم. ومن المؤسف فإن مبدأ المساواة في التعامل مع البشر من خلفيات عرقيّة، واجتماعيّة، واقتصاديّة، وثقافيّة مختلفة مفقود في الأيديولوجيات المسيطرة على العالم، فالهند "أكبر ديموقراطية في العالم" -كما يزعمون- تعاني ولقرون عديدة من نظام طبقيّ اجتماعيّ مقيت cast system) )يُعامل بعض أفراده كآلهة ( Avatars ) بينما يُعَدّ الآخرون، وهم الغالبية الساحقة أقل قدراً من العبيد، ويسمّوْن بطبقة المنبوذين (Untouchables) ليس لهم أية حقوق، وعلى الرغم من أن المسلمين لا يُصنفون دينياً وفقاً للهندوسية ضمن هذا السلم الاجتماعي الظالم، إلا أنهم يعاملون في كثير من أرجاء الهند معاملة جائرة ظالمة، ناهيك عن البقرة التي يقدسها ويعبدها كثير من الهندوس.
وأما النصرانيّة التي لم يُكتب لها أن تُطبّق كنظام حياة متكامل كما في الإسلام إلا أنها تحوي في تعاليمها كثيراً من المبادئ العنصريّة، والتي اتخذها كثير من أتباعها ذريعة لاستعباد الشعوب الأخرى واستعمارها. وفي الجانب الآخر، فإن التعاليم التلموديّة التي تقوم عليها اليهوديّة الحديثة تعلي من شأن اليهودـ وتصفهم بأنهم شعب الله المختار، وأما الأمم الأخرى بما فيهم أعوانهم من النصارى، فتصفهم بأنهم أمميّون، ويمكن أن تمتد القائمة لتشمل الشيوعيّة، ونداءاتها الجوفاء "بأن الناس سواسية"، والتي واقعها أن هناك" أناساً أكثر سواسية من غيرهم". وأما الرأسماليّة الطاغية بظلمها على العالم اليوم فإنها لا تهدف ولا حتى على المستوى التنظيري إلى تطبيق المساواة؛ لأنها تشجّع الابتزازيّة المطلقة، وتقوم على الاحتكار الذي يؤدي إلى اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وينعكس ذلك في كافة مناحي الحياة. بينما الاشتراكيّة والتي –نظرياً- تدعو إلى رأْب الصدع بين الشيوعيّة والرأسماليّة وبلورة نظمهما في بوتقة جديدة، ما فتئت إلا أن تخبطت في حمأة أخطاء ذينك النظامين. وبهذا لم تنجح في أن تقدم خياراً مقبولاً لنظام عالمي جديد، وبهذا فإن الإسلام يبقى الخيار الأوحد لنظام يسير حياة البشريّة. فهو يحترم حقوق البشر بغض النظر عن اختلافهم، ويعتبرهم أعضاء في أمة عالميّة واحدة تحيا في كنف الله في سلام ووئام، وبعد هذه المقدمة العامة فإنني سوف أتطرق لتعاليم بعض تلك الأنظمة بشيء من التفصيل، ومقارنتها بتعاليم الإسلام، فيما يتعلق بالمساواة بين البشر، بغض النظر عن الفوارق الاجتماعيّة والعرقيّة وغيرها.
1- النصرانيّة ومبدأ المساواة:
فمن خلال استعراضنا لبعض تعاليم النصرانية في كتبها الأصلية نقرر في كونها نظاماً يمكن أن تتطلع إليه الإنسانية ليحقق العدل والمساواة، وخاصة أن دستور أكبر دولة نصرانية في العالم قد تأثر كثيراً بتعاليم الكتاب المقدس عند النصارى، ولتعاليمها تأثير كبير على قادة الولايات المتحدة، ومثال ذلك مقولة الرئيس ريجان في خطاب ألقاه خلال فترة الحرب الباردة، قال فيه:
" لقد بدأت الأمور تتضح، ولن تكون بعيدة الآن، فإن إزاكل (1) يقول بأن النار والحمم ستمطر على أعداء شعب الله، وهذا يجب أن يعني أنهم سوف يُدمرون بالأسلحة النووية .. جوج الأمة التي تقود كل قوى الظلام الأخرى ضد إسرائيل، والتي سوف تأتي من الشمال فإن روسيا هي جوج ... وبما أن روسيا قد حاربت الإله .. فإنها تنطبق عليها أوصاف جوج وماجوج بدقة متناهية "(2).
وفي الحقيقة فإن رسالة عيسى الحقيقية كانت موجهة لشعب بني إسرائيل في عهده عليه السلام، ومازالت بقايا ذلك في كتب العهد الجديد عند النصارى.
( متى 10: 5ـ6)
فهي إذن ليست رسالة عالمية لكل البشر ولكل الأزمنة ، بل محدودة بزمن معين ولشعب بعينه . وفي مقطع آخر من العهد الجديد يشير متى إلى حادثة مرت بعيسى (عليه السلام ) حسب زعمهم وفيها إجحاف كبير على نبي الله أعزه الله وشرفه عما يقولون ، واتهام له بأنه عنصري متحيز ، فهو لا يرى أن أحداً أهل لدين الله من بني إسرائيل ، ولاشك في أن ذلك تجن على نبي من أولي العزم كرمه الله بالرسالة ، وجعل ميلاده معجزة وآية ، ولكنه دليل على أن تعاليم النصرانية الحالية تعاليم متحيزة ولا تسمو لتطبيع المساواة بين البشريّة.
(متى15: 21 ـ 26) .(/1)
ولاشك أن هذه المقاطع من كتاب النصارى المقدس قد وُضعت لتأكيد اصطفاء بني إسرائيل على كافة الأمم، وبأن ما ينطبق عليهم لا يمكن أن ينطبق على غيرهم مع إيماني بأن نبي الله ـ شرّفه الله عما يقولون ـ لايمكن أن يتلفظ بمثل هذه الكلمات التي تدل على احتقار الشعوب الأخرى والانتقاص منهم، وكأنهم ليسوا عباداً لله مثلهم. ولكنه أيضاً دليل على أصول العنصريّة الحديثة المعتمدة على التعاليم النصرانيّة المحرفة. والتي مهّدت للاستعمار والحروب الصليبيّة واستعباد الأحرار من عباد الله.
فهذا السيناتور جون كالهون ( John Calhoun )من كارولينا الجنوبيّة يقول حول أحقيّة السود بالعبوديّة دون غيرهم:
" إن الحريّة عندما تُعطى لأناس لا يستحقونها فبدل أن تكون بركة فإنها تكون لعنة ... فإن الله خلقهم عبيداً .. وهذا هو وضعهم الطبيعي (3).
ونحن لا يساورنا أدنى شك بأن التعاليم الأصلية للنصرانيّة كما أتى بها نبي الله عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ كانت تعاليم خير وعدل وبركة، ولقد بقيت آثار لتلك الشريعة السمحة في بعض كتب النصارى الموجودة، ولكنه مع الأسف إندرس كثير منها في ظل التغييرات المتكررة في المجامع الكنسية المختلفة، حتى أصبح هناك نسخ متعدّدة من "الكتاب المقدس" بينها مساحات واسعة من الاختلاف، حتى غدا الكثير من فرق النصارى وكأنها أديان مختلفة تماماً.
2- اليهود ومبدأ المساواة بين الأمم الأخرى :
لقد أعطى (4) التلمود اليهود مرتبة لا يرقى إليها أحد من شعوب الأرض ولا حتى الملائكة، فاعتبر أن اليهود شعب الله المختار، فاليهود حسب التلمود أقرب إلى أن يكونوا آلهة، أما غيرهم من الأمم فهم " قيوم" غير مؤهلين لمرتبة اليهود، بل أقرب من أن يكونوا أقل من البشر، وخطورة هذه الرؤية العنصريّة هو أن التلمود يعتبر المرجعيّة الأولى عند اليهود.
وهذا إسرائيل شاحاك (المفكر اليهودي البارز) يقول:
" بأن المفهوم التلمودي الأرثوذكسي والذي يُرجع إليه بكثرة في كل الأوقات، هو أن الكون مقسم إلى خمسة أقسام: الجمادات ، النباتات والخضروات ، الحيوانات ، سائر البشر ، واليهود . وأن الفرق الشاسع بين اليهود وسائر البشر مثل البون الشاسع بين البشر والحيوانات " (5).
ولقد بين الكاتب اليهودي المعاصر هرمن ووك( Herman Wouk) في كتابه هذا هو إلهي (This is my God) بأن:
" التلمود يبقى حتى يومنا هذا القلب النابض للدين اليهودي ، فبغض النظر عن كوننا أورثوذكس، محافظين، إصلاحيين، أو مجرد متعاطفين فنحن نتبع تعاليم التلمود، إنه قانوننا".
ومن وجهة نظر اليهود فإن سبب اختيارهم واصطفائهم على سائر الأمم؛ هو أن غير اليهود لم يكونوا حضوراً عند جبل الطور كما يقول التلمود حيث تم تطهير اليهود من الخطيئة الأصلية التي يلصقونها بحواء؛
عندما اقتربت الحية من حواء نفثت فيها الفحش الخبيث .. وعندما وقف بنو إسرائيل على سيناء تم تطهير ذلك الفحش، ولكن فحش أولئك الوثنيين الذين لم يقفوا على سيناء لم يتوقف.
وعلى أية حال فاليهود وفقاً للتعاليم التلموديّة لا يمكن أن يكون لهم نداً أي من البشر، بل التلمود يتعامل مع غير اليهود وكأنهم ليسوا بشراً، وهذا قد يساهم في تفهم الحقد المقيت الذي يكنّه اليهود للأمم الأخرى؛ فهذا مقطع من التلمود يبين كيف يجب أن تكون العلاقة بين اليهود وغيرهم من الأمم ـ
الأممي (القيوم) لا يمكن أن يكون جاراً بمعنى تبادل الحقوق والواجبات .. بل إن قوانين الأمميّين لا ترقى إلى ذلك أبداً فلا يمكن أن تكون هناك علاقة مبنية على حقوق مشتركة .(Belc 13 b)
وبهذا فالتلمود لا يتورع في أن يبيّن حق اليهود في الحكم لصالحهم، وإن كانوا جائرين ظالمين لغير اليهود. فقانون الكيل بمكيالين أمر مشروع جداً عندما يكون ذلك في صالحهم وضد أعدائهم من غير اليهود، وقد يساهم هذا في تفهم الصلف الصهيوني في التعامل مع الفلسطينيين اليوم، وتجاهلهم لقرارات الأمم المتحدة، فهي بالنسبة لهم منظمة "قيوميّة" أمميّة يذعنون لأحكامها عندما تكون لصالحهم فقط . فمنظمة العلاقات الأمريكيّة الاسرائيليّة IPAAC)) المعروفة باللوبي الصهيوني الذي يستخدم نفوذه المذهل في الضغط من أجل ألاّ تطبق على إسرائيل من خلال مجلس الأمن أو غيره أية عقوبات أو إدانات قوية، وبما أن غالبية الناشطين اليهود في أمريكا من الصهاينة، فإن التلمود هو مرجعهم الأول في تقنين الظلم والكيل بمكيالين إن لم يكن بمكاييل كثيرة. وهذا المقطع التالي من التلمود يظهر غاية الجور وانعدام العدل والمساواة بين اليهود وغيرهم من الأمم،(/2)
عندما تقع مقاضاة بين إسرائيلي ووثني heathen ـ مع العلم أن هذا المصطلح يُطلق على النصارى أيضاً ـ فإن أمكن الحكم لصالح اليهودي وفق قانون إسرائيل فلا بأس فأحكم له وقل هذا "شرعنا"، وإن كان بالإمكان الحكم لصالح اليهودي بقانون الوثنيين فاحكم لليهودي، وقل للوثني"هذا شرعكم" ، وإن لم يكن ممكناً الحكم لليهودي بناءً على أي الشرعين فلتجد ذريعة للتحايل عليهم .Babakama 113a))(6)
ومن أمثلة احتقار اليهود لغيرهم واعتبار أنفسهم أمة مختارة على سائر البشر، أن تلمودهم يتحدث عن سائر الأمم بأنهم في منزلة منحطة ، ولا يمكن قبولهم كيهود حتى لو رغبوا ذلك ، فالتلمود يحرم تدريس التوراة لغير اليهود .
ووفقاً للموسوعة اليهودية :
فإن التلمود يحرم تدريس الأمميين التوراة ( ميراث أبناء يعقوب ) بل إن ر. جوهان يفتي بأن من يفعل ذلك "يستحق القتل " (7) .
فبلا أدنى شك فإن نظاماً عنصرياً بهذه الدرجة لا يمكن أن يتقبله أحد كنظام حياة عالمي ينظم حياة كافة البشر . ولهذا فلا عجب بعد ذكر هذه المقتطفات البسيطة والمحددة من التلمود حينما تستمع لتصريحات القادة الصهاينة المتعجرفة والجائرة في عدم احترام حياة وحقوق غير اليهود ، وكأنهم ممنوحون دماءً خاصة . وتعاملاً خاصاً يميزهم لأنهم يهود على سائر الأمم ، فهذا مناحيم بيغن (الرئيس السابق للكيان الصهيوني) يرد بصلف وتعجرف على انتقادات واستنكارات الصحفيين والمنصفين بل كافة دول العالم حول مذبحة صبرا وشاتيلا التي قُتل فيها المئات من الأبرياء أطفالاً وشيوخاً ونساءً ، قائلاً :
قيوم "غير اليهود" يقتلون قيوم وتريدون أن تحاسبوا اليهود على ذلك ؟! (8)
وما المداهمات الإجرامية التي تقوم بها القوات الصهيونية في قتل الفلسطينيين وتهجيرهم وهدم بيوتهم وتشريدهم وجرف مزارعهم وأشجارهم التي قد تأصلت جذورها في أراضيهم لعشرات السنين قبل احتلال اليهود لبلادهم، إلا مثالاً حياً أمام العالم الذي انعدمت فيه أي مصداقية لحقوق المسلمين لتعاليم التلمود العنصريّة.
بل إن شارون وتعامل حكومته مع الفلسطينيين بأقصى درجات الإرهاب على مسمع ومرأى من العالم، ومقتل داعية حقوق الإنسان الأمريكية دهساً بالجرافة أمام أعين الصحفيين والمصورين والعالم كله- إلا مثالاً لتلك الرؤية العنصرية الحاقدة التي تجذّرت في العقليّة الصهيونيّة المستشرية للحقد والكراهية والظلم . وما اغتيال الشيخ أحمد ياسين ـ الطاعن في السن المصاب بشتى العلل والمشلول تماماً ـ بأمر شارون نفسه رئيس وزراء الدولة الديموقراطيّة الوحيدة والمحافظة على حقوق الإنسان في الشرق الأوسط كما يزعم ـ بدماء باردة بل بكل فخر واعتزاز ودون أي مبالاة برد فعل واستنكار العالم كله إلا دليل آخر على فساد الفطرة، وتأصل نظرة الحقد والاحتقار لكل ما هو غير يهودي، ومحاولة استغلاله وابتزازه بأشرس الطرق وأخس الوسائل.
ومع هذا قد يقول قائل من محبي السلام واللاهثين وراء سراب اليهود: إن تلك التعاليم آثار قديمة قد لا يكون لها تأثير كبير في واقع الممارسات الإسرائيليّة في واقعنا اليوم. فإسرائيل دولة ديموقراطيّة، وتلك تعاليم عنصريّة راديكاليّة، فلنستمع سوياً لتصريحات رئيس وزراء إسرائيل لما سببوه من دمار وقتل يفوق الخيال بغزو لبنان بلد ذا سيادة وحرمة .. فلقد رد بيغن بصلف على تساؤلات الأمريكيين حول المذابح التي ارتكبت قائلاً:
لا نشعر نحن بالمسؤولية لتبرير ما نقوم به للآخرين .. نحن فقط نبرر ذلك لأنفسنا (9) .
وبمفهوم تلمودي فإن كلماته تعني " أن اليهود أكبر وأعلى من أن ينتقدهم القيوم (غير اليهودي) وإن كان سيد نعمتهم وحامي ديارهم وحليفهم الأول" ومثال آخر على ذلك التفكير العنصري الصهيوني هو ما نشرته صحيفة صن داي Sunday) ) حول الحاخام والكيميائي اليهودي (موشيه أنتل مان) Moshe Antelman)) والذي يفخر بأنه استطاع تطوير رصاصة تحتوي على شحم الخنزير ولكن لم فعل ذلك؟ تقول الصن داي:
إن (أنتل مان) حاخام وكيميائي يهودي طوّر رصاصة مشبعة بشحم الخنزير لاستخدامها ضد الملتزمين من المسلمين، والذين يؤمنون بأن أي اتصال مع الخنزير يفقدهم الفرصة في دخول الجنة، حسب زعمه .. ولقد قدم هذا الحاخام "الطيب" اختراعه هدية لمستوطني الضفة الغربية، وبأمل أن يحصل على اهتمام البنتاغون في الاستفادة من هذا الاختراع الخنزيري العسكري (10).
وهذا مثال آخر سقناه عن كيف ينظر النخبة من اليهود ورجال الدين من الحاخامات للأمم الأخرى من غير اليهود.
كما يبين حقيقة اليهودية المعاصرة شاهد من أهلها، ألا وهو المفكر السياسي العالمي اليهودي الأمريكي الجنسيّة وأستاذ علم اللغة الشهير في معهد ماستشوستش للتكنولوجيا، البروفسور نعوم لتسوسكي Noam) Chomsky ) في مقابلة أجراها معه ديفيد بارسا ميان (David Barsamian)حيث أجاب تشوسكي على سؤال وجه له حول نظرة اليهود للناس الآخرين فقال:(/3)
"لو نظرت إلى الثقافة اليهودية التقليدية سواء كانت في أوروبا الشرقية أوفي شمال أفريقيا ، لوجدت أنها تعدّ النصارى و غير اليهود وكأنهم مخلوقات مختلفة أقل مستوى من اليهود ... ولهذا فعلى سبيل المثال فإنه لا ينبغي للأطباء اليهود أن يعالجوا غير اليهود إلا إذا كان ذلك يعود بالفائدة على اليهود، ولهذا فإن موسى بن ميمون " الطبيب اليهودي الشهير" كان يعمل لدى السلطان صلاح الدين الأيوبي لأن اليهود سوف يستفيدون من هذا العمل وليس العكس (11).
وعندما سئل تشوسكي هل تلك النظرة الدونيّة من قبل اليهود جزء من تعاليم اليهوديّة الأصليّة أم جزء من الثقافة اليهوديّة الشائعة؟ .فقال:
إنها في الحلقة Halakah( التعاليم الحاخامية ) ... هناك الكثير من هذا، لقد كانوا أقلية مضطهدة ، ولكنهم كانوا عنصريين في نفس الوقت ، فهم يصبحون عنصريين عندما يصبحون أغلبية غير مضطهدة (12) .
ومما يبرز أهمية إظهار التعاليم والتشريعات العنصريّة اليهوديّة هو تشدّق كثير من الساسة والإعلاميين والمثقفين الأمريكان بأن حضارتنا هي "حضارة يهودية ـ نصرانية " (Judo-Christian) فإن كانت الحضارة الغربية حسب ما يقولون، فإنها بلاشك هجين غير متناسق من حضارتين (إن صحّ التعبير) متناقضتين في ركائزها العقديّة والأخلاقيّة، وإن جمعتهما أساطير ونبوؤات توراتيّة تفوح منها رائحة العنصريّة والاحتقار للأمم الأخرى، و بدأت طوائف نصرانيّة متطرفة أكثر من أي وقت مضى تربط مستقبلها السياسي وهيمنتها على العالم بإسرائيل وأساطيرها؛ إذ أدخل اليهود كجزء أساسي في منظومتها للهيمنة العولمية. ومن أولئك من يسمون "بالنصارى الصهاينة أو اليمينيين الجدد" . وهم من يحكم أمريكا في الوقت الحاضر، لقد استطاعوا السيطرة على حزب الجمهوريين في الولايات المتحدة لما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمن، ولهم امتداد يتزايد في مناطق أخرى من العالم وخاصة أوروبا.
________________________________________
* أ ستاذ مشارك جامعة الملك خالد - أبها
1- أحد الحواريين عند النصارى .
2- Jim Hill and Raud Cheadle's (1996) The Bible Tells Me So. Anchor Book : New York (P.129).
3- Jim Hill and R. Cheadle, P.
4- عالمية الإسلام ص 13 ترجمة الحاشية رقم
5- Israel Shahak. “Israeli Apartheid and The Intifada” Race & Class,30 (1) 1988 : 1-12 (P.3) .
6- The Jewish Encyclopedia .ed.Cyrus Adler, Isidore Singer, New York, London: Funk – Wagnalls, 1901-1906, P.620
7- T. Pike, (61) from The Jewish Encyclopedia (p. 623), Sanh. S 9a,Hagigah 13a .
8- T. Pike, p. 53
9- T. Pike. P.72. from New York Times, 5 August 1985, p. 1 and National Geographic, April 1983, p. 514
10- Sunday. August 28,1994, p.18.
11- David Barsamian and Noam Chomsky. Propaganda and The Public Mind. South Press : Cambridge, 2001,p85
12- Barsamian and Chomsky,p.85
النظام العالمي والعدالة الاجتماعيّة "المساواة" (2/2)
د.عبدالله بن هادي القحطاني * 14/6/1426
20/07/2005
3.الهندوسيّة ومبدأ المساواة :
تحوي تعاليم الهندوسيّة نظاماً اجتماعياً طبقياًً دينياً صارماً وجامداً يفتقر معه إلى أدنى مستويات المساواة والعدالة الاجتماعية، وقد أشار إلى ذلك المستشرق الفرنسي جوستاف لابون (Gustave lebone) في كتابه حضارة الهند أن هذا النظام الطبقي العنصري يصنف الناس إلى أربعة طوائف:
1. البراهما: وهم طبقة سدنه المعابد والرهبان.
2. الكشتريا: وهم طبقة الحكام والقادة العسكريين.
3. الفايزا ياس: وهم طبقة التجار والصناع والزراع.
4. السودراس: المنبوذون وهم الطبقة الدنيئة ودورهم حسب التعاليم الهندوسية خدمة الطبقات العليا، فهم لم يخلقوا إلا لخدمتهم (1).
ولكل طبقة من هذه الطبقات عالم خاص بذاته، مختلف تماماً عن باقي الطبقات، فهذا النظام يعكس أسوأ صور التمييز العنصري وعدم المساواة، ولقد جلب هذا النظام الاجتماعي الطبقي الجائر أحد مؤسسي الهندوسية مانوManu)) خلال حقبة ازدهار الحضارة البراهمة، ثم أصبح جزءاً من الديانة الهندوكية. و يشير جوستاف لوبون إلى بعض تعاليم مانو فيقول:
" لقد أعطى هذا القانون للبراهما تميّزاً وحصانة ومكانة عالية مما رفع درجتهم لتصبح موازية للآلهة .. فكل من يولد برهمياً فهو أفضل المخلوقات على الإطلاق، فهو مالك كل شيء.ومهمته الأساسية هو حماية الشاستراز (التعاليم الهندوسية التي تعطي الشرعية لسلطة البراهما). فبينما التعاليم الهندوسية تؤكد أن: "كل ما على الأرض ملك للبراهما؛ لأنهم الأعلون بين كل المخلوقات، وكل الأشياء لهم".(/4)
أما حال المنبوذين (سودراتر) في الديانة الهندوسية فلا يمكن أن يتصوره خيال أو يقبل به عقل، فهم حسب تعاليم الشاستراز أقل درجة من البهائم. فلا يجوز للسودراتر أن يمتلكوا شيئاً، وحتى لو سنحت لهم الفرصة، لا ينبغي لهم فعل ذلك؛ لأن ذلك يؤذي البراهما، فلا شرف أعظم للسودراز من أن يسهروا على خدمة البراهما ... بل إن التعالم الهندوسية توكد بأن "فدية قتل كلب أو قط أو ضفدع أو سحلية أو غراب أو بومة وقتل السودراز سواء" . فلايمكن أن يتصور عاقل أن هذا الدين صالح للبشرية؛ فهو يفتقر لأدنى مسلمات المساواة والعدالة الاجتماعية، وقد احتوت الهندوسية نوعاً جديداً من التمييز العنصري ضد الأقلية المسلمة "أكبر أقلية في العالم" (120)مليون نسمة، "فلقد تبنت الأحزاب الهندوسية المناهضة للمسلمين في الهند سياسة تفرقة عنصرية دينية نحو المسلمين. إذا استمرت فسوف تهدد كيان الهند كدولة تجمع أدياناً مختلفة "(2).
5.الرأسمالية :
يقول جورج تشرش (George Church) في مقاله سباق التسلح الآخر ...
أن الرأسمالية قد أصبحت نظام حياة الملايين من البشر وهم يسعون جاهدين لتشجيع انتشارها والدفاع عنها بحماس شديد. وهذا ما حدا بملايين البشر للانبهار بالرأسمالية ، ويبدو أن غالبية أولئك قد نسوا عشرات السنين من العبودية والمستعمرات المبنية على الجور والتميز العنصري ضد السود وغيرهم من الأقليات، ويبدو أن قليلاً فقط من بين الرأسماليين قد استوقفتهم معدلات الجريمة والاغتصاب والاعتداء على الأطفال المتصاعدة بالإضافة إلى التفرقة العنصرية الظاهرة والمستترة وسوء المعاملة لكبار السن والمشردين ..(3)
ولا يخفى على أحد ما ينتج عن الرأسمالية من جور اقتصادي وخاصة فيما يتعلق بالأقليات والفئات غير المشاركة في الإنتاج مثل كبار السن والأطفال. ولقد نشأت مشكلات اجتماعية جديدة بسبب التغيّرات الكبيرة التي شهدها المجتمع الأمريكي خلال المئة سنة الماضية؛ فلقد نتج عن هجوم الشركات الكبيرة على اقتصاد الأسر المعتمدة على الزراعة والمجتمعات الزراعية الصغيرة مشكلات اجتماعية واقتصادية كان لها تأثير واضح على كبار السن. وعلى الرغم من أن النظام الرأسمالي -كمنهج حياة- قد حقق مكاسب مادية كبيرة لعدد قليل من أفراد المجتمع، إلا أن الغالبية قد عانت من أعراضه الجانبية، ومن بينها كثرة تعداد كبار السن وقلة العناية بهم، وارتفاع عدد الأسر بعائل واحد وغالباً ما تكون المرأة، ومشاكل الأطفال، والأقليات. فلقد أصبح من المظاهر المعتادة أن كثيراً من كبار السن بين المشردين الذين لا مأوى لهم في أواسط كبريات المدن الأمريكية، وقد تنبأ عدد من علماء الاجتماع الأمريكيين بأن مشكلة كبار السن سوف تصبح أكثر تفاقماً في المستقبل (4).
وفي الجانب الآخر فإن معدلات المواليد في تناقص متزايد، وارتفاع أعداد كبار السن دليل على أن مشكلة كبار السن سوف تتفاقم في السنوات القليلة. لقد كانت نسبة المسنين في الولايات المتحدة خلال عام 1900م 4% فقط من تعداد المجتمع آنذاك، ومن المتوقع أن يبلغ عدد المسنين عام 2030م (50 مليون) أي ما يقارب 17% من تعداد المجتمع الأمريكي.
فلنتصور حجم المأساة التي يواجهها ما يقارب خمس المجتمع في وقت يواجهون فيه أفظع صور اللامبالاة والممارسات اللاأخلاقية من اعتداءات وسطو وقتل وتمييز وتخلٍّ من قبل الأولاد، فأي عدالة يحققها هذا النظام الذي يظلم الطفل والشيخ والمرأة. ويحافظ على حقوق القادرين على العمل والإنتاج فقط. وكنتيجة متوقعة للمعاملة الجائرة والتمييز العنصري فإن الأمريكيين من أصول أفريقية "السود"، يواجهون مشاكل مضطردة في مجتمع انعدام المساواة. وعلى الرغم من أن الأمريكان البيض في بعض طبقاتهم الدنيا يواجهون نفس المشاكل ولكن بنسب متفاوتة. فإن 69% من المواليد السود هم أبناء زنا . وثلثي الأطفال السود يعيشون في بيوت ذات عائل واحد ( Single Parent homes)أي برعاية الأم غالباً فقط دون وجود أب، أو الأب فقط، وهذه الحالة تشكل نسبة ضئيلة جداً. كما أن من المتوقع أن يُودع 33% من الأولاد السود تحت سن السادسة عشر السجن لجرائم مختلفة. ويوجد أربع من كل عشرة رجال سود إما في السجن أو في مرحلة الاستئناف أو تحت مراقبة الشرطة الدائمة، وبأسباب تلك الممارسات العنصرية بالإضافة لعوامل أخرى فإن أعلى معدلات تعاطي المخدرات وترك الدراسة والاغتصاب تنتشر بين الأمريكان السود (5).
وبدلاً من بحث الأسباب لهذه الإحصاءات المخيفة، وإيجاد الحلول العادلة فإن مرشح الرئاسة السابق والمستشار لثلاثة رؤساء في الولايات المتحدة الأمريكية السابقين باتريك بوكانن (Patrick Buchanan) يتحدث عن تلك الإحصاءات بأسلوب اتهامي لطبقة السود المسحوقة ويلومها على ما هي فيه من ظلم وفساد (6).(/5)
فلقد واجهت تلك الأقليات العبوديّة والرق وأسوأ أصناف العنف والتمييز العنصري، وهي الآن تواجه التميز العنصري والتجاهل المؤسساتي غير المعلن. إن ما يحتاجون إليه هو جهود صادقة ولكن عادلة تزرع المساواة والعدل وتعوّضهم عن قرون من الظلم والقهر والعنصرية، وليس كيل التهم ولوم الضحية على ما جنته يد الظالم، وبهذا فإن نظاماً جائراً على أهله وفي موطنه لايمكن أن يقيم العدل والمساواة بين شعوب الأرض، فالدعاوى الإعلامية للحرية والإصلاح والعدالة الاجتماعية إنما هي أساليب ملتوية لفرض الهيمنة الأمريكية الرأسمالية الإمبريالية على شعوب الأرض لسلبها مقدراتها وخيراتها بل إنه استعمار جديد والعراق وأفغانستان أكبر شاهد على ذلك.
6.الإسلام والمساواة :
إن من البدهي على كل نظام يدعي العالمية أن يحترم قدرات أتباعه، وأن يقدّر إنجازاتهم بغض النظر عن أعراقهم وخلفياتهم الجغرافية، أو الاجتماعية أو اللغوية أو غيرها. فهو يقيّم الناس حسب ما يستطيعون فعله، لا وفق ما جبلوا عليه من صفات خلقية لوناً كانت أم عرقاً. فالناس في نظر الإسلام سواسية أما الاختلافات الطبيعية بين الناس فإنها لمقاصد وحكم تتطلب منا التدبر والتقدير لا الازدراء والاحتقار وسلب الحقوق.
قال الله : (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ) [الروم:22] وقال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: "الناس سواسية كأسنان المشط" "لا فرق بين عربي ولا عجمي ولا أحمر ولا أسود إلا بالتقوى".
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم".
فالإسلام يرفض كل أشكال الاستعلاء على الخلق والتكبر والتمييز العنصري البغيض الذي ينقص من آدمية الإنسان وتكريمه الرباني.
قال الله تعالى:( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الاسراء:70] وقال سبحانه:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...)[الحجرات: من الآية13].
ولقد أذهلت المساواة كما يدعو إليها وآلياتها العملية والتطبيقية واحدة من أكبر شعراء الهند ساروحيني نايدو (Sarojni Naidu) حتى عبرت عن هذه المساواة بقولها:
إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي أرسى وطبق الديموقراطية الحقيقية؛ فالمساواة الإسلامية تتجلى كل يوم خمس مرات، عندما ينادى المؤذن للصلاة فيجتمع المسلمون زرافات ووحداناً، حينها يقف الحاكم والمحكوم جنباً إلى جنب ساجدين لله ومردّدين "الله أكبر" لقد أذهلني هذا التضامن الحقيقي الذي يجعل الإنسان أخاً فطرياً لأخيه الإنسان، فعندما نقابل مصرياً أو جزائرياً أو تركياً في لندن مثلاً، فمصر مجرد بلد ذاك الشخص وكذلك الهند أو تركيا".
لقد كان المجتمع المسلم منذ ذلك العهد الأول يجمع في كنفه كافة أصناف الناس يعيشون في وئام ومساواة حقيقية، يعبد بها المسلم نفسه لخالقه، فسلمان منا أهل البيت، و بلال سيدنا، مجتمع تسامت فيه النفوس المؤمنة على كل تصنيفات الجاهلية قديمها وحديثها. بل إن بعض الأرقاء المسلمين يفضل الرق على الحرية لما يحصل له من الأجر، ولما كفل له هذا الدين من حقوق غاية في الرقي والإنسانية، إنها قوانين ربانية ثابتة لا تسير وفق هوى الإنسان ومصالحه المتغيرة، بل تشريعات ربانية مطلقة لا تحدها أي حواجز نسبية مقيدة.
ولقد أذهلت تلك الأسس العالمية للمساواة بين الخلق في شريعة الإسلام مفكرين وعلماء كثر، فهذا ر.ل.ميليما رئيس القسم الإسلامي في المتحف الهولندي بامستردام، يقول:
إن مبدأ الإخوة الإسلامية الذي يضم تحت جناحه كافة البشر بصرف النظر عن اللون والجنس ..هذا المبدأ الذي جعل الإسلام الدين الوحيد القادر على تطبيق الأخوة في حيز الواقع لا في المجال النظري فحسب؛ فالمسلمون في جميع أنحاء العالم يعرفون أنهم جميعاً إخوة في الله .
كما يقول لايتز:
في المساجد ترى المساواة التامة بين المصلين فلا يوجد فيها مقاعد خاصة بأحد، وأي إمام يمكنه أن يؤم المصلين ولا يوجد أبهج من منظر جماعة المسلمين يصلون وهم خاشعون صامتون"
وهذه دييرا بوتر(Deborah Potter) تقول:
الإسلام نظام عالمي وديني كوني جاء لجميع الناس في كل العصور، ولم يحدث أن أقرّ الإسلام آية تفرقة بسبب الوقت أو الوطن أو الثقافة أو الطبقة، فكل مؤمن بالحقيقة مسلم يتمتع بالأخوة الإسلامية مع كافة الناس في كل عصر ومصر, هذا هو سر قوة الإسلام".(/6)
وما تخاذُل المسلمين وظهور بعض الممارسات التي لا يقرها الإسلام إلا بسبب انحطاطهم. فالإسلام لا يحوي في تشريعاته ما يقر أي سوء معاملة أو تمييز ضد أحد للونه أو عرقه أو لغته أو لأي صفة جِبليّة جبله الله عليها.على عكس ما كان الأمر عليه في أديان ونظم تقر بصفة أو أخرى في قوانينها تفرقة عنصرية، أو تفضّل طبقة على طبقة لأسباب عنصرية تتنافى مع مبدأ المساواة بين البشر على منهج من العدل.
فالإسلام يبقى شامخاً دين العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس، وهذا أحد أهم الخصائص المميزة لهذا الدين العظيم، وقد انجذب إليه بسبب هذا المبدأ الأساس آلاف المهتدين من شتى أصقاع الأرض، ومن خلفيات دينية وعرقية واجتماعية مختلفة، ليجدوا مكانهم ضمن المنظومة الإسلامية العالمية السمحة من بلال وعمار إلى مالكوم إكس وسراج وهاج .
كل تلك المبادئ الإسلامية العظيمة للمساواة التي لم تستطع أن تسمو إليها أي حضارة إنسانية على مدار التاريخ، نشأت في بيئة مريضة بأدواء العصبيات وضروب الضلال في اختلاف من العبادات والخرافات. فلو جرت الأسباب التي ندركها في مجراها المعهود فالدعوة التي تأتي من قبل هذه البيئة لن تدعو إلى إله واحد يتساوى لديه جميع الناس، ولن تمنح الإنسان حقاً يتساوى فيه جميع الناس, و لكن هذه الدعوة جاءت بهذا وذاك: جاءت بالدعوة إلى رب العالمين، والى الحق الذي يتساوى فيه أبناء أدم وحواء، وجاءت بذلك لأن إنساناً واحداً خلق الله فيه من قوة ما يكافىء تلك العصبيات جميعاً، وتلك الضلالات جميعا ويتغلب عليها ويجريها في غير مجراها بعون الله وتوفيقه. ذلك هو رسول الله .
|1|2|
________________________________________
* أستاذ مشارك جامعة الملك خالد - أبها
1- Gustave Le Bone. Les Civilization de I’nde, p. 211
2- Khalid Al-Maeena. “Victims of India’s Religious Apartheid.” Arab News, Nov. 29, 1994, p. 10
3- George Church. “The Other Arms Race.” Time, Feb. 6, 1989.
4- Sullivan, etal. Social Problems: Divergent Perspectives. (John Wiley & Sons, New York. 1980, p. 340.
5- William J. Bennett. Index of Leading Cultural Indicators. New York: Broadway Books, 2000, pp. 50-57.
6- Patrick J. Buchanan. The Death of the West. Thomas Dunne Books: New York, 2002, pp. 218-225.(/7)
النظرة العلميّة الجديدة وتأكيد الايمان
أ. د. عماد الدين خليل 4/4/1427
02/05/2006
تحت مسوّغ الدراسة العلمية مُرّرت أفكار فرويد الهدّامة للقيم والأخلاق والفضيلة والحب والوفاء وطاعة الوالدين، وغُرست مكانها مفاهيم كالصراع (الأوديبي) وعقدة (الكترا)، وجنسية الرضاعة، والمرحلة الشرجية، والقضيبية .. الخ.
هل الواقعية ومطالب البحث العلمي تعني ضرورة التحلل القيمي والأخلاقي؟ أين مفهوم التكريم للإنسان، وأفضليته؟ ولو سلمنا جدلاً بصحة افتراضات دارون من الناحية العلمية، فإن نظرية فرويد تجعل الإنسان ـ على العكس ـ في حالة نكوص أبدي .. فكيف يكون الانتخاب الطبيعي في ظل مفاهيم أحادية التفسير للسلوك الإنساني؟ وهل أن تفسيرات فرويد خالية من البعد الأيديولوجي والسياسي؟
أسئلة ملحّة تفرض نفسها على الذهن ولنبدأ بآخرها .. إن فرويد هو -كمعظم المتفوقين في تاريخ الشعب اليهودي- رجل ملتزم، شئنا أم أبينا. ونتائجه في ميدان علم النفس لا تخلو من بعد أيديولوجي أو سياسي، على الأقل في جانبها السلبي الذي يتمحور عند "ضرورة التحلل القيمي والأخلاقي" وتغييب البعد الإنساني في الممارسات البشرية.
إن تحويل الإنسان إلى " كائن جنسي" لهي مسألة في غاية الخطورة؛ لأن إمكانات توظيفها واسعة جداً ولا حدود لها. وإذا لم يكن فرويد قد فعل عبر معرفته النفسية ومعطياته في مجال التحليل النفسي سوى أن منح هذه المقولة شرعيتها العلمية، فإنه قد صاغ أحد أشدّ الأسلحة حدّة ومضاءً لذبح الخصوم وتدمير بنيتهم.
مهما يكن من أمر فإن استنتاجات فرويد هي -كمثيلاتها في دوائر العلوم الإنسانية- مجرد احتمالات .. محاولات للمقاربة .. وليست بحال من الأحوال حقائق ومسلّمات نهائية .. ومن ثم فإنه ما إن مضى على الإعلان عنها سوى فترة محدودة من الزمن حتى تلقّت من علماء النفس الغربيين، بل من تلامذة وزملاء فرويد أنفسهم، من الطعون ما جعلها تنسحب قليلاً إلى الوراء لكي تخلّي الساحة لنظريات -وأشدّد على الكلمة- أكثر حداثة وإقناعاً.
إن إحدى مفارقات العلم الغربي في خلفياته الإنسانية .. ذلك التناقض الحادّ بين نظريتين مارستا دوراً خطيراً في تكييف الحياة الغربية عبر القرن الأخير بوجه الخصوص: الانتخاب الطبيعي لدارون، و(اللبيدو) الفرويدي أو (الأنا السفلى) التي تسحب الإنسان إلى دهاليز الشبق والملذة وتجعله "خائفاً" أبداً و "ناكصاً" إزاء كوابت (الأنا العليا).
إننا قبالة تضاد على زاوية منفتحة مداها مائة وثمانون درجة ينفي أحد طرفيه الآخر .. فنحن إما أن نخضع لمنطق الانتخاب الطبيعي واصطفاء الأقوى، أو نسلّم بمنطق الهروب والنكوص قبالة تحديات الخبرة الدينية والاجتماعية.
فبأيهما نأخذ؟ وأيهما يمكن أن يكون"علماً" يقينياً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟
إن مطالب البحث العلمي -وحتى الواقعية في التعامل مع الظواهر والأشياء- لا تتطلب بالضرورة انفصالاً عن القيم، وانفكاكاً عن الالتزامات الأخلاقية، كما أنها لا تشترط إلغاء الثوابت المتفق عليها لإنسانية الإنسان.
إن هذا لا يناقض ذاك أو يتعارض معه، وإنما يمنحه أطراً واسعة مرنة قد تمنعه ـ من بعيد ـ من الانزلاق ـ باسم العلم ـ صوب الخرافات والضلالات. والذي حدث عبر القرنين الأخيرين، واحد من أكثر الانزلاقات في تاريخ الإنسان حدة وبشاعة .. حيناً تحت مظلة الداروينية، وحيناً تحت مظلة الفرويدية، وحيناً ثالثاً تحت مظلة الوجودية السارترية، وحيناً رابعاً تحت مظلة الماركسية.
وبمرور الوقت أخذت تتضح جملة من الأخطاء الحادة التي عادت بعد أن ذبحت أجيالاً بكاملها من الأوربيين وغير الأوربيين، لكي تذبح المنتمين إلى هذه النظرية أو تلك، وتدين صناّعها وأربابها. ومن عجب أن الأرباب أنفسهم تخلوا عن نظرياتهم ـ أحياناً ـ قبل أن ينسلّ منها الأتباع فيما يذكرنا بحواريات الشيطان وأتباعه في العديد من المقاطع القرآنية:
(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ).[ابراهيم: من الآية22]
الحديث يطول ولكني سأقف قليلاً عند بعض الحلقات.(/1)
يقول المفكر والأديب المجري المعروف (آرثر كوستلر) متحدثاً عن إحدى خبراته أيام كان منتمياً للحزب الشيوعي الألماني في الثلاثينيات: كان الدافع الجنسي مقرراً ومعترفاً به، إلاّ أننا كنا في حيرة بشأنه. كان الاقتصار على زوجة واحدة، بل كان نظام الأسرة كله عندنا أثراً من آثار النظام البورجوازي ينبغي نبذه؛ لأنه لا ينمّي إلاّ الفردية والنفاق والاتجاه إلى اعتزال الصراع الطبقي، بينما الزواج البورجوازي لم يكن في نظرنا إلا شكلاً من أشكال البغاء يحظى برضاء المجتمع وموافقته. إلاّ أن السفاح والاتصال الجنسي العابر كان يعتبر أيضاً شيئاً غير مقبول، وكان هذا النوع الأخير قد شاع وانتشر داخل الحزب سواء في روسيا أو خارجها، إلى أن أعلن لينين تصريحه الشهير الذي يهاجم فيه نظرية (كاس الماء) تلك التي تزعم أن العملية الجنسية ليست أكثر خطراً وأثراً من عملية إطفاء العطش بكاس من الماء. وكان الدكتور (ولهلم رايخ)، وهو رجل ماركسي من أتباع فرويد ، ومؤسس معهد (السياسة الجنسية) قد أصدر تحت تأثير (مالينوفسكي) كتاباً سماه (وظيفة الشهوة الجنسية) شرح فيه النظرية التي تزعم أن الإخفاق الجنسي يسبب تعطيل الوعي السياسي لدى الطبقة العاملة، وأن هذه الطبقة لن تتمكن من تحقيق إمكانياتها الثورية ورسالتها التاريخية إلاّ بإطلاق الحافز الجنسي دون حدود أو قيود.
وهو كلام يبدو الآن ـ كما يقول كوستلر نفسه ـ أكثر اعوجاجاً وسخفاً مما كان يبدو لنا في ذلك الحين.
وهذه النظرية التي يصوغها الدكتور الماركسي ـ الفرويدي: (رايخ) والتي تمثل امتداداً ميكانيكياً لمقولة ماركس وانغلز في (المنشور الشيوعي) المعروف، يجيء لينين الزعيم الماركسي لكي يقلبها رأساً على عقب، وهو بصدد مهاجمة نظرية (كاس الماء) .. فتأمل!
من ثم فإننا لا ندهش إذا قرأنا في (حدود العلم) لسوليفان ـ على سبيل المثال ـ أن علم النفس ما زال في الوقت الحاضر في مرحلة بدائية جداً! بل إن البعض ينكر وجود أي علم من هذا القبيل!! وأنه ليس هناك بالتأكيد نظام من المعارف النفسية الثابتة التي جرى إقرارها بصورة عامة، بل هناك عدد من النظريات، لكل منها مجال محدود للتطبيق، وهي تختلف عن بعضها اختلافات عميقة حينما تتناول الظاهرة نفسها.
فإذا كان لنظريتين في علم النفس رأيان مختلفان تماماً إزاء ظاهرة من الظواهر، فكيف يُتاح لنا أن نحكم على صدق المنهج النفسي، وعلميّته ، ويقينيّته؟ فإذا ما تأكد أن إحدى النظريتين مصيبة، بشكل أو آخر، كانت الأخرى بالتأكيد خاطئة، وليس لنا من ثم أن نعتقد بأن علم النفس يتكئ على دعائم ثابتة، كما يحدث في الفيزياء والكيمياء، على الرغم من أن هاتين تتعرضان ـ أيضاً ـ ولكن بنسبة أقل لتغيرات أساسية في صميم مقولاتهما.
وقد يقول قائل: إن كلاً من النظريتين النفسيتين تتضمن قدراً من الخطأ وقدراً من الصواب، وفي هذه الحالة أيضاً لا يمكن الاطمئنان إلى سلامة المنهج الذي يعتمده علماء النفس في صياغة نظرياتهم؛ لأنه ـ في أغلب الأحيان ـ يعتمد التعميم، ومن ثم تختلف النظريات النفسية ـ أحياناً ـ اختلاف النقيض مع النقيض، دون أن يكون هناك قاسم مشترك. ذلك أن
" التعميم " هو الضربة القاتلة لمناهج البحث العلمي الرصين.
ومهما يكن من أمر فإن (سوليفان) يتناول بالتحليل والنقد اثنتين من أبرز النظريات النفسية وأكثرها انتشاراً: النظرية السلوكية ونظرية التحليل النفسي، لكي ما يلبث أن يصدر حكمه على ضعف، واهتزاز النتائج التي توصلنا إليها بصدد تركيب العقل البشري، وطريقة عمله.
وهو يرى أن السلوكيين، إلى جانب قيامهم بوضع نظريات على أسس واهية جداً من الحقيقة، فإنهم يقدّمون نظريات تناقض خبراتنا المباشرة. إنهم ينكرون الحقائق الواضحة، ينكرون أننا نستطيع تشكيل صورة بصرية أو سمعية وما إليها في عقولنا. إن أولئك الذين يمتلكون من بيننا قدرة عظيمة على تكوين الصور البصرية العقلية، أو الذين يستمتعون بالإصغاء العقلي للأعمال الموسيقية المحببة لديهم، يعلمون أن هذه المقالة لا تنطوي على أي جانب من الصحة. حقاً إن النظرية السلوكية عندما يجري تطبيقها على العمليات العقلية البسيطة جداً، تبدو قاصرة إلى درجة تصبح معها غير ذات قيمة!
وبخصوص نظرية التحليل النفسي يعرض سوليفان للعديد من المحاولات التي انشقت
عن فرويد، ويشير بسخرية إلى أن عدد هذه المحاولات من الكثرة بحيث ينافس المسيحية في طوائفها، وكل طائفة من طوائف التحليل النفسي تدعي لنفسها، مثل طوائف المسيحية، نظرة شاملة وواقعية، وتشير إلى قائمة مؤتمرة من العلاقات الروحية والجسمانية لإثبات كفاية تعاليمها وصلاحيتها.. إن أي شكل من أشكال التحليل النفسي لا يمكن اعتباره في وضع مرض كعلم. ولا يمكنه اللجوء إلى النتائج من أجل إثبات النظرية؛ لأن هذه النتائج، أي العلاجات التي يقدمها(/2)
(التحليل النفسي)، يمكن بنفس الدرجة تقريباً الحصول عليها من خلال نظريات مختلفة كلية. لذلك لا يمكن الحكم على هذه النظريات من خلال النتائج. ويتبع ذلك أن هذه النظريات يمكن فقط الحكم عليها بالاستناد إلى احتمالاتها الأولية. وهنا نواجه صعوبة تتمثل في أن كل أشكال التحليل النفسي تظهر محتملة بدرجات متساوية تقريباً. وربما وجب التفريق لمصلحة تلك النظريات التي تأخذ بفكرة اللا شعور، وذلك في مقابل تلك التي تنبذ هذه الفكرة. إن مفهوم اللا شعور مفهوم مهم بالتأكيد، لكنه وُجد قبل التحليل بوقت طويل. وهكذا فإن كون التحليل النفسي قد أدخل شيئاً جديداً هو موضع جدل ونقاش.
والنتيجة التي ينتهي إليها (سوليفان) أنه ليس في نظريات علم النفس كافة شيء من شأنه أن يغيّر جدياً في قناعتنا بأن هذا العلم لا يمكن اعتباره علماً حتى الآن. وللمعارف الأخرى أيضاً مثل علم الاجتماع والاقتصاد وما إلى ذلك، بعض النواحي التي لا تعتبر مرضية من وجهة النظر العلمية. والعلم هو أقوى ما يكون عليه عندما يتناول العالم المادي. أما مقولاته في المواضيع الأخرى فتعتبر نسبياً ضعيفة ومتلجلجة!
وهي نفس النتيجة التي ينتهي إليها الكسيس كاريل في (الإنسان ذلك المجهول) .. إن السيطرة على عينة من العالم المادي لغرض فهمها ممكنة إلى حد ما، أما السيطرة على عينة يدخل فيها الإنسان، والعقل، والحياة، طرفاً، فتكاد تكون مستحيلة. ومن قبل سُئل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الروح: معجزة الإنسان، وسرّ العقل، ومفتاح الحياة، فأجاب القرآن الكريم عنه: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً). [الاسراء:85]. وهكذا نرى كيف تتساقط رموز العلمانية الملحدة التي تتنكر لله .. والإيمان .. وها هو ذا جان بول سارتر ، زعيم الوجودية الإلحادية، ينتهي إلى المصير نفسه .. على يده هو وباختياره هذه المرة. إنه يقول فيما ترجمه الدكتور محمد جابر الأنصاري بعنوان: " المحاورة الأخيرة بين سارتر ودي بوفوار" ونشرته مجلة الدوحة القطرية في مايو 1982 م: "أنا لا أشعر بأني مجرد ذرّة غبار ظهرت في هذا الكون، وإنما أنا كائن حساس تم التحضير لظهوره، وأُحسن تكوينه، أي بإيجاز ككائن لم يستطع المجيء إلاّ من خالق" !
ثم ها هو ذا الدكتور أحمد أبو زيد يذكر في مقال له بعنوان: "هل مات دارون حقاً؟"
( نشرته مجلة العربي في تموز 1982 م ) كيف أنه صدر في إنكلترا من شهور قليلة وفي أواخر عام 1981 م كتاب يحمل عنواناً طريفاً هو " التطور من الفضاء : (Evolution From Space) قام بتأليفه عالم الفلك الشهير (سير فريد هويل) وعاونه في ذلك أستاذ هندي يدرّس في جامعة كارديف. ويعترف الأستاذان بصراحة في ذلك الكتاب بأنهما ملحدان، ولا ينتميان لأي دين أو عقيدة، وأنهما يعالجان أمور الفضاء وحركات الكواكب بأسلوب علمي بحت، ومن زاوية عقلانية خالصة لا تحفل ولا تتأثر بأي موقف ديني. ويدور الكتاب حول مسألة احتمال وجود حياة على الكواكب الأخرى، ويتناول بالبحث الدقيق الفكرة التي سادت في بعض الكتابات التطورية عن ظهور الحياة تلقائياً من الأوحال الأولى نتيجة لبعض الظروف والتغيرات البيئية. ومع أن هنالك نظريات معارضة لهذا الاتجاه، وهي نظريات ترى أن احتمال ظهور الحياة من هذه الأوحال أو الطين الأولى لا تزيد عن(1 : 10 : 40.000) أي واحد إلى عشرة أمامها أربعون ألف صفر. مما يعني أنه لا تكاد توجد فرصة لظهور الحياة عن طريق التوالد التلقائي من هذا الطين، وبالتالي فإن الحياة لا يمكن أن تكون نشأت عن طريق الصدفة البحتة، وأنه لابد من وجود عقل مدبّر يفكر ويبدّل لهدف معين. وعلى الرغم من اعتراف المؤلفين الصريح ـ كما قلنا ـ بإلحادهما، فإنهما لا يجدان أمامهما مفراً من أن يكتبا الفصل الأخير من الكتاب تحت عنوان " الله ـ God ".
ولابدّ من الإشارة ها هنا إلى أن المعرفة الإنسانية سواء في ميدان علم النفس أو
الاجتماع ، أو حتى العلوم الصرفة وبخاصة علوم الطبيعة والحياة، عادت عبر العقدين الأخيرين لكي تتصالح مع الإيمان، وهذا يعني بالضرورة تصالحها مع الثوابت والمرتكزات التي تحترم إنسانية الإنسان، وتميّزه، وتفرّده على العالمين.
إن هذا التصالح أو الوفاق لم يؤثر البتة على حرية العالم في الكشف، بل على العكس إنه يجيء بمثابة دفع وتحفيز للمزيد من الكشف عن الحقائق والنواميس التي لن تكون في نهاية الأمر إلاّ تأكيداً لقصديّة الخلق، وإحكام البناء الكوني، وإبداعية الله سبحانه.(/3)
لنقف بعض الوقت عند كتاب "العلم في منظوره الجديد" لـ(روبرت أغروس) و(جورج ستانسيو) والذي نُشر في العدد (134) من سلسلة عالم المعرفة في شباط 1989 م. مترجم الكتاب الدكتور كمال خلايلي يلخص فصوله الخصبة بالحديث عن الظروف التي نشأت في ظلها النظرة العلمية القديمة التي تطورت في العصور اللاحقة إلى مذهب مادي صارم يؤمن بأزلية المادة، ويرفض من ثم كل ما هو غيبي، ولا يعترف في تفسيره لمختلف الظواهر إلاّ بنوعين هما العلل، وهما الضرورة والصدفة.
إزاء هذه النظرة المادية برزت إلى الوجود في مطلع القرن العشرين نظرة علمية
منافسة، كان من ألمع روّادها آباء الفيزياء الحديثة كـ(آينشتاين) و(هاينزنبرغ) و(بور) وكثيرين غيرهم ممن استحدثوا مفاهيم جديدة كل الجدة أطاحت بالمفاهيم والنظريات الفيزيائية السابقة التي كانت رائجة منذ عصر أرسطو وحتى أواخر القرن التاسع عشر. فقد أثبت آينشتاين مثلاً نسبية الزمان والمكان، بل الحركة. وبيّن الفيزيائي الدانماركي (نيلز بور) أن الذرة ليست أصغر جسيم يمكن تصوّره، كما كان نيوتن يظن، بل إنها هي الأخرى مكونة من نواة يحيط بها عدد لا حصر له من الإلكترونيات. وأجمعت آراء كبار علماء الفيزياء النووية والكوزمولوجيا على أن الكون بما يحويه من ملايين المجرات ومليارات النجوم والكواكب قد بدأ في لحظة محددة من الزمن يرجع تاريخها إلى ما بين (10 و 20) مليار سنة، فثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن المادة ليست أزلية وأن للنجوم آجالاً محددة تولد وتموت كالآدميين، وأن الكون المادي نفسه في تطور وتمدّد مستمرين، بل إن من بين الفيزيائيين الفلكيين المعاصرين من قادته نتائج أبحاثه إلى القول: إن الكون كان مهيأً منذ الانفجار العظيم لتطور مخلوقات عاقلة فيه، وأن الإنسان في مركز الغاية من إبداعه، فرأوا في ذلك كله، وفي الجمال المنتشر في الطبيعة على جميع المستويات، هدفاً وخطة مرسومة، فآمنوا بعقل أزلي الوجود، منتصب وراء هذا الكون، واسع الأرجاء، يديره ويرعى شؤونه.
ثم أعقب هذا الجيل من الفيزيائيين والفلكيين جيل آخر من العلماء المتخصصين في مبحث الأعصاب وجراحة الدماغ، من أمثال (شرنغتون) و(أكلس) و(سبري) و(بنفيلد) وقفوا حياتهم كلها على دراسة جسم الإنسان، فانتهت بهم أبحاثهم إلى الإقرار بأن الإنسان مكون من عنصرين جوهريين: جسد فانٍ وروح لا يعتريها الفناء، وبأن الإدراك الحسّي -وإن كان يتوقف على عمليات فيزيائية وكيميائية- ليس شيئاً مادياً بحدّ ذاته، وخلصوا كذلك إلى ما يفيد بأن العقل والدماغ شيئان مختلفان تمام الاختلاف، وأن الإرادة والأفكار ليستا من صنع المادة، ولا من إفرازاتها، بل هي على العكس من ذلك تؤثر تأثيراً مباشراً في العمليات الفسيولوجية ذاتها.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية شعر كثيرون من علماء النفس أن إخضاع العقل للغريزة في طريقة التحليل النفسي وإلغاءه في المذهب السلوكي قد أفضيا إلى تجريد الإنسان من إنسانيته، فظهرت في الخمسينيات من القرن الماضي قوة ثالثة عُرفت فيما بعد باسم "علم النفس الإنساني". ومن أبرز رواد هذه المدرسة (فرانكل) و(ماسلو) و(ماي) الذين يعترفون بأولية العقل وبعدم قابلية حصره في الخواص الكيميائية والفيزيائية للمادة، وبكون الإنسان قوة واعية تملك حرية التصرّف والاختيار، ويرفضون من ثم تفسير السلوك البشري كله بلغة الدوافع والغرائز والضرورات البيولوجيّة وردود الفعل الآلية، ويؤمنون عوضاً عن ذلك بما يسمى القيم الأخلاقية والجمالية والجوانب الروحية والنفسية والفكرية.
لا بأس ـ أخيراً ـ أن نقرأ معاً بعض مقاطع الفصل الرابع من الكتاب المذكور، والذي يحمل عنوان "الله": "يبدو أن المادة ليست أزلية بالرغم من كل شيء. وكما يعلن عالم الفيزياء الفلكية (جوزف سلك) "فإن بداية الزمن أمر لا مناص منه". كما يخلص الفلكي (روبرت جاسترو) إلى أن "سلسلة الحوادث التي أدت إلى ظهور الإنسان بدأت فجأة وبعنف في لحظة محددة من الزمن، وفي ومضة ضوء وطاقة".
" فهل من إله في كون كهذا ؟ الفيزيائي (إدموند ويتكر) يعتقد ذلك فهو يقول: "ليس هناك ما يدعو إلى أن نفترض أن المادة والطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم، وأنه حدث بينهما تفاعل فجائي. فما الذي يميّز تلك اللحظة عن غيرها من اللحظات في الأزلية؟ والأبسط أن نفترض خلقاً من العدم، أي إبداع الإرادة الإلهية للكون من العدم". وينتهي الفيزيائي (إدوارد ميلن) بعد تفكره في الكون المتمدد، إلى هذه النتيجة "أما العلّة الأولى للكون في سياق التمدّد فأمر إضافتها متروك للقارئ. ولكن الصورة التي لدينا لا تكتمل من غير الله".(/4)
"أما النظرة العلمية الجديدة فترى أن الكون بمجموعه ـ بما في ذلك المادة والطاقة والمكان والزمان ـ حدث وقع في وقت واحد، وكانت له بداية محددة. ولكن لابد من أن شيئاً ما كان موجوداً على الدوام؛ لأنه إذا لم يوجد أي شيء من قبل على الإطلاق فلا شيء يمكن أن يوجد الآن. فالعدم لا ينتج عنه إلاّ العدم. والكون المادي لا يمكن أن يكون ذلك الشيء الذي كان موجوداً على الدوام؛ لأنه كان للمادة بداية. وتاريخ هذه البداية يرجع إلى ما قبل (12 إلى 20) مليار سنة. ومعنى ذلك أن أي شيء وجد دائماً هو شيء غير مادي. ويبدو أن الحقيقة غير المادية الوحيدة هي العقل، فإذا كان العقل هو الشيء الذي وُجد دائماً فلابد أن تكون المادة من خلق عقل أزلي الوجود. وهذا يشير إلى وجود كائن عاقل وأزلي خلق كل الأشياء، وهذا الكائن هو الذي نعنيه بعبارة (الله).. ".
إن هذا الخط الجديد من العلماء، وبموازاته حشد من فلاسفة العلم من مثل (الفرد نورث) و(ايتهيد وسوليفان) وغيرهم ، أبحروا باتجاه معاكس لمعطيات القرن التاسع عشر، قرن الفصام النكد الذي أقامته الكنيسة والإلحاد بين العلم والدين، ودعوا إلى احترام القيم الإنسانية ليس في ذاتها فحسب، بل لكونها تمثل عوامل تسريع في الكشف العلمي والتحام أكثر حميمية بالعالم والطبيعة والكون.(/5)
النفخ في الصور ...
إننا أمام حدث من أحداث يوم القيامة ، وهولٍ من أهوالها ، تفزع منه القلوب ، وتوجل منه النفوس ، إنه حدث يقرع أسماع أصحاب القبور ، فينتفضون من قبورهم ، مبهوتين ، شعث الرؤوس ، غُبْر الأبدان ، قد أفزعتهم الصيحة ، وأزعجتهم النفخة ، وقد صوّر القرآن هذا المشهد تصويرا بليغاً ، فقال سبحانه : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ } (يّس:51) ، وقال تعالى : { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ () فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } (المدثر:8 - 9) . فهو حدث عظيم ، وأمر جليل ، كيف لا وهو مقدمة وبداية ليوم القيامة ، الذي تشيب فيه الولدان ، و { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد ٌ} ( الحج:2) .
لقد اهتم القرآن الكريم والسنة النبوية ببيان أمر النفخ في الصور وما يتبع ذلك من أحداث ، فمما جاء في السنة أن الصور عبارة عن آلة على شكل قرن ينفخ فيها ، وقد ثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما الصور ؟ ، قال صلى الله عليه وسلم : ( الصور قرن ينفخ فيه ) رواه الترمذي وقال حسن صحيح ، وقد أوكل الله عز وجل أمر النفخ في الصور لإسرافيل عليه السلام ، وهو من الملائكة العظام ، ومنذ أن أوكل بذلك وهو متهيئ للنفخ فيه ، وكلما اقترب الزمان ازداد تهيؤه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( كيف أنعم ، وقد التقم صاحب القرن القرن ، وحنى جبهته ، وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر أن ينفخ فينفخ ، قال المسلمون : فكيف نقول يا رسول الله : قال : قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل ، توكلنا على الله ربنا ) رواه الترمذي وحسنه .
وينفخ في الصور نفختان : النفخة الأولى ، وتسمى : نفخة الصعق - الموت - وهي المذكورة في قوله تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } (الزمر:68) وبسماع هذه النفخة يموت كل من في السموات والأرض إلا من شاء الله أن يبقيه . قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الناس يصعقون ، فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى باطش بجانب العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي ، أو كان ممن استثنى الله ) رواه البخاري و مسلم .
وتأتي هذه الصيحة على حين غفلة من الناس وانشغال بالدنيا ، كما قال تعالى : { مَا يَنْظُرُونَ إلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ () فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } (يّس:49-50) ، روى الإمام الطبري في تفسيره عن عبد الله بن عمرو ، قال: " لينفخن في الصور، والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم، حتى إن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومان، فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفخ في الصور، وحتى إن الرجل ليغدو من بيته فلا يرجع حتى ينفخ في الصور " .
أما النفخة الثانية فهي نفخة البعث ،وهي المذكورة في قوله تعالى : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } (الزمر: 68 )
وهي صيحة توقظ الأموات مما هم فيه ، ثم يحشرون بعدها إلى أرض المحشر ، وهذه النفخة هي المقصودة بقوله تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ } ( يس:51) .
أما عن الفترة الزمنية الفاصلة بين النفختين ، فقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بين النفختين أربعون ، قالوا : يا أبا هريرة أربعون يوما ، قال : أبيت ، قال : أربعون سنة ، قال : أبيت ، قال : أربعون شهرا ، قال : أبيت ،.. ) رواه البخاري و مسلم . ومعنى قول أبي هريرة رضي الله عنه : أبيت . أي :أمتنع عن تحديد أي أربعين أراد النبي صلى الله عليه وسلم ، لكونه صلى الله عليه وسلم أطلق لفظ أربعين ولم يحدد . والله أعلم .
هذا طرف من أخبار ذلك الحدث ، ذكرناه لك - أخي الكريم - ، كي تتأمل في هذا اليوم العظيم ، وما فيه من المخاوف والأهوال ، فتشمر عن ساعد الجد نحو لقاء الله تعالى ، فإنه لا نجاة في ذلك اليوم إلا بالإيمان والعمل الصالح . نسأل الله سبحانه أن يتوفانا على الإيمان به والعمل له ، وأن يحشرنا مع عباده الصالحين ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، والحمد لله رب العالمين .(/1)
النفس الإنسانية.. محاولات الاكتشاف
أمين حسن أحمد يس*
لقد حيرت النفس الإنسانية العلماء على امتداد التاريخ البشري على ظهر الأرض، وتعددت تعريفاتها بتعدد الاتجاهات الفكرية حولها، غير أن علماء الغرب الذين تموضعوا في المادة؛ وابتعدوا عن الروح كانوا أقل الناس حظاً في معرفة النفس؛ فهذا (ألكسيس كاريل) يقول في كتابه (الإنسان ذلك المجهول): (إن ما حققه العلماء فيما يختص بدراسات الإنسان ما زال غير كاف، وما زالت معرفتنا بأنفسنا بدائية في الغالب)..
هذه البدائية نجدها في تصور (سكمندي فرويد) للإنسان في قوله: (غريزتان تتحكمان في سلوك الإنسان البطن والفرج).
ثم جاء (كارل ماركس) ليؤسس ذلك كياناً فكرياً واقتصاياً وسياسياً.. ويتبعه في ذلك (فرويد) الذي أسس نظاماً (للمجتمع الغريزي)..
وخارج إطار المادة كان في الغرب من يدعو بخيال مجنح إلى كائن أسطوري ومخلوق خرافي يدعي أنه (الإنسان السوبر)!!.. ذلك هو (فريدريك نيتشه) الذي قال: (إن عهد الآلهة قد ولّى؛ وجاء عهد الإنسان الخارق)..
وما ذاك إلا لأن الغرب لا يملك رصيداًَ حضارياً يسمح له بأن يتعرف على حقيقة الإنسان؛ فتاريخه يشهد بإفلاسه الفكري والحضاري!!.. ويؤكد ذلك مقالات علمائه، وحياة شعوبه التي تكاد تخلو تماماً من المعاني الإنسانية؛ فهم يعيشون حياة يأنف الحيوان البهيم من عيشها.
أما هناك - في الشرق المتمثل في المنطقة العربية الإسلامية فيما يسمى بالشرق الأوسط - فنجد أن النفس تعرف بذاتها من خلال حياة تعبر عنها؛ لأنها تستمد وجودها وحياتها من خالق الوجود والحياة..
لكل هذا كانت نظرة علماء الشرق الإسلامي للنفس مشبعة بهذه المعاني.. يقول ابن تيمية: (الإنسان عبارة عن الروح والبدن معاً، وهو بالروح أخص منه بالبدن، وإنما البدن مطية الروح)!!..
بهذا التكامل والتوازن تبرز قيمة المجتمع المتحضر..
الإنسان في التصور الإسلامي لا يكتسب وجوده صفة النفس إلا باتصال الروح بالبدن.. يقول السهيلي: (الروح هي النفس بشرط اتصالها بالبدن، واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم).
الحديث عن النفس يطول، وإنما أردنا بهذا المقال أن نطل على عالم النفس إطلالة تأخذ بأيدينا لمحاولة اكتشاف ذواتنا؛ إذ أنه لا قيمة لمن يحمل علماً وهو يجهل نفسه، وهل يستقر العلم في نفس تجهل نفسها؟!، أم هل ينتفع به صاحبه؟!.
فالنفس هي معجزة الله الخالدة - بعد القرءان والله أعلم -؛ لذلك يقرن الله بينها وبين خلق الكون بقوله سبحانه: (خلق السموات والأرض في ستة أيام تعالى عما يشركون * خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين)، (ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً).
ما النفس إلا نفخة من روح الله، ولا أعلم بها منه: (الله أعلم بما في أنفسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفوراً)؛ فلا يطيب لها العيش، ولا تعذب لها الحياة إلا به سبحانه!!..
وإن نسيان النفس لربها ما هو إلا نسيان لها (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم)!!..
والإنسان قد يغيب عن نفسه عندما يغيب عنه ذكر ربه، ويعود إليها عودة برجعة أو بغير رجعة؛ قال سبحانه: (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون * فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون * ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون).
المجتمع هو الدولة والحضارة، ولقد اختار الله للنفس مجتمعاً راقياً يضمن لها وجوداً يليق بها في حياة كريمة (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً).(/1)
النفس بين تلبية الغريزة ونداء العقل
وأثرها في تكوين الشخصية
حسن الحسن
alhasan@al-nahda.com
تتشكل شخصية الإنسان من عقلية ونفسية، وهذا أمر مدرك بالحس المتصل مباشرة بواقع الإنسان، ويحدد انسجامهما أو تباينهما نمط الشخصية وطبيعة الحكم عليها.
والعقل هو أداة التمييز والإدراك والفهم، وهو ميزة الإنسان، إن انتفى، رُفع التكليف عنه، وتعطلت لديه القدرة على التفكر والتأمل والتدبر، ويفقد آنذاك معنى تميزه عن بقية الخلائق المشاهدة. ومن هنا كان العقل مفتاح ارتقاء الإنسان وإعماله سبب نهوضه.
وأما النفس فإنها تقابل العقل، وهي التي تصوغ طبائع الإنسان، وتضفي لشخصيته نمطاً معيناً، فتمنحها نكهة وبصمة خاصتين، لذلك يقال: إنّ زيدا شرير، بسبب نفسه الحسودة الحقودة، أو لأنه جشع طماع. ويقال إن عَمْراً خيّر طيّب كون نفسيته أبية سخية سمحة، يحب الخير للآخرين ويعفو عن أخطائهم ويلتمس لهم الأعذار.
وتنسب للنفس صفات تختص بها، كالطيبة والشجاعة والسخاء والمروءة، أو كالبخل والخسة والصّغار، وهي على غرار الصفات التي تنسب للعقل وتختص به، كذكي أو غبي، نبيه سريع البديهة أو بليد.
والنفس لها تأثيرها البالغ على الإنسان، فهي صمّام الأمان للطاقة الحيوية، التي بدورها تشتمل على الغرائز والحاجات العضوية وتُفَعّل الإنسان وتدفعه للقيام بما من شأنه إشباعها.
وإذا تخلّى الإنسان عن عقله وأتبع نفسه هواها، أصبح أسير شهواته الغرائزية وحاجاته العضوية، لتتحكما بنفسيته، فتهيمنا على تصرفاته وسلوكياته بشكل مطلق، وتصبح الشهوة والغريزة والجوعة آنذاك هي من يسيطر على النفسية ويرعاها، وبالتالي ترتخي النفس وتضعف الإرادة، ويبدأ صاحبها باللهاث وراء إشباع شهواته بأكبر قدر من حيث الكم، وبشكل مطلق من حيث الكيف، ويحصل ذلك بشكل تلقائي، تماما كما هو الحال عند الحيوان، وربما أسوأ.
وبما أن نفس الإنسان هي حجر الأساس في استقامة سلوكه وصفائه ونقائه وبناء شخصيته السوية السليمة، كان لا بد من سبر أغوارها وبلورتها، بشكل ينتج وعيا على حسن رعايتها، والاعتناء بها وتهذيبها من الآفات التي ألمت بها. إلا أنه ينبغي إدراك أننا عندما نتحدث عن النفس، فإننا نتناول تحديدا: الميول التي تحرر وتضبط علاقة الغرائز الدافعة لنشاط الإنسان بعقله المرشد له.
ومن جراء استقراء واقع حياة البشر، نرى أن النفس هي ناتج طبيعي لمجموعة من العوامل. فالصفات الوراثية، والبيئة الاجتماعية، والأوضاع العامة السائدة في المجتمع، والظروف التي يخضع لها الإنسان ويحياها، والعادات والتقاليد التي يتربى وينشأ عليها، تمثل بلا أدنى شك الجزء الجوهري في تكوين نفسيته، وتعكسها بوضوح في شخصيته.
خذ أهل الشيشان مثلا، الذين ورثوا الإباء والشجاعة والتحدي كابراً عن كابر، تأبى نفوسهم الضيم وترفض الخضوع للأعداء مهما طال الزمن. على خلاف كثير من الشعوب، التي يعيش أهلها كسالى راضين بواقعهم السيئ، متميزين بالأنانية الفردية الصارخة، نفوسهم خانعة ذليلة، تدور مع المنفعة حيث دارت كثور الساقية، الشح شعارهم والاستسلام للواقع دينهم، وتبرير كل فعل خسيس ديدنهم؛ كل ذلك وغيره، جراء سيطرة الثقافة الغربية في مجتمعاتهم وإطباقها عليهم.
وكذلك يغلب الصدق والوفاء والاتزان على من يعيش حياة مستقرة هنيئة ويتمتع بالطمأنينة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولو كان كافراً، على النقيض ممن يعيش حالة اضطراب وقلق وفوضى وظلم وفقر واضطهاد وسوء رعاية من حاكمه، مما يبرر له الكذب والغش وقلة الوفاء بل ونهش أقرب الناس إليه، ولو كان مسلما.
كما أن انتشار المفاهيم الفاسدة التي ترسخ لدى الناس الارتباط الكلي بالدنيا، مع إشاعة الأجواء التي تطلق للشهوات عنانها، وتبرز المثاليات بالسيقان العارية وبالجمال الأخاذ، وبامتلاك مفاتن الحياة ومفاتيح المتعة كيفما اتفق تحت عنوان، "كفانا بؤسا نريد أن نعيش" يدفع الإنسان إلى الاستهتار بالقيم الرفيعة، ويحفزه إلى التماس أيسر أشكال الحياة ولو كانت في منتهى الانحطاط، والرضى بالعيش ولو بالحد الأدنى، أي العيش الذي يمنحه الشهيق والزفير فقط، طالما أنّ الارتقاء يشترط تغيير الواقع، الذي يتطلب تضحية وبذلاً وجهداً مما يتنافى مع مطلب السلامة، ومصداق ذلك ما شاع على ألسن الكثيرين: " نحن نركض وراء الرغيف طوال اليوم، وبالكاد نجد الخبز لنأكله، وتطلب منا إنهاض الأمة والعمل على تغيير واقعها المزري!؟"(/1)
أضف إلى تأثر النفس بالمفاهيم والقيم الشائعة أو وراثة صفات الآباء والأجداد، عامل العيش في ظل نظام يفرض وجهة نظر معينة، وطريقة عيش محددة. فقد كان سكان الاتحاد السوفياتي المنهار، يمقتون التجارة وينفرون منها، ويعتبرون القيام بها معيبا وأقرب إلى العار جراء ارتباطهم بالمبدأ الاشتراكي، الذي يمقت الرأسمالية والرأسماليين، وهي وجهة النظر التي كانت تسود في أميركا وأوروبا الغربية قبل انهياره، حيث تعتبر التجارة ومتعلقاتها من بورصة ومضاربات وعملات وشركات أهم ما يشغل بال الناس، بل إن جوهر الحياة وأهم قيمه هي ما يتعلق "بالبيزنس" الذي حول كل شيء إلى مجرد سلعة للبيع والشراء والمقايضة بما فيها البشر، ومن هنا نرى مدى تأثير النظام المطبق على صياغة نفوس الناس قديماً وحديثاً وأهميته.
وأما التأثر بالعادات والتقاليد فأمر غني عن التدليل، وقد قيل "العادة كالعبادة!"، ناهيك عن أن كثيراً من الأعراف المشؤومة، لها سلطان أقوى من سلطان الدولة والقانون والدين مع عظم شأنه، كما هو مشاهد في العديد من الحالات.
ومن هنا يرد سؤال جوهري، ويتعلق في صميم بحث تزكية النفس وتهذيبها: طالما أن النفس تتشكل نتيجة البيئة التي يعيش الإنسان فيها، بل وترث الخصال الحسنة أو القبيحة بفعل أثر الآباء والأجداد، أو بحكم العادات والتقاليد أو النظام المطبق على الناس والذي تحكمه وجهة نظر محددة في الحياة، فلم نعاتب الناس فيما هم عليه من سوء حال، وهل من سبيل إلى إعادة صياغة نفسية الإنسان من غير تغيير الأوضاع السائدة في المجتمع وقلب المفاهيم الشائعة فيه فضلا عن استبدال الأعراف السائدة؟
والجواب هو: إن تغيير ما تطبعت عليه النفوس أو ورثته واعتادت عليه أمر يصعب نواله، ودونه صعوبات شتى، وخصوصا في ظل سيادة أوضاع مختلفة تتباين بل وتتناقض مع ما يراد التغيير له. ولذلك فمن المبالغة، توقع إحداث إصلاح أو تغيير جماعي في أنفس الناس عموما نحو الأمثل أو الأفضل، في ظل نظام رأسمالي مقرف عمّ وطمّ، وأطبق على نفوس البشر من الأرض والسماء، بقوانين وأنظمة وقيم وفلسفات وسياسات، وإعلام فضائي وأرضي مرئي ومسموع ومكتوب، وقوة قاهرة وسلطان مرعب، لتصوغ النفوس بعيداً عن القيم الرفيعة، حتى تلك التي كان العرب يتمتعون بكثير منها في جاهليتهم، مع خمرهم وعريّهم في حجّهم وانكلابهم على بعضهم، كالأنفة والفخر والعزة والإباء، وكإيواء عابر السبيل وقرى الضيف والأثرة والشهامة وما إلى ذلك، مما نفتقده اليوم بشدة؛ حتى بين الأخوة، بسبب كل ذلك، فإنّ المعول عليه لتغيير عامة الناس وإصلاح أنفسهم والارتقاء بهم، وإحداث نهضة حقيقية لهم، إنما يكون بتغيير الأوضاع العامة السائدة في المجتمع، وباستعمال كل الوسائل والمقدرات الممكنة من مؤسسات تعليمية وإعلامية واجتماعية وقانونية لنشر القيم الرفيعة والمفاهيم الصحيحة عن الحياة، وهذا لا يتأتى بحال دون سياسات يضعها عقلاء ومفكرون ونبيهون حريصون على المجتمع، يسهر على تنفيذها سلطان الدولة الرحيمة، وبمساندة مختلف الطاقات الفردية والجماعية المتوفرة لتحقيق المطلوب.
وعدم توفر ذلك النظام السياسي المبدئي المالك لزمام الأمور، المسخر لطاقات الأمة ومقدراتها فيما يحقق لها الخير والطمأنينة، هو ما يفسر فشل محاولات كل الحركات السياسية والخيرية والأخلاقية والروحية والاجتماعية في تهذيب أنفس الناس وتنقيتها فضلاً عن عدم إحداث نهضة أو رقي في أي من مجتمعات العالم الإسلامي، حيث سرعان ما تذهب تلك الجهود أدراج الرياح في ظل قانون واحد يوصد أمام الناس باب الفضيلة ويعاقبهم على التحلّي بها، ويشرع أمامهم باب الرذيلة مفتوحاً على مصراعيه ويكافئهم على اقترافها.
ومما ينبغي إدراكه، هو أن ما سبق شرح للواقع على ما هو عليه، وليس تبريراً لامتهان البعض في سلوكهم، أو لضرب الصفح عن الظلم والآثام بحجة الظروف والواقع، أو عذراً للاعتداء على حقوق الآخرين وإهدار كرامتهم. فالسرقة والزنا والغش والمكر والخديعة وأكل المال بالباطل واحتراف الاحتيال والرشوة والظلم بأنواعه وغيرها من الآفات هي من الفواحش التي يحظر اقترافها وينبغي الحذر منها.
كما أنه لا يصح ولا يليق البتة، الانجرار مع ما هو سائد أو التطبع بالواقع الفاسد، بحق من ادعى أنه صاحب رسالة في الحياة، ونذر نفسه لحمل دعوة سامية، وتبنى قضية مصيرية فيها، فالركون للواقع والتلون بما شاع فيه؛ ينفيان قدرته على إصلاح نفسه فكيف يصلح غيره، لأن رائد الطليعة وقائد الأمة ينبغي أن يكون مثالاً يحتذى. فصاحب الدعوة إن لم يتميز بالثبات والتفاني والتضحية والتفاعل الصادق مع أبناء المجتمع، فلن يفلح في قيادتهم وسيفشل في تحقيق نصرتهم لقضيته.(/2)
لذلك كان على حامل الدعوة بذل جهده في تنقية نفسه من شوائب الواقع الفاسد، والتخلص من أدران الصفات المتوارثة، كما عليه تصفية رواسب المفاهيم القبيحة والعادات البالية التي يرفل بها مجتمعه. ولمعرفة كيف يتم ذلك لا بد من توضيح بعض الأمور.
فاكتساب نفسية راقية سامية، لا يتأتى بالعجز وكثرة التبرير والكسل المخزي، إنما يتحقق بالإرادة الصلبة والتصميم الجاد والهمة العالية، ومن غيره فلا أمل يُرجى في تحقيق أي تغيير جدير ذكره في أوضاع الإنسان مهما نمت عقليته، واتسعت ثقافته، وكثرت معلوماته وثرثر بها لسانه؛ لأن العادة ليس من السهل تركها أو التخلي عنها، ولا يمكن تغييرها إلا بكسرها و تغليب عادة أخرى عليها، ويتم ذلك بتطويع النفس على غير ما تشتهيه، ولو كان من المباحات والحلال الزلال، بل وحملها على ما لا تحب ولا ترغب فيه، طبعا فيما لا هلاك أو أذى فيه، حتى تصبح طيعة لينة بيد صاحبها يقودها أنّى شاء.
ولعل رأس الأمر في تغيير ما عليه النفس بالإضافة للعزم والهمة والإرادة الصادقة، هو جعل العقل قائداً لها والإصرار على ذلك، فإن انقادت النفس لمفاهيم صاحبها وقناعاته وتصوراته عن الأشياء، كان في غاية الانسجام مع نفسه، وتميّز بالاتزان وشعر بالاستقرار.
وبما أن حديثنا يتناول نهضة الأمة الإسلامية ورسالتها في الحياة وتجسيدها في أرض الواقع، كان لا بد من جعل المنهج الشرعي هو القائد الذي يضبط العقل آلته على أساسه، فيلزم نفسه بما ألزمه به ربه، ويتقرب إلى الله زلفى بما ندبه واستحبه، صاداً نفسه عمّا حظره الله تعالى، متجنباً ما كرهه ما استطاع، فإذا ما حصل هذا، تحقق التناسق بين مفاهيم الإيمان وصفاء النفس وانشدادها إلى الالتزام بمنهج الله سبحانه، وبذلك تسمو إلى حيث سمى عقل صاحبها، لتتصف بما روي في الحديث الصحيح عن النبي الكريم "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ".
ولتوضيح أهمية ذلك أقتصر على مثلين:
1. فالمسلم يؤمن بأن الرزاق هو الله تعالى، وهو أمر من ثوابت العقيدة ومسلماتها، وعليه؛ فإنّ السير في درب الحرام للكسب غير المشروع، لن يغير من واقع رزقه شيئاً، ولن يزيده ذلك إلا إثماً وحسرة وندامة، وهذا أمر اعتنقه العقل، حيث ثبت لدى كل مسلم يقيناً، أن القرآن حق ينطق بالصدق الذي لا ريب في، وأن كل ما ورد فيه هو حق خالص لا يأتيه الباطل، وقد ورد فيه: ?وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ? [الذاريات].
بينما نجد أن هوى النفس يداعب المشاعر بإثارة القلق على الرزق، ويدفع الإنسان إلى أن ينهل منه قدر المستطاع، بأي وسيلة طالما أن ذلك متاح ولو لم يكن مباحاً، وذلك بدافع الرغبة كما جاء في القرآن: ?زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ? [آل عمران 14] أو بدافع وسوسة الشيطان خشية إملاق، يقول تعالى: ?الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ? [البقرة 268].
واستناداً لما سبق، فإن نفرت النفس إلى ما تشتهيه وتهواه، أو اتبعت وسوسة الشيطان، وانصرفت عن صدق وعد الله المتعهد بكفالة الرزق، كان الانحطاط عمّا اعتنقه العقل وآمن به وسلم بصحته، حيث هوى إلى ما ذهبت إليه النفس باتباعها الشهوة وانقيادها للغريزة، تماما كالبهيمة تنساق وراء كل غنيمة.
وتتشكل مع تكرار العصيان نفسية رديئة، اعتادت الخصومة مع الشريعة والبعد عن منهج الله، فتنفصم شخصية المسلم بين إيمانه الذي صدق به ونفسه التي أصابتها الحسرة لانجرارها وراء مجرد الرغبة، ويفقد بذلك انسجامه بين النفس والعقل، مما يؤدي إلى الاضطراب والقلق، وإذا ما تكررت هذه الحالة في الانفصام بين النفس والعقل أدت على الأغلب إلى اهتزاز الشخصية وعدم جدواها لقيادة نفسها فما بالك بقيادة البشرية.
أما إن جعل المرء ما يؤمن به ويعتنقه عقله هو العامل الحاسم في تسيير سلوكه، كان الثبات والرقي، ولسمت النفس لتتواصل مع العقل، فيحصل الانسجام وتتحقق الطمأنينة ويظهر الثبات، فتتشكل بذلك الشخصية الإسلامية السوية الصادقة.(/3)
2. مما تدفع إليه الغريزة بشكل فطري، الميل إلى الجنس الآخر، فإن أرخى المرء لنفسه عنانها، وأطلق نظراته وراء كل محرم؛ بغية التلذذ وإشباع الشهوة، لأدى ذلك بالنفس إلى التخلي عما يحصنها، من وجوب انقيادها للعقل الذي سلم بوجوب اتباع وحي الله تبارك وتعالى، الذي أمر بغض النظر عن العورات المحرمة، فإن انقادت النفس لشهوة صاحبها وأطلق نظراته كسهام القناص حيث أُمِر بغض النظر، يخسر التزامه وبذلك تنقاد نفسه إلى طريق الفجور والعصيان حيث تهبط إلى مستوى الغريزة المدفوعة من غير عقل ضابط. بينما لو حصل العكس، واتخذت النفس الشرع الذي آمن به الإنسان سيداً لها، ومنحته السلطان عليها، وغضت البصر، لتعززت ثقته بقدراته، ولقويت إرادته، ولوجد لذة وعصمة من جراء تكرار ذلك حيث بات هناك انسجام بين نفسه وبين مفاهيمه، أنظر إلى قول النبي الكريم" النظرة سهم من سهام إبليس، من تركها من مخافة الله أعطاه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه . "
وهكذا ينبغي أن تسير الأمور عند من يريد أن يسلك درب الرشاد، وينال رضى الرحمن، ليتلطف به ويكفله وينصره، فيصبح بصره الذي يبصر به وعينه التي يرى بها؛ ولذلك لزم عند من أدرك في نفسه صفة تخرم مروءته، أو تحطّ من آدميته، كان عليه أن يباشر في تهذيب نفسه، بتعويدها عما يجلها ويرفعها عن الموبقات والآثام.
فمثلا من شعر بنفسه يتملكها الحسد من الآخرين لزمه تدبر حديث النبي الكريم "لا حَسَدَ إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا، فسَلَّطَه على هَلَكَته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يَقْضي بها ويُعَلِّمها" وهكذا ...
وعليه أن يجبر نفسه على الانكسار أمام شرع الله لكي يتقبله الله ويوفقه، فلا يغلب شهوة أو طبعاً سيئاً على أمر يخالف الشرع، وعليه أن يحذر من التبرير لما يقدم عليه، فإن ذلك هو درب إبليس الذي تجرأ بذلك على الله تعالى، حيث أخذ يجادله في أمر طاعته، وأن سجوده لآدم سينقص من قدر خلقه، إذ أن النار أفضل من الطين بزعمه، وتجاهل أن الله هو خالق الأشياء، ويعلم كنهها، وهو بكل شيء محيط.
وانطلاقاً من هذه القاعدة الفكرية، ينبغي على المرء الانطلاق في عالم يجعل فيه شرع الله جل وعلا نصب عينيه، مدركاً أنه متبع بذلك عقله الذي ميزه الله به ليسلم بآلاء الله وتوجيهه ووحيه، فيسير في دربه ويعتصم بحبل الله منقطعاً إليه عمن سواه، لينطبق عليه في رحلته إلى محطته البرزخية قوله تعالى: ? يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ، وَادْخُلِي جَنَّتِي? [الفجر].
نعم هذا هو الحال إذا ما ألزم الإنسان نفسه بما أنتجه عقله من قناعات عقائدية تفسر سبب وجوده في الحياة، وتضع له نظاماً منبثقاً عنها؛ ليضبط حركات أفعاله على إيقاعات متناسقة مع منهج الله وهديه الذي رسمه له، حيث يقول: ?إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا? [الإنسان].
وأما إذا ما أتبع الإنسان نفسه هواها، وسخّر العقل في خدمتها، فإنه سينطلق في عالم الغواية، وسينزلق في عالم البهيمة؛ فيصبح شراً منها، ولانطبق عليه قوله تعالى?إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً? [الفرقان] هذا هو واقع بحث النفس، وخلاصته تتمثل في قوله تعالى: ?وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا?(/4)
النفاق
أولاً: تعريف وبيان.
ثانيًا: أنواع النفاق.
ثالثًا: أركان النفاق وبواعثه.
رابعا: ذم النفاق في الكتاب والسنة.
خامسًا: خوف السلف من النفاق.
سادسًا: صفات المنافقين في الكتاب والسنة.
سابعًا: موقف المسلم من المنافقين.
ثامنًا: سبل الوقاية من النفاق.
أولاً: تعريف وبيان:
أ- النفاق لغة:
اختلف أهل اللغة في أصل النفاق:
فقيل: مأخوذ من النفق، وهو السّرب في الأرض الذي يُستَتَر فيه، سمّي النفاق بذلك لأنّ المنافق يستر كفرَه. وبهذا قال أبو عبيد.
وقيل: إنه مأخوذ من نافقاء، والنافقاء موضع يرقِّقه اليربوع من جحره، فإذا أتى من قِبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق، أي: خرج، ومنه اشتقاق النفاق؛ لأنّ صاحبه يكتم خلافَ ما يُظهر، فكأنَّ الإيمان يخرج منه، أو يخرج هو من الإيمان في خفاء.
ويمكن أنَّ الأصل في الباب واحد، وهو الخروج، والنفق المسلك النافذ الذي يمكن الخروج منه.
قال ابن رجب: "والذي فسّره به أهل العلم المعتبرون أنّ النفاق في اللغة هو من جنس الخداع والمكر، وإظهار الخير وإبطان خلافه".
ب- النفاق شرعا:
هو إظهار الإسلام وإبطان الكفر.
وهو اسم إسلاميّ لم تعرفه العرب بهذا المعنى الخاصّ، وإن كان أصله الذي أُخذ منه في اللغة معروفًا.
ج- ألفاظ ذات صلة:
الزندقة:
أطلق بعض العلماء لفظ "الزنديق" على المنافق.
قال ابن تيمية: "ولما كثرت الأعاجم في المسلمين تكلموا بلفظ الزنديق، وشاعت في لسان الفقهاء، وتكلم الناس في الزنديق هل تقبل توبته؟... والمقصود هنا أن الزنديق في عرف هؤلاء الفقهاء هو المنافق الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يظهر الإسلامَ ويبطن غيرَه، سواء أبطن دينا من الأديان كدين اليهود والنصارى أو غيرهم، أو كان معطّلاً جاحدًا للصانع والمعاد والأعمال الصالحة".
ينظر: لسان العرب (14/243)، مادة: (نفق).
مقاييس اللغة لابن فارس (5/455)، مادة: (نفق).
جامع العلوم والحكم (2/481).
ينظر: النهاية في غريب الحديث (5/97)، التعريفات للجرجاني (ص245).
مجموع الفتاوى (7/471).
ثانيًا: أنواع النفاق:
قال ابن القيم: "النفاق نوعان: أكبر وأصغر.
فالأكبر يوجب الخلود في النار في دركها الأسفل، وهو أن يظهر للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله، مكذّب به".
وقال ابن كثير: "النفاق هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي وهو من أكبر الذنوب".
وقال ابن رجب: "والنفاق في الشرع ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: النفاق الأكبر، وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بذمّ أهله وتكفيرهم، وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار.
والثاني: النفاق الأصغر، وهو نفاق العمل، وهو أن يظهر الإنسان علانية صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك.
وأصول هذا النفاق ترجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث، وهي خمس:
أحدها: أن يحدّث بحديث لمن يصدّقه به وهو كاذب له.
والثاني: إذا وعد أخلف، وهو على نوعين، أحدهما: أن يَعِدَ ومن نيته أن لا يفي بوعده، وهذا أشر الخُلف، ولو قال: أفعل كذا إن شاء الله تعالى ومن نيّته أن لا يفعل كان كذبا وخُلفا، قاله الأوزاعي، الثاني: أن يعِد ومن نيته أن يفيَ، ثم يبدو له فيخلِف من غير عذر له في الخلف.
والثالث: إذا خاصم فجر، ويعني بالفجور أن يخرج عن الحق عمدًا حتى يصير الحق باطلاً والباطل حقًّا، وهذا مما يدعو إليه الكذب. فإذا كان الرجل ذا قدرة عند الخصومة ـ سواء كانت خصومته في الدين أو في الدنيا ـ على أن ينتصر للباطل، ويخيّل للسامع أنه حقّ، ويوهن الحقّ، ويخرجه في صورة الباطل، كان ذلك من أقبح المحرمات وأخبث خصال النفاق.(/1)