ـ صحيح البخاري، ج1 باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصحية: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم). الحديث رقم: 57/58 وصحيح مسلم ،ج1 .كتاب الإيمان. باب بيان أن الدين النصيحة. الحديث رقم: 23
ـ سنن أبي داؤود 2/ 632 ، حديث رقم : 4681، وصححه الألباني.
ـ مسلم 1/ 66 ، حديث رقم: 43.(/4)
المشاركة في الانتخابات
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ أصول الفقه /السياسة الشرعية
التاريخ ... 05/04/1425هـ
السؤال
السلام عليكم. و بعد :
انتشرت عندنا في بلاد الجزائر فتوى تحرم السياسة، وكل ما تعلق بها، و نحن على مقربة من موعد انتخاب رئيس الجمهورية، فوقع الكثير من الإخوة وخاصة الشباب في حرج، هل ننتخب أو لا ننتخب؟ نرجو الإجابة -بارك الله فيكم- . والسلام عليكم.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
السياسة من الدين، بل الدين كله سياسة، بل كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله" كلها سياسة من اللام إلى الهاء، فهي تنفي جميع الطواغيت من الحجر، والشجر، والأوثان، والأفكار، والمذاهب، والأشخاص، من الزعماء، والكبراء....، ومن يعتقد فصل الدين عن السياسة، أو فصل الدين عن الحياة وهو يعلم لازم قوله – فهو كافر خارج عن ملة الإسلام- فكيف لا يكون في الدين سياسة، وأعظم آيات القرآن في الجهاد في سبيل الله، أليس الجهاد ذروة سنام الإسلام وهو صميم السياسة، والذين ينكرون الدخول في الانتخابات غلب عليهم الجهل بأحكام الإسلام عامة، وبأحكام الحسبة خاصة، حيث ظنوا أن الدخول في الانتخابات التي تؤدي إلى مجالس (برلمانات) تشريعية قد تبيح ما حرم الله، وتحرم ما أحل الله، ونحن نقول إن بعض هذه المجالس تفعل هذا، ولكن المسلم إذا دخل عضواً في هذا المجلس يجب عليه أن ينكر المنكر، ويأمر بالمعروف، وإن غلبت آراء أهل الباطل عند التصويت فواجب المسلم أن يتحفظ ويمتنع عن التصويت، حينئذ ولا شيء عليه – إن شاء الله- بل هو مثاب حيث أسمع أهل الباطل كلمة الحق، وإن لم يعملوا بها، فالله يقول لرسوله – صلى الله عليه وسلم-: "إن عليك إلا البلاغ" [الشورى: 48]"إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء"[القصص: 56]، وإذا ترك أهل الحق والصلاح الدخول في هذه الانتخابات تفرد بها أهل الباطل والفساد، وكان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يغشى مجالس قريش ويتقصد أماكن تجمعاتهم مع ما هم عليه من شرك وكفر، وفساد، وضلال، كل ذلك من أجل أن يبلغهم كلمة الحق والخير، ولو اعتزل مع صحابته، وقام يصلي ويدعو ربه، رافعاً يديه بهداية قريش لما كان بلغ رسالة الله، وقد جاء في الحديث: "الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير ممن لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم" رواه الترمذي(2507)، وابن ماجة(4032)، وأحمد(5002)، ودخول الانتخابات في هذا الظرف من أوجب الواجبات الشرعية لمحاربة الباطل، أو التقليل من شره على الأقل، فعليكم وفقكم الله بالدخول في هذه الانتخابات، حسبة لله ولتكثير سواد أهل الصلاح في هذه المجالس لإحقاق الحق وإبطال الباطل، حسب القدرة والاستطاعة؛ ليتحقق فيكم قول الله –تعالى-: "اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون" [آل عمران: 102]، وقوله –تعالى-: "تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله"[آل عمران: 110]. وفقكم الله وأعانكم، وسدد خطاكم، آمين.(/1)
المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي خطأ فادح وجهل بالواقع السياسي ...
03-12-2005
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد:
فيما يلي النص الكامل للمقابلة التي أجراها بعض طلبة العلم مع فضيلة الشيخ إبراهيم بن عبد العزيز بركات حفظه الله ونفع بعلمه آمين :
فضيلة الشيخ بداية نشكرك على إتاحة الفرصة لنا لعقد هذه المقابلة التي نسأل الله أن ينفعنا بها ، وكما يعلم فضيلتكم أن المرحلة القادمة مرحلة حاسمة لذا عذرا لطرح بعض الأسئلة عليك وإن كان فيها نوع من الإحراج .
فضيلة الشيخ : لا عليكم، بارك الله فيكم سلوا عن أي شي ، فإن كان جوابه عندنا أجبنا عنه بكل وضوح وصراحة ، وإن لم يكن عندنا جوابه فأقول لكم لا أدري.
فضيلة الشيخ سؤالنا الأول متعلق بنظرتكم المستقبلية للسياسة المحلية خاصة في ظل هذه التناقضات الجمة والخلافات الكثيرة ؟
جواب : الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمي الأمين وعلى من سار على هديه إلى يوم الدين أما بعد :
فأشكر لكم زيارتكم وثقتكم وحسن أدبكم ، أما جوابي عن هذا السؤال فهو معروف ، وقد أجبت عنه في كثير من المناسبات وبينت الحقائق التي يجب على كل مسلم معرفتها ، فنحن نمُر في أزمة حقيقية يعلمها الجميع ، ويجب علينا أن لا نخدع بتلك الشعارات البراقة التي تُأمّل الناس بالفرج القريب ، فلا يوجد حل حقيقي للقضية الفلسطينية إلا بالرجوع إلى الإسلام كدين شامل وليس مجرد شعارات تطلق هنا وهناك من هذه الجماعة أو تلك ، ففلسطين كلها أرض إسلامية لا يجوز التنازل عن أي شبر من أرضها سواء كان ذلك فيما يسمى بمناطق ال48 أو 67 وهذا ما أصبح مع الأسف في طي الزمن الغابر عند معظم أهل فلسطين ، إذ تنحصر التطلعات الحالية إلى جزء بسيط من أرض فلسطين ، ولا شك بأن هذه التطلعات مخالفة للدين من باب ، وإضعاف للحق الثابت لأهل فلسطين من باب آخر، فعلى المسلمين في فلسطين أحد أمرين إما المطالبة بجميع أرضهم المغتصبة ، أو التفاوض على ما بقي منها ، والأمر الأول في هذه الظروف الراهنة مستحيل ، والثاني تفريط في الحق الثابت وتنازل عن أرض لا يمتلكها أصلاً الفلسطينيون فهي أرض إسلامية للمسلمين جميعهم ، ولن يرضى المخلصون من أبناء هذه الأمة بتقسيم فلسطين وإبقاء شيء من أرضها بيد المغتصبين ، ونظرتنا للقضية لا بد أن تنطلق من قواعد شرعية لا غير وعليه ستبقى المسألة في دائرة مغلقة وصراع مستمر .
سؤال : فضيلة الشيخ : كما تعلم بأن التنازل عن مناطق ال48 بات حقيقة واقعية بل هنالك إجماع فلسطيني على ذلك ، والمسألة الآن دائرة حول قيام دولة فلسطينية على أرض ال67 فهل من الممكن قيام الدولة الفلسطينية ووضع حلول نهائية لها ؟
جواب : يا أخي بارك الله فيك من أين هذا الإجماع الفلسطيني الذي تزعمه ، فقد قلت لك : إن المخلصين من أبناء هذه الأمة لا يفرطون بشبر من أرضها ، صحيح أن القوى السياسية وبعض الجماعات الإسلامية تكالباً على تحقيق بعض المصالح الخاصة بها على استعداد بأن يغيّبوا الحقائق الساطعة ولكنهم لا يمثلون إلا أنفسهم ولا يمثلون المخلصين من أبناء هذه الأمة ، ثم إن جوابي عن هذا السؤال له شقّان ، الأول أن تقوم الدولة الفلسطينية على أرض قطاع غزة والضفة الغربية فقط دون القدس ، الثاني أن يشمل قيامها القدس الشرقية ، والاحتمال الثاني غير موجود أي لن يسمح الإسرائيليون بحال في التفريط بالقدس وإعطائها على طبق من ذهب للجانب الفلسطيني ، وأما الاحتمال الأول فممكن على أن تحتفظ إسرائيل ببعض المستوطنات الأساسية على أراضي الضفة الغربية .
سؤال : ولكن فضيلة الشيخ نحن نعرف عزم السلطة الوطنية على تحرير أرض القدس الشرقية وجعلها عاصمة للدولة الفلسطينية ، بل إن السلطة لا تفاوض الجانب الإسرائيلي إلا بناء على ذلك ، فكيف ينسجم هذا الأمر مع قولكم ؟
جواب : يا أخي دعك مما يذاع ويشاع وانظر إلى الواقع بعين نورانية تنطلق من القواعد الشرعية وليس من الشعارات والخطابات والتمجيد في البطولات الزائفة ، إن القدس بالنسبة لإسرائيل قضية مصيرية محورية لا يمكن لأي سلطة منهم التنازل عن شبر من أرض القدس وذلك لاعتبارات عدة منها :
أولاً : ارتباط القدس ارتباطاً حتمياً بعقيدتهم ، فهم يعتبرونها أرضاً مقدسة لا يجوز بحال التنازل عنها .
ثانياً : وجود أماكن مقدسة بالنسبة لهم كحائط البراق المسمى عندهم بحائط المبكى وحي سلوان الذي يعتبر بالنسبة لهم مدينة داوود عليه السلام ، ومقابر اليهود التي تملأ جبل الطور وغيرها من الأماكن التي يستحيل فصلها عن القدس الشرقية .
ثالثاً : تداخل الأحياء اليهودية بالأحياء العربية بحيث أنك لا تستطيع التنقل في الأحياء العربية إلا بمرورك من الأحياء اليهودية .(/1)
رابعاً : امتلاك اليهود لكثير من البيوت والأراضي الفلسطينية ملكية بيع وشراء وهذه قضية لا مجال لإنكارها فهي مسألة واقعية ، نعم إن هنالك ممتلكات فلسطينية تم اغتصابها ، إلا انه هنالك الكثير أيضاً من الممتلكات الفلسطينية في القدس تم بيعها لليهود منها بعقود قديمة تم تسليمها حديثاً ، ومنها من بيع بعقود جديدة .
خامساً : عدم وجود قوة رادعة لليهود تحملهم على التخلي عن أرض تعتبر أساسية بالنسبة لهم .
سادساً : قوة المعارضة الداخلية والخارجية والتي منها ما يتحكم بتوجيه قرارات القوى العظمى لصالحهم ، وكما تعلم فإن اليهود لا يعطون الناس نقيراً وهم على ضعف فكيف وهم يعتقدون أنفسهم أعظم قوة في العالم على المجالات كافة .
ناهيك عن نسبة عالية من أهل القدس يحملون الجنسية الإسرائيلية ، وآخرين يفضلون العيش تحت السيادة الإسرائيلية فراراً من السلطة الفلسطينية ، فكل هذه الأسباب تحول دون انسحاب إسرائيل من القدس الشرقية ، ولا أدل على ذلك من الجدار الفاصل بين مناطق السلطة وإسرائيل والذي احتوى على القدس الشرقية بكاملها .
سؤال : ولكن كما يعلم فضيلتكم بأن إسرائيل سبق لها أن انسحبت من أراضٍ كانت تعتبرها مقدسة كانسحابها من أرض سيناء وطابا وغزة ، بل كانت إسرائيل تتفانى في الادعاء بأنها أرض إسرائيل الكبرى التي لا يحق لأحد التنازل عن شبر منها ، فما المانع من انسحاب إسرائيل من القدس الشرقية رغم ما تفضلت به كما سبق لها الانسحاب من غيرها ؟(/2)
جواب :أخي الحبيب الوضع في القدس مختلف للغاية ، فإن في انسحاب إسرائيل من بعض الأراضي التي احتلتها مصلحة كبيرة بالنسبة لها ناهيك بأن هذه المناطق كانت عبئاً حقيقاً على دولتهم ، فماذا كانت تستفيد إسرائيل من أرض سيناء خاصة وأنها بانسحابها ضمنت حماية حدودها من ناحية مصر حماية كاملة ، وانسحابها من غزة جعلها دولة سلام في نظر من تحرص على تأييدهم لها ، ناهيك عن المصاريف الباهظة التي كانت تتكلفها لتأمين الحماية لبعض مواطنيها الذين لا يتجاوزون المئات ، وتجنيد أعداد كبيرة من جيشها مما يكلفها الكثير الكثير ، بل إن انسحاب إسرائيل من المناطق التي ذكرت كان حقيقة في مصلحتها على المسارات كافة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها ، أما بالنسبة للقدس فهي مسألة خاصة الكل يعلم ذلك ، بل لو رجعنا للوراء قليلاً رجعنا إلى عهد رئيس السلطة الفلسطينية السابق ياسر عرفات أبي عمار فماذا نجد ، نجد أن الرجل كان على استعداد كامل لعقد اتفاقية سلام مع إسرائيل والخوض في خطة الفصل النهائية وكان مطالباً بتحكيم القانون الدولي ، فلم يكن ينادي بالقضاء على إسرائيل ، أو بالخروج عن القوانين الوضعية الدولية بل كان دوماً يرفع شعار سلام الشجعان ، وكلنا يعرف ما هي بنود الاتفاق التي قام عليها سلام الشجعان ، إذن لماذا جهدت إسرائيل في محاصرته والتضييق عليه ومنعه من مزاولة حقوقه الرئاسية والمطالبة بتنحيته أحياناً وبتصفيته أحياناً أخرى ، وهنالك أقوال تشير إلى قتله على أيديهم وإن لم يكن هنالك أدلة صريحة على ذلك إلا أن ما ذكرت من التضييق عليه كان واضحاً لا مجال لرده ، حقيقة هذا سؤال يجب أن يطرح ، أخي المسألة سهلة: إن المفوضات مع أبي عمار وصلت إلى طريق مسدود كان من الصعب تجاوزه ، فهل كان الطريق المسدود متعلقاً بغزة أو بأراضي الضفة أو باللاجئين ؟ الجواب : كلا طبعاً ، إنما كان متعلقاً بالقدس الشرقية ، فلم يكن أبو عمار مستعداً للتخلي عن القدس لأسباب كثيرة وإن كانت ترجع إلى مفاهيم وطنية وليست إسلامية ، وهذا ما جعله يقف بين خيارين ، الأول : تخليه عن القدس والرضوخ لإسرائيل ، الثاني : خروجه عن الخطة الإسرائيلية ، وما فعله هو الخيار الثاني مما جعله أيضاً تحت خيار لا غنى له عنه وهو دعم بعض الجماعات الجهادية الإسلامية وغيرها لضرب بعض المصالح الإسرائيلية للضغط على اليهود ، إذ لا يمكنه أن يتبنى هو ذلك العمل المخالف للقوانين الدولية التي وافق عليها ، وإلا هدم كل ما بناه ، ولأجل ذلك عملت إسرائيل على القضاء عليه وتقييده قدر المستطاع ، وأرجع بكم أيضاً إلى الوراء قليلاً ، ما هو الأمر الذي فجر الأوضاع في فلسطين وقامت لأجله الانتفاضة الثانية ؟ أليس دخول شارون للمسجد الأقصى، ألم يكن شارون وقت إذ يمثل الحزب اليمني المتطرف ، لماذا إذن حكومة باراك سمحت وقت إذ لشارون بدخول المسجد الأقصى وأثقلته بالحماية ؟ لماذا اختار شارون دخول المسجد الأقصى دون غيره ؟ ألم تكن الحكومة الإسرائيلية تفاوض السلطة الفلسطينية على الحل النهائي ؟ أخي الحبيب كل هذا يجعلنا ندرك بأن القضية هي قضية القدس لا غيرها ، فهل يعقل أن توافق إسرائيل أن تتنازل عن القدس وتفاوض السلطة عليها برئاسة أبي مازن وتترك التفاوض عليها مع أبي عمار الذي كان أكثر قوة وتأثيراً على شعبه ، وأكثر مقدرة على توحيد شعبه تحت راية السلطة ، لماذا تطلق إسرائيل العنان لأبي مازن إن كان ملتزماً بسياسية أبي عمار ؟ الجواب واضح هو إخراج القدس الشرقية من المفاوضات الحالية والمستقبلية وحصرها في التفاوض على غزة والضفة الغربية ، وحدود الجدار التي تتكلف إسرائيل مليارات الدولارات لإقامته أكبر دليل على إخراج القدس من بنود التفاوض.
سؤال : فضيلة الشيخ، يفهم من خلال حديثك الشيق أن القضية الفلسطينية ستبقى في صراع دائم ، وهذا ما لا تريده إسرائيل ، إذ كل ما قامت به من تنازلات مزعومة ما كان إلا لتأمين أمنها وسلامة شعبها ، فما الفائدة من تأجيجها للوضع من جديد إن كان أمنها متعلقاً بتسليم القدس الشرقية للسلطة الفلسطينية ؟(/3)
جواب : هذا سؤال ذكي ، نعم إنه سؤال حقاً يطرح ، ولكن الجواب عنه بسيط وله وجه شرعي ، وآخر سياسي ، ودعني أبدأ بالوجه السياسي ليس تقديماً على الشرع معاذ الله ، ولكن لما له من تعلق بالشرع إذ تستدل عليه بالوجه الآخر فهو من باب ذكر المسألة والتدليل عليها ، والوجه السياسي له متعلقان، الأول : سياسة المماطلة بعيدة الزمن فعلى سبيل المثال الحكومة الإسرائيلية تتمثل بالحزب الحاكم وهو الحزب الذي يحصل على أكبر عدد مقاعد فيما يسمى بالكنيست ، ويتنافس على ذلك الحزبان الكبيران وهما حزب الليكود ، وحزب العمل ، فحزب الليكود يمثل الوجه اليميني ، وحزب العمل يمثل الوجه اليساري ، وكلا الحزبين لا يستطيعان تشكيل حكومة إلا بتأمين العدد القانوني للمقاعد وهي 62 مقعداً حسب ما أذكر وتأمين هذه المقاعد أمر مستحيل لكلا الحزبين مما يلجأ الحزب الأكثر مقاعداً للتفاوض مع أحزاب صغيرة يحقق من خلالها العدد المطلوب ، وأي حزب ينسحب من الحكومة بعد ذلك يؤثر على الحكومة بشكل مباشر مما يسقطها أو يدفعها لتغير سياستها ، فكيف الأمر إذا كان المتنافس على الحكومة ثلاثة أحزاب رئيسية أعني بذلك حزب شارون الجديد والذي يحظى بدعم يوازي دعم الحزبين الرئيسيين ، أفهمت ما أقصد ؟ أقصد بأن الحزب الذي يحصل على العدد الأكبر من المقاعد يحتاج إلى ضم أحزاب كثيرة لحكومته مما يجعل المسألة أكثر تعقيداً خاصة إذا كانت متعلقة بقرارات مصيرية كالتنازل عن القدس الشرقية .
المتعلق الثاني مرتبط بالسلطة الفلسطينية ، فهل تكون السلطة على استعداد لمحاربة إسرائيل ونقض جميع الاتفاقيات من أجل القدس الشرقية ، وتهدم كل ما بنته وهي تعلم علم اليقين ما يترتب عليها وقت إذ ؟ الجواب عندكم .
وأما الوجه الشرعي فله متعلقان أيضاً ، الأول: قد أخبرنا الله سبحانه أن اليهود :( كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم ) . وأنهم : ( لا يأتون الناس نقيراً ) . وغيرها من الآيات الدالة على عدم التزام إسرائيل بأي اتفاق يكون مخالفاً لأهوائها وأطماعها .
الثاني : أن الله سبحانه ضرب على بني إسرائيل من يذلهم ويسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة ، فلن تجد إسرائيل بوعد الله لها الأمن والأمان إلا بدخولها في دين الله سبحانه ، وكذلك فإن المسلمين المتخاذلين وعدهم الله سبحانه بالذل والصغار فلن يجد المسلمون الأمن والأمان إلا بتمسكهم بالكتاب والسنة ، وما تقوم عليه المفاوضات الحالية مخالف لأحكام الله وشرعه مما يترتب على ذلك الهوان لا العيش بسلام ، وعليه لا بد من بقاء المنطقة في صراع دائم ولكن كما قال تعالى : ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) .
سؤال : إذن الوضع كما تفضلتم به ، فما هي سياسة الحركات الإسلامية اتجاه هذا الوضع ؟
جواب : التحدث عن الحركات الإسلامية ومواقفها من الوضع الراهن ينطلق من عدة اعتبارات ، فهنالك حركات لا تعنى بالسياسة أصلاً ، وهنالك حركات لا تعدو كونها صاحبة شعارات وخطابات وليس لها أدنى تأثير على أرض الواقع ، وبعضها متابع للسلطة الفلسطينية ولا ينظر للأمور إلا بمنظارها ، ولا شك أن كل هذه الحركات لا وجود لتأثيرها في الواقع السياسي ، وأما ما يهمنا هنا هي الحركات الإسلامية التي لها تأثير ونشاط واضح وهي لا تخرج عن حركتين رئيسيتين وهما ، حركة المقاومة الإسلامية المتمثلة بحماس ، وحزب الجهاد الإسلامي الفلسطيني ، فهاتان الحركتان لهما وجود في الساحة السياسية وتأثير واضح ، ولكل حركة منهما سياستها الخاصة ، فحزب الجهاد كما تعلمون معارض للسياسية الحالية وقد أعلن عن مقاطعته لانتخابات المجلس التشريعي رغم موافقته على الهدنة مع إسرائيل ، ويرجع ذلك في رأيي إلى أمرين الأول : أن مشاركته في المجلس التشريعي لن يعطيه حقه المأمول فهو يعاني من قلة أفراده وتقييد حرية معظمهم من ناحية ، ومن ضعف إمكانياته وقاعدته التي ينطلق منها من ناحية ثانية، فلو قبل حزب الجهاد المشاركة في المجلس التشريعي لما حظي بالمقاعد التي تؤهله للمنافسة وتحقيق بعض طموحاته ، وأما من الناحية العملية ، فإن معظم كوادر الجهاد مكشوفون لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وأكثرهم إما داخل السجون ، وإما تحت قيود عسكرية مشددة تحول دون تحركهم ، وهذا ما يضمن لكلا إسرائيل والسلطة الوطنية عدم تحرك حزب الجهاد إلا من خلال دائرة محدودة لا تؤثر على سير الخطة العامة ، ومن ناحية أخرى فإن حزب الجهاد لا يريد أن يجد نفسه في مواجهة مع السلطة لذا قبل بالهدنة وامتنع عن المشاركة في المجلس التشريعي ، وعليه سيكون دوره محدوداً للغاية ، وإلا دخل فيما فر منه .(/4)
ويبقى عندنا حركة المقاومة الإسلامية حماس ، فقد قبلت بالهدنة هي الأخرى وأعلنت عن قبولها الدخول في المجلس التشريعي ، أما قبولها بالهدنة فراجع إلى عدم رغبتها بالخروج عن السياسة الحالية والدخول في مواجهات مع السلطة وقد بررت ذلك على ألسنة كثير من كوادرها بتجنب الفتنة الداخلية ولحمة الصف ، وأما قبولها الدخول بالمجلس التشريعي فيرجع أيضاً لثقتها بكوادرها وما تتمتع به من شعبية قد توازي في بعض المناطق السلطة بل قد تفوق ، وعلى هذا فإن دور الحركة الإسلامية يكون دائراً في دائرة السلطة متماشياً مع السياسية الحالية مما يضمن لإسرائيل التواصل في خطتها ومماطلتها .
سؤال : فضيلة الشيخ ماذا عن سياسة حماس لو حصلت على أغلبية مقاعد المجلس التشريعي ، هل ستغير من السياسية الحالية مما يؤدي ذلك إلى الضغط على إسرائيل فتنسحب من أراضي القدس الشرقية ، وحمل السلطة الفلسطينية على التحاكم إلى شرع الله ؟
جواب : يا أخي الحبيب علينا أن نكون منطقيين في فكرنا ، غير متطلعين إلى أحلام البؤساء ، فإن السياسة الحالية ليست بيد المجلس التشريعي ، بل وليست في يدي السلطة وغيرها ، إن ما نمُر به هو سياسية عالمية تخطها الدول العظمى ، لا تستطيع حركة إسلامية مخالفتها أو التغيير من سيرها ، فدخول الحركة الإسلامية حماس إلى المجلس التشريعي يجعلها تطفي الصفة الشرعية للسلطة الفلسطينية والموافقة على سياستها ، فللدخول في المجلس التشريعي شروط عديدة تتعارض مع أصول ديننا الحنيف ، من أبرز هذه الشروط الثابتة ; أن يكون نظام الدستور الفلسطيني نظاماً علمانياً يقوم على فصل الدين عن الدولة ، وأن يعترف بالكيان الإسرائيلي كدولة شرعية لها حق الوجود والأمن لشعبها ، وضمان حماية حدودها ، والتنازل عن ما يسمى بأرض ال48 باعتبارها أرض إسرائيلية لا تجوز المطالبة بها ، وغيرها من الشروط التي لا يوافق عليها المخلصون من أبناء هذه الأمة ، إذن فليست القضية الفلسطينية قضية جزئية تحتاج إلى بعض الترقيع هنا وهناك في دستورها أو محاسبة المسؤولين عن سرقاتهم وفسادهم ، المسألة أكبر من ذلك بكثير وعليه إما أن تكون الحركة الإسلامية جادة في نهجها وتعلن بصدق وصراحة مخالفتها للسياسية الفلسطينية وبهذا تمتنع عن المشاركة في المجلس التشريعي وتقف احد موقفين، الأول: موقف حزب الجهاد فتعتزل السياسية الحالية ولا تعدو عن كونها حركة إصلاحية فترجع إلى ما كانت عليه بعد توقيع اتفاقية أوسلو ، الثاني: مقاومة السلطة الفلسطينية والتصادم معها بحيث ينشأ عن ذلك حرب أهلية لا يعلم ضررها إلا الله سبحانه ، أو ترضى بسياسية السلطة وتخضع للشروط المذكورة فتكون حينها فصيل من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية تحترم النظام العام للمنظمة ولا تخرج عليه ولكن تحت شعارات إسلامية براقة حصيلتها الدعوة لإصلاح بعض الخروقات الاجتماعية التي لا تغني ولا تسمن من جوع ، ومع الأسف فإن سياسة حماس هي السياسية الثانية وهذا واضح للغاية في نهجها ، لذا نجدها تعمل بجد ونشاط لحشد التأييد لها وكسب أكبر عدد من الأصوات لصالحها ، فهي لضمان مشاركتها في المجلس التشريعي تعتمد كما قلت على أمرين أساسيين ، الأول : كوادرها والمؤيدين لها ، الثاني : القاعدة الشعبية ، وهذا ما تنبهت له السلطة الوطنية وعملت على سحب البساط من تحت أرجل الحركة الإسلامية من خلال عمل الإصلاحات في صفوف السلطة الوطنية والإعلان عن عقد انتخابات داخلية لضمان سلامة ثقة كوادرها بالمرشحين ، كما عمدت على استغلال بعض الحركات الإسلامية الموالية لها لضرب حركة حماس من خلال تفريغ المنابر والإمامة لهم فلا يسمع الناس إلا ما تريد السلطة إسماعه لهم ، وعليه أخي الحبيب الأمر أصعب مما تتوقع وأقولها بكل صراحة : إن دخول الحركات الإسلامية للمجلس التشريعي وإن كان محرماً أصلاً ، جهل في السياسة الحالية ، وتثبيت للمخططات الاستعمارية ، وتوسيع لدائرة الخلاف في صفوف المسلمين ، ولكن نأمل من إخواننا في الحركة الإسلامية أن يفهموا ذلك جيداً ، وأن يقفوا مع إخوانهم المسلمين صفاً واحداً كي نتمكن من رد كيد أعدائنا ، ولا نجعل تطلعنا تطلعاً حزبياً ضيقاً هدفنا الأول والأخير هو تحقيق المصالح الذاتية الفانية التي لا تزيدنا إلا ضعفاً وتراجعاً وبعداً عن الهدف الأصلي وهو إقامة دين الله سبحانه ليكون ظاهراً على كل دين .
سؤال : فضيلة الشيخ حفظك الله تعالى ونفع بعلمك : نحن نعلم بأن حركة المقاومة الإسلامية حماس قبلت بالمشاركة في المجلس التشريعي لإصلاحه والحيلولة دون تمرير مخططات الاستعمار فإن تركت المشاركة في المجلس التشريعي كيف لها أن تصلح الفساد هل تقف من كيد أعدائها مكتوفة الأيدي ؟(/5)
جواب : يا أخي لماذا يفترض علينا أن نكون أحد رجلين ، إما مشاركاً للفساد بحجة إصلاحه ، وإما معتزلاً لا دخل له بالواقع البتة ، هذا افتراض خاطئ ، بل لماذا لا نكون مشاركين للظالمين غير مكتوفي الأيدي داعين للإصلاح عن غير المنابر المشبوهة التي وضعت أصلاً لتمرير خطط الاستعمار وليس لمحاربتها ودحضها ، الواجب على كل مسلم أن يعمل ويصلح قدر المستطاع ، كما انه يحرم عليه مشاركة الظالمين ، وقد فصلت مسألة المشاركة في الدخول بالمجلس التشريعي برسالة مخصصة فلتراجع إن شاء الله ، لا أقول نعتزل ولا أقول نشارك الظالمين هذا افتراض خاطئ بل أقول يجب علينا أن نعمل ونبذل قصارى جهدنا للإصلاح ولكن فيما يتوافق مع الأحكام الشرعية ، وليس المصالح الحزبية .
سؤال : فضيلة الشيخ أثقلنا عليك فعذراً وسؤالنا الأخير لك هو ، هل هنالك من حل للقضية الفلسطينية ؟
جواب : بارك الله فيكم لا بأس فإن أسئلتكم جيدة وقد استفدت من الوقت معكم واسأل الله العظيم أن يكون ذلك في صحائف حسناتنا يوم الدين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم اللهم آمين ، وجوابي عن سؤالكم : نعم هنالك حل للقضية الفلسطينية ، هو الحل الشرعي الذي لا يكون إلا برجوع المسلمين إلى سابق عهدهم إلى عقيدتهم ومنهجهم ، فما سبب كل هذه المصائب التي تتنزل علينا إلا ذنوبنا وبعدنا عن المنهج الرباني علماً وعملاً منطلقين من الإيمان والإخلاص لله تعالى ، فإنه لا يتسلط علينا عدونا إلا بما اقترفته أيدينا من المعاصي والذنوب قال تعالى : ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ) . فما كان لعدونا سبيل علينا إلا لذلك وعليه فإن السبيل الأوحد للخروج من مصائبنا هو الرجوع إلى الحق المبين وترك الجري وراء الأهواء والشبهات فإن النصر بيد الله سبحانه وحده وهو من المؤمنين قريب ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، أما من خلال الترقيع والتجزيء فلن نصل إلى شيء.
أسأله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه ولينا ونعم النصير وجزاكم الله خيراً وبارك في جهودكم الطيبة .
فضيلة الشيخ : جزاك الله خيراً وبارك فيك ونفع بعلمك ورفع منزلتك وجعل ذلك في صحيفة حسناتك ونشكر لك هذا العمل النبيل بارك الله فيك .(/6)
المشروع الحضاري الإسلامي
الأستاذ/ أنور الجندي
لم يعد هناك مفر من أن يتقدم كتاب ومفكرو الأمة الإسلامية بتصوراتهم للمشروع الحضاري الإسلامي الذي أصبح ضرورة ملحة بعد أن مر المسلمون والعرب خلال السنوات الأخيرة بهذه التحديات الخطيرة التي واجهتهم والأخطار التي حاصرتهم مما يتطلب وضع تصور أصيل مستمد من مفهوم الإسلام الجامع ليكون نبراسًا للخطوات المتصلة على طريق الأصالة والعودة إلى المنابع وإقامة معاصرة في دائرة الأصالة يكون فيها (البناء على الأساس) وليكون هذا المشروع الحضاري الإسلامي بديلاً للمشروع الحضاري الوافد الذي حاول السيطرة على مقدرات المسلمين والعرب خلال قرن ونصف قرن من الزمان بعد أن ثبت عجزه عن العطاء وفشله في تحقيق الأمن النفسي والمجتمع الرباني .
ولقد أقام الإسلام منهجه الأصيل على أساس وحدة الفكر الجامع التي توسع دائرة الالتقاء والتعارف وتضيق دائرة الخلافات حتى تصل الإنسانية إلى عصر التراحم والوفاء من خلال المنهج الرباني الذي رسمه الحق تبارك وتعالى بديلاً للمنهج البشري القائم على الصراع والقتال وإثارة الأحقاد والخصومات والمطامع على النحو الذي نراه اليوم .
والذي يتطلع دعاته إلى شق القوى المجتمعة وتدمير الروابط والتي تستهدف أساسا تحويل الكيان الإسلامي الكبير إلى كيانات وكانتونات متصارعة وذلك بإيقاظ الخلافات المذهبية والتفرقة العرقية .
والواقع أنه لا سبيل لأي مشروع حضاري علماني أو قومي أو بشري أن يمكن لقيام الأمة القادرة على حمل رسالة الحق تبارك وتعالى للعالمين ، إلا إذا استمد مفاهيمه من الأصل الأصيل الخالد : النص الموثق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي جمع مختلف القيم الربانية العليا التي وهبها للبشرية (القرآن الكريم) والسنة الشريفة .
ومن هنا فلا بد أن يكون المنطلق الحقيقي من القرآن والسنة على النحو الذي بدأت به النهضة الأولى إيمانًا بأن القرآن كتاب البشرية الخالد الصالح لكل زمان ومكان والذي هو الينبوع الذي تنطلق منه المناهج والخبرات التي تمكن المسلمين خاصة (والبشرية عامة) من جني الثمار من خلال مخاطبة العقل والقلب والوجدان .
ومن هذا المنطلق يمكن تأصيل كل المنظمات القائمة وردها إلى منابعها : منظمة الانتماء ، ومنظمة المجتمع ، ومنظمة التعامل الخارجي مع الغير وتكامل المجتمع الداخلي وتصحيح مسار الاقتصاد ورفض النظام الربوي ووضع المرأة في مكانها الطبيعي عمادًا للأسرة والمجتمع وبناء التعليم على أسس التربية الإسلامية وتوجيه أدوات الترفية والتسلية نحو الوجهة السليمة التي تحقق هدف الترويح دون الدخول في دائرة الانحراف والتبذل وحماية الوجود الاجتماعي كله من الانحراف الأخلاقي ومن الفساد والفحشاء والإثم كله .
ولما كان الإسلام يمتلك قوة رائعة لا يمتلكها إلى منهج بشري أو أيدلوجية أخرى ؛ تلك هي الوسطية : وسطية التوازن والتكامل والمواءمة بين القيم بحيث لا يوجد من خلال ذلك أي صراع طبقي أو حصون بين الأجيال أو تضارب بين الآباء والأبناء .
هذا التكامل الجامع في الإسلام إنما يمثل ظاهرة حية نابضة بالقوة تمثل تكامل الفكر والوجدان ، وتكامل العقل والروح ، وتكامل الأصالة والمعاصرة ، تكامل النظرية والتطبيق ، تكامل الثوابت والمتغيرات هذا التكامل يفرض مسؤولية خطيرة على الفكر الإسلامي وهي أن تقف موقف المراجعة الواسعة للفكر المادي الغربي والفكر الروحي الشرقي باعتبار أم كل منهما يمثل (انشطارية) لاتحقق سلامة النظرة حيث تقف النظريات موقف التجزئة بينما يتميز الإسلام والإسلام وحده على جميع النظريات والأيدلوجيات والمذاهب في الشرق والغرب وفي القديم والجديد بكمالية النظرة والتوجه .
ويجب أن يكون واضحًا أمام الأمة الإسلامية أن التجربة الغربية بشطريها قد انتهت إلى الفشل وأن المسلمين لا يأخذون نظم الآخرين ولكنهم يستفيدون من الأنظمة والوسائل فيصهرونها في بوتقة فكرهم ويحولونها إلى مواد خام ينتفعون بها دون أن تحاصرهم أو ينصهروا فيها .
إن المشروع الحضاري الإسلامي يقوم على أساس الوحدة الثقافية بين كل العناصر التي تستظل بلواء الأمة الإسلامية انطلاقًا من رسالات السماء التي جاء الإسلام خاتمًا لها فأحسس ثقافته وقيمه ومعالمه التي هي بالنسبة للمسلمين دين وعقيدة وبالنسبة لغير المسلمين ثقافة وفكر لأنها تقوم على أساس التوحيد والإخاء الإنساني والالتزام الاخلاقي والمسؤولية الفردية .
ذلك أن رسالة الإسلام منذ جاءت فقد صهرت كل قيم الأديان واخلاقياتها في منظور جامع واحد قوامه اللغة العربية وقد جمع القرآن الكريم أصول رسالات السماء كلها من صحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى .(/1)
والواقع أن عوامل الوحدة موجودة وقائمة وتمثل الثقافة الإسلامية الآن ثقافة المنطقة العربية والإسلامية كلها ، وقد جاء الإسلام لإقامة وحدة جامعة ، قوامها تكريم العناصر غير الإسلامية وإعطائها حريتها الدينية وإشراكها في مجريات النهضة والحضارة والعلم كما حدث في العصور الأولى ، والعمل على رفض ومقاومة مؤتمرات الغزو الفكري التي تهدف إلى إثارة الفتن والوقيعة والصراع بين عناصر المجتمع المتكامل وقد كانت الشريعة الإسلامية عنصرًا حاميًا ومؤكدًا لحقوق العناصر المختلفة التي صهرها المجتمع الكبير في بوتقته .
إن النظام الإسلامي هو المنطلق الحقيقي لبناء المشروع الحضاري الإسلامي بقاعدته العريضة من خلال فروعه الثلاث :
1- الشورى . 2- العدل الإجتماعي . 3- الحدود والضوابط .
وهذه القيم الأساسية هي وحدها التي تمكن المجتمع الإسلامي من التماثل المفضي إلى الوحدة الإسلامية الجامعة حيث تتسع دائرة التشابه وتمتد بمفهوم (التعارف) الإسلامي بحيث تلتقي كل العناصر والأقطار والقوميات والنحل حيث يصور الوطن الإسلامي وحدة كاملة في مجال الاقتصاد والثروة والقوى العاملة والأرض الزراعية ومعطيات الركاز مما تكشف عنه الأرض كالبترول والمنجنيز والكوبلت .
وليس هناك طريق آخر لبناء المشروع الحضاري الإسلامي غير إقامة هذا التصور السياسي والاقتصادي على أساس منهج الإسلام نفسه وليس على واقع المجتمعات القائم الأول والذي تشكل خلال السنوات الأخيرة من خيوط وافدة مغايرة لمعدنه الأصيل ومنهجه الصحيح حيث توضع قضية الديمقراطية بديلاً عن تطبيق الشريعة أو اعتمادها – أي الديمقراطية مرتكزًا أساسيًا للمشروع الحضاري الإسلامي ، ذلك أن الديمقراطية الغربية لم تستطع أن تحقق الشورى في مجتمعها الذي جاءت منه ، فبالأولى أنها لا تستطيع أن تكون قاعدة نظام يعتمد على المنهج الرباني ونحن نعرف الديمقراطية منذ جاءت من الغرب وكيف عجزت عن تحقيق أي عدل اجتماعي أو شوري حقيقية ، وأن ما نحتاجه منها وهو (الحرية) موجودة لدينا في النظام الإسلامي على نحو يعرف (بالحرية المنضبطة) وهي لن تكون إلا مدخلاً لتحقيق التصور الإسلامي أما ما يقال من أن تطبيق الشريعة (يتم في نهاية المطاف إذا قدر له) فذلك هو ما ينطلق من أهواء الذين يرمون إلى قيام مشروع حضاري إسلامي مغلوط ترضى عنه القوى الغربية ذات السلطان والتي ترغب في تفريغ الإسلام من مضمونه الحقيقي وتقص أجنحة الصحوة الإسلامية بالتمويه لتحجب مفهومات أساسية ترغب في حجبها : كالخلافة والشريعة الإسلامية والحكم وتحريم الربا ثم تضع كلمات أخرى زئبقية بحث لا يبقى بعد ذلك من الفكرة الإسلامية الأصيلة إلا تثبيت العلمانية الموجودة الآن والقائمة فعلاً بغلاف براق والحقيقة أنه لا عدل اجتماعي ولا حرية حقيقية (حرية منضبطة) ولا شوري ملزمة إلا من خلال المنهج الإسلامي .
والحقيقة أن المسلمين عربا وفرسا وتركا وهنودًا مسلمون تجمعهم مظلة لا إله إلا الله يليقون على مساحة واسعة من التكامل النفسي والاجتماعي ولا يحتلفون إلا في مساحة قليلة من عوامل البيئة أو ظروف العصر فالربانية هي القاعدة الأساسية لقيام المشروع الحضاري الإسلامي التي تجعل الوجهة خالصة لله تبارك وتعالى في دائرة ما أحله وتبعد عن دائرة ما حرم .
فإذا أردنا أن نتصور المنظومة الإسلامية وجدناها تتمثل في الوسطية الجامعة بين الروح والمادة والعقل والقلب والمنهج والتطبيق والوحي والنقل ، لقيم الشورى منطلقًا للحكم ولقيم الزكاة منطلقًا لحماية المجتمع وترسم الاقتصاد وفق حماية الأمة تأخذ من غنيها لتعطي فقيرها ، وتقيم حياتها كلها على أساس الأخلاق التي هي وعاء المجتمع والحضارة والفرد أيضًا .
والتي تبني الفرد المسلم على أساس المسؤولية الفردية والالتزام الأخلاقي وتجعله منطلقًا لبناء الأسرة المسلمة فالجماعة المسلمة فالحكومة المسلمة وتحقق رعاية كاملة لكل عناصر المجتمع لا تغفل الحدود والثغور وتنهض بمفهوم الجهاد الإسلامي (واعدوا) لهم ما استطعتم من قوة ترهبون بها عدو الله وعدوكم وهي ما يمسى في العصر الحديث (القدرة على الردع) وحماية أسرار الأمة وكيانها (لا تتخذوا بطانة من ذويكم) ويجب أن يكون واضحًا أن الشورى الإسلامية ليست هي الديمقراطية وأن العدل الاجتماعي ليس هو الاشتراكية كما يحاول البعض التمويه على الشباب المسلم ولنكن واعين تمامًا إلى حقيقة أساسية وهي أن الفكر الليبرالي الغربي قد اثبت منذ سنوات عديدة ومنذ عرفته البلاد العربية والإسلامية عجزه تمامًا عن العطاء حتى في دائرة بلاده حيث يطالب الناس بنظام اقتصادي جديد ، كذلك كان الأمر بالنسبة للنظام الماركسي الاشتراكي .
وقد أكدت الأحداث هذه الحقائق حين استعلن في السنوات الأخيرة فشل الفكر الماركشي في بلاده بعد سبعين سنة من التطبيق حيث انهارت القواعد الماركسية اللينية وسقطت تماثيل ماركس ولينين وستالين في مختلف عواصم الغرب .(/2)
وكذلك كشفت الأحداث الأخيرة عن عجز الفكر الوافد كله سواء القومي أو الاشتراكي عن العطاء وانهارت هذه الدعوات .
وإذا كان الفكر اليساري قد عجز عن العطاء فمن باب أولى أن يعجز التيار اليساري المسمى بالإسلامي والتيار الإسلامي القائم على مفهوم الاستعلاء بالمفاهيم العقلانية المتخذة من المعتزلة والتي لا تقدم الإسلام مفهومًا جامعًا متكاملاً بين الوحي والعقل .
أما الحملة على الخلافة فهي لا تحجب دعوة الوحدة الإسلامية الجامعة التي يمكن أن تتشكل في أي صورة من صور العصر وقد قدمها بعض فقهاء القانون وغيرهم في صورة كومنولث إسلامي أو جامعة إسلامية فإذا أضفنا إلى هذا التعددية الحزبية والشورى الملزمة والعلاقات السمحة مع غير المسلمين وترابط العروبة والإسلام تشكلت أمامنا صورة واضحة لملامح وخيوط المشروع الحضاري الإسلامي الذي يتطلب العمل من الآن على : الأسس التالية .
أولاً : أسلمة المناهج والعلوم والمعرفة وتقديم البدائل الأصيلة مكان المفاهيم الوافدة في مختلف المجالات .
ثانيا : بناء قاعدة صلبة للتربية الإسلامية الخالصة التي تحتفظ بعناصر الأمة وقدرتها على الإيمان بحق الله تبارك وتعالى على المسلم في دائرة الاستخلاف والعمران والسعي والتحرر من الضعف والرخاوة والترف الوهمي وكلها من علامة الهزيمة التي تبثها أدوات الترفيه .
ولابد أن تخرج الأمة الإسلامية من طابع الضعف وتدخل مرحلة الصمود والعزيمة وذلك حتى تستطيع أن تحقق وجودها الحقيقي وتقيم مجتمعها الأصيل الذي يحمل طابع ذاتيتها الخاصة المتحرر من التبعية وذلك حتى تستطيع أن تقدم الإسلام للبشرية كلها لتحررها من عوامل القلق الهائل الذي أصاب النفوس والأرواح نتيجة عبادة المادة وتزلزل قيم الأخلاق وهذا إجمال له تفصيل.
***(/3)
المشهد العراقي صنيعة هؤلاء
في العراق سنة وشيعة ونصارى (آشوريون) ويهود، وفي العراق علمانيون لا دينيون، وفي العراق عرب وفرس وأكراد وترك، وفي العراق ثروات وأنهار. فهناك تعترك الحضارت برؤوسها ـ كالكباش التقت على المرعى الخصب ـ كل يريد أن يؤخر صاحبة أو يقتله، هكذا يرسمها لي الخيال.
وفي العراق الأمريكان وخلفهم الغرب تَؤُزهم يهود، يبحثون عن الثروات، ويريدون موطن قدم على بوابة (محور الشر) الذي طالما تكلمت عنه نبوءات (العهد القديم) ، وأرض هذه حالها من الصعب جدا أن تستقر بجهدٍ قليل.
أقول ـ وليت كلماتي تجد من يسمع ويعقل ـ: إن الحرب لن تضع أوزارها في العراق في القريب العاجل، ولا على المدى المتوسط، فطلبان ـ بمنهجها الأصولي وتركيبتها متعددة الأجناس ـ لن تقف عند حدود أفغانستان حين يمكنها الله، وقد بدت بوادر التمكين، والشيعة يشهد التاريخ والواقع على أطماعهم في العراق وغير العراق، ويشهد التاريخ والواقع المعاصر أن القوم منصرفون (لتنقية) الصف حتى يصير كله شيعي، وإن لزم الأمر التعاون مع الأمريكان ، وهذا الأمر يعرفه العامة والخاصة، ويتكلم عنه التاريخ في كل أحقابه.
واليهود في المشهد العراقي، وما ينتهي إليه أمر العراق يحدد مصير دولتهم ـ عجَّل الله بزوالها ـ. وأهل السنة. . . أعني من رفعوا راية الجهاد. لن ينصرفوا عن العراق. وإن انصرفوا فستدور الحرب على أرض أخرى قريبة من العراق ـ لا أعني مكانا محددا ـ وإنما ستزحف هذه الكتل البشرية والدينية وتأتي على أرض أخرى لتستولي عليها بمعنى يحدث زحزحة مكانية للصراع.
فالعقل يقول: إننا اليوم بحاجة لإدارة الصراع. فلم يعد لنا بد، فهم هناك وأعينهم علينا هنا.
فثروات الخليج كثروات العراق، وأرض الجزيرة منبع (الإرهاب) وموطنه الفكري (الوهابية) ـ بزعمهم ـ. ومِصر (المحروسة) تكتل بشري قد ينفجر في أي وقت، وصاحبة وقفات تاريخية في الصراع مع القوم. والمد الإسلامي يتزايد بداخلها. والمغرب العربي أُريد له من قبل أن يكون غربيا وأن يتنكر لعروبته وما كان، وها هم اليوم يحاولون بكل جهدهم. . . . فالصراع في العراق له ما بعده على الأمة كلها في الجزيرة ومصر والشام والمغرب وباقي البقاع الإسلامية.
والسؤال: كيف ندير الصراع في العراق؟
قبل أن أجيب أُذكر بأمرين:
الأول: ينبغي لكل من ينظر إلى المشهد العراق، بل والعالمي، أن لا يغيب عنه أن للنصر والهزيمة في عرفنا ـ نحن المسلمين ـ مقاييس غير التي يتكلم عنها القوم، وأنه (كَم من فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصابِرِينَ) (البقرة: من الآية 249). والنصر والهزيمة لا عقلا ولا شرعا ترتبط بالعدد والعتاد والتاريخ شاهد.
وأن (الاستحالة نوعان قدريةٌ كاجتماع الشمس والقمر في الليل، أو أن يصير الأب أصغر من الابن، وشرعيةٌ كأن يصير الوقوف بعرفة في غير التاسع من ذي الحجة، وما عدى ذلك فليس بمستحيل ولكنها هِمَمٌ وعزائم). كما يقول الشيخ الدكتور ناصر العمر حفظه الله .
الثاني: أن حركة الجماعات والأحزاب والدول بل والأفراد ما هي إلا انعكاس لمفاهيم وتصورات داخلية، فالمعركة تكون في الوجدان والضمير ثم تكون على أرض الواقع حسب ما يستقر في هذا الضمير.
لذا علينا أن نكون متفائلين، أو بالأحرى عازمين جادين، وأن نستيقن أن البداية من هنا. . . من عند العلماء والمربين.
نحتاج من أولي العزم من علمائنا ودعاتنا الكرام خطابا ترشيديا لإخواننا هناك، ونحتاج لخطاب دعوي لعامة الشيعة فلا يعقل أن يكون عامة الشيعة كسادتهم، أو على الأقل يكون هذا الخطاب من باب التوعية للجاهلين من أهل السنة بما عليه أهل التشيع والرفض، وأقل ثماره هو أنه يثبت صفنا ضد التوغل الشيعي ويخذل في صفهم، ونحتاج لخطاب دعوي لعامة النصارى بالإسلام فإن الملأ يمكرون بهم ويوغلون صدورهم علينا، خطاب ديني صادق وصريح وبمنطق صاحب الحق لا بمنطق المداهن الذي يبني الجسور بين الحق والباطل، خطاب يتكلم عن أن الإسلام هو الدين وأن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو رسول رب العالمين للناس أجمعين، وأنهم مخاطبون بالإسلام كغيرهم.
ومن يدري علَّ أن يسلم منهم من يكون كنعيم بن مسعود يوم الأحزاب أو كسعد بن معاذ في قومه، وما ذلك على الله بعزيز، خطاب يرد كيد المضللين من المنصرين ويكشف كذبهم على قومنا ـ المستهدفين بحملات التنصير أعني ـ وعلى قومهم.
وخطابٍ جريءٍ قويٍ يتصدى لبني علمان فقد باضوا وفقس بيضهم وشب وليدهم وراح يشيع الفاحشة في الذين آمنوا، يزين فعال الكافرين (الاختلاط) و (التبرج والسفور) و (عدم التعدد).
خطاب بأهداف الجهاد ووسائله وإن لم يسمعه من هناك ـ في أرض العراق ـ فإن من هنا قد يكونون يوما هناك أو في مثل ما يحدث هناك.(/1)
ونحتاج لتكتلات فكرية جماعية أو شبه جماعية من الراسخين في العلم، لا المشهورين بالقنوات الفضائية، هذه التكتلات تتحرك بطرح فكري مرتب في كل ما يتعلق بحال الناس اليوم.
أقول: الساحة مليئة بالوعاظ والدعاة، ويكمن في الظل كثير من علماءنا وشيوخنا الأفاضل كونهم لا يحسنون الظهور أوالحديث إلى عامة الناس، وهؤلاء لا بد من استخراجهم للناس، عن طريق استكتابهم في المواقع أو استفتائهم في النوازل وتسويق فتواهم. والتحدث للناس عنهم، وعن أنهم هم ولاة الأمر مثل الأمراء وأنهم هم الموقعين عن رب العالمين، وأن رد الأمر إليهم دِيانة (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ منَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدوهُ إِلَى الرسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتبَعْتُمُ الشيْطَانَ إِلا قَلِيلاً) (النساء: 83)
فهؤلاء هم من يرسمون المشهد في العراق وفي غير العراق، وتراجعهم عن التصدي الفكري للتنصير وللشيعة ولتوجيه شباب الأمة المتحمس هو الذي جعل المشهد هناك على حالته اليوم.(/2)
المصيف في ميزان الإسلام
الكاتب : أبو عبد الرحمن .. سامح
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد
أيها الأخ المبارك : هذه رسالة كتبتها بمداد الحب وسطرتها وقد سكبت فيها من روحي لعلها تصل إلى روحك .. كتبتها وأنا أسائلك أن تصحبني بعقلك الذي يمنعك من ارتكاب كل قبيح، بعيداً عن التشنجات والمغالطات والمهاترات التي لا تغني من الحق شيئاً .. أي نعم .. أريد أن أتحدث إليك أنت أخي حديثاً أخصك به، فهل تفتح لي أبواب قلبك الطيب، ونوافذ ذهنك النير، فو الله الذي لا إله غيره إني لأحبك .. إن موضوعي معك هو ما تفكر فيه الآن، وتبحث عن مكان يناسبك ويلائمك أنت وأسرتك وربما أعددت العدة له .. نعم .. هو النزهة والترفيه عن النفس .. إننا لا نعتب عليك بادئ ذي بدء أن تفكر في هذا الموضوع فالنفس مجبولة على ذلك وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا نعتب عليك أن تأخذ أسرتك وأولادك في نزهة برية أو رحلة خلوية أو غيرها، وإن غير ذلك يعتبر مصادمة للواقع فلابد من الترويح عن النفس ، ولابد من التخفيف عنها .. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " .. ساعة وساعة " . [ صحيح ]
ساعة و ساعة
نعم ساعة و ساعة .. لكن هل يعني ذلك أنها ساعة للطاعة وساعة للمعصية !؟ هل المراد ساعة لربك، وساعة لنفسك تفعل فيها ما تشاء وتختار !؟ إن هذا المفهوم لا يمكن أن يحتمله كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أن يفهم منه إذ كيف يتصور أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمعصية ربه ، والتعدي على حدوده؟! وانتهاك محارمه؟! أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يغضب لنفسه، ولكن إذا انتهكت محارم الله اشتد غضبه ، واحمر وجهه .. فكيف يأذن إذاً بالمعصية وهذا منهجه؟ وهذه طريقته؟ سبحانك هذا بهتان عظيم .. إن المفهوم الصحيح لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ساعة وساعة " هو ساعة لطاعة الله I، وساعة يلهو بلهو مباح .. يقول الله I : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) [القصص: 77] هاهو ربك I يأمرك أن تستعمل ما وهبك من المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة ( وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والمساكن والمناكح .. فأي دين أعظم من هذا؟ وأي شريعة أكمل من هذه الشريعة؟ التي راعت بين جوانب الحياة كلها وأعطت كل ذي حق حقه .
الحكمة من خلق الليل والنهار
قال I مبيناً الحكمة من خلق الزمن ، وماذا يجب على الإنسان أن يعمل فى الليل والنهار ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) ) [ الإسراء 12-15 ]
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله : يمتن تعالى على خلقه بآياته العظام ، فمنها مخالفته بين الليل والنهار ؛ ليسكنوا في الليل وينتشروا في النهار ؛ للمعايش والصنائع والأعمال والأسفار ؛ وليعلموا عدد الأيام والجمع والشهور والأعوام ؛ ويعرفوا مضى الآجال المضروبة للديون والعبادات ، والمعاملات والإجارات وغير ذلك . أ.هـ [ابن كثير3 /27]
ولهذا قال ( لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ) : أي لتسعوا فى الأرض فتطلبوا رزقاً من فضل ربكم . ( وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ) : أى بمضى الليل والنهار تتمكنوا من حساب الأيام والشهور والأعوام ، فيعطى الأجير حقه ، وتعملوا بالنهار وتسكنوا بالليل . ولو كان الزمن كله نهاراً لملَّ الناس ، وتعبوا ، وما صَلَحت حياتُهم ، ولو كان الزمن كله ليلاً لتعطلت مصالحهم . وقوله ( فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ ) أى جعلنا الليل مظلماً فمحونا ضوءه . وقوله ( وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ) أى جعلنا النهار مضيئاً . ( وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ) أى فصلنا لكم كل ما تحتاجون إليه من أمر معاشكم ومعادكم . فالله I خلق الزمن ليسعى الناس على معايشهم فيقتاتون ما يعينُهم على عبادة الله وطاعته ، فالسعى على المعاش وسيلة للإعانة على العباده .(/1)
فالزمن لطاعة الله .. والزمن لعبادة الله .. والزمن للتقرب إلى الله .. لا لمعصيته ولا لمخالفة شرعه فكلُّ أقوالك وأفعالك ، وحركاتك وسكناتك ، مسجلة عليك بالليل والنهار ، ترى ذلك يوم القيامة فى كتاب منشور ، فإذا مررت بعمل طاعة استبشرت ، وإذا وجدت فيه معصية حزِنتَ وندِمتَ . ولذلك قال I ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ) [الاسراء:13] .. أى ستجد كتاب أعمالك ملازماً لك لا يفارقك لا فى القبر ولا فى الحشر ، ( مَنْشُوراً ) أى مفتوحاً يقرؤه كل الناس .. يا فرحتاه إذا كان مملوءاً طاعات وحسنات .. ويا حسرتاه إذا كان مملوءاً سيئات ومعصيات . ( اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) [الاسراء:14] محاسباً .
فاعلم وفقك الله : أن الوقت زمن تحصيل الأعمال والأرباح وقد أنّب الله الكفار إذ أضاعوا أعمارهم من غير إيمان فقال I : ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ ) [ فاطر:37 ] . ولعظم أهمية الوقت كان مما أفرد بالمسألة عند العرض .. يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه " [ حسنه الألبانى ] .
يقول ابن القيم [ رحمه الله ] : "وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر مرَّ السحاب، فمن كان وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوباً من حياته .. فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير من حياته ".
ماذا يحدث في المصيف
حبيبى فى الله : إن الإسلام لا يقف في وجهك حجر عثرة عن التنزه والترفه إذا كان ذلك وفق الضوابط الشرعية التي تكفل لك ولأسرتك السلامة والعافية في الدارين .. ولكن إذا صاحب ذلك تفريط وإفراط هنا يأتي التحذير والمنع لا من أجل حرمانك من التمتع .. كلا ؛ بل من أجل المحافظة عليك من أن تحيط بك السيئات من كل جانب فتهلك فتكون من الخاسرين ..
أخى : الآن ونحن مقبلون على الإجازة الصيفية ترى شيئاً عجيباً .. كثيراً من المسلمين ، يجهزون ثياباً جديدة ، وفُرُشاً ، وطعاماً وشراباً ، استعداداً للسفر .. ولكن إلى أين ؟؟؟ .. لعلك تظن أنهم سيسافرون لأداء العمرة والطواف بالكعبة ، والشرب من زمزم ، وزيارة المسجد النبوى .. كلا .. هم لا يفكرون فى ذلك . أو لعلك تظن أنهم سيسافرون لزيارة أقاربهم وصلة أرحامهم .. كلا .. كلا إنهم سيسافرون لقضاء عدة أيام على شاطئٍ من شواطئ البحار المالحة . ويسمونها [ المصْيَف ] وهى بالعربية [ المصِيف ] .. ماذا يصنع الناس فى المصيف ؟؟
يستأجرون شقة صغيرة على الشاطئ يسمونها [ شاليه ] أو [ عشة ] ليقضوا فيها أسبوعاً أو أسبوعين .. ماذا يصنعون فيها ؟؟ .. ليختموا القرآن تلاوة .. كلا !! .. ليقيموا الليل تهجداً وتعبداً مع الدعاء للمسلمين المستضعفين أن ينصرهم الله .. كلا !! .. ليبحثوا عن الأرامل والأيتام ليساعدوهم ويعاونهم وينفقوا عليهم ويُدخلوا على قلوبهم الفرحة والبهجة ؟!! .. ليبحثوا عن عصاة المسلمين فيدعونهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ؟!! .. ليس شيئاً من ذلك .. إذاً ماذا يصنعون ؟ ..
يذهب الرجل ويصطحب معه زوجته وأبناءه وبناته وقد أعدوا ملابس للسباحة ، فالرجل يلبس تِبَّاناً [ سروال قصير يوارى العورة المغلظة فقط ] ويسمونه [ مايوه ] والمرأة تلبس ذلك أيضاً لكنه أستر قليلاً وتسميه [ المايوه الباكينى ] وكذلك الأولاد والبنات ، ثم يتجهون فى صبيحة كل يوم بهذا اللباس الفاضح إلى شاطئ البحر لينزلوا فى الماء المالح يلعبون ويسبحون .. وليسوا وحدهم ، بل معهم مئات من الأسر الآخرين من المسلمين والنصارى واليهود لا تستطيع أن تفرق بينهم لا فى منظر ولا فى سلوك . الرجال والنساء والشباب والفتيات ينظر بعضهم إلى عورات بعض .. منظر قبيح تشمئز منه القلوب المؤمنة .
لو رأيتهم وهم يتجهون إلى البحر بهذا العُرى الفاضح جماعات وفرادى .. رجالاً ونساءً لاستطعت أن تجيب على هذا السؤال المحير .. نحن مسلمون .. فلماذا سلط الله علينا أعداءنا فأذاقونا سوء العذاب .. ودنسوا أعراضنا ووطئوا بأقدامهم أرضنا .. وأذلُّونا .. وغلبونا .. وقهرونا ؟ .. فكم فى ذلك المكان من علاقات آثمة ، ونظرات خائنة .. وعورات بادية والشياطين تحتَوشُهم من كل جانب تُزَيِّنُ لهم المنكر ، وتحبب إليهم الفحشاء ، وتؤزهم إلى المعاصى أزَّاً . فترى الرجل قد نسى رجولته وترك عرضه عُرضة للنظرات الفاجرة واللمسات الآثمة .(/2)
أيها المصطاف المسلم : أهذا يرضى الله ؟! أهذا يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!! قل لى بربك : أتحب أن يُعرض هذا يوم القيامة فى ميزان أعمالك ؟ أتحب أن تراه مكتوباً فى كتابك ؟ أتحب أن يعرض هذا أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ؟ وماذا تقول لربك حينما يقول لك : ألهذا خلقتُك ؟ وبهذا أمرتُك ؟ وأنتِ أيتها المسلمة : ماذا تقولين لربك غداً حين يقول لك : أمرتك بالحجاب فخلعتيه ، أمرتك بستر العورة فأبديتيها ، وأمرتك بالطاعة فعصيتِ ، أغضبتينى لشهوة عاجلة ولذةٍ فانية ..
أيها المصطاف المسلم : هل يمكن لك أن تنبسط مع أولادك وأهلك في مثل تلك التجمعات؟ هل يمكن لزوجتك أن تأخذ راحتها وأنسها وتتأمل في ملكوت الله تعالى والناس من حولها .. الأسرة بقرب الأسرة !؟ ثم كم من الشباب الذين يترصدون لاصطياد الفتيات في تلك التجمعات؟ والذين لا همّ لهم إلا النظر في عورات الناس؟ وكم من الشباب الذين نراهم في سيارتهم وقد رفعوا أصوات الموسيقى الصاخبة فهل يمكن أن تعمل شيئاً !؟؟ وهل يمكنك أن لا تسمع تلك الأصوات أولادك وأسرتك !؟؟ وكم من المشاهد ستراها أنت بنفسك لا تحل لك !؟؟ فمن الذي يبيح لك رؤية النساء المتبرجات !؟؟ وهل يمكنك في تلك الأماكن أن تغض طرفك !؟؟ وإن غضضته عن تلك فهل يمكن أن تغضه عن الأخرى وغيرها !؟؟ وماذا لو جاءك فجأة وأنت مشغول بهذه المحرمات الزائر الأخير !؟؟ .. هل تعلم من هو الزائر الأخير؟ إنه يأتي إليك في أي وقت وعلى أي حال ، كما أنه ليس له قلب يرق بحيث تؤثر فيه كلماتك وبكاؤك، أو ربما صراخك وتوسلاتك، وليس في مقدوره أن يمهلك مهلة تراجع فيها حساباتك، وتنظر في أمرك !! وهو كذلك لا يقبل هدية ولا رشوة ، إنه يريدك أنت .. لا شيء غيرك .. يريدك كلك لا بعضك.. يريد إفناءك والقضاء عليك .. يريد مصرعك وقبض روحك .. وإهلاك نفسك .. وإماتة بدنك .. إنه ملك الموت !! .
فإياك أخي أن تقضي الإجازة في الوقوع في الحرام ، أو في انتهاك حرمات الله أو مشاهدة من عصى الله ، أو الجلوس معه، فإن الله جعل العاصي والساكت في الإثم سواءً فقال I : ( فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ) [النساء:140] . وأنصحك بالحذر من السفر إلى الأماكن أو البلاد التي تسهل طريق المعاصي، واعلم أن كثرة رؤية الحرام تهوّن المعاصي في القلب، وإن كنت تأمن على نفسك الفتنة فهل تأمنها أيضاً على من معك من الأبناء والبنات والزوجات ؟!
قصة وعبرة
أحدهم أرسل رسالة نشرت في إحدى الجرائد الخليجية بعنوان : [ عاقبة إهمال الزوجة والأولاد ] : جاء فيها : " أخى الدكتور .... السلام عليكم ، [ إلى أن قال ] اشتريت شاليهًا على البحر, في البداية كنت أقضي وقتًا لا بأس به معهم, أولادي الصغار يلعبون حتى يتعبون, ثم ينامون, ومع كثرة الأشغال، أصبحت أقول لهم : اذهبوا مع أمكم وسوف ألحقكم , وبطبيعة الحال لا ألحقهم . وهكذا مرت الشهور، وأنا أعتقد أنهم على ديدنهم القديم فيما يفعلونه في الشاليه, عدت قبل فترة من إحدى سفرياتي وصفقاتي على غير ميعاد, وأحببت أن أفاجئهم, لم أجدهم في البيت, سألت خادمة بقيت في المنزل عنهم، فقالت: إنهم في الشاليه, ركبت سيارتي، ووصلت إليهم في الساعة الثانية صباحًا, كان الشوق يملأني, وجدت أبنائي نائمين ولم أجد زوجتي, وعندما أيقظت الخادمة من النوم، وجدتها مرتبكة, وبقيت طوال الليل أنتظر، أنظر من كل فتحة في المنزل, ومع تباشير الصباح، جاءت تمشي مع رجل غريب, عندما فتحت الباب، وجدتني، وارتبَكَت, أجلستها بهدوء، وسألتها السؤال الذي يملأني: لماذا؟ ما الذي كان ينقصك؟ بدأت في البكاء، وبعد أن هدأت، قالت: أنت السبب , كنا مستورين، عايشين، سعيدين, ثم أحضرتنا ورميتنا في هذا المكان، حيث كل واحد ينظر , كنت محتاجة لك ، ومع الزمن ... وكثرة النظرات ... وكثرة التعليقات ، وأنت تعرف الباقي . وافترقنا .. لكنني بعد أن جلست إلى نفسي، وذهبت إلى ذلك الشاليه مرات عديدة، فهمت ما تقصده, إن أي إنسان يترك زوجته وأبناءه في مثل ذلك المكان، إنما يتركهم لذئاب لا يخافون الله . إن الكثيرين منا يقولون: إن زوجاتنا وبناتنا لا يمكن أن يفعلن مثل هذا, لكن السؤال : زوجاتنا وبناتنا من ؟؟! هؤلاء اللواتي نراهن يمشين بدون ستر، وينظرن ... !!؟؟ إن نصيحتي لكل إنسان : لا تترك زوجتك وبناتك عرضة للمخاطر ... وتجنب الانفتاح وقلة الحياء والاختلاط بالطبقة السفيهة التي ترمي شباكها بحثًا عن صيد تتسلى به لفترة قبل أن تتخلص منه لكي تبدأ التسلي بصيد آخر . إن النار اليوم تشتعل في قلبي بعد أن خسرت حياتي وزوجتي، وإذا كان من أحد ألومه، فهو نفسي التي كانت راعية، فلم تعرف كيف تحافظ على رعيتها ! أ. هـ .
ماذا تقول لربك غداً ؟(/3)
فاليوم ذهبت الشهوات وبقيت الحسرات .. اليوم انقضت الأعمال وبقيت السجلات : سيئات .. شهوات .. حسرات .. ظلمات .. صراخ .. بكاء .. صياح ( رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) [المؤمنون: 99 – 100] .. أيها اللاهى .. أيها اللاعب : اسمع إلى القرآن وهو يقول ( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) [ المعارج: 42 –44 ]
أيها المصطاف المسلم : أهذا العمل يقربك من الله أم يباعدك عن الله ؟ .. أيتها المصطافة المسلمة : أنت راضية عما تفعلين ؟ .. يا ربَّ الأسرة : أهذه هى الأمانة التى حمَّلك الله [ كلكم راع ومسؤول عن رعيته الإمام راع ومسؤول عن رعيته والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته وكلكم راع ومسؤول عن رعيته ] [ البخاري ومسلم ] .
مسؤول !!! .. سيسألك الله : لماذا ذهبت إلى المصيف ؟! فماذا ستجيب ؟ وبم ستنطق ؟ لا كذب .. لا خداع .. لا غش .. لا رياء .. فالله يقول ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) [غافر:19] . يا صاحب الشهامة والكرامة : صُنْ زوجتك وبناتك عن عيون الناس .. صُنْ شرفك .. صُنْ عِرضك .. صُنْ كرامتك . أيتها الأخت المسلمة : أين حياؤكِ ؟ أين عفتُكِ ؟ أين كرامتُكِ ؟ أين خوفُكِ من الله ؟ .. الله .. الذى يعلم السر وأخفى .. الله .. الذى يعلم خلجات الصدور وخفايا النفوس .. الله .. الذى خلقكِ فسواكِ فعدلكِ .. الله .. الذى وهبَكِ الصحة والعافية ولو شاء لأخذهما فجلست مريضة .. طريحة الفراش .. الله .. الذى وهبكِ الجمالَ ولو شاء لسلبه فترككِ شوهاءَ تتقززُ منك النفوس ، وتنفرُ عنك القلوب .. الله .. الذى وهبكِ اللسان والشفتين ولو شاء لسلب نطقهما .. فظللتِ بكماء لا تنطقين خرساء لا تتكلمين .
أيتها الأخت المسلمة : توبى إلى الله .. اندمى على ما فعلتِ والله كريم يقبل توبةَ التائبين ، ويغفر ذنوب المستغفرين .. ويمحو سيئات النادمين ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [التحريم:8]
ما البديل ؟
أخي الفاضل : لعلك تقول بلسان حالك أو بلسان مقالك شخّصت لنا الداء ولم تشخص لنا الدواء ومنعتنا من التنزه في تلك المنتزهات المختلطة ولم تذكر بديلاً عنها، وهاهنا أنبهك إلى أمر عظيم غفل عنه الكثيرون وغاب عن بال آخرين ألا وهو ذلك الخطأ الفادح والأمر المشين وهو مطالبة المسلم دائماً بالبدائل في كل شيء منع منه وحرم عليه، مع أن الواجب على المسلم أن يقول سمعنا وأطعنا ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [النور:51] هذا هو الأصل بالمؤمن فيما جاءه عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي، المبادرة والسمع والطاعة ولذلك يخاطب الله I عبادة المؤمنين بأجل الأوصاف وأحبها إليهم لاستجاشة قلوبهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) [الأنفال:24] ، وهكذا كان الجيل الفريد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من الاستجابة الحيّة لأوامر الله ورسوله بدون تردد ولا تلكّع فهاهم [ لمّا نزلت آيات الخمر في تحريمه، لم يحتج الأمر إلى أكثر من مناد في نوادي المدينة : " ألا إن الخمر قد حرّمت " فمن كان في يده كأس حطّمها، ومن كان في فمه جرعة مجّها، وشقت زقاق الخمر وكسرت قنانيه .. وانتهى الأمر كأن لم يكن سكر ولا خمر ] ..(/4)
قال أنس رضى الله عنه [ما كان لأهل المدينة شراب حيث حرمت الخمر أعجب إليهم من التمر والبسر فإني لأسقي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم عند أبي طلحة مر رجل فقال إن الخمر قد حرمت فما قالوا متى أو حتى ننظر قالوا يا أنس أهرقها ثم قالوا [ من القيلولة ] عند أم سليم حتى أبردوا واغتسلوا ثم طيبتهم أم سليم ثم راحوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا الخبر كما قال الرجل قال أنس : فما طعموها بعد ] [ صحيح ] . إذاً لماذا كلما ذكرنا أمراً محرماً أو يؤدي إلى الحرام طالبنا الناس بقولهم : ما هو البديل؟ وكأن القائل يقول إذا لم تحضروا لي بديلاً لن أتراجع عمّا أنا فيه من المخالفة والعصيان وذلك ورب الكعبة لهو الخسران المبين، قال I : ( لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) [الرعد:18] ويقول I : ( اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ ) [الشورى:47] .
أخى المبارك : هذا أصل يجب أن يتربى المسلمون عليه ينشأ عليه الصغير ويهرم عليه الكبير. ولا بأس أن أذكر لك بعض البدائل التي تحضرني :
1- فالسَّيرُ فى المزارع والحقول والنظر إلى الخُضْرَةِ مما يقوى البصر ويُريحُ النفس .
2- والجلوس مع الصالحين وتبادل أطراف الحديث مما يريح الصدر ويسعد النفس .
3- والجلوس للاستماع إلى شريط مؤثر لأحد الدعاة إلى الله مما يريح الصدر ويسعد النفس .
4- والاستماع إلى شريط للقرآن الكريم لمن رزقهم الله الأصوات الشجية والنبرات الندية .. مما يسعد القلب ويريح النفس .
5- وقراءة تاريخ الأمة المسلمة .. والتقلب فى أحداثها مما يريح الصدر ويُسعدُ النفس .
6- وقراءةُ قَصَصِ الصالحين ومواقف الزاهدين وبطولات الصحابة والتابعين مما يريح الصدر ويُسعد النفس .
7- وتقليب النظر فى السماء بالليل والتفكر فى قدرة الله مما يريح الصدر ويُسعدُ النفس .
8- والذهاب إلى بيت الله الحرام لأداء مناسك العمرة، والبقاء بقرب الرحاب الطاهرة مع ما يتخلل تلك الرحلة المباركة من زيارة إلى المناطق الجميلة مما يريح الصدر ويُسعدُ النفس .
9- كم تمر على البعض من المسلمين و أبناء المسلمين إجازة تلو الأخرى دون أن يقرأ شيئاً من القرآن فضلاً عن حفظه، فاحرص على إتقان قراءتك مع صديق أو زميل يعينك على ذلك، واحرص أن تحفظ خلال هذه الإجازة على الأقل كل يوم خمس آيات، ، وسوف ترى خيراً كثيراً بإذن الله .
10- صلة الأرحام : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الرحم معلقة في العرش . تقول : من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله " [ متفق عليه ] ، فالإجازة فرصة لذلك ، ولصلة الرحم فوائد : فإنها من أسباب الرحمة ودخول الجنة، ولها أثر في زيادة العمر، وبسط الرزق .
شبهة وجوابها
من الناس من يقول : إنني أجد ضغطاً من أسرتي وإلحاحاً .. فأقول لك قال الله I : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) [التغابن:14] ، وقال I ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ) [الأحزاب:36] . واعلم أنك مسؤول أمام الله عن هذه العورات التي أخرجتها من بيوت ساترة فلا تجعلها أمام الناس سافرة .
من الناس من يقول : سأذهب بزوجتى وأولادى إلى المصيف فى مكان بعيد عن أعين الناظرين .
أقول : ستجدُ كثيرين يفكرون مثلَ هذا التفكير وستلتقون هناك ويقعُ المحظور .
من الناس من يقول : سنتمشى أنا وزوجتى وأولادى على الشاطئ ولن ننزل البحر ولن نخلع ثيابنا .
أقول : هذا لا يجوز لأمور : أولاً : لن تستطيع أن تغض بصرك عن اللحوم المكشوفة هنا وهناك فتقع فى زنى العين .. أنت وأسرتك الكريمة . ثانياً : أنك سترى معاصى تُرتكب ومحارمَ تنتهك فهل تستطيع أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر .. بالطبع لا .. إذا ستأثمُ على إقرار المنكر . ثالثاً : ليس المصيف من الضرورات التى لا بد منها .. فكثير من الأسر المسلمة الطيبة تعيشُ بلا مصيف ولا شواطئ وهم فى سعادة غامرة .. وراحة نفسية .. وقرب من الله رابعاً : إن أرض الله واسعة . وهناك من المباحات الكثير الذى تستطيع أن تروِّحَ به عن نفسك كما ذكرت لك آنفاً .
نداء من القلب(/5)
يا من تتجهزون الآن للذهاب إلى المصيف لا يليق بمن يركع لله ويسجد لله أن يذهب هذا المذهب الخبيث . يا من تؤمن بأن الله يراك .. سيراك وأنت على الشاطئ .. سيراك وأنت بالمايوه .. سيراك وأنت تنظر إلى العورات .. سيراك وأنت على معصيته . يا من تتمشى الآن على الشاطئ عُرياناً : استح من الله .. استح من الملكين .. استح من الناس . يا أيتها الأخت المسلمة : أنت درة مصونة .. وجوهرة مكنونة .. فلا تذهبى إلى الأماكن الآثمة .. فإنك كريمة .. عفيفة .. مسلمة .. مؤمنة .. راكعة .. ساجدة .. محجبة .. ليس هذا مكانك .. ولا يليق بك . أيها المسلم الكريم : إذا علمتَ أن جارك يتجهز للمصيف ، فلا تبخل عليه بالنصيحة ، ولا تكتمه علماً علمك الله إياه .. هو طيب .. هو يريد الخير .. فإذا ذكَّرته تذكر .. وإذا وعظته اتعظ .. لأن فى قلبه إيماناً .. وفى صدره إسلاماً .
وختاماً
فهذه وقفات .. من محب مشفق على عرض ينتهك, وكرامة تداس, ودين يكاد أن يسلب فخذها هنيئاً مريئاً ، سائلاً الله I أن لا أعدم منك دعوة صالحة بظهر الغيب . أخى : قد بلغت جهدى فى نصحك ، واستثرت فيك كل نخوة .. وحاولت أن ابعث فيك أى روح .. فإن طويت هذه الصفحة ، وانتهيت من سماع هذا الكلام ، ولم تقم فيك حياة فلست بحى ، أسأل الله أن يحيى موات قلوبنا . والحمد لله رب العالمين .
المصدر:
1- مجموعة مقالات مختلفة
2- خطبة للشيخ وحيد عبد السلام بالى بعنوان [ المصيف فى ميزان الإسلام ]
وجزاكم الله خير الجزاء
[ راجعها الشيخ وحيد بالى ](/6)
المضاربة بالأسهم متاجرة، أم مقامرة؟
د. يوسف بن أحمد القاسم (*) 13/2/1427
13/03/2006
حدثني من أثق به: أن مساهماً في إحدى الشركات المتردية أو النطيحة، قد بلغه خبر مفاجئ لم يصدقه من أول وهلة، وهو أن الشركة التي ساهم فيها منذ سنين بطريق(الخطأ!!) قد أفاقت من سباتها، وسادت بين الشركات بعد ترديها في ظلمات ثلاث، فارتفع مؤشر قيمتها السوقية ـ بين عشية وضحاها ـ من (150) ريالاً إلى (2600) ريال، ودون سابق إنذار!! وكأن دعوة صالحة في آخر الليل قد وافقت ساعة استجابة، فانتشلتها من بين الركام، ومن الحضيض إلى القمة، فما كان من أخينا المساهم الذي لم يسدد باقي القيمة الاسمية لأسهمه ـ لعدم قناعته المسبقة بجدواها الربحي ـ لم يكن منه إلا أن امتطى سيارته، متجهاً إلى المقر العام لتلك الشركة، وحين وصل إلى المقر كانت المفاجأة الأخرى، وهي أن هذه الشركة المجدولة في قائمة الشركات المتداولة لا يديرها إلا موظف واحد، من جنسية عربية، ومن قارة أفريقية، وهذا وحده هو المدير، وهو المسؤول، وهو موظف الصادر والوارد...الخ.
وحين سأله أخونا عن باقي الموظفين، أفاده الموظف المسؤول بأن الباقي هم أعضاء مجلس الإدارة، الذين يجتمعون مرة ـ أو أكثر ـ في كل عام!
وأما واقع نشاطها، فحدث ولا حرج، وتسمع بالمعيدي خير من أن تراه!
سدَّد المساهم باقي القيمة الاسمية لأسهمه، ثم قفل راجعاً، وهو عاجز عن حل هذه المعادلة؛ إذ كيف تبلغ القيمة السوقية لأسهم هذه الشركة أكثر من ألفي ريال، وهي بهذه الحال من الضعف والخور، وقلة ذات اليد.!! فما كان جوابه لنفسه إلا أن قال: ربما كان بفعل خارج عن العادة وقانون الطبيعة، كعصا موسى الذي انقلب إلى حية، أو كالحجر الذي انبجست منه اثنتا عشرة عيناً.
فأجابته نفسه اللوامة: بأن هناك فارقاً بين واقع هذا الحجر، وواقع تلك الشركة، والفارق بينهما هو الفارق بين الحقيقة والخيال (أو السراب)، فالحجر قد أصبح بقدرة الله تعالى اثنتا عشرة عيناً، قد علم كل أناس مشربهم، ولهذا قال الله تعالى عقب ذلك: " كلوا واشربوا من رزق الله".
وأما الواقع الآخر، فهو أشبه بسراب (بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً) وأنى للظمآن أن يروى من السراب!! وبذلك انتهت فصول القصة، ولكن لم تقف آثارها عند هذا الحد.
فذلك السراب وإن وجده بعض المضاربين شيئاًَ، إلا أنه قد وجده كثيرون لا شيء، وجدوه كذلك وجرَّبوه. ولذا ترى هؤلاء العارفين بالسراب، يصفون أسهم هذه الشركة ـ وأمثالها ـ مما لا تتفق قيمتها السوقية، مع واقع ربحها وقوة استثمارها، بأن هذه الأسهم لها بطن من دون أرجل! حيث قد وصلت أسعارها إلى أرقام فلكية من دون سند اقتصادي حقيقي, حتى قرأت لغير واحد من خبراء المال والاقتصاد، من يصف المضاربة بهذه الأسهم بأنه ضرب من القمار! فهل هي قمار حقاً؟ أم هي مجرد مخاطرة؟ وهل كل مخاطرة قمار، أم لا؟ وإذا لم تكن قماراً، فهل يتجه القول بتحريمها لأنها نوع من أنواع الغرر، أو لما تشتمل عليه من المفاسد الراجحة؟
هذه التساؤلات أضعها بين يدي أهل العلم والبصيرة ليمعنوا النظر في هذه المسألة الشائكة، والتي أصبحت محل جدل وخلاف بين المعاصرين، وما هذا البحث المتواضع إلا مساهمة في إثراء هذا الموضوع, ولو بإثارة تساؤل ليس إلا، فأقول:
قبل الدخول في الموضوع، أنبه هنا بأن مقصودي من المضاربة: المتاجرة، كما هو المفهوم الشائع، لا المضاربة المصطلح عليها بين الفقهاء.
ثم إنه لا ريب أن الأصل في المعاملات الحل، ولهذا فإن الذي يطالب بالدليل، هو مدعي التحريم، لا العكس، وهذا أمر معلوم لدى أهل العلم، ومقرر في كتبهم.
وتعليقاً على التساؤل أقول:
لا يخفى على كل مراقب للسوق ـ ولمؤشر الشركات المساهمة تحديداً ـ أن القيمة السوقية لأسهم العديد من الشركات يرتفع ويهوي في غمضه عين، وربما يستمر هذا الارتفاع أو الانخفاض الحاد لفترة أسبوع، أو أقل أو أكثر، وبعد هذه المدة قد يصبح المضارب ثرياً في لمحة بصر، وقد يكون الواقع عكسياً فينحدر إلى مستوى تحت خط الفقر، لا سيما إن كان حاصلا على مال المضاربة بطريق القرض، ونحو ذلك، ولهذا حذر كثير من الاقتصاديين من المجازفة في الدخول بكل ما يملكه المضارب، لئلا تقع الكارثة. وهنا أقول: هل هذه المخاطرة قمار، كما سماها بعض الكتَّاب المهتمين بالسوق السعودية؟
الواقع أن المخاطرة أعم من القمار، فكل قمار مخاطرة، وليس كل مخاطرة قماراً.(/1)
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نفيس حول المخاطرة والقمار، فإنه اعتبر المخاطرة من المظاهر الطبيعية في المعاملات، ومن ثَمَّ فهي جائزة شرعاً، واعتبرها في موضع آخر من القمار المحرم، والحقيقة أن هذا الاختلاف في كلامه إنما هو من اختلاف التنوع، وليس من اختلاف التضاد؛ لأنه يمكن الجمع بين كلامه في الموضعين، فأما الموضع الأول الذي صرح فيه بالجواز، فهو في مختصر الفتاوى المصرية (ص532) حيث قال: "أما المخاطرة، فليس في الأدلة الشرعية ما يوجب تحريم كل مخاطرة، بل قد عُلِم أن الله ورسوله لم يحرما كل مخاطرة" ثم قال في (ص533)" "وكذلك كل من المتبايعين لسلعة، فإن كلاً يرجو أن يربح فيها، ويخاف أن يخسر، فمثل هذه المخاطرة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع، والتاجر مخاطر" أهـ.
وأما الموضع الثاني الذي صرح فيه بالمنع، فهو في كتابه العقود (ص229) حيث قال:"فإذا قيل: فهل يصح بيع المعدوم، والمجهول، والذي لا يقدر على تسليمه؟ قيل: إن كان في شيء من هذه البيوع أكل مال بالباطل لم يصح، وإلا جازت، وإذا كان فيها معنى القمار، ففيها أكل مال بالباطل، وإذا كان فيها أخذ أحدهما المال بيقين، والآخر (على خطر) بالأخذ والفوات، فهو مقامر، فهذا هو الأصل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وهو المعقول الذي تبين به أن الله أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وشرع للعباد ما يصلحهم في المعاش والمعاد. فإذا باعه ثمر الشجر سنين، فهذا قمار؛ لأن البائع يأخذ الثمن، والمشتري (على الخطر)، وكذلك بيع الحمل، وحبل الحبلة، ونحو ذلك" أ هـ
وهذا الكلام النفيس، يمكن الجمع بينه وبين الذي قبله، بأن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أجاز مطلق المخاطرة، كما في الموضع الأول، ولم يجز المخاطرة المطلقة، كما في الموضع الثاني، ووجه ذلك: أن كل معاملة لا تخلو من مخاطرة، وهذا ما لا يمكن منعه؛ لأنه مما يشق التحرز منه، ولأن يؤدي إلى المنع من كثير من المعاملات الجائزة، ويمكن ضبط هذه المخاطرة الجائزة بما كان الغالب فيها السلامة، كما يفهم هذا من كلام شيخ الإسلام حيث قال بعد كلامه الآنف الذكر ما نصه: "وإذا أكراه عقاره سنين جاز ذلك، ولم يكن هذا مقامرة؛ لأن العادة جارية بسلامة المنافع، ولا يمكنه أن يؤجر إلا هكذا، ولا مخاطرة فيها، فإن سلمت العين استقرت عليه الأجرة، وإن تلفت المنافع سقط عنه من الأجرة بقدر ما تلف من المنفعة فليست الإجارة معقودة عقداً يأخذ به أحدهما مال الآخر مع بقاء الآخر على الخطر، بل لا يستحق أحدهما إلا ما يستحق الآخر بدله" أهـ . هذا بالنسبة لمطلق المخاطرة.
أما المخاطرة المطلقة، فهي التي اعتبرها مقامرة، ويمكن ضبطها بما كان الغالب فيها الخسارة أو العطب، ولهذا حرَّم الله تعالى بيع المعدوم وبيع المجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وبيع حبل الحبلة، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، فالبائع يضمن الثمن، وأما المشتري فهو على خطر بالأخذ والفوات، وقد اصطلح كثير من الفقهاء على تسمية هذا النوع من البيوع غرراً، وسماه شيخ الإسلام غرراً وقماراً، كما في كتابه العقود (ص227), حيث قال: "إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى أن يكون الغرر مبيعاً، ونهى أن يباع ما هو غرر، كبيع السنين، وحبل الحبلة، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وعلل ذلك بما فيه من المخاطرة التي تتضمن أكل المال بالباطل، كما قال: (أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأكل أحدكم مال أخيه بغير حق) وهذا هو القمار، وهو المخاطرة التي تتضمن أكل المال بالباطل، فإنه متردد بين أن يحصل مقصوده بالبيع، وبين أن لا يحصل، مع أن ماله يؤخذ على التقديرين، فإذا لم يحصل كان قد أكل ماله بالباطل" أ هـ.
وبهذا تعلم أن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ يرى بأن مفهوم القمار أوسع من المفهوم الذي عليه كثير من أهل العلم، وهو أن القمار: التردد بين الغنم والغرم. فهذا عنده من القمار، وكذلك المخاطرة التجارية التي يتردد فيها حظ أحد المتعاقدين بين الأخذ والفوات، فهي عنده من القمار، وهو ما يعبِّر عنه بعض الفقهاء بالغرر.
بقي أن يقال: وهل في المضاربة بالأسهم مخاطرة مطلقة, بحيث يتردد فيها حظ المشتري بين الأخذ والفوات؟
وأترك الجواب لما نشر في جريدة الرياض في عددها رقم: (13752) الصادر يوم الجمعة (18/1/1427هـ ) تحت عنوان (سوق الأسهم يفقد 80.2 مليار ريال في دقائق): "... أدى الانخفاض السريع إلى إحداث حالة ذعر وخوف لدى المتداولين من حدوث نزول تصحيحي شامل جعلهم يتدافعون على البيع... الأمر الذي جعل القيمة السوقية للسوق تنخفض( 80.2 ) مليار ريال في دقائق..."(/2)
وكثيراً ما نقرأ مثل هذا الخبر في صحفنا المحلية، حتى إن كثيراً من المضاربين قد لا يدركه الوقت لبيع ما لديه من أسهم، بسبب الانهيار المفاجئ والسريع للأسهم، بل امتدت موجة هبوط أسعار الأسهم لتقضي على عدد من المواطنين الذين توفوا نتيجة تعرضهم لأزمات قلبية بعد انهيار رؤوس أموالهم بين عشية وضحاها، وأصبحنا نسمع عن تدافع بعض السعوديين نحو عيادات الأطباء، مصابين بارتفاع في ضغط الدم، وغير ذلك.
وهذا الواقع المؤسف يقودنا إلى نقطة أخرى في الموضوع وهي أنه على القول بأن المضاربة بالأسهم ليست من المخاطرة المحرمة، فما هو مدى حجم المفاسد الناتجة عن المضاربة بالأسهم على الفرد والمجتمع؟ هل هي مفاسد راجحة فيمنع منها لهذه العلة، أو هي مرجوجة مغمورة في مصالحها الراجحة فتباح؟
والجواب على هذا السؤال لابد أن يكون ملامساً للواقع، فلا يصح أن يكون الجواب نظرياً مجرداً عن حقيقة ما يجري في هذا السوق.
والمتأمل للواقع، ـ كما يحكيه رأي الجريدة الاقتصادية الصادرة يوم الأربعاء (1/2/1427هـ) ـ يجده أشبه بمشهد مسرحي، حيث دفع سعار تداول الأسهم القاصي والداني للانخراط في مذبحة السوق، إذ باع راعي الغنم أغنامه، وراعي الإبل إبله، وصاحب الورشة ورشته، وصاحب البقالة بقالته (بل وباع صاحب المنزل منزله واستأجر لأهله وأولاده منزلاً أو شقة، وباع مالك السيارة سيارته، واستأجر له سيارة بأجر شهري) بادروا بذلك مدفوعين ببريق سوق منتعشة، تغريه ليل نهار بربح وفير، وحلم يلوح على البعد بالثراء أو اليسر على أقل تقدير. وكثير من هؤلاء من هجر عمله أو حقله أو حانوته، واختطف ما لديه من نقود، واستل حتى ما في جيبه، ثم ألقاه في فوهة فم السوق التي لا تشبع، وتقول: هل من مزيد؟! والنتيجة لهذا الواقع، ما يلي:
1- قيام المضاربين (البالغ عددهم مليونان تقريباً) بضخ السيولة في فوهة فم السوق، والنأي بها بعيداً عن القطاعات الإنتاجية والخدمية وغيرها، مما أدى إلى إحداث كساد في البلد لا يخفى على بصير.
2- أننا أصبحنا نقوم بعكس ما تفعله الأمم والشعوب، فعلى حين تستخدم هي أسواقها المالية من أجل توفير السيولة لتمويل المشاريع، قمنا نحن بضخ السيولة وجرفها بعيداً عن القطاعات الإنتاجية والخدمية وغيرها، كما صرح بذلك بعض خبراء الاقتصاد.
3-- أن هذه السيولة الكثيرة التي يضخها السوق، مع ما تعيشه الدولة من وفرة في الإيرادات النفطية ونحوها- بالإضافة إلى ذلك الكساد المشار إليه- ينذر بتضخم في النقد .
4- تعثر كثير من المضاربين الصغار، وهم الذين يمثلون الغالبية بين (الهوامير) مما أدى إلى انتكاسات خطيرة، كانت سبباً في تراكم الديون عليهم، وربما إلى وصولهم إلى مستوى تحت خط الفقر، وذلك في غمضة عين.
5- أن أسلوب المضاربة بالأسهم أفرز نقيض ما كان يحققه أسلوب الاستثمار بها، فالأسلوب الأول يقتصر على المضاربة على فروق الأسعار، أما الأسلوب الثاني ـ و هو الأصل ـ فهو الذي يعزِّز إنتاجية الشركة، ويعدو بها إلى مصاف الشركات المتقدمة، وحيث إن الأسلوب الأول يتحقق بدون عناء أو مشقة كان التركيز عليه، حتى أصبح تأثيره سلبياً على أسلوب الاستثمار، بل حتى أصبحت الشركات نفسها تراهن عليه، وتشغل ما لديها من سيولة فيه، بدلاً من استثمار هذه السيولة في مشاريع ترتقي بالشركة إلى الأمام.
لهذا وغيره ـ مما تشهده الأسواق المالية عموماً من تلاعب، وعدم التزام بأحكام الشريعة في تعاملاتها، ـ صرَّح بعض العلماء بتحريم المضاربة بالأسهم، لما تؤدي إليه من أضرار بالغة بالفرد والمجتمع، ومن هؤلاء العلماء الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، كما صرح في بحثه عن الاختيارات المقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي، في العدد السابع (1/270) حيث صرح فيه بأنه يميل إلى المنع. وهو رأي الشيخ الدكتور صالح الفوزان، وعلل تحريم المضاربة بها بأنها قمار محرم، كما شافه بذلك عدداً من طلابه.
وهذا الموضوع جدير بأن يعاد فيه النظر من قبل المجامع العلمية، وما يكتنف هذه المعاملات من مصالح ومفاسد، ومدى شبه هذه المضاربات بالقمار، حتى يصدر الناس عن رأي موثوق به، يدرس الموضوع من كل جوانبه، ويحدد مواقع الزلل، ويضع الحلول الشرعية المناسبة، والله تعالى أعلم، وأحكم.
________________________________________
(*) عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء(/3)
المضحكات المبكيات
أم معاوية
المرأة .. هذه الإنسانة التي جعلها كل من هب ودب قضيته ! حتى وإن أساؤا إليها ولم يحسنوا .. فأثاروا حولها الشبهات دون شبهات!! .. ونادو بتحريرها من قيود الإسلام التي كبلها بها .. زعموا ... باطلاً وزوراً.
قالوا إن الإسلام لم ينصفها .. واضطهدها وانتقصها حقوقها .. وتشعبت بهم الطرق ... طرق الضلالة .. فذهبوا في كل واد وناد يدعون لتحريرها !! .. تحريرها مماذا ؟! .. مما يصون كرامتها، ويحفظ عزتها، ويدعون الحرص على إعطائها كافة حقوقها ومساواتها بالرجل في كل شيء !! .. فهل حقاً ما ذهبوا إليه ؟! .. لندع التاريخ بحقائقه يرد على شبهاتهم وإفتراءاتهم .. ولننظر ماذا قدم الإسلام للمرأة .. وماذا قدم غيره من المناهج المختلفة والشرائع المتباينة .. وبمقارنةٍ سريعةٍ .. بين حالة المرأة في الشرائع المختلفة، وحالتها في شريعة الإسلام الغراء .. يمكن أن تتضح الصورة وتظهر الحقائق ..
فعند اليونان .. ماذا كانت؟ .. في أول عهدها كانت محتقرة مهينة حتى جعلوها رجساً من عمل الشيطان .. كانت كسقط المتاع تباع وتشترى في الأسواق ! .. محرومة من حق الميراث والتملك ولا أهلية لها .. يقول فيلسوفهم سقراط: " إن وجود المرأة هو أكبر منشأ ومصدر للأزمة والانهيار في العالم .. إن المرأة تشبة شجرة مسمومة، حيث يكون ظاهرها جميلاً ولكن عندما تأكل منها العصافير تموت حالاً "! ..
ثم في أوج حضارتهم تبدلت المرأة، واختلطت بالرجال، وشاعت الفاحشة .. حتى أصبح الزنا علناً .. واتخذوا التماثيل العارية باسم الأدب والفن! .. وعُدَّ من الحرية أن تكون المرأة عاهراً لها عشاق!! .. وأفرغوا على الفاحشة ألوان القداسة بإدخالها المعابد!! .. فماذا كان المصير؟ سقطت اليونان، وانهارت حضارتها، وزالت .. ? وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ ?[هود:102].
أما عند الرومان .. فلم تكن بأحسن حالاً منها عند اليونان .. إذ كان الشعار عندهم فيما يتعلق بالمرأة " إن قيدها لا ينزع، ونَيْرَها لا يخلع " .. وكان الأب غير ملزم بضم أبنائه إليه .. وله أن يضم لأسرته من الأجانب عنها ما شاء .. ويخرج منها من أبنائه ـ عن طريق البيع ـ ما شاء!. وكانت سلطة رب الأسرة على أبنائه وبناته وزوجته وزوجات أبنائه تشمل البيع والنفى والتعذيب وربما القتل أحياناً ! .. حتى جاء قانون "جوستيان عام 565م" فجعل سلطة الأب تأديبية فقط ..
وليس للمراة عند الرومان أية حقوق أهلية أو مالية بل لم يكن لها التصرف في مالها الخاص .. فهو يخضع لأبيها ثم للوصي الشرعي عليها من بعده .. فهى في حالة رق مدى حياتها .. تنتقل من رق أبيها إلى رق زوجها ..
وعندهم في قوانين الألواح الاثنى عشر أن فقدان الأهلية هي السن والحالة العقلية والجنس ـ أى الأنوثة ـ ولذا كانوا يفرضون الحجر عليها لأنوثتها !!!
هذا في حين أننا نجد المرأة عند الصينيين القدماء مشبهة بالمياه المؤلمة تغسل السعادة والمال وكان للصيني الحق في بيع زوجته أو دفنها حية، وإذا مات تورث لأهله!.
بينما نجدها في قانون حمورابي في عداد الماشية المملوكة .. فمن قتل بنتاً لرجل أعطاه ابنته ليقتلها أو يتملكها.
أما عند اليهود ففي شريعة مانو أن المرأة لا تعرف السلوك السوى ولا الشرف ولا الفضيلة وإنما تحب الشهوات الدنسة والزينة والتمرد والغضب، لذا لم يكن لها الحق في الاستقلال عن أبيها أو زوجها أو ولدها، وهي قاصرة طيلة حياتها، بل لم يكن لها حق الحياة بعد وفاة زوجها فهي تحرق معه حية على موقد واحد يوم وفاته وإلا .. عادت لاتعامل كإنسانة .. فقد كانوا ينظرون إلى المرأة التي لا زوج لها على أنها منبوذة ومدنسة لكل شيء تمسه .. والمنبوذ عندهم في رتبة الحيوان ! ..
وفي شرائع الهندوس يقولون: ليس الصبر المقدر والريح والموت والجحيم والسم والأفاعى والنار أسوأ من المرأة .. فيا عجباً .. كيف جعلوا المرأة بلية فوق كل بلية .. !
وفي شريعة الفرس أبيح الزواج من المحارم كالأمهات والأخوات والعمات والخالات .. إلى آخره .. وكانت تحت سلطة الرجل المطلقة .. يحق له أن يحكم عليها بالموت .. أو ينعم عليها بالحياة!! .. وكانت تُنْفى أيام الحيض إلى مكان بعيد، لا يجوز لأحد مخالطتها! ..
ثم نادى " مزدك " فيهم باقتسام الأموال والنساء والمتعة، فشاعت الفوضى وعم الدمار .. وأصبح الرجل يدخل على نساء غيره .. حتى صار لا يَعْرفُ الرجل منهم ولده .. ولا المولود يعرف أباه فماذا عنها ؟ .. انهارت وسقطت ? فَهَلْ تَرَى لهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ? [الحاقة ـ آية :8]
وعند اليهود كانت تعتبرها بعض الطوائف في مرتبة الخادم .. ! وكان لأبيها الحق في بيعها قاصرة، وهي لا ترث إذا كان لأبيها بنون ..
واليهود يعتبرون المرأة لعنة لأنها أغوت آدم .. جاء في التوراة (المحرفة): " المرأة أمرّ من الموت ".(/1)
وعندما يصيبها الحيض لا يجالسونها ولا يؤاكلونها، بل يعتبرونها نجسة، وكل ما تلمسه من طعام أو إنسان أو حيوان نجساً .. فبعضهم يطردها خارج البيت حتى تطهر .. وبعضهم ينصب لها خيمة يجعلها فيها ويضع أمامها خبزاً وماءً .. !!
فتأمل مدى القسوة التي كانت تعامل بها في أيام تكون فيها مضطربة النفس .. ومحتاجة إلى شيء من العطف والرفق ..
وفي النصرانية هال رجال المسيحية الأوائل ما رأوا في المجتمع الروماني من انتشار الفواحش وما آل إليه حالهم من انحلال أخلاقي شنيع، فاعتبروا المرأة باباً للشيطان، وأنها مسئولة عن هذا كله لاختلاطها بالرجال في فوضي شديدة .. فقرروا أن الزواج دنس يجب الابتعاد عنه .. وأن العلاقة بالمرأة رجس في ذاتها .. !
قال أحد قديسيهم ويسمى ترتوليان: " إنها مدخل الشيطان إلىالنفس، ناقضة لنواميس الله .. مشوهة للرجل " .. !
وقال آخر ويُسمى سوستام: " إنها شر لابد منه، وآفة مرغوب فيها، وخطر على الأسرة والبيت، ومحبوبة فتاكة، ومصيبة مطلية مموهة ".
وكان من المضحكات المبكيات أن يجتمع مجمع " ماكون " ليبحث فيما إذا كانت المرأة مجرد جسم لا روح فيه أم لها روح ؟!!
ثم انتهوا إلى أنها خلو من الروح الناجية " أى من عذاب القبر " .. عدا مريم أم المسيح عليهما السلام ..
ثم عقد الفرنسيون عام 586 للميلاد مؤتمر للبحث: هل تعد المرأة إنساناً أم غير إنسان ؟! .. وأخيراً قرروا أنها إنسان خُلق لخدمة الرجل فحسب !
ثم أصدر البرلمان الإنجليزى في عصر هنري الثامن قراراً يحظر على المرأة أن تقرأ " العهد الجديد " لأنها تعتبر نجسة .. !!
وفي سنة 1500 للميلاد شُكل مجلس إجتماعي في بريطانيا خصيصاً لتعذيب النساء .. وكان ضمن مواده .. تعذيبهن وهن أحياء بالنار !!.. وذلك في القرن الخامس عشر!
ومن الظريف أ ن القانون الإنجليزي عام 1805 للميلاد وكان يبيح للرجل أن يبيع زوجته بستة بنسات ـ يعنى نصف شلن ـ فما أرخص المرأة عندهم ! ..
أما القانون الفرنسي الذي وُضِع عقب الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثاني عشر والتي أعلنت تحرير الإنسان من العبودية والمهانة، فقد نص على أن المرأة ليست أهلاً للتعاقد ! .. كما نص على أن القاصرين الذين يحجر عليهم هم: الصبى المجنون والمرأة .. واستمر الحال كذلك حتى عام 1938 حتى عُدل ! ..
وإذا نظرنا إلى حالة المرأة عند العرب قبل الإسلام فسنراها مهضومة في كثير من حقوقها ، ليس لها حق الإِرث .. فقد كانوا يقولون: " لا يرثنا إلا من يحمل السيف ويحمى البيضة " .. ولم يكن لها على زوجها أى حق ، وليس للطلاق عدد معين .. ولا لتعدد الزوجات عدد محدود ..
وإن مات الرجل عن زوجته وله أولاد من غيرها .. كان الولد الأكبر أحق بزوجة أبيه " نكاح المقت " ويعتبرها إرثاً كبقية أموال أبيه، إن شاء ألقى عليها ثوباً؛ إظهاراً لرغبته في زواجها .. أو يتركها لأهلها، أو يحبسها حتى تفتدى نفسها، أو تموت فيذهب بمالها ..
أما بعض القبائل فكانت تتشاءم من ولادة الأنثى فتئذها؛ إما خشية العار أو خشية الفقر .. وكانت هذه العادة منتشرة في "بعض" القبائل فقط ، منها ربيعة وكِندة وتميم وطييء .. ومنهم من دفن في الجاهلية إحدى عشرة بنتاً موؤودة ! ..
وكان عندهم أنواع من الزواج بغيضة فاسدة .. أبطلها الإسلام جميعاً ما عدا الزواج الراقي التي كانت تُعرف به قريش من خطبة ومهر وعقد فقد أقره الإسلام مع إبطال بعض العادات الظالمة للنساء فيه من استبداد في تزويجهن كرهاً أو عضلهن أو أكل مهورهن ..
وما كانت المرأة العربية تفتخر بشيء قبل الإسلام على أخواتها في العالم كله سوى حماية الرجل لها، والدفاع عن شرفها، والثأر لامتهان كرامتها .. وهذا لم يكن عند كل العرب ؛ وإنما كان من بعض القبائل دون غيرها.
أما المرأة في الإسلام .. فما أجلَّ الإسلام .. وما أجلَّ شريعته وأحكامه .. فلم يعتبرها جرثومة خبيثة كما اعتبرها الآخرون ـ ولكنه قرر أنها بين يدى الإسلام قسيمة الرجل ..
وبداية .. قرر أنها والرجل في الإنسانية والكرامة والأهلية سواءّ بسواء .. قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ?[النساء:1] .. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنما النساء شقائق الرجال] رواه أحمد و الترمذي وأبو داود عن عائشة.
وقد وردت آيات كثيرة تساوى الرجال بالنساء في الإنسانية .. كما وردت الآيات تساويهن بالرجال في الإيمان .. والجزاء والمثوبة، قال تعالى: ? فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ?[آل عمران:195] .. ? وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَ ?[التوبة:72].(/2)
ثم إن الإسلام كرمها وليدةً .. وصبية ً .. وأختاً .. وزوجاً .. وأمّاً. والأحاديث الصحيحة في هذا كثيرة .. ولو ذهبنا نعدد الآيات والآحاديث التي جاءت توصي بالمرأة خيراً منذ ولادتها حتى مماتها .. ومن ترغيب الأب في رحمتها وحسن رعايتها وتأديبها ابنة .. وحفاظا على كرامتها وصونها أختا ًوحسن عشرتها والإحسان إليها زوجة .. والشفقة بها والحنو عليها والتلطف والتأدب معها أمّاً .. لفاض الكلام واتسع .. ولكن حسبنا التنويه بالحقائق والثوابت ..
فمن السنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمل أمامة ابنةَ ابنته زينب وهو يصلى .. والصلاة من أجلّ العبادات .. ومن وصاياه صلى الله عليه وسلم: [ استوصوا بالنساء خيراً ] (متفق عليه)، وعن عائشة رضى الله عنها قالت: [ ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً قط ولا امرأة ] (رواه مسلم) .. فأين هذا من إهانتها وتعذيبها وضربها في الشرائع السابقة التي أوردتها ..
ثم إن الإسلام جعل لها الحق في الميراث .. خلافاً للشرائع الأخرى، وجعل لها الأهلية الكاملة في التعامل والبيع والشراء والتصرف في أموالها، ولها حق التملك ولم يحجر عليها كما في الشرائع الأخرى ..
ثم جعل كرامتها مثل كرامة الرجل سواءً بسواء .. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة لأم هانيء بنت أبي طالب ـ وقد أجارت رجلين من أحمائها قد استوجبا القتل ـ [ قد أجرنا من أجرت يا أم هانيء، وأمّنّا من أمّنت ](رواه البخارى بنحوه).
أما مراعاته لمشاعرها ونفسيتها ففي هذا يفيض الكلام فانظر كيف كان يعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحائض .. فعن عائشة رضي الله عنها قالت:[ كنت أشرب من الإناء وأنا حائض ثم أناوله للنبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيَّ ](رواه مسلم).
وعنها أن النبي صلى الله عليه وسلم [ كان يتكيء في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن ](متفق عليه) .. وهذا خلافا لمن يعدونها نجسة .. ويطردونها من البيت إن حاضت .. فتأمل .. حتى في آخر خطبة خطبها النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أوصى بالنساء خيراً .. وكان آخر ما وصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث كلمات، ظل يتكلم بهن حتى تلجلج لسانه صلى الله عليه وسلم جعل يقول:[ الصلاة الصلاة .. وما ملكت أيمانكم، لاتكلفوهم مالا يطيقون .. الله الله في النساء فإنهن عوان في أيديكم ](رواه النسائي وابن ماجه).
فهل هناك مقارنة بين ما أكرمها به الإسلام وبين ما كانت عليه من امتهانٍ وضعة ؟!
ألم ترى أن السيف يصغر قدرُه إذا قيل: إن السيف خيرّ من العصا ؟!(/3)
المطر أحكام وعبر
د. نايف بن أحمد الحمد 25/2/1426
04/04/2005
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد: فهذه بعض الأحكام المتعلقة بالأمطار، سائلاً المولى -جل جلاله- أن ينفعنا بها قال تعالى: "وجعلنا من الماء كل شيء حي" فجميع المخلوقات لا تستغني عن الماء بحال من الأحوال، والأمطار من أهم مصادر المياه العذبة في الأرض، ولنزول المطر من علو على ما نراه حكم عظيمة، قال العلامة ابن القيم –رحمه الله تعالى-: "تأمل الحكمة البالغة في نزول المطر على الأرض من علو ليعم بسقيه وهادها وتلولها وظرابها وآكامها ومنخفضها ومرتفعها ولو كان ربها تعالى إنما يسقيها من ناحية من نواحيها لما أتى الماء على الناحية المرتفعة إلا إذا اجتمع في السفلى وكثر وفي ذلك فساد، فاقتضت حكمته أن سقاها من فوقها فينشئ سبحانه السحاب وهي روايا الأرض ثم يرسل الرياح فتحمل الماء من البحر وتلقحها به كما يلقح الفحل الأنثى.." ا.هـ. مفتاح دار السعادة 1/323 وسأتحدث عن هذا الموضوع وفق العناصر التالية:
* الاستسقاء عند الجدب:
عن أنس بن مالك –رضي الله عنه- أن رجلا دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- قائم يخطب فاستقبل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قائمًا ثم قال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغثنا. قال: فرفع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يديه ثم قال: "اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا" قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار. قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال فلا والله ما رأينا الشمس سبتا" رواه البخاري (698)، ومسلم (897)، وعند البخاري (1033) "ولم ينزل من منبره حتى رأيت المطر يتحادر من لحيته".
* أسباب الجدب:
متى حل الجدب بالأرض لحق الناس والدواب وغيرها ضرر عظيم وهو من المصائب التي يبتلي بها الله تعالى عباده "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم" [الحديد: 22]، قال قتادة: هي السنون. يعني الجدب. تفسير ابن كثير 4/315 وقال تعالى: "ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين" [الأعراف: 130] أي بالجدب والقحط.
وقال تعالى على لسان إخوة يوسف -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- لما دخلوا عليه يشكون حالهم "فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين" [يوسف: 88]، والضر هنا : الشدة من الجدب والقحط. تفسير الطبري 13/49 تفسير ابن كثير 2/499.
* وأسباب الجدب كثيرة ولعل من أهمها كثرة الذنوب:
قال تعالى: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ" [الروم: من الآية41]، قال القرطبي مفسرًا الآية (ظهر) الجدب (في البر) أي في الوادي وقراها وفي البحر أي في مدن البحر مثل "واسأل القرية" أي ظهر قلة الغيث وغلاء السعر "بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض" أي عقاب بعض الذي عملوا ثم حذف، والقول الآخر أنه ظهرت المعاصي من قطع السبيل والظلم فهذا هو الفساد على الحقيقة. ا.هـ. تفسير القرطبي 14/41 وانظر: تفسير ابن كثير 3/436، الجلالين 536.
وعن نجدة بن نفيع قال: سألت ابن عباس -رضي الله عنهما- عن قول الله عز وجل: "إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً" [التوبة: من الآية39] قال: استنفر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حيا من أحياء العرب فتثاقلوا فأمسك عنهم المطر وكان عذابهم. رواه أبو داود (2506) وعبد بن حميد (681) وابن جرير (10/134) والحاكم (2/114) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقال تعالى: "وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [الأعراف: من الآية168]، قال القرطبي –رحمه الله تعالى-: "وبلونانهم" أي اختبرناهم "بالحسنات" أي بالخصب والعافية "والسيئات" أي الجدب والشدائد "لعلهم يرجعون" ليرجعوا عن كفرهم. أ.هـ. تفسير القرطبي (7/310).
وكان من دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم- على الظلمة "اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف" رواه البخاري (771)، ومسلم (675) من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-.
والتوبة لها أثر عظيم في نزول المطر:(/1)
قال تعالى حكاية عن نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً" [نوح:10-12]، وقال تعالى حكاية عن هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: "وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ" [هود:52] قال ابن قدامة –رحمه الله تعالى-: "إن المعاصي سبب الجدب والطاعة تكون سببا للبركات، قال الله تعالى: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" [الأعراف:96] المغني (2/148).
وقال العباس لما استسقى به عمر –رضي الله عنهما- عام الرمادة: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث. فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس. انظر: فتح الباري 2/497، ونيل الأوطار (4/32) والاستيعاب (2/814).
* حال النبي صلى الله عليه وسلم إذا تخيلت السماء:
عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى مخيلة في السماء أقبل وأدبر ودخل وخرج وتغير وجهه، فإذا أمطرت السماء سري عنه فعرفته عائشة ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أدري لعله كما قال قوم عاد (فلما رأوه عارضًا مستقبل أوديتهم)" الآية. رواه البخاري (3034).
وعنها رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئًا من أفق من آفاق السماء ترك عمله وإن كان في صلاته، ثم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من شر ما فيه" فإن كشفه الله (حمدا لله) وإن مطرت قال: "اللهم صيبًا نافعًا" رواه أحمد (6/190) والبخاري في الأدب (686) والنسائي في الكبرى (1829).
وقد عذب الله تعالى أقوامًا بالمطر منهم:
1- قوم نوح -عليه السلام- قال تعالى: "فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِر فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ"
[القمر:10-14].
2- قوم عاد: وذكرناه سابقًا.
3- قوم لوط -عليه السلام- قال تعالى: "وأمطرنا عليهم مطرًا فساء مطر المنذرين" فقد أرسل الله تعالى عليهم حجارة من سجيل لتكذيبهم رسولهم. تفسير القرطبي 13/133، وابن كثير 6/21.
4- قوم سبأ قال تعالى: "فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ" [سبأ: من الآية16]، وهو الماء الغزير، تفسير ابن كثير (6/495) الجلالين (565).
وما واقعة تسونامي عنا ببعيد، فقد أهلك الله تعالى مئات الآلاف في دقائق معدودة نسأ الله تعالى العفو والعافية.
* السنة عند نزول المطر:
من السنن عند نزول المطر ما يلي:
1- التعرض له: عن أنس –رضي الله عنه- قال: أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، قال: فحسر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ثوبه حتى أصابه من المطر. فقلنا: يا رسول الله لم صنعت هذا؟ قال: "لأنه حديث عهد بربه تعالى" رواه مسلم (898).
2- أن نقول الذكر الوارد عند نزول المطر، وقد وردت عدة أذكار منها:
أ – قول "اللهم صيبًا نافعًا" فعن عائشة –رضي الله عنها- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان إذا رأى المطر قال: "صيبًا نافعًا" رواه البخاري (985).
ب – قول "رحمة" لحديث عائشة –رضي الله عنها- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يقول إذا رأى المطر "رحمة" رواه مسلم (899).
ج- قول "مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله" كما في حديث خالد بن زيد –رضي الله عنه- رواه البخاري (3916).
3- الدعاء العام عند نزول المطر: فهو من مواطن استجابة الدعاء، كما في الحديث الذي أخرجه الحاكم (2/114) وصححه، وانظر: مجموع الفتاوى (7/129).
4- إذا كثر المطر وخيف ضرره يسن أن يقول "اللهم حوالينا ولا علينا على الآكام –أي الهضاب- والجبال والآجام- أي منبت القصب- والظراب- أي الجبال- والأودية ومنابت الشجر" رواه البخاري (967) من حديث أنس –رضي الله عنه- ونحوه عند مسلم (897). وانظر: زاد المعاد (1/459).(/2)
5- ويسن أن يقول عند سماع صوت الرعد والصواعق ما جاء في حديث ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا سمع الرعد والصواعق قال: "اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك" رواه أحمد (2/100) والبخاري في الأدب (721) والترمذي (350) وقال: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه)، وصححه الحاكم (4/318)، وكان ابن الزبير –رضي الله عنه- إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: "سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته" رواه مالك (1801) والبخاري في الأدب (723). وأشير إلى أن الصواعق تكثر في آخر الزمان كما في حديث أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة حتى يأتي الرجل القوم فيقول من صعق تلكم الغداة فيقولون: صعق فلان وفلان وفلان" رواه أحمد (3/64) والحاكم (4/491)، وصححه على شرط مسلم.
* ولا بأس بالجمع بين الصلاتين إذا كثر المطر:
لحديث ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: صلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الظهر والعصر جميعًا بالمدينة من غير خوف ولا سفر. قال أبو الزبير: فسألت سعيدًا لم فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد أن لا يحرج أحدًا من أمته. رواه مسلم (705).
* كما يسن الصلاة في الرحال عند نزول المطر مع شدة البرد؛ لحديث ابن عمر –رضي الله عنهما- أنه أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح، فقال: ألا صلوا في الرحال ثم قال كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول (ألا صلوا في الرحال) رواه مسلم (697) وفي رواية له تقييدها بالسفر.
* حكم الاستسقاء بالنجوم:
قال تعالى: "أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ" [الواقعة:68-69]، وعن أبي مالك الأشعري –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة" رواه مسلم (934).
وعن زيد بن خالد –رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية فأصابنا مطر ذات ليلة فصلى لنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح ثم أقبل علينا فقال: "أتدرون ماذا قال ربكم" ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فقال: "قال الله أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي فأما من قال مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله فهو مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنجم كذا وكذا فهو مؤمن بالكوكب كافر بي" رواه البخاري (3916).
أقسام الاستسقاء بالنجوم وحكم كل قسم:
الأول: أن يدعو الأنواء بقوله مثلاً: يا نوء كذا اسقنا. وهذا شرك أكبر في الألوهية لأنه صرف شيئًا من العبادة وهي الدعاء لغير الله تعالى.
الثاني: أن ينسب حصول المطر للأنواء على أنها هي الفاعلة دون الله تعالى ولو لم يدعها وهذا شرك أكبر في الربوبية.
الثالث: أن يجعل هذه الأنواء سببًا مع اعتقاده أن الله تعالى هو الخالق الفاعل وهذا شرك أصغر؛ لأن من جعل سببًا لم يجعله الله تعالى سببًا لا بوحيه ولا بقدره فهو مشرك شركًا أصغر.
الرابع: أن يريد بقوله "مطرنا بنوء كذا" أي في وقت كذا، فتكون الباء ظرفية أي جاءنا المطر في وقت هذا النوء. وهذا جائز. انظر القول المفيد لشيخنا العلامة ابن عثيمين –رحمه الله تعالى- (3/18 و 2/31).
وأختم بقول النبي –صلى الله عليه وسلم- "ليست السنة أن لا تمطروا ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا ولا تنبت الأرض شيئًا" رواه مسلم (2904) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أسأل الله تعالى أن يجعل ما أنزله علينا متاعًا وبلاغًا إلى حين، وأن يجعله سقيا رحمة لا سقيا عذاب وهدم وغرق إنه جواد كريم، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(/3)
المطر أحكام وفوائد
الكاتب: الشيخ د.نايف بن أحمد الحمد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده : فهذه بعض الأحكام المتعلقة بالأمطار سائلاً المولى جل جلاله أن ينفعنا بها
قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء : 30 ) فجميع المخلوقات لا تستغني عن الماء بحال من الأحوال، والأمطار من أهم مصادر المياه العذبة في الأرض ولنزول المطر من علو على ما نراه حكم عظيمة قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى " تأمل الحكمة البالغة في نزول المطر على الأرض من علو ليعم بسقيه وهادها وتلولها وظرابها وآكامها ومنخفضها ومرتفعها ولو كان ربها تعالى إنما يسقيها من ناحية من نواحيها لما أتى الماء على الناحية المرتفعة إلا إذا اجتمع في السفلى وكثر، وفي ذلك فساد فاقتضت حكمته أن سقاها من فوقها فينشيء سبحانه السحاب وهي روايا الأرض ثم يرسل الرياح فتحمل الماء من البحر وتلقحها به كما يلقح الفحل الأنثى .." اهـ مفتاح دار السعادة 1/323 وسأتحدث عن هذا الموضوع وفق العناصر التالية:
-الاستسقاء عند الجدب:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله –صلى الله عليه وسلم– قائم يخطب فاستقبل رسول الله –صلى الله عليه وسلم– قائماً ثم قال : يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغثنا. قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: (اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا) قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار . قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت قال فلا والله ما رأينا الشمس سبتا) رواه البخاري "968" ومسلم " 897" وعند البخاري "1033" ( ولم ينزل من منبره حتى رأيت المطر يتحادر من لحيته).
-ما يسببه الجدب من بلاء في الأرض:
متى حل الجدب بالأرض لحق الناس والدواب وغيرها ضرر عظيم وهو من المصائب التي يبتلي بها الله تعالى عباده (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد : 22 ) قال قتادة: هي السنون. يعني الجدب . تفسير ابن كثير 4/315 وقال تعالى: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين) " الأعراف: 130" أي بالجدب والقحط.
وقال تعالى على لسان أخوة يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما دخلوا عليه يشكون حالهم (فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) (يوسف : 88 ) والضر هنا : الشدة من الجدب والقحط. تفسير الطبري13/49 تفسير ابن كثير 2/499.
-أسباب الجدب:
وأسباب الجدب كثيرة ولعل من أهمها كثرة الذنوب:
قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم : 41 ) قال القرطبي مفسراً الآية : (ظهر) الجدب( في البر) أي في البوادي وقراها، وفي البحر أي في مدن البحر مثل ( واسأل القرية) أي ظهر قلة الغيث وغلاء السعر ( بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض ) أي عقاب بعض الذي عملوا ثم حذف والقول الآخر أنه ظهرت المعاصي من قطع السبيل والظلم فهذا هو الفساد على الحقيقة .أهـ تفسير القرطبي 14/41 وانظر : تفسير ابن كثير 3/436 الجلالين/536 .
وعن نجدة بن نفيع قال : سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قول الله عز وجل (إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة : 39 ) قال : استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا من أحياء العرب فتثاقلوا فأمسك عنهم المطر وكان عذابهم . رواه ابو داوود" 2506" وعبد بن حميد "681" وابن جرير 10/134 والحاكم 2/114 وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقال تعالى: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف : 168 ) قال القرطبي رحمه الله تعالى:" وبلوناهم" أي اختبرناهم (بالحسنات) أي بالخصب والعافية ( والسيئات) أي الجذب والشدائد ( لعلهم يرجعون) ليرجعوا عن كفرهم . أهـ تفسير القرطبي 7/310 .
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على الظلمة ( اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف)
رواه البخاري ( 771) ومسلم(675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(/1)
والتوبة لها أثر عظيم في نزول المطر قال تعالى حكاية عن نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً) (نوح : 10 )(يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً) (نوح : 11 )(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً) (نوح : 12 ) وقال تعالى حكاية عن هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ) (هود : 52 ) قال ابن قدامة رحمه الله تعالى " إن المعاصي سبب الجدب والطاعة تكون سبباً للبركات قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) (الأعراف : 96) المغني 2/148. وقال العباس لما استسقى به عمر رضي الله عنهما عام الرمادة : اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث. فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس . أنظر : فتح الباري 2/497 ونيل الأوطار 4/32 والاستيعاب 2/814.
-حال النبي صلى الله عليه وسلم إذا تخيلت السماء:
عن عائشة رضي الله عنه قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة في السماء أقبل وأدبر ودخل وخرج وتغير وجهه فإذا أمطرت السماء سري عنه فعرفته عائشة ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما أدري لعله كما قال قوم عاد ( فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم) الآية . (رواه البخاري:3034) .
وعنها رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئا من أفق من آفاق السماء ترك عمله وإن كان في صلاته ثم يقول ( اللهم إني أعوذ بك من شر ما فيه) فإن كشفه الله (حمد الله)
وإن مطرت قال :( اللهم صبيا نافعا) رواه أحمد 6/190 والبخاري في الأدب (686) والنسائي في الكبرى (1829).
وقد عذب الله تعالى أقواماً بالمطر منهم:
1/ قوم نوح عليه السلام قال تعالى: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ) (القمر : 10 )
(فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ) (القمر : 11 )(وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) (القمر : 12 )(وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) (القمر : 13 )
(تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ) (القمر : 14 )
2/ قوم عاد . وذكرناه سابقا.
3/ قوم لوط عليه السلام قال تعالى: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ) فقد أرسل الله تعالى عليهم حجارة من سجيل لتكذيبهم رسولهم . تفسير القرطبي 13/133 وابن كثير 6/21.
4/قوم سبأ قال تعالى: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ) (سبأ : 16 ) وهو الماء الغزير . تفسير ابن كثير 6/495 الجلالين 565.
وما واقعة تسونامي عنا ببعيد فقد أهلك الله تعالى مئات الآلاف في دقائق معدودة نسأل الله تعالى العفو والعافية.
-السنة عند نزول المطر:
من السنن عند نزول المطر ما يلي:
1/ التعرض له: عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر قال فحسر رسول الله –صلى الله عليه وسلم – ثوبه حتى أصابه من المطر . فقلنا: يا رسول الله لم صنعت هذا؟ قال: ( لأنه حديث عهد بربه تعالى) رواه مسلم " 898".
2/ أن نقول الذكر الوارد عند نزول المطر وقد وردت عدة أذكار منها:
أ/ قول " اللهم صيباً نافعا" فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان إذا رأى المطر قال : ( صيبا نافعا) رواه البخاري "985".
ب/ قول (رحمة) لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول إذا رأى المطر "رحمة" رواه مسلم برقم "899".
ج/ قول ( مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله) كما في حديث خالد بن زيد رضي الله عنه رواه البخاري برقم "3916"
3/ الدعاء العام عند نزول المطر فهو من مواطن استجابة الدعاء كما في الحديث الذي أخرجه الحاكم "2/114" وصححه, وانظر مجموع الفتاوى "7/429".
4/ إذا كثر المطر وخيف ضرره يسن أن يقول( اللهم حوالينا ولا علينا, اللهم على الآكام –أي الهضاب- والجبال , والآجام –أي منبت القصب- والظراب –أي الجبال- والأودية ومنابت الشجر ) رواه البخاري "967" من حديث أنس رضي الله عنه ونحوه عند مسلم "897" وانظر زاد المعاد "1/459".(/2)
5/ ويسن أن نقول عند سماع الرعد والصواعق ما جاء في حديث بن عمر رضي الله عنهما قال :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال : ( اللهم لا تقتلنا بغضبك, ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك ) رواه أحمد "2/00" والبخاري في الأدب المفرد "721" والترمذي" 350" وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وصححه الحاكم"4/318".
وكان ابن الزبير رضي الله عنهما إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال( سبحان من سبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ) رواه مالك "1801" والبخاري في الأدب "723" وأشير إلى أن الصواعق تكثر في آخر الزمان كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم –قال : ( تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة حتى يأتي الرجل القوم فيقول من صعق تلكم الغداة فيقولون صعق فلان وفلان وفلان ) رواه أحمد"3/64 والحاكم 4/491 وصححه على شرط مسلم.
-ولا بأس بالجمع بين الصلاتين إذا كثر المطر
لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : صلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الظهر والعصر جميعا بالمدينة من غير خوف ولا سفر . قال أبو الزبير: فسألت سعيدا لم فعل ذلك ؟ فقال : سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته. رواه مسلم"705".
-كما يسن الصلاة في الرحال عند نزول المطر مع شدة البرد لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح فقال : ألا صلوا في الرحال ثم قال كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم – يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول ( ألا صلوا في الرحال) رواه مسلم"697" وفي رواية له تقييدها بالسفر.
-حكم الاستسقاء بالنجوم
قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ) (الواقعة : 68 )(أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ) (الواقعة : 69 )
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال :( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة) رواه مسلم"934".
وعن زيد بن خالد رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم – عام الحديبية فأصابنا مطر ذات ليلة فصلى لنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح ثم أقبل علينا فقال :( أتدرون ماذا قال ربكم)؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فقال:( قال الله أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي فأما من قال مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله فهو مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنجم كذا وكذا فهو مؤمن بالكوكب كافر بي) رواه البخاري"3916".
-أقسام الاستسقاء بالنجوم وحكم كل قسم:
الأول : أن يدعو الأنواء بقوله مثلا: يانوء كذا اسقنا . وهذا شرك أكبر في الألوهية لأنه صرف شيئا من العبادة وهي الدعاء لغير الله تعالى.
الثاني: أن ينسب حصول المطر للأنواء على أنها هي الفاعلة دون الله تعالى ولو لم يدعها ,وهذا شرك أكبر في الربوبية.
الثالث: أن يجعل هذه الأنواء سببا مع اعتقاده أن الله تعالى هو الخالق الفاعل وهذا شرك أصغر لأن من جعل سببا لم يجعله الله تعالى سببا لا بوحيه ولا بقدره فهو مشرك شركا أصغر.
الرابع: أن يريد بقوله " مطرنا بنوء كذا" أي في وقت كذا فتكون الباء ظرفية أي جاءنا المطر في وقت هذا النوء . وهذا جائز. انظر : القول المفيد لشيخنا العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى "3/18 و2/31".
وأختم بقول النبي –صلى الله عليه وسلم- (ليست السنة أن لا تمطروا ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا ولا تنبت الأرض شيئا) رواه مسلم "2904" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه , أسأل الله تعالى أن يجعل ما أنزله علينا متاعا وبلاغا إلى حين وأن يجعله سقيا رحمة لا سقيا عذاب وهدم وغرق إنه جواد كريم والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(/3)
المظهر العام.. سكوت أم استسلام؟ مالك إبراهيم بابكر*
عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كلكم راع؛ وكلكم مسؤول عن رعيته؛ فالأمير الذي على الناس راع؛ وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته؛ وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها، وولده؛ وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده؛ وهو مسؤول عنه.. ألا فكلكم راع؛ وكلكم مسؤول عن رعيته).. أخرجه البخاري.
مظهر الشارع يحزن كل من عايش مجتمع اليوم في العاصمة، ولاحظ الانفلات السلوكي في مظهر النساء العاريات اللائي يلبسن كل لصيق بالجسم؛ ويحدد معالمه، والمحزن حقاً استسلام المجتمع لذلك؛ حتى إنك لا تكاد تسمع من يستنكر ذلك؛ كأنما التوجيه الإلهي غاب عن هذا المجتمع المسلم، وغابت عنه الخيرية التي إنما تكون بالأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، والله سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم والأمة المسلمة: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين).. الله أكبر!!.. أن يعرفن؛ فلا يؤذين.. غابت تلك المعاني والقيم السمحاء إلا ممّن رحم ربك، وحل محلها - ويا للأسف – الانحلال، والسفور، والثقافات المستوردة من الغرب، والأفكار الهدامة؛ حتى صار في نظر البعض أن الحشمة رجعية وتأخر، والانحلال حضارة وتقدّم، و(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)؛ فيتوبوا إلى ربهم، ويتمسكوا بالقيم والأخلاق الفاضلة وبهدي القرءان القائل: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن) إلى قوله تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعاً أيّهَ المؤمنون لعلكم تفلحون).. تلك هي المعاني والقيم التي يجب أن تتبعها المرأة المسلمة.. أما أولائك اللائي انجرفن وراء التقليد الأعمى والمسلسلات والأفلام الفاضحة، وتمادين في معصية الله بارتداء تلك الملابس الفاضحة الكاشفة لما حرم الله كشفه فبشرهن بعذاب أليم، وعاقبة مؤلمة، ونهاية مؤسفة.
والمؤلم أكثر هو سكوت الرجال وأولي الأمر عنهن؛ فلم يحركوا ساكناً؛ أفلا يخشون عاقبة ذلك، والله تعالى يقول: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)..
وإن مسؤولية ذلك لاريب واقعة على أولياء الأمور جميعاً؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته؛ فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، ورب الأسرة راع ومسؤول عن رعيته)؛ حتى العلماء الله سبحانه وتعالى استرعاهم على إفشاء العلم، وإسداء النصح لولاة المسلمين وعامتهم، والله سائل كل راع عمَّا استرعاه، أحفظه أم ضيّعه؟!؛ فالدين النصيحة، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
إن ما نشاهده اليوم من ذلك الانحلال الخلقي، والسفور الفاضح لهو كارثة تنذر بالخطر على الأمة جميعاً؛ فالبلاء إذا نزل يعم الصالح والطالح؛ قال تعالى: (لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون)..
ورغم أننا لا ننكر جهد الدولة المتمثل في (أمن المجتمع)، وغيره من المؤسسات إلا أن تيار الضلال، والعدوان، والسيل العرم المتدفق من وسائل الإعلام، وغيرها يعملون في هدم القيم، والأخلاق؛ كدويّ النحل في كل منزل، وشارع، وفي كل لحظة، وحين؛ بما يبثونه من مواد فاسدة، ومسلسلات، وعرض موضات، وإثارة الشهوات.. مثل ما سموه بـ(الحقيقة والسراب)؛ فاتقوا الله! أين هي الحقيقة؟!؛ إنها خراب وسراب، يحسبه الظمآن ماءًا حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً؛ ووجد الله عنده؛ فوفاه حسابه الذي اقترفه بارتكاب المعاصي والسيئات.. وحتى وسائلنا الإعلامية لا أدري: أنسيت أم تناست دورها المناط بها في نشر الخير والفضيلة وغرس القيم والأخلاق الفاضلة؟!، أم أنها انجرفت وراء المادّيّات، وكسب المال عبر الإعلانات وغيرها؟!.. فاتقوا الله يا هؤلاء، وأتمروا بأمره، وتوبوا إليه جميعاً لعلكم تفلحون..
والله نسأل السداد والرشاد والهداية للعباد.. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)..
والله من وراء القصد..(/1)
المعادلات الصّعبة
د. عبدالكريم بكار 8/3/1427
06/04/2006
نحن نعيش في عالم يزداد ازدحامًا، حيث تتكاثر الأشياء غير المطلوبة، وأنا اليوم لا أريد أن أتحدث عن المدن المليونية، ولا عن الأجواء المزدحمة بالطائرات والأقمار الصناعية، كما لا أريد أن أتحدث عن المحلات التجارية المزدحمة بالسلع والأشياء، إنما أريد أن أتحدث عن ازدحام القوانين والنظم والمعادلات. كلما زادت معرفتنا بسنن الله –تعالى- في الخلق، وتحسنت بصيرتنا في فهم طبائع البشر والأشياء أدركنا على نحو أعمق أننا في حركتنا واختياراتنا ومواقفنا محكومون بالكثير من السنن والكثير من المعادلات الصعبة. وحين نُحرم من التأمل نجد أنفسنا منطلقة في خططنا ورغباتنا دون حذر ولا استعداد لمعرفة الثمن الذي علينا أن ندفعه حين نتجه إلى اختيار وضعية من الوضعيات. وسأضرب سألقي عددًا من الأسئلة لتوضيح هذه الحقيقة المهمة:
1- الناس دون استثناء يُذكر يميلون إلى سعة العيش والرفاهية والدعة، إنهم من خلال وفرة الأشياء بين أيديهم يشعرون بالأمان من الفقر والعوز، ويشعرون بالقدرة على بلوغ الرغبات والتمتع بالمرفهات والمشتهيات، لكن الناس يغفلون -في العادة- عن السنة التي تحكم حياة المرفهين، وهي التعرض للإصابة بداء الترهل والكسل، وضعف روح المقاومة، والوقوع في أسر الأشياء التي يحبونها. إنك لا تستطيع أن تستمتع بالأشياء دون الشعور بالضعف أمام سلطانها، والنظر إليها على أنها قد تحوّلت من أشياء ثانوية لا مشكلة مع فقدها، إلى أشياء أساسية يصعب الاستغناء عنها. والنفوذ المتزايد للمرأة في الحياة الأسرية والحياة العامة نابع من هذه المعادلة؛ فالناس حين يدرجون في سلم الحضارة يتذوقون طعم الرفاهية وليونة العيش، والمرأة بالنسبة إلى الرجل مصدر أمن واطمئنان وترفيه، وبما أن المرأة تنظر إلى الرجل على أنه أيضًا مصدر أمن وترفيه بالنسبة إليها، فإن الرجل لا يستطيع أن يترفّه بها دون أن يرفّهها، ومن جملة ترفيهها الانصياع لها، والسعي في تحقيق رغباتها. وأنا لا أسوق هذه الفكرة على سبيل الاحتجاج أو الانزعاج، وإنما أسوقها على هذا النحو لنشرح للذين ينكرون الوضعية الجديدة للمرأة، ونوضح أسبابها، وكيفية التعامل معها.
حين يختار الإنسان حياة الزهد والتكشف التقشف والتقلل من متاع الدنيا، فإنه يكون في الحقيقة منسجمًا -بحسب الرؤية الأولية- مع الرؤية الإسلامية في التعامل مع الحياة الدنيا وزينتها على أنها أشبه بالمناظر الجميلة التي يراها المسافر في طريقه، إنه يتجاوزها قاصدًا وجهته التي أنشأ مسفره من أجل بلوغها... لكن هذا الاختيار على ما فيه من رشد، له ثمن يجب دفعه عن طيب خاطر. الفقير يواجه مشكلات مغايرة -طبعًا- للمشكلات التي يواجهها الموسر، لكن ربما كانت أشد. إن الفقير المقلّ، لا يستطيع وصل أرحامه وجيرانه وأصدقائه بالمال؛ لأنه لا يملكه، وهذا ما يجعله -في الغالب- موضعًا لإشفاق الناس، ومصرفًا من مصارف الزكاة، وهي -كما ورد- أوساخ الناس، لذلك لم يكن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا لآله قبولها. والفقير مع هذا قد يُصاب بداء الحسد والتطلع لما في أيدي الناس، وقد يدفعه الفقر إلى قبول الرشوة بحجة ضرورات العيش وإلحاح مطالب الحياة. ويجد الفقير نفسه -في أحيان كثيرة- مقودًا ومدفوعًا إلى وقوف مواقف لا يرتضيها لنفسه، لكن لا يستطيع فعل شيء بسبب ضعف إمكاناته. وقد قال الله –تعالى- مقررًا قضية الابتلاء في السراء والضراء: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ). [سورة الأنبياء: من الآية 35]. وإعفاف الفقير لأسرته والحصول على شعور أولاده بالرضا عن وضعهم العام، لا يكون في العادة جيدًا على ما هو معروف وملاحظ. ومن هنا يمكن القول: يصيب يطيب أن يعيش المرء –كما يقولون- بالطول والعرض، يعطي نفسه كل ما تشتهيه وتتوق إليه، ومع ذلك يحافظ على لياقة وسلامة جسمه من الأمراض والعلل، فإما أن يختار هذا أو ذاك، وعلم الصحة كله قائم على شرح هذه المعادلة.(/1)
2- يميل بعض الناس إلى الضبط الشديد في تربيته لأولاده وإدارته لموظفيه، ويرى أن هذا هو الأسلوب الأمثل لحفظهم من الانحراف، والأسلوب الأمثل لجعل العمل يسير في الاتجاه الصحيح وبالكفاءة المطلوبة. هؤلاء الناس يتخذون من الرقابة والمتابعة والمنع والزجر الأداة التي يضبطون بها ما يريدون ضبطه. والحقيقة أننا حين نحيِّد وعينا عن فهم طبيعة العمل التربوي والإداري. فإننا نندفع إلى مسالة مسألة الشدة والمنع على نحو بدهي وغريزي، ولهذا فإن هذا الأسلوب هو الأكثر شيوعًا في البيئات التي يغلب عليها الانحسار المعرفي والحضاري. الثمن الذي يُدفع نتيجة اتباع هذا الأسلوب هو ضعف الثقة بين الطرفين، وعدم السماح للوازع الداخلي (الضمير) بالنمو الكافي؛ لأن هذا الوازع لا ينمو إلا حين يمنح صاحبه الحرية، ويُحمّل المسؤولية. أضعف أضف إلى هذا شيوع النفاق لدى من يطبق معه هذا الأسلوب؛ إذ يصبح له سلوكان، خيرهما الذي يظهر لنا، كما أن الموظف يعمل حينئذ بالحدود الدنيا من طاقته، أما الإبداع فلا تسأل عنه؛ لأنه لن يكون موجودًا. هناك أناس آخرون يميلون إلى منح الثقة، وإلى التدليل والنظر إلى الابن والموظف على أنهما قادران على اكتشاف أخطائهما وتصحيحهما، وينظران إلى الضبط التربوي والإداري على أنه أسلوب عقيم وضارّ. الثمن الذي يُدفع عند الجنوح لهذا الأسلوب هو التمزق والتمرد وضعف الشعور بالمسؤولية؛ لأنه ليس هناك من يسأل، إلى جانب التمادي في الخطأ أحيانًا دون أن يشعر أحد؛ لأنه ليس هناك من يتابع ويحاسب.
لعلي في المقال القادم –بإن الله- أسوق المزيد من الأمثلة، وأوضح فقه التعامل مع هذه الحالات.
والله الموفق.
المعادلات الصعبة (2)
د. عبد الكريم بكار 22/3/1427
20/04/2006
تحدّثْتُ في المقال السابق عن معادلتين من المعادلات الصعبة، وسأحاول اليوم إلقاء الضوء على اثنتين منها:
3- لا تستطيع على المستوى الحضاري أن تنال ميزات الانفتاح والانغلاق في آن واحد؛ إذ لابد لك من أن تختار، وتوازن وتدفع الثمن، وتتحمّل التّبعات. إذا جنحنا إلى الانغلاق ووضع الحدود والحواجز بيننا وبين الأمم الأخرى، فوقفنا في وجه دخول المطبوعات، وكل المواد الإعلامية السيئة وغير الملائمة، وخضنا ما يشبه الحرب الباردة على المستوى الثقافي مع المخالفين، فزهّدنا الناس في منتجاتهم الفكرية والثقافية، وأثرنا الشكوك والشبهات حول رموزهم وأعلامهم... إذا فعلنا هذا، فماذا نكسب؟
قد نكسب شيئًا من تماسك موقفنا الثقافي والمعرفي والفكري، وقد نستطيع المحافظة على مكوناتنا الثقافيّة والعقديّة من الذوبان، وقد نستطيع تنشئة جيل يفخر بالانتماء إلى الإسلام، وينظر بحذر إلى الأديان والأيدلوجيات الأخرى، هذه المكاسب مهمة ونفسية، فالتجانس الثقافي ووحدة المعتقد والرؤية من أسس وحدة الأمة وأصول قوتها ونهضتها. لكن ماذا نخسر في هذه الحال؟
إن الانغلاق ووضع الحواجز يحرم ثقافتنا من الاتصال بالثقافات الحية المتجددة والمبدعة. ومن الواضح أننا في هذه الحقبة من التاريخ لسنا الذين يبدعون ويجدّدون، ولسنا الذين يخترعون، وإذا كنا لا نبدع، ونسدّ السبل أمام الاقتباس من المبدعين، فهذا يعني أننا نعمل على زيادة الفجوة بيننا وبين الأمم الأخرى. إن التاريخ يعلمنا أن الأمم التي تنعزل عن تيار الحضارة تعرّض نفسها للتعفن الداخلي، وتصاب بداء الاجترار بسبب فقد المحرض على التنويع والتجديد.. وتقدم الدول الإفريقية الفقيرة، كما يقدم السكان الأصليون (الهنود الحمر) للولايات المتحدة الأمريكية نموذجًا حيًا على هذا. إن الثقافة تقوى من خلال التبادل، وتحمي نفسها من ويلات القصور الذاتي من خلال اكتساب بعض عناصر القوة من الثقافات القويّة.
الخلاصة لهذا كله هي: أن الانفتاح ينفع، لكن يهدّد بتشويش الرؤية وهدم مكونات الهويّة والخصوصيّة الثقافيّة، أما الانغلاق فإنه يساعد على التميز والترابط والوضوح، لكنه يهدّد بالتخلف والاقتتال الداخلي والعقم والاجترار، فما العمل؟
4- كثر الناقدون للعمل الجماعي على صعيد الدعوة إلى الله –تعالى- وخدمة الإسلام، وأُلِّف الكثير من الكتب التي توضّح عيوب بعض الجماعات، وتشنّع على الانضمام إلى أي جماعة إسلامية. في المقابل فإن كثيرًا من أتباع الجماعات الإسلامية ينظرون إلى الدعاة والناشطين الإسلاميين الذين يعملون فرادى على أنهم لم يدركوا فوائد العمل الجماعي، ولم يدركوا الأخطار التي تتهدد الأمة، والتي تقتضي من الجميع رص الصفوف ووحدة الكلمة، ويصاحب ذلك نوع من الإزدراء للمنجزات، وقد يصل الأمر إلى حد الاتهام بالتخذيل وإذهاب الريح.
حين يعمل الإنسان مع جماعة، فإنه يكسب الكثير من الأشياء، فهناك من يخطط له، ويشجعه، ويوفر له الإطار للعمل، كما يوفر له درجة من الانتماء الملموس والمحدد، وكثيرًا ما يكون العمل الجماعي حرزًا للشباب من الانحراف والعطالة.(/2)
وحين يعمل الإنسان بمفرده، فإنه يشعر بالحرية، ولا يجد نفسه ملزمًا بسياسات وخطوات ليس مقتنعًا بها، كما أنه يتحمل مسؤولية أعماله، ويختار قراراته. وبالإضافة إلى هذا فإنه يسلم من داء التحزّب والتعصّب الذي ابتُلي به كثير من أتباع الجماعات الإسلامية، ويسلم بذلك من الكثير من الغيبة والنميمة...الخ.
كيف نتعامل مع المعادلات الصعبة؟
1- يجب أن نعترف أن التعامل مع مثل هذه الأمور شاق وصعب، وهذا كثيرًا ما يكون بسبب عدم اكتشافنا لجميع العناصر التي تدخل في تركيب هذه المعادلات، فنحن لا نرى كل أجزاء الصورة، ولذا فهناك دائمًا إيجابيات وسلبيات لا نراها، ولا نحسب حسابها.
2- إذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن تعاملنا مع المعادلات الصعبة، يقوم على الموازنة بين ما نأخذه وندفعه، والموازنة لا تقوم دائمًا على معطيات واضحة، ولهذا فستظل موازناتنا موضع جدال وأخذ و ردّ، وفي هذه الحال فإن علينا أن نتعاذر مادمنا نظن أن مواقفنا تقوم على اجتهاد، فالاجتهاد لا يُحسم باجتهاد آخر.
3- أهم شيء في التعامل مع المعادلات الصعبة هو معرفة المكاسب والخسائر التي ستنشأ عن اختيار وضعية من الوضعيات، ولهذا فيجب رصدها واعتبارها بدقة، ويجب أن نحاول ضبطها بضابط شرعي وضابط مصلحي معتبر.
4- إذا اخترنا وضعية من الوضعيات، فعلينا أن نفتح عينًا على المنهجية التي اخترناها، وعينًا على ما عزفنا عنه، وعلى سبيل المثال، فإن على من اختار العمل الفردي أن يدرك أن أمورًا كثيرة لا يستطيع القيام بها بنفسه، ومن ثم فإن عليه أن يكون مستعداً لطلب المعونة ممن يساعده فيها، كما أن عليه ببذل النصح والمشورة لمن يحتاجها من الجماعات والمجموعات الدعوية. وعليه إلى جانب هذا أن يحذر من أن تصبح الفردية لديه فردية مرضية، تعبر عن الأنانية والعجز عن التلاؤم والرؤية الضيقة. وعلى من اختار العمل مع جماعة أن يحافظ على قدر من حرية الرأي والاختيار والمبادرة، كما أن عليه أن يكون متسامحًا مع الذين يخالفونه في المنهج، وبعيدًا عن التحزّب والتعصب، ومستعدًا لسماع النصح من خارج جماعته، فقد يكون لدى فرد من الأفراد من سداد الرأي ونفاذ البصيرة ما ينفع به جماعة كبيرة.
سيظل التعامل مع المعادلات الصعبة صعبًا، وستظل النتائج موضع شك أو جدل، ولكن لابد من أن نحاول لنصل إلى أفضل ما يمكن الوصول إليه.
ولله الأمر من قبل ومن بعد(/3)
المعارضة المصنّعة
تسود العالم «موضة» تكاد تتكرر في العديد من الدول، وهي موضة المعارضات المصنّعة تصنيعاً. ففي بعض الأحيان يقوم النظام الحاكم بتوزيع الأدوار على أنصاره فيفرز بعضهم ويضعه في صف المعارضة، ويضع البعض الآخر في صف الموالاة، لكي يظهر أمام الناس في الداخل والخارج بأنه «ديمقراطي» ويسمح بما يسمى (التعددية السياسية). وفي أحيان أخرى تقوم أميركا بتصنيع المعارضة، لكي تمتطيها وتستعملها أداة لتنفيذ مآربها، لإسقاط النظام، أو للضغط عليه، بحيث يستسلم لمطالبها، ويسلمها البلد بكل ما فيه.
أغلب بلدان العالم تعاني من هذا المرض، ويجهل الكثير من الناس هذه المسرحية لأنهم يصدّقون الشعارات البراقة، فينخرطون في المعارضة، أملاً في نيل مكاسب سياسية أو مالية من النظام القائم، فتتعقد عليهم اللعبة، ويضيعون جهودهم في المكان الخطأ، ولو أنهم بذلوا هذه الجهود في الطريق الصحيح للتغيير، لنجحوا في اقتلاع الأنظمة الفاسدة من جذورها في أقصر وقت، وبأقل تكلفة وتضحية.
متى تعي الأمة على الألاعيب السياسية التي تمارس بحقها، فتميز بين الخبيث وبين الطيب؟ ومتى تعرف الوجوه المقنَّعة فتكشف الأقنعة عنها، لكي تحذر الناس من شرورها؟
إن نسبة المضلَّلين بالمسرحيات السياسية والعسكرية والانتخابية كُثْر، وإذا ما خوطِبوا فإن بعضهم يُصرُّ على جهله، وعناده، فينطبق عليه المثل القائل: «عنزة ولو طارت»، وذلك لأن الجهة التي يتبعها برمجت عقله، برمجة دقيقة، بحيث أصبح كالآلة لا يتغير ولا يتحول مهما قُدِّم له من حجج وبراهين، فهو لا يبحث عن الحق، وإنما يبحث عن رأي ينسجم مع البرمجة المسبقة التي تمّت قولبته فيها، وهو شبَّ على هذا الشيء وسوف يشيب عليه، إلا من رحم ربي، وهذا يدل على خطورة تعليب المعارضة تعليباً مسبقاً، ووضعها في أُطر جامدة لا تتغير ولا تتحول(/1)
المعاكس
أختي المسلمة .. أتدرين ما المعاكسة ؟ إنها البوابة الأولى إلى حظيرة الزنا
اختي الفاضلة .. أتدرين ما الفاحشة ؟ إنها لذة ساعة و حسرة إلى قيام الساعة
اختي المسلمة .. ماذا يريد منك المعاكس وهو يستدرجك إلى اللقاء و يزين لك حلاوته و يغريك بالزواج ؟
إنه يريد أن يقضي منك حاجته ثم يرميك كما يرمي العلك بعد حلاوته ثم لا يبالي هو في أي واد تهلكين
أختي الشابة ..ليست الفتاة كالفتى إذا انكسرت القارورة فلا سبيل إلى إعادتها و المجتمع لا يرحم و الناس كلهم أعين و ألسن
أختي الشابة ..قال الله تعالى ( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله )
أختي ..تعففي حتى يغنيك الله بالزواج الصالح ولا تستعجلي قضاء الشهوة فإن من تعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه
اختاه ..اسمعي هذه القصة ثم احكمي :
لم يكن يدور بخلدها أن الأمر سيؤول بها إلى ...فقد كان مجرد عبث بسيط بعيد عن أعين الأهل كانت مطمئنة تماما إلى أن أمرهالا يعلم به أحد ؟؟ حتى حانت ساعة الصفر ووقعت الكارثة ؟؟ زهرة صغيرة ساذجة يبتسم المستقبل أمامها و هي تقطع الطريق جيئة و ذهابا من و إلى المدرسة كانت تترك لحجابها العنان يذهب مع الهواء كيفما يشاء و لنقابها الحرية في إظهار العينين وبالطبع لم تكن في منأى عن اعين الذئاب البشرية التي تجوب الشوارع لاصطياد الضباء الساذجة الشاردة لم يطل الوقت طويلا حتى سقط رقم هاتف احدهم أمامها فلم تتردد أبدا في إلتقاطه ؟ تعرفت إليه فإذا هو شاب اعزب قد نأت به الديار بعيدا عن أهله و يسكن لوحده في الحي رمى حوله صيده الثمين شباكه و أخذ يغريها بالكلام المعسول و بدات العلاقة الأثمة تنمو و تكبر بينهما و لم لا و الفتاة لا رقيب عليها فهي من أسرة قد شتت شملها أبغض الحلال عند الله و هدم أركانها فأصبحت الخيمة بلا عمود و سقطت حبالها فلا مودة ولا حنان ألح عليها ان يراها و بعد طول تردد وافقت المسكينة و ليتها لم توافق فقد سقطت فريسة سهلة بعد أن استدرجها الذئب إلى منزله و لم يتوان لحظة في ذبح عفتها بسكين الغدر و مضت الأيام وهي حبلى بثمرة المعصية تنتظر ساعة المخاض لتلد جنينا مشوها ملونا بدم العار لا حياة فيه ولا روح و تكتشف الأم الأمر فتصرخ من هول المفاجاة فكيف لأبنتها العذراء ذات الأربعة عشر ربيعا ان تحمل وتلدأسرعت إلى الأب لتخبره و ليتداركا الأمر و ليتداركا الأمر و لكن هيهات فالحمامة قد ذبحت ودمها قد سال و النتيجة غيداع الذئب السجن و الفتاة غحدى دور الرعاية الإجتماعية ...البداية كانت الحجاب الفاضح و النهاية ؟؟؟
واسمعي أختي الفتاة إلى هذه الأبيات في المعاكسة الهاتفية :
إن المعاكس ذئب يغري الفتاة بحيلة
يقول هيا تعالي إلى الحياة الجميلة
قالت اخاف العار و الإغراق في درب الرذيلة
و الأهل و الخلان و الجيران بل كل القبيلة
قال الخبيث بمكر لا تقلقي يا كحيلة
إنا إذا ما التقينا أمامنا ألف حيلة
متى يجيء خطيب في ذي الحياة المليلة
لكل بنت صديق و للخليل خليلة
يذيقها الكأس حلوا ليسعد كل ليلة
للسوق والهاتف و الملهى حكايات جميلة
إنما التشديد و التعقيد أغلال ثقيلة
ألا ترين فلانة ألا ترين الزميلة
و إن أردت سبيلا فالعرس خير و سيلة
وانقادة الشاة للذئب على نفس ذليلة
فيا لفحش اتته ويا فعال وبيلة
حتى إذا الوغد أروى من الفتاة غليله
قال اللئيم وداعا ففي البنات بديلة
قالت ألما وقعنا ؟ أين الوعود الطويلة
قال الخبيث وقد كشر عن مكر وحيلة
كيف الوثوق بغر وكيف أرضي سبيله
من خانت العرض يوما عهودها مستحيلة
بكت عذابا وقهرا على المخازي الوبيلة
عار ونار و خزي كذا حياة ذليلة
من طاوع الذئب يوما أورده الموت غيلة
من شعر أحد الدعاة(/1)
المعاني العقدية للشكر
د. محمد عمر دولة*
الحمد لله والصلاة والسلام على رسولِ الله، وعلى آلِه وصَحبِه ومَن والاه.
وبعد، فإنَّ للشُّكرِ مَعانِيَ عَقديةً عظيمةً ومَعالِمَ إيمانيةً عَديدةً؛ فهو دليلُ المعرفةِ بالله عزَّ وجَلَّ، وعلامةُ التواضعِ له، والاعتِرافِ بفضلِه ومنِّه، وإدراكِ رحمتِه ونِعمتِه.
فالحمدُ ثناءٌ على الله عزَّ وجَلَّ بأسمائه الحسنى وصفاتِه العُلَى، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: قَسَمْتُ الصلاةَ بيني وبين عَبدي نِصفَين؛ ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين) قال الله: حَمَدني عبدي, فإذا قال: (مالِكِ يومِ الدِّين) قال الله: مَجَّدني عبدي).[1]
فحَمْدُ اللهِ وشُكْرُه تَوَجُّهٌ إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ بالثناءِ الحسنِ والذِّكْرِ الجميل؛ كما قال أهلُ العلمِ: "(الْحَمْدُ) الوَصفُ بالجميلُ على جِهَةِ التفضِيل"،[2] و"الثناءُ على الله بِصِفاتِ الكَمالِ, وبأفعالِه الدائرةِ بين الفَضلِ والعَدلِ؛ فله الحمدُ الكامِلُ بجميعِ الوُجُوه".[3] فـ"الألف واللام في (الْحَمْدُ)؛ لاستغراقِ جميع المحامِد. وهو ثناءٌ أثنَى به تعالى على نَفسِه؛ وفي ضِمْنِه أمَرَ عِبادَه أن يُثْنُوا عليه به".[4]
ورَحِمَ الله سيد قطب حيث قال: "يبلُغُ مِن فَضلِ اللهِ سبحانه وفَيضِه على عَبدِه المؤمن، أنه إذا قال: (الحمد لله) كتبَها له حسنةً ترجح كلَّ الموازين. وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حَدَّثهم أنَّ عبداً مِن عبادِ الله قال: (يا رب لك الحمدُ كما ينبغي لجلالِ وَجهِك وعَظيمِ سُلطانِك)؛ فعَضَلَتْ الملَكَين؛ فلم يَدْرِيا كيف يَكْتُبانِها؟ فصَعدا إلى الله، فقالا: يا ربنا إنَّ عَبداً قد قال مَقالةً لا ندري كيف نَكتبُها؟ قال الله وهو أعلم بما قال عَبدُه: وما الذي قال عبدي؟ قالا: يا رب، إنه قال: لك الحمدُ يا رب كما ينبغِي لجلالِ وَجهِك وعظيمِ سُلطانِك! فقال الله لهما: اكتُباها كما قال عبدي؛ حتى يَلْقانِي فأجْزِيه بها"![5] والكريمُ إذا وَعَدَ العَطاءَ وأجْمَلَ؛ كان فَيضُه أكثَرَ وأجزلَ![6]
وقد بَيَّنَ أهلُ العلمِ أنَّ الحمدَ ينشأ في قلبِ العَبدِ على قَدرِ مَعْرِفَتِه بِصِفاتِ اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ ذلك أنَّ الحمدَ "هو الشُّعُورُ الذي يَفِيضُ به قلبُ المؤمِنِ بِمُجرَّدِ ذِكْرِه لله؛ فإنَّ وُجُودَه ابتِداءً ليس إلا فَيْضاً مِن فُيُوضاتِ النِّعمةِ الإلهيةِ التي تَسْتَجِيشُ الحمدَ والثناءَ. وفي كل لَمحةٍ وفي كل لَحظةٍ وفي كلِّ خُطوةٍ؛ تتوالى آلاءُ الله وتتواكبُ وتتجمَّعُ وتغمُرُ خَلائقَهُ كلَّها، وبخاصةٍ هذا الإنسان؛ ومِن ثَمَّ كان (الحمدُ لله) ابتداءً، وكان (الحمدُ لله) خِتاماً قاعِدةً مِن قواعِدِ التصوُّرِ الإسلامي المباشِر: (وهو الله لا إله إلا هو له الحمدُ في الأولى والآخرة)".[7]
ومِن عَظمةِ حَمْدِ الله تعالى وشُكرِه والثناءِ عليه عزَّ وجلَّ بما هو أهلُه ؛ أنْ تَعلَّقَت أعْظمُ سُورةٍ في القرآن بالحمد؛ فسُمِّيَتْ الفاتحةُ ـ أُم القرآن ـ (سُورةَ الحمد)، وهي التي لم يُنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مَثلَها؛ وذلك لاشتمالِها على الثناءِ على الله بما هو أهلُه،[8] فقد تضمَّنَت "الثناءَ على الله ثناءً جاِمعاً لِوَصْفِه بِجميعِ المحامِدِ، وتَنْزِيهِه عن جَميعِ النقائص، ولإثباتِ تفرُّدِه بالإلهية وإثباتِ البعثِ والجزاءِ. وذلك مِن قولِه: (الحمد لله) إلى قولِه: (ملك يوم الدين)".[9]
ومما يدلُّ على أهميةِ الحمدِ وجَلالتهِ وعَظمتِه عند اللهِ تعالى؛ أنَّ الله عزَّ وجَلَّ قد جَعَلَ الحمدَ مَطلعَ مُناجاةِ العَبدِ ربَّه في صَلاته ودُعائه، فـ(الحمد لله) أولُ الكلماتِ التي تخطرُ على الجَنان وتجري على اللسانِ كلما استقبلَ العبدُ الصلاةَ أو توجَّه إلى اللهِ بالدعاء؛ فإنَّ حَمْدَ اللهِ مِفتاحُ كلِّ خَيرِ؛ ولذلك كانت الأدعيةُ والأعمالُ التي تُفتَتَحُ بالدعاءِ مقبولةً مُباركةً. وما ألطفَ قولَ ابن عاشور رحمه الله: "لما لُقِّنَ المؤمِنُون هاته المناجاةَ البديعة التي لا يهتدي إلى الإحاطةِ بها في كلامِه غيرُ عَلاَّمِ الغُيوبِ سبحانه؛ قُدِّمَ (الحمد) عليها؛ لِيَضَعَه الْمُناجُون كذلك في مُناجاتِهم جَرياً على طريقةِ بُلَغاءِ العربِ عند مُخاطبةِ العظماءِ أنْ يَفْتَتِحُوا خِطابَهم إياهم وطِلْبَتَهم بالثناءِ والذِّكرِ الجميل. قال أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان:
أأذكُرُ حاجتي أم قدْ كفاني حَياؤك إنَّ شِيمَتَك الحياءُ!
إذا أثْنَى عليكَ المرءُ يوماً كفاه عن تعرُّضِهِ الثناءُ!
فكان افتِتاحُ الكلامِ بالتَّحميدِ؛ سُنَّةَ الكتابِ المجيدِ لِكلِّ بَلِيغٍ مُجِيدٍ؛ فلم يزل المسلمون مِن يومِئذ يُلَقِّبُون كلَّ كلامٍ نَفِيسٍ لم يَشتمِلْ في طالعِه على الحمدِ بالأبتر".[10](/1)
ولا ريبَ أنَّ شُكرَ العبدِ ربَّه دليلٌ على وَعْيِه منه بنعمةِ الله عليه ولُطفِه به ورِعايَتِه له، كما قال الرازي رحمه الله: "الذي يُحْمَدُ ويُمْدَح في الدنيا؛ إنما يكون كذلك لِوُجوهٍ أربعةٍ: إما لكونِه كامِلاً في ذاتِه وفي صِفاتِه مُنَزَّهاً عن جميعِ النقائصِ والآفاتِ، وإنْ لم يكنْ منه إحْسانٌ إليك، وإما لِكَونِه مُحْسِناً إليك ومُنْعِماً عليك، وإما لأنك تَرْجُو وُصُولَ إحْسانِه إليك في المستقبَل مِن الزمان، وإما لأجْلِ أنك تكونُ خائفاً مِن قَهرِه وقُدرتِه وكمالِ سَطوتِه؛ فهذه الحالاتُ هي الجِهاتُ الموجبةُ للتعظيم؛ فكأنه سبحانه وتعالى يقول: إنْ كنتم ممن تُعظِّمون الكمالَ الذاتيَّ؛ فاحمدوني فإني إلهُ العالمين، وهو المرادُ مِن قولِه: (الحمد لله)، وإنْ كُنتم ممن تُعظِّمُون للإحسانِ؛ فإنِّي (رب العالمين)، وإنْ كنتُم تُعظِّمون للطمَعِ في المستقبَل؛ فأنا (الرحمن الرحيم)، وإن كنتم تُعظِّمون للخوفِ؛ فأنا (مالك يومِ الدين)".[11]
ومَن تدبَّرَ فقهَ الحمدِ والشكرِ والثناءِ على الله عزَّ وجلَّ بما هو أهلُه؛ أدرَكَ أنَّ حَمْدَ اللهِ تعالى يُزِيلُ غَبَشَ الاعتقاد الناتج عن التعلُّقِ بالمخلوقين؛ لأن الحمدَ اعترافٌ برُبُوبِيةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ وشهادةٌ بأنه (ربُّ العالَمِين)، وتأكِيدٌ بأنه جلَّ جلالُه خالِقُ العِبادِ ورازِقُهم؛ ذلك أنَّ "الرَّب: هو المُربِّي جميعَ العالَمِين، وهم مَن سِوى اللهِ بِخَلْقِه لهم, وإعْدادِه لهم الآلاتِ, وإنعامِهِ عليهم بالنِّعَمِ العظيمة, التي لو فَقَدُوها لم يُمْكِن لهم البقاء, فما بهم مِن نعمةٍ فمنه تعالى".[12] ولذلك فـ"إنَّ الذي لَقَّنَ أهلَ القرآنِ ما فيه جِماعُ طرائقِ الرُّشْدِ بوجهٍ لا يُحِيطُ به غيرُ علامِ الغُيوب؛ لم يُهْمِلْ إرشادَهم إلى التحلِّي بزينةِ الفضائلِ، وهي أنْ يَقْدِرُوا النِّعمةَ حَقَّ قَدْرِها بِشُكْرِ المنعِم بها؛ فأراهم كيف يُتوِّجُون مُناجاتِهم بِحَمدِ واهِبِ العَقلِ ومانِحِ التوفيقِ؛ ولذلك كان افتِتاحُ كلِّ كلامٍ مُهِمٍّ بالتحميدِ سُنةَ الكتابِ المجيدِ".[13]
ورَحِمَ الله صاحبَ الظلالِ حيث قال: "الرُّبوبيةُ المُطلَقة هي مَفْرِقُ الطريقِ بين وُضوحِ التوحيدِ الكامِلِ الشامِلِ، والغَبَشِ الذي يَنشَأ مِن عدمِ وُضوحِ هذه الحقيقةِ بصورتِها القاطعة. وكثيراً ما كان الناسُ يجمعون بين الاعترافِ بالله بِوَصْفِهِ الْمُوجِد الواحِد للكونِ، والاعتقادِ بتعدُّدِ الأربابِ الذين يَتحكَّمُون في الحياة! ولقد يَبْدُو هذا غريباً مُضْحِكاً، ولكنه كان وما يزال. ولقد حَكَى لنا القرآنُ الكريمُ عن جماعةٍ من المشركين كانوا يقولُون عن أربابِهم المتفرِّقة: )ما نَعْبُدُهم إلا لِيُقرِّبُونا إلى اللهِ زُلْفَى)، كما قال عن جماعةٍ من أهلِ الكتاب: (اتَّخَذُوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أرْباباً مِن دُونِ الله(. وكانت عقائدُ الجاهلياتِ السائدةِ في الأرضِ كلِّها يومَ جاءَ الإسلامُ تَعُجُّ بالأربابِ المختلفة؛ بوصفِها أرباباً صِغاراً تقومُ إلى جانبِ كبيرِ الآلهةِ كما يزعُمون! فإطلاقُ الرُّبُوبيةِ في هذه السورةِ وشمولُ هذه الربوبيةِ للعالمين جميعاً: هي مَفرِقُ الطريقِ بين النظامِ والفَوْضَى في العقيدة؛ لتتَّجِهَ العَوالِمُ كلُّها إلى ربٍّ واحدٍ تُقِرُّ له بالسيادةِ المُطلَقة... ثم ليطمئن ضميرُ هذه العوالمِ إلى رِعايةِ اللهِ الدائمةِ ورُبُوبيَّتِه القائمة، وإلى أنَّ هذه الرِّعايةَ لا تنقطِعُ أبداً ولا تفترُ ولا تَغيب".[14]
والشُّكرُ يَشتمِلُ على اعتِرافِ العَبدِ بآثارِِ نِعَمِ اللهِ عليه، وامتِنانِه بتوفيقِ الله له وفَضلِه في توجيهِه وإرشادِه؛ وكلما ازْدادَ العَبدُ إدْرَاكاً لِمِقدارِ فَضلِ الله عليه؛ ازْدادَ عِلماً وحَمداً؛ لاسيما إذا كان من أولياءِ الله المتنعمين بمعيةِ اللهِ وتوفيقِه وعنايتِه، كما قال السعدي رحمه الله: "تربيتُه تعالى لِخَلقِه نوعان: عامةٌ وخاصةٌ. فالعامة: هي خَلقُه للمخلوقين ورِزقُهم وهِدايتُهم لما فيه مَصالِحُهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا. والخاصة: تربيتُه لأوليائه؛ فيربِّيهم بالإيمانِ ويُوفِّقُهم له ويُكمِّلُه لهم, ويدفعُ عنهم الصوارفَ والعوائقَ الحائلةَ بينَهم وبَينَه. وحقيقتُها: تربيةُ التوفيقِ لكلِّ خيرٍ, والعِصمةِ مِن كلِّ شَرٍّ؛ ولعلَّ هذا المعنَى هو السِّرُّ في كَوْنِ أكثرِ أدعيةِ الأنبياءِ بلفظِ (الربِّ)؛ فإنَّ مَطالِبَهم كلَّها داخِلةٌ تحت رُبوبِيَّتِه الخاصَّة. فدلَّ قولُه: (ربّ العالمين) على انفِرادِه بالخلقِ والْمُلكِ والتدبِيرِ والنِّعَمِ, وكَمالِ غِناه, وتَمامِ فَقرِ العالَمِين إليه بِكلِّ وَجْهٍ واعْتِبارٍ".[15](/2)
وهذه المعاني العظيمة للحمد لا يتفطن لها العبدُ إلا إذا تفكَّرَ في نِعَمِ اللهِ التي أسبَغَها عليه؛ وما أكثرَها وأغزرَها في حياتِه كلِّها! وقارنَ بينَها وبين عطياتِ الخلقِ! ولله دَرُّ الرازي ما أحْسَنَ قولَه: "اعلَمْ أنَّ تربيتَه تعالى لخلقِه مُخالِفةٌ لتربيةِ غيرِه، وبيانُه مِن وجوهٍ: الأول: أنه تعالى يُربِّي عبيدَه لا لغرضِ نفسِه؛ بل لغرضِهم، وغيرُه يربُّون لغرضِ أنفسِهم؛ لا لغرضِ غيرِهم. الثاني: أنَّ غيرَه إذا ربَّى فبقدرِ تلك التربيةِ يظهرُ النقصانُ في خزائنِه وفي مالِه وهو تعالى مُتعالٍ عن النقصانِ والضرر، كما تعالى: (وإنْ مِن شيءٍ إلا عندَنا خَزائنُه وما نُنَزِّلُه إلا بِقَدَرٍ مَعلُوم). الثالث: أنَّ غيرَه من المحسنين إذا ألَحَّ الفقيرُ عليه أبغضَه وحرَمَه ومنَعَه؛ والحقُّ تعالى بخلافِ ذلك، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنَّ الله تعالى يحب الملحِّين في الدعاء). الرابع: أنَّ غيرَه من المحسنين ما لم يُطلَبْ منه الإحسانُ لم يُعطِ؛ أما الحقُّ تعالى فإنه يُعطي قبلَ السؤال؛ ألا ترى أنَّه ربَّاك حالَ ما كنتَ جنيناً في رَحِمِ الأمِّ وحالَ ما كنتَ جاهِلاً غيرَ عاقلٍ، لا تُحْسِن أن تسألَ منه ووقاك وأحسنَ إليك مع أنك ما سألتَه وما كان لك عقلٌ ولا هدايةٌ. الخامس: أنَّ غيرَه مِن المحسنين ينقطعُ إحسانُه إما بسببِ الفقرِ أو الغَيبةِ أو الموت؛ والحقُّ تعالى لا يَنقطعُ إحسانُه البتة. سادساً: أنَّ غيرَه مِن المحسنين يختصُّ إحسانُه بقومٍ دون قومٍ، ولا يُمكِنُه التعميم؛ أما الحقُّ تعالى فقد وَصَلَ تَربيتَه وإحسانَه إلى الكُلِّ، كما قال: (ورَحْمَتي وَسِعَتْ كلَّ شيء)؛ فثبت أنه تعالى ربُّ العالمين، ومُحْسِنٌ إلى الخلائقِ أجمعين؛ فلهذا قال تعالى في حقِّ نفسِه: (الحمد لله ربِّ العالمين)".[16]
فمَن تدبَّرَ هذه المعانِيَ العقديةَ للشُّكر؛ أدركَ "مدى عَظمةِ الدَّوْرِ الذي قامَت به هذه العقيدةُ وتقومُ في تحريرِ الضميرِ البشري وإعْتاقِه وإطْلاقِه مِن عناءِ التخبُّطِ بين شتَّى الأرْبابِ وشتَّى الأوْهامِ والأساطِيرِ! وإنَّ جَمالَ هذه العقيدةِ وكمالَها وتناسُقَها وبَساطةَ الحقيقةِ الكبيرةِ التي تُمثِّلُها. كلُّ هذا لا يَتجلَّى للقلبِ والعقلِ كما يَتجلَّى مِنْ مُراجعةِ رُكامِ الجاهليةِ مِن العقائدِ والتصوُّراتِ والأساطيرِ والفلسفاتِ! وبخاصة موضوع الحقيقة الإلهية وعلاقتها بالعالم. عندئذ تبدو العقيدةُ الإسلامية رحمةً، رحمةً حقيقيةً للقلبِ والعقلِ، رحمة بما فيها مِن جَمالٍ وبساطةٍ ووُضوحٍ وتناسُقٍ وقُرْبٍ وأُنْسٍ وتَجاوُبٍ مع الفِطرةِ مُباشِرٍ عَميقٍ".[17]
ورحم الله القحطاني ما أروعَ قولَه في الشكر:
----------
[1] أخرجه مسلم.
[2] مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 1/3.
[3] تيسير الكريم الرحمن ص 39.
[4] أضواء البيان للشنقيطي 1/5.
[5] في ظلال القرآن 1/22.
[6] كما قال في الصوم: (الصوم لي؛ وأنا أجزي به)! وقال في الصبر: (إنما يُوفَّى الصابرون أجرَهم بغيرِ حساب)!
[7] في ظلال القرآن لسيد قطب 1/22.
[8] أسرار ترتيب القرآن للسيوطي رحمه الله.
[9] التحرير والتنوير لابن عاشور 1/133-134.
[10] التحرير والتنوير 1/154.
[11] التفسير الكبير 1/235.
[12] تيسير الكريم الرحمن ص 39.
[13] التحرير والتنوير 1/152-153.
[14] في ظلال القرآن لسيد قطب 1/22-23.
[15] تيسير الكريم الرحمن ص 39.
[16] التفسير الكبير 1/234-235.
[17] في ظلال القرآن 1/23-24.
[18] نونية القحطاني ص12-14.(/3)
المعتقلات الأمريكية بين زخرف الدعاية ووحشيَّة التعذيب !
د.عدنان علي رضا النحوي
ما حدث ويحدث في المعتقلات الأمريكية في أفغانستان والعراق ومعتقل غوانتنامو، ومعتقلاتها السرية في عدد من الدول الغربية ، وما يحدث في المعتقلات اليهودية وغيرها من المعتقلات المنتشرة في عدد من البلاد ، لم يعد أمراً خافياً على أحد . فقد تناقلت وسائل الإعلام المحلية والدوليّة أخبار هذه الفضائح بالصور والحديث ، والشرح والتعليق . وأصدرت منظمة هيومان وتش في تقريرها السنوي السادس عشر الأخير تنديداً جديداً تضاف إلى تلك التنديدات والاحتجاجات التي ظهرت إبَّان ما حدث في سجون العراق وخاصة سجن أبو غريب ، و ما أسمته المنظمة بـ ''النفاق'' في الخطاب الأميركي . باعتبار أن رسالة واشنطن للعالم هي "طبقوا ما أدعو إليه وليس ما أقوم به".(1)
إن ما يحدث في هذه المعتقلات و مهما قيل عنها فإنَّ الصدمة تظلّ كبيرة شديدة ، يقف الإنسان أمامها ليتساءل أين الشعارات ؟! أين شعارات حقوق الإنسان، رعاية الطفولة ، أعياد الأم ، الحريّة ، العدالة ، المساواة ، الديمقراطية ، الإنسانيّة التي تغنَّى بها بعض كتَّابنا ، الإنسانيّة التي استبدلوها بأُخوّة الإسلام ، حقّ المرأة ، وعدّد من الشعارات ما تشاء ، ثمَّ قم وابحث عنها في الأرض كلّها ، في الغرب كلّه ، في الشرق ، في الشمال ، في الجنوب ، في بطون التاريخ ، تاريخ كلّ شعار ، فإنَّك لن تجد الحريّة الصادقة والعدالة الأمينة ، والمساواة المنصفة ، والإنسانيّة ، إلا حيث طُبَّق الإسلام ، حيث طُبّق شرع الله .
خارج دائرة الإسلام ، لن تقوم الإنسانيّة إلا في زخرف الشعارات التي تظهر وتغيب . وما عرفت البشريّة صدق هذه الشعارات إلا في أمّة الإسلام .
وكيف تتوقع العدالة الأمينة في أجواء جنون القوّة الظاهرة ، والكبر المتسلّط ، والغرور القاتل ، والعصبيّات الجاهليّة .
ولقد أثبتت التحقيقات أنَّ ممارسة هذه الألوان المتوحشة من التعذيب في المعتقلات المختلفة وخاصة الأمريكية منها تتمّ بتعليمات رسمية من أعلى المستويات في الدولة .
وأمام هذه الأحداث لا بدَّ أن تثور بعض الأسئلة ، وتلحّ على كثير من الناس .
أولاً : حملة رسالة الديمقراطية في العالم نشروا شعاراتها وزخارفها ، وخُدِعَ بها الكثيرون . ولكنّهم كلّهم يريدون الديمقراطية وحرّيتها وعدالتها وإنسانيتها في ميدان التطبيق ! فأين التطبيق ؟! هل ما نراه في العراق أم في فلسطين ، أم في أفغانستان ؟ أم في فيتنام سابقاً ، وبنما ، وأمريكا اللاتينية ، أم في حرب داخليّة لإبادة الشعب الأصلي ، الهنود الحمر ، أم ما نراه في السياسة الدولية واختلال الموازين ، وكثرة الحروب والضحايا والفتن ؟!
ثانياً : هل الكذب والخداع جزء رئيس من الديمقراطية ، تمتدّ أصولها إلى " ميكافيلي " ومبدئه الإجرامي " الغاية تُسَوِّغ الوسيلة " ! لقد ادّعت هذه الدول وعلى رأسها أمريكا نشر الديمقراطية والعدالة كما قيل حين غزو العراق ، حيث ادّعت أنها ستقدّم للشعب العراقي الحريّة والعدالة بعد ديكتاتورية صدام ـ فأعطته القتل والتدمير ، والعطش ، وانقطاع الماء والكهرباء ، والاعتقالات في سجون كثيرة ، ووحشية التعذيب واغتصاب النساء ، وإثارة الفتن ، وكان خلاصة ذلك كلّه تدمير العراق ثروة وشعباً وطاقات وعلماء وقدرات ! أين الديمقراطية ؟!
ثالثاً : هذه النفوس المجرمة والقلوب القاسية التي تأمر بهذا التعذيب الوحشيّ الإجراميّ ، والأيادي التي تنفّذ ذلك وتستمتع بالتنفيذ ، هؤلاء هم وحوش في صورة بشر ، كيف تشكَّلت هذه النفسية الوحشية فيهم ، وما هو النظام الاجتماعي الذي رعى هذه النفوس ، وما هي التربية ونظرياتُها التي غَرسَتْ الوحشيّة والإجرام في نفوسهم جيلاً بعد جيل في مناطق مختلفة من العالم ؟! وأصبح منا من يدعو إلى نظريات التربية الأمريكية في مؤلفاته وحواراته على الفضائيات .
إنَّ الله سبحانه وتعالى خلق عباده كلّهم على الفطرة السليمة ليوفوا بعهد وأمانة وخلافة وعمارة إيمانيّة في الأرض :
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :
( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصَّرانه أو يمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسّون فيها من جدعاء )
[ رواه الشيخان وأبو داود ]
فما الذي بدَّل الفطرة السليمة إلا أن يكون أبواه ، ثمَّ المجتمع ونظامُه ، والنظام التربوي ونظرياته المعتمدة .
كيف يمكن أن تستقيم فطرة الإنسان على ما فطره الله عليه ، إذا عُزلت عن ربّها وخالقها ، وإذا غَرِقتْ في أوحال الأهواء المتفجَّرة بالجنس والمال ، والصراع على الدنيا ، وتنافُس السُّمعة ؟! كيف تستقيم الفطرة وكلُّ ما يتعهّدها في البيت والمجتمع والمدرسة أهواءٌ صارخة . فلنستمع إلى ما يقوله نيكسون عن ثمرة التربية في أمريكا :(/1)
" اتخذ التعليم الأمريكي مساراً حلزونياً هابطاً لسنين عديدة ، وانحدرت مستويات المطالعة إلى حد كبير لدى تلاميذ جميع المراحل . واكتشف استطلاع حديث عن عدم قدرة (90) مليون شخص القراءة دون أخطاء ، وفشل ما يقرب من 25 % من الأمريكان في التخرّج من المدارس الثانوية …" إلى أن يقول : " … وفي المدارس كان الانهيار مدمّراً …"(2)
ومصادر أخرى تكشف نتائج التربية في المدارس : طلاب يطلقون النار على زملائهم ، طلاب يعتدون جنسياً على الطالبات في مدارسهم المختلطة ، وكلها مختلطة، المدرِّسة تحاول اغتصاب طالب أو تغتصبه ، طالب يغتصب مدرِّسته ، ازدياد نسبة الجرائم في أمريكا وأوروبا ، حتى سُمّيت مدينة لندن مدينة الجرائم . انتشار الخمور كانتشار الماء أو أشدّ ، حتى إنَّ بعض المطاعم يستهزئون منك إن طَلبْتَ ماءً !
لا بدَّ من أجل مصلحة الإنسان أن نتقصَّى الأسباب والبيئة والمجتمع والنظريات التي كوَّنت نفسية الإجرام الوحشي التي امتدَّتْ زمناً طويلاً في مساحة واسعة من الأرض .
إنَّ هذا التفلَّت الوحشيّ في حياة الإنسان في الأرض يضاعف من مسؤوليّة المسلمين ، وما فرض الله عليهم من تبليغ رسالة الله إلى النَّاس كافَّة وتعّهدهم عليها ، فلا شيء غير الإيمان بالله واليوم الآخر والغيب كلّه ، والتزام الكتاب والسنَّة ، يمكن أن يصلح حالة الإنسان في الأرض . ستظلُّ البشريَّة تتخبَّط في ظلام حالك تنشره الوحوش البشريَّة . وإن التخلَّف عن هذا الوضع يضاعف من آثام المسلمين أنفسهم .
لقد فشلت العلمانيَّة والديمقراطيّة وسائر ما ولَّدتاه من مذاهب في بعث السلام في الأرض ، ومنح البشريّة فرصة اطمئنان وراحة ، وأمن وعدل وحريّة . لقد كثر المظلومون والمُعْدَمُون ، وكثر المشرَّدون واللاجئون ، وكثر الأطفال الذين لا يجدون مأوى إلا أرصفة الشوارع . وستزداد هذه المآسي في الأرض ، ما دامت العلمانيّة والرأسماليّة والديمقراطيّة تقود الناس وتفجّر فيهم الأهواء والمطامع والصراع ، وما دامت خفقة الإيمان والتوحيد هَمَدَتْ ونُزِعَتْ من القلوب وهجر الناس كتاب الله ، وجفَّ العلم . نعم ! ستزداد الفواجع والمآسي والدموع .
وفي تحقيق صحفيّ أعدَّه الصحفي " جاري كوان " في صحيفة " بلتيمور " سنة 1995م ، أكّد هذا الصحفي امتداد سياسة التعذيب الوحشيّ واغتصاب النساء والرجال في مدى واسع من الأرض والزمن . ويقول الجنرال " مايرز " إن ما تمّ في سجن " أبو غريب " لم يكن استثنائياً ! ومصادر أخرى كثيرة تؤكِّد هذه السياسة الإجراميّة واستخدامها في مواقع شتَّى .
رابعاً : هل كان هذا التعذيب الوحشيّ بجميع أشكاله محصوراً في الدول الغربيَّة العلمانيّة ؟! كلا ! إنا شاهدنا مثله في سجون بعض ديار المسلمين ، وشاهدناه في مذابح الأندلس عندما طُرِدَ المسلمون ، وشاهدناه في المذابح التي دارت بالمسلمين في القدس في الحروب الصليبيّة ، حين كان يُنْزَع الطفل من صدر أُمّه ويضرب برأسه على الحديد أو الحجر حتى يتفلَّق الرأس . إذا رجعنا إلى بطون التاريخ نجد الوحشية في التعذيب تملأ التاريخ ، إلا حين يُطبَّق شرع الله عملياً في البناء والتربية وجميع ميادين الحياة . فهنالك فقط : الرحمة والعدل والمساواة ، وهنالك الإنسانيّة وتعارف الشعوب في قلب الدعوة الإسلاميّة ، الدعوة إلى الله ورسوله ، إلى الإيمان والتوحيد ، إلى الإسلام .
إنَّ هذه الصورة الوحشيّة من التعذيب والقتل والاغتصاب وتشريد الأطفال وانتشار الأمراض القاتلة بينهم ، وعِظَم أرقام الضحايا ، لتكشف عن عمق " ثقافة القتل والإجرام " في نفوس المجرمين في الأرض .(3)
يذكر المؤرخ الأمريكي السوري الأصل " منير العكش " أن مدينة واشنطن قائمة على مقابر جماعيّة من الهنود الحمر . ويقول إن الشعوب الهندية كان تعدادها يزيد على (12) مليون نسمة ، لم يبقَ منهم حسب تعداد سنة (1900م ) سوى ربع مليون فقط .
إنَّ التعذيب وامتهان كرامة الإنسان والانتشاء بالقتل ، والسلخ والتمثيل بالجثث أصبح تقليداً رسمياً في المؤسسات و الثقافة العسكريّة الأمريكيّة .(/2)
ولكن المشكلة التي يواجهها العالم كلّه والإنسانيّة كلّها لا تقف عند حدود سجن " أبو غريب " وغيره من السجون في العراق وأفغانستان وما يحدث فيه من بلاء عظيم ، ولا في ما حدث ويحدث في " غوانتانامو " ، فإنّ السجون الأمريكيّة نفسها تمثّل مشكلة إنسانيّة ، كما يكشف عنها المراسل المخضرم في وكالة رويترز " آلن أليسنر " في كتابه " بوابات الظلم" . فمن بين الإحصاءات التي يوردها " أليسنر " ما يشير إلى أن هناك (2.2) مليون إنسان يقبعون في السجون الأمريكية حالياً ، وأن الولايات المتحدة يشكل سكانها 5% من سكان العالم ، أما سجناؤها فيشكلون 25% من سجناء العالم . وولاية كاليفورنيا سرَّحت على مدى العقد المنصرم أكثر من عشرة آلاف موظّف، وفي الوقت نفسه وظَّفت عشرة آلاف حارس إضافي لسجونها ، والسجون في أمريكا تستفيد من (57) مليار دولار في العام الواحد . بينما يستفيد التعليم من (42) مليار دولار .
وبعض منتهكي القوانين الدولية ومرتكبي المخالفات في أفغانستان والعراق كانوا حرَّاساً في السجون الأمريكية ، وكأنما ثقافة سوء المعاملة للسجناء في أمريكا تجذّرت وأصبح لها امتداد مدمّر في العالم . ففي تلك السجون مئات الآلاف من السجناء يتعرَّضون للاغتصاب سنوياً ، وتدار حلقات المخدِّرات داخل السجون، وحلقات القمار والدعارة . فحين يخرج السجناء يتحوّلون إلى بشر أكثر عنفاً وإجراماً وأكثر إفساداً .(4)
ما بين هذه السياسة وبين الفتوحات الإسلاميّة .
إن وقفة هنا مع الفتوحات الإسلامية بقيادة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تكشف لنا عظمة الإسلام ورسالته ، وعظمة النبوّة الخاتمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وعظمة جنود الإسلام وهم يحملون رسالة الله إلى الناس كافّة ، فينشرون الرحمة والعدل وأعلى معاني الإنسانيّة في التاريخ البشريّ كُلّه ، يهديهم الله بإيمانهم ، وبالآيات والأحاديث :
فعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على جيش أوصاه في خاصّة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ، وقال : ( اغزوا باسم الله وفي سبيل الله … ، ولا تَغُلُّوا ولا تغدُروا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا وليداً …) [رواه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه ](5)
وأوصى أبو بكر رضي الله عنه أسامة بن زيد رضي الله عنهما وجيشه حين سيّره إلى أُبْنى ، فقال : " يا أيّها النَّاس ! قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنّي : لا تخونوا ولا تغُلُّوا ولا تغدروا ، ولا تُمثّلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ، ولا تقعروا نخلاً ولا تحرقوه ، ولا تقطعوا شجرة مثمرةً ، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة … " (6)
وعندما فتح قتيبة بن مسلم الباهليّ " سمرقند " ووضع عليها عامله سليمان بن أبي السُّرى ، شكا أهل سمرقند لعاملهم أن قتيبة قد غدر بهم وظلمهم وأخذ بلادهم ( دون أن يعلمهم ) . وطلبوا إرسال وفد منهم إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ليُقَدّموا شكواهم إليه ، فأذن لهم بإرسال الوفد . ولما سمع أمير المؤمنين شكواهم كتب إلى سليمان أن أهل سمرقند قد شكوا إليّ ظلماً أصابهم ، وتحاملاً من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم ، يعني دون منابذة ، فإن أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي فلينظر في أمرهم . فإن قضى لهم فأخْرجْهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن يظهر عليهم قتيبة . فأجلس لهم سليمان القاضي " جميع بن حاضر " ، فقضى بأن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء ، فيكون صلحاً جديداً ، أو ظفراً عنوة . فقال أهل سمرقند : بل رضينا بما كان .
هذه صورة من عظمة الإسلام ، والتاريخ مليء من الصور المشرقة من مواقف المؤمنين الصادقين المتقين الذين ينطلقون في الأرض يبلّغون رسالة الله إلى النَّاس كافّة ، ويتعهَّدونهم عليها ، ليخرجوا من الظلمات إلى النور بإذن ربّهم :
(الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)[ إبراهيم : 1]
( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )[ البقرة : 257]
وإني لأعجب من أولئك المنتسبين إلى الإسلام يبتغون العدالة والحريّة والمساواة والإنسانيّة في الديمقراطيّة وزخرفها والعلمانية وفسادها ، ويدعون لها وتُبَحُّ أصواتهم من أجلها ، وهم بين أيديهم حقُّ العدالة والحريّة والمساواة والإنسانيّة في دين الله الحقّ ـ الإسلام ـ ، لا في الزخرف الكاذب لهذه الشعارات .
أعجب من هؤلاء وبين أيديهم كنز عظيم وحقّ مبين ـ يدبرون عنه إلى زخرف كاذب وزينة خادعة ؟!
الهوامش:
(1) موقع التجديد العربي 13/6/2006م(/3)
(2)ريتشارد نيكسون : " ماذا وراء السلام " ـ ص : 229 .
(3) من مقالة لنور الدين العويديدي ـ موقع مجلّة أقلام المغربيّة ـ 2004م .
(4) مجلة المجتمع : العدد (1618)، 26 رجب 1425هـ 11/9/2004م ـ ص : (37- 39) .
(45الترمذي : 22/48/16017 .
(6) جمهرة خطب العرب لأحمد زكي صفوت : ج1 ، ص: 187 .(/4)
المعجزات الحسية في الهجرة النبوية
الناس في هذه القضية - قضية المعجزات المحمدية المادية - أصناف ثلاثة:.
فالصنف الأول
يبالغ في الإثبات، وسنده في ذلك ما حوته الكتب، أيًا كانت هذه الكتب: سواء كانت للمتقدمين أو المتأخرين، وسواء كانت تعني بتمحيص الروايات أم لا تعني، وسواء وافق ذلك الأصول أم خالفها، وسواء قبله المحققون من العلماء أم رفضوه.
المهم أن يروي ذلك في كتاب وإن لم يعرف صاحبه، أو يذكر في قصيدة من قصائد المدائح النبوية، أو في قصة " مولد " التي يُتلى بعضها في شهر ربيع الأول من كل عام، أو نحو ذلك.
وهذه عقلية عامية لا تستحق أن تناقش، فالكتب فيها الغثّ والسمين، والمقبول والمردود، والصحيح والمختلق الموضوع.
وقد ابتليت ثقافتنا الدينية بهؤلاء المؤلفين الذين يتتبعون " الغرائب " ويحشون " بها بطون الكتب، وإن خالفت صحيح المنقول، وصريح المعقول.
وبعض المؤلفين، لا يعني بصحة ما يروي من هذه الأمور، على أساس أنها لا يترتب عليها حكم شرعي، من تحليل أو تحريم أو غير ذلك . ولهذا إذا رووا في الحلال والحرام تشددوا في الأسانيد، ونقدوا الرواة، ومحصوا المرويات . فأما إذا رووا في الفضائل والترغيب والترهيب . ومثلها المعجزات ونحوها، تساهلوا وتسامحوا.
ومؤلفون آخرون، كانوا يذكرون الروايات بأسانيدها، فلان عن فلان عن فلان - ولكنهم لا يذكرون قيمة هذه الأسانيد: أهي صحيحة أم غير صحيحة ؟ وما قيمة رواتها: أهم ثقات مقبولون أم ضعاف مجروحون، أم كذابون مردودون ؟ معتمدين على أنهم إذا ذكروا السند فقد أبرأوا أنفسهم من التبعة، وخلوا من العهدة.
غير أن هذا كان صالحًا وكافيًا بالنسبة للعلماء في العصور الأولى، أما في العصور المتأخرة - وفي عصرنا خاصة - فلم يعد يعني ذكر السند شيئًا . وأصبح الناس يعتمدون على النقل من الكتب، دون أي نظر إلى السند.
وهذا هو موقف جمهرة الكتاب والمؤلفين في عصرنا، حين ينقلون من تاريخ الطبري، أو طبقات ابن سعد أو غيرها.يبالغ في النفي والإنكار للمعجزات والآيات الحسية الكونية ، وعمدته في ذلك: أن معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي القرآن الكريم وهو الذي وقع به التحدي: أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله.
ولما طلب المشركون من الرسول بعض الآيات الكونية تصديقًا له، نزلت آيات القرآن تحمل الرفض القاطع لإجابة طلباتهم . كما في قوله تعالى: (وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرًا . أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا وتأتي بالله والملائكة قبيلاً . أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقي في السماء . ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابًا نقرؤه، قل: سبحان ربي، هل كنت إلا بشرًا رسولاً ؟). (سورة الإسراء: 90 - 93).
وفي موضع آخر، ذكر المانع من إرسال الآيات الكونية التي يقترحونها فقال: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة، فظلموا بها، وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا). (سورة الإسراء: 59).
وفي سورة أخرى، رد على طلب الآيات بأن القرآن وحده كاف كل الكفاية ليكون آية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ؟ إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون). (سورة العنكبوت: 51).
وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - معجزة عقلية أدبية، لا حسية مادية، وذلك لتكون أليق بالبشرية بعد أن تجاوزت مراحل طفولتها، ولتكون أليق بطبيعة الرسالة الخاتمة الخالدة . فالمعجزات الحسية تنتهي بمجرد وقوعها . أما العقلية فتبقى.
وقد أيد ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة ".
ويبدو لي أن مما دفع هذا الصنف إلى هذا الموقف أمرين:.
أولاً: افتتان الناس في عصرنا بالعلوم الكونية، القائمة على ثبات الأسباب، ولزوم تأثيرها في مسبباتها، حتى ظن بعض الناس أنه لزوم عقلي لا يتخلف في حال، فالنار لابد أن تحرق، والسكين لابد أن تقطع، والجماد لا يمكن أن ينقلب إلى حيوان، والميت لا يمكن أن يرجع إلى الحياة ... إلخ.
الصنف الثاني
غلو الصنف الأول في إثبات الخوارق، بالحق والباطل، إلى حد يكاد يلغي قانون الأسباب والسنن، التي أقام الله عليها هذا العالم . وكثيرًا ما يقاوم الغلو بغلو مثله.
وهنا يظهر الرأي الوسط بين المبالغين في الإثبات، والمغالين في الإنكار . وهو الرأي الذي أرجحه وأتبناه.وخلاصة هذا الرأي:(/1)
1- أن القرآن الكريم هو الآية الكبرى، والمعجزة الأولى، لرسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي تحدّى به العرب خاصة، والخلق عامة . وبه تميزت نبوة محمد على غيرها من النبوات السابقة، فالدليل على صدق نبوته هو نفس موضوع رسالته ؛ وهو كتابه المعجز بهدايته وبعلومه، وبإعجازه اللفظي والمعنوي، وبإتيانه بالغيب: ماضيه وحاضره ومستقبله.
2-أن الله تعالى أكرم خاتم رسله بآيات كونية جمة، وخوارق حسية عديدة، ولكن لم يقصد بها التحدي، أعني إقامة الحجة بها على صدق نبوته ورسالته . بل كانت تكريمًا من الله له ، أو رحمة منه تعالى به، وتأييدًا له، وعناية به وبمن آمن معه في الشدائد ؛ فلم تحدث هذه الخوارق استجابة لطلب الكافرين، بل رحمة وكرامة من الله لرسوله والمؤمنين ، وذلك مثل " الإسراء " الذي ثبت بصريح القرآن، والمعراج الذي أشار إليه القرآن، وجاءت به الأحاديث الصحيحة، ونزول الملائكة تثبيتًا ونصرة للذين آمنوا في غزوة بدر، وإنزال الأمطار لإسقائهم فيها وتطهيرهم، وتثبيت أقدامهم، على حين لم يصب المشركين من ذلك شيء وهم بالقرب منهم . وحماية الله لرسوله وصاحبه في الغار يوم الهجرة، رغم وصول المشركين إليه، حتى لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآهما ، وغير ذلك مما هو ثابت بنص القرآن الكريم.
ومثل ذلك إشباع العدد الكثير من الطعام القليل في غزوة الأحزاب، وفي غزوة تبوك.
3- إننا لا نثبت من هذا النوع من الخوارق إلا ما نطق به القرآن، أو جاءت به السنة الصحيحة الثابتة . وما عدا ذلك مما انتفخت به بطون الكتب، فلا نقبله، ولا نعبأ به.
فمن الصحيح الثابت:
( أ ) ما رواه جماعة من الصحابة من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه - صلى الله عليه وسلم - أول الأمر، فلما صنع له المنبر، وقام عليه للخطبة، سمع للجذع صوت كحنين الناقة إلى ولدها . فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليه فسكت.
قال العلامة تاج الدين السبكي: حنين الجذع متواتر، لأنه ورد عن جماعة من الصحابة، إلى نحو العشرين، من طرق صحيحة كثيرة تفيد القطع بوقوعه . وكذلك قال القاضي عياض في الشفاء: إنه متواتر.
( ب ) ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد عن جماعة من الصحابة، من إفاضة الماء بغير الطرق المعتادة، وذلك في غزواته وأسفاره - صلى الله عليه وسلم - مثل غزوة الحديبية، وغزوة تبوك وغيرهما.
روى الشيخان عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا بالزوراء فدعا بقدح فيه ماء، فوضع كفه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، وأطراف أصابعه، فتوضأ أصحابه به جميعًا.
وروى البخاري عن البراء بن عازب أنهم كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية أربع عشرة مائة (أي 1400)، وأنهم نزحوا بئر الحديبية فلم يتركوا فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسالم فأتاها، فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء، فتوضأ، ثم تمضمض ودعا، ثم صبه فيها . قال: فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا (سقتنا وروتنا) ماشيتنا نحن وركابنا. والأحاديث في إجراء الماء له - صلى الله عليه وسلم - كثيرة مستفيضة، ومروية بأصح الطرق.
(جـ) ما حفلت به كتب السنة من استجابة الله تعالى لدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواضع يصعب حصرها، مثل دعائه بإنزال المطر . ودعائه يوم بدر بالنصر، ودعائه لابن عباس بالفقه في الدين، ودعائه لأنس بكثرة الولد، وطول العمر، ودعائه على بعض من آذاه .. إلخ.
( د ) ما صح من الأنباء بمغيبات وقت كما أخبر بها - صلى الله عليه وسلم -، بعضها في حياته، وبعضها بعد وفاته، مثل فتح بلاد اليمن وبصرى وفارس، وقوله لعمار: " تقتلك الفئة الباغية " وقوله عن الحسن: إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين ... إلخ . ومثل إخباره بفتح القسطنطينية وغيرها.
ونكتفي هنا بما اشتهر من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين اختفى في الغار عند الهجرة من المدينة، جاءت حمامتان فباضتا على فم الغار كما أن شجرة نبتت ونمت فغطت مدخل الغار . فهذا ما لم يجئ به حديث صحيح، ولا حسن، ولا ضعيف.
أما نسج العنكبوت على الغار فقد جاءت به رواية حسنها بعض العلماء، وضعفها آخرون .
وظاهر القرآن يدل على أن الله تعالى أيد رسوله يوم الهجرة بجنود غير مرئية كما قال تعالى: (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها) والعنكبوت والحمام جنود مرئية ولا شك والنصر بجنود غير مشاهدة ولا محسة أدل على القهر الإلهي والعجز البشري. وإنما اشتهرت هذه الخوارق بين جمهور المسلمين بسبب المدائح النبوية، للمتأخرين وبخاصة مثل " البردة " للبوصيري التي يقول فيها:
ظنوا الحمام، وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحم.
وقاية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الأطم.
فهذا هو موقفنا من الخوارق والمعجزات النبوية المنسوبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.(/2)
المعرفة
في مجتمع أمي ، و تحت قيادة نبي أمي و على الرغم من فقر المسلمين و شدة حاجتهم إلى المال ، إلا أن الرسول صلى الله عليه و سلم جعل فدا الأسير من أسرى بدر تعليم عشرة من الصحابة القراءة و الكتابة ، فكانت تلك النوعية الجديدة من الافتداء بمثابة الفهم و التطبيق العملي للأمر الآلهي ( اِقرأ ) لأمة أراد الله تعالى لها أن تتربى على الوعي بأهمية العلم و خطورة مكانته في صناعة الحياة ، فلم يأتي الأمر بالاستزادة إلا منه ( و قل رب زدني علما ) ، و لا تكون الرفعة لهذه الأمة بالإيمان وحده من دون العلم ( يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات ) ، و هو سبب الاصطفاء عند القيادة ( قال إن الله اصطفاه عليكم و زاده بسطة في العلم و الجسم ) ، ( قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون ) و هو الضمان لاستمرار حكم الحاكم ، فأي حكم يدوم مع الجهل ( و كلا آتينا حكما و علما) ، و هو سبب التفضيل على باقي الأمم و قد يأتي قبل الإسلام و الإيمان ( و أوتينا العلم من قبلها و كنا مسلمين) .
و قد ذكر صاحب فتوح البلدان أن حفصة بنت عمر رضي الله عنها قد تعلمت أصل الكتابة على يد الشفاء العدوية و قد أسلمت و حسن إسلامها ، فلما تزوجت حفصة من الرسول صلى الله عليه و سلم ، ما كان منه إلا أن طلب من الشفاء أن تكمل معها و تعلمها تحسين الخط و تزيينه كما علمتها اصل الكتابة ، و هو النبي الأمي ، فما بال الرجل المسلم اليوم إذا تفوقت اِمرأته عليه علماً و حكمة !
و لأهمية العلم خالف ابن الجوزي و بعض العلماء أهل السنة و الجماعة في تحديد أول ما يجب على المكلف ، فأهل السنة و الجماعة على أن أول واجب هو "الشهادة" ، في حين ذهب ابن الجوزي أن أول واجب على المكلف هو معرفة الله و معرفة الطريق الموصلة إلى ذلك عن طريق النظر و الاستدلال .
و لكم حفلت العصور الإسلامية المتقدمة بالعلماء الموسوعيين و احتلت الثقافة المكانة التي تليق بها من خلال الترجمة و الإطلاع على ثقافات الشعوب الأخرى ، و لكم ساهمت المعارف و العلوم الإسلامية في تشييد حضارة الغرب ، فما الذي آل بنا لتكون سمة العصر الذي نحياه هو الزهد بكل ما تعني هذه الكلمة في طلب العلم و التزود من المعرفة بالرغم من هذه الثورة الهائلة في عالم التقنية و الاتصالات و التي كان من المفترض أن تساهم في رفع المستوى الثقافي و الفكري للشعوب العربية ، إلا أن الحال صار كما عبر عنه فضيلة الدكتور بكار أن التلفزيون قتل الكتاب ،
و يمكن للمرء أن يضيف بلا مجازفة أن الانترنت و الذي انتج لنا ما يمكن أن نطلق عليه ثقافة "التيك واي" قد أخفى الجثة تماماً عند البحث عنها و محاولة ترميمها ، فقط من اجل الإبقاء على صورتها!.
و نحن نستقبل عاماً دراسياً جديداً ، و الذي بات كضيف ثقيل يحمل معه الكثير من الهموم و المتاعب للطلبة و الطالبات ، يصاحب هذا الشعور عزوفاً لدى الكثير منهم عن التزود بمعارف إضافية و الاكتفاء بأقل القليل من المعلومات لضمان النجاح و الحصول على الشهادة المنشودة .
من سلك طريقاً يبتغي به علماً نافعاً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ، و الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم و تستغفر له حتى الحيتان في البحر ، مع رفعة شأنه و مكانته في الدنيا ، لماذا غابت هذه المحفزات عن أذهان الكثير من طلبة العلم اليوم ؟
هل لغياب المحفزات المادية كالمال ، فكثيراً ما يحول الفقر دون إكمال المسيرة التعليمية للطالب و بخاصة مع ارتفاع أسعار المستلزمات الدراسية لكثير من الأسر ،
أم هي البيئة و التي أحياناً تكون محفزة و قد تكون مثبطة و بخاصة في الأوساط التي تعنى كثيراً بالحرف و ترى فيها سبيلاً مضموناً للاستقرار المادي ،
أم الحالة المتردية للكثير من المدارس و الجامعات من ناحية نقص الإمكانات ،
أم التخبط في السياسة التعليمية حتى باتت الثانوية العامة على سبيل المثال في الكثير من البلدان العربية حقل تجارب بين الرغبة في التجديد و اللحاق بركب الحضارة و لكن من دون تخطيط جيد مما ينشأ عنه الكثير من التخبط و العشوائية ، فيفقد الطالب الإحساس بالاستقرار إذ هو معرض دوماً لتغيير النظام و الآليات التي من خلالها يتلقى تعليمه،
أم هي سياسة التلقين و التي لا زالت معتمدة إلى الآن مقابل ندرة البحث و الاهتمام به و توفير أدواته،
وعليه فهل المؤسسة التعليمية في أوطاننا العربية بحاجة إلى إصلاح و هل يمكن القيام بذلك من دون فك الارتباط بينها و بين القرار السياسي ، فلا زال معظم الإنفاق في الدول العربية يخص المجال العسكري ،
أم المعلم هو الذي بحاجة إلى هذا الإصلاح و التطوير ، فهو صاحب أسمى رسالة في هذا الوجود و مع ذلك فكثيراً ما يؤديها على أنها وظيفة يتقاضى أمامها راتب و ينتهي دوره بذلك ،
أم المناهج هي التي بحاجة لهذا التطوير و كيف يمكن تفعيل هذا التطوير بأيدينا لا بأيدي غيرنا؟(/1)
الأنشطة الرياضية و الفنية و الثقافية في المدارس و الجامعات هل تصب في النهاية في تنمية قدرات الطلبة و حثهم على الاستزادة من العلوم و المعارف أم أنها لا زالت مجرد مواد يحصل الطالب من وراءها على بعض الدرجات و لا شيء أكثر من ذلك .
التعليم الخاص ،هل استطاع أن يضيف جديداً للمسيرة التعليمية في وطننا العربي أم انه أصبح عبئاً مضافاً من أعباء كثيرة ترزح تحت وطئتها المؤسسات التعليمية .
التعليم عن طريق الانترنت ، هل يمكن أن يغني في يوم من الأيام عن الحاجة للمدارس و الجامعات ، و هل سيكون ذلك في صالح بناء الفرد الذي يعول عليه لبناء المجتمع الصالح المصلح و من ثم الأمة كلها ؟
شارك برأيك .
آخر تعديل بواسطة عين الحياة ، 03-09-2006 الساعة 03:28 PM.
الحياة كلمة
عرض الملف الشخصي الخاص بالعضو
إرسال رسالة خاصة إلى الحياة كلمة
إرسال بريد إلكتروني إلى الحياة كلمة
إيجاد المزيد من المشاركات لـ الحياة كلمة
إضافة الحياة كلمة إلى قائمة الأصدقاء لديك
Unread 02-09-2006, 04:08 PM ... #2
عين الحياة
مراقب الحياة كلمة
تاريخ التّسجيل: Dec 2005
المشاركات: 1,490
عين الحياة is on a distinguished road
الرد مع إقتباس
عين الحياة متصل الآن
...
إفتراضي
شوق المعرفة وشوق الشهرة
سلمان بن فهد العودة 25/8/1425
09/10/2004
عرفتك في صباك، ومقتبل عمرك، تحشد الصغار حول ذاتك ممثلة في رؤى متطرفة، وأفكار شاذة، أجمل ما فيها لديك أنها ضد ا لناس، فأنت لا تطيق السير ضمن الآخرين أو معهم؛ لأنك تريد وهجاً خاصاً، وبريقاً مختلفاً، ولا تصبر عن الأضواء، ولا تحتمل البعد عن الضجيج.
وأراك لم تطل بك فترة اعتدال ورَشَد؛ بل كانت ومضة عابرة، أشبه ما تكون بمرور قسري دون توقف، عبوراً إلى الضفة الأخرى، حيث سراب التألق والإثارة.
ورأيتك بعدُ - مراراً - ويدي على قلبي؛ لأني أرى قلقاً فكرياً، واضطراباً منهجياً، ليس دافعه التطلع إلى المعرفة، والتشوف إلى تكميل النقص، والتساؤل المشروع، والبحث الموضوعي؛ بل الشوق إلى موقع غير المواقع العادية، لا تملك آلته ولا تحوز إمكانياته، فقررت أن يكون الوصول إليه بأي ثمن.
إنني أقدر رغبة الإنسان في الشهرة، ومحبته للذكر الحسن، لكني أتعجب ممن يطلب الشهرة ولو بـ"اللعن" كما يلعن إبليس.
وأقدر طموح الإنسان إلى مواقع التأثير في مجتمعه، أو حتى في الفكر الإنساني، كما يحلو لك أن تقول وأن تتمنى، لكن آلية هذا ليست بقذف الحصى في البحيرة الكبيرة فإذا ما أحدثت دوائر متلاشية عند سقوطها حسبها إبداعاً وتأثيراً.
وإنما آليته بالتذرع بالصبر، وطول النفس، وإدمان القراءة، ورعاية القيم، والحفاظ على سكينة الناس، وهذا طريق تنقطع دونه أنفاس الكثيرين ممن لا يملكون إلا الأمنيات.
المصيبة فيمن يملك الرغبة في الأضواء ولا يملك أداتها؛ فيصير إلى صناعة المفرقعات الجوفاء التي يصدق عليها أنها لا تنكأ عدواً، ولا تقتل صيداً، ولكنها تفقأ العين، وتكسر السن.
إن الحياة إذا خلت من الانضباط لم تعد حياة إنسانية، فليس صحيحاً أن الله يعبد بالحب وحده، وإن كان الحب هو أقوى المشاعر عاطفة، وأزكاها إحساساً.
بيد أنه لا بد معه من الخوف الذي يَزَع الإنسان عن الفجور، والاندفاع المريض، ولا بد من الرجاء الذي يضمن تعلق العبد بربه، وتطلعه إلى فضله.
والذين كفروا بالله، وجحدوا آياته في الفلسفة الأوروبية، من أمثال " نيتشه " آل بهم الأمر إلى أن كفروا بالإنسان وأخفقوا في إصلاحه؛ فأعلنوا موته أيضاً، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [(19) سورة الحشر].
إن مجرد التفلّت من الضوابط والأصول والاعتبارات الشرعية المحكمة ليس إنجازاً ولا يصنع تأثيراً في الفكر الإنساني.
فقصارى ما تقوله هنا هو ترديد بعض حواشٍ كتبها الفلاسفة الماديون، أو الصوفية المغالون.
ولقد نظرت إلى عبارتك في الحب فوجدتها قولاً على قول، ولا تبلغ في رشاقتها شيئاً بالقياس إلى قول الصوفي ( ابن عربي ):
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي *** إذا لم يكن ديني إلى دينه دانِ
فأصبح قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ *** فمَرْعىً لغِزْلاَنٍ ودَيرٌ لرُهْبانِ
وبَيْتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ *** وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ
أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ *** رَكائِبُهُ فالحُبُّ ديني وإيماني
ونظرت في كلماتك في الإنسان فوجدتها سطراً باهتاً، من قاموس الوجودية، وماذا عساك تبلغ مما بلغوا؟!
قد يظن المرء أنه بعقله الغض -الذي لم يمارس حقه في التفكير العلمي الرزين- قد اختصر مسافات طويلة، شابت فيها لحى علماء، وبلغوا الهرم، وقضوا عمراً مليئاً بالبحث والدرس والتحقيق والحيرة أحياناً.
وها هو يباريهم فيما يحسبه إبداعاً، ويظنه خَلْقاً آخر، وهو صدى أجوف وترديد ساذج لمقولات آخرين.(/2)
لستَ أوّلَ من حط رحله في هذه الصحراء الموحشة، بعيداً عن التقوى والمراقبة ورعاية حق الله الخالق العظيم، ولعلك إن لم تسبق إليك منه رحمة ـ ستبقى وحيداً في غربتك إلى الأبد.
عدتَ من حيث بدأت، مكاناً تأباه العقول الناضجة، وترفضه النفوس السليمة من الأمراض والعلل والتعقيد، وسيطول انتظارك قبل أن تفرح بقادم إليك يعزز وحدتك.
فإن الإيمان الذي ترعرع عليه النشء أصبح جزءاً من شخوصهم وأصلاً في كينونتهم.
فهم وإن أبدوا مرونة وتسامحاً في أشياء، إلا أن اعتصامهم بربهم الأعلى، واستمساكهم بمحكمات التنزيل، وخوفهم من الدار الآخرة ولقائها؛ بل ومن الموت وقبضته التي لا يفلت منها مخلوق هو سياج منيع وحصن حصين دون تسلل نزعات الوجودية العمياء.
وإن من بؤس المجتمعات الإسلامية أن ألفتها تحديات العولمة وانفتاحها الهائل في الثقافة والفكر والمعرفة والإعلام، وفي السلوك وأنماطه، إضافة إلى التراجع السياسي الذي يكاد يصل إلى حد الإخفاق التام؛ فولّد هذا لدى بعض شبيبتها انفصالاً عن قيمها، واستحياءً من أصولها، وازدراء لكل ما يمت إليها بسبب، وهي حالة نفسية وعقلية في الوقت ذاته تتطلب من المصلحين يقظة وحضوراً قوياً وجهاداً مريراً، لا لمعالجة حالة فردية محفوفة باعتبارات خاصة كما أسلفت؛ ولكن لاستدراك حالة الانفتاح العام؛ لترشيدها وضبطها، والإفادة منها، وحمايتها من أن تتحول إلى زلزال مدمر يأتي على الأصول والقواعد، ويهدم السقوف على سكانها.
فاللهم احفظ شباب المسلمين، وبصّرهم بحقيقة دينهم، واصرف عقولهم وقلوبهم إلى ما هو الخير والرشاد، وقهم برحمتك شر نفوسهم وشر الشيطان وشركه إنك جواد كريم.
الحياة معرفة...
كم استبشرت بهذه الحلقة، وكم رأيت اسمها موفقا... فلم يقل المقدم الكريم "الحياة علم أو تعلم"..ولقد قال "الحياة معرفة"... و كأنه يشير إلى العلم الذي لا ياتي إلى بخبرات الحياة و التعارف... فالمعرفة هي العلم العملي...
إن المَعْرِفَةُ : إدراكُ الشيء على ما هو عليه... فالمعرفة ادراك بالمعاملة... إنها أخذ العلم النظري و فهمه عمليا على حقيقته بأقرب السبل الممكنه لذلك، للإنتفاع منه....
وقد خلق الله الإنسان من طين ثم نفخ فيه من روحه و علم آدم الاسماء كلها و عرف الله بهذا الملائكة على قدرته و حكمته، التي كانوا يعرفونها و لكنهم عرفوها بهذا البيان اكثر و تغلغل فيهم آثارها و نطقت بها: (( سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ))...فالملائكة أغير المخلوقات على حرمات الله و احبهم لطاعته (عامة).... ثم ترك آدم في جنة الخلق يأكل و ينعم، و حذره الله فيها من عدوه و من الاكل من الشجرة وعلمه ذلك، و لكنه أكل فلما أكل بدت له سوأته و عرف ضرر معصية الله و الاكل من الشجرة، و هبط آدم للأرض... و عرّف الله المؤمنين، و بني اسرائيل، و علمهم من هذا الهبوط... فالمعرفة هنا علمية المتراكمة، قصصيه، و التي تزيد في خبرات الإنسان اعمارا مع اعماره، و خبرات مع خباراته، و تثقل و تطيب حياته، ذلك إن كانت صحيحة في اصلها و ما بنيت عليه، و إلا كانت خبرات شيطانيه، أو متمزاجه، وما غلب غلب....!!!
قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ «38» وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ «39» يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ «40» وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ «41» وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ «42» وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ «43» سورة البقرة
نعم فقد تنتج لك معرفتك ناتجا خطأ، و لكنها إن كانت تستند لاصول ثابتها و بنيان صحيح فسرعان ما تقوم لتعود إلى المسار صائب... و الصدق نجاة...
نعم فالآليات التي يتعامل الإنسان بها مع العلم المقروء، هي بفضل الله سبب نجاته... فطبيعي أن يسبق بعض العلم النتيجية و طبيعي أن تسبق المواد الخام المنتج، و لكن طريقة الانتاج و آلياته و رسومه و علومه هي التحدد لنا كفآة المنتج و قابليته للتقدم و النفع، ثم الاهم هو الناس الذين هم أصل هذا المنتج...(/3)
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ «71» أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ «72» نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ «73» فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ «74» فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ «75» وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ «76» سورة الواقعة
إقتباس:
....و قد يأتي (العلم) قبل الإسلام و الإيمان ( و أوتينا العلم من قبلها و كنا مسلمين) .
فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ «42» وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ «43» قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ «44» سورة النمل
نعم فبلقيس علمت أنه عرشها و لكن لم تعلم كيف وصل قبلها إلى سليمان، فلم تدرك كيف تربط الحدث بالسبب فتوقفت بحكمتها ((...قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ...)) و كان سليمان يعلم و يربط الحدث بسببه ((...وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ «42» وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ «43» ))... نعم فمعاشرتها و نشأتها بين كفار حال بينها و بين ربطها السليم و ايمانها الصحيح، و لكن لم يحل بينها و بين اكتسابها لآليات الحكمة و الصدق، ولو لم تكتمل هذه الآليات و تتسع و تشمل الأفق الاكبر من الحياة...((قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ...))... نعم وهنا، و من خلال التجربة، تعرفت بلقيس و ايقنت إن هنالك شيء أكبر مع سليمان، و قبلها كانت ادركت أن سليمان أكرم، فجمعت بين كرمه و قدراته مع العلم الرباني الذي قدمه لها عن الله ((...قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ «44»))... نعم هنا أسلمت مع سليمان، وهذا غير اسلامها لسليمان قبل اسلامها معه!!!...((قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ «29» إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ «30» أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ «31»... فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ «36» ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ «37» قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ «38»))...
فالمعنيين للإسلام -اللغوي و الاصطلاحي- لا يتنافوا مع آليتها و حكمتها و طبيعتها... ولكن الإسلام الاول اسلام لظروف خارجية و معرفة واقعية و طبيعة شخصية... أما الإسلام الثاني فاسلام اختياري ايماني لحقيقة دخلت قلبها فلم تجد كبرا و تغلبت على عقبة النشأة الضالة و العادات الخاطئة و عُرّفت و نسخت معاني العبادة الخاطئة و ترسخت في عقل واعي و افرزت اسلاما لله الواحد القهار، القدير الكبير، رب العالمين، نقطت به جورحها... وما كفر سليمان و لكن الشياطين كفروا... وهي أول كلمة فتنة ذكرت في سياق نص القرآن... فالسحر يسحر العين عن رؤية رب الأرباب و يربطها بالأسباب الخفية إلى الساحر....((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا)) سورة الكهف
إن هذه السلسلة العلمية القصصية المعرفيه النورانية يقصها علينا القرآن...ففي القرآن خلاصة الخبرات المفيدة للامم السابقة بتوضيح إلاهي رباني، و ارشادات ربانية....
فلاغرابة أن تكون أول آية نزلت على قلب محمد الصادق الأمين اقرأ -صلوات رب و سلامه عليه و على سائر الأنبياء و المرسلين-...
نعم اقرأ هذا الكلام بقلبك السليم، و صدرك المشروح و عقلك ذو الاخلاق الطيبة و الآليات السليمة، أقرأ باسم ربك، اقرأ مستعينا بربك، اقرأ متعاملا و متعرفا، راجيا و متقيا و محبا لربك، اقرا و ربك الأكرم....ثم يفتر الوحي... ثم يعود....ثم يقلب و جهه في السماء.... ثم يثبّت و يرشد إلى الافضل بفضل الله.... فسبحان الله و بحمده، سبحان الله العظيم.... والله أعلم(/4)
__________________
كلما ازداد علمك
ازدادت بصيرتك بعظمة و جلال وكمال
كلمات القرآن
الربانية المحفوظة و الخاتمة للرسالات،
و السنة النبوية
البشرية النبوية التطبيقية المفسرة له...
وكلما اتسع افقك رأيت القرآن أوسع و اكرم...
وكلما ارتقيت علميا زاد يقينك بعجزك على الإتيان بمثله...
ورددت بخشوع العالم العبد المتعلم: "آمنا به كل من عند ربنا..."
كيف لا... وهو كلام الله المنزل وختام شرائعه المحفوظ و اكمال دينه و هدايته...
والله أعلم و اكرم...(/5)
المعلم من الواجب الوظيفي إلى الواجب الرسالي
د. عثمان علي حسن*
مقدمة
إن واقع المؤسسات التربوية والتعليمية في بلادنا العربية والإسلامية ليس بالمحل المأمول، ولا بالمكان المحمود؛ ويكفي أن تتعرف على شريحة منها لتنبئك عن البقية، في مناهجها، وعناصرها، ونظم إداراتها، ومدخلاتها ومخرجاتها، وغير ذلك مما له صلة.. فهذه المؤسسات بحاجة ماسة ومستمرة للإصلاح والتقويم، والتجويد والتحسين، والتطوير والتعديل؛ حتى تنهض بدورها العظيم في الأمة؛ توجيهاً وإرشاداً وتعليماً وإعداداً، وتزويداً للمجتمع بالكوادر الصالحة النافعة الفاعلة في شتى جوانب الحياة.
وعملية الإصلاح هذه تحتاج إلى تضافر جهود، وإلى بذلٍ وتضحيات، وعزمٍ وصدق نيات، ولا يُنكَر ما قام ويقوم به بعض أهل العلم والفضل والسبق من جهود مشكورة، ومساعٍ حميدةٍ مبرورة، لكن مع ذلك فالساحة العلمية والعملية بحاجة إلى المزيد من الجهود والإضافات، ومشاركتي تأتي فيما له علاقة بالمُعَلِّم الذي هو العمود الفقري للعملية التعليمية والتربوية، أحاول فيها أن أرسمَ صورةً للمعلم المثال، صورةً قابلةً للتطبيق والتحقيق؛ صورةً آمل أن تتصف بالعمق والإحاطة، والتكامل والجمال، للمعلم صانع الأجيال. فمِن بين يديه يتخرج القادة والساسة، والآباء والأمهات، وكل ذي رعية ومسئولية.
ولا بد أن أشير هنا إلى ما استفدته من أمثال بدر الدين ابن جماعة في كتابه: تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، والخطيب البغدادي في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، ومن المُحْدثين العلاّمة الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه: الرسول والعلم، والشيخ محمد بن عبد الله الدويش في رسالته صغيرة الحجم عظيمة النفع: المُدَرِّس ومهارات التوجيه، فقد أفدت من هذه الكتب فوائد جمّة، تستحق التنويه بها، والتشجيع لمراجعتها.
فأرجو أن تكون أوراقي هذه ترجمةً صادقةً لِما أمّلت، وتأويلاً لما تمنيّت، فهو جهد أُضيفه لجهود من سبق، عساه أن يكون زيادة في الخير، وحثاً على السير، وعلى الله قصد السبيل..
أهمية الموضوع:
إن الناظر في حال مجتمعاتنا الإسلامية والعربية، أي في حال الأمة جمعاء، يلمح بوضوح أنواعاً من الخلل قد انتظمت كافّة مناحي الحياة وشرائح الأمة، فهذا أمر لا تخطئه عين، إذ هو خلل واضح وقصور فاضح، إنْ كان في الأداء السياسي على مختلف مستوياته، أو في الأداء الاجتماعي على تنوع أحواله، أو في الأداء الاقتصادي في جميع مجالاته.
فهذا حاكم مستبد وصل إلى سُدَّة الحكم على غير رضىً من رعيته، فعمل على كل ما يضمن له الاستقرار والاستمرار على رغم الأنوف، دون مُراعاةٍ لحقوقٍ أو أداء لواجبات، ومثله وزيرٌ لم يُصَدِّق أنّه في هذا المكان حتى أعمته نفسه ومَنْ وراءه مِن أهلٍ وعشيرة عن النظر في واجبات الوظيفة ومتطلباتها، وفي المقابل معارضٌ التزم بالكلمة لفظاً ومعنى، لا يرضى بالحقّ ما دام قد خرج مِن غير إنائه، ولا يؤيد الخير ما دام قد صدر عن خصومه، ولا حرج عنده أن يُدمِّر كل مكتسبات دولته إذا كان ذلك يوصله إلى السلطة، فهو معارضٌ وكفى.
وهذا إعلاميّ همّه الربح المادي أو الشهرة؛ فجعل الإثارة ديدنه، ودغدغةَ الغرائزِ مركبه، غير مبالٍ بقيمٍ ولا أخلاق، ولا وقائعَ ولا حقائق، مجانبٌ للصدق ومعايير المهنة.
وذاك محامٍ تتصارع على لسانه الكلمات، ويلعب بها لياً ودفعاً للحقّ، وهو أول من يعرف أن موكله ليس له في الحقّ نصيب، لكِنّه يسعى بكل جُرأة مستغلاً ما في القوانين من ثغرات ليستخرج لصاحبه صك البراءة المزور.
وهناك يقف رجلُ أمن تصور من نفسه أنه القانون والنظام، وأنه الخصم والحكم، فيرمي بين الناس آلة البطش والقهر، ويوقع فيهم الرعب والخوف بدلاً من الأمن والطمأنينة، دون أن يجد من يردعه أو يحاكمه..
وهذا عالم في علوم الشرع متبحر، ومن تفاصيله متمكن، لكن أحواله وأفعاله تصادم أقواله ومواعظه، أو هو منكفٍ على نفسه يؤدي وظيفته التي أنيطت به في برود مميت، وتخشب معيق، لا يكاد يهتم بما يدور حوله من انفلات أو انقلاب على أمور الشرع.
وهذا زوج عرف كيف يستَلّ هذه الفتاة من أهلها بدفعه المهر، لكنه لم يحسن الاختيار، أولم يحسن المعاملة؛ حتى تحولت الحياة الزوجية من السكينة إلى الرعب، ومن المودّة إلى البغض، ومن الرحمة إلى القسوة، وقد تكون صاحبته وأهلها وراء هذه النتيجة السلبية.
وهناك أبٌ أظهر فحولةً في إنتاج الأولاد، لكنه فشل في تريبتهم وإعدادهم؛ فكل همّه أن يفرغ في أفواههم أطايب الطعام، ويلف أجسادهم بمحاسن الثِياب، غير آبه بما يحيطهم من سيء الأخلاق، والله تعالى يقول: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى) [سورة طه: 132].(/1)
وهذه فتاةٌ أو امرأة تستجيب بغباءٍ لمغازلة بيوت الأزياء؛ لا تكاد تردّ يد لامس، حتى تجردت تماماً من عقلها وإحساسها وشخصيتها وإرادتها كما تجردت من ثيابها وحشمتها، فهي تلهث في طلب الحرية حتى وقعت في أذل سجن وأخبث قيد.
وهذا تاجر جشع إن أخذ استوفى وأغمض وطفف، وإن أعطى أنقص ودلّس وأخسر، جعل الحلف بضاعته، والغِشّ تجارته، فهو يسلك كل وسيلةٍ لإطفاء نار جشعه.
وهكذا تتعدد صور الخلل في مجتمعاتنا على تفاوتٍ بينها، لتعكس واقعاً مريراً، وتحكي حالةً مزرية. ولا ننكر وجود صورٍ مشرّفة هنا أو هناك فالخير في الأمةٍ باقٍ، لكنها تكاد تنطمس في هذا الركام الآسن، والزحام الغائم، أو أنها لا تمثل أستاذية الأُمة وريادتها التي ينبغي أن تكون عليها.
ولعل تلك الصور السلبية جميعها لا تبلغ ما بلغه الخلل في مهنة التعليم، لأنها نتاجه وإفرازه، فلو تتبعنا هذه الصور السلبية والظواهر الخاطئة باحثين عن أسبابها وعللها، لقادنا البحث والتتبع والقراءة الفاحصة والمتأملة إلى سببٍ واحدٍ، ألا وهو التعليم، فالمرض الذي أصاب هذا الجانب الأساس من حياتنا هو الذي أفرز تلك الصور السلبية التي أشبه ما تكون بأعراض لمرض مركزي، والتي مهما بذلنا في إصلاحها لن نصل إلى غايتنا ما دام المرض المركزي لم تصله يد الإصلاح ومِبضع الجراح.
فالإصلاح في قطاع التعليم يعني الإصلاح في كل القطاعات الأخرى، فهو القلب الذي بصلاحه يصلح الجسد كله، فلا بد من توجيه العناية المكثفة إليه، ولا يعني هذا الانقطاع عن إصلاح القطاعات الأخرى حتى ينصلح القلب (التعليم)، بل ينبغي أن تسير عملية الإصلاح في خطوط متوازية ومتوازنة، مع التركيز على منطقة القلب فهي الرافد الأساس والمحرك الرئيس. والاهتمام بهذه القطاعات مهم جداً أثناء عملية الإصلاح المركزية حتى لا تعوق تدفق الدماء الحارة والمتجددة مِن المركز الرئيس.
وأيضا هناك شكوى عامة قائمة في عالمنا العربي والإسلامي من تدني مستوى التعليم الجامعي، ويعزون ذلك إلى ضعف التعليم العام باعتباره الرافد له، لكننا عند التأمل نجد أن القائمين على التعليم العام ما هم إلاّ متخرجوا التعليم الجامعي، فيعود الأمر جَذَعاً، أو دوراً، فلا بد أن تتسم عملية الإصلاح بالشمولية لجميع قطاعات التعليم؛ حتى يأخذ بعضها بحُجَز بعض.
فدور التعليم إذن جِدّ كبيرٍ وخطير؛ إنْ في الإصلاح وإنْ في الإفساد، فما مِن فردٍ مِن أفراد المجتمع إلا وقد مرَّ بمرحلةٍ أو أكثر مِن مراحل التعليم، قد كان له فيها مُعَلِّم يتلقّى عنه، ويتأثر به، فحاجة الناس إلى المُعَلِّم فوق كل حاجة، ووجوده وأثره في حياتهم ـ إن استغل بالشكل الأمثل ـ بارز وظاهر، فتعليم ناجح يعني مجتمعاً ناجحاً.
وإذا كان التعليم: مُعَلِّماً ومُتعلماً وكتاباً، إلا أن نصيب المُعَلِّم أكبر، فهو إضافة إلى كونه الوَصلة بين المُتعلم والكتاب، فهو أيضا مُربٍّ وقدوةٌ وموجهٌ ومرشدٌ إلى غير ذلك من الصفات التي قد لا تُوجد في الكتاب وحده، وإن وجدت لم يمكن الإفادة منها بالشكل المرجو، ولهذا سيركز هذه البحث الكلام على المُعَلِّم ودوره في العملية التعليمية، وبالأخص على الجانب التربوي منها، باعتباره الجانب الأكثر أهمية وخطورة في الوقت ذاته.
فالتعليم واحدٌ مِن مؤسسات مجتمعاتنا التي أصابها الخلل؛ ذلك الخلل الذي برزت آثاره وصوره المتعددة في باقي مؤسسات المجتمع كما سلف التمثيل لها.
لمن هذا البحث؟
هذا البحث مقصود به المُعَلِّم أينما كان موقعه، وفي أي مرحلة من مراحل التعليم يعمل، وكيفما كان نوع التعليم الذي يمارسه، ونوع التخصص الذي يقوم بتدريسه، بل قد يعني كل من يتصدى لعملية التعليم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فالأب مُعَلِّم في بيته ومثله الأم، والخطيب وإمام المسجد مُعَلِّم في مسجده، والحاكم ومثله القاضي والمدير معلمون كلٌ في دائرته، وكذا كل مسئول يمكن أن يكون مُعلِّماً لمن هم تحت مسئوليته بنوع من التعليم يتناسب ومهنته ومكانته؛ لأنهم يفيدون من خبرته وتوجيهاته، ومن حسن سمته، وجمال تعامله، وجودة إدارته، ودقة تصريفه ومعالجته للأمور، إلى غير ذلك من أنواع التعليم.. وقد جاء في الحديث العظيم المبنى والمعنى: "كلكم راع ومسئول عن رعيته؛ فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" [صحيح البخاري (الفتح) 5/11 كتاب العتق ح:2554، وصحيح مسلم 3/1459 كتاب الإمارة ح:1829].(/2)
لكن مهمة المعلم المدرسي تتعاظم لأنه الشخص المختار لعملية التعليم المنهجية، والتي يمر بها معظم الناس، إن لم نقل كلهم، فأي فرد من أفراد المجتمع لا بد أنه تلقى نوعاً من التعليم، ومرَّ بمرحلة من مراحله، فالمُعَلِّم تتخرج من خلاله قطاعات المجتمع كل في تخصصه وفنه الذي اختاره أو اختير له.
وغالباً ما تكون عملية التعليم توارثاً بين المُعَلِّم والمتعلم، فمتعلم اليوم سيكون مُعَلِّم الغد، كما أن مُعَلِّم اليوم كان مُتعلما بالأمس، وهكذا فهي عملية مُتوارثة، يتعاقب عليها كثير من الناس.
والمعلم ـ أيضاً ـ هو معلم مِن وجه ومتعلم مِن وجه آخر، حيث يقوم بتزكية نفسه وعلمه ومهاراته بجهده الذاتي، إضافة إلى وجود مَن يشرف عليه ويتابعه وينمي قدراته ومهاراته، ويسدد خُطاه نحو الطرق التعليمية الصحيحة على ما هو معروف في الأطر الإدارية في وزارات التعليم والتعليم العالي في بلدان العالم.
نماذج سلبية لبعض المعلمين: [قد استفدت أكثر هذه النماذج من رسالة: المدرس ومهارات التوجيه لمحمد بن عبد الله الدويش ص:13-16]
والآن أدلف إلى عرض بعض الصور السلبية لبعض المعلمين والتي ازدحمت بها مؤسسات التعليم على مختلف مراحله والتي كانت وراء تلك الصور الشائهة في مجتمعاتنا.
فهذا معلم لجأ إلى وظيفة التعليم بغية الامتهان؛ ينظر إليها على أنها مجرد سبب للتكسب والارتزاق، ولو كان يقدر على امتهان وظيفة أخرى غيرها تُحقق له مكاسب أكبر أو مثلها دون تحمل مشاق التعليم لقصدها، فهو صريع لميزان الربح والخسارة المادية، والحوافز والعوائق، يقابل بينها، دون نظر إلى رسالة التعليم وأهدافها السامية، فهو لا يحفل بها ولا تقع في دائرة همومه، فماذا يُنتظر من معلم الأجيال وهذه النظرة مسيطرة عليه، تملأ عليه مدراكه وهمومه؟!
ومعلم ثان يشكو دهره ويندب حظه، وهو منغمس في أعباء التدريس التي لا تكاد توفر له راحةً ولا تدرّ عليه مالاً يكافئ جهده، فما يبذله أكثر مما يحصل عليه، فتراه يتطلع إلى أقرانه الذين اختاروا أعمالاً أخرى غير التعليم؛ يتعاملون مع أوراق صماء، ويواجهون جمهوراً من الناس أرقى عقولاً وأسهل تعاملاً من أطفال المدراس، والأهم من ذلك أن تنتهي أعمالهم وعلاقتهم بدائرة العمل بانتهاء الدوام الرسمي، أما صاحبنا فأعباء المهنة تلاحقه حتى في أوقات راحته وأعياده وعطلاته الرسمية، وأقل ذلك همومهاً، فهو ينظر إلى نفسه أنه أخسر الناس صفقة، فأية فائدة تربوية ترجى ممن كان في هذه الحالة؟!
وثالث لا يهتم بما يدور خارج قاعة الدرس، فجل همّه إكمال المقررات والفراغ من تدريسها، والإتيان على عناصرها ومفرداتها لا يترك منها شيئا، هذا ما يشغله، وهو ما يوظف نفسه لتحقيقه، غير ملتفتٍ لغيره، وهذا منه حسن، لكنه فاقد الإحساس أو فاقد الغيرة على أحوال أُمته وأحوال أبناء المسلمين الذين يتهافتون على الفساد أمام ناظريه، دون أن يحرك ذلك فيه ساكناً، أو يثير فيه حميّة، كأن الأمر لا يعنيه في شيء؛ وإنما الذي يعنيه تدريس الفاعل والمفعول، أو توضيح المركبات وقوانينها وخصائصها. بل الأعجب أن يكون صاحبنا معلماً لمواد العلوم الشرعية، وهو مع ذلك منفصل تماماً عن واقع طلابه ومجتمعه.
ورابع لا يبارح تخصصه العلمي أو الأدبي البحت، بل هو يراوح بين نواحي المقرر والتخصص، لا يربطه بالقضية الكبرى، قضية الإيمان والأخلاق وتعميقها في نفوس طلابه من خلال تخصصه، ومراعاة ذلك في سلوكهم وفهمهم واستيعابهم، ظاناً أن هذا ليس من شأنه، ولا من مهامه، بل له أستاذ آخر ومقرر آخر، أما هو فليوفر جهده ووقته لما هو بصدده من قضايا التخصص.
وخامس؛ معلم لجأ إلى التعليم باعتباره الوظيفة الوحيدة المتاحة أمامه، لم يقصدها رغبةً ولا حرصاً، بل مُكره أخاك لا بطل، فهي الوحيدة التي تتناسب وقدراته ومؤهلاته، دون رغباته وتطلعاته، وحاله يحكي حال الآلاف من طلبة كليات الشريعة والعلوم الإنسانية والأدبية، الذين لجأوا إليها مكرهين مدفوعين بالأبواب، حيث حبسهم ضعف المعدل الأكاديمي عند هذه الحدود، ولم يمكِّنهم من تجاوزها إلى كليات أخرى كانت محط آمالهم، ومنتهى تطلعاتهم. فأي تفوّق وإبداع وأي إخلاص يرجى ممن هذا حاله سواء في الطلب، أو في العطاء.
وسادس.. وسابع ...
فهذه وغيرها صور سالبة متعددة تزدحم بها حياتنا التعليمية كان لها الأثر السيء والعميق في مؤسسات المجتمع المتنوعة على ما حكيناه سابقا.(/3)
ومع ذلك فإن العدل يقتضي أن نعترف ـ مقارنةً بالماضي عشيّة خروج المحتل ـ أن نسبة المتعلمين إلى مجموع السكان قد ارتفعت ارتفاعاً مطرداً ولا تزال في ازدياد، المعلم والمتعلم والمدارس والوسائل التعليمية ومن أهمها الكتاب، وصار التعليم إلزامياً في كثير من البلاد، لا سيما التعليم الابتدائي، وانفتح التعليم الجامعي أمام معظم فئات المجتمع بعد أن كان حِكراً على فِئات مُعينة؛ إما بسبب الانتقائية، وإما بسبب الضعف المادي لدى قطاعات كبيرة مِن المجتمع، وإما لأنه كان يعد ترفاً اجتماعياً في بعض الأوساط وفي أوقات مضت.
المهم أن التعليم الآن أصبح حاجةً اجتماعية، الحرص عليه لا يقل عن الحرص على بقية الحاجيات.
لكن كل ذلك لم يمنع مِن ظهور تلك الصور السلبية للمُعَلِّم، ويقابلها صور سالبة للمتعلم مِن الضعف العلمي والتربوي، مع ضعف الهمّة والطُمُوح، إضافة إلى أنّ المؤسسة التعليمية تعاني من إخفاقات كثيرة من أهمها: [انظر: مجلة البيان ـ الافتتاحية ـ العدد 16]
1- تغليب المستوي الكمي على المستوى الكيفي للمعلم والمتعلم.
2- النظرة الخاطئة نحو التعليم واعتباره وسيلة ارتزاق وليس غاية قائمة بنفسها، ومن ثم ربط بين التعليم وبين ما يسمى بحاجة سوق العمل.
3- اهتزاز قيمة المعلم الاجتماعية، وتقويمه تقويماً مادياً صرفاً، حتى صار المعلم أقل حظاً من ذوي المهن والحرف اليدوية التي لا تتطلب إعداداً علمياً أو تثقيفياً مثلما يحتاجه المعلم.
4- أصبحت مهنة التعليم من المهن المحتقرة في المجتمع، لا سيما في مجال التعليم العام، على الرغم من ما يقال من كلام إنشائي وخطابي في مناسبات تكريم المعلم.
فهل يُلام المعلم على قِلّة إخلاصه وموت طموحه نحو تقديم الأفضل؟!
فلنسأل كل إنسان هذا السؤال بمن فيهم المعلم نفسه: أتحب أن يكون ولدك معلماً؟
قليل مَن يورِّث ولده مهنة التعليم ومحبّة هذه المهنة، وتبعاتها من مكتبةٍ ونحوها، حتى علماء الشرع واللسانيات يوجهون أبناءهم توجيهات بعيدة عن مهنة التعليم؛ وذلك لأن إيقاع الحياة يسير في نواح أخرى، ويتطلب مهارات أخرى، وهو ما يسمى بسوق العمل الذي يفرض نفسه على توجه الأفراد، وكثيرا ما يكون هذا السوق أوهاماً من صنع الخيال، أو أنه نتيجة ولادة غير طبيعية تفرض وجودها مؤقتاً ثم تدور الحياة في اتجاهات أخرى جديدة، ومن الآباء المعلمين من يقول: يكفي أنا أكون الضحية في مجال التعليم، ولا يرضى لولده وفلذةَ كبده أن يشاركه هذه التضحية، ويخوض غمار هذه التجربة المريرة على حد زعمه..
المُعَلِّم الرسالي المنشود
أضع بين يديك ما قدرت على جمعه مما أراه لائقاً بالمعلم الرسالي أن يتصف به من الصِّفات، حتى يكون عنصراً فاعلاً في عملية التغيير الاجتماعي الكبرى المنشودة في الأمة، آملاً أن تجد مَن يؤمِّن عليها، ويضيف إليها، ومن يترجمها إلى واقع حي، وسلوك متميز.
الصفة الأولى: نيةٌ خالصةٌ وقصدٌ صادق
النية الصحيحة مطلوبةٌ في كل قربة يُرجى ثوابها عند الله، ومن ذلك التعلُّم والتعليم، ويتأكد ذلك في علوم الشرع، والنية تحتاج إلى مجاهدة في تحصيلها واستصحابها، وإلى مدافعة أضدادها ومفسداتها، والنية هي سبب قبولٍ وتوفيق، وحصول بركةٍ وتسديد، وقد افتتح الإمام البخاري وبعض الأئمة مؤلفاتهم بحديث إنما الأعمال بالنيات، وهي تدخل كما قال الإمام الشافعي في سبعين باباً من أبواب الفقه [جامع العلوم والحكم ـ ابن رجب الحنبلي ص:5] ، والعدد للتكثير لا للتحديد والاستقصاء.
فعلى المُعَلِّم أن يتحرى بعلمه وتعليمه وجه الله تعالى والدار الآخرة، لا مباهاة العلماء، أو مماراة السفهاء، أو مجاراة الأغنياء، أو مداهنة الأمراء، وفي الحديث: أول مَن تُسَعّر بهم النار ثلاثة نفر؛ باذلٌ للمال، وطالب للعلم، وخارج للقتال، لكنهم لم يقصدوا بأعمالهم إلا وجوه الناس وثنائهم، وقد وجدوا ما قصدوا إليه، فحرمهم القبول والثواب [انظر: صحيح مسلم3/1513 كتاب الإمارة ح: 1905.] وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعلَّموا العلم لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء ولا تخيَّروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار" [سنن ابن ماجه 1/93 المقدمة ح:254 قال في الزوائد: رجال إسناده ثقات. وانظر: مستدرك الحاكم 1/86 كتاب العلم].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله وسلم: "من تعلَّم علما مما يُبتغى به وجه الله تعالى، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرْف الجنة يوم القيامة" [رواه الحاكم في مستدركه 1/85 كتاب العلم وصححه، وأبوداود في سننه 4/71 كتاب العلم ح:3664، وابن ماجه في سننه 1/93 المقدمة ح:252] وعرف الجنة: ريحها.(/4)
مع ملاحظة أن الوعيد يلحق ـ كما أفهم الحديث ـ مَن قصد بعلمه الدنيا ومحَّض لذلك نيّته من غير التفاتٍ للآخرة، أما من أراد بعلمه الآخرة وأصاب مع ذلك شيئاً من الدنيا فلا يلحقه الوعيد، وقد تحدث الفقهاء عن جواز التشريك في النية كما في الحج: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) [سورة البقرة: 198] (ليشهدوا منافع لهم) [سورة الحج: 28]. ففرقٌ بين مَن يأخذ الدنيا ليتفرغ لعمل الآخرة، وبين من يعمل عمل الآخرة ليأخذ الدنيا، فتأمل؛ فإنه موضع الزلل [انظر: المرقاة شرح المشكاة ـ الملا علي القاري 1/287]. فالحديث إنما يَذُمّ مَن قصد الدنيا، لا من جاءته الدنيا بغير هذا القصد. والقرآن ذم من (طغى وآثر الحياة الدنيا) [سورة النازعات: 37] و(من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا) [سورة النجم: 29] و(من كان يريد العاجلة) [سورة الإسراء: 18] في مقابل (من أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن)[سورة الإسراء: 19]. والدنيا لا تُذَمّ إلا إذا قُصدت بعمل وعلم الآخرة، وكيف تُذَمّ الدنيا لذاتها وهي مزرعة الآخرة؟ ولهذا قال العلامة القاري في المرقاة: "أفهم الحديث أن من أخلص قصده فتعلم لله، لا يضره حصول الدنيا له من غير قصدها بتعلمه، بل مِن شأن الإخلاص بالعلم أن تأتي الدنيا لصاحبه راغمة.." [مرجع سابق 1/288].
وللعلامة الدكتور يوسف القرضاوي إشارة نفيسة [انظر: كتابه: الرسول والعلم ص: 97-98. وقد أفدت من الكتاب في مواضع غير هذا]: وهي أن كثيراً من طلاب العلم في عصرنا لا يتجهون إلى العلم بنيّة مبيتة، بل يوجههم إليه ـ في صغرهم ـ آباؤهم، أو مجموع درجاتهم، أو ظروفٌ خاصة بهم مثل ألا يكون في البلد إلا لونٌ معين مِن الدراسة يُفرض عليهم، ثم لا يلبثون إذا أدركوا أن يجدوا أنفسهم في معهدٍ ديني، أو كليةٍ شرعية، ولو خُير اليوم ما اختار هذا الطريق فهذه دراسة بلا نية، لأن النِيّة مع الاختيار، ولهذا ينبغي لمن وضعته الأقدار في هذا الموضع أن يجدد نية صالحة ورغبةً صادقةً، وسيجد مِن العلم الذي يعيش في ظلاله، وصحبة أهل الخير في سيره، ما يُعينه على تصحيح النيّة. وقد رووا عن مجاهد قال: "طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله بعدُ فيه نيةً" [سنن الدارمي 1/101] وعن الحسن والثوري قالا: "كنا نطلب العلم للدنيا فجرَّنا إلى الآخرة" [جامع بيان العلم ـ ابن عبد البر ص: 309،308].
ومثله يقال فيمن اتجه إلى مهنة التعليم مِن غير رغبة، بل لواحد من الأسباب التي أشار إليها الدكتور القرضاوي، خاصّة ضعف المعدل، حيث يتجه إلى تخصصات دون طموحه وآماله، فمثل هذا يحتاج إلى تجديد النية حتى يُقْبَل عمله، ويُبَارَك له فيه، ويكون أقدر على العطاء والنماء والتجويد والإبداع والابتكار، فالرغبة عاملٌ مهم في ذلك كله.
الصفة الثانية: التعليم رسالة لا مجرد وظيفة
المعلم الرسالي يعي دوره تماماً، ويتحرك بدافع ذاتي داخلي معتبراً مهمته عبادة يؤديها، ورسالة يسعى لتحقيقها، وهو حريص على ذلك سواء في هذا المجال الرسمي أو في مجالات أخرى، فما المدرسة أو الجامعة إلا وعاء يسره الله تعالى له ليؤدي هذا الواجب من خلاله، وبالتالي فهو لا ينقطع عن هذه المهمة مهما تغيرت الأوعية، واختلفت التخصصات، فيوسف عليه السلام كان داعياً إلى الله تعالى وهو في بيت العزيز عسيفاً، وفي الحبس سجيناً، وفي المُلك وزيراً، تغيرت أوضاعه وأحواله ولم يثنه ذلك عن أداء واجبه الرسالي.
إن مهمة المُعَلِّم الرسالي لا تنتهي ولا تتوقف أبداً؛ لا بإحالته إلى التقاعد ولا بنقله إلى مكان آخر، أو تغريبه بعيداً عن أهله أو وطنه، بل ولا بفصله عن وظيفته، فهو كالغيث أينما وقع نفع، ومن ثمرات هذا الخُلُق؛ أنه لا يعذر نفسه وإن كان معذوراً، فلا يهرب من مهمته مستغلاً الأعذار وإن كانت معتبرة، أو مستفيداً من القصور الذي قد يعتري بعض الأنظمة واللوائح. بل لو كانت هناك فجوات في الأنظمة فهو يستغلها لصالح مهمته، وتحقيق رسالته، فهو يشعر أنه على ثغرة مهمة وخطيرة يخشى أن تغرق السفينة مِن خلالها، فيرى مِن نفسه أنه في مقام المسئول وإن كان غير ملوم لو نأى بنفسه عن هذا كله، لكن شخصيته الرسالية وهمته العالية تأبى عليه ذلك، فالسفينة سفينته، وينبغي أن يعمل على استنقاذها والنجاة بها، ومن ثمراته ـ أي هذا الخلق ـ أنه إذا أصاب المؤسسة التي يعمل فيها فشل أو قصور ـ وإن لم يكن متسببا فيه ـ تجده يهتم لذلك ويغتم، ويشعر أن المصاب يشمله أيضا، كما أنه يفرح ويسر إن نالها نجاح وتفوق وإن كان من غير جهته، وبذا يكون قد خلَّص قلبه من دائين خطيرين هما؛ الحسد والشماتة، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ذكر عن نفسه خصالاً منها؛ أنه يفرح بالغيث يصيب داراً للمسلمين وربما ليس له فيها سائمة، وبالحاكم العادل وربما ليس له به حاجة.(/5)
أما المُعَلِّم غير الرسالي فملتزم بالعقد الذي بينه وبين مستخدميه، لا يُقيل ولا يستقيل، مستفيداً من كل ثغرة، مستغلاً لكل غفلة، لا يهمه ولا يشغله ما يحصل لمؤسسته ما دام بعيداً عن المحاسبة والمؤاخذة الإدارية.
الصفة الثالثة: يحمل همَّ أُمّة
المعلم الرسالي يتفاعل مع قضايا أمته الآنية والملحة، وما أكثرها، وهو أيضا يتفاعل مع قضايا مجتمعه الصغير والكبير خارج أسوار المؤسسة التعليمية، غير منقطع عنها، بل هي حاضرة في ذهنه، تتقدم اهتماماته، لا يكاد يغفل عنها وهو يؤدي واجبه الوظيفي تجاه طُلابه في أي فرع من فروع المعرفة، وعند لقائهم خارج قاعة الدرس، يخلط فنه ودرسه بهذه الهموم ويوجههم إلى الاهتمام بها، والتفاعل معها، وتلمّس أفضل الحلول لها، وهذا ديدنه أيضا عند لقائه زملاءه ومسئوليه.
أما المُعَلِّم غير الرسالي فينتهي واجبه في حدود إلقائه الدرس على النحو الذي يحقق الفائدة العلمية المرجوة منه وكفى، فهو ملتزم بقاعة الدرس مكاناً وزماناً وهموماً.
الصفة الرابعة: عطاء لا ينتظر الثناء
المعلم الرسالي لا يربط بين جهده وعطائه وبين ما يحصل عليه من مردود مادي أو معنوي، مثل الراتب والحوافز المعنوية، فلا علاقة بين الأمرين في سيره نحو تحقيق هدفه الرسالي، لا يؤثر ما يتعاطاه على ما يبذله نحو طلابه، لأن هذه مهمته الأساس؛ تعليم الناس الخير، وطَّن نفسه عليها، وسخَّر طاقاته وإمكاناته لها، غير ملتفت لتثبيط مثبِّط ولا تشجيع مشجِّع، بل لا يؤثر ما قد يحدث بين المعلم وإدارته مِن مشكلات على علاقته بطلابه، وجهده معهم، إذ لا صلة لهم بما قد حدث.
ومن ذلك أنه لا يحرص على المناصب الإدارية ولا الألقاب العلمية لأنها قد تكون غلاً يعوقه عن السير، إلا إذا كان في ذلك عوناً له على أداء مهمته، والتمكين لرسالته، (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) [سورة يوسف: 55] فوجوده في المناصب العليا لا يعني إلا مزيداً من التكليف والعبء، كما أن وجوده في المناصب الدنيا لا يعفيه عن الشعور بالمسئولية، فالمناصب والألقاب عنده سواء، فلا خير فيها إن هي حجبته عن أداء مهمته، وشغلته عن تحقيق رسالته، فلا يغريه العطاء، ولا يوقفه الجفاء، بل هو كما جاء في الحديث: "طوبي لعبد آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله أشعثَ رأسه، مغبرةٍ قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفَّع" [من حديث أبي هريرة في صحيح البخاري6/95-96(الفتح) كتاب الجهاد ح:2887] ومن علامات صدقه وصحة عزمه أنه مواصل لسيرته العملية وإنتاجه العلمي مهما نال من ألقاب، وتبوأ من مواقع.
أما المعلم غير الرسالي فقد جعل غايته مِن المهنة المردود المادي والمعنوي فحسب، ولو حرص على أداء المهنة على الوجه المطلوب وظيفياً فلأجل ما يتعاطاه ليس وراء ذلك شيء، إن زادوا اجتهد وبذل، وإن أمسكوا قصّر وأهمل.
الصفة الخامسة: المعلم القدوة
المعلم الرسالي عاملٌ بما يعلم ويُعلِّم، فهو صورة ينعكس فيها ما قد علّمه لطلابه، يقرأون فيها أقواله وتوجيهاته وإشاراته، فالعلم عنده للعمل لا للترف الذهني، أو الترويض العقلي، أوالتذوق البياني والخطابي، وهو يشعر بمسئوليته نحو هذا العلم تتعلق بشخصه وبمن جعلهم الله تحت ولايته كأولاده ومن في حكمهم مثل هؤلاء الطلاب، وقد كان السلف يدققون في اختيار العلماء والمؤدبين لأبنائهم؛ قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: "كانت أمي تُعممني وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه" [ترتيب المدارك ـ عياض 1/130].(/6)
وكلما اتسعت دائرة علمه كلما عظمت درجة المسئولية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه" [رواه الترمذي في سننه 4/35 أبواب صفة القيامة ح:2531 وقال هذا حديث حسن صحيح، وذكر رواية له أخرى برقم:2532 وصححهما الألباني انظر: صحيح الترمذي له 2/289ح:1969_1970] فمقام المعلم جد خطير إذ أن أعين المتعلمين معقودة به يتخذونه مثالاً يُقتدى ونموذجاً يحتذى، ويرون كل قولٍ يخرج منه صواباً، وكل فعل يصدر عنه صحيحاً، فلينظر كل معلم؛ كم يُصلِح من الناس وكم يُفسِد! فالتعليم بالقدوة أعظم تأثيراً وأقوى حجةً منه بمجرد الكلام والبيان، فكيف إذا كان الفعل يخالف القول، والسلوك يصادم التوجيه، وقد نعى القرآن الكريم على بني إسرائيل كما في قوله: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) [سورة البقرة: 44] وقوله: (مثل الذين حملوا التوارة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً بئس مثل القوم...) [سورة الجمعة: 5] وأنكر على المؤمنين أن يسلكوا هذا السبيل فقال: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) [سورة الصف: 2،3] وعن أسامة بن زيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه" [صحيح البخاري 6/381 كتاب بدء الخلق ح:3267، وصحيح مسلم 4/2290-2291 كتاب الزهد ح:2989] وعن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان" [قال في الترغيب: رواه الطبراني في الكبير والبزار، ورواته محتج بهم في الصحيح. 1/105 ح:224].
أما المُعَلِّم غير الرسالي فلا يوجد عنده تلازم بين الأمرين، بين ما يَعْلَمُه ويُعلِّمه وبين ما يلتزم به، فالالتزام بالنسبة له أمر اختياري طوعي، ولا يشعر بأي قصور في أداء واجبه الوظيفي إن هو لم يلتزم بما عَلِم وعلَّم، وكم يكون لهذا الفهم والسلوك المبني عليه من أثر سيئ وسلبي على طلابه في تشكيل قناعاتهم، وفي تجاوبهم مع ما يسمعون، وأشد منه ما يُحدثه في نفوسهم من نزاعٍ شرس وفصامٍ نَكِد بين ما يسمعون وبين ما يشاهدون، ومهما بالغنا في إقناع الناس بوجوب التفريق بين ما يقوله العالم وبين ما يمارسه، فلن يجدي ذلك نفعاً، فصورة الفعل تعلق بالنفوس والعقول أكثر من رنين القول، أرأيتم كم يكون أثر الطبيب المُدخن أو المخمور سيئاً على الناس، فكذلك ـ بل أشد ـ أثر العالم أو المعلِّم المتساهل، فذاك معالج الأبدان وهذا معالج القلوب والنفوس، وقد رُوي عن علي رضي الله عنه قوله: قصم ظهري رجلان؛ جاهل متنسك، وعالم متهتك، ذاك يغرُّهم بتنسكه، وهذا يُضلُّهم بتهتّكه [انظر: الرسول والعلم ـ القرضاوي ص:75].
الصفة السادسة: العناية بالمظهر
فمما ينبغي العناية به الحالة التي يظهر عليها المعلم أمام طلابه، فالمعلم الرسالي يهتم بحسن سمته، وجمال مظهره، من نظافةٍ وتأنقٍ وتناسقٍ وطيب رائحة، بعيداً عن الإسراف وملتزماً حد الاعتدال، فذلك أدعى للقبول والتقدير له، وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً هل ذلك من الكبر؟ فقال: إن الله جميلٌ يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس [رواه مسلم في صحيحه 1/93 كتاب الإيمان ح: 91] وفي فهرس الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي [1/372 وما بعدها]: باب في إصلاح المحدث هيئته وأخذه لرواية الحديث زينته، جاء تحته المباحث التالية:
البدأُ بالسواك، وقص الأظافر إذا طالت، والأخذ من الشارب، وتسريحه لحيته، ويسكِّن شعث رأسه، ويتجنب ما كُرِه ريحه، وغسل الثوب إذا اتسخ، وكراهة لبس الثوب الخَلِق وهو يقدر على الجديد، وبخوره ومسّه من الطيب، ونظره في المرآة... ا.هـ
وليكن ذلك سمته دائماً، لا قصراً على وقت الدرس ومكانه، لأن طلابه ربما يلتقونه خارج قاعة الدرس؛ في سوق أو حفل أو غيره.
وأرى أيضا من تمام الاهتمام بحسن المظهر: المسكن الذي يسكنه، فلا يسكن إلا في مكان لائق ما دام قادراً على ذلك، فإن طلابه وزملاءه ربما يزورونه فيه، فليختر لنفسه ما يرفع قدره في نفوسهم، ومثله يقال في الأدوات التي يستخدمها أن يهتم بنوعيتها ونظافتها دون تكلف ولا مباهاة.
الصفة السابعة: العناية بالتخصص(/7)
الاهتمام بالتخصص والعناية به والسعي لبلوغ الذروة فيه ينبغي أن يكون من شأن المعلم الرسالي، لأنه سيكون مرجعاً لطلابه يسألونه ويستفتونه به، ويلتزمون بما يمليه عليهم ويوجههم إليه، وينقلون هذا عنه إلى غيرهم مِن زملائهم أو طلابهم حينما يتصدون للتعليم فيما بعد، فلا بد من العناية بهذا الأمر عنايةً فائقةً والتأكد من صحة المعلومات وصحة العلاقة بينها وبين النتائج المستنبطة منها، وقد سُئل سفيان بن عيينه: من أحوج الناس إلى طلب العلم؟ قال: أعلمهم؛ لأن الخطأ منه أقبح [جامع بيان العلم ص: 156].
ونحن نعيش في عصر تميز بمراعاة التخصص الدقيق، وشرعنا أيضا يهتم بالتخصص ويوليه عناية فائقة، فمن ذا الذي يحيط بأنواع العلوم كلها؟! قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) [سورة النحل: 43] وقال تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) [سورة النساء: 83] وقال صلى الله عليه وسلم: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان بن عفان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أُبي بن كعب، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" [رواه الترمذي في سننه 5/330 أبواب المناقب ح:3879 وقال غريب لا نعرفه من حديث قتادة إلا من هذا الوجه، وهو في مسند الإمام أحمد 20/252 ح:12904 قال محققه: إسناده صحيح، وانظر: 21/406 من المسند ح:13990، وسنن ابن ماجه 1/55 المقدمة ح: 154].
والعناية بالتخصص لا يعني إهمال التخصصات الأخرى لا سيما ذوات العلاقة، بل لا بُدّ مِن الحصول على قدر ما يخدم التخصص حيث يُقدم لطلابه نسيجاً متناسقاً يشد بعضه بعضاً، بعيداً عن التنافر والتناقض.
الصفة الثامنة: عدل وإنصاف
المعلم الرسالي يحترم آداب المهنة وأخلاقياتها، ويقوم بالعدل والقسط، لا يرده عن ذلك عداوة ولا صداقة: (ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) [سورة المائدة: 8]. فلو أراد أن يعاقب الطالب على تقصير وقع فيه فعلى قدر التقصير لا يتجاوزه إلى التشفي والانتقام، وللأسف الشديد يذهب أحياناً بعض الطلبة خاصةً في مرحلة الدراسات العليا ضحية التهارش والتنافس غير الكريم بين بعض الأساتذة في المناقشات العلمية في أمور لا ناقة للطالب فيها ولا جمل، بل هو مجرد صراع شخصي أو مدرسي أو مذهبي.
وحينما نصف المعلم الرسالي بالأوصاف العليا والسمات النبيلة ونطالبه أن يكون مثلاً يحتذى وقدوة صالحة لطلابه؛ فهذا لا يعني أن يكون ذلك على حساب المهنة بحيث يعطيهم من التقييم فوق ما يستحقون، ويدفعهم إلى مواقع لا تؤهلهم قدراتهم العلمية لها، فهنا لا محاباة ولا مداراة بل القسط القسط، كما أنه لا ظلم ولا غمط لحقوقهم، فالعدل قامت عليه السموات والأرض، ويصلح عليه أمر الكون وأمر الناس، وقد سُئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة أي عن وقتها، فقال: "فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال السائل: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" [صحيح البخاري 1/171 كتاب العلم ح: 59].
الصفة التاسعة: التعليم مشاركة
إن العملية التعليمية جهد مشترك يشترك فيه المعلِّم والمتعلم والكتاب والمنهج الذي يصل بين هذه العناصر، ولكلٍ دوره الذي لا يخفى، فلا ينبغي أن يطغى دور على حساب دور، ونركز هنا على الاهتمام بدور المتعلم في هذه العملية، وهو الذي ينبغي أن لا يغفل بل يُراعى ويُنمى، وفي ذلك يراعى سن المتعلم ووضعه النفسي والعقلي، وذلك عبر مراحل التعليم كلها، لا بد من زرع الثقة في نفسه، ويعطى نوع مشاركة في التعليم والتقويم تأخذ هذه المشاركة في الاتساع والتعمُّق كلما انتقل من مرحلة إلى أخرى بعدها، وفي هذا فائدة عظيمة تجعل المتعلم تتولد لديه قناعات في نفسه، يكون هو مشاركاً في تأسيسها وتعميقها، وبالتالي تؤثر هذه القناعات في سلوكه وحياته، لإحساسه أنه اشترك في صُنعها، فتجده أشد الناس التزاماً بها، وإذاعةً لها، وذوداً عنها، فيتحول المتعلم إلى عنصر دعوة وإرشاد وإصلاح بين أهله ومعارفه.
وهذا كله يحتاج إلى معلِّم فَطِنٍ حَذِق يفهم ويعي دوره في القضية.
الصفة العاشرة: معلم ومتعلم في الوقت نفسه(/8)
المعلم الرسالي لا ينقطع عن طلب العلم والسؤال عنه مهما بلغ الغاية فيه؛ إذ لا غاية في العلم، ولا شبع منه: (وقل رب زدني علماً) [سورة طه: 114]، (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)[سورة الإسراء: 85]، وقيل لابن المبارك: إلى متى تطلب العلم؟ قال: حتى الممات إن شاء الله، وقيل له مرة أخرى مثل ذلك، فقال: لعل الكلمة التي تنفعني لم أكتبها بعد، وسئل أبو عمرو بن العلاء: متى يحسن بالمرء أن يتعلم؟ فقال: ما دام تحسن به الحياة [جامع بيان العلم ص: 156]. فالعلم يتطور ويتقدم فيحتاج إلى الرصد والمتابعة، فالعلم بالتعلم، (وفوق كل ذي علم عليم) [سورة يوسف: 76]، ولا حياء في طلب العلم، كيف وقد ضرب لنا أحد أولي العزم من الرسل، كليم الله موسى، المثل الأعلى في ذلك وهو يطلب علم الخضر ويصحبه فيه وهو الأعلى منه في المنزلة ولا ريب، وقد قال قتادة: لو كان أحد يكتفي من العلم بشيء لاكتفى موسى عليه السلام، ولكنه قال: (هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً) [سورة الكهف: 66] [جامع بيان العلم ص: 162].
فالمعلم الرسالي لا يستكبر ولا يستنكف، أي لا يمنعه من الاستزادة في العلم كِبْر ولا كِبَر، ولا حياء ولا صغر، فمن قال: علمتُ فقد جهل، ومن صدّه الحياء عن العلم فقد حَرَم نفسه، وقد قال مجاهد : لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر [رواه البخاري معلقا في كتاب العلم 1/276، وذكر الحافظ أن أبا نعيم وصله في الحلية]. وقالت عائشة رضي الله عنها: نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين [المرجع السابق، ووصله مسلم في صحيحه]. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائلٌ فأتوسد ردائي على بابه فتُسفي الريح علَيَّ التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عمّ رسول الله! ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول أنا أحق أن آتيك فأسألك [سير أعلام النبلاء 3/343].
وكان الإمام الشافعي يطلب من تلميذه أحمد بن حنبل أن يوقفه على صحة الأحاديث لما رأى من اهتمامه بها ونبوغه فيها [انظر: طبقات الحنابلة ـ القاضي أبو الحسين محمد بن أبي يعلى 1/6]. فلا عجب ولا غرابة أن يستفيد المعلم مِن طلابه في بعض مسائل العلم، بل أن يتراجع عن خطأ له وقع فيه، ويتحلى أمامهم بقوله: لا أدري، والله أعلم، فيما خفي عليه، وندَّ عنه، ولم يحط به علماً، فهذا يجعله كبيراً في نفوسهم، ويتعلمون منه التواضع، وترك التعالم، وعدم الجرأة على الفتيا، وتقحّم ما لا يحسن. يقول الإمام النووي رحمه الله في صفات العالم: أن "لا يستنكف من التعلم ممن هو دونه في سن أو نسب أو شهرة أو دين أو في علم آخر، بل يحرص على الفائدة ممن كانت عنده، وإن كان دونه في جميع هذا، ولا يستحي من السؤال عما لم يعلم" [المجموع شرح المهذب 1/29].
ويقول ابن جماعة: "واعلم أن قول المسئول: (لا أدري) لا يضع من قدره كما يظنه بعض الجهلة، بل يرفعه لأنه دليل عظيم على عظم محله، وقوة دينه وتقوى ربه، وطهارة قلبه، وكمال معرفته وحسن تثبته، وقد روينا معنى ذلك عن جماعة من السلف، وإنما يأنف من قول لا أدري من ضعفت ديانته، وقلت معرفته؛ لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين، وهذه جهالة ورقة دين، وربما يشهر خطؤه بين الناس فيقع فيما فرّ منه، ويتصف عندهم بما احترز عنه، وقد أدب الله تعالى العلماء بقصة موسى مع الخضر عليهما السلام حين لم يرد موسى عليه الصلاة والسلام العلم إلى الله تعالى لما سئل هل أحد في الأرض أعلم منك" [تذكرة السامع والمتكلم ـ ابن جماعة ص:42-43].
الصفة الحادية عشرة: استكشاف المواهب ورعايتها
لا شك أن هناك فروقاً فردية بين الطلاب الجالسين في مقاعد الدراسة، قد تضيق وقد تتسع، والمعلم النابه من يلحظ هذه الفروق، فيعطي كلاً حسب حاجته وقدراته وميوله، مع رعاية العدل والإنصاف، وتجنب الجور والإجحاف، ومع ذلك لا بد من تلمّس معالم النبوغ في الطلاب ليوفر لهم مزيداً من العناية والرعاية، وذلك بإعطائهم جرعات خاصة من العلوم، وتوجيههم بما يصقل مواهبهم، وينمي قدراتهم، ويزكي ميولهم، خدمةً لهم ولأمتهم من ورائهم.
والنبوغ ليس قصراً على التفوق في استظهار الدروس، وحل المسائل العلمية، بل النبوغ في جوانب شتى ومتنوعة؛ من شِعر وفصاحة وخطابة أو قدرات علمية وإبداعية أو إمكانات قيادية إلى غير ذلك من أنواع النبوغ، وكلها تحتاج إلى معلم فطن، وإن كان لا يستطيع متابعة بعض هذا الجوانب وقد أمكنه اكتشافها وتلمسها، فلا عليه أن يسندها إلى أهل الخبرة والاختصاص من زملاء المهنة.(/9)
جاء في كتاب أدب الدنيا والدين: "ينبغي أن يكون للعالم فراسة يتوسم بها المتعلم ليعرف مبلغ طاقته وقدر استحقاقه ليعطيه ما يتحمله بذكائه، أو يضعف عنه ببلادته، فإنه أروح للعالم، وأنجح للمتعلم، وقد روى ثابت عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسُّم... وإذا كان العالم في توسم المتعلمين بهذه الصفة، وكان بقدر استحقاقهم خبيراً لم يضِع له عناء، ولم يخب على يديه صاحب، وإن لم يتوسمهم، وخفيت عليه أحوالهم، ومبلغ استحقاقهم كانوا وإياه في عناء مُكْدٍ، وتعب غير مُجْدٍ؛ لأنه لا يُعدم أن يكون فيهم ذكي محتاجٌ إلى الزيادة، وبليدٌ يكتفي بالقليل، فيضجر الذكي منه، ويعجز البليد عنه، ومن يردد أصحابه بين عجز وضجر ملوه وملهم" [أدب الدنيا والدين ـ الماوردي ص:90].
وقد قال أبو هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم: "من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال له: لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أوَّل منك لما رأيت من حرصك على الحديث" [صحيح البخاري 11/418 كتاب الرقاق ح: 6570].
وأنت تأسف أشد الأسف حين ترى الغرب يهتم بالنابغين والنابهين، بل بالمعوقين والعاجزين من الناشئين والشباب، في مقابل الإهمال الذريع في عالمنا الإسلامي لأمثال هؤلاء، بل قد تجد الإحباط والتثبيط، ولو علم بهم الغرب لوجدوا منه العناية والرعاية، ثم الإفادة منهم في بناء حضارته ومدنيته. نشكو الظلام وفي يدنا المصباح، ونموت عطشا وبيننا تجري الأنهار:
الصفة الثانية عشرة: مراعاة الفروق الفردية:
فمما ينبغي على المعلم الاهتمام به مراعاة الفروق بين طلابه وهو يعلمهم ويربيهم ويعدهم للمستقبل، مع أن هذا الأمر قد كفلته المناهج النظامية، لكن مع ذلك تظل قضية الفروق الفردية قائمة، في القاعة الواحدة والمرحلة الواحدة، فلا بد من الانتباه لها، ومراعاتها لتحقيق أكبر مصلحة في التعليم والتوجيه والإفادة من ذلك، أما خارج الأطر النظامية فأمر مراعاة الفروق الفردية أو الجماعية آكد، كما في دروس المساجد والمحاضرات العامة والخطب والمواعظ.
فينبغي على المعلم والداعية أن يعطي الناس ما يناسب مستواياتهم، وعقولهم وإدراكهم، ويمس حاجاتهم وواقعهم، ويكون أنفع لهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم، ولهذا كان المعلم الأول صلى الله عليه وسلم يراعي ذلك في دعوته وتعليمه، حيث كانت تختلف وصاياه وأجوبته باختلاف أحوال السائلين والطالبين، فيوصي بعضهم بالعبادة وترك الشرك، وآخرين بالصلاة والزكاة، وآخرين بحسن الخلق، وآخرين بمجانبة الغضب، كما أنهم يسألونه صلى الله عليه وسلم عن أي الأعمال أفضل؟ فيجيب بعضهم بأنه الإيمان بالله ثم صلة الرحم، ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويجيب آخرين بأنه الصلاة لوقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله، وآخرين بأنه إطعام الطعام وإفشاء السلام، وهكذا، "ولا تفسير لهذا الاختلاف في الجواب مع اتحاد السؤال، إلا مراعاة أحوال السائلين، وما بينهم من فروق يجب اعتبارها". وقد يختلف الجواب عن السؤال الواحد في القضية الواحدة في المجلس الواحد، كما روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب فقال: يا رسول الله أُقَبِّل وأنا صائم؟ فقال: لا. فجاء شيخ فقال: يا رسول الله، أُقَبِّل وأنا صائم؟ قال: نعم. فنظر بعضنا إلى بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد علمت نظر بعضكم إلى بعضكم. إن الشيخ يملك نفسه [المسند ـ جزء 11 ح:7054 قال شاكر: إسناده صحيح، مع أن فيه ابن لهيعة. وانظر ح: 6739 وتعليق المحقق]. وتختلف مواقفه صلى الله عليه وسلم باختلاف الأشخاص الذين يتعامل معهم، فيعامل الأعراب بما لا يعامل به أصحابه الملازمين له؛ فيغتفر لأولئك ما لا يغتفر لهؤلاء، ويتألف قلوب مسلمة الفتح وزعماء القبائل بما لا يصنع مثله مع السابقين من المهاجرين والأنصار، ويغطي فخذه عند دخول عثمان ولم يفعل ذلك مع أبي بكر وعمر، وإن دخل عليه كريم قوم أكرمه، وإذا دخل عليه سفيه أو شرير داراه بطلاقة الوجه أو بكلمة طيبة ـ دون مداهنة أو مدح بالباطل ـ تألفاً له، واتقاءً لشرّه، وتختلف أوامره صلى الله عليه وسلم وتكليفاته باختلاف من يأمرهم ويكلفهم، فيكلف أبا بكر في الهجرة بما لا يكلف به عليا، ويكلف بعض أصحابه بقيادة السرايا وبعضهم بالمنافحة عنه وعن الإسلام بالشعر كما فعل مع حسان بن ثابت، ويعتذر لأبي ذر عن توليته لبعض أمور المسلمين، وقد يقبل من بعض الأفراد موقفاً أو سلوكاً لا يقبله من غيره لاختلاف الظروف، كما قَبِل من بعض
* أستاذ بكلية الشريعة - جامعة افريقيا العالمية(/10)
المجروح!! [1/3]
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه 10/4/1427
08/05/2006
ألم فوق الطاقة
المجرحون يرون قصصهم
كسر حاجز الخجل!
ألم فوق الطاقة.
"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به..".
من أكبر الآلام المعذبة للنفس، المتعبة للروح: أن تسمع بطفل، يعيش ويكبر من غير أبوين، ولا إخوة، ولا أسرة، ولا قرابة. وحيدا، غريبا، متوحشا، ليس له صلة بهذا العالم. لا يدري كيف جاء، ومن أين ؟.
يسمع بالعائلة والأسرة، فيذهب بخياله بعيدا، لعله يدرك ما يحدث فيها من حنان، ومحبة، ودفء، واهتمام، ورعاية !!.. لكنه يرجع بخيال عاجز عن الإدراك..!!.
فهو يوما لم يذق طعم الأسرة، وكيف يذوقه، وهو الغريب عنها بالكلية ؟!!، فكأنها في بلد، وهو في آخر .. وكأنها في زمن، وهو في زمن آخر .. وكأنها من الغيب، وهو في عالم الشهادة !!.
وإذا ما أراد أن يتصور العلاقة بين الطفل وأمه، والطفل وأبيه، فذاك أمر فوق التصور، وفوق الطاقة؛ فإنه لم يحسّ لحظة حنان الأم، و لم يلمس ساعة عطف الأب..!!.
إذا سئل عن أبيه، وعن لقبه، وعائلته: سكت حائرا، مهموما، باكيا؛ إذ لم يعثر على إجابة ؟!!..
فنفسه عاجزة عن الجواب.. هو الذي يسأل نفسه: من أنت، ومن أبوك ؟!!.
وإذ لم يجد أباه، بقي متسائلا مستنكرا: هل لا بد لكل طفل من أب ؟!.
- ينشأ محروما من أعز الناس، وأهم الضرورات، وأبسط الأماني وأقلها..!!.
- ينشأ وإنسانيته مجروحة جرحا لا يلتئم أبدا ..!!.
- ينشأ ولا أحد إلى جانبه. لا أحد تماما ؟!.. ينشأ وحيدا.. وحيدا.. غريبا.. غريبا..!!.
- ينشأ كسير النفس، مهيض الجناح؛ فعزّ الإنسان وكرامته من: والديه، وإخوته، وقرابته. ولا شيء لديه من هذه المعزّات!!.
هل يستطيع أحد أن يحتمل هذا ؟.
فكيف بطفل ينشأ هكذا ؟!!.. إلى أي حال سيكون، وإلى أي شيء يؤول ؟!.
إنه لألم يحرك في الإنسان كل شيء:
- يحرك فيه: الحرقة، والحزن، والكآبة، والضجر.
- يحرك فيه: الغضب، والاستنكار.
- يحرك فيه: الرغبة في البكاء.
- يحرك فيه: الرغبة في الصياح. أليس المتألم يصيح ؟، لعل في الصياح تخفيفا لعبئ يفوق الطاقة، وتنفيسا عن نفس عجزت عن التحمل.
إليكم القصة :
* * *
المجروحون يرون قصتهم.
في جريدة الوطن السعودية، الإثنين 13صفر 1427هـ،13مارس2006، العدد (1991) جاء ما يلي:
(يقرون بوضعهم ويضيقون بالإهانات ويحلمون بالهجرة
لقطاء يكسرون حاجز الخوف والخجل ويكشفون عن مكابدتهم اليومية)
- كسر حاجز الخجل
جدة: عاصم الغامدي
قرر عدد من اللقطاء، أو مجهولي النسب، أو الأيتام - كما هو التوصيف الرسمي لهم - كسر حاجز الخجل، والتحدث إلى " الوطن " بكل صراحة عن واقعهم وأحوالهم ومكابداتهم اليومية، ولم يعبأوا كثيراً بنشر صورهم أو إعلان أسمائهم الحقيقية، ولم يتكتموا على شيء بدافع الخوف من الفضيحة، معتبرين كل هذا أقل ضرراً من حال الضياع التي يشعرون بها ويعيشونها فيما يعتبرون أنفسهم سائرين في نفق مظلم طويل، ويتمنون فقط أن يعثروا في نهاية النفق على بصيص نور أو بصيص أمل - كما يقولون!
وعلى الرغم من سوء معاملة المجتمع لهؤلاء، ونظرته الازدرائية لهم، وعلى الرغم من تلقيهم الكثير من الإهانات اليومية حيث تطاردهم اللعنات، وترشقهم الألفاظ النابية، ويمقتهم الناس، محملين هؤلاء الذين لا ذنب لهم جريرة لم يقترفوها، فهم ضحايا، وليسوا مجرمين من دون أدنى مراعاة لأحاسيسهم ومشاعرهم كبشر، تطالهم الآلام، وتجرح أعماقهم نظرات الاتهام والنبذ والتحقير.
أمام واقع مؤلم - كهذا - أبدى حسان، وشريف، ومشهور، وعاطف، وسواهم استعدادهم الكامل للحديث، وبث شكواهم على صفحات " الوطن " بغية التنفيس أولاً، وإيصال صوتهم إلى الجهات المعنية ثانياً، وتوضيح الصورة لهذا المجتمع الذي ينبذهم كما لو أنهم هم الذين قاموا بارتكاب الآثام.
في هذا اللقاء تحدثوا عن مسيرة حياتهم منذ أيام الطفولة وما صادفوه من إحباطات، ومالازمهم من معاناة، وأحزان كثيرة وفرحٍ قليل.(/1)
قال حسام: اكتشفت يتمي في العاشرة تحديداً، كنت في الصف الثالث الابتدائي عندما أخبرتني المربية بذلك إن كلمة " يتيم " - في نظري - كلمة مطاطة كونها تشمل من فقد الأبوين كليهما، أو من فقد أحدهما فقط، كما أن " اللقيط " لا يعرف أبويه، استقبلت الأمر برضا تام، خصوصاً وأنني وجدت من يعتني بي، فالإنسان ابن بيئته - كما يقولون - ولم أسأل عن التفاصيل، كيف وأين وجدت أو ماذا كان معي، بل حاولت أن أتغلب على أي شعور بروح الدعابة، وبالنظر إلى المستقبل المشرق بعينين صافيتين - كما قيل لي وقتها. وأول مشكلة واجهتني - يتابع حسام سرد مأساته - كانت عقب التحاقي بالمدرسة، وهي إحساسي بأنني وحيد في هذا العالم، وحيد وكأنني مقطوع من شجرة، وكنت ألوذ بالصمت القاتل عندما أرى جميع أقراني يتحدثون عن أمهاتهم وآبائهم وأشقائهم، وكنت فقط أتخيل ما يحدث في إطار العائلة من محبة ودفء وحدب واهتمام ورعاية وسواها من العواطف الرائعة وكانت تغيب عن ذهني الأفكار عن طبيعة العلاقة الأسرية بين الأب والأم والأبناء داخل المنزل وخارجه. ويكمل حسام حديثه قائلا: ما ساعدني على تقبل وضعي ذلك التعاطف الكبير من زملائي في المدرسة، ومن آبائهم أيضاً، وعشت حياتي كما هي متخذاً من المصطفى عليه الصلاة والسلام قدوة لي، بوصفه نشأ يتيماً، وداخلني شعور رائع بأن كل هؤلاء الزملاء أصبحوا أسرتي، ومازلت على اتصال بالمربية التي تولت أمر تربيتي ورعايتي والتي أدعوها أمي، وكذلك مازلت على اتصال بسائر الزملاء في "الميتم"!.
وعاد حسام بذاكرته إلى البدايات الأولى، قائلا: فتحت عيني على هذه الدنيا فيما كنت في دار الحضانة بالرياض، ومنها إلى دار التربية وبعدها انتقلت إلى دار التربية الاجتماعية بالمدينة المنورة، حيث مكثت بها حتى الصف الثالث المتوسط، ثم تم إرسالي إلى المؤسسة بجدة، وهنا بدأت معاناتي الحقيقية، وسببها معاملة الإدارة لنا، وأقمت فيها برغم المعاناة مدة تصل إلى الثلاث سنوات، توجهت بعدها إلى المعهد المهني، وقبل تخرجي بأسبوعين تم طي قيدي من المؤسسة بسبب تغيبي، وذلك لأنني كنت أشارك في معسكر رياضي لنادي الاتحاد، دون أن أثبت لهم ما يؤكد ذلك.
ونفى حسام ما يشاع عن هؤلاء الأيتام من أنهم ساخطون على المجتمع، موضحاً أنهم إذا ما تعرضوا للقسوة سيكونون ساخطين، وكشف عن أحلامه، قائلا: إنه يحلم بالهجرة إلى الغرب، وتحديداً فرنسا، لكونه يتوق إلى تعلم اللغة الفرنسية والعمل بالترجمة، فهو - كما يقول - لا يحمل أي مؤهل علمي أو أي شهادة دراسية تساعده في الحصول على عمل شريف يستطيع من خلاله أن يعيش حياة سوية. وحين سألته: ولماذا الهجرة إلى الغرب؟!.
أجاب: هناك، أي في الغرب، يعيش الكثيرون من دون أن يعرفوا آباءهم حياة طبيعية، ولا ينظر إليهم المجتمع تلك النظرة القاسية التي نشعر بها تجلدنا كما تفعل السياط!! فالناس في مجتمعنا يتعاملون معنا كما لو أننا نحمل الطاعون، ولسنا بشراً كسائر البشر، جريرتنا الوحيدة أننا وجدنا أنفسنا هكذا، فليس ذنبنا أن أتينا من المجهول وإنما هو ذنب من اقترف بحقنا هذه الجريمة!.
زميله عبدالقادر تحدث عن تجربته التي وصفها بأنها أكثر قسوةً ساهمت في حرمانه من التعلم، فهو لم يستطع إنهاء دراسته – كما هي حال حسام.
قال عبد القادر: فتحت عيني على الدنيا في مدينة الرس "بمنطقة القصيم"، وأذكر أن جميع المربيات في تلك الحضانة التي احتضنتني كن من الآسيويات، وعندما بلغت السابعة تمت إحالتي إلى دار التربية في القصيم نفسها، وعندما وصلت إلى الصف الثالث الابتدائي تم إلحاقي بقسم البنين ببريدة، وعندما وصلت إلى الصف الخامس تم نقلي إلى دار التربية بحائل، وفي الصف الأول المتوسط كنا 14 يتيماً، وتم تقسيمنا إلى مجموعتين، إحداهما أرسلت إلى الرياض، والأخرى إلى جدة.
وحين سألته متى عرفت حقيقة كونك يتيماً، أجاب عبد القادر: كان ذلك في العاشرة من عمري - تقريباً، وقبلاً، كانت كلمة "يتيم" تمر على مسامعي دون أن تعني لي شيئاً، وكانت معرفتي بأني يتيم سبب شقائي وضياعي وتعاستي بقية عمري، إذ أخبرني أحدهم بأني دون أب أو أم أو اسم حقيقي أو لقب عائلي، وأفهمني أن كلمة "يتيم" يقصد بها الاستهزاء، والشتيمة، والإهانة والإساءة وعلى الرغم من أن كافة زملائي كانوا يعيشون وضعي نفسه، إلا أنني بعد هذه المعرفة القاتلة بحقيقة وضعي فقدت اهتمامي بالتحصيل الدراسي، وبكل شيء. ويتابع عبد القادر بحرقة قائلا:(/2)
بعد أن أنهيت المرحلة الابتدائية، كنت قد تجاوزت السن القانونية، فتمت إحالتي إلى فرع المؤسسة في جدة، وتم إلحاقي بإحدى المدارس المتوسطة، لكنني لم أستطع إكمال دراستي، فتم تحويلي إلى المعهد المهني " قسم التجارة " الذي لم يكن يتوافق وميولي، فلم أكمل الدراسة فيه، ويرجع عبد القادر كل هذه الإخفاقات في الدراسة كما يعيد كل مشاكله في هذه الحياة إلى كونه يفتقد للرعاية الأسرية والبيئة المستقرة، وكما نفى زميله حسام، نفى عبد القادر بدوره مسألة الحقد على المجتمع، مطالباً بمنحه فرصة حقيقية لبناء نفسه ومستقبله وحياته التي يراها صارت أقرب إلى الشظايا، أما شريف، فوصف هو الآخر تجربته مع اليتم بأنها قاسية، وأنها لا تختلف عن تجارب " زملائه " في المؤسسة، قائلا: بدأت حياتي في دار الحضانة بجدة، وفيها تعرضت للضرب القاسي من إحدى المربيات، وعندما بلغت السابعة، تم نقلي إلى دار التربية بالمدينة المنورة، وفيها كنت أشعر بأن المدير أبي، وأن المشرفين إخوتي، وعندما وصلت إلى المرحلة المتوسطة، ثم نقلي إلى مؤسسة التربية النموذجية بمكة المكرمة، وللأسف هذه المؤسسة اسم بغير مسمى، فهي لا تعي شيئاً في أساليب التربية، كما أنها لا تحمل من "النموذجية" شيئاً أبداً، ويتابع شريف حديثه قائلا: بكل صراحة أقول، إنني في هذه المؤسسة لم أجد أي تربية، ولم أحظ بأي رعاية، إذ لم يكن يسمح لنا بالخروج من الدار مطلقاً، وكان هذا القرار الصارم، وغير الإنساني، سبباً في ضياعي!! نعم لقد بدأت رحلة الضياع، فيما كان عمري "14 سنة" حيث قمت بالهروب مع الزملاء الأقدم، وفي هروبي هذا تعرفت على عالم المخدرات، وظللت أندفع من هروب إلى آخر مهما اختلفت مستويات ومضامين هذا الهروب لأنأى بعيداً عن "حقيقتي" المرة!!.
ويضيف: كنت أخفي عن أبناء الحي الذي تقع فيه المؤسسة "حقيقتي" خشية السخرية مني، ومخافة أن يتم دفعي إلى طريق الانحراف، واستغلال ظروفي استغلالاً بشعاً!!. لم أمكث في مكة المكرمة سوى سنة واحدة، تغيرت فيها كل القيم والمبادئ الحميدة التي كانت تسكنني، وذلك نتيجة الهرب، ولجوئي للشارع وأصدقاء السوء في الحي، بعد هذه التحولات العميقة، أصبح وضعي داخل المؤسسة لا يطاق، خصوصاً وأنني تعرضت للضرب وسوء المعاملة، لدرجة أنني أصبحت ألجأ إلى العمائر المهجورة لقضاء الليل، وتحديداً عندما تم طردي من السكن في الدار عقاباً على هربي من سكن المؤسسة .
ويضغط شريف على الكلمات وهو ينطق هذه العبارة المليئة بالذكريات المؤلمة، قائلا: "لن أنسى أبدا حياة التشرد التي كان لها دور كبير في مأساتي".
في الصف السادس الابتدائي، اكتشف شريف حقيقة كونه يتيماً وقال: عبر طرح العديد من الأسئلة علي من قبل زملائي في المدرسة، وهي أسئلة تتقصى حقيقة وضعي، وتبحث في أصلي وفصلي، وتتناول أبي، وهي الأسئلة التي لم أستطع أن أعثر لها على إجابة، الأمر الذي دفعني أن أطرح الأسئلة نفسها على المسؤولين في دار الأيتام، لكني لم أجد لديهم إجابة شافية، وحينما أصررت على معرفة الحقيقة، قيل لي إن أبي وأمي قضيا معاً في حادث سير، وعندما كبرت، وشببت عن الطوق قليلاً، استوعبت الحقيقة وتوقفت عن طرح الأسئلة، ولم أعد أبحث عن أبي أو من يكون؟! .
روى شاب آخر اسمه عبد العزيز قصة حياة مترفة، عاشها ما يقارب 18 عاماً، واصفاً قصته هذه بأنها تختلف عن قصص الآخرين، وقال: كان بمقدوري أن أحيا حياة رائعة، وكان بوسع تلك الحياة لو استمرت أن تجعلني بعيداً جداً عن هذه المرارات، وأضاف عبد العزيز: " كفلني في بداية حياتي أحد رجال الأعمال الأثرياء ثراء ضخماً، فأتاح لي أن أتلقى تعليمي في الابتدائية والمتوسطة في أرقى مدارس جدة، وبعد أن رحل عن هذه الدنيا، كفلتني ابنته 10 سنوات أو يزيد، لكن، ومنذ فترة غير قصيرة، تم طردي من السكن الذي خصصته تلك السيدة الكريمة لي ولعدد من زملائي الأيتام وذلك لسوء سلوكي، فعدت للعيش في مؤسسة التربية، بعد أن خسرت تلك الرعاية المثالية التي حظيت بها، وها أنا الآن أشعر بندم شديد وحسرةٍ كبيرة على تلك الحياة الهانئة الرائعة التي عشتها، والتي تبددت معها كل أحلامي الجميلة، أما حقيقة وضعه، فقد اكتشفها عبد العزيز عندما كان في الثالث المتوسط، وحين لاحظت تلك السيدة الكريمة التي كانت تتولى رعايته ما طرأ على نفسيته من آثار سيئة قامت بعرضه على طبيب نفسي، وظل يراجع هذا الطيب حتى تم طرده وإعادته إلى سكن المؤسسة.
وقال عبد العزيز: صرت أكثر ميلاً للعزلة، وصرت عدوانياً، وانقطعت عن الدراسة بحجة تغيير مجرى حياتي التي اعتبرتها تعيسة وتكوين أسرتي الخاصة !! ولكن كل هذا كان مجرد وهم كبير.(/3)
وأضاف بأسى: كلمة يتيم في المجتمع تعني "اللقيط" ولا أنسى موقفاً حين تقدمت مع زملاء لي بشكوى لرجال الأمن ضد أشخاص تشاجروا معنا فسألنا المحقق عن مقر السكن ليكتبه في المحضر وحين ذكرنا دار الأيتام قال: تقصدون سكن اللقطاء، بخلاف شماتة الكثيرين من لفظ الإخوة الذي نستعمله فيما بيننا لاختلاف ألوان بشراتنا. الأمر الذي يجعلنا نتجنب المجتمع ولا نعترف بأننا من سكان الدار وندعي الانتساب لإحدى القبائل، كما أن سوء المعاملة حول الكثيرين منا إلى قنابل موقوته.
وبرر عدوانية الأيتام ولجوئهم إلى العنف لغياب من ينصفهم في المجتمع وافتقادهم إلى الرعاية الأسرية والحنان معتبراً أن الموظف يؤدي عمله ليحصل على مرتب في نهاية الشهر ولا يمكن أن يقوم بدور الأب.
والمعاملة لا تتم بشكل مقنع بل تغلب عليها القسوة مما يؤدي بهم إلى ردة الفعل السلبية، ورأى أن كفالة الأسر لهم تزيد من شعورهم بالغربة فعندما يصل أحدهم إلى سن البلوغ تحتجب عنه نساء الأسرة التي تكفله فيشعر كأنه فقد أسرته مرتين.
وعلق زميل لهم على ما ذكروه قائلا: القسوة التي نتعرض لها في التربية تجعل الكثير منا عرضة للجوء للمخدرات التي تجعلنا نهجس بالانتقام ممن أساء لنا.
وطالب الأيتام بتأهيل وتعيين مشرفين من نفس أبناء الدار؛ لأنهم سيكونون أقدر على تفهم أوضاع المقيمين فيها، وأشاروا إلى تجربة ناجحة، تم تطبيقها في دار الأيتام بالمدينة المنورة، خاصة وأن اليتيم يكون عرضة للاستغلال الجنسي، والنفسي، لتلبية احتياجاته المادية من مالٍ وملابس، والنفسية من حب ورعاية وحنان، وباعتبار المراقب صاحب أهم دور في مراكز الرعاية، فإنه يتعين أن يكون من الأيتام.
- مقتطفات واعترافات جريحة.
1- لم يعبأوا كثيراً بنشر صورهم أو إعلان أسمائهم الحقيقية، ولم يتكتموا على شيء بدافع الخوف من الفضيحة، معتبرين كل هذا أقل ضرراً من حال الضياع التي يشعرون بها ويعيشونها.
2- تلقيهم الكثير من الإهانات اليومية، حيث تطاردهم اللعنات، وترشقهم الألفاظ النابية، ويمقتهم الناس، محملين هؤلاء الذين لا ذنب لهم، جريرة لم يقترفوها.
3- قال: اكتشفت يتمي في العاشرة تحديداً، كنت في الصف الثالث الابتدائي، عندما أخبرتني المربية.
4- كنت ألوذ بالصمت القاتل، عندما أرى جميع أقراني يتحدثون عن أمهاتهم وآبائهم وأشقائهم، وكنت فقط أتخيل ما يحدث في إطار العائلة، من: محبة، ودفء، واهتمام، ورعاية، وسواها من العواطف.
5- يحلم بالهجرة إلى الغرب، وتحديداً فرنسا، يقول: هناك، يعيش الكثيرون من دون أن يعرفوا آباءهم حياة طبيعية، ولا ينظر إليهم المجتمع تلك النظرة القاسية التي نشعر بها، تجلدنا كما تفعل السياط!! فالناس في مجتمعنا يتعاملون معنا كما لو أننا نحمل الطاعون .. جريرتنا الوحيدة أننا وجدنا أنفسنا هكذا!.
6- معرفتي بأني يتيم سبب شقائي وضياعي وتعاستي بقية عمري، إذ أخبرني أحدهم بأني دون أب أو أم أو اسم حقيقي أو لقب عائلي .. بعد هذه المعرفة القاتلة بحقيقة وضعي، فقدت اهتمامي بالتحصيل الدراسي.
7- كنت أخفي عن أبناء الحي الذي تقع فيه المؤسسة "حقيقتي"، خشية السخرية مني، ومخافة أن يتم دفعي إلى طريق الانحراف، واستغلال ظروفي استغلالاً بشعاً!!.
8- أصبحت ألجأ إلى العمائر المهجورة لقضاء الليل، وتحديداً عندما تم طردي من السكن في الدار، عقاباً على هربي من سكن المؤسسة.
9- لن أنسى أبدا حياة التشرد التي كان لها دور كبير في مأساتي.
10- طرح العديد من الأسئلة علي من قبل زملائي في المدرسة، وهي أسئلة تتقصى حقيقة وضعي، وتبحث في أصلي وفصلي، وتتناول أبي، وهي الأسئلة التي لم أستطع أن أعثر لها على إجابة.
11- صرت أكثر ميلاً للعزلة، وصرت عدوانياً، وانقطعت عن الدراسة بحجة تغيير مجرى حياتي التي اعتبرتها تعيسة وتكوين أسرتي الخاصة !! ولكن كل هذا كان مجرد وهم كبير.
12- كلمة يتيم في المجتمع تعني "اللقيط"، ولا أنسى موقفاً، حين تقدمت مع زملاء لي، بشكوى لرجال الأمن، ضد أشخاص تشاجروا معنا، فسألنا المحقق عن مقر السكن؛ ليكتبه في المحضر، وحين ذكرنا دار الأيتام، قال: تقصدون سكن اللقطاء.
13- شماتة الكثيرين من لفظ "الإخوة" الذي نستعمله فيما بيننا؛ لاختلاف ألوان بشراتنا. الأمر الذي يجعلنا نتجنب المجتمع؛ ولا نعترف بأننا من سكان الدار؛ وندعي الانتساب لإحدى القبائل.
14- سوء المعاملة حول الكثيرين منا إلى قنابل موقوته.
15- وبرر عدوانية الأيتام، ولجوئهم إلى العنف؛ لغياب من ينصفهم في المجتمع، وافتقادهم إلى الرعاية الأسرية والحنان، معتبراً أن الموظف يؤدي عمله؛ ليحصل على مرتب في نهاية الشهر، ولا يمكن أن يقوم بدور الأب، والمعاملة لا تتم بشكل مقنع، بل تغلب عليها القسوة، مما يؤدي بهم إلى ردة الفعل السلبية.
16- كفالة الأسر لهم تزيد من شعورهم بالغربة، فعندما يصل أحدهم إلى سن البلوغ، تحتجب عنه نساء الأسرة التي تكفله، فيشعر كأنه فقد أسرته مرتين.(/4)
17- القسوة التي نتعرض لها في التربية تجعل الكثير منا عرضة للجوء للمخدرات، التي تجعلنا نهجس بالانتقام ممن أساء لنا.
المجروح!! [2/3]
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه 17/4/1427
15/05/2006
مساحة الجرح
كيف حصل هذا الجرح
أطراف الجناية ، المتسببون لها!
- مساحة الجرح.
من كلام هؤلاء المكسورين ندرك أبعاد وآثار هذا الجرح:
- فمن طفولة محرومة من: الأبوين، والإخوة، والأقرباء. محرومة من الأسرة والبيت..
- إلى ألم نفسي، وجرح عميق يكبر مع العمر واكتشاف الحقيقة.
- ومن عجز عن تصور ماهية وكيفية العلاقة الأسرية، ودفء الأمومة، وعاطفة الأبوة..
- إلى إحباط وتحطيم نفسي، ورغبة عن: الجد، والاجتهاد، والتحصيل.
- ومن نظرة سيئة من المجتمع، وإهانة وشتم يجرح الجرح نفسه، فيزيد في ألمه..
- إلى خوف من استغلال الآخرين لهم، لضعفهم وانعدام السند والعضد.
- ومن انعدام الحاضن والراعي، واللجوء إلى البيوت المهجورة، والانحراف الخلقي..
- إلى الميل إلى العدوانية، والانتقام.
- ومن الغربة، والوحشة، والوحدة القاتلة..
- إلى الرغبة في الهجرة إلى دول أوربية، غير مسلمة، لا تعير للأسرة قيمة، ولا تشترط لتقدير الإنسان واحترامه: ولادته من طريق شرعي؛ لعله يسترد شيئا من كرامة مفقودة، ويداوي نفسا مجروحة. مع ما قد يتعرض له من الفتنة في الدين؛ بالكفر بعد الإيمان..!!.
هي جروح، وليست واحدة: جرح في النفس، وجرح في العزة والكرامة، وفي العلاقة بالمجتمع.
فمن المتسبب في هذا القدر الكبير من الجروح المتشابكة، المتداخلة، الدائمة، التي إن حل بعضها، فبعضها الآخر لن يحل أبدا ؟.
إنها من قبيل النار إذا أحرقت شيئا، فكل شيء له علاج إلا الموت، والحرق .. ؟.
* * *
كيف حصل هذا الجرح؟!.
ما ورد مؤلم، ومؤسف، ومحزن؛ فإنسانيتهم مظلومة، منتهكة، مجروحة جرحا لا يزول.. نعم لا يزول، وكيف له أن يزول ؟!!. وإن أول ما يقوله القائل هنا:
- من الذي جنى عليهم، فجرحهم هذا الجرح البليغ ؟، وهل يمكن القَوَد منه ؟.
الذي جرحهم: نصل حادّ؛ نافذ، قاطع، يهتك هو: العلاقة الجنسية المحرمة (= الزنا).!!.
والقصة تبدأ من النفس، التي جعل فيها غريزة الشهوة للجنس، والتلذذ به، وبها مال الذكر إلى الأنثى، والأنثى إلى الذكر . ولم يكن هذا الميل – في أصله – معيبا؛ إذ به تتحقق: المودة، والرحمة، والسكن، والتناسل. إنما العيب إذا اتخذ للتعبير عنه وسيلة غير مشروعة، هو: الزنا. دون الوسيلة المشروعة: الزواج.
وفي هذه القصص الجريحة: اتخذت وسيلة غير مشروعة..؟!.
ليس شيء يحدث فجأة، بل بمقدمات، فقد كان لهذا الميل غير المشروع مقدمات، أغرت به، هي كذلك غير مشروعة، من : نظرة – فتقارب – فكلام – فغزل – فلين – فميل وتعلق – فموعد – فلقاء – فعلاقة آثمة أنتجت: طفلا مجروحا..!!. من قبل اثنين، هما رجل وامرأة، التقيا على سخط الرب تعالى، وافترقا عليه، وتحملا جروح وآلام هذا الوليد الضعيف؛ الذي يفترض أنه ولد لهما، لو كان من طريق مشروع.
كلاهما اشتركا في هذه المقدمات عن قصد ودراية بالعواقب، وكان لكل منهما في هذه الجناية نصيب.
ولم يكونا وحدهما صاحبا هذه الجناية، بل كانا الممثلان المنفذان لخيوطها الأخيرة، المتصلان بها مباشرة:
- ومن ورائهما الذي نسج، وخطط، وأحب هذا المشهد، وتمناه وسعى إلى إيقاع الجنسين فيه.
- من ورائهما الذي ساعد، وخدم، وأعان، وفتح الباب، دون أن يدرك أنه يعين على جريمة.
فتلك الجناية ومقدماتها من فعل هذين، أما الخطوات الأولى فهي من فعل غيرهما؛ إذ لم تكن المقدمات والجناية إلا ثمرة وأثرا عن خطوات يسرتها، وأغرت بها، وفتحت الطريق إليها، هي:
1- قنوات فضائية: تعرض النساء كاسيات عاريات، يلبسن ما يبدي ويجسم، متغنجات، مائلات مميلات، يمثلن أدوار الزوجات والعشيقات، في: الأفلام، والفيديو كليب، وأكاديمي استار.. وغيرها من برامج الانحلال. يحصل فيها ما يكون بين زوجين، إلا النكاح الصريح، الذي تكفلت به القنوات الإباحية..
2- مجلات وصحف تفعل الفعل نفسه الذي تفعله القنوات، بالصورة والكلمات.
3- قصص وروايات تحسن، وتشجع، وتصف العلاقات المحرمة وصفا، يميل بالنفوس إليها.
هذه الأسباب خطيرة؛ لأنها تدعو بالتصريح، وبالإشارة والتلميح إلى إقامة مثل هذه العلاقة المحرمة.
وهذا أمر لا يخفى على أحد، يعرف حال هذه الوسائل، ومع ذلك فهي لم تكن لتكون فعالة، ذات أثر، لولا جملة من الأسباب الأخرى، التي فتحت الباب لحصول هذا الإثم. وهي:
1- خروج المرأة من بيتها، في زينة ظاهرة، وفتنة بادية، في عباءة كأنها الفستان، في الجمال وبيان المفاتن.
فإن خروجها على هذا الحال: حرك في النفوس – التي أفسدتها وسائل الإغراء الآنفة – نوازع الجنس والشهوة والميل غير المشروع، فصارت تسعى لتحصيل المتعة من خلال هذه المتزينة، الفاتنة، المفتنة، المفتتنة. بكل وسيلة تقرب هذه المتعة. وكم حصل من وراء هذا جناية وجرح..!!.(/5)
2- اختلاط المرأة بالأجانب، بداعي التعليم، وبداعي العمل.
فإن هذا الاختلاط قرب المرأة، فصارت هذه الفاتنة، التي هي فتنة الرجل، كما جاء في الوصف النبوي، في مرمى المتمني الراغب في الإثم. وهو يرى، ويسمع، ويقرأ كل يوم ما يدعو ويرغب في علاقة آثمة.
فإذا صارت المرأة قريبة إليه، فما عساه يفعل ؟!!.
3- غياب الرقيب، وهو ولي أمر المرأة، وتضييعه الأمانة، بغفلته عن حالها..!!.
فالمرأة مطبوعة على حسن النية، والغفلة عن مواضع الشر، والعاطفة تتحكم بها، يعرف هذا من له أدنى المعرفة، وينكره من أطبقت عليه الغفلة، أو استحكمت نفسه على المكر والخديعة..!!.
فإذا لم يقم وليها بصونها ورعايتها، وإلا فقد ضيعها..؟!!.
وأسّ هذه الأسباب ورأسها، الذي تحمل كل البلية: اختلاط المرأة بالرجال الأجانب؛ فإن الأمور التي تغري وتزين العلاقة المحرمة (= الزنا) موجودة في كل زمان ومكان، لكن أثرها يبقى محدودا إذا التزم شرط الإسلام في المرأة في العلاقة بين الجنسين، وهو: الفصل بينهما، ومنع الاتصال.
دل على هذا الشرط: أمر المرأة بالحجاب. والحجاب في المصطلح اللغوي والشرعي: الحاجز المانع من النظر.
فإذا ما سقط هذا الشرط، فحينئذ تبدأ الأسباب كلها بالعمل والتأثير، وهذا أمر طبيعي..
فإن الغرائز مهما استثيرت؛ فأنى لها أن تتجه إلى المحرم من العلاقات الجنسية، ولا سبيل إلى المرأة أصلا؛ لبعدها وانفصالها عن الرجال، إلا عن طريق الزواج ؟.
أما إذا كان السبيل إليها قريبا؛ وذلك:
- إذا صارت تخرج وتلج من بيتها، كما يخرج الرجل، في زينة ظاهرة، بفتنة بادية، فتركت القرار.
- أو صارت تختلط بالرجال بداعي العمل، والعلم.
- وولي أمرها غافل، تارك للمسؤولية، لا يرعاها، ولا يصونها من الأشرار.
فإن الغرائز المستثارة ستجد مكانا لإشباعها، ومنه ينتج هذا: المجروح المعذب، والمتألم، والخائف، والحاقد، والمنتهك، والكسير المجروح. المسمى باللقيط..!!.
* * *
- أطراف الجناية ، المتسببون لها.
وأطراف هذه الجناية والمصيبة، المتسببون لها على نوعين: قاصد، عامد.. وغافل، أو جاهل، أو مشتبه عليه.
فالأول: نوع تسبب في الجناية بعلم، وقصد، ودراية، ورضى بحصول العلاقات المحرمة.
وهؤلاء يتحملو من إثم معاناة هذا المجروح: طفلة، أو طفل. ما يتحملو، وهم:
- الزانية والزاني.
- الداعي للعلاقات المحرمة، والمروج لها.
- الذي أذن بالاختلاط، ومنع منه، وحماه، حبا في الفاحشة.
* * *
1- الزانية، والزانية. وهما يحتملان الوزر الأكبر؛ لأن بفعلهما المباشر، وهو فعل الفاحشة، كان هذا المولود.
إن ذنب الزنا في المرتبة يأتي بعد الشرك والقتل، فقد جاء في الأثر عن عبد الله بن مسعود:
- : قلت (يا رسول الله!، أي الذنب أعظم؟. قال: أن تجعل لله ندا، وهو خلقك. قلت: ثم أي؟. قال: أن تقتل ولدك، من أجل أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟. قال: أن تزاني حليلة جارك) (1).
وعقوبة الزانية والزاني مقدرة، قال تعالى: "الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وليشهد عذابها طائفة من المؤمنين".
الزاني والزانية يجلدان مائة جلدة، ويغربان عاما، إن كانا بكرين. أما إن كانا محصنين، فالرجم بالحجارة جزاؤهما؛ فلا عذر لهما في الحرام، وقد بسط الله لهما في الحلال.
والآثار التي تحذر من الزنا، تخبر أنه ذنب يزيل الإيمان، قال عليه الصلاة والسلام:
- (إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان، وكان عليه كالظلة) (2).
وفي الصحيح أن رسول الله رأى الزواني والزناة قال:
- (فانطلقنا إلى نقب مثل التنور، أعلاه ضيق وأسفله واسع، يتوقد تحته نارا، فإذا اقترب ارتفعوا، حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة) (3).
فهو ذنب: ليس أكبر منه إلا الشرك، وقتل الولد.. وهو يزيل الإيمان.. ويترتب عليه جلد وتغريب، أو رجم حتى الموت.. وعقوبته في الآخرة أن يحبس الزانية والزاني في تنور من نار.
وهذا الذنب قبيح عند العقلاء، حتى عند بعض البهائم، ففي صحيح البخاري عن عمرو بن ميمون قال:
- ( رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة، قد زنت، فرجموها، فرجمتها معهم) (4). قال ابن تيمية: "ومثل ذلك قد شاهده الناس في زماننا، في غير القرود، حتى في الطيور"(5)
2- الداعي، والمروج للعلاقات المحرمة، بأية طريقة كانت، سواء: عبر الفضائيات، أو المجلات، أو الصحف، أو القصص والروايات. الذي يزين، ويحسّن هذا الإثم، سواء: بكلامه، أو بفعله، أو قلمه، أو بماله. الذين يحبون ذلك، ولا يتأثمون منه، بل يقصدونه، ويسعون في نشره.
وهذه فئة إلى النفاق أقرب، فقد أخبر تعالى عن المنافقين، أنهم يحبون شيوع الفاحشة في المؤمنين، قال تعالى:
- "إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون".(/6)
3- الذي أذن بالاختلاط، وحماه، ومنع منه، راضيا بكل ما يحدث فيه من إثم، عالما به، غير متأثم له، سواء كان مسؤولا في عمل، أو تعليم، أو غير ذلك، أو كان ولي أمر المرأة:
- فأما الذي أذن بالاختلاط وحماه، عن رضى بكل ما يحدث فيه من الإثم، وعلم بما ينتج عنه من علاقات محرمة، فهذا يدخل في حكم الفئة الآنفة، وما جاء فيها من وعيد؛ فإنه من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
- وأما الولي الذي أذن لمحارمه بالاختلاط بالأجانب، مع علمه بما قد يحدث لهن، ورضاه بذلك، فهذا في مصطلح الشارع يسمى: ديوثا. وعقوبته: أنه لا يدخل الجنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر في أهله الخُبث) (6).
فهؤلاء يحتملون الإثم، وهم مشاركون في معاناة هذا الإنسان المجروح؛ لأنه من خلال الوصف السابق، هم يعلمون بأن نتيجة التقارب، والاختلاط بين الجنسين، وخروج المرأة في زينة ظاهرة، هو: العلاقة المحرمة.
وهم يعلمون أن ما يصنعونه من المقدمات، والمغريات الجنسية نتيجتها: العلاقات المحرمة. فهم راضون بذلك، ويحبونه، وإلا لما وقعوا في أمور، لا يجهل أحد أنها تدعو إلى الإثم والفجور، مصرين عليها. وبعضهم يعلن ذلك، ويستهجن ما يسمى بالعفة، وحفظ الأعراض.؟!!.
* * *
والثاني: نوع تسبب في الجناية بغفلة، أو جهل، أو اشتباه؛ أي لم يدرك أن قوله، أو فعله، أو قلمه يسهم في هذه المشكلة، ويتسبب فيها، وهم:
- ولي أمر فتاة سمح باختلاط بالأجانب، ظنا منه أنه لا يضرها.
- مسؤول سمح بالاختلاط، ظنا منه أنه لا يفضي إلى علاقات محرمة.
- متفقه اشتبه عليه الأمر، فزعم أن الشريعة تبيح الاختلاط.
* * *
1- الولي الذي أذن لمحارمه بالاختلاط بالرجال، بداعي التعليم، أو العمل.
هناك من أولياء الأمور من يظن أن التربية الصحيحة، والتوعية كافية لتجنب هذه المشكلات، وعليه فلا مانع لديه من الإذن لمحارمه في: عمل مختلط، أو السفر بدون محرم، أو الخروج من البيت دون ملاحظة.
فهذا مشكلته: النظر إلى قضية العلاقة بين الجنسين من زاوية دون أخرى. نعم التربية والتوعية مهمة، بتنمية جانب الخوف والخشية من الله تعالى، والتعريف بخطر العلاقات المحرمة من جهة: الضرر بالأسرة، والحياة الزوجية المقبلة، وما قد ينتج عنها من أمراض.. إلخ.
لكن ليس هذا هو الأمر الوحيد الكافي لتجنب هذه المشكلة، هناك أمر مهم، دل على أهميته: عناية الشارع به. وهو: اجتناب الفتنة، والبعد عنها. فمن تعرض للفتنة تعرضت له، ومن تجنبها سلم منها.
وإن الفتنة هنا هي: الغرائز المشتعلة بين الجنسين. التي لا يمكن لأحد أن ينكرها، إلا إذا أراد أن يعبث بالحقيقة، وعقول من يقبلون العبث بعقولهم..!!.
أو أراد أن يكذب النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول:
( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) (7).
وإذا أراد هذا الولي أن يعرف قدر هذه الفتنة، فعنده شاهد من نفسه، فليختبرها:
- كيف هي عند امرأة أجنبية، أعجبه جمالها، ودلّها ودلالها ؟.
فإن كانت نفسه ماتت لكبر سنّ، أو مرض، أو همّ، فليتذكر:
كيف كانت لما كان شابا، نشطا، خاليا من الأوهام، والأمراض ؟.
هذا الشاهد يعطيه فتوى بخطأ ما أقدم عليه، اتكالا على التربية، والتوعية وحدها؛ فالعقل والدين يقول:
- اجتنبوا الاختلاط. فإنه يفضي إلى المحرمات من العلاقات؛ لأن النفس تجوع إلى الجنس الآخر كل حين.
2- المسؤول الذي سمح بالاختلاط، في المكان الذي هو مسؤول عنه: مؤسسة، أو شركة، أو جامعة
فهناك من هذا الصنف من يظن: أنه لا بأس بهذا الاختلاط. وأنه ينفع العمل، ولا يضره، ما دام قائما على الحشمة، والحجاب؛ يقصد تغطية الرأس.. مادام الوعي موجود، وهو في هذا:
- مأخوذ بقوانين الحضارة الغربية، يظنها مفروضة لازمة للتطور.
- مأخوذ بفكرة المساواة بين الجنسين، وأنه لا فرق بينهما.
فهذا يقال له ما قيل لولي أمر المرأة آنفا: أن عنده شاهد من نفسه، فليختبرها عند فتاة أعجبه دلّها.
ويضاف إليه: أن التجربة كفيلة بالبرهان؛ فالمجتمعات الغربية بدأت بالاختلاط، في كل المجالات، ثم تبعتها مجتمعات عربية وإسلامية، فماذا جنت من هذا الاختلاط ؟.
- جنت وحصدت العلاقات المحرمة، وما ينتج عنها من اللقطاء، وما يتبعها من المآسي.
- جنت ظلم المرأة، وامتهانها، وسلبها كرامتها، وتحميلها ما لا تطيق، فعليها العمل في البيت والوظيفة.
- جنت الأمراض النفسية، والعصبية، حتى كثرت العيادات النفسية، وكثرت مراجعة النساء لها خصوصا.
ويكفي لبيان خطر الاختلاط ونتائجه السيئة: أن دولا من هذه بدأت تفصل بين الجنسين في المدارس والجامعات، وهذا موجود في أمريكا، وبعض دول أوربا.
3- المتفقه الذي زعم أن الشريعة تبيح الاختلاط، ولا تحرمه.
فهذا يقال له: انظر وتأمل في الشاهدين الآنفين: الشاهد الذي من النفس، والشاهد الذي من التجربة.(/7)
فإنه كاف في نقض ما زعمته، ومع ذلك فإن لديك شبهة، تظنها دليلا معتمدا في دعواك:
- أن النساء كن يخرجن للأسواق، للبيع والشراء.
- وإلى المساجد للعبادة.
- وفي الجهاد، للعون والمساعدة، وتمريض الجرحى.
- وكن يختلطن في الطواف بالرجال.
فهذه أدلة يحتج بها هؤلاء، لكنها ليست محل النزاع، ولم يمنع منها أحد، والذي حرموا الاختلاط لم يقصدوا هذا النوع، إنما قصدوا:
- الاختلاط الذي يزول به الحجاب، والحاجز بين الجنسين: حتى تغدو العلاقة بينهما كالعلاقة بين الجنس الواحد. فتكون المرأة زميلة وصديقة للرجل، وكذا الرجل زميل وصديق للمرأة.. وكل اتصال بينهما ليس له حاجة شرعية.
فالمقصود بالمنع من الاختلاط: أن يكون للمرأة عالمها الخاص، وللرجل عالمه الخاص، فلا يتحد العالمان إلا بطرق مشروعة: محارم، زواج. ليس الالتقاء والاجتماع العابر، لسبب صحيح، يقبل به الشرع.
فإذا طبق هذا التعريف على ما ذكر من الأدلة المحتج بها: لم تنطبق. فلذا قلنا: إنها في غير محل النزاع.
ثم ليتأمل هذا المبيح للاختلاط في النصوص التالية:
- نصوص تأمر بغض البصر.
- نصوص تصف المرأة بأنها فتنة الرجال.
- نصوص تجعل صفوف النساء آخر المسجد، وتخبر أن شرها أولها؛ كونها أقرب للرجال، وخيرها آخرها؛ كونها أبعد عن الرجال.
- نصوص تجعل للنساء بابا خاصا في المسجد.
- نصوص تنهى عن مخالطة النساء الرجال في الطرقات، وتأمر النساء بالمشي في الحافات.
- نصوص تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم خصص للنساء يوما للتعليم.
- نصوص تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم ما جمع الرجال والنساء في مجلس علم، أو شورى.
- نصوص تأمر المرأة بالقرار في البيت، وأن صلاتها فيه خير من صلاتها في مسجده.
- نصوص تأمر المرأة بالحجاب، وعدم اللين في الكلام مع الرجال.
كيف لكل هذه الأحكام أن تطبق مع الاختلاط، مع كون المرأة والرجل الأجنبي في غرفة واحدة، ومكان واحد يلتقيان دوما، كل يوم بداعي العمل، أو العلم ؟.
إنه الحق واضح، كالشمس في رابعة النهار، لا يزيغ عنه إلا هالك، وإن الشارع لا يأمر بالشيء ونقيضه..
وإذا كانت هذه النصوص مع كثرتها لا تفيد منع الاختلاط، فأي فائدة إذن في سوقها، وكثرتها ؟!.
________________________________________
(1) - رواه البخاري في المحاربين، باب: إثم الزناة.
(2) رواه أبو داود وتمامه: (فإذا أقلع رجع إليه الإيمان)، انظر: السلسلة الصحيحة للألباني 509.
(3) رواه البخاري في الجنائز، باب: ما قيل في أولاد المشركين.
(4) كتاب مناقب الأنصار باب القسامة في الجاهلية، الفتح 7/156.
(5) الفتاوى 11/545.
(6) رواه أحمد، صحيح الجامع 3052.
(7) رواه البخاري في النكاح، باب: ما يتقى من شؤم المرأة وقوله: " إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم..".
المجروح!! [3/3]
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه 29/4/1427
27/05/2006
- بين الفريقين
- المانع من الجناية
- اعتراض
- حكمة العقوبة
- بين الفريقين ؟.
فأما المفسدون، الذين يعلمون بثمرة عملهم، ويحبون ذلك، وهم:
- قلة من أولياء الأمور.
- وقلة من الذين يسمحون بالاختلاط في الأمكنة التي هم مسئولون عنها.
- وأولئك الذين يستغلون وسائل الإعلام لترويج الفساد.
فهؤلاء يحبون الفاحشة، ويعرفون أنهم متسببون في مآسي هؤلاء المساكين من الأطفال؛ لذا فهم ساكتون، وإن تكلموا فتعرف اللحن في كلامهم.
أما الذين تسببوا في الجناية بغير قصد، الذين لا يرضون بالإثم، وهم:
- بعض أولياء الأمور.
- وبعض الذين يسمحون بالاختلاط في الأمكنة، التي هم مسئولون عنها.
- والذين يفتون بجواز الاختلاط، من المشتغلين بالشريعة.
فإنهم قالوا: لسنا جزءا من المشكلة، ونحن لا نرضى بهذه العلاقات الآثمة. وإذ سمحنا بالجمع بين الجنسين فنحن نقصد تهيئة علاقات طبيعية بين الجنسين، ليس فيها شبق ناتج عن فصل متعسف، مبناها على الثقة المتبادلة والاحترام. فالمشكلة ليست في الاختلاط إذن، إنما في قلة الوعي، والتربية، وفي آلات الإعلام.
وقبل الجواب يقال: قد تبين أن السبب ذاته يرتكبه فريقان، يكون أحدهما: آثما. والآخر: مغفورا له. فأولياء الأمور الذين أذنوا لمحارمهم بالاختلاط بالأجانب، وأولئك الذين يأذنون بالاختلاط فيما يقع تحت مسؤولياتهم:
- فيهم من هو آثم؛ كونه يعلم بما يترتب عليه من الآثام، ولا يبالي.
- وفيهم من هو مغفور له إن شاء الله تعالى، غافل غير مدرك، اشتبه عليه، لو أدرك الحقيقة لما أذن.
ثم يقال لهذين الصنفين، اللذين عندهما كثير من حسن الظن، وقليل من الإدراك والوعي:
قد أقررتم بأن آلات الإعلام لها دور في هذه المشكلة. وأنتم لا تملكون منعها، أفلا منعتم ما تقدرون منعه، فامتنعتم من انتهاك جدار الحجاب، فتركتموه كما هو ؟.
فما حاجتكم إلى دفع المرأة إلى الاختلاط، وقد علمتم أن آلات الإعلام تفعل فعلها إذا حصل الاختلاط ؟.
ثم من أين لكم أن التربية والتوعية وحدها تكفي في تجنب هذه المشكلة ؟.(/8)
هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه: ربى أصحابه فأحسن تربيتهم. وربى أهله بيته فأحسن تربيتهم.
- فهل رأيتموه جمع بعد ذلك بين: أصحابه، وأزواجه، وبناته، ونساء الصحابة في مجلس واحد: للشورى، أو للعلم، أو للعمل، أو للتحضير للغزو، أو في السفر، أو في الحضر ؟.
- هل رأيتموه يدعو إلى الجمع بين الجنسين ولو في نص واحد، بدعوى المساواة، وإعطاء المرأة حقوقها ؟
- هل رأيتموه يأمر المرأة أن تخرج من بيتها، لتشارك الرجل الأجنبي في بناء المجتمع المسلم ؟.
- أم رأيتموه يأمر بقرارها في البيت، حتى جعل صلاتها في بيتها خير من صلاتها معه في مسجده ؟.
- أم رأيتموه ينهى النساء عن التقارب مع الرجال حتى في الطرقات، ترسيخا لمبدأ الفصل ؟.
- أم رأيتموه يجعل للنساء مكانا في مؤخرة المسجد، وبابا خاصا، ترسيخا لمبدأ الفصل لا الجمع ؟.
- أم رأيتموه يخصص لهن يوما للتعليم ؟، أفلا جمعهن مع الرجال في الحلق كل يوم ؟.
ألم تقفوا على هذه النصوص، وأنتم تحتجون بالثقة، أفكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يثق في بناته، ونسائه، وقريباته، ونساء الصحابة ؟!.
كلا، وحاشا، بل عين الدين والحكمة: أن تمنع أسباب المنكر والفاحشة، مع التحصين منه بالتربية.
- فالتحصين نافع إذا تورط الرجل والمرأة في اختلاط لم يرغبا فيه، ولم يسعيا من أجله.
- والمنع نافع في قطع الفتنة والبلية من أصلها.
وليس العاقل من تعرض أو عرض غيره للمهالك، بدعوى الثقة والخبرة.
كمن خرج في سفر، فبدل أن يحث السير، اشتغل بالبحث عن جحور الحيات والعقارب، بدعوى أنه خبير بها، فاشتغل بها، فقد ضيع وقته، فيما لو أنفقه في السير، لكان أسرع وصولا، وربما لدغته حية، فعطلته عن سفره، وربما قتلته.. فهل ما فعله فيه شيء من العقل أو الحكمة ؟!.
نعم هناك فئات نياتها حسنة، ومقاصدها طيبة، لكن أعمالها فتنة عمياء، وجزء خطير من المشكلة، فكم من مريد للخير لم يبلغه..؟!!.
* * *
- المانع من الجناية .
قد أصابنا ما أصابنا من الألم، في سماع هذه القصص، والأحوال المؤلمة لهؤلاء الفتية، وفيهم الفتيات كذلك، وما من أحد عاقل إلا يود لو منع حصول هذا من أصله، وإن أهم وسيلة لمنعه هو:
1- منع الأسباب المغرية بالعلاقات المحرمة، المنتشرة في: القنوات، المجلات، الصحف، الروايات، والقصص. والتي تغري إليها هذا الإثم، مثل: تكشف النساء، وميلهن، وما يمارس فيها من مقدمات النكاح علنا.
2- منع الاختلاط بين الجنسين، تحت أية دعوى كانت. فلا شيء مفيد ينتج عن الاختلاط، إنما ينتج عنه: طفلة أو طفل مجروح، وخراب البيوت، وفساد الأخلاق، وعلى قصير الفهم: أن ينظر في تجربة الدول المتقدمة.
3- منع المرأة من الخروج متزينة، في فتنة بادية، فليس كل عباءة اليوم تستر، بل فيها ما يغري ويزين.
4- قيام ولي أمر المرأة بواجبه مع محارمه، فلا يسافرن إلا بمحرم، وعليه أن يقوم بحاجتهن، وأن يخرج معهن.
فإذا تحققت هذه الأربعة، فانظروا: هل توجد مشكلة كهذه المشكلة بعدها ؟.
كلا، لن توجد، وإن وجدت فبصورة محدودة جدا، فما هذه المشكلة إلا من تلك الأسباب.
وإذا أردنا ترتيب الأسباب، من حيث الأهمية:
- فأهم وسيلة لمنع العلاقات المحرمة: منع الاختلاط.
فكل ما سبق من مسببات للمحرم لن يكون له أثر مباشر كالاختلاط. المصيبة كلها في الاختلاط. ؟!!.. فإن التقارب، والتعارف، والصداقة، والكون معا، في مكان واحد: مكتب واحد، وفصل واحد، ومختبر، وعيادة، ومناوبة، ورحلات المشتركة.. ونحو هذا.
ليس شيء مثل هذا في الخطر؛ إذ به تستيقظ الغرائز، وتستجيب لداعي الهوى، فالرجل والمرأة إذا اجتمعا اشتعلت الغريزة، وتجاوبت النفس، وفي هذه الأحوال: تنسى المواعظ، وتختفي الأخلاق، ويرتفع الإيمان، وتذوب القيم، وتتلاشى التربية، وتتحلل الثقة بالنفس.. فكم من أديب سقط، وكم من عفيفة واثقة سقطت، وما زال الحكماء يرددون، ويحذرون من اختلاط وتقارب كهذا.
وليحذر من كل غرّ مخدوع، أو ماكر مخادع يريد أن يقنع: أن لا شيء من ذلك يكون. فكما قال القائل:
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
- تأتى بعدها في الأهمية: قرار المرأة في بيتها.
فإذا خرجت فلحاجة وضرورة، من غير زينة؛ فإن المرأة إذا قللت من خروجها، فلم تخرج إلا لضرورة، تاركة الزينة، كان تقديرها أعظم من الفتنة بها؛ لزوال الفتنة، وحلول أسباب التقدير والتعظيم.
- بعدها في الأهمية: قيام ولي الأمر بواجبه، في صون وليته.
فهو مسؤول، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة المؤمنة موصوفة بالغفلة، في قوله تعالى، فقال: {المحصنات الغافلات المؤمنات..}.؛ لأنها لا تدرك الشر الذي يراد بها، فإذا لم يقم الولي بواجبه ضيعها.
- آخر الوسائل أهمية في هذه المعنى: منع وسائل الإعلام من المشاهد الآثمة.
من خروج المرأة كاشفة ستر الله عليها، إلى المناظر والأفعال المحرمة.(/9)
ومع أن وسائل الإعلام خطيرة جدا، إلا أن تأثير لن يكون فعالا، ما دام أن المرأة لا تختلط بالرجال، ولا تخرج في زينة، والولي قائم برعايته. فإن الناس مهما رأوا في هذه الوسائل، فإن المتمني لن يستطيع فعل محرم، وهو لا يجد الوسيلة إلى ذلك، وإذا ما رأى امرأة تسير، فكانت محجبة بلا زينة، ولا فتنة، فإنه لن ينساق وراء شهواته، لشعوره أن هذه مصونة، ولا تصلح إلا للزواج، لا لشيء آخر.
وهكذا فإن تأثير هذه الوسائل حينئذ سيكون في الرغبة في الزواج السريع، لا غير ذلك.
أما إذا كانت المرأة هي الأخرى تتبدى بين الرجال، تصادقهم، وتزاملهم، مع كل تلك الوسائل المثيرة للغريزة: فهل يريد متذاكي أن يقنع الناس: أنه لا ضير من ذلك، وأن التربية كفيلة بمنع كل ما يخشى ؟!.
* * *
- اعتراض.
قال قائل، اشتبه عليه ما لا يشتبه: هل تريد القول: أن كل اختلاط، ففيه علاقة محرمة ؟.
فالجواب: ليس كل اختلاط فيه علاقة محرمة. فالمعادلة ليست كذلك، بل كما يلي:
- كل اختلاط، فبيئة ملائمة مهيئة، لعلاقة محرمة، قد ينتج عنها: وليد مجروح أبد الحياة.
فكونه بيئة يفيد أنه: ليس من اللازم حدوث علاقة. بل مظنّة قوية، وداع قريب غير بعيد، كما يقال:
- هذه الأرض وباء. ولا يلزم من ذلك مرض كل من فيه، لكن الكل معرض للمرض.
- الحرب مظنة الموت. وليس كل من ذهب فهو مقتول، لكن الكل معرض للقتل.
فكون الظن قويا: فإن من المعقول والحكمة إعمال هذا الظن، باجتناب ما يؤدي إلى الهلكة.
والناس يعرفون هذا، ويطبقونه في كل شيء، فإذا ما جاءوا إلى الاختلاط نسوا، وما تذكروا إلا الأغلوطات، وضيعوا كل القواعد والأصول..!!.
* * *
قال القائل: ألا ترى أنك تبالغ في خطر الاختلاط، فقد صوّرته وكأنه كارثة محققة ؟.
فالجواب: ليست مبالغة، بل حقيقة. المبالغة هي التي لم تسند بأدلة، أما والأدلة كلها وتنطق بالخطر، فلا.
فهذا العالم يشتكي من الفجور وانتشار الزنا، بشكل لم يعرف، وإذا نظرنا إلى السبب الذي تغير فيما يتعلق بهذه المشكلة خصوصا: وجدناه خروج المرأة واختلاطها بالرجال. بصورة لم تكن معهودة من قبل.
فبان أن العلة هو: الاختلاط.
حتى البلاد الإسلامية تئن من هذا المصاب؛ ليعلم أن بلية الاختلاط وأثره: لا يحمي منه الانتماء إلى الإسلام.
* * *
- حكمة العقوبة.
لقد كان من عقوبة الزانية والزاني، إذا كان محصنين: رجمهما بالحجارة حتى الموت.
ويمكن أن تلتمس الحكمة من هذه العقوبة، الشديدة البالغة: أن هذين بفعلهما، هدما بيتيهما، وأسرتيهما، فكانا في المثال، كمن هدم بنيان بيته، فشرد منه أهله وساكنيه، فاستحق بذلك أن يرجم بحجارته، فيُشّرد
بها كما شرد أهلها، فيذوق الألم، كما أذاقه.
فالمحصن هو: الذي تزوج، وأنشأ أسرة.
- فعلم وأدرك عظم حاجة الطفل إلى الأسرة، وأن يكون ذا أبوين.
- وفهم واستوعب الآلام والوحشة، التي يعانيها المحروم من الأسرة والأبوين.
- وعرف أن العلاقة الجنسية هي سبيل نتاج الأطفال.
فإذا جنح بعد هذا العلم والإدراك، والفهم والاستيعاب، والمعرفة: فاقترف جناية محرمة. فهو كمن يتعمد إيذاء وجرح إنسان في قلبه، وروحه، وعقله، هو ذلك الطفل الوليد، جرحا لا يلتئم، أبد الحياة.
فهل عرفنا لم استحق الرجم، ومثله تلك المحصنة الزانية ؟.
وإن كانا بكرين: فالجلد مائة، والتغريب عاما.
وفي هذا التغريب شعور بالوحشة، والوحدة، والكآبة، والبعد عن الإلف، والقرابة؛ لعله يتذكر حال مولود يجيء من هذا الطريق، فيعيش في: وحدة، وكآبة موحشة، وبعد، وغربة، وانفصال عن القريب.
ليتذكر كل من تمنى أو أراد فعل فاحشة: أن من الآثار الموحشة لفعله: الإساءة إلى طفل وإنسان، يعيش أبد حياته كسير النفس، مليء الحزن، يدعو باللعنة والانتقام على من تسبب في حاله.
ليتذكر هذا كل فتى وفتاة، وكل رجل وامرأة..
وليتذكره كل من أسهم ولو بشكل غير مباشر في هذا الجرح.
* * *
أيها المستهين بالأعراض، الهاتك لستر الغافلات: هل شعرت بألم هذا الطفل أو الطفلة ؟.
أيتها المستهينة بالعفة، المتلاعبة بنفسها: هل شعرت بألم هذا الطفل أو الطفلة ؟.
هل شعرتما بالجرح الذي في نفس هذا المجروح المسكين البريء، الذي سيكبر، ويكبر الجرح معه ؟.
هل علمتما من كان الذي جرحه، فحطّمه، فجعله كسير النفس، معذبا، يتلوى ألما ؟.
- أنتما ..!!.(/10)
المفسرون بعد التابعين
تفسير القرآن الكريم لم يتوقف عند مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي، ولن يتوقف كذلك ما دام هناك عقل يتفكر، وقلب يتذكر.
يمكننا القول بداية - على ضوء ما تقدم في هذا الصدد - إن تفسير القرآن الكريم مر بمراحل بارزة، حاصل القول فيها كالآتي:
كان تفسير القرآن في بداية الأمر مقصورًا على التناقل عن طريق الرواية فحسب، إذ كان الصحابة رضوان الله عليهم يروون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفسيره لبعض الآيات والسور القرآنية...وكان التابعون كذلك يروون عن الصحابة ما كان عندهم من تفسير منقول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو ما اجتهدوا في تفسيره... وواضح من هذا أن التفسير في هذه المرحلة كان يقوم على المشافهة والرواية فحسب.
ثم مع بدء مرحلة التدوين عمومًا - والتي يؤرَّخ لها عادة مع بداية النصف الثاني من القرن الهجري الثاني - والبدء بتدوين الحديث خصوصًا، بدأ التفسير يدوَّن ضمن كتب الحديث خاصة، إذ كان يُفرد له باب مستقل ضمن الأبواب التي تشتمل عليها المدونات الحديثة.
ومع انتشار التدوين، واستقلال كثير من العلوم، أخذ تدوين التفسير يستقل شيئًا فشيئًا، فبرزت بعض التفاسير المدونة التي فسرت القرآن الكريم تفسيراً كاملاً، وبالسند فيما كان مسنداً. وليس من السهل في هذا السياق معرفة أول من دوَّن تفسير القرآن كاملاً مرتباً...
وبعد مرحلة التدوين بالإسناد، جاءت مرحلة التدوين لكن مع اختصار الأسانيد، إذ اقتصر التدوين في التفسير على نقل الأقوال التفسيرية دون إسنادها إلى قائليها، الأمر الذي ترتب عليه ظهور ظاهرتي الوضع، والنقل عن الروايات الإسرائيلية، وربما كان لنا وقفة في مقال لاحق - حسب ما تيسر - على هاتين الظاهرتين.
وبعد تدوين كثير من العلوم وانتشارها؛ كعلم الكلام، وعلوم العربية، وعلم الفلسفة، بدأ التفسير ينحو منحًا جديدًا، إذ دخل في مرحلة التفسير العقلي، التي بدأت بترجيح بعض الأقوال على بعض، اعتمادًا على اللغة العربية، والسياقات القرآنية، واتخذ هذا المنحا من التفسير أشكالاً مختلفة ما بين مقبول ومرفوض.
ولا مطمع لتفصيل القول في ذلك في مقالنا هذا... لكن ما لابد من الإشارة إليه هنا أنه كان من ملامح هذه المرحلة تنوع التفاسير، وَفْقَ تنوع الاختصاصات العلمية؛ وهكذا وجدنا بعض التفاسير يغلب عليها الجانب اللغوي على غيره من الجوانب، وبعضها الآخر يغلب عليه الجانب الفلسفي، وقسم ثالث يطغي فيه الجانب الفقهي على ما سواه... وهكذا في باقي الاختصاصات.
وعلى الرغم من كل هذا التطور والتغير، لا يمكن القول إن التفسير بالمأثور لم يعد له وجود، بل إن الصحيح والواقع أن هذا التوسع في التفسير العقلي - إن صح التعبير - لم يلغِ التفسير بالمأثور، بل أصبح كل منهما موازيًا للآخر ومكملاً له.
وإضافة لما تقدم ذكره، كان من ملامح هذه المرحلة بدء الكتابة بعلوم القرآن كموضوعات مستقلة؛ كمجاز القرآن، ومفردات القرآن، والناسخ والمنسوخ في القرآن، وأسباب النزول، وأحكام القرآن، وما أشبه ذلك من موضوعات قرآنية، فصَّلت كُتب علوم القرآن القول فيها.
لكن يلاحظ أن سعة تلك الجهود التفسيرية دفعت من جاء بعدُ إلى العكوف على الاختصار أو التعليق أو التتبع لجهود السابقين، وانحسرت جهود التأليف والإبداع، وترافق ذلك مع ما سمِّي في التاريخ الإسلامي بمرحلة الانحطاط والتقليد والركون إلى جهود من سبق، وسادت مقولة: ليس بالإمكان أفضل مما كان!!
وبدخول عصر النهضة الحديثة، وصعود ما أُطلق عليه ظاهرة "الصحوة الإسلامية" وما شهده هذا العصر من تطورات على الأصعدة كافة، بدأت تظهر العديد من الجهود الإبداعية في مجال تفسير القرآن الكريم؛ فكان من ملامح هذه المرحلة ظهور التفسير الموضوعي للقرآن، أي تفسير القرآن الكريم حساب موضوعات معينة، كموضوع الأخلاق، وموضوع العلم، ما أشبه ذلك.
وكان من ملامح هذه المرحلة كذلك ظهور التفسير العلمي للقرآن الكريم.
ولا ريب أن هذا التنوع والتعدد في الجهود المبذولة لتفسير القرآن الكريم أمر محمود ومشروع، ما دام مضبوطًا بضوابط الشرع وموجهاته؛ وهو في حد ذاته دليل على إعجاز هذا الكتاب، ودليل من ثَمَّ على خلوده وتجدد عطائه بتجدد الفكر الذي يتعامل معه ويتوجه إليه.
ونحن - من موقعنا هذا - سوف تكون لنا وقفات متتالية - إذا يسر الله ذلك - مع أبرز المفسرين، وأشهر الكتب التفسيرية، وكذلك مع بعض الاتجاهات التفسيرية التي سادت مرحلة ما بعد عصر التابعين. نسأل الله التوفيق والسداد والقبول في أمرنا كله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
26/07/2003
http://www.islamweb.net المصدر:(/1)
المفصل في أحكام الأضحية
تأليف
الدكتور حسام الدين عفانه
الأستاذ المشارك في الفقه والأصول
كلية الدعوة وأصول الدين
جامعة القدس
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونستهديه ونستغفره ونسترشده ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } .
{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } .
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }.
أما بعد :
فإن الأضحية شعيرةٌ من شعائر الله واجبٌ تعظيمها كما قال تعالى :{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } .
وسنة من سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينبغي الالتزام بها ، وإحياؤها بالعمل بها ونشرها .
فرغبت في جمع كتاب في الأضحية ، أبين فيه بالتفصيل ، أحكامها وشروطها وسننها وآدابها ، وما يتعلق بالمضحي من شروط وسنن وآداب ، ونحو ذلك على نسق الكتاب الذي سبق وألفته بعنوان [ أحكام العقيقة في الشريعة الإسلامية ] .
وقد جمعت مادة هذا الكتاب من بطون كتب التفسير ، وشروح السنة ، وأمهات كتب الفقه ، وصغت ذلك بأسلوب سهل ميسور ، وأقول ما قاله العلامة ابن منظور صاحب لسان العرب :[ وليس لي في هذا الكتاب فضيلة أَمُتُّ بها، ولا وسيلة أتمسك بها، سوى أني جمعت فيه ما تفرق في كتب السابقين ] .
ولما كنت أتبع منهج المحققين من الفقهاء ، الذين يعتنون في كتبهم بذكر الأدلة ، من كتاب الله وسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حرصت على الاستدلال لكل مسألة من مسائل
الكتاب .
فإن جمال الفقه وروحه الدليل ، ولذا عُنيتُ بتخريج الأحاديث التي أستدل بها ، فما كان في صحيحي البخاري ومسلم ، أو في أحدهما اكتفيت بذلك ، وما كان فيما عداهما من كتب السنة ، ذكرت أقوال المحدثين في الحكم عليه ، كالحافظ ابن عبد البر ، والإمام النووي ، والحافظ الهيثمي ، والحافظ ابن حجر ، والحافظ الزيلعي من المتقدمين ، ومن المتأخرين محدث العصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني .
وقد جمعت أقوال العلماء من الصحابة - فهم سادات المفتين والعلماء - والتابعين ، ومن أصحاب المذاهب الفقهية وأتباعهم ، ونظرت في أدلتهم ، ورجحت ما وسعني الترجيح ، من غير تعصب لمذهب أو إمام ، وإنما حسب ما يؤيده الدليل ، وأرجو أن يكون ما رجحته هو الصواب ، فإن كان كذلك ، فالحمد لله أولاً وأخيراً ، وإن كانت الأخرى ، فأستغفر الله وأتوب إليه ، وذلك من خطئي وتقصيري ، وأخيراً أقول ما قاله القاضي البيساني يرحمه الله :[ إني رأيت أنه لا يكتب إنسانٌ كتاباًفي يومه ، إلا قال في غده : لو غُيِّرَ هذا لكان أحسن ، ولو زِيدَ كذا لكان يستحسن ، ولو قُدِمَ هذا لكان أفضل ، ولو تُرِكَ هذا لكان أجمل ، وهذا من أعظم العبر ، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جملة البشر ] .
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه د. حسام الدين بن موسى عفانة
أبوديس/القدس
صباح يوم الاثنين الخامس عشر من شوال 1419 وفق الأول من شباط 1999
شكرٌ وتقديرٌ
يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( من لا يشكر الناس لا يشكر الله ) .
أتقدم بجزيل الشكر والتقدير إلى جمعية الإصلاح - لجنة إحياء التراث - في بيت المقدس التي بادرت إلى طبع هذا الكتاب ، كما طبعت غيره من الكتب النافعة والمفيدة .
فجزى الله القائمين على اللجنة خير الجزاء ، وبارك الله فيهم ، وفي جهودهم الطيبة .
المؤلف
الطبعة الأولى شوال 1419
كانون الثاني 1999
مطبعة الأمل _ القدس
تلفون : 2449064
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الفصل الأول
حكم الأضحية وشروطها
المبحث الأول
تعريف الأضحية لغةً واصطلاحاً
تعريف الأضحية لغةً : الأضحية في لغة العرب فيها أربع لغات كما نقل الجوهري عن الأصمعي قوله:
[ وفيها أربع لغات ، إضْحِيَّةٌ .
و أُضْحِيَّةٌ والجمع أضاحي .
و ضَحِيَّةٌ على فعيلة والجمع ضحايا .
و أضْحَاةٌ والجمع أضحىً كما يقال أرطاةٌ وأرْطىً … ] (1) .
__________
(1) الصحاح للجوهري مادة ضحا 6/2407 ، وانظر لسان العرب 8/29-30 مادة ضحا ، تاج العروس 19/615-616 مادة ضحو .(/1)
ويقال ضحى تضحيةً ، إذا ذبح الأضحية وقت الضحى ، هذا هو الأصل فيه كما قال أهل اللغة (1).
تعريف الأضحية عند الفقهاء : عرَّف الفقهاء الأضحية بعدة تعريفات منها :
1. هي ذبح حيوان مخصوص بنية القربة في وقت مخصوص (2).
2. هي اسم لحيوان مخصوص بسن مخصوص يذبح بنية القربة في يوم مخصوص عند وجود شرائطها وسببها (3).
3. هي ما يذبح من النعم تقرباً إلى الله تعالى من يوم العيد إلى آخر أيام التشريق (4).
4. والذي أختاره في تعريف الأضحية أنها : اسمٌ لما يُذكى من النَّعم تقرباً إلى الله تعالى في أيام النحر بشرائط مخصوصة .
فالتذكية هي إزهاق روح الحيوان ليتوصل إلى حلِّ أكله ، فتشمل الذبح والنحر ، بل تشمل العقر أيضاً ،كما لو شرد ثورٌ أو بعير فطُعِنَ برمح أو نحوه مع التسمية ونية الأضحية .
من النعم : لأن الأضحية تكون من الأنعام فقط ، على الراجح من أقوال أهل العلم كما سيأتي .
والأنعام هي الإبل والبقر والغنم وتشمل الضأن والماعز .
في أيام النحر : وهذا لبيان وقت الأضحية الشرعي كما سيأتي تفصيله في محله .
تقرباً إلى الله تعالى : فلا يعد من الأضحية ما يُذكى لغير التقرب إلى الله تعالى ، مثل ما يُذكى للبيع أو الأكل أو إكرام الضيف ، وكذلك لا يُعَدُ من الأضحية ، ما يذكى تقرباً إلى الله تعالى في غير أيام النحر كالعقيقة (5) .
بشرائط مخصوصة : وسيأتي تفصيل شروط الأضحية في موضعها إن شاء الله تعالى .
المبحث الثاني
مشروعية الأضحية وفضلها
أولاً : مشروعية الأضحية :
الأضحية مشروعة بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - القولية والفعلية وانعقد الإجماع على ذلك .
أما الكتاب الكريم فقوله تعالى:} فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ { سورة الكوثر الآية 2 .
قال القرطبي :[ قوله تعالى : } فَصَلِّ { أي أقم الصلاة المفروضة عليك، كذا رواه الضحاك عن ابن عباس .
وقال قتادة وعطاء وعكرمة : } فَصَلِّ لِرَبِّكَ { صلاة العيد يوم النحر .
} وَانْحَرْ { نُسُكك .
وقال أنس :كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينحر ثم يصلي فأُمِرَ أن يصلي ثم ينحر.
وقال سعيد بن جبير أيضاً : صل لربك صلاة الصبح المفروضة بجمع – أي مزدلفة – وانحر البدن بمنى … ] (6) .
وقال ابن كثير :[ قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والحسن، يعني بذلك نحر البدن ونحوها .
وكذا قال قتادة ومحمد بن كعب القرظي والضحاك والربيع وعطاء الخراساني والحكم وسعيد بن أبي خالد وغير واحد من السلف وهذا بخلاف ما كان عليه المشركون من السجود لغير الله والذبح على غير اسمه كما قال تعالى:{ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ …}الآية ] ثم قال ابن كثير بعد أن ذكر أقوالاً أخرى في تفسير الآية :
[ والصحيح القول الأول أن المراد بالنحر ذبح المناسك ] (7) .
ومن أهل العلم من يرى أن المراد بقوله تعالى :} فَصَلِّ لِرَبِّكَ { أي صلاة العيد وبقوله :
} وَانْحَرْ { أي نحر الأضحية .
ولا يخفى أن صلاة العيد داخلة في عموم قوله تعالى :} فَصَلِّ لِرَبِّكَ { وأن الأضحية داخلة في عموم قوله تعالى :} وَانْحَرْ { (8) وهذه الأقوال في تفسير الآية محتملة .
وأما السنة النبوية الفعلية ، فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي وكان يتولى ذبح أضحيته بنفسه - صلى الله عليه وسلم - فمن ذلك :
أ. ما رواه البخاري بإسناده عن أنس - رضي الله عنه - قال :( ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين ، فرأيته واضعاً قدمه على صفاحهما يسمِّي ويكبر فذبحهما بيده ) .
ورواه مسلم ، ولفظه :( عن أنس قال : ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين
قال : ورأيته يذبحهما بيده ورأيته واضعاً قدمه على صفاحهما قال: وسمَّى وكبر ) (9) .
ب. وعن عائشة رضي الله عنها :( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد ، ويبرك في سواد ، وينظر في سواد ، فأُتِيَ به ليضحي به ، فقال لها : يا عائشة هلمي المدية، ثم قال : اشحذيها بحجر . ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش ، فأضجعه ثم ذبحه ثم قال:
باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ، ومن أمة محمد ثم ضحَّى به ) رواه مسلم (10) .
ج. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال :( أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة عشر سنين يضحي ) رواه أحمد و الترمذي وقال : هذا حديث حسن (11) .
__________
(1) المصباح المنير ص359 .
(2) الدر المختار شرح تنوير الأبصار 6/312 .
(3) أنيس الفقهاء ص279 .
(4) مغني المحتاج 6/122 ، الإقناع 2/277 .
(5) انظر الموسوعة الفقهية 5/74 .
(6) تفسير القرطبي 20/218 .
(2) تفسير ابن كثير 4/558 .
(8) انظر فتح القدير 5/502 ، أضواء البيان 5/416 .
(9) صحيح البخاري مع الفتح 12/114 ، صحيح مسلم بشرح النووي 5/104 .
(10) صحيح مسلم بشرح النووي 5/105-106 .
(11) سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/80 ، الفتح الرباني 13/65 .(/2)
د. وعن جابر - رضي الله عنه - قال:( شهدتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأضحى بالمصلى ، فلما قضى خطبته نزل من منبره ، وأُتِيَ بكبش فذبحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ، وقال : بسم الله والله أكبر هذا عني وعمَّن لم يضح من أمتي ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد ، وقال الشيخ الألباني: صحيح (1) .
وأما السنة النبوية القولية ، فقد وردت أحاديث كثيرة في الأضحية منها :
أ. عن البراء - رضي الله عنه - قال :( قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ، ثم نرجع فننحر، من فعله فقد أصاب سنتنا ، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء .
فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح فقال : إن عندي جذعة فقال : إذبحها ولن تجزئ عن أحدٍ بعدك .) رواه البخاري ومسلم (2) .
ب. وعن جندب بن سفيان - رضي الله عنه - قال :( شهدتُ الأضحى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يعدُ أن صَلَّى وفرغ من صلاته سَلَّمَ ، فإذا هو يرى لحم أضاحِيَّ قد ذُبحت قبل أن يفرغ من صلاته ، فقال: من كان ذبح أضحيته قبل أن يصلي أو نصلي فليذبح مكانها أخرى ، ومن كان لم يذبح فليذبح باسم الله ) رواه البخاري ومسلم واللفظ له (3) .
ج. وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي ، فلا يمس من شعره ولا بشره شيئاً ) رواه مسلم (4) .
وغير ذلك من الأحاديث .
وقد أجمع المسلمون على مشروعية الأضحية (5) .
ثانياً : فضل الأضحية :
قال الإمام ابن العربي المالكي :[ ليس في فضل الأضحية حديثٌ صحيحٌ ، وقد روى الناس فيها عجائب لم تصح ، منها قوله :( إنها مطاياكم إلى الجنة ) ] (6) .
وقد وردت بعض الأحاديث في فضل الأضحية ، ولكنها ضعيفة ، وبعضها موضوع مكذوب، وأمثل الأحاديث الواردة في فضل الأضحية ما رواه الترمذي بإسناده عن عائشة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :( ما عمل آدمي من عمل يوم النحر ، أحب إلى الله من إهراق الدم ، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفساً ) قال الترمذي :[ وفي الباب عن عمران بن حصين وزيد بن أرقم . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب لانعرفه من حديث هشام بن عروة إلا من هذا الوجه …
قال أبو عيسى : ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الأضحية لصاحبها بكل شعرة حسنة ، ويروى بقرونها ] (7) .
ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد. ولم يخرجاه . فتعقبه الذهبي بقوله : قلت سليمان واهٍ وبعضهم تركه (8) . وضعفه المنذري وأبو حاتم والشيخ الألباني (9) .
وأما حديث عمران بن حصين الذي أشار إليه الترمذي فنصه :( عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا فاطمة قومي إلى أضحيتك فاشهديها ، فإنه يغفر لك عند أول قطرة تقطر من دمها كل ذنب عملتيه ، وقولي: إن صلاتي ونسكي ، ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين .
قال عمران : قلت يا رسول الله هذا لك ولأهل بيتك خاصة فأهل ذاك أنتم، أم للمسلمين عامة ؟ قال : بل للمسلمين عامة ) .
رواه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد . ولم يخرجاه وشاهده حديث عطية عن أبي سعيد .
وتعقبه الذهبي فقال : بل أبو حمزة ضعيف جداً وإسماعيل ليس بذاك (10) .
وقال الشيخ الألباني عن الحديث : منكر (11) .
وأما حديث زيد بن أرقم الذي أشار إليه الترمذي ونصه :( عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال : قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله ما هذه الأضاحي ؟ قال : سنة أبيكم إبراهيم .
قالوا : فما لنا فيها يا رسول الله ؟ قال: بكل شعرة حسنة .
قالوا : فالصوف يا رسول الله ؟ قال : بكل شعرة من الصوف حسنة ) .
رواه ابن ماجة وقال في الزوائد : في إسناده أبو داود واسمه نفيع بن الحارث ، وهو متروك واتهم بوضع الحديث .
ورواه البيهقي ثم قال : قال البخاري عائذ الله المجاشعي عن أبي داود روى عنه سلام بن مسكين لا يصح حديثه . ورواه أحمد ، وقال الشيخ الألباني : إنه حديث موضوع (12) .
__________
(1) صحيح سنن أبي داود 2/540 ، سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/94 ، سنن ابن ماجة 2/1043 ، الفتح الرباني 13/63 .
(2) صحيح البخاري مع الفتح 12/98 ، صحيح مسلم بشرح النووي 5/99 .
(3) صحيح البخاري مع الفتح 12/117 ، صحيح مسلم بشرح النووي 5/95-96 .
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 5/119 .
(5) المغني 9/435 .
(6) عارضة الأحوذي 6/228 .
(7) سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي 6/228-229 .
(8) المستدرك 4/246 .
(9) سلسلة الأحاديث الضعيفة 2/14 حديث رقم 526 .
(10) المستدرك 4/247 .
(11) سلسلة الأحاديث الضعيفة 2/15 حديث رقم 528 .
(12) سنن ابن ماجة 2/1045 ، سنن البيهقي 9/261 ، الفتح الرباني 13/57 ، سلسلة الأحاديث الضعيفة 2/14.(/3)
وأما الحديث الذي ذكره الإمام ابن العربي المالكي وأوردته في أول المبحث فقد ورد بألفاظ مختلفة منها :
( عظموا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم ) وفي لفظٍ آخر ( استفرهوا ضحاياكم فإنها مطاياكم على الصراط ) وغيرهما من الألفاظ .
فهذا الحديث بألفاظه المختلفة غير ثابت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل هو ضعيف جداً .
قال الحافظ ابن حجر :[لم أره] ونقل عن ابن الصلاح قوله :[ هذا الحديث غير معروف ولا ثابت فيمنا علمناه ] ثم ذكر أن صاحب مسند الفردوس قد رواه وفيه راوٍ ضعيف جداً (1) . وقال الشيخ العجلوني :[ إنه ضعيف جداً ] (2) .
وقال الشيخ الألباني :[ لا أصل له بهذا اللفظ ( عظموا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم ) ](3) .
وقال الشيخ الألباني في موضع آخر :( استفرهوا ضحاياكم فإنها مطاياكم على الصراط ) ضعيف جداً (4) .
وقال الحافظ ابن عبد البر :[ وقد روي في فضل الضحايا آثار حسان ، فمنها ما رواه سعيد بن داود… عن ابن عباس قال :قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما من نفقة بعد صلة الرحم أعظم عند الله من إهراق الدم ] (5) .
المبحث الثالث
الحكمة من مشروعية الأضحية
قال أهل العلم إن الأضحية شرعت لحكم كثيرة منها :
أولاً : إحياءً لسنة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، حينما رأى في المنام أنه يذبح ولده إسماعيل ، ورؤيا الأنبياء حق وصدق ، قال الله تعالى:} وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ(99)رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ(100)فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ(101)فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ(102)فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ(103)وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ(104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(105)إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ(106){ سورة الصافات .
قال صاحب الظلال يرحمه الله :[ ثم تجيء الحلقة الثانية من قصة إبراهيم … لقد انتهى أمره مع أبيه وقومه . لقد أرادوا به الهلاك في النار التي أسموها الجحيم ، وأراد الله أن يكونوا هم الأخسرين ؛ ونجاه من كيدهم أجمعين .
عندئذ استدبر إبراهيم مرحلة من حياته ليستقبل مرحلة ؛ وطوى صفحة لينشر صفحة :
} وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ {.
هكذا .. إني ذاهب إلى ربي .. إنها الهجرة . وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية. هجرة يترك وراءه فيها كل شيء من ماضي حياته . يترك أباه وقومه وأهله وبيته ووطنه وكل ما يربطه بهذه الأرض ، وبهؤلاء الناس . ويدع وراءه كذلك كل عائق وكل شاغل. ويهاجر إلى ربه متخففاً من كل شيء ، طارحاً وراءه كل شيء ، مسلماً نفسه لربه لا يستبقي منها شيئاً .
موقنٌ أنَّ ربه سيهديه، وسيرعى خطاه ، وينقلها في الطريق المستقيم .إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال ، ومن وضع إلى وضع ، ومن أواصر شتى إلى آصرة واحدة لا يزحمها في النفس شيء . إنه التعبير عن التجرد والخلوص والاستسلام والطمأنينة واليقين .
وكان إبراهيم حتى هذه اللحظة وحيداً لا عقب له ؛ وهو يترك وراءه أواصر الأهل والقربى ، والصحبة والمعرفة ، وكل مألوف له في ماضي حياته ، وكل ما يشده إلى الأرض التي نشأ فيها ، والتي انحسم ما بينه وبين أهلها الذين ألقوه في الجحيم ! فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه . اتجه إليه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح :
} رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ {.
واستجاب الله دعاء عبده الصالح المتجرد ، الذي ترك وراؤه كل شيء ، وجاء إليه بقلب
سليم … } فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ {.
وهو إسماعيل - كما يرجح سياق السيرة والسورة – وسنرى آثار حلمه الذي وصفه ربه به وهو غلام . ولنا أن نتصور فرحة إبراهيم الوحيد المفرد المهاجر المقطوع من أهله وقرابته . لنا أن نتصور فرحته بهذا الغلام الذي يصفه ربه بأنه حليم .
والآن آن أن نطلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم . بل في حياة البشر أجمعين . وآن أن نقف من سياق القصة في القرآن أمام المثل الموحى الذي يعرضه الله للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم …
} فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ { .
يالله ! ويالروعة الإيمان والطاعة والتسليم .
__________
(1) التلخيص الحبير 4/138 .
(2) كشف الخفاء 1/121 .
(3) السلسلة الضعيفة 1/102 حديث 74 .
(4) السلسلة الضعيفة 3/411 حديث 1255 .
(5) فتح المالك 7/18 ، وقال محققه : ذكره بالكنز برقم 12239 وعزاه السيوطي للديلمي عن ابن عباس .(/4)
هذا إبراهيم الشيخ . المقطوع من الأهل والقرابة . المهاجر من الأرض والوطن . هاهو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام . طالما تطلع إليه. فلما جاءه غلاماً ممتازاً يشهد له ربه بأنه حليم . وهاهو ذا ما يكاد يأنس به ،وصباه يتفتح ، ويبلغ معه السعي ،ويرافقه في الحياة … وها هو ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد ، حتى يرى في منامه أنه يذبحه . ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية . فماذا ؟ إنه لا يتردد ، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم .. نعم إنها إشارة . مجرد إشارة . وليست وحياً صريحاً ، ولا أمراً مباشراً . ولكنها إشارة من ربه… وهذا يكفي… هذا يكفي ليلبي ويستجيب. ودون أن يعترض . ودون أن يسأل ربه… لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد ؟!
ولكنه لا يلبى في انزعاج ، ولا يستسلم في جزع ، ولا يطيع في اضطراب… كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء . يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب: } قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ {…
فهي كلمات المالك لأعصابه ، المطمئن للأمر الذي يواجهه ، الواثق بأنه يؤدي واجبه. وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن ، الذي لا يهوله الأمر فيؤديه ، في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي ، ويستريح من ثقله على أعصابه !
والأمر شاق – ما في ذلك شك – فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة . ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته… إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده . يتولى ماذا ؟ يتولى ذبحه .. وهو – مع هذا – يتلقى الأمر هذا التلقي ، ويعرض على ابنه هذا العرض ؛ ويطلب إليه أن يتروى في أمره ، وأن يرى فيه رأيه !
إنه لا يأخذ ابنه على حين غرة لينفذ إشارة ربه . وينتهي . إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر . فالأمر في حسه هكذا . ربه يريد . فليكن ما يريد . على العين والرأس . وابنه ينبغي أن يعرف . وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاماً ، لا قهراً واضطراراً . لينال هو الآخر أجر الطاعة ، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم ! إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها ؛ وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى …
فماذا يكون من أمر الغلام ، الذي يعرض عليه الذبح ، تصديقاً لرؤيا رآها أبوه ؟
إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه : } قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ {.. إنه يتلقى الأمر لا في طاعة ولا استسلام فحسب . ولكن في رضى كذلك وفي يقين.. } يَاأَبَتِ {.. في مودة وقربى . فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده . بل لا يفقده أدبه ومودته .
} افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ { فهو يحس ما أحسه من قبل قلب أبيه . يحس أن الرؤيا إشارة . وأن الإشارة أمر . وأنها تكفي لكي يلبى وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب .
ثم هو الأدب مع الله ، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال ؛ والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية ، ومساعدته على الطاعة :
} سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ { ...
ولم يأخذها بطولة . ولم يأخذها شجاعة . ولم يأخذها اندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة . ولم يظهر لشخصه ظلاً ولا حجماً ولا وزناً… إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه ، وأصبره على ما يراد به :} سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ { .
ياللأدب مع الله ! ويالروعة الإيمان . ويالنبل الطاعة . ويالعظمة التسليم !
ويخطو المشهد خطوة أخرى وراء الحوار والكلام .. يخطو إلى التنفيذ : } فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ {.. ومرةً أخرى يرتفع نبل الطاعة . وعظمة الإيمان . وطمأنينة الرضى وراء كل ما تعارف عليه بنو الإنسان ..
إن الرجل يمضي فيكب ابنه على جبينه استعداداً . وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعاً. وقد وصل الأمر إلى أن يكون عياناً .
لقد أسلما .. فهذا هو الإسلام . هذا هو الإسلام في حقيقته .ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم.. وتنفيذ.. وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان
العظيم .
إنها ليست الشجاعة والجراءة . وليس الاندفاع والحماسة . لقد يندفع المجاهد في الميدان، يَقْتُلُ ويُقْتَلُ . ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود . ولكن هذا كله شيء والذي يصنع إبراهيم وإسماعيل هنا شيء آخر .. ليس هنا دم فائر، ولا حماسة دافعة ولا اندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص ! إنما هو الاستسلام الواعي المتعقل القاصد المريد ، العارف بما يفعل ، المطمئن لما يكون . لا بل هنا الرضى الهادئ المستبشر المتذوق للطاعة و طعمها الجميل !
وهنا كان إبراهيم وإسماعيل كانا قد أديا . كانا قد أسلما . كانا قد حققا الأمر(/5)
والتكليف. ولم يكن باقياً إلا أن يذبح إسماعيل ، ويسيل دمه ، وتزهق روحه .. وهذا أمر لا يعني شيئاً في ميزان الله ، بعدما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما
و عزمهما و مشاعرهما كل ما أراده ربه منهما .
كان الابتلاء قد تم . والامتحان قد وقع . ونتائجه قد ظهرت . وغاياته قد تحققت . ولم يعد إلا الألم البدني . وإلا الدم المسفوح. والجسد الذبيح . والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء . ولا يريد دمائهم وأجسادهم في شيء . ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكلياتهم ، فقد أدوا وقد حققوا التكليف ، وقد جازوا الامتحان بنجاح .
وعرف الله من إبراهيم و إسماعيل صدقهما ، فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقا :
} وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ(104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {
قد صدقت الرؤيا وحققتها فعلاً . فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه ، ولو كان هو الابن فلذة الكبد ، ولو كانت هي النفس والحياة . وأنت - يا إبراهيم - قد فعلت . جدت بكل شيء . وبأعز شيء . وجدت به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين . فلم يبق إلا اللحم والدم . وهذا ينوب عنه ذبح . أي ذبحٍ من دم ولحم ! و يفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت. يفديها بذبح عظيم . قيل: إنه كبش وجده إبراهيم مهيأ بفعل ربه
وإرادته ليذبحه بدلاً من اسماعيل !
وقيل له : } إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {.. نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء . ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء . ونجزيهم بإقدارهم و إصبارهم على الأداء .
ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء !
ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى ، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارةً لحقيقة الإيمان . وجمال الطاعة . وعظمة التسليم . والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم ، الذي تتبع ملته ، والذي ترث نسبه وعقيدته . ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها ، ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا ؟ ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه . ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئاً ، ولا تختار في ما تقدمه لربها هيئةً ولا طريقةً لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم ! ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء
ولا أن يؤذيها بالبلاء ، إنما يريد أن تأتيه طائعةً ملبيةً وافيةً مؤدية . مستسلمةً لا تقدم بين يديه ، ولا تتألى عليه ، فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام .
و احتسبها لها وفاء وأداء . وقبل منها وفدّاها ، وأكرمها كما أكرم أباها ] (1) .
وقد نقلت لك أخي القارئ كلام صاحب الظلال رغم طوله لبيان عظمة موقف إبراهيم الخليل وكيف أنه أقدم طائعاً لتنفيذ الرؤيا يذبح ولده الوحيد إسماعيل وموقف ذلك الولد المطيع المستسلم لأمر الله تعالى فإن في عملهما قدوة لنا معشر المسلمين قال تعالى :} قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ { سورة الممتحنة الآية 4.
ثانياً : إن ذبح الأضحية وسيلة للتوسعة على النفس وأهل البيت وإكرام الجيران والأقارب والأصدقاء والتصدق على الفقراء . وقد مضت السنة منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوسعة على الأهل وإكرام الجيران والتصدق على الفقراء يوم الأضحى ، فقد ثبت في الحديث عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:( من ذبح قبل الصلاة فليعد.فقال رجل : هذا يوم يشتهى فيه اللحم
وذكر هَنَةً من جيرانه فكأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عذره ، وقال عندي جذعة خير من شاتين فرخص له النبي - صلى الله عليه وسلم - … ) الحديث رواه البخاري ومسلم (2) .
قال الحافظ ابن حجر :[ قوله وذكر فيه هَنَةً بفتح الهاء والنون الخفيفة بعدها هاء تأنيث ، أي حاجة من جيرانه للَّحم ] (3) .
وجاء في حديث البراء - رضي الله عنه - قال :( خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر بعد الصلاة فقال : من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم . فقام أبو بردة بن نيار فقال : يا رسول الله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب فتعجلت فأكلت وأطعمت أهلي وجيراني .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تلك شاة لحم . فقال : إن عندي عناقاً جذعةً وهي خيرٌ من شاتي لحم فهل تجزئ عني ؟ قال : نعم ، ولن تجزئ عن أحدٍ بعدك ) رواه البخاري ومسلم ، وأبو داود واللفظ له (4) .
__________
(1) تفسير ظلال القرآن 7/61-66 .
(2) صحيح البخاري مع الفتح 12/116 ، صحيح مسلم بشرح النووي 5/100-101 .
(3) فتح الباري 12/116 .
(4) صحيح البخاري مع الفتح 12/98 ، صحيح مسلم بشرح النووي 5/99 ، سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 7/356 .(/6)
فانظر إلى قول أبي بردة :( فأكلتُ وأطعمتُ أهلي وجيراني ) فإنه يشير إلى ما ذكرت .
وجاء في الحديث أن عطاء بن يسار قال :( سألت أبا أيوب الأنصاري كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس فصارت كما ترى ) رواه الترمذي وقال : حسن صحيح ، ورواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهم ، وقال الشيخ الألباني : صحيح (1) .
قلت : وهكذا قول أبي أيوب ( فيأكلون ويطعمون ) ، يدل على ما سبق .
ثالثاً : شكراً لله سبحانه وتعالى على نعمه المتعددة :
فالله سبحانه وتعالى قد أنعم على الإنسان بنعمٍ كثيرةٍ لا تُعَدُ ولا تُحصى كنعمة البقاء من عام لعام . ونعمة الإيمان ونعمة السمع والبصر والمال ؛ فهذه النعم وغيرها تستوجب الشكر للمنعم سبحانه وتعالى ، والأضحية صورةٌ من صور الشكر لله سبحانه وتعالى ، فيتقرب العبد إلى ربه بإراقة دم الأضحية امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى (2) ، حيث قال جلَّ جلاله:{ فصلِّ لربك وانحر } سورة الكوثر الآية 2 .
المبحث الرابع
حكم الأضحية
اختلف الفقهاء في حكم الأضحية على قولين :
القول الأول : الأضحيةُ سنةٌ مؤكدةٌ في حق الموسر، وهذا قول أكثر العلماء ، وممن قال به أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وبلال وسويد بن غفلة وأبو مسعود البدري وسعيد بن المسيب وسفيان الثوري وابن المبارك وعطاء وعلقمة والأسود ومالك في القول المشهور عنه والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد والزعفراني من الحنفية وإسحاق وأبو ثور والمزني وداود وابن حزم الظاهريان وابن المنذر وغيرهم (3) .
القول الثاني : الأضحيةُ واجبةٌ ، وبهذا قال جماعة من أهل العلم على اختلافٍ بينهم في حق من تجب :
فقال ربيعة الرأي والليث بن سعد والأوزاعي ومالك في قولٍ عنه ، الأضحيةُ واجبةٌ على المقيم والمسافر الموسر إلا الحاج بمنى فلا تجب عليه وإنما المشروع في حقه الهدي (4) .
وقال أبو حنيفة الأضحيةُ واجبةٌ في حق المقيم الموسر ، وهو قول زفر والحسن ورواية عن أبي يوسف ومحمد . واختار شيخ الإسلام ابن تيمية القول بوجوب الأضحية (5) .
سبب اختلاف الفقهاء في حكم الأضحية :
ويرجع سبب اختلاف الفقهاء في حكم الأضحية إلى أمرين :
الأول : هل فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - محمول على الوجوب أم على الندب ؟
حيث إنه قد ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يضحي كل عام كما ذكره ابن عمر رضي الله عنهما :( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بالمدينة عشر سنين يضحي ) وسيأتي .
وهذا يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يترك الأضحية قط ، حتى إنه كان يضحي في السفر ، كما ثبت في حديث ثوبان - رضي الله عنه - قال :( ذبحَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ضحيته ثم قال : يا ثوبان أصلح لحم هذه . فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة ) رواه مسلم (6) .
الثاني : اختلافهم في مفهوم الأحاديث الواردة في الأضحية ، حيث إنه قد ثبت من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام قال:( إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من ظفره شيئاً ) رواه مسلم .
فقوله ( وأراد أحدكم أن يضحي ) فيه دليل على أن الأضحية متروكة لإرادة المسلم ورغبته ، وما كان كذلك لا يكون واجباً .
ولمَّا أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبا بردة بن نيار - رضي الله عنه - بإعادة أضحيته إذ ذبح قبل صلاة العيد حيث
قال - صلى الله عليه وسلم - :( من كان قد ذبح قبل الصلاة فليعد ) رواه البخاري ومسلم (7) .
فهم جماعة من الفقهاء من أمره - صلى الله عليه وسلم - الوجوب (8) .
أدلةُ الجمهور على أنَّ الأضحيةَ سنةٌ مؤكدةٌ ، وليست واجبة :
__________
(1) سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/75 ، سنن ابن ماجة 2/1051 ، سنن البيهقي 9/268 ، إرواء الغليل 4/355 .
(2) انظر أحكام الذبائح في الإسلام ص126 ، الفقه الإسلامي وأدلته 3/595 .
(3) انظر المجموع 8/385 ، المغني 9/435 ، الحاوي الكبير 15/71 ، شرح الخرشي 3/33 ، شرح الآبي على صحيح مسلم 5/290 ، تفسير القرطبي 15/108 ، بلغة السالك 1/286 ، بدائع الصنائع 4/192-193 ، الهداية مع تكملة شرح فتح القدير 8/425 ، تبيين الحقائق 6/2 ، مغني المحتاج 6/123 ، سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 5/79 المحلى 6/3 .
(4) المجموع 8/385 ، الحاوي الكبير 15/71 ، المغني 9/435 ، الذخيرة 4/140 ، بداية المجتهد 1/348 .
(5) الهداية مع تكملة شرح فتح القدير 8/425 ، تبيين الحقائق 6/2 ، بدائع الصنائع 4/193 ، ملتقى الأبحر 2/222 ، عقود الجواهر المنيفة 2/70 ، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 23/162 .
(6) صحيح مسلم بشرح النووي 5/116 .
(7) صحيح البخاري مع الفتح 12/101 ، صحيح مسلم مع شرح النووي 5/100 .
(8) انظر بداية المجتهد 1/348 .(/7)
1. حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت :( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً ) (1) .
قال الإمام الشافعي :[ هذا دليل أن التضحية ليست بواجبة ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( وأراد ) ، فجعله مفوضاً إلى إرادته ولو كان واجباً لقال - صلى الله عليه وسلم - ( فلا يمس من شعره وبشره حتى يضحي )(2).
2. ما روي عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ثلاث هن عليَّ فرائض ولكم تطوع ، النحر والوتر وركعتا الضحى ) رواه أحمد و البيهقي ، وفي رواية أخرى عند البيهقي عن ابن عباس رفعه قال :( كُتِبَ عليَّ النحرُ ولم يكتبْ عليكم ) (3) .
والحديث ضعيف كما قال الإمام النووي (4) .
وقال الحافظ ابن حجر :[ ومداره على أبي جناب الكلبي عن عكرمة ، وأبو جناب ضعيف ومدلس أيضاً ، وقد عنعنه وأطلق الأئمة على هذا الحديث الضعف كأحمد والبيهقي وابن الصلاح وابن الجوزي والنووي وغيرهم … الخ ] (5) .
وقال الحافظ ابن حجر في موضع آخر بعد أن ذكر طرق الحديث :[ فتلخص ضعف الحديث من جميع طرقه ] (6) .
3. عن جابر بن عبد الله :( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس يوم النحر فلما فرغ من خطبته وصلاته دعا بكبش فذبحه هو بنفسه وقال: باسم الله ، الله أكبر اللهم عني وعمَّن لم يضح من أمتي ) رواه أحمد وأبو داود وسكت عليه والترمذي وابن ماجة والبيهقي واللفظ له والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه الشيخ الألباني أيضاً (7) .
والحديث احتج به صاحب المنتقى على عدم الوجوب حيث قال :[ باب ما احتج به في عدم وجوبها بتضحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمته ] (8) ثم ساق حديث جابر السابق وحديث أبي رافع وهو الحديث التالي :
4. عن أبي رافع :( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين فإذا صلى وخطب الناس أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية ثم يقول :
اللهم هذا عن أمتي جميعاً من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ويقول : هذا عن محمد وآل محمد فيطعمهما جميعاً المساكين ويأكل هو وأهله منهما فمكثنا سنين ليس رجل من بني هاشم يضحي قد كفاه الله المئونة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعزم ) رواه أحمد (9) .
قال الشوكاني عن الحديث السابق بأن الحافظ سكت عنه في التلخيص (10) والأمر
كذلك (11) .
وقال الهيثمي :[ رواه البزار وأحمد بنحوه ، ورواه الطبراني في الكبير بنحوه … وإسناد أحمد والبزار حسن ] (12) . وصححه الشيخ الألباني (13) .
قال الشوكاني :[ ووجه دلالة الحديثين وما في معناهما على عدم الوجوب ، أن الظاهر تضحيته - صلى الله عليه وسلم - عن أمته وعن أهله ، تجزئ كل من لم يضح سواء كان متمكناً من الأضحية أو غير متمكن ] (14) .
5. قال الشافعي :[ وبلغنا أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان كراهية أن يُرَى أنها واجبة ] (15) .
وقد روى ذلك عنهما أيضاً البيهقي بإسناده عن الشعبي عن أبي سريحة :[ أدركت أبا بكر أو رأيت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان . في بعض حديثهم - كراهية أن يقتدى بهما - أبو سريحة الغفاري هو حذيفة بن أسيد صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (16) .
قال الإمام النووي :[ وأما الأثر المذكور – عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما – فقد رواه البيهقي بإسناد حسن ] (17) .
وقال الهيثمي :[ ورواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح ] (18) .
وصححه الشيخ الألباني (19) .
6. ذكر الإمام الشافعي أنه قد بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه اشترى بدرهمين لحماً فقال : هذه أضحية ابن عباس (20) .
ورواه البيهقي بإسناده عن عكرمة مولى ابن عباس : كان إذا حضر الأضحى أعطى مولىً له درهمين فقال : اشتر بهما لحماً وأخبر الناس أنه أضحى ابن عباس (21) .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) مختصر المزني مع الأم 8/283 ، الحاوي 15/67 ، المجموع 8/386 .
(3) الفتح الرباني 22/41 ، سنن البيهقي 9/264 .
(4) المجموع 8/386 .
(5) التلخيص الحبير 2/18 .
(6) التلخيص الحبير 3/118 .
(7) المستدرك 4/255 ، الفتح الرباني 13/63-64 ، سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 8/3 ، سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/94 ، سنن ابن ماجة 2/1043 ، سنن البيهقي 9/264 ، إرواء الغليل 4/349-350 .
(8) المنتقى مع شرحه نيل الأوطار 5/125 .
(9) الفتح الرباني 13/61 .
(10) نيل الأوطار 5/125 .
(11) التلخيص الحبير 4/143 .
(12) مجمع الزوائد 4/22 .
(13) إرواء الغليل 4/352 .
(14) نيل الأوطار 5/126 .
(15) مختصر المزني مع الأم 8/283 .
(16) سنن البيهقي 9/265 .
(17) المجموع 8/383 .
(18) مجمع الزوائد 4/18 .
(19) إرواء الغليل 4/355 .
(20) مختصر المزني مع الأم 8/284 .
(21) سنن البيهقي 9/265 .(/8)
7. وروى البيهقي بإسناده عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال :[ إني لأدعُ الأضحى وإني لموسر مخافةَ أن يرى جيراني أنه حتمٌ عليَّ ] (1) .
ورواه سعيد بن منصور في سننه بسند صحيح كما قال الحافظ ابن حجر (2) .
وصحح إسناده الشيخ الألباني (3) .
8. وقالوا : إن التضحية لو كانت واجبة ، لما سقطت بفوات إلى غير بدل ،كالجمعة وسائر الواجبات . ووافقنا الحنفية على أنها إذا فاتت لا يجب قضاؤها (4) .
9. واحتجوا من القياس بأنها إراقة دم لا تجب على المسافر، فلا تجب على الحاضر كالعقيقة ولأن من لم تجب عليه العقيقة ، لم تجب عليه الأضحية كالمسافر ، ولأنها أضحية لا تجب على المسافر ، فلم تجب على الحاضر ، كالواجد لأقل النصاب (5) .
أدلة القائلين بوجوب الأضحية :
1. احتجوا بقوله تعالى } فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ { سورة الكوثر الآية 2 .
قال الكاساني :[ ولنا قوله عز وجل } فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ { ، قيل في التفسير: صل صلاة العيد وانحر البدن بعدها .
وقيل صل صلاة الصبح بجمعٍ – مزدلفة – وانحر بمنى ومطلق الأمر للوجوب في حق العمل ومتى وجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - يجب على الأمة لأنه قدوة الأمة ] (6) .
قال التهانوي :[ ومما يدل على وجوبها ما رواه الطبري في تفسيره : حدثنا ابن حيمد … عن أنس بن مالك قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينحر قبل أن يصلي فأُمِرَ أن يصلي ثم ينحر - أراد قوله تعالى } فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ { - وسنده حسن … .… قال ابن جرير حدثنا ابن عبد الأعلى … عن قتادة } فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ { ، قال : صلاة الأضحى ، والنحر نحر البدن ، وسنده صحيح .
وحدثنا ابن حميد … عن الربيع } فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ { ، قال : إذا صليت يوم الأضحى فانحر ، وسنده حسن …
ودلالتها على وجوب صلاة العيد ونحر البدن ظاهرة ، ولولا أنه - صلى الله عليه وسلم - قال :( من وجد سعة فلم يضح فلا يقربنَّ مصلانا ) وفيه تقييد الوجوب بالسعة لقلنا بوجوبها على كل مسلم بالأمصار مثل الصلاة ] (7) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ وأمَّا الأضحية فالأظهر وجوبها أيضاً ، فإنها من أعظم شعائر الإسلام ،وهي النسك العام في جميع الأمصار ،والنسك مقرون بالصلاة ، في قوله تعالى } إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين { ، وقد قال تعالى } فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ { فأمر بالنحر كما أمر بالصلاة .
وقد قال تعالى :} وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ { وقال تعالى :} وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ {.
وهي من ملة إبراهيم الذي أمرنا باتباع ملته ، وبها يذكر قصة الذبيح ، فكيف يجوز أن المسلمين كلهم يتركون هذا لا يفعله أحد منهم ، وترك المسلمين كلهم هذا أعظم من ترك الحج ، في بعض السنين (8) .
2. واحتجوا بما ورد في الحديث عن البراء - رضي الله عنه - قال :( ذبح أبو بردة قبل الصلاة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : أبدلها . قال : ليس عندي إلا جذعة – قال شعبة: وأحسبه قال هي خيرٌ من مسنَّة – قال : اجعلها مكانها ولن تجزئ عن أحدٍ بعدك ) رواه البخاري ومسلم(9).
قال التهانوي :[ … بل الظاهر من الأمر بالإبدال دلالته على الوجوب ](10).
3. واحتجوا بحديث جندب بن سفيان البجلي - رضي الله عنه - قال :( شهدتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر، فقال : من ذبح قبل أن يصلي فليعدْ مكانها أخرى ومن لم يذبح فليذبح ) متفق عليه .
قالوا : قوله ( فليعد ) وقوله ( فليذبح ) كلاهما صيغة أمر وظاهر الأمر الوجوب .
4. احتجوا بما روي في الحديث :( ضحوا فإنها سنَّةُ أبيكم إبراهيم عليه الصلاة السلام ) رواه ابن ماجة والبيهقي.
__________
(1) المصدر السابق 9/265 .
(2) التلخيص الحبير 4/145 .
(3) إرواء الغليل 4/355 .
(4) المجموع 8/386 .
(5) الحاوي 15/72 .
(6) بدائع الصنائع 4/193 ، وانظر تحفة الفقهاء 3/81 ، الاختيار 5/16-17 ، اللباب في الجمع بين السنة والكتاب 2/641 .
(7) إعلاء السنن 17/241-240 .
(8) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 23/162 .
(9) صحيح البخاري مع الفتح 12/108 ،صحيح مسلم بشرح النووي 5/98 – 99 .
(10) إعلاء السنن 17/246 .(/9)
قال الكاساني :[ أمر عليه الصلاة والسلام بالتضحية والأمر المطلق عن القرينة يقتضي الوجوب في حق العمل ] (1) .
5. واحتجوا بما ورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( من وجد سَعَةً فلم يضح فلا يقربنَّ مصلانا ) رواه أحمد وابن ماجة والدارقطني والبيهقي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2) .
قال الكاساني :[ وهذا خرج مخرج الوعيد على ترك الأضحية ، ولا وعيدَ إلا بترك
الواجب ] (3) .
6. واحتجوا بحديث عامر أبي رملة عن مخنف بن سليم قال :( ونحن وقوف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفات قال : يا أيها الناس إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة ) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد (4) .
وقال الترمذي :[ هذا حديث حسن غريب ، لا نعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه من حديث ابن عون ] (5) .
ووجه الشاهد فيه أن كلمه على للإيجاب كما هو الأصل (6) .
7. واحتجوا بما ورد في الحديث عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( أيها الناس ضحوا واحتسبوا بدمائها ، فإن الدم وإن وقع في الأرض فإنه يقع في حرز الله عز وجل ) رواه الطبراني في الأوسط (7) .
وفيه الأمر بالأضحية وأصله للوجوب (8) .
8. واحتجوا بما ورد في الحديث عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال :( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر أن نضحي ويأمر أن نطعم منها الجار والسائل ) والأمر يدل على الوجوب (9) .
9. واحتجوا بما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت :( يا رسول الله : أأستدين وأضحي؟
قال : نعم فإنه دينٌ مقضيٌ ) رواه الدار قطني والبيهقي (10) .
10. واحتجوا بمواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأضحية ، والمواظبة على الفعل تدل على الوجوب .
قال التهانوي :[ ومما يدل على الوجوب قول ابن عمر - رضي الله عنه - :( أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة عشر سنين يضحي ) رواه الترمذي وحسنه .
وقوله ( ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون بعده ) كما تقدم .
والمواظبة على فعل دليل الوجوب لا سيما إذا أقرنت بالوعيد على تركه ، وأيُّ وعيدٍ أشدُ من قوله - صلى الله عليه وسلم - :( من وجد سَعَةً فلم يضح فلا يقربنَّ مُصلانا ) ] (11).
11. قالوا إن الأضحية قربة يضاف إليها وقتها ، يقال يوم الأضحى ، وذلك يؤذن بالوجوب ، لأن الإضافة للاختصاص ، ويحصل الاختصاص بالوجود ، والوجوب هو المفضي إلى الوجود ظاهراً بالنظر إلى جنس المكلفين ، لجواز أن يجتمعوا على ترك ما ليس بواجب ، ولا يجتمعوا على ترك الواجب ، ولا تصح الإضافة باعتبار جواز الأداء فيه ، ألا ترى أن الصوم يجوز في سائر الشهور ، والمسمى بشهر الصوم رمضان وحده ، وكذا الجماعة تجوز في كل يوم ، والمسمَّى بيوم الجمعة يوم واحد ، ولأن الإضافة إلى الوقت لا تتحقق إلا إذا كانت موجودة فيه بلا شك ، ولا تكون موجودة فيه بيقين ، إلا إذا كانت واجبة (12) .
مناقشة وترجيح:
بعد إجالة النظر والفكر في أدلة العلماء في هذه المسألة ، يظهر لي رجحان قول جمهور أهل العلم بأن الأضحية سنةٌ مؤكدةٌ ، وليست واجبة .
ويوضح هذا الترجيح الأمور التالية :
1. إن الاستدلال بقوله تعالى:} فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ { ، على وجوب الأضحية غيرُ مُسلَّم ، لأن الآية محتملة ، وقد اختلف العلماء في تفسيرها فمنهم من قال : أقم الصلاة المفروضة عليه كذا رواه الضحاك عن ابن عباس .
وقال قتادة وعطاء وعكرمة } فَصَلِّ لِرَبِّكَ { ، صلاة العيد يوم النحر } وَانْحَرْ { نسكك .
وورد عن علي - رضي الله عنه - أن المعنى : ضع اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة .
وقيل إن المعنى يرفع يديه في التكبير إلى نحره .
وقيل إن المعنى استقبل القبلة بنحرك .
وقيل إن المعنى ارفع يديك بالدعاء إلى نحرك . نقل كل هذه الأقوال وغيرها البيهقي والقرطبي (13) .
وقال الشوكاني :[ بأن المراد تخصيص الرب بالنحر له لا للأصنام ، فالأمر متوجه إلى ذلك لأنه القيد الذي يتوجه إليه الكلام ولا شك في وجوب تخصيص الله بالصلاة والنحر ] (14).
__________
(1) بدائع الصنائع 4/194 .
(2) المستدرك 4/258 ، الفتح الرباني 13/58 ، سنن ابن ماجه 2/1044 ، سنن البيهقي 9/ 260 ، سنن الدار قطني 4/276.
(3) بدائع الصنائع 4/194 .
(4) الفتح الرباني 13/58 ، سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 7/340 ، سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/92 ، سنن النسائي 7/167 ، سنن ابن ماجه 2/1045 .
(5) سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/92 .
(6) انظر بدائع الصنائع 4/194 .
(7) مجمع الزوائد 4/17
(8) إعلاء السنن 17/245 .
(9) المصدر السابق 17/239 .
(10) سنن البيهقي 9/262 ، سنن الدار قطني 4/283 ، اللباب في الجمع بين السنة والكتاب 2/642 .
(11) إعلاء السنن 17/244 .
(12) تبيين الحقائق 6/3 ، وانظر الهداية 8/427-430 .
(13) معرفة السنن والآثار 14/18-20 ، تفسير القرطبي 20/218-220 .
(14) نيل الأوطار 5/127 .(/10)
وخلاصة الأمر أن الآية محتملة كما سبق ، ولو سلمنا بدلالتها على النحر ، فهي دالة على أن النحر بعد الصلاة فهي تعيين لوقت الذبح لا لوجوبه ، كأنه يقول إذا نحرت فبعد صلاة العيد (1) .
2. وأما الاستدلال بما ورد في حديث البراء ، لما ذبح أبو بردة قبل الصلاة فقال له النبي
- صلى الله عليه وسلم -:( أبدلها ) .
وما ورد في حديث جندب بن سفيان من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :( من ذبح قبل الصلاة فليعد … ومن لم يذبح فليذبح ) .
فالجواب ما قاله الإمام الشافعي :( فاحتمل أمره بالإعادة أنها واجبة ، واحتمل على معنى أنه أراد أن يضحي ، فلما قال عليه الصلاة والسلام :( إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره شيئاً ) دل على أنها غير واجبة .
وبلغنا أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان كراهية أن يُرَى أنها واجبة ، وعن ابن عباس أنه اشترى بدرهمين لحماً فقال : هذه أضحية ابن عباس ] (2) .
وقال الحافظ ابن حجر :[ بأن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة بإبدالها ، لا دلالة فيه على وجوب الأضحية ، لأنه ولو كان ظاهر الأمر للوجوب ، إلا أن قرينة إفساد الأولى ، تقتضي أن يكون الأمر بالإعادة لتحصيل المقصود ، وهو أعمُ من أن يكون في الأصل واجباً أو مندوباً ] (3).
وقال الحافظ ابن حجر في موضع آخر :[ وقد استدل من قال بالوجوب بوقوع الأمر فيهما بالإعادة .
وأجيب بأن المقصود بيان شرط الأضحية المشروعة ، فهو كما لو قال لمن صلى راتبة الضحى مثلاً قبل طلوع الشمس : إذا طلعت الشمس فأعد صلاتك ] (4) .
وقال الحافظ ابن حجر في موضع ثالث :[ واستدل بقوله ( اذبح مكانها أخرى ) وفي لفظ ( أعد نسكاً ) وفي لفظ ( ضح بها ) وغير ذلك من الألفاظ المصرحة بالأمر بالأضحية ، على وجوب الأضحية ، قال القرطبي في المفهم : ولا حجة في شيء من ذلك . وإنما المقصود بيان كيفية مشروعية الأضحية ، لمن أراد أن يفعلها أو من أوقعها على غير الوجه المشروع خطأً أو جهلاً ، فبين له وجه تدارك ما فرط منه .
وهذا معنى قوله ( لا تجزئ عن أحدٍ بعدك ) أي لا يحصل له مقصود القربة ولا الثواب كما يقال في صلاة النفل لا تجزئ إلا بطهارة وستر عورة ] (5) .
3. وأما استدلالهم بالحديث :( ضحوا فإنها سنَّةُ أبيكم إبراهيم … ) على وجوب
الأضحية .
فالجواب : إن هذا الحديث رواه ابن ماجة بإسناده عن زيد بن أرقم قال :( قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله ما هذه الأضاحي ؟ قال: سنةُ أبيكم إبراهيم . قالوا : فما لنا فيها . قال : بكل شعرة حسنة . قالوا : فالصوف يا رسول الله ؟ قال : بكل شعرة من الصوف حسنة ) .
وفي إسناده عائذ الله عن أبي داود عن زيد بن أرقم .
قال في الزوائد :[ في إسناده أبو داود واسمه نفيع بن الحارث وهو متروك ، واتُهِمَ بوضع الحديث ] (6) .
ورواه البيهقي بإسناده وباللفظ السابق ، وفيه أيضاً عائذ الله بن عبد الله المجاشعي عن أبي داود السبيعي عن زيد بن أرقم .
ونقل البيهقي عن البخاري قوله :[ عائذ الله المجاشعي عن أبي داود روى عنه سلام بن مسكين لا يصح حديثه ] (7) .
والحديث رواه الحاكم وقال :صحيح الإسناد ! فردَّه الذهبي بقوله : قلت عائذ الله ، قال أبو حاتم : منكر الحديث .
وقال الشيخ الألباني :[ وهذا تعقب قاصر، يوهم أنه سالمٌ ممن فوق عائذ . قال المنذري بعد أن حكى تصحيح الحاكم : بل واهيه ، عائذ الله هو المجاشعي وأبو داود هو نفيع بن الحارث الأعمى وكلاهما ساقط . وأبو داود هذا قال الذهبي فيه :يضع .
وقال ابن حبان: لا تجوز الرواية عنه ، هو الذي روى عن زيد بن أرقم .. فذكر الحديث]
وحكم الشيخ الألباني على الحديث بأنه موضوع (8) .
إذا تقرر كلام أهل الحديث في الحكم على هذا الحديث فلا يصح الاستدلال به مطلقاً .
4. وأما استدلالهم بالحديث:( من وجد سعة فلم يضح فلا يقربنَّ مُصلانا ) .
فالجواب بأن الحديث حسن ، ولكن الصواب أنه موقوف ، قال الحافظ ابن حجر :[ رواه أحمد وابن ماجة وصححه الحاكم ، ورجح الأئمة غيره وقفه ] (9) .
قال البيهقي :[ بلغني عن أبي عيسى الترمذي أنه قال : الصحيح عن أبي هريرة أنه موقوف
قال: ورواه جعفر بن ربيعة وغيره عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة موقوفاً ] (10) .
وقال الحافظ ابن حجر أيضاً :[ أخرجه ابن ماجة وأحمد ورجاله ثقات ، لكن اختلف في رفعه ووقفه ، والموقوف أشبه بالصواب قاله الطحاوي وغيره . ومع ذلك ليس صريحاً في الإيجاب ] (11) .
__________
(1) انظر سبل السلام 4/170 .
(2) مختصر المزني مع شرحه الحاوي 15/67 ، وانظر أيضاً معرفة السنن والآثار 14/14-15 .
(3) فتح الباري 12/114 .
(4) فتح الباري 12/99 .
(5) فتح الباري 12/112 .
(6) سنن ابن ماجه 2/1045 .
(7) سنن البيهقي 9/261 .
(8) سلسلة الأحاديث الضعيفة 2/14 حديث 527 .
(9) بلوغ المرام ص 281 .
(10) سنن البيهقي 9/260 .
(11) فتح الباري 12/98 .(/11)
ونقل الزيلعي المحدّث عن صاحب التنقيح أن الأشبه بالصواب أن الحديث موقوف (1) .
وقال ابن الجوزي :[ … ثم إنه لا يدل على الوجوب كما قال :( من أكل الثوم فلا يقرب مصلانا ) ] (2) .
وقال ابن عبد البر :[ … الأغلب عندي في هذا الحديث أنه موقوف على أبي هريرة ] (3)
وقال الحافظ ابن عبد البر أيضاً :[ ليس في اللفظ تصريح بإيجابها لو كان مرفوعاً فكيف والأكثر يجعلونه من قول أبي هريرة ] (4) .
5. وأما استدلالهم بحديث أبي رملة عن مخنف بن سليم وفيه ( … إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة ) .
فالجواب : إن الحديث ضعيف ، لأن في سنده عامر بن أبي رملة .
قال الخطابي :[ … هذا الحديث ضعيف المخرج وأبو رملة مجهول ] (5) .
وقال الزيلعي المحدّث :[ وقال عبد الحق : إسناده ضعيف . قال ابن القطان : وعلته الجهل بحال أبي رملة واسمه عامر ، فإنه لا يعرف إلا بهذا يرويه عنه ابن عون ] (6) .
وقال الحافظ ابن حجر :[ عامر أبو رملة شيخ لابن عون لا يعرف ] (7) .
وقال البيهقي بعد أن ذكره :[ وهذا إن صح فالمراد به على طريق الاستحباب فقد جمع بينها وبين العتيرة ، والعتيرة غير واجبة بالإجماع ] (8) .
وقال الزيلعي المحدّث :[ وجهل من استشهد بحديث مخنف بن سليم المتقدم ] (9) .
والحديث حسَّنه الترمذي كما سبق حيث قال :[ هذا حديث حسن غريب … ] مع أن صاحب المشكاة ذكر عن الترمذي أنه قال بعد أن ساق الحديث :
[ وقال الترمذي : هذا حديث غريب ضعيف الإسناد ] (10) .
وبهذا يظهر لنا أن الحديث ضعيف من حيث الإسناد . وأما من حيث المتن فإنه منسوخ كما قال أبو داود صاحب السنن بعد أن ساقه:[ العتيرة منسوخة هذا خبر منسوخ ] (11).
وقال صاحب عون المعبود :[ قد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه منسوخ بالأحاديث الآتية في العتيرة وادعى القاضي عياض أن جماهير العلماء على ذلك ] (12) .
6. وأما الاستدلال على وجوب الأضحية بما ورد في الحديث عن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال :( أيها الناس ضحوا واحتسبوا بدمائها … ) .
فالجواب : إن الحديث ضعيف جداً لا يصلح للاستدلال ، وقد بيَّن المحدثون علته :
فقال الهيثمي بعد أن ذكره :[ رواه الطبراني في الأوسط وفيه عمرو بن الحصين العقيلي وهو متروك الحديث ] (13) وكذا قال الحافظ ابن حجر (14).
وعمرو بن الحصين هذا كذاب كما قال الخطيب وغيره (15) .
وقد حكم الشيخ الألباني على هذا الحديث بأنه موضوع (16) .
7. وأما الاستدلال بما روي عن معاذ - رضي الله عنه - قال :( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر أن نضحي … )
فلا يتم الاستدلال به لأنه حديث ضعيف .
قال ابن حزم : وأما حديث معاذ ففيه ابن لهيعة وابن أنعم - وكلاهما في غاية السقوط (17) فالحديث ضعيف (18) .
8. وأما الاستدلال بحديث عائشة قالت :( يا رسول الله : أستدين وأضحي؟ قال: نعم . )
فالجواب : إن هذا الحديث رواه الدارقطني وقال :[ هذا إسناد ضعيف وهرير هو ابن
عبد الرحمن بن رافع بن خديج ولم يسمع من عائشة ولم يدركها ] (19) .
فلا يصلح دليلاً . ونقل البيهقي تضعيفه عن الحافظ الدارقطني (20) .
9. وأما قولهم إن مواظبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الأضحية في كل عام تدل على الوجوب ، فغير مسلَّم لأن مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بذاتها على فعل معين لا تدل على وجوبه ، وإن قال بعض الحنفية إن المواظبة تدل على الوجوب ، كما استدل صاحب الهداية الحنفي على وجوب صلاة العيدين بالمواظبة من غير ترك .
ولكن الشيخ عبد العلي محمد الأنصاري شارح مسلم الثبوت ،لم يرتض ذلك فلا يرى أن المواظبة على الفعل مع عدم الترك دليل الوجوب عند الحنفية ونقض ذلك بما هو معلوم عند الحنفية من سنة صلاة الجماعة مع أنه - - صلى الله عليه وسلم - -لم يتركها أصلاً ، وكذا الأذان والإقامة وصلاة الكسوف والخطبة الثانية في الجمعة والاعتكاف والترتيب والمولاة في الوضوء ، وكذا المضمضة والاستنشاق ، وغير ذلك مما ثبت فيه المواظبة من غير ترك مع أنها سنة .
وقد استدل صاحب الهداية نفسه على سنية أكثرها بالمواظبة مع عدم تبيين تركها ، بل ثبت عدم الترك ، فتدبر أحسن التدبر فتعلم أن المواظبة ليست دليل الوجوب عندهم (21) .
__________
(1) نصب الراية 4/207 .
(2) التحقيق في أحاديث الخلاف 2/161 .
(3) فتح المالك 7/17 .
(4) الاستذكار 15/160 .
(5) معالم السنن 2/195 .
(6) نصب الراية 4/211 .
(7) تقريب التهذيب ص162 .
(8) معرفة السنن والآثار 14/17 .
(9) نصب الراية 4/211 .
(10) مشكاة المصابيح 1/465 .
(11) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 7/341 .
(12) عون المعبود 7/341 .
(13) مجمع الزوائد 4/17 .
(14) تقريب التهذيب ص258 .
(15) انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1/57-58 .
(16) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 2/16 .
(17) المحلى 6/8 .
(18) المجلى في تحقيق أحاديث المحلى ص427 .
(19) سنن الدار قطني 4/283 .
(20) سنن البيهقي 9/262 .
(21) فواتح الرحموت بشرح مسلَّم الثبوت 2/181 بتصرف يسير .(/12)
10. وأما احتجاجهم بأن الإضافة ليوم الأضحى مؤذنة بالوجوب … الخ .
فالجواب ما قاله الشيخ محمد الأمين الشنقيطي :[ واستدلال بعض الحنفية على وجوبها بالإضافة في قولهم يوم الأضحى قائلاً : إن الإضافة إلى الوقت لا تحقق إلا إذا كانت موجودة فيه بلا شك ولا تكون موجودة فيه بيقين إلا إذا كانت واجبة ، لا يخفى سقوطه لأن الإضافة تقع بأدنى ملابسة فلا تقتضي الوجوب على التحقيق كما لا يخفى ] (1) .
وبعد هذه المناقشة لأدلة القائلين بوجوب الأضحية يظهر لنا أنها قاصرة عن إثبات الوجوب لأن هذه الأدلة لم تسلم من المعارضة .
وأما أدلة الجمهور على أن الأضحية سنة ، فهي في مجملها قوية ويثبت بها المراد .
ولعل من أقوى تلك الأدلة على إثبات سنِّية الأضحية حديث أم سلمة رضي الله عنها حيث جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الأضحية راجعاً لإرادة المسلم ورغبته .
ومع كل ما سبق أرى أن الأضحية سنة مؤكدة ، لا ينبغي لمسلم قادر عليها أن يتركها إبراءً للذمة ، وخروجاً من الخلاف .
فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عمر تعليقاً :[ وقال ابن عمر : هي سنة ومعروف ] .
قال الحافظ ابن حجر :[ وصله حماد بن سلمة في مصنفه بسند جيد إلى ابن عمر ] (2) .
وقد روى الترمذي بإسناده عن جبلة بن سحيم : أن رجلاً سأل ابن عمر عن الأضحية أواجبة هي ؟ فقال : ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون .
فأعادها عليه . فقال : أتعقل ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون .
قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أهل العلم ، أن الأضحية ليست بواجبة ولكنها سنة من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحب أن يعمل بها (3) .
وقال الحافظ ابن حجر معلقاً على كلام الإمام الترمذي :[ وكأنه - أي الترمذي - فهم من كون ابن عمر لم يقل في الجواب نعم ، أنه لا يقول بالوجوب فإن الفعل المجرد لا يدل
على ذلك . وكأنه أشار بقوله : والمسلمون إلى أنها ليست من الخصائص ] (4) .
وقال الإمام الشافعي :[ الضحايا سنة لا أحب تركها ] (5) .
وقال البيهقي :[ باب الأضحية سنة نحب لزومها ونكره تركها ] (6) .
وقال الحافظ ابن عبد البر :[ تحصيل مذهب مالك أنها من السنن التي يؤمر الناس بها ويندبون إليها ، ولا يرخص في تركها إلا للحاج بمنى … ] (7) .
وقال الحافظ ابن عبد البر أيضاً :[ ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طول عمره ، ولم يأت عنه أنه ترك الأضحى ، وندب إليها فلا ينبغي لمؤمن موسرٍ تركها وبالله التوفيق ] (8) .
ونقل الحافظ ابن عبد البر أقوالاً عن الصحابة في أن الأضحية ليست بحتم ، وذكر قول عكرمة :[ كان ابن عباس يبعثني يوم الأضحى بدرهمين أشتري له لحماً ويقول : من لقيت فقل هذه أضحية ابن عباس ] .
ثم قال الحافظ ابن عبد البر :[ وهذا أيضاً محمله عند أهل العلم لئلا يعتقد فيها للمواظبة عليها أنها واجبة فرضاً . وكانوا أئمة يقتدي بهم من بعدهم ممن ينظر في دينه إليهم . لأنهم الواسطة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أمته فساغ لهم الاجتهاد في ذلك ، ما لا يسوغ اليوم لغيرهم .
والأصل في هذا الباب أن الضحية سنة مؤكدة ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلها وواظب عليها وندب أمته إليها .
وحسبك أن من فقهاء المسلمين من يراها فرضاً ، لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المضحي قبل وقتها بإعادتها وقد بيَّنا ما في ذلك والحمد لله ] (9) .
المبحث الخامس
أيهما أفضل الأضحية أم التصدق بثمنها ؟
إن الأضحية شعيرة من شعائر الله ، وسنة مؤكدة من سنن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .
والمطلوب من المسلم أن يعظم شعائر الله وأن يقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى:
} ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ { سورة الحج الآية 32 .
وقال تعالى :} لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا { سورة الأحزاب الآية 21 .
لذا كانت الأضحية أفضل من التصدق بثمنها كما هو مذهب جمهور أهل العلم ، بما فيهم أبو حنيفة ومالك والشافعي و أحمد وربيعة وأبو الزناد وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم (10) .
روى عبد الرزاق بإسناده عن سعيد بن المسيب قال :[ لأن أضحي بشاة أحب إليَّ من أن أتصدق بمئة درهم ] (11) .
__________
(1) أضواء البيان 5/420 .
(2) صحيح البخاري مع الفتح 12/98 .
(3) سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 5/78-79 .
(4) فتح الباري 12/99 .
(5) الأم 2/221 .
(6) سنن البيهقي 9/262 .
(7) الاستذكار 15/156 .
(8) المصدر السابق 15/163-164 .
(9) فتح المالك بتبويب التمهيد لابن عبد البر على موطأ مالك 7/19 .
(10) انظر الاستذكار 15/157 ، تفسير القرطبي 15/107-108 ، المجموع 8/425 ، المغني 9/436 ، الفروع 3/553 ،
مجموع فتاوى شيخ الإسلام 26/304 ، الموسوعة الفقهية 5/107 .
(11) المصنف 4/388 .(/13)
قال الحافظ ابن عبد البر : الضحية عندنا أفضل من الصدقة . وذكر أن هذا هو الصحيح من مذهب مالك وأصحابه (1) .
وقال ابن قدامة :[ والأضحية أفضل من الصدقة بقيمتها نص عليه أحمد ] (2) .
ونقل عن جماعة من أهل العلم أن التصدق بقيمة الأضحية أفضل ، فروي عن بلال - رضي الله عنه - قال :[ ما أبالي أن لا أضحي إلا بديك ، ولأن أضعها في يتيم قد ترب فوه ، أحبُ إليَّ من أن أضحي ] وبهذا قال الشعبي وأبو ثور (3) .
والقول الأول هو الراجح ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى والخلفاء من بعده ، ولو علموا أن الصدقة أفضل من الأضحية لعدلوا إليها .
ولأن إيثار الصدقة على الأضحية يفضي إلى ترك سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4) .
ولأن فضل الأضحية لا يخفى وما يترتب عليها من منافع شيء عظيم (5) .
قال الحافظ ابن عبد البر :[ الضحية عندنا أفضل من الصدقة ، لأن الأضحية سنة وكيدة كصلاة العيد ، ومعلوم أن صلاة العيد أفضل من سائر النوافل ، وكذلك صلوات السنن أفضل من التطوع كله ] (6) .
وقال الإمام النووي :[ مذهبنا أن الأضحية أفضل من صدقة التطوع ، للأحاديث الصحيحة المشهورة في فضل الأضحية ، ولأنها مختلف في وجوبها ، بخلاف صدقة التطوع، ولأن الأضحية شعار ظاهر ] (7) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ والأضحية والعقيقة والهدي أفضل من الصدقة بثمن ذلك، فإذا كان معه مال يريد التقرب إلى الله كان له أن يضحي به ، والأكل من الأضحية أفضل من الصدقة ] (8) .
ولا ينبغي لأحد أن يؤثر الصدقة على الأضحية ، لكون الصدقة أخف مئونة ، ولما في الأضحية من المشقة من حيث شراؤها والعناية بها وحفظها إلى أن يذبحها ، ولما في ذبحها وتوزيع بعضها من العناء والتعب ، فالمسلم له الأجر والثواب على كل ذلك ، إن أخلص نيته لله تعالى .
المبحث السادس
هل الأضحية مشروعة في حق المسافر والحاج ؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
الأول : ذهب جمهور أهل العلم ، بما فيهم الشافعية والحنابلة والظاهرية ، إلى أن الأضحية مشروعة في حق جميع الناس ، أهل البوادي والحضر، المقيم والمسافر والحاج سواء (9) .
وبه قال الإمام البخاري (10) .
وقال الإمام الشافعي :[ الأضحية سنة على كل من وجد السبيل من المسلمين ، من أهل المدن والقرى وأهل السفر والحضر والحاج بمنى وغيرهم ، من كان معه هدي ومن لم يكن معه هدي ] (11) .
الثاني : قال أبو حنيفة : تجب الأضحية في حق المقيم دون المسافر ، وليس على الحاج أضحية ، وأما المسافر فالأضحية في حقه تطوع عند الحنفية (12) .
الثالث : استثنى الإمام مالك الحاج من المسافرين فقال :[ لا أضحية على الحاج وأما غيره من المسافرين فعليه الأضحية ] (13) . وهو قول ابراهيم النخعي (14) .
أدلة الجمهور :
أما الجمهور فأخذوا بعموم الأدلة الواردة في الأضحية وأنها تشمل جميع الناس بدواً وحضراً ، المقيم والمسافر فيها سواء .
وأما الحاج بمنى فقد ورد في خصوصه نصٌ ، قال الإمام البخاري :[ باب الأضحية للمسافر والنساء ] ثم ساق بإسناده عن عائشة رضي الله عنها :( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وحاضت بسرف قبل أن تدخل مكة وهي تبكي فقال : مالك ؟ أنفست ؟ قالت : نعم .
قال : إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم ، فاقضي ما يقضي الحاج ، غير أن لا تطوفي بالبيت . فلما كنا بمكة أُتيتُ بلحم بقر . فقلت : ما هذا ؟ قالوا : ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه بالبقر ) (15) ، ورواه مسلم أيضاً (16) .
أدلة الحنفية :
وأما الحنفية فقالوا إنها لا تجب على المسافر ، لأنها لا تتأدى بكل مال ، ولا في كل زمان، بل بحيوان مخصوص في وقت مخصوص ، والمسافر لا يظفر به في كل مكان في وقت الأضحية ، فلو أوجبنا عليه ، لاحتاج إلى حمله مع نفسه وفيه من الحرج ما لا يخفى أو احتاج إلى ترك السفر ، وفيه ضرر ، فدعت الضرورة إلى امتناع الوجوب (17) .
واحتجوا بما جاء في الحديث :( من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا ) .
__________
(1) فتح المالك 7/17-18 .
(2) المغني 9/436 .
(3) المغني 9/436 ، تفسير القرطبي 15/107 ، مصنف عبد الرزاق 4/385 ، المجموع 8/425 ، فتح المالك 7/18 .
(4) المغني 9/436 .
(5) انظر ما ذكرته في مبحث فضل الأضحية .
(6) فتح المالك 7/18 .
(7) المجموع 8/425 .
(8) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 26/304 .
(9) مغني المحتاج 6/123 ، الفروع 3/554 ، المحلى 6/37 .
(10) صحيح البخاري مع الفتح 12/100 .
(11) المجموع 8/383 .
(12) بدائع الصنائع 4/195 ، إعلاء السنن 17/235 ، الهداية مع تكملة شرح فتح القدير 8/425 ، بذل المجهود 13/47، عمدة القاري 21/146 .
(13) فتح المالك 7/17 ، تفسير القرطبي 12/47 ، بلغة السالك 1/286 .
(14) نيل الأوطار 5/126 .
(15) صحيح البخاري مع الفتح 12/100-101 .
(16) صحيح مسلم بشرح النووي 3/310 .
(17) بدائع الصنائع 4/195 .(/14)
قال التهانوي :[ ثم هو يدل على اشتراط الإقامة أيضاً ، لأن المسافر جعله الشارع مصرفاً للصدقات ، ولو كان غنياً في وطنه ، فلا يكون ذا سعة في سفره فلا يجب عليه العبادة المالية التي يطالب بإقامتها في الحال كالأضحية … ] (1) .
واحتج الحنفية بما ورد عن بعض الصحابة والتابعين أنهم كانوا لا يضحون في السفر ولا في الحج فمن ذلك :
1. ما رواه عبد الرزاق بإسناده عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان يحج فلا يضحي (2) .
2. وروى أيضاً بإسناده عن نافع عن ابن عمر- رضي الله عنه - قال :[ لم يكن أحد من أهله يسأله بالمدينة ضحية إلا ضحى عنه وكان لا يضحي عنهم بمنى ] (3) .
3. وروى أيضاً بسنده عن إبراهيم النخعي قال:[رخص للحاج والمسافر أن لا يضحي] (4)
4. وروى عنه أيضاً قال :[ كانوا يحجون ومعهم الأوراق فلا يضحون ] (5) .
5. وروى عنه أيضاً قال :[ كانوا إذا شهدوا ضحوا وإذا سافروا لم يضحوا ] (6) .
6. وذكر ابن حزم بسنده عن النخعي قال :[ كان عمر يحج ولا يضحي وكان أصحابنا يحجون معهم الورق والذهب فلا يضحون ما يمنعهم من ذلك إلا ليتفرغوا لنسكهم ] (7).
أدلة الإمام مالك :
ويرى الإمام مالك أن الحاج إنما هو مخاطب في الأصل بالهدي ، فإذا أراد أن يضحي جعله هدياً ، والناس غير الحاج إنما أمروا بالأضحية ، ليتشبهوا بأهل منى فيحصل لهم حظ من أجرهم (8) .
وقال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي – بعد أن ذكر الخلاف في المسألة – مرجحاً مذهب الإمام مالك ما نصه :[ أظهر القولين دليلاً عندي في هذا الفرع قول مالك وأصحابه وإن خالفهم الجمهور ، وأن الأضحية لا تسن للحاج بمنى ، وأن ما يذبحه هدي لا أضحية ، وأن الاستدلال بحديث عائشة المتفق عليه المذكور آنفاً لا تنهض به الحجة على مالك وأصحابه ، ووجه كون مذهب مالك أرجح في نظرنا هنا مما ذهب إليه جمهور أهل العلم ، هو أن القرآن العظيم دالٌ عليه ، ولم يثبت ما يخالف دلالة القرآن عليه ، سالماً من المعارض من كتاب أو سنة ، ووجه دلالة القرآن على أن ما يذبحه الحاج بمنى هدي لا أضحية ، هو ما قدمناه موضحاً لأن قوله تعالى:} وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا { سورة الحج الآيتان 27-28 ، فيه معنى أذن في الناس بالحج : يأتوك مشاةً وركباناً لحكم .منها : شهودهم منافع لهم ، ومنها : ذكرهم اسم الله عَلَى } مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ { عند ذبحها تقرباً إلى الله ، والذي يكون من حكم التأذين فيهم بالحج ، حتى يأتوا مشاةً وركباناً ، ويشهدوا المنافع ويتقربوا بالذبح ، إنما هو الهدي خاصة دون الأضحية لإجماع العلماء على أن للمضحي : أن يذبح أضحيته في أي مكان شاءه من أقطار الدنيا ، ولا يحتاج في التقرب بالأضحية ، إلى إتيانهم مشاة وركباناً من كل فج عميق ، فالآية ظاهرة في الهدي ، دون الأضحية ، وما كان القرآن أظهر فيه وجب تقديمه على غيره . أما الاحتجاج بحديث عائشة المتفق عليه ( أنه ضحى ببقر عن نسائه يوم النحر صلوات الله وسلامه عليه ) فلا تنهض به الحجة ، لكثرة الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنهن متمتعات ، وأن ذلك البقر هدي واجب ، وهو هدي التمتع المنصوص عليه في القرآن وأن عائشة منهن قارنة ، والبقرة التي ذبحت عنها ، هدي قران ، سواء قلنا إنها استقلت بذبح بقرة عنها وحدها ، كما قدمناه في بعض الروايات
الصحيحة ، أو كان بالاشتراك مع غيرها في بقرة ، كما قال به بعضهم ، وأكثر الروايات ليس فيها لفظ ( ضحى ) بل فيها ( أهدى ) وفيها ( ذبح عن نسائه ) وفيها ( نحر عن نسائه ) فلفظ ( ضحى ) من تصرف بعض الرواة للجزم بأن ما ذبح عنهن من البقر يوم النحر بمنى هدي تمتع بالنسبة لغير عائشة وهدي قران بالنسبة إليها ، كما هو معلوم بالأحاديث الصحيحة ، التي لا نزاع فيها ، وبهذا الذي ذكرنا تعلم أن ظاهر القرآن مع مالك ، والحديث ليس فيه حجة عليه .
__________
(1) إعلاء السنن 17/235 ، وانظر الاختيار 5/17 .
(2) المصنف 4/382 .
(3) المصدر السابق 4/381 .
(4) المصدر السابق 4/382 .
(5) المصدر السابق 4/382 .
(6) المصدر السابق 4/382 .
(7) المحلى 6/37 .
(8) انظر تفسير القرطبي 12/47 .(/15)
وقال ابن حجر في فتح الباري في باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن بعد ذكره رواية :( ضحى ) المذكورة ما نصه : والظاهر أن التصرف من الرواة ، لأنه في الحديث ذكر النحر ، فحمله بعضهم على الأضحية فإن رواية أبي هريرة صريحة في أن ذلك ، كان عمن اعتمر من نسائه فقويت رواية من رواه بلفظ ( أهدى ) وتبين أنه هدي التمتع فليس فيه حجة على مالك في قوله : لا ضحايا على أهل منى . أهـ محل الغرض من فتح الباري ، وهو واضح فيما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى ] (1) .
قلت : إن كلام الشيخ الشنقيطي في بيان عدم صحة الاستدلال بحديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى عن نسائه بالبقر في منى ، كلام قوي ومتجه ، وأن الصواب أن ذلك كان هدياً وليس أضحية .
ولكن يعكر على ترجيح الشيخ الشنقيطي لمذهب الإمام مالك ما رواه مسلم بإسناده عن ثوبان - رضي الله عنه - قال : ( ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحيته ثم قال : يا ثوبان أصلح لحم هذه ، فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة ) .
وفي رواية أخرى عند مسلم عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :( قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع : أصلح هذا اللحم، قال : فأصلحته فلم يزل يأكل منه حتى بلغ المدينة ) (2).
ففي هذا الحديث تصريح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى وهو حاج مسافر ، ولعل المالكية يقولون إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بمنى لأنها كانت واجبة في حقه - صلى الله عليه وسلم - .
ولكن الأدلة لم تنهض على إثبات ذلك ، وقد سبقت الإشارة إلى أن الحديث الوارد في اختصاص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأضحية على سبيل الوجوب ضعيف لا يثبت (3) .
وأما ما استدل به الحنفية من الآثار عن بعض الصحابة والتابعين أنهم كانوا لا يضحون في السفر وكذا في منى .
فالجواب : أن لا دلالة في فعلهم على أن الأضحية غير مشروعة في حق المسافر والحاج ، وإنما تدل على تركهم للأضحية في تلك الحال ، لانشغالهم بالسفر أو النسك ، وهذا بناءً على ذهابهم إلى أن الأضحية سنة ، وليست واجبة فيجوز تركها كما قال سعيد بن المسيب لرجل :[ ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن تركته فليس عليك ] (4) .
وسبق أن ذكرت أنه صح عن أبي بكر وعمر أنهما كانا لا يضحيان مخافة أن يظن الناس وجوبها .
وبهذا يظهر لي رجحان قول الجمهور أن الأضحية مشروعة ومسنونة في حق جميع الناس بدواً وحضراً في حال السفر وفي حال الإقامة وللحاج وغيره والله أعلم .
قال النووي :[ … الصواب أن التضحية سنة للحاج بمنى كما هي سنة في غيره ] (5) .
المبحث السابع
في حق من تشرع الأضحية
يرى الحنفية أنه يشترط في المضحي أن يكون غنياً ، أي مالكاً لنصاب الزكاة فاضلاً عن حوائجه الأصلية ، ودليلهم على ذلك ما ورد في الحديث :( من وجد سعةً فلم يضح فلا يقربنَّ مصلانا ) فالرسول - صلى الله عليه وسلم - شرط عليه السعة وهي الغنى ، وهو أن يكون في ملكه مئتا درهم أو عشرون ديناراً أو شيء تبلغ قيمته ذلك ، سوى مسكنه وما يتأثث به وكسوته وكسوة من يمونهم (6) .
وقال المالكية إن الأضحية لا تسن في حق الفقير الذي لا يملك قوت عامه ، وتشرع بحيث لا تجحف بمال المضحي ، بأن لا يحتاج لثمنها في ضرورياته في عامه ، فإن احتاج فهو فقير (7) ، وقالوا إن من ليس معه ثمن الأضحية فلا يتسلف ليضحي (8) .
وقال الشافعية تشرع الأضحية في حق من ملك ثمنها فاضلاً عن حاجته وحاجة من يمونه في يومه وليلته وكسوة فصله ، أي ينبغي أن تكون فاضلة عن يوم العيد وأيام التشريق (9).
وأما الحنابلة فقالوا تشرع الأضحية في حق القادر عليها الذي يمكنه الحصول على ثمنها ولو بالدَّين ، إذا كان يقدر على وفاء دينه (10) .
والذي أرجحه أن الأضحية مشروعة في حق الغني الذي يملك نصاب الزكاة فاضلاً عن حوائجه الأصلية ، ومقداره في يومنا هذا ( 30 رمضان 1419 ) خمسمئة وخمسون ديناراً أردنياً ، وثمن ما يصح أضحية لا يقل عن مئة وخمسين ديناراً ، ومن لا يملك النصاب فهو فقير .
المبحث الثامن
شروط الأضحية
الشرط الأول أن تكون الأضحية من الأنعام
اتفق جمهور أهل العلم بما فيهم أصحاب المذاهب الأربعة (11) على أنه يشترط في الأضحية أن تكون من الأنعام ، وهي الإبل والبقر والغنم .
__________
(1) أضواء البيان 5/423-424 .
(2) صحيح مسلم مع شرح النووي 5/116 .
(3) انظر التلخيص الحبير 3/118 .
(4) مصنف عبد الرزاق 4/380 .
(5) المجموع 8/383 .
(6) تبيين الحقائق 6/3 ، بدائع الصنائع 4/196 ، حاشية ابن عابدين 6/312 .
(7) بلغة السالك 1/286 ، الذخيرة 4/142 .
(8) شرح الخرشي 3/33 .
(9) مغني المحتاج 6/123 ، الإقناع 2/278 .
(10) كشاف القناع 3/18 ، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 26/305 .
(11) المغني 9/440 ، المجموع 8/394 ، بدائع الصنائع 4/205 ، تفسير القرطبي 15/109 ، السيل الجرار 4/78 ،
بداية المجتهد 1/348 .(/16)
ويشمل ذلك الذكر والأنثى من النوع الواحد ، وكذا الخصي والفحل ، والمعز نوع من الغنم ، والجاموس نوع من البقر .
قال القرطبي :[ والذي يضحى به بإجماع المسلمين الأزواج الثمانية وهي الضأن والمعز والإبل والبقر ] (1) .
ولا يصح في الأضاحي شيء من الحيوان الوحشي ، كالغزال ، ولا من الطيور كالديك ، ويدل على ذلك قوله تعالى:} وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ { سورة الحج الآية 34 .
قال القرطبي أيضاً :[ والأنعام هنا هي الإبل والبقر والغنم ] (2) .
ويدل على ذلك أنه لم تنقل التضحية بغير الأنعام عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ويدل على ذلك قوله تعالى :} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ { سورة المائدة الآية 1 .
ويدل على ذلك أيضاً أنه لما اختصت الأنعام بوجوب الزكاة ، اختصت بالأضحية ، لأنها قربة .
قال الشافعي :[ هم الأزواج الثمانية التي قال الله تعالى :} ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ { الأنعام الآية 143 . وقال تعالى :} وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ { الأنعام الآية 144 . يعني ذكراً وأنثى ، فاختص هذه الأزواج الثمانية من النعم بثلاثة أحكام :أحدها : وجوب الزكاة فيها. والثاني : اختصاص الأضاحي بها . والثالث : إباحتها في الحرم والإحرام ] (3) .
ونقل عن الحسن بن صالح – من فقهاء السلف المتقدمين - أن بقرة الوحش والظبي تجزئ في الأضحية (4) .
وقال ابن حزم :[ والأضحية جائزة بكل حيوان يؤكل لحمه من ذي أربع أو طائر كالفرس والإبل وبقر الوحش والديك وسائر الطير والحيوان الحلال أكله ] (5) .
وزعم ابن حزم أن النصوص تشهد لقوله ، وذلك أن الأضحية قربة إلى الله تعالى فالتقرب إلى الله تعالى – بكل ما لم يمنع منه قرآن ولا نص سنة – حسن .
وقال تعالى :} وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ { سورة الحج الآية 77 .
والتقرب إليه عز وجل بما لم يمنع من التقرب إليه به فعل خير .
واحتج بما جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( مثل المهجر إلى الجمعة كمثل من يهدي بدنة ثم كمن يهدي بقرة…. ثم كمن يهدي بيضة ) رواه البخاري بهذا اللفظ (6) .
واحتج بالحديث الآخر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال :( من اغتسل يوم الجمعة ثم راح فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ) رواه البخاري ومسلم (7) .
ثم قال ابن حزم :[ ففي هذين الخبرين هدي دجاجة وعصفور وتقريبهما وتقريب بيضة
والأضحية تقريب بلا شك … ولا معترض على هذين النصين أصلاً ]، وذكر ابن حزم قبل ذلك قول بلال - رضي الله عنه - :[ ما أبالي لو ضحيت بديك ] وعن ابن عباس - رضي الله عنه - في ابتياعه لحماً بدرهمين وقال :[ هذه أضحية ابن عباس ] (8) .
والجواب عن استدلال ابن حزم : أن الآية عامة والأدلة الواردة في التضحية بالأنعام خاصة فتقدم عليها ، لأن الخاص يقدم على العام .
وأما استدلال ابن حزم بالحديثين فمنقوض ، حيث إنه كان يلزم ابن حزم أن يجيز الأضحية بالبيضة لأنها وردت في الحديث ! فلماذا قصر الأضحية على الحيوان والطائر ؟ فأعمل بعض الحديث وأهمل بعضه ، وأيضاً يلزم ابن حزم القول بإجزاء الدجاجة والعصفور والفرس ونحوها في هدايا الحج ، لأن الحديث ورد بلفظ الهدي وهو لا يقول بجوازها في الهدي بل الهدي عنده هو من الأنعام فقط .
والصحيح أن الإهداء المذكور في الحديث مفسر بالتصدق ، وليس المقصود إراقة الدم بدليل ذكر البيضة فيه . وكذلك فقد ورد في الحديث ( فكأنما قرب … ) والتقريب هو التصدق بالمال تقرباً إلى الله عز وجل ، وصحيح أن الأضحية تقريب ولكنها مقيدة بإراقة الدم كالهدي .
وأما احتجاج ابن حزم بما ورد عن بلال وعن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين فلا حجة في أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ابن حزم . وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بالأنعام فقط .
__________
(1) تفسير القرطبي 15/109 .
(2) تفسير القرطبي 11/44 .
(3) الحاوي 15/75-76 .
(4) المغني 9/440 ، المجموع 8/394 ، بداية المجتهد 1/349 .
(5) المحلى 6/29 .
(6) صحيح البخاري مع الفتح 3/58 .
(7) صحيح البخاري مع الفتح 3/17 –18 ، صحيح مسلم بشرح النووي 2/451 .
(8) المحلى 6/30-31 .(/17)
ويمكن أن يحمل فعلهما على أنهما كان معسرين أو لم يضحيا خشية أن يظن الناس أنها واجبة كما نقل عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وأما ما نقل عن الحسن بن صالح فهو شاذ مردود مخالف للكتاب وللسنة (1) .
وبعد هذه المناقشة يظهر لي أن القول الراجح والصحيح هو أن الأضحية لا تجزئ إلا من الأنعام والله أعلم .
الشرط الثاني أن تبلغ سن التضحية
اختلف الفقهاء في السن المجزئة في الأضحية على ثلاثة أقوال :
1. اتفق جمهور أهل العلم على أنه لا يجزئ من الإبل و البقر والمعز إلا الثني فما فوقه ويجزئ من الضأن الجذع فما فوقه .
2. وقال الزهري : لا يجزئ الجذع من الضأن ولا من غيره ، ونقل عن ابن عمر ، وبه قال ابن حزم .
3. وقال الأوزاعي : يجزئ الجذع من الإبل والبقر والضأن والمعز ، ونقل عن عطاء (2) .
أدلة العلماء :
استدل جمهور العلماء بما يلي :
1. حديث جابر - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال :( لا تذبحوا إلا مسنةً إلا أن يَعسر عليكم فتذبحوا جذعةً من الضأن ) رواه مسلم (3) .
قال الإمام النووي :[ قال العلماء المسنة هي الثنية من كل شيء من الإبل والبقر والغنم فما فوقها ، وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال ] (4) .
2. واحتجوا بما رواه أبو داود بإسناده عن عاصم بن كليب عن أبيه قال :( كنا مع رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له مجاشع من بني سليم فعزت الغنم ، فأمر منادياً فنادى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : إن الجذع يوفِّي مما يوفِّي منه الثني ) قال أبو داود وهو
مجاشع بن مسعود .
ورواه النسائي وابن ماجة والبيهقي والحاكم وقال حديث صحيح . وقال ابن حزم هو في غاية الصحة (5) . وقال الشيخ الألباني : صحيح (6) .
3. واستدل الجمهور أيضاً بحديث عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - قال :( قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه ضحايا فصارت لعقبة جذعة فقلت : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صارت لي جذعة . قال ضح بها ) رواه البخاري ومسلم (7) .
4. وفي رواية أخرى عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال :( ضحينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجذع من
الضأن ) رواه النسائي وابن الجارود والبيهقي (8) .وقال الحافظ ابن حجر :[ أخرجه النسائي بإسناد قوي ] (9) . وقال الشيخ الألباني :[ وهذا إسناد جيد وقواه الحافظ ] (10) .
وقال الشيخ الألباني في موضع آخر :[ وهذا إسناد جيد رجاله ثقات وإعلال ابن حزم له بقوله :( ابن خبيب هذا مجهول ) ليس بذاك ] (11).
5. وعن أبي كباش قال :( جلبت غنماً جذعاناً إلى المدينة فكسدت عليَّ فلقيت أبا هريرة فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : نعم أو نعمت الأضحية الجذع من الضأن قال : فانتهبه الناس ) رواه الترمذي وقال: حسن غريب ، وقد روي هذا عن أبي هريرة موقوفاً وعثمان بن واقد هو ابن محمد بن زياد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن الجذع من الضأن يجزئ في الأضحية (12) .
ورواه أحمد في المسند ورواه البيهقي أيضاً (13) .
وضعفه الشيخ الألباني ثم تراجع عن تضعيفه فقال :[ نستطيع أن نستخلص مما سبق من التحقيق أن حديث هلال هذا ( نعمت الأضحية الجذع من الضأن ) وكذا الذي قبله
- حديث أبي كباش – وإن كان ضعيف المبنى فهو صحيح المعنى يشهد له حديث عقبة ومجاشع ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لما أوردتهما في هذه السلسلة – أي الضعيفة - ولأوردت بدلهما حديث جابر هذا … ] (14) .
6. ويدل لقول الجمهور أيضاً ما جاء في الحديث عن أم بلال بنت هلال عن أبيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :( يجوز الجذع من الضأن أضحية ) رواه ابن ماجة ، وقواه الشيخ الألباني لشواهده (15) .
__________
(1) انظر إعلاء السنن 17/229-230 .
(2) المجموع 8/394 ، المغني 9/439 ، تبيين الحقائق 6/7 ، الذخيرة 4/145 ، المحلى 6/13 ، الحاوي 15/76 ، طرح التثريب 5/191 ، فتح الباري 12/111 .
(3) صحيح مسلم مع شرح النووي 5/101 .
(4) شرح النووي على صحيح مسلم 5/101-102 .
(5) المحلى 6/26 ، سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 7/356 ، سنن النسائي 7/218-219 ، سنن ابن ماجة 2/1049 ، سنن البيهقي 9/270 ، المستدرك 4/252 .
(6) إرواء الغليل 4/359-360 .
(7) صحيح البخاري مع الفتح 12/100 ، صحيح مسلم بشرح النووي 5/103 .
(8) سنن النسائي 7/219 ، سنن البيهقي 9/270 .
(9) فتح الباري 12/111 .
(10) إرواء الغليل 4/358 .
(11) السلسلة الضعيفة 1/89 .
(12) سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي 6/236 .
(13) الفتح الرباني 13/72 ، سنن البيهقي 9/271 .
(14) السلسلة الضعيفة 1/95 .
(15) السلسلة الضعيفة 1/95 .(/18)
7. ويؤيد قول الجمهور أيضاً ما جاء عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال : ( لأن أضحي بجذع أحب إليَّ من أن أضحي بهرم ، الله أحق بالغنى والكرم ، وأحبهن إليَّ أن أضحي به ، أحبهن إليَّ بأن أقتنيه) قال الهيثمي :[ رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح ] (1)
أدلة ابن حزم ومن وافقه :
احتج ابن حزم بحديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - وفيه : أن خاله أبا بردة قال :( يا رسول الله إن عندي عناق لبن وهي خير من شاتي لحم . قال : هي خير نسيكتيك ولا تجزئ جذعة عن أحدٍ بعدك ) .
وفي رواية أخرى أن أبا بردة - رضي الله عنه - قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( عندي جذعة خير من مسنتين .
قال : اذبحها ولن تجزئ عن أحد بعدك ) .
ثم قال ابن حزم :[ فقطع عليه الصلاة والسلام أن لا تجزئ جذعة عن أحد بعد أبي بردة، فلا يحل لأحد تخصيص نوع دون نوع بذلك ،ولو أن ما دون الجذعة يجزئ لبيَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - المأمور بالبيان من ربه تعالى :} وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا{ ] (2).
ويرى ابن حزم أن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :( لا تجزئ جذعة عن أحد بعدك ) ناسخ لكل الروايات الواردة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والآثار الواردة عن الصحابة بإجازة الجذع في
الأضحية (3) .
ويضاف إلى ذلك أن ابن حزم يضعف حديث جابر الذي احتج به الجمهور حيث قال :
[ … وأما نحن فلا نصححه لأن أبا الزبير مدلس ، ما لم يقل في الخبر إنه سمعه من
جابر … ] (4) .
أدلة الأوزاعي :
ومن الحجة للأوزاعي على إجزاء الجذع مطلقاً في الأضحية حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - :
( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه غنماً يقسمها على صحابته ضحايا فبقي عتود فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
فقال : ضح أنت بها ) رواه البخاري ومسلم وقد مضى .
ونقل الإمام النووي عن أبي عبيد من أهل اللغة وغيره : أن العتود من أولاد المعز ، وهو ما رعى وقوي .
ويجاب عن هذا الحديث بأن البيهقي رواه وفيه زيادة وهي:(ولا رخصة لأحد فيها بعدك )
ثم قال البيهقي :[ فهذه الزيادة إذا كانت محفوظة كانت رخصة له كما رخص لأبي بردة بن نيار ] (5) .
وقال الحافظ ابن حجر مصححاً لهذه الزيادة :[ … فإنها خارجة من مخرج الصحيح فإنها عند البيهقي من طريق عبد الله البوشنجي أحد الائمة الكبار في الحفظ والفقه وسائر فنون العلم ، رواها عن الليث بالسند الذي ساقه البخاري ] (6) .
الترجيح :
الذي يظهر لي رجحان قول الجمهور في أن الأضحية لا تصح بالجذع من الإبل والبقر والمعز ، ويصح الجذع من الضأن دون غيره لحديث جابر المتقدم ولا يصح تضعيف ابن حزم له فإن الحديث رواه مسلم والنسائي وأبو داود وابن ماجة وأحمد ، وقال الإمام البغوي : هذا حديث صحيح . وصححه الحافظ ابن حجر ، وعزاه الزيلعي وابن الملقن والغماري لمسلم وصححوه ولم يذكروا فيه أي علة (7) .
ويؤيد هذا ما جاء في حديث عقبة وحديث مجاشع ، فإن دلالتهما ظاهر ة في جواز التضحية بالجذع من الضأن دون غيره ، وحديث مجاشع وإن كان بعمومه يشمل الجذع من المعز ، فقد جاء ما يدل على أنه غير مراد وهو حديث البراء قال :( ضحى خالي أبو بردة - رضي الله عنه - قبل الصلاة . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تلك شاة لحم ، فقال : يا رسول الله إن عندي جذعة من المعز . فقال : ضحِ بها ولا تصلح لغيرك ) .
وفي رواية ( إذبحها ولن تجزئ عن أحد بعدك ) .
وفي أخرى ( ولا تجزئ جذعة عن أحد بعدك ) رواه البخاري ومسلم وقد مضى .
فالجذعة المذكورة في الحديث كانت من المعز ، ولكن قامت القرينة على تخصيص أبي بردة بذلك (8) .
وقد اختلف جمهور الفقهاء في المراد بالجذع والثني كما يلي :
قال الحنفية : الجذع من الضأن ما تمت له ستة أشهر فيجوز أن يضحى به إذا كان الجذع عظيماً بحيث لو خلط بالثنيات يشتبه على الناظر من بعد .
وذكر الزعفراني من الحنفية أن الجذع من الضأن ما كان له سبعة أشهر .
وقيل ثمانية أشهر .
وقيل تسعة أشهر .
والثني من الضأن والمعز ما أتم سنة .
والثني من البقر ما أتم سنتين .
والثني من الإبل ما أتم خمس سنين (9) .
وقال المالكية : الجذع من الضأن ما أتم سنة ودخل في الثانية .
والثني من الضأن ما أتم سنتين .
والثني من المعز ما أتم سنتين .
والثني من البقر ما أتم ثلاثاً ودخل في الرابعة .
__________
(1) مجمع الزوائد 4/20 ، وانظر مصنف عبد الرزاق 4/385 ، المحلى 6/26 .
(2) المحلى 6/15-16 .
(3) المصدر السابق 6/22-23 .
(4) المصدر السابق 6/20 .
(5) سنن البيهقي 9/270 .
(6) فتح الباري 12/110 .
(7) شرح السنة 4/331 ، فتح الباري 12/111 ، سنن النسائي 7/218 ، سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 7/352 ، سنن ابن ماجة 2/1049 ، الفتح الرباني 13/71 ، نصب الراية 4/216 ، تحفة المحتاج 2/531 ، الهداية 6/187-188.
(8) انظر السلسلة الضعيفة 1/93-94 .
(9) تبيين الحقائق 6/7 ، بدائع الصنائع 4/206 .(/19)
والثني من الإبل ما أتم خمساً ودخل في السادسة (1) .
وقال الشافعية : الجذع من الضأن ما أتم السنة على أصح الأوجه عندهم ودخل في الثانية. والثني من المعز ما أتم سنتين ، وقيل ما استكمل سنة ودخل في الثانية .
والثني من البقر ما أتم سنتين ودخل في الثالثة .
والثني من الإبل ما أتم خمس سنين ودخل في السادسة (2) .
وقال الحنابلة : الجذع من الضأن ما له ستة أشهر ودخل في السابع .
والثني من المعز ما أتم سنة ودخل في الثانية .
والثني من البقر ما أتم سنتين ودخل في الثالثة .
والثني من الإبل ما أتم خمس سنين ودخل في السادسة (3) .
واختلاف الفقهاء في بيان الجذع والثني مردّه إلى اختلاف أهل اللغة فيهما فلا بد من الرجوع إلى كلام اللغويين في تفسير هذين اللفظين .
أما الجذع فقد قال الأزهري :[ … ومن الضأن لثمانية أشهر أو تسعة ] (4) .
وقال الجوهري :[ الجذع قبل الثني والجمع جُذعان وجِذاعٌ والأنثى جذعة والجمع جذعات . تقول منه لولد الشاة في السنة الثانية ولولد البقر والحافر في السنة الثالثة وللإبل في السنة الخامسة : أجذع . والجذع اسم له في زمن ليس بسن تنبت ولا تسقط .وقد قيل في ولد النعجة إنه يجذع في ستة أشهر أو تسعة أشهر وذلك جائز في الأضحية ] (5) .
وأما الثني : فقال الجوهري :[ والثني الذي يلقي ثنيته – واحدة الثنايا من السن – ويكون ذلك في الظلف والحافر في السنة الثالثة وفي الخف في السنة السادسة ] (6) .
وقال ابن منظور :[ والثني من الإبل : الذي يلقي ثنيته ، وذلك في السادسة ومن الغنم الداخل في السنة الثالثة ، تيساً كان أو كبشاً . التهذيب : البعير إذا استكمل الخامسة وطعن السادسة فهو ثني ، وهو أدنى ما يجوز من سن الإبل في الأضاحي وكذلك من البقر والمعزى ، فأما الضأن فيجوز منها الجذع في الأضاحي ، وإنما سمي البعير ثنياً لأنه ألقى ثنيته … والثني من الغنم الذي استكمل الثانية ودخل في السادسة ثم ثني في السنة الثالثة مثل الشاة سواء ] (7) .
وبعد هذا أقول إن ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة في بيان الجذع من الضأن له أساس قوي في لغة العرب وبناءً عليه أرى أن الراجح هو قولهم بجواز الأضحية بما مضى عليه أكثر العام من الضأن وهو الجذع ، أي مضى عليه ستة أشهر فأكثر ، وخاصة إذا كان عظيماً بحيث لو خلط بالثنيات يشتبه على الناظر من بعد .
قال إبراهيم النخعي :[ الجذع من الضأن يجزئ إذا كان عظيماً ] (8) .
حكم التضحية بالعجول المسمّنة التي لم تبلغ السن المقرر شرعاً
إن الالتزام بالسن المقرر شرعاً في الأضحية أمر مطلوب شرعاً ، ولا تجوز مخالفته بالنقص عنه ، وتجوز الزيادة عليه ، ولكن بعض الناس تعارفوا في بعض مناطق فلسطين ، على التضحية بالعجول المسمنة التي تقل أعمارها عن السن المطلوب ، وغالبها له من العمر تسعة أشهر إلى سنة ونصف ، ويظنون أن هذه العجول السمينة تجزئ في الأضاحي وقد بحثت هذه المسألة بحثاً مطولاً في كتب الفقهاء ، فلم أجد أحداً منهم ، قال بجواز النقص عن السن المقرر شرعاً ، حتى إني لأظن - ولا أجزم - بأن قضية السن في الأضحية تعبدية حيث خُصَّ من هذا الحكم ، واحد من الصحابة أو اثنان ، بنص أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي وبناءاً على ذلك أقول:
لقد وردت الأحاديث التي أشارت إلى السن المعتبر في الأضاحي ، والتي اعتمد عليها الفقهاء في تحديد السن المعتبر في الأضاحي ، واعتبروا ذلك شرطاً من شروط صحة الأضحية .
فقد اتفق العلماء على أنه تجوز التضحية بالثني فما فوقه من الإبل والبقر والغنم ، والمراد بالثني من الإبل ما أكمل خمس سنين ودخل في السادسة ، ومن البقر ما أكمل سنتين ودخل في الثالثة ، ومن الغنم ما أكمل سنة ودخل في الثانية .
قال في المصباح المنير :[ الثني الجمل يدخل في السادسة … والثني أيضاً الذي يلقي ثنيته يكون من ذوات الظلف والحافر في السنة الثالثة ومن ذوات الخف في السنة السادسة ] (9).
واتفق العلماء على أنه لا تجوز التضحية بما دون الثني من الإبل والبقر والمعز .
واختلفوا في الجذع من الضأن :
قال الإمام الشافعي : [ الضحايا الجذع من الضأن ، والثني من المعز والإبل والبقر ، ولا يكون شيء دون هذا ضحية ] (10) .
قال الإمام النووي:[ وأجمعت الأمة على أنه لا تجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا الثني ] (11)
__________
(1) الذخيرة 4/154 ، شرح الخرشي 3/33-34 ، القوانين الفقهية ص126 .
(2) الحاوي 15/77 ، كفاية الأخيار ص529 ، طرح التثريب 5/194 .
(3) المغني 9/440 ، كشاف القناع 2/531-532 ، منار السبيل 1/272 .
(4) لسان العرب 2/219-220 مادة جذع ، وانظر تاج العروس 11/58 مادة جذع .
(5) الصحاح 3/1194 مادة جذع .
(6) الصحاح 6/2295 ماد ثنى .
(7) لسان العرب 2/141-142 مادة ثنيّ ، وانظر تاج العروس 19/257-258 مادة ثنى .
(8) الآثار لأبي يوسف ص63 .
(9) المصباح المنير ص85 .
(10) الأم 2/223 .
(11) المجموع 8/394 .(/20)
ونقل ابن قدامة عن أئمة اللغة :[ إذا مضت الخامسة على البعير ودخل في السادسة وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني … وأما البقرة فهي التي لها سنتان لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( لا تذبحوا إلا مسنة ) ومسنة البقر التي لها سنتان ] (1).
وقال الإمام النووي :[ قال العلماء المسنة هي الثنية من كل شيء من الإبل والبقر والغنم فما فوقها وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال وهذا مجمع عليه ] (2).
وقد اتفق العلماء على أنه لا يجزئ الجذع من البقر والجذع من البقر هو من وقت ولادته إلى أن يبلغ سنتين من عمره والعجل المسمن الذي يبلغ تسعة أشهر هو جذع فلا يجزئ في الأضحية وكونه سميناً وأكثر لحماً من الذي بلغ سنتين من عمره ليس سبباً في ترك السن المعتمدة وهي سنتان فأكثر .
وإن المدقق في الأحاديث التي أشارت إلى السن يرى أنه لا يجوز تجاوز تلك السن ويدل على ذلك الأحاديث التالية :
1. عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :( إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر من فعله فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح فقال إن عندي جذعة ، فقال إذبحها ولن تجزئ عن أحد بعدك ) رواه البخاري وقد مضى.
2. قال الإمام البخاري : باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة :( ضح بالجذع من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك ) ثم ساق حديث البراء المتقدم برواية أخرى :( ضحى خال لي يقال له
أبو بردة قبل الصلاة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :شاتك شاة لحم . فقال: يا رسول الله: إن عندي داجناً جذعة من المعز . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذبحها ولا تصلح لغيرك ) (3).
وقد ورد في عدة روايات اختصاص أبي بردة بالتضحية بالجذع من المعز وشاركه في الاختصاص عقبة بن عامر والألفاظ التي تدل على الاختصاص كما بينها الحافظ
ابن حجر :( ولا رخصة فيها لأحد بعدك ) ، ( ولن تجزئ عن أحد بعدك ) ، ( وليست فيها رخصة لأحد بعدك ) (4) .وهذا التخصيص من النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على أنه لا تصح
التضحية بالجذع من الإبل والبقر والماعز ، وهو الذي اعتمد عليه الفقهاء في قولهم
إنه لا تجوز التضحية بما دون السنتين من البقر .
وبناءً على ما تقدم أقول :
لا تصح التضحية بالعجول المسمنة مهما بلغ وزنها ولا بد من الالتزام بالسن المقرر عند الفقهاء في البقر وهو سنتان ،ولا يصح النقص عنه .
جاء في الفتاوى الهندية :[ وتقدير هذه الأسنان بما قلنا يمنع النقصان ولا يمنع الزيادة حتى ولو ضحى بأقل من ذلك شيئاً لا يجوز ولو ضحى بأكثر من ذلك شيئاً يجوز ويكون أفضل ولا يجوز في الأضحية حمل ولا جدي ولا عجول ولا فصيل ] (5).
وينبغي أن يعلم أنه ليس المقصود من الأضحية اللحم فقط ، وتوزيعه صدقة أو هدية ، وإنما يقصد بالأضحية أيضاً تعظيم شعائر الله عز وجل ، وإراقة الدم كوسيلة من وسائل الشكر لله تعالى ، قال الله تعالى :} ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ { سورة الحج الآية 32 .
وكذلك الامتثال لأمر الله عز وجل بإراقة الدم ، اقتداءً بإبراهيم عليه الصلاة والسلام كما قال تعالى :}لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ { سورة الحج
الآية 37 . (6)
الشرط الثالث
أن تكون الأضحية سليمة من العيوب المانعة من صحة الأضحية
لمَّا كانت الأضحية قربة يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل ، والله طيب لا يقبل إلا طيباً ، فينبغي أن تكون الأضحية ، طيبة ، وسمينة ، وخالية من العيوب التي تنقص من لحمها وشحمها ، فقد ثبت في الحديث عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
( أربعٌ لا تجوز في الأضاحي : العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين عرجها والكسير التي لا تنقي .
قال : – أي الراوي عن البراء وهو عبيد بن فيروز – قلت : فإني أكره النقص في السن .
قال : - أي البراء – ما كرهتَ فدعه ، ولا تحرمه على أحد ) رواه أصحاب السنن .
وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أهل العلم .
وصححه الشيخ الألباني (7) .
وحديث البراء هذا هو الأصل في باب العيوب في الأضحية وبناءً عليه قال أهل العلم
لا يجزئ في الأضاحي ما يلي :
أولاً : العوراء البين عورها ، ومن باب أولى العمياء .
__________
(1) المغني 9/440 .
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 13/101 –102 .
(3) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 12/108-109 .
(4) فتح الباري 12/109 .
(5) الفتاوى الهندية 5/297 .
(6) يسألونك 3/101-103 .
(7) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 7/357-358 ، سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/67 ، سنن النسائي 7/214 ، سنن ابن ماجة 2/1050 ، إرواء الغليل 4/361 .(/21)
ثانياً : المريضة البين مرضها .
ثالثاً : العرجاء البين عرجها ، ومن باب أولى مقطوعة الرجل .
رابعاً : الكسير التي لا تنقي ، وهي التي لا تقوم ولا تنهض من الهزال .
قال الحافظ ابن عبد البر :[ أما العيوب الأربعة المذكورة في هذا الحديث فمجتمع عليها لا أعلم خلافاً بين العلماء فيها . ومعلوم أن ما كان في معناها داخل فيها ولا سيما إذا كانت العلة فيها أبين ، ألا ترى أن العوراء إذا لم تجز فالعمياء أحرى ألا تجوز ، وإذا لم تجز العرجاء فالمقطوعة الرجل أو التي لا رجل لها المقعدة أحرى ألا تجوز ، وهذا كله واضح لا خلاف فيه ] (1) .
وحديث البراء - رضي الله عنه - يدل على أن المرض الخفيف لا يضر ، وكذا العرج الخفيف الذي تلحق به الشاة الغنم لقوله - صلى الله عليه وسلم - البين مرضها ، والبين عرجها وكذا ما كان فيها هزال خفيف .
والمرض البين هو المفسد للحم والمنقص للثمن ؛ فلا تجزئ كما لو كانت جرباء أو كان بها بُثُورٌ وقروح . وكذا العجفاء التي لا تنقي ، فالعجف فرط الهزال المذهب للَّحم .
والتي لا تنقي أي لا مخ فيها لعجفها (2) .
وقد وردت بعض الأحاديث الأخرى في العيوب التي تمنع إجزاء الأضحية أذكرها وأبيِّنُ ما قال أهل الحديث فيها :
1. عن يزيد ذو مصر قال :( أتيت عتبة بن عبدٍ السُلمي فقلت : يا أبا الوليد إني خرجت ألتمس الضحايا فلم أجد شيئاً يعجبني غير ثرماء فكرهتها فما تقول . قال: أفلا جئتني بها. قلت: سبحان الله تجوز عنك ولا تجوز عني . قال: نعم إنك تشك ولا أشك ، إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المصفرة والمستأصَلة والبخقاء والمشيَّعة وكسرى .
والمصفرة التي تستأصل أذنها حتى يبدو سماخها .
والمستأصَلة التي استؤصل قرنها من أصله .
والبخقاء التي تُبخق عينها والبخق هو أقبح العور .
والمشيعة التي لا تتبع الغنم عجفاً وضعفاً .
والكسراء هي الكسيرة ) .
رواه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري (3) ورواه أحمد (4) والحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي (5) .
2. وروى أبو داود بإسناده عن شريح بن النعمان وكان رجل صدق عن علي - رضي الله عنه - قال :
( أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذنين ولا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء ) .
قال زهير – أحد رجال السند – فقلت لأبي إسحاق أذكر عضباء ؟ قال : لا .
قلت: فما المقابلة ؟ قال: يقطع طرف الأذن .
قلت: فما المدابرة ؟ قال: يقطع من مؤخر الأذن .
قلت: فما الشرقاء ؟ قال: تشق الأذن .
قلت: فما الخرقاء ؟ قال: تخرق أذنها للسِّمة ) (6) .
ورواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح ؛ ثم قال قوله : أن نستشرف ، أي أن ننظر صحيحاً (7). والمقصود أن ننظر إليهما ونتأمل في سلامتهما من آفة تكون بهما .
ورواه النسائي وأحمد (8) ورواه ابن حبان دون قوله :( ولا نضحي بعوراء … الخ )
وقال محققه: إسناده قوي (9) .
ورواه الحاكم وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي . وحسَّنه محقق شرح
السنة (10) .
3. وروى - صلى الله عليه وسلم - أبو داود بإسناده عن قتادة عن جُري بن كليب عن علي - رضي الله عنه - :( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يضحى بعضباء الأذن والقرن ) (11) .
ثم قال أبو داود جُرَيٌّ سدوسي بصري لم يحدث عنه إلا قتادة .
ثم روى بسنده عن قتادة قال : قلت لسعيد بن المسيب: ما الأعضب ؟ قال :النصف فما فوقه . وسكت عنه أبو داود والمنذري .
ورواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح (12) ورواه النسائي وابن ماجة ورواه أحمد (13) ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (14) .
ذكر صفات قد توجد في الأضحية واختلاف الفقهاء فيها
ذكر الفقهاء صفات كثيرة قد توجد في الأضحية إن وجد بعضها يمنع الإجزاء .
وقال بعضهم: لا بأس بالتضحية بالحيوان مع وجودها .
وسأذكر ما وقفت عليه من الصفات وسأرتبها حسب أعضاء الحيوان :
أولاً: صفات في العين :
1. العمياء: وهي فاقدة العينين ، وهذه باتفاق الفقهاء لا تجزئ في الأضحية ، لأن العواء وهي ما فقدت عيناً واحدة لا تجزئ فالعمياء من باب أولى .
__________
(1) فتح المالك 7/6 .
(2) الحاوي 15/81-82 ، وانظر الاستذكار 15/125 .
(3) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 7/358 .
(4) الفتح الرباني 13/78 .
(5) المستدرك 4/250-251 .
(6) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 7/359 ، وانظر الاستذكار 15/127-128 .
(7) سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/68 .
(8) سنن النسائي 7/217 ، الفتح الرباني 13/77 .
(9) الإحسان 13/242 .
(10) المستدرك 4/250 ، شرح السنة 4/337 ، وانظر شرح معاني الآثار 4/169-171 .
(11) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 7/360 .
(12) سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/74 .
(13) سنن النسائي 7/217-218 ، سنن ابن ماجة 2/1051 ، الفتح الرباني 13/77 .
(14) المستدرك 4/249 .(/22)
ولكن بعض أهل الظاهر أجازوا التضحية بالعمياء ، لأن النهي ورد في الحديث عن التضحية بالعوراء وهذا جمود على ظاهر النص ، لأن العمى عور مضاعف والراجح هو عدم إجزاء العمياء (1) .
2. العوراء: وهي التي فقدت عينها أو فقدت الإبصار بها مع بقاء العين وهذه لا تجزئ باتفاق الفقهاء ، إن كان العور بيِّناً كما ورد النص في حديث البراء لأن العور قد أذهب عضواً منها ويقصر بها في الرعي فيقل لحمها ولأن العور موكس لثمنها (2) .
3. العشواء: وهي التي تبصر نهاراً ولا تبصر ليلاً عند الفقهاء ، وفي اللغة العشى ضعف البصر (3) .
والصحيح أن العشواء مجزئة في الأضحية لأنها تبصر في وقت الرعي والعشى لا يؤثر
عليها (4) .
4. الحولاء: وهي التي في عينها حول ، وهذه تجزئ لأن الحول لا يؤثر عليها ولا يمنعها من الرعي (5) .
5. العمشاء: وهي التي يسيل دمعها مع ضعف البصر (6) . قال ابن منظور :[ والعمش أن لا تزال العين تسيل الدمع ولا يكاد الأعمش يبصر بها ، وقيل العمش ضعف رؤية العين مع سيلان دمعها في أكثر أوقاته … واستعمله قيس بن ذريح في الإبل … ] (7) .
والعمشاء تجزئ في الأضحية (8) .
6. التي في عينها بياض ، تجزئ في الأضحية نص على ذلك المالكية والحنابلة (9) .
ثانياً: صفات في الأذن :
1. السكاء: من السكك وهو صغر الأذنين ويقال إذن سكاء أي صغيرة (10) .
وقد تسمى صمعاء ، والصمع لصوق الأذنين وصغرهما (11) .
قال القرافي :[ والسكاء وهي الصغيرة الأذن وهي الصمعاء ] (12) .
والسكاء والصمعاء تجزئ في الأضحية وقد نص على ذلك الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة (13) .
وقد روى البيهقي بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لا يرى بأساً أن يضحى بالصمعاء .
قال أبو عبيد : قال الأصمعي :[ الصمعاء هي الصغيرة الأذن ] (14) .
2. التي خلقت بلا أذنين أو خلقت بأذن واحدة :
وهذه لا تجزئ عند الحنفية والمالكية والشافعية ،وتجزىء عند الحنابلة (15) .
قال الماوردي :[ فأما التي خلقت لا أذن لها قال الشافعي في الجديد لا تجوز الأضحية بها لأنه نقص عضو من خلقتها ] (16) . وقول الجمهور أقوى دليلاً وأحوط .
3. المُقَابَلَةُ: وهي التي قطع من مقدم أذنها قطعة ، وتدلت في مقابلة الأذن ولم تنفصل (17) .
فهذه تجزئ مع الكراهة عند المالكية والشافعية والحنابلة ، وقال الحنفية تجزئ بلا كراهة (18)
قال الكاساني :[ وما روي أن رسول - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يضحى بالشرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة … فالنهي في الشرقاء والمقابلة والمدابرة محمول على الندب ، وفي الخرقاء على الكثير …] (19) . وقول الجمهور أولى .
4. المدابرة: وهي ما قطع من مؤخر إذنها قطعة وتدلت ولم تنفصل وهي عكس
المقابلة (20) وهذه تجزئ عند المالكية والشافعية والحنابلة مع الكراهة ، وقال الحنفية تجزئ بلا كراهة (21). وقول الجمهور أولى أيضاً .
5. الشرقاء: وهي مشقوقة الأذن وتسمى عند أهل اللغة أيضاً عضباء (22) ، وهذه تجزئ مع الكراهة عند المالكية والشافعية والحنابلة وهو الأولى . وقال الحنفية تجزئ بلا كراهة (23) .
6. الخرقاء: وهي التي في إذنها خرق وهو ثقب مستدير (24) وهذه تجزئ مع الكراهة عند المالكية والشافعية والحنابلة (25) .
__________
(1) المجموع 8/400 ، الحاوي 15/81 ، بدائع الصنائع 4/214 ، القوانين الفقهية ص127 ، كشاف القناع 3/5 .
(2) المجموع 8/400 ، الحاوي 15/80-81 ، بدائع الصنائع 4/214 ، القوانين الفقهية ص127 ، كشاف القناع 3/5 .
(3) المصباح المنير ص412 .
(4) المجموع 8/400 ، الحاوي 15/81 .
(5) حاشية ابن عابدين 6/325 ، الفتاوى الهندية 5/298 ، الحاوي 15/81 .
(6) المصباح المنير ص429 .
(7) لسان العرب 9/398 .
(8) المجموع 8/400 .
(9) الذخيرة 4/146 ، شرح الخرشي 3/35 ، المغني 9/441 ، كشاف القناع 3/6 .
(10) المصباح المنير ص282 .
(11) المصباح المنير ص347 .
(12) الذخيرة 4/147 .
(13) الفتاوى البزازية 3/293 ، الذخيرة 4/147 ، المجموع 8/401 ، الحاوي 15/83 ، المغني 9/442 ،
كشاف القناع 3/6 ، الاستذكار 15/128 .
(14) سنن البيهقي 9/276 .
(10) حاشية ابن عابدين 6/324 ، شرح الخرشي 3/35 ، المجموع 8/401 ، منار السبيل 1/272 .
(16) الحاوي 15/83 .
(17) المصباح المنير ص488 .
(18) القوانين الفقهية ص127 ، المجموع 8/402 ، الحاوي 15/82 ، المغني 9/443 ، بدائع الصنائع 4/216 ،
الفتاوى الهندية 5/298 .
(19) بدائع الصنائع 4/216 .
(20) المصباح المنير ص488 .
(21) القوانين الفقهية ص127 ، المجموع 8/402 ، الحاوي 15/82 ، المغني 9/443 ، بدائع الصنائع 4/216 ،
الفتاوى الهندية 5/298 وانظر كلام الكاساني المتقدم .
(22) المصباح المنير ص311 وص414 .
(23) القوانين الفقهية ص127 ، المجموع 8/402 ، الحاوي 15/82 ، المغني 9/443 ، بدائع الصنائع 4/216 ،
الفتاوى الهندية 5/298 وانظر كلام الكاساني المتقدم .
(24) المصباح المنير ص167 .
(25) القوانين الفقهية ص127 ، المهذب 8/399 ، الحاوي15/82 ، كشاف القناع 3/6 ، المغني 9/443 .(/23)
وقال الحنفية تجزئ بلا كراهة ، والنهي الوارد في الحديث عن الخرقاء ، يحمل على الخرق الكثير دون القليل (1) . وقول الجمهور أولى أيضاً .
7. مقطوعة الأذنين أو مقطوعة الأذن ، وهذه غير التي سبقت في رقم (2) لأن تلك خلقت بلا أذنين أو بلا أذن ، وأما هذه فقطعت أذناها أو أذنها . ومقطوعة الأذنين لا تجزئ وكذا مقطوعة الأذن ، لا تجزئ عند الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة .
هذا إذا كان القطع لجميع الأذن ، وأما إذا قُطِعَ بعضُ الأذن ، فقال الحنفية والحنابلة إذا قطع أكثر الأذن لا تجزئ ، ويؤيد قولهم حديث علي السابق :( نهى أن يضحى بعضباء الأذن والقرن. وقال قتادة:قلت لسعيد بن المسيب ما الأعضب ؟ قال : النصف فما فوقه )
فقد اعتبر الأكثر .
وقال المالكية إن كان المقطوع ثلث الأذن فدون أجزأت . وقال الشافعية إن قطعَ بعض الأذن يمنع من الإجزاء (2) .
ولأهل اللغة تفصيل في صفة القطع من الأذن ؛ قال ابن منظور :[ والقصواء التي قطع طرف أذنها ، وكل ما قطع من الأذن فهو جدع ، فإذا بلغ الربع فهو قصو ، فإذا جاوزه فهو عضب ، فإذا استؤصلت فهو صلم ] (3) .
فالناقة مقطوعة الأذن تسمى قصواء وعضباء وصلماء وجدعاء .
ومذهب الحنفية والحنابلة هو الأرجح .
ثالثاً: صفات في القرن :
1. الجماء: التي لم يخلق لها قرن وتسمى جلحاء أيضاً (4) .
قال الأزهري من أئمة اللغة :[ …إن الجلحاء من الشاء والبقر بمنزلة الجماء التي لا
قرن لها ] (5) .
وهذه مجزئة في الأضحية باتفاق أصحاب المذاهب الأربعة (6) .
2. مكسورة القرن: وتسمى عضباء وقصماء (7) .
قال ابن دريد من أئمة اللغة :[ القصماء من المعز المكسورة القرن الخارج ، والعضباء المكسورة القرن الداخل وهو المشاش ] (8) .
والعضب صفة تكون في الأذن وفي القرن أيضاً . قال أبو عبيد من أئمة اللغة :[ الأعضب المكسور القرن الداخل … وقد يكون العضب في الأذن أيضاً ، فأما المعروف ففي القرن وهو فيه أكثر ] (9).
ويؤيده ما ورد في حديث علي السابق ( أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يضحى بعضباء الأذن والقرن ) .
ومكسورة القرن تجزئ عند الشافعية مع الكراهة .
قال الماوردي :[ فتجوز الأضحية بالجلحاء ، وهي الجماء التي خلقت لا قرن لها ، وبالعضباء وهي المكسورة القرن سواء دمي موضع قرنها بالكسر أو لم يدم ] (10) .
وقال الحنفية تجزئ مكسورة القرن إلا إذا بلغ الكسر الدماغ (11) .
وعند المالكية ثلاثة أقوال :
1. تجزئ .
2. لا تجزئ .
3. الفرق بين أن يدمي القرن المكسور أو لا يدمي ، فإن كان القرن يدمي من الكسر ، فلا تجزئ وإن كان لا يدمي تجزئ ، وهو القول المشهور في المذهب (12) .
وقال الحنابلة لا تجزئ مكسورة القرن (13).
وحجة من قال بالإجزاء ، أن القرن ليس عضواً مأكولاً ، كما أن فقده لا يؤدي إلى فساد اللحم ، وهذا بخلاف العضب في الأذن ، لأن الأذن عضو مأكول .
والنهي الوارد في حديث علي ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يضحى بعضباء الأذن والقرن ) محمول على الكراهة دون التحريم (14) .
والراجح أنها تجزىء إلا إذا كان الدم يسيل فتكره حيتئذ .
قال الحافظ ابن عبد البر : [ جمهور العلماء على القول بجواز الضحية المكسورة القرن إذا كان لا يدمي ، فإن كان يدمي ، فقد كرهه مالك ، وكأنه جعله مرضاً بيِّناً.
وقد روى قتادة عن جري بن كليب عن علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أعضب القرن والأذن .
قال قتادة : فقلت لسعيد بن المسيب : ما عضب الأذن والقرن ؟ قال : النصف أو أكثر .
قال أبو عمر : لا يوجد ذكر القرن في غير هذا الحديث … وهذا الذي عليه جماعة الفقهاء في القرن … وفي إجماعهم على إجازة الضحية بالجماء ما يبين لك أنَّ حديث القرن لا يثبت ولا يصح وهو منسوخ ؛ لأنه معلوم أن ذهاب القرنين معاً أكثر من ذهاب بعض أحدهما ] (15) .
رابعاً: صفات في الأنف :
الجدعاء: وهي مقطوعة الأنف ، والجدع يستعمل في قطع الأنف والأذن والشفة واليد ونحوها (16).
__________
(1) بدائع الصنائع 4/216 ، الفتاوى الهندية 5/298 ، ملتقى الأبحر 2/224 .
(2) حاشية ابن عابدين 6/323 ، الفتاوى الهندية 5/297 ، القوانين الفقهية ص127 ، شرح الخرشي 3/36 ، الحاوي 15/83 ، كشاف القناع 5/3 ، المغني 9/441 ، بدائع الصنائع 4/215 .
(3) لسان العرب 11/200 .
(4) المصباح المنير ص104 ، ص110 .
(5) لسان العرب 2/319 .
(6) بدائع الصنائع 4/216 ، ملتقى الأبحر 2/224 ، الذخيرة 4/147 ، جامع الأمهات ص229 ، الحاوي 15/84 ، المغني 9/442 .
(7) لسان العرب 9/252 .
(8) لسان العرب 11/197 .
(9) لسان العرب 11/197 .
(10) الحاوي 15/84 ، وانظر المجموع 8/402 .
(11) الفتاوى البزازية 3/293 ، بدائع الصنائع 4/216 .
(12) القوانين الفقهية ص127 ، الذخيرة 4/146 .
(13) كشاف القناع 3/6 ، الفروع 3/542 ، المغني 9/441 ، منار السبيل 1/273 .
(14) الحاوي 15/84 .
(15) الاستذكار 15/132-134 .
(16) لسان العرب 2/207 ، المصباح المنير ص93 .(/24)
وقد نص فقهاء الحنفية على أن مقطوعة الأنف لا تجزئ لذهاب عضو منها (1) .
خامساً: صفات في اللسان والأسنان :
1. الهتماء: وهي التي انكسرت ثنيتها وهو فوق الثرم (2) .
وعند الفقهاء الهتماء التي ذهبت أسنانها والثرماء التي ذهبت بعض أسنانها .
فالهتماء وهي التي ذهبت جميع أسنانها : قال الشافعية والمالكية وأبو يوسف من الحنفية لا تجزئ . وعند أبي حنيفة تجزئ إذا كانت ترعى وتعتلف ، وهو قول الحنابلة (3) .
وأما الثرماء وهي التي ذهبت بعض أسنانها فتجوز عند أبي حنيفة إذا كانت تعتلف ، وهو قول الشافعية والحنابلة في أصح الوجهين عندهم .
ولأبي يوسف فيها قولان :قول اعتبر فيه بقاء أكثر الأسنان .
وقول اعتبر فيه الاعتلاف (4) .
والراجح أن الهتماء والثرماء تجزئان في الأضحية ويدل على ذلك ما يلي:
أ. ما سبق في حديث يزيد ذو مصر وفيه :( إني خرجت ألتمس الضحايا فلم أجد شيئاً يعجبني غير ثرماء فكرهتها . فما تقول ؟ قال : أفلا جئتني بها .
قلت : سبحان الله تجوز عنك ولا تجوز عني . قال نعم إنك تشك ولا أشك … الخ )
ب. ويؤيد ذلك ما سبق في حديث البراء - رضي الله عنه - في عيوب الأضحية غير المجزئة ، حيث قال الراوي عن البراء وهو عبيد بن فيروز للبراء : قال : قلت : فإني أكره أن يكون في السن نقص فقال البراء : ما كرهت فدعه ولا تحرمه على أحد .
ج. ورد عن طاووس أنه قال في الهتماء : يضحى بها .
د. ونقل القاضي حسين عن الإمام الشافعي أنه قال : لا نحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نقص الأسنان شيء . يعني في النهي (5) .
2. التي لا لسان لها أصلاً تجزئ عند الحنفية إذا كانت من الغنم فقط .
وأما إذا كانت من البقر فلا تجزئ ، لأن البقر يأخذ العلف باللسان ، فإذا انقطع من اللسان أكثر من الثلث فلا تجزئ عندهم.
وقال الشافعية مقطوعة بعض اللسان لا تجزئ (6) .
وهو والراجح لذهاب عضو مأكول .
سادساً: صفات في الضرع :
والضرع: لذات الظلف كالثدي للمرأة ويسمى أيضاً الطُّبْي ، ويجمع على أطْباء .
وإن كان الطُّبْي يستعمل أيضاً في ذات الخف (7) .
1. الجدَّاء: قال ابن منظور :[ شاة جدَّاء قليلة اللبن يابسة الضرع وكذلك الناقة والأتان .
وقيل الجدَّاء من كل حلوبة الذاهبة اللبن عن عيب …
الجدَّاء الشاة التي انقطعت أخلافها…
وقيل … هي المقطوعة الضرع
وقيل هي اليابسة الأخلاف … ] (8) .
وقال الفقهاء إن الجدَّاء التي يبس ضرعها ، لا تجزئ لأن بها نقصاً في الخلقة كذا علله الإمام أحمد (9) .
وكذلك فإن مقطوعة الأَطْبَاء لا تجزئ لذهاب عضو منها (10) .
2. وأما التي خلقت بلا ضرع فتجزئ ، وكذا صغيرة الضرع خلقةً فتجزئ ، وكذا التي لها ضرع ولكن لا تحلب تجزئ أيضاً (11) .
سابعاً: صفات في الذنب والألية :
والذنب للإبل والبقر والمعز والألية للضأن .
1. البتراء والمبتورة بمعنى واحد ، وهي التي لا ذنب لها خلقةً أو مقطوعاً (12) .
فإن كانت لا ذنب لها ، خلقة فتجزئ عند الحنابلة ، ولا تجزئ عند الحنفية والمالكية
والشافعية .
وإن كان لها ذنب فقطع فتجزئ عند الحنابلة أيضاً ، ولا تجزئ عند الحنفية والمالكية والشافعية (13) .
فإن كان بعض الذنب مقطوعاً فتجزئ عند الحنابلة . وأما الحنفية فقالوا مقطوعة أكثر الذنب لا تجزئ فإن كان يسيراً أجزأت . وعند المالكية مقطوعة ثلث الذنب فأكثر
لا تجزئ (14) .
وعند الشافعية لا تجزئ . والراجح أن مقطوعة الذنب لا تجزىء ، لأنه يعد عيباً فيها .
2. المخلوقة بلا ألية أصلاً تجزئ عند أبي حنيفة والشافعية والحنابلة ولا تجزئ عند المالكية(15)
وأما مقطوعة الألية وهي التي كانت لها ألية فقطعت ، فلا تجزئ عند الفقهاء ، لأنها فقدت عضواً مأكولاً (16) .
وأما إن قطع بعض أليتها فاختلف الفقهاء :
فقال الحنفية: إن كان القطع يسيراً أجزأت ، وإن كان كثيراً لم تجزئ .
وقال المالكية: إن كان القطع ثلث الألية فأكثر فلا تجزئ .
وقال الحنابلة: إن قطع دون النصف أجزأت (17) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 6/324 ، الفتاوى الهندية 5/298 .
(2) لسان العرب 15/26 ، المصباح المنير ص633 .
(3) حاشية ابن عابدين 6/324 ، المجموع 8/401 ، الفروع 3/524 ،كشاف القناع 3/6 ، الذخيرة 4/148 .
(4) إعلاء السنن 17/287 ، وانظر المصادر في الهامش السابق .
(5) التلخيص الحبير 4/141 .
(6) حاشية ابن عابدين 6/352 ، المجموع 8/401 .
(7) المصباح المنير ص361،369 .
(8) لسان العرب 2/201 .
(9) الفروع 3/542 .
(10) حاشية ابن عابدين 6/324 ، شرح الخرشي 3/36 ، المغني 9/442 ، كشاف القناع 3/6 ، الفتاوى الهندية 5/298
(11) المجموع 8/401 ، حاشية ابن عابدين 6/324 ، الفتاوى البزازية 3/293 .
(12) لسان العرب 1/309 ، المصباح المنير ص35 .
(13) المغني 9/442 ، كشاف القناع 3/6 ، حاشية ابن عابدين 6/325 ، شرح الخرشي 3/35 ، الحاوي 15/83 .
(14) حاشية ابن عابدين 6/323 ، المغني 9/442 ، شرح الخرشي 3/35 ، الحاوي 15/83 .
(15) المصادر السابقة .
(16) المصادر السابقة .
(17) المصادر السابقة .(/25)
وأما إن كان لها ألية صغيرة تشبه الذنب فهي مجزئة (1) .
والذي أرجحه من أقوال الفقهاء جواز الأضحية بالتي خلقت بلا ذنب أو ألية .
وقد نقل جوازها عن ابن عمر - رضي الله عنه - وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن النخعي (2)
ثامناً: صفات أخرى :
1. الهيماء :من الهيام وهو داء يأخذ الإبل فتهيم في الأرض لا ترعى .
وقيل هو داء كالحمى يصيب الإبل لشربها ماءاً آسناً (3) .
وقال الشافعية في وجه عندهم لا تجزئ الهيماء (4) .
والذي يظهر لي أن الهيماء لا يصح أن يضحى بها إن كانت هزيلة بسبب مرضها ، وإلا فتجزئ إن كانت سمينة .
2. الثولاء :من الثَوَل ، وهو داء يصيب الشاة فتسترخي أعضاؤها ، وقيل هو جنون يصيب الشاة فلا تتبع الغنم وتستدبر في مرتعها ، وقيل هو داء يأخذ الغنم في ظهورها ورؤوسها فتخر منه (5) . ويصف الفقهاء الثولاء بأنها المجنونة التي تستدبر المرعى ولا ترعى إلا قليلاً فتهزل ، فإذا كانت كذلك فلا تجزئ في الأضحية .
وأما إذا لم يمنعها الثول من الرعي والاعتلاف فتجزئ إذا كانت سمينة (6) . وورد عن الحسن أنه قال : لا بأس أن يضحى بالثولاء ، وهذا محمول على أنها سمينة (7) .
3. الجرباء :من الجرب وهو مرض يصيب الدواب والناس أيضاً (8) . والجرباء لا تجزئ في الأضحية لأن بها مرضاً مفسداً للحم كما أن النفوس تعافها وهذا مذهب الجمهور .
وقال الحنفية تجزئ الجرباء إذا كانت سمينة فإن كانت مهزولة فلا تجزئ (9) .
ويظهر لي أن القول بعدم الإجزاء هو الأرجح .
4. المشيعة :وهي التي لاتتبع الغنم عجفاً وضعفاً ، وقيل هي التي لا تتبع الغنم عادة وكسلاً
وقد قال الفقهاء إن كانت لا تتبع الغنم لهزالها وضعفها ، فلا تجزئ وهذه التي ورد النهي عن التضحية بها في حديث يزيد ذو مصر السابق وفيه ( والمشيعة … ) .
وأما إذا كانت لا تتبع الغنم عادة وكسلاً فتجزئ (10) .
5. الموجوء والخصي :الموجوء من الوجء وهو أن ترض أنثيا – خصيتا – الفحل رضاً شديداً يذهب شهوة الجماع .
وقيل أن توجأ العروق والخصيتان بحالهما (11) .
والخصي : من الخصاء وهو سلُّ خصيتي الفحل (12) .
وقد قال أكثر الفقهاء إن الخصي والموجوء يجزئان في الأضحية .
قال ابن قدامة :[ ويجزئ الخصي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - :ضحى بكبشين موجؤين ... وبهذا قال الحسن وعطاء والشعبي والنخعي ومالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفاً ] (13) .
وقد نسب بعض الشافعية إلى القول الجديد للشافعي أن الخصي لا يجزئ في الأضحية ، لأنه قد فات منه الخصيتان وهما مأكولتان .
وهذا بناءاً على التفريق بين الموجوء والخصي ، لأن الوجئ هو رض عروق البيضتين ، والخصاء هو سلهما ، وأشار إلى هذا الزركشي .
وقد اعتبر الإمام النووي أن نسبة هذا إلى الشافعي ضعيفة واعتبره قولاً شاذاً فقال :[ يجزئ الموجوء والخصي ، كذا قطع الأصحاب وهو الصواب . وشذ ابن كج فحكى في الخصي قولين وجعل المنع هو قول الجديد وهذا ضعيف منابذ للحديث الصحيح ] (14) .
وقد ورد في عدد من الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين موجوئين منها :
1. عن جابر بن عبد الله قال :( ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجوئين فلما وجهها قال : إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض على ملة إبراهيم حنيفاً ، وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين ، اللهم منك ولك عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر ثم ذبح ) رواه أبو داود والبيهقي وسكت عنه أبو داود وله طرق تقويه (15) .
2. وعن عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما :( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يضحي اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوئين فذبح أحدهما عن أمته لمن شهد لله بالتوحيد وشهد له بالبلاغ وذبح الآخر عن محمد وعن آل محمد - صلى الله عليه وسلم - ) .
__________
(1) الفتاوى البزازية 3/293 .
(2) فتح المالك 7/7 .
(3) لسان العرب 15/183 ، المصباح المنير ص645 .
(4) المجموع 8/400 ، الحاوي 15/82 .
(5) لسان العرب 2/151 ، المصباح المنير ص88 .
(6) بدائع الصنائع 4/216 ، فتح باب العناية 2/76 ، ملتقى الأبحر 2/224 ، المجموع 8/401 ، الذخيرة 4/147 .
(7) إعلاء السنن 17/278 ، 280 .
(8) لسان العرب 2/227 .
(9) الذخيرة 4/147 ، المجموع 8/400 ، الحاوي 15/81 ، الفروع 3/542 ، بدائع الصنائع 4/216 ، الفتاوى البزازية 3/293 ، ملتقى الأبحر 2/224 .
(10) المجموع 8/402 .
(11) لسان العرب 15/214 ، المصباح المنير ص650 .
(12) لسان العرب 4/114 ، المصباح المنير ص171 .
(13) المغني 9/442 ، وانظر المجموع 8/402 ، حاشية ابن عابدين 6/323 ، الذخيرة 4/147 ، كشاف القناع 3/6 .
(14) المجموع 8/401-402 ، وانظر الأجوبة المرضية 2/816 .
(15) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 7/351 ، إرواء الغليل 4/351 ، سنن البيهقي 9/287 .(/26)
رواه ابن ماجة وأحمد والبيهقي والحاكم وقال الشيخ الألباني : صحيح (1) .
3. وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال :( ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين جذعين خصيين ) رواه أحمد والطبراني وفي إسناده الحجاج بن أرطأة وفيه مقال (2) .
4. وعن أبي رافع - رضي الله عنه - مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :( ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين موجوئين خصيين فقال : أحدهما عمَّن شهد بالتوحيد وله بالبلاغ ، والآخر عنه وعن أهل بيته قال : فكأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كفانا ) .
رواه أحمد وأورده الهيثمي وقال:رواه أحمد وإسناده حسن وقال الشيخ الألباني صحيح (3)
وهذه الأحاديث تدل على جواز التضحية بالموجوء والخصي .
وهو القول الصحيح الذي تؤيده الأدلة .
قال الخطابي معلقاً على حديث جابر السابق :( وفي هذا دليل على أن الخصي في الضحايا غير مكروه ، وقد كرهه بعض أهل العلم لنقص العضو ، وهذا نقص ليس بعيب لأن الخصاء يفيد اللحم طيباً ، وينفي منه الزهومة وسوء الرائحة ) (4).
وقال ابن قدامة :[ ولأن الخصاء ذهاب عضو غير مستطاب يطيب اللحم بذهابه ويكثر ويسمن . قال الشعبي : ما زاد في لحمه وشحمه أكثر مما ذهب منه ] (5) .
وسئل إبراهيم عن الخصي والفحل أيهما أكمل في الأضحية ؟ قال : الخصي لأنه إنما طلب صلاحه (6) .
6. الفحل : الذي كثر نزوه يجزئ ، وقال المالكية إن فسد لحمه لا يجزئ (7) .
7. الحامل : تجزئ ، وقال أكثر الشافعية لا تجزئ وخالفهم ابن الرفعة فقال تجزئ (8) .
8. المجزوزة : وهي التي جز صوفها تجزئ (9) .
9. المكوية : وهي التي بها كيٌّ تجزئ (10) .
10. الأنثى : وإن كثرت ولادتها تجزئ ، وقال المالكية إذا فسد لحمها لا تجزئ (11).
11. الساعلة : وهي التي بها سعال تجزئ (12) .
12. فاقدة رجل أو يد لا تجزئ ، لأنها فقدت عضواً مأكولاً (13) .
13.البكماء : التي فقدت صوتها تجزئ لأنه لا يؤثر على لحمها وشحمها . وقال المالكية لا تجزئ (14) .
14. البخراء : وهي متغيرة رائحة الفم تجزئ لأنه شيء عادي أن يكون لها رائحة فم . وقال المالكية لا تجزئ (15) .
15. الخنثى : تجزئ لأنها ذكراً أو أنثى وكلاهما يجزئ وليس فيها ما ينقص اللحم (16)
وخلاصة الأمر أن العيوب التي تمنع الإجزاء هي ما كانت مؤذية للحيوان ومنقصة من لحمه وشحمه وثمنه .
وينبغي أن تكون الأضحية خالية من أي عيب وهذا هو الأكمل والأحسن فقد كان ابن عمر - رضي الله عنه - يتقي من الضحايا التي نقص من خلقها .
وورد مثل ذلك عن السلف أنهم يكرهون كل نقص في الضحية .
المبحث التاسع
الحد الفاصل بين القليل والكثير في عيوب الأضحية
اختلف الفقهاء في الحد الفاصل في عيوب الأضحية من حيث القليل والكثير ، فمثلاً قالوا إن كان القطع في الأذن قليلاً يجزئ ، وإن كان كثيراً فلا يجزئ . فما هو ضابط ذلك ؟
قال ابن عابدين :[ واختلف أصحابنا في الفاصل بين القليل والكثير .
فعن أبي حنيفة أربع روايات :
روى محمد عنه في الأصل والجامع الصغير أن المانع ذهاب أكثر من الثلث .
وعنه أنه الثلث .
وعنه أنه الربع .
وعنه أن يكون الذاهب أقل من الباقي أو مثله .
والأولى هي ظاهر الرواية …
والرابعة هي قولهما قال في الهداية : وقالا إذا بقي الأكثر من النصف أجزأه وهو اختيار الفقيه أبي الليث .
قال أبو يوسف : أخبرت بقولي أبا حنيفة فقال : قولي هو قولك . قيل هو رجوع منه إلى قول أبي يوسف …
ووجه الرابعة وهو قولهما وإليها رجع الإمام أن الكثير من كل شيء أكثره …
وعليها الفتوى ] (17) .
وعند المالكية ما كان دون الثلث فيسير وما كان فوقه فكثير (18) .
وعند الشافعية قال إمام الحرمين الجويني :[ وأقرب ضبط بين الكثير واليسير أنه إن لاح النقص من البعد فكثير وإلا فقليل ] (19) .
__________
(1) سنن ابن ماجة 2/1044 ، الفتح الرباني 13/83 ، المستدرك 4/253 ، سنن البيهقي 9/287 ، صحيح سنن ابن ماجة 2/199 .
(2) الفتح الرباني 13/83 .
(3) الفتح الرباني 13/83 ، إرواء الغليل 4/360 ، مجمع الزوائد 4/21 .
(4) معالم السنن 2/197 .
(5) المغني 9/442 .
(6) عقود الجواهر المنيفة 2/72 .
(7) المجموع 8/401 ، الذخيرة 4/148 .
(8) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 26/307 ، كشاف القناع 3/6 ، الفروع 3/544 ، الإقناع 2/280 .
(9) حاشية ابن عابدين 6/325 ، الفتاوى الهندية 5/298 .
(10) حاشية ابن عابدين 6/325 ، الفتاوى الهندية 5/297 ، المجموع 8/401 ، الإقناع 2/279 .
(11) المجموع 8/401 ، الذخيرة 4/148 .
(12) حاشية ابن عابدين 6/325 ، الفتاوى الهندية 5/297 .
(13) الفتاوى الهندية 5/299 ، شرح الخرشي 3/35 ، الفتاوى البزازية 3/293 .
(14) شرح الخرشي 3/36 .
(15) المصدر السابق 3/36 .
(16) الإقناع 2/278 .
(17) حاشية ابن عابدين 6/324 ، وانظر بدائع الصنائع 4/215 ، فتح باب العناية 3/77.
(18) الذخيرة 4/148 ، جامع الأمهات ص229 .
(19) المجموع 8/401 .(/27)
وقال الحنابلة ما كان دون النصف أجزأ ، وما كان أكثر فلا يجزئ ، وفي رواية أخرى أن الحد الفاصل بين القليل والكثير الثلث ، فما كان دونه أجزأ ، وما كان فوقه لا يجزئ (1).
ويرى ابن حزم الظاهري أن التحديد المذكور عند الفقهاء بالثلث أو النصف أو غيره ، لا دليل عليه من الشرع (2) .
ويرى الشوكاني أن المعفو عنه من العيوب ، هو اليسير لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث البراء :( البين عورها والبين مرضها والبين ظلعها ) يدل على ذلك (3) .
المبحث العاشر
طروءُ العيبِ المخلِّ على الأضحية بعد تعيينها
لو اشترى شخص أضحية - شاة أو بقرة أو ناقة - قبل يوم الأضحى ، ثم حبسها عنده فأصابها عيب مانع من الإجزاء ، كأن كسرت رجلها ، أو عجفت ، فهل يصح أن يضحي بها وتكون مجزئة أم لا ؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة كما يلي :
القول الأول : يذبحها وتجزؤه ، نقل هذا القول عن عطاء والحسن والنخعي والزهري والثوري والشافعي وأحمد واسحق وهو قول الهادوية (4) .
القول الثاني : لا تجزؤه ، ولا بد أن يذبح بدلها ، وهو قول الحنفية والمالكية (5) .
حجة الفريق الأول :
ما ورد في الحديث عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال :( اشتريت كبشاً أضحي به فعدا الذئب فأخذ أليته فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ضح به ) رواه أحمد والبيهقي (6) .
ورواه ابن ماجة ولفظه عن أبي سعيد قال :( ابتعنا كبشاً نضحي به فأصاب الذئب من أليته أو أذنه فسألنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرنا أن نضحي به ) (7) .
وقال في الزوائد:[ في إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف قد اتُهِمْ ] (8) وكذَّبه ابن حزم (9).
وفي رواية أخرى عند البيهقي عن أبي سعيد :( أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شاة قطع الذئب ذنبها ، يضحي بها ؟ قال : ضح بها ) (10) .
وقال المجد ابن تيمية بعد أن ذكر حديث أبي سعيد :[ وهو دليل على أن العيب الحادث بعد التعيين لا يضر ] (11) .
قال الشوكاني :[ فيه دليل على أن ذهاب الألية ليس عيباً في الضحية ، من غير فرق بين أن يكون ذلك بعد التعيين أو قبله ، كما يدل على ذلك رواية البيهقي ] (12) .
ومما يؤيد القول الأول : أن ابن الزبير رضي الله عنهما رأى هدايا له فيها ناقة عوراء
فقال :[ إن كان أصابها بعدما اشتريتموها فأمضوها ، وإن كان أصابها قبل أن تشتروها فأبدلوها ] (13) .
وروى عبد الرزاق بإسناده عن الزهري قال :[ إذا اشترى الرجل أضحيته فمرضت عنده أو عرض لها مرض فهي جائزة ] (14) .
وقال ابن قدامة مستدلاً للإجزاء :[ ولأنه عيب حدث في الأضحية الواجبة فلم يمنع الإجزاء ، كما لو حدث بها عيب بمعالجة الذبح ] (15) .
حجة الفريق الثاني :
قال الزيلعي الفقيه :[ ولو اشتراها سليمة ثم تعيبت بعيب مانع من التضحية ، كان عليه أن يقيم غيرها مقامها إن كان غنياً .
وإن كان فقيراً يجزئه ذلك ؛ لأن الوجوب على الغني بالشرع ابتداءً ، لا بالشراء فلم يتعين بالشراء .
والفقير ليس عليه واجب شرعاً ، فتعينت بشرائه بنية الأضحية ، ولا يجب عليه ضمان نقصانها ، لأنها غير مضمونة عليه فأشبهت نصاب الزكاة ] (16) .
ثم ذكر حديث أبي سعيد السابق ثم قال :[ ويحمل على أنه كان فقيراً لأن الغني لا يجزئه لوجوبها في ذمته ولا كذلك الفقير … ] (17) .
وأما إذا طرأ العيب على الأضحية حين إضجاعها للذبح ، كأن أضجعها فاضطربت فأصابت السكين عينها ، فعورت أو كسرت رجلها ، فاختلف الفقهاء في ذلك على قولين :
القول الأول : أنه يذبحها وتجزئه أضحية ، وهذا قول الحنفية استحساناً والحنابلة ،
وهو أحد القولين عند الشافعية (18) .
قال صاحب الدر المختار :[ ولا يضر تعيبها من اضطرابها عند الذبح ] (19) .
وقال الكاساني :[ ولو قدم أضحية ليذبحها فاضطربت في المكان الذي يذبحها فيه فانكسرت رجلها ثم ذبحها على مكانها أجزأه . وكذلك إذا انقلبت منه الشفرة فأصابت عينها فذهبت .
والقياس أنه لا يجوز .
وجه القياس : أن هذا عيب دخلها قبل تعيين القربة فصار كما لو كان قبل حال الذبح.
__________
(1) المغني 9/441 ، الفروع 3/542 .
(2) المحلى 6/13 .
(3) السيل الجرار 4/80 .
(4) المغني 9/433 ، مصنف عبد الرزاق 4/386 ، السيل الجرار 4/85 .
(5) تبيين الحقائق 6/6 ، حاشية ابن عابدين 6/325 ، حاشية الدسوقي 2/125 ، جامع الأمهات ص 228 .
(6) الفتح الرباني 13/80 ، سنن البيهقي 9/289 .
(7) سنن ابن ماجة 2/1051 .
(8) المصدر السابق .
(9) المحلى 6/12 .
(10) سنن البيهقي 9/289 .
(11) منتقى الأخبار مع شرحه نيل الأوطار 5/133 .
(12) نيل الأوطار 5/133 .
(13) نيل الأوطار 5/134 .
(14) مصنف عبد الرزاق 4/386 .
(15) المغني 9/444 .
(16) تبيين الحقائق 6/6 ، وانظر بدائع الصنائع 4/216 .
(17) تبيين الحقائق 6/6-7 .
(18) حاشية ابن عابدين 6/325 ، المغني 9/444 .
(19) الدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين 6/325 .(/28)
وجه الاستحسان : أن هذا مما لا يمكن الاحتراز عنه لأن الشاة تضطرب فتلحقها العيوب من اضطرابها ] (1) .
القول الثاني : لا تجزئه ، وهو قول المالكية وأصح القولين عند الشافعية (2) .
القول الراجح :
والذي يظهر لي رجحان القول بجواز الأضحية إن طرأ العيب عليها بعد شرائها ، وكذا إن طرأ العيب عليها عند معالجة ذبحها .
أما في الحالة الأولى : فقد سبق القول بأن الراجح من أقوال أهل العلم أنه الأضحية سنة وليست واجبة ، وهذا قد اشترى الأضحية المجزئة الخالية من العيوب ، ثم طرأ العيب بعد ذلك دون تقصير منه ، فلا يُكَلَف شراء أخرى ، لما في ذلك من المشقة .
ويمكن الاستئناس بحديث أبي سعيد السابق ، فإنه وإن ضعفه بعض أهل الحديث لأنه من رواية جابر الجعفي .
إلا أن شعبة بن الحجاج روى عنه وفي ذلك تقوية له .
قال الحافظ ابن عبد البر :[ وقد تكلموا في جابر الجعفي ولكن شعبة روى عنه وكان يحسن الثناء عليه وحسبك بذلك من شعبة ] (3) .
كما وأن رواية جابر الجعفي هذه تتقوى بالرواية الأخرى عند البيهقي ، فيرتقي الحديث إلى درجة الحسن لغيره .
ويمكن الاستئناس بما رواه البيهقي عن ابن الزبير أيضاً ، وبما رواه عبد الرزاق عن الزهري .
وأما الحالة الثانية - إذا تعيبت عند الذبح - : فأرى أنها مجزئة أيضاً ، لأن الغالب على الحيوان الاضطراب عند الذبح ، وقد تصيبه السكين قبل ذبحه فلا يمكن التحرز من ذلك ، فالقول بالإجزاء هو الأولى ، والقول بخلافه فيه تشدد وإلحاق الحرج بالمضحي لأنه سيتكلف بدلها والله أعلم .
المبحث الحادي عشر
المجزئ في الأضحية
المطلب الأول: المجزئ من الغنم :
أولاً : قال جمهور أهل العلم إن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت الواحد ، فإذا ضحى بها واحد من أهل البيت ، تأدى الشعار والسنة بجميعهم ، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والأوزاعي (4) .
ويدل على ذلك ما يلي :
1. روى الترمذي بإسناده عن عُمارة بن عبد الله قال : ( سمعت عطاء بن يسار يقول : سألت أبا أيوب :( كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته ، فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس فصارت كما
ترى ) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح . ورواه ابن ماجة ومالك .
قال الإمام النووي: هذا حديث صحيح . والصحيح أن هذه الصيغة تقتضي أنه حديث مرفوع . وصححه الشيخ الألباني (5) .
2. وروى ابن ماجة بإسناده عن الشعبي عن أبي سريحة - رضي الله عنه - – وهو صحابي شهد الحديبية - قال :( حملني أهلي على الجفاء بعد ما علمت من السنة . كان أهل البيت يضحون بالشاة والشاتين والآن يُبَخِّلُنا جيراننا ) .
قال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله موثقون.ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (6) وقال الشيخ الألباني: صحيح الإسناد (7) .
3. ومما يدل على ذلك حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال :( شهدتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأضحى في المصلى فلما قضى خطبته نزل من منبره وأُتِيَ بكبشٍ فذبحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده وقال : باسم الله والله أكبر ، هذا عني وعمن لم يضح من أمتي ) .
رواه أبو داود في باب : الشاة يضحى بها عن جماعة وقد سبق تخريج الحديث .
4. وعن عبد الله بن هشام قال :( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله ) رواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد . ووافقه الذهبي (8) .
5. وعن عائشة رضي الله عنها :( أن رسول الله أمر بكبش أقرن ، يطأ في سواد ، ويبرك في سواد ، وينظر في سواد ، فأُتِيَ به ليضحي به فقال لها : يا عائشة هلمي المدية .
ثم قال : اشحذيها بحجر ففعلت ، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال : باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ، ومن أمة محمد ثم ضحى به ) رواه مسلم وأبو داود وغيرهما .
قال النووي :[ واستدل بهذا من جوَّز تضحية الرجل عنه وعن أهل بيته واشتراكهم معه في الثواب ، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور … ] (9) .
وقال الخطابي :[ وفي قوله ( تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ) دليل على أن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهله وإن كثروا ، وروي عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم أنهما كانا يفعلان ذلك ، وأجازه مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد ، وكره ذلك الثوري وأبو حنيفة ] (10) .
__________
(1) بدائع الصنائع 4/216-217 .
(2) حاشية الدسوقي 2/124 ، المجموع 8/400 ، كفاية الأخيار ص 529 .
(3) فتح المالك 7/7 .
(4) شرح النووي على صحيح مسلم 5/106 ، معالم السنن 2/197 ، المغني 9/438 ، المجموع 8/384 .
(5) سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/75-76 ، سنن ابن ماجة 2/1051، الاستذكار 15/180 ،المجموع 8/384 صحيح سنن ابن ماجة 2/203 .
(6) سنن ابن ماجة 2/1052 ، المستدرك 4/254 .
(7) صحيح سنن ابن ماجة 2/203 .
(8) المستدرك 4/255 .
(9) صحيح مسلم بشرح النووي 5/105-106 .
(10) معالم السنن 2/197 .(/29)
6. وأخرج ابن أبي الدنيا عن علي - رضي الله عنه - :( أنه كان يضحي بالضحية الواحدة عن جماعة أهله ) (1) .
7. ونقل ابن قدامة عن صالح بن أحمد بن حنبل قال :[ قلت لأبي : يُضَحَّى بالشاة عن أهل البيت ؟ قال : نعم لا بأس . قد ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - كبشين فقرَّب أحدهما فقال : بسم الله اللهم هذا عن محمد وأهل بيته. وقرَّب الآخر فقال : بسم الله اللهم هذا منك ولك عمن وَحَّدَكَ من أمتي .
وحكى عن أبي هريرة أنه كان يضحي بالشاة فتجئ ابنته فتقول: عني، فيقول:وعنك (2)
قال العلامة ابن القيم :[ وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أن الشاة تجزئ عن الرجل وعن أهل بيته ولو كثر عددهم ] (3) ثم ذكر حديث أبي أيوب السابق .
وقال الشوكاني :[ قوله " يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته " فيه دليل على أن الشاة تجزئ عن أهل البيت ، لأن الصحابة كانوا يفعلون ذلك في عهده - صلى الله عليه وسلم - والظاهر اطلاعه فلا ينكر عليهم … والحق أنها تجزئ عن أهل البيت ، وإن كانوا مئة نفس أو أكثر كما قضت بذلك السنة ] (4) .
ثانياً : قال الحنفية والثوري إن الشاة لا تجزئ إلا عن واحد (5) .
قال الكاساني :[ … فلا يجوز الشاة والمعز إلا عن واحد ، وإن كانت عظيمةً سمينةً تساوي شاتين مما يجوز أن يُضَحَّى بهما .
لأن القياس في الإبل والبقر أن لا يجوز فيهما الاشتراك ، لأن القربة في هذا الباب إراقة الدم ، وإنها لا تحتمل التجزئة ، لأنها ذبح واحد ، وإنما عرفنا جواز ذلك بالخبر ، فبقي الأمر في الغنم على أصل القياس ] (6) .
ويرى الحنفية جواز هبة ثواب الأضحية لأكثر من واحد ، وعلى ذلك حملوا الأحاديث التي احتج بها الجمهور (7) .
وقد زعم الطحاوي أن الأدلة التي احتج بها الجمهور إما منسوخةً أو مخصوصة (8) .
وقاس بعض الحنفية الأضحية على الهدي في هذه المسألة ، حيث قالوا إن الشاة الواحدة في الأضحية لا تجزئ عن أكثر من واحد ، قياساً عل الشاة الواحدة في الهدي ، حيث اتفق العلماء على أنها لا تجزئ إلا عن واحد . (9)
والذي يظهر لي رجحان قول الجمهور بأن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وعن أهل بيته ، مهما كان عددهم لقوة الأدلة التي احتجوا بها .
ويجاب عن قول الحنفية إن الغنم بقيت على أصل القياس ، بأنه مردود لثبوت الأحاديث في ذلك ، حيث ثبت الاشتراك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإبل والبقر ، وكذلك ورد النص أنهم اشتركوا على عهد رسول الله في الشاة الواحدة ، إلا أنه قد ثبت الاشتراك في الإبل والبقر من أهل أبيات شتى ، وثبت الاشتراك في الشاة من أهل بيت واحد … فالقول بأن الاشتراك في الشاة خلاف القياس وأنه لا نص فيه ، باطل (10) .
وأما ادعاء الطحاوي بأن أدلة الجمهور إما منسوخة أو مخصوصة . فقد أجاب النووي عن ذلك بقوله :[ … وغَلَّطَه العلماء في ذلك ، فإن النسخ والتخصيص لا يثبتان بمجرد
الدعوى ] (11) .
وأما قياسهم الأضحية على الهدي ، بجامع منع الاشتراك في الشاة الواحدة في الهدي ، فهو قياس فاسد الاعتبار ، لأنه قياس في مقابل النص ، والأضحية غير الهدي ، ولهما حكمان مختلفان ، فلا يقاس أحدهما على الآخر ، لأن النص ورد على التفرقة بينهما فوجب تقديم النص على القياس (12) .
وقال الزيلعي المحدث :[ ويشكل على المذهب أيضاً في منعهم الشاة لأكثر من واحد ، بالأحاديث المتقدمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحَّى بكبش عنه وعن أمته ] ثم ذكر حديث عبد الله بن هشام السابق (13) .
المطلب الثاني : المجزئ من الإبل والبقر
اتفق أكثر أهل العلم على أن البدنة تجزئ عن سبعة والبقرة تجزئ عن سبعة .
قال ابن قدامة :[ وهذا قول أكثر أهل العلم ، روي ذلك عن علي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم ، وبه قال عطاء وطاووس وسالم والحسن وعمرو بن دينار والثوري والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ] (14) .
واستدلوا بما يلي :
1. عن جابر - رضي الله عنه - قال :( نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة ) رواه مسلم (15) .
2. وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال :( شَرَّكَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجته بين المسلمين في البقرة عن
سبعة ) رواه أحمد وقال الهيثمي : رجاله ثقات (16) .
__________
(1) عون المعبود 8/4 .
(2) المغني 9/438 .
(3) زاد المعاد 2/323 .
(4) نيل الأوطار 5/137 .
(5) بدائع الصنائع 4/207 ، المغني 9/438 ، معالم السنن 2/197 .
(6) بدائع الصنائع 4/206 ، وانظر تبيين الحقائق 6/3 .
(7) إعلاء السنن 17/231 .
(8) شرح معاني الآثار 4/178 .
(9) عون المعبود 8/5 .
(10) تحفة الأحوذي 5/77-78 .
(11) شرح النووي على صحيح مسلم 5/106 .
(12) عون المعبود 8/5 .
(13) نصب الراية 4/210 .
(14) المغني 9/437 ، وانظر المجموع 8/398،422 .
(15) صحيح مسلم بشرح النووي 3/436 .
(16) الفتح الرباني 13/38 ، مجمع الزوائد 3/226 .(/30)
وقال بعض أهل العلم تجزئ البدنة عن عشرة أيضاً ، وبه قال سعيد بن المسيب وإسحاق وابن خزيمة (1) .
ويدل لهم حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال :( كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فحضرنا النحر – وفي رواية الأضحى – فاشتركنا في الجزور عن عشرة والبقرة عن سبعة ) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد. وقال الترمذي : حسن غريب . وقال الشيخ الألباني : وإسناده صحيح رجاله رجال الصحيح (2) .
ورجح الشوكاني هذا القول وقال :[ إنه الحق فتجزئ البدنة والبعير عن عشرة في الأضحية دون الهدي فلا تجزئ إلا عن سبعة ] (3) .
قال الساعاتي :[ وقد جمع الشوكاني بين حديثي جابر وابن عباس ، بأن حديث جابر محمول على الهدي وحديث ابن عباس محمول على الأضحية وقال هذا هو الحق .
قلت : وهو جمع حسن ، وكأن حديث ابن عباس لم يصح عند الجمهور .
وأما البقرة فتجزئ عن سبعة في الهدي والأضحية بالاتفاق ] (4) .
وقد رجح الحافظ ابن عبد البر حديث جابر على حديث ابن عباس فقال :
[ وحديث ( نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية البدنة عن سبعة ) واضح لا مدخل فيه
للتأويل ، وحسبك بقول جابر :( سَنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - البدنةَ عن سبعةٍ والبقرةَ عن سبعة ) .
وقال أبو جعفر الطبري : أجمعت الأمة على أن البدنة والبقرة لا تجزئ عن أكثر من سبعة،
قال وفي ذلك دليل على أن حديث ابن عباس وما كان مثله خطأٌ ووهمٌ أو منسوخ ] (5)
وقال البيهقي:[ إن حديث جابر أصح من حديث ابن عباس ] (6) .
ورجح ابن قدامة حديث جابر أيضاً على حديث ابن عباس (7) .
ومذهب الجمهور هو الراجح لقوة أدلتهم .
المطلب الثالث : الاشتراك في الأضحية في الإبل والبقر فقط :
المراد بالاشتراك ، هنا هو أن يشترك سبعة أشخاص في ثمن بقرة أو ناقة ثم يذبحونها أضحية عنهم لكل منهم سُبع .
وليس المراد بالاشتراك هنا أن يشتريها واحدٌ فيذبحها ويُشَرِّك غيره في الأجر ، فهذا جائز بالاتفاق .
وقد اختلف الفقهاء في مسألة اشتراك سبعة أشخاص في ثمن بقرة أو ناقة كما يلي :
القول الأول : يجوز اشتراك سبعة في بقرة أو ناقة للتضحية بها ، سواء كانوا كلهم أهل بيت واحد ، أو متفرقين ، أو بعضهم يريد اللحم ، وبعضهم يريد القربة ، وسواء كانت أضحية منذورة أو تطوعاً .
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة .
وأجاز داود الظاهري الاشتراك في أضحية التطوع دون الواجبة (8) .
وقال الحنفية يجوز الاشتراك بشرط أن يكون السبعة متقربين فإن كان أحدهم يريد اللحم لم تجزئ (9) .
وقالت الهادوية يجوز الاشتراك بشرط اتفاق غرض الشركاء ولا يصح مع الاختلاف (10) .
القول الثاني : لا يجوز الاشتراك في الأضحية ، وهو قول المالكية ، فلا يجزئ عندهم أن يشترك سبعة في بقرة أو بدنة ، بأن يسهم كلٌ منهم بشيء من الثمن ، فإن فعلوا فلا تجزئ عن واحد منهم (11) .
ويدل لقول الجمهور بجواز الاشتراك حديث جابر السابق وفيه ( نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة ) رواه مسلم .
وحديث حذيفة أيضاً وقد سبق وفيه ( أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - شَرَّكَ في حجته بين المسلمين في البقرة عن سبعة ) .
ويؤيد ذلك ما رواه البيهقي عن علي وحذيفة وأبي مسعود الأنصاري وعائشة رضي الله عنهم أنهم قالوا البقرة عن سبعة (12) .
واحتج المالكية بحديث مالك عن ابن شهاب الزهري :( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يذبح عن أهل بيته إلا بقرة واحدة ) .
قال الحافظ ابن عبد البر:[ وقد رواه غير مالك عن ابن شهاب عن عروة وعمرة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر عن نسائه بقرة واحدة .
ولا يصح من جهة النقل .
وروي من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مثله .
ذكر أبو عيسى الترمذي قال : حدثني إسحاق بن منصور … عن أبي هريرة قال :( ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمَّن اعتمر من نسائه في حجة الوداع بقرة بينهن ) .
قال أبو عيسى : سألت محمد بن إسماعيل – يعني الإمام البخاري – عن هذا الحديث ؟
فقال : إن الوليد بن مسلم لم يقل فيه حدثنا الأوزاعي وأراد أخذه عن يوسف بن السفر، ويوسف بن السفر ذاهب الحديث ، وضعف محمدٌ – أي البخاري – هذا الحديث ] (13) .
وقاس بعض المالكية المنع من الاشتراك في الإبل والبقر على منع الاشتراك في الشاة الواحدة.
__________
(1) المغني 9/437 ، نيل الأوطار 5/137 .
(2) سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/72 ، سنن النسائي 7/222 ، سنن ابن ماجة 2/1047 ، الفتح الرباني 13/84 ،
(3) اة المصابيح 1/462 .
(6) نيل الأوطار 5/137 .
(4) الفتح الرباني 13/87 .
(5) الاستذكار 15/190 .
(6) معرفة السنن والآثار 14/63 .
(7) المغني 9/438 .
(8) المجموع 8/398 ، المغني 9/438،458 .
(9) بدائع الصنائع 4/208 .
(10) سبل السلام 4/178 .
(11) بلغة السالك 1/287 ، الذخيرة 4/152 ، حاشية الدسوقي 2/119 .
(12) سنن البيهقي 9/295 .
(13) الاستذكار 15/185-186 .(/31)
ولم يرتض الحافظ ابن عبد البر هذا القياس (1) .
وقال الإمام النووي :[ وأما قياسه على الشاة، فعجب لأن الشاة إنما تجزئ عن واحد ] (2)
والراجح هو القول الأول بجواز الاشتراك في الإبل والبقر لقوة الأدلة ، ولأن الصحابة كانوا يفعلون ذلك كما سبق في المطلب الأول من هذا المبحث .
المطلب الرابع : ما هو الأفضل في الأضحية من أنواع الأنعام ؟
اختلف الفقهاء في الأفضل في الأضحية من أنواع الأنعام على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أفضل الأضاحي هي البدنة ثم البقرة ثم الشاة .
وهذا قول الشافعية والحنابلة والظاهرية ، وبه قال بعض المالكية (3) .
قال الإمام الشافعي :[ والإبلُ أَحبُ إليَّ أن يُضَحَّى بها من البقر ، والبقر من الغنم ، والضأنُ أَحبُ إليَّ من المعز ] .
وقال الماوردي :[ أفضل الضحايا الثني من الإبل ، ثم الثني من البقر ، ثم الجذع من الضأن ثم الثني من المعز ] (4) .
القول الثاني : أفضل الأضاحي الضأن ثم البقر ثم الإبل ، وهذا قول المالكية المعتمد عندهم.
قال الخرشي :[ الضأن بإطلاقه ، ذكوره وإناثه وفحوله وخصيانه ، أفضل في الأضحية من المعز بإطلاقه ، ثم إن المعز بإطلاقه أفضل من الإبل ومن البقر بإطلاقهما ] (5) .
وقال بعض المالكية أفضلها الغنم ثم الإبل ثم البقر (6) .
القول الثالث : أفضل الأضاحي ما كان أكثر لحماً وأطيب ، وهذا قول الحنفية ، فالشاة أفضل من سبع البقرة ، فإن كان سبع البقرة أكثر لحماً فهو أفضل .
والأصل عندهم في هذا إذا استويا في اللحم والقيمة ، فأطيبها لحماً أفضل ، وإذا اختلفا فيهما فالفاضل أولى (7) .
حجة الفريق الأول :
1. احتجوا بقوله تعالى :} وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ { سورة الحج الآية 36 .
2. قالوا إن البدنة أعظم من البقرة ، والبقرة أعظم من الشاة ، والله تعالى يقول :} ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ { سورة الحج الآية 32 .
3. واحتجوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح ، فكأنما قرَّبَ بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّبَ بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّبَ كبشاً أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرَّبَ دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرَّبَ بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكةُ يستمعون الذكر ) رواه البخاري ومسلم (8) .
قال النووي :[ وفيه أن التضحية بالإبل أفضل من البقرة ، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدَّمَ الإبل ، وجعلَ البقرة في الدرجة الثانية ] (9) .
4. قال ابن قدامة :[ ولأنه ذبح يتقرب به إلى الله تعالى ، فكانت البدنةُ فيه أفضل ، كالهدي فإنه قد سلَّمَه . ولأنها أكثر ثمناً ولحماً وأنفع ] (10) .
حجة الفريق الثاني :
1. احتجوا بقول الله تعالى :} وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ { سورة الصافات الآية 107 .
قالوا وكان الذبح العظيم كبشاً ، فالله سبحانه وتعالى وصفه بالعظيم ، ولم يحصل هذا الوصف لغيره (11) .
وقال القرطبي:[ } وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ { ، أي ضخم الجثة سمين ، وذلك كبشٌ لا جملٌ ولا بقرة ] (12) .
وقال ابن دقيق العيد : [ وقد يستدل للمالكية باختيار النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأضاحي للغنم ، وباختيار الله تعالى في فداء الذبيح ] (13)
2. واحتجوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بالكبش ، كما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - :( أمر بكبش أقرن ، يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد … وأخذ الكبش فأضجعه … ) رواه مسلم وقد سبق .
قالوا وقد تكرر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - التضحية بالغنم ، وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يضحي مكرراً ذلك عاماً بعد عام ، إلا بما هو الأفضل في الأضحية ، فلو كانت التضحية بالإبل والبقر أفضل لفعل - صلى الله عليه وسلم - ذلك الأفضل (14) .
3. واحتجوا بحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :( خير الكفن الحُلَّةُ ، وخيرُ الأضحية الكبشُ الأقرن ) رواه أبو داود والبيهقي والحاكم ووافقه الذهبي .
__________
(1) المصدر السابق 15/186 .
(2) المجموع 8/399 .
(3) المغني 9/438 ، المجموع 8/396،398 ، الذخيرة 4/144 ، الحاوي 15/77 .
(4) الحاوي 15/77 .
(5) شرح الخرشي 3/38 ، الذخيرة 4/143 ، بداية المجتهد 1/348 ، جامع الأمهات ص 229 .
(6) الذخيرة 4/144 .
(7) حاشية ابن عابدين 6/322 ، بدائع الصنائع 4/223 .
(8) صحيح البخاري مع الفتح 3/17 ، صحيح مسلم مع شرح النووي 2/451 .
(9) صحيح مسلم مع شرح النووي 2/452 .
(10) المغني 9/439 .
(11) الذخيرة 4/143 .
(12) تفسير القرطبي 15/107 .
(13) إحكام الأحكام 2/291 .
(14) أضواء البيان 5/435 .(/32)
وقال الشيخ الألباني : ضعيف . وضعفه ابن حزم أيضاً (1) .
ورواه البيهقي أيضاً من رواية أبي أمامة - رضي الله عنه - بإسناد ضعيف كما قال الإمام النووي (2) .
حجة الفريق الثالث :
1. وقد يحتج للحنفية بما ورد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال :( إن أحب الضحايا إلى الله أغلاها وأسمنها ) رواه أحمد والبيهقي والحاكم .
وقال الهيثمي :[ رواه أحمد ، وأبو الأشد – أحد رجال السند - لم أجدْ منْ وَثَّقَهُ ولا جرحه ، وكذلك أبوه ، وقيل إن جده عمرو بن عبس ].وقال الشيخ الألباني : ضعيف (3)
2. ويحتج لهم بما جاء عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى } ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ { الآية .
قال ابن عباس :[ الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والضأن والمعز ، على قدر الميسرة فما عظمت فهو أفضل ] (4) .
القول الراجح : بعد إجالة النظر في أدلة العلماء في هذه المسألة يظهر لي رجحان قول المالكية في أن الأفضل في الأضحية الغنم ثم الإبل ثم البقر.
لأن أدلة المالكية أخص في محل النزاع لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بالغنم بل بالكباش وقد ثبت ذلك في أحاديث منها :
1. عن أنس - رضي الله عنه - :( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بكبشين وأنا أضحي بكبشين ) رواه البخاري ومسلم (5) . وفي قول أنس ( كان يضحي ) ما يدل على المداومة (6) .
2. حديث عائشة رضي الله عنها :( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد فأتي به ليضحي به … الخ ) رواه مسلم وقد مضى.
3. حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال :( ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عيد بكبشين … ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وقد سبق .
4. وعن عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( كان إذ أراد أن يضحي اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوئين … الخ ) رواه أحمد وابن ماجة وقد مضى .
5. حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - قال :( ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبش أقرن فحيل ، يأكل في سواد، ويمشي في سواد ، وينظر في سواد ) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب (7) .
6. حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال :( شهدتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأضحى بالمصلى ، فلمَّا قضى خطبته نزل من منبره وأُتِيَ بكبش فذبحه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بيده … الخ ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وقد مضى .
7. عن ثوبان - رضي الله عنه - قال :( ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : يا ثوبان أصلح لنا لحم هذه الشاة. فما زلت أطعمه منها حتى قدمنا المدينة ) رواه مسلم وأبو داود وقد مضى .
8. عن علي - رضي الله عنه - :( أنه كان يضحي بكبشين أحدهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر عن نفسه . فقيل له . فقال : أمرني به يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا أدعه أبداً ) رواه الترمذي وأبو داود (8) ، وسيأتي الكلام على تخريجه في مبحث الأضحية عن الميت .
ومما يدل على أفضلية التضحية بالكبش ، أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقتدون بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في تضحيته بالكبش ، كما في حديث أنس - رضي الله عنه - السابق وفيه :( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحي بكبشين وأنا أضحي بكبشين ) .
فهذا يدل على اتباع أنس - رضي الله عنه - للرسول - صلى الله عليه وسلم - في التضحية بالكبشين ، كما يدل الحديث أيضاً على مداومة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على التضحية بالكبش (9) .
وعن يونس بن ميسرة بن حلس قال :( خرجت مع أبي سعيد الزرقي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شراء الضحايا . قال يونس : فأشار أبو سعيد إلى كبش أدغم ليس بالمرتفع ولا المتضع في جسمه فقال : اشتر لي هذا . كأنه شبههه بكبش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) رواه ابن ماجة وقال البوصيري في الزوائد : إسناده صحيح (10) .
__________
(1) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 8/300 ، سنن البيهقي 9/273 ، ضعيف الجامع الصغير ص424 ،
المحلى 6/32 ، المستدرك 4/254 .
(2) المجموع 8/399 ، وانظر سنن البيهقي 9/273 .
(3) الفتح الرباني 13/86 ، سنن البيهقي 9/272 ، المستدرك 4/275 ، مجمع الزوائد 4/21 ، سلسلة الأحاديث الضعيفة 4/174 .
(4) سنن البيهقي 9/272 .
(5) صحيح البخاري مع الفتح 12/119 ، صحيح مسلم بشرح النووي 5/103 .
(6) انظر فتح الباري 12/114 .
(7) سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/66-67 ، سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 7/352 ، سنن النسائي 7/221 سنن ابن ماجة 2/1046 .
(8) سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/65 ، سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 7/344 .
(9) انظر فتح الباري 12/106 .
(10) سنن ابن ماجة 2/1046 .(/33)
وصححه الشيخ الألباني (1) ورواه الحاكم وصححه ،ووافقه الذهبي (2) .
وعن النعمان بن أبي فاطمة - رضي الله عنه - :( أنه اشترى كبشاً أعين أقرن ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآه فقال : كأنَّ هذا الكبش الذي ذبح إبراهيم . فعمد رجل من الأنصار فاشترى للنبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه الصفة ، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فضحى به ) رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات قاله الهيثمي (3)
كما أن أدلة الفريقين الأول والثالث فيها نظر .
أما الآية الأولى وهي قوله تعالى :} وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ { .
فالبدن هي الإبل التي تُهدى إلى الكعبة فليست الآية في خصوص الأضحية .
وأما الآية الثانية ؛ وهي قوله تعالى :} ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ { فهي عامة ، لأن شعائر الله أعلام دينه فليست الآية في خصوص الأضحية أيضاً .
وأما الحديث ؛ وفيه تقريب البدنة ثم البقرة ثم الكبش ، فهذا الحديث واردٌ في الهدي في الحج ، وليس في خصوص الأضحية .
وأما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد ورد في الأضحية على وجه الخصوص.
وأما قول الفريق الأول بأن تضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغنم لبيان الجواز ، أو لأنه لم يتمكن ذلك الوقت إلا من الغنم كما قاله الإمام النووي (4) .
فالجواب إن تكرار تضحيته - صلى الله عليه وسلم - بالغنم يدل على قصده الغنم دون غيرها ، ولو لم يتيسر له إلا الغنم في سنة ، لتيسر له في غيرها في سنة أخرى .
وأما حديث ( خير الأضحية الكبش الأقرن ) فإنه وإن كان فيه ضعفٌ ، إلا أنه يتقوى بالأحاديث الصحيحة الثابتة من فعله - صلى الله عليه وسلم - بالتضحية بالكباش (5) ، وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي (6) .
وأما الحديث الذي احتج به الحنفية ، فإنه حديث ضعيف لا يصلح للاستدلال .
وأثر ابن عباس الذي احتج به الحنفية فليس فيه ما يعارض أدلة المالكية والله أعلم .
وخلاصة الأمر أنه لا ينبغي العدول عن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو التضحية بالكبش ، والأحاديث الواردة بذلك خصوص مقدم على غيره من العمومات (7) .
المطلب الخامس : تسمين الأضحية :
اتفق أهل العلم على أنه يستحب أن تكون الأضحيةُ سمينةٌ .
قال الإمام البخاري :[ باب أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أقرنين ، ويُذْكَرُ سمينين ] .
وقال الحافظ ابن حجر :[ قوله " ويذكر سمينين " أي في صفة الكبشين ، وهي في بعض طرق حديث أنس من رواية شعبة عن قتادة عنه أخرجه أبو عوانة في صحيحه من طريق الحجاج بن محمد عن شعبة .
- وحديث أنس - رضي الله عنه - الذي أشار إليه الحافظ ابن حجر هو: عن أنس - رضي الله عنه - قال :( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحي بكبشين ) فهذا الحديث عند أبي عوانة فيه ( بكبشين سمينين ) – ثم قال الحافظ :[ وله طريق أخرى أخرجها عبد الرزاق في مصنفه … عن أبي هريرة :( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يضحي اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوئين فذبح أحدهما عن محمد وآل محمد ، والآخر عن أمته من شهد له بالتوحيد والبلاغ )] (8) .
وقد قال الإمام الشافعي :[ استكثار القيمة في الأضحية أفضل من استكثار العدد … لأن المقصود هنا اللحم والسمين أكثر وأطيب ] (9) .
وقد اختلف أهل العلم في حكم تسمين الأضحية كما يلي :
فذهب جمهور العلماء إلى استحباب تسمين الأضحية (10) .
فقد روى البخاري في صحيحه تعليقاً :[ قال يحيى بن سعيد قال: سمعت أبا أمامة بن سهل قال: كنا نسمن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمنون ]
قال الحافظ ابن حجر:[ وصله أبو نعيم في المستخرج … الخ ] (11) .
وقال الإمام الشافعي :[ وزعم بعض المفسرين أن قول الله جل ثناؤه :} ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ { ، استسمان الهدي واستحسانه ] (12) .
قال الماوردي :[ اختلف المفسرون في قول الله تعالى :} ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ { على ثلاثة أقوال :
أحدها : أن شعائر الله دين الله كله ، وتعظيمها التزامها وهذا قول الحسن .
والثاني : أنها مناسك الحج وتعظيمها استيفاؤها وهو قول جماعة .
والثالث : أنها البدن المشعره ، وتعظيمها استسمانها واستحسانها ، وهذا قول مجاهد واختيار الشافعي ] (13) .
__________
(1) صحيح سنن ابن ماجة 2/200 .
(2) المستدرك 4/254 .
(3) مجمع الزوائد 4/23 .
(4) شرح صحيح مسلم 2/452 .
(5) انظر أضواء البيان 5/435-436 .
(6) المستدرك 4/254 .
(7) انظر عارضة الأحوذي 6/233 ، فتح الباري 12/107 .
(8) صحيح البخاري مع الفتح 12/105 .
(9) المجموع 8/396 .
(10) المجموع 8/396 ، بدائع الصنائع 4/223 ، شرح الخرشي 3/38 ، المغني 9/439 .
(11) صحيح البخاري مع الفتح 12/105 .
(12) الأم 2/224 .
(13) الحاوي 15/79 .(/34)
وذهب بعض المالكية إلى أنه يكره تسمين الأضحية لأنه سنة اليهود !! (1) .
وهذا قول باطل كما قال الإمام النووي (2) .
والراجح القول باستحباب تسمين الأضحية ، لأن ذلك أعظم لأجرها وأكثر لنفعها
والله أعلم .
وينبغي التنبيه إلى أنه قد وردت بعض الأحاديث غير الثابتة في تسمين وتعظيم الأضحية وقد سبق ذكرها وبيان درجتها في مبحث فضل الأضحية .
المطلب السادس : أفضل الأضحية لوناً :
قال الإمام النووي :[ أفضلها ، البيضاء ثم الصفراء ثم الغبراء ، وهي التي لا يصفو بياضها ثم البلقاء ، وهي التي بعضها أبيض وبعضها أسود ثم السوداء ] (3) .
وقال ابن قدامة :[ والأفضل في الأضحية من الغنم في لونها البياض ] (4) .
ويدل على ذلك :
1. ما ورد في حديث أنس - رضي الله عنه - :( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انكفأ إلى كبشين أقرنين أملحين فذبحهما بيده ) رواه البخاري (5) .
قال الحافظ ابن حجر :[ الأملح : هو الذي فيه سواد وبياض والبياض أكثر ، ويقال هو الأغبر وهو قول الأصمعي .
وزاد الخطابي هو الأبيض الذي في خلل صوفه طبقات سود. ويقال الأبيض الخالص قاله ابن الأعرابي ، وبه تمسك الشافعية في تفضيل الأبيض في الأضحية ] (6) .
وذكر في المصباح المنير من معاني الأملح : نقيُّ البياض (7) .
2. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :( دمُ عفراء أحب إلى الله من دم سوداوين ) رواه أحمد والحاكم والبيهقي وقال الشيخ الألباني: حديث حسن (8) .
والعفراء من العفر وهو بياض ليس بالخالص (9) .
وينبغي أن يعلم أن العلماء لم يكرهوا بقية الألوان في الأضحية ، إنما الأفضل عندهم الأبيض .
قال الماوردي بعد أن ذكر الألوان المرغوبة في الأضحية :[ وباقي هذه الألوان إن ضحى لم يكن فيه كراهية ، وإن كان ما اخترناه من الألوان أفضل ، فمنها ما كان أفضل لحسن منظره ، ومنها ما كان أفضل لطيب مخبره ، فإن اجتمعا كان أفضل ، وإن افترقا كان طيب المخبر أفضل من حسن المنظر ] (10) .
المبحث الثاني عشر
اجتماع الأضحية والعقيقة
إذا اجتمعت الأضحية والعقيقة ، كأن أراد شخصٌ أن يعقَ عن ولده يوم عيد الأضحى ، أو في أيام التشريق ، فهل تجزئ الأضحية عن العقيقة ؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : تجزئ الأضحية عن العقيقة ، وبه قال الحسن البصري ومحمد بن سيرين وقتادة وهشام _ من التابعين _ ، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد (11) .
وبه قال الحنفية ، قال ابن عابدين :[… وكذا لو أراد بعضهم العقيقة عن ولد قد ولد له من قبل ، لأن ذلك جهة التقرب بالشكر على نعمة الولد ذكره محمد ] (12) .
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن الحسن قال :[ إذا ضحوا عن الغلام فقد أجزأت عنه من العقيقة ] ورواه أيضاً عبد الرزاق.
وروى عن هشام وابن سيرين قالا :[ يجزئ عنه الأضحية من العقيقة ] .
وروى عبد الرزاق أيضاً عن قتادة قال :[ من لم يعق عنه أجزأته أضحيته ] (13) .
وقال الخلال :[ باب ما روي أن الأضحية تجزئ عن العقيقة ، ثم ذكر عن الميموني أنه قال لأبي عبد الله – أحمد بن حنبل – : يجوز أن يضحى عن الصبي مكان العقيقة ؟
قال : لاأدري . ثم قال : غير واحد يقول به .
قلت: من التابعين . قال نعم … ثم قال : ذكر أبو عبد الله أن بعضهم قال : فإن ضحى أجزأ عن العقيقة … ثم قال: إن أبا عبد الله قال : أرجو أن تجزئ الضحية عن العقيقة إن شاء الله تعالى لمن لم يعق …ثم قال ورأيت أبا عبد الله اشترى أضحية ذبحها عنه وعن أهله وكان ابنه عبد الله صغيراً فذبحها أراه أراد بذلك العقيقة والأضحية وقسم اللحم وأكل منها ] (14) .
وترى هذه الطائفة من أهل العلم أن المقصود بالأضحية والعقيقة يحصل بذبح واحد ، وفي ذلك نوع شَبَهٍ من الجمعة والعيد إذا اجتمعتا .
وكما لو صلى ركعتين ينوي بهما تحية المسجد وسنة المكتوبة ، أو صلى بعد الطواف فرضاً أو سنة مكتوبة ، وقع عنه وعن ركعتي الطواف .
وكذلك لو ذبح المتمتع والقارن شاة يوم النحر أجزأ عن دم المتعة وعن الأضحية (15) .
__________
(1) الذخيرة 4/146 ، شرح الخرشي 3/38 .
(2) المجموع 8/396 .
(3) المجموع 8/396-397 .
(4) المغني 9/439 .
(5) صحيح البخاري مع الفتح 12/106 .
(6) فتح الباري 12/106 .
(7) المصباح المنير ص579 .
(8) الفتح الرباني 13/81 ، سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/475-476 ، المستدرك 4/252 ، سنن البيهقي 9/273 .
(9) المصباح المنير ص418 .
(10) الحاوي 15/79 ، وانظر فتح الباري 12/106 .
(11) فتح الباري 12/13 ، شرح السنة 11/267 ، الإنصاف 4/111 ، كشاف القناع 3/29 ، الفروع 3/564 ،
تحفة المودود ص68 .
(12) حاشية ابن عابدين 6/326 .
(13) مصنف ابن أبي شيبة 8/244 . مصنف عبد الرزاق 4/331 ، 333 .
(14) تحفة المودود ص 68 .
(15) تصحيح الفروع 3/564 ،تحفة المودود ص69 .(/35)
القول الثاني : لا تجزئ الأضحية عن العقيقة وهو قول المالكية والشافعية (1) والرواية الأخرى عن الإمام أحمد ، فقد روى الخلال عن عبد الله بن أحمد قال :[ سألت أبي عن العقيقة يوم الأضحى تجزئ أن تكون أضحية وعقيقة ؟ قال: إما أضحية وإما عقيقة على ما سمّى ] (2) ، وعلى هذه الرواية أكثر الحنابلة (3) .
وحجة هؤلاء أن كلاً من الأضحية والعقيقة ذبحان بسببين مختلفين ، فلا يقوم الواحد عنهما ، كدم التمتع ودم الفدية (4) .
وقالوا أيضاً إن المقصود بالأضحية إراقة الدم في كل منهما ، ولا تقوم إراقة مقام
إراقتين (5) .
وسئل الشيخ ابن حجر المكي عن ذبح شاة أيام الأضحية بنيتها ونية العقيقة ، فهل يحصلان أو لا ؟
فأجاب :[ الذي دل عليه كلام الأصحاب وجرينا عليه منذ سنين أنه لا تداخل في ذلك ، لأن كلاً من الأضحية والعقيقة ، سنةٌ مقصودةٌ لذاتها ، ولها سبب يخالف سبب الأخرى ، والمقصود منها غير المقصود من الأخرى ، إذ الأضحيةُ فداءٌ عن النفس ، والعقيقةُ فداءٌ عن الولد ، إذ بها نُمُّوهُ وصلاحهُ ، ورجاءُ بِرِّهِ وشفاعته ، وبالقول بالتداخل يبطل المقصود من كلٍ منهما ، فلم يمكن القول به نظير ما قالوه في سنة غسل الجمعة وغسل العيد ، وسنة الظهر وسنة العصر ، وأما تحية المسجد ونحوها فهي ليست مقصودة لذاتها بل لعدم هتك حرمة المسجد ، وذلك حاصلٌ بصلاة غيرها ، وكذا صوم نحو الإثنين ، لأن القصد منه إحياء هذا اليوم بعبادة الصوم المخصوصة ، وذلك حاصلٌ بأي صومٍ وقع فيه .
وأما الأضحية والعقيقة ، فليستا كذلك كما ظهر مما قررته وهو واضح ، والكلام حيث اقتصر على نحو شاة أو سبع بدنة أو بقرة ، أما لو ذبح بدنة أو بقرة عن سبعة أسباب ، منها ضحية وعقيقة والباقي كفارات ، كنحو الحلق في النسك فيجزي ذلك ، وليس هو من باب التداخل في شيء لأن كل سبع يقع مجزياً عما نوى به .
وفي شرح العباب: لو ولد له ولدان ، ولو في بطن واحدة ، فذبح عنهما شاة ، لم يتأدى بها أصل السنة كما في المجموع وغيره ، وقال ابن عبد البر: لا أعلم فيه خلافاً أ.هـ
وبهذا يعلم أنه لا يجزي التداخل في الأضحية والعقيقة من باب أولى ، لأنه إذا امتنع مع اتحاد الجنس فأولى مع اختلافه ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب ] (6) .
والذي أراه راجحاً هو عدم إجزاء الأضحية عن العقيقة ، وعدم إجزاء العقيقة عن الأضحية ، لأن كلاً منهما لها سببها الخاص في إراقة الدم ، ولا تقوم إحداهما مقام الأخرى .
والمسائل التي ذكروها ليست مسلَّمةً عند جميع العلماء ، فحصول العبادتين بنية واحدة ، أجازه من أجازه من أهل العلم ، لأنهم عدُّوها من قبيل الوسائل لا المقاصد ،كما لو نوى بغسله رفع الحدث الأصغر والأكبر ، أو نوى بالغسل الجمعة والجنابة ، وخالف في ذلك ابن حزم ،وأمَّا حصول تحية المسجد وسنَّة المكتوبة ، فلأن تحية المسجد تحصل وإن لم يقصدها ، وأمَّا ما صححوه من تجويز عبادتين بنيَّةٍ واحدةٍ فالذي يظهر أنَّ الشارع قد اعتبر فيه الأمرين المقصودين ولو لم يقصدهما الفاعل ،كمن يتصدق على ذي رحمه ينال أجرين : أجر الصدقة وأجر صلة الرحم (7).
الفصل الثاني
ما يتعلق بالمضحي ووقت الأضحية
المبحث الأول
ما يطلب ممن أراد الأضحية عند دخول أول ذي الحجة
ثبت في الحديث الصحيح عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً ) رواه مسلم (8) .
وفي رواية أخرى :( من كان له ذِبح يذبحه فإذا أهلَّ هلالُ ذي الحجة فلا يأخذ من شعره وأظفاره شيئاً حتى يضحي ) رواه مسلم (9) . والذِبح بكسر الذال : الذبيحة .
وقد اختلف العلماء فيمن أراد أن يضحي وأهلَّ عليه هلال ذي الحجة فما حكم الأخذ من شعره وأظفاره على أقوال كما يلي :
القول الأول : قال سعيد بن المسيب وربيعة وأحمد وإسحاق وداود وابن حزم الظاهريان وأبو الحسن العبادي من الشافعية ، إنه يحرم عليه أخذ شيء من شعره وأظفاره حتى يضحي في وقت الأضحية (10) .
القول الثاني : قال المالكية والشافعية وبعض الحنابلة يكره له ذلك كراهة تنزيه وليس
بحرام (11) .
القول الثالث : قال أبو حنيفة وأصحابه يباح ذلك وهو رواية عن مالك (12) .
__________
(1) شرح الخرشي 3/41، الذخيرة 4/166 ، الفتاوى الكبرى الفقهية 4/256 .
(2) تحفة المودود ص68 .
(3) تصحيح الفروع 3/565 .
(4) تحفة المودود ص68 ، أحكام العقيقة ص50 .
(5) الذخيرة 4/166 ، حاشية العدوي 3/48 .
(6) الفتاوى الكبرى الفقهية 4/256 .
(7) انظر مقاصد المكلفين ص 255 –256 .
(8) صحيح مسلم مع شرح النووي 4/119 .
(9) المصدر السابق 4/120 .
(10) المغني 9/436 ، المحلى 6/3 ، شرح النووي على صحيح مسلم 4/119 ، معجم فقه السلف 4/144 .
(11) الذخيرة 4/141 ، المجموع 8/391 ، الشرح الكبير 2/121 ، الحاوي 15/74 ، المغني 9/436 ، شرح الآبي على صحيح مسلم 5/307 ، بذل المجهود 13/12 .
(12) شرح معاني الآثار 2/182 ، شرح النووي على صحيح مسلم 4/119 .(/36)
ونقل عن أبي حنيفة القول بالاستحباب وأن من يفعله يكره له ذلك كراهة تنزيه (1) .
أدلة القول الأول : احتجوا بحديث أم سلمة السابق وقد ورد بروايات عند مسلم وهي :
أ. عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً ) . قيل لسفيان : فإن بعضهم لا يرفعه . قال : لكني أرفعه .
ب. عن أم سلمة رضي الله عنها ترفعه قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :( إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي فلا يأخذنَّ شعراً ولا يقلمن ظفراً ) .
ج. عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره ) .
د. عن أم سلمة رضي الله عنها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذنَّ من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي ) (2) .
ووجه الاستشهاد به أن فيه نهي عن أخذ الشعر والأظفار ، ومقتضى النهي التحريم (3) .
وروى مسلم بإسناده عن عمرو بن مسلم بن عمار الليثي قال :( كنا في الحمام قبيل الأضحى فأطلى فيه ناس فقال بعض أهل الحمام : إن سعيد بن المسيب يكره هذا أو ينهى عنه . فلقيت سعيد بن المسيب فذكرت ذلك له فقال : يا ابن أخي هذا حديث قد نُسِيَ وترك . حدثتني أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - … الحديث (4) .
وقوله في الحديث أطلى فيه ناس : أي أزالوا شعر العانة بالنورة .
واحتجوا أيضاً بما رواه ابن حزم بإسناده أن يحيى بن يعمر كان يفتي بخراسان أن الرجل إذا اشترى أضحية ودخل العشر أن يكف عن شعره وأظفاره حتى يضحي .
قال سعيد قال قتادة : فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال : نعم . فقلت : عمن يا أبا محمد ؟ قال عن أصحاب رسول الله (5) .
أدلة القول الثاني : قالوا إن النهي الوارد في حديث أم سلمة ، محمولٌ على كراهة التنزيه وليس ذلك بحرام .
وأيدوا قولهم بما ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها قالت :( لقد كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيبعث هديه إلى الكعبة فما يحرم عليه مما حلَّ للرجال من أهله حتى يرجع الناس ) رواه البخاري ومسلم (6) .
قال الماوردي :[ فكان هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضحاياه ، لأنه كان بالمدينة وأنفذها مع
أبي بكر - رضي الله عنه - سنة تسع ، وحكمها أغلظ لسوقها إلى الحرم ، فلما لم يحرم على نفسه شيئاً كان غيره أولى إذا ضحى في غير الحرم ] (7) .
وقال أبو عبد الله الآبي المالكي :[ مذهبنا أنه لا يلزم العمل بهذه الأحاديث - روايات حديث أم سلمة – لحديث عائشة … وبعثُ الهدي آكدُ من إرادة الأضحية ] (8) .
أدلة القول الثالث : احتجوا بحديث عائشة السابق وحملوه على الإباحة وقدموه على حديث أم سلمة .
قال الطحاوي بعد أن ذكر حديث عائشة :[… ففي ذلك دليل على إباحة ما قد حظره الحديث الأول – يعني حديث أم سلمة – ومجيء حديث عائشة رضي الله عنها أحسن من مجيء حديث أم سلمة رضي الله عنهما لأنه جاء مجيئاً متواتراً .
وحديث أم سلمة فلم يجئ كذلك ، بل قد طعن في إسناد حديث مالك ، فقيل إنه موقوف على أم سلمة .
ثم ذكر الطحاوي حديث أم سلمة برواية مالك وفيه :( عن أم سلمة رضي الله عنها ولم ترفعه قالت : من رأى هلال ذي الحجة … الخ ) .
وذكر رواية أخرى وفيها :( عن أم سلمة مثله ولم ترفعه … ) .
ثم قال الطحاوي : وأما النظر في ذلك فقد رأينا الإحرام ينحظر به أشياء مما قد كانت كلها قبله حلالاً ، منها الجماع والقبلة وقص الأظفار وحلق الشعر وقتل الصيد فكل هذه الأشياء تحرم بالإحرام وأحكام ذلك مختلفة .
فأما الجماع فمن أصابه في إحرامه فسد حجه ، وما سوى ذلك لا يفسد إصابته الإحرام فكان الجماع أغلظ الأشياء التي يحرمها الإحرام .
ثم رأينا من دخلت عليه أيام العشر وهو يريد أن يضحي أن ذلك لا يمنعه من الجماع ، فلما كان ذلك لا يمنعه من الجماع ، وهو أغلظ ما يحرم بالإحرام ، كان أحرى أن لا يمنع مما دون ذلك ] (9) .
القول الراجح في المسألة :
الذي يغلب على ظني ـ بعد طولِ تأملٍ وتفكرٍ ـ رجحان القول الأول لقوة أدلته ويظهر ذلك فيما يلي :
أولاً : إن حديث أم سلمة خاص ، وحديث عائشة عام ، والخاص مقدم على العام .
قال ابن قدامة :[ وحديثهم عام وهذا خاص يجب تقديمه بتنزيل العام على ما عدا ما تناوله الحديث الخاص ] (10) .
وقال الشوكاني :[ ولا يخفى أن حديث الباب – أي حديث أم سلمة – أخص منه
__________
(1) إعلاء السنن 17/292 ، بذل المجهود 13/12 .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 5/119-120 .
(3) المغني 9/437 .
(4) صحيح مسلم مع شرح النووي 5/121 .
(5) المحلى 6/28 .
(6) صحيح البخاري مع الفتح 4/295 ، صحيح مسلم بشرح النووي 3/439 .
(7) الحاوي 15/74 .
(8) شرح الآبي على صحيح مسلم 5/307 .
(9) شرح معاني الآثار 4/182 .
(10) المغني 9/437 .(/37)
– أي من حديث عائشة - مطلقاً فيبنى العام على الخاص ويكون الظاهر مع من قال بالتحريم ولكن على من أراد التضحية ] (1) .
ثانياً : يجب حمل حديث عائشة على غير محل النزاع لوجوه منها :
أ - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليفعل ما نهى عنه وإن كان مكروهاً ، قال الله تعالى :} وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عنه { سورة هود الآية 88 .
ب - ولأن أقلَّ أحوال النهي أن يكون مكروهاً ، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليفعل المكروه فيتعين حمل ما فعله في حديث عائشة على غيره .
ج - ولأن عائشة تخبر عن فعله - صلى الله عليه وسلم - ، وأم سلمة تخبر عن قوله - صلى الله عليه وسلم - ، والقول يقدم على الفعل ، لاحتمال أن يكون فعله خاصاً له (2) .
ثالثاً : إن ما قاله الطحاوي بأن حديث أم سلمة موقوف ؛ غير صحيح ، بل هو حديث مرفوع ، رفعه جماعة من المحدثين ، وقد رواه مسلم مرفوعاً من وجوه :
أ. الرواية الأولى في صحيح مسلم بإسناده وفيها حدثنا سفيان … قيل لسفيان : فإن بعضهم لا يرفعه . قال لكني أرفعه .
ب. الرواية الثانية في صحيح مسلم وفيها :( عن أم سلمة ترفعه … ) .
ج. الرواية الثالثة في صحيح مسلم مرفوعة .
د.الرواية الخامسة في صحيح مسلم مرفوعة (3) .
وأجاب العلامة ابن القيم جواباً مفصلاً عن الادعاء بأن حديث أم سلمة موقوف فقال :
[ وقد اختلف الناس في هذا الحديث وفي حكمه .
فقالت طائفة : لا يصح رفعه وإنما هو موقوف .
قال الدارقطني في كتاب العلل : ووقفه عبد الله بن عامر الأسلمي ويحيى القطان وأبو حمزة عن عبد الرحمن بن حميد عن سعيد ، ووقفه عقيل على سعيد . ووقفه يزيد بن عبد الله بن قسيط عن سعيد عن أم سلمة : قولها . ووقفه عبد الرحمن بن حرملة وقتادة وصالح بن حسان عن سعيد : قوله . والمحفوظ عن مالك موقوف .
قال الدارقطني : والصحيح عندي قول من وقفه .
ونازعه في ذلك آخرون فصححوا رفعه منهم مسلم بن الحجاج ورواه في صحيحه مرفوعاً. ومنهم أبو عيسى الترمذي قال : هذا حديث حسن صحيح . ومنهم ابن حبان خرَّجه في صحيحه . ومنهم أبو بكر البيهقي قال : هذا حديث قد ثبت مرفوعاً من أوجه لا يكون مثلها غلطاً ، وأودعه مسلم في كتابه . وصححه غير هؤلاء وقد رفعه سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن حميد عن سعيد عن أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ورفعه شعبة عن مالك عن عمرو بن مسلم عن سعيد عن أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وليس شعبة وسفيان بدون هؤلاء الذين وقفوه .
ولا مثل هذا اللفظ من ألفاظ الصحابة بل هو المعتاد من خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله ( لا يؤمن أحدكم ) ( أيعجز أحدكم ) ( أيحب أحدكم ) ( إذا أتى أحدكم الغائط )
( إذا جاء أحدكم خادمه بطعام ) ونحو ذلك ] (4).
وقال صاحب تحفة الأحوذي بعد أن ذكر الطرق المرفوعة لحديث أم سلمة :[ وهذه الطرق المرفوعة كلها صحيحة ، فكيف يصح القول بأن حديث أم سلمة الموقوف هو أصل الحديث بل الظاهر أن أصل الحديث المرفوع ] (5).
وقد بيَّن الشيخ الألباني أن الصحيح أن هذا الحديث مرفوع ؛ حتى وإن لم يصرح سعيد بن المسيب برفعه فله حكم الرفع لأنه لا يقال بالاجتهاد والرأي (6).
رابعاً : ويجاب على من ردَّ حديث أم سلمة بالقياس ، كما سبق في كلام الطحاوي ، أنَّ مُريدَ الأضحية لا يحرم عليه الجماع ، فلا يحرم عليه قص شعره وأظفاره ؛ بما قاله ابن حزم :[ ثم لو صح القياس لكان هذا منه عين الباطل ، لأنه ليس إذا وجب أن لا يمس الشعر والظفر بالنص الوارد في ذلك ، يجب أن يتجنب النساء والطيب ، كما أنه إذا وجب اجتناب الجماع والطيب ،لم يجب بذلك اجتناب مس الشعر والظفر ، فهذا الصائم فرضٌ عليه اجتناب النساء ، ولا يلزمه اجتناب الطيب ، ولا مس الشعر والظفر ، وكذلك المعتكف ، وهذه المعتدة يحرم عليها الجماع والطيب ، ولا يلزمها اجتناب قص الشعر والأظفار .
… وهذه فتيا صحت عن الصحابة رضي الله عنهم ، ولا يعرف فيها مخالفٌ منهم لهم ](7)
وقال ابن القيم :[ وأسعد الناس بهذا الحديث من قال بظاهره لصحتة وعدم ما يعارضه …
ولهذا كان أحمد وغيره يعمل بكلا الحديثين : هذا في موضعه وهذا في موضعه .
وقد سأل الإمام أحمد أو غيره عبد الرحمن بن مهدي عن هذين الحديثين ؟ فقال : هذا له وجه وهذا له وجه ] (8).
وبعد هذا العرض أرجو أن يكون ما رجحته هو الراجح ، وقد كنت أميل للقول بالكراهة فقط ، ثم ترجح عندي القول بالتحريم ، والله أعلم .
ما المراد بالنهي عن الأخذ من الشعر والظفر الوارد في حديث أم سلمة :
__________
(1) نيل الأوطار 5/128 .
(2) المغني 9/437 .
(3) انظر صحيح مسلم مع شرح النووي 4/119-120 .
(4) شرح ابن القيم علىسنن أبي داود بهامش عون المعبود 7/346 .
(5) تحفة الأحوذي 5/100 .
(6) إرواء الغليل 4/378 .
(7) المحلى 6/26 .
(8) شرح ابن القيم على سنن أبي داود بهامش عون المعبود 7/348 .(/38)
قال الإمام النووي :[ قال أصحابنا : والمراد بالنهي عن أخذ الظفر والشعر النهي عن إزالة الظفر بقلْمٍ أو كَسْرٍ أو غيره .
والمنع من إزالة الشعر ، بحلق أو تقصير أو نتف أو إحراق أو أخذ بنورة أو غير ذلك .
وسواء شعر الإبط والشارب والعانة والرأس ، وغير ذلك من شعور بدنه .
قال إبراهيم المروزي وغيره من أصحابنا : حكم أجزاء البدن كلها حكم الشعر والظفر .
ودليله الرواية السابقة ( فلا يمس من شعره وبشره شيئاً ) ] (1) .
وقال بعض أهل العلم إن المراد بالشعر شعر الرأس وبالبشر شعر البدن فعلى هذا لا يدخل فيه قلم الأظفار فلا يكره (2) .
والصواب القول الأول ، لأنه ورد في إحدى الروايات عند مسلم :( فلا يأخذن شعراً ولا يقلمن ظفراً ) .
وكذلك ما ورد عن عمرو بن مسلم بن عمار الليثي قال :( كنا في الحمام قبيل الأضحى فأطلى فيه ناس فقال بعض أهل الحمام : إن سعيد بن المسيب يكره ذلك أو ينهى عنه . فلقيت سعيد بن المسيب فذكرت ذلك له فقال : يا ابن أخي هذا حديث قد نسي وترك
حدثتني أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - … الحديث ) رواه مسلم .
والإطلاء بالنورة هو إزالة شعر العانة بالنورة وهي مادة تستعمل في إزالة الشعر(3) .
وأما الحكمة في النهي عن الأخذ من الشعر والأظفار في حق من أراد الأضحية فهي ما قاله الإمام النووي :[ قال أصحابنا : والحكمة في النهي أن يبقى كامل الأجزاء ليعتق من النار ] (4) .
وإذا لم يلتزم مريد الأضحية بهذا النهي فأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره فإنه يستغفر الله سبحانه وتعالى ولا فدية فيه إجماعاً سواء فعله عمداً أو نسياناً قاله الشيخ ابن قدامة (5).
المبحث الثاني
وقت الأضحية
المطلب الأول : أول وقت ذبح الأضحية :
اختلف الفقهاء في أول وقت ذبح الأضحية على ثلاثة أقوال :
القول الأول : يدخل وقت ذبح الأضحية بعد طلوع شمس اليوم العاشر من ذي الحجة ، وبعد دخول وقت صلاة الضحى ، ومُضي زمان من الوقت يسع صلاة ركعتين وخطبتين خفيفتين ، لا فرق في ذلك بين أهل الحضر والبوادي .
وهذا قول الشافعية والحنابلة ، وبه قال ابن المنذر وداود الظاهري والطبري ، ويرى الحنابلة أيضاً أن يكون الذبح بعد صلاة الإمام وخطبته خروجاً من الخلاف (6) .
القول الثاني : يدخل وقت ذبح الأضحية بطلوع فجر يوم النحر في حق من لا تجب عليهم صلاة العيد من سكان البوادي .
وأما أهل الحاضرة فيدخل وقت الأضحية في حقهم بعد صلاة العيد ، وأما إن لم يصلوا العيد لعذر فيدخل وقتها بمضي وقت الصلاة ، وهذا قول الحنفية (7).
القول الثالث : يدخل وقت ذبح الأضحية بعد صلاة الإمام وخطبته وبعد ذبحه لأضحيته، فإن لم يذبح ، اعتبر زمن ذبحه ، وهذا قول المالكية (8) .
أدلة القول الأول :
1. احتجوا بحديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا ، نصلي ثم نرجع فننحر ، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ، ومن ذبح فإنما هو لحم قدمه لأهله ، وليس من النسك في شيء ) رواه البخاري ومسلم وقد مضى .
2. وفي رواية أخرى عن البراء قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم نحر فقال :( لا يضحين أحدٌ حتى يصلي . قال رجل : عندي عناق لبن هي خير من شاتي لحم .
قال : فضح بها ولا تجزئ جذعة عن أحد بعدك ) رواه مسلم (9) .
3. وفي رواية ثالثة قال البراء - رضي الله عنه - :( ذبح أبو بردة قبل الصلاة . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أبدلها … الخ ) رواه البخاري ومسلم (10) .
4. وفي رواية رابعة عن البراء - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( لا يذبحن أحد حتى يصلي ) رواه مسلم (11) .
5. وفي رواية خامسة عن البراء - رضي الله عنه - قال :( صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فقال : من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فلا يذبح حتى ينصرف ) رواه البخاري (12) .
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 5/119-120 ، وانظر المحلى 6/28 ، الحاوي 15/74 .
(2) عون المعبود 7/349 ، الحاوي 15/ 74 . (3) المصباح المنير ص 630 .
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 5/120 ، وانظر الذخيرة 4/142 .
(4) المغني 9/437 .
(6) الحاوي 15/85 ، كشاف القناع 3/9 ، المغني 9/452 ، المجموع 8/387 ، مغني المحتاج 6/129 ، المحلى 6/35 .
(7) الهداية 8/430 ، حاشية ابن عابدين 6/380 ، الاختيار 5/19 ، تحفة الفقهاء 3/83 . فتح باب العناية 3/74-75.
(8) الذخيرة 4/149 ، الشرح الكبير 2/120 ، القوانين الفقهية 125 ، شرح الخرشي 3/36 ، تفسير القرطبي 12/42
(9) صحيح مسلم بشرح النووي 5/100 .
(10) صحيح البخاري مع الفتح 12/114 ، صحيح مسلم بشرح النووي 5/100 .
(11) صحيح مسلم بشرح النووي 5/99 .
(12) صحيح البخاري مع الفتح 12/117 .(/39)
6. وعن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر :( من كان ذبح قبل الصلاة فليعد فقام رجل فقال يا رسول الله … ) رواه البخاري ومسلم (1) .
قالوا إن هذه الأحاديث تدل على أن وقت الأضحية يكون بعد الصلاة . قال الحافظ ابن حجر معلقاً على الرواية الخامسة من حديث البراء - رضي الله عنه - :[ تمسك به الشافعية في أن أول وقت الأضحية قدر فراغ الصلاة والخطبة ، وإنما شرطوا فراغ الخطيب ، لأن الخطبتين مقصودتان مع الصلاة في هذه العبادة فيعتبر مقدار الصلاة والخطبتين على أخف ما يجزي بعد طلوع الشمس ، فإذا ذبح بعد ذلك أجزأه الذبح عن الأضحية سواء صلَّى العيد أم لا وسواء ذبح الإمام أضحيته أم لا ، ويستوي في ذلك أهل المصر والحاضر والبادي ……
قال القرطبي : ظواهر الأحاديث تدل على تعليق الذبح بالصلاة ، لكن لما رأى الشافعي أن من لا صلاة عيد عليه مخاطب بالتضحية حمل الصلاة على وقتها ] (2) .
وظاهر الأحاديث السابقة اعتبار نفس الصلاة فيبدأ وقت الأضحية بعد الصلاة في حق من يصلي العيد ، وأما من لا يصلي العيد كأهل البوادي , فأول وقتها في حقهم مضي قدر الصلاة والخطبتين بعد الصلاة ، لأنه لا صلاة في حقهم تعتبر فوجب الاعتبار بقدرها (3).
أدلة القول الثاني : احتج الحنفية بما جاء في الحديث عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر:( من كان ذبح قبل الصلاة فليعد … الحديث ) وقد مضى قريباً .
واحتجوا بما جاء في حديث البراء - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال :( إن أول ما نبدأ به يومنا هذا نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح … الحديث ) وقد مضى قريباً .
قال الزيلعي الفقيه :[ قال ذلك – أي الرسول - صلى الله عليه وسلم - - في حق من عليه صلاة العيد ، كيلا يشتغل بها عنها ، فلا معنى للتأخير عن القروي إذ لا صلاة عليه ] (4) .
أدلة القول الثالث : احتجوا بحديث البراء أن خاله أبا بردة بن نيار ذبح قبل أن يذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال :( يا رسول الله إن هذا يوم اللحم فيه مكروه ، وإني عَجَّلتُ نسيكتي لأطعم أهلي وجيراني وأهل داري . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أعد نسكاً .فقال :يا رسول الله إن عندي عناقاً … الحديث ) رواه البخاري ومسلم (5) .
واحتجوا بحديث جندب بن سفيان - رضي الله عنه - قال : شهدت الأضحى مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال :
( من كان ذبح أضحيته قبل أن يصلي أو نصلي فليذبح مكانها أخرى ومن كان لم يذبح فليذبح باسم الله ) رواه مسلم (6) .
قال الحافظ ابن عبد البر :[ وفي حديث مالك – أي حديث البراء – من الفقه أن الذبح لا يجوز قبل ذبح الإمام ، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر الذي ذبح قبل أن يذبح بالإعادة ، وقد أمرنا الله بالتأسي به ، وحذرنا من مخالفة أمره ، ولم يخبرنا - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك خصوص له ، فالواجب في ذلك استعمال عمومه ] (7) .
القول الراجح في المسألة :
إن وقت الأضحية يبدأ بعد انتهاء صلاة العيد والخطبة ، إن صليت صلاة العيد كما كان يصليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد طلوع الشمس وارتفاعها بمقدار رمح أو رمحين ، سواء صلَّى مريدُ الأضحية العيد أم لم يصل ، وسواء كان من أهل البوادي أو الحضر ، وسواء ذبح الإمام أو لم يذبح ، وفي زماننا هذا حيث إنه لا إمام للمسلمين ، فلا يرتبط أمر الأضحية بفعل الحكام الموجودين .
ولا أرى التفريق بين أهل البوادي والحضر ، لعموم الأحاديث الواردة كحديث
أنس - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال :( من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين ) رواه البخاري (8).
المطلب الثاني : آخر وقت ذبح الأضحية ومدته :
اختلف أهل العلم في آخر وقت ذبح الأضحية ومدته كما يلي :
القول الأول : ينتهي وقت الذبح بغروب شمس اليوم الثاني من أيام التشريق ، أي أن أيام النحر ثلاثة ؛ يوم العيد ويومان بعده .
وهذا قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم ، وهو قول الحنفية والمالكية والحنابلة وبه قال الثوري وابراهيم النخعي.
القول الثاني : ينتهي وقت الذبح بغروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق ، أي أن أيام النحر أربعة ؛ يوم العيد وثلاثة أيام بعده ،وهو قول الشافعية .
قال الإمام الشافعي :[ فإذا غابت الشمس من آخر أيام التشريق ثم ضحى أحد فلا ضحية له ] (9) .
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح 12/116 ، صحيح مسلم بشرح النووي 5/100-101 .
(2) فتح الباري 12/117-118 .
(3) المغني 9/452 .
(4) تبيين الحقائق 6/4 ، وانظر الهداية 8/431 .
(5) صحيح البخاري مع الفتح 12/108 ، صحيح مسلم بشرح النووي 5/98 .
(6) صحيح مسلم بشرح النووي 5/96 .
(7) فتح المالك 7/10 .
(8) صحيح البخاري مع الفتح 12/99 .
(9) الأم 2/222 .(/40)
ونقل هذا القول عن عمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى الأسدي فقيه أهل الشام ،
وهو قول عطاء والحسن والأوزاعي ومكحول واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشوكاني .
القول الثالث : يوم النحر هو يوم العيد فقط وبه قال محمد بن سيرين وحميد بن
عبد الرحمن وداود الظاهري .
القول الرابع : يوم النحر هو يوم العيد في حق أهل الأمصار ، وأيام التشريق لأهل القرى والبوادي . وبه قال جابر بن زيد وسعيد بن جبير .
القول الخامس : تجوز الأضحية حتى هلال المحرم وبه قال أبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وهو قول ابن حزم الظاهري (1) .
أدلة القول الأول :
احتجوا بقوله تعالى:} لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ { سورة الحج الآية 28 .
فحملوا الأيام المعلومات على يوم النحر ويومين بعده ، قال الحافظ ابن عبد البر :[ وروي ذلك عن ابن عمر - رضي الله عنه - من وجوه . وبه قال الإمام مالك وأصحابه وأبو يوسف القاضي .
وروينا عن مالك وعن أبي يوسف أيضاً أنهما قالا : الذي نذهب إليه في الأيام المعلومات أنها أيام النحر : يوم النحر ، ويومان بعده ؛ لأن الله تعالى قال:} وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ { سورة الحج الآية 28.
فعلى قول مالك ، ومن تابعه يوم النحر معلوم ، أي من المعلومات ، ليس بمعدود ، أي ليس من المعدودات ، واليومان بعده معدوداتٌ معلوماتٌ ] (2) .
وقال القرطبي :[ وهذا جمع قلة لكن المتيقن منه الثلاثة وما بعد الثلاثة غير متيقن فلا يعمل به ] (3) .
2. واحتجوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، ولا يجوز الذبح في وقت لا يجوز ادخار الأضحية إليه (4) .
قالوا وهو قول جماعة من الصحابة هم عمر وعلي وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم،
قال الإمام أحمد :[ أيام النحر ثلاثة ، عن غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] .
وفي رواية أخرى عنه قال :[ خمسة من أصحاب رسول الله ] .
قال ابن قدامة :[ ولا مخالف لهم إلا رواية عن علي - رضي الله عنه - ، وقد روي عنه مثل مذهبنا ] (5).
وروى مالك عن نافع أن ابن عمر - رضي الله عنه - قال :[ الأضحى يومان بعد يوم الأضحى ] (6) .
أدلة القول الثاني :
1. احتجوا بما ورد في الحديث عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :( كل فجاج مكة منحر ، وكل أيام التشريق ذبح ) رواه أحمد وابن حبان وصححه ورواه البيهقي والطبراني في الكبير والبزار والدراقطني وغيرهم (7) .
وقال البيهقي : وهو مرسل . وذكر له طرقاً متصلة ، ولكنها ضعيفة كما قال (8) ؛ إلا أنه قال أيضاً إن حديث جبير أولى أن يقال به (9) .
وقال الهيثمي :[ رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير إلا أنه قال :( وكل فجاج مكة منحر ) ورجاله موثقون ] (10) .
وقال الحافظ ابن حجر :[ أخرجه أحمد لكن في سنده انقطاع ، ووصله الدارقطني ورجاله ثقات ] (11) .
وذكره السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة وأقره المناوي (12) .
وقال الشيخ الألباني : صحيح (13) .
وقال الشيخ أحمد الغماري :[ فحديث جبير بن مطعم ، رواه أحمد والبزار والطبراني وابن حبان في الصحيح ، والبيهقي عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( كل عرفات موقف ، وكل مزدلفة موقف ، وارفعوا عن محسر ، وكل فجاج منى منحر ، وكل أيام التشريق ذبح ) اختصره البيهقي فاقتصر على ذكر أيام التشريق منه ، وهو حديث حسن ، وإن كان سند أحمد وقع فيه انقطاع .
__________
(1) المغني 9/453 ، المجموع 8/390 ، المحلى 6/39-41 ، فتح الباري 12/103 ، معجم فقه السلف 4/137، تفسير القرطبي 12/43 ، نيل الأوطار 5/142 ، الذخيرة 4/149 ، الهداية 8/432 ، الآثار ص 61 ،كشاف القناع 3/9 ، زاد المعاد 2/318 ، الاستذكار 15/197 الاختيارات العلمية ص71 ،فتح باب العناية 3/75.
(2) الاستذكار 15/200 .
(3) تفسير القرطبي 12/43 .
(4) المغني 9/453 .
(5) المصدر السابق 9/453-454 .
(6) الموطأ 1/388 ، وانظر سنن البيهقي 9/279 ، معرفة السنن والآثار 14/65 ، الاستذكار 15/197 .
(7) الفتح الرباني 13/94 ، صحيح ابن حبان 9/166 ، سنن الدارقطني 4/284 ، سنن البيهقي 9/295 ، تحفة المحتاج 2/534 .
(8) سنن البيهقي 9/295-296 .
(9) المصدر السابق 9/298 .
(10) مجمع الزوائد 3/251 .
(11) فتح الباري 12/103 .
(12) فيض القدير 5/35 .
(13) صحيح الجامع الصغير 2/834 .(/41)
أما الاختلاف الواقع من سليمان بن موسى ، فمحمول على أنه سمعه من عبد الرحمن بن أبي حسين عن جبير بن مطعم ، وسمعه من نافع بن جبير عن أبيه أيضاً ، ومن محمد بن المنكدر عن جبير ، فهو لم يخرج بالحديث عن جبير الذي تعدد من حدثه به ، وهو ثقة فالحديث حسن أو صحيح كما قال ابن حبان ] (1) .
2. واحتجوا بأن هذا القول قد نقل عن علي وابن عباس وعطاء وعمر بن عبد العزيز، فقد روى البيهقي بإسناده عن ابن عباس قال : الأضحى ثلاثة أيام بعد يوم النحر .
وروى أيضاً عن الحسن وعطاء قالا : يُضَحَّى إلى آخر أيام التشريق .
وروى أيضاً عن عمر بن عبد العزيز قال : الأضحى يوم النحر وثلاثة أيام بعده (2) .
أدلة القولين الثالث والرابع :
لم أعثر فيما بين يدي من المصادر على أدلة لهذين القولين سوى ما نقل عن القائلين بهما من كلامهم فقد روى ابن حزم بإسناده عن محمد بن سيرين قال :[ النحر يوم واحد إلى أن تغيب الشمس ] .
وعن حميد بن عبد الرحمن أنه كان لا يرى الذبح إلا يوم النحر .
وروى بإسناده عن جابر بن زيد قال :[ النحر في الأمصار يوم وبمنى ثلاثة أيام ] (3) .
أدلة القول الخامس :
1. احتجوا بما رواه البيهقي بإسناده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار أنه بلغهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :( الضحايا إلى آخر الشهر لمن أراد أن يستأني ذلك ) .
قال ابن حزم :[ وهذا من أحسن المراسيل وأصحها ] (4) .
2. وفي رواية أبي حامد أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال :( الضحايا إلى هلال المحرم لمن أراد أن يستأني ذلك ) رواه أبو داود في المراسيل .
3. وما رواه البيهقي بإسناده عن يحيى بن سعيد قال :[ سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف يقول : إنْ كان المسلمون ليشتري أحدهم الأضحية فيسمنها فيذبحها بعد الأضحى آخر ذي الحجة ] .
ثم قال البيهقي :[ حديث أبي سلمة وسليمان مرسل ، وحديث أبي أمامة حكاية عمن لم يسم ] (5) .
وقال الحافظ ابن حجر عند ذكر رواية يحيى بن سعيد قال :[ سمعت أبا أمامة بن سهل . قال كنا نسمن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمنون ].
قال الحافظ :[ وصله أبو نعيم في المستخرج من طريق أحمد بن حنبل عن عباد بن العوام أخبرني يحيى بن سعيد وهو الأنصاري ولفظه : كان المسلمون يشتري أحدهم الأضحية فيسمنها ويذبحها في آخر ذي الحجة ] قال أحمد هذا الحديث عجيب (6) .
4. قال ابن حزم :[ الأضحية فعل خير وقربة إلى الله تعالى ، وفعل الخير حسن في كل وقت ، قال الله تعالى:} وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ { فلم يخص تعالى وقتاً من وقت ، ولا رسوله عليه الصلاة والسلام ؛ فلا يجوز تخصيص وقت بغير نص فالتقريب إلى الله تعالى بالتضحية حسن ما لم يمنع منه نص أو إجماع ، ولا نص في ذلك ولا إجماع إلى آخر ذي الحجة ] (7) .
القول الراجح في آخر وقت الأضحية :
إن الأقوال الثلاثة الأخيرة ضعيفة ، ولم يأت القائلون بها بما يعتد به ، فبقي الكلام في الترجيح بين القولين الأول والثاني ، وقبل الترجيح أذكر ما قاله الحافظ ابن عبد البر بعد أن ذكر أقوال أهل العلم في هذه المسألة حيث قال :[ ولا يصح عندي في هذه المسألة إلا قولان : أحدهما قول مالك والكوفيين الأضحى يوم النحر ويومان بعده .
والآخر قول الشافعي والشاميين يوم النحر وثلاثة أيام بعده .
وهذان القولان قد رويا عن جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - واختلف عنهم فيهما .
وليس عن أحد من الصحابة خلاف هذين القولين ، فلا معنى للاشتغال بما خالفهما ؛ لأن ما خالفهما لا أصل له في السنة ، ولا في قول الصحابة ، وما خرج عن هذين فمتروك لهما ] (8) .
إذا تقرر هذا فأقول : الذي يظهر لي رجحان ما ذهب إليه الشافعية ، أي أن آخر وقت الذبح هو غروب شمس آخر يوم من أيام التشريق ، فمدة الذبح أربعة أيام ، يوم النحر وثلاثة أيام بعده ، ويؤيد هذا الترجيح ما يلي :
أولاً : إن تفسير الأيام المعلومات في الآية :} وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ { محل خلاف بين أهل العلم ، وتفسيرها بأنها يوم النحر ويومان بعده ، هو أحد أقوال أهل العلم في تفسيرها . وهنالك أقوال أخرى في ذلك ، منها :
أ. الأيام المعلومات أيام العشر الأول من ذي الحجة ، قاله ابن عباس ، وعلَّقهُ البخاري عنه بصيغة الجزم . وروي مثله عن أبي موسى الأشعري ومجاهد وقتادة وعطاء وسعيد بن جبير والحسن وغيرهم .
ب. الأيام المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده ، وروي عن ابن عباس أيضاً ، ونقل عن ابن عمر وإبراهيم النخعي ، وإليه ذهب الإمام أحمد بن حنبل في رواية عنه .
__________
(1) الهداية في تخريج أحاديث البداية 5/403-404 .
(2) سنن البيهقي 9/296-297 .
(3) المحلى 6/39-40 .
(4) المصدر السابق 3/43 .
(5) سنن البيهقي 9/297-298 .
(6) فتح الباري 12/105 .
(7) المحلى 6/42 .
(8) الاستذكار 15/205 .(/42)
ج. الأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده ، وهو منقول عن الإمام مالك .
د. الأيام المعلومات يوم عرفة ويوم النحر ويوم آخر بعده ، ونقل عن أبي حنيفة . (1)
فقولهم ليس بأولى من قول غيرهم في الأيام المعلومات .
ثانياً : قال ابن القيم : [ وأما نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، فلا يدل على أن أيام الذبح ثلاثة فقط ؛ لأن الحديث دليل على نهي الذابح أن يدخر شيئاً فوق ثلاثة أيام من يوم ذبحه فلو أخر الذبح إلى اليوم الثالث ، لجاز له الادخار وقت النهي ما بينه وبين ثلاثة أيام .
والذين حددوه بالثلاث ، فهموا من نهيه عن الادخار فوق ثلاث أن أولها من يوم النحر .
قالوا: وغير جائز أن يكون الذبح مشروعاً في وقت يحرم فيه الأكل .
قالوا: ثم نسخ تحريم الأكل فبقي وقت الذبح بحاله .
فيقال لهم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه إلا عن الادخار فوق ثلاث ، لم ينه عن التضحية بعد ثلاث، فأين أحدهما من الآخر ، ولا تلازم بين ما نهى عنه ، وبين اختصاص الذبح بثلاث لوجهين :
أحدهما : أنه يسوغُ الذبح في اليوم الثاني والثالث ، فيجوز له الادخار إلى تمام الثلاث من يوم الذبح . ولا يتم لكم الاستدلال حتى يثبت النهي عن الذبح بعد يوم النحر ، ولا سيبلَ لكم إلى هذا .
الثاني : أنه لو ذبح في آخر جزء من يوم النحر ، لساغ له حينئذ الادخار ثلاثة أيام بعد بمقتضى الحديث ، وقد قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أيام النحر : يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده ، وهو مذهب إمام أهل البصرة الحسن ، وإمام أهل مكة عطاء بن أبي رباح ، وإمام أهل الشام الأوزاعي ، وإمام فقهاء أهل الحديث الشافعي رحمه الله ، واختاره ابن المنذر ،
ولأن الثلاثة تختص بكونها أيام منى ، وأيام الرمي ، وأيام التشريق ، ويحرمُ صيامُها ، فهي إخوة في هذه الأحكام ، فكيف تفترق في جواز الذبح بغير نص ولا إجماع ؟ ] (2) .
ثالثاً : إن حديث جبير بن مطعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( … وكل أيام التشريق ذبح ) حديث حسن أو صحيح ، وقد صححه ابن حبان والسيوطي ، ووثق رجاله الحافظ ابن حجر وشيخه الهيثمي من المتقدمين، وصححه من المتأخرين الشيخ الألباني والشيخ أحمد الغماري والشيخان شعيب وعبد القادر الأرناؤوط فهو صالح إن شاء الله للاحتجاج .
ولو سلَّمنا أنه موقوف كما قال بعض المحدثين فله حكم الرفع لأن مثله لا يقال بمجرد الرأي .
رابعاً : إن هذا القول منقول عن جماعة من الصحابة منهم علي وابن عباس وابن عمر وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم .
ومنقول عن جماعة من التابعين منهم الحسن وعطاء وبه قال عمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى وكان أحد أئمة أهل الشام في العلم .
المطلب الثالث : حكم ذبح الأضحية ليلاً :
اختلف الفقهاء في حكم ذبح الأضحية ليلاً ، ويشمل ذلك ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر ، عند القائلين بأن الذبح يكون يوم الأضحى ويومان بعده ، ويضاف إلى ذلك ليلة الثالث عشر، عند القائلين بأن الذبح يكون يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده .
القول الأول : ذهب جمهور أهل العلم إلى جواز ذبح الأضحية ليلاً مع الكراهة ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وإسحاق وأبو ثور ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد وهي اختيار أصحابه المتأخرين ، وهو قول ابن حزم ورواية عن مالك وأشهب .
القول الثاني : لا يجوز الذبح ليلاً ، فإن فعل فليست أضحية ، وبه قال الإمام مالك في القول المشهور عنه ، وأحمد في الرواية الأخرى عنه ونقل عن عطاء (3) .
أدلة الفريق الأول :
قالوا إن الليل زمن يصح فيه الرمي فأشبه النهار، فيصح فيه الذبح كالنهار .
وبيَّن الإمام الشافعي لماذا كرهوا الذبح ليلاً فقال :[ وإنما كرهنا أن يضحى ليلاً على نحو ما كرهنا من الجذاذ بالليل ، لأن الليل سكن والنهار يُنْتَشَرُ فيه لطلب المعاش ، فأحببنا أن يحضر من يحتاج إلى لحوم الضحايا ؛ لأن ذلك أجزل عن المتصدق وأشبه أن لا يجد المتصدق في مكارم الأخلاق بداً من أن يتصدق على من حضره للحياء ممن حضره من المساكين وغيرهم . مع أن الذي يلي الضحايا يليها بالنهار أخف عليه وأحرى أن لا يصيب نفسه بأذى ولا يفسد من الضحية شيئاً ] (4) .
أدلة الفريق الثاني :
احتجوا بقوله تعالى :}وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ { سورة الحج الآية 28 .
__________
(1) تفسير ابن كثير 3/216-217 ، تفسير فتح القدير 3/205 ، التفسير الكبير 23/29 ، أضواء البيان 5/344 .
(2) زاد المعاد 2/318-319 .
(3) المجموع 8/388،391 ، المغني 9/454 ، المحلى 6/39 ، الذخيرة 4/149-150 ، الهداية 8/432 ، الشرح الكبير 2/121 ، كشاف القناع 3/9-10 ، بداية المجتهد 1/354 ، بدائع الصنائع 4/213-214 ، شرح الآبي على صحيح مسلم 5/291 .
(4) الأم 2/222 .(/43)
قالوا فذكر الأيام دون الليالي (1) ، فالأيام هي وقت الذبح دون الليالي .
واحتجوا أيضاً بما روي في الحديث عن ابن عباس مرفوعاً :( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأضحية ليلاً) . قال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير وفيه سليمان بن أبي سلمة الجنايزي متروك (2) .
واحتجوا بما ورد عن علي بن الحسين أنه قال لقيِّمٍ له جَدَّ نخله بالليل :( ألم تعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن جداد الليل وصرام الليل أو قال حصاد الليل ) رواه البيهقي (3) .
واحتجوا بما ورد عن الحسن البصري أنه قال :[ نهي عن جذاذ الليل وحصاد الليل والأضحى بالليل ] رواه البيهقي وقال النووي : وهذا مرسل أو موقوف (4) .
القول الراجح :
الذي يظهر لي رجحان قول الجمهور بجواز ذبح الأضحية ليلاً لما يلي :
1. إن لفظ الأيام في قوله تعالى:} فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ { ، قد يتناول الليل والنهار ، كما في قوله تعالى :} تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ { سورة هود الآية 11 .
وقال تعالى في قصة زكريا عليه الصلاة والسلام :} ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا { سورة آل عمران الآية 41 . وقال تعالى في موضع آخر :} ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا { سورة مريم الآية 10 .
والقصة قصة واحدة .
والعرب قد تستعمل اليوم في الوقت مطلقاً ، أي لا يختص بالنهار دون الليل (5) .
ولو سلَّمنا أن اليوم في الآية يدل على النهار فقط ، لم يمنع الذبح بالليل إلا بنحو ضعيف من إيجاب دليل الخطاب وهو تعليق ضد الحكم بضد مفهوم الاسم وهذا النوع من أنواع دليل الخطاب وهو أضعفها (6) .
2. إن حديث ابن عباس المذكور لا يثبت ، حيث إن فيه متروكاً ، فلا يصلح دليلاً ،
وأما ما جاء عن علي بن الحسين فقد قال النووي : هذا مرسل (7) .
3. إن أثر الحسن البصري كما قال النووي مرسل أو موقوف (8) .
وقال البيهقي :[ إنما كان ذلك من شدة حال الناس ، كان الرجل يفعله ليلاً فنهي عنه ثم رخص فيه ] (9) .
4. إن كراهة الذبح ليلاً ،كما علَّلها القائلون بها خشية أن يخطئ في الذبح ، أو يؤذي نفسه غير موجودة في زماننا هذا ، نظراً لوسائل الإضاءة المتوفرة ولا خوف من فساد اللحم ، نظراً لوسائل التبريد المتوفرة فلا مانع من الذبح ليلاً .
المطلب الرابع : الذبح قبل صلاة العيد :
اتفق أهل العلم على أن من ذبح أضحيته قبل صلاة العيد ممن هو مخاطب بها ، أنها لا تجزئ ولا تعتبر أضحيةً ، وإنما هو لحم قدمه لأهله .
ويدل على ذلك أحاديث :
1. عن البراء - رضي الله عنه - قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال :( إن أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر ، فمن فعل هذا فقد أصاب سنتنا ، ومن نحر فإنما هو لحم يقدمه لأهله ليس من النسك في شيء .
فقال أبو بردة - رضي الله عنه - : يا رسول الله ذبحت قبل أن أصلي ، وعندي جذعة خير من مسنة.
فقال : اجعلها مكانها ولن تجزئ أو توفي عن أحد بعدك ) رواه البخاري ومسلم وقد مضى .
2. عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( من ذبح قبل الصلاة فليعدْ ) رواه البخاري ومسلم .
3. عن جندب بن سفيان البجلي - رضي الله عنه - قال :( شهدتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر فقال : من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى ، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله ) رواه البخاري ومسلم وقد مضى أيضاً.
4. وعن البراء - رضي الله عنه - قال :( ضحى خالي أبو بردة قبل الصلاة . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك شاة لحم … الحديث ) رواه البخاري ومسلم وقد مضى أيضاً .
المطلب الخامس: حكم الذبح بعد صلاة العيد ، وقبل أن يذبح إمام المسلمين أضحيته :
اختلف أهل العلم فيمن ذبح أضحيته بعد صلاة العيد ، وقبل أن يذبح الإمام أضحيته ، كما يلي :
القول الأول : قال جمهور الفقهاء من ذبح بعد صلاة العيد ، وقبل أن يذبح الإمام أضحيته فأضحيته جائزة ولا حرج في ذلك .
وهذا قول الحنفية والشافعية والحنابلة وأهل الظاهر (10) .
وحجتهم ما ورد في الأحاديث الكثيرة من تقييد وقت الأضحية بكونه بعد الصلاة كما في حديث أنس- رضي الله عنه - : ( من ذبح قبل الصلاة فليعد ) وقد مضى .
وفي حديث جندب - رضي الله عنه - :( من ذبح قبل أن يصلي فليعد ) .
وفي رواية عند البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - :( من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين ) وغير ذلك من الأحاديث .
__________
(1) الذخيرة 4/149 ، الاستذكار 15/206 ، تفسير القرطبي 12/44 .
(2) مجمع الزوائد 4/23 .
(3) سنن البيهقي 9/290 .
(4) سنن البيهقي 9/290 ، المجموع 8/388 .
(5) لسان العرب 15/466 ، تاج العروس 17/779 .
(6) بداية المجتهد 1/355 .
(7) المجموع 8/388 .
(8) المصدر السابق .
(9) المصدر السابق .
(10) بداية المجتهد 1/353 ، المجموع 8/389 ، شرح النووي على صحيح مسلم 5/96 ، بدائع الصنائع 4/211 ، كشاف القناع 3/9 ، نيل الأوطار 5/141 .(/44)
القول الثاني : قال المالكية من ذبح بعد صلاة الإمام وقبل ذبحه ؛ فلا تجزؤه ولا تعد أضحية (1) .
وحجة المالكية ما جاء في حديث البراء - رضي الله عنه - أن خاله أبا بردة قد ذبح أضحيته قبل أن يضحي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فأمره أن يعيد ، وما جاء في رواية أخرى لحديث البراء - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال :( لا يذبحنَّ أحدٌ حتى نصلي ) .
قال الحافظ ابن عبد البر :[ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر الذي ذبح قبله بالإعادة ، وقد أمر الله عز وجل عباده بالتأسي بنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وحذرهم من مخالفته ] (2) .
والراجح في المسألة قول الجمهور وأن الأضحية غير مرتبطة بأضحية الإمام ، فتصح الأضحية بعد صلاة العيد صلى الإمام أم لم يصلِ ضحى أم لم يضح .
المطلب السادس : أفضل وقت لذبح الأضحية :
اتفق أهل العلم على أن أفضل وقت لذبح الأضحية ، هو اليوم الأول وهو يوم الأضحى بعد فراغ الناس من الصلاة ، وبعد أن يذبح إمام المسلمين أضحيته ، إن كان للمسلمين إمام خروجاً من الخلاف .
هذا في البلاد التي تقام فيها صلاة العيد (3) .
وأما في البلاد التي لا تصلى فيها العيد ، لأي سبب من الأسباب ؛ فإن وقت الذبح يكون بعد ارتفاع الشمس بقدر رمح أو رمحين ، ويضاف إلى ذلك من الوقت ما يسع الصلاة والخطبة ، ويكون ذلك بعد ساعة من شروق الشمس على وجه التقريب والله أعلم .
فإن لم يذبح في اليوم الأول في الوقت المفضل ، وهو المذكور سابقاً ذبح في اليوم الثاني بعد الفجر إلى الزوال .
وكره الإمام مالك الذبح في اليوم الأول بعد الزوال إلى غروب الشمس .
وكذلك كره الذبح في اليومين الثاني والثالث بعد الزوال ، لشبه الأضحية بالصلاة من جهة ارتباطها بها والصلاة لا تفعل بعد الزوال (4).
المطلب السابع : إذا اشترى أضحية فضلَّت أو ماتت قبل أن يذبحها :
إذا اشترى شاة للتضحية بها ، فضَلَّت أو ماتت فلا شيء عليه إن شاء الله (5) ، فقد روى البيهقي بإسناده عن تميم بن حويص المصري قال :[ اشتريت شاة بمنى أضحية فضلَّت . فسألت ابن عباس رضي الله عنهما . فقال : لا يضرك ] (6) .
وهذا القول بناءً على أن الأضحية سنة كما سبق ترجيحه .
قال الإمام الشافعي :[ وإذا اشترى الرجل الضحية فأوجبها أو لم يوجبها فماتت أو ضلَّت أو سرقت فلا بدل عليه ] (7) .
ويرى الحنفية بأن الموسر إذا اشترى أضحية فضلَّت أو ماتت أو سرقت ، أنه يجب عليه أن يضحي بشاة أخرى (8) . وهذا بناءً على قولهم بوجوب الأضحية .
والذي يظهر لي رجحان القول الأول .
قال الإمام البيهقي :[ باب الرجل يشتري الأضحية فتموت أو تسرق أو تضل ] ثم ساق بإسناده عن نافع قال :[ كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: أيما رجل أهدى هدية فضلَّت فإن كانت نذراً أبدلها ، وإن كانت تطوعاً فإن شاء أبدلها وإن شاء تركها … ] .
ثم ذكر أثر ابن عباس رضي الله عنهما السابق .
ثم ساق بإسناده عن محمد بن القاسم :[ أن عائشة رضي الله عنها ساقت بدنيتن فضلَّتا ، فأرسل إليها ابن الزبير بدنيتين مكانهما فنحرتهما ، ثم وجدت الأوليين فنحرتهما أيضاً ، ثم قالت هكذا السنة في البدن ] (9) .
المطلب الثامن : إذا فات وقت الأضحية ولم يضح ، فماذا يترتب على من أراد الأضحية ؟
قال الحنفية والمالكية إذا فات وقت الأضحية ولم يضح فإنها تقضى .
وقال الشافعية والحنابلة تقضى الأضحية المنذورة فقط ؛ فإذا فات وقتها ذبحها (10) .
قال الكاساني :[ … تقضى إذا فاتت عن وقتها … لما قلنا ] (11) .
وقال الشيخ ابن قدامة :[ إذا فات وقت الذبح ، ذبح الواجب قضاءً ، وصنع به ما يصنع بالمذبوح في وقته ] (12) .
وأما الأضحية المسنونة ، فصاحبها مخيرٌ فيها ، فإن فرَّق لحمها كانت صدقة ، وليست أضحية ، لأنها شاة لحم ، والأضحية قد فاتته .
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي :[ فإن لم يضح حتى مضت أيام التشريق ، نظرت فإن كان ما يضحي به تطوعاً ، لم يضح لأنه ليس وقت لسنة الأضحية ، وإن كان نذراً لزمه أن يضحي ؛ لأنه قد وجب عليه فلم يسقط بفوات الوقت ] (13) .
والذي يظهر لي أن الراجح : هو ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة ، أن الأضحية المنذروة إذا فات وقتها قضاها ، بمعنى ذبحها وصنع فيها كما يصنع في الأضحية في الوقت .
__________
(1) الذخيرة 4/194 ، الشرح الكبير 2/120 ، القوانين الفقهية ص125 .
(2) الاستذكار 15/147-148 .
(3) بدائع الصنائع 4/223 ، الذخيرة 4/150 .
(4) الذخيرة 4/150 .
(5) الحاوي 15/110 ، المغني 9/454 ، تفسير القرطبي 6/41 .
(6) سنن البيهقي 9/289 .
(7) الأم 2/225 .
(8) انظر بدائع الصنائع 4/199 .
(9) سنن البيهقي 9/289 .
(10) بدائع الصنائع 4/202 ، المهذب 8/387 ، تفسير القرطبي 6/41 ، المغني 9/454 ، الحاوي 15/111 .
(11) بدائع الصنائع 4/202 .
(12) المغني 9/454 .
(13) المهذب 8/387 .(/45)
وأما المسنونة ، فإن فات الوقت ، فهو بالخيار إن شاء ذبحها ، وكانت شاة لحم ، وتصدق بما شاء منها ، وإن شاء حبسها للعام التالي ، فإن ذبحها في العام التالي كانت أضحية عن ذلك العام الذي ذبح فيه ، ولم تكن عن العام السابق الذي فاتت فيه والله أعلم .
المبحث الثالث
ما يطلب من المضحي عند الذبح وبعده
المطلب الأول : ما يطلب من المضحي عند الذبح :
أولاً : النية : أن ينوي عند شراء البهيمة أنها أضحية ، وهذه النية تكفي إن شاء الله . ولا بدَّ من النية ، لأن الأضحية عبادة ، والعبادة لا تصح إلا بالنية ، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) متفق عليه (1) .
والنية لا بد منها حتى نميز العمل الذي هو لله تعالى عن غيره ومن ذلك الأضحية .
قال الإمام القرافي تحت عنوان " فيما يفتقر إلى النية الشرعية " :[ … الأوامر التي لا تكون صورتها كافية في تحصيل مصلحتها المقصودة منها ، كالصلوات والطهارات والصيام والنسك ، فإن المقصود منها تعظيم الرب سبحانه وتعالى ، بفعلها والخضوع له في إتيانها وذلك إنما يحصل إذا قصدت من أجله سبحانه وتعالى ، فإن التعظيم بالفعل بدون قصد المعظم محال ، كمن صنع ضيافة لإنسان ، فانتفع بها غيره من غير قصد ، فإنا نجزم بأن المُعَظَّمَ الذي قُصِدَ بالكرامة ، دون من انتفع بها من غير قصد ، فهذا القسم هو الذي أمر فيه صاحب الشرع بالنية ] (2) .
وقال د. عمر الأشقر مبيناً أن النية تميز العبادات عن العادات :[ … الضحايا والهدايا : كما كان ذبح الذبائح في الغالب لغير الله ، من ضيافة الضيفان ، وتغذية الأبدان ، ونادر أحواله أن يُفْعَلَ تقرباً إلى الملك الديان . شُرِطت فيه النية تمييزاً لذبح القربة عن الذبح للاقتيات والضيافات ، لأن تطهير الحيوان بالذكاة كتطهير الأعضاء بالمياه من الأحداث تارة يكون لله ، وتارة يكون لغير الله ، فالنية واجبة كي يتميز الذي لله عما عداه ] (3) .
وقد نص الفقهاء على اشتراط النية في الأضحية .
قال الكاساني :[ فمنها نية الأضحية لا تجزئ بدونها لأن الذبح قد يكون للحم وقد يكون للقربة ، والفعل لا يقع قربة بدون النية … فلا تتعين الأضحية إلا بالنية ] (4) .
وتكفي النية بالقلب ولا يشترط التلفظ باللسان ، قال الكاساني :[ ويكفيه أن ينوي بقلبه ، ولا يشترط أن يقول بلسانه ما نوى بقلبه ، كما في الصلاة ؛ لأن النية عمل القلب والذكر باللسان دليل عليها ] (5) .
والصحيح أن التلفظ بالنية بدعة مخالفة لهدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .
ولو ذبحها غير صاحبها فلا يشترط أن يتلفظ بالنية عن صاحبها.
قال الشيخ ابن قدامة معلقاً على قول الخرقي :( وليس عليه أن يقول عند الذبح " عمَّن " لأن النية تجزئ ).
[ لا أعلم خلافاً في أن النية تجزئ ، وإن ذكر من يضحي عنه فحسن ] (6) .
وقال الشيخ القرافي :[ لو نوى الوكيل عن نفسه أجزأت صاحبها ، وقد اشترى ابن عمر رضي الله عنه شاة من راع فأنزلها من الجبل ، وأمره بذبحها فذبحها الراعي ، وقال : اللهم تقبل مني . فقال ابن عمر : ربك أعلم بمن أنزلها من الجبل ] (7) .
ثانياً : ربط الأضحية قبل الذبح : استحب (8) فقهاء الحنفية أن تربط الأضحية قبل أيام النحر , لما فيه من الاستعداد للقربة وإظهار الرغبة فيها ، فيكون له فيها أجر وثواب ؛ لأن ذلك يشعر بتعظيم هذه الشعيرة قال الله تعالى :} ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ { سورة الحج الآية 32 .
ثالثاً : أن يسوق الأضحية إلى محل الذبح سوقاً جميلاً لا عنيفاً (9) ، فقد روى عبد الرزاق بسنده عن محمد بن سيرين قال :[ رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلاً يسحب شاة برجلها ليذبحها فقال له : ويلك ! قدها إلى الموت قوداً جميلاً ] (10) ورواه البيهقي ، وذكره الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (11) .
رابعاً : أن يحد السكين قبل الذبح (12) ، لأن المطلوب إراحة الحيوان بأسرع وقت ممكن، وهذا من الإحسان الذي ذكره الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الحديث عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ) رواه مسلم .
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح 1/13 ، صحيح مسلم بشرح النووي 5/48 .
(2) الأمنية في إدراك النية ص27-28 .
(3) مقاصد المكلفين ص70 .
(4) بدائع الصنائع 4/208 ، وانظر الحاوي 15/99 فما بعدها ، الذخيرة 4/156 ، المغني 9/446 ، المجموع 8/423 .
(5) بدائع الصنائع 4/208 .
(6) المغني 9/456-457 .
(7) الذخيرة 4/156 .
(8) بدائع الصنائع 4/219 .
(9) المجموع 9/81 ، بدائع الصنائع 4/219 .
(10) المصنف 4/493 .
(11) سنن البيهقي 9/281 ، السلسلة الصحيحة 1/36 .
(12) بدائع الصنائع 4/223 ، المجموع 8/408 ، 9/81 .(/46)
خامساً : أن لا يحد السكين أمام الحيوان الذي يريد ذبحه (1) ، لأن ذلك من الإحسان المأمور به كما جاء في الحديث السابق .
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أن رجلاً أضجع شاة وهو يحد شفرته فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :( أتريد أن تميتها موتات ؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها ؟ ) رواه الحاكم وقال : صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي ، ورواه عبد الرزاق والبيهقي وصححه الشيخ الألباني (2) .
وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بحد الشفار وأن توارى عن البهائم وقال :( إذا ذبح أحدكم فليجهز ) رواه أحمد والبيهقي وابن ماجة وفيه ابن لهيعه وهو ضعيف ، ولكن يشهد له ما سبق من حديث شداد وحديث ابن عباس (3) .
وعن عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب أن رجلاً حدَّ شفرته وأخذ الشاة ليذبحها فضربه عمر بالدرة وقال :[ أتعذب الروح ؟! ألا فعلت هذا قبل أن تأخذها ] رواه البيهقي (4) .
سادساً : يستحب إضجاع الغنم والبقر في الذبح ، وأنها لا تذبح وهي قائمة ولا باركة بل مضجعة ، لأنه أرفق بها ، وتضجع على جانبها الأيسر لأنه أسهل في الذبح ، وأخذ السكين باليمين وإمساك رأسها باليسار .
وأما الإبل فالسنة أن تنحر قائمةً على ثلاث قوائم معقولة الركبة اليسرى .
وقد صح عن جابر - رضي الله عنه - :( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمةً على ما بقي من قوائمها ) رواه أبو داود (5) بإسناد صحيح على شرط مسلم ، قاله الإمام النووي (6) .
وقد ثبت في الحديث عن زياد بن جبير قال :[ رأيت ابن عمر رضي الله عنهما أتى على رجل أناخ بدنته ينحرها . قال : ابعثها قياماً مقيدةً سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ] رواه البخاري
ومسلم (7) .
وقال بعض أهل العلم يستوي نحرها قائمةً وباركةً في الفضيلة (8). والحديث حجة عليهم .
سابعاً : استقبال القبلة من الذابح والذبيحة : يستحب أن يستقبل الذابح القبلة وأن يوجه مذبح الحيوان إلى القبلة .
قال الإمام النووي :[ استقبال الذابح القبلة وتوجيه الذبيحة إليها، وهذا مستحب في كل ذبيحة ، لكنه في الهدي والأضحية أشد استحباباً ، لأن الاستقبال في العبادات مستحب وفي بعضها واجب ] (9) .
ويدل على ذلك ما جاء في الحديث عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال :( ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجوئين ، فلما وجههما قال : إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض على ملة إبراهيم حنيفاً ، وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي ، لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت ، وأنا من المسلمين ، اللهم منك ولك ، وعن محمد وأمته باسم الله والله أكبر ثم ذبح ) رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد والدارمي ، وصححه الشيخ الألباني والشاهد في الحديث قوله ( فلما وجههما ) أي نحو القبلة (10) .
وجاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( ضحوا وطيبوا أنفسكم ، فإنه ما من مسلم يستقبل بذبيحته القبلة إلا كان دمها وفرثها وصوفها حسنات في ميزانه يوم القيامة ) رواه البيهقي وقال : وإسناده ضعيف (11) .
وجاء عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال :[ ليجعل أحدكم ذبيحته بينه وبين القبلة ثم يقول :
من الله وإلى الله والله أكبر اللهم منك ولك اللهم تقبل ] قال الإمام النووي : رواه البخاري بمعناه (12) ، ولم أقف عليه في صحيح البخاري .
ثامناً : أن يتولى ذبحها بنفسه إن كان يحسن الذبح ، وإلا شهد ذبحها (13) ، ومما يدل على استحباب تولي الإنسان أضحيته بنفسه ، ما جاء في حديث أنس - رضي الله عنه - :( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين أقرنين أملحين ، وكان يسمي ويكبر ، ولقد رأيته يذبحهما بيده واضعاً رجله على صفاحهما ) رواه البخاري ومسلم وقد مضى .
قال الإمام البخاري في صحيحه [ باب من ذبح الأضاحي بيده ] ثم ذكر فيه حديث
__________
(1) بدائع الصنائع 4/190 ، المجموع 9/81 .
(2) المصنف 4/393 ، المستدرك 4/257 ، سنن البيهقي 9/280 ، السلسلة الصحيحة 1/32 .
(3) الفتح الرباني 17/151 ، سنن البيهقي 9/280 ، سنن ابن ماجة 2/1059 .
(4) سنن البيهقي 9/280-281 .
(5) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 5/128-129 .
(6) شرح النووي على صحيح مسلم 3/438-439 .
(7) صحيح البخاري مع الفتح 4/301 ، صحيح مسلم بشرح النووي 3/438 .
(8) فتح الباري 4/301 ، شرح النووي على صحيح مسلم 3/439 .
(9) المجموع 8/408 ، وانظر بدائع الصنائع 4/221 ، الفتح الرباني 13/68 .
(10) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 7/351 ، سنن ابن ماجة 2/1043 ، الفتح الرباني 13/62 ، إرواء الغليل 4/349 .
(11) سنن البيهقي 9/285 .
(12) المجموع 8/408 .
(13) المجموع 8/405 ، بدائع الصنائع 4/221 ، الذخيرة 4/155 ، تبيين الحقائق 6/9 ، فتح باب العناية 3/78 ، كشاف القناع 3/8 ، المحلى 6/44 ، فتح الباري 12/114 .(/47)
أنس - رضي الله عنه - السابق ، ثم ذكر في الباب الذي يليه [ وأمرَ أبو موسى بناته أن يضحين
بأيديهن . ثم قال الحافظ : وصله الحاكم في المستدرك .
ووقع لنا بعلو في خبرين كلاهما من طريق المسيب بن رافع أن أبا موسى كان يأمر بناته أن يذبحن نسائكهن بأيديهن وسنده صحيح (1) .
ويجوز لمن أراد الأضحية أن ينيب غيره في ذبحها كما سيأتي .
فإن أناب عنه فيستحب له أن يشهد ذبحها لما ورد في حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة رضي الله عنها :( قومي لأضحيتك فاشهديها فإنه بأول قطرة من دمها يغفر لك ما سلف من ذنبك ) رواه البيهقي والحاكم (2) .
وقال الهيثمي :[ رواه البزار وفيه عطية بن قيس وفيه كلام كثير وقد وثق ] (3) .
وروى البيهقي بإسناده عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة رضي الله عنها :( يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك أما إن لك بأول قطرة تقطر من دمها مغفرة لكل ذنب، أما إنه يجاء بها يوم القيامة بلحومها ودمائها سبعين ضعفاً حتى توضع في ميزانك .
فقال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - : يا رسول الله أهذه لآل محمد خاصة فهم أهل لما خصوا به من خير ، أو لآل محمد والناس عامة .
فقال رسول الله : بل هي لآل محمد وللناس عامة ) رواه البيهقي ، وقال عمرو بن خالد ضعيف (4) .
ورواه أبو القاسم الأصبهاني في كتاب الترغيب والترهيب ، وأبو الفتح سليم بن أيوب الفقيه الشافعي في كتاب الترغيب ، وقال الحافظ المنذري : وقد حسن بعض مشايخنا حديث علي هذا والله أعلم (5) .
وروى البيهقي بإسناده عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال :( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك ، فإنه يغفر لك بأول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه ، وقولي : إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له ، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين .
قلت : يا رسول الله هذا لك ولأهل بيتك خاصة فأهل ذلك أنتم أم للمسلمين عامة .
قال : بل للمسلين عامة ) ورواه الحاكم وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
وتعقبه الذهبي قائلاً :[ بل أبو حمزة ضعيف جداً وإسماعيل ليس بذاك ] (6) .
وهذه الأحاديث ، وإن كان كل واحد منها لا يخلو من مقال ، فإن بعضها يقوي بعضاً فتصلح للاستشهاد .
تاسعاً : التسمية والتكبير عند الذبح (7) :
ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذبح قال :( باسم الله والله أكبر ) كما جاء ذلك في رواية لحديث أنس - رضي الله عنه - عند مسلم :( قال: ويقول باسم الله والله أكبر ).
وثبت في رواية أخرى من حديث أنس قال :( ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمَّى وكبر … ) الحديث رواه البخاري ومسلم وقد مضى .
عاشراً : الدعاء والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التسمية والتكبير (8) :
أما الدعاء كأن يقول : اللهم تقبل مني ، أو يقول اللهم تقبل من فلان ، فهذا مشروع ومستحب ، لما ثبت في الحديث عن عائشة رضي الله عنها : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بكبش يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد فأتي به ليضحي به فقال لها : يا عائشة هلمي المدية ، ثم قال : اشحذيها بحجر . ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال: باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ثم ضحى به ) رواه مسلم وقد مضى .
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال :( ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجوئين فلما وجههما قال : إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض على ملة إبراهيم حنيفاً وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين اللهم منك ولك وعن محمد وأمته باسم الله والله أكبر ثم ذبح ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد والدارمي ، وأخرجه أبو يعلى بسند حسن وقد مضى .
وأما الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال الإمام النووي :[ يستحب مع التسمية على الذبيحة أن يصلي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الذبح نص عليه الشافعي في الأم ] (9) .
__________
(1) صحيح البخاري مع فتح الباري 12/114-115 .
(2) سنن البيهقي 9/283 ، المستدرك 4/247 .
(3) مجمع الزوائد 4/17 ، وانظر الترغيب والترهيب 2/154 .
(4) سنن اليهقي 9/283 .
(5) الترغيب والترهيب 2/155 ، وانظر نصب الراية 4/220 .
(6) المستدرك 4/247 .
(7) بدائع الصنائع 4/221 ، المغني 9/456 ، المجموع 8/408 .
(8) المغني 9/456 ، بدائع الصنائع 4/221 ، كشاف القناع 3/7 ، شرح الآبي على صحيح مسلم 5/297 .
(9) المجموع 8/410 .(/48)
وكلام الإمام الشافعي هو :[ والتسمية على الذبيحة باسم الله فإذا زاد على ذلك شيئاً من ذكر الله عز وجل ، فالزيادة خير ولا أكره مع تسميته على الذبيحة أن يقول : صلى الله عليه وسلم ، بل أحبه له ، وأحب له أن يكثر الصلاة عليه فصلى الله عليه في كل الحالات لأن ذكر الله عز وجل والصلاة عليه ، إيمان بالله تعالى ، وعبادة له يؤجر عليها إن شاء الله تعالى … ] (1) .
وقال الشافعي أيضاً :[ ولسنا نعلم مسلماً ولا نخاف عليه أن تكون صلاته عليه - صلى الله عليه وسلم - إلا الإيمان بالله ولقد خشيت أن يكون الشيطان أدخل على بعض أهل الجهالة النهي عن ذكر اسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الذبيحة ليمنعهم الصلاة عليه في حال لمعنى يعرض في قلوب أهل الغفلة وما يصلي عليه أحد إلا إيماناً بالله عز وجل وإعظاماً له وتقرباً إليه - صلى الله عليه وسلم - وقربنا بالصلاة عليه منه زلفى ، والذكر على الذبائح كلها سواء ، وما كان منها نسكاً فهو كذلك ] (2) .
وقد مال إلى قول الشافعي العلامةُ ابن القيم فذكر أن من مواطن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الذبيحة ، وذكر كلام الإمام الشافعي المذكور أولاً (3) .
وخالف الجمهورُ الإمامَ الشافعيَّ في هذه المسألة ، فرأوا أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مشروعة في هذا الموطن ، وعلَّل بعضهم ذلك بأن قال : لأن فيه إيهام الإهلال لغير الله .
وقال آخرون إنها ليست مشروعة لعدم ورود النصوص في ذلك (4) .
وجاء في الأثر عن إبراهيم النخعي قال :[ إذا جزرت فلا تذكر مع اسم الله سواه ] (5)
وهذا أرجح القولين في المسألة عندي .
الحادي عشر : الاستعانة في ذبح الأضحية والإنابة في ذبحها :
يجوز لمن أراد أن يذبح أضحيته أن يستعين بغيره ، ويدل على ذلك ما جاء في الحديث عن أبي الخير :( أن رجلاً من الأنصار حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أضجع أضحيته ليذبحها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : للرجل أعنِّي على أضحيتي فأعانه ) رواه أحمد ، وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح . وقال الحافظ ابن حجر : ورجاله ثقات (6) .
وذكر الإمام البخاري تعليقاً :[ وأعان رجل ابن عمر في بدنته ] .
وقال الحافظ ابن حجر :[ أي عند ذبحها ، وهذا وصله عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال : رأيت ابن عمر ينحر بدنة بمنى وهي باركة معقولة ورجل يمسك بحبل في رأسها وابن عمر يطعن ] (7) .
وأما الإنابة في ذبح الأضحية فجائزة ، وينبغي أن يوكل في ذبحها صاحب دين له معرفة بالذبح وأحكامه .
قال القرافي :[ كان الناس يتخيرون لضحاياهم أهل الدين ؛ لأنهم أولى بالتقرب ، فإن وكَّل تارك صلاة استحب له الإعادة للخلاف في حل ذكاته ] (8) .
ولا ينبغي أن يوكل فاسقاً في ذبحها ، ولا ذمياً ، فإن فعل جاز مع الكراهة على قول جمهور أهل العلم (9) .
قال الخرقي :[ ولا يستحب أن يذبح الأضحية إلا مسلم ] .
وقال الشيخ ابن قدامة شارحاً لذلك :[ وجملته أنه يستحب أن لا يذبح الأضحية إلا مسلم ، لأنها قربة فلا يليها غير أهل القربة ، وإن استناب ذمياً في ذبحها جاز مع الكراهة ، وهذا قول الشافعي وأبي ثور وابن المنذر .
وحكي عن أحمد : لا يجوز أن يذبحها إلا مسلم ، وهذا قول مالك ، وممن كره ذلك علي وابن عباس وجابر رضي الله عنهم وبه قال الحسن وابن سيرين .
وقال جابر : لا يذبح النسك إلا مسلم .
… ولنا أن من جاز له ذبح غير الأضحية جاز له ذبح الأضحية كالمسلم .
ويجوز أن يتولى الكافر ما كان قربة للمسلم ، كبناء المساجد والقناطر … والمستحب أن يذبحها المسلم ليخرج من الخلاف ] (10) .
قلت وهذا هو الصواب فلا ينبغي أن يذبح النسك إلا مسلم من أهل الدين .
وقد ورد عن علي - رضي الله عنه - أنه قال :[ لا يذبح نسيكة المسلم اليهودي والنصراني ] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كره أن يذبح نسيكة المسلم اليهوديُ والنصرانيُ .
وعن ابن عباس أيضاً رضي الله عنهما أنه قال :[ لا يذبح أضحيتك إلا مسلم ، وإذا ذبحت فقل باسم الله اللهم منك ولك ، اللهم تقبل من فلان ] (11) .
تنبيه هام :
__________
(1) الأم 2/239 .
(2) الأم 2/240 .
(3) جلاء الأفهام ص242 .
(4) شرح الآبي على صحيح مسلم 5/296 ، الفتح الرباني 13/68 ، جلاء الأفهام ص242 ، الأم 2/240 .
(5) الآثار ص62 .
(6) الفتح الرباني 13/65 ، مجمع الزوائد 4/25 ، فتح الباري 12/115 .
(7) صحيح البخاري مع الفتح 12/115 ، وانظر عمدة القاري 21/155 .
(8) الذخيرة 4/155 .
(9) المجموع 8/407 ، المغني 9/455 ، تبيين الحقائق 6/9 ، المحلى 6/44 ، الذخيرة 4/155 ، الحاوي 15/91-92 ، الاختيار 5/20 ، بدائع الصنائع 4/200 ، فتح باب العناية 3/79 .
(10) المغني 9/455 .
(11) روى هذه الآثار البيهقي في سننه 9/284 .(/49)
ينبغي أن يعلم أن بعض المسلمين من الموسرين من دول الخليج العربي وأوروبا وأمريكا ، يوكلون لجان الزكاة في بلادنا في التضحية عنهم ، ويدفعون أثمان الأضاحي لدى بعض الجمعيات الخيرية في بلادهم ، ثم تنقل هذه المبالغ إلى لجان الزكاة في فلسطين ، والتي تتولى شرائها ، ومن ثم ذبحها وتوزيعها على الناس ، ولا بد هنا من بيان بعض الأمور التي يجب أن تتنبه لها لجان الزكاة :
أولاً : يجب أن تكون الأضحية مستكملة للشروط الشرعية، ولذا يجب إعلام أمثال هؤلاء الناس قبل وقت الأضحية بثمن الضحايا في بلادنا ، لأن أسعارها تختلف من بلد إلى آخر ، فيمكن أن نشتري أضحية مجزئة بثمانين ديناراً في عمان ، ونحتاج إلى ضعف هذا المبلغ في فلسطين لشراء أضحية مجزئة . ولا يصح أن نشتري أضاحي غير مستكملة للشروط الشرعية ، بحجة أن المبلغ الذي دفع لا يشترى به أضحية مستكملة للشروط . ولا يجوز جمع المبالغ القليلة لشراء شاة واحدة ، لأن الاشتراك في الشاة لا يصح .
ثانياً : لا بد من الالتزام بذبح هذه الأضاحي في الوقت المقرر شرعاً ، وإن تأخر وصول أثمان الأضاحي من الخارج ، لا يعتبر عذراً في ذبح الأضاحي بعد مضي وقتها المقرر شرعاً فإن حصل ذلك فلا تعد أضحية .
وإن لم يتم ذبحها في الوقت المقرر شرعاً فيجب إعلام الذين دفعوا ثمنها أنه لم يتم التضحية عنهم .
ثالثاً : يجب الالتزام بتوزيع تلك الأضاحي على الفقراء والمحتاجين أولاً لأن الغالب في الناس الذين يبعثون بأثمان الأضاحي أنهم يقصدون التصدق بها على الفقراء والمحتاجين فلذلك فإني أكره أن يُعطى الأغنياء منها .
المطلب الثاني : ما يكره أن يفعله المضحي بالأضحية قبل ذبحها :
أولاً : حلب الأضحية :
اختلف الفقهاء في حكم حلب الأضحية وشرب لبنها كما يلي :
1. قال الحنفية يكره تحريماً ، حلب الشاة أو البدنة أو البقرة التي اشتريت للأضحية ، لأنه عيَّنَها للقربة ؛ فلا يحلُ له الانتفاع بجزء من أجزائها ، قبل إقامة القربة فيها ، ولأن الحلب يوجب نقصاً فيها ، وهو ممنوعٌ من إدخال النقص في الأضحية .
فإن حلبها تصدق باللبن ؛ لأنه جزء من شاة متعينة للقربة ، وهذا قول ابن القاسم من
المالكية (1) .
2. وقال المالكية يكره تنزيهاً أن يحلبها وأن يشرب لبنها (2) .
3. وقال الشافعية والحنابلة : يجوز أن يشرب من لبنها ما فضل عن ولدها ، وبه قال أشهب من المالكية (3) .
قال ابن قدامة :[ ولا يشرب من لبنها إلا الفاضل عن ولدها ، فإن لم يفضل شيء ، أو كان الحليب يضر بها أو ينقص لحمها ،لم يكن – له - أخذه وإن لم يكن كذلك فله أخذه والانتفاع به ] (4) .
ويدل لقول الشافعية والحنابلة ، ما رواه البيهقي عن مغيرة بن حذف العبسي قال :[ كنا مع علي - رضي الله عنه - بالرحبة ، فجاء رجل من همدان يسوق بقرة معها ولدها فقال : إني اشتريتها لأضحي بها وإنها ولدت . قال : فلا تشرب من لبنها إلا فضلاً عن ولدها ، فإذا كان يوم النحر فانحرها هي وولدها عن سبعة ] (5) .
وقالوا : إنه انتفاع لا يضرها ، وإن ترك اللبن بعد حلبه يؤدي إلى فساده ، وإن لم يحلبها فقد يضر بها ، فيجوز له الحلب والشرب وإن تصدق به فهو حسن (6) .
ويرى ابن حزم الظاهري أنه يجوز شرب لبنها وبيعه ولا حرمة في ذلك (7) .
ثانياً : جز صوفها :
قال ابن قدامة :[ وأما صوفها فإن كان جزه أنفع لها ، مثل أن يكون في زمن الربيع تخف بجزه وتسمن ، جاز جزه ويتصدق به .
وإن كان لا يضر بها ، لقرب مدة الذبح ، أو كان بقاؤه أنفع لها ، لكونه يقيها الحر والبرد لم يجز له أخذه ] (8) .
وقول الشافعية قريب من قول الحنابلة .
وأما الحنفية والمالكية فقولهم في جز الصوف كقولهم في اللبن كما سبق (9) .
ويرى ابن حزم أنه يجوز جز صوفها ولا حرج في ذلك (10) .
ثالثاً : حكم ولدها :
إذا اشترى شاة أو ناقة أو بقرة عشراء للأضحية ، فولدت قبل وقت الذبح ، فماذا يصنع بولدها ؟
قال الحنفية : إن ولدت الأضحية ولداً يذبح ولدها مع الأم ، وإن باعه يتصدق بثمنه ؛ لأن الولد يتبع أمه في الصفات الشرعية .
وقال القدوري من الحنفية :[ يجب ذبح الولد ، ولو تصدق به جاز ، لأن الحق لم يَسْرِ إليه ولكنه متعلق به كجلالها وخطامها ، فإن ذبحه تصدق بقيمته ، وإن باعه تصدق بثمنه ] .
__________
(1) بدائع الصنائع 4/219-220 ، القوانين الفقهية ص127 .
(2) الشرح الكبير 2/122 ، الذخيرة 4/154 .
(3) روضة الطالبين 2/494 ، الحاوي 15/108 ، المغني 9/445 ، كشاف القناع 3/12 ، القوانين الفقهية ص128 .
(4) المغني 9/445 .
(5) سنن البيهقي 9/288 .
(6) انظر المغني 9/446 ، وانظر كشاف القناع 3/12 .
(7) المحلى 6/38 .
(8) المغني 9/446 .
(9) الحاوي 15/109 ، بدائع الصنائع 4/221 ، الشرح الكبير 2/122 ، الذخيرة 4/154 .
(10) المحلى 6/38 .(/50)
وقال بعض الحنفية : إن صاحبه بالخيار إن شاء ذبحه أيام النحر وأكل منه كالأم ، وإن شاء تصدق به ، فإن أمسك الولد حتى مضت أيام النحر تصدق به ، لأنه فات ذبحه (1).
وقال المالكية : إذا ولدت الأضحية فحسن ذبح ولدها معها من غير وجوب (2) ،
سواء كانت الأضحية منذورة أو غير منذورة ، على الصحيح عند المالكية (3) .
وأما الشافعية ، فقد قال الإمام الشافعي : فإن ولدت الأضحية ذبح معها ولدها .
قال الماوردي : وهذا صحيح إذا أوجب أضحية حاملاً فولدت ، أو كانت حائلاً فحبلت ثم ولدت كان ولدها تبعاً لها في الأضحية وعليه أن يذبحهما معاً ] (4) .
وقال الحنابلة : وإن ولدت ذبح ولدها هكذا قال الخرقي .
وقال ابن قدامة :[وجملته أنه إذا عين أضحية فولدت ، فولدها تابع لها ، حكمه حكمها ، سواء كان حملاً حين التعيين أو حدث بعده … يذبحه كما يذبحها ، لأنه صار أضحية على وجه التبع لأمه ، ولا يجوز ذبحه قبل يوم النحر ولا تأخيره عن أيامه كأمه ] (5).
ويرى ابن حزم الظاهري أن الأضحية إذا ولدت ، فصاحبها بالخيار إن شاء أمسك ولدها وإن شاء باعه وإن شاء ذبحه (6) .
والذي أميل إليه في هذه المسائل الثلاث – لبن الأضحية وجز صوفها وولدها – أنه يحسن التصدق بكل ذلك ، فإذا حلبها تصدق بلبنها ، وإذا جز صوفها تصدق به ، وإذا ولدت تصدق بولدها ، إن شاء حياً ، وإن شاء ذبحه وتصدق به .
فالأضحية قربة لله عز وجل ، فما نتج عنها وما انفصل عنها فهو كذلك .
ويدل على ذلك الأثر السابق عن علي - رضي الله عنه - فقد احتج به أرباب المذاهب وهو ما رواه البيهقي وسعيد بن منصور أن علياً - رضي الله عنه - قال للرجل الذي كان يسوق بقرة ومعها ولدها فقال :[ إني أشتريها لأضحي بها وإنها ولدت . قال : فلا تشرب من لبنها إلا فضلاً عن ولدها ، فإذا كان يوم النحر ، فانحرها هي وولدها عن سبعة ] وإسناده حسن (7) .
وروى ابن حزم عن عطاء فيمن اشترى أضحية أن له أن يجز صوفها .
وأمره الحسن البصري إن فعل أن يتصدق به (8) .
المبحث الرابع
الانتفاع بالأضحية
المطلب الأول : الانتفاع بالأضحية المسنونة :
أولاً : الأكل منها :
ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأكل من الأضحية مندوب .
وقال أهل الظاهر إن الأكل من الأضحية فرض وهو قول أبي الطيب بن سلمة من الشافعية (9) .
قال ابن حزم :[ وفرض على كل مضح ٍ أن يأكل من أضحيته ولا بد ، ولو لقمة فصاعداً ] (10) .
واستدل ابن حزم بقوله تعالى :} فَكُلُوا منْهَا { سورة الحج الآية 28 .
وروى ابن حزم بإسناده عن إبراهيم النخعي قال :[ سافر معي تميم بن سلمة فلما ذبحنا أضحيته فأخذ منها بضعة فقال : آكلها ؟ فقلت له : وما عليك أن لا تأكل منها ؟ فقال تميم : يقول الله تعالى :} فَكُلُوا منْهَا { فتقول أنت : وما عليك أن لا تأكل ] .
قال أبو محمد – ابن حزم - :[ حمل هذا الأمر تميمٌ على الوجوب . وهذا الحق الذي لا يسع أحداً سواه . وتميم من أكابر أصحاب ابن مسعود ] (11) .
وأما جمهور أهل العلم فقد استدلوا بما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( … فكلوا وادخروا وتصدقوا ) متفق عليه .
وما ورد في حديث جابر - رضي الله عنه - أنه عليه الصلاة والسلام قال :( … كلوا وتزودوا ) رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية أخرى عند مسلم :( … كلوا وتزودوا وادخروا ) (12) .
وقد حمل الجمهور الأوامر في هذه الأحاديث على الندب ؛ لأن الأمر فيها جاء بعد الحظر فيحمل على الندب أو الإباحة .
قال الحافظ ابن عبد البر :[ وأما قوله :( فكلوا وتصدقوا وادخروا ) فكلام خرج بلفظ الأمر ، ومعناه الإباحة لأنه أمر ورد بعد نهي ، وهكذا شأن كل أمر يرد بعد حظر أنه إباحة لا إيجاب ] (13) .
وأما مقدار الأكل فقال الحنفية والحنابلة : يأكل ثلثها ويهدي ثلثها ويتصدق بثلثها .
ولو أكل أكثر من الثلث جاز (14) .
وجاء عن الشافعي أنه يستحب قسمتها أثلاثاً لقوله :( كلوا وتصدقوا وأطعموا ) (15) .
واحتج ابن قدامة بما ورد عن ابن عباس في صفة أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :[ ويطعم أهل بيته الثلث ، ويطعم فقراء جيرانه الثلث ، ويتصدق على السؤَّال بالثلث ] رواه الحافظ
__________
(1) بدائع الصنائع 4/220 .
(2) الذخيرة 4/154 .
(3) شرح الخرشي 3/40 ، القوانين الفقهية ص127 .
(4) الأم 2/224 ، الحاوي 15/107-108 ، وانظر روضة الطالبين 2/493 .
(5) المغني 9/445 .
(6) المحلى 6/38 .
(7) تقرير القواعد وتحرير الفوائد 2/183 .
(8) المحلى 6/39 .
(9) المغني 9/448 ، المجموع 8/414 ، تبيين الحقائق 6/8 ، الشرح الكبير 2/122 ، الذخيرة 4/158 ، بدائع الصنائع 4/223 ، فتح الباري 12/123 ، المحلى 6/48 ، الحاوي 15/117 .
(10) المحلى 6/48 .
(11) المحلى 6/50 .
(12) سيأتي تخريج هذه الأحاديث في مبحث ادخار لحوم الأضاحي .
(13) الاستذكار 15/173 .
(14) المجموع 8/415 ، المغني 9/448 ، بدائع الصنائع 4/223 ، الحاوي 15/117 ، فتح الباري 12/123 .
(15) فتح الباري 12/123 .(/51)
أبو موسى الأصفهاني في الوظائف ، وقال : حديث حسن (1) .
وقالوا لأنه قول ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ، ولم نعرف لهما مخالفاً من الصحابة ، فكان إجماعاً كما قال ابن قدامة (2) .
ومن أهل العلم من استحب أن يأكل نصفاً ويطعم نصفاً (3) ، لقول الله تعالى في الهدايا
:} فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ { سورة الحج الآية 36 .
وأما الإمام مالك فلم يحد في ذلك شيئاً ويقول : يأكل ويتصدق .
والدليل على أنه لا تحديد في المسألة ، بل الأمر على الاستحباب ، حديث ثوبان - رضي الله عنه - قال :
( ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحيته ثم قال : يا ثوبان أصلح لحم هذه الأضحية . قال : فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة ) وقد سبق (4) .
ويستحب لمن أراد أن يضحي في يوم الأضحى أن يخرج إلى صلاة العيد ولا يأكل شيئاً حتى يصلي ثم يذبح أضحيته فيأكل منها ، وهذا قول أكثر العلماء (5) .
قال الشيخ ابن قدامة :[ … ولا يأكل في الأضحى حتى يصلي ، وهذا قول أكثر أهل العلم ، منهم علي وابن عباس ومالك والشافعي وغيرهم لا نعلم فيه خلافاً ] (6) .
ومما يدل على ذلك ما جاء في الحديث عن عبد الله بن بريدة عن أبيه - رضي الله عنه - قال :( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي ) رواه الترمذي ثم قال :[ وقد استحب قوم من أهل العم أن لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم شيئاً ، ويستحب له أن يفطر على تمر ، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يرجع ] (7) .
والحديث رواه أيضاً ابن ماجة وابن حبان ، وقال الشيخ الألباني : صحيح (8) .
والحكمة في امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأكل قبل الصلاة يوم الأضحى هي :[ ليكون أول ما يطعم من لحم أضحيته ، فيكون مبنياً على امتثال الأمر ] (9) .
وقال الإمام أحمد : والأضحى لا يأكل فيها حتى يرجع إذا كان له ذبح ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من ذبيحته ، وإذا لم يكن له ذبح لم يبالِ أن يأكل (10) .
وقال الشعبي : إن من السنة أن تطعم يوم الفطر قبل أن تغدو ، وأن تؤخر الطعام يوم النحر حتى ترجع (11) .
وقال سعيد بن المسيب : كان المسلمون يأكلون يوم الفطر قبل المصلى ، ولا يفعلون ذلك يوم النحر (12) .
ثانياً : التصدق منها :
قال الشافعية والحنابلة والظاهرية يجب التصدق بشيء قلَّ أو كثر من الأضحية المسنونة (13)
قال الحافظ ابن حجر :[ وأما الصدقة منها فالصحيح أنه يجب التصدق من الأضحية بما يقع عليه الاسم ، والأكمل أن يتصدق بمعظمها ] (14) .
والدليل على الوجوب قوله تعالى :} فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ { سورة الحج
الآية 28 .
قال الماوردي مستدلاً للشافعية :[ إن قوله تعالى في الضحايا :} فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا { جارٍ مجرى قوله في الزكاة :} كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ { فلما كان أكله مباحاً والإيتاء واجباً ، كذلك الأكل من الأضحية مباح والإطعام واجب ] (15) .
واحتج الحنابلة بالآيتين } فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ {و} وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ { .
وأما الظاهرية فدليلهم حمل الآية على الوجوب ، لأن الأصل في الأمر أنه للوجوب (16) . وعندهم الأكل واجب ، والتصدق واجب ، كما سبق في المطلب الأول من هذه المسألة .
وذهب الحنفية والمالكية إلى أن التصدق من الأضحية مندوب وليس بواجب (17) .
وحجتهم ما سبق في مسألة الأكل من الأضحية ، وهو أرجح الأقوال في المسألة .
ويتصدق منها على المسلمين من الفقراء والمحتاجين ، ويهدي إلى الأقارب والأصدقاء والجيران وإن كانوا أغنياء .
نقل النووي عن ابن المنذر قوله :[ أجمعت الأمة على جواز إطعام فقراء المسلمين من الأضحية . واختلفوا في إطعام فقراء أهل الذمة فرخص فيه الحسن البصري وأبو حنيفة وأبو ثور . وقال مالك : غيرهم أحب إلينا .
وكره مالك أيضاً إعطاء النصراني جلد الأضحية أو شيئاً من لحمها .
وكرهه الليث قال :[ فإن طبخ لحماً فلا بأس بأكل الذمي مع المسلمين منه ] .
__________
(1) المغني 9/448-449 .
(2) المصدر السابق 9/449 .
(3) فتح الباري 12/123 .
(4) الاستذكار 15/174 ، الشرح الكبير 2/122 .
(5) الاستذكار 7/37 ، المغني 2/275 ، فتح الباري 3/100-101 .
(6) المغني 2/275 .
(7) سنن الترمذي مع شرحه التحفة 3/80 .
(8) سنن ابن ماجة 1/558 ، الإحسان 7/52 ، صحيح سنن الترمذي 1/168 .
(9) مرقاة المفاتيح 3/544-545 .
(10) المغني 2/275 .
(11) الاستذكار 7/39 .
(12) المصدر السابق 7/40 .
(13) الحاوي 15/117 ، المجموع 8/416 ، المحلى 6/48 ، مغني المحتاج 6/135 ، كشاف القناع 3/19 ، المغني 9/449 .
(14) فتح الباري 12/123 .
(15) الحاوي 15/117 .
(16) المحلى 6/48 .
(17) تبيين الحقائق 6/8 ، بدائع الصنائع 4/223 ، الشرح الكبير 2/122 ، الذخيرة 4/158 .(/52)
ثم قال النووي :ومقتضى المذهب أنه يجوز إطعامهم من ضحية التطوع دون الواجبة (1).
وقال تاج الدين السبكي بعد أن نقل كلام النووي السابق :[ قلت : نقل ابن الرفعة في الكفاية أن الشافعي قال : لا يطعم منها – يعني الأضحية – أحداً على غير دين الإسلام وأنه ذكره في البويطي ] (2) .
وقال الشيخ ابن قدامة :[ ويجوز أن يطعم منها كافراً ، وبهذا قال الحسن وأبو ثور وأصحاب الرأي … لأنه طعام له أكله ، فجاز إطعامه للذمي كسائر الأطعمة ، ولأنه صدقة تطوع ، فجاز إطعامها للذمي والأسير كسائر صدقة التطوع ] (3) .
والراجح أنه يجوز إطعام أهل الذمة منها ، وخاصةً إن كانوا فقراء أو جيراناً للمضحي أو قرابته أو تأليفاً لقلوبهم .
ثالثاً : الهدية من الأضحية :
اتفق أهل العلم على أن الهدية من الأضحية مندوبة وليست واجبة (4) .
وكثير من العلماء يرون أن يهدي ثلثاً منها ، كما مرَّ في حديث ابن عباس ، فإنه يجعل الأضحية أثلاثاً ، ثلث لأهل البيت ، وثلث صدقة ، وثلث هدية .
ونقل هذا عن ابن مسعود وابن عمر وعطاء وإسحاق وأحمد ، وهو أحد قولي الشافعي .
وقال الشيخ الخطيب الشربيني :[ الأفضل التصدق بكلها لأنه أقرب للتقوى ، وأبعد من حظ النفس ، إلا لقمةً أو لقمتين أو لقماً يتبرك بأكلها ، عملاً بظاهر القرآن والاتباع وللخروج من خلاف من أوجب الأكل .
ويسن أن يجمع بين الأكل والتصدق والإهداء وأن يجعل ذلك أثلاثاً ، وإذا أكل البعض وتصدق بالبعض فله ثواب الأضحية بالكل والتصدق بالبعض ] (5).
المطلب الثاني : الانتفاع بالأضحية المنذورة :
سبق وذكرت أن الأضحية سنة مؤكدة ، ولكنها تصير واجبة بالنذر ، كأن يقول شخص
:[ لله عليه أن يضحي بشاة ] ، فهذه الأضحية صارت واجبة فما حكم الانتفاع بالأضحية المنذورة ( الواجبة ) ؟
اختلف الفقهاء في المسألة على قولين :
القول الأول : قال الحنفية والشافعية وهو قول في مذهب الحنابلة ، إنه لا يجوز الأكل من الأضحية المنذورة ، ويجب التصدق بجميعها على الفقراء ، فإن أكل شيئاً منها غرم بدله (6)
قال الزيلعي الفقيه :[ وإن وجبت بالنذر ، فليس لصاحبها أن يأكل منها شيئاً ، ولا أن يطعم غيره من الأغنياء ، سواء كان الناذر غنياً أو فقيراً ، لأن سبيلها التصدق وليس للمتصدق أن يأكل من صدقته ولا أن يطعم الأغنياء ] (7) .
القول الثاني : قال المالكية والحنابلة في القول المعتمد عندهم ، يجوز الأكل من الأضحية المنذورة وهو قول في مذهب الشافعية (8) .
واستدل ابن قدامة لجواز الأكل من الأضحية المنذورة :[ بأن النذر محمول على المعهود ، والمعهود من الأضحية الشرعية ، ذبحها والأكل منها ، والنذر لا يغير من صفة المنذور إلا الإيجاب ، وفارق الهدي الواجب بأصل الشرع ، لا يجوز الأكل منه فالمنذور محمول عليه بخلاف الأضحية ] (9) .
والذي أميل إليه أن الأضحية المنذورة يتصدق بها كلها ، ولا يأكل منها شيئاً خروجاً من الخلاف ، والله أعلم .
المطلب الثالث : الادخار من لحم الأضحية :
ثبت في الأحاديث الصحيحة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ادخار لحوم الأضاحي ، في إحدى السنوات ، ثم أذن في الادخار بعد ذلك ، أي أن النهي عن الادخار منسوخ ، وبهذا قال جماهير أهل العلم (10) ، ومن هذه الأحاديث :
1. عن عبد الله بن أبي بكر عن عبد الله بن واقد قال :( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث . قال عبد الله بن أبي بكر : فذكرت ذلك لعمرة – بنت عبد الرحمن الأنصارية - فقالت : صدق سمعت عائشة تقول : دفَّ أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله : ادخروا ثلاثاً ثم تصدقوا بما بقي . فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله ، إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ، ويجملون منها الودك . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وما ذاك ؟ قالوا : نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث . فقال : إنما نهيتكم من أجل الدافة ، فكلوا وادخروا وتصدقوا ) رواه مسلم (11) .
__________
(1) المجموع 8/425 .
(2) طبقات الشافعية الكبرى 3/105 .
(3) المغني 9/450 .
(4) المغني 9/448 ، المحلى 6/48 ، البدائع 4/224 ، روضة الطالبين 2/492 ، الشرح الكبير 2/122 .
(5) الإقناع 2/282 .
(6) تبيين الحقائق 6/8 ، الإنصاف 4/104 ، المغني 9/475 ، الحاوي 15/119 ، مغني المحتاج 6/134 ، المجموع 8/417.
(7) تبيين الحقائق 6/8 .
(8) حاشية الدسوقي 2/122 ، المغني 9/457 ، الفروع 3/555-556 ، تقرير القواعد وتحرير الفوائد 2/394 ، الإنصاف 4/104 .
(9) المغني 9/457 .
(10) المجموع 8/418 ، الحاوي 15/116 ، الفتح الرباني 13/108 ، نيل الأوطار 5/147 ، فتح الباري 12/125 ، المغني 9/449 ، بذل المجهود 13/41 ، طرح التثريب 5/194 .
(11) صحيح مسلم بشرح النووي 5/112-113 .(/53)
2. وعن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال :( من ضحى منكم فلا يصبحن في بيته بعد ثالثة شيئاً ، فلما كان العام المقبل قالوا : يا رسول الله نفعل كما فعلنا عام أول ؟
فقال : لا ؛ إن ذاك عام كان الناس فيه بجهد فأردت أن يفشوا فيهم ) رواه البخاري (1) .
3. وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :( يا أهل المدينة لا تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام ، فشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لهم عيالاً وحشماً وخدماً .
فقال : كلوا وأطعموا واحبسوا أو ادخروا ) رواه مسلم (2) . وغير ذلك من الأحاديث.
قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم ، يجوز ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث وإن النهي منسوخ .
وقال ابن حزم الظاهري :[ إن النهي عن الادخار ليس منسوخاً ، بل كان لعلة ، فلما زالت زال ، وإذا رجعت رجع النهي ] (3) .
وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (4) .
قلت والراجح ما ذهب إليه جماهير علماء المسلمين من أن النهي عن الادخار منسوخ .
قال الإمام النووي :[ … والصحيح نسخ النهي مطلقاً ، وأنه لم يبق تحريم ولا كراهة ، فيباح اليوم الادخار فوق ثلاث ليال ، والأكل إلى متى شاء ] (5) .
واستدل الإمام النووي على ذلك بما ورد في حديث بريدة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
( نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، فأمسكوا
ما بدا لكم … ) رواه مسلم .
ويدل على نسخ النهي عن الادخار ، ما جاء عن عبد الرحمن بن عابس عن أبيه قال :
( قلت لعائشة : أنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث ؟ قالت : ما فعله إلا في عام جاع الناس فيه فأراد أن يطعم الغنيُ الفقيَر ، وإنْ كنَّا لنرفع الكُراع فنأكله بعد خمسة عشرة ، قيل ما اضطركم إليه ؟ فضحكت ، قالت : ما شبع آلُ محمد - صلى الله عليه وسلم - من خبز بُرٍ مأدومٍ ثلاثة أيام حتى لحق بالله ) رواه البخاري (6) .
المطلب الرابع : أجرة الجزَّار :
قال جمهور أهل العلم لا يجوز أن يُعطى الجزَّار شيئاً من الأضحية مقابل ذبحها وسلخها (7)
واحتجوا على ذلك بما جاء في الحديث عن علي - رضي الله عنه - قال :( أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنه ، وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها ، وأن لا أعطي الجزَّار منها . وقال : نحن نعطيه من عندنا ) رواه البخاري ومسلم (8) .
وفي رواية أخرى عند مسلم :( ولا يعطي في جزارتها منها شيئاً ) (9) .
فهذا الحديث يدل على عدم جواز إعطاء الجزَّار منها ، لأن عطيته عوض عن عمله ، فيكون في معنى بيع جزء منها ، وذلك لا يجوز .
وأما إن كان الجزَّار فقيراً أو صديقاً ، فأعطاه منها لفقره ، أو على سبيل الهدية فلا بأس ، لأنه مستحق للأخذ فهو كغيره بل هو أولى ؛ لأنه باشرها وتاقت نفسه إليها (10) .
وقال الحافظ ابن حجر :[ ولكنَّ إطلاق الشارع ذلك قد يفهم منه منع الصدفة لئلا تقع مسامحة في الأجرة لأجل ما يأخذه فيرجع إلى المعاوضة ] (11) .
وما قاله الجمهور هو الأولى .
المطلب الخامس : بيع شيء من الأضحية والانتفاع بجلدها :
قال المالكية والشافعية والحنابلة : لا يجوز بيع شيء من الأضحية لا لحمها ولا جلدها ولا أطرافها ، واجبة كانت أو تطوعاً (12) . قال الإمام أحمد : لا يبيعها ولا يبيع شيئاً منها .
وقال أيضاً : سبحان الله كيف يبيعها وقد جعلها لله تبارك وتعالى ؟
وقال الحنفية : لا يحل بيع شيء منها بشيء لا يمكن الانتفاع به ، إلا باستهلاك عينه من الدراهم والدنانير والمأكولات والمشروبات . وله أن يبيع منها بما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه ، من متاع البيت كالجراب والمنخل (13).
ورخص الحسن والنخعي والأوزاعي في الجلد أن يبيعه ، ويشتري به الغربال والمنخل وآلة البيت .
وأجاز ابن عمر أن يبيع الجلد ويتصدق بثمنه ، ونقله ابن المنذر عن أحمد وإسحاق (14)
ويجوز أن ينتفع بالجلد ، بأن يجعله سقاءً أو فرواً أو نعلاً أو غير ذلك .
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح 12/121-122 .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 5/115 .
(3) المحلى 6/48 ، وانظر طرح التثريب 5/197 .
(4) الاختيارات العلمية ص71 .
(5) شرح النووي على صحيح مسلم 5/113 .
(6) صحيح البخاري مع الفتح 11/484 .
(7) المغني 9/450 ، فتح الباري 4/404 ، شرح النووي على صحيح مسلم 3/435 ، المجموع 8/420 ، بدائع الصنائع 4/225 .
(8) صحيح البخاري مع الفتح 4/303 ، صحيح مسلم مع شرح النووي 3/435 .
(9) صحيح مسلم مع شرح النووي 3/436 .
(10) المغني 9/450 ، وانظر شرح السنة 7/188 .
(11) فتح الباري 4/304 .
(12) المغني 9/450 ، الذخيرة 4/156 ، المجموع 8/419-420 ، الحاوي 15/119-120 .
(13) بدائع الصنائع 4/225 .
(3) المغني 9/450 .
(14) معجم فقه السلف 4/148 .
(5) المغني 9/451 .(/54)
فقد ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت : يجعل من جلد الأضحية سقاء ينبذ فيه .
وعن مسروق أنه كان يجعل من جلد أضحيته مصلىً يصلي فيه .
وعن الحسن البصري قال : انتفعوا بمُسُوك – جلود – الأضاحي ولا تبيعوها (1) .
والذي يظهر لي أنه لا يجوز بيع شيء من الأضحية ، بما في ذلك جلدها وأطرافها .
ويدل على ذلك ما ورد في حديث علي قال :( أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنه ، وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها ، وأن لا أعطي الجزَّار منها . وقال نحن نعطيه من عندنا ) رواه البخاري ومسلم وقد مضى . فقد أمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتصدق بلحومها وجلودها وجلالها ، كما أنه قد جعلها قربة لله تعالى فلم يجز بيع شيء منها كالوقف (2) .
وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :( من باع جلد أضحيته فلا أضحية له ) رواه الحاكم ، وقال : حديث صحيح . ورواه البيهقي (3) .
وقال الشيخ الألباني : حسن (4) .
قال الحافظ المنذري :[ وقد جاء في غير ما حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن بيع جلد الأضحية ] (5) .
وجاء في الحديث عن قتادة بن النعمان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( … لا تبيعوا لحوم الهدي والأضاحي ، فكلوا وتصدقوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها ، وإن أُطعمتم من لحمها فكلوا إن شئتم ) رواه أحمد وذكره الهيثمي وقال : في الصحيح طرف منه . رواه أحمد وهو مرسل صحيح الإسناد (6) .
وأما الانتفاع بجلدها فلا بأس به على أي وجه كان ، ويدل على ذلك ما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها قالت :( دفَّ ناس من أهل البادية ، حضرة الأضحى زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله : ادخروا ثلاثاً ثم تصدقوا بما بقي ، فلما كان بعد ذلك قالوا :
يا رسول الله إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويجملون منها الودك ، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - . وما ذاك ؟ قالوا : نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث .
فقال : إنما نهيتكم من أجل الدافة فكلوا وادخروا وتصدقوا ) رواه مسلم وقد مضى .
والأسقية : جمع سقاء ويتخذ من جلد الحيوان ، وفي الحديث إشارة إلى أنه يتخذ من جلود الأضحية ، وقولها :( ويجملون منها الودك ) أي يذيبون شحمها (7) ، وقد أقرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك .
المطلب السادس : إذا اشترى أضحية فهل يجوز له أن يبدلها بخير منها ؟
اختلف الفقهاء في المسألة على قولين :
الأول : يجوز له أن يبدلها بخير منها ، وهذا قول أبي حنيفة ومالك وأحمد ، ونقل عن عطاء ومجاهد وعكرمة .
الثاني : لا يجوز أن يبدلها مطلقاً ، وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأبي يوسف وبه قال
أبو الخطاب من الحنابلة (8) .
الأدلة :
استدل الشيخ ابن قدامة للفريق الأول بما جاء في الحديث :( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ساق مئة بدنة في حجته ، وقدم عليٌ من اليمن فأشركه فيها ) رواه مسلم(9) .
وقال ابن قدامة :[ وهذا نوع من الهبة أو البيع ، ولأنه عدل عن عين وجبت لحق الله تعالى إلى خير من جنسها ، فجاز كما لو وجبت عليه بنت لبون فأخرج حِقَّةً في الزكاة ] (10) .
واستدل الماوردي للفريق الثاني بما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال :( أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله إني أوجبت على نفسي بدنة ، وقد طُلبت مني بأكثر من ثمنها فقال : انحرها ولا تبعها ولو طُلبت بمئة بعير ) .
فلمَّا منعه من البيع مع المبالغة بالثمن ، وأمره بالنحر ، دل على فساد البيع ووجوب النحر وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال : من أوجب أضحية فلا يستبدل بها .
وليس له مع انتشار قوله مخالف في الصحابة (11) .
وقصة عمر التي ذكرها الماوردي رواها أبو داود ولكنها ضعيفة (12) .
ويستدل لهم بما ذكره البيهقي في [ باب الرجل يوجب شاة أضحية لم يكن له أن يبدلها بخير ولا شر منها ] .
ثم ساق قصة عمر السابقة بإسناده عن سالم بن عبد الله عن أبيه :( أن عمر - رضي الله عنه - أهدى بختية له قد أعطي بها ثلاثمئة دينار فأراد أن يبيعها ويشتري بثمنها بدناً فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأمره أن ينحرها ولا يبيعها ) (13) .
__________
(3) سنن البيهقي 9/294 .
(4) صحيح الجامع الصغير 2/1055 ، صحيح الترغيب والترهيب ص455 .
(5) الترغيب والترهيب 2/156 ، وانظر صحيح الترغيب والترهيب ص 455 .
(6) الفتح الرباني 13/54 .
(7) شرح النووي على صحيح مسلم 5/113 .
(8) المغني 9/451 ، بدائع الصنائع 4/202 ، الذخيرة 4/152 ، الحاوي 15/101 ، جامع الأمهات ص228 .
(9) صحيح مسلم بشرح النووي 3/347 .
(10) المغني 9/451 .
(11) الحاوي 15/102 .
(12) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود مع شرح ابن القيم 5/122 ، وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 31/250-251 .
(13) سنن البيهقي 9/288 .(/55)
والذي يظهر لي أنه يجوز إبدال الأضحية بخير منها ، إن كانت تطوعاً كأن أبدلها بأسمن منها أو أطيب منها ، فهذا لا بأس به إن شاء الله .
وأما إن نذر شاة بعينها أضحية ، فيلزمه أن يذبحها ولا يجوز له إبدالها ، والله أعلم .
المطلب السابع : نقل الأضحية :
اتفق العلماء على أن محل التضحية هو محل المضحي ، سواء كان بلده أو موضعه من السفر.
وذكر الإمام النووي في نقل الأضحية من بلد إلى آخر وجهان في مذهب الشافعية تخريجاً من نقل الزكاة (1) .
ونص الماوردي على أن المضحي لا يمنع من إخراج لحوم الضحايا عن بلد المضحي (2) .
وسئل الشيخ شمس الدين محمد الرملي :[ هل يجوز نقل الأضحية عن بلد التضحية أم لا ؟
فأجاب : بأنه لا يجوز نقلها ، ولو أضحية تطوع ، بل يتعين فقراء بلدها ، لأن أطماعهم تمتد إليها لكونها مؤقتة بوقت كالزكاة بخلاف نقل المنذور ونحوه ] (3) .
والذي أرجحه في هذه المسألة : أن الأصل أن لا تنقل الأضحية من بلد المضحي ، وأن توزع على فقراء بلده المحتاجين قياساً على الزكاة .
ويجوز نقلها إذا استغنى أهل بلد المضحي ، بأن كثرت الأضاحي ، وقلَّ عدد الفقراء فيصح نقلها إلى بلد آخر ، فيه المسلمون أكثر حاجة ،كما يفعل بعض أهل الخير من المسلمين في دول الخليج وغيرهم ، الذين يوكلون لجان الزكاة في فلسطين بشراء وذبح أضحاياتهم ، وتوزيعها على المحتاجين ، وذلك نظراً لكثرة الأضاحي في بلدانهم ، وقلة المحتاجين لها هناك ، ولقلة الأضاحي في فلسطين وكثرة الفقراء والمحتاجين فيها .
وكذلك يجوز للمضحي المغترب عن أهله ووطنه ، أن يوكل في شراء وذبح أضحيته في بلده ، وتوزيعها على أقاربه وأهل بلدته المحتاجين .
المبحث الخامس
الأضحية عن الميت
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : يجوز للحي أن يضحي عن قريبه الميت وهذا قول الحنفية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث (4) .
واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال :[ والتضحية عن الميت أفضل من الصدقة بثمنها ] (5) .
وقال صاحب الدر المختار من الحنفية :[ وإن مات أحد السبعة المشتركين في البدنة وقال الورثة اذبحوا عنه وعنكم صح عن الكل استحساناً لقصد القربة من الكل ] (6) .
قال أبو داود صاحب السنن:[ باب الأضحية عن الميت ] ثم ذكر حديث تضحية علي - رضي الله عنه - عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسيأتي (7) .
وقال الإمام الترمذي في سننه :[ باب ما جاء في الأضحية عن الميت ] ثم ذكر حديث علي – المشار إليه - ثم قال الترمذي :[ وقد رخص بعض أهل العلم أن يضحى عن الميت ولم ير بعضهم أن يضحى عنه ] (8) .
وأجاز التضحية عن الميت الإمام ابن العربي المالكي (9) .
وقال القرافي :[ قال صاحب القبس – هو ابن العربي – يستحب للإنسان أن يضحي عن وليه كما يستحب له الحج والصدقة . وفي الترمذي : قال علي - رضي الله عنه - : أوصاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أضحي عنه .
قال : وعندي أن الميت يصل إليه كل عمل يعمله الحي ] (10) .
وأجاز التضحية عن الميت الإمامان البغوي والعبادي من الشافعية (11) والمباركفوري وصاحب غنية الألمعي من الحنفية (12) والعلامة الشيخ عبد العزيز بن باز والعلامة محمد بن صالح العثيمين(13) وغيرهم كثير .
القول الثاني : قال المالكية تكره التضحية عن الميت ، لعدم ورود دليل في ذلك ، ولكن قالوا إن مات الشخص الذي اشترى أضحية قبل وقت التضحية ، فيندب في حق الورثة التضحية عن الميت .
قال القرافي :[ واستحب ابن القاسم ذبح الورثة لها عنه تنفيذاً لما قصد من القربة ] (14) .
وأجاز المالكية الأضحية عن الحي والميت معاً (15) .
القول الثالث : وقال الشافعية في المعتمد عندهم لا تصح الأضحية عن الميت إلا أن يوصي بها (16) .
واختار هذا القول الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود من علماء هذا العصر فقال :
__________
(1) المجموع 8/425 .
(2) الحاوي 15/75 .
(3) فتاوى الرملي 4/68-69 .
(4) بدائع الصنائع 4/209 ، حاشية ابن عابدين 6/326 ، الهداية 8/436 ، إعلاء السنن 17/296 ، الفروع 3/554 ، كشاف القناع 3/21 .
(5) الاختيارات العلمية ص71 ، وانظر مجموع الفتاوى 24/315 ، 26/306 .
(6) الدر المختار 6/326 .
(7) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 7/344 .
(8) سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي 6/230-231 .
(9) عارضة الأحوذي 6/230 .
(10) الذخيرة 4/141 .
(11) شرح السنة 4/358 ، المجموع 8/406 .
(12) تحفة الأحوذي 5/66 .
(13) فتاوى إسلامية 2/6 ، فتاوى منار الإسلام 2/411-412 .
(14) الذخيرة 4/155 .
(15) شرح الخرشي 3/42 ، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي عليه 2/122-123 ، بلغة السالك 1/289 .
(16) المجموع 8/406 ، كفاية الأخيار 2/528 ، مغني المحتاج 6/137 ، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/282 .(/56)
[ أما الأضحية عن الميت فإنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب الصحاح والسنن والمسانيد والتفاسير والسير ،لم نجد دليلاً صريحاً من كتاب الله ، ولا حديثاً صحيحاً عن رسول الله يأمر بالأضحية عن الميت أو يشير إلى فضلها ووصول ثوابها إليه ولم ينقل أحد من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يضحون لموتاهم ولم يذكر فعلها عن أحد منهم … ] (1) .
أدلة القول الأول :
1. احتجوا بما رواه أبو داود في باب الأضحية عن الميت بإسناده قال :( حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : أخبرنا شريك عن أبي الحسناء عن الحكم عن حنش قال : رأيت علياً - رضي الله عنه - يضحي بكبشين فقلت له ما هذا ؟ فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصاني أن أضحي عنه ، فأنا أضحي عنه ) والحديث سكت عنه أبو داود (2) .
ورواه الترمذي أيضاً ولفظه :( عن حنش عن علي - رضي الله عنه - أنه كان يضحي بكبشين أحدهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر عن نفسه فقيل له . فقال : أمرني به – يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - - فلا أدعه
أبداً ) ، وقال الترمذي :[ هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك ] (3) .
وقد رواه الإمام أحمد في المسند باللفظين السابقين (4) .
ورواه الحاكم وقال :[ هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وأبو الحسناء هذا هو الحسن بن حكم النخعي ،وقال الذهبي : صحيح ] (5) .
ورواه البيهقي ثم قال :[ … وهو إن ثبت يدل على جواز التضحية عمن خرج من دار الدنيا من المسلمين ] (6) .
2. واحتجوا أيضاً بما رواه مسلم بإسناده عن عائشة رضي الله عنها :( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بكبش أقرن ، يطأ في سواد ويبرك في سواد ، وينظر في سواد ، فأتي به ليضحي به ، فقال لها : يا عائشة هلمي المدية ، ثم قال : اشحذيها بحجر . ففعلت ، ثم أخذها وأخذ الكبش ثم أضجعه ثم ذبحه ، ثم قال : باسم الله اللهم تقبل من محمد ، وآل محمد ومن أمة محمد ثم ضحى به ) رواه مسلم (7) .
فهذا الحديث يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى عن الميت ؛ لأنه ضحى عن آل محمد وعن أمة محمد ، ومنهم من كان قد مات .
3. واحتجوا بما جاء في الحديث عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال :( ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الذبح كبشين أقرنين أملحين موجوئين ، فلما وجههما قال : إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض على ملة إبراهيم حنيفاً ، وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي ، لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت ، وأنا من المسلمين ، اللهم منك ولك ، وعن محمد وأمته باسم الله والله أكبر ثم ذبح ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد والدارمي وقد مضى .
والشاهد في هذا الحديث كسابقه حيث إن فيه التضحية عن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ومن أمته - صلى الله عليه وسلم - من كان قد مات .
4. واحتجوا بما جاء في الحديث عن أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين ، فإذا صلى وخطب الناس أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية ثم يقول :
اللهم هذا عن أمتي جميعاً ، من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ ، ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ويقول : هذا عن محمد وآل محمد ، فيطعمهما جميعاً المساكين ويأكل هو وأهله منهما ، فمكثنا سنين ليس رجل من بني هاشم يضحي قد كفاه الله المئونة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والغرم ) رواه أحمد (8) .
وقال الهيثمي : وإسناده حسن (9) ، وحسنه الشيخ الألباني أيضاً (10) .
وهذا الحديث له شواهد كثيرة ذكرها الهيثمي (11) .
قال شارح العقيدة الطحاوية :[ والقربة في الأضحية إراقة دم وقد جعلها لغيره ] (12) .
5. وقالوا إن الميت ينتفع بسعي الحي وقد قامت الأدلة الكثيرة على ذلك .
قال شارح العقيدة الطحاوية :[ والدليل على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح .
أما الكتاب فقال الله تعالى :} وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ { سورة الحشر الآية 10 .
فأثنى عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم ، فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء .
__________
(1) الدلائل العقيلة والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية ص51-52 .
(2) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 7/344 .
(3) سنن الترمذي مع شرحه التحفة 5/65 .
(4) الفتح الرباني 13/109-110 .
(5) المستدرك 4/255-256 .
(6) سنن البيهقي 9/288 .
(7) صحيح مسلم مع شرح النووي 4/106 .
(8) الفتح الرباني 13/61-62 .
(9) مجمع الزوائد 4/21 .
(10) تخريج أحاديث شرح العقيدة الطحاوية ص516 .
(11) مجمع الزوائد 4/22-23 .
(12) شرح العقيدة الطحاوية ص516 .(/57)
وقد دلّ على انتفاع الميت بالدعاء ، إجماع الأمة على الدعاء له في صلاة الجنازة والأدعية التي وردت بها السنة في صلاة الجنازة مستفيضة . وكذا الدعاء له بعد الدفن .
ففي سنن أبي داود من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال :( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت ، وقف عليه فقال : استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل ) .
وكذلك الدعاء لهم عند زيارة قبورهم كما في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب قال :( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا :
السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية ) .
وفي صحيح مسلم أيضاً عن عائشة رضي الله عنه :( سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف تقول إذا استغفرت لأهل القبور ؟ قال : قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ) .
وأما وصول ثواب الصدقة ، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها :( أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إني أمي افتلتت نفسها ولم توصِ ، وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم ) .
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما :( أن سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم . قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها ) وأمثال ذلك كثيرة في السنة .
وأما وصول ثواب الصوم ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها :( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من مات وعليه صيام صام عنه وليه ) .
وله نظائر في الصحيح ، ولكن أبو حنيفة رحمه الله قال بالإطعام عن الميت دون الصيام عنه لحديث ابن عباس المتقدم والكلام على ذلك معروف في كتب الفروع .
وأما وصول ثواب الحج ، ففي صحيح البخاري عن أن عباس رضي الله عنهما :( أن امرأة من جهنية جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها ؟ قال : حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء ) ونظائره أيضاً كثيرة .
وأجمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمة الميت ، ولو كان من أجنبي ومن غير تركته ، وقد دل على ذلك حديث أبي قتادة : حيث ضمن الدينارين عن الميت فلما قضاهما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(الآن برَّدت عليه جلدته ) وكل ذلك جار على قواعد الشرع ، وهو محض القياس ، فإن الثواب حق العامل ، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك ، كما لم يمنع من هبة ماله في حياته ، وإبرائه له منه بعد وفاته ، وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصوم ، على وصول ثواب القراءة ونحوها من العبادات البدنية .
يوضحه : أن الصوم كف النفس عن المفطرات بالنية ، وقد نص الشارع على وصول ثوابه إلى الميت ، فكيف بالقراءة التي هي عمل ونية ؟! ] (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ … وهو – أي الميت – ينتفع بكل ما يصل إليه من كل مسلم ، سواء كان من أقاربه أو غيرهم ، كما ينتفع بصلاة المصلين عليه ودعائهم له عند قبره ] (2) .
وقال العلامة ابن القيم :[ هذه النصوص متظاهرة على وصول ثواب الأعمال إلى الميت ، إذا فعلها الحي عنه ، وهذا محض القياس ، فإن الثواب حق للعامل فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك ،كما لم يمنع من ذلك من هبة ماله في حياته وإبرائه له من بعد موته ] (3)
أدلة القول الثاني :
قال الخرشي :[ يكره للشخص أن يضحي عن الميت خوف الرياء والمباهاة ولعدم الوارد في ذلك ] (4) أي لعدم ورود دليل شرعي يدل على جواز الأضحية عن الميت .
ولم أقف لهم على أدلة أخرى سوى ذلك .
أدلة القول الثالث :
قبل أن أذكر أدلة القول الثالث ، ينبغي أن يعلم أولاً ، أن الشيخ عبد الله بن زيد
آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية في دولة قطر يرحمه الله ، قد بحث مسألة الأضحية عن الميت بحثاً مفصلاً ، ويرى أن الأضحية عن الميت غير شرعية ، وذهب إلى تفضيل الصدقة عن الميت على الأضحية عنه ، وألَّف في ذلك رسالة بعنوان :
[ الدلائل العقيلة والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية ، وهل الضحية عن الميت شرعية أو غير شرعية ؟ ] تقع في 157 صفحة .
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية ص 512-514 ، وانظر الروح ص118-122 ، مجموع الفتاوى 24/366 .
(2) مجموع الفتاوى 24/367 .
(3) الروح ص122 .
(4) شرح الخرشي 3/42 .(/58)
وقد خالفه في قوله عدد من أهل العلم ، منهم الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد ، والشيخ إسماعيل الأنصاري من علماء نجد ، ونشر كلٌ منهما مقالاً في الرد على الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود ، وقد ردَّ الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود على الأول منهما في رسالة بعنوان [ مباحث التحقيق مع الصاحب الصديق ] تقع في 45 صفحة .
وردّ على الثاني في رسالة بعنوان [ إعادة البحث الجاري مع الشيخ إسماعيل الأنصاري فيما يتعلق بالأضاحي عن الأموات ] تقع في 34 صفحة .
كما أن الشيخ علي بن عبد الله الحواس من علماء نجد ، ألف كتاباً موسعاً في الرد على الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود وأبطل فيه رأيه وسماه [ الحجج القوية والأدلة القطعية في الرد على من قال إن الأضحية عن الميت غير شرعية ] ويقع في 300 صفحة .
كما أن الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد يرحمه الله ، من كبار علماء السعودية ، كان قد ردَّ على رسالة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود ( الدلاائل العقلية والنقلية ..) ولكني لم أطلع عليه (1) .
وقد بيَّن الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رأيه في هذه المسألة فقال :[ أما الأضحية عن الميت فإنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب الصحاح والسنن والمسانيد والتفاسير والسير ، لم نجد دليلاً صريحاً من كتاب الله ، ولا حديثاً صحيحاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالأضحية عن الميت ، أو يشير إلى فضلها ووصول ثوابها إليه ، ولم ينقل أحد من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يضحون لموتاهم ، ولم يذكر فعلها عن أحد منهم ، لا في أوقافهم ولا وصاياهم ولا في سائر تبرعاتهم ، ولم يقع لها ذكر في كتب الفقهاء من الحنابلة المتقدمين ، لا في المغني على سعته ، ولا في الكافي ، ولا المقنع ، ولا في الشرح الكبير ، ولا المحرر ، ولا الإنصاف ، ولا النظم ، ولا في المنتقى والإلمام في أحاديث الأحكام ، ولا في إعلام الموقعين ، ولا في زاد المعاد ، ولا في البخاري ، ولا في شرحه فتح الباري ، ولا في مسلم ولا في شرح مسلم للنووي ، ولا في نيل الأوطار للشوكاني ، ولا في سبل السلام للصنعاني ، ولا في التفاسير المعتبرة ، كابن جرير الطبري وابن كثير والبغوي والقرطبي ، فتركهم لذكرها ينبئ على عدم العمل بها في زمنهم أو على عدم مشروعيتها عندهم .
والظاهر من مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة عدم جواز فعلها عن الميت ، لعدم ما يدل على مشروعيتها ، وخص الإمام أبو حنيفة الجواز بما إذا عينها ثم توفي بعد تعيينها فإنها تذبح عنه تنفيذاً للتعيين .
والقول الثاني : أنه لا يجوز ذبحها بل تعود تركة لكونه لا أضحية لميت ، حكى القولين في المبسوط وبدائع الصنائع وأشار الطحاوي إليه في مختصره .
ولم نجد عن الإمام أحمد نصاً في المسألة لا جوازاً ولا منعاً. فلا يجوز نسبة القول بالجواز إليه عند عدم ما يدل عليه إلا أن تؤخذ من مفهوم قوله : ( الميت يصل إليه كل شيء ) وهي كلمة تحتاج إلى تفصيل ، إذ لا يصح أن يصل إلى الميت كل شيء من عمل الغير حتى عند الإمام أحمد نفسه ، كما سيأتي بيانه فالقول : بأن جواز الأضحية عن الميت ، هو ظاهر المذهب إنما يتمشى على الاصطلاح الحديث ، من أن المذهب هو ما اتفق عليه الإقناع والمنتهى ، وقد قالا بجواز ذلك أو استحبابه ، فهذا شيء ونسبة القول به إلى الإمام أحمد شيء آخر .
وأسبق من رأيناه طرق موضوع الكلام في المسألة هو أبو داود في سننه حيث قال :( باب الأضحية عن الميت ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا شريك عن أبي الحسناء عن الحكم عن حنش قال : رأيت علياً يضحي بكبشين فقلت له : ما هذا ؟ فقال : إن رسول الله أوصاني أن أضحي عنه فلا أزال أضحي عنه ) ورواه الترمذي في جامعه بلفظه ومعناه وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
ثم قال صاحب تحفة الأحوذي على الترمذي : حنش هو أبو المعتمر الصنعاني وقد تكلم فيه غير واحد ، قال ابن حبان البستي : كان كثير الوهم في الأخبار ينفرد عن علي بأشياء لا تشبه حديث الثقات حتى صار ممن لا يحتج به . وشريك هو أبو عبد الله القاضي فيه مقال وقد أخرج له مسلم في المتابعات .أهـ
وأبو الحسناء : هو مجهول لا يعرف ، قاله ابن حجر في التقريب ،
وقال ابن العربي في شرح الترمذي : هذا حديث مجهول .
__________
(1) "الدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية وهل الضحية عن الميت شرعية أو غير شرعية" وهي رسالة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود ضمن كتابه (توحيد أعياد المسلمين ومسائل أخرى ) وهو من منشورات مؤسسة الرسالة .
ورسالة مباحث التحقيق مع الصاحب الصديق ورسالة " إعادة البحث الجاري مع الشيخ إسماعيل الأنصاري " من مطبوعات مطابع مصر الوطنية وكتاب " الحجج القوية والأدلة القطعية في الرد على من قال إن الأضحية عن الميت غير شرعية " الطبعة الثانية 1401 طبع في مطبعة المدينة / الرياض / السعودية .
وقد أشار في مقدمته إلى رسالة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد .(/59)
ثم قال الترمذي : قد رخص بعض أهل العلم أن يضحى عن الميت ، ولم ير بعضهم أن يضحى عنه ، وقال عبد الله بن المبارك : أحبُ إليَّ أن يتصدق عنه ولا يضحى ، فإن ضحى فلا يأكل منها شيئاً ويتصدق بها كلها .
وأخرجه البيهقي في سننه وقال : إن ثبت هذا كان فيه دلالة في التضحية عن الميت .
ومن المعلوم عند أهل الحديث عدم ثباته وأنه ضعيف لا يحتج به .
ثم قال صاحب تحفة على الترمذي قلت : إني لم أجد في التضحية عن الميت منفرداً حديثاً صحيحاً مرفوعاً ، وأما حديث علي المذكور في هذا الباب فضعيف كما عرفت .
وقد أخذ بعض الفقهاء بظاهر حديث علي ، ولم ينظروا إلى ضعفه في سنده ومتنه ولا إلى عدم الإحتجاج به ولا إلى عدم عمل الصحابة بموجبه ، لأن أكثر الفقهاء يتناقلون الأثر على علاته بدون تمحيص ولا تصحيح ، وينقل بعضهم عن بعض حتى يشتهر وينتشر ويكون كالصحيح ، وكل من تدبر أقوال الفقهاء القائلين بجواز الأضحية عن الميت مطلقاً أو بجوازها متى أوصى بها أو وقف وقفاً عليها ، وجدهم يستدلون على ذلك بحديث علي هذا أن النبي أوصاه أن يضحي عنه ، لظنهم أنه صحيح ، لأن غالب الفقهاء لا يعرفون الصحيح من الضعيف معرفة تامة ، فينشأ أحدهم على قول لا يعرف غيره ، ولم يقف على كلام أهل الحديث في خلافه وضعفه فيظنه صحيحاً ويبني على ظنه جواز العمل به والحكم بموجبه ، وقد استأنسوا في هذا الباب بما روي عن أبي العباس السراج وكان أحد مشايخ البخاري أنه قال : ختمت القرآن للنبي - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشرة ألف ختمة وضحيت عنه باثنتي عشرة ألف أضحية .
ذكر هذه الحكاية ابن مفلح في الفروع في إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى من آخر كتاب الجنائز ، وهي حكاية شخص عن فعل نفسه ، ليست بأهل أن يصاخ لها ، وليس من المفروض قبول هذه المجازفة الخارجة عن جدول الحق والعدل ، إذ ليس عندنا دليل يثبت إهداء الأضحية وتلاوة القرآن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولو كان صحيحاً لكان صفوة أصحابه وخاصة أهل بيته أحق بالسبق إلى ذلك ، ولم يثبت عن أحد منهم أنه حج عن رسول الله أو صام أو أهدى ثواب قراءته أو أضحيته إليه ، وإنما الأمر الذي عهده رسول الله لأمته ، هو اتباع هديه والإعتصام بكتاب الله وسنة رسوله ، وأن يكثروا من الصلاة والتسليم عليه وأن يسألوا الله له الوسيلة والفضيلة ، وأن يبعثه مقاماً محموداً الذي وعده . هذا هو الأمر الذي شرعه رسول الله لأمته ، بخلاف إهداء ثواب القرب الدينية فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله :[ لا يستحب إهداء القرب الدينية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو بدعة ] قاله في الاختيارات .
فمتى كان أهل المعرفة بالحديث متفقين على أنه لا يوجد في الأضحية عن الميت حديث صحيح ، يدل دلالة صريحة على الأمر بها ، فضلاً عن أن يكون فيها أخبار متواترة أو مستفيضة ، امتنع حينئذ التصديق بكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى بها أو شرعها لأمته ، ولم ينقل فعلها عن أحد من الصحابة ، ولا أهل بيته ولا التابعين ، مع تكرار السنين وحرصهم على محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباع سنته وتنفيذ أوامره ، والعادة تقتضي نقل ذلك لو وقع إذ هي من الأمور الظاهرة التعبدية التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها وتبليغها ، لكونهم أحرص الناس على فعل الخير ، وإيصال ثوابه إلى الغير من موتاهم ، فمتى كان الأمر بهذه الصفة ، علمنا حينئذ أنها ليست بمشروعة ، ولا مرغب فيها ؟ والتعبدات الشرعية مبنية على التوقيف والاتباع . لا على الاستحسان والابتداع كما قال بعض السلف : كل عبادة لم يتعبدها رسول الله ولا أصحابه ، فلا تتعبدوها فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً .
فإن قيل بم عرفتم أن الصحابة والتابعين لم يضحوا عن موتاهم ؟
قيل : علمنا ذلك بعدم نقله عنهم ، وهذه أسفار السنة على كثرتها لا تثبت عن أحد منهم فعلها ، لا في سبيل تبرعاتهم لموتاهم ولا في أوقافهم ولا الوصايا الصادرة منهم ، ومن المعلوم أن الأمور الوجودية يتناقلها الناس من بعضهم إلى بعض ، حتى تشتهر وتنتشر كما نقلوا سائر السنن والمستحبات ، أما الأمور العدمية التي لاوجود لفعلها ، فإن الناس لا ينقلونها إلا عندما يحتاجون إلى ردها ، وبيان الهدى من الضلال فيها ، فلو نقل ناقل أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يحجون له أو يضحون له أو يقرأون القرآن ويهدون ثوابه إليه ، لحكمنا بكذبه لعدم نقله ، ولو فتح هذا الباب لاحتج كل واحد لبدعته بما يؤيدها فتفشوا البدع ويفسد الدين .
والمقصود أن الأضحية عن الميت ،لم يثبت في كتاب الله ولا في سنة رسول الله مشروعيتها ، ولم ينقل عن رسول الله بطريق صحيح ، الأمر بها لا بطريق التصريح ولا الإيماء ، ولهذا لم يفعلها أحد من الصحابة ، فعدم فعلها يعد من الأمر المجمع عليه زمن الصحابة ، واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة .(/60)
وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف ] (1) .
إذا علم هذا فإن الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود ساق أدلة كثيرة على منع الأضحية عن الميت أذكر تلخيصاً لبعضها :
الأول : إن الأضحية إنما شرعت في حق الحي فأول من فعلها إبراهيم عليه السلام حيث قال الله تعالى :} وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ { وهي أضحية أمر أن يذبحها يوم عيد النحر .
ثم سنَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمته تشريفاً لعيد الأضحى الذي سمي باسمها ، وشكراً لله على بلوغه ، وإدخالاً للسرور على الأهل والعيال … وأنزل الله :} فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ { فالذين أمروا بصلاة العيد هم المأمورون بنحر الأضاحي وهم الأحياء ، ولا علاقة لها بالأموات البتة .
وأما أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكبش عنه وعن أمته ، فإن الله سبحانه وتعالى قد أثبت لنبيه الولاية التامة العامة على كافة أمته ، وهي ولاية أحق وأخص من ولاية الرجل على عياله وأهل بيته … فمن ولايته أضحيته عن أمته كما يضحي أحدنا عن عياله وأهل بيته ، بل أحق .
الثاني : إنه توفي عدد من أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته ، فتوفي ابنه إبراهيم وتوفي ثلاث من بناته وتوفيت زوجته خديجة … ومع هذا كله لم يضح عنها ولا عن أحد من ابنه وبناته ، ولو كانت الأضحية عن الميت من شرعه لما بخل بها عن أحبابه وأقاربه ولفعلها ولو مرة واحدة ، مع العلم أنه متصف بالجود والكرم ، فكان يقسم الأضاحي بين أصحابه لتعميم العمل بسنة الأضحية .
الثالث : إن الصحابة هم الذين حفظوا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلغوها إلى الناس ، ولم يحفظ عن أحد منهم أنه ضحى عن ميته ، ولا أوصى أن يضحى عنه بعد موته ، ولا وقف وقفاً له في أضحية وهم أحرص الناس على اتباع السنة وأبعدهم عن البدعة ، فلو كانت الأضحية عن الميت سنة أو أن فيها فضيلة ، أو أن نفعها يصل إلى موتاهم ، لكانوا أحق بالسبق إليها ولو كان خيراً لسبقونا إليه .
الرابع : إن جميع الصحابة الذين سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل ما يفعلونه لموتاهم إنما أرشدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الدعاء والصدقة وصلة الأقارب وقضاء الواجبات من حج ونذر ، فهذا سعد بن عبادة قال : يا رسول الله إني أمي أفتلت نفسها ولم توص ، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ فقال : نعم ، تصدق عن أمك . ولم يقل ضح عن أمك .
وهذا أبو طلحة وضع بيرحاء بين يدي رسول الله … ولم يأمره أن يجعل فيها أضحية تذبح عنه بعد موته .
وهذا عمر استشار رسول الله في مصرف وقفه … فأشار عليه رسول الله بأن يحبس أصلها ويتصدق بثمرها … ولم يجعل له فيها أضحية .
الخامس : إن القائلين بمشروعية الأضحية عن الميت أخذاً من مفهوم أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه وعن أمته أنه فهم غير صحيح ولا مطابق للواقع ، فإن هذه الأضحية وقعت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأصالة ، وقد أشرك جميع أمته في ثوابها ولم يخص بذلك الأموات دون الأحياء ، وهذه لا يقاس عليها لاعتبارها من خصائصه ، فإن هذه الأضحية دخل في ثوابها الأحياء الموجودون من أمته وقت حياتهم ، كما دخل فيها المعدمون ممن سيوجد من أمته إلى يوم القيامة ، وهذا الفعل بهذه الصفة لا ينطبق على أضحية غيره … فدلت على الاختصاص به وعدم التشريع بها والحالة هذه .
السادس : إذ لو كانت للتشريع كما يقولون ، لاستحب لكل مقتدر أن يضحي عن أمة محمد الموجودين والمعدومين ، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إذ هذا محض الأسوة به ، ولم يقل بذلك أحد من العلماء فسقط الاستدلال بموجبه .
السابع : إن أهل المعرفة بالحديث متفقون على أنه لا يوجد في الأضحية عن الميت حديث صحيح ولا حسن ، يدل دلالة صريحة على الأمر بها ، فضلاً عن أن يكون فيها أخبار متواترة أو مستفيضة ، فمتى كان الأمر بهذه الصفة امتنع حينئذ التصديق بكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى بها وشرعها لأمته ، ولم ينقل فعلها عن أحد من الصحابة ولا التابعين ، مع تكرار السنين وحرصهم على محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباع سنته وتنفيذ أوامره ، والعادة تقتضي نقل ذلك لو وقع منهم ، إذ هي من الأمور الظاهرة التعبدية التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها وتبليغها لكونهم أحرص الناس على فعل الخير وإيصال ثوابه إلى الغير من موتاهم فمتى كان الأمر كذلك علمنا حينئذ أنها ليست بمشروعة ولا مرغب فيها ، لأن عدم فعلها يعتبر من الإجماع السابق زمن الصحابة ، واعتبار حكم الإجماع في محل النزاع حجة .
__________
(1) الدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية ص51-59 .(/61)
الثامن : إن قدماء فقهاء الحنابلة من لدن القرن الثاني الذي فيه الإمام أحمد إلى القرن الثامن الذي فيه شيخ الإسلام ، لم يحفظ عن أحد منهم ولم نجد في شيء من كتبهم القول بمشروعية الأضحية عن الميت ، إلى أن نسب عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله القول باستحبابها ، ثم أخذها صاحب الإقناع والمنتهى فأدخلاها على المذهب في القرن الحادي عشر ، حيث قالا :( وأضحية عن ميت أفضل منها عن حي ) ، وفي الإقناع :( وذبحها ولو عن ميت أفضل من الصدقة بثمنها ) .
التاسع : مذاهب الأئمة الثلاثة ، وهم مالك والشافعي وأبو حنيفة ، كلهم متفقون على عدم استحباب الأضحية عن الميت ، لعدم ما يدل على مشروعيتها … وحتى الإمام أحمد لم نجد عنه نصاً في استحباب الأضحية عن الميت …
العاشر : إن الصحابة التابعين لم ينقل عنهم فعل الأضحية عن موتاهم ، فقد علمنا ذلك بعدم نقله عنهم وهذه أسفار السنة على كثرتها منشورة بين الناس وهي لا تثبت عن أحد منهم فعلها …
الحادي عشر : إن كل من تدبر النصوص الدينية من الكتاب والسنة وعمل الصحابة ، فإنه يتبين له بطريق الجلية أن الأضحية إنما شرعت في حق من أدركه العيد من الأحياء شكراً لله عل بلوغه واتباعاً للسنة في إراقة الدم فيه لله رب العالمين ، أشبه مشروعية صدقة الفطر عند عيد الفطر ، لإغناء الطوافين من الفقراء والمساكين ، فلو قال قائل بمشروعية صدقة الفطر عن الأموات ، لعده العلماء مبتدعاً لعدم ما يدل على مشروعية ذلك ، وهذا هو عين ما فهمه الصحابة من حكمة الأضحية ، فكيف يمكن أن يقال بعد هذا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بالشاة عن نفسه وعن أمته ليفهم عنه جواز الأضحية عن الموتى والفعل لا يحتمله ولا يمت له بصلة ، ولم ينقل عن علماء الصحابة القول به ولا العمل بموجبه وهذا واضح جلي لا مجال للشك في مثله ...) (1)
مناقشة الأدلة :
ردُّ المجيزين للأضحية عن الميت على المانعين :
توسع العلماء المتأخرون الذين أجازوا الأضحية عن الميت في الردّ على المانعين ، وعلى وجه الخصوص في ردّهم على الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود ، وسأذكر بإيجاز أهم ما أجابوا به عن أدلته :
أولاً : قالوا في الجواب عن قول الشيخ عبد الله إن الأضحية شرعت في حق الحي لا الميت بدليل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة … الخ .
فالجواب : أن أقول لا شك أن مشروعية الأضحية دل عليها الكتاب والسنة والإجماع وقد تقدمت الأدلة على ذلك لكن قول الشيخ والأضحية إنما شرعت في حق الحي لا الميت خطأ واضح ، لأن الذي شرعها في حق الحي ما منعها في حق الميت فعدم منعها في حق الميت دليل على مشروعيتها في حقه أيضاً ولأن الأحاديث التي ورد الأمر فيها بالصدقة عن الميت والصيام والحج عنه والدعاء له وغير ذلك تدلنا على مشروعية الأضحية عنه كما شرعت تلك الأشياء عنه وأنها من جملتها .
أما قول الشيخ بدليل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة .
فيقال للشيخ هل منع الكتاب والسنة وإجماع الصحابة الأضحية عن الميت ؟ فإن قال: لا، فقد قامت عليه الحجة والدليل .
وإن قال: نعم ، فقد تقوَّل على الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ، ولأنه لا يمكنه أن يجد دليلاً ولو ضعيفاً من كتاب الله أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو كلام الصحابة يمنع الأضحية عن الميت ، وإذا لم يمكن أن يجد ما يستدل به على دعواه لا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله ولا من كلام الصحابة فقد سقط قوله وانقطعت حجته …(2) .
وقالوا نحن لا ننكر مشروعية الأضحية في حق الحي لكننا نمنعها في حق الميت كما لا نمنع غيرها من جميع الأعمال الخيرية في حقه أيضاً ، كالصيام والحج والصدقة والعتق والدعاء وغير ذلك من سائر القربات المشروعة ، فكل ما شرع فعله للحي في نفسه من جميع القربات الخيرية مما يرجى ثوابه فإنه يشرع في حقه أن يهدي من ثوابه للأموات من المسلمين من أقاربه أو غير أقاربه ما ينفعهم ويثيبه الله تعالى على ذلك من عنده ، كما ورد من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( من دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك : آمين ولك بمثله ) فهل يقال إن هذا خاص بالأحياء دون الأموات ، لا يقال بهذا وإن كان ظاهر الحديث أن المراد بذلك الحي، ولكن المفهوم منه أنه عام للحي والميت ، فإذا دعا المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب سواء كان حياً أو ميتاً ، فإنه يحصل له ما ذكر في هذا الحديث من تأمين الملك ودعائه ويصل ثواب دعائه إلى من أهداه إليه من الأحياء والأموات إن شاء الله تعالى .
__________
(1) الدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية ص5-16 بتصرف يسير .
(2) الحجج القوية والأدلة القطعية في الردّ على من قال إن الأضحية عن الميت غير شرعية ص16-17 بتصرف يسير .(/62)
وقالوا أيضاً إنه لا خلاف في مشروعية الأضحية وقد ورد بمشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع كما تقدم ، وكذلك ما يترتب عليها من الفضائل ، وإن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها هذا كله مجمع عليه ولا يعتبر من شذ عن هذا وقال إن الصدقة بثمنها أفضل من ذبحها لمخالفته الكتاب والسنة والإجماع ، لكن قول الشيخ في حق من أدركه العيد من الأحياء هذا تخصيص بلا مخصص فلا أدري ما الذي حمل الشيخ هداه الله ووفقه إلى الصواب على منعه لثواب هذه القربة العظيمة عن الأموات وتخصيصها في الأحياء هل هو تحجر لسعة فضل الله وإحسانه على خلقه ؟ أم بخل على من هم في أشد حاجة إلى ثواب حسنة واحدة تهدى إليهم فينتفعون بها إما في تخفيف عذابهم أو في رفع درجاتهم لأن فضل الله عز وجل شامل لأحياء المسلمين وأمواتهم .
وفي الأثر الإلهي يقول الله عز وجل :( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ) فما أدري ما هو الوجه الذي أخرج به الشيخ هداه الله أموات المسلمين من هذه القربة العظيمة ، وهي إهراق الدم لله عز وجل التي تفضل الله بها على عباده وأمرهم بها لتكون سبباً لمغفرة ذنوبهم ورفع درجاتهم وخصص بها الأحياء دونهم لا أجد لهذا وجهاً واحداً ولا دليلاً من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا عقل بل ما ذكرنا يدل دلالة صريحة على اشتراك الأحياء والأموات في ثواب الأعمال الخيرية عموماً وإنما وصل نفعه إلى الأحياء من ثواب فإنه أيضاً يصل إلى الأموات (1) .
ثانياً : قالوا في الجواب عن قول الشيخ عبد الله :[ ولم يقع للأضحية عن الميت ذكر في كتب الفقهاء من الحنابلة المتقدمين لا في المغني على سعته ولا في الكافي … الخ ] .
فالجواب : إن الإمام أبا داود صاحب السنن قد عقد للضحية عن الميت باباً في سننه ، وهو كما أنه من المحدثين يعتبر من كبار أصحاب الإمام أحمد بن حنبل ، صنّف كتاباً كاملاً في المسائل التي تلقاها من الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ، وله ترجمة حافلة في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى ، فلا وجه ما دام الأمر كذلك لقول الشيخ بأن هذه المسألة لم يقع لها ذكر في كتب الحنابلة المتقدمين .
ثم يستفسر فضيلته عن سبب تلقيه حسبما يقتضيه كلامه كلام ابن القيم وابن كثير والشوكاني والصنعاني لو جاء عنهم شيء في هذا الباب ، بينما نراه يرفض كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذي هو إمام الجميع .
هذا مع أن جمهور فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم ذكروا ذلك في كتبهم فمنهم من صرَّح بذكر جواز الأضحية عن الميت ، ومنهم من لم يصرح بذكرها بل أجملها مع غيرها من سائر القرب الخيرية ، فممن صرح بذكرها عبد الله بن المبارك وأبو داود والترمذي وابن أبي شيبة والحاكم والقاضي ابن العربي وصاحب عون المعبود شرح سنن أبي داود والنووي وأبو الحسن العبادي وصاحب غنية الألمعي وصاحب مغني ذوي الأفهام وصاحب الإقناع وصاحب غاية المنتهى وصاحب كشّاف القناع وصاحب ردّ المحتار وصاحب الروضة وصاحب شرح الغاية وصاحب التوضيح وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم حيث
قال : وقد نبّه الشارع بوصول ثواب الصدقة عن الميت على وصول ثواب سائر العبادات المالية ونبّه بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب سائر العبادات البدنية وأخبر بوصول ثواب الحج المركّب من المالية والبدنية فالأنواع الثلاثة ثابتة بالنص والاعتبار (2).
وقد سئل صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داود هل ثبتت الأضحية عن الأموات ويصل ثوابها ؟
فأجاب : الأضحية عن الميت سنة ويصل ثوابها إليه بلا مرية ، ثم ساق الأحاديث الواردة في هذا الباب وهو ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يضحي عن أمته ممن شهد لله بالتوحيد وشهد له بالبلاغ وعن نفسه وعن أهل بيته ومن المعلوم أن بعض أمته - صلى الله عليه وسلم - ممن شهد لله بالتوحيد وله بالبلاغ قد ماتوا في عهده - صلى الله عليه وسلم - فالأموات والأحياء كلهم من أمته دخلوا في أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والكبش الواحد كما كان للأحياء من أمته فهو كذلك للأموات من أمته ، بلا تفريق وهذا الحديث أخرجه الأئمة من طرق متعددة عن جماعات من الصحابة كجابر بن عبد الله وأبي طلحة الأنصاري وأنس بن مالك وعائشة أم المؤمنين وأبي هريرة وحذيفة بن أسيد وأبي رافع وعلي رضي الله عنهم أجمعين .
__________
(1) المصدر السابق ص 31 ، 32 ، 36 ، 37 بتصرف .
(2) المصدر السابق ص40-41 .(/63)
والمقصود أن حديث أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمته روي من طرق متعددة وإسناد بعض طرقه صحيح ، وبعض طرقه حسن قوي وبعض طرقه ضعيف ، لكن لا يضر ضعف بعض الطرق فإن الطرق الضعيفة حينئذ تكون بمنزلة الشواهد والمتابعات ، ثم إنه لو لم يأت في هذا الباب إلا رواية عائشة أم المؤمنين التي أخرجها أحمد ومسلم وأبو داود لكانت كافية للاحتجاج باستحباب التضحية عن الأموات ويؤيد هذه الرواية حديث جابر بن عبد الله وأبي طلحة الأنصاري وأنس بن مالك وأبي هريرة وحذيفة بن أسيد وأبي رافع وعلي بن أبي طالب ، وهذه الأحاديث كلها تدل دلالة واضحة على أنه يجوز للرجل أن يضحي عنه وعن أتباعه وأهل بيته وعن الأموات ويشركهم معه في الثواب (1) .
ثالثاً : وأجابوا عن تضعيف الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود لحديث تضحية علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - … الخ .
قالوا : إن هذا الحديث قد ذكره أبو داود في سننه تحت عنوان ( باب الأضحية عن الميت ) وسكت عنه .
وقد قال أبو داود عن سننه : أني ذكرت الصحيح وما يشبه ويقاربه وما كان فيه وهن شديد بينته وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح وبعضها أصح من بعض .
وروي عنه أنه قال : وما سكتُّ عنه فهو حسن . وقال أيضاً : ما ذكرت في كتابي يعني السنن ، حديثاً اجتمع الناس على تركه .
وكذلك ترجم الترمذي في جامعه حديث علي فقال – باب الأضحية عن الميت – إشارة إلى أن الحديث من أدلتهم ، وقد قال الترمذي في كتاب العلل عن سننه : جميع ما في هذا الكتاب من الحديث معمول وبه أخذ به بعض أهل العلم ما عدا حديثين حديث جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر … وحديث إذا شرب الخمر … في الرابعة فاقتلوه …
وأما الحاكم فقد جمع بين الاحتجاج بالحديث وبين تصحيحه .
قال : وقد رويت أخبار في الأضحية عن الأموات ثم ساق حديث علي ، وقد وافق الحاكم في تصحيحه لهذا الحديث الحافظ الذهبي في تلخيصه للمستدرك.
وذكره الإمام أحمد في مسنده من غير وجه وعلق عليه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله فقال : إن حديث علي صحيح .
فتبين من ذلك أن حديث علي في نظر هؤلاء الأئمة الحفاظ وهم أبو داود والترمذي والحاكم والذهبي ليس كما هو في نظر فضيلة الشيخ من تضعيفه له .
وقد قال ابن عبد البر : كل ما سكت عليه أبو داود فهو صحيح عنده لا سيما إن كان لم يذكر في الباب غيره .
فظهر من ذلك عدم ضعف حديث علي عند أبي داود وأنه صالح للاحتجاج به لا سيما وقد عضده حديث أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمته الذي رواه ابن ماجة عن عائشة وأبي هريرة … والمقصود بيان أن حديث علي وإن تكلم في سنده من تكلم فيه من أهل العلم ، فقد أورده بعضهم مورد الاحتجاج وصححه بعضهم ، وتؤيده الأحاديث الصحيحة في أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمته منفردين ومشتركين معه .
كما أن القاعدة الأصولية تنص على أن الحديث الضعيف أقوى وأفضل من رأي المجتهد هذا على فرض ضعف حديث علي فكيف وحديث علي صحيح (2) .
رابعاً : وأجابوا على قول الشيخ عبد الله بأن أهل المعرفة بالحديث متفقون على أنه لا يوجد في الأضحية حديث صحيح .
الجواب أن يقال للشيخ من قال لك إن أهل الحديث متفقون على أنه لا يوجد في الأضحية عن الميت حديث صحيح ، أو أخبار متواترة مستفيضة .
هذه دعوى من فضيلة الشيخ غير صحيحة ومغالطة غير لائقة ، فمن هم أهل الحديث الذين اتفقوا على أنه لا يوجد في الأضحية حديث صحيح أو خبر متواتر ؟ لِمَ لمْ يذكرهم الشيخ لنا حتى نعرفهم ؟ لكن عدم ذكر الشيخ لهم دليل واضح على عدم صحة هذا القول كيف وقد ورد بذلك ، أعني الأضحية عن الميت – الحديث الصحيح الذي اتفق علماء الحديث والفقه على صحته ، وهو حديث أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته فهو شامل للأحياء والأموات من أمته باتفاق أهل المعرفة بالحديث والفقه وكذلك الشيخ نفسه قد اعترف بذلك . وقد أورد في رسالته أحاديث أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته وذكر أن أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته شامل للأموات والأحياء كما سيأتي بيانه كيف والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو المشرع ؟ فإذا قال قولاً وعمل عملاً شرع للأمة العمل به إلا إذا دل الدليل على خصوصيته - صلى الله عليه وسلم - به فلا يشرع في حق أمته فعله وهذه قاعدة مطردة معروفة عند العلماء ، فالأضحية عن الميت مشروعة في حقه كما هي مشروعة في حق الحي لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) المصدر السابق ص47-48 بتصرف .
(2) المصدر السابق ص 66-68 .(/64)
إلا إذا أتى دليل قاطع يدل على أن أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته خاص به دون غيره ، ولا سبيل إلى ذلك فكيف يقول الشيخ بعد ذلك أن أهل الحديث قد اتفقوا على أنه لم يرد في الأضحية عن الميت حديث صحيح يعتبر وأيضاً فذكر الشيخ أن أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - - صلى الله عليه وسلم - لأمته شامل للأموات والأحياء اعتراف منه بمشروعية الأضحية عن الميت وكذلك أيضاً حديث علي في أضحيته للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقد رأى جمهور الفقهاء والمحدثين أن حديث علي - رضي الله عنه - مقبول وهو أيضاً دليل على جواز الأضحية عن الميت (1) .
ردّ المانعين للأضحية عن الميت على المجيزين :
وقد ناقش الشيخ عبد الله المجيزين للأضحية عن الميت ورد على أجوبتهم عن أدلته بما يطول ذكره ولكني أذكر بعض أجوبته .
ذكر الشيخ عبد الله كلام الشيخ عبد العزيز بن رشيد ونصه :
الوجه الثاني : أن الأضحية عن الميت كالصدقة عنه وكالحج ، وهذا جائز شرعاً . وهل الأضحية عن الميت إلا نوع من الصدقة يصله ثوابها كسائر القرب ، وأي فرق بين وصول ثواب الصدقة والحج وبين وصول ثواب الأضحية وما هذه الخاصية التي منعت وصولثواب الأضحية ، واقتضت وصول بقية الأعمال ، وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات إلا أن يقول قائل : إن الأضحية ليست بقربة ، وما أظن أحداً يتجرأ على ذلك ، لأنها مكابرة
فالجواب : أن نقول : أن الشارع الحكيم ورسول رب العالمين هو الذي فرَّق بين الصدقة والأضحية ، لأن الحلال ما أحله الله ورسوله ، والدين ما شرعه الله في كتابه وعن لسان نبيّه ، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأولاد بأن يتصدقوا عن آبائهم الميتين وأن يقضوا واجباتهم من حج وصوم ولم يأمر أحداً بأن يضحي عن والديه الميتين ، ونحن متبعون لا مشرعون ، لأن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع ، لا على الاستحسان والابتداع ، ولهذا قال بعض السلف : كل عبادة لم يتعبدها رسول الله ولا أصحابه فلا تتعبدوها ، فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً ، والأضحية عن الميت بانفراده لم يفعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعلها أحد من أصحابه ، بخلاف الصدقة فقد ثبتت (2) .
ثم ذكر كلام الشيخ عبد العزيز بن رشيد ونصه :
( إن النصوص تتظاهر على وصول ثواب الأعمال إلى الميت ، إذا فعلها الحي عنه وهذا محض القياس ، فإن الثواب حق للعامل ، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك ، كما لم يمنع من هبته ماله في حياته ، وقد نبّه الشارع بوصول ثواب الصدقة على وصول سائر العبادات المالية ونبّه بوصول ثواب الصوم على وصول سائر العبادات البدنية ، وأخبر بوصول الحج المركب بين المالية والبدنية .)
فالجواب : أما قوله بقياس العبادات التي هي عند الله وأمرها إلى الله ، على هبة المال الذي يملكه صاحبه في الدنيا ويتصرف فيه كيف يشاء ، من بيع وعطاء ، فإنه قياس مع الفارق حتى ولو قال به من قال ، فإن الآيات المثبتة للجزاء على الحسنات والسيئات ، تبطل دعوى ملكية الإنسان لثواب عباداته ، لأنه عبد لله وأعماله مملوكة لله ، وليس من شأنه أن يتصرّف في أعماله بهبتها لمن لا يعملها ، لكون الجزاء على الأعمال ليست مملوكة للعامل ، وإنما هي فضل من الله يتفضل به على من يشاء من عباده والناس منهم المقبول عمله ومنهم المردود ، ومن نوقش الحساب يهلك ، لأن الله سبحانه إذا بسط عدله على عبده وحاسبه على حسناته وسيئاته لم يبق له حسنة ، وإذا بسط فضله على عبده ، لم يبق له سيئة ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( ما منكم أحد يدخل الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمته ) ، ولو جاز هبة الأعمال قياساً على هبة المال لجاز بيعها ، إذ الهبة نوع من البيع ، فالفرق بين هبة المال وبين هبة الأعمال كالفرق بين الدنيا والآخرة وكالفرق بين العبادات والعادات ، وبهذا يتبين بطلان قوله : إن الثواب حق للعامل ، فإذا وهبه لم يمنع منه ، لأنه ليس للعامل حق ثابت على الله … (3) .
وردّ الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود في رسالته المسماة :[ إعادة الحديث في البحث الجاري مع الشيخ إسماعيل الأنصاري فيما يتعلق بالأضاحي عن الأموات ] على أدلة المخالفين له فنقل كلام الشيخ إسماعيل الأنصاري ونصه :
وأما أبوبكر العربي ، فقد قال في شرح الترمذي ( ج6-ص290 ) قال : اختلف أهل العلم : هل يضحى عن الميت ، مع اتفاقهم أنه يتصدق عنه والضحية ضرب من الصدقة ، أنها عبادة مالية وليست كالصلاة والصيام .
وقال عبد الله بن المبارك : أحب إليَّ أن يتصدق عنه بثمن الأضحية ولا يضحي فإن ضحى فلا يأكل منها شيئاً . قال ابن العربي : الصدقة والأضحية سواء في الأجر عن الميت انتهى .
__________
(1) المصدر السابق ص74-76 .
(2) مباحث التحقيق مع الصاحب الصديق ص26 .
(3) المصدر السابق ص40-41 .(/65)
فالجواب : أن أبا بكر بن العربي لمّا طرق موضوع هذا الحديث قال : وبالجملة ، فهذا حديث مجهول .
فابتلع الشيخ إسماعيل هذه الجملة في بطنه حيث استباح كتمانها وعدم بيانها ، وهي متصلة بالكلام الذي ذكره كاتصال السبابة بالوسطى ، وكان من واجب أمانة البحث أن يأتي بها ثم يتعقبها بما يشاء من التصحيح أو التضعيف ، حسبما تقتضيه أمانة التأليف ، فإن العلم أمانة والكتمان خيانة ، والله لا يصلح كيد الخائنين ، ومتى ثبتت جهالة هذا الحديث سقط الاحتجاج به ولم يبق سوى رأي أبي بكر بن العربي والراي يخطئ ويصيب وهو رجل ونحن رجال… (1) .ويكفي هذا القدر من الردود لأن الوضع لا يحتمل التفصيل والتطويل في المناقشات والردود .
القول الراجح :
بعد إجالة النظر والفكر في أقوال أهل العلم وأدلتهم في التضحية عن الميت ، أختار وأرجح القول بجواز الأضحية عن الميت ، ويؤيد هذا الترجيح عندي ما يلي :
أولاً : قد قامت الأدلة الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على انتفاع الميت بسعي غيره ، كما في قول الله عز وجل :} وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ { سورة الحشر الآية 10 .
وقد صحت الأحاديث بذلك كما في الدعاء للميت في صلاة الجنازة ، وبعد الدفن وعند زيارة القبور .
وكذلك الصدقة عن الميت كما في حديث سعد بن عبادة - رضي الله عنه - السابق ، والأضحية عن الميت نوع من الصدقة عنه ، فتصح عن الميت وينتفع بها إن شاء الله تعالى .
ثانياً : ثبتت الأحاديث الصحيحة في أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه وعن أمته ، كما في حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم ، وحديث جابر - رضي الله عنه - في السنن ، وحديث أبي رافع في المسند .
وقد قال شارح العقيدة الطحاوية معلقاً على حديث أبي رافع في تضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين عنه وعن أمته :[ والقربة في الأضحية إراقة دم ، وقد جعلها لغيره ] (2) .
ثالثاً : إن حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في تضحيته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمره بذلك ، الذي رواه أبو داود والترمذي وأحمد والبيهقي والحاكم ، يصلح دليلاً للجواز مع أن بعض أهل الحديث قد ضعفه .
ولكن أبا داود سكت عنه واحتج به وخاصة أنه لم يرو في الباب غيره .
كما أن الحاكم قد صححه ووافقه الذهبي على ذلك ، وصححه الشيخ أحمد محمد شاكر والتهانوي من علماء هذا العصر .
ثم لو سلَّمنا ضعف حديث علي هذا ، فإن الأحاديث الصحيحة في تضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمته تشهد له .
وكذلك فإنه وإن كان ضعيفاً فيصح العمل به في هذه الفضيلة من فضائل الأعمال ، ألا وهي الأضحية عن الميت ، فإن ذلك يدخل تحت أصل صحيح ثابت ، وهو انتفاع الميت بسعي غيره .
والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب
تم الكتاب بقلم مؤلفه الدكتور حسام الدين موسى عفانه فجر يوم الأحد المسفر عن اليوم الرابع عشر من شوال سنة 1419 هـ الموافق الحادي والثلاثين من كانون الثاني 1999 .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
قائمة المصادر
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام تقي الدين بن دقيق العيد عالم الكتب
أحكام الذبائح في الإسلام د. محمد أبو فارس مكتبة المنار/الأردن
أحكام العقيقة في الشريعة الإسلامية د.حسام الدين عفانه مطبعة الإسراء/القدس
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي
أضواء البيان في ايضاح القرآن بالقرآن محمد الأمين الشنقيطي دار الكتب العلمية
إعادة البحث الجاري مع الشيخ اسماعيل الأنصاري عبد الله بن زيد مطابع قطر
إعلاء السنن ظفر أحمد التهانوي دار الكتب العلمية
أنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء قاسم القونوي دار الوفاء
الآثار أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم دار الكتب العلمية
الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان علاء الدين الفارسي مؤسسة الرسالة
الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع محمد الشربيني الخطيب دار الفكر
الأم محمد بن إدريس الشافعي دار المعرفة
الأمنية في إدراك النية أحمد بن إدريس القرافي دار الباز مكة المكرمة
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف المرداوي دار إحياء التراث العربي
الاختيارلتعليل المختار عبد الله بن محمود الوصلي دار المعرفة
الاختيارات العلمية علاء الدين علي البعلي مطبعة كردستان العلمية القاهرة
الاستذكار الحافظ بن عبد البر مؤسسة الرسالة
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع علاء الدين الكاساني مؤسسة التاريخ العربي
بداية المجتهد ونهاية المقتصد ابن رشد الحفيد دار الفكر
بذل المجهود في حل أبي داود خليل أحمد السهارنفوري دار الكتب العلمية
بلغة السالك لأقرب المسالك أحمد الصاوي دار الفكر
__________
(1) المصدر السابق
(2) شرح العقيدة الطحاوية 516 .(/66)
بلوغ المرام من أدلة الأحكام الحافظ ابن حجر العسقلاني المطبعة الرحمانية القاهرة
تاج العروس من جواهر القاموس مرتضى الزبيدي دار الفكر
التحقيق في أحاديث الخلاف أبو الفرج ابن الجوزي دار الكتب العلمية
الترغيب والترهيب الحافظ زكي الدين المنذري دار إحياء التراث العربي
التفسير الكبير فخر الدين الرازي دار إحياء التراث العربي
التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير الحافظ ابن حجر العسقلاني
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق فخر الدين عثمان الزيلعي دار المعرفة
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي الحافظ المباركفوري دار الكتب العلمية
تحفة الفقهاء علاء الدين السمرقندي دار الكتب العلمية
تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج ابن الملقن دار حراء
تحفة المودود بأحكام المولود ابن القيم المكتبة القيمة القاهرة
تخريج أحاديث شرح العقيدة الطحاوية ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي
تصحيح الفروع علاء الدين المرداوي عالم الكتب
تفسير ابن كثير الحافظ ابن كثير دار إحياء التراث العربي
تفسير القرطبي محمد بن أحمد القرطبي دار القلم
تفسير ظلال القرآن سيد قطب دار إحياء التراث العربي
تقريب التهذيب الحافظ ابن حجر العسقلاني دار نشر الكتب الإسلامية باكستان
تقرير القواعد وتحرير الفوائد الحافظ ابن رجب دار بن عفان السعودية
تكملة شرح فتح القدير قاضي زاده أفندي دار أحياء التراث العربي
جامع الأمهات جمال الدين بن الحاجب المالكي اليمامة
جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ابن القيم دار الكتب العلمية
الحاوي الكبير أبو الحسن الماوردي دار الكتب العلمية
الحجج القوية والأدلة القطعية في الرد على من قال إن الأضحية عن الميت غير شرعية
علي بن عبد الله الحواس مطبعة المدينة الرياض
حاشية ابن عابدين محمد أمين الشهير بابن عابدين مطبعة الحلبي
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير محمد عرفه الدسوقي دار إحياء الكتب العربية
حاشية العدوي على شرح الخرشي علي العدوي دار صادر
الدر المختار شرح تنوير الأبصار الحصكفي مطبعة الحلبي
الدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الضحية وهل الضحية عن الميت شرعية أو غير شرعية عبد الله بن زيد آل محمود مؤسسة الرسالة
الذخيرة شهاب الدين القرافي دار الغرب الإسلامي
الروح ابن القيم دار الكتب العلمية
روضة الطالبين أبو زكريا يحيى النووي دار الكتب العلمية
زاد المعاد في هدي خير العباد ابن القيم مؤسسة الرسالة
السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار الشوكاني دار الكتب العلمية
سبل السلام شرح بلوغ المرام الأمير الصنعاني دار إحياء التراث العربي
سلسلة الأحاديث الصحيحة ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي
سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي
سنن أبي داود أبو داود السجستاني دار الكتب العلمية
سنن ابن ماجه ابن ماجة القزويني دار الكتب العلمية
سنن البيهقي أبو بكر أحمد البيهقي دار الفكر
سنن الترمذي أبو عيسى الترمذي دار الكتب العلمية
سنن الدارقطني علي بن عمر الدارقطني عالم الكتب
سنن النسائي أحمد بن شعيب النسائي دار الكتب العلمية
الشرح الكبير أحمد الدردير دار إحياء الكتب العلمية
شرح ابن القيم على سنن أبي داود بهامش عون المعبود لابن القيم دار الكتب العلمية
شرح الآبي على صحيح مسلم محمد بن خلفة الآبي دار الكتب العلمية
شرح الخرشي على مختصر سيدي خليل محمد الخرشي المالكي دار صادر
شرح السنة الحسين بن مسعود البغوي المكتب الإسلامي
شرح العقيدة الطحاوية ابن أبي العز الحنفي المكتب الإسلامي
شرح فتح القدير كمال الدين بن الهمام دار إحياء التراث العربي
شرح النووي على صحيح مسلم محيي الدين يحيى النووي دار الخير
شرح معاني الآثار أبو جعفر الطحاوي دار الكتب العلمية
الصحاح اسماعيل بن حماد الجوهري دار العلم للملايين
صحيح البخاري محمد بن إسماعيل البخاري مطبعة الحلبي
صحيح الترغيب والترهيب ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي
صحيح الجامع الصغير ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي
صحيح سنن أبي داود ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي
صحيح سنن ابن ماجه ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي
صحيح مسلم مسلم بن الحجاج القشيري دار الخير
ضعيف الجامع الصغير ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي
طبقات الشافعية الكبرى تاج الدين بن السبكي دار إحياء الكتب العربية
طرح التثريب في شرح التقريب زين الدين العراقي دار إحياء التراث العربي
عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي ابن العربي المالكي دار الكتب العلمية
عمدة القاري شرح صحيح البخاري بدر الدين العيني دار إحياء التراث العربي
عون المعبود شرح سنن أبي داود شمس الحق العظيم آبادي دار الكتب العلمية
الفتاوى البزازية ابن البزاز الكردري دار الفكر
الفتاوى الكبرى الفقهية ابن حجر المكي الهيتمي دار صادر
الفتاوى الهندية جماعة من علماء الهند دار الفكر(/67)
الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد أحمد البنا دار إحياء التراث العربي
الفروع ابن مفلح المقدسي عالم الكتب
الفقه الإسلامي وأدلته د. وهبة الزحيلي دار الفكر
فتاوى إسلامية عبد العزيز بن باز ومحمد بن عثيمين دار الأرقم
فتاوى الرملي محمد بن أحمد الرملي دار صادر
فتاوى منار الإسلام محمد بن عثيمين دار الوطن
فتح الباري بشرح البخاري الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني مطبعة الحلبي
فتح المالك بتبويب التمهيد على موطأ مالك مصطفى صميدة دار الكتب العلمية
فتح باب العناية بشرح النقاية ملا علي القاري دار الأرقم
فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت محب الله بن عبد الشكور مطبعة المثنى
فيض القدير شرح الجمع الصغير محمد عبد الرؤوف المناوي دار الكتب العلمية
القوانين الفقهية ابن جزي المالكي دار القلم
كشاف القناع عن متن الإقناع منصور البهوتي دار الفكر
كشف الخفاء ومزيل الإلباس إسماعيل العجلوني دار إحياء التراث العربي
كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار تقي الدين الحسيني الحصني دار الخير
اللباب في الجمع بين السنة والكتاب علي بن زكريا المنبجي دار الشروق
المجلى في تحقيق أحاديث المحلى علي رضا بن عبد الله دار المأمون
المجموع شرح المهذب محيي الدين يحيى النووي دار الفكر
المحلى بالآثار علي بن أحمد ابن حزم دار الفكر
المستدرك على الصحيحين أبو عبد الله الحاكم دار الكتب العلمية
المصباح المنير في غريب الشرح الكبير أحمد بن محمد الفيومي المكتبة العلمية
المغني أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي مكتبة القاهرة
منتقى الأخبار مجد الدين عبد السلام بن تيمية مطبعة الحلبي
المهذب أبو إسحاق الشيرازي دار الفكر
الموسوعة الفقهية الكويتية مكتبة آلاء الكويت
الموطأ الإمام مالك بن أنس دار الحديث القاهرة
مباحث التحقيق مع الصاحب الصديق عبد الله بن زيد مطابع قطر الوطنية
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد نور الدين علي الهيثمي دار الكتاب العربي
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية دار العربية
مختصر المزني مع الأم المزني دار المعرفة
مختصر المزني مع شرحه الحاوي الكبير المزني دار الكتب العلمية
مشكاة المصابيح محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي المكتب الإسلامي
مصنف ابن أبي شيبة الحافظ عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الدار السلفية
مصنف عبد الرزاق الحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني المكتب الإسلامي
معالم السنن شرح سنن أبي داود أبو سليمان الخطابي دار الكتب العلمية
معجم فقه السلف محمد المنتصر الكتاني مطابع الصفا مكة المكرمة
معرفة السنن والآثار أبو بكر أحمد البيهقي دار الوفاء
مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج الشربيني الخطيب دار الكتب العلمية
مقاصد المكلفين د. عمر الأشقر دار النفائس
ملتقى الأبحر ابراهيم الحلبي مؤسسة الرسالة
منار السبيل في شرح الدليل ابراهيم بن ضويان المكتب الإسلامي
نصب الراية لأحاديث الهداية جمال الدين الزيلعي المجلس العلمي
نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار محمد بن علي الشوكاني مطبعة الحلبي
الهداية شرح البداية برهان الدين المرغيناني دار التراث العربي
الهداية في تخريج أحاديث البداية أحمد بن الصديق الغماري عالم الكتب
يسألونك د. حسام الدين عفانه مطبعة بيت المقدس
تمت قائمة المصادر
فهرس
الموضوع ... رقم الصفحة
الفصل الأول : حكم الأضحية وشروطها ... 4
المبحث الأول : تعريف الأضحية لغةً واصطلاحاً ... 5
المبحث الثاني : مشروعية الأضحية ... 7
فضل الأضحية ... 10
المبحث الثالث : الحكمة من مشروعية الأضحية ... 13
المبحث الرابع : حكم الأضحية ... 21
أدلة العلماء ... 21
أدلة الجمهور على أن الأضحية سنة مؤكدة وليست واجبة ... 22
أدلة القائلين بوجوب الأضحية ... 26
مناقشة وترجيح ... 30
المبحث الخامس : أيهما أفضل الأضحية أم التصدق بثمنها ... 38
المبحث السادس : هل الأضحية مشروعة في حق المسافر والحاج ؟ ... 40
أقوال العلماء ... 40
أدلة الجمهور ... 40
أدلة الحنفية ... 42
أدلة الإمام مالك ... 43
القول الراجح ... 45
المبحث السابع : في حق من تشرع الأضحية ... 46
المبحث الثامن : شروط الأضحية ... 47
الشرط الأول : أن تكون الأضحية من الأنعام ... 47
الشرط الثاني : أن تبلغ سن التضحية ... 50
اختلاف الفقهاء في المراد بالجذع والثني ... 55
حكم التضحية بالعجول المسمنة التي لم تبلغ السن المقرر شرعاً ... 57
الشرط الثالث : أن تكون الأضحية سليمة من العيوب المانعة من صحة الأضحية ... 60
ذكر صفات قد توجد في الأضحية واختلاف الفقهاء فيها ... 63
صفات في العين ... 63
صفات في الأذن ... 64
صفات في القرن ... 66
صفات في الأنف ... 68
صفات في اللسان والأسنان ... 68
صفات في الضرع ... 70
صفات في الذنب والأليّة ... 70
صفات أخرى ... 71
المبحث التاسع : الحد الفاصل بين القليل والكثير في عيوب الأضحية ... 76
المبحث العاشر : طروء العيب المخلّ على الأضحية بعد تعيينها ... 78(/68)
المبحث الحادي عشر : المجزئ في الأضحية ... 82
المطلب الأول : المجزئ من الغنم ... 82
المطلب الثاني : المجزئ من الإبل والبقر ... 86
المطلب الثالث : الاشتراك في الأضحية في الإبل والبقر فقط ... 88
المطلب الرابع : ما هو الأفضل في الأضحية من أنواع الأنعام ... 90
المطلب الخامس : تسمين الأضحية ... 96
المطلب السادس : أفضل الأضحية لوناً ... 98
المبحث الثالث عشر : اجتماع الأضحية والعقيقة ... 100
الفصل الثاني : ما يتعلق بالمضحي ووقت الأضحية ... 103
المبحث الأول : ما يطلب ممن أراد التضحية عند دخول أول ذي الحجة ... 104
ما المراد بالنهي عن الأخذ من الشعر والظفر الوارد في حديث أم سلمة ... 110
المبحث الثاني : وقت الأضحية ... 111
المطلب الأول : أول وقت الأضحية ... 111
القول الراجح في المسألة ... 114
المطلب الثاني : آخر وقت ذبح الأضحية ومدته ... 115
القول الراجح في آخر وقت الأضحية ... 120
المطلب الثالث : حكم ذبح الأضحية ليلاً ... 123
المطلب الرابع : الذبح قبل صلاة العيد ... 126
المطلب الخامس : حكم الذبح بعد صلاة العيد وقبل أن يذبح إمام المسلمين أضحيته ... 127
المطلب السادس : أفضل وقت لذبح الأضحية ... 128
المطلب السابع : إذا اشترى أضحية فضلت أو ماتت قبل أن يذبحها ... 129
المطلب الثامن : إذا فات وقت الأضحية ولم يضح فماذا يترتب على من أراد الأضحية ... 130
المبحث الثالث : ما يطلب من المضحي عند الذبح وبعده ... 131
المطلب الأول : ما يطلب من المضحي عند الذبح ... 131
أولاً : النية ... 131
ثانياً : ربط الأضحية قبل الذبح ... 132
ثالثاً : أن يسوق الأضحية إلى محل الذبح سوقاً جميلاً لا عنيفاً ... 132
رابعاً : أن يحد السكين قبل الذبح ... 133
خامساً : أن لا يحد السكين أمام الحيوان الذي يريد ذبحه ... 133
سادساً : يستحب اضجاع الغنم والبقر في الذبح ... 133
سابعاً : استقبال القبلة من الذابح والذبيحة ... 134
ثامناً : أن يتولى ذبحها بنفسه إن كان يحسن الذبح وإلا شهد ذبحها ... 135
تاسعاً : التسمية والتكبير عند الذبح ... 137
عاشراً : الدعاء والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التسمية والتكبير ... 137
الحادي عشر : الاستعانة في ذبح الأضحية والإنابة في ذبحها ... 138
تنبيه هام ... 140
المطلب الثاني : ما يكره أن يفعله بالأضحية قبل وقت ذبحها ... 141
أولاً : حلب الأضحية ... 141
ثانياً : جز صوفها ... 142
ثالثاً : حكم ولدها ... 142
المبحث الرابع : الانتفاع بالأضحية ... 144
المطلب الأول : الانتفاع بالأضحية المسنونة ... 144
أولاً : الأكل من الأضحية ... 144
ثانياً : التصدق من الأضحية ... 147
ثالثاً : الهدية من الأضحية ... 148
المطلب الثاني : الانتفاع بالأضحية المنذروة ... 149
المطلب الثالث : الادخار من لحم الأضحية ... 150
المطلب الرابع : أجرة الجزار ... 152
المطلب الخامس : بيع شيء من الأضحية والانتفاع بجلدها ... 153
المطلب السادس : إذا اشترى أضحية فهل يجوز له أن يبدلها بخير منها ؟ ... 155
المطلب السابع : نقل الأضحية ... 157
المبحث الخامس : الأضحية عن الميت ... 158
القول الأول ... 158
الأقوال الأخرى ... 159
أدلة القول الأول ... 159
أدلة القول الثاني ... 163
أدلة القول الثالث ... 164
مناقشة الأدلة : ردّ المجيزين للأضحية عن الميت على المانعين ... 172
ردّ المانعين للأضحية عن الميت على المجيزين ... 177
القول الراجح ... 180
قائمة المصادر ... 182
الفهرس ... 188(/69)
المفصل في مناسك الحج
أولاً: تعريفه.
ثانياً: تاريخ الحج.
ثالثا: متى فرض الحج؟
رابعا: في أي سنة حجّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم؟
خامسا: وقفات لمن أراد الحج أو العمرة.
سادسا: فضل الحج ومكانته في الإسلام.
سابعا: شروط الحج.
ثامنا: مواقيت الحج والعمرة.
تاسعاً: الإحرام.
عاشراً: التلبية.
حادي عشر: الأنساك الثلاثة.
ثاني عشر: صفة العمرة والحجّ.
ثالث عشر: أركان الحجّ.
رابع عشر: واجبات الحجّ.
خامس عشر: أركان العمرة.
سادس عشر: واجبات العمرة.
سابع عشر: محظورات الإحرام.
ثامن عشر: الهدي والأضاحي.
تاسع عشر: أخطاء يقع فيها بعض الحجاج والمعتمرين والزائرين.
عشرون: أحكام الزيارة وآدابها.
أولاً: تعريفه:
قال ابن منظور: "الحج: القصد، حج إلينا فلان أي قدم، ورجل محجوج أي مقصود، وقد حج بنو فلان فلاناً إذا أطالوا الاختلاف إليه".
قال ابن السكيت: "ثم تعورف استعماله في القصد إلى مكة للنسك والحجّ إلى البيتِ خاصة."
وقال ابن تيمية: "ثم غلب في الاستعمال الشرعي والعرفي على حج بيت الله سبحانه وتعالى وإتيانه فلا يفهم عند الإطلاق إلا هذا النوع الخاص من القصد؛ لأنه هو المشروع الموجود كثيراً".
وقال ابن قدامة: "الحج اسم لأفعال مخصوصة".
وقال ابن حجر معرفاً الحج في الشرع: "القصد إلى البيت الحرام بأعمال مخصوصة".
ثانياً: تاريخ الحج:
· بناء البيت:
قال تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منّا إنّك أنت السميع العليم}. قال ابن كثير: "القواعد جمع قاعدة، وهي السارية والأساس، يقول تعالى: واذكر - يا محمد - لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت، ورفعهما القواعد منه، وهما يقولان: {ربنا تقبل منّا إنّك أنت السميع العليم} فهما في عمل صالح، وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما".
ثم أعادت قريش بناء الكعبة وشارك النبيُّ صلى الله عليه وسلم في بنائها وعمره وقتها خمس وثلاثون سنة على ما يذكره ابن إسحاق. وقد نقصت مؤنتهم عن إكمال الركنين الشاميين بقدر ستة أذرع من جهة الحطيم.
· نداء إبراهيم:
قال تعالى: {وأذِّن في النّاس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كلّ فجّ عميق}.
قال ابن كثير: "أي: نادِ في الناس داعيًا لهم إلى الحجّ إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه فذُكِر أنّه قال: يا ربّ، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا يصلهم؟ فقيل: ناد وعلينا البلاغ. فقام على مقامه، وقيل: على الحجر. وقيل: على الصفا. وقيل: على أبي قبيس. وقال: أيّها النّاس، إنّ ربّكم قد اتخذ بيتًا فحجُّوه، فيقال: إنّ الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيءٍ سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنّه يحجّ إلى يوم القيامة".
فإبراهيم عليه السلام هو أول من حجّ البيتَ.
· شعائر الحجّ من إرث إبراهيم عليه السلام:
عن ابن مربع الأنصاري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قفوا على مشاعركم، فإنّكم على إرثٍ من إرث أبيكم إبراهيم)) رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني.
· السعي بن الصفا والمروة:
قال ابن عبّاس ـ في قصة وضع إبراهيم عليه السلام لزوجته هاجر وابنه إسماعيل عند البيت ـ: (وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها فجعلت تنظر إليه يتلوى – أو قال يتلبط – فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات). قال ابن عباس: (فذلك سعيُّ النّاس بينهما) رواه البخاري.
· رمي الجِمار:
عن ابن عبّاس رضي الله عنهما – في قوله تعالى: {وفديناه بذبح عظيم} قال: (خرج عليه كبش من الجنّة. قد رعى قبل ذلك أربعين خريفًا، فأرسل إبراهيم ابنه واتبع الكبش، فأخرجه إلى الجمرة الأولى، فرماه بسبع حصيات فأفلته عندها، فجاء الجمرة الوسطى فأخرجه عندها، فرماه بسبع حصيات ثم أفلته فأدركه عند الجمرة الكبرى، فرماه بسبع حصيات فأخرجه عندها، ثم أخذه فأتى به المنحر من منى فذبحه، فوالذي نفس ابن عباس بيده لقد كان أول الإسلام، وإنّ رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة قد حشّ). أي يبس.
· حجّ الأنبياء:
وقد جاء في الأخبار بحجّ عدد من الأنبياء مثل موسى عليه السلام ويونس بن متّى عليه السلام.(/1)
عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بوادي الأزرق، فقال: ((أيّ وادٍ هذا؟)). فقالوا: هذا وادي الأزرق. قال: ((كأنِّي أنظر إلى موسى عليه السلام هابطًا من الثنيَّة وله جؤارٌ إلى الله بالتلبية)). ثم أتى ثنيَّة هرشى. فقال: ((أيُّ ثنية هذا؟)). قالوا: ثنيَّة هرشى. قال: ((كأنّي أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة عليه جبة من صوف. خطام ناقته خُلبة، وهو يُلبيِّ)) رواه مسلم.
قال النوويُّ: "أخبر عمّا أوحي إليه صلى الله عليه وسلم من أمرهم وما كان منهم وإن لم يرهم رؤيا عين".
وجاء أنّ عيسى عليه السلام سوف يحجّ آخر الزمان.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده ليُهلنّ ابن مريم بفجِّ الرّوحاء حاجًّا أو معتمرًا، أو ليثنينهما)) رواه مسلم.
· حجّ العرب في الجاهلية:
- الطواف بالبيت عراة:
عن أبي هريرة أنّ أبا بكر الصدِّيق رضي الله عنه بعثه في الحجّة التي أمَّره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجّة الوداع يوم النحر في رهطٍ يؤذِّن في النّاس: أن لا يحجَّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. رواه البخاري.
قال عروة: كان الناس يطوفون بالجاهلية عراة إلاّ الحمس. والحمس قريش وما ولدت. وكانت الحمس يحتسبون على الناس، يعطي الرجلُ الرجلَ الثياب يطوف فيها، وتعطي المرأةُ المرأةَ الثياب تطوف فيها. فمن لم تعطه الحمس طاف بالبيتِ عريانًا. رواه البخاري
- وقوف قريش يوم عرفة بالمزدلفة دون عرفة:
قال عروة: كان يفيض جماعة النّاس من عرفاتٍ، وتفيض الحمس من جمعٍ. قال: فأخبرنِي أبي عن عائشة رضي الله عنها أنّ هذه الآية نزلت في الحمس {ثم أفيضوا من حيث أفاض النّاس}. قال: كان يفيضون من جمعٍ، فدفعوا إلى عرفات. متفق عليه
وقد خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا وكان يقف حيث وقف إبراهيم عليه السلام في الجاهلية وفي حجّة الوداع.
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: أضللتُ بعيرًا فذهبتُ أطلبه يوم عرفة فرأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم واقفًا بعرفة، فقلتُ: هذا والله من الحمس، فما شأنه ههنا؟. رواه البخاري.
وعن جابر رضي الله عنه قال: (فلمّا أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة بالمشعر الحرام لم تشك قريشٌ أنّه سيقتصر عليه، ويكون منزله ثَمَّ، فأجاز ولم يعرض له؛ حتى أتى عرفاتٍ فنَزل) رواه مسلم.
- دفع أهل الجاهلية من عرفات قبل غروب الشمس:
كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفات إذا كانت الشمس على الجبال كالعمائم على رؤوس الرجال، فخالف النبيُّ صلى الله عليه وسلم فدفع بعد غروب الشمس.
- إفاضة أهل الجاهلية من مزدلفة بعد شروق الشمس:
عن ابن عمر قال: (إنّ المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير، وأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس) رواه البخاري.
ثالثا: متى فرض الحج؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "اختلف الناس في ذلك اختلافًا مشهورًا، فقيل: سنة خمس، وقيل: سنة ست، وقيل: سنة سبع، وقيل سنة تسع، وقيل: سنة عشر، [و] الأشبه أنه إنما فرض متأخر، يدل على ذلك وجوه:
أحدها: أن آية وجوب الحج التي أجمع المسلمون على دلالتها على وجوبه، قوله: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} نزلت متأخرة سنة تسع أو عشر.
وأما قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} فإنه نزل عام الحديبية وهو أمر بالإتمام لا يتضمن الأمر بالابتداء.
الثاني: أن أكثر الأحاديث الصحيحة في دعائم الإسلام ليس فيها ذكر الحج.
الثالث: أن الناس قد اختلفوا في وجوبه، والأصل عدم وجوبه في الزمان الذي اختلفوا فيه حتى يجتمعوا عليه، وليس هناك نقل صحيح أنه واجب سنة خمس، أو سنة ست".
وقال محمد الأمين الشنقيطي: "والصحيح أن الحج إنما فرض عام تسع".
وقال ابن عثيمين: "وأما فرض الحج فالصواب: أنه في السنة التاسعة ... فإن قيل: لماذا لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم في التاسعة، وأنتم تقولون على الفور؟
الجواب: لم يحج صلى الله عليه وسلم لأسباب:
1. كثرة الوفود عليه في تلك السنة، ولهذا تسمى عام الوفود، ولا شك أن استقبال المسلمين الذين جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أمر مهم، بل قد نقول إنه واجب على الرسول صلى الله عليه وسلم ليبلغ الناس.
2. أنه في السنة التاسعة من المتوقع أن يحج المشركون، كما وقع فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤخر من أجل أن يتمحض حجه للمسلمين فقط، وكان الناس في الأول يطوفون عراة بالبيت"
رابعا: في أي سنة حجّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم؟(/2)
حجّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من الهجرة، فعن جابر رضي الله عنه قال: (إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحجّ، ثم آذن في الناس في العاشرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجٌ. فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمسون أن يأتمّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله) رواه مسلم.
خامسا: وقفات لمن أراد الحج أو العمرة:
إذا عزم المسلم على السفر إلى الحج أو العمرة استحب له ما يلي:
1. المبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الذنوب:
قال تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}.
قال ابن القيم: "هذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه, وأتى بأداة (لعل) المشعرة بالترجي إيذاناً بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله منهم".
2. رد المظالم إلى أهلها والتحلل منها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم, إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته, وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) رواه البخاري.
قال ابن حجر: "قوله: ((من عرضه أو شيء)) أي من الأشياء وهو من عطف العام على الخاص فيدخل فيه المال بأصنافه والجراحات حتى اللطمة ونحوها، وقوله: ((قبل أن لا يكون دينار ولا درهم)) أي يوم القيامة، ولا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزرة أخرى} لأنه إنما يعاقب بسبب فعله وظلمه ولم يعاقب بغير جناية منه بل بجنايته, فقوبلت الحسنات بالسيئات على ما اقتضاه عدل الله تعالى في عباده".
3. تحرّي النفقة الحلال لحجه وعمرته:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ثم ذكر الرجل يطيل السفر: أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب, ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام , فأنى يستجاب لذلك)) رواه مسلم.
قال ابن رجب: "المراد أنه تعالى لا يقبل من الصدقات إلا ما كان طيباً حلالاً، وقد قيل إن المراد في هذا الحديث أعم من ذلك وهو أنه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً طاهراً من المفسدات كلها كالرياء والعجب ولا من الأموال إلا ما كان طيباً حلالاً، وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يُقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وأن أكل الحرام يفسد العمل ويمنع قبوله".
4. أن يقصد بحجه وعمرته وجه الله والدار الآخرة ويحذر من أن يقصد بحجه الدنيا أو الرياء والسمعة:
قال الله تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً}.
قال السعدي: "يخبر تعالى أن من كان يريد الدنيا العاجلة المنقضية الزائلة فعمل لها وسعى ونسي المبتدأ والمنتهى أن الله يُعجل له من حطامها ومتاعها ما يشاؤه ويريده مما كتب الله له في اللوح المحفوظ, ثم يجعل له في الآخرة جهنم".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك, مَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) رواه مسلم.
قال النووي: "ومعناه أنا غني عن المشاركة وغيرها, فمن عمل شيئاً لي ولغيري لم أقبله, بل أتركه لذلك الغير, والمراد أن عمل المرائي باطل لا ثواب فيه ويأثم به".
5. تعلم أحكام الحج والعمرة وما يتعلق بهما من شروط الحج وواجباته وأركانه وسننه حتى تعبد الله على بصيرة وعلم:
قال عبد العزيز بن باز: "وينبغي له أن يتعلم ما يشرع له في حجه وعمرته ويتفقه في ذلك ويسأل عما أشكل عليه ليكون على بصيرة".
6. اختيار الرفقة الصالحة: فإنهم خير معين لك في هذا السفر المبارك:
قال تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}.
قال السعدي: "ففيهما الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم ومخالطتهم وإن كانوا فقراء, فإن في صحبتهم من الفوائد ما لا يحصى".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)) رواه الترمذي، وحسّنه الألباني في صحيح الجامع.
قال المباركفوري: "قوله: ((على دين خليله)) أي على عادة صاحبه وطريقته وسيرته وقوله: ((من يخالل)) من المخاللة وهي المصادقة والإخاء فمن رضي دينه وخلقه خاله ومن لا تجنبه فان الطباع سراقة والصحبة مؤثرة في إصلاح الحال وإفساد(/3)
سادسا: فضل الحج ومكانته في الإسلام:
1. قال الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}.
قال ابن جرير: "يعني بذلك جل ثناؤه: وفرض واجب لله على من استطاع من أهل التكليف السبيل إلى حج بيته الحرام الحج إليه".
2. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان)) متفق عليه.
3. عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أبسط يمينك فلأبايعك فبسط يمينه، قال فقبضت يدي قال: ((مالك يا عمرو)) قال: قلت: أردت أن اشترط، قال: ((تشترط بماذا)) قلت: أن يغفر لي، قال: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله)) رواه مسلم.
قال النووي: "ففيه عظم موقع الإسلام والهجرة والحج وأن كل واحد منهما يهدم ما كان قبله من المعاصي".
4. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) متفق عليه، واللفظ لمسلم.
قال ابن حجر: "قوله: ((رجع كيوم ولدته أمه)) أي بغير ذنب، وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات".
5. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((جهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)) رواه البخاري.
6. عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: ((لا، ولكن أفضل الجهاد حج مبرور)) رواه البخاري.
7. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور، ليس له جزاء إلا الجنة)) أخرجه البخاري.
8. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة)) أخرجه الترمذي، وصححه الألباني.
9. عن ماعز رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجة بَرّةٌ، تفضل سائر الأعمال كما بين مطلع الشمس إلى مغربها)) أخرجه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب.
10. عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الغازي في سبيل الله، والحاج، والمعتمر، وفد الله دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم)) أخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني.
11. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد منى، فأتاه رجل من الأنصار ورجل من ثقيف فسلما ثم قالا: يا رسول الله جئنا نسألك، فقال: ((إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه فقلتُ، وإن شئتما أن أمسك وتسألاني فعلتُ))، فقالا: أخبرنا يا رسول الله، فقال الثقفي للأنصاري: سل، فقال أخبرني يا رسول الله، فقال: ((جئتني تسألني عن مخرجك من بيتك تؤُمُ البيت الحرام ومالك فيه، وعن ركعتيك بعد الطواف ومالك فيهما وعن طوافك بين الصفا والمروة ومالك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة ومالك فيه، وعن رميك الجمار ومالك فيه، ونحرك ومالك فيه مع الإفاضة)) فقال: والذي بعثك بالحق لَعَن هذا جئت أسألك، قال: ((فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام، لا تضع ناقتك خُفّا ولا ترفعه إلا كتب الله لك به حسنة، ومحا عنك خطيئة، وأما ركعتاك بعد الطواف كعتق رقبة من بني إسماعيل، وأما طوافك بالصفا والمروة كعتق سبعين رقبة، وأما وقوفك عشية عرفة فإن الله يهبط إلى سماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة يقول: عبادي جاؤوني شعثاً من كل فج عميق يرجون رحمتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل أو كقطر المطر، أو كزبد البحر لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفوراً لكم ولمن شفعتم له، وأما رميك الجمار فلك بكل حصاة رميتها تكفير كبيرة من الموبقات، وأما نحرك فمدخور لك عند ربك، وأما حلاقك رأسك فلك بكل شعرة حلقتها حسنة، وتمحى عنك بها خطيئة، وأما طوافك بالبيت بعد ذلك، فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملك حتى يضع يديه بين كتفيك فيقول: اعمل فيما تستقبل، فقد غفر لك ما مضى)) رواه البزار، وحسّنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب
سابعا: شروط الحج:
1. الإسلام:
قال تعالى: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فنهاهم أن يقربوه ومنعهم منه، فاستحال أن يؤمروا بحجه".(/4)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمّره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس: ((أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان)) متفق عليه.
2. العقل:
3. البلوغ:
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه ـ أو قال: المجنون ـ حتى يعقل، وعن الصغير حتى يشب)) أخرجه أحمد، وصححه الألباني في الإرواء.
قال ابن قدامة: "فأما الصبي والمجنون فليسا بمكلفين".
وقال الشنقيطي: "أما العقل والبلوغ، فكونهما شرطين في وجوب الحج فواضح ؛ لأن غير العاقل لا يصح تكليفه بحال، ولأن الصبي مرفوع عنه القلم حتى يحتلم".
4. الحرية:
قال ابن قدامة: "وأما العبد فلا يجب عليه؛ لأنه عبادة تطول مدتها، وتتعلق بقطع مسافة، وتشترط لها الاستطاعة بالزاد والراحلة، ويضيع حقوق سيده المتعلقة به، فلم يجب عليه كالجهاد".
وقد استدل أهل العلم على عدم وجوب الحج على العبد بأمرين:
الأول: الأثر:
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ((أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام)) رواه ابن خزيمة.
قال الشنقيطي: "ووجه الدلالة منه على أن الحرية شرط في وجوب الحج وأنه لو حج وهو مملوك ثم أعتق بعد ذلك لزمته حجة الإسلام كما هو ظاهر".
الثاني: الإجماع:
قال النووي: "أجمعت الأمة على أن العبد لا يلزمه الحج".
5. الاستطاعة:
قال الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فمناط الوجوب وجود المال، فمن وجد المال وجب عليه الحج بنفسه أو بنائبه، ومن لم يجد المال فلم يجب عليه الحج".
وقال ابن عثيمين: "الاستطاعة بالمال والبدن بأن يكون عنده مال يتمكن به من الحج ذهاباً وإياباً ونفقة، ويكون هذا المال فاضلاً عن قضاء الديون والنفقات الواجبة عليه، وفاضلاً عن الحوائج التي يحتاجها من المطعم والمشرب والملبس والمنكح والمسكن ومتعلقاته وما يحتاج إليه من مركوب وكتب علم وغيرها".
6. وجود المحرم للمرأة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم)) فقال رجل: يا رسول الله، إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج، فقال: ((اخرج معها)) متفق عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فهذه نصوص من النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم سفر المرأة بغير محرم، ولم يخصص سفراً من سفر، مع أن سفر الحج من أشهرها وأكثرها، فلا يجوز أن يغفله ويهمله ويستثنيه بالنية من غير لفظ, بل قد فهم الصحابة منه دخول سفر الحج في ذلك، لما سأله ذلك الرجل عن سفر الحج، وأقرهم على ذلك، وأمره أن يسافر مع امرأته، ويترك الجهاد الذي قد تعين عليه بالاستنفار فيه، ولولا وجوب ذلك لم يجز أن يخرج سفر الحج من هذا الكلام، وهو أغلب أسفار النساء".
وقال ابن عثيمين: "ومن الاستطاعة أن يكون للمرأة محرم، فلا يجب أداء الحج على من لا محرم لها لامتناع السفر عليها شرعاً، إذ لا يجوز للمرأة أن تسافر للحج ولا غيره بدون محرم، سواء أكان السفر طويلاً أو قصيراً، وسواء أكان معها نساء أم لا، وسواء كانت شابة جميلة أم عجوز شهداء، وسواء في طائرة أم غيرها... والحكمة في منع المرأة من السفر بدون محرم صون المرأة عن الشر والفساد، وحمايتها من أهل الفجور والفسق، فإن المرأة قاصرة في عقلها وتفكيرها والدفاع عن نفسها، وهي مطمع الرجال، فربما تخدع أو تقهر، فكان من الحكمة أن تمنع من السفر بدون محرم يحافظ عليها ويصونها، ولذلك يشترط أن يكون المحرم بالغاً عاقلاً... والمحرم زوج المرأة، وكل ذكر تحرم عليه تحريماً مؤبداً بقرابة أو رضاع أو مصاهرة".
ثامنا: مواقيت الحج والعمرة:
المواقيت جمع ميقات: وهو ما حدده ووقته الشارع للعبادة من زمان ومكان.
للحج والعمرة ميقاتان: زماني ومكاني.
أولاً: الميقات الزماني:
أ) للحج: وهو شوال وذو القعدة والعشر الأول من ذي الحجة، قال الله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "وهن شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، جعلهن الله سبحانه للحج، وسائر الشهور للعمرة فلا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج، والعمرة يحرم بها في كل شهر" رواه الطبري.
ب) للعمرة: وميقاتها الزماني جميع شهور السنة:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "والعمرة يحرم بها في كل شهر" رواه الطبري.
وقال الطبري: "فأما العمرة فإن السنة كلها وقت لها، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر في بعض شهور الحج، ثم لم يصح عنه بخلاف ذلك خبر".(/5)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما العمرة فيحرم بها متى شاء لا تختص بوقت، لأن أفعالها لا تختص بوقت، فأولى أن لا يختص إحرامها بوقت".
ثانياً: الميقات المكاني للحج والعمرة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وقّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الحجفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمهله من أهله) متفق عليه.
وعن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يسأل عن المهل؟ فقال: سمعت (أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم) فقال: ((مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق، ومهل أهل نجد من قرن، ومهل أهل اليمن من يلملم)) أخرجه مسلم.
تعريف موجز بالمواقيت:
ذو الحليفة: ميقات أهل المدينة، ويسمى الآن آبار علي، وهو أبعد المواقيت عن مكة، وتبلغ المسافة بينه وبين مكة (420كلم).
الجحفة: ميقات أهل الشام، كانت قرية عامرة ثم جحفتها السيول فصارت الآن خراباً فصار الإحرام من قرية رابغ الواقعة عنها غربا بمحاذاتها وتبعد عن مكة (186كلم)، ويحرم منها من هم في شمال المملكة ويحرم منها بلدان إفريقيا الشمالية والغربية وأهل لبنان وسوريا ومن في جهتهم.
قرن المنازل: ميقات أهل نجد، ويسمى الآن السيل الكبير ويبعد عن مكة (78 كلم)، ويحرم منه أهل المشرق كله من أهل الخليج والعراق وإيران وغيرهم، ومثله وادي محرم الواقع في الهدى في الجهة الغربية من الطائف وهذا هو أعلى قرن المنازل وهو ميقات نصاً لا محاذاة.
يلملم: ميقات أهل اليمن، ويقال لها السعدية، ويبعد عن مكة (120 كلم).
ذات عرق: ميقات أهل العراق، وهي مهجورة الآن لعدم وجود الطرق إليها، وتبعد عن مكة (100 كلم).
مسائل تتعلق بالمواقيت:
1. أن المواقيت الخمسة السابقة مواقيت أيضاً لمن مرّ عليها من غير أهلها، وهو يريد النسك حجاً كان أو عمرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)).
2. من كان مسكنه أقرب إلى مكة من الميقات كأهل جدة وعسفان فميقاته من موضع سكناه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فمن كان دونهن فمهله من أهله)).
3. يهل أهل مكة بالحج من بيوتهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((حتى أهل مكة يهلون من مكة)).
وأما العمرة فإنهم يهلون لها من الحل (خارج مكة) فيخرجون إلى خارج حدود الحرم فيحرمون ثم يعودون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة في عمرتها من مكة إلى التنعيم، وهو أدنى الحل" متفق عليه.
4. من سلك إلى الحرم طريقاً لا ميقات فيها، فميقاته المحل المحاذي لأقرب المواقيت إليه.
5. لا يجوز لمن من مرّ بهذه المواقيت وهو يريد الحج أو العمرة أن يتجاوزها إلا محرما.
قال ابن عثيمين: "وعلى هذا فإذا كان في الطائرة وهو يريد الحج أو العمرة وجب عليه الإحرام إذا حاذى الميقات من فوقه، فيتأهب ويلبس ثياب الإحرام قبل محاذاة الميقات، فإذا حاذاه عقد نية الإحرام فوراً، ولا يجوز له تأخيره إلى الهبوط في جدة، لأن ذلك من تعدّي حدود الله".
6. فإن جاوز مريد الحج أو العمرة الميقات دون أن يحرم منه فما الحكم؟
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي: "أظهر أقوال أهل العلم عندي أنه إن جاوز الميقات ثم رجع إلى الميقات وهو لم يحرم أنه لا شيء عليه؛ لأنه لم يبتدئ إحرامه إلا من الميقات، وأنه إن جاوز الميقات غير محرم وأحرم في حال مجاوزته الميقات ثم رجع إلى الميقات محرماً أن عليه دماً لإحرامه بعد الميقات".
7. من أراد دخول مكة لغير الحج أو العمرة كالزيارة والتجارة ونحوها لم يجب عليه الإحرام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لمن أراد الحج أو العمرة))، والإحرام في حقه أفضل.
8. من مرّ بالمواقيت وهو لا يريد حجاً ولا عمرة، ثم بدا له بعد ذلك أن يعتمر أو يحج فإنه يحرم من المكان الذي عزم فيه على ذلك، لقول ابن عباس: "فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ" رواه البخاري.
تاسعاً: الإحرام:
1- تعريفه:
قال ابن منظور: "الإحرام: مصدر أحرم الرجل يحرم إحراماً، إذا أهل بالحج أو العمرة، وباشر أسبابهما، وشروطهما من خلع المخيط، وأن يتجنب الأشياء التي منعه الشرع منها كالطيب والنكاح والصيد وغير ذلك، والأصل فيه المنع، فكأن المحرم ممتنع من هذه الأشياء".
وقال الشربيني: "الإحرام الدخول في حج أو عمرة، أو فيهما أو فيما يصلح لهما، ولأحدهما، وهو المطلق، ويطلق أيضاً على نية الدخول فيما ذكر".
وقال ابن عثيمين: "فأما الإحرام فهو نية الدخول في النسك والتلبس به".
2- النية شرط في الإحرام:(/6)
قال ابن عثيمين: "نية الدخول في النسك شرط, فلا بد أن ينوي الدخول في النسك، فلو لبّى بدون نية الدخول فإنه لا يحرم بمجرد التلبية، ولو لبس ثياب الإحرام بدون نية الدخول فإنه لا يكون محرماً، ولا بمجرد التلبية، ودليل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) متفق عليه".
3- مستحبات الإحرام:
أ/ الغسل:
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل) أخرجه الترمذي، وحسّنه الألباني.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (نفست أسماء بمحمد بن أبي بكر بالشجرة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يأمرها أن تغتسل، وتهل) رواه مسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "يستحب الاغتسال قبل الإحرام للرجل والمرأة سواء كانت طاهراً أو حائضاً".
وقال الإمام الشافعي: "وما تركت الاغتسال قط، ولقد كنت أغتسل له مريضاً في السفر، وإني أخاف ضرر الماء، وما صحبت أحداً أقتدي به فرأيته تركه، ولا رأيت منهم أحداً عدا به، أن رآه اختياراً".
ب/ التنظف:
قال ابن قدامة: "ويستحب التنظف بإزالة الشعث، وقطع الرائحة، ونتف الإبط، وقص الشارب، وقلم الأظفار، وحلق العانة؛ لأنه أمر يسن له الاغتسال والطيب، فَسُنّ له هذا كالجمعة، ولأن الإحرام يمنع قطع الشعر وقَلْم الأظفار فاستحب فعله قبله، لئلا يحتاج إليه في إحرامه، فلا يتمكن منه".
قال ابن باز: "ولأن النبي صلى الله عليه وسلم شرع للمسلمين تعاهد هذه الأشياء كل وقت، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وقلم الأظفار، ونتف الآباط)) متفق عليه، وأما اللحية فيحرم حلقها أو أخذ شيء منها في جميع الأوقات، بل يجب إعفاؤها وتوفيرها لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا المشركين، وفّروا اللحى وأحفوا الشوارب)) متفق عليه".
ج/ التطيب:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأطيب ما يجد، حتى أجد وَبِيض الطيب في رأسه ولحيته).
قال ابن قدامة: "يستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب في بدنه خاصة، ولا فرق بين ما يبقى عَيْنه كالمسك والغالية، أو أثرة كالعود والبخور وماء الورد".
وقال ابن عثيمين: "أما تطييب الثوب فإنه يكره ـ أي ثوب الإحرام ـ لا يطيب، لا بالبخور، ولا بالدهن، وإذا طيبه: قال بعض العلماء: إنه يجوز أن يلبسه إذا طيبه قبل أن يعقد الإحرام لكن يكره، وقال بعض العلماء: لا يجوز لبسه إذا طيبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تلبسوا ثوباً مسّه الزعفران ولا الورس)) فنهى أن نلبس الثوب المطيب، وهذا هو الصحيح، وإذا تطيب في بدنه ثم سال الطيب من الموضع الذي وضعه فيه فهل يؤثر؟
الجواب: لا يؤثر؛ لأن انتقال الطيب هنا بنفسه، وليس هو الذي نقله ولأن ظاهر حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم لا يبالون إذا سال الطيب لأنهم وضعوه في حال يجوز لهم وضعه".
د/ لبس إزار ورداء أبيضين نظيفين ونعلين بعد التجرد من المخيط:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين)) أخرجه ابن خزيمة وصححه الألباني.
قال ابن قدامة: "ويستحب أن يكونا نظيفين، إما جديدين، وإما غسيلين؛ لأنا أحببناه له التنظف في بدنه، فكذلك في ثيابه، كشاهد الجمعة، والأولى أن يكونا أبيضين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((خير ثيابكم البياض، فالبسوها وكفنوا فيها موتاكم)) أخرجه أحمد، وصحح ابن حبّان".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ويستحب أن يحرم في ثوبين نظيفين، فإن كانا أبيضين فهما أفضل، ويجوز أن يحرم في جميع أجناس الثياب المباحة من القطن والكتان والصوف... ويجوز أن يحرم في الأبيض وغيره من الألوان الجائزة، وإن كان ملوناً".
وقال ابن باز: "وأما المرأة فيجوز لها أن تحرم فيما شاءت من أسود أو أخضر أو غيرهما مع الحذر من التشبه بالرجال في لباسهم، وأما تخصيص بعض العامة إحرام المرأة في الأخضر أو الأسود دون غيرهما، فلا أصل له".
هـ/ الإحرام عقيب الصلاة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد الحليفة أهل بهؤلاء الكلمات).
قال الماوردي: "يستحب أن يحرم عقيب صلاة".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "يستحب أن يحرم عقيب صلاة، إما فرض وإما تطوع إن كان وقت تطوع في أحد القولين، وفي الآخر إن كان يصلي فرضاً أحرم عقيبه وإلا فليس بالإحرام صلاة تخصه، وهذا أرجح".
وقال الألباني: "وليس للإحرام صلاة تخصه، لكن إن أدركته الصلاة قبل إحرامه فصلى ثم أحرم عقب صلاته كان له أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أحرم بعد صلاة الظهر".
و/ التلفظ بالنسك والإهلال به:
1. صفته:(/7)
قال ابن باز: "ثم بعد الفراغ من الغسل والتنظيف ولبس ثياب الإحرام ينوي بقلبه الدخول في النسك الذي يريده من حج أو عمرة... ويشرع له التلفظ بما نوى، فإن كانت نيته العمرة قال: لبيك عمرة، أو اللهم لبيك عمرة، وإن كانت نيته الحج قال: لبيك حجاً، أو اللهم لبيك حجاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك".
وهل يستحب أن يقول: ((اللهم إني أريد نسك كذا فيسره لي))؟.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الصواب المقطوع به أنه لا يستحب شيء من ذلك، ولا كان يتكلم صلى الله عليه وسلم قبل التلبية بشيء من ألفاظ النية لا هو ولا أصحابه، بل لما أمر ضباعة بنت الزبير قالت: فكيف أقول؟ قال: قولي: ((اللهم محلي حيث حبستني))، لكن المقصود أنه أمرها بالاشتراط في التلبية ولم بأمرها أن تقول قبل التلبية شيئاً، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: ((لبيك عمرة وحجاً)) فهذا هو الذي شرع النبي صلى الله عليه وسلم التكلم به في ابتداء الحج والعمرة".
تنبيه:
قال ابن باز: "ولا يشرع له التلفظ بما نوى إلا في الإحرام خاصة؛ لوروده عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الصلاة والطواف وغيرهما فينبغي له أن لا يتلفظ في شيء منها بالنية، فلا يقول: نويت أن أصلي كذا وكذا، ولا نويت أن أطوف كذا، بل التلفظ بذلك من البدع المحدثة، والجهر بذلك أقبح وأشد إثماً، ولو كان التلفظ بالنية مشروعاً لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم وأوضحه للأمة بفعله أو قوله، ولسبق إليه السلف الصالح، فلما لم ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم علم أنه بدعة".
2. الاشتراط عند الحاجة:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فقالت: يا رسول الله، إني أريد الحج، وأنا شاكية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني)) رواه مسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإن اشترط على ربه خوفاً من العارض فقال: وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني كان حسناً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابنة عمه ضباعة أن تشترط لما كانت شاكية، ولم يكن يأمر بذلك كل من حج".
فإن قيل ما فائدة الاشتراط؟
قال ابن عثيمين: "فائدته أنه إذا وجد المانع حل من إحرامه مجّاناً، أي بلا هدي؛ لأن من أحصر عن إتمام النسك فإنه يلزمه هدي، لقوله تعالى: {فإن أحصرتم في استيسر من الهدي}.
3. وقته:
عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: (يا أبا العباس، عجباً لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوجب! فقال: إني لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة فمن هنالك اختلفوا، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً، فلما صلّى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظوا عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالاً فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل، فقالوا: إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما علا على شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا: إنما أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين علا على شرف البيداء، وايم الله، لقد أوجب في مصلاّه، وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء) أخرجه أحمد وصححه الحاكم.
قال الترمذي: "وهو الذي يستحبه أهل العلم: أن يحرم الرجل دبر الصلاة".
وقال ابن تيمية في الحديث السابق: "وهذه رواية مفسرة فيها زيادة علم وإطلاع على ما خفي في غيرها فيجب التقيد بها واتباعها، وليس هذا مخالفاً لما تقدم عنه أنه أهل حين استوت به على البيداء؛ لأن تلك الرواية بعض هذه".
ثم قال: "فإن إحرامه جالساً مستقبل القبلة أقرب إلى اجتماع همه وحضور قلبه، وهو بعد الصلاة أقرب إلى الخشوع منه عند الركوب فإحرامه حال الخشوع أولى".
وقال ابن عثيمين: "فإذا فرغ من الصلاة أحرم"
عاشراً: التلبية:
أ/ صفتها:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)) رواه البخاري.
وعن جابر رضي الله عنه في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فأهل صلى الله عليه وسلم بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئاً منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته)) رواه مسلم.
ب/ معناها:
قال الماوردي: "أما التلبية، فقد اختلف أهل العلم فيما هي مأخوذة منه على خمسة أقاويل:(/8)
أحدها: أنها مأخوذة من قولهم: ألبّ ولبّ فلان بالمكان إذا أقام فيه. فيكون معنى لبيك: أنا مقيم عند طاعتك.
الثاني: أنها مأخوذة من الإجابة، ومعناها: إجابتي لك.
الثالث: أنها مأخوذة من اللب واللباب، وهو خالص الشيء، فيكون معناها الإخلاص، أي أخلصت لك الطاعة.
الرابع: أنها مأخوذة من لُبّ العقل، ويكون معناها: لُبّي منصرف إليك، وقلبي مقبل عليك.
الخامس: أنها مأخوذة من المحبة، ويكون معناها: محبتي لك".
وقال الشنقيطي: "هي من لبّى بمعنى: أجاب، فلفظة لبيك مثناة على قول سيبويه والجمهور، وهو الأظهر، وتثنيتهما للتكثير، أي إجابة لك بعد إجابة، ولزوماً لطاعتك".
ج/ فضلها:
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (ما من مسلم يلبي إلا لبّى من عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا) رواه الترمذي، وصححه الألباني.
قال الألباني: "فإن قيل ما فائدة المسلم في تلبية الأحجار والشجر وغيرهما مع تلبيته؟ قلت: اتباعها إياه في هذا الذكر دليل على فضيلته وشرفه ومكانته عند الله تعالى، إذ ليس اتباعُها إياه في هذا الذكر إلا لذلك، على أنه يجوز أن يكتب له أجر هذه الأشياء؛ لأنها صدرت عنها تبعاً، فصار المؤمن بالذكر كأنه دال على الخير، والله أعلم".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أهلّ مهلّ قط إلا بُشّر، ولا كبر مكبر قط إلا بشر))، قيل: يا رسول الله: بالجنة؟ قال: ((نعم)) رواه الطبراني، وحسّنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب.
د/ رفع الصوت بها:
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((جاءني جبريل فقال: يا محمد، مُرّ أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعار الحج)) رواه ابن ماجه، وصححه ابن خزيمة وابن حبان.
وعن أبي بكر الصديق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((العَجُّ والثَجُّ)) رواه ابن ماجه، وصححه ابن خزيمة.
قال الترمذي: "العَجُّ: هو رفع الصوت بالتلبية، والثَجُّ: هو نحر البدن".
قال الشنقيطي: "النساء لا ينبغي لهن رفع الصوت بالتلبية، كما عليه جماهير أهل العلم، وعلل أهل العلم خفض المرأة صوتها بالتلبية، بخوف الافتتان بصوتها".
هـ/ الإكثار منها:
قال الماوردي: "يستحب للمحرم أن يلبي في جميع أحواله، قائماً، وقاعداً، وراكباً، ونازلاً، وجنباً، ومتطهراً، وعند اصطدام الرفاق، وعند الإشراف، والهبوط، وبالأسحار، وخلف الصلوات، وفي استقبال الليل والنهار؛ لأنه فعل السلف، وقد روت عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله في كل أحيانه)".
وقال ابن عثيمين: "وينبغي للمحرم أن يكثر من التلبية؛ لأنها الشعار القولي للنسك خصوصاً عند تغيّر الأحوال والأزمان".
و/ ابتداؤها وقطعها:
قال ابن عثيمين: "ويستمر في التلبية في العمرة من الإحرام إلى أن يشرع في الطواف، وفي الحج من الإحرام إلى أن يرمي جمرة العقبة يوم العيد".
حادي عشر: الأنساك الثلاثة:
الحجّ ثلاثة أنساك: إمّا تمتع أو قران أو إفراد.
1- الإفراد:
أمّا الإفراد؛ فهو أن يحرم بالحجّ وحده في أشهر الحجّ. وصفة التلفظ بِهذا النسك مع النية القلبية أن يقول عند الإحرام: لبيك حجًّا.
أعمال المفرد:
إذا وصل مكة عليه أن يطوف طواف القدوم، ثم يسعى إن شاء سعي الحجّ بعد طواف الإفاضة، وإن شاء أخره بعد طواف الزيارة اليوم العاشر، ويبقى على إحرامه إلى أن يحل بعد رمي جمرة العقبة، ولا يلزمه هدي.
2- التمتع:
فأمّا التمتع؛ فهو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحجّ، ثم يتحلل منها، ثم يحرم بالحجّ في اليوم الثامن من نفس العام دون أن يرجع إلى بلده. وصفة التلفظ بهذا النسك أن يقول عند الإحرام: لبيك عمرة. ثم يقول في الثامن: لبيك حجًّا.
أعمال المتمتع:
إذا وصل مكه طاف وسعى للعمرة، ثم تحلل بحلق أو تقصير. فإذا كان اليوم الثامن يوم التروية أحرم بالحجّ وحده، وأتى بجميع أفعاله.
ويلزمه الهدي؛ لقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي}.
شروطها ثمانية:
1- أن يجمع بين الحجّ والعمرة.
2- أن يكون هذا الجمع في سفر واحد.
3- في عام واحد.
4- في أشهر الحج.
5- أن يقدم العمرة على الحجّ.
6- ألا يمزجها، فيكون الحجّ بعد التحلل من العمرة.
7- أن تكون العمرة والحجّ عن شخص واحد.
8- أن يكون من غير أهل مكة.
وقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على من لم يسق الهدي من أصحابه أن يتحللوا بعمرة، عن عائشة أنّها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجّة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان معه هدي، فليُهلل بالحجّ مع العمرة، ثم لا يحلُّ حتى يحلَّ منهما جميعًا)) رواه مالك.
3- القِران:(/9)
وأمّا القران؛ فهو أن يحرم بالحجّ والعمرة معًا، فيبقى على إحرامه إلى أن يفرغ من أعمال العمرة والحجّ. وصفة التلفظ بِهذا النسك مع النبية القلبية أن يقول عند الإحرام: لبيك عمرة وحجًّا.
أعمال القِران:
وتندرج أفعال العمرة في أفعال الحجّ، فعمل القارن عمل المفرد، سواء بسواء، فعن ابن عمر رضي الله عنه أنّه قرن الحجّ إلى العمرة، وطاف لهما طوافًا واحدًا، ثم قال: (هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.
ويلزمه الهدي؛ لقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة فما استيسر من الهدي}، قال ابن القيم: "قرن ـ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بين الحج والعمرة، وكانوا يسمّون ذلك تمتعًا".
وهو النسك الذي حجّ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فعن عمر رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: ((أتاني الليلة آتٍ من ربِّي عزّ وجلّ، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجَّة)) رواه البخاري.
الفرق بين عمل القارن وعمل المتمتع:
الفرق بين عمل القارن وعمل المتمتع أنّ القارن عليه طواف واحد وسعي واحد، وأمّا المتمتع فعليه طواف وسعي لعمرته، وطواف وسعي لحجته.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال: ((من كان معه هديٌ؛ فيهل بالحجّ والعمرة، ثم لا يحل حتى يحلّ منهما جميعًا)). قالت: فطاف الذين أهلُّوا بالعمرة، ثم حَلُّوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى. وأمّا الذين جمعوا بين الحجّ والعمرة؛ فإنّما طافوا طوافًا واحدًا. متفق عليه.
القران أفضل الأنساك لمن ساق الهدي ثم التمتع ثم الإفراد:
استحبّ جمعٌ من أهل العلم لمن كان قارنًا ولم يسق الهدي، أو مفردًا أن يتحلل بعمرة، ويتمتع من عامه ذلك؛ لحديث أبي شهابٍ، قال: قدمتُ مكة بعمرةٍ فدخلنا قبل يوم التروية بثلاثة أيّام، فقال لي أناسٌ من أهل مكة: يصير الآن حجّك مكيًّا. فدخلتُ على عطاء أستفتيه، فقال: حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنّه حجّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ساق البُدن معه، وقد أهلُّوا بالحجّ مفردًا. فقال لهم: ((أحلّوا من إحرامكم بطواف البيت، وبين الصفا والمروة، وقصِّروا ثم أقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهِلُّوا بالحجّ واجعلوا التي قدمتم بِها متعة)). فقالوا: نجعلها متعة وقد سمَّينا الحجّ؟ فقال: ((افعلوا ما أمرتكم، فلولا أنِّي سقت الهدي؛ لفعلتُ مثل الذي أمرتكم. ولكن لا يحلّ مني حرامٌ حتى يبلغ الهدي محله)) رواه البخاري.
بل أوجب ذلك بعض أهل العلم، قال ابن القيّم: "وقد ذهب جماعة من السلف والخلف إلى إيجاب القران على من ساق الهدي، والتمتع بالعمرة المفردة على من لم يسق الهدي، منهم: عبد الله بن عباس وجماعة، فعندهم لا يجوز العدول عمّا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر به أصحابه، فإنّه قرن وساق الهدي، وأمر كل من لا هدي معه بالفسخ إلى عمرة مفردة، فالواجب: أن نفعل كما فعل، أو كما أمر".
وأفضل الأنساك أن يسوق الهدي ويقرن؛ لأنّ القران هو المنسك الذي اختاره الله تبارك وتعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيّم: "ولم يكن الله ليختار له إلاّ أفضل الأمور، ولا سيما وقد جاءه الوحي به من ربّه تعالى، وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم".
وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة))؛ فهذا كان لأجل تطييب قلوب الصحابة الذين أمرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأن يتحللوا من حجّهم بعمرة.
وإلاّ فإنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ما كان له أن يستقبل من أمره ما استدبره؛ لأنّه أحرم بوحي من الله، ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليخالف أمر الله له.
ثاني عشر: صفة العمرة والحجّ:
صفة العمرة:
العمرة: إحرام وطواف وسعي وحلق أو تقصير. والإحرام: نية الدخول في النسك والتلبس به.
أعمال المعتمر:
1- على مريدِ العمرة إذا وصل إلى ميقاته: أن يغتسل كما يغتسل للجنابة، رجلاً كان أو امرأةً.
2- يتطيَّب بأطيب ما يجد في رأسه ولحيته بدهن عودٍ أو غيره.
3- يلبس ثياب الإحرام.
4- يدخل في النسك بعد فراغه من الصلاة بأن يعقد النية بقلبه، ويقول: لبيك عمرة. لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. هذه تلبية النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وربّما زاد: لبيك إله الحقّ.
5- فإذا وصل إلى المسجد الحرام قدّم رجله اليمنى لدخوله، وقال: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم.(/10)
6- ثم يتقدم إلى البيت متوجهًا نحو الحجر الأسود ليبتدئ الطواف. فيستلم الحجر بيمناه ويقبله إن تيسر له، تعظيمًا لله عزّ وجل، واقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا اعتقادًا أنّ الحجر ينفع أو يضرّ، فإنّما ذلك لله عزّ وجلّ.
عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه كان يقبل الحجر ويقول: (إنّي لأعلم أنّك حجر لا تضرُّ ولاتنفع، ولولا أنّي رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبلتك) رواه الجماعة.
فإن لم يتيسر له التقبيل استلمه بيده وقبّلها، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه استلم الحجر بيده ثم قبّل يده، وقال: ما تركته منذ رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يفعله.
فإن لم يتيسر له استلامه بيده اكتفى بالإشارة إليه، فعن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم طاف بالبيتِ على بعيرٍ، كلّما أتى على الركن أشار إليه. وفيه رواية: أشار إليه وكبّر. رواه البخاري
7- والسنة أنّه إذا أراد الشروع في الطواف أن يضطبع، وهو جعل وسط الرداء تحت العاتق الأيمن، وطرفيه على العاتق الأيسر. فإذا انتهى من الطواف ترك الاضطباع.
وذلك اقتداء بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وإظهارًا للقوة والنشاط.
ولا يشرع الاضطباع إلا في طواف القدوم فقط، والعجب من جهل كثير من الحجاج؛ فإنّهم يضطبعون من حين يحرمون ويستمرون عليه إلى أن يحلُّوا.
8- ثم يجعل البيت عن يساره، ويطوف بِه سبعًا، يبتدئ الشوط بالحجر الأسود وينتهي به، ولا يصح الطواف من داخل الحجر. وإذا وصل إلى الركن اليماني استلمه دون تقبيل ودون أن يزاحم عليه. وإذا مرّ بالحجر الأسود فعل به ما سبق وكبَّر.
9- والسنة في هذا الطواف أن يرمل الرجل الأشواط الثلاثة الأولى، ويمشي الأربعة الباقية؛ لفعل النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في طوافهم في عمرة القضاء.
وليس الرمل هز الكتفين كما يفعله بعض الناس، ولكنه: المشي بقوة ونشاط، بحيث يسرع، لكن لا يمد خطوه.
ولكن يكون الرمل في جميع الشوط، بل من الركن الأسود إلى الركن اليماني.
10- فإذا أتمّ سبعة أشواط، تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، ثم صلَّى ركعتين خلفه قريبًا منه إن تيسر، وإلاّ فبعيدًا، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة {قل يا أيها الكافرون}، وفي الثانية بعد الفاتحة: {قل هو الله أحد}.
11- ثم يرجع إلى الحجر الأسود إن تيسر وإلا فلا يستلمه.
12- ثم يخرج إلى المسعى ليسعى، فإذا دنا من الصفا قرأ: {إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرًا فإن الله شاكر عليم}، ولا يقرؤها في غير هذا الموضع.
13- ثم يرقى على الصفا حتى يرى الكعبة، فيستقبلها ويرفع يديه فيحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو، وكان من دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلاّ الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
يُكرر ذلك ثلاث مرات، ويدعو بينها.
14- ثم ينْزل من الصفا إلى المروة ماشيًا حتى يصل إلى العمود الأخضر؛ فإذا وصله، أسرع إسراعًا شديدًا بقدر ما يستطيع إن تيسر له بلا أذية، حتى يصل العمود الأخضر الثاني.
15- ثم يمشي على عادته حتى يصل المروة، فيرقى عليها ويستقبل القبلة، ويرفع يديه ويقول ما قاله على الصفا.
16- ثم ينْزل من المروة إلى الصفا يمشي في موضع مشيه، ويسرع في موضع إسراعه، فيرقى على الصفا، ويستقبل القبلة ويرفع يديه ويقول مثل ما سبق في أوّل مرة، ويقول في بقية سعيه ما أحبّ من ذكر وقراءة ودعاء.
17- والصعود على الصفا والمروة، والسعي الشديد بين العلمين، كلّها سنة وليست بواجب.
18- فإذا أتمّ سعيه سبعة أشواط، من الصفا إلى المروة شوط، ومن المروة إلى الصفا شوط آخر = حلق رأسه إن كان رجلاً أو قصَّره.
والحلق أفضل إلاّ أن يكون متمتعًا والحجّ قريبٌ لا يمكن أن ينبت شعره قبله، فالتقصير أفضل، ليبقى الشعر فيحلقه في الحجّ؛ لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه حين قدموا صبيحة رابعة في ذي الحجّة أن يتحللوا بالتقصير.
وأمّا المرأة فتقصر رأسها بكل حال، ولا تحلق، فتقصر من كل قرنٍ أنملة.
ويجب أن يكون الحلق شاملاً لجميع الرأس؛ لقوله تعالى: {محلِّقين رؤسكم}، ولأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((لتأخذوا عنّي مناسككم)).
وكذلك التقصير يعمُّ به جميع الرأس.
وبِهذه الأعمال تمت عمرته، وحلّ منها حِلاً كاملاً، يبيح له جميع محظورات الإحرام.
صفة الحجّ:
1- إذا كان ضحى يوم التروية ـ وهو اليوم الثامن من ذي الحجّة ـ أحرم من يريد الحجَّ بالحجِّ من مكانه الذي هو نازلٌ فيه.
عن جابر رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحللنا أن نُحرم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا من الأبطح) رواه مسلم. وانّما أهلّوا من الأبطح لأنّه مكان نزولهم.(/11)
2- ويفعل عند إحرامه بالحجّ كما فعل عند إحرامه بالعمرة، فيغتسل ويتطيَّب ويُصلِّي سنة الوضوء، ويُهلُّ بالحجّ بعدها، وصفة الإهلال والتلبية بالحجّ كصفتهما في العمرة، إلاّ أنّه في الحجّ يقول: لبيك حجًّا.
ويشترط أنّ محلي حيث حبستني إن كان خائفًا من عائقٍ يمنعه من إتمام نسكه، وإلا فلا يشترط.
3- ثم يخرج إلى منى فيصلي بِها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، يقصر الرباعية ركعتين دون جمعٍ؛ لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، فعن جابر رضي الله عنه قال: (فلمّا كان يوم التروية توجّهوا إلى منى، فأهلوا بالحجّ، وركب النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فصلَّى بِها الظهر والعصر والمغرب و العشاء والفجر) رواه مسلم.
4- فإذا طلعت الشمس من اليوم التاسع سار من منى إلى عرفة، فنَزل بنمرة إلى الزوال إن تيسر له، وإلاّ فلا حرج عليه؛ لأنّ النُزول بنمرة سنة لا واجب.
5- فإذا زالت الشمس صلّى الظهر والعصر ركعتين ركعتين، يجمع بينهما جمع تقديم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن جابر رضي الله عنه قال: وأمر ـ يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتَى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنَزل، فنَزل بِها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فُرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس، ثم أذَّن ثم أقام فصلّى الظهر ثم أقام فصلّى العصر، ولم يصل بينهما شيئًا) رواه مسلم.
6- ثم يرتفع بعد ذلك عن بطن الوادي، ويدخل إلى عرفة، ويقف للدعاء حتى تغرب الشمس، فعن جابر رضي الله عنه قال: (ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ـ المسمى اليوم جبل الرحمة ـ وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس) رواه مسلم.
وعلى الحاج في وقوفه بعرفة أن يتخير من أدعية النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة. وخير ما قلتُ أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير)) رواه مالك، وهو حسن.
ويمتد وقت الوقوف بعرفة لمن فاته الوقوف بِها نَهارًا إلى طلوع فجر يوم العيد. فإذا طلع الفجر؛ فقد فات الحجّ كل من لم يقف بِها قبله.
7- فإذا غربت الشمس دفع من عرفة إلى مزدلفة، فيصلي بِها المغرب والعشاء، المغرب ثلاثًا والعشاء ركعتين. فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: دفع رسول ا لله صلى الله عليه وسلم من عرفة فنَزل الشعب، فبال ثم توضأ، ولم يسبغ الوضوء. فقلت: يا رسول الله الصلاة! قال: الصلاة أمامك فجاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلّى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منْزله، ثم أقيمت العشاء فصلاّها. متفق عليه.
8- والسنة بعد أداء الصلاة أن لا ينشغل إلاّ بالتجهيز للمبيت، ولا يحيي الليل بصلاة ولا بغيرها، ففي حديث جابر رضي الله عنهما أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة فصلَّى بِها المغرب والعشاء بأذانٍ واحدٍ وإقامتين، ولم يُسبِّح بينهما شيئًا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر) رواه مسلم.
ويجوز للضعفة من رجال ونساء أن يدفعوا من مزدلفة بليلٍ في آخره، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه كان يقدِّم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليلٍ، فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يدفعون، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمّا من ليس ضعيفًا أو تابعًا لضعيف؛ فإنّه يبقى بمزدلفة حتى يصلي الفجر اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
9- فإذا صلّى الفجر أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فوحَّد الله وكبَّره وهلّله ودعا بما أحبّ حتى يسفر جدًا.
وإن لم يتيسير له إتيان المشعر الحرام وقف ودعا في مكانه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وقفتُ هاهنا وجمعٌ كلُّها موقف)).
10- فإذا أسفر النور وقبل أن تشرق الشمس دفعوا إلى منى بسكينة ووقار.
11- فإذا وصل منى شرع في رمي جمرة العقبة، بسبع حصيات مثل حصى الخذف، فعن جابر رضي الله عنه قال: (رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة بمثل حصى الخذف) رواه مسلم.
يرمي بِهنّ تِباعًا، يكبر مع كل حصاة، ويرميها من بطن الوادي إن تيسر له، فيجعل الكعبة عن يساره ومنى عن يمينه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه انتهى إلى الجمرة الكبرى، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ورمى بسبعٍ، وقال: (هكذا رمى الذي أُنزلت عليه سورة البقرة) متفق عليه.(/12)
ولا يجوز للحاج أن يرمي بحصاة كبيرة، ولا بالخفاف والنعال ونحوها. ولا ينبغي له أن يخاشن ويجهل عند الجمرة؛ لأنّ رمي جمرة العقبة من شعائر الله، فينبغي أن يرميها بخشوع وخضوع وتعظيم، قال تعالى: {ومن يعظِّم شعائر الله فإنّها من تقوى القلوب}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)).
12- ثم بعد ذلك يذبح إن كان معه هدي، أو يشتريه فيذبحه.
13- ثم بعد الذبح يحلق رأسه إن كان رجلاً، أو يقصره، والحلق أفضل؛ لأنّ الله قدّمه في قوله: {محلِّقين رؤسكم ومقصرين}، ولأنّه فِعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعن أنس رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة، فرماها ثم أتى منْزله بمنى، ونحر، ثم قال للحلاق: ((خذ))، وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس. رواه مسلم.
ولأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين بالرحمة والمغفرة ثلاثًا، وللمقصرين مرة واحدة.
ويجب أن يكون الحلق والتقصير شاملاً لجميع الرأس. ويترك التشبه بقصات الشعر الوافدة من الغرب الكافر.
وأمّا المرأة فتقصر من أطراف شعرها بقدر أنملة فقط.
14- فإذا انتهى من هذه الأعمال فقد حلّ له جميع محظورات الإحرام ما عدا النساء. والسنة أن يتطيّب لهذا الحل؛ لقول عائشة رضي الله عنها: (كنتُ أطيِّب النبيَّ صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحلّه قبل أن يطوف بالبيت) متفق عليه.
15- ثم يطوف طواف الإفاضة ـ وهو يسمّى أيضًا طواف الحجّ وطواف الزيارة ـ ولا يشرع في هذا الطواف لا اضطباع ولا رمل.
16- ثم يسعى إن كان متمتعًا. وإن كان قارنًا أو مفردًا ولم يكن قد سعى بعد طواف القدوم؛ فإنّ عليه أن يسعى.
17- ثم يرجع بعد ذلك إلى منى فيبيت بِها ليلتي اليوم الحادي العشر والثاني عشر، ويرمي الجمرات الثلاث إذا زالت الشمس في اليومين.
فيرمي الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف بسبع حصيات متعاقبات واحدة بعد الأخرى، ويكبِّر مع كل حصاة، ثم يتقدم قليلاً ويدعو دعاءً طويلاً أو بحسب ما يتيسر له.
ثم يرمي الجمرة الوسطى بسبع حصيات متعاقبات واحدة بعد الأخرى، ويكبِّر مع كل حصاة ثم يأخذ ذات الشمال فيقف مستقبل القبلة رافعًا يديه ويدعو دعاءً طويلاً، أو بحسب ما يتيسر له.
ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات يكبِّر مع كل حصاة ثم ينصرف ولا يدعو بعدها.
وينبغي على المسلم أن يحرص على السنة فيدعو في مواطن دعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويترك الدعاء في المواطن التي ترك النبيُّ صلى الله عليه وسلم عندها. وللأسف نرى اجتهادًا في البدعة، وتهاونًا في السنة من كثير من المسلمين.
18- ثم إن شاء بعد رمي يوم الثاني عشر أن يتعجل وينْزل من منى، وإن شاء تأخر فبات بِها ليلة الثالث عشر ورمى الجمار بعد الزوال.
والتأخر أفضل ولا يجب إلا إذا غربت شمس يوم الثانِي عشر وهو بِها فيلزمه حينها المبيت ليلة الثالث عشر.
ولكن لو غربت عليه الشمس بمنى في اليوم الثاني عشر بغير اختياره مثل أن يكون قد ارتحل وركب، ولكن تأخر بسبب زحام السيارات ونحوه؛ فإنّه لا يلزمه التأخر، لأنّ تأخره إلى الغروب بغير اختياره.
ولكن بعض الحجاج يتأخرون تأخرًا فاحشًا، فلا يرمون إلا قبل المغرب بوقت قصير جدًا، ثم يرتحلون قبل الغروب بدقائق، وتغرب عليهم الشمس وهم في الطريق، فهذا التأخر لا ينبغي لهم أن يترخصوا في ترك المبيت به، والله أعلم.
19- فإذا أراد الحاج بعد ذلك أن يرتحل إلى بلده؛ فإنّ عليه أن يطوف طواف الوداع ليكون آخر عهده بالبيت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)).
إلاّ أنّ الحائض والنفساء ـ إذا طافتا طواف الإفاضة ـ تعذران بتركهما طواف الوداع تخفيفًا عليهما وعلى رفقتهما، فعن عائشة رضي الله عنها أنّ صفيَّة بنتَ حيي زوج النبيِّ صلى الله عليه وسلم حاضت فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أحابستنا هي؟)). قالوا: إنّها قد أفاضت. قال: ((فلا إذًا)) رواه البخاري.
قال ابن عبّاس: (أُمِر النّاس أن يكون آخر عهدهم بالبيتِ إلاّ أنّه قد خُفِّف عن الحائض) رواه البخاري.
ولا بأس على الحاجّ لو تأخر قليلاً بعد طواف الوداع لانتظار رفقة أو تحميل رحلٍ أو شراء حاجة في أثناء الطريق.
لكن عليه أن يعيد لو طاف بأول النهار وأجَّل السفر بعده إلى آخر النهار.
ثالث عشر: أركان الحجّ:
1- الإحرام:
والمراد به: نية النسك، وليس لبس ثوب الإحرام؛ لأنّ الإنسان قد ينوي النسك فيكون محرمًا، ولو كان عليه قميصه وإزاره.
ولا يكون المحرم محرمًا إلاّ بنية الإحرام، وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((إنّما الأعمال بالنيَّات، وإنّما لكل امرئ ما نوى)) متفق عليه.
2- الوقوف بعرفة.
ومن فاته الوقوف بعرفة؛ فقد فاته الحجّ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحجّ عرفة)).
3- طواف الزيارة - الإفاضة - :(/13)
وهو الطواف الذي يحصل به التحلل الأكبر، قال تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيتِ العتيق}.
والشاهد من الآية قوله {وليطوفوا} فالفعل المضارع إذا اقترن بلام الأمر أفاد الأمر والطلب.
4- السعي:
ودليله قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((اسعوا فإنّ الله كتب عليكم السعي)).
وقالت عائشة رضي الله عنها: (والله ما أتمّ الله حجّ رجلٍ ولا عمرته لم يطف بِهما) رواه مسلم
رابع عشر: واجبات الحجّ:
1- الإحرام من الميقات:
فيجب على كل من أراد الإحرام بالحجّ أن يحرم من الميقات، ومن كان دون الميقات فمن حيث أنشأ النية، وتقدم تفصيل الكلام عن المواقيت.
والدليل على وجوب الإحرام من الميقات قول ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فرضها ـ أي المواقيت ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجدٍ قرنًا، ولأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة).
2- الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس:
لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة إلى غروب الشمس؛ وخالف بذلك أهل الجاهلية الذين كانوا يدفعون قبل غروب الشمس إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال كالعمائم على رؤوس الرجال.
ولو لم يكن الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس واجبًا لبادر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه كان أرفق بالنّاس، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا) رواه البخاري.
3- المبيت بمزدلفة:
ودليل ذلك حديث عروة بن مضرس رضي الله عنه أنّه أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلي الفجر في مزدلفة، فأخبره أنّه ما ترك جبلاً إلاّ وقف عنده، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نَهارًا فقد تمّ حجّه وقضى تفثه)) رواه أحمد وأبو دواد والترمذي وقال: "حسن صحيح".
4- المبيت بمنى أكثر الليل:
دليل ذلك أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رخَّص لعمّه العبّاس أن يبيت في مكة ليالي التشريق من أجل السقاية. متفق عليه
ورخَّص لرعاء الإبل في البيتوتة خارج منى يرمون يوم النحر، ثم الغد، ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر. رواه أبو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح".
والرخصة تقابلها عزيمة.
5- الرمي:
والمراد به: رمي الجمار في يوم العيد جمرة العقبة، وفي أيام التشريق الثلاثة ثلاث جمرات.
والدليل: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في الرمي: ((إنّما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)). وهو عملٌ يترتب عليه الحل فكان واجبًا.
6- الحلق:
الحلق أو التقصير عمل يترتب عليه الحل فكان واجبًا، وقد فعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم امتثالاً لقوله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين}. وقد قال أهل العلم: وإذا عبّر بجزء من العبادة عن العبادة كان دليلاً على وجوبه فيها.
7- طواف الوداع:
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: (أُمِر النّاس أن يكون آخر عهدهم بالبيتِ إلاّ أنّه خُفِّف عن الحائض) رواه البخاري
خامس عشر: أركان العمرة:
1- الإحرام.
2- الطواف.
3- السعي.
سادس عشر: واجبات العمرة:
1- الإحرام من الميقات.
2- الحلق أو التقصير.
سابع عشر: محظورات الإحرام:
المحظور هو الممنوع المحرَّم، ومنه: قوله تعالى: {وما كان عطاء ربِّك محظورًا} أي: ممنوعًا.
ومحظورات الإحرام: ما يحرم على المحرم فعله بسبب الإحرام.
وهي نوعان؛ نوعٌ يوجب فساد الحجّ، ونوعٌ لا يوجب فساده.
النوع الأول: الذي يوجب فساد الحجّ: الجماع.
قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أنّ الحجّ لا يفسد بإتيان شيءٍ حال الإحرام، إلاّ الجماع".
والجماع يفسد الحجّ بشرطين اثنين:
1- أن يكون الجماع في الفرج.
فهذا متفق عليه عند جمهور أهل العلم، ومنهم الأئمة الأربعة.
2- أن يكون الجماع قبل التحلل الأول، سواء الوقوف أو بعده.
قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنّ من وطئ قبل أن يطوف ويسعى أنّه مفسدٌ" أي لحجّه.
غير أنّ الناسي والجاهل والمكره عند شيخ الإسلام لا يفسد حجّه؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) رواه ابن ماجه، وصححه الألباني في الإرواء. واختاره ابن مفلح.
حكم الحجّ إذا فسد:
عن يزيد بن نُعيم الأسلميّ: أنّ رجلاً من جُذام جامع امرأته، وهما محرمان، فسألا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((اقضيا نسكًا، واهديا هديًا)).
قال الحافظ: "رجاله ثقات مع إرساله".
وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما في رجلٍ وقع على امرأته وهو محرم، قال: ((اقضيا نسككما، وارجعا إلى بلدكما، فإذا كان عام قابل، فاخرجا حاجّين، فإذا أحرمتما فتفرقا، ولا تلتقيا حتى تقضيا نسككما، وأهديا هديًا)) رواه البيهقي بإسناد صحيح.(/14)
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه: أنّ رجلاً أتى عبد الله بن عمرو ـ وأنا معه ـ يسأله عن محرم وقع بامرأته، وأشار إلى عبد الله بن عمر، فقال: اذهب إلى ذلك فسله. قال شعيب: فلم يعزم الرجل، فذهبت معه، فسأل ابن عمر. فقال: بطل حجّك. فقال الرجل: فما أصنع؟ قال: اخرج مع الناس، واصنع ما يصنعون، فإذا أدركت قابل فحج وأهدِ. فرجع إلى عبد الله بن عمرو - وأنا معه - فأخبره، فقال: اذهب إلى ابن عباس فسله. قال شعيب: فذهبت معه إلى ابن عباس، فسأله، فقال مثل ما قال ابن عمر، فرجع إلى عبد الله بن عمرو - وأنا معه - فأخبره بما قال ابن عباس، ثم قال: ما تقول أنت؟ فقال: قولي مثل ما قالا. رواه البيهقي، وقال: "هذا إسناد صحيح".
الآثار المترتبة على فساد الحجّ:
1- أنّ الرجل والمرأة يستويان في فساد الحجّ.
2- أنّه يجب المضي في فاسده.
3- أنّ عليه بدنة.
4- أنّه يجب قضاؤه.
5- أن عليهما أن يتفرقا في القضاء حتى يتما حجّهما.
أمّا إذا حصل الجماع بعد التحلل الأول، وقبل طواف الإفاضة؛ فالحجّ صحيح، ولا يلزمه شيءٌ غير التوبة والإنابة.
النوع الثاني: الذي لا يوجب فساد الحجّ ثمانية:
1- إزالة الشعر من أي جزء من أجزاء البدن بلا عذر:
قال تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله}، ويلحق بالحلق أي طريقة تؤدي إلى إزالة شعر الرأس من موضعه.
وعليه أجمع العلماء، قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنّ المحرم ممنوع من حلق رأسه، وجذه، وإتلافه بجذٍ، أو نورة، أو غير ذلك".
أمّا مع وجود العذر؛ فيجوز حلق شعر الرأس، وعليه الفدية، قال تعالى: {فمن كان منكم مريضًا أو به أذًى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}، وقد بيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديث كعب بن عجرة هذه الفدية، فقال: ((صيام ثلاثة أيّام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاعٍ أو ذبح شاة)) متفق عليه. وهي المعروفة عند أهل العلم بفدية الأذى.
قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنّ له - أي المحرم - حلق رأسه من علّة".
أمّا ازالة سائر شعر البدن؛ فلا حرج عليه إن احتاج إليه. وإن لم يحتج إليه؛ فالأولى أن لا يأخذ شيئًا من شعر بدنه احتياطًا، ولا بأس عليه إن فعل.
2- تقليم الأطفار:
وهذا المحظور ليس عليه نصّ من كتاب أو سنة، والفقهاء قاسوه على حلق شعر الرأس بجامع الترفه، وعليه نقل ابن المنذر إجماع أهل العلم، قال: "وأجمعوا على أنّ المحرم ممنوع من أخذ أظفاره".
وقال ابن قدامة: "أجمع أهل العلم على أنّ المحرم ممنوعٌ من أخذ أظفاره" .
ولكن إن انكسر شيٌ من ظفره دون قصد؛ فله أن يزيله، قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنّ له أن يزيل عن نفسه ما كان منكسرًا منه - أي من ظفره -".
3- تعمد تغطية الرأس للرجل:
قال ابن المنذر"وأجمعوا على أنّ المحرم ممنوع من تخمير ـ أي تغطية ـ رأسه"؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته دابته وهو محرم: ((لا تخمروا رأسه)) أي لا تغطوه، ولنهيه صلى الله عليه وسلم المحرم عن لبس العمائم والبرانس. متفقٌ عليه.
وأمّا استظلال المحرم بما ليس بملاصقٍ لرأسه كسقف السيارة أو الطائرة أو السفينة أو الشمسية أو نحو ذلك؛ فلا بأس به لما ثبت أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ظلل عليه بثوبٍ حين رمى جمرة العقبة. رواه مسلم.
وكذلك إذا غطَّى رأسه بما لا يقصد به التغطية والستر كحمل الأمتعة ونحوه؛ فلا بأس به، لأنّه لم يقصد به الستر والتغطية، والأمتعة لا يستر بمثلها غالبًا.
واختلف أهل العلم في تغطية الوجه للرجل؛ والراجح في المسألة جواز تغطية الوجه وعدم اعتبارها من محظورات الإحرام؛ لشذوذ اللفظة الزائدة الواردة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته دابته وهو محرم: ((ولا تخمروا رأسه ووجهه ..)) رواه مسلم.
فإنّ الرواية المتفق عليها في الصحيحين لم ترد فيها تلك اللفظة: ((ولا تخمروا رأسه)) فقط.
أمّا المرأة فمأمورة بعدم تغطيتها لوجهها، ويحرم عليها لبس النِقاب؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((ولا تنتقب المرأة)).
ولها أن تغطي وجهها إذا مرَّت بحضرة رجال أجانب، ولا شيء عليها.
4- لبس الذكر للمخيط عمدًا:
المراد من النهي عن لبس المخيط: هو النهي عن لبس الثوب المفصَّل على البدن أو على عضو من أعضائه، لا ما كان فيه خيط، فيدخل فيه كل ما فُصِّل على البدن كما جاء في فتوى النبيِّ صلى الله عليه وسلم للذي سأله عن ما يلبس المحرم؟ فقال: ((لا يلبس القميص ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل، ولا ثوبًا مسَّه ورسٌ أو زعفرانٌ، ولا الخفين، إلاّ أن لا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين)) متفق عليه.
قال القاضي عياض: "أجمع المسلمون على أن ما ذكر في هذا الحديث لا يلبسه المحرم".
ويحرم على المرأة لبس القفازين؛ لما رواه البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين)).
5- تعمّد الطيب:(/15)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته دابته وهو محرم: ((لا تحنطوه)) متفق عليه. وفي رواية لمسلم: ((لا تمسوه بطيب)).
قال ابن المنذر: "وأجمع أهل العلم على أنّ المحرم ممنوع من استعمال الطيب في جميع بدنه".
فيمنع المحرم بعد تلبسه بالنسك أن يتطيَّب في أي جزءٍ من بدنه.
أمّا قبل تلبسه بالإحرام فيجوز له أن يتطيب، قالت عائشة رضي الله عنها: (كنتُ أنظر إلى وبيص ـ لمعان ـ المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرمٌ) متفق عليه.
6- قتل صيد البر المأكول وذبحه، واصطياده:
يحرم على المحرم قتل صيدِ البر المأكول وذبحه؛ لقوله تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرم}.
ويحرم عليه اصطياده لقوله تعالى: {وحُرِّم عليكم صيد البرِّ ما دمتم حرمًا}.
قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنّ المحرم إذا قتل صيدًا، عامدًا لقتله، ذاكرًا لإحرامه، أنّ عليه الجزاء".
ويحرم عليه أن يأكل من الصيد الذي صِيد لأجله؛ فعن الصعب بن جثامة أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نزل به ضيفًا في طريقه إلى مكة في حجّة الوداع، فصاد الصعب حمارًا وحشيًا، وجاء به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فردّه عليه، وقال: ((إنّا لم نرده عليك إلاّ أنَّا حُرُمٌ)) رواه البخاري.
أمّا إذا لم يصد لأجله؛ فلا بأس على المحرم أن يأكل منه؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم للصحابة الذين سألوه عن الأكل من الصيدِ الذي صاده أبو قتادة، وهم محرمون، فقال: ((أمنكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟)). قالوا: لا. قال: ((فكلوا ما بقي من لحمها)) متفق عليه.
7- عقد النكاح:
لا يتزوج المحرم، ولا يزوِّج غيره بولاية ولا بوكالة؛ لما ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب)) رواه مسلم.
ولأنّ الإحرام يمنع من الوطء ودواعيه، فمُنِع عقد النكاح؛ لأنّه من دواعي الوطء.
أمّا ما جاء من حديث ابن عباس أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرمٌ؛ فالراجح أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، كما روت ذلك ميمونة نفسها، وهي أعلم بنفسها من ابن عبّاس. متفق عليه
وكذلك أخبر أبو رافع الذي كان سفيرًا بينها وبين النبيِّ صلى الله عليه وسلم. أخرجه أحمد والترمذي، وصححه ابن خزيمة وابن حبّان.
8- المباشرة من الرجل للمرأة فيما دون الفرج:
إذا وقعت المباشرة قبل التحلل الأول؛ فإنّه لا يفسد الحجّ ولا الإحرام، ولكنه قد ارتكب محظورًا محرمًا، واستحق إثمًا، إلاّ أن يستغفر الله.
وكذلك لو باشرها بعد التحلل الأول؛ فإنّ الإثم عليه بارتكابه هذا الأمر؛ لأنّه لم يتحلل التحلل الكامل بعدُ.
فدية محظورات الإحرام:
فاعل هذه المحظورات له ثلاث حالاتٍ:
1- أن يفعل المحظور بلا عذرٍ ولا حاجة فهذا آثمٌ، وعليه الفدية.
2- أن يفعل المحظور لحاجة إلى ذلك مثل أن يحتاج إلى لبس القميص لدفع برد يخاف منه الضرر، فيجوز أن يفعل ذلك وعليه فديته، كما جرى لكعب بن عجرة رضي الله عنه، حين حُمِل إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر من رأسه على وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى – أو قال: ما كنتُ أرى الجهد بلغ بك ما أرى, تجد شاة؟)) فقلتُ: لا. فقال: ((فصم ثلاثة أيّام أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكينٍ نصف صاع)) متفق عليه.
3- أن يفعل المحظور وهو معذور بجهل أو نسيانٍ أو إكراه؛ فلا إثم عليه ولا فديه، لقوله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمَّدت قلوبكم}.
ولقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) رواه ابن ماجه، وصححه الألباني في الإرواء.
وتنقسم محظورات الإحرام بالنسبة إلى الفدية إلى أربعة أقسام:
1- ما لا فدية فيه، وهو عقد النكاح.
2- ما فديته بدنة، وهو الجماع في الحجّ قبل التحلل الأول.
3- ما فديته جزاؤه أو ما يقوم مقامه، وهو قتل الصيد.
4- ما فديته صيامٌ أو صدقة أو نسك، وهو فدية الأذى في حلق شعر الرأس، وألحق به العلماء بقية المحظورات سوى عقد النكاح والجماع والصيد.
تنبيهات:
1- لا فرق بين أظفار اليدين والرجلين.
2- لا يجوز للمحرم شم الطيب عمدًا، ولا خلط قهوته بالزعفران الذي يؤثر في طعم القهوة أو رائحتها، ولا خلط الشاي بماء الورد ونحوه ممّا يظهر فيه طعمه أو ريحه.
3- يستعمل الصابون الممسَّك ـ الذي رائحته رائحة مسك ـ إذا ظهرت فيه رائحة الطيب.
4- يدخل في الرفث مقدمات الجماع، فلا يحل للمحرم أن يُقبِّل زوجته لشهوة أو يمسَّها لشهوة، أو يغمزها لشهوة، أو يداعبها لشهوة، ولا النظر إليها بشهوة.
5- ولا يحل لها أن تمكنه من ذلك، وهي محرمة.
6- يجوز للمحرم إذا لم يجدِ إزارًا ولا ثمنه أن يلبس السراويل، ولا شيء عليه. ويجوز له إذا لم يجد نعلين ولا ثمنهما أن يلبس الخفين، ولا شيء عليه.(/16)
عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات يقول: (من لم يجد إزارًا فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفَّين) متفق عليه.
7- لا بأس بلف القميص على البدن دون لبس.
8- لا بأس أن يجعل العباءة بحيث لا يلبسها كالعادة.
9- لا بأس أن يلبس رداء أو إزارًا مرقعًا.
10- لا بأس أن يعقد على إزاره خيطًا أو نحوه.
11- لا بأس أن يلبس الخاتم وساعة اليد ونظارة العين وسماعة الأذن، ويعلّق القربة ووعاء النفقة في عنقه.
12- ولا بأس أن يعقد إزاره عند الحاجة مثل أن يخاف سقوطه.
13- لا بأس للمرأة بتغطية الرأس.
14- ولا بأس عليها أن تلبس الجوربين.
15- يجوز للرجل والمرأة تغيير ثياب الإحرام إلى غيرها ممّا لا يمتنع عليهما لبسه حال الإحرام
ثامن عشر: الهدي والأضاحي:
1- الهدي:
كل ما يُهدى إلى الحرم من نَعم أو غيرها.
فقد يُهدي الإنسان نعمًا إبلاً أو بقرًا أو غنمًا، وقد يُهدي غيرها كالطعام، وقد يُهدي اللباس، فالهدي أعمّ من الأضحية. لأنّ الأضحية لا تكون إلاّ من بَهيمة الأنعام، وأمّا الهدي؛ فيكون من بِهيمة الأنعام ومن غيرها، فهو كل ما يُهدى إلى الحرم.
وتتعيَّن بالقول أو بالتقليد والإشعار.
والتقليد: هو أن يضع قلادة على عنق البهيمة نعالاً أو قطع القِرب أو الثياب الخلِقة، فإذا علَّق هذه الأشياء فهم من رآها أنّها لفقراء الحرم.
قالت عائشة: (لقد كنتُ أفتلُ قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيبعث هديه إلى الكعبة فما يحرم عليه شيءٌ ممّا حلّ للرجال من أهله حتى يرجع النّاس) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة، قال: ((اركبها)). قال: إنّها بدنة. قال: ((اركبها)). قال: فلقد رأيته راكبها يساير النبيَّ صلى الله عليه وسلم والنعل في عنقها. رواه البخاري.
أمّا الإشعار؛ فهو أن يشق سنام البعير حتى يخرج الدم ويسيل على الشعر، فإنّ من رآه يعرف أنّ هذا معدٌ للنحر.
قالت عائشة رضي الله عنها: (فتلتُ قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أشعرها وقلَّدها أو قلَّدتُها، ثم بعث بها إلى البيتِ وأقام بالمدينة، فما حرُم عليه شيءٌ كان له حلٌّ) رواه البخاري.
حكم الهدي إذا تعيَّنت:
وإذا تعيَّنت لم يجز بيعها؛ حتى لو هزلت، ولا هبتها، إلاّ أن يستبدلها بخيرٍ منها.
ولا يجوز له أن يجزّ صوفها لينتفع به إلاّ أن يكون جزّه أنفع للبهيمة، كأن يكون عليها صوف كثير يؤذيها، وفي جزّه راحة لها، أو نبت فيها جرح وفي جز الشعر والصوف من أجل إبراز الجرح للهواء لينشف ويبرد راحة لها. ويتصدق به، ولا ينفتع به.
الهدي الواجب:
الهدي الواجب هو المتعلق بالأنساك، ويجب على المتمتع والقارن.
قال تعالى: {فمن تمتع بالحجّ إلى العمرة فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن يكن أهله حاضري المسجد الحرام}.
قال ابن كثير: "أي إذا تمكنتم من أداء المناسك، فمن كان منكم متمتعًا بالعمرة إلى الحجّ، وهو يشمل من أحرم بِهما، أو أحرم بالعمرة أولاً، فلما فرغ منها أحرم بالحجّ، وهو التمتع الخاص، وهو المعروف في كلام الفقهاء، والتمتع العام يشمل القسمين ... فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وأقلّه شاة".
وعن أبي جمرة قال: سألتُ ابن عبّاس رضي الله عنهما عن المتعةِ فأمرني بِها. وسألته عن الهدي فقال: فيها جزور أو بقرة أو شاة أو شِرك في دم. قال: وكان ناسًا كرهوها. فنمتُ فرأيتُ في المنام كأنّ إنسانًا يُنادي: حجٌّ مبرور، ومتعة متقبلة. فأتيتُ ابن عبّاس رضي الله عنهما، فحدثته فقال: الله أكبر، سُنَّة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم.
2- الأضحية:
جمع الأضحية: أضاحي. والأصل في هذه التسمية: الذبح وقت الأضحى، ثم أطلق ذلك على ما ذبح في أي وقت كان من أيام التشريق.
وهي: ما يذبح من بِهيمة الأنعام في أيام النحر تقربًا إلى الله تعالى.
حكمها:
الأضحية سنة مؤكدة، وهو مذهب جمهور أهل العلم؛ وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة، وإليه ذهب أبو محمد بن حزم، رحم الله الجميع.
لحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمسن من شعره وبشره شيئاً)) رواه مسلم.
قالوا: علق الذبح على الإرادة، والواجب لا يعلق على الإرادة.
وعن جابر رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأضحى بالمصلى، فلما قضى خطبته نزل من منبره، وأتى بكبش فذبحه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي)) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني.
قالوا: فمن لم يضح منا، فقد كفاه تضحية النبي صلى الله عليه وسلم، وناهيك بها أضحية.(/17)
وعن أبي سريجة ـ أو أبي سريج ـ الغفاري قال: أدركت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان، كراهية أن يقتدى بهما. أخرجه البيهقي، وصححه الألباني
وإذا كان هذا قول وفعل كبار الصحابة؛ فلا شك أنّه القول المعتمد.
وبالبراءة الأصلية، وأنه لا دليل صحيح صريح يعتمد عليه الموجبون.
وعليه ينبغي حمل أدلة الموجبين لها على المقيم الموسر على تأكيد هذه السنية، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان له سعة ولم يضحِّ فلا يقربن مصلانا)) أخرجه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني.
وحديث مخنف بن سليم رضي الله عنه قال: كنا وقوفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، فقال: ((يا أيها الناس، إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة ..)) الحديث، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وحسَّنه الألباني.
وحديث جندب بن سفيان رضي الله عنه أنه شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر صلى ثم خطب فقال: ((من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن كان لم يذبح فليذبح بسم الله)) رواه البخاري.
فضل الأضحية:
قد وردت أحاديث في فضلها لكن لا يصح منها شيء.
من ذلك: ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسًا)) أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وضعَّفه الألباني.
وعن عمران بن حصين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا فاطمة، قومي إلى أضحيتك فاشهديها؛ فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه...)) الحديث. أخرجه الحاكم، وتعقبه الذهبي، وضعَّفه الألباني.
وعن ابن عباس رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما عمل ابن آدم في هذا اليوم أفضل من دم يهراق إلا أن تكون رحمًا توصل)) أخرجه الطبراني في الكبير، وضعَّفه الألباني.
الأدلة على مشروعية الأضحية:
قال ابن قدامة رحمه الله: "الأصل في مشروعية الأضحية الكتاب والسنة والإجماع".
أما الكتاب؛ فقوله تعالى: {فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الصلاة: المكتوبة، والنحر: النسك والذبح يوم الأضحى).
أما السنة؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بكبشين. متفق عليه
أما الإجماع: فقد قال ابن قدامة رحمه الله: "وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية".
الحكمة من مشروعية الأضحية:
1- الاقتداء بأبينا إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يابُنَىَّ إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْراهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:102-107].
2- التوسعة على الناس يوم العيد، فحين يذبح المسلم أضحيته يوسع على نفسه وأهل بيته، وحين يهدي منها إلى أصدقائه وجيرانه وأقاربه فإنه يوسع عليهم، وحين يتصدق منها على الفقراء والمحتاجين فإنه يغنيهم عن السؤال في هذا اليوم الذي هو يوم فرح وسرور.
شروط الأضحية:
1- أن تكون من بهيمة الأنعام، وهي: الإبل والبقر والغنم.
قال تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ} [الحج:28].
قال القرطبي رحمه الله: "والأنعام هنا: الإبل والبقر والغنم".
ونقل ابن رشد الإجماع على ذلك.
2- أن تكون قد بلغت السن المعتبر شرعًا.
لحديث البراء رضي الله عنه، وفيه: فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح، فقال: عندي جذعة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((اذبحها، ولن تجزئ عن أحد بعدك)) متفق عليه.
وهذا يدل على أنه لا بد من بلوغ السن المعتبر شرعًا.
ولحديث جابرٍ مرفوعًا: ((لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فاذبحوا الجذع من الضأن)) رواه مسلم.
فلا يجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا ما كان مسنة، سواء كان ذكراً أم أنثى.
والمسن من الإبل: ما أتم خمس سنين ودخل في السادسة.
والمسن من البقر: ما أتم سنتين ودخل في الثالثة.
والمسن من المعز: ما بلغ سنة ودخل في الثانية.
ويجزئ الجذع من الضأن وهو: ما بلغ ستة أشهر، ودخل في السابع.
3- أن تكون سالمة من العيوب المانعة من الإجزاء المنصوص عليها في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: ماذا يُتَّقى من الضحايا؟ فأشار بيده، وقال: ((أربعٌ: العرجاء البيّن ظلعها، والعوراء البيّن عورها، والمريضة البيّن مرضها، والعجفاء التي لا تنقي)) أخرجه أحمد وأصحاب السنن، وصححه الألباني.(/18)
قال الخطابي رحمه الله: "قوله: ((لا تنقي)) أي: لا نِقْي لها، وهو المخ، وفيه دليل على أن العيب الخفيف في الضحايا معفو عنه، ألا تراه يقول: ((بيّن عورها)) و((بيّن مرضها)) و((بيّن ظلعها))، فالقليل منه غير بيّن فكان معفوًا عنه".
وقال شمس الحق العظيم آبادي رحمه الله: "((بيّن)) أي: ظاهر ((عورها)) ـ بالعين والواو المفتوحتين وضم الراء ـ أي: كما هي في عين، وبالأولى في عينين، ((والمريضة)) هي التي لا تعتلف، ((بيّن ظلعها)) ـ بسكون اللام ويفتح - أي: عرجها، وهو أن يمنعها من المشي".
وقال ابن عثيمين رحمه الله: "((العجفاء)) وهي الهزيلة التي لا مخ فيها، فالمخ مع الهزال يزول، ويبقى داخل العظم أحمر، فهذه لا تجزئ؛ لأنها ضعيفة البنية كريهة المنظر".
4- أن تكون ملكًا للمضحي، أو مأذونًا له فيها، فلا تصح التضحية بالمغصوب والمسروق، والمشترك بين اثنين إلا بإذن الشريك.
5- ألا يتعلّق بِها حق الغير، فلا تصح التضحية بالمرهون، ولا بالموروث قبل قسمته.
6- أن تقع الأضحية في الوقت المحدد شرعًا، فإن ذبحت قبله أو بعده لم تجزئ.
وقت الذبح:
اتفق الفقهاء رحمهم الله على أن أفضل وقت التضحية هو يوم العيد قبل زوال الشمس؛ لأنه هو السنة، لحديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أول ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء)) متفق عليه.
كما أنهم اتفقوا على أن الذبح قبل الصلاة أو في ليلة العيد لا يجوز عملاً بِهذا الحديث، وحديث جندب بن سفيان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان ذبح أضحيته قبل أن يصلي ـ أو نصلي ـ فليذبح مكانها أخرى)) متفق عليه.
آداب لمن أراد التضحية:
1- عدم الأخذ من الشعر والبشرة إذا دخلت العشر لمن أراد أن يضحي.
عن أمّ سلمة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يلمس من شعره وبشره شيئًا)) متفق عليه.
قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: ما يجتنب الرجل إذا أراد أن يضحي؟ قال: "لا يأخذ من شعره، ولا من بشره".
قال ابن القيم رحمه الله: "ومن هديه صلى الله عليه وسلم أن من أراد التضحية، ودخل يوم العشر فلا يأخذ من شعره وبشره شيئًا".
2- أن ينتقي الأفضل في الأضحية صفةً، وهي ما توافرت فيها صفات التمام والكمال من بهيمة الأنعام، ومنها: السِّمن، كثرة اللحم، كمال الخلقة، جمال المنظر، غلاء الثمن.
عن يحيى بن سعيد قال: سمعت أبا أمامة بن سعد قال: (كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون) رواه البخاري.
مسائل متعلقة بالأضحية:
1- التضحية أفضل من التصدق بثمنها:
التضحية أفضل من الصدقة بثمنها؛ لأنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل المسلمين من بعده.
قال ابن القيم رحمه الله: "الذبح في موضعه أفضل من الصدقة بثمنه، ولو زاد، كالهدايا والضحايا، فإن نفس الذبح وإراقة الدم مقصود، فإنه عبادة مقرونة بالصلاة، كما قال تعالى: {فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]".
2- تفاضل الأضحية بين الإبل والبقر والغنم:
جمهور أهل العلم على أنّ أفضل الأضحية: الإبل ثم البقر ثم الغنم؛ لحديث أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله، وجهاد في سبيله)) قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: ((أغلاها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها)) رواه البخاري.
قالوا: والإبل أغلى ثمنًا من البقر، والبقر أغلى ثمنًا من الغنم.
وذهب المالكية إلى أنّ التضحية بالغنم أفضل؛ لحديث أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بكبشين، وأنا أضحي بكبشين. متفقٌ عليه
قالوا: وما كان صلى الله عليه وسلم يختار لخاصته ولا يفعل إلا الأفضل.
وأجاب عن ذلك ابن حزم رحمه الله بأنه محمول على التخفيف لرفع المشقة.
واعلم أنّ كلام الجمهور محمول على من ضحى عن نفسه وأهل بيته ببعير أو بقرة، لا سبع بعير أو سبع بقرة، وإلا فالغنم في هذه الحالة أفضل.
3- حكم الاشتراك في الأضحية:
جمهور أهل العلم على جواز الاشتراك في الأضحية.
قال الإمام أحمد: "ما علمتُ أحدًا إلاّ ويرخص في ذلك؛ إلا ابن عمر".
واستدلوا على جواز التشريك بأدلة منها:
حديث جابر رضي الله عنه، وفيه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي)) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني.
وعن عطاء بن يسار، قال: سألتُ أبا أيوب الأنصاري: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون، ويطعمون، حتى تباهى الناس، فصارت كما ترى. أخرجه مالك والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني(/19)
4- الشاة تجزئ عن الرجل وأهل بيته:
وتجزئ الشاة الواحدة في الأضحية عن الرجل وأهل بيته، وإن كثروا.
عن عطاء بن يسار، قال: سألتُ أبا أيوب الأنصاري: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون، ويطعمون، حتى تباهى الناس، فصارت كما ترى. أخرجه مالك والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني
قال ابن القيم رحمه الله: "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن الشاة تجزئ عن الرجل، وعن أهل بيته ولو كثر عددهم".
5- طروء العيب على الأضحية بعد التعيين:
جمهور أهل العلم على أنّه: إذا أصاب الأضحية عيبًا بعد أن أوجبها؛ فإنّها تجزئ إذا لم يكن ذلك العيب بفعله أو تفريط منه.
لحديث ابن عباس، قال موسى بن سلمة الهذلي: انطلقت أنا وسنان بن سلمة معتمرين، قال: وانطلق سنان معه ببدنة يسوقها، فُأزحِفت عليه بالطريق فَعَيِيَ بشأنها، إن هي أُبدِعَت كيف يأتي بها، فقال: لئن قدمت البلد لأستحفينّ عن ذلك، قال فأضحيت فلما نزلنا البطحاء قال: انطلق إلى ابن عباس نتحدث إليه، قال: فذكر له شأن بدنته فقال: على الخبير سقطت، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بست عشرة بدنة مع رجل وأمَّره فيها، قال: فمضى ثم رجع، فقال: يا رسول الله، كيف أصنع بما أُبْدِع عليَّ منها؟ قال: ((انحرها، ثم اصبغ نعليها في دمها، ثم اجعله على صفحتها، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك)) رواه مسلم.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وأما إذا اشترى أضحية، فتعيبت قبل الذبح، ذبحها في أحد قولي العلماء، وإن تعيبت عند الذبح أجزأ في الموضعين".
6- الاستدانة من أجل الأضحية:
سئل ابن تيمية رحمه الله عمن لا يقدر على الأضحية، هل يستدين؟
فقال: "الحمد لله رب العالمين، إن كان له وفاء فاستدان ما يضحي به فحسن، ولا يجب عليه أن يفعل ذلك، والله أعلم".
7- الأكل من الأضحية:
يستحب للمضحي أن يأكل من أضحيته؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكل من لحمها، وشرب من مرقها.
قالوا: وتكلّف هذا الأمر: أن يأخذ من مائة بدنة مائة قطعة، تُطبخ في قدر، ويأكل منها، يدل على أنّ الأمر في الآية الكريمة للوجوب.
8- الأضحية عن الميت:
قال ابن تيمية رحمه الله: "وتجوز الأضحية عن الميت، كما يجوز الحج عنه، والصدقة عنه، ويضحى عنه في البيت، ولا يذبح عند القبر أضحية ولا غيرها".
9- ذبيحة المرأة والصبي:
عن كعب بن مالك رضي الله عنه، أن امرأة ذبحت شاة بحجر، فسئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فأمر بأكلها. رواه البخاري
قال ابن المنذر رحمه الله: "أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على إباحة ذبيحة المرأة والصبي".
آداب متعلقة بذبح الأضحية:
1- حدّ السكين، وإراحة الذبيحة: عن شداد بن أوس، قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليُحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)) مسلم.
2- يستحب إمرار السكين بقوةٍ وتحاملٍ ذهابًا وعودًا، ليكون أوجى وأسهل.
3- استقبال الذابح القبلة بأضحيته، لفعل ابن عمر رضي الله عنهما، ولأنها أولى الجهات بالاستقبال.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وأما الأضحية فإنه يستقبل بها القبلة، فيضجعها على الأيسر، ويقول: بسم الله، والله أكبر، اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك".
4- أن ينحر البعير قائمًا على ثلاث قوائم، معقول الركبة، وإلا فباركاً. لقول ابن عمر رضي الله عنهما: ابعثها قيامًا مقيدة سنةَ محمد صلى الله عليه وسلم.. الحديث، رواه البخاري.
5- ويستحب أن يذبحها بيده ويضع رجله على صفاحها، ويقول: بسم الله الله أكبر، اللهم هذا عني وعن آل بيتي، أو عن آل فلان، لقول أنس رضي الله عنه: ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين، فرأيته واضعًا قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر، فذبحهما بيده. رواه البخاري
بعض البدع والمخالفات الشرعية في الأضحية:
1- لطخ الجباه بدم الأضحية:
قالت اللجنة الدائمة للإفتاء: لا نعلم للطخ الجباه بدم الأضحية أصلاً لا من الكتاب ولا من السنة، ولا نعلم أن أحدًا من الصحابة فعله، فهو بدعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))، وفي رواية: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق على صحته.
2- الوضوء لذبح الضحية:
قالت اللجنة الدائمة للإفتاء: لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ بعد صلاة عيد الأضحى من أجل أن يذبح أضحيته، ولم يعرف ذلك أيضًا عن السلف الصالح، ولكنه إذا ارتكب ذلك بأن توضأ لذبح أضحيته فذبيحته مجزئة له ما دام مسلمًا لا يعرف عنه ما يوجب تكفيره، ويجوز الأكل منها له ولغيره.
3- مسح ظهر الأضحية ليلة العيد، وتسمية من يضحي بِها عنهم:(/20)
قال ابن عثيمين: "وأما ما يفعله بعض العامة عندنا يسميها في ليلة العيد ـ أي: الأضحية ـ ويمسح ظهرها من ناصيتها إلى ذنبها، وربما يكرر ذلك: هذا عني، هذا عن أهل بيتي، هذا عن أمي، وما أشبه ذلك فهذا من البدع، لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم".
4- الطواف حول الأضحية:
ما يفعله من يطوف حولها ـ أي الأضحية ـ، أو يتخطاها هو وأهل بيته قبل ذبحها، ومن يهلل ويكبر بصوت جماعي مع أهل بيته حال الطواف حولها، ونحو ذلك من المحدثات التي سببها انتشار الأحاديث التي لا خطام لها ولا زمام".
تاسع عشر: أخطاء يقع فيها بعض الحجاج والمعتمرين والزائرين:
أ/ أخطاء قبل الذهاب إلى الحج:
1. ترك الوصية بما للإنسان أو عليه من حقوق أو ديون.
2. عدم تحري النفقة الحلال للحج.
3. الذهاب مع الرفقة السيئة.
4. عدم إخلاص النية في حجه.
5. اصطحاب شيء من المحرمات كالدخان وآلات اللهو إلى الحج.
6. عدم تعلم أحكام الحج والعمرة مما يوقع الحاج في كثير من المحظورات.
ب/ أخطاء الإحرام:
1. تطييب ثياب الإحرام.
2. وضع (أزرار) أو (مشابك) في الإحرام بحيث يصبح الإحرام كالثوب المخيط.
3. ما تضعه بعض النساء على رأسها لترفع الحجاب عن وجهها وتعتقد أن المحرمة لا يصح أن يلامس حجابها وجهها، وهذا لا أصل له.
4. مجاوزة الميقات بدون إحرام وخصوصاً ما يفعله الكثير حيث لا يحرم ـ إذا أتى بالطائرة ـ إلا في جدة بعد وصوله.
5. التلبية الجماعية، سواء أكان يلبي أحدهم ويردد معه الباقون أو بأن يلبوا جميعاً بصوت واحد.
6. استعمال الطيب في المأكول والمشروب كالزعفران ونحوه، وكذلك الصابون المعطر.
7. تعمد تغطية الوجه والرأس بملاصق وخصوصاً عند النوم.
8. اعتقاد البعض أنه لا يجوز حك الرأس أو الجسم.
9. كشف المرأة وجهها عند غير محارمها بدعوى أنها محرمة.
10. التقاط لقطة الحرم لغير التعريف.
11. ظن البعض أنه لا يجوز أن يتغطى بغير ملاصق كسقف السيارة أو المظلة (الشمسية).
12. الاستمرار في الاضطباع، مع أن السنة أن يكون في الطواف الأول فقط.
13. تجاوز الحائض لميقاتها دون إحرام ظناً منها أنه لا يصح إحرام الحائض.
ج/ أخطاء الطواف:
1. ابتداء الطواف قبل الحجر الأسود على سبيل الاحتياط.
2. الطواف داخل الحجر عند الزحام، بحيث يدخل من باب الحجر إلى الباب المقابل.
3. الرمل في جميع الأشواط السبعة.
4. المزاحمة الشديدة للوصول إلى الحجر الأسود لتقبيله.
5. اعتقاد بعضهم أن الحجر الأسود نافع بذاته.
6. استلام جميع أركان الكعبة.
7. الوقوف عند محاذاة الحجر الأسود والمزاحمة لأجل ذلك وإعاقة السير.
8. تقبيل اليد عند الإشارة إلى الحجر.
9. تخصيص كل شوط بدعاء معين لا يدعو فيه بغيره.
10. الدعاء الجماعي بصوت قائد يقودهم ويلقنهم الدعاء بصوت مرتفع، مما يشوش على الطائفين.
11. المزاحمة الشديدة من أجل الصلاة خلف المقام.
12. طواف أو سعي المرأة بالزينة والعطر.
13. الوقوف بعد الطواف للدعاء ورفع الصوت بذلك جماعة.
14. المرور بين يدي المصلين وخاصة مرور النساء لغير حاجة ملحة.
د/ أخطاء في السعي:
1. قراءة قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} كلما أقبلوا على الصفا والمروة, والسنة أن يقرأها إذا أقبل على الصفا في أول شوط فقط.
2. تكلف الصعود إلى أعلى جبل الصفا والمروة والمشقة في ذلك، وإنما يكفي صعود بعضه.
3. الإشارة باليد جهة القبلة مع التكبير عند صعود الصفا والمروة، والسنة في ذلك رفع الدين والدعاء والذكر المأثور.
4. ترك كثير من الناس للذكر الوارد عند رقي الصفا والمروة.
5. هرولة المرأة بين العلمين.
6. إسراع الرجل في جميع الشوط، والسنة أن يكون بين العلمين.
7. صلاة ركعتين بعد السعي كالطواف، وهذا لا أصل له.
هـ/ أخطاء في يوم عرفة:
1. خروج بعض الحجاج إلى الميقات كي يحرموا بالحج وهذا خلاف السنة، فالسنة أن يحرموا من مكانهم.
2. تكلف صعود الجبل المسمى (جبل الرحمة) مع التعرض للخطر مع أنه غير مسنون.
3. الاشتغال بالأحاديث الدنيوية والأكل والشرب عن الذكر والدعاء في وقت الوقوف, وهو بعد صلاتي الظهر والعصر.
4. النزول خارج حدود عرفة حتى الغروب، وهذا خطأ عظيم يفوت به الحج.
5. استقبال الجبل المسمى (جبل الرحمة) في الدعاء واستدبار الكعبة, وتكلف صعوده.
6. الخروج من عرفة قبل غروب الشمس.
7. السرعة الشديدة وقت الدفع إلى مزدلفة وعدم السكينة.
و/ أخطاء في مزدلفة:
1. الانشغال بجمع الحصى عند الوصول إلى مزدلفة عن الصلاة، مع أن السنة البدء بالصلاة.
2. التهاون في تحري القبلة في صلاة المغرب والعشاء.
3. الخروج من مزدلفة إلى منى قبل الفجر لغير الضعفة.
4. التأخر في الدفع من مزدلفة إلى طلوع الشمس من غير عذر.
5. ظن بعضهم أنه لا تجمع الجمار إلا من مزدلفة.
6. إهمال الكثير للذكر والدعاء بعد صلاة الفجر يوم العيد في مزدلفة.
ز/ أخطاء في رمي الجمرات:(/21)
1. اعتقاد كثير من الحجاج أنهم برميهم الجمار يرمون الشيطان، ولهذا يطلقون اسم الشياطين على الجمار. فيقولون رمينا الشيطان الصغير والكبير، وتراهم يرمون الحصا بشدة وعنف وصراخ وشتم لهذه الشياطين على زعمهم، مع أن الحكمة من رمي الجمرات إقامة ذكر الله تعالى.
2. رمي الجمار بحصا كبيرة، وبالحذاء (النعل) وبالأخشاب.
3. تقدمهم إلى الجمرات بعنف وشدة، لا يخشعون لله تعالى ولا يرحمون عباد الله تعالى، فيحصل بهذا الأذية والضرر للمسلمين.
4. غسل حصا الجمار.
5. ظن البعض أن الرمي لا يكون إلا في أول الوقت.
6. الرمي من غير تحري بوقوع الحصى في المرمى.
7. رمي حصا الجمار دفعة واحدة.
8. مزاحمة النساء للرجال في الرمي.
9. الرمي قبل بدء وقت الرمي.
10. الإخلال بترتيب الجمرات الثلاث في الرمي.
11. ترك كثير من الحجاج الوقوف للدعاء بعد رمي الجمرة الأولى والثانية في أيام التشريق.
12. تهاون البعض برمي الجمار بأنفسهم فتراهم يوكلون من يرمي عنهم مع قدرتهم على ذلك.
ح/ أخطاء في بقية أيام الحج وطواف الوداع:
1. ترك المبيت بمنى ليلة الحادي عشر والثاني عشر، والثالث عشر للمتأخر.
2. تأخر من يريد التعجل حتى غروب الشمس لليوم الثاني عشر.
3. نزول البعض من منى إلى مكة لطواف الوداع, ثم يرجع إلى منى فيرمي ثم يسافر، وهذا لم يكن آخر عهده بالبيت الطواف.
4. مكثهم بمكة بعد طواف الوداع لغير عارض أو حاجة.
5. خروج البعض على قفاه (يعني على ورائه مستقبل القبلة) بعد طواف الوداع بزعم تعظيم الكعبة.
ط/ أخطاء عند زيارة المسجد النبوي:
1. شد الرحال لأجل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما يكون السفر لأجل زيارة المسجد, وزيارة القبر تبعاً لذلك.
2. ظن البعض أن حجه لا يتم ولا يكمل إلا بزيارة المدينة.
3. التمسح بجدران القبر والتبرك به.
4. الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وطلب الحوائج منه.
5. استقبال القبر عند الدعاء.
6. زيارة ما يسمى بالمساجد السبعة والصلاة فيها
عشرون: أحكام الزيارة وآدابها:
1. زيارة المسجد النبوي:
تسن زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحج أو بعده للأحاديث الواردة في فضله.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاة في غيره من المساجد، إلا المسجد الحرام)) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى)) رواه مسلم.
فإذا دخل المسجد سن له أن يصلي ركعتين تحية المسجد، وينبغي أن يتحرى الصلاة في الروضة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي)) رواه البخاري.
وهذا في غير صلاة الجماعة، أما في صلاة الجماعة فليحافظ على الصف الأول الذي يلي الإمام فإنه أفضل.
2. زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه رضي الله عنهما:
ثم بعد صلاته يذهب للسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
أ- فيقف أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم مستقبلاً للقبر فيقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وإن زاد شيئاً مناسباً فلا بأس، مثل أن يقول: السلام عليك يا خليل الله، وأمينه على وحيه، وإن اقتصر على الأول فحسن.
ب- ثم يخطو خطوة عن يمينه ليكون أمام أبي بكر رضي الله عنه فيقول: السلام عليك يا أبا بكر، وإن زاد شيئاً مناسباً فلا بأس.
ج- ثم يخطو خطوة عن يمينه ليكون أمام عمر رضي الله عنه، فيقول: السلام عليك يا عمر، وإن زاد شيئاً مناسباً فلا بأس.
د- وليكن سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه بأدب وخفض صوت.
هـ- ولا ينبغي إطالة الوقوف والدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
3. زيارة البقيع وشهداء أحد:
وينبغي له زيارة البقيع فيسلم على من فيها من الصحابة والتابعين وغيرهم.
وإذا دخل المقبرة فليقل ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين, وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية.
وإن أحب أن يخرج إلى أحد ويزور الشهداء فيسلم عليهم ويدعو لهم فحسن.
4. الصلاة في مسجد قباء:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء راكباً وماشياً، فيصلي فيه ركعتين) متفق عليه.
وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة، كان له كأجر عمرة)) رواه أحمد، وصححه الألباني.(/22)
المفكر الواعي..في الإبل المائة !
الكاتب: الشيخ د. مسفر بن علي القحطاني
المفكر حسب تعريف الدكتور علي شريعتي هو: "من يملك رؤية نقدية. هكذا فحسب" وليس المقام لمناقشة صحة تعريفه بقدر ما هو إبراز أهم ملامح المفكر المعاصر من خلال امتلاكه الرؤية النقدية لواقعه ومستقبله.
لذلك نجد هذا النمط من المفكرين هم أقل شريحة في المجتمع، وأكثرها عبئاً للهموم التي تحملها، والرؤى التي تؤمن بها، ومع أهميتهم لأي مجتمع يعيشون فيه تجدهم في حياتهم أقل المميزين شهرة وصيتاً، وأخبارهم لا تكاد تهم إلا القليل من الجمهور, ولكن المتأمل في مسيرة المجتمعات ونهضاتها يلحظ أن أولئك المغمورين هم من يُحتفل بهم بعد موتهم، ويُخلّد ذكرهم وتُنصب لهم الرايات والتماثيل، وينسى غيرهم ممن مُلئت له المدرّجات وسُوّدت له الصفحات ..
والمفكر والمثقف والكاتب والناقد والفيلسوف والعالم والفقيه .. ماهيّات تتداخل مهامها، وتتشابك مع بعضها في دوائر الخصوص والعموم ..ولكن من يمكن أن يحمل صفة الواعي المدرك من أولئك؟
هل هو من يسعى لجرّنا إلى سوق الاستهلاك العالمي من خلال فلسفة الاستعمار الجديد ومحاكاة البضائع البشرية التي أنتجتها الشركات المتعددة الجنسيات للشبع والتسلية؟
أم هو الصاعد في برجه القادم في غير عصره، الناظر إلى مرآة نفسه؟
أم هو المقتات بفكره، الكاتب لخبز يومه، الساعي وراء سيده وجمهوره؟
أم هو الهائم في أحلام غيره، المفتون بالجديد، ولوكان من تراث الآخر البعيد؟
لا أظن أن المفكر الواعي يشتري لقبه، أو يكتسبه بماله أو معارفه كما في بعض الصحف والفضائيات, بل يعرفه الناس بطول همّه، وكثرة تأمّله، وعكوف قلمه على الحرث والتحليل والنظر. فيكتب رأيه في الواقع، وينقد حالة المجتمع بنظر ثاقب، ورؤية ناضجة تحمل معها بذور التغيير إلى الأفضل, ويحملهم إلى وعي أمثل محافظاً على أصالته ودينه، و معتزاً بتاريخه وتراثه, من دون سعي منه إلى تقزيمنا طوعاً أو اغتيالنا أحياءً أو جعلنا شيعاً وأحزاباً. إنه في أوقات الذلة مكمن العزة التي لم تنشغل في العِينة أو تترك الجهاد، أو ترغم أنفها خلف أذناب البقر وبذر الحرث كما جاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم .
فهذا الأنموذج الفذّ للمفكر الواعي هو مرادنا في أزمتنا المعاصرة. ولكن هل يعني وجوده في مثل هذا الجو الخانق والمصالح الشتّى كفيل بالترحيب به والاهتمام بطرحه، أم أن عودته ستثير الغبار وتحفل بمعاداة الملأ أو الغوغاء والحمقى؟
أسئلة كثيرة أطرحها على مائدة أهل الوعي بيننا، ورسائل أخرى أودعها في بريدهم لعلهم يرونها. إنهم في مجتمعاتهم كالأنبياء في أممهم، بل هم ورثتهم في نقل العلم الصحيح، والنصح الرشيد، والسعي لمصالح الأمة.
إن مجتمعنا -وهو يمر بتلك الحقبة من تاريخه، وقد تعدّدت خياراته، وتشعّبت مساربه- لا يحتاج منا إلى مزيد فوضى وتشظٍ في فكر أفراده، وحيرة نشعلها في شؤون حياتهم باسم الفكر أو الرأي, بل ينبغي أن يُترقى بهم في درجات الوعي درجة تلو أخرى بفقهٍ أولويٍّ يوازن بين خياراتهم الأخرى المتعلقة بأرزاقهم، وظروف أعمالهم، ومتطلبات مجتمعاتهم، وحقوق أهليهم، و حتى متع أنفسهم, وبقدر إدخال الحق في النفوس والوعي في العقول يخرج الباطل من السلوك, "وليس البر في الإيضاع" كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم أي العجلة وحطم الناس, والشأن الاجتماعي والفكري لدينا معقد إلى درجة كبيرة زاد من حدته تلك المتغيرات المتسارعة التي خلّفت ظواهر سلبية على أنماطنا الحياتية الراهنة؛ كالإقبال على الاستهلاك والفضائيات، والانفتاح على الأفكار والعادات الغربية على وجه الخصوص، والتأخّر في ركب المدنية وغيرها ..., فالمفكّر العادي عندما يتناول هذه الموضوعات الشائكة والملتهبة في لحظتها، ويقرّر حكمه النهائي في أسبابها وعلاجها، قد يقوده ذلك للتناقض السريع في رأيه؛ لتعدّد أشكالها وتباين مظاهرها؛ لذلك كان من الحكمة والرشد تحويل هذه الظواهر المتشابكة والمعقدة إلى مراكز للدراسة والبحث تجمع أعداداً من أهل الفكر الواعي والتخصص العلمي وتجمع لذلك الدراسات الميدانية والإحصاءات الرقمية, وهذا الشأن الجادّ هو ما تقوم به المؤسسات الغربية على مختلف أشكالها حيال أي ظاهرة أو قرار عام, ولا تتقاعس تلك الحكومات عن دعمها بكل ما تحتاجه مادياً ومعنوياً.
لذا فالتريث والتأمل والنظر الواسع للأمور والاستفادة من التجارب الأخرى والاعتناء بعلوم العصر في التحليل والتقويم خطوة نحو الوعي الذي نحتاجه في مجتمعنا, وهذا يكفل وجود الانسجام والتكامل بين أصحاب الفكر والعلم، لا أن يكونوا أسباباً للفتنة والعداوات أو صراعاً للولاءات, ويبقون للوطن صمام أمان في كل نازلة ومدلهمة.(/1)
المفكرة والقلم..طريق النجاح
د. حلمي القاعود 27/5/1426
04/07/2005
كان الرئيس البوسني "علي عزت بيجوفتش" ـ رحمه الله ـ يقول: علينا دائماً بالمفكرة والقلم. كما كان رحمه الله ينعى على المسلمين عدم تخطيطهم ليومهم وغدهم، مع أن الإسلام يحضّ على التخطيط والإتقان والاستفادة من الوقت، وعدم تضييعه عبثاً.
تذكرت مقولة "بيجوفتش" وأنا أرى كثيراً من الناس، وبعضهم أصدقاء، يهملون في المواعيد، ويتناسون أموراً كُلّفوا بها، ويعتذرون دائماً عن تقصيرهم في عمل ما، أو إنجاز ما تحت ذرائع مختلفة، وأسباب متباينة!
التربية الإسلامية تجعل الفرد المسلم، مستقيماً واضحاً! في كلامه وسلوكه ومنهجه حتى يصل إلى الصدق في القول والفعل بوصف "الصدق" سمة عامة، وطبيعة ذاتية في المسلم، لا تعرضه للمؤاخذة، أو تسحب الثقة منه أو تضعفها.
إن كثرة الشواغل والالتزامات تحتم على المسلم أن يلتزم بما يقول أو يعد، وأن يرتّب وقته ترتيباً سليماً يضع في حسبانه المستجدات والطوارئ؛ ولذا فإن المفكرة التي على المكتب أو في حقيبة اليد، ومعها القلم الذي يسجل فيها المطلوبات والمواعيد الخاصة به، سواء على المستوى العام أو الصعيد الشخصي، تصبح ضرورة لازمة، حين ينظر فيها يتذكر ارتباطاته والتزاماته ليفي بها ويقوم عليها.
ولا ريب أن التخطيط للعمل اليومي، يحقق لصاحبه راحة كبيرة، ويمنحه قدرة جيدة على الإنتاج والإبداع، وتعقبه من تداعيات التقصير والاعتذار.
هناك أشخاص عاديّون يتحركون في أفق محدود، يتعوّدون فيه على بعض الأعمال الروتينيّة، ولا تتجاوز علاقاتهم المجال المحدود الذي يعيشون فيه، ومع ذلك فهم مطالبون بالالتزام بواجباتهم العامة والخاصة، وأعتقد أن "المفكرة" تساعدهم على الوفاء بهذه الواجبات وغيرها. أما الأشخاص غير العاديين الذين تتسع آفاق علاقاتهم والتزاماتهم؛ مثل الأطباء والعلماء والأدباء والكتاب والأساتذة ورجال الأعمال وغيرهم من أعيان المجتمع ووجهائه ونشطائه؛ فإن المفكرة بالنسبة لهم تصبح "فرضاً" لازماً، لا يستطيعون الاستغناء عنه أو التفريط به، وإلا وقعوا في التقصير، وارتكبوا "ذنب" الاعتذار!
تجد شخصاً من هؤلاء يقابلك معتذراً عن خلف موعد أو عدم تحقيق اتفاق، بحجة النسيان أو المشاغل الكثيرة أو الظروف، ولا ريب أن هذا الشخص لا يعتذر لك وحدك، ولكنه يعتذر لغيرك، فقد صار منهجه هو "الاعتذار"، وحين يتكرر منه ذلك؛ فإنك تقول: فلان لا يصدق، ولا يُعتمد عليه، ولا يُوثق به؛ لأن سلوكه لم يكن استثناء، ولكنه صار قاعدة .. قد يكون طيب النوايا. مخلص التوجه، ولكن السلوك أو التطبيق ضيع الإخلاص والطيبة جميعاً، وخلّف "فصامية" في شخصية صاحبه "المسلم"، وهو ما يأخذه علينا خصوم الإسلام، ويرونه نقصاً فينا وفي إسلامنا، في حين أن إسلامنا مظلوم منا قبل غيرنا.
قال تعالى:(...إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً)[الكهف :30 ]
فإحسان العمل في شتى المجالات، له أجره وثوابه عند الحق سبحانه وتعالى.
وقال تعالى:(ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)[الصف:2 ،3 ]
وهذا رفض واضح وصريح للانفصام بين القول والفعل، والسؤال هنا فيه استنكار وتبكيت لمن يقول شيئاً ويفعل غيره، وفيه وعيد ضمني وتهويل وإزراء بمن يعيشون الانفصام ويكون سلوكهم مناقضاً لما يعلنونه ويتحدثون عنه.
الأحاديث الشريفة التي تتحدث عن إتقان العمل والوفاء بالوعد أو العهد ورفض الفصام النكد بين القول والفعل كثيرة جداً لا يحتملها المقال، وتفيد مع الآيات الكريمة أن المسلم لا بد أن يكون دقيقاً في عمله، ملتزماً في سلوكه، منظماً في حياته، وإلا فإنه سيخسر كثيراً مادياً ومعنوياً.
إن قضية الوقت أو الزمن في حياة المسلم محسومة دينياً، فلا يوجد ما يسمى "وقت فراغ" بالنسبة له. إن وقته كله مشغول، وزمنه كله ممتلئ. هناك وقت للعمل، ووقت العبادات، ووقت الأسرة، ووقت المجتمع أو خدمة المسلمين، وإن تبقَّى بعد ذلك وقت فائض فهو للنوافل أو الذكر أو القراءة .. كثرة الالتزامات بالنسبة للمسلم لا تجعله يعيش في فراغ أبداً، وهو مطالب -كما يهديه الحديث الشريف- بالعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً، والعمل لأخراه كأنه يموت غداً .. فهل يبقى له بعد ذلك فراغ؟! إن استثمار الوقت فيما يفيد صاحبه والإسلام والمسلمين؛ يحتاج إلى إرادة قوية تنظم هذا الوقت، وتعتاد التنظيم، وترتضيه نمطاً يومياً للحياة!(/1)
ولا ريب أن المفكرة بالنسبة لمن تتعدّد شواغلهم، وتكثر التزاماتهم ضرورة ومهمة، وإذا كانت المفكرة أساسية للفرد المسلم، فهي أكثر أهمية للمجتمع المسلم . ولعل سر نجاحات المجتمع الغربي (الأوروبي الأمريكي) هو هذه المفكرة التي تسمى بلغة العصر التخطيط الإستراتيجي، وهذا التخطيط يشمل كافة نواحي الحياة التي يقوم عليها بناء المجتمع وتقدمه وانطلاقه في الاقتصاد والصناعة والزراعة والتجارة والثقافة والتعليم والإبداع والاختراع والابتكار ..الخ إن هذا التخطيط لا يتوقف عند سنة معينة أو سنوات محددة، ولكنه يمتد إلى الأجيال القادمة، فيتناول الثروات والموارد والقوى البشرية والعسكرية وغيرها، لتحقيق أحلام المجتمع وطموحاته، فضلاً عن معالجة نواحي القصور والضعف التي يمكن أن تؤثر على مستقبله ومصيره!
"مفكرة" المجتمع المسلم، توفر الوقت والجهد، وتنظم الحركة بما يضيف إلى رصيد "المسلم" و"المسلمين" جميعاً .. وليس ما يخصم من هذا الرصيد.
إن الذين يتعلّلون بضيق الوقت تسويغاً لتقصيرهم في العمل أو العلاقات الاجتماعية أو الالتزامات الشخصية مخطئون .. ويحتاجون إلى المفكرة والقلم إذا كانوا حقاً مخلصين(/2)
المفهوم الصحيح للتوكل ومظاهر الانحراف فيه
يمكن القول بأن التوكل نصف الدين ، ونصفه الثاني هذه العبادة ؛ لأن الدين استعانة وعبادة ، كما يشير إليه قوله (تعالى) :) إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( [الفاتحة :5] ، وقد ورد التوكل في كثير من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة، ومن ذلك : قوله تعالى : )وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) [المائدة : 23] ، وقوله تعالى : )وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) [الطلاق : 3] . وقال تعالى عن أوليائه : (رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ ) [الممتحنة : 4] ، وقال تعالى لرسوله : ( فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّكَ عَلَى الحَقِّ المُبِينِ ) [النمل : 79] ، وكذلك : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) [الفرقان : 58] .
وأما الأحاديث فكثيرة أيضاً ، منها :
أ- في الصحيحين : حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب (هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يَكْتَوون، وعلى ربهم يتوكلون) [1] .
ب- وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم ، حين ألقي في النار ، وقالها محمد حين قالوا له:)إنَّالنَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ ) [2] .
ج- وفي الترمذي عن عمر (رضي الله عنه) مرفوعاً : (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير : تغدو خماصاً ، وتروح بطاناً ) [3] .
تعريف التوكل بمعناه الصحيح :
التوكل عمل قلبي من أعمال القلوب ، وقد وردت له تعريفات كثيرة يكمل
بعضها بعضاً لتنتهي مجتمعة إلى حقيقة التوكل ومعناه :
أ- فمن ذلك : ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله عن التوكل : (هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله ، وتفرده بالخلق والتدبير ، والضر والنفع ، والعطاء والمنع ، وأنه ما شاء كان ، وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاءه الناس ، فيوجب له هذا اعتماداً عليه، وتفويضاً إليه، وطمأنينة به، وثقة به، ويقيناً بكفايته لما توكل عليه فيه) [4] .
ب- ومن ذلك : ما نقله الشيخ محمد العثيمين رحمه الله في شرحه لكتاب
التوحيد ، حيث قال : (التوكل :هو الاعتماد على الله سبحانه وتعالى في جلب المطلوب وزوال المكروه ، مع فعل الأسباب المأذون فيها) [5] .
تباين الخلق في توكلهم على الله سبحانه وأفضلهم في ذلك :
وضّح الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى هذه المسألة أتم توضيح بقوله :(فأهل السماوات والأرض المكلفون وغيرهم في مقام التوكل ، وإن تباين متعلق توكلهم :
فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان ، ونصرة دينه وإعلاء كلمته وجهاد أعدائه ، وفي محابِّه وتنفيذ أوامره . ودون هؤلاء : من يتوكل عليه في استقامته في نفسه ، وحفظ حاله مع الله ، فارغاً عن الناس . ودون هؤلاء : من يتوكل عليه في معلوم يناله منه : من رزق ، أوعافية ، أو نصر على عدو ، أو زوجة ، أو ولد .. ونحو ذلك . ودون هؤلاء :من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش ؛ فإن أصحاب هذه المطالب لا ينالونها غالباً إلا باستعانتهم بالله وتوكلهم عليه . فأفضل التوكل : التوكل في الواجب أعني واجب الحق ، وواجب الخلق ، وواجب النفس وأوسعه وأنفعه :التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية، أو في دفع مفسدة دينية؛ وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكل ورثتهم،ثم الناس بعدُ في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم، فمِنْ متوكل على الله في حصول الملك ، ومن متوكل في حصول رغيف) [6] .
التوكل وأنواعه :
1- توكل الموحدين الصادقين :
وحقيقته : الاعتماد على الله (عز وجل) وحده ، والثقة بكفايته مع فعل الأسباب المأذون فيها من غير اعتماد عليها ولا ركون إليها ؛ فخالق الأسباب ومسببها هو الله وحده .
2- التوكل الشركي ، وهو نوعان :
أ- أكبر ، وهو : ( الاعتماد الكلي على الأسباب ، واعتقاد أنها تؤثر استقلالاً في جلب المنفعة أو دفع المضرة، وهذا من الشرك الأكبر) [7] .
ب- الشرك الأصغر، وهو : ( الاعتماد على شخص في رزقه ومعاشه ..وغير ذلك ، من غير اعتقاد استقلاليته في التأثير ، لكن التعلق به فوق اعتقاد أنه مجرد سبب ، مثل اعتماد كثير من الناس على المالية في الراتب، ولهذا تجد أحدهم يشعر من نفسه أنه معتمد على هذا الراتب أومن يقرر الراتب اعتماد افتقار، فتجد في نفسه من المحاباة لمن يكون هذا الرزق عنده ماهو ظاهر) [8] .
3- التوكل الجائز :(/1)
وهو أن يُوكِّلَ الإنسان في فعل يقدر عليه ، فيحصل للموكِّل بذلك بعض مطلوبه ، فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلا الله وحده [9] كمن وكّل شخصاً في شراء شيء أو بيعه ، فهذا لا شيء فيه ، لأنه اعتمد عليه ، وكأنه يشعر أن المنزلة العليا له فوقه ، لأنه جعله نائباً عنه ، وقد وكل النبي علي بن أبي طالب أن يذبح ما بقي من هديه ، ووكل أبا هريرة على الصدقة ، ووكل عروة بن الجعد أن يشتري له أضحية [10] ،
ولكن توكيل المخلوق غايته أن يفعل بعض المأمور ، وهو لا يفعل ذلك إلا بإعانة الله له ، فرجع الأمر كله لله وحده .
ضوابط الأخذ بالأسباب :
الأخذ بالأسباب لا بد له من ضوابط تقي من الوقوع في الشرك الناشئ من التعلق بها والاعتماد عليها ، ومن أهم هذه الضوابط ما يلي :
1- (الاعتقاد بأنها لا تستقل بالمطلوب ، بل تُتعاطى من غير ركون إليها ، ومع هذا فلها موانع ، فإن لم يكمل الله الأسباب ، ويدفع الموانع : لم يحصل المقصود ، وهو (سبحانه) ما شاء كان وإن لم يشأ الخلق ، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الخلق) [11] .
2- (ألا يعتقد في الشيء أنه سبب إلا بعلم وتحقق ، فمن أثبت سبباً بلا علم ، أو بما يخالف الشريعة : كان مبطلاً في إثباته ، آثماً في اعتقاده) [12] .
3- (أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يُتخذ شيء منها سبباً، إلا أن يكون مشروعاً ، فإن العبادات مبناها على التوقيف ، فلا يتقرب إلى الله عز وجل بالأعمال الشركية أو البدعية أو نحوها ) [13] .
4- (إذا لم يوجد من الأسباب في تحصيل المطلوب إلا سبباً محرماً : فلا يجوز مباشرته ولا الأخذ به ، وتوحد السبب في حقه في التوكل على الله عز وجل ، فلم يبق سبب سواه، فإنه من أقوى الأسباب في حصول المراد ، ودفع المكروه ، بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق) [14] .
5- (إن كان السبب مباحاً ، نُظر :هل يضعف القيام به التوكل أو لا يضعفه ، فإن أضعفه ، وفرق على العبد قلبه ، وشتت همه : فترْكه أولى ، وإن لم يضعفه : فمباشرته أولى ؛ لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به ، فلا تعطل حكمته مهما أمكن القيام بها ،لا سيما إذا كان الأخذ بالسبب عبودية لله عز وجل، فيكون العبد قد أتى بعبودية القلب بالتوكل ، وعبودية الجوارح بالسبب المنوي به القربة) [15] .
(إن القيام بالأسباب على نحو ما سبق هو الذي يحقق التوكل ، فمن عطل الأسباب المأمور بها لم يصح توكله ، كما أن القيام بالأسباب المفضية إلى حصول الخير يحقق رجاءه ، فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنياً ، كما أن من عطلها يكونتوكله عجزاً أو عجزه توكلاً) [16] .
(وسر التوكل وحقيقته هو : اعتماد القلب على الله وحده ، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله توكلت على الله مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به ،فتوكل اللسان شيء، وتوكل القلب شيء)[17].
مظاهر الانحراف في مفهوم التوكل وتطبيقه :
بعد أن اتضحت حقيقة التوكل والفهم الصحيح له ومراتب الناس فيه ، فيجدر بنا الآنأن نتعرف على بعض مظاهر وصور الانحراف التي طرأت على هذا العمل العظيم من أعمال القلوب، وما كان لهذا الانحراف من أثر سيء على بعض أبناء الأمة في عجزهم ، أو تعلقهم بغيرهم، أو تركهم لما يجب الأخذ به.. وما إلى ذلك من الآثار السيئة والنتائج الوخيمة ،هذا .. ولقد كان للفكر الصوفي المنحرف ، وظهور الفِرَق : أكبر الأثر في انتشار هذه المظاهر من الانحراف ، يضاف إلى ذلك : ما ساهم به الغزو الفكري لهذه الأمة من نشر للمذاهب المادية ، التي لا تربط النتائج إلا بالمادة المحسوسة ، وتلغي جانب الغيب والإيمان بالله (عز وجل) وقضائه وقدره وملكه وقهره وعظمته .. وما كان لهذه الأفكار كلها أن تؤثر لو كان العلم وفهم العقيدة الصحيحة منتشراً بين الأمة ، ولكن لما وافق هذا جهلاً عند بعض المسلمين بحقيقة هذا الدين وأصوله : نشأ من ذلك بعض المفاهيم المغلوطة للتوكل كما نشأ الضعف في التطبيق لهذه العبادة العظيمة .
وفي الفقرات التالية : أستعرض بعض صور الانحراف والضعف في هذا الجانب المهم من جوانب العقيدة ، لعلنا نتفقده في أنفسنا أو عند غيرنا ؛حتى نتجنبه، ونحذر منه .
ومن أهم مظاهر الانحراف في ذلك ما يلي :
1- النظر إلى التوكل على أنه تواكل وترك للأسباب ، والذين وقعوا في هذا
الانحراف على صنفين :
أ - صنف يعلم أن التوكل لا ينافي فعل الأسباب والأمر واضح عنده بلا شبهة ، ولكنه ينطلق من هذا الفهم المنحرف في تبرير عجزه وكسله وتفريطه ، فهذا عجزه توكل ، وتوكله عجز ، وهذا الصنف من الناس لا ينقصه إلا أن يتقي الله عز وجل ،ولايبرر شهوته بشبهة ،
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: وكثيراً ما يشتبه في هذا الباب : المحمودُ الكامل بالمذموم الناقص . ومنه : اشتباه التوكل بالراحة ، وإلقاء حمل الكَلِّ فيظن صاحبه أنه متوكل ، وإنما هو عامل على عدم الراحة .) [18] .(/2)
ب- أما الصنف الثاني : فقد أُتي من جهله بحقيقة التوكل على الله عز وجل وجهله بسنن الله سبحانه في ارتباط المسببات بالأسباب ، وأن الأخذ بالأسباب بضوابطها الموضحة سابقاً لا ينافي التوكل ، بل إن تركها قدح في حكمة الله عز وجل ، ونقص في العقل ، وماعلم صاحب هذا الفهم أن التوكل عليه سبحانه هو أقوى الأسباب في حصول المطلوب ودفع المكروه ، يقول الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى : (واعلم أن تحقيق التوكل لا يُنافي السعي في الأسباب التي قدّر الله سبحانه المقدورات بها ، وجرت سنته في خلقه بذلك ، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكّل ، فالسّعيُ في الأسباب بالجوارح طاعةٌ له ، والتوكل بالقلب عليه إيمانٌ به ، كما قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ) [النساء : 71] ) [19] .
ويتحدث ابن القيم رحمه الله تعالى عن توكل الرسول وصحابته الكرام مع أخذهم بالأسباب، فيقول : (.. وكان يدخر لأهله قوت سنة وهو سيد المتوكلين ، وكان إذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة حمل الزاد والمزاد ، وجميعُ أصحابه، وهم أولو التوكل حقّاً، فكانت هممهم رضي الله عنهم أعلى وأجل من أن يصرف أحدهم قوة توكله واعتماده على الله في شيء يحصل بأدنى حيلة وسعي ؛ فيجعله نصب عينيه ، ويحمل عليه قوى توكله) [20] .
2- ويقابل الانحرافَ السابق انحرافٌ في الجانب المقابل، ألا وهو الإفراط في فعل الأسباب والتعلق بها محبةً وخوفاً ورجاء ، ومعلوم ما في هذا الانحراف من خطر شديد على التوحيد ، فهو إما شرك أكبر : إذا اعتقد فاعل الأسباب أنها تؤثر استقلالاً ، وإما شرك أصغر : إذا لم يعتقد ذلك ، ولكنه تعلق بها وحابى من أجلها ، وجعل أكثر اعتماده عليها في حصول المطلوب وزوال المكروه .
وما أكثر من يقع منا في هذا الضعف القادح في التوكل على الله عز وجل، ولكن ما بين مُقِلٍّ ومكثر ، وإن وجد من يحقق التوكل على الله عز وجل في أمور الدنيا فإن المحققين له في العبادة وأمور الآخرة أقل وأقل ، وفي ذلك يقول الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله : (ولكن الغالب عندنا ضعف التوكل ، وأننا لا نشعر حين نقوم بالعبادة أو العادة بالتوكل على الله والاعتماد عليه في أن ننال هذا الفعل ، بل نعتمد في الغالب على الأسباب الظاهرة ، وننسى ما وراء ذلك ، فيفوتنا ثواب عظيم وهو ثواب التوكل) [21] .
3- ما ينقل عن بعض غلاة المتصوفة من أن التوكل من مقامات العامة ، لا من مقامات الخاصة ، ومنشأ هذا الانحراف أتى من ظنهم أن التوكل لا يطلب به إلا حظوظ الدنيا ، كما هو شأن عامة الناس ، وهذا غلط ، فإن أعظم ما يُتوكل على الله فيه الأمور الدينية ، وحفظ الإيمان ، وجهاد أعداء الله عز وجل ، ورجاء ثوابه سبحانه .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :
( وعلى هذا : فالذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل لا يطلب به إلا حظوظ الدنيا ، وهو غلط ، بل التوكل في الأمور الدينية أعظم) [22] .
4- جبن القلب والخوف من المخلوق :
إن مما ينافي حقيقة التوكل : الخوف من المخلوق خوفاً يدفع إلى ترك ما يجب أو فعل ما يحرم، محاباة للمخلوق أو خوفاً من شره، ومثل ذلك يكون أيضاً في الطمع والرغبة، فالطمع في نفع المخلوق أو الخوف من شرِّه إذا أدى إلى ضعف التعلق بالله (عز وجل) وضعف الثقة به سبحانه؛ فإن هذا يقدح في التوكل، ويضعفه إن لم يذهبه ، ومن تعلق بشيء وُكِلَ إليه ، ومن وكل إلى غير الله عز وجل ضاع وهلك ، وخاب وخسر ..ومما يصلح التمثيل به في عصرنا اليوم على هذا الضعف : ما يعتري بعض الدعاة وهو في دعوته إلى الله عز وجل من خوف على نفسه أو رزقه أو منصبه ، الأمر الذي يؤدي ببعضهم إلى ترك ما هم عليه من تعليم للعلم أو دعوة إلى الله عز وجل ، والإحجام عن مجالات الخير ونفع الناس ، بحجة الحذر والبعد عن الفتن, والله سبحانه أعلم بما في قلوب العالمين .ثم إنه لو كان يغلب على الظن حصول الأذى والابتلاء لكان لذلك بعض الوجه في الأخذ بالرخصة وترك العزيمة ، أما وأن الأمر على العكس من ذلك ؛ حيث يغلب على الظن عدم التعرض للأذى ، فإنه لا تفسير لهذه المواقف إلا ضعف التوكل على الله عز وجل، والوسوسة الشديدة ، والمبالغة في الخوف ، والحذر الزائد من المخلوق الضعيف ، وتهويل أمره ، وهذا من كيد الشيطان ووسوسته ، وكأننا لم نسمع ولم نعِ قوله تعالى : (إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران : 175] .(/3)
يقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى : ( والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل وأن يتضخم الشر ، وأن يتبدى قويّاً قادراً قاهراً بطّاشاً جباراً ، لا تقف في وجهه معارضة ، ولا يصمد له مُدافِع ، ولا يغلبه غالب ، الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا ، فَتَحْت ستار الخوف والرهبة ، وفي ظل الإرهاب والبطش : يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه ، يقلبون المعروف منكراً ، والمنكر معروفا ، وينشرون الفساد والباطل والضلال ، ويُخفتون صوت الحق والرشد والعدل .. والشيطان ماكر خادع غادر يختفي وراء أوليائه ، وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته ... ومن هنا : يكشفه الله ويوقفه عارياً ، لا يستره ثوب من كيده ومكره ، ويُعرِّف المؤمنين الحقيقة : حقيقة مكره ووسوسته ؛ليكونوا على حذر ، فلا يَرهبوا أولياء الشيطان ، ولا يخافوهم ، فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه ويستند إلى قوته) [23] .
(1) البخاري ، ح/5705 ، ك/ الطب ، من حديث عمران بن حصين ، ومسلم ، ح/218 ، ك/ الإيمان.
(2) البخاري ح/4563 ، ك/ التفسير سورة آل عمران .
(3) الترمذي في الزهد ، ح/2345 ، وابن ماجة ، ح/4164 ، وأحمد ، 1/ 52 ، وصححه الشيخ أحمد شاكر ، 1/206 ، وهو في صحيح سنن الترمذي ، ح/ 1911 .
(4) مدارج السالكين ، 1/82 وهو دراسة موسعة شرح فيها معاني ] إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ [ ، وهو (شرح منازل السائرين) للإمام الهروي ، والكتاب مع أهميته واستقصائه لأعمال القلوب فيه استطرادات وبعض شطحات يسيرة ، وقد حُقق مؤخراً تحقيقاً جيداً من قبل الأستاذ محمد المعتصم بالله البغدادي ، ولتلافي بعض الملحوظات فيه عمد بعض العلماء والدعاة إلى اختصاره ليكون سهل التناول ، ومن أفضل المختصرات : (تهذيب مدارج السالكين) للشيخ عبد المنعم العزي ، وكذلك : (بغية السالكين من مدارج السالكين) للشيخ عبد الله السبت .
(5) شرح كتاب التوحيد للشيخ ابن عثيمين ، 2/185 .
(6) مدارج السالكين ، 2/113 ، 114 .
(7) انظر : شرح كتاب التوحيد للشيخ ابن عثيمين (حفظه الله) ، 2/190 ، 191 .
(8) انظر : المصدر السابق ، 2/190 ، 191 .
(9) انظر : جامع الرسائل لابن تيمية ، 1/89 .
(10) انظر : شرح كتاب التوحيد ، للشيخ ابن عثيمين (حفظه الله) ، 2/ 190 ، 191.
(11) انظر : توحيد الخلاق ، للشيخ سليمان بن عبد الله ، ص 169 - 172 .
(12) انظر : توحيد الخلاق ، للشيخ سليمان بن عبد الله ، ص 169 - 172 .
(13) المرجع السابق .
(14) انظر : الفوائد ، لابن القيم ، ص 86 ، 87 .
(15) المرجع السابق .
(16) المرجع السابق .
(17) المرجع السابق .
(18) مدارج السالكين ، 2/123 ، 124 .
(19) جامع العلوم والحكم ، ص 498 .
(20) مدارج السالكين ، 2/134 ، 135 ، بتصرف .
(21) شرح كتاب التوحيد ، للشيخ ابن عثيمين ، 2/190 .
(22) مجموع الفتاوي ، 10/18 20 ، باختصار .
(23) طريق الدعوة في ظلال القرآن ، 2/151 .
مجلة البيان :العدد :( 108) التاريخ: شعبان / 1417هـ .(/4)
المفهوم الصحيح للصبر ومتى يكون نافعًا للداعية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه وبعد.
فإنَّ الابتلاء سنةً من سنن الله عز وجل في عباده، بل إنَّ الله تعالى لم يخلق العباد إلاَّ ليبلوهم ويختبر إيمانهم، قال تعالى : (( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)) (الملك : 2) .
ومن رحمةِ الله عز وجل بعباده، أن خلقَ فيهم ما يُدافعون به البلاء، وحثهم على التخلق به، ووفق من شاءَ من عباده إلى التحلي بهذا الخلق العظيم، ألا وهو الصبر، الذي لا يستطيعُ العبد أن يفعل ما أُمِرَ به، ويترك ما نُهِيَ عنه، ويصبر على أقدار الله المؤلمة إلا به.
ويتفاوت الناسُ تفاوتاً عظيمًا في التحلي بهذا الخلق الكريم، ما بين الضعف والقوة، وبه يتباين إيمانُ الناس وثباتهم، لأنَّ الناس في الرخاءِ سواء، ولكنهم يتباينون في الشدة حسب قوة الصبر وضعفه في قلوبهم.
والصبر وإن كان لا غنى عنه لعبدٍ كائنًا من كان، حتى يصح إسلامه لله عز وجل، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والصبر على أقداره المؤلمة، لكنَّه في حقِّ الدعاة والمجاهدين في سبيل الله عز وجل أشدَّ حاجةً، وآكد في حقهم من غيرهم، وذلك لما يتعرضون له من بلاءٍ ومحنةٍ، وصدٍ عن سبيل الله عز وجل من قبل الظالمين وأعداء الدين، وعندما نتحدثُ عن الصبر الممدوح صاحبه، فإننا نتحدثُ عن الصبر الاختياري، الذي يمنعُ صاحبه من التسخط والجزع، ويمنح صاحبهُ الرضى والاطمئنان، وهذا هو الصبر الذي يُثاب عليه العبد، ويصدق عليه قول الله تعالى: (( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ )) (الزمر: 10) .
ولا ينافي هذا مدافعة أقدار الله عز وجل بأقداره التي أذن بها لعباده.
والصبر كغيره من الأخلاق، يكتنفه خلقان ذميمان، والممدوح منه وسطٌ بينهما، فهو وسط بين طرفين : طرف التفريط المؤدي إلى الضعف والذلة والمهانة، والجزع والتسخط، وطرف الإفراط المؤدي إلى القسوة والتهور، العجلة في الأمور قبل أوانها، وفي الوسط بينهما يقع الصابر المستقيم، الذي لم تدفعهُ المصائب والابتلاءات إلى الضعف والخور والجزع، وفي المقابل لم تدفعهُ بضغوطها وشدتها إلى العجلة والتهور، والقسوة المخالفة لقواعد الشريعة ومقاصدها.
وفي هذا يقولُ الإمامُ ابن القيم- رحمه الله تعالى- : (( وكل خلقٍ محمود مكتنفٌ بخلقين ذميمين، وهو وسط بينهما. وطرفاه خلقان ذميمان... فإنَّ النفس متى انحرفت عن التوسط، انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولابد، فإذا انحرفت عن خلقِ »الصبر المحمود« انحرفت إما إلى جزعٍ وهلع، وجشعٍ وتسخط، وإما إلى غلظةِ كبد، وقسوةِ قلب، وتحجر طبع...« ([1]).
وهُنا سؤالٌ مهمٌ يتعلق بالصبر، ألا وهو:
متى يكون الصبر نافعاً لصاحبه ؟! ولماذا يضعفُ صبر أكثر الناس ولا يثبت منهم إلاَّ القليل ؟
والجوابُ على هذه المسألة المهمة، يمكن أن نفهمهُ من الكلام التالي للإمام ابن القيم- رحمه الله تعالى- حيث يقول : وهو - أي الصبر - على ثلاثة أنواع : صبٌر بالله، وصبر لله، وصبرٌ مع الله.
فالأول : الاستعانةَ به، ورؤيته أنَّهُ هو المصَبِّر، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه، كما قال تعالى : ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ )) ( النحل: 127 ) يعني إن لم يصبرك هو لم تصبر .
والثاني : الصبر لله : وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبةُ الله، وإرادة وجهه، والتقرب إليه، لا لإظهار قوة النفس، والاستحماد إلى الخلق، وغير ذلك من الأعراض.
والثالث : الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مُراد الله الديني منه، ومع أحكامه الدينية. صابرًا نفسه معها، سائرًا بسيرها، مقيمًا بإقامتها، يتوجه معها أين توجهت ركائبها، وينزلُ معها أين استَقَلَّت مضاربها.
فهذا معنى كونه صابرًا مع الله، أي قد جعلَ نفسهُ وقفًا على أوامره ومحابه، وهو أشدُّ أنواع الصبر وأصعبها، وهو صبرُ الصديقين . [2] أ.هـ.
من هذا النقل النفيس يتبينُ لنا أنَّهُ لكي يستقيم العبد في صبره، ويثبت ولا يميل عن الصبر الممدوح ذات اليمين أو ذات الشمال، فلا بُدَّ من شروطٍ ثلاثة يجبُ أن تتوفر في الأمر المصبور عليه، حتى يثبت العبد، ويفوز بأجر الصابرين.
وما خذل عبد في أمر من الأمور، وضعف ثباته وصبره فيه، إلاَّ بتخلفٍ واحد أو أكثر من هذه الشروط، وملخصها - كما سبق - ما يلي :(/1)
1- أن يكون الصبرُ بالله تعالى : وذلك بالتبرؤ من الحولِ والقوةِ والاعتراف بالضعف والضياع، فيما لو وكلَّ العبد إلى نفسه، وهذا يُؤكدُ الاستعانة التامة بالله عز وجل، وأنَّهُ سبحانه هو المصبِّر ولولاه لم يصبر الصابرون، ويثبت الثابتون، وفي هذا إشارةٌ إلى ضرورة الدعاء والتضرع لله عز وجل، وسؤاله الصبر والثبات. كما قال أصحاب موسى- عليه السلام- : (( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ )) ( الأعراف : 126 ) .
2- أن يكون الصبُر لله عز وجل، وابتغاءَ وجههِ الكريم، لا لغرضٍ من أغراض الدنيا الفانية، ولكن لإرادةِ الآخرة، وتوفيت الأجر من الله سبحانه هنالك.
3- أن يكون الأمرُ المصبور عليه مُرضيًا لله عز وجل، وذلك بموافقته لما جاءَ به الرسول صلى الله عليه وسلم.
__________________
[1]- مدارج السالكين 2 / 310 ( باختصار ) .
[2] - مدارج السالكين 2 / 157 .(/2)
المفهوم الصحيح للعبادة ومظاهر انحرافه وضعفه
ما العبادة ؟
اختلفت أقوال العلماء في مفهوم العبادة وتعريفها ، وهذا الاختلاف هو من اختلاف التنوع لا التضاد ،أي : إن هذه التعريفات يكمل بعضها بعضاً ، والإلمام بكل هذه الأقوال ينتج عنه المفهوم الصحيح للعبادة ، ومن هذه الأقوال :
قول ابن القيم رحمه الله تعالى : ( أصل العبادة : محبة الله ، بل إفراده بالمحبة ، وأن يكون الحب كله لله ، فلا يحب معه سواه ، وإنما يحب لأجله وفيه ، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه ، فمحبتنا لهم من تمام محبته ، وليست محبة معه ، كمحبة من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحبه ، وإذا كانت المحبة له حقيقة عبوديته وسرها : فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه) [1] .
وقوله في موطن آخر : (العبادة تجمع أصلين : غاية الحب بغاية الذل والخضوع) [2] .
ويعرفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فيقول : (العبادة : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة) [3] .
وعلى ضوء ذلك : لا يكون العبد متحققاً بوصف العبودية إلا بأصلين عظيمين :
1- الإخلاص لله (جل وعلا) .
2- متابعة الرسول .
ومما سبق بيانه من النقولات وغيرها يتضح لنا جليّاً معنى العبادة الحقة التي أمرنا الله عز وجل أن نتعبد له بها ، ويمكن تلخيص هذا المعنى العظيم وتلك الحقيقة الضخمة فيما يلي :
* العبادة الحقة تعني تمام المحبة مع تمام الخضوع والتذلل لله (عز وجل) الذي يعني طاعته (سبحانه) والانقياد لأمره ، ومحبة ما يحب ، وبغض ما يكره ، واتباع رسوله -صلى الله علييه وسلم- فيما أمر ونهى وما سن وما شرع ، من غير زيادة ولا نقصان ؛ وإلا .. فما قيمة محبة وخضوع لايثمران طاعة واتباعاً وقبولاً والتزاماً ؟
* العبادة الحقة تفرض على العبد أن يكون في كل أوقاته وتحركاته وسكناته مصبوغاً بصبغة العبودية ، لا يخرج عنها في أي لحظة من اللحظات .
* ومن صرف شيئاً من العبادة لغير الله تعالى فهو مشرك تجب البراءة منه ومن شركه ، ولا تصح العبادة إلا بهذه البراءة .
بعض مظاهر الضعف والانحراف في مفهوم العبادة وتطبيقها :
بعد أن اتضح لنا مفهوم العبادة الحقة كما عرضناها من فهم العلماء الربانيين للكتاب والسنة : فلابد بعد ذلك من عرض هذه المفاهيم العظيمة والحقائق الضخمة على واقعنا نحن المسلمين في هذه الأزمنة المتأخرة ، وهل هذا الفهم الصحيح للعبادة هو السائد اليوم بين المسلمين ؟ أم أن هذا الفهم قد اعتراه من الضعف والانحراف الشيء الكثير ؟
إن المتأمل في حال المسلمين الأليم ، والغربة التي يعيشها أهل الإسلام اليوم : ليجد كثيراً من المفاهيم العقدية قد انحرفت عند كثير من عامة المسلمين إلا من رحم الله عز وجل، فهناك انحراف في معنى التوحيد والعبادة ، وانحراف في عقيدة اليوم الآخر ، وانحراف في عقيدة القضاء والقدر ،وانحراف .. وانحراف .. ولقد ساهم في هذه الانحرافات غزو أعداء المسلمين لديار المسلمين بثقافاتهم الكافرة وأفكارهم المنحرفة ، وقابل هذا الغزو من الأفكار جهلٌ عند كثير من الأجيال المسلمة بدينها وعقيدتها ، وعجز عند أكثر علماء الأمة عن تعليم الناس والوقوف في وجه هذا الغزو ، (فوافق الغزو قلباً خالياً فتمكنا) .
من هنا سيتوجه التركيز على بعض مظاهر الانحراف والضعف في مفهوم العبادة ، فمن ذلك ما يلي :
1- الانحراف في تطبيق شرطي العبادة :
من مظاهر الانحراف في العبادة فهماً وتطبيقاً ما هو منتشر بين أهل البدع والخرافة في القديم والحديث من ترك لأحد شرطي العبادة أو كليهما واللذين لا تصح العبادة إلا بهما ، ألا وهما : الإخلاص والمتابعة . المراد هنا : إيضاح الانحراف الذي يترتب على ترك هذين الشرطين أو أحدهما ؛ فترك الإخلاص في العبادة نتج عنه صرف العبادة التي هي لله وحده إلى غيره من الخلق ولو كانوا أنبياء أو ملائكة أو أولياء وهذا صرف للعبادة عن مستحقها ، وحجتهم الداحضة عند ربهم : أنهم يؤمنون بأن الله الخالق الرازق بيده الضر والنفع ، ولكنهم يتوسلون بالصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى ؛ وهذا هو الشرك الأكبر الذي من أجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل ، فترى هؤلاء يصرفون العبادة بأنواعها المختلفة من ذبح ، ونذر ، وخوف ، ورغبة ... وغير ذلك من أصناف العبادة إلى غير الله عز وجل، وهذا من أشد مظاهر الانحراف في العبادة ؛ لأنه شرك أكبر يضاد الإخلاص لله عز وجل، الذي هو شرط من شروط كلمة التوحيد وقبول العبادة .. ومحل الكلام عن هذا الشرك وأنواعه مبسوط في كتب التوحيد والعقائد [4] .(/1)
أما ترك الشرط الثاني لصحة العبادة (وهو المتابعة) فينتج عنه انحرافات كثيرة في العبادة وتطبيقاتها ، حيث ظهرت ألوان وصور من العبادات التي لم يأذن بها الله عز وجل، ولم يشرعها الرسول لأمته ، وبخاصة بين المتصوفة الذين يعطون لمشائخهم حق التشريع ، وبعتبرون أقوالهم وأفعالهم مصدراً من مصادر الاستدلال ، فظهرت بذلك هيئات وصور متعددة للعبادة والأوراد والأذكار ، كلها مبتدعة ، سواء أكان ذلك في كيفيتها ، أو كمها ، أو هيئتها ، أو طريقة أدائها ، أو زمانها ، أو مكانها ، وهذه كلها مردودة على أصحابها ، لأنها تشريع لم يأذن به الله ، قال تعالى : (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاًذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الشورى : 21] ، ولقوله : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) [5] .
2- الانحراف في مفهوم العبادة :
وهو النظر إلى العبادة على أنها أداء للشعائر التعبدية من : صلاة ، وصيام ، وحج ، وذبح ، وقراءة قرآن .. فحسب ، وأن ما سوى ذلك من معاملات ، وأخلاقيات ، ومباحات .. وغيرها ، كل ذلك لايدخل في العبادة .
نعم إن هذا المفهوم هو السائد عند بعض المسلمين ، سواء أقالوه بلسان مقالهم أم بلسان حالهم وأعمالهم ، ولا أدل على ذلك من أننا قد نجد ذاك العبد المصلي ، الصائم ، القارئ للقرآن ، بعد فراغه من هذه الشعائر التعبدية لا يتورع أن يغشّ ، أو يرابي ، أو يظلم ، أو يملأ بيته من آلات اللهو ووسائل الإفساد ما الله به عليم ، وكذلك قد نرى المرأة المصلية الصائمة لا تتورع عن التصرف في نفسها بما يخالف الشرع ، من سفور ، أو زينة محرمة ، أو اختلاط .. أو غيره . وإذا نصح مثل هؤلاء الناس ، قالوا : إنهم من المصلين العابدين ، وقد انتهى وقت العبادة ! وهكذا تنحرف الغايات ، وتنشأ اللوثات، وتفسد النيات ، وذلك كمن يفصل أمر تعليمه وتعليم أولاده عن غاية العبادة لله عزوجل، ويربط ذلك بالشهادة والمال والوظيفة ، بل يستخدم أي وسيلة توصله إلى ذلك .
إن العبادة بهذا المفهوم المنحرف تجعل المسلم في انفصال وانفصام بين حياته في مسجده وخارج مسجده ، لأنه لو كان مفهوم العبادة التي يريدها الله عز وجل كما فهمها هذا الصنف من الناس لكانت عبثاً ، ولبقي أكثر الأوقات غير معمور بعبادة الله عز وجل ، وهذا لا يرضاه الباري جل وعلا ؛ ذلك لأن أوقات الصلوات لا تتعدى ساعتين أو ثلاث في اليوم والليلة ، فماذا يكون شأن الساعات الباقية ؟ هل تنفق في غير عبادة ؟ ! كلا .. فإن الله سبحانه لا يرضى لعباده هذه الحال .
إذن : فالواجب على كل مسلم أن يعلم أنه ما خلق إلا للعبادة ، وأن وقته يجب أن يكون في عبادة سواء ما كان منه في الشعائر التعبدية ، أو ما كان منه في المعاملات ، أو ما كان منه في المباحات ، كل ذلك يجب أن يمارسه العبد وشعور العبادة لله عز وجل يصاحبه ، فيراقب ربه في كل أعماله ، وينوي بها التقرب إليه عز وجل والاستعانة بها على طاعته .
إن هذا الشعور وهذه النية تجعل العبد في كل أعماله حتى في مباحاته ولذاته عبداً لله ، مسلماً وجهه لربه عز وجل [6] ،
( قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ ) [الأنعام : 162 ، 163] .
3- الانحراف في التطبيق :
وقد ترتب على ذلك الانحراف في مفهوم العبادة انحراف آخر في تطبيق العبادة ، فحتى الشعائر التعبدية التي حُصرت العبادة فيها بحسب ، هي الأخرى نالها ما نالها من الضعف والميل بها عن حقيقتها وغايتها ، وهذه نتيجة متوقعة وبدهية معروفة ؛ فالانحراف في الفهم لابد أن ينتج عنهانحراف في التطبيق ، ويوضح الأستاذ محمد قطب هذا الانحراف ، فيقول : ( حين صار المطلوب كله هو أداء الشعيرة ، وانحصرت (العبادة) كلها في هذا الأمر ، كان حريّاً بهذا اللون من العبادة أن ينحسر أكثر فأكثر ، حتى يصبح المطلوب هو أداء الشعيرة بأي صورة كانت .. ولو كان أداءً آليا بغير روح ، أو أداء تقليديّاً يحركه الحرص على التقاليد أكثر مما يحركه الدافع إلى عبادة الله . وتلك هي الصورة التي انتهت إليها العبادة في الجيل الذي شهد الانهيار) .
4- الانحراف في مصدر التلقي :(/2)
ترتب على الانحراف السابق في مفهوم العبادة انحراف أشد خطراً وأسوأ أثراً ، حيث كان الانحراف السابق ذكره منحصراً على مستوى الفرد ، بينما هذا الانحراف الذي نحن بصدده يتمثل في النظم التي تحكم في أكثر بلدان المسلمين اليوم ، والتي يسعى أربابها إلى عزل الدين عن الحياة وتوجيهها وتنظيمها ، وحصره بين جدران المسجد وأداء الشعائر التعبدية ، ولسان مقالهم أو حالهم يردد تلك المقولة الجاهلية ، والتي قالها أصحاب مدين لنبيهم شعيب (عليه الصلاة والسلام) ويقولها العلمانيون في زماننا : ما للدين وحجاب المرأة وعملها ؟ ما للدين والسياسة وموالاة الكفار ومحبتهم ؟ ما للدين والاقتصاد ؟ ما للدين والإعلام والتعليم ؟ ... !! إلخ، الدين :أن تعبد الله في المسجد ، وتقرأ القرآن ، وتذكر الله ... هكذا يزعمون ! ! أما الحياة فلها نظمها التي تتناسب مع تطورها .. إلى آخر هذا الهذيان والانحراف والفجور .
إن هذا الفهم الأعوج هو ما قاله أهل مدين لنبيهم شعيب بعد أن دعاهم إلى التوحيد وترك البخس والنقص في المكيال والميزان ، قال الله عز وجل : (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَاًمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إنَّكَ لأَنتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود : 87] . إنهم يقولون : يا شعيب : ما دخل عبادتك وصلاتك في حياتنا الاقتصادية ، وفي اتباعنا لآبائنا وطاعتهم فيما كانوا يعبدون .. سبحان الله ! ما أشبه قلوبهم بقلوب الجاهلين في زماننا هذا ، وما أشبه مقولتهم
بمقولة العلمانيين المنافقين [7] .
والحاصل مما سبق : إذا حصرت العبادة في الشعائر التعبدية فحسب ، فما معنى قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ) [التوبة : 31] ، وما معنى قوله تعالى : ( وَإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام : 121] ، وقد علق العلامة الشنقيطي رحمه الله على هذه الآية ، فيقول : ( فهي فتوى سماوية من الخالق (جل وعلا) صرح فيها بأن متبع الشيطان
المخالف لتشريع الرحمن مشرك بالله) [8] .
إذن : فإن من أخص خصائص العبادة : الطاعة ، والاتباع ، والخضوع ، والانقياد ، فكما أن العبادة تأتي بمعنى الدعاء والنسك ، فهي تأتي أيضاً بمعنى الطاعة والاتباع ، ولكن الجاهلين أوالمتجاهلين يريدون حصرها فقط في الشعائر التعبدية والعبادات الخاصة ، ثم لا دخل بعد ذلك للعبادة في شؤون الحياة وتسيير دفتها .
وإن الذين يرون هذا الفصل المشين والفصام النكد بين الدين والحياة على
قسمين :
* إما أن يكونوا جهلة بحقيقة الدين وحقيقة العبادة في الإسلام ، إذ لم يكن لهم حظ من العلم الشرعي ينير بصائرهم ، وإنما غاية ما عندهم ثقافات مشوهة من الغرب أوالشرق تسربت إلى قلوبهم على حين غفلة وخواء ، فتمكنت منها ، وهؤلاء وأمثالهم من الذين انحرفوا بمفهوم العبادة عن معناها الصحيح بسبب جهلهم ، وقد نرى بعضهم من المصلين ، الصائمين ، التالين للقرآن الكريم !
وعلاج هذا الصنف من الناس يكون بالعلم الشرعي ، والرفق بهم حتى يفقهوا هذا الدين بمعناه الصحيح .
* والأخطر من أولئك هم الذين يفهمون حقيقة العبادة وحقيقة دين الإسلام ، ولكنهم يستكبرون عن الانقياد لهذا الفهم ، وينطلقون بخبث وغرض سيء لإثارة الشبهات ، وصرف المسلمين عن دينهم ، وتشويه هذه المفاهيم في نفوسهم ، وهؤلاء إن صلوا أو قاموا ببعض الشعائر فهو نفاق وزندقة . والحذر من هؤلاء يجب أن يكون على أشده ، كما أن فضح أفكارهم وخططهم هو المتعين ، فهم من المنافقين الذين جاء الأمر الإلهي بمجاهدتهم ، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَاًوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ) [التحريم : 9] .
5- الانحراف في المفهوم والتطبيق :
ومن مظاهر الانحراف في مفهوم العبادة وتطبيقها ما عرف عن بعض غلاة المتصوفة وزنادقتهم من أن أداء العبادات والطاعات مرتبط بحصول اليقين المطلق هكذا زعموا فإذا وصل العبد إلى هذا المستوى سقط عنه التكليف ولم يعد في حاجة إلى العبادة التي هي من منازل العامة ! ، أما الخاصة ، ومن يسمونهم بالأبدال والأقطاب : فقد بلغوا درجة اليقين التي ترفع عنهم التكاليف والعبادات (نعوذ بالله من هذه الحال) ، ونبرأ إلى الله عز وجل من أهل الزندقة والإلحاد [9] .
هذا ..ومن شطحات الصوفية في مفهوم العبادة أيضاً : المقالة المشهورة عن بعضهم من أنهم (لا يعبدون الله خوفاً من ناره ، ولاطمعاً في جنته ، وإنما حبّاً له وشوقاً إليه) .
وواضح ما في هذا الكلام من تكلف وانحراف عن طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وسؤالهم الله عز وجل جنته وتعوذهم به من النار ، يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في معرض رده على هذه المقالة :(/3)
( كان أفضل الخلق يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار ، ولما سأل بعض أصحابه عما يقول في صلاته ، قال : إني أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار ، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ ، فقال : (حولها ندندن) [10] [11] .
وقال من قال من السلف : (من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري (أي خارجي) ؛ ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد) .
إذن : فالعبادة الحقة هي التي تجمع بين المحبة والخوف والرجاء والذلة والخضوع ، كماسبق ذلك في تعريف العبادة وحقيقتها .
________________________
(1) مدارج السالكين ، لابن القيم ، 1/91 .
(2) مدارج السالكين ، لابن القيم ، 1/77 .
(3) العبودية لابن تيمية ، ص4 ، ت : بشير عيون .
(4) مثل : كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ، للشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله) ، وشروحه المعروفة ، ومن أشهرها : (فتح المجيد) و (تيسير العزيز الحميد) .
(5) رواه البخاري من حديث عائشة (رضي الله عنها (، ك/ الصلح ، ح/ 2697 ، ومسلم ، ك/ الأقضية ، ح/ 1343 .
(6) وقد تحدث الأستاذ محمد قطب حول هذا الموضوع حديثا مستفيضاً وفق فيه ، عند حديثه عن مفهوم العبادة ، انظر كتابه (مفاهيم ينبغي أن تصحح) .
(7) تحدث الأستاذ سيد قطب عن قوله (تعالى) : ] أَصَلاتُكَ تَاًمُرُكَ [ الآية حديثاً قيماً ، فضح فيه منطلقات العلمانيين من الدين وتعاليمه ومحاولاتهم الدائبة لفصل الدين عن الحياة بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان ، انظر الظلال (آية 87 من سورة هود) .
(8) أضواء البيان ، 7/170 .
(9) وقد فضح الإمام ابن القيم هؤلاء المتصوفة الزنادقة في (مدارج السالكين) ، 1/103 ، 104 .
(10) ابن ماجة في الإقامة (910) ، والدعاء (3847) ، وأبو داود في الصلاة (792) ، وفي صحيح ابن ماجة (748) .
(11) تفسير ] لا إلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [ [الأنبياء : 87] لابن تيمية ، تحقيق : عبد العلي حامد ، ص13 .
مجلة البيان : العدد :( 104) التاريخ : ربيع الآخر / 1417هـ .(/4)
المقارنات سبب الأزمات.. [1]
قالت إحدى الزوجات لصديقاتها:
' أتمنى لو أن زوجي يقضي مزيدًا من الوقت مع أولادنا كما يفعل زوج فلانة '.
هذه الكلمات تفسر أن هذا الزوج لا يحب أولاده ولا يضعهم في أولوياته كما يفعل الزوج الآخر، وهذه المقارنات يمكنها أن تتسبب في إثارة غضب العديد من الأزواج، وقد تكون هذه الحادثة بداية النهاية لعلاقة الصداقة بينهما.
إن ظاهرة التحدث عن الأزواج ومقارنة بعضهم ببعض ظاهرة منتشرة لا تكاد تخلو منها مجالس النساء، فما إن تدخل إحداهن بيت الزوجية إلا وتلحق بركب سابقاتها من النساء، إلا من رحم الله.
إن معظم النساء اللواتي يقارن أزواجهن ـ سواء السعيدات في حياتهن الزوجية أو الشقيات ـ للأسف لا يخلو حديثهن من الكذب زيادة كان أو نقصانًا، فالمقارنة إيجابًا يشوبها الكذب خوفًا من الحسد.
والمقارنة سلبًا يشوبها الكذب أحيانًا لتقنع الزوجة جليساتها بأحاسيسها وإن كانت زائفة وزوجها ليس بالسيئ تمامًا.
ونحن ضد هذا الأمر ما لم تضطر إليه المرأة كأن يكون الرجل متعسفًا وبضوابطه الشرعية من وجود مصلحة داعية إلى ذلك وخلافه قال الله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} [النساء:148].
ونحن عندما نعرض هذا الموضوع ونركز فيه على النساء ليس هذا تعسفًا منا فإن الموضوع يخص الزوجين معًا، ولكن النساء أكثر حديثًا من الرجال وأكثر شكوى، ولا يمنع هذا من أن ما سنذكره يمكن أن يستفيد منه الرجال أيضًا في هذا المقام من العلاقات الزوجية.
وهنا نقف ونتساءل: لماذا تقارن المرأة زوجها بأزواج الأخريات؟
أسباب المقارنات بين الأزواج:
هناك أسباب كثيرة للمقارنة بين الأزواج نذكر منها ما يلي:
1ـ تجاهل الزوج لمسئوليته وتخليه عن وظيفته الأساسية كأب وراع لأهل بيته، يؤدي إلى تحمل الزوجة لتلك المسئولية التي تخلى عنها خوفًا على أسرتها من أن تهوى بها الريح في مكان سحيق، وهنا تظهر المقارنة بين الأزواج من قبل الزوجات، ويجعل الحديث عن الزوج فاكهة المجلس بالنسبة لهن علهن يجدن حلاً لهؤلاء الأزواج المارقين.
2ـ قد تحتاج المرأة إلى المقارنة هنا بدافع التعرف على تعامل الأزواج الآخرين مع زوجاتهن لتشعر زوجها بسوء معاملته لها عن طريق نقل حديث الأخريات إليه.
3ـ عدم تقدير الزوج للزوجة خصوصًا إذا كانت تقدم له من مالها.
4ـ الفراغ العاطفي: غالبًا ما تفقد لغة الحوار بين الزوجين، ونتيجة لذلك يخيم الفراغ العاطفي على شعور الزوجة الذي من المفترض أن يكون ريًا بالعاطفة لشريك العمر، لذلك ينصب شعورها في حديثها وتكون مجالسها متنفسًا لها للحديث عن همومها وآلامها، وليس هناك أكبر من آلام المرأة في ضعف العاطفة في زواجها.
وباختصار فإن حاجة المرأة إلى الأمان العاطفي هي أحد دوافعها للحديث عن الزوج والمقارنة.
5ـ الانفتاح الإعلامي: فقد أدى الانفتاح الإعلامي والفضائيات إلى تفتح المرأة وتوسع ثقافاتها، فتغيرت صورة الرجل لدى المرأة، فقديمًا كان الرجل كل شيء في حياتها، أما الآن فقد شاطرته أغلب المسؤوليات.
6ـ العمل والصديقات: فقد يكون عمل المرأة وصديقاتها من أسباب عقد المقارنات بين الأزواج.
7ـ عدم تملك القرار: فالزوج إذا لم تعجبه المرأة تزوج من ثانية أو طلقها، أما المرأة فلا تملك سوى التنفيس بالحديث.
8ـ توسع الطموح والتطلعات الدنيوية وضعف الوازع الديني حتى نسيت المرأة الحكمة التي خُلقت من أجلها.
الأسباب النفسية للمقارنة بين الأزواج:
يقول الدكتور محمد الحامد الغامدي استشاري الطب النفسي بجدة: 'عندما تقارن المرأة بين زوجها وأزواج الأخريات فإن لها دوافعَ وأهدافًا نفسية عديدة تكمن وراء الانخراط في مثل هذه المقارنات.
قليل منها مشروعة وأغلبها دوافع غير مشروعة، فالمرأة في مجتمعنا عندما ترتبط بزوجها فإنها أحيانًا قد لا تكون مقتنعة به تمام الاقتناع وقلما تفهمه خصوصًا حديثات الزواج فتدخل في هذه المقارنات لتعزز قناعاتها بزوجها وتشبع نقصًا ما لديها.
وقد تحتاج المرأة إلى تقوية إحساسها بالأمان في حياتها الزوجية، ويعتبر الإحساس بالأمان أحد الأمور الرئيسية التي يبحث عنها كلا الزوجين خصوصًا المرأة فتتعمد الدخول في عملية المقارنة هذه لتبحث عما يقوى الإحساس بالأمن لديها.
وفي بعض الحالات تكون المرأة نكدية بطبعها وبخاصة عندما تكون غير مستقرة في حياتها الزوجية، فتنقل نتائج المقارنات إلى زوجها لتشعره بنقصه رغبة في زيادة نكده فقط.
وقد يكون الفضول أحد دوافع المرأة النفسية للانخراط في عملية مقارنة الأزواج، فالإنسان فضولي بطبعه وهذه الحالة متفشية في بعض الطبقات العقلية ذات الثقافة المحدودة.(/1)
وقد تلجأ المرأة للمقارنة بين الأزواج بدافع الرغبة في اتخاذ قرار خفي، كأن تفكر المرأة في الانفصال عن زوجها فتبدأ بمقارنة زوجها بغيره لتخفف شعورها بالذنب جراء رغبتها الملحة في اتخاذ هذا القرار، وهذا ما نسميه بعملية الإسقاط، فتسقط المرأة أسباب الانفصال عن الزوج وتحمله نتائجه.
ومن الأسباب النفسية الداعية لذلك سذاجة بعض النساء اللواتي قد يُسقن إلى الحديث عن أزواجهن دون أن يدرين.
وفي حالات قليلة يكون السبب المرأة المنحرفة التي تبرر لنفسها الانحراف والانخراط في علاقات غير مشروعة خارج الإطار الزوجي فتخفف عن نفسها الشعور بالذنب مسوغة لنفسها داخليًا بأن سبب انحرافها هو قصور في زوجها.
عزيزتي القارئة المقارنة إذا سألتِ: فكيف الخلاص من هذه المشكلة؟
فنحن بإذن الله تعالى نقدم لك العلاج الشافي في الجزء الثاني من المقال فكوني معنا.
المقارنات سبب الأزمات [2]
مفكرة الإسلام : إن موضوع مقارنة النساء بين أزواجهن وبين الآخرين قديم جدًا في الحياة النسائية، ومن أهم أشكال هذه المقارنات مقارنة الضعفاء بالأقوياء والفقراء بالأغنياء، وقد يكون الحديث من خلالها عن الطرف الآخر بطريقة تعكس واقعه ووضعه في سلم التدرج الاجتماعي.
والمرأة عندما تقارن زوجها بالأزواج الآخرين فإنها قد تكون تعكس واقعًا سلوكيًا معينًا داخل منزلها، أو قد يكون ذلك نتيجة لطبيعة العلاقة الزوجية لديها، والتي قد لا تكون من العلاقة التي يؤمل منها التوافق بين الزوجين، كأن تكون علاقة سيطرة وتسلط طرف على آخر أو علاقة الأنداد، أو علاقة متوازية لا يؤمل معها الالتقاء، أو نتيجة لوجود فوارق واضحة بينها وبين زوجها خصوصًا عندما تكون هي الأدنى.
عزيزي القارئ:
عندما تبدأ بالمقارنة بين إنسان تحبه وبين شخص آخر، فأنت قد فتحت الأبواب للمشاكل المحتمل وقوعها، ولو فكرت في ذلك لوجدت أن الأمر معقول؛ لأن أغلبنا يريد أن يكون محبوبًا لدى الآخرين كما هو عليه، وإنه لأمر يدفع للشعور بالإهانة أن نفكر أن شريك حياتنا يتمنى لو أننا كنا نشبه أحدً آخر.
إن قيامك بالمقارنة بين شريك حياتك وبين شخص آخر لن تتسبب في تحطيم علاقتك إلا أن المقارنة تُعد أحد تلك الأمور التي ليس لها أي جانب مشرق في العلاقة بين الطرفين.
واعلم أنه في كثير من الحالات عندما يقوم شريك حياتك بمقارنتك مع شخص آخر فهو يعبر بذلك عن عدم رضاء مؤقت في مشاعره فقط، وبالتالي فإن شريك الحياة عندما يتم مقارنته مع شخص آخر لن يكون سعيدًا بذلك.
إن المقارنة بين الأزواج لا فائدة من ورائها تُذكر إلا عندما يكون القصد منها التعرف على الأخطاء والسعي لمعالجتها وتوفير حياة زوجية كريمة.
أما إن كانت المقارنة لفرض سلوك معين في علاقة المرأة بزوجها فهذا لن يؤتي ثماره، فكم من امرأة أصبحت حياتها جحيمًا نتيجة بحثها عن حياة أفضل خارج بيتها. وكم من امرأة فارقها زوجها نتيجة هذه المقارنات العقيمة.
أخي الزوج أختي الزوجة:
إن النظر لما في أيدي الناس يورث الهم والقلق، ومهما حاول الإنسان فلن يستطيع أن يحصل على كل شيء يريده والنفس لا تشبع...وفي الحديث: 'لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب' [رواه البخاري ومسلم].
فتطلعات النفس لا تنتهي، وعلى كل إنسان أن يلجم هذه النفس ويردها إلى الواقع، ولا ينظر لما في أيدي الناس فإنه الفقر الحاضر، وليحمد الله على ما رزقه من نعيم الحياة الدنيا وفي الحديث: 'من بات آمنًا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها' [رواه الترمذي].
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينظر الناس إلى مَنْ هم أكثر منهم في المال أو في الخلق فتلك أمور قدرية كما أن نظر الإنسان لمن هو فوقه من المال يورثه السخط على حاله، فالأولى به أن ينظر لمن هو تحته في تلك الأمور فيحمد الله تعالى ويسأله من فضله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' إذا نظر أحدكم إلى من فضلّه الله عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فُضّل عليه '.
فهذا أحق ألا يزدري نعمة الله عليه، فالقناعة حقًا كنز لا يفنى، بها يعيش المرء في حياته مطمئنًا شاكرًا، هادئ النفس, مرتاح الضمير وإنه من دواعي الشقاء والتعاسة في عالم اليوم تلك المادية الجارفة التي اصطبغت بها الحياة، فأتت على القيم النبيلة وخلّفت وراءها الطمع والجشع والحقد والحسد.
العلاج النفسي:
ونبدأ هنا بالعلاج النفسي لمشكلة المقارنة بين الأزواج. هذه الظاهرة التي قد تصل في الغالب إلى ناحية مرضية وهذا العلاج هو:
1ـ اللجوء إلى الله وحده، والإيمان بأن الكمال لله جل وعلا.(/2)
2ـ التركيز على إيجابيات الزوج أو الزوجة وتغيير النواحي السلبية في كل منهما ، فالزوج قابل للتغيير، وليكن ما تفكر فيه المرأة من حلول داخل إطار الزوجية، لتكون حلولها أكثر إيجابية بدلاً من الانخراط في المقارنات، وذلك لأن لكل إنسان نمطًا سلوكيًا مختلفًا عن الآخر وتطوير الأنماط إنما يكون باستشارة المتخصصين في ذلك، وكثرة الاطلاع على الكتب لتكوين درجة من الوعي والثقافة للمرأة تؤهلها لترك هذه المقارنات والتحول منها إلى حديث أكثر فائدة حول فهم الحياة الزوجية والخطاب ذاته للزوج.
العلاج الشرعي:
وهوالكفيل باقتلاع هذه الظاهرة من جذورها ويكمن في اتباع الآتي:
1- الدعاء لله سبحانه وتعالى فتسأل المرأة ربها أن يصلح لها شأن زوجها وكذا الزوج.
2- أن تستشعر المرأة حقوق زوجها عليها وأنها حقوق عظيمة لا ينبغي التفريط فيها، فقد قال صلى الله عليه وسلم عن ذلك: 'لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها' [رواه الترمذي وأحمد والحاكم] وكذا يستشعر الزوج عظيم حقوق المرأة عليه ووصية رسول الله صلي الله عليه وسلم بها حتى أنه أكد على وصيته تلك حال وفاته صلي الله عليه وسلم.
3- أن تعي المرأة أنها بكثرة شكواها وكلامها عن زوجها ترضي الشيطان وتغضب الله سبحانه وتعالى، ولذلك فعليها التحلي بالصبر جاعلة قدوتها زوجات النبي صلى الله عليه وسلم فقد ضربن أروع الأمثلة في الصبر، ولتقرأ سورة الأحزاب لتعرف كيف آثرن الله ورسوله والدار الآخرة على الحياة الدنيا وزينتها ولا يكثر الزوج من شكوى زوجه وليتأمل محاسنها واحتمالها وصبرها ورضاها وليضع ذلك كله في اعتباره وميزانه.
4- 'لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقًا رضي منها آخر' [رواه مسلم وأحمد]. هذا الحديث كما أنه يتوجه إلى الزوج بالخطاب المباشر فهو ينطبق أيضًا على الزوجة ونظرتها لزوجها فانظري إلى إيجابيات زوجك وحاولي تغيير السلبي منها.
5- الإيمان بالقضاء والقدر والرضى بما قسمه الله لكلا الطرفين وأنه نعم الاختيار لو رضي به العبد بارك الله فيه وهذا للرجل كما للمرأة أفضل من المقارنات بين الأزواج، فعلى المرأة أن تحفظ بيتها فلا تهتك ستر بيتها بأحاديث لا طائل من ورائها، وأن تجعل شكواها لله وحده فهو القادر سبحانه على إصلاح الزوج
6- أين أنت أيتها الزوجة من خديجة رضي الله عنها فقد وهبت نفسها ومالها لزوجها صلى الله عليه وسلم، ولم تتقاعس عن نصرته بكل ما تقدر عليه دون مَنّ ولا أذى.
7- 'ذكرك أخاك بما يكره' إن حديث المرأة عن زوجها يدخل في الغيبة المنهي عنها شرعًا والمتضمن لمعنى الحديث الشريف الذي يذكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم لفظ 'أخاك' فكيف بذكر الزوج بما يكره ؟ قال أبو الدرداء رضي الله عنه لامرأته: 'إذا رأيتني غضبت فرضني، وإذا رأيتك غضبتِ رضيتك، وإلا لم نصطحب' هكذا يكون الاستقرار في الحياة الزوجية, وهكذا تُحل مشكلات المرأة دون اللجوء للمقارنة بين الأزواج وفضح أسرار الأسرة، وهكذا تتواصل لغة الحوار بين الزوجين بدلاً من انكماشها.
8- 'كوني له أمة يكن لكِ عبدًا' إن فهمت كل زوجة هذه الوصية التي أوصت بها الأم ابنتها ليلة زفافها لتغير مجرى حياتها الزوجية، فبدلاً من نشر أخبار زوجها تتقاذفها ألسنة النساء وتساهم في خراب بيتها وقد تكون بذلك داخلة في زمرة كافرات العشير، فإنها بفهم هذه الوصية ستصبح ملكة في قلب زوجها، وهو أيضًا كذلك.
وفق الله الجميع لفهم أسرار الحياة الزوجية والعيش بهذا الفهم عيشة هنية
وإلى لقاء قريب مع فقه أرقى وفهم أعلى لعلاقة قدسها الرحمن
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/3)
المقاصد العقلية لاتعتبر إلا إذا توافقت مع الأحكام الشرعية
الكاتب: الشيخ أ.د.حمزة بن حسين الفعر
مداخلة قيمة للدكتور حمزة الفعر على كلمة علمية قيمة ألقاها الشيخ عبد الله بن بيه في علم المقاصد ونشرت في ملحق الرسالة على صحيفة المدينة ونحب نشرها لفائدتها والله من وراء القصد .
بداية الحمد لله الواحد الأحد والصلاة والسلام على نبيه الأمين وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين
أشكركما تشكرون أيها الحضور الكرام معالي الشيخ عبد الله بن بيه العالم الذي نقلنا في هذه الرحلة الطويلة العريضة سهله الممتنع عبر أحقاب الزمن كما أشكر ضيوف هذا الملتقى العلمي الطيب وأشكر المنظمين .
وفي أفياء هذه المحاضرة القيمة تبدَّتْ لي بعض الأمور التي لا أظن أنها غابت عن ذهن شيخنا الشيخ عبد الله . فقد ذكر فضيلته عن الإمام ابن العربي قضية تقديم المقاصد على النصوص والحقيقة أن هذه القضية تلوكها الألسن الداخلات التي لا تستند إلى أساس سليم .
والواقع الذي أعرفه ويعرفه العلماء الآخرون الأفذاذ كالشيخ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان أن قضية المقاصد ليست علما جديدا وإنما هي ـ كما ذكر فضيلة الشيخ عبد الله ـ علم أصيل اكتشف وقُعِّدَ له منذ مئات السنين . والمطلوب الآن هو استثماره ـ كما قال الشيخ ـ بمعنى استثمار هذه القضايا المقاصدية في استنباط بعض الأحكام الجديدة ، ليس المقصود إلقاء النصوص في مقابلة هذه المقاصد بل المقصود الجمع بين النصوص .
وبناء على هذا فإن المصلحة المعتبرة يجب أن تكون في مصلحة مقاصد الشرع ، والجانب العقلي الذي ذكره ابن العربي وجعله أساس النظر في المقاصد بحد ذاته لا يكفي بل إنه يحتاج إلى وجود أساس آخر وهو اعتبار الشرع لهذه المصلحة .
وعلماء أصول الفقه من الأحناف يقولون: إن الحقوق في الشرع لا تكون إلا بشهادة شاهدين, وكذلك المصلحة لا تكتمل في الشرع إلا بشهادة شاهدين، لأنها شهادة على الشرع, فاعتبارها والعمل بها شهادة على الشرع .
والشاهد الأول: هو الاعتبار العقلي فلا بد أن تكون المصلحة معتبرة عقلا .
والشاهد الثاني: هو الاعتبار الشرعي بمعنى أن يعتبرها الشرع وجها من وجوه الاعتبار, فإذا اجتمع هذان الشاهدان صح الاعتماد على هذه المصلحة التي تكون إلى تحقيق مقاصد الشرع .
وهناك نقطة ثالثة أشار إليها شيخنا الفاضل في قضية تحديد بداية نشوء علم المقاصد, حيث قال: إن التعليلات التي جرت بين العلماء في محاوراتهم واستدلالاتهم هي الأساس في علم المقاصد, ولا شك بأن التعليلات لها أثر إيجابي كبير, لكن لا بد من الإشارة إلى أن بينها وبين المقاصد عموم وخصوص,
والتعليلات في بعض الأحيان قد تكون كاشفة عن دليل تعبدي ليس للعقل مجال في إدراكه وليست في مصلحة ظاهرة, مثل أعداد الركعات ومقادير الزكوات, ويمكن أن يعلل بما يكشف عن هذا . وهذا فيه طمع للباحث عن الدليل لكنه لا يؤدي إلى معرفة المصلحة ولا يؤدي إلى تحقيق المقصد .(/1)
المقاصد عند القدماء دالة على الأحكام الأصلية للشريعة
فضيبة الشيخ/عبدالله بن بيه
اقام مركز دراسات المقاصد الشرقية بمؤسسة مطوفي حجاج جنوب آسيا محاضرة لفضيلة الشيخ الدكتور عبدالله بن بيه عن علامة مقاصد الشريعة الإسلامية بأصول الفقه وقد بدأ فضيلته المحاضرة بلفتة إلى ان معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت معقولة وهي مدخل للمقاصد فقال:
المقاصد جمع مقصد بالفتح وهو المصدر وجمع مقصد بالكسر وهو جهة القصد وأشار إلى ان القدماء رأوا أن المسألة واضحة في المقاصد فلم يتوقفوا عندها طويلا بينما حاول المتأخرون تعريفها فقالوا: هي الحكم والغايات والأسرار التي ترمي إليها الشريعة وهي ما يطلبه سبحانه وتعالى من الخلق.
فنجد المقاصد عند القدماء دالة على الاحكام الأصلية التي تقصد إليها الشريعة لطلب المصلحة ودرء المفسدة وتأتي بمعنى ثالث وهي مقاصد التكليف وذلك بقاعدة الأمور بمقاصدها وهي من القواعد الخمس المعروفة والقرافي هو الذي تناول المقاصد كثيرا ورأى المقاصد على درجات متفاوتة، وقدم قائمة طويلة من المقاصد والوسائل في ذلك.
وتناول رحلة استكشاف المقاصد موضحا ان السين والتاء للطلب واستشفاف الحكم وأصلها الطلبي جاء في القرآن الكريم في سياقين: السياق الأول: هو استكشاف أسرار الكون والدعوة إلى التدبر في أسرار الأمل ومن ذلك قوله تعالى: (الا له الخلق والأمر) وقوله: (افلا يتدبرون) وقوله: (افلا يتفكرون) ولم يتعرض له أحد.
والسياق الثاني: تعرض له الشاطبي رحمه الله في تعليله للشريعة ردا على الرازي الذي اعتبر الشريعة غير معللة حيث قال ان احكامه كأفعاله غير معللة وهذا هو مذهب الاشعري فرد الشاطبي على هذا القول مستخلصا انما نزلت الشريعة في مصالح العباد في عاجلهم وآجلهم.
ومن هذين السياقين يتضح ان الدعوة كانت جلية في استكشاف المقاصد فتلقاها السلف ففهمها وتعامل معها كالصحابة رضوان الله عليهم والتابعين فواصل ابن بيه حديثه عن رحلة الاستكشاف مسترسلا في الاشارة إلى المدارس المذهبية في الفقه كالظاهرية والباطنية والوسطية وميلها إلى النصوص ظاهرا أو مقصدا ليكتمل في بداية القرن الرابع الهجري رؤية بمقاصد الشرعية وأبرز علماء تلك المدارس مؤكدا ان لا أحد في الأصوليين كهؤلاء العلماء وبين وجهة نظر العلماء في ذلك الزمان وموقفهم من مصطلح المقاصد الشرعية ومصالحها والردود والخلافات بين المدارس الشافعية والمالكية.... وغيرها
وأشار إلى عقبات بخلاف القائمة بين تلك المدارس وعرج بالحديث عن استنباط المقاصد مبينا ان معناها استخراج المقاصد وعملية تقديمها لم يكن سهلا ولهذا تواصل معها الشاطبي بنوع الابتكار والاختراع مع تناول كل العلماء قبله كالشافعي.
واعتبر المقاصد من وجهة شعب الإيمان وهو لا يتطرق إليه أحد قبله وعد ثلاثين منحى سماه مكانس الضباء أو محاور اللؤلؤ في المقاصد الشرعية واقترح في ثنايا حديثه تكريم الشاطبي من قبل مركز الدراسات لدوره البالغ وأثره في هذا المجال، وطالب بتفعيل المقاصد في الفقه من اتجاهين في مواطن لا نص فيها وبتقوية بخلاف لا نص عليه.
ثم اعطى ابن بيه تطبيقات في المقاصد منتقدا المجامع الفقهية في جمودها وتوقفها عن مستجدات العصر الراهن وعدم قدرتها على اتخاذ القرارات المناسبة معترفا بان يناله النقد والاتهام في هذا المجال لكنه رأيه الذي أصر عليه.
كما دعا المجامع الفقهية والفقهاء إلى مراجعة الفتاوى وربطها بالمقصد الشرعي ورفع الشقة والحرج عن الناس، ودعا أيضا إلى تكوين فقهاء مقاصدبين تتسم بروح الجدية والتواضع أيضا في معاني الشريعة.
وختم محاضرته بالطلب والبحث في الدراسات المعمقة مع التنبيه على أصل المقصد الشرعي في كل ما يبحث.(/1)
المقاصديون الجدد
سعد مقبل العنزي
</TD
الحديث عن المقاصد في هذه الأيام آخذ في التجاسر على النصوص والنظر إليها على أنها تابعة لا متبوعة ومقودة لا قائدة ، وهي في فلك المقاصد أشبه بالرحى في يد الطّحان ، وهذه النظرية الغريبة مهما حملت من التجديد وتجاوز المنحى ألتجزيئي في تفهم أحكام الشريعة ــ زعموا ــ لا تنطلي إلا على القليل من الناس .
فان أول من تولى كبر هذه الدعوى هو إبليس اللعين حين اعترض على النص بالمصلحة فقابل (( اسجدوا لآدم))"البقرة :34 " بقوله((أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين))"ص:76 "توهم عدو الله أن الخالق تعالى قد قصد بخلقه من النار تفضيله وهذه المصلحة المتوهمة ملغاة وغير معتبرة لأنها صادمة النص الصريح:(( اسجدوا)) .
وجمهور علماء الأصول يسمون المصلحة المناقضة للنص مصلحة ملغاة ولا خلاف بينهم في عدم الاحتجاج بها . ذلك أن مثل هذه المصالح المزيفة هي في حقيقتها أهواء وشهوات ألبست ثوب المصلحة زورا وبهتانا. وقد كان أهل الجاهلية قبل الإسلام يرون في الإشراك في عبادة الله و وأد البنات وقتل غير القاتل وحرمان المرأة من الإرث المصلحة بينما ولا يرون في أكل الميتة وشرب الخمر ومعاشرة الأخدان مفسدة . ولازال هذا المنطق الجاهلي يتكرر عبر قوانين و صحف وقنوات ومنابر أخرى يلبس المفاسد لباس المصالح .
وعلى هذا النهج يظهر بين الفينة والأخرى من لا يرعوي عن استباحة حرمة النصوص الشرعية مع الجهل بدلالات الألفاظ على المعاني والتي هي الينبوع الثر للأحكام . وما كان لهؤلاء المتعالمين أن يبسطوا أيديهم وألسنتهم بالسوء لو وجدوا من يرد أيديهم في أفواههم .
وهؤلاء الثلة الذين فتنوا بزيف المدَنية الغربية قد يجدون في التراث الإسلامي من الشذوذ ما يسترون به عن الناس حقيقة زيفهم وتجافيهم عن أساس الدين الذي يتظاهرون بالدينونة به ... فربما جعلوا من لغو الطوفي ــ عفا الله عنه ــ ونظره المصلحي ملجأ أو مُدخلا لتمرير ما نسمعه من دندنة حول فقه المقاصد ، وأنها القبلة التي يجدر بالفقيه المجتهد أن يولي وجهه شطرها لمعالجة المشكلات التي تواجه المسلمين أيا كانت .. اقتصادية أو سياسية أو ثقافية .
وهذه الدعوة ـــ المتجاسرة على النصوص المتسترة بالمقاصد ــ متلازمة مع دعوات أخرى تنادي بتجديد ألأصول الفقهية للإسلام كما هي الدعوة الترابية المشهورة .
وحين نتكلم عن خطورة مثل هذه الظواهر ، فلا يعني هجر الفقه المقاصدي أو تهميشه .. كلا فحديث القرآن الكريم عن مقاصد الأحكام كثير كما أن من هديه صلى الله عليه وسلم في تقرير الأحكام أن يأتي الحكم مقترنا ببيان مقصده وشواهد هذا في السنة بين لمن طالعه . وكل الذي ننادي به أن توضع الأمور في نصابها الصحيح ، ذلك أن النظر المقاصدي نظر متأخر عند المجتهد وليس سابق على الأدلة الشرعية وهذا متقرر عند فقهاء المقاصد كالشاطبي وغيره .
و فات القوم أن نظرية المقاصد التي يحتطبون بحبالها إنما وضعت في الأساس وضعا تبريريا لما عليه أحكام الشريعة بإضفاء صيغة المقاصد والحكمة عليها ، ولم توضع من أجل تأسيس الأحكام وبنائها ، فهي جعلت لتبرير ما هو كائن ، وليس لما ينبغي أن يكون . فكم يكون الخطل عظيما ، والزلل فادحا حين تتداخل منزلة الأدلة والأحكام الشرعية ومقاصد الأحكام ، وكما أسلفنا فالمقاصد تنبني على الأحكام ، والأحكام بدورها مبنية على الأدلة ، وتصور لو قلبت المعادلة ؟! فامتثال ماأمربه الشارع أو التجافي عما نهى عنه هو عين المصلحة .
وليس أدل على زيف النظر المصلحي ــــ الذي يخالف أو يعارض فيه الباحث الكتاب والسنة ـــ من إجماع الصحابة على ذلك فقد ذموا هذا الرأي الذي يتجاسر على النصوص ويتشبث بطاغوت المصلحة . فهذا الصديق رضى الله عنه تأتيه الجدة تسأله نصيبها من الإرث فيتوقف في أمرها حتى يبحث عن الدليل ولم يلجأ إلى المقاصد والاجتهاد المقاصدي ، لأن الأدلة مرتبتها متقدمة على المقاصد .
والصحابة ــ رضوان الله عليهم عندما يعدمون النص ما كانوا ظاهرية الاجتهاد ، وإنما قاسوا الفروع على الأصول ، وربطوا الأحكام بمداركها ، وإنما قصدوا في ذمهم للآراء .. تلك الآراء التي تقفز فوق الأدلة وتتفلت من ضوابط الاستدلال . وما أجمل قول عمر رضى الله عنه : " أصحاب الرأي أعداء السنن ، أعيتهم السنن أن يحفظوها ، وتفلتت منهم أن يعوها ، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم ، فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم" .
والمقاصديون الجدد ينفخون في بعض العبارات المقاصدية لبعض الأئمة ، ويجعلونها تجري على ألسنتهم صباح مساء ، وما عبارة " أينما وجدت المصلحة فثم شرع الله " بسر .
حتى أن العلامة بن القيم ـــ رحمة الله علينا وعليه ـــ يقول وكأنه يخاطب هؤلاء المقاصدية : ( الرأي الباطل أنواع ، احدها الرأي المخالف للنص ، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه ولا تحل الفتيا به ولا القضاء ) .(/1)
ولعل من الأمثلة المعاصرة التي روعيت فيها المقاصد المزعومة على حساب النص ، ما نسب لأحد العلماء المعاصرين من أصحاب المدرسة المقاصدية ـــ عفى الله عنه ـــ استغفاره وترحمه على البابا الهالك يوحنا بولس الثاني . مع أن النهي صريح في هذه المسألة " ما كان للنبي واللذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " [ التوبة : 113] ، وجاءت بصيغة النفي لا النهي وهذا من أبلغ صيغ التحريم . فهل المقاصد هي اتباع الأوامر امتثالا ، والنواهي اجتنابا أو شيء آخر ؟ .
لا يخفى أن ما يفصح عن مقاصد المتكلم هو ظاهر خطابه إلا إذا وجدت القرينة الصارفة للنص عن ظاهره ، فإذا لم يوجد شيء من ذلك فاللفظ باق على ظاهره ، ويكون ظاهره هو المعنى المقصود للشارع ، وقد استدل فقيه المقاصدية الشاطبي ــ رحمة الله علينا وعليه ــ على أن الأمر الصريح والنهي الصريح يفيدان بظاهريهما قصد الشارع إلى إيقاع المأمور به ، واجتناب المنهي عنه ،
إن الأمر والنهي كلاهما يستلزم أمرين :
الأول : الطلب : طلب الفعل المأمور به أو طلب ترك المنهي عنه .
الثاني : الإرادة : إرادة إيقاع المأمور به وإرادة عدم إيقاع المنهي عنه .
وأخيرا فالطريق السليم لفهم المقصود الشرعي من الأوامر والنواهي ــ كما قرر ذلك الشاطبي ـــ يكون بالنظر في أمور ثلاثة :
الأول : استقراء ما ورد في المسالة : موضوع الأوامر أو النواهي من النصوص .
الثاني : النظر في القرائن الحالية والمقالية المصاحبة للأوامر والنواهي .
الثالث : محاولة استخلاص علة ذلك الأمر أو النهي إن وجدت .(/2)
المقاطعة ليست أبديّة، وإنما هي وسيلة لغاية
د. الشريف حاتم بن عارف العوني 8/1/1427
07/02/2006
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإني لا أريد التحدّث في هذا المقال عن الحكم الشرعي عن المقاطعة التجارية، فقد تكفّلت بذلك بحوث عدة ورسائل جامعية، وإن كانت مشروعيتها على وجه الإجمال ظاهرةً من النصوص الشرعية العامة، ومن مقاصدها الكبرى، بل في النصوص ما يدل عليها على وجه الخصوص، ومن هذه النصوص حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- المتفق عليه عن قصّة ثُمامة بن أثال الذي كان من سادات أهل اليمامة، وأسلم على يدي النبي –صلى الله عليه و سلم- في المدينة: "فلما قدم مكة، قال له قائل: أصبوت؟ فقال: لا، ولكني أسلمتُ مع رسول الله –صلى الله عليه و سلم-. ولا (والله!) لا تأتيكم من اليمامة حبّة حنطةٍ، حتى يأذن فيها رسول الله –صلى الله عليه وسلم-".
كما أني لا أريد أن أتحدّث عن واجب نصرة النبي –صلى الله عليه وسلم-، فهو من المعلومات من الدين بالضرورة، وممّا أجمع المسلمون عليه. بل أجمع العقلاء من بني آدم على تعظيم عظمائهم، وعلى الدفاع عنهم ضدّ كل معتدٍ عليهم.
لكني أريد أن أتحدّث عن المقاطعة باعتبارها واقعًا في الساحة الإسلامية اليوم، لم تنتظر قرارًا سياسيًّا من الحكومات، ولا فتاوى شرعيّة من العلماء بالوجوب أو الاستحباب، وإنما كانت تعبيرًا فرديّا، وجد المسلمون أنفسهم منقادةً إليه، للقيام بواجب النصرة لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
هذه المقاطعة التي اتفق عليها المسلمون إنجاز عظيم للأمة الإسلامية، له دلالاته الكثيرة المبشّرة بالخير، وفيه دليل على أن قضايا الأمة الكبرى مازالت تتحدّى كل الحدود والخلافات، وهذا يدل على مقدار ما وصلت إليه الأمة الإسلامية من الوعي بضرورة الوحدة، في مواجهة العدوّ المشترك.
وهذا الإنجاز لا يصح أن يُفوّت، ولا يصح أن يكون بلا هدف، ولا يصح أن يكون انفعالاً سرعان ما يفتر.
فماذا نريد من المقاطعة التجارية بعد أن أصبحت إنجازًا للأمة؟
الجواب: إنما يتضح بتحديد حقيقة هذا المقاطعة: هل هي وسيلة؟ أم غاية؟
من جعل المقاطعة غايةً، جعلها مقاطعةً أبديّة، لا تنتهي مهما حصل. وهذا انفعالٌ، أكثر من كونه رأيًا مدروسًا.
وأمّا من جعل المقاطعة وسيلة لغاية، فلا بدّ أن يحدّد لها أهدافًا معيّنة، إذا ما تحققت هذه الأهداف، انتهت المقاطعة.
ولا يختلف اثنان بأدنى تأمل في أن المقاطعة وسيلة وليست غاية، ومن ثم: لابد من تحديد هدفٍ لها، إن تحقق أوقفنا المقاطعة.
وهنا أذكِّر بخطأ وقع من بعض الناس، عندما خلطوا بين كون جريمة الاعتداء على النبي صلى الله عليه وسلم حقًا للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، لا يسقط بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أبدًا، ولو بإعلان التوبة والاعتذار، خلطوا بين هذا الحكم وحكم المقاطعة؛ لأن ذلك الحكم يختصّ بالمعتدي وحده، ولا علاقة له بأبناء أمته ودولته الذين لم يشاركوه الاعتداء؛ فما علاقة الشركات التجارية بذلك المعتدي؟!
إذن فاعتقاد أن المقاطعة أبدية لا يصح، واعتقاد أنها كذلك حتى يُعاقب المعتدي بالعقوبة الشرعية لا يصح، ومحاولة تطبيق هذه العقوبة بغير الوسائل القانونية مفاسدُه أكثر من مصالحه فهو لا يصح أيضًا.
إذن لابدّ من تحديد أهدافٍ لإنهاء المقاطعة، وهذه الأهداف تحتاج دراسةً متأنية، تراعي أمورًا عدّة، منها: قوّة أثرها، والقدرة على الاستمرار عليها، وربما القدرة على تنفيذها أصلاً، والضغوط المترتبة عليها: هل نقوى على مواجهتها أم لا؟ هذا وغيره بعض ما يجب أن يُراعى عند تحديد أهداف المقاطعة.
وأحد أهم أهداف المقاطعة التجارية مع الدنمارك: الاطمئنان إلى أنّ تلك الإساءة لن تكرّر، وهذا لن نصل إليه بغير الاعتذار الصريح من ا لصحيفة ومن الحكومة؛ لأن الاعتذار الصريح الذي يتضمّن الاعتراف بالخطأ والذي لا يبرر للخطأ بحرية التعبير أو بأي شبهةٍ أخرى يتضمن أيضًا تعهدًا بعدم تكرير الخطأ.
وهذا الهدف (وهو الاعتذار) قد يقوم مقامه مصالحُ أخرى تقاربه أو تفوقه في الدفاع عن النبي –صلى الله عليه وسلم-، وفي القيام بالمقدور عليه من واجب نصرته صلى الله عليه وسلم.
وللجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء –صلى الله عليه وسلم- عنايةٌ كبيرةٌ بدراسة ذلك كُله، وهي جهة اختصاص، وصاحبةُ مبادرةٍ في هذا الحدث، ولها بموقعه اتصال مباشر. وقد حدّدت أهدافها، وعنيت بتطورات الأحداث المتسارعة ومما يستوجبه كل حدث من موقف، فنرجو العناية من عموم المسلمين بتوجيهات اللجنة، وأن تكون صاحبة مرجعيَّة مهمَّة لإدارة هذا الإنجاز العظيم، الذي لا يصح أن يبقى بغير توجيه وإرشاد؛ لاستثماره في صالح قضيتنا، وهي نصرة النبي صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه(/1)
« المقاطعة »
الكاتب: الشيخ د.علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
كثيرة هي الموضوعات التي يناسب تناولها في مثل هذه الأوقات التي ما تزال أصداء الانتصار للنبي المختار صلى الله عليه وسلم تتردد ليس في أرجاء العالم الإسلامي فحسب بل في أصقاع العالم كله، وثمة أمور كثيرة يمكن أن تكون مداخل لمزيد ومزيد مما نحتاج إليه من التعلق بديننا والإتباع لنبينا صلى الله عليه وسلم، والتوحد فيما بيننا، والسعي لنهضة أمتنا وغير ذلك.
حتى إن المرء ربما كان يتمنى أن لو كان في مثل هذه الأسابيع أكثر من جمعة ليكون هناك اتصال وتوضيح لمثل هذه الموضوعات، ومع التزاحم جعلت حديث اليوم عن المقاطعة .
ذلك الحدث الأبرز الذي تجددت انطلاقة شرارته مع تلك الإساءة البذيئة القبيحة التي انطلقت من بعض دول أوربا وعمت بعضها الآخر في صور إعلامية معروفة .
وحديثي عن المقاطعة أجده مهمّاً أيها الأخوة الكرام ؛ لأن هذا العمل والأسلوب يختلط فهمه عند بعض الناس، وإن كانت الغالبية العظمى تراه نافعا ومفيدا، وتراه صحيحاً ومشروعاً، وتراه نافعاً ومؤثراً ، وتأخذ به عملاً وواقعاً، إلا أن قلة قد نقسمها إلى قسمين:
قسم لديه ضعف وجهل، فهو يخشى من الآثار وهو ينظر من زوايا ومنطلقات خاطئة.
وأما القسم الثاني: وهو قسم المرجفين والمنافقين، المتحدثين بلسان الأعداء والمعتدين، ولذا وجدت أن هذه الوقفة مهمة، وأبدأها بالتأصيل .. فنحن أمة لا تنطلق إلا من الوجه المشروع ، ولا تعمل إلا ما له أصل أو دلالة في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو أردت أن أتحدث في هذا الموضوع وحده لطال المقام في ذكر الأصول الشرعية والمبادئ الإسلامية التي تتصل بالمقاطعة.
وأولها: الولاء والبراء
الذي أرجف المرجفون به كثيرا وحذروا منه كثيرا، لماذا؟ لماذا كل تلك الحملات الماضية عن الولاء والبراء؟ لأنه يغتال - في المسلم فرداً وفي المسلمين أمة - قدرتهم وقوتهم على مواجهة أعداءهم ، ومعرفة حقائقهم ، وبيان ما ينبغي من الواقف إزاءهم، ولذلك حذرونا منه وأردفوا على مناهجنا لأجله، قالوا: لأنه يدعوا إلى العنصرية، ويدعوا إلى الإرهاب وغير ذلك مما قالوه، ولست بقاضٍ في هذا المقام أن أستوفي الحديث عن هذا الأمر، ولكني أقف مع آية واحدة لعل الوقوف معها يشير إلى ذات الحدث الذي نتحدث عنه، يقول الحق جل وعلا:
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } .
أليست الآيات متناولة لهذا الذي نراه ونحن نتحدث عنه ؟ أليس هذا استهزاء بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وانتقاص لدين الإسلام وامتهان لأمة المسلمين ..
{يا أيها الذين آمنوا } نداء من ربكم تتلونه في آيات قرآنكم .. قال عنه ابن مسعود: " إذا سمعت {يا أيها الذين آمنوا..} أرعها سمعك، فإنها إما أمر تؤمر به أو نهي تنهى عنه " .
{لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا } أليس هذا استهزاء وتلاعب وتنقص وسخرية بالدين وبسيد هذا الدين ونبيه عليه الصلاة والسلام.
ثم يقول جل وعلا: {من الذين أوتوا الكتاب والمشركين أولياء}
ثم يقول: {واتقوا الله إن كنتم مؤمنين}
وهذا التذييل في آخر الآية عظيم ودلالته كبيرة، قال السعدي رحمه الله في تفسيره -عند تعليقه على هذا الموضع من الآية- قال: "فإذا علمتم أيها المؤمنون حال الكافرين وشدة معاداتهم لكم ولدينكم، فإذا علمتم ولم يعادهم بعد هذا –أي المسلم- دل على أن الإسلام عنده رخيص، وأنه لا يبالي بمن قدح فيه أو قدح بالكفر والضلال، وأنه ليس عنده من المروءة الإنسانية شيء، فكيف يدعي لنفسه دينا قيما وأنه الدين الحق وما سواه باطل، ويرضى بموالاة من اتخذه هزوا ولعبا وسخرية وبأهله من أهل الجهل والحمق " .
وقال ابن كثير رحمه الله: "أي اتقوا الله أن تتخذوا هؤلاء الأعداء لكم ولدينكم أولياء " .
{إن كننتم مؤمنين} أي بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزوا ولعبا، فإن كنا نؤمن بالله ونؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بهذا الدين العظيم وأحكامه وتشريعاته فإنه لا بد من وقفة ولاء وبراء حقيقية مع من يتعرض له بالعداء أو يمسه بالتنقص والاستهزاء والحق جل وعلا يقول : {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } .
القائل رب الأرباب العالم بكل الأحوال ، المطلع العالم بغيب السماوات والأرض.
{ولا يزالون} بصيغة المضارع الدال على الاستمرار، ونحن رأيناه اليوم في حدث، نحمد الله أن جعله سببا في يقظة الأمة لكن قبله كانت أحداث وأحداث وتلته كذلك أحداث وأحداث وربما ستتلوه كما هو ظاهر أحداث وأحداث، إذا فالمسألة ظاهرة بينة.(/1)
وأمر آخر في التأصيل وهو أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وتلك قاعدة فقهية معتبرة عند أهل العلم، أليست تلك مفسدة في الاستهزاء والتنقص بالدين والمصلحة أن نأكل طعاما، نستطيع أن نستغني عنه، والمصلحة أن تكون هناك أرباح من وسخ الدنيا وأموالها وذهبها وفضتها وغير ذلك .
إن درء مفسدة الاستهزاء بالدين والانتقاص منه أعظم وأجل من جلب مصلحة هنا أو هناك حتى وإن كانت بعض المصالح الدبلوماسية أو المظهرية وغيرها.
وأمر ثالث كذلك، النظر إلى المآلات وهي مسألة مهمة أيضا، قال ابن الهمام الحنفي في بعض المسائل تشبه مسألتنا هذه، قال: " لا ينبغي أن يباع السلاح من أهل الحرب ولا يجهز إليهم" وقال الشارح:
"وكذلك الحديد لأنه أصل السلاح " .
ومن هنا منع أهل الفقه أن يباع العنب لمن يعلم أنه يتاجر بصناعة الخمر، لا تقل وتضحك على نفسك إنني أبيعه عنبا ما دمت تعلم ما سيؤول إليه الأمر، واليوم تشتري وتدفع مالا وأنت تعلم أن المال على سبيل المثال عند الصهاينة الغاصبين المعتدين سيصبح رصاصا في رؤوس إخواننا المسلمين وسيصبح نارا تشتعل في المسجد الأقصى وغير ذلك، فهل هذا من الدين أو من الفقه في شيء.
ورابعة وهو : واجب النصرة
{إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}
أليس من نصر الله نصر دينه ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم:
(الدين النصيحة قلنا لمن، قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم ) ؟
وعندما شرح العلماء أنواع ذلك النصح كان من ضمنها الذب والانتصار عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وعن كتابه، وعن المسلمين أفرادا وأمة وجماعات.
ويقول الحق جل وعلا: {وإن استنصروكم فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق}
ألسنا نرى أن إخواننا الذين احتلت أراضيهم واغتصبت نساءهم، ودمرت بيوتهم أليسوا يستنصروننا، فإن عجزنا أن نكون معهم بصدورنا ونحورنا وأن نكون معهم على ثغورنا لأن ثغورهم ثغور إسلامنا وعقيدتنا، فهل يصلح بعد ذلك ألا ننصرهم بمنع القوة عمن يصب النار والقتل والدمار على رؤوسهم إنه نوع من النصر اللازم وإلا كنا قد انبتتنا عن حبنا وعن إخوتنا وعن ولاءنا وعن نصرتنا لإخواننا المسلمين.
لو أنك رأيت أخاً من إخوانك المسلمين هنا وثمة من يعتدي عليه أمام عينيك بظلم ؛ فإنك تنبري للدفاع عنه، لكنك إن لم تستطع اتخذت أي أسلوب يحول بين هذا الاعتداء وتكرره أو وقوعه، وهذا من هذا والأمر فيه ظاهر وبين، وفي حق نبينا صلى الله عليه وسلم، قال الحق جل وعلا : { إلا تنصروه فقد نصره الله } .
فهل مثل هذه المقاطعة على قلتها ومحدوديتها نظن بها أن ننصر بها رسولنا صلى الله عليه وسلم، وننتصر لعرضه وشخصه ومقامه وقدره وعظمته عليه الصلاة والسلام، أفنشتري مالا أو نشتري بضاعة ممن يقوم بهذا الفعل، ولست برائد الآن الدخول في الشبهات فيقال: ليس هؤلاء الذين فعلوا وليس هذا الذي فعل، وأعجب من هذا فإنني أقول إن الحروب العسكرية لا تقوم بها أمة كاملة يقوم بها الجنود، فهل نقول إذا ما ذنب الذين وراءهم، لن أقاتل إلا من جاء برصاصه ليقتلني، طيب من أعده ومن دربه ومن موله ومن أعطاه ومن شجعه ومن ضل بإعلامه يناصره، إنها صورة ساذجة وقضية كما سأقول ينقضها الواقع.
ومن التأصيل الشرعي أيضا قوله جل وعلا : {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} .
أليس التعاون على مقاطعة من أساء للإسلام وأهله ولرسوله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، ومن اعتدى على المسلمين بأي عدوان، أليس هذا من التعاون على البر، وترك التعاون على الإثم، أفنريد أن نكون كأنما نحن مكملين أو زائدين في سواد الأعداء، ألا يكفي الإسلام وأهله كل هذا العدوان والإجرام الذي يملأ أقطار الأرض كلها في وسائل الإعلام التي نعرفها، ثم بعد ذلك يمكن أن نكون نحن مع هذا، أو على أقل تقدير قد أخرسنا ألسنتنا وأعمينا عيوننا وصممنا آذاننا وقبضنا أيدينا فكأننا لا حياة لنا، وكما قال السعدي فيما ذكرت: "فإن من فعل ذلك فإنه خال من المروءة الإنسانية"
كيف لا ينتصر المرء لدينه ولنبيه صلى الله عليه وسلم، ولأمته ولإخوانه المسلمين، ثم نجد بعد ذلك أيضا أمرا مهما، وهو الجهاد الكلمة والمصطلح الذي كان شن الحرب عليه والإرهاب منه أعظم حتى من الولاء والبراء، والله عز وجل كم من الآيات التي قرن فيها بين الجهاد بالأموال والأنفس وكان تقديم الجهاد بالمال على الأنفس في كل تلك الآيات، لماذا؟ للدلالة على أن الجهاد المالي سواء كان بذلا أو منعا هو من أسباب بذل الجهد في نصر الإسلام والدفاع عنه ورد عدوان أعداءه، ومن هنا أيضا نجد النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يقول : (جاهدوا المشركين بألسنتكم وأموالكم)
جهاد، فلماذا نستخدم كل الأسلحة وسيأتي ذكر استخدامها .(/2)
وأخيرا في هذا التأصيل الموجز، الاقتداء بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثمامة بن أثال سيد قومه بني حنيفة في وسط الجزيرة، زعيم كبير من زعماء العرب، قبض عليه بعض الصحابة رضوان الله عليهم واقتادوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بربطه في سارية من سواري المسجد، فهو يرى المسلمين ويرى صلاتهم ويرى أحوالهم، يأتي إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما عندك يا ثمامة ؟! ) هات ما عندك ..
يقول : ( يا محمد - صلى الله عليه وسلم- إن تقتل تقتل ذا دم –إن قتلتني فوراءي من ينتصر لي ويأخذ بثأري- وإن تفدي تفدي ذا مال) إن أردت المال فأنا صاحب مال، ويتكرر المشهد مرة واثنتين وثلاثا وثمامة على موقفه فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحل رباطه وإطلاق سراحه.
هذه هي قيم الإسلام وسماحته لا إكراه في الدين، وأراد أن يرى الإسلام أراد أن يحاوره كان هذا موقفه، فماذا صنع ثمامة؟
خرج من المسجد وخرج إلى بعض أطراف المدينة عند نخل ثم اغتسل ورجع إلى المسجد وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، أسلم من الذي دعاه من الذي أكرهه، لا أحد، هكذا هو الإسلام كما نرى إلى يوم الناس هذا، ثم قال: "يا رسول الله إن أصحابك أخذوني وأنا قاصد العمرة فما تأمرني ؟ " قال : ( أدي عمرتك ) .
فذهب إلى مكة يعتمر على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال كفار قريش: "أصبأت يا ثمامة"، قال: "لا ولكني أسلمت لله واتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال كلمته الشهيرة "لا والله لا يأتيكم حبة حنطة من اليمامة حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم"
سيد بني حنيفة في اليمامة المورد الأساسي للحنطة وللطعام لأهل مكة قال: والله لا يأتيكم حبة حنطة حتى يأذن رسول الله، واشتد الأمر على قريش فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله وترجوه أن يأمر ثمامة بفك وقطع المقاطعة، وفعل رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ما الذي جاء بقريش صاغرة بين يدي رسول الله .. ما الذي أذلها في هذا الموقف ؟ إنها المقاطعة الاقتصادية.
وقبل أن أفيض في جوانب أخرى أقف الوقفة الثانية ، وهي : وقفة المقاطعة من قبل غير المسلمين
كيف صنعت قريش وما الذي اتخذته لكي تضغط على كل من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم، كلنا يعلم أنها قاطعت النبي صلى الله عليه وسلم بل وبني هاشم حتى من غير المسلمين، لماذا؟ أسلوب من أساليب الضغط وفض الناس عنه وجعله في حال لا يستطيع أن يواصل مسيرته وأن ينشر دعته كما يظنون ويزعمون.
كيف كانت تلك المقاطعة ؟ إنها مقاطعة ظلم وجور حتى قال سعد بن أبي وقاص :
"ذهبت لقضاء حاجتي، فسمعت عند تبولي صوت قعقعة شن - أي قطعة من جلد- قال فأخذتها فإذا هي قطعة جلد فأخذتها ونظفتها ودققتها ثم سففتها فكانت قوتي ثلاثة أيام" من شدة المقاطعة، لم تكن مقاطعة اقتصادية بل مقاطعة شاملة، لا تشتروا منهم، لا تبيعوهم، لا تزوجوهم، لا تتزوجوا منهم، كل شيء كان داخلا في دائرة هذه المقاطعة .
وأنتقل بكم ألفاً وأربعمائة من السنوات وأكثر، لأذكر بالمقاطعة التي كانت قبل احتلال العراق، كان حصادها اليومي خمسة آلاف طفل يموتون في كل يوم، كان حصادها الاقتصادي والصحي والاجتماعي فضيعا بحيث كان يسجل كجريمة إنسانية من الدرجة الأولى، عندما كان هناك خلاف بين الفرنسيين والأمريكيين في هذه الحرب قبل بدءها قاطع أولئك الأمريكيون البضائع الفرنسية فيما بينهم حلال عليهم وحرام علينا، ونحن نعلم أن هذه الدول كلها قاطبة في الأخبار والنشرات والممارسات تستخدم هذه المقاطعة على نطاق واسع وتظم إلى الاقتصادية السياسية والعسكرية وغيرها مما تعلمونه.
ألم يكن إخواننا في البوسنة والهرسك قبل بضع سنوات أو عشر سنوات فأكثر محرومون من قطعة السلاح بموجب المقاطعة وأعداءهم يصبون النار فوق رؤوسهم حتى كان الحصاد نحو مائتين وخمسين ألفا من المسلمين في أقل من عامين، أليست هذه كلها أساليب استخدام هذا السلاح القوي.
واليوم نحن معاشر المسلمين أكثر من ألف مليون ومائتي مليون مسلم لو كانت لهم كلمة واحدة ومقاطعة قاطعة لنوع واحد من البضائع لركعت تلك الشركات واهتزت تلك الاقتصاديات، وتراجعت تلك السياسات ووقفت تلك الدول، كما رأينا في حادثة الدنمرك، ذهب السفراء وقفوا على الباب ورجعوا خائبين، طرقت أبواب القضاء سدت في الوجوه، صاح الصائحون كأن لا أحد يتكلم، ويوم بدأت المقاطعة رأينا الوفود يمينا ويسارا، ورأينا التصريحات ورأينا المراجعات ورأينا كذا وكذا، ما الذي يدل عليه ذلك، يدل على أن الأثر هو الذي يمكن أن يكون له صدى في زمن هو زمان القوة وعصر يسمونه عصر الأقوياء.
ثم أنتقل إلى جوانب أخرى أيها الأخوة، ليست المقاطعة لأجل أعداءنا بل هي لنا كذلك، فهي تربية، تربية عظيمة لها فروع كثيرة منها:(/3)
تربية على تقديم الدين والإيمان والاعتقاد والإسلام على كل حاجات الدنيا، ويوم نقدم دنيانا على ديننا فذلك مسمار يدق في نعشنا، يوم نكون أهل دنيا نؤثرها على الآخرة ونؤثرها على القرآن والسنة والتاريخ والتشريع، كل ذلك والعياذ بالله، هناك فرق عظيم لكننا اليوم نربي أنفسنا على أن نترك كل ما قد يكون فيه ضرر أو إساءة أو عدوان على ديننا شيئا فشيئا وبتدرج وبقدر استطاعة وفي دوائر متتابعة، تربية أخرى تربية مهمة جداً، على أن لا نكون أهل ترف وأهل استهلاك، نأخذ كل الأصناف ونشتري ما نحتاج وما لا نحتاج، اليوم نشعر عندما نترك تلك البضاعة ما نقص منا شيء، بل وفرنا شيئا من أموالنا، إذا كان كثير من صرفنا وكثير من استهلاكنا ضرب من الترف وضرب من الاستهلاك الذي ينبغي أن ننتبه له وأن نعالجه في واقعنا .
وتربية أخرى مهمة، تذكير بحضور ديننا في قلوبنا وتذكير بحقيقة أعداءنا، أحسن شيء عند الأعداء أن ننام ملء جفوننا وأن نأكل ملء بطوننا وأن نضحك ملء أشدقنا، وأن نشتري بأموالنا ما ينتجونه لنا، لنبقى في ذيل القائمة إلى قيام الساعة، ماذا يصنعون؟ إعلامهم الذي يبثون فيه الأفلام وهذه المسلسلات وغير ذلك، لماذا؟ جزء منه حتى لا نلتفت إلى شيء مهم، ولا نسمع عن قضية جوهرية أو محورية يريدون منا أن نكون أعزكم الله كالبهائم تأكل وتشرب وترتع وتسرح وتمرح، لا يهمها شيء مطلقا .
ولذلك من كان يعرف عن الدنمرك ربما كثيرون لا يسمعون عنها، وإلى اليوم ربما كثير من الناس لا يعرفون أين موقعها من الخريطة، لكنك لو سألت اليوم طفلا صغير دون مرحلة المدرسة، قل له الدنمرك سيقول لك هؤلاء الذين أساؤوا لرسول صلى الله عليه وسلم ..
نحن لا نريد إذكاء العداء والخصومات .. لكننا لا نريد أن نكون قوماً بلا روح ولا حياة ولا عزة ولا كرامة ! لا نريد أن نكون كالذي يضرب على قفاه من كل أحد، لا نريد أن نكون الجدار الواطئ الذي يطأه كل أحد، لا نريد أن نكون الأمة التي تشتم وتلعن بكل لسان ولا ينتفض لها أحد ولا تقوم لها قائمة !
إنها حينئذ ستكون جثة هامدة حري بها أن تقبر في باطن الأرض لا أن تكون على ظاهرها، ولكن الخير بحمد الله باق في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه كما قال صلى الله عليه وسلم : (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) .
لكنها نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم وكرامته عليه الصلاة والسلام ومعجزته تتبدى حتى بعد وفاته عليه الصلاة والسلام ( ما من بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل ) .
اليوم وكما كانت أحداث سابقة لا أحسب أن أحدا تحت رقعة الشمس في هذه الأرض إلا وسمع اسم محمد صلى الله عليه وسلم، بغض النظر عن سماعه له ذما أو مدحا يبدأ ويسمع ويبحث ويقرأ ويطالع، ولست ممن يروجون الأخبار والشائعات كما ذكر بعض الناس أن هناك من أسلم أقول جزما هناك من أسلم ، وهناك من يراجع موقفه من عداءه الإسلام أو فقه به أو معرفته له والخيرات والبركات في هذا كثيرة، لكنني أقول إن من قضايا التربية المهمة في هذه المقاطعة أنها تذكرنا بأهمية أن نكون أمة مرفوعة الرأس {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}
أمة الإسلام أمة عز لا تقبل الذل مطلقاً .
ثم أمر رابع وهو مهم وهو في غاية الأهمية: المقاطعة تشجيع وتقوية، كيف؟ عندما تترك تلك البضاعة عما ستبحث، أقول لكم لا تبحثوا عن بضاعة أخرى من بلد مشابه ومماثل، ابحث عن بضاعتك الوطنية، ألسنا ندعوا دائما إلى الموطنة والوطنية ودعم المنتجات الوطنية، هذه فرصتنا، هذه بعض الآثار العظيمة النافعة المفيدة لمقاطعتنا، اشتروا بضائعنا فإن لم يكن فليكن جانب آخر وهو بضائع أمتنا الإسلامية وهي ليست دولة ولا خمسا ولا عشرا، إنها بالإحصاء في منظمة المؤتمر الإسلامي سبع وخمسون دولة منها دول صناعية كبيرة إلى حد ما بالمقارنة بغيرها، منها دول تعداد سكانها يبلغ مائتين وثلاثين مليونا، منها دول عندها صناعات تشمل معظم الأشياء، إذاً فيكن ذلك تقوية لنا بدل من أن نجد بعض دولنا الغنية الاقتصادية، بل هذه الدراسة تقول: "إن مجمل الاستثمارات الخارجية للدول العربية خمسة وثمانون بالمائة منها خارج العالم العربي والإسلامي والذي بين العرب والمسلمين منها خمسة عشرة بالمائة فقط" .(/4)
لم لا نعكس الآية شيئا فشيئا، إن المقاطعة سبيلنا لذلك، وهي التي تدلنا عليه وتوجهنا له وفيها تشجيع على الاستقلالية، اليوم نشتري وغدا سنشتري وبعد غد سنشتري، وبعد عشر سنوات سنشتري وبعد عشرين سنة سنستورد إلى متى، ألا ينبغي أن نكون مستقلين في كثير مما نحتاج إليه من الأمور الأساسية، فليكن هذا تذكير لنا، كيف يذكرنا هذا، إذا قلت هذه من هنا ولا أشتريها وهذه من تلك البلد ولا أشتريها، إذاً ستجد نفسك خاليا، ماذا ستصنع ترجع إليها لا، عد، وأعني بذلك ليس فرد بل مجموع الأمة، وعودا إلى أنفسكم راجعوا أنفسكم، أين تضعون أموالكم، في القنوات الفضائية التي تنشر العهر والعري والفساد، أليس جديراً بكم أن تحولوها إلى الإنتاج والصناعة، فتنفعوا أمتكم وتقوا جانبها وتعطوها استقلاليتها، بدلا من أن نأتي بهذه الأموال ونأتي ببضاعة القوم ونبثها بين أبناءنا فنفسد عقولهم ونحرف سلوكهم ونسمع الأفاعيل القبيحة الرذيلة التي نعرفها في تلك الفضائيات أعني في معظمها أو في كثير منها، وهكذا نجد هذا أمرا بينّاً واضحاً.
وأخيراً وليس بآخر ؛ فإن مثل هذه الأمور هي من الأمور المهمة في الواقع المعاصر اليوم، وأريد أن أقف مع آخر نقطة وهي التأثير ؛ لأن بعض الناس وقد رأيت من كتب في هذا في صحفنا، يقول: "هل تظنون أنكم تستطيعون أن تؤثروا على اقتصاد أولئك أو هؤلاء" وأقول: هؤلاء لا يفهمون كثيراً وأحسب أنهم بحاجة إلى مراجعة عقولهم، إن عصر اليوم عصر المادة، لو أن شركة تربح مائة مليون في العام، فإذا ربحت في العام الذي بعده تسعة وتسعين مليونا وتسعمائة ألف وتسعة وتسعين دولاراً، أي نقص دولاراً واحداً فسوف تعيد حساباتها وتفصل بعض موظفيها وتعيد خططها ..
لن نوقف كل ما يبيعونه ؛ لأنهم يبيعون في عالم واسع، لكننا سنجعلهم يقفون وقفة مهمة وقد رأيناها في هذا النموذج الذي رأيناه .
وأذكر نموذجا غير إسلامي، لئلا يقال إننا نحن المسلمين مهووسون بالأعداء .. غاندي زعيم الهند المعروف الشهير، ماذا صنع عندما أراد أن يخرج بريطانيا التي كانت محتلة لبلاده؟ دعا إلى العصيان المدني، عدم التجاوب مع العدو وإلى المقاطعة الاقتصادية بكل صورها، حتى كانت دعوته أن نقاطع بضائعهم وعاداتهم وتقاليدهم، فكان يحرص على أن يلبس اللباس الهندي الأصيل ولا يلبس لباس الفرنجة أو البريطانيين، وضل كذلك حتى خرجت بريطانيا من أثر هذه المقاطعة المباشرة الطويلة العظيمة الواسعة في أعدادها عام سبعة وأربعين وتسعمائة وألف، وخلد هذا الرجل كزعيم قومي عظيم في بلاده وبين قومه، وهذا تأثير واضح وبين.
وأخيرا آخذكم إلى جهة مقابلة أختم بها حديثي، الاستهزاء بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، قالوا لنا إنه حرية تعبير، وبحمد الله أنه كشف بلسانهم قبل أن يكون بلساننا أو بموقفنا، عميد الأدب الألماني حائز على جائزة نوبل للآداب، صرح تصريحات خلاصتها: أن هذه الصحيفة لم تكن على جهل بحقيقة الاستهزاء بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم بل كانت تعرف كما يقول: كان المحررون في هذه الصحيفة يعلمون أن الإسلام يحرم الرسم أو الانتقاص لله عز وجل وللرسول صلى الله عليه وسلم، وقد استعانوا بخبير دنمركي في الشئون الإسلامية وحذرهم من ذلك، ثم فعلوا فعلتهم، فليس صحيحا أنهم كانوا يجهلون، وجاءت صحيفة بريطانية وأخرجت المخبوء وأنه في عام ألفين وثلاثة عرض على تلك الصحيفة رسوما استهزائية لسيدنا عيسى عليه السلام، نحن لا نقول استهزاء بأي أحد من الرسل بل نحن نعظم عيسى وموسى عليهما الصلاة والسلام أكثر من تعظيمهم .. لأنهم لا يعرفون الدين ولا يعرفون حق الأنبياء لكنها رفضت النشر وبررته بأنه سيثير غضب كثير من الناس .
وفي مؤتمر دافوس الشهير خرجت مقالة في مجلة منتدى مرت مرورا وفيها طلب مقاطعة الكيان الصهيوني حتى ينفذ قرارات الأمم المتحدة، فقام رئيس المنتدى معتذرا، وسحبت المجلة وأعيد طبعها بدون هذا الخبر وأصبح الأمر حديثا مع الاعتذار، ولست أدري أين ذهب حرية التعبير في هذا والأمر ظاهر بين ..
وأقول قاطعوا ولنا في هذا الحديث مزيد نسأل الله عز وجل أن ينصر دينه وكتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا من أهل النصرة والانتصار للنبي المختار صلى الله عليه وسلم .
أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :(/5)
في شأن المقاطعة أحاديث كثيرة لكنني أقول ركزوا ولا تشتتوا على من كان مباشرا في الإساءة واعرفوا الأصل وهو أن من أساء إلى ديننا أو اعتدى على ديارنا أو ظلم إخواننا أو ألحق الضرر بأبناء ملتنا، فينبغي أن يكون لنا منه موقف، فليست القضية محصورة في هذه الدائرة لكنها قد تكون دائرة أولية حتى تؤتي ثمارها، ولنا كما قلت أحاديث تتعلق بجملة ما نحن في صدده في مثل هذه المواجهة الحضارية الفكرية العقدية كما نرى شواهدها، أختم بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أعلق عليه بشيء، في سنن الترمذي من حديث أبي عبيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(كان أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل فيهم يرى أخاه على الذنب فينهاه عنه وإذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض وأنزل الله فيهم {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم} وبين الحق عز وجل علة ذلك {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه})
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مادمت أنكرت المنكر كيف يسوغ أن تكون أكيله و قعيده وشريبه)
وإن كنت أنكرت هذه الإساءة فكيف تكون مموله وداعمه وناصره بالمال .
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه ردا جميلا خذ اللهم بنواصينا إلى طريق الحق والسداد وألهمنا الرشد والصواب..(/6)
المقاومة الشيشانية.. روعة النجاح أم رقصة الطائر الذبيح؟
12/08/2003
د.عاطف معتمد عبد الحميد*
قد لا يرى الكثيرون في سلسة الهجمات التي شنها المقاتلون الشيشان ضد الروس مؤخرًا أكثر من حلقة في مسلسل حرب الاستنزاف التي لن تغير من الأمر شيئًا، وقد يراها بعضنا نصرًا جديدًا يضاف إلى النجاح العسكري لحرب الأنصار والمريدين.. أما أخطر الآراء التي قد ترد إلينا فهي أن مسلسل الهجمات لا يعدو أكثر من الرقصة الأخيرة التي يرقصها الطائر الذبيح، وذلك عشية تحضير روسيا لانتخابات رئاسية في الشيشان، والتمهيد للإعدام السياسي لزعماء المقاومة بتشكيل حكومة موالية ودستور جديد يضمن بقاء الجمهورية "المارقة" ضمن الفيدرالية الروسية.
وقبل أن نترك لخواطرنا الاستئناس بأي من الأفكار الثلاثة السابقة، حري بنا أن نمعن النظر في مشهدين رئيسين سيطرا على مسرح الصراع الروسي- الشيشاني في العام المنصرم، وهما: التغير النوعي في سلوكيات حركة المقاومة، والتفنن الروسي في المراوغة السياسية. والمشهدان مترابطان معا ويؤدي كل منهما إلى الآخر.
تابع في هذا المقال:
{ ... التغير النوعي في حركة المقاومة
{ ... المراوغة السياسية الروسية
التغير النوعي في حركة المقاومة
من مراجعتنا لمسلسل المقاومة الشيشانية خلال العام الفائت، وبالاستعانة بالشكل المرفق، نلاحظ أن المقاومة تسير بشكل منتظم بمتوسط 1.5 عملية شهريا (شهدت بعض الشهور خمس عمليات متتابعة)، وبخسائر في صفوف الروس متوسطها 31 قتيلا شهريًّا (شهد شهر مايو الماضي وقوع 105 قتلى، وذلك خلال احتفال موسكو بأكبر نصر عسكري لها في تاريخها وهو ذكرى هزيمتها لألمانيا الهتلرية).
ويسجل على هذه العمليات عديد من الملاحظات:
1- إصابتها ضحايا من المدنيين، سواء في روسيا أو في الشيشان. والسبب الرئيسي هو صعوبة حركة المقاومة بين العسكريين الروس من جهة، وتعمد الحركة لضرب المدنيين من جهة ثانية، فهي حينما تضرب مدنيين شيشانيين فإنهم غالبا ما يكونون من المتعاونين مع موسكو والمساهمين في الإرشاد عن أنصار المقاومة واجتياح بيوتهم. وفي هذا الشأن يعد رئيس الإدارة الشيشانية المؤقتة أحمد قاديروف واحدًا من الأهداف الرئيسية لضلوعه في الاعتقال ومداهمة منازل الشيشانيين (رغم تاريخه السابق في حركة المقاومة إبان حكم جوهر دوداييف الرئيس الشيشاني المُغتال).
أما استهداف المدنيين في روسيا فيبدو أن هدفه الرئيسي إبلاغ رسالة مفادها أن للمقاومة يدًا طولى تستطيع أن تتعدى بها الحدود الإقليمية لنفوذها. ويلاحظ في هذا الشأن حرص الحكومة الشيشانية المطاردة على شجب هذه العمليات والتبرؤ منها ربما كجزء من قواعد اللعبة السياسية.
2- وفي هذا الصدد يسجل غياب قادة المقاومة الشيشانية عن الإعلام الغربي، والروسي بالطبع، كما لا تتاح لهم الفرصة للتعبير عن وجهة نظرهم، فضلا عن عزوفهم عن إصدار البيانات أو إرسال الشرائط المسجلة على غرار النموذج الطالباني أو العراقي مؤخرًا. وتسعى موسكو إلى الضغط على دول العالم لتسليم بعض الشخصيات السياسية الشيشانية، وأشهرها:
* مولادي أودجوف المنظر الشيشاني لعمليات المقاومة، والذي يعيش في تركيا وترفض الأخيرة تسليمه.
* أحمد زكاييف المبعوث الأوربي للرئيس الشيشاني أصلان مسخادوف، والذي تمتع بضيافة عديد من الدول الأوربية إلى أن اعتقل في لندن وينتظر المحاكمة التي ستحدد تسليمه إلى موسكو أو توقيع العقوبة عليه وربما تبرئته.
* الرئيس الشيشاني السابق ياندرباييف اللاجئ السياسي في قطر، والمتهم بالدعم المالي لحركة المقاومة.
* الرئيس الشيشاني الحالي المطارد من القوات الروسية أصلان مسخادوف الذي يتحصن مع قادة المقاومة في جبال الشيشان جنوب البلاد، ويديرون شبكة من المقاومة عبر وسائط عدة للاتصال. وتثار في بعض الفترات اتهامات روسية لجورجيا بتقديم الدعم لقادة المقاومة الشيشانية خاصة بصواريخ أرض- جو المسئولة عن إسقاط المروحيات العسكرية الروسية.
3- وفيما يخص تقنية المقاومة فقد احتل إسقاط المقاتلين لمروحيات روسية المرتبة الأولى في عام 2002 بينما احتل الهجوم الاستشهادي المرتبة الأولى في النصف المنصرم من عام 2003؛ وهو أسلوب جديد لم يكن متبعًا من قبل ودخل إلى ساحة المقاومة بقوة منذ عملية مسرح موسكو في أكتوبر 2002. ويبدو أن ثقافة المقاومة الاستشهادية الفلسطينية صارت المنهج الأكثر بروزًا على المسرح الشيشاني في العام المنصرم.
4- ومن زاوية أخرى احتلت المرأة الشيشانية مكانة الصدارة في مستوى عنف عمليات المقاومة عبر مسلسل متوال من العمليات الفدائية. وقد قامت المرأة بعدة عمليات مؤثرة (17% من إجمالي عمليات العام ونصف العام المنصرمين) وركزت في الأساس على عنصر المباغتة واختارت العاصمة موسكو (شاركت 20 امرأة في عملية مسرح موسكو في أكتوبر 2000)، أو وسط تجمعات لجنود روس في الشيشان.(/1)
ولعل ما تعرضت له النساء الشيشانيات من قتل الزوج والابن والأب (1800 رجل قتلتهم القوات الروسية على مدى الأشهر الستة الماضية فقط)، ناهيك عن جرائم الاغتصاب والتشريد؛ هو الدوافع الرئيسة وراء قيام عناصر نسائية بتلك الأعمال شديدة الدقة والجرأة. فالتقاليد القوقازية الصارمة المدفوعة بمبادئ الشهادة الإسلامية وجهاد من قتلوا الأب والزوج تقف بقوة وراء تطوع الشيشانيات للعمل الاستشهادي اعتمادًا على اليسر النسبي في حركتهن داخل التجمعات الروسية في وقت يتعرض فيه القوقازيون لتوقيف مستمر في المدن الروسية وملاحقة متتابعة لسهولة التعرف على ملامحهم وسط العرق الروسي السائد.
واختزل فاليري فيرشاجين الباحث في شئون القوقاز الأمر بقوله: إن هؤلاء النسوة "فقدن على أيدي الروس كل ما يخفن عليه، وصار هدف الانتقام أسمى الغايات بعد أن أجبرن على السير في نفس المسار الذي سارت فيه النساء الفلسطينيات".
واعتبرت منظمة حقوق الإنسان الروسية "موموريال" -التي ترصد انتهاكات موسكو لحقوق الإنسان- أن ما تقوم به النساء الشيشانيات من "انتحار" عمل يرفضه الإسلام وترفضه التقاليد القوقازية التي تحترم المرأة وتقدس دورها "المدني"، أو كما رأى بعض المراقبين الروس فإن أصلان مسخادوف نجح في "غسل أدمغة هؤلاء النسوة، كما نجح قادة حماس في الوظيفة نفسها من قبل حينما قمن بالاستشهاد أو استقبلن نبأ استشهاد أبنائهن بالزغاريد".
5- أما عن جغرافية عمليات المقاومة فقد كانت العاصمة جروزني المكان الأول على مدى عام 2002. وشهدت نهاية عام 2002 والنصف الأول من 2003 خروج عمليات المقاومة إلى خارج جمهورية الشيشان وخاصة إلى العاصمة موسكو. وهنا قضية شديدة الحساسية في تجاوب الشعب الروسي مع قضية استقلال الشيشان، فمن ناحية هناك ملايين الروس الذين يؤمنون بحق الشيشان في الاستقلال وضرورة انسحاب روسيا منها (بلغت نسبتهم في عديد من استطلاعات الرأي أكثر من 55%)، بيد أن وصول العمليات "الاستشهادية" إلى المسارح والشوارع وساحات الاحتفالات يسحب جزءًا مهمًا من هؤلاء إلى فريق الكارهين لمسعى الاستقلال.
ولكن ألا يدري منفذو العمليات الفدائية هذه التداعيات؟ واقع الأمر أن هناك وعيا من قبل حركة المقاومة بهامشية الدور الذي يمكن أن يلعبه تعاطف المواطن الروسي مع الحق الشيشاني في الاستقلال، نظرًا إلى عدم فاعلية المشاركة السياسية للمواطن الروسي، وخاصة إذا مس الأمر قضايا الأمن القومي وشؤون المؤسسة العسكرية. وحتى الآن لم تفلح مظاهرة واحدة في الشارع الروسي في تغيير شيء من واقع الأمور في الشؤون الداخلية فضلاً عن إنهاك المواطن الروسي اقتصاديا؛ الأمر الذي يقلل فرص المشاركة في "ترف التظاهر".
وهكذا يبدو المكسب الأول لنقل العمليات الانتقامية إلى العاصمة موسكو جذب الانتباه إلى القضية ومحاولة تغير التشويه المعلوماتي الذي تمارسه روسيا.
6- وعلى مسار التعتيم الإعلامي استنكر بعض المفكرين الغربيين المتعاطفين مع القضية الشيشانية تناقض سلوكيات المجتمع الدولي تجاه ما يمارسه شارون في فلسطين وما يمارسه بوتين في الشيشان في الوقت ذاته. وفي ذلك أعطى جاكسون ديل في واشنطن بوست (29/4/2002) مثالا قارن فيه كيف يتابع العالم بشغف اقتحام المخيمات الفلسطينية عبر عدسات أكثر من 1000 صحفي في وقت لا يوجد سوى صحفيين فقط في الشيشان يتابعان ما يجري بها من انتهاكات. بل إن العالم أبدى قلقه لقيام شارون باجتياح بلدة صغيرة مثل جنين في أبريل 2002 ولمرة واحدة خلال ثماني سنوات في الوقت الذي كانت قوات بوتين تجتاح بلدة بنفس الحجم وهي "تسوتسان يورت" 33 مرة خلال 3 سنوات.
وهكذا فهناك ما يبرر حرص حركة المقاومة على الظهور على مائدة الأحداث العالمية، ساعية إلى تحقيق نصر معنوي يرفع من عزيمة المقاتلين ومؤيديهم، ولسان حال هؤلاء أن احتجاز الرهائن وقتل المدنيين عمل إجرامي لا جدال فيه، ويخالف مبادئ المحارب القوقازي المسلم! ولكن.. هل فيما تفعله روسيا "العظمى" -تقول المقاومة- من قتل وتشريد واغتصاب واعتقال، ما يتفق مع أي مبادئ للشرف العسكري، دع عنك الإنساني؟
وفي هذا الشأن قد يأتي هذا النوع من العمليات بهدف استعادة جزء من العقل الجمعي الإسلامي الذي انصرف عن القضية الشيشانية منذ مطلع العام الحالي مع أجواء الغزو الأنجلو أمريكي للعراق والسقوط المهين لبغداد، وما تلاه من خيبة أمل وزعزعة الإيمان في جدوى "المقاومة".
6- ويجب أن تعترف حركة المقاومة بما تسببه عملياتها خارج الشيشان من ضرر بليغ للشيشانيين في المدن الروسية الكبرى حيث يتعرضون للتوقيف والاعتقال، وتلفق لهم تُهم تعاطي المخدرات وتجارتها، ويلاحق أولادهم في المدارس فيفصلون لعدم التسجيل الرسمي، ويفقدون مصادر رزقهم.
وقد رصدت هيومان رايتس ووتش في تقريرها عن انتهاكات روسيا في الشيشان عرضا مفصلاً لنماذج من هذه الانتهاكات.(/2)
وحسب هذا التسلسل في الأحداث فإن صورة المقاومة قد تتعرض للتشويه لدرجة أعلن معها بوتين بعيد حادثة تفجير حفل موسيقى في موسكو (5/7/2003) أن "المقاتلين الشيشان أخطر عناصر شبكة الإرهاب العالمية". ولعل ذلك قد دفع بالبعض فسار وراء فكرة المؤامرة وافترض تدبير موسكو بعضًا من هذه الحوادث لتكريس حربها في الشيشان اعتمادًا على "خبرة" المخابرات الروسية في هذا النهج. (**)
وواقع الحال أن حركة المقاومة في موقف شديد الحساسية، وتقف حائرة أمام عديد من الملابسات التي تلقي عليها بالمسؤولية، وهي لا تملك أن تلقي بسلاحها بعد هذا المشوار الطويل من الصراع. كما أنها -وإن كانت تدري مدى شراسة الجيش الروسي في التنكيل بالشيشانيين بسبب نشاطها- تعلم في الوقت ذاته أن لغة القوة هي التي أجبرت روسيا عامي 1996-1997 على أن تقتنع، بعد مسلسل شيشاني من الضربات الموجعة ومعارك شوارع شديدة الجرأة، بإمكان قبول استقلال الشيشان، بل واضطر بوريس يلتسين نفسه أن يوكل مستشاريه للجلوس مع زعماء المقاومة للاتفاق على تأجيل قرار الاستقلال إلى عام 2001.
المراوغة السياسية الروسية
منذ أن بدأت حربها الثانية على الشيشان (1999-2001) تسير موسكو على محورين متوازيين هما: السحق العسكري لقوات المقاومة ومن يتعاون معها، والخداع السياسي في صياغة موقفها من مشروع الاستقلال الشيشاني. ولعله من المفيد أن ننظر إلى المحور الثاني عن كثب، وفيه سنجد موسكو قد دأبت على مدى العام الفائت في الترويج لثلاثة مشروعات سياسية ظاهرها إقرار السلام في الجمهورية التي أعيتها الحرب، وهذه المشروعات الثلاثة هي: دستور جديد للجمهورية، قرار بالعفو عن المقاتلين الشيشان، والتجهيز لانتخابات رئاسية.
الدستور
في شهر مارس من عام 2003 -وفي فترة كان العالم الإسلامي يحبس معها أنفاسه وهو يشاهد السقوط المتداعي للمدن العراقية- أجرت روسيا عملية انتخابية في الشيشان للتصويت على دستور جديد للشيشان. فالدستور "القديم" (الذي صيغ خلال فترة إعلان الاستقلال من جانب واحد في نوفمبر 1991) حدد علاقة روسيا بالشيشان بالانفصال التام، وتبع ذلك رفض الشيشان التوقيع على دستور الفيدرالية الروسية في يونيو 1992، باعتبار أن الأمر لا علاقة لها به (فهي دولة مستقلة آنذاك).
وبعد الحرب الشيشانية الأولى وقعت روسيا والشيشان اتفاقية في أغسطس 1996 أرجأت البت في استقلال الشيشان عن روسيا إلى عام 2001. وجلست موسكو في العام التالي (1997) مع حكومة أصلان مسخادوف، وتم التوصل إلى اتفاقية سلام بين الجانبين.
غير أن الحرب الثانية التي شنها الكرملين في سبتمبر 1999 حققت لروسيا التحلل من الالتزام بالتفاوض حول استقلال الشيشان قبل أن يأتي عام 2001، ولتتحرر روسيا نهائيًا من التفاوض حول أي شكل من أشكال الاستقلال الشيشاني. وقد أعلنت موسكو منذ حربها الثانية رفض التحاور مع أصلان مسخادوف وأعوانه، وصنفتهم هذه المرة بالعصابة الإرهابية، كإعدام سياسي بدا بديلا عن الإعدام الجسدي المستعصي على الجيش الروسي.
وهكذا شهدت الشيشان في مارس 2003 استفتاء (أو بالأحرى مسرحية ديمقراطية) على دستور جديد للجمهورية. وبدلا من أن يكون الخيار المطروح أمام المصوت الشيشاني هو "هل تفضل بقاء الشيشان ضمن روسيا أم استقلالها؟" جاء السؤال: "هل توافق على إقرار السلام في الشيشان؟!" وكان على شعب الشيشان الذي نزف الدم الغزير أن يقف متسائلاً: "أي سلام؟ ومن يمنحه لمن؟".
وبإعراض الهيئات الغربية عن حضور هذه اللعبة، أعلنت روسيا عن نتيجة الاستفتاء بموافقة أغلبية الشعب الشيشاني (واللاجئون منهم في جمهورية أنجوشيا المجاورة) على الدستور الجديد الذي نص على أن تبقى الشيشان ضمن الفيدرالية الروسية مع إقرار حقها في مجلس برلماني وحكومة منتخبة وتوسيع صلاحيات الحكم الذاتي! وهو أمر لم يقدم إلا تكريسًا لرغبة موسكو في بقاء الشيشان تحت سيطرتها حيث نص مشروع الدستور على "الاتحاد بين روسيا والشيشان، وأحقية رئيس روسيا في إبطال سلطات الرئيس الشيشاني".
وقد جرى التصويت على مشروع الدستور في غياب مراقبين من الدول الأوربية (حضر مندوبون من منظمة التضامن الأفروآسيوي!)، وسعى الشيشانيون من خلال التصويت إلى الحلم بحياة لن تكون بأي حال من الأحوال أسوا مما هو قائم.
العفو(/3)
في خطوة تالية قامت روسيا بطرح مشروع قانون على مجلس الدوما للتصويت على قرار حكومي بالعفو عن المقاتلين الشيشانيين الذين يسلمون أسلحتهم، بشرط ألا يكونوا قد ارتكبوا جرائم قتل من قبل. وبهذا الشكل كان مشروع القرار (الذي حظي بموافقة أغلبية البرلمان في 6/6/2003) استعراضا سياسيا، بدت معه موسكو ساعية إلى التسامح، وبانية للديموقراطية. وما لم يكن ظاهرا بوضوح في مشروع العفو، هو العفو عن مئات الجنود الروس المدانين بارتكاب جرائم في الشيشان، كاغتصاب النساء وقتل المدنيين وحرق دور الأبرياء والتمثيل بجثثهم. وقد سجلت منظمة العفو الدولية أحدث تقاريرها في مطلع يوليو 2003 بشأن مفهوم العفو عن الشيشان في أجواء انتهاكات القوات الروسية.
وبطريقة خلط الأوراق، بدا السؤال المنطقي "من يعفو عن من؟" وبامتلاكها الأحادي لوسائل الإعلام قامت روسيا بعرض صور متلفزة لعشرات الشيشانيين وهم يسلمون أسلحتهم وتعلو وجوههم علامات الخجل (المسرحية)، بطريقة كانت مشابهة للحرب النفسية لاستسلام الجنود العراقيين في الأيام الأولى من غزو العراق. وبحلول الأول من أغسطس 2003 انتهت المهلة التي "منحتها" موسكو للمقاتلين لإلقاء أسلحتهم دون أن يخرج المقاتلون من الغابات والجبال لتسليم أنفسهم. ويمثل قرار العفو الحلقة الوسيطة بين صياغة دستور للجمهورية وإجراء انتخابات رئاسية في نهاية العام 2003.
الانتخابات
أعلنت موسكو الخامس من أكتوبر 2003 يومًا لانتخاب الرئاسة الشيشانية بحيث تكون هذه الانتخابات نهاية جدل الارتباط العضوي بين الجمهورية (كمنطقة أطراف) وموسكو (كمركز للاتحاد الفيدرالي). وينتظر كثيرون أن يكافأ أحمد قاديروف رئيس الإدارة الشيشانية الحالية بدعم موسكو في هذه الانتخابات.
ويبدي بعض المراقبين تحفظهم من أن موسكو قد لا تدعم قاديروف أمام مرشحين آخرين من رجال الأعمال والساسة القاطنين في موسكو وذوي الأصول الشيشانية بحجة أن قاديروف ربما تقوى شكيمته وينقلب على موسكو، وهو الذي أكل على موائد مختلفة، فانتقل من صفوف حركة الجهاد والمقاومة إلى التصالح مع موسكو وقتال "الإخوان" السابقين.
غير أن وجهة نظرنا قد تتفق مع افتراض دعم موسكو لهذا الرجل رئيسا، وأن ذلك سوف يحقق مزيدًا من الضعف السياسي في الجمهورية. فالرجل معروف للشيشانيين بتلونه السياسي، وهو الذي دعاهم من قبل إلى أن يقتل كل فرد منهم 150 روسيا لتحل مشكلة روسيا مع الشيشان، وهو الذي كان المفتي السابق في حكومة جوهر دوداييف، وهو الآن الذي يدعوهم -بتاريخه الديني السابق وسلطته السياسية الحالية- إلى محاربة "الانفصاليين"، بل ويعتقل من يتعامل معهم ويهدم بيته.
وبهذا الشكل فإن سيناريو الاقتتال الداخلي بين حكومة عميلة وحركة مقاومة ربما يكون هو أكثر السيناريوهات توقعا في الفترة القادمة، وستحقق روسيا من ذلك حفظ ماء وجهها، وستترك الشيشانيين "يصفون حساباتهم" بأفغنة الأوضاع السياسية الداخلية، عبر دعم عسكري وتشكيل طابور خامس يضمن بقاء الشيشان في المأساة لردح من الزمن.
ولقد استطاعت موسكو بالفعل التخلص من جوهر دوداييف بدعم المعارضة الداخلية في عام 1994؛ وهو ما اضطر الأخير إلى التحالف مع الإسلاميين لمواجهة التدخل الروسي في الجمهورية.
على مفترق الطرق
بالمراوغة الثلاثية السابقة (الدستور- العفو- الانتخابات) ترمي روسيا بالشيشان في منعطف زلق لا تبدو معه آمال في الاستقرار. فالوضع ربما يسير بتدعيم أعمدة الصراع القديمة، وهي:
1- مزيد من تدعيم الحكومة الموالية لموسكو ماليا وعسكريا وإعلاميا، مع تغلغل داخلي في أوساط الشيشانيين بالترغيب تارة (تعويضات مالية عن الدور المهدمة، أو التعيين في وظائف حكومية كالشرطة الشيشانية) مستغلة مناخ البطالة والفقر، والترهيب تارة أخرى (التهديد بالقتل والاعتقال).
2- مطاردة عناصر المقاومة وتضييق الخناق عليهم، مع الاستعداد المبدئي لتحمل وقوع عملية كل عدة أشهر. ولا قلق لدى روسيا في هذا الشأن، فمعركة البقاء أعلى من خط الفقر تشغل بال الجميع، وحوادث القتل والاغتيال لأسباب سياسية أو مالية ليست بمستغربة على الشعب الروسي، ومساحات التظاهر معدومة أو مختنقة.
3- روسنة الشيشان بإتاحة فرص أكبر للتأثير الثقافي الروسي في الجمهورية بتقوية البث التلفزيوني لكافة قنوات التلفزة، وإحلال ثقافة التمييع ومسخ الهوية مع السعي لإقرار خطة طويلة الأمد لخلق جيل جديد يسعى إلى التعايش والمصالحة مع المركز.(/4)
وفي هذا الصدد يثير الانتباه توجه بعض المتابعين للشأن الروسي (صحيفة الأهرام، 19/7/2003) إلى التعويل على إمكان قيام حوار حضاري روسي-شيشاني في المستقبل، ويضربون لذلك أمثلة عدة منها الحوار الفرنسي- الروسي، والروسي- الألماني، رغم ما وقع بين هذه الدول من حروب ومآس سقط إثرها ملايين القتلى، وحرقت معها مدن بأكملها. وفى رأينا أن المقارنة لا تستقيم في الحالة الشيشانية، فالعلاقة بين فرنسا وألمانيا وروسيا علاقات ندية بين دول استعمارية مثلت دول المركز، بينما الحالة في تعامل روسيا مع الشيشان (المركز تجاه الأطراف) لا تتم عبر أي أسس من الندية بل تمثل ثنائية السحق-المعاناة معلمه البارز.
4- وسيظل الصمت الدولي هو استجابة العالم تجاه المأساة، ولن يمنع هذا من أن يخرج تقرير كل فترة لمنظمة من منظمات حقوق الإنسان عن انتهاكات القوات الحكومية. أما الجيران الأقرب للمنطقة (تركيا وإيران) فتعنيهم بالدرجة الأولى اعتبارات اقتصادية، وبالنسبة للجيران البعيدين الممثلين في دول العالم العربي فلدى هذه الدول ما يكفيها من مشكلات وربما لا يزيد الأمر عما هو حادث الآن من كتابة مقال هنا أو هناك والتبرع (الشعبي) لهيئات الإغاثة الإنسانية.
وسيستمر الرفض الرسمي لظاهرة "مجاهدي الشيشان العرب"، ولن يكون مصيرهم عند العودة أفضل من مصير "مجاهدي أفغانستان".
وستظل القناعة غير المعلنة بين الغرب وروسيا مفادها أن الأخيرة أكبر من أن تواجه بعمل عسكري من قبل القوات الأورو-أمريكية، لأنها أولاً تحارب داخل أراضيها، ولأنها تحارب "إرهابيين" شأنها في ذلك شأن دول "العالم الحر" الساعية لحماية الأمن والديموقراطية.
ومن زاوية أخرى، فيبدو أن الغرب يروقه انشغال روسيا بأزمة داخلية (إضافة إلى معضلة بناء دولة قوية خالية من الفساد)؛ وهو ما يصرفها -ولو إلى حين- عن المطالبة بدور محوري في القارة الأوربية، ناهيك عن رضا الولايات المتحدة بهذا الانشغال عن المطالبة بإعادة تشكيل النظام العالمي أحادي القطب.
وفي النهاية سيظل الشعب الشيشاني هو الذي يدفع أفدح الأثمان في صراع موسكو-المقاومة، بين تشريد وقتل واغتصاب. وسيظل يبحث عن إجابة لتلك الأسئلة الجدلية على شاكلة: هل يستحق دخول دولة جديدة في الأمم المتحدة بعلم ونشيد وممثلين دبلوماسيين كل تلك الأنهار التي أريقت من دماء، والتي ستراق في المستقبل؟ هل يستحق حلم تحقيق هذه الدولة محاربة دولة متغطرسة مفتونة بالتوسع والإمبراطورية؟ وهل ستنجو الشيشان المستقلة من الحرب الأهلية، والتناحر السياسي ومؤامرات روسيا؟ وهل ستملك الشيشان المستقلة مقومات دولة ينعم فيها الشعب بأبسط حقوق الحياة؟
المهم في الأمر أن الشعب الشيشاني يفاضل بين خيارات تقطر مرارة بين التبعية لموسكو -التي لن تلتفت للنهوض بجمهورية نائية كالشيشان ولن تعطيها حقوقها الثقافية والدينية- وبين مناصرة المقاومة التي تضيف بكل عملية من عملياتها متاعب جديدة للشيشانيين في كل مكان.
ولعل المؤسف أن الشعب الشيشاني لا يملك تحديد أقل الخيارات مرار(/5)
المقاومة العراقية بعد سنوات ثلاث.
المصدر: مفكرة الإسلام
البداية:
منذ أقل من ثلاث سنوات وبعد سقوط بغداد، لم يكن يحلو لوسائل الإعلام وصف المقاومة العراقية الناشئة إلا بفلول صدام ترديدًا للوهم الأمريكي
الذي ظن للحظة أن سقوط بغداد هو الخطوة الأخيرة في المشروع الأمريكي لإعادة تقسيم العالم من جديد، غير أن المقاومة الصامدة نجحت في تبديد الوهم ومع الأيام تحولت إلى قوة فاعلة، وصارت العبوات الناسفة محلية الصنع التي سخر منها الكثيرون، صارت أكبر تحد يواجه القوات الأمريكية الأمر الذي أقر به الرئيس الأمريكي جورج بوش في الخطاب الإذاعي الأسبوعي له، بل وجدنا الرئيس الأمريكي يصف رجال المقاومة بقوله "إنهم أقوياء الإرادة" مدللاً بذلك على أن المقاومة لن تنتهى في القريب العاجل، وهذه شهادة تندرج تحت باب "وشهد شاهد من أهلها".
قد يكون من الصعب في هذا المقال الإلمام بالمراحل التي مرت بها المقاومة العراقية حتى وصلت إلى هذه الدرجة من الفعالية والقوة، غير أننا نورد هنا بعضا من شهادات المحللين الغربيين التي ترصد هذا المشهد، والتي نستطيع أن نجملها في النقاط التالي:
1- التدرج في القوة:
كانت بداية المقاومة بداية بسيطة، بضعة أفراد هنا وهناك، غير أنه مع النجاحات التي حققتها عناصر المقاومة تزايد أعداد المشاركين في المقاومة وبدأ ظهور المجموعات والتشكيلات القتالية التي اختفت أغلبها بعد أن توحدت في مجموعات أكبر، وكانت الخطوة التي تلك هذه المرحلة "مرحلة المجموعات الكبيرة" هي مرحلة التنسيق بين مجموعات المقاومة وهو ما وضح جليًا في العديد من البيانات المشتركة التي أصدرتها مجموعات المقاومة.
إذًا، فقد تحولت هجمات المقاومة من مجموعات صغيرة من الرجال تطلق النار من بنادق كلاشينكوف إلى القنابل والعبوات الناسفة على الطرقات وهجمات مخططة بشكل جيد.
2- ممارسة حرب العصابات بكفاءة:
من أهم معالم المقاومة العراقية، أنها نجحت في ممارسة حرب العصابات مع قوات الاحتلال بشكل لا مثيل، حيث اعتمدت أساليب الكر والفر بشكل أرهق قوات الاحتلال وجعل أية عملية عسكرية أمريكية موعودة بالفشل حتى قبل أن تبدأ، يقول جيفري وايت، وهو محلل سابق في وكالة استخبارات الدفاع في مركز واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: "نستطيع فقط أن نسيطر على الأرض التي نقف عليها وعندما نغادر تسقط".
لقد شنت القوات الأمريكية الكثير من العمليات العسكرية ضد مدن المثلث السني، غير أن هذه العمليات رغم ضراوتها لم تغير الواقع كثيرًا حيث بقيت المقاومة تمارس حرب العصابات بذكاء.
3- التطور النوعي:
من مزايا المقاومة العراقية، التطور النوعي الواضح، حيث لم تكتف المقاومة بالأساليب التي تعلمتها من حركات المقاومة السابقة في أفغانستان وفلسطين والشيشان، ولكنها زادت عليها وأضافت عليها خبرة زادتها قوة، يقول "أنتوني كوردسمان" الخبير الاستراتيجي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن: "لقد تعلم "المتمردون" طرقاً وتكتيكات خاصة بالحرب السياسية والنفسية وحرب المعلومات".
سر قوة المقاومة:
أما سر قوة المقاومة فتكمن في الاستراتيجية التي اتبعتها والتي تعتمد على التدرج وعدم الاستعجال مع الثقة بالنصر الموعود، يقول تقرير أمريكي أعده محللون عسكريون نشر على موقع مجلة "نايت ريدر": من الصعوبة بمكان إلحاق الهزيمة بالمقاومة العراقية لأن هدف المقاومة ليس كسب حرب بالمعنى التقليدي، ولكن مجرد الاستمرار حتى يتم قهر إرادة قوات الاحتلال، ويشير التقرير إلى أنه ما لم تحدث تغيرات دراماتيكية -مثل تحول مفاجئ جديد من العراقيين برفض المقاومة أو مثلا تصعيد ضخم وكبير في حجم القوات الأمريكية-، فإن الولايات المتحدة لن تكسب الحرب الدائرة في العراق مطلقا.
لقد كانت استراتيجية المقاومة العراقية وواضحة وسهلة هي قهر قوات الاحتلال، مع هذا الوضوح تميزت تلك الاستراتيجية بالثبات مع قدر كبير من المرونة في التكتيكات والعمليات اليومية وهو أمر مكنها من مواجهة قوات الاحتلال، وصار القادة الأمريكيون يشتكون من التطور الدائم لأساليب المقاومة العراقية، على العكس من ذلك فإن قوات الاحتلال لم تمتلك استراتيجية محددة لمواجهة المقاومة، وليس ذلك غريبًا فالاحتلال الأمريكي استبعد في بادئ الأمر أن تكون هناك مقاومة، فما كان منه إلا أن فوجئ بقدرات المقاومة الباهرة.
قراءة في أدبيات المقاومة:
أجرت مجموعة الأزمات الدولية دراسة عن المقاومة العراقية اعتمدت فيها على قراءة بيانات وخطابات جماعات المقاومة، حيث لاحظت المجموعة أن مواقع الإنترنت "الجهادية" تقدم الكثير من الأدلة والمعلومات، لا يهتم بها الأمريكيون أو لا يستخدمونها ألبتة، وهي معلومات تقدم صورة عن شكل واتجاهات المقاتلين العراقيين.
وخلصت المجموعة في دراستها التي نشرت في فبراير الماضي إلى النقاط التالية:(/1)
1- واشنطن لا تزال تقاتل عدوا في العراق لا تعرف الكثير عنه، ولا تزال واشنطن تعيد تكرار تقديراتها عن قوة وقدرة المقاتلين أو المقاومة، مستخدمة الرموز العامة، مثل وصف المقاتلين بالصداميين، الإسلاميين الفاشيين، وهي الأوصاف تؤكد المجموعة أنه لا أساس لها من الصحة ولا تشير إلي واقع المقاتلين وجماعاتهم.
2- هناك نوع من الثقة بالنفس يدور داخل هذه الجماعات وهو الحس الواثق بالانتصار وهزيمة أمريكا على أرض العراق، وهذا الموقف لم يكن موجودا في البداية عندما أعلن المقاتلون جهادا مفتوحا على عدو جاء إلى العراق ليبقى، غير أن حرب الاستنزاف التي يخوضها المقاتلون ضد القوات الامريكية تحقق نجاحات، ويعتقد الباحثون الذين أعدوا هذا التقرير أن الفشل في قراءة المقاومة العراقية فهم ما تقدمه هذه الجماعات من خطاب يؤدي إلي ردود فعل سلبية.
3- توصل التقرير الى ان جماعات المقاومة العراقية تتسيدها مجموعة قليلة ولكنها قوية، ذات نظام اتصالات مقنع وتقني، ولهذا لم تعد مجموعات متفرقة، متشوشة، وفوضوية، بل منظمة تنظيما مركزيا قويا.
4- تقوم هذه الجماعات بالإضافة للعمليات العسكرية، بإصدار البيانات الإعلامية، وترد على الاوضاع السياسية، وتبدو المقاومة تابعة لجهاز مركزي قوي.
5- لاحظت الدراسة، حدوث نقلة أو تحول تجاه الممارسات الموحدة والخطاب الواحد الذي يدور في سياق الهوية السنية والمذهب السني، فقبل عام كانت المقاومة مختلفة حول خيار الممارسات والإيديولوجية، ولكن النقاش تم حسمه لصالح التفسيرات السنية، ومن هنا فالمقاومة العراقية الان تتبنى الخط السلفي المتساوق مع الوطنية العراقية، مما أدى إلى اختفاء الفروق بين المقاتلين العرب والأجانب والعراقيين.
6- الجماعات المقاتلة واعية لدور الرأي العام، ولهذا تهتم كثيرا بصورتها لدى هذا الرأي، ولأنهم واعون بخطر الردود السلبية من الرأي العام فأنهم في ادبياتهم يقومون دائما برفض اتهامات حول العنف الأعمي، ويرفضون الاتهامات التي تساق بأنهم يسعون لإشعال حرب طائفية، ويؤكدون خلافا لهذا صورتهم الساعية لحماية المدنيين، بل يحاولون أن يردوا علي الأمريكيين من خلال التأكيد علي وحشيتهم، بالتعاون مع ميليشيات طائفية لشن حرب قذرة، وانتهاكات السجون العراقية، ومحاولة الأمريكيين تعزيز الانقسام داخل المجتمع العراقي.
7- مع أن الخطاب الجهادي للجماعات قد يكون حماسيا، إلا إن الجماعات استطاعت الحفاظ على وحدة نوعية داخل قطاعاتها، في وقت ظهرت فيه تقارير تتحدث عن خلافات داخلية بين فصائلها.
هذه أهم النقاط التي خلصت إليها تلك الدراسة، وهي تعد معالم توضح طبيعة المقاومة والمراحل التي مرت بها، أما النجاحات التي حققتها المقاومة فتتمثل فيما يلي:
نجاحات المقاومة العراقية:
1- تدمير المشروع الأمريكي:
يوم أن جاءت واشنطن إلى العراق، كانت بذلك ترسم خطًا أوليًا في المشروع الأمريكي للعالم الجديد، غير أن المقاومة أفشلت هذا المشروع، فوفقًا لشهادة الجنرال [[دافيد ماكيرنان]] [قائد القوات البرية الأمريكية فيما بعد فى العراق] ـ فقد حدث فى اجتماع بين [[دونالد رامسفيلد]] وبين هيئة أركان الحرب المشتركة، وبحضور قائد المنطقة المركزية الچنرال [[تومى فرانكس]] وعدد من معاونيه ـ أن أشار وزير الدفاع إلى خريطة تملأ جدارا كاملا لقاعة الاجتماعات السرية، عارضا ما مؤداه: " إن نظرة على الخريطة تؤكد أن الولايات المتحدة محيطة من كل ناحية بالعراق، فهى تملك قواعد على تواصل دائرة كاملة تبدأ من الخليج ـ إلى باكستان ـ إلى أفغانستان ـ إلى أوزبكستان ـ إلى قيرغيزستان ـ إلى تركيا ـ إلى إسرائيل ـ إلى الأردن ـ إلى مصر ـ إلى السعودية، وبجانب ذلك فإنها تملك محطات وتسهيلات مفتوحة لها دون قيود فى مياه الخليج والبحر الأبيض والبحر الأحمر، ومعنى ذلك أن العراق بالضبط نقطة في مركز دائرة واسعة، وهذه فرصة تاريخية :أولا ـ للسيطرة على مركز الدائرة في بغداد ليكون النقطة الثابتة فى الدائرة الأوسع المحيطة به. ثانيا ـ لتصفية ما تبقى من مواقع المقاومة ـ دون حاجة لاستعمال السلاح ـ لأن وجود قوات أمريكية في العراق يعنى حصار إيران من ناحيتين: ناحية أفغانستان التى تحتلها بالفعل قوات أمريكية، وناحية العراق إذا وقع احتلاله بقوات أمريكية ـ كما أن سوريا فى وضع أصعب، لأنها بعد احتلال العراق مفتوحة من الشرق بوجود أمريكي في الجوار المتصل بها إلى درجة الالتحام، ومُحاصرة من الشمال بتركيا والوجود الأمريكي القائم فعلا على أرضها، وبمناطق الأكراد شمال العراق والولايات المتحدة هناك معهم ـ إلى جانب إسرائيل من الجنوب ـ إلى جانب أن النظام فى الأردن ليس صديقا مغرما بالنظام فى دمشق ـ إلى جانب أن هناك عناصر فى لبنان لا يرضيها تحكم سوريا فى القرار اللبنانى.(/2)
وإذن فهذه وبضربة واحدة خريطة جديدة مثالية تماما للشرق الأوسط، تقوم الولايات المتحدة بتشكيلها ورسمها وأيضا تنظيفها من جيوب كارهة لأمريكا مازالت تجادل وتعاند".
هكذا كان المشروع الأمريكي يتخذ من العراق نقطة انطلاق له ليمتد عبر أنحاء الأرض، غير أن المقاومة العراقية أحبطت هذا المشروع وأحيت الأمل في قلوب الأمة.
2- إرباك الإدارة الأمريكية:
من النجاحات التي حققتها المقاومة العراقية هذا الإرباك وتلك الفوضى التي أصابت الحسابات الأمريكية، ولا أدل على ذلك مما تشهده المقالات والتحليلات الأمريكية من اضطراب لافت وواضح في الرأى، فبينما يؤكد البعض أن الحل كل الحل في الانسحاب الأمريكي السريع من العراق، يرى آخرون أن هذا الانسحاب من شأنه أن يجلب الويل والدمار للقوات الأمريكية، وبعيدًا عن الحجج والبراهين التي يتبناها كل رأى، إلا إن الحقيقة الكامنة وراء هذين الرأيين هي الرغبة الأمريكية المحمومة في الهروب من العراق بأقل الخسائر السياسية الممكنة، وهي المعضلة التي لا تجد لها واشنطن حتى اليوم حلاً، ويبدو أنها لن تجد لها حلاً يناسب المشروع الأمريكي لا في المنظور القريب ولا في المنظور البعيد.
3- عرقلة المشروع الصفوي:
ومن أعظم النجاحات التي حققتها المقاومة العراقية، عرقلة المشروع الصفوي الفارسي الذي كان متربصًا بالعراق وأبنائه، ورغم أن المشهد الحالي قد يوحى للبعض بأن المشروع الصفوى في ابتلاع العراق أوشك على التحقق، إلا إن النظرة المتأملة تثبت عدم صحة ذلك، لقد كان الشيعة الصفويون يحلمون بابتلاع العراق كله قطعة واحدة، فصار الآن قصارى أملهم الخروج بالجنوب العراقي، وكان الشيعة الصفويون يحلمون بتثبيت أقدامهم في العراق دون الحاجة إلى عون خارجي، غير أن المقاومة أثبتت أنه لا بقاء للمشروع الصفوي إلا ببقاء الاحتلال، وأن خروج الاحتلال إيذان بنهاية المشروع الفارس(/3)
المقترحات العشرة في تنمية مواهب الأطفال
( اعرف ابنك .. اكتشف كنوزه .. استثمرها )
الموهبة والإبداع عطيَّة الله تعالى لجُلِّ الناس ، وبِزرةٌ كامنةٌ مودعة في الأعماق ؛ تنمو وتثمرُ أو تذبل وتموت ، كلٌّ حسب بيئته الثقافية ووسطه الاجتماعي .
ووفقاً لأحدث الدراسات تبيَّن أن نسبة المبدعين الموهوبين من الأطفال من سن الولادة إلى السنة الخامسة من أعمارهم نحو 90% ، وعندما يصل الأطفال إلى سن السابعة تنخفض نسبة المبدعين منهم إلى 10% ، وما إن يصلوا السنة الثامنة حتى تصير النسبة 2% فقط . مما يشير إلى أن أنظمةَ التعليم والأعرافَ الاجتماعيةَ تعمل عملها في إجهاض المواهب وطمس معالمها، مع أنها كانت قادرةً على الحفاظ عليها، بل تطويرها وتنميتها .
فنحن نؤمن أن لكلِّ طفلٍ ميزةً تُميِّزه من الآخرين ، كما نؤمن أن هذا التميُّزَ نتيجةُ تفاعُلٍ ( لا واعٍ ) بين البيئة وعوامل الوراثة .
ومما لاشكَّ فيه أن كل أسرة تحبُّ لأبنائها الإبداع والتفوُّق والتميُّز لتفخر بهم وبإبداعاتهم ، ولكنَّ المحبةَ شيءٌ والإرادة شيءٌ آخر . فالإرادةُ تحتاج إلى معرفة كاشفةٍ، وبصيرة نافذةٍ ، وقدرة واعية ، لتربيةِ الإبداع والتميُّز ، وتعزيز المواهب وترشيدها في حدود الإمكانات المتاحة ، وعدم التقاعس بحجَّة الظروف الاجتماعية والحالة الاقتصادية المالية .. ونحو هذا ، فرُبَّ كلمة طيبةٍ صادقة ، وابتسامة عذبةٍ رقيقة ، تصنع ( الأعاجيب ) في أحاسيس الطفل ومشاعره ،وتكون سبباً في تفوُّقه وإبداعه .
وهذه الحقيقة يدعمها الواقع ودراساتُ المتخصِّصين ، التي تُجمع على أن معظم العباقرة والمخترعين والقادة الموهوبين نشؤوا وترعرعوا في بيئاتٍ فقيرة وإمكانات متواضعة .
ونلفت نظر السادة المربين إلى مجموعة ( نِقاط ) يحسن التنبُّه لها كمقترحات عملية :
1- ضبط اللسان : ولا سيَّما في ساعات الغضب والانزعاج ، فالأب والمربي قدوة للطفل ، فيحسنُ أن يقوده إلى التأسِّي بأحسن خُلُقٍ وأكرم هَدْيٍ . فإن أحسنَ المربي وتفهَّم وعزَّز سما ، وتبعه الطفل بالسُّمُو ، وإن أساء وأهمل وشتم دنيَ ، وخسر طفلَه وضيَّعه .
2- الضَّبط السلوكي : وقوع الخطأ لا يعني أنَّ الخاطئ أحمقٌ أو مغفَّل ، فـ " كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاء "، ولابد أن يقع الطفل في أخطاءٍ عديدة ، لذلك علينا أن نتوجَّه إلى نقد الفعل الخاطئ والسلوك الشاذ ، لا نقدِ الطفل وتحطيم شخصيته . فلو تصرَّف الطفلُ تصرُّفاً سيِّئاً نقول له : هذا الفعل سيِّئ ، وأنت طفل مهذَّب جيِّد لا يحسُنُ بكَ هذا السُّلوك . ولا يجوز أبداً أن نقول له :أنت طفل سيِّئٌ ، غبيٌّ ، أحمق … إلخ .
3- تنظيم المواهب : قد يبدو في الطفل علاماتُ تميُّز مختلِفة ، وكثيرٌ من المواهب والسِّمات ، فيجدُر بالمربِّي التركيز على الأهم والأَوْلى وما يميل إليه الطفل أكثر، لتفعيله وتنشيطه ، من غير تقييده برغبة المربي الخاصة .
4- اللقب الإيجابي : حاول أن تدعم طفلك بلقب يُناسب هوايته وتميُّزه ، ليبقى هذا اللقب علامةً للطفل ، ووسيلةَ تذكيرٍ له ولمربِّيه على خصوصيته التي يجب أن يتعهَّدها دائماً بالتزكية والتطوير ، مثل :
( عبقرينو) – ( نبيه ) – ( دكتور ) – ( النجار الماهر ) – ( مُصلح ) – ( فهيم ) .
5- التأهيل العلمي : لابد من دعم الموهبة بالمعرفة ، وذلك بالإفادة من أصحاب الخبرات والمهن، وبالمطالعة الجادة الواعية ، والتحصيل العلمي المدرسي والجامعي ، وعن طريق الدورات التخصصية .
6- امتهان الهواية : أمر حسن أن يمتهن الطفل مهنة توافق هوايته وميوله في فترات العطل والإجازات ، فإن ذلك أدعى للتفوق فيها والإبداع ، مع صقل الموهبة والارتقاء بها من خلال الممارسة العملية .
7- قصص الموهوبين : من وسائل التعزيز والتحفيز: ذكر قصص السابقين من الموهوبين والمتفوقين، والأسباب التي أوصلتهم إلى العَلياء والقِمَم ، وتحبيب شخصياتهم إلى الطفل ليتَّخذهم مثلاً وقدوة ، وذلك باقتناء الكتب ، أو أشرطة التسجيل السمعية والمرئية و CD ونحوها .
مع الانتباه إلى مسألة مهمة ، وهي : جعلُ هؤلاء القدوة بوابةً نحو مزيد من التقدم والإبداع وإضافة الجديد ، وعدم الاكتفاء بالوقوف عند ما حقَّقوه ووصلوا إليه .
8- المعارض : ومن وسائل التعزيز والتشجيع : الاحتفاءُ بالطفل المبدع وبنتاجه ، وذلك بعرض ما يبدعه في مكانٍ واضحٍ أو بتخصيص مكتبة خاصة لأعماله وإنتاجه ، وكذا بإقامة معرض لإبداعاته يُدعى إليه الأقرباء والأصدقاء في منزل الطفل ، أو في منزل الأسرة الكبيرة ، أو في قاعة المدرسة .
9- التواصل مع المدرسة : يحسُنُ بالمربي التواصل مع مدرسة طفله المبدع المتميِّز ، إدارةً ومدرسين، وتنبيههم على خصائص طفله المبدع ، ليجري التعاون بين المنزل والمدرسة في رعاية مواهبه والسمو بها.(/1)
10- المكتبة وخزانة الألعاب : الحرص على اقتناء الكتب المفيدة والقصص النافعة ذات الطابع الابتكاري والتحريضي ، المرفق بدفاتر للتلوين وجداول للعمل ، وكذلك مجموعات اللواصق ونحوها ، مع الحرص على الألعاب ذات الطابع الذهني أو الفكري ، فضلاً عن المكتبة الإلكترونية التي تحوي هذا وذاك ، من غير أن ننسى أهمية المكتبة السمعية والمرئية ، التي باتت أكثر تشويقاً وأرسخ فائدة من غيرها .
وبعدُ ؛ فهذا جدول بسيط مقتبس من كتاب " هوايتي المفيدة " ، ما هو إلا علاماتٌ تذكِّر المربِّين بأهم الهوايات التي يجدُرُ بهم البحثُ عنها في ميولِ أبنائهم وتحبيبُها إليهم ، وحثُّهم على تعزيزها وتعهُّدها بالتزكية والرِّعاية ، وتوجيهها الوجهةَ الصحيحة المَرْضِيَّة .
هوايات فكرية – ذهنية
...
القراءة والمطالعة ( مرئية – سمعية – حاسوبية – إنترنيت )
فهم أمهات العلوم الدينية والدنيوية فضلاً عن حفظ القرآن الكريم وسلسلة الأحاديث الصحيحة ما أمكن .
التدرب على الكتابة والتأليف والجمع لشتى أنواع الفنون والآداب ( قصة ـ شعر ـ مقال …)
التدرب على استخدام الحاسوب واستثماره بالبرمجة واستخدام البرامج وترشيدها .
تعلم اللغات الأجنبية المختلفة وتعرف اللهجات المختلفة ( العلمية والمحلية )
الصحافة ورصد الأحداث ومراسلة المجلات والصحف .
المراسلة وتبادل الخواطر والأفكار ( كتابية وإلكترونية )
جمع الطوابع والانتساب إلى النوادي المهتمة بذلك .
جمع العملات القديمة والأجنبية .
جمع الصور المفيدة وقصها من المجلات والصحف القديمة وتصنيفها ( سيارات – حيوانات ….إلخ )
التدرب على الخطابة والإلقاء المؤثر .
هوايات حسية - حركية
...
الرياضة البدنية بأنواعها فضلاً عن الرياضات التأملية والذهنية .
زيارة المتاحف بأنواعها ( متحف العلوم ـ الخط ـ الحربي ـ الوطني …)
زيارة الآثار والمواقع الهامة داخل البلدة وخارجها فضلاً عن زيارة الأحياء القديمة .
الرحلات الترفيهية والاستكشافية ( جبلية ـ بحرية ـ سُهلية …)
المعسكرات الكشفية .
مراقبة النجوم واستكشاف الفضاء .
تربية الحيوانات الأليفة المنزلية ـ والريفية ( طيور ـ سمك زينة ـ دواجن …)
الزراعة وتعهد النباتات بالسقي والرعاية .
التجارب الكيماوية والفيزيائية وكذلك الكهربائية والإلكترونية .
جمع الحشرات والأصداف وتصنيفها في مصنَّفات خاصة بعلوم الأحياء .
التمريض ومساعدة الناس والانتماء للجمعيات الخيرية أو مراكز الهلال الأحمر .
هوايات فنيَّة – مِهَنيَّة
...
تعلم فنون الخط العربي والزخرفة .
تعلم الرسم والتلوين بأنواعه .
التصوير الضوئي والتلفازي .
الخياطة وتصميم الأزياء وفنون الحياكة النِّسْوية .
الإنشاد .. والتلحين بالضرب على الدف المَزْهر .
صناعة الأزهار ( بلاستيك ـ قُماش ـ سيراميك )
صناعة الدُّمى والألعاب المختلفة .
صناعة الحَلْوَيات والضيافات وابتكار أكلات جديدة .
النِّجارة وصناعة الأثاث نماذج مصغَّرة أو حقيقية .
هذا الجدول عبارة عن غيض من فيض من الهوايات التي تدل على ميول الأطفال ، ويجدر بالسادة المربين الجلوس مع أبنائهم الأحباء ، وعرض هذه الهوايات عليهم ، والتعرف بما يحبون وما يرغبون ،
ووضع إشارة على كل هواية يريدونها ، ثم يحاولون أن يرسموا خطة عملية لتنمية هذه الموهبة وفقاً للمقترحات العشرة آنفة الذكر ، ومراعاة الفقرة 3( تنظيم المواهب) .
والله نسأل أن يوفقنا وإياكم لما فيه مصلحة العباد ، ويعيننا على التربية المثلى للأبناء .
والله الموفق .
إعداد: حمزة الحمزاوي(/2)
فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله
ما هو المقدار المجزيء في المسح على الخفين ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب : المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمسح ظاهر خفيه دون باطنهما قال الخليفة الراشد علي ابن أبي طالب رضي الله عنه لو كان الدين بالرأي لكان أسفلُ الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه رواه أبو داود (162 ) من طريق أبي إسحاق السبيعي عن عبد خير عن علي .
وقد جاء في حديث المغيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح أسفل الخف وأعلاه . رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم ولايصح .
كما قاله أحمد والبخاري وأبو حاتم والترمذي والأحاديث الصحيحة عن المغيرة وغيره على خلافه .
*والصحيح في المسح الاقتصار على مرة واحدة ولا يزيد .
*وقد اختلف الفقهاء في المقدار المجزي في المسح .
فقال قوم : يجزيء المسح بثلاثة أصابع .
وقال مالك : يجب استيعاب أعلى الخف بالمسح .
وعند الحنابلة : يجب مسحُ أكثر ظاهر الخف .
وقال الشافعي : وكيفما أتى بالمسح على ظاهر القدم بكل اليد أو بالبعض أجزأ . وهذا المنقول عن سفيان واختاره داود الظاهري وأبو محمد بن حزم .
وهذا قول قوي .
فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على ظاهر الخفين .
ولم يصح في تقدير واجبه شيء فدل على جواز الاجتزاء بما يصدق عليه اسم المسح .
وأما القول بوجوب استيعاب ظاهر الخف ففيه نظر وأقرب منه القول بوجوب مسح أكثر ظاهر الخف وأرى أن العمل بهذا القول أحوط والله أعلم .
قاله
سليمان بن ناصر العلوان
14 / 9 / 1421 هـ(/1)
المقدمة في العلاقة الخاصة بين الرجل والمرأة
مفكرة الإسلام: كثر النقاش والجدال حول موضوع ما يسمى بالثقافة الجنسية، وانقسم الناس في التعامل مع هذه الثقافة إلى مؤيد ومعارض، وخطورة الكلام في هذا الموضوع أنه يكون مادة للإشارة وتحريك كوامن في النفوس، ونحن في غنى عن ذلك وخصوصًا الشباب.
وإن كان الكلام حول هذه الأمور في دائرتنا الإسلامية محاصر غالبًا، وصَاحِبهُ متهم, والخلط شائع بين من يقصد من تناول هذه الأمور إشاعة الفاحشة فيظهر هذا في أسلوبه ولحن قوله، ومن يقصد سبر غور الظواهر ودراسة المشكلات وتقويم الحلول النافعة للناس.
لقد توارثنا تصورًا خاطئًا مؤداه أن خلق الحياء يمنع المسلم من أن يخوض في أي حديث يتصل بأمور الجنس، وأيضًا على اجتناب التعرض لأي أمر من هذا القبيل، سواء بالسؤال متى إذا اشتدت حاجتنا إلى سؤال، أم بالجواب إن طُلب منا الجواب، أو حتى بالمشاركة في مناقشة هادفة وجادة.
غير أن التربية الخاطئة جعلت من الجنس - حتى ولو كان في الحلال - أمرًا ربما يكون مستقذرًا، في حين أن الجنس في ديننا وثقافتنا وحضارتنا شيء آخر، فلا هو بالدنس، ولا الخطيئة التي تتطلب التواري والخجل، إذا كان في مؤسسة الزواج الشرعية، بل هو نشاط مرغوب فيه ومحبب إلى النفس التي خلقها الله وزيّن لها حب الشهوات، وجعل سرور الإنسان فيها عظيمًا، ولذلك يوجهه إلى الصورة التي يكتمل فيه ذلك الإمتاع في صورته الصحية والفطرية والاجتماعية الصحيحة.
وهذه المعرفة وتلك الثقافة لها أثر مهم في السعادة الزوجية ونمو الحب، واستقرار العلاقات, ومن ثم نشوء أسر متماسكة، يظلها الحب والود والسكن، وتشتد الحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى إعفاف حقيقي وكامل للزوج والزوجة، في زمن زادت فيه الفتن وكثر فيه الفساد.
وأهمية هذه المعرفة اليوم تزداد بصورة مطردة، حيث ينهل الكثير من المسلمين - وللأسف - معلوماتهم في هذا المجال من الصور والقنوات التي تبث العهر والضياع, من خلال إعلام موجه لإفساد البشرية، وتحويل الصورة التي رسمها القرآن بين الرجل والمرأة - والتي هي ارتقاء بتلك العلاقة - إلى مستوى يليق بالإنسان، ويجعلها واحة للسكن والمودة والرحمة، ومعانٍ جميلة ودافئة وسامية, في حين يهبط بها هؤلاء إلى مستوى من البهيمية والحيوانية والشذوذ, إلى دركات لا يعلمها إلا الله.
فكان لا بد أن يعرف الناس ما لهم وما عليهم في هذا الموضوع وفق الضوابط الشرعية بعيدًا عن الإسفاف, والتزام منهج الحياء والتعريض الذي يغني عن التصريح الذي يخدش الحياء.
والحقيقة أن العلاقة الجنسية الناجمة داخل مؤسسة الزواج الشرعية مصدر للسعادة إذا مورست على الوجه الذي يجلب السعادة، ونظرًا لاختلاف الرجل والمرأة في التركيب النفسي والعضوي، اختلفت حاجات كل منهما في إشباع تلك الرغبة والوصول إلى لحظة سعادة حقيقية.
والكثير من الرجال لا يعلم كيف تحب المرأة وكيف تصل إلى درجة مقبولة من الارتواء التي يحصل بها تمام العفاف والرضا, وكذلك النساء قد لا تعلم ماذا يريد الرجل، وكيف يوفق كل منهما رغبته مع الآخر عند التعارض..
والحقيقة أن هذه الأمور تحتاج إلى معرفة وفن، معرفة من أهل الدين فيما يحل ويحرم، وحدود هذه المتعة، وكذلك علماء النفس الذين تكلموا وأظهروا ما يحبه الرجال وما تحبه النساء.(/1)
المقامَة الرمضانيّة
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ }
(( ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله ))
مرحباً برمضان ، شهر التوبة والرضوان ، شهر الصلاح والإيمان ، شهر الصدقة والإحسان ، ومغفرة الرحمن ، وتزين الجنان ، وتصفيد الشيطان .
مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيام *** يا حبيباً زارنا في كل عام
فاغفر اللهم ربي ذنبنا *** ثم زدنا من عطاياك الجسام
هذا شهر العتق والصدق والرفق ، رقاب تعتق ، ونفوس ترفق ، وأياد تتصدق ، باب الجود في رمضان مفتوح ، والرحمة تغدو وتروح ، والفوز ممنوح ، فيه ترتاح الروح ، لأنه شهر الفتوح ، هنيئاً لمن صامه ، وترك فيه شرابه وطعامَه ، وبشرى لمن قامَه ، واتبع إمامَه . القلب يصوم في رمضان ، عن اعتقاد العصيان ، وإضمار العدوان ، وإسرار الطغيان .
والعين تصوم عن النظر الحرام ، فتغض خوفاً من الملك العلام ، فلا يقع بصرها على الآثام . والأذن تصوم عن الخنا ، واستماع الغنا ، فتنصت للذكر الحكيم ، والكلام الكريم . واللسان يصوم عن الفحشاء ، والكلمة الشنعاء ، والجمل الفظيعة ، والمفردات الخليعة ، امتثالاً للشريعة . واليد تصوم عن أذية العباد ، ومزاولة الفساد ، والظلم والعناد ، والإفساد في البلاد. والرِجل تصوم عن المشي إلى المحرّم ، فلا تسير إلى إثم ولا تتقدّم .
و الله ما جئتكمو زائراً *** إلا وجدت الأَرض تُطوى لي
ولا انثنت رجلي عن بابكم *** إلا تعثرت بأذيالي
أما آن للعصاة أن ينغمسوا في نهر الصيام ، ليطهروا تلك الأجسام ، من الآثام . ويغسلوا ما علق بالقلوب من الحرام .
أما آن للمعرضين أن يدخلوا من باب الصائمين ، على رب العالمين ، ليجدوا الرضوان في مقام أمين .
إن رمضان فرصة العمر السانحة ، وموسم البضاعة الرابحة ، والكفة الراجحة ، يوم تعظم الحسنات ، وتكفّر السيئات ، وتُمحى الخطيئات .
إن ثياب العصيان آن لها أن تخلع في رمضان ، ليلبس الله العبد ثياب الرضوان . وليجود عليه بتوبة تمحو ما كان من الذنب والبهتان .
إن مضى بيننا وبينك عتب *** حين شطت عنا وعنك الديارُ
فالقلوب التي تركت كما هي *** والدموع التي عهدت غزارُ
في رمضان كانت فتوحاتنا ، وإشراقاتنا ، وغزواتنا ، وانتصاراتنا .
في رمضان نزل ذكرنا الحكيم ، على رسولنا الكريم ، وهو سر مجدنا العظيم .
في رمضان التقى الجمعان ، جمع الرحمن وجمع الشيطان ، في بدر الكبرى يوم رجح ميزان الإيمان ، ونسف الطغيان ، وانهزم الخسران . في رمضان فتحت مكة بالإسلام ، وتهاوت الأصنام ، وارتفعت الأعلام ، وعلم الحلال والحرام .
في رمضان كانت حطين العظيمة ، يوم انتصرت رايات صلاح الدين الكريمة ، وارتفعت الملة القويمة ، وصارت راية الصليب يتيمة .
صيام النفس في رمضان عزوف عن الانحراف ، والانصراف والإسراف والاقتراف ، فالنفس تعلن الرجوع ، والقلب يحمل الخشوع ، والبدن يعلوه الخضوع ، والعين تجود بالدموع .
لشهر رمضان وقار فلا سباب ، ولا اغتياب ، ولا نميمة ، ولا شتيمة ، ولا بذاء ، ولا فحشاء ، وإنما أذكار واستغفار ، واستسلام للقهار ، فالمسلمون في رمضان كما قيل :
هينون لينون أيسار بنو يُسْرٍ *** أهل العبادة حفاظون للجارِ
لا ينطقون عن الفحشاء إن نطقوا *** ولا يمارون إن ماروا بإكثارِ
مردة الشياطين في رمضان تصفد بالقيود ، فلا تقتحم الحدود ، ولا تخالط النفوس في ذلك الزمن المعدود .
إذا سابّك أحد في رمضان فقل إني صائم ، فليس عندي وقت للخصام ، وما عندي زمن لسيء الكلام ، لأن النفس خطمت عن الخطيئة بخطام ، وزمّت عن المعصية بزمام .
إذا قاتلك أحد في رمضان فقل إني صائم فلن أحمل السلاح ، لأنني في موسم الصلاح ، وفي ميدان الفلاح ، وفي محراب حي على الفلاح .
اغسل بنهر الدمع آثار الهوى *** تنسى الذي قد مر من أحزانِ
كان السلف إذا دخل رمضان ، أكثروا قراءة القرآن ، ولزموا الذكر كل آن ، ورقعوا ثوب التوبة بالغفران ، لأنه طالما تمزق بيد العصيان .
هذا الشهر هو غيث القلوب ، بعد جدب الذنوب ، وسلوة الأرواح بعد فزع الخطوب .
رمضان يذكرك بالجائعين ، ويخبرك بأن هناك بائسين ، وأن في العالمين مساكين ، لتكون عوناً لإخوانك المسلمين .
فرحة لك عند الإفطار ، لأن الهم ذهب وطار ، وأصبحت على مائدة الغفار ، بعد أن أحسنت في النهار .
وفرحة لك عند لقاء ربك ، إذا غفر ذنبك ، وأرضى قلبك .
بعض السلف في رمضان لزم المسجد ، يتلو ويتعبد ، ويسبح ويتهجد .
وبعضهم تصدق في رمضان بمثل ديته ثلاث مرات ، لأنه يعلم أن الحسنات ، يذهبن السيئات . وبعضهم حبس لسانه عن كل منكر ، وأعملها في الذكر ، وأشغلها بالشكر .
هذا شهر الآيات البينات ، وزمن العظات ، ووقت الصدقات ، وليس لقراءة المجلات ، والمساجلات ، وقتل الأوقات ، والتعرض للحرمات .(/1)
سلام على الصائمين إذا جلسوا في الأسحار ، يرددون الاستغفار ، ويزجون الدمع المدرار . وسلام عليهم إذا طلع الفجر ، وطمعوا في الأجر ، تراهم في صلاتهم خاشعين ، ولمولاهم خاضعين .
وسلام عليهم ساعة الإفطار ، بعد ذلك التسيار ، وقد جلسوا على مائدة الملك الغفار ، يطلبون الأجر على عمل النهار .
سبحان من جاعت في طاعته البطون ، وبكت من خشيته العيون ، وسهرت لمرضاته الجفون ، وشفيت بقربه الظنون .
ما أحسن الجوع في سبيله ، ما أجمل السهر مع قيلة ، ما أبرك العمل بتنزيله ، ما أروع حفظ جميلة .
لها أحاديث من ذكراك تشغلها *** عن الطعام وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به *** ومن حديثك في أعقابها حادي
إذا تشكت كلال السير أسعفها *** شوق القدوم فتحيا عند ميعاد
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، هداية للبشرية ، وصلاحاً للإنسانية ، ونهاية للوثنية . القرآن حيث أصلح الله به القلوب ، وهدى به الشعوب ، فعمت بركته الأقطار ودخل نوره كل دار .
سمعتك يا قرآن قد جئت بالبشرى *** سريت تهز الكون سبحان الذي أسرى
************
عائض بن عبدالله القرني(/2)
المقومات العشرة للإصلاح الناجح ...
إعداد: تهاني علي
في ظل الحديث عن الإصلاح، وفي زخم الأصوات وزحام الآراء، كان حتما على دعاة الإسلام أن يخرجوا على الناس بوجهة النظر الإسلامية في الإصلاح وكيفيته وشروطه ومقوماته، وفي هذا الصدد جاءت محاضرة الدكتور عبد الرحمن البر، الأستاذ بجامعة الأزهر؛ لتشرح وتفصل وجهة النظر تلك، ولتحدد مقومات عشرة لا بد أن تتوافر في أي منهج إصلاحي ليكون متكاملا وشاملا، ويؤدي وظيفته الموضوع من أجلها، ومن خلال الشواهد النظرية والعملية والواقعية استطاع الدكتور البر أن يثبت توافر هذه المقومات جميعها في المنهج الإسلامي الصحيح.
الإصلاح هو ملخص الرسالات
افتتح الدكتور البر محاضرته ببيان أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بل ورسالة الأنبياء جميعا نستطيع أن نلخصها في كلمة واحدة هي "الإصلاح".
وتتميز رسالة الإسلام بأنها جاءت لتصلح للبشرية دينها ودنياها وآخرتها معا، وهذا الشمول هو أهم ما يميز المنهج الإصلاحي الإسلامي. ومما يؤكد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تحقيق جوانب الإصلاح الثلاثة دعاؤه المتكرر: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي"، وفي هذا تأكيد على أنه لا صلاح للبشرية إلا بتكامل جوانب الإصلاح.
كما أوضح فضيلة الدكتور البر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بدعا في ذلك؛ فهذا نبي الله شعيب عليه السلام يقول لقومه: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ}، وهو بذلك أيضا يختصر رسالته في الإصلاح، ويبين قيمته.
كما أن موسى عليه السلام لما كلمه ربه ودعاه أن يخرج إليه ليتلقى التوراة، وأراد أن يجعل أخاه هارون خليفة له في قومه قال له: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}.
وأكد فضيلة الدكتور البر أن الله عز وجل عندما خلق البشر واستعمرهم في الأرض أنزل معهم منهجا واضحا للإصلاح مع آدم عليه السلام، وكلما حاد الناس عن درب الإصلاح وبدأ الفساد يطل بقرونه أرسل الله المصلحين، ولهذا توالت الرسل.
الإصلاح فطرة إنسانية
وبين الدكتور عبد الرحمن البر أن الإصلاح ليس فقط واجبا شرعيا، بل هو فطرة إنسانية نمارسه جميعا بصورة طبيعية؛ فلو فسد ثوب أحدنا لقام بإصلاحه، ولو أن جدارا من جدران بيته أو أي مرفق من مرافقه فسد لهب فورا لإصلاح هذا الخلل، كما أن الناس يتعجبون ممن يعيش في أجواء فاسدة وفي استطاعته أن يصلحها.
للإصلاح أعداء
وألمح الدكتور البر إلى أن في مقابل المصلحين نجد في كل وقت أناسا {يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}، ويحبون العيش في ظل العوج والانحراف، ويرون أن أجواء الفساد تساعدهم على تحقيق رغباتهم، وهم في طبائعهم تلك يشبهون الجراثيم التي تنمو وتتكاثر في أجواء النتن والعفن، فإذا طلعت عليها الشمس بضيائها وحرارتها فإن هذه الجراثيم تموت، ولذلك فهم لا يحبون العيش في الضوء والعلن.
ومن تبجح هؤلاء واعتدائهم أنهم يروجون لأنفسهم ويخدعون الناس ويدعون أنهم مصلحون، وقد قال الله عز وجل عنهم: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}.
وعلى حد تعبير الدكتور البر، فإن من نكد الزمان أن يرفع راية الإصلاح زعيم المفسدين، أو ترفع راية الفضيلة والعفة قوادة بغي!! كما حدث في كثير من فترات الزمان، وهم يفعلون هذا ليحولوا بين الناس والاستماع لدعاة الحق والإصلاح.
وضرب الدكتور البر بفرعون مثالا للمفسدين الذين يحرضون جماهير الأمة على دعاة الإصلاح؛ حيث قال لقومه: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ}!!.
ويتعجب الدكتور البر من هذه النوعية من البشر المخالفة للفطرة والطبيعة والشريعة؛ حيث ترى أن من أوجب واجباتها محاربة كل دعوات الإصلاح وكل أدواته!!، وضرب مثلا آخر بالقوم الذين أزعجتهم دعوة الإصلاح التي جاء بها سيدنا صالح عليه السلام؛ حيث حكى القرآن الكريم عنهم، في قوله عز وجل: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}.
الإصلاح شرط لقبول التوبة(/1)
وقد استقى الدكتور عبد الرحمن البر من القرآن الحكم بأن الإصلاح هو شرط النجاة من الهلاك، وذلك من قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.
ومن خلال استعراض الدكتور البر لآيات القرآن الكريم بيَّن أن الله لا يقبل توبة عبد بمجرد الإعلان اللفظي لهذه التوبة؛ بل يشترط على كل تائب من كل ذنب أن يحدث إصلاحا بعد إفساده.
وفي هذا المقام تأتي آيات كثيرة؛ منها على سبيل المثال قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}.
وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
وقوله جل جلاله: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}...
وغيرها الكثير من الآيات.
الإصلاح شرط الخيرية
بعد هذا بين الدكتور البر أن عملية الإصلاح هي المهمة الأساسية للأمة الإسلامية، وأن المسلم لا يعد مسلما إلا إذا بدأ بممارسة هذه العملية، مستدلا بقول الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ...}؛ ففي هذه الآية تحددت مقومات الخيرية، ومن أهمها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اللذان من أدوات الإصلاح.
كما يقول المولى سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...}، وهاتان الآيتان وأمثالهما يدلان على أن الأمة الإسلامية تحمل مشروعا إصلاحيا مستمرا ومتجددا.
مقومات الإصلاح الناجح
ثم أخذ فضيلة الدكتور البر يعدد مقومات الإصلاح الناجح، مؤكدا أن الإصلاح الذي جاء به الحبيب صلى الله عليه وسلم والذي أمرنا به ودعانا للقيام به لا ينجح إلا إذا توفرت له تلك المقومات والشروط العشرة، وهي:
1- أن يكون المنطلق إيمانيا عقديا.
2- ألا يحمل مشروع الإصلاح إلا الصالحون.
3- أن يبدأ المصلح بنفسه وبعشيرته وبمن حوله.
4- التدرج ومراعاة طباع الناس وأحوال الزمان.
5- أن يكون الإصلاح شاملا لكل مجالات الحياة.
6- أن تقتنع الأمة به، ولا يُفرَض عليها فرضا.
7- أن تكون بوابته الحرية، ومنهجه الشورى، وسناده العدل.
8- حماية وحدة الأمة، وعدم محاباة فئة على حساب الأخرى.
9- مشاركة الأمة كلها بكل أفرادها وطوائفها في عملية الإصلاح.
10- حفظ أرواح الناس وصيانة أعراضهم.
وقد تفضل الدكتور البر بشرح هذه المقومات، وذكر شواهد لها من القرآن والسنة ووقائع التاريخ والواقع المعيش. ...(/2)
المكابرون
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
المكابرون من البشر هم الذين يجمدون على رأي واحد، وعمل واحد، وفكرة واحدة لا يتحركون عنها قيد أُنملة مهما كانوا مخالفين للحق فيما يذهبون إليه، وهم الذين لا يُصغون إلى ناصح، ولا يتأثرون بموعظة، ولا يلتفتون إلى تذكير.. إنهم المهرولون في دروب مصالحهم الخاصة، وأهوائهم ورغباتهم، غير آبهين بمصالح الناس.
المكابرون هم الذين قست قلوبهم فما يؤثر فيها نذير ولا وعيد، ولا يُحرِّكها وعظ ولا إرشاد، يغلقون أعينهم عن رؤية الحق، ويصمّون آذانهم عن الاستماع إليه، فإذا كانوا أصحاب قوَّة ومالٍ وسلطة، أضافوا إلى المكابرة الاستعلاء والخيلاء، فعميت بصائرهم عن رؤية الحق، وذهبوا في سبيل تحقيق رغائبهم كلَّ مذهب، وسلكوا إليها كلَّ سبيل حتى وإن كان سبيلاً محظوراً، ومذهباً باطلاً.
المكابرون.. لا يرون الحقائق، ولا يقدِّرون حجم المشكلات؛ لأنهم ينظرون بمنظار واحدٍ، يغطِّيه غَبَشُ الوهم الذي سيطر عليهم، فالحق عندهم باطل، والباطل حقّ، والفضيلة رذيلة، والرذيلة فضيلة، وهكذا يمضون في دروب مكابرتهم حتى يقعوا في حفرة الخاتمة السيئة وهم عنها غافلون.
ونماذج المكابرين من البشر كثيرة جداً على مدى تاريخ البشرية، ونهاياتهم معروفة بالسوء في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد.
فقابيل كان مكابراً حينما تطاول على أخيه هابيل، وقد وصلت به المكابرة إلى درجة استحلال دم أخيه، فقتله. لقد وضعته مكابرته في صندوقٍ مظلم ليس فيه إلا ثقب صغير يرى منه الأشياء، وهل يمكن أن يرى من ذلك الثُّقْب الصغير كلَّ شيء؟!.
لقد دفعته مكابرته إلى تلك النهاية السيئة التي أصبح فيها من الخاسرين ومن النادمين.
ابن نوح عليه السلام كان مكابراً؛ ولذلك أُغلق ذهنه، وتجمَّد شعوره ومات قلبه، فما عاد قادراً على الاستماع إلى ما يقول أبوه نوح عليه السلام (اركب معنا).. جملة واضحة من نوح عليه السلام، ولكنَّ مكابرة الابن العاصي حالت بين ذهنه وبين وضوح هذه الجملة.
المكابرة جعلت ابن نوح ينظر إلى الأشياء بمنظار مادّي بحت، فهناك جبل شاهق، وهنا سفينة مصنوعة من الخشب، والعقل البشري القاصر يقول الجبل أكثر أماناً، بينما نبوّة نوح عليه السلام وإيمانه بما هو عليه من الحق يقولان: السفينة أكثر أماناً.
المكابر لا يفهم هذا المعنى الروحي العميق؛ ولهذا فهو لا يتجاوب معه، ولا يفتح له آفاق ذهنه، فتكون نهايته الضياع.
نوحٌ نجا بمن معه في تلك السفينة، وابن نوح كان مع الهالكين.
الأقوام الذين كذَّبوا أنبياءهم وطردوهم وقتلوهم مصابون بداء المكابرة.
فرعون كابر حتى غرق، وهامان كابر حتى هلك مع سيِّده، وقارون كابر حتى خسف الله به وبداره الأرض، والنمرود كابر حتى قتلته حشرة، وأبو جهل كابر حتى مرَّغ تراب بدرٍ وجهه، وصدَّام كابر حتى وقع.
وهكذا هو شأن المكابرين، ولو كان المكابر ذا رأي وعقل وبصيرة ما استمرَّ في مكابرته وأمامه هذه التجارب التاريخية والواقعية العظيمة.
إشارة:
مَنْ حاربَ اللهَ يا أمّاه حاربَه
ومَنْ يحاربه الرحمن مغلوبُ(/1)
الملامح العامة لأهل السنة والجماعة
يتناول الدرس الأمور والسمات والملامح التي تميز منهج السلف أهل السنة والجماعة، والتي صارت ظاهرة في منهجهم، وعلامة دالة عليهم، وبها يعرفون، وإليها يدعون، ومن حققها كان منهم، وبقدر ما يبتعد الشخص أو الجماعة عنها يبتعد عن أهل السنة .
أولاً : أهل السنة يجمعون الدين علمًا وظاهرًا وباطنًا :
فهم المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب .
ثانياً : أهل السنة هم أهل الجماعة
أهل السنة لما كانوا يجمعون الدين كله، ويقومون به كله؛ فإنهم اجتمعوا على ذلك؛ لأن الجماعة طاعة ورحمة , فمن طاعة الله المحافظة على الجماعة، ومن رحمة الله بأهل طاعته المحافظة على جماعتهم.
[إن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين والعمل به كله ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما أمر به باطنًا وظاهرًا , وسبب الفرقة:ترك حظ مما أمر العبد به , والبغي بينهم , ونتيجة الجماعة: رحمة الله ورضوانه وصلواته وسعادة الدنيا والآخرة وبياض الوجوه , ونتيجة الفرقة: عذاب الله ولعنته، وسواد الوجوه وبراءة الرسول منهم].
ثالثاً : أهل السنة هم أهل التوسط والاعتدال
أهل السنة والجماعة هم أهل التوسط والاعتدال بين التفريط والإفراط، وبين الغلو والجفاء.
[هم الوسط في فرق الأمة , كما أن الأمة هي الوسط في الأمم ؛ فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة ، وهم وسط في باب أفعال الله تعالى بين القدرية والجبرية، وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيديه من القدرية وغيرها ,وفي باب أسماء الإيمان الدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية , وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج ].
رابعاً : أهل السنة هم الجمل الثابتة بالقرآن والسنة والإجماع
أهل السنة إذن هم أهل الجمل الثابتة بالقرآن والسنة والإجماع , الملتزمون بالدين الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
خامساً : أهل السنة هم الامتداد التاريخي لأهل ملة الإسلام
أهل السنة هم الأصل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم الامتداد الطبيعي والصحيح لأهل هذه الملة ، كما أن ملة محمد صلى الله عليه وسلم هي الامتداد الطبيعي والصحيح لملل الأنبياء السابقين ؛ فأهل الفرق الأخرى إذن دخلاء على هذه الملة وأقليات شاذة خارجية عن المسار الأصلي والصحيح للأمة المسلمة ، ففي الحديث الصحيح المشهور في سنن أبي داود والترمذي عن أبي هريرة ، ولفظه: [افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفَرَّقَتْ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً]، وفي لفظ: [ على ثلاث وسبعين ملة] ، وفي رواية: [ قالوا: يا رسول الله من الفرقة الناجية؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي].
سادساً : أهل السنة هم أهل الشريعة
أهل السنة هم أهل الشريعة التي سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كافة جوانب الدين من عقائد ومناهج للنظر وأفعال ومقاصد وعبادات وسياسات شرعية وغيرها.
سابعاً : أهل السنة لا يأخذون إلا ما كان ثابتًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح
إن السنة التي يجب اتباعها , ويحمد أهلها , ويذم من خالفها هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور الاعتقادات وأمور العبادات وسائر أمور الديانات، وذلك إنما يعرف بمعرفة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه في أقواله وأفعاله وما تركه من قول وعمل، ثم ما كان عليه السابقون والتابعون لهم بإحسان.
ثامناً : أهل السنة هم أعلم الناس بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله وأعظمهم محبة وموالاة لها ولأهلها
[إن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية : أهل الحديث والسنة , الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله , وأعظمهم تمييزًا بين صحيحها وسقيمها , وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها واتباعًا لها تصديقًا وعملاً وحبًا وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها الذين , يردون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة].
تاسعاً : أهل السنة هم كل من يحب الحديث النبوي ويلتزم به
[ ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته ؛ بل نعني بهم كل من كان أحق بحفظه , ومعرفته وفهمه ظاهراً وباطناً , واتباعه ظاهراً وباطناً , وأدنى خصلة في هؤلاء محبة القرآن والحديث والبحث عنهما وعن معانيهما , والعمل بما علموه من موجبهما ].
عاشراً : أهل السنة متفاوتون في معرفة السنة والإلمام بها والصبر عليها
أحد عشر : أهل السنة تختلف اجتهاداتهم تبعا لتفاوت علمهم بالسنة(/1)
أهل السنة لما كانوا متفاوتون في الإلمام بالسنة اختلف اجتهادهم بناء على ذلك في بعض مسائل العلم , فكانت [ لهم مقالات قالوها باجتهاد , وهي تخالف ماثبت بالكتاب والسنة ] .
اثنا عشر : أهل السنة يضبطون اختلاف اجتهاداتهم بالحرص على الوحدة والائتلاف
وأهل السنة والجماعة كانوا يختلفون فيما بينهم على المسائل العلمية والعملية، ولكنهم يضبطون سلوكهم ـ مهما كان حجم الخلاف ـ بأدب الاختلاف من الود والألفة والاحترام المتبادل في إطار أساسي هو: المحافظة على الجماعة الإئتلاف وجمع الشمل ونبذ التفرق والاتهام.
[ ومازال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد بكفر ولا فسق ولا معصية ] .
ثلاثة عشر : أهل السنة لا يخرج الحق عنهم
وأهل السنة بالرغم من هذا لا يخرج الحق عن جماعتهم؛ لأن جماعة أئمتهم وعلمائهم تقوم مقام النبوة في حفظ هذا الدين؛ كل في المجال الذي يسّره الله له.
[وأما أهل العلم؛ فكانوا يقولون: هم الأبدال؛ لأنهم أبدال الأنبياء وقائمون مقامهم حقيقة ليسوا من المعدمين الذين لا يعرف لهم حقيقة؛ كل منهم يقوم مقام الأنبياء في القدر الذي ناب عنهم فيه: هذا في العلم والمقال، وهذا في العبادة والحال, وهذا في الأمرين جميعًا].
أربعة عشر : أهل السنة هم الطائفة المنصورة
[هم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: [لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة] ].
[هم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة الظاهرون على الحق؛ لأن الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسله معهم، وهم الذين وعد الله بظهوره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا].
خمسة عشر : أهل السنة بشر عاديون منهم الصديقون ومنهم الشهداء
[ إن المنتسبين للسنة والحديث وإن كانوا أصلح من غيرهم من أشباههم , فالسنة في الإسلام كالإسلام في الملل , كما أنه يوجد في المنتسبين إلى الإسلام ما يوجد في غيرهم , وإن كان خير في غير المسلمين فهو في المسلمين أكثر, وكل شر في المسلمين فهو في غيرهم أكثر , فكذلك المنتسبة إلى السنة قد يوجد فيهم ما يوجد في غيرهم , وإن كان كل خير في غير أهل السنة فهو فيهم أكثر , وكل شر فيهم فهو في غيرهم أكثر ] .
ستة عشر : أهل السنة هم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم من أمة محمّد صلى الله عليه وسلم
اسم الكتاب: معالم الانطلاقة الكبرى …….جمع وإعداد: محمد عبد الهادي المصري
ملاحظة : مابين القوسين [ ] من كلام شيخ الإسلام ابن تيم(/2)
الملكية الفكرية في الفقه الإسلامي
د. أسامة محمد عثمان خليل*
مقدمة:
تحظى مسألة الملكية الفكرية باهتمام بالغ، ليس على مستوى الدول فحسب بل على المستوى الإقليمي والدولي، حتى أضحى الاهتمام بها من قبل أي دولة أو مجمع علمي دليل على مواكبة التطور والحداثة وإقرار للمجتمع المتمدن، وبهذا الفهم أصبحت الملكية الفكرية صنو لحقوق الإنسان تذكر حيثما ذكر.
لذا يجيء بحث هذه المسألة في الفقه الإسلامي إبرازًا لحقيقة ثابتة للفقه الإسلامي سعة وشمولاً لكل القضايا العصرية، بل كان له موقف وعلاج ورأي وإن لم تكن تلك الوقفات تحت المصطلح نفسه.
اهتم البحث وهو يعالج المسألة فوضع مقدمات ضرورية لتكون ركائز لموضوعاته وهي:
[1] حددت الشريعة الإسلامية الأسس التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي وتناول علماء المسلمين الأوائل هذه الأسس بالدراسة في ضوء متطلبات حياة المجتمع وأطواره وتحت مسميات تناسب تلك الفكرة. ومن المتفق عليه بين جمهور العلماء أن الإسلام جاء بتنظيم شامل لأمور الدين والدنيا (العقيدة وتحسينات الحياة)، فوضع الأحكام إلى تنظيم سلوك الإنسان في المجتمع في كافة العلاقات.
[2] إبراز الدول الأوربية وغيرها من الدول المتقدمة للمسائل ذات البريق والصيت الآن لمسألة الملكية الفكرية ما هو – في اعتقادنا – إلاّ سبق ومزاحمة لنظمها للنظم الإسلامية وكانت لها الغلبة تخصيصًا وتنظيمًا للمسألة وترويجًا لها تحت هذا المصطلح (الملكية الفكرية). وفي المقابل ران على دولنا بعض الركود ولم تحظ المسألة بالعناية المطلوبة رغم معرفة فقهاء المسلمين بجوانب المسألة وجزئياتها كغيرها من المسائل الحديثة، إذ كانت الشريعة الإسلامية تفرد بحكم العالم الإسلامي حتى القرن الثامن عشر.
[3] وكانت نتيجة هذا الركود تقاعسًا من جانب علماء المسلمين في مواجهة الحضارة الأوربية بمخترعاتها ومبتكراتها وقوانينها التي تنظم وتحمي هذه المخترعات منذ أواسط القرن الثامن عشر وإبرام الاتفاقيات التي تؤكد الحماية الإقليمية والدولية لهذا الحق، إذ أصبح هؤلاء العلماء متلقين لحضارة أقوى ونظمها؛ الأمر الذي أدى إلى قصور في الدراسات الفقهية في البلدان العربية والإسلامية حيث أراح جل العلماء أنفسهم من عناء البحث والتنقيب بالتوجه شطر الثقافة القانونية للبلد الأجنبي الذي ارتبطت بها دراسته وكلٌّ بما لديهم فرحون.
على ظلال هذه المقدمات؛ بحثنا مسألة الملكية الفكرية تحت عدد من المحاور:
في المحور الأول وقفنا على ملامح من تقدير العرب والإسلام للتأليف والابتكار من شعر وكتابة وتأليف.
ومن ثم أبرزنا في المحور الثاني معرفة الفقه الإٍسلامي لعديد من المفاهيم للملكية الفكرية، وأزلنا – ونحن نبحث هذه المفاهيم – شبهة الاحتكار من الحماية المطلقة للملكية الفكرية.
وثالثًا بيّنا مقصود الملكية الفكرية في الفقه الإسلامي بمعالجة قضية المصطلح والتأكد كذلك في معرفة الفقه الإسلامي "للملكية الفكرية" بوضع الشواهد الممثلة في بعض الوقائع الجزئية التي حدثت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبالنظر إلى القواعد الكلية في الشريعة الإسلامية.
وفي المحور الرابع بيّنا طبيعة حقوق المؤلف في التشريعات الوضعية وتتبعنا نشأة وتطور حماية هذه الحقوق داخليًا ودوليًا.
وفي المحور الخامس بحثنا وسائل وضوابط هذه الحماية.
وخلصنا في خاتمة البحث إلى النتائج والتوصيات التالية:
[1] إن حق الملكية الفكرية الممثل في حق المؤلف جديرة بالحماية القانونية إذ بها تحقق مصلحة عملية وشرعية لحماية حق المبتكر أو المؤلف ماليًا وأدبيًا.
[2] وجود مفاهيم إسلامية وقواعد شرعية تؤكد أهمية هذا الحق كالمصلحة المرسلة مما يؤكد معرفة الفقه الإسلامي هذه الملكية وحمايتها. وهذه المعرفة في اعتقادنا امتداد لمعرفة العرب حماية الشعر والكتابة والتأليف، ولا يضعف وجود هذا الحق عدم استخدام الفقه الإسلامي مصطلح (الملكية الفكرية).
[3] رغم توفر وسائل وضمانات الحماية التي كفلتها القوانين للملكية الفكرية؛ يُلاحظ من الناحية العلمية أنه يصعب كثيرًا تحقيق هذه الحماية خاصة في الدول النامية ومنها الدول الإسلامية. لذا نرى أن العلاج يكون بالدخول في الاتفاقيات الدولية وإنفاذ مشروع الاتفاقية الإسلامية لحماية الملكية الفكرية.
[4] إنشاء هيئات جماعية لإدارة هذه الحقوق وحمايتها.
[5] تشكيل محاكم خاصة للقضايا المتعلقة بهذه الحقوق.
[6] الاهتمام بتوفير سبل تشجيع وتطوير الأبحاث العلمية والإنتاج الفكري في الدول العربية الإٍسلامية ولا سيما المتعلقة بالعلوم التطبيقية مثل الصناعات الثقيلة والهندسة العالية والفيزياء النووية حتى نواجه عصر العولمة ومن بعد نهتم بحماية حق من يبتكر ويؤلف في تلك المجالات.
[1] تعريف الحق:(/1)
الحق في اللغة: نقيض الباطل، وجمعه (حقوق)، وهو يعني: ثبوت الشيء ويقال: حق الشيء: إذا ثبت ووجب(1)، ومن ذلك قوله تعالى: (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون)(2).
ولفظ (الحق) ذكر كثيرًا في القرآن الكريم(3) قال تعالى: (ولا تلبسوا الحق بالباطل)(4)، ويقصد بالحق: الواقع لا محالة، والحق: العلم الصحيح، والحق: العدل، والحق، الصدق.
أما الفقهاء المعاصرون فقد اختلفوا في تعريف الحق حيث عرفه الدكتور/ عبد الرازق السنهوري بأنه: "مصلحة ذات قيمة مالية يحميها القانون"(5). وعرّفه الشيخ/ علي الخفيف بأنه: "مصلحة مستحقة شرعًا"(6) ويرى الشيخ الخفيف بأن الحق متنوع، كالحق المالي، والحق الأدبي، ويرى البعض أن الحق: سلطة إدارية يستعملها صاحب الحق في حدود القانون وتحت حمايته"(7). وعُرّف بأنه: "سلطة على شيء أو اقتضاء وأداء من آخر وتحقيقًا لمصلحة معينة"(8).
وعلى ضوء هذه التعريفات للحق؛ نتساءل: هل عرّف الفقه الإسلامي حقوق المؤلف أو المُبتكِر؟
[2] ملامح من تقدير العرب والإسلام للتأليف والابتكار:
[أ] في الشعر:
لا ينكر أحد أن العرب في تاريخهم الفكري الطويل ملامح من تقدير واحترام لحق المبتكر المتفرد في مجال الشعر والأمثال والخطابة؛ مما يشير إلى معرفة العرب بحق من يؤلف أو يبتكر ولا سيما في مجال الشعر، إذ أن أوائل ما وصلنا من الشعر الجاهلي يبدأ بإقرار عطاء الأقدمين، وهو عطاء غير مجزوز "وما أرانا أن نقول إلا معادا"(9).
وتسجل لنا كتب التراث كثيرًا من حوادث سرقات الشعرن بل يكون أول من نادى بضرورة حماية حق المؤلف من العرب قبل المؤتمرات الحديثة التي تدعو إلى حماية حق المؤلف من أنشد الشعر:
[ب] الكتابة في الجاهلية:
كان الاهتمام بالكتابة وأدواتها في الشعر الجاهلي اهتمامًا كبيرًا، فقد عرف العرب المهارق، وهي الكتب الدينية أو كتب العهود والمواثيق(10).
قال المرقش الكبير، وقيل أنه سمّي المرقش لذكره الترقيش أي الكتابة في بيت الشعر:
وعرف العرب في الجاهلية أنواعًا متعددة من الكتابات فيها العهود والمواثيق والإملاء والرسائل وغيرها(11).
أما اهتمام الإسلام بالكتابة فظاهر لا يحتاج إلى تفصيل.
[ج] النساخة:
وهي عملية نسخ الكتب وكتابتها حيث أصبحت عملية ملازمة لانتشار الكتاب والتأليف، بل تحولت بعد مجيء الإسلام إلى صناعة إسلامية(12). حيث أصبح الناسخ فئة مؤثرة، إذ أصبحت النساخة تجلب الأجر المجزي، وكذلك أصبحت عملية تقليد الخطوط ومحاكاتها من العمليات التي لاقت رواجًا، وقد مارسها الكثير دون حرج.
وأصبح النساخ والورّاقون طبقة لها شأن تؤثر في نشر العلم، وتؤثر – بلا شك – في حق العالم، المؤلف أو المبتكر، حيث يذكر أن أحدهم قال: "آفة العلم خيانة الوراقين"(13).
لذا كان العلماء الأوائل يحرصون على نسخ كتبهم بأنفسهم حيث عرف علماء المسلمين النسخ كوسيلة لإبراز مؤلفات تخطها أيديهم على الورق بعد بذل الجهد في التفكير والكتابة بل وإعداد المداد حرصًا على مؤلفاتهم من التحريف أو السرقة، إذ من النساخ من كان يخون أمانته العلمية، فقد ذكر أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار إن وراقهُ أبا العباس المصري خانه واختزل عيون كتبه وأكثر من خمسمائة جزء من اصوله(14). ولكن لم نعثر على أمثلة تعكس كيفية حماية حقوق أولئك العلماء في ملؤلفاتهم.
[د] التأليف عند المسلمين:
لم يتجه الصحابة والتابعون في صدر الإسلام الأول إلى التأليف، وذلك لقرب عهدهم من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوفر الثقاة من الصحابة، الشيء الذي أعفاهم من التدوين والتأليف حتى أن بعضهم كره كتابة العلم، واستدلوا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه نهى عن الكتابة وقال: "إنما ضل من قبلكم بالكتابة". بالإضافة أنهم كانوا يعتمدون على الحفظ وكان الحافظ منهم إمامًا.
ثم بدأ التدوين والاهتمام بالكتابة التأليفية شيئًا فشيئا، وأخذ العلم تتسع دائرته فغلب على كل طائفة منهم ميل خاص إلى بعض المسائل والموضوعات واشتهر بها. وأخذت المسائل المتشابهة يوضع تحت مصدر. وأخذ التأليف يأخذ شكلاً واحدًا ممثلاً في تأليف مسألة جزئية مفردة لا يتجاوز منها حدود المسألة محورها أحد الأحاديث النبوية الشريفة، لذا ظهرت فروع في التفسير والمغازي والتاريخ والطبقات.
وقد بدأت حركة التأليف تشق طريقها إلى الوجود بصورة بارزة منذ عصر معاوية بن أبي سفيان الذي يقال أنه كان ينام ثلث الليل ثم ينهض فيحضر دفاتر فيها سِير الملوك ومكائدهم وأخبار حروبهم لتقرأ عليه،(15) واستمر الاهتمام طيلة القرنين الأول والثاني من الهجرة، وكذلك العصر العباسي.
وذهب الرأي الراجح لدى فقهاء المذاهب الأربعة إلى جواز أخذ المؤلف عِوضًا على مؤلفه(16). هذا بالطبع بجانب الحقوق الأدبية وهو الجانب المكمل للحق المالي للحقوق الفكرية.
[3] معرفة الفقه الإسلامي لمفاهيم مرتبطة بالملكية الفكرية:(/2)
من الثابت أن الإسلام يحرص أشد الحرص على صون الأصول العامة التي تحمي الحقوق الأمر الذي يدعونا أن نقر بأن الفقه الإسلامي عرف كثيرًا من المفاهيم المرتبطة بالملكية الفكرية والإنتاج الفكري الإنساني عمومًا. ونتج عن هذه المعرفة ظهور قواعد وضوابط تحكم تطور هذه الملكية بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
أولاً: المفاهيم المباشرة (تجميد حماية الملكية الفكرية):
[1] وضع القواعد والضوابط التي تحكم الملكية الفكرية كفالة للمحافظة على الإنتاج الفكري والابتكار الذهني عمومًا، وذلك بوضع القواعد الضابطة لاستنساخ المصنفات وما يرتبط بها من مظاهر كالأمانة العلمية واستهجان السرقات الأدبية.
[2] ففي مجال الابتكار الذهني أكّد فقهاء الشريعة الإسلامية على أهمية الابتكار بالنسبة للمؤلف(17) باعتباره شرطًا أساسيًا للإبداع الذهني الذي يجب توفره في العالم فقد اشترط ابن رشد في مقدمته(18) في العالِم خمسة شروط هي: الذهن الثاقب، الشهوة الباعثة، العمر الطويل، والجدة، والأستاذية، وهي شروط أغلبها ضرورية ولا يتوفر الإبداع الذهني للعالِم بدونها.
كما أكّد ابن المقفع على إدراك العرب الأقدمين لأهم خصائص التأليف التي تتمثل في الابتكار أو الإبداع الذهني، وحدد بصورة مباشرة إلى ضرورة لجوء العالِم إلى اختراع المعاني – أي التأليف والابتكار – للأمور المحدثة التي لم يقع قبلها أو لم يسبق سابق كتابتها لأن الحوادث والوقائع لا تنتهي ولا تقف عند حد.
[3] هناك تلازم بين اهتمام الإسلام بالإنسان وأهمية الفكر وبالتالي يتأتى أهمية الملكية الفكرية من أهمية الفكر حيث يعد التفكير أهم مظهر من مظاهر وجود الإنسان، إذ بالتفكير يتبوأ الإنسان المرتبة السامية ويتميز عن عالم الحيوان كذلك بالتفكير، يواجه الإنسان كل ما حوله ليكتشف منه ما يساعده على التكيف والبقاء وإنشاء الحضارات.
ولقد جعل الله الإنسان خليفته في الأرض وحمّله الأمانة الكبرى من أجل أن يحقق مسؤوليته من خلال التفكير ويقوم بالتكاليف التي فرضت عليه عند قبوله تلك الأمانة قال تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً)(19). وبهذا يمكن القول إن التفكير نعمة وهي فطرة، والإسلام دين فطرة. لذا تأتي أهمية صون نعمة التفكير.
[4] يكاد علماء الإسلام يجمعون على القول بحجية العقل في مجاله، قال الإمام الشافعي – رحمه الله –: "إن الله تعالى – جل ثناؤه – منّ على العباد بعقولهم بدرجات مختلفة، وهداهم السبيل إلى الحق نصًا ودلالة"(20). ومن هنا تأتي أهمية الملكية الفكرية من أهمية العقل بالإسلام إذ لا هداية إلا بالعقل(21).
[5] وفي مجال الحث على العلم والانتفاع به نظرت الشريعة الإسلامية إلى المؤلف أو المبتكر نظرة تقدير وإجلال فأصبغت عليه لفظ (العالِم). حيث ورد هذا التمجيد والتعظيم من شأنه في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة قال سبحانه وتعالى (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)(22). كما أوجبت الشريعة الإسلامية على الناس التعلم والانتفاع بالعلم، ولم يعادِ الإسلام التوسع في المعرفة الإنسانية بل حث أتباعه على البحث والنظر ومعرفة التاريخ والاعتبار بالأمم والأيام بل حث على أخذ الحكمة من أي وعاء خرجت لأن الكلمة الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها(23).
وفيما يتصل بتطور الحياة العلمية تركت الشريعة الإسلامية مجالاً رحبًا وواسعًا للعقل البشري كي يتحرك في دائرة السنن الكونية والاجتماعية تبعًا لثبات أو تغير تلك السنن. وهذا التغير الدائم في الحياة وما يقابله من تغيير السنن والقوانين اعترف بها الإسلام ولا يريد أن يقف أمامها أو يجمد المجتمع الإسلامي دونها.
وفي سبيل تحريك وتفعيل الفكر الإسلامي في داخل ثوابته من الأصول والقواعد العامة عدّ الإسلام الاجتهاد عملاً صحيحًا ومحببًا في حالتي الصواب والخطأ. وإذا نظرنا إلى الفكر الاجتهادي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم نجد أنه على الرغم من أن الفقه الإٍسلامي في هذا العصر كان فقهًا مبنيًا على الوحي الإلهي ممثلاً في الكتاب والسنة؛ إلاّ أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في مسائل معينة تشريعًا لأمته. فمن اجتهاداته عليه السلام أخذه الفداء من أسرى بدر، وإذنه للمتخلفين عن غزوة تبوك بالبقاء في المدينة لما قدموه من أعذار(24).
وإذا وصلنا النظر في العصر الحديث لدى رواد تجديد الفكر الإسلامي الشمولي الحركي لدى الشيخ/ حسن البنا نجده في مجال الاقتصاد يقرر حرمة المال واحترام الملكية الفكرية الفردية الخاصة ما لم تتعارض مع المصلحة العامة(25).(/3)
بل يعزي البعض أن حركة الركود في العالم الإسلامي خاصة في مجال التقنية والابتكارات عمومًا راجعة في كثير من جوانبها في تكرار المؤلفات والابتكارات في الدول والجامعات الإسلامية؛ لذا يرون أن معالجتها تتم بالتنسيق بين الدول الإسلامية بوضع آلية إشرافية موحدة(26) لهذه المؤلفات ولا سيما الرسائل الجامعية والبحوث العلمية لعدم تكرارتها كسبًا للوقت ووفرًا للجهد. ومن قبل الاهتمام بالبحث العلمي والإنتاج الفكري كأمر متلازم بالبحث عن وسائل حماية هذا الإنتاج الفكري، إذ نرى أن تقدم الدول العربية والإسلامية مرهون بالتقدم العلمي ونحن ندلف في الألفية الثالثة، خاصة والبعض يشير أن هنالك إحصائيات علمية بالغة الدقة تؤكد على أن الطاقات العلمية والإبداعية والفنية العربية إلى انحسار واضح في جميع المجالات، وبشكل خاص في حقول البحث العلمي والإنتاج الإبداعي عمومًا. فالطاقات التي كانت موجودة في كثير من الجامعات ومراكز الأبحاث العربية قد اضطرت إلى الهجرة إلى أوربا وأمريكا بسبب الروتين الحكومي القاتل، الأمر الذي يدعو إلى تهيئة المناخ والعلماء وتدارك الوضع بالسرعة القصوى بالاهتمام بالجامعات والمراكز البحثية(27).
ثانيًا: المفاهيم غير المباشرة (المفاهيم المرتبطة بحقوق الإنسان وحرياته):
[1] الإسلام دين ودنيا قال تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)(28)، حيث أتى الإسلام بنظام كامل وشامل للحياة ليحكم علاقات الناس وكافة أنماط السلوك سواء أكان هذا السلوك فرديًا أم جماعيًا، وليحكم كذلك غيرها من العلاقات كالاقتصادية والاجتماعية(29). وبالتالي يكون لكل فرد في المجتمع الحق في ممارسة العمل المناسب له والملائم لقدراته الذي يكفل له العيش الكريم، وعلى الدولة أن تهيء الفرص اللازمة لطالبيها حتى يكون لكل فرد عمل أو مهنة تكون مصدرًا للعيش الحلال يحميه من الالتجاء إلى الطرق غير الشرعية للعيش كالسرقة وغيرها. لذا يحث الإسلام على العمل بالاعتماد على عمل اليد قال تعالى: (فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله)(30)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده"(31).
هكذا يؤكد أن الإسلام كفل حق العمل في جميع صوره وصان كذلك ممتلكات الفرد وأجلّها حق الملكية.
[2] وإذا نظرنا إلى مسألة تحريم مهددات الفرد وممتلكاته؛ نجد أن الإسلام عرف أن النفس البشرية حريصة دومًا وتواقة للبحث عن الأمن والطمأنينة تنشدهما أينما وجدنا، وما ذلك إلا حبًا في الاستقرار الذي جُبل عليه الإنسان. والاستقرار لا يتم إلاّ بالمحافظة على الكليات الخمس وهي: (النفس، المال، العقل، العرض، الدين). ولا شك أن في حفظ المال ضرورة قصوى، وكيف لا والمال عصب الحياة لذا يكون صون وحماية حق الملكية ضرورة ما بعدها ضرورة ومن ثم يكون الاعتداء عليه بالسرقة(32) جريمة تؤثر على أمن الفرد والمجتمع.
[3] شدد الإسلام على حرية الرأي، وهذا التعبير قد يتجلى في مؤلف أو مبتكر، بل جعل التعبير عن الرأي واجبًا على كل مسلم وخاصة إذا كان من النوع الذي يدعو إلى الخير وينهى عن المنكر، وهذا التعبير يتجلى من مؤلف أو مبتكر، لذا نجد هذه الحقوق الفكرية الحماية الشرعية من الإسلام. وبالتالي لا نتردد بالقول إن صون وحماية هذه الحقوق الفكرية تكون أولى ونحن نشاهد في هذا العصر كيف أن كافة الأمم تقدس هذه الحقوق وتعد وتحشد لها المؤتمرات والإعلانات العالمية(33).
[4] حماية الملكية الفكرية وضوابطها وشبهة الاحتكار:
خلصنا من تناول المفاهيم المتصلة بالملكية الفكرية إلى أنّ هذه الملكية الفكرية مصونة من الاعتداء، ونرى أن هذه الحماية والصون تقوم على ثوابت معينة ممثلة ف الآتي:
[1] الملك لله وحده وأن الناس ما هم إلا مستخلفون.
[2] حق الملكية يتصل بوجود الفرد وبكرامته من جهة، وبناموس العمران من جهة أخرى، وبهذا المعنى لا تدرك هذه الملكية إلاّ بوجود صاحب الملكية حيث وجدت الملكية له ووجد لها(34) وتزداد أهمية الملكية كلما يقطع الفرد أشواطًا في المدنية كما هو حاصل الآن من اهتمام زائد بهذه الحقوق الفردية.
[3] حق الناس المحتاجين لهذه الملكية مما يحتم وضع قيود عن هذه الحقوق الفردية، وعليه يكون حسبها المطلق وكأن في الأمر احتكارًا.
لذا رأت التشريعات المختلفة وضع قيود على هذه الحقوق، وهي قيود ضرورية تحد من أخطار الملكية المطلقة وتوجيهها الوجهة الصحيحة، نجد هذا في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يمنع الضرر، (لا ضرر ولا ضرار)(35) وغيرها من القواعد الشرعية، لذا فلا يجوز للملكية الفردية عمومًا أن تنمو نموًا يلحق الضرر بالمصالح الجماعية.(/4)
لذا فإذا نمت الملكية الفردية بطرق تخالف المبادئ الأخلاقية التي أوجب الإسلام رعايتها فلوَلي الأمر حينئذ تقييد هذه الملكية لتحقيق المصلحة العام، ومن ثم تجد هذه الملكية في إطار تلك القيود الحماية القانونية والشرعية.
بعدها نتساءل: هل في هذه الحماية المطلقة للملكية الفكرية شبهة احتكار؟
جاء في المصباح: "احتكر فلان الطعام: إذا حبسه إرادة الغلاء و(الحكر) – بفتح الحاء والكاف أو إسكانها – بمعنى الاحتكار.
وفي الاصطلاح الفقهي يعرف: "حبس السلع أو جمعها من الأسواق حتى تشتد حاجة الناس إليها"(36). ويقول: الحَصْكَفِي في شرح الدر المنتهي: "إن الاحتكار شرعًا اشتراء الطعام ونحوه إلى الغلاء لمدة اختلفوا في تقديرها. وكلمة "نحو" في التعريف تجمعل الاحتكار شاملاً للقوت وغيره مما يحتاج إليه الناس(37).
بالنظر لهذه التعريفات وخاصة التعريف الموسع للسلع(38) باعتبارها كل كل ما يحتاج إليه الإنسان ربما أدخل ذلك الملكية الفكرية في مفهوم السلع، وبالتالي إمكانية تصور الاحتكار فيها. بل تلحق هذه الشبه حتى إذا اعتبرنا حق الملكية الفكرية هي أعمال، إذ من المعروف أن الاحتكار يمكن أن يلحق بالأعمال(39) في حالة قيام المشتغلين في المهن أو الحِرَف استغلال أعمالهم قصرًا عليهم بقصد أن يكسبوا كسبًا كبيرًا دون الآخرين.
وإذا أعملنا القواعد الشرعية العامة كقاعدة: (أن الأحكام – ولا سيما في المعاملات – معللة بجلب المصالح ودفع المفاسد)، وقاعدة: (لا ضرر ولا ضرار)، وعموم الحديث الشريف: (من احتكر فهو خاطئ)(40)؛ نخلص إلى أن الحماية المطلقة للملكية الفكرية ربما تحقق معها معنى الاحتكار(41). ولعل هذا ما دفع التشريعات لتحديد فترة الانتفاع بهذه الحقوق حدًا ومنعًا للاحتكار، ونحن نضع في ذهننا مفهوم الإسلام للعدالة الاجتماعية حيث تسامى بمدلولاته على أن تكون مجرد قوانين محددة تحمي أو تقيد حق الملكية الفكرية، إنما النظرة تتعدى إلى تحقيق هذه العدالة الاجتماعية بموازنة بين حق الفرد من ناحية، وحق المجتمع في الانتفاع بهذه الافكار والمبتكرات. والنظر والإقرار كذلك عند تنظيم هذه الملكيات بأنها ليس فقط لمجرت توزيع هذه الثروة المتحققة من عائد هذه المؤلفات والابتكارات الفكرية إنما تتعدى المسألة إلى حق العلم ونشره كوسيلة لقضاء الحوائج لتبادل المنافع(42).
[5] ماذا نقصد بالملكية الفكرية في الفقه الإسلامي؟
إن قضية المصطلح بصفة عامة لا يمكن فهمها إلا في إطار المنظومة الحضارية التي تنتهي إليها، وتكون الأهمية القصوى في حضاراتنا الإسلامية بل تعدّ من أدق مسائلها(43)، وإذا تساءلنا: لماذا؟ نجيب بالآتي: إن فقهاء المسلمين لم يقرروا أحكام المسائل الفقهية على أساس النظريات العامة وما ترتب عليها من بياناهم للمسائل المتفرعة عنها على غرار القوانين الحديثة السائدة في هذا العصر، حيث كانوا يهتمون بالفتوى والتصنيف للمسائل والجزئيات والفروع، لذا لا نجانب الصواب إذ قلنا إن فقهاء المسلمين كانوا يعرفون بأنّ سرقة مجهود الغير جناية، وإنّ احترام العقل والعلم في موقع اهتمام دون بحث هذه المسائل تحت عنوان حماية حق المؤلف – كما نعرفه اليوم –.
وبالتالي لا نشك كذلك في أنّ بعض الوقائع الجزئية التي حدثت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وكان له فيه قول أو تنبيه أو إرشاد له صلة بحماية هذه الحقوق بطريقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة (كالمفاهيم المرتبطة بهذا الحق التي تناولناها حالاً). ولعل هذا يدخل في فهم القاعدة الكلية بأن الإسلام صالح وشامل لكل المعاملات في كل زمان ومكان، وصدق من قال: "لا أغلط أبدًا إن أكدت أنّ أي موضوع جديد على الحياة الإنسانية المعاصرة كلها له بشكل أو بآخر أصل في الكتاب أو السنة أو وقائع السلف الصالحين"(44).
لذا نخلص إلى أنّ حق الفرد في التأليف والابتكار الذي يعالج في الفقه الوضعي الحديث تحت لافتة حق الملكية الفردية، هو حق مصان شرعًا على أساس المفاهيم التي سبق تناولها وعلى أساس مصادر التشريع كالمصلحة المرسلة(45)، وإن لم يشهد له دليل معين من الشرع إذ يكفي القول بأنّ حماية هذا الحق بمثابة جلب مصلحة للمؤلف ودفع مفسدة من مُعتدٍ على هذه المصلحة، وهو أمر مطلوب شرعًا.
ومن منظور العدالة؛ فإن المبتكر أو المؤلف قد بذل جهدًا كبيرًا في إعداد مؤلفه أو مبتكره، وبالتالي يكون أحق الناس به، سواء فيما يمثل الجانب المادي وهي الفائدة المادية المرجوة من عمله، أو الجانب المعنوي وهو نسبة العمل إليه، حيث يظل هذا الحق المزدوج خالصًا له ثم لورثته. وبناءً عليه يعتبر حق تقليد المبتكر أو إعادة طبع مؤلف أو نسخه اعتداء على الملكية الفكرية وسرقة توجب الإثم، ورتب حق تعويض للمؤلف المعتدى عليه وإتلاف أو مصادرة النسخ المطبوعة.(/5)
هذه الحماية تدخل في الشرع في دائرة حماية الحقوق الشخصية، إذ تعد هذه الحقوق من المنافع التي تعد في رأي جمهور الفقهاء غير الحنفية هي من الأموال(46)، إذا أنّ الأشياء والأعيان تقصد لمنافعها لا لذواتها والغرض الأظهر من جميع الأموال هو منفعتها كما قال شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام(47). بل إنّ متأخري الحنفية أفتوا بضمان منافع المغصوب في ثلاثة أشياء:
[1] المال الموقوف.
[2] ومال اليتيم.
[3] والمال المعد للاستغلال.
وذكروا أيضًا: "إنّ المنافع أموال مقدمة حتى تضمن بالعقود فكذا بالغصوب"(48)، ولا شك أن المؤلف حينما يطبع كتابه يقصد به أمرين: نشر العلم، واستثمار مؤلفه.
[6] حماية الملكية الفكرية النشأة والتطور:
تعتبر الملكية الفكرية هي ترجمة التعبير الإنجليزي (Intellectual Property) يشتمل فنيًا على نوعين من الملكية هما:
[1] الملكية الصناعية (Industrial Property).
[2] الملكية الأدبية والفنية (Literature and Artistics Property).
حيث تشمل الملكية الصناعية: براءة الاختراع، النماذج والرسوم الصناعية، وأسماء العلامات التجارية والإشارات وغيرها. أما الملكية الأدبية والفنية فتشمل: ملكية القصص والأشعار والكتابات العلمية وغيرها(49).
وتحديد هذا المعنى للملكية الفكرية كمصطلح من الأهمية بمكان، لأن هذا يعني أنّ هذا المصطلح يُقصد به: "مجموع ما يبتكره ويؤلفه الفرد".
أما حماية حق المؤلف على مؤلفاته الأدبية وابتكاراته العلمية هي حماية حديثة ظهرت في أواسط القرن الثامن عشر(50).
حظي حق المؤلف بعناية كبرى منذ قيام الثورة الفرنسية باعتبار أن حماية هذا الحق هو مظهر من مظاهر شخصية الفرد. ويرجح البعض أنّ حماية حق المؤلف قد ظهر في عهد الملكية قبل الثورة حيث كان يحصل من يرغب في طباعة كتاب على إذن عن طريق الترخيص الملكي(51).
صدر أول قانون لحماية حق المؤلف في فرنسا، وذلك في يناير 1871م، بعد قيام الثورة الفرنسية، بعدها صدر قانون 1892، وبموجبه امتدت الحماية إلى جميع المصنفات الأدبية والفنية وعقبه صدرو قانون 1896م، ثم قانون 1957م، وهو قانون شامل.
في إنجلترا ظهر أول قانون في عام 1710م وكان عبارة عن تشريع لحماية المؤلفات المطبوعة ثم صدر القانون الأساسي الخاص بحقوق المؤلف في 16 ديسمبر 1911م ناصًّا على حماية المؤلفات الأدبية والموسيقية والفنية وحماية الرسوم والنماذج الفنية والتماثيل والرسوم الزيتية وأعمال الهندسة والنحت والصور الفوتوغرافية(52).
في السودان صدر أول قانون(53) عام 1974م، وسُمّي بقانون حماية حق المؤلف، واستبدل به قانون 1996م، وهو قانون حماية حق المؤلف والحقوق المجاورة.
أما في الأردن فقد صدر أول قانون لحماية حق المؤلف في مارس 1910م، ونسبة لقدم القانون وعدم مواكبته للتطورات الثقافية والعلمية والتكنولوجية التي شهدها الأردن، أدّى لإصدار قانون جديد، وأعد بالفعل مشروع من قبل وزارة الثقافة والإعلام سُمي بمشروع قانون حماية حق المؤلف وذلك في الثمانينات من هذا القرن إلا أنّ القانون صدر أخيرًا في عام 1992م، وهو القانون النافذ الآن الذي ينظم حماية المؤلف في مختلف جوانبه(54).
وكانت مصر الدولة العربية الأولى التي اتصلت بالفعاليات الدولية الخاصة بحقوق المؤلف، إذ أنها دُعيت عام 1925م للانضمام إلى اتفاقية (برن)، كما أنها اشتركت في مؤتمري روما وبلغراد حول حقوق المؤلف عام 1928م، وعقب ذلك محاولات لإصدار قانون بحماية حق المؤلف وذلك بتقديم مشروع لمجلس الشيوخ عام 1948م، إلاّ أنه صدر أول قانون عام 1954م أي بعد قرابة نصف قرن من اتفاقية برن، ثم أدخلت عليه تعديلات في عام 1975م، وأخيرًا التعديل الذي تم لقانون قم 38 لسنة 1992م، حيث أدخل بموجبه مؤلفو الحاسب الآلي في نطاق الحماية القانونية.
وكان ثمرة جهد هذه الجمعية معاهدة برن التي أبرمت بين كثير من الدول لحماية حقوق المؤلفين سنة 1887م، ومن ثم نُقِّحت هذه الاتفاقية في مؤتمر باريس 1896م، ومؤتمر برلين سنة 1908م، ومؤتمر روما سنة 1928م، وذلك من أجل تضمين المخترعات الحديثة في الحقوق المحمية.
وكلما تطورت وسائط المعرفة تكون هنالك حاجة إلى إجراء التعديلات مما ينتج عنه في الغالب اختلاف الدول حول تمديد نطاق هذه الحماية، وخير شاهد على ذلك ما حصل في منتصف نيسان (أبريل) 1994م عندما وقّع ممثلو (125) دولة على اتفاقيات (الغات) على 35 وثيقة، حيث اختلفت الآراء حول مفهوم الإنتاج السمعي والبصري على وجهتين:
[1] وجهة نظر أمريكية.
[2] وجهة نظر أوربية قاتها فرنسا.
لذا قررت الاتفاقية استبعاد المشكلة. وهذا يوضح أهمية موضوع تحديد حقوق المؤلف.
وهذا الاختلاف ناتج لارتباط هذا التحديد وتأثيره بالهوية الثقافية من جهة، وخضوعه من جهة أخرى لاعتبارات عديدة منها اعتبارت تحرير التجارة الدولية.(/6)
عليه نخلص إلى القول بأنّ التصدي لمسألة حماية الملكية الفكرية قد يثير نقاطًا شائكة وعويصة حيث تثير مسألة كبيرة قد تهم الدولة أو دول العالم، وقد تنحصر هذه الأهمية في فرد واحد وفي مسألة خاصة جدًا كالأستاذ الذي واجبه التدريس كيف له أن يتمسك بحقه في ملكيته لما قال لطلابه، أو كيف لأديب أن يحمي حقه في عبارات استشهد بها شخص آخر في خطاب(55). هذا يقودنا إلى أن نتعرف على طبيعة هذا الحق.
[7] طبيعة حقوق المؤلف في التشريعات:
ثار جدل في شأن تحديد طبيعة حق المؤلف هل هو حق ملكية بالمعنى الصحيح؟ إن تشبيه حق المؤلف بحق الملكية قد أتى من الاعتقاد في أنّ كل ما يبتكر أو ينتج شيئًا يملكه.
يرى البعض أن استعمال لفظ (المِلْك) أو (المِلْكِية) هو استعمال مجازي، حيث من المعروف أن الأشياء المادية هي التي يمكن أن تقبل بطبيعتها لأن تكون محلاً للملكية ويصح حيازتها(56). أما الأفكار والحقوق المعنوية عمومًا بطبيعتها لا تقبل الاستئثار والحيازة باعتبار إنها لمجرد إذاعتها ونشرها تخرج من صاحبها وتشيع في المجتمع، وفي إشاعتها هذه ربما تصادف هوى في نفس صاحبها حيث يصبح الذيوع والشيوع لهذه الأفكار دليلاً لنجاح صاحبها، لذا يبررون هذه النظرية بأنّ المؤلف أصلاً لا يقصد أن تظل هذه الأفكار مقصورة إنما يقصد نشرها.
ثم إنّ حق المؤلف حق مؤقت على خلاف الملكية، فإذا رد بأن حق الملكية قد تزن في بعض صورها مؤقتة فإن ذلك التوقيت هو أمر استثنائي، ولهذه الأسباب يرى أصحاب هذا الاتجاه بأن حق الملكية الفكرية لا يعتبر حق ملكية.
وقد ذهب البعض إلى اعتبار حق المؤلف نوعًا من الحقوق العينية لأنه يخول صاحبه القدرة على القيام بأعمال معينة كحق الاستعمال والاستغلال والتصرف كصاحب الحق العيني سواء بسواء(57).
وبالطبع هذا يخالف النظرة التقليدية للحق العيني الذي لا يقع إلا على الأشياء المادية. ثم إنّ هذا الحق لا يمكن اعتباره من الحقوق الشخصية كحق الدائن قبل مدينه، لأنه لا يوجد رابطة بين صاحبه وبين شخص أو اشخاص معينين، وليس محله عملاً من الأعمال.
ويرى البعض أنّ حق المؤلف حق من نوع خاص لا يندرج تحت التقسيم التقليدي للحقوق، هذا ما سارت عليه محكمة النقض الفرنسية حيث وضعته في أحد أحكامها (أنّ حقوق المؤلف والاحتكار الذي تخوله تسمى خطأ سواء في اللغة التجارية أو لغة القانون باسم الملكية كما عرّفها ونظمها التقنين المدني بالنسبة للمنقولات والعقارات، فهي تقتصر على إعطاء صاحبها امتيازًا مقصورًا عليه في استغلالها استغلالا مؤقتًا(58).
ويرجع البعض أن صعوبة تحديد طبيعة حق المؤلف تأتي في صورة استغلال هذا الإنتاج الفكري (الحق الأدبي) حيث بموجب الحق الأدبي المجرد يصبح للمؤلف وحده تقرير مدى صلاحية الفكرة للنشر أو لا. ومتى ما نشرت الفكرة يجب أن تُنسب دائمًا إليه. كما يجب أيضًا أن تبقى الفكرة في الصورة التي أعرب عنها دون تغيير أو حذف. ولاحظ أن هذا الحق دائم وإن انتهى الحق المالي للمؤلف، وهذا يعني أن هذا الحق لا يجوز التصرف فيه ولا حيازته ولا رهنه أو الحجز عليه، لأن الحق الأدبي لا يدخل في حساب الذمة المالية، أما الشق الآخر وهو الحق المالي، فهو الذي يتمثل في إمكان الفرد من استغلال لهذه الأفكار حيث يستفيد المؤلف من هذه الحقوق المالية التي تدخل في الذمة خلاف الحق الأدبي، لذا يجوز التصرف فيه ورهنه والحجز عليه. وبهذا المعنى يرون بأن حق المؤلف هو حق مزدوج(59).
ويرجح بعض الشراح الحق الأدبي على الحق المالي للمؤلف، وعليه يرون أن هذا الحق شخصي، أي حق هو ملازم لشخصية الفرد وامتداد له باعتبار أن المؤلف هو من يملك حق تقرير نشر هذه الأفكار أو عدم نشرها.
ونخلص من استعراض الآراء المختلفة حول طبيعة حق المؤلف من أن تحديد هذه الطبيعة لا تخرج من كون هذا التحديد تحديدًا لطبيعة الحق الشخصي والحق العيني، والنظر كذلك إلى أحكام الحق أي الآثار المترتبة عليه بعد ثبوته لصاحبه على الوجه التالي:
[أ] بالنسبة لتقسيم الحق إلى: حق شخصي وحق عيني، فإن الحق الشخصي هو الحق الذي يقره الشرع لشخص على آخر، ومحله إما أن يكون قيامًا بعمل كحق البائع في تسليم الثمن أو امتناع عن عمل، والحق العيني هو ما يقره الشرع لشخص على شيء معين بالذات، أي هي العلاقة القائمة بين صاحب الحق وشيء مادي معين بذاته والتي بموجبها يمارس المستحق سلطه مباشرة على الشيء هو الحق العيني مثل حق الملكية. وواضح من أن هذا الشق من الحقوق هو الحق العيني، وهذا الحق في الغالب هناك خلاف حول طبيعته وحول آثاره.
[ب] أما بالنسبة للآثار المترتبة على حق المؤلف بعد ثبوته لصاحبه نرى أنّ هذه الأحكام تتمثل في أمرين:
الأمر الأول: هو استيفاء الحق إذ لصاحب الحق – هو المؤلف – أن يستوفى حقه بكل الوسائل المشروعة، والأصل في استيفاء الحق أن يكون بالعدل الممثل في مراعاة المصلحة العامة.(/7)
والأمر الثاني: هو حماية الحق حيث تقرر الشريعة الإسلامية حماية حق المؤلف من أي اعتداء بأنواع مختلفة من وسائل الحماية منها: المسؤولية المدنية، والمسؤولية الجنائية، ومن قبلها المسؤولية أمام الله الممثلة في الوازع الديني، وأيضًا تكون هناك حماية للمجتمع بنشر وابتكار ما ينفع الناس وذلك يتحقق بالدرجة الأولى بتوفير الوازع الديني للمؤلف أو المبتكر.
وهكذا تحمي الشريعة الإسلامية كل أنواع الحقوق الدينية والمدنية الخاصة والعامة لحق المؤلف باحترام حقه وعدم الاعتداء عليه وبمعاقبة المعتدي.
وكذلك تحمي التشريعات الوضعية هذا الحق ذا الطبيعة الخاصة وذلك بحماية المظاهر الأدبية الأمر الذي يضمن استمرار التوافق بين شخصية المؤلف وبين أثر إنتاجه (المادة 7 من قانون جماية حق المؤلف والحقوق المجاورة السوداني لسنة 1996م).
أما الحقوق المالية فتتمثل في استغلال المؤلف وحده أفكاره في أية صورة من صور الاستغلال، حيث لا يملك أحد استغلال المبتكر أو المصنف دون اذن سابق من المؤلف أو من يخلفه (المادة 18 من قانون حماية حق المؤلف السوداني).
والسؤال هو: هل هذه الحقوق مطلقة؟
من الثابت أن حق المؤلف حق مقيد أي غير مطلق، وذلك ليستفيد به كافة الناس بقدر استفادة المؤلف نفسه.
وضع المشرع السوداني من القيود على هذا الحق في المادة 1/14 من قانون 1996م، حيث نصت المادة على الآتي:
1- مع مراعاة المادة (18)؛ يجوز للصحف والمجلات والنشرات الدورية والإذاعة والتلفزيون:
[أ] تنشر مقتبسًا أو مختصرًا أو بيانًا موجزًا من المصنف بغرض التحليل والدراسة أو التثقيف أوا لاخبار.
[ب] تنقل المقالات أو المحاضرات أو الأحاديث الخاصة بالمناقشات السياسية أو الاقتصادية أو العلمية أو الدينية أو الاجتماعية التي تكون محل اهتمام الرأي العام في وقتها.
[ج] تنشر أو تنقل أي صور أخذت لحوادث أو وقعت علنًا أو كانت لأشخاص رسميين أو مشهورين ويجب في كل الأحوال أن يذكر اسم المصنف المنقول عنه واسم مؤلفه.
2- يجوز للفرق الموسيقية وقوات الشعب المسلحة والشرطة والمحليات والمسرح أن تقوم بإيقاع أو تمثيل أو أداء أو عرض أي مصنف بعد نشره على أن لا يحصل على مقابل مالي نظير ذلك.
3- يجوز في الكتب المدرسية أو المعدة للتعليم في كتب التاريخ آداب وفنون:
[أ] نقل مقتطفات قصيرة للمصنفات سابقة النشر.
[ب] نقل أي رسومات أو صور أو تصميمات أو مخطوطات أو خرائط على أن يختصر النقل على ما هو ضروري لتوضيح المكتوب.
4- يجوز نقل أو ترجمة أو اقتباس مصنف منشور لأغراض الاستعمال الخاص أو الشخصي عدا برامج الحاسب أو بنوك المعلومات وتقليد المصنفات الرسمية.
5- يجوز لأعضاء المكتبات العامة لخدمات الأرشيف نقل مصنف منشور لأغراضهم الداخلية مثل تجديد النسخ التالفة أو استعادة النسخ والمخطوطات المفقودة وينسحب ذلك على التبادل الداخلي للمكتبات ودور الإرشيف.
6- يجوز لمؤسسات التعليم لأغراض غير تجارية نقل المصنفات القصيرة أو المقالات أو أجزاء قصيرة من المصنفات المنشورة بالإضافة إلى إدخالها في البرامج الإذاعية المدرسية والتسجيلات الصوتية لأغراض الوسائل الإيضاحية في عمليات التدريس.
7- يجوز لمؤسسات البحوث التجارية الخاصة نقل المقالات العلمية أو المصنفات العلمية القصيرة أو أجزاء قصيرة منها لأغراض داخلية وخاصة للإيفاء بمتطلبات الذي يقومون بإعداد الدراسات والبحوث.
8- يجوز استعمال مصنف منشور لاغراض الإجراءات القانونية إذا دعت الحاجة إليه.
9- يجوز لهيئات البث أن تتيح باستعمال معداتها التسجيلات المؤقته للمصنفات لأغراضها الإذاعية، كما يجوز إبادة التسجيلات خلال ستة أشهر من إنتاجها، ومع ذلك يجوز الاحتفاظ بنسخة من هذه التسجيلات لأغراض الوثائقية.
10- يجوز للاشخاص الذين يمتلكون بصورة مشروعة نسخة من برامج الحاسوب أو من بنك المعلومات للإلكترونات الاقتباس منها ويجب عليها الحفاظ على نسخ المصنفات بغرض حماية الأصل المنتج منها.
من خلال استعراضنا للمادة (14) والتي اخترناها كنوذج باعتبار القانون السوداني من أحدث القوانين، وصدوره كذلك من مشروع توجه شطر الفقه الإسلامي في كل قوانينه منذ عام 1983م، بالإضافة إلى أنّ هذه القيود تكاد تكون مطابقة في أغلب التشريعات وهي ترد على حق المؤلف لتحقيق المصلحة العامة إذ الهدف دائمًا أن تكون الدولة والأمم تشجع تيسير سبل الثقافة والابتكارات العلمية للنفع العام من نعمة نتاج العقول والكسب الإنساني عمومًا دون احتكار وحبس لهذه الأفكار.
[8] وسائل تحقيق الحماية:
تكفل القوانين حماية فعالة لحق الملكية الفردية (حق المؤلف) بوسيلة فرض عقوبات جنائية وأخرى مدنية توقع على من يعتدي على الحق هذا الحق، ومن ناحية أخرى يجعل المشرع للمؤلف أو المبتكر الذي يعتدي على حقه طلب إزالة آثار ذلك الاعتداء، وذلك بمطالبة تعويض الأضرار التي ترتبت نتيجة هذا الاعتداء.(/8)
ويلاحظ أن القوانين تأخذ في الاعتبار أنّ النزاع بين المؤلف والمعتدي قد يطول لذا يخول للمؤلف المعتدى على حقه بعض الإجراءات التحفظية لمواجهة الاعتداء على حقوقه والمحافظة عليها لحين الفصل في الدعوى وتتخذ بهذه الإجراءات التحفظية في وقت نشر المصنف أو عرضه أو صناعته(60).
إذا أخذنا القانون السوداني كمثال نجد أنّ المادة 36-(1) من قانون حق المؤلف والحقوق المجازة لسنة 1996م تبين كيفية الحماية الجنائية بالنص على:
(يعاقب كل من يرتكب جريمة الاعتداء على حق المؤلف بغرامة يترك تقديرها للمحكمة أو السجن لمدة لا تتجاوز ثلاث سنوات أو بالعقوبتين معًا).
وتقضي الفقرة الثانية من نفس المادة بعقوبة تبعية، وهي المصادرة أو إبادة نسخ ذلك المؤلف إذا رأت المحكمة أنّ تلك النسخ ناتجة من الاعتداء على حق المؤلف.
كذلك أعطى القانون اختصاصًا للمحاكم المدنية بنظر دعاوى التعويض في حالة الاعتداء. وللمحكمة المدنية كذلك بناءً على طلب المؤلف المعتدى على حقه أن تصدر أمرًا بتوقيع الحجز على المصنف المقلد أو المصنف موضوع النزاع لحين الفصل في الدعوى، فيجوز للمحكمة أن تقوم بالإجراءات التحفظية اللازمة. وإذا ثبتت المسؤولية المدنية بتوافر شرائطها من: خطأ، وضرر، ورابطة سببية؛ يقع على المعتدي التزام رد الشيء إلى أصله وذلك بإتلاف النسخ أو الأشياء المقلدة. بالإضافة إلى ذلك تجوّز للمحكمة تعويض المؤلف عما لحقه من ضرر (المادة 38 من القانون السوداني).
وإن كانت هذه الوسائل كفيلة بتحقيق حماية لحقوق المؤلف إلاّ أننا نلاحظ أن هنالك في الغالب عدم الملائمة المرجوة بنظر قضايا الملكية الفكرية المقدمة أمام المحاكم العادية لطبيعة هذه الحقوق المعنوية، وكذلك لطبيعة أطراف الدعوى مما يدعونا إلى المطالبة بإنشاء محاكم(61) لمثل هذه القضايا بقضاء مؤهل تأهيلاً متصلاً بهذه الحقوق، وكذلك اتباع إجراءات خاصة لإثبات هذه الحقوق وغيرها من الإجراءات مثل تخفيض رسوم التقاضي وإشراك جهات فنية علمية كمحكمين أو موفقين لمساعدة المحكمة للوصول للقرارات السليمة.
[9] حماية حق المؤلف دوليًا:
حماية حق المؤلف لا تقف عند حد حماية الدولة، إنما تتعدى إلى عناية العائلة الدولية لهذا الحق، وذلك عن طريق التشريعات الوطنية وتنظيم هذه الحماية إقليميًا ودوليًا.
كمثال للرعاية الدولية لحق المؤلف؛ نضع بالتفصيل ما جاء بنصوص مشروع الاتفاقية الإسلامية لحماية حق المؤلف في الدول الإسلامية والتي وضعتها المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم(62).
حماية حق المؤلف طبقًا لمشروع الاتفاقية الإسلامية لحماية حقوق المؤلفين:
قدم المشروع للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم في خطتها للعام 1994م باسم: "مشروع الاتفاقية الإسلامية". بينت المادة (2) من المشروع أهمية حماية حقوق المؤلفين، وذلك بالنص على الآتي:
(إدراكًا من الدولة الإسلامية المتعاقدة لأهمية نظام لحماية حقوق المؤلفين يلائم جميع الدول الأعضاء، لذلك كانت الحاجة لتجد هذه الحماية اتفاقية محددة تكفل استكمال الوثائق الإقليمية والدولية النافذة دون أن تمس بما من شأنه أن يشجع على الإبداع وعلى نشر المصنفات التي يمكن أن تسهم في بناء صرح الحضارة الروحية والمادية للعالم الإسلامي).
حددت الاتفاقية المصنفات المحمية في:
[أ] الكتب والكتيبات وغيرها من المواد المكتوبة.
[ب] المحاضرات والخطب الدينية وغير الدينية.
[ج] المؤلفات المسرحية.
[د] المصنفات الموسيقية سواء كانت مصحوبة بكلمات أم لا.
[هـ] مصنفات تصميم الرقصات والتمثيل الإيمائي.
[و] المصنفات الإذاعية ذات الخصائص الإبداعية والمصنفات السينمافوتغرافية وغيرها من المصنفات السمعية والصوتية.
[ز] أعمال الرسم والتصوير والعمارة والنحت والنقش والحياكة الفنية.
[ح] أعمال التصوير الفوتوغرافي بما في ذلك الأعمال التي يستخدم فيها اسلوب شبيه بالتصوير الفوتوغرافي.
[ط] أعمال الفنون التطبيقية سواء كانت حرفية أو صناعية.
[ي] الصور والخرائط الجغرافية والتصاميم والمخططات والأعمال التشكيلية المتصلة بالجغرافيا والطبوغرافيا وفن العمارة والعلوم.
[ك] مصنفات الفلكلور وبصفة عامة المصنفات المندرجة في عداد التراث الثقافي التقليدي والسعي بما فيها المخطوطات.
وتقضي المادة (4) حماية الحقوق المالية للمؤلف وذلك بمنحه هذا الحق شخصيًا أو لمن يفرضه وحصر حق استنساخ المصنف في أي شكل أو عرضه للجمهور لصاحبه.
بالإضافة للحق الأدبي من أن ينسب المصنف لأسمه وحقه في التعديل كذلك أوضحت الاتفاقية نقل حقوق المؤلف حيث ذكرت في هذا الشأن: بأنه يجوز التنازل بلا مقابل كليًا أو جزئيًا عن الحقوق المالية للمؤلف.
أما في شأن الحقوق المعنوية فذكرت الاتفاقية أنّ هذه الحقوق غير قابلة للتصرف أو التقاضي حيث قيدت استفادة الوراثة من هذا الحق الأدبي انقضاء الحقوق المالية.(/9)
نظمت الاتفاقية كيفية إدارة حقوق المؤلف بقيام الدول الأطراف في هذه الاتفاقية بإنشاء أجهزة وطنية تعمل على التطبيق الفعلي للقوانين الوطنية التي تحمي الإبداع الفكري وتشجع التنمية الثقافية والوطنية مع ترك الأمر للتشريعات الوطنية في كيفية تحقيق هذه الحماية الفعالة للحقوق المادية والمعنوية للمؤلفين.
وأوضحت الاتفاقية وسائل حماية حق المؤلف ولخصتها في الآتي:
1- تنشأ لجنة دولية حكومية لحقوق المؤلف يناط بها ما يلي:
[أ] دراسة المشكلات المتعلقة بتطبيق هذه الاتفاقية(63).
[ب] إعلام الدول الأطراف عن تطور حماية حقوق المؤلف.
[ج] تقديم توصيات إلى المدير العام بشأن ما ترجو اللجنة تحقيقه من مناشط في إطار المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة.
2- تتألف اللجنة الدولية الحكومية من نصف عدد الدول الأعضاء في هذه الاتفاقية.
3- يحدد النظام الداخلي للجنة طرائق انتخاب أعضاء اللجنة وإعادة انتخابهم عند الاقتضاء.
وحرصت الاتفاقية للإشارة بعدم تأثيرها على الحقوق والالتزامات الدولية للدول المتعاقدة تجاه غيرها من الدول وفقًا للاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية حق المؤلف، وكذلك لا تؤثر في المعاهدات النافذة بين الدول المتعاقدة والتشريعات الوطنية.
خلاصة القول بشأن هذه الاتفاقية المقترحة من قبل المنظمة الإسلامية العربية أنها تؤكد أهمية حماية حق المؤلف في الدول الإسلامية. وأنها إعمال لتلك المفاهيم التي تناولناها في هذه الورقة التي كفلت الحماية للفرد في جميع حقوقه، وبالتالي تكون حماية هذه الحقوق الهامة أولى في الإسلام بل إنّ الأولوية تكون قصوى، ونحن نرى اهتمام جميع التشريعات بهذه الحماية والإسلام بالطبع أكثر حرصًا على رعاية مصالح العباد.
لذا نقول وإن فات عل فقهاء المسلمين الأوائل التنظيم الدقيق لوسائل الحماية والضمان لهذه الحقوق فهنالك – والحمد لله – السياج القوي في فقهنا الإسلامي القائم على قواعد كلية تحقق هذه الحماية أدناها ما يتحسسه الفرد في سريرة نفسه، حيث: (الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاس)(64).
لذا تخلص إلى أنّ الملكية الفكرية – أي حق المؤلف – أصبح معترفًا ومصانًا في القوانين والأعراف، وأصبح التعدي عليه بغير حق عدوانًا وظلمًا يكون المسلم أحرص على صون ورعاية هذا الحق حيث أنه مأمور بالوفاء بالذمم والعهود.
----------
(1) ابن منظور: لسان العرب، دار المعارف، طبعة منقحة، القاهرة باب (حق)، 2/939-940.
(2) سورة يس، الآية (7).
(3) ورد لفظ الحق في القرآن الكريم (194) مرة ولفظ حقًا (11) مرة انظر: المعجم لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، أشار إليه د. عوض الحسن النور في كتابه "حقوق الإنسان في المجال الجنائي" الطبعة الأولى 1993م.
(4) سورة البقرة، الآية (42).
(5) السنهوري: مصادر الحق في الفقه الإسلامي "دراسة مقارنة بالفقه العربي"، طبعة معهد البحوث والدراسات الإسلامية، 1967م، 1/9.
(6) الشيخ علي الخفيف: الحق الذمة، مكتبة وهبة، 1947م، 36.
(7) حسن كبرة: أصول القانون مطبعة دار المعارف، 1960م، 553.
(8) فتحي الدريني: الحق وسلطان الدولة في تقيده، مطبعة دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، 163.
(9) أشار إليه د. جورج صبور: الملكية الفكرية حقوق المؤلف، سوريا، دمشق، دار الفكر، 1996.
(10) د. عون الشريف قاسم: دراسات متقدمة في اللغة العربية "مذكرات الخرطوم" معهد الخرطوم الدولي للغة العربية، 1984م، 2.
(11) قاسم عثمان النور: الكتابة والمكتبة في الحضارة الإسلامية منظر تاريخي "رسالة دكتوراه غير منشورة"، كلية الآداب جامعة الخرطوم، 1994، ص 7 وما بعدها.
(12) قاسم عثمان النور: الكتابة والمكتبة، المرجع نفسه، 181.
(13) المصدر السابق، 185.
(14) المرجع نفسه 189.
(15) السعودي علي بن الحسن "أبو الحسن": مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مصر، مطبعة السعادة، 1383، 5/78.
(16) د. نواف كنعان: حق المؤلف النماذج المعاصرة في حق المؤلف ووسائل حمايته، الطلعة الأولى 1407هـ، - 1987م ص 21 وما بعدها.
(17) د. نواف كنعاني: حق المؤلف، المرجع السابق، ص 21 وما بعدها.
(18) انظر: ابن رشد، المقدمة، الجزء الأول والثاني، مطبعة السعادة القاهرة، 31.
(19) سورة الأحزاب، الآية (72).
(20) الرسالة للإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق وشرح أحمد محمد شافع، دار الفكر، باب الاجتهاد وذم التقليد.(/10)
(21) أورد الشاعر الفيلسوف محمد إقبال في كتابه عن "التجديد في الفكر الإسلامي" مؤداها أن محمد صلى الله عليه وسلم كان لا بد أن يكون خاتم الأنبياء، وأن تكون رسالته آخر الرسالات، لأنه جاء ليدعو إلى تحكيم العقل فيما يعرض للناس من مشكلات وما دمت قد ركنت للعقل؛ فلم تعد بحاجة إلى هداية سواء ما تمليه عليك الأحكام. أشار إليه د. زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي، القاهرة، دار الشروق، الطبعة التاسعة، 1993م.
(22) سورة المجادلة، الآية (11).
(23) أخرجه الترمذي في سننه برقم 2611، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة. وانظر: شرحه تحفة الأحوزي، 3/382، دار الكتاب بيروت، وابن ماجة باب الحكمة، 2/281.
(24) محمد عبد الملك ابن هشام: السيرة النبوية، دار القلم، مصر، 4/171-173.
(25) محسن عبد الحميد: تجديد الفكر الإسلامي "سلسلة قضايا الفكر"، المعهد العالي للفكر الإسلامي، 1416هـ-1995.
(26) د. أكرم ضياء العمري: التراث والمعاصرة، كتاب الأمة، العدد (10)، 1405هـ.
(27) الباحث د. مسعود ضاهر: مقال بعنوان "هل يواجه العرب عصر العولمة بمراكز أبحاث علمية معطلة؟"، جريدة الاتحاد، الإمارات العربية، العدد 8964، 2 يناير 2000.
(28) سورة القصص، الآية (77).
(29) د. فيصل شطناوي: حقوق الإنسان وحرياته الاساسية، دار حامد، عمان، 1998م، ص 18 وما بعدها.
(30) سورة الجمعة، الآية (10).
(31) أخرجه البخاري في صحيحه برقم 1930، كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده.
(32) السرقة: هي أخذ المال خفية مثله بلا شبه، والمراد بأخذ المال؛ هو الاستيلاء عليه دون علم المجني عليه أي خفية عنه. انظر في ذلك: فارس عبد الرازق القدومي: حدية السرقة بين الاعمال والتعطيل وأثره على المجتمع الإسلامي "رسالة ماجستير جامعة الأزهر"، 1397هـ - 1977م، دار التوفيقية للطباعة والنشر، مصر، 1984م، ص 26 وما بعدها.
(33) نصت المادة (17) من الإعلان الفرنسي على أن حق الملكية باعتباره حقًا مقدسًا غير جائز المساس به ولا يمكن أن يحرم أحد منه إلا إذا رأي المشرع أن هنالك ضرورة قصوى تقضي بذلك وبشرط أداء تعويض سابق وعادل.
(34) د. عبد السلام الذهني: الحقوق وتعارضها وأحوالها، مطبعة مصر، القاهرة، 1945م.
(35) سنن ابن ماجة، كتاب الأحكام، برقم 2332.
(36) د. عبد الكريم الخطيب: "السياسة المالية في الإسلام وصلتها بالمعاملات المعاصرة"، دار الفكر العربي، 1380هـ - 1960م.
(37) د. محمد سلام: مقال بعنوان: "الاحتكار وموقف التشريع الإسلامي"، مجلة القانون والاقتصاد، العدد الثاث، السنة السادسة والثلاثون، 1966.
(38) قانون الرقابة على السلع السوداني لسنة 1978م، تعديل 1989م المادة (3) حيث وسع من نطاق الاحتكار (التخزين) حيث هنا احتكار كل السلع وساوى في المنع حق الملكية والحيازة.
(39) د. محمد سلام مذكور، المقال السابق.
(40) أخرجه مسلم برقم 3012، كتاب المساقاة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات.
(41) نرى أن هذا المووضع يحتاج إلى بحث عميق لا تسعه هذه الورقة.
(42) د. صبحي الصالح: النظم الإسلامية نشأتها وتطورها، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة، مايو 1978م، ص 60 وما بعدها.
(43) محسن عبد الحميد: تجديد الفكر الإسلامي؛ المرجع السابق.
(44) المرجع السابق نفسه.
(45) د. وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته، دار الفكر، دمشق، سوريا، الطبعة الرابعة، 1418هـ - 1997م، 4/2861.
(46) أنظر: المغني واشرح الكبير على متن المقنع، 5/256 و420. انظر كذلك: الأم، الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي مع مختصر المزني، كتاب الغضب، دار الفكر للطباعة والنشر، 1403هـ - 1983م، 8/216 وما بعدها. انظر كذلك: الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، العلامة أبي البركات أحمد بن محمد بن أحمد الدردير، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه، 53.
(47) د. وهبة الزحيلي، المرجع السابق، 2862.
(48) البناية شرح الهداية، لأبي محمد محمود بن أحمد العيني، دار الفكر، الطبعة الثانية، 1411هـ - 1990م، 10/291.
(49) د. جورج حبور: في الملكية الفكرية – حقوق المؤلف، دار الفكر المعاصر، بيروت، 1996م، ص 19 وما بعدها.
(50) د. عبد المنعم البدراوي: شح القانون المدني في الحقوق المدنية الأصلية، مطابع دار الكتاب العربي، مصر، الطبعة الثانية، 1956م، ص 175 وما بعدها.
(51) د. عبد الرازق السنهوري: الوسيط في شرح القانون المدني، مصر، 1967م، 8/383.
(52) د. أحمد سويلم العمري: حقوق الإنتاج الذهني، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1967م، 30.
(53) قانون حماية حق المؤلف في ملف التشريع رقم 320.
(54) راجع المادة (3) من قانون حماية حق المؤلف الأردني، لسنة 1992م.(/11)
(55) فشل سياسي أمريكي في الحزب الديمقراطي هو جورج بايدت من ترشيح نفسه في الحزب لرئاسة الجمهورية مع دوكاليس مرشح الحزب للرئاسة عام 1987م، وذلك إثر انسحابه بعد أن عُرف أنه اقتبس عدة أسطر من خطاب لينوك الزعيم العمالي البريطاني. كذلك نشرت الصحف عام 1988م بأنّ وكالة الأنباء الليبية اتهمت الرئيس الأمريكي ريغان بأنه يأخذ أفكار الرئيس القذافي من الكتاب الأخضر وينسبها إليه.
(56) د. عبد المنعم البدراوي: شرح القانون المدني، المرجع السابق، 228.
(57) شفيق شحاته: شرح القانون المدني الجديد، المطبعة العالمية، القاهرة، 1951م، 1180.
(58) د. عبد المنعم البدراوي: المرجع السابق، 229. أساس أشار إلى الفرز، 1903، 1-5.
(59) المصدر السابق نفسه، ص 230.
(60) د. محمد حسن قاسم: الحقوق وغيرها من المراكز القانونية، الإسكندرية.
(61) أنشئت حديثًا محكمة خاصة للملكية الفكرية بالخرطوم.
(62) المستشارة ابتسام عوض المهدي: "بحث غير منشور في حقوق المؤلف"، بدون تاريخ، الخرطوم، أشارت إلى مشروع الاتفاقية (المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم).
(63) نفاذ الاتفاقية يكون بعد انقضاء شهر على إيداع الوثيقة الخاصة للتصديق أو القبول أو الانضمام حيث بعدها تصبح الاتفاقية تأخذ تجاه كل دولة تصدق عليها.
(64) أخرجه مسلم في صحيحه برقم 4632، كتاب البر والصلة والآداب، باب تفسير البر والإثم. أخرجه غيره من أصحاب السنن بروايات مختلفة.
* رئيس قسم القانون المدني بجامعة النيلين.(/12)
الممكن والمعهود والمستحيل أ.د. جعفر شيخ إدريس*
الممكن أوسع دائرة من المعهود، وأوسع دائرة مما يمكن تفسيره في حدود معارفنا العلمية الحالية. لكن كثيراً من الناس تضيق أعطانهم عن هذا فيسارعون إلى إنكار ما لم يعهدوا، ويسارعون إلى إنكار ما لا تفسير له في حدود ما عندنا من علم، بل إن بعضهم يظن أن غير المعهود، أو غير ما يمكن تفسيره في حدود العلم المعهود مستحيل عقلاً. ويزداد الأمر عجباً حين ترى أن ضيقي الأفق هؤلاء كثيراً ما يدَّعون العقلانية، أو يدَّعون العلمية.
المعهود هو ما عرفناه وعهدناه واقعاً، كطلوع الشمس من جهة الشرق، وكمقدرة الناس على الكلام بألسنتهم، وكإرواء الماء للظمآن. الممكن هو ما يمكن وقوعه وإن لم يقع. فوصول الناس إلى القمر كان ممكناً قبل أن يقع، وكذلك السفر بالطائرات، والحديث بالهواتف. المستحيل ما لا يمكن أن يحدث بأي حال من الأحوال، كوجود الشيء الواحد نفسه في مكانين مختلفين، وكاجتماع الإيمان والإلحاد في قلب واحد، وكالكلام والصمت.
من الأمثلة التي ذُكرت في القرآن الكريم لهذه المستحيلات قوله ـ تعالى ـ ردًا على الذين زعموا أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً: {وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنجِيلُ إلاَّ مِنْ بَعْدِهِ}
[آل عمران: 65].
وقوله: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101].
أي أنه من المستحيل أن يكون ولد له أب وليس له أم. وأما قوله ـ تعالى ـ: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 4].
فليس المقصود به ولداً يلده ـ سبحانه ـ فهذا يتناقض مع الآية السابقة، وإنما المقصود به ولد متبنى بدليل قوله ـ تعالى ـ {مِمَّا يَخْلُقُ}.
إن كون الشيء ممكناً لا يعني كونه لا بد أن يقع؛ لأن الممكن إنما يقع إذا تحققت شروط وقوعه، وإذا لم تتحقق فقد لا يقع أبداً وإن ظل وقوعه ممكناً.
المعهود نوعان: معهود طبيعي، ومعهود ثقافي. المعهود الطبيعي هو الذي يقع بحسب ما وضع الله ـ تعالى ـ في الكون من قوانين. وأما المعهود الثقافي فأعني به ما يعتاده الناس باختيارهم سواء كان حسناً أو سيئاً. وإذا كانت أعطان بعض الناس تضيق فتنكر ما لم تعهد في الطبيعة، فإن بعض الأعطان تكون أضيق من ذلك فتنكر كل ما لم تعهده في ثقافتها وعاداتها وتقاليدها وتعده منكراً.
الناس بالنسبة للمكن غير المعهود نوعان: نوع يستغرب وقوعه لكنه لا يعتقد استحالته، ونوع يعتقد أن وقوعه غير ممكن، أي يعتقد استحالته.
إنه لأمر طبيعي أن يستغرب الإنسان ما لم يُعهد وأن يتعجب منه إذا ذكر له.
لذلك كان من الطبيعي أن يستغرب نبي الله زكريا ـ عليه السلام ـ أن يكون له ولد من امرأة عاقر ورجل قد بلغ من الكبر عتياً مع أن الذي أخبره بذلك هو الله الذي أرسله.
{يَا زَكَرِيَّا إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 7 - 9].
وكان من الطبيعي أن تستغرب مريم ابنة عمران قول المَلَكِ لها: {قَالَ إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم: 19]، وكان من الطبيعي أن تسأله مستغربة: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 20]، وكان من الطبيعي أن يقول قوم مريم لها: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29]، مثل هذا الاستغراب أمر لا بد منه، وإلا استوى كون الشيء معهوداً معروفاً وكونه ليس بمعهود ولا معروف، وكان من لوازم ذلك أن يصدِّق الإنسان كل ما يقال له من غرائب. ولذلك فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يذم زكريا ولا ذم مريم على استغرابهما، وإنما بيَّن لهما أن ما استغرباه أمر ممكن وأنه داخل في قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه سيقع فعلاً.
التصديق بمثل غير المعهودات هذه التي يخبر بها الله ـ تعالى ـ أناساً لم يشهدوها هو من علامات حسن العلم به سبحانه، وقوة الإيمان به.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها، التفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أُخلَق لهذا، ولكني إنما خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله! ـ تعجباً وفزعاً ـ: أبقرة تكلم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فإني أومن به وأبو بكر وعمر».(/1)
وقال أبو هريرة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بينما راع في غنمه، عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة، فطلبه حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب فقال له: من لها يوم السبع، يوم ليس لها راع غيري؟»(1) فقال الناس: سبحان الله! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فإني أومن بذلك وأبو بكر وعمر».
وفي رواية لهذا الحديث: «وما هما ثَمَّ». يعني لم يكونا موجودين حين ذكرهما الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
الخلط بين الممكن والمعهود والمستحيل هو أساس الحجج التي اعتمد عليها كل الذين أنكروا بعض حقائق الدين التي بلَّغتهم إياها الأنبياء.
كان هو أساس حجج العرب الجاهليين ومن سبقهم ممن كفر برسل الله، ومن جاء بعدهم من الزنادقة المنافقين والملحدين إلى يومنا هذا. انظر إلى الحجج التي اعتمدوا عليها في إنكارهم للبعث: {أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً} [النازعات: 11].
{وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 49 - 51].
فهؤلاء قوم ظنوا أنه من المستحيل على عظام أرمت وتفتت أن تدب فيها الحياة من جديد. لكن القرآن الكريم أعطاهم أدلة على أن هذا أمر ممكن، بل هو أمر لازم. كان القرآن الكريم يخاطب أناساً يؤمنون بأن الله ـ تعالى ـ خالق كل شيء، فبين لهم أنه إذا كان ـ سبحانه ـ قد خلقهم أول مرة؛ فلماذا يستغربون أن يعيد خلقهم مرة ثانية، مع أن الإعادة أهون من البداية؟ وبيَّن لهم أن في ما يشاهدون من إحيائه الأرض بعد موتها ما يدلهم على إمكانية البعث ويقربه إليهم، ثم بين لهم أن هذا البعث أمر تستلزمه صفات الله تعالى. كيف يرسل الله ـ تعالى ـ رسلاً فيؤمن بعض الناس بهم ويصلحون وقد يضحون في سبيل ذلك ببعض المكاسب الدنيوية، بينما يكفر آخرون ويعيثون في الأرض فساداً، ثم يساوي بين مصير الفريقين؟
{إنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 34 - 36].
من أمثلة إنكار الناس لما يخالف ما عهدوه من أمور ثقافية قول العرب الجاهليين: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].
ومن أمثلته: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ}.[الزخرف: 23 - 24]
لا تظنن أن هذا أمر خاص بالعرب الجاهليين، بل هو ضعف بشري عام، وهو الآن من أكبر سمات الحضارة الغربية السائدة في العالم اليوم. فالغربيون في جملتهم يعتقدون أن ما ألفوه من قيم وتقاليد في الأكل والشراب واللباس والتعامل والحكم والاقتصاد وغير ذلك هو الأمر الطبيعي الذي ينبغي أن يكون عليه الناس، بل هو المعيار الذي يقاس به مدى صلاحية ما عند الآخرين.
لقد كان من فوائد الكشوف والمخترعات العلمية الحديثة أنها وسَّعت من تصور الناس لدائرة الممكن لإتيانها كشفاً أو اختراعاً بأشياء ما كان الناس سيصدقون بها لولا قيام الأدلة الحسية أو العقلية على وجودها. من كان سيصدق في شيء كالهاتف الجوال، أو الأقراص التي تحوي من الكلام ما يساوي آلاف الصفحات. وأظن أن كثيراً من الناس كانوا سيعدُّون وجود ما يسمى بالثقوب السوداء أمراً مستحيلاً؛ إذ كيف يوجد شيء حسي مادته أكثر من المادة التي في عدد من الجبال وهو مع ذلك لا يمكن أن يشاهَد بشيء من الحواس الخمس؟
ولكن مع قيام الأدلة العقلية التي جاء بها الشرع، ومع وجود هذه الغرائب التي جاء بها العلم الطبيعي، فإن بعض الناس ما زالوا ينكرون أشياء مثل عذاب القبر، ووجود يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى عليه السلام. بل إنهم ما يزالون يجدون حرجاً في الإيمان بكل ما ليس بمعهود في الحضارة الغربية السائدة، فيُحرَجون من قضية الردة ويحاولون أن يجدوا منها مخرجاً بتحريف النصوص الدالة عليها، ويُحرَجون من كل شيء في تاريخهم السياسي لم يكن سائراً على قواعد الدمقراطية، ويودون أن يساووا بين الناس مسلمهم وكافرهم ما داموا أبناء وطن واحد، وهكذا.
نسألك اللهم عقلاً نيِّراً، وعلماً نافعاً، وفقهاً واسعاً.(/2)
المناعة الفكرية (1)
د.عبدالكريم بكار 17/4/1425
05/06/2004
زود الله –تعالى- أجسامنا بجهاز للمناعة، يساعدها على المحافظة على آلية عملها، وعلى صيانتها من الوافدات الأجنبية التي يمكن لها أن تضرَّ بها، وتقضي على سلامتها. وجهاز المناعة لدى الإنسان قوي إلى حد مدهش، فالجسد بسبب ذلك الجهاز يظل يقظاً حيال ما يدخل في نسيجه مهما طال الزمان، فالذي تُزرع له كلية – مثلاً – يظل في حاجة إلى أن يأخذ أدوية لتثبيط المناعة في الجسم مدى الحياة!.
نحن على المستوى الفكري في حاجة إلى جهاز مناعة مماثل من أجل حماية فكر الأمة من التدمير، ومن أجل إبقائه في حالة من النشاط المكافئ للتحديات التي تواجهنا. وعلينا أن نسلَّم منذ البداية بأننا لن نحصل على نظام لحماية تفكيرنا وأفكارنا كالنظام الذي زوّد الله – تعالى- به أجسامنا، فهذا هبة تامة كاملة. أما ما سنصل إليه باجتهادنا فإنه جهد بشري فيه كل نقائص البشر وكل أشكال قصورهم. وإنما علينا أن نصل إلى أفضل ما يمكن الوصول إليه. وإذا تأملنا في هذه القضية وجدنا أننا في حاجة إلى فهم أمور والعمل بها، إلى جانب حذر أمور واجتنابها. ولعلي أتحدث في هذه وتلك بما يقرَّب هذه القضية إلى الأذهان على نحو ملائم.
أولاً: الأمور التي ينبغي استيعابها:
إن الفكر الإسلامي هو عبارة عن مجموعة الرؤى والتحديدات والطروحات والاجتهادات التي توصل إليها العقل المسلم من خلال اشتغاله على النصوص والأحكام والأدبيات الشرعية والإسلامية، وذلك بغية استيعاب الواقع الموضوعي والارتقاء به وحل مشكلاته. والأفكار هي ثمرات تشغيل العقل، وهي أشبه بالزبدة التي يحصل عليها الفلاح حين يقوم بخضّ اللبن. والتفكير هو ذلك الخضّ التي تقوم به عقولنا لمجموعة ما نملك من مبادئ ونعرف من نواميس وسنن ومعلومات ومعطيات معرفية. إنه بعبارة أخرى انطلاق من معلوم من أجل الوصول إلى مجهول. ومن المهم أن ندرك أن إحاطة عقولنا بما نعدّه معلوماً من مبادئ ومعارف... تظل إحاطة ناقصة وقاصرة، كما أن الجهود العقلية التي نبذلها في سبيل التوصل إلى بلورة رؤى ومفاهيم جديدة تظل هي الأخرى نسبية في اكتمالها ونضجها؛ مما يعني أن عمليات الاجتهاد يجب أن تظل مستمرة؛ لأنها لن تبلغ في أي يوم من الأيام المستوى الذي ينقطع عنده الجدل، وتظهر فيه الحقائق على نحو كامل. ويعني هذا أيضاً شيئاً آخر هو تفاوت الآراء والاجتهادات التي سنتوصل إليها. وهذا التفاوت ناتج من تفاوت إدراكنا لجوهر المعطيات التي تشتغل عليها عقولنا، ومن تفاوت عمليات التفكير التي نقوم بها، حيث لا نملك ما يمكن أن يجعلها موحدة ومتجانسة. ومن هنا فإن اتفاق الناس في الفروع و الجزئيات لا يكون أبداً فضيلة أو شيئاً يُطمأن إليه. إنه يدل على أن العقول توقفت عن العمل لتقف على أرضية مشتركة من التلاشي والعدم فالحياة دائماً متنوعة وملوَّنة . أما السكون والموت فهو شيء واحد بإطلاق.
ومن هنا فإن الاختلاف في إطار المبادئ والقواعد الكبرى يعبرّ دائماً عن حيوية فكرية، نحن في أمس الحاجة إليها. ولكن علينا دائماً أن نسعى إلى جعل الخلاف يقوم على أصول عقلية وشرعية معتبرة ومعترف بها.
كما أن علينا أن نشجع الحوار والنقد المؤطر والمحلى بالأدب والخلق الإسلامي الرفيع، بعيداً عن التجريح والاتهام ومحاسبة الناس على نواياهم. ومن المهم في هذا السياق أن نحذر شيئين: الجهل والظلم. كما أن من المهم كذلك أن نفصل بين المعطيات والأمنيات وألا نطلق العبارات الرنانة إذا كنا لا نملك من البراهين ما يوفر لها تغطية منطقية واستدلالية مقبولة. إن هذا يساعد مساعدة كبيرة على بناء جدار المناعة الفكرية الذي علينا جميعاً أن ننهض لتشييده.
إن العقل في الرؤية الإسلامية عبارة عن قوة إدراكية عظمى، امتنّ بها البارئ – جل ثناؤه- على بني الإنسان. ومع أنه يملك بفطرته مجموعة من المبادئ التي تساعده في إنجاز بعض المهمات إلا أنه يظل غير قادر على الاستقلال بنفسه في محاكمة الأشياء ورسم طريق المستقبل، بل إنها نفسية يسهل خداعها، واستسلامه أمام الخبرة العريقة مشاهد وملحوظ.(/1)
إن العقل لا يستطيع من غير إرشاد من خارجه الوصول إلى معرفة العلل الأولية ولا الغايات النهائية للوجود. وهو لا يملك محكّات جيدة لتحديد المهم من غير المهم، ولا يستطيع الفرز بين النافع والضار والخير والشر وتحديد ما هو نافع حالاً ضار مآلاً في كثير من الأحيان... وقد شبَّه بعض علمائنا القدامى العقل بوصفه آلة الإدراك بالعين بوصفها آلة الإبصار. وكما أن العين مهما كانت سليمة وجيدة لا ترى الأشياء إلا إذا غمرها النور، فإن العقل لا يرى الأشياء إلا إذا غمرتها المعرفة، ولهذا فرؤية المشكلات تحتاج إلى معرفة، ولا مشكلات بدون معرفة كما أن لا حلول لها أيضاً من غير علم. الأشياء لا تُرى إلا إذا وجدت العين ووجد النور، والأمور لا تدرك على النحو المطلوب إلا إذا وجد العقل ووجد العلم. والمعرفة دائماً هي خبز الدماغ الذي يقتات عليه. ومن غير ذلك الخبز تنهار عمليات الدماغ، وتنحط إلى المستوى الأدنى. وحين نفكر في مسألة دينية محضة فإن المعرفة المطلوبة آنذاك تكون معرفة إيمانية شرعية. وحين نفكر في مسألة دنيوية، فإننا نحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى معرفة فنية مهنية متخصصة. وهذه الرؤيا للعقل والتي تمت بلورتها قبل ما يزيد على عشرة قرون هي آخر ما توصل إليه العقل والعلم في العصر الحديث، حيث يجري اليوم تشبيه العقل البشري بالعقل الإلكتروني أو الحاسب الآلي والذي قال فيه أحدهم إنه في آن واحد أذكى وأغبى آلة اخترعها الإنسان. وكما أن الحاسب الآلي لا يعمل من غير برامج نحمّلها عليه؛ فإن العقل البشري لا يعمل من غير معرفة جيدة نزوده بها.
وقد قال أحد المفكرين – بحق-: إن الذكاء لا ينفع الذين لا يملكون سواه شيئاً. وكما أن الحاسب الآلي لا يستطيع إدخال تحسينات جوهرية على البرامج التي نزوده بها ويشتغل عليها، فإن العقل البشري كثيراً ما يقف عاجزاً عن القيام بعمليات نقدية شاملة وعميقة للأصول والمعطيات التي نزوده بها ولهذا شرح طويل، لا يتسع المقام لبسطه.
وقد وقع الخلل لدينا في طبيعة الموقف من العقل من قبل طائفتين كبيرتين : طائفة وثقت بالعقل وثوقاً مطلقاً، فحملته مسؤوليات، لا يستطيع القيام بها، ووصل الوثوق إلى درجة الإعراض عن هدي الشريعة الغراء في بعض الأحيان وكانت النتيجة هي استناد العقل إلى معارف واجتهادات وخبرات بشرية متراكمة وإلى العادات والتقاليد والمألوفات السائدة. ولا يمكن لهذه وتلك أن تؤمَّن للعقل حاجاته الأساسية من المبادئ الكبرى والمعارف الصُّلبة والحكمة البالغة والرؤى الشاملة.
أما الطائفة الثانية فإنها استهانت بدور العقل، وبخسته حقه، حيث ظنت أنها من خلال معرفتها بالمنهج الرباني الأقوم – تستطيع فهم الواقع الموضوعي وتطويره والاستجابة لمتطلباته وابتلاءاته.وهي لا تدرك – في غالب الظن- الفارق الجوهري بين المنهج الرباني وفقه الحركة به، وهو فقه يعتمد أساساً على تشغيل العقل بطريقة جيدة وعلى النفاذ إلى الاطلاع على القوى الأساسية التي تشكل الواقع وتدفع به في اتجاه دون اتجاه. كما أن هذه الطائفة ربما كانت لا تدرك أن المبادئ والأحكام التي تشكل رؤيتنا الشرعية والحضارية للحياة، لا تعمل في فراغ وإنما تحتاج إلى بيئة وشروط موضوعية محددة. وتأمين تلك البيئة وهذه الشروط من مهامنا نحن، وليست من مهام المنهج الرباني.
بالعقل الذكي المسلح بالمنهج وبالخبرة والمعرفة الممتازة نستطيع توظيف المنهج وتوفير الأدوات التي تمكنه من ترشيد حركة الحياة.
في المحصلة النهائية لموقف الطائفتين وإن اختلفت على المستوى الشرعي والأخلاقي لكنها على المستوى العملي متقاربة، وهي وجود الانفصام النكد بين أمور الدنيا وأمور الدين، وبين الرؤية النظرية والواقع العملي على ما هو مشاهد في معظم أصقاع عالمنا الإسلامي . وفي حالة كهذه يكون الحديث عن المناعة الفكرية ضرباً من التفاؤل غير المسوَّغ، حيث لا تحصل الأفكار على الصلابة المرجوة إلا من خلال توازن عميق ودقيق بين المعقول وبين المنهج وآليات تطبيقه وتوظيفه .
المناعة الفكريّة 2
د.عبدالكريم بكار 29/4/1425
17/06/2004
إن كثيراً من القضايا التي تشغل المفكرين المسلمين اليوم تتصل على نحوٍ ما بالواقع الذي تعيشه أمّة الإسلام. وهم يعملون على نحو أساسيّ في إيجاد حلول للمشكلات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة من أفق ثوابت الإسلام ومبادئه الكبرى، وإنّ أولئك المفكرين لن ينجحوا في مساعيهم النجاح المنشود إلا إذا استطاعوا إيجاد تيار شعبيّ يتجاوب مع طروحاتهم، ويشارك في علميات التغيير والإصلاح التي يقومون ببلورتها ورسم حدودها. وهذا في الحقيقة يتطلب –فيما يتطلب- أمرين أساسين:(/2)
الأول: أن يتمكن المفكّرون المسلمون من إبراز أفضل وأوضح صورة ممكنة للواقع الذي يريدون معالجته، تماماً كما يفعل الطّبيب قبل أن يصف أيّ دواء. وإنّ بعض الأمراض يستغرق شهوراً من هيئة طبية متخصصة حتى يتمّ تشخيصه وتحديده على نحو جيّد. ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن تشخيص الدّاء الأخلاقيّ أو الاجتماعيّ... هو أصعب -بما لا يقارن- من تشخيص الدّاء الجسديّ. وذلك يعود إلى أنّ أيّ توصيف لوضعيّة اجتماعيّة أو أخلاقيّة... يعتمد أساساً على التعريف لتلك الوضعيّة. والتعريفات في الشأن الإنسانّ تعاني دائماً من القصور الذاتّي، وتعاني من الانتقائيّة والنسبيّة والغموض. ومع هذا فإنّنا حين نتعامل مع مشكلاتنا بعقل مفتوح وبمرونة ذهنيّة جيدة؛ فإنه يمكن الاستدراك والتلافي لكثير من النقص في عمليات التّشخيص والتقويم.
الأمر الثاني: يتجسّد في بلورة خطاب يمكن وصفه بأنه من قبيل السّهل الممتنع. خطاب يصور الواقع بعمق الفكرة وبساطة الأسلوب. وعمق الفكرة يأتي من الفهم العميق والشّامل لذلك الواقع. وتأتي بساطة الأسلوب من فهم مستويات المخاطبين، وخلفياتهم الثّقافية، ومن المهارة في تطويع الكلمات والدلالات، وسوقها على نحو يلامس المفاهيم السائدة في أذهان المُخَاطبين.
إن من الصّعب في أجواء شديدة العمليّة وشديدة المصلحيّة – المحافظة على مناعة تفكيرنا إذا لم نُثْبِت أنّنا نملك الأفكار والطّروحات والبدائل التي تخفف من وطأة المشكلات التي يعاني منها الناس، وإذا لم نُثبت أنّ الأفكار التي نقدّمها لا تجافي روح العصر إلى حدّ بعيد، أو قل لا تتجاهل تشوّقات الناس وطموحاتهم على نحو كامل. وإنما أقول هذا الكلام لأنّ الناس – ولو كانوا ملتزمين- إذا لم يجدوا لدينا ما يحسَّن مستوى عيشهم وأوضاعهم الأدبيّة والماديّة؛ فإنهم سوف يلتمسون ذلك لدى الآخرين، وسوف يدفعنا ذلك –بالتالي- إلى تقديم تنازلات غير مؤصلة وغير منضبطة بضوابط الشريعة. وإني ألمح شيئاً من هذا يجري اليوم في عدد من المجالات!
الإبداع في الحلول، وعدم ترك المشكلات تتراكم، والشّجاعة في تقديم البدائل.. شروط أساسيّة لإبقاء أنظار الجماهير متعلقة بالرُّؤية الإسلاميّة للإصلاح، ومتعلقة بمن يقدمون تلك الرؤية من مفكرين وعلماء ومصلحين.
هذا يتطلب أول ما يتطلب فهْم الواقع الذي نريد علاجه؛ فأحكام الإسلام وآدابه ومراميه الحضاريّة ورُؤاه الإصلاحية موجودة في عقولنا ومكتباتنا، تماماً مثل الألوف من أنواع الأدوية الموجودة في (الصيدليات) ومخازن الأدوية. والطّبيب الماهر هو الذي يأمر بإخراج دواء من تلك المخازن دون دواء بحسب رؤيته لداء مريضه.
إنّ كثيرين منا – ولا سيّما الشباب- يسارعون إلى الإدّعاء بفهم الواقع والإحاطة به، مع أنهم لم يبذلوا أيّ جهد متميز في فهمه ومقاربته، ولا يُعرف لهم أيّ اختصاص دقيق في معالجة شؤونه!
إن الواقع أشبه بمادة هُلاميّة فهو شديد الطّواعية والقابليّة للتّشكيل؛ لكن تلك الطواعية خادعة؛ فهو يطاوعنا حتى نظنّ أنّنا قد سيطرنا عليه سيطرة تامة؛ وهو في حقيقة الأمر محتفظ بطبيعته الخاصة، تماماً كما تفعل ذلك المواد الهلاميّة. إنّ الواقع العام يحتفظ بقدرته على البقاء في حيّز الغموض والتعقيد والتشابك والتّداخل، إنه أشبه بأخطبوط له ألف رأس وألف رجل وألف يد. وتكون ثمرة كل ذلك القابليّة للقراءات والتأويلات والتفسيرات المختلفة. ومن هنا تأتي صعوبة التعامل معه. وتستطيع أن تدرك ذلك بسهولة إذا سألت خمسة من الدّعاة أو العلماء أو المصلحين أو المفكرين – توصيف وضعيّة معينة في أحد المجتمعات أو إحدى البيئات الإسلاميّة، كالالتزام أو العدل أو العفة أو الحرية....
وأنا لا أريد من وراء هذا الكلام سوى شيء واحد هو إدراك حجم المهمات التي نُقْدم عليها؛ فلا نتهاون ولا نتعسف ولا نتعجَّل.
إذا صحَّ هذا التحليل وهذا التنظير؛ فإن السؤال الذي يقفز أمامنا هو: ما الأدوات وما المناهج التي يجب أن نستخدمها حتى نحصل على صور مقاربة لحقيقة الأوضاع التي نريد معالجتها؟
في تصوُّري أنّ أيّ جواب سأقدّمه عن هذا التساؤل سيكون قاصراً؛ لأنّ النّظام اللغويّ الذي نستخدمه في تصوير ما نريد تصويره يظلّ دائماً في حالة من القصور الذاتّي؛ إنه ناقل غير جيّد وغير كُفء. فإذا أضفنا إلى ذلك أن تصوري عن المناهج والأدوات التي يجب استخدامها في اجتراح ذلك الواقع هو الآخر غير تام وغير واضح وغير دقيق – فإنك ستدرك كم يحتاج جوابي إلى تكميل وإلى نقد وتمحيص. لكن لا بد أن نقول ما توصّلنا إليه، وسنعتبر ذلك أفضل ما هو ممكن إلى أن يتوفر لدينا ما هو أفضل منه.(/3)
1-نحن نحتاج في بداية الأمر إلى تعريف ما نريد معرفته، فإذا كنا نريد أن نُعَرَّف سوية الالتزام في مجتمع من المجتمعات – مثلاً-؛ فإن علينا أن نُعرَّف الالتزام وأن نذكر مقصودنا من هذه الكلمة. إنّ الذي ضاع منه ولده في إحدى الأسواق الكبرى، ويطلب مساعدة الناس على العثور عليه في حاجة -كي يستطيعوا مساعدته- إلى أن يذكر لهم اسمه وحِلْيته من لون وطول وشكل، وأن يذكر لهم لون ونوع الثّياب...؛ وإلا فإنهم قد لا يستطيعون تقديم أي خدمة له.
ونحن بسبب الطريقة التي تعلمنا بها في المدارس والجامعات – قد أدمنَّا الحلول السَّهْلَة؛ ولذا فإننا لا نملك رصيداً ذا قيمة على صعيد التّعريفات والمصطلحات؛ لأنّ الوصول إلى تعريف أو توصيف جيد ليس بالأمر اليسير، ويمكن القول: إنّ التّوصيف الجيّد لأيّ مشكلة يشكّل نصف الحلّ المطلوب. ويتمثل النّصف الثّاني في العثور على العلاج الملائم.
سيكون من المفيد جداً أن نبدأ في كل جلسة حوار أو جلسة تفكير وعصف أو إمطار ذهنّي وفي كل معالجة لقضية شائكة- بذكر التّعريف لما نريد بحثه وتحديد معاني المصطلحات التي سنستخدمها أثناء البحث. وعندما نتخذ من هذا تقليداً ثقافيًّا فسيتَّضح لنا شيئان مهمان:
الأول: صعوبة وضع التّعريفات وصعوبة الحصول على توصيفات جيّدة.
أما الثّاني فهو: عظم الفائدة التي سنحصل عليها من وراء ذلك.
وللحديث صلة..
ومن الله – تعالى- الحوْل والطَّوْل..
المناعة الفِكْرِيّة (3)
د.عبدالكريم بكار 15/5/1425
03/07/2004
ذكرت في المقال السابق أن أول خطوة علينا أن نخطوها على صعيد فهم الواقع والإلمام به، تتمثل في تحديد التعريفات والمصطلحات بوصف ذلك الركيزة الأساسيّة لكل ما سيأتي بعده من جهد على هذا الصّعيد. ولعلي أتابع في هذا المقال باقي الخُطُوات في هذا الشأن.
أعتقد أن علينا بعد التعريف الجيد للمسألة التي نريد فهمها أن نقوم بتفتيتها إلى أصغر وحدات ممكنة. والحقيقة أن هذا الأسلوب هو ما اتبّعه العالم على مدار التاريخ في التعامل مع الكثير من المعطيات. المعرفة البشريّة – مثلاً- كانت واحدة، ونظراً لضخامتها وصعوبة تعامل العقل البشريّ معها؛ فإنّه تمَّ تقسيمها إلى علوم متباينة من أجل أفضل استيعاب لها. إذا أردنا فهم أو (تقييم) الوضع التربوي في بلد من البلدان – مثلاً- فإن علينا أن نقوم بالآتي:
1-فصْل وضع التربية في الأسر عن وضع التربية في المدارس، وعن وضع التربية في الأُطُر الخاصة مثل الجماعات الإسلاميّة. وعليك أن تقوم باستقصاء منهجي داخل كل قطاع من هذه القطاعات لفهم الأداء التربوي فيها على أفضل وجه ممكن.
2-في المدارس لا بد في سبيل العلاج وفي سبيل (التقييم) قبل ذلك من القيام بعملية تفتيت للقوى والأدوات المستخدمة في التربية والتعليم؛ فيتمّ النظر في كلٍّ منها على حدة. إن حُسْنَ التربية في مدرسة من المدارس لا يأتي من الكتب المقررة؛ لأنها موحدَّة على مستوى البلاد في غالب الأمر. ولذا فإن الجودة فيها قد تأتي بسبب تفوق إدارتها، أو الهيئة التدريسيّة، أو الأنشطة اللاصفيّة، أو بسبب حُسْن اختيار الطلاب ووضع شروط لقبولهم لا تضعها مدارس أخرى. وقد يكون بسبب البيئة السكانية للمدرسة. وقد يكون تفوق تلك المدرسة بسبب جودة مبانيها وتجهيزاتها المعمليّة والمخبريّة... وقد يكون بسبب حسن كل ذلك. ويمكن القيام على صعيد التفتيت بنحو ذلك في المجال الأسريّ وفي المجالات التربويّة الأخرى.
من غير هذا التفتيت لن نستطيع معرفة أسباب حسن أو سوء التربية في أي مدرسة من المدارس. وعلينا أن نلاحظ أننا هنا لا نمارس إصدار الأحكام على كل مدارس الدولة ولا المنطقة ولا المدينة. فإذا أردنا شيئًا من ذلك فإن علينا -بعد فهم واقع المدارس في منطقة- أنْ نقوم بعملية حسابيّة من أجل التوصل إلى المعدل الوسطي لحال التربية المدرسيّة في تلك المنطقة؛ حيث يمكن من خلال الدرجات التي تمنحها كل مدرسة أن نقول: إن 80% من مدارس تلك المنطقة ممتازة أو جيدة أو سيئة. ومن غير القيام بهذا فإن أحكامنا ستكون تقديرية وجزافية إلى حد بعيد. ومن هنا ندرك كم تكون درجة تعميمنا عالية وكبيرة حين نقول: إنّ التعليم في العالم الإسلاميّ هو أسوأ تعليم في العالم أو هو أحسن تعليم في العالم أو ... وبسبب هذا التعميم نُتِيح دائماً مجالاً للفهم المتعدّد وللتأويل الخاطئ والحكم البعيد عن الصّواب. إنّ تجزئة أية مشكلة إلى أصغر وحدات ممكنة يُعَدُّ خطوة أساسيّة ضمن خطوات البحث المنهجي الموثوق. البحث المنهجي مكلف جداً وشاقّ جداً. وفي العالم اليوم عشرات الألوف من مراكز البحث التربوي، وكلها يهدف إلى فهم الواقع التربوي على حقيقته، ثم العثور على وسائل لإصلاحه. ونستطيع أنْ نقول بناءً على هذا: إنّ الدول التي لا تملك – وكذلك الجماعات والمؤسسات- مراكز بحوث تربويّة جيّدة، لا تستطيع التعرف على واقعها التربويّ على النحو المطلوب.(/4)
3-بما أنّه ليس هناك تفوق تربويّ مطلق ولا تخلف تربويّ مطلق، بمعنى أنه ليس هناك مؤسسة تربويّة كاملة ولا مؤسسة تربويّة كلّها عيوب وسيئات- فإن علينا في سبيل رؤية عقلانيّة لواقع المدارس أن نستخدم (المقارنة) أداة لمعرفة ما عندنا. وقد يكون أفضل ما نُجري فيه المقارنة هو مستوى الخريجين. وفي اعتقادي أن على كل دولة إسلاميّة أن تبلور معايير دقيقة وممتازة لمعرفة مستويات الخريجين لديها. وعلى مستوى الأمة وعلى مستوى العالم يجب أنْ تكون هناك مقارنات تتعرف من خلالها كل دولة على سويّة مُخْرَجات التعليم لديها. وأذكر في هذا السياق أنّه أقيم امتحان عالميّ منذ بضع سنوات لطلاب الصف الثاني في المرحلة المتوسطة في مادّتي الرياضيات والعلوم. وقد شارك في ذلك الامتحان طلبة مختارون بعناية من أربعين دولة. ولم يشارك في ذلك المؤتمر من العالم الإسلاميّ سوى إيران والكويت. وكان ترتيب طلابهما قريباً من المؤخرة أي بعد السادسة والثلاثين – فيما أذكر- وهذا يعطي مؤشراً غير حاسم لوضع تعليم الرياضيات والعلوم لدى نموذجين في بلدين مسلمين!
ولا أريد هنا أنْ أشعَّب البحث أكثر فأكثر فيما تتم فيه المقارنة؛ فذاك حديث طويل وشائك؛ لكن وجود مراكز أبحاث تربوية جيدة لتذلل الكثير من الصعوبات.
يمكن لهذه المنهجيّة في التفتيت أنْ تُؤتي ثمارها في أي مجال أو جزء من الواقع الذي نود التعرف عليه. وعلينا ألا ننسى في كل مرحلة أننا لن نخرج من وراء كل ذلك إلا بنتائج ظنية تقديرية؛ لأنّ كل أدوات البحث وكل مفردات منهجيّته لا تتمتع بالصّلابة الكافية، لكن مع هذا نرضى بما نحصل عليه من ذلك بوصفه مساعداً لنا على اتخاذ القرار الراشد.
من الأدوات الأساسية في اكتشاف الواقع (الإحصاء) والاعتماد على الأرقام. والحقيقة أن دلالة الأرقام تتمتع ببلاغة عالية جدًا . وهذا يعود –أساسًا- إلى أنّ البنية العقليّة للإنسان تتعامل بكفاءة جيدة مع كل ما هو من قبيل (الكم) كما أنها ترتبك ارتباكاً شديداً مع كل ما هو من قبيل (الكيْف). وقد قال أحدهم : "أَعطني رقمًا أُعطِك كتابًا" فالرقم حين يقع في يد خبير يشكل بالنسبة إليه محورًا هامًّا لاستدعاء الكثير من المعطيات والدلالات والتحليلات. حين نقول لاقتصاديّ – مثلاً- ماذا تفهم من قولنا: إنّ دخل الفرد في أفغانستان لا يتجاوز خمسمائة دولار في السنة؟ وذلك الاقتصادي يعرف أنّ دخل الفرد في سويسرا يتجاوز (37) ألف دولار، وفي فرنسا (22) ألف دولار، وفي إسرائيل (18) ألف دولار . إنّه يستطيع أنْ يستشفّ وجود إدارة سيئة للموارد، ووجود جهل وأميّة وكسل وفوضى لدى الناس هناك. كما يستطيع أنْ يستشفّ وجود سرقات، ومتاجرة بالممنوعات، وأمورًا سيئة أخرى؛ لأن كل هذا وذاك يكون عادة من ضمن أسباب الفقر أو لوازمه أو نتائجه.
في حديث في صحيح مسلم ورد قوله – صلى الله عليه وسلم- : " أحصوا لي من يلفظ الإسلام" أي اعرفوا عدد من يلفظ بكلمة الإسلام وهي الشهادة. وكان جواب بعض الصحابة: "أتخاف علينا ونحن ما بين الستمئة إلى السبعمئة". إنّ هذا الطلب منه صلى الله عليه وسلم ينطوي على إشارة هامّة علينا أن نلتقطها بذكاء ووعي.
أمريكا أول دولة في العالم على مستوى توفر الأرقام والإحصاءات. وهذه الوضعية أدت إلى حضورها المتميز في كل الدراسات العالمية، حيث إن الباحثين يحتاجون إلى أرقام تساعدهم في عملهم، وهم كثيراً ما يجدون بُغيتهم لدى الأمريكيين. في العالم المتخلف ليس هناك أرقام كافية، حيث يكون الغموضُ والإبهام وسيلةً جيدة لستر الفضائح! والأرقام المتوفرة كثيراً ما تفتقر إلى الدقة والمصداقية. وفي تصوري أن على كل مؤسسة إسلامية مهما كان حجمها ومهما كان شأنها أن تحاول القيام بمسح دقيق لأوضاعها وأنشطتها وحاجاتها وميادين عملها حتى تستطيع أن توفر شرطاً هامّا لتفوقها واطّراد تقدمها.
ولا بدّ لي من الإشارة هنا إلى أن الأرقام – ربما بسبب أهمتها وحساسيتها- كثيراً ما تتعرض للتزوير والتزييف والمتاجرة. وعلينا أنْ نكون على وعي من ذلك.
لدينا ملايين الشباب المسلم العاطل عن العمل، وملايين بل مئات الملايين من الناس الذين لا يجدون عملاً نافعاً يملؤون به أوقات فراغهم. لماذا لا يقوم هؤلاء بتشكيل دوائر تطوّعيّة بسيطة لإجراء مسوحات واستطلاعات للواقع المسلم في بيئتهم الخاصّة من أجل توفير الأرقام الضروريّة لفهم أوضاعنا وإصلاحها؟!(/5)
إني لآمل أنْ ندرك -قبل فوات الأوان - أنّ هناك ضرورات منهجيّة وبحثيّة تجب مراعاتها بكل شفافية إذا ما أردنا - فعلاً - أنْ نعيش عصرنا بكرامة وكفاءة. وإنّ عمل شيء ما في الاتجاه الصحيح أنفع لنا وللأمة من التّفرغ للتّشكي وتوزيع الاتهامات ولَطْم الخدود وإطلاق الأُمنيات. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه ا لله- : إنّ بعض المسلمين يشكو وينوح كما تنوح الثّكلى إذا رأَوْا تغيّر أحوال المسلمين وما هم فيه من كَرْب. وذلك مَنْهِيٌّ عنه. وإنّ الواجب على المسلم أنْ يصبر ويحتسب ويعمل ويتّكل على الله تعالى.
وللحديث صلة
المناعةُ الفِكْرِيَّة (4)
د.عبدالكريم بكار 27/5/1425
15/07/2004
الفِكر الإسلاميّ فكر في حالة من التشكّل الدائم والصّيرورة المستمرّة، وهو في تشكّله يتأثّر بالواقع ومتطلباته، ويتأثر كذلك ببعض ما لدى التّيارات والوضعيّات الأخرى. وهذا يجعل حركة تطوّره أسرع من حركة تطوّر الفقه وحركة تطوّر الفتوى أيضاً. وهذا الفكر حتى يحافظ على مناعته وصلابته وتميّزه واستمرار نموه- مطالب إلى جانب فهم الواقع- كما ذكرت في المقالين السابقين – بفهم متطلبات الحركة الاجتماعيّة، والتي كثيرًا ما تنبعث من عمق الطبيعة البشريّة، ومن عمق الثّقافة السائدة اليوم، فهم متطلبات هذه الحركة يقتضي الانفتاح عليها. وهذا الانفتاح هو نفسه الذي يطور رُؤانا و طروحاتنا الإصلاحيّة؛ إذْ طالما كان الانفتاح على الواقع وتلمس تداعياته وإحالاته مصدرًا لكل تطور وتطوير. وإذا عَجَزنا عن فهم متطلبات تلك الحركة، وعَجَزنا عن الاستجابة لها في صورة مبادرات تنمويّة وخدميّة، فإننا سنجد أنفسنا نُدفَع نحو الهامش شيئًا فشيئًا مهما ملكنا من الأصوات الجهوريّة المدوّية، ومهما ملكنا من مواقع الهيمنة الثقافيّة ومن أدوات التأثير والإقناع.
فما الذي علينا أنْ ندركه على هذا الصعيد؟ وما الذي علينا أنْ نعمله أو نساعد على عمله؟
إنّ ما علينا في هذا الشأن كثير وكثير جدًا، لكن لعلّي أُلقي ضوْءًا خاطفًا على شيء منه عبر المفردات الثلاث الآتية:
-طبائع الناس ثابتة، فأشواقهم وطموحاتهم وما يرتاحون إليه، وما يُشعرهم بالأذى، وما يرجونه، ويخشونه ... كل ذلك ثابت ومستمر، لأنّه متصل بالفِطرة التي فطرهم الخالق –جل وعلا- عليها؛ لكنَّ وعي الناس ليس ثابتاً، إنّه متحرّك ومتقلّب، وهو كثيراً ما يكون صدًى لمصالحهم ورَغَباتهم، إلى جانب حاجاتهم الروحيّة والجسديّة والمعيشيّة.
وإحساس الناس بالثوابت أو بالحدود -والتي يجب أنْ تتوقف عندها طموحاتهم وسلوكاتهم - ضعيف وأحيانًا معدوم. ومن الواضح أنّنا كلما مضيْنا خُطوة إضافية إلى الأمام في ميادين الحضارة، ازداد وعينا تفتّحًا على مصالحنا، وصار حرصنا عليها أشد. وفي ظل الافتقار الروحيّ والأدبيّ الذي تمارسه العلومة صار الناس يشعرون -كما لم يحدث لهم في أي وقت مضى- أنّ مصالحهم تتجسّد في المزيد من فرص العمل والتملّك، والرفاهية، وراحة الأبدان، والصّعود الاجتماعيّ والبحبوحة الماليّة... وحين تترسّخ هذه الوضعيّة، وتقوى جذورها فإنّ الفوارق بين أهل التدين والالتزام وبين غيرهم في هذه الأمور لا تزداد مع الأيام إلا تضاؤلاً وانكماشًا.
ما الذي يعنيه كل هذا للمناعة الفكريّة؟
إنّ من شأن المفكر والمصلح أنْ يحتفظ بمسافة فاصلة بينه وبين الناس الذين يوجههم، ويسعى إلى مساعدتهم. وفي تلك المسافة تتبدّى صلابة المنهج الذي نؤمن به، فنسعى جاهدين إلى ردّ الناس إليه وإلى الجادّة الصّحيحة. ويتجلى فيها أيضاً الفهم الدّقيق لِعِلَل المجتمع، فيتصرف كما يتصرف الطبيب الخبير الناصح، والرحيم في تقديم الدّواء الناجع بأرفق أسلوب ممكن.
في تلك المساحة تظهر لباقتنا وحسن سياستنا وقيادتنا وحسن مجادلتنا ومداراتنا. إنّنا نخطو نحو الناس خُطُوات حتى نجذبهم إلينا خُطوة.
في تلك المسافة تظهر المرونة الذهنيّة لدينا، ويظهر ترتيبنا للأولويّات، وفهمنا العميق لطبيعة المطالب والحاجات التي لا تستقيم الحياة العامة من غيرها، ويأتي على رأس تلك المطالب صيانة حقوق الناس وكرامتهم إلى جانب مناصرة الضعيف والوقوف إلى جانبه حتى يسترد حقه. كلّنا يذكر الاختراقات التي حقّقها المذهب الاشتراكي وفرح كثير من الجماهير به أملاً في أنْ يحسَّن أحوالهم الاقتصاديّة، وأوضاعهم القانونيّة والسياسيّة، وحين وجدوا أنّ الدّعاوى أكبر من الحقيقة بل ضدّ الحقيقة المتحصّلة في كثير من الأحيان انفضّوا عنه، وثاروا عليه.
2-يحتاج الناس حاجة ماسَّة إلى من يساعدهم على تحقيق التوازن في حياتهم الشخصيّة. إنه يُهيَّأ لي في بعض الأحيان أنّ التطرّف والميل عن القصد والاعتدال، إنما هو شيء متوضع في التراث الجيني للبشريّة.(/6)
إنّنا نرى فعلاً الكثير من أنشطتنا ومواقفنا وتوجهاتنا قائمًا على ردود الأفعال أكثر من قيامه على رُؤية شاملة ومتوازنة. إنّ مسايرة الناس في كل ما يتجهون إليه، يُعَدُّ خطأ فادحًا، ولا يليق أبدًا بقادة الفكر والإصلاح أنْ يتحركوا وفق رمزيّة (ما يطلبه المستمعون أو المشاهدون). إنّ المنهج الربانّي الذي أكرمنا الله – تعالى – به قد ملّكنا الدّليل الذي يرشدنا إلى الوضعيّة الصّحيحة والآمنة. وإنّ الذين يجهرون اليوم بتحقيق رغبات الجماهير – دون تمييز- يخونون أمانة الرّيادة العلميّة والاجتماعيّة ويجرّون الجماهير الغافلة إلى حتفها!
في الناس اليوم سعي حثيث للحصول على المكاسب الماديّة، وهذا شيء لا يُسبّب مشكلة في الأصل، لكنه حين يتمّ على حساب الأنشطة الروحيّة والأدبيّة والإنسانيّة، فإنّه يرمز إلى خَلَل في حياة الأمّة. وألمس في كثير من المثفقين اليوم حرصًا منقطعَ النظير على التقدّم العقلي وعلى النجاح في الأعمال الدنيويّة، وهذا شيء جيّد لولا أنّه يصاحب إهمالاً للفلاح والطّيبة والصّفاء والتألّق الخُلُقي.
وفي الناس اليوم اهتمام واسع النطاق بالعاجل والمباشر وإهمال للآجل مما جعل قِصَرَ النظر أحدَ أهمّ الأدْواء التي نُعاني منها. وصرنا عبارة عن مجتمعات لا تعرف ما تريد، ولا تمدّ قرون الاستشعار في جوف المستقبل على نحو ما هو مطلوب، وعلى نحو ما هو موجود لدى الآخرين!
وهناك أمور أخرى من هذا القبيل. وإنّ من واجبنا أنْ نطلق من الأفكار والمفاهيم والأدبيّات وصيحات التحذير ما يساعد الناس على استعادة التوازن والاعتدال في هذه المسائل وغيرها؛ بوصف ذلك خطًّا متّصلاً يجب التزامه والمحافظة عليه في كل الأحوال.
3-إنّ زماننا هذا هو زمان البغْي وتجاوُز الحدود. وهذا مفهوم، فألصقُ شيء بالقوّة هو الطُّغيان. ونحن نعيش اليوم في عصر القوّة.
يقول الله – جل وعلا- : ( كلا إنّ الإنسانَ ليطغى أنْ رآه استغنى) [العلق: 7.6]، ويقول- سبحانه- : ( ولو بسطَ اللهُ الرّزقَ لعباده لبغَوْا في الأرض)[ الشورى:27] .
إنّ الناس بما فطرهم الله عليه من حب البقاء يسعَوْن دائمًا إلى التمدّد، ويميلون إلى التغوّل. وكثيراً ما تُهزم المبادئ الواضحة والراسخة أمام هذه الغريزة؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام : " لو كان لابن آدم واديان من ذهب لأحبّ أنْ يكون له ثالث". ومن هنا فإنّ مستلزمات المناعة الفكريّة أنْ ننتج المفاهيم والأفكار والنظم التي تمنع تمدّد ذوي القوة: قوّة المال، وقوّة الجاه، والسلطة، وقوّة العلم، والجسم... إنّنا لا نسيء الظّن بالناس، ولكنّ أمور الأمم- أيضًا- لا تُبنى عل حسن الظنّ، وإنما تُبنى على مُعْطَيات ملموسة ومنظّمة، ويمكن الاحتكام إليها. ونحن في العالم النّامي نُعاني أكثر من غيرنا من القهر والإذلال وغَمْط الحقوق. وذلك لا يعود إلى أنّ التربية السائدة لدى الأمم المتقدمة أفضل من التربية السائدة لدينا، وإنما يعود على نحو جوهري إلى أنّ من تدعوه نفسه إلى البَغْي هناك يواجَه بحواجز وسدود منيعة من النظم والقوانين والأعراف والمؤسّسات التي توقفه عند حده، وتُوقع به العقوبة إذا تجاوز ذلك أو احتال عليه.
إنّ التّنمية الجيدة مشروطة دائماً بسيادة الأمن، والاستقرار، واحترام النظم، ووقوف كل واحد من الناس عند الحدّ الذي يجب أن يقف عنده.
ولن يستطيع أيُّ فكر مهما كان لونه، وعمقه، ورسوخه أنْ يصمد لعاديات الزمان وتقلّبات الأحوال، إذا لم يأخذ هذه الأمور التي أشرت إليها، وما يشبهها بعين الاعتبار.
والله ولي التوفيق
المَنَاعةُ الفِكرِيّة (5)
د.عبد الكريم بكار 12/6/1425
29/07/2004
قِيمة ما لدينا من طروحات وأفكار إصلاحيّة لا تنبع من جوهريّة ما نقدّم وصوابه وشفافيّته فحسب؛ وإنّما لا بدّ - إلى جانب ذلك- من كونه ملائمًا للمستجدّات الحضاريّة وللمشكلات التي يعاني منها الناس، بالإضافة إلى تناغمه مع الأشواق والتطلّعات التي تحملها الأجيال الجديدة نحو المستقبل. وإنّ علينا أنْ ندرك هذه المسألة بسرعة كبيرة وعلى نحو جيد؛ لأنّ المناعة الفكريّة التي ننشدها ونحرص على التمتّع بها لن تتوفر من الآن فصاعدًا إلا من خلال فتح العين جيدًا على هذه المسائل.(/7)
كنّا في الماضي نفهم الحصانة الفكريّة على أنّها المحافظة على ما لدينا، وإغلاق كل المنافذ والأبواب التي قد يدخل منها ما يخالف أو يعكّر ما نعتقد أنّه أثمن شيء لدينا، وهو مبادئنا وأصولنا. وهذا في أساسه ليس خطأً؛ لكن كثيرًا ما كنّا نتوسّع في هذا الشأن حتى طال الحجْر والمنع النقد للفرعيّات والخلافيّات والسياسيّات والاجتهادات، وصار هناك في الساحة الإسلاميّة نوع من المزايدة في هذا الشأن، فكلّما مال المرء إلى التشدّد مع المخالفين دلّ ذلك على غيرته وصلابة دينه، وزاد -مع ذلك- الوثوق به والرّجوع إليه. إنّ الثوابت يجب أنْ تظلّ مصونة وواضحة، ويجب أنْ نتخذ منها محاور للتربية الاجتماعيّة. أمّا ما هو من قبيل الاجتهاد، وما هو من قبيل الخبرة البشريّة في تنظيم الحياة وإدارة المشكلات، وما هو من قبيل الأساليب والأدوات ... فينبغي أنْ يتعرض (باستمرار) للنّقد والمراجعة والغربلة؛ وإلا وجدنا أنفسنا ندفع نحو الهامش باستمرار. إني أتطلّع إلى اليوم الذي نلمس فيه إحساسًا جديدًا وقويًّا بقصور اجتهاداتنا ورؤانا وتنظيراتنا وتنظيماتنا ومبادراتنا... كما أتطلّع إلى اليوم الذي نجد فيه في تنظيم كلّ هيئة أو مؤسّسة شيئًا يتحدّث عن طريقة مراجعة تلك الهيئة، وطريقة نقدها وتطويرها وتنميتها... كما أتطلّع إلى اليوم الذي نتعوّد فيه - معاشر الكتّاب، ومعاشر الدّعاة، ومعاشر المصلحين، والتربويّين- نتعوّد فيه الإعلانَ عن النّقاط غير الواضحة وعن الأفكار غير النّاضجة وغير المختمرة، وعن الخطط غير المكتملة التي نقدمها ونضعها بين يدي الناس, وهذا ليس كرمًا ذاتيًّا نفخر به، وإنّما هو شيء تفرضه طبائع الأشياء، ويفرضه الحرص على مقاومة التكلّس والتحجّر ثم الانهيار. إنّ جزءًا أصيلاً في كل طرح، وفي كل نظام عظيم يكمن في قبوله للمراجعة، والنّقد والإنماء والتّغيير. وهذا أهم عامل من عوامل استمرار الحضارة الغربيّة طوال القرون الماضية على ما فيها من نواقص وانحرافات وأزَمَات...
إنّ من المهم أنْ ندرك أنّك حتى تحافظ على الأصول والثوابت والأساسيّات، فلا بدّ لك من حركة لا تهدأ في تطوير تنظيرك وطرحك الفلسفي، وفي تحسين الأطر والأساليب والأدوات التي تخدم تلك الأصول... إنّ كبار المفكرين المسلمين وكبار المصلحين والدّعاة لا يستطيعون حين يطرحون مشروعاتهم الإصلاحيّة، وحين يبلورون رؤاهم في التغيير والتجديد أنْ يقدموا شيئًا مكتملاً ونهائيًّا؛ وذلك لأنّ عقولنا لا تكتشف الحقائق والمتطلّبات والمشكلات، وما ينبغي أنْ نصير إليه إلا على وجه التدرّج. إنّ كلّ شكل، وكلّ فكرة، وكل وضعية تفتح لنا أفقًا جديدًا ما كان في الإمكان أنْ نراه قبل رُؤية سابقة؛ وهذا هو الأساس الذي يجعل التطوير والتجديد سنّة الحياة. إنْ أيّ جماعة، أو دولة، أو جهة لا تملك آليّات المراجعة ستجد نفسها في أوحال الجمود الذي لا يؤدي إلا إلى فقد الوزن والتحلل الذاتيّ. أضف إلى هذا أنّنا حين نفكر، وننظّر، ونخطّط، ونصمم، نقوم بذلك في جوّ من الطّلاقة الكاملة، وحين يدخل ذلك في مضمار التّطبيق والتنفيذ يكون الأمر مختلفًا جدًّا، حيث يفرض الواقع دائمًا حدودًا للعمل، فهناك الإمكانات المحدودة والنّظم والقوانين المقيّدة، وهناك الأعراف والتقاليد الاجتماعيّة الضاغطة، وهناك المنافسون والخصوم.... ومن هنا تنشأ مفارقة قد تكبر وقد تصغر بين النظريّة والتطبيق، وهذه المفارقة هي التي تمنح المشروعيّة الفكريّة والأخلاقيّة للنقد والمراجعة والمحاسبة.
إذا تأمّلنا في أحوالنا وأوضاعنا وجدنا حرصًا كبيرًا على أنْ تكون أشعّة النّقد موجّهة نحو الخارج، ولذلك أسبابه المفهومة؛ فنقد الآخرين سهل لأنّه لا يتطلّب منّا أيّ تغيير في أوضاعنا. ثمّ إنّنا كثيرًا ما نستخدمه من أجل إظهار فضائلنا وجعل أتباعنا يثقون بما لدينا. ثم إنّ النقد يستخدم أحيانًا جزءًا من حرب شعواء ضد الخصوم والمخالفين؛ مع أنّ أدبيّاتنا الإسلاميّة تحثّنا على أنْ نوجّه أكبر قدر من النّقد والفحص لأنفسنا وأوضاعنا، وأنْ ننشغل بعيوبنا عن عيوب الآخرين. من المهم في مسألة النّقد أنْ نحاول القيام بثلاثة أمور جوهريّة:
1-أنْ يكون النقد وواضحًا وأنْ نسمّي الأشياء بأسمائها في إطار من الأدب الإسلاميّ، وفي إطار الشعور بالمسؤوليّة الأخلاقيّة. إنّ لغة الغمغمة لن تؤدّي إلا إلى تأزّم الأمور. وإنّ كثيرين جدًّا لا يفهمون ماذا نريد، وبماذا نطالب، وماذا ننقد، وذلك بسبب ا لإبهام المعتمّد.(/8)
2-تحديد المسؤولين عن الأخطاء و التّقصيرات التي تقع هنا وهناك. في أحيان كثيرة نكون واضحين في بيان حجم المشكلة، لكنْ حين يصل الأمر إلى تحديد الأسباب والمتسبّبين نجد أنّنا غير قادرين على وضع النقاط على الحروف. وقد اكتشفنا مؤخرًا أسلوبًا خادعًا في هذا الشأن، وهو القيام بتوزيع المسؤوليّة على أكبر عدد ممكن من الناس، وكأنّنا نحاول أنْ نفرّق دم القتيل على القبائل كما كانت تحاول ذلك العرب قديمًا. ولهذا فإنّ كثيرًا من التقارير والتّوصيات وملفّات المراجعة والمحاسبة يجعلك تخرج بانطباع الخذلان والإحباط ؛ حيث ينتهي الأمر إلى ضرورة أنْ نقتنع بأنّ الكلّ مسؤول، وبأنّ الكلّ أيضًا غير مسؤول!. إذا كنّا غير قادرين على توضيح تقسيم المسؤوليّة عن أزماتنا على نحو جيّد فهذا يعني أنّنا لن نستطيع التخلّص من تلك الأزَمَات ولو بعد حين. ويعني أنّ إيجاد نظام للمحاسبة عادل ودقيق يشكل إحدى الأولويّات الحضاريّة لأمّة الإسلام.
3-تقديم البدائل وإغناء الساحة بالأفكار الإيجابيّة: إنّه لا يكفي أنْ نقول: إنّ في إدارة فلان للمؤسّسة الفلانيّة خللاً كبيرًا. كما لا يكفي أنْ نقول: إنّ هذه اللفظة في بيت الشّعر الفلاني قلقة ونسكت. لا بدّ من أنْ نحاول أنْ نقترح ما هو أجمل وأنفع وأفضل مما هو موجود، ويجب أنْ نمتلك القدرة على الشرّح، والتفسير، والتعليل، لما ننقده إذا أردنا للنّقد ألا يكون نوعًا من اللّغو، أو نوعًا من التكميل الشكليّ لحياة فقيرة في معانيها وإنجازاتها.
إنّ المراجعة عبارة عن مساهمات لإعادة التكيّف والتأقّلم، وإنّ الهيئات الكبرى والمؤسّسات الضخمة أحوج إلى التكيّف من أجل البقاء من غيرها. وإنّ التاريخ ليشهد على أنّ أنواعًا من الحيوانات، والأشجار، الضّخمة هلكت وانقرضت بسبب عدم قدرتها على التكيّف مع الأحوال المناخيّة الطارئة والجديدة.
نحن في ظروف جديدة كلّ الجِدّة، ولهذه الظّروف متطلبات لا عهد لنا بها، وإنّ من جملة تلك المتطلبات النّظر إلى حاجتنا إلى النّقد على أنّها لا تقل أهميّة عن حاجتنا إلى البناء، والنّظر إلى الأخذ والتمثّل على أنّه لا يقلّ أهميّة عن العطاء، والنظر إلى الانفتاح وخوض المعركة ببسالة وإقدام على أنّه لا يقلّ أهميّة عن اللجوء إلى الحصون والاختباء خلف الأسوار.
ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ
المناعة الفكرية (6)
د. عبدالكريم بكار 26/6/1425
12/08/2004
إن ملامح القصور في العقل البشري أننا لا نستطيع في كثير من الأحيان وضع حدود فاصلة بين الثبات على المبدأ والتمسك بالأصول والثقة بالمنهج وبين التصلب الفكري المذموم، والذي يعني -فيما يعنيه- النقص في تطورنا الذهني بما يلائم المتطلبات والتحديات الجديدة. وهذه الوضعية العالمية الشاملة تجعل الناس دائمًا مُهدَّدين بالعجز عن مسايرة الواقع والملائمة بين المنهجيات التي يؤمنون بها وبين الأسئلة المطروحة عليهم؛ وإن شئت فقل: العجز عن الإجابة عن الأسئلة المطروحة من خلال المنهج الذي يعتقدون بصوابه. بعبارة أخرى: أعتقد أن علينا أن نتلمس دائمًا حجم المرونة الذهنية والمرونة في الطرح وفي الخطاب وفي برامج الإصلاح والمعالجة؛ فالضغوطات التي تمارس علينا من مختلف الجهات، وأوضاع التأزم والتخلف المختلفة تولّد لدينا الكثير من الخوف غير السائغ، وتدفعنا باتجاه الجمود والانغلاق، كما تدفعنا باتجاه استخدام الضغط وسيلة في ترشيد مسيرتنا عوضًا عن الثقة والإقناع دون أن نشعر بذلك، ودون أن نشعر بعدم ملاءمة هذا لروح العصر وللذائقة الثقافية الجديدة. ولهذا فإن الخطاب الإسلامي -والذي يقوم في مفاصله الأساسية على الفكر الإسلامي المعاصر- يميل إلى أن يكون سلبيًّا ضابطًا أكثر من أن يكون مبادرًا محفِّزًا ومنتجًا للأفكار والمفاهيم والمشروعات والبدائل؛ مع أن الحضارات لا تقوم في أول انطلاقها أبدًا على المنع والسلب والضبط.. إنها تقوم بناء على المبادرة والانطلاق والعطاء والمساهمة.. إنها أشبه بينابيع صغيرة، تتجمع فتشكل نهرًا متدفقًا، ثم نجد أنفسنا بعد مدة في حاجة إلى تصفية ذلك النهر وتنقية مائه من الشوائب.(/9)
إن الفكر الإسلامي سوف يكتسب من المناعة والحصانة والقابلية للاستمرار على مقدار ما يملك من التوازن في بنيته العميقة بين الثوابت والمتغيرات وبين المثالية والواقعية، وعلى مقدار ما يملك من المرونة في الفهم والاستيعاب وفي تقديم الحلول. إن العواصف الهوجاء تقتلع وتحطم الأشجار العملاقة على حين أن السنابل والحشائش تُبدي قدرة أكبر على الصمود والمقاومة والسبب في هذه المفارقة هو المرونة التي في الأخيرة والتصلب الذي في الأولى. واليوم توضع قواعد وكتل مطاطية في أسفل الأبراج والعمارات الشاهقة كي تقاوم الزلازل الأفقية؛ حيث يمنحها المطاط المرونة الكافية للتجاوب مع اهتزازات الزلازل على شكل امتصاص لها. إن المرونة لا يصح أبدًا أن تعني التنازل عن المبادئ ولا التساهل تجاه المحرمات، كما لا يصح أن تعني إقرار الباطل وممالأة الظلم، ولا أن تعني تغيير الاتجاه... إن هذه الأشياء لا تشكل أبدًا مرونة أو تكيفًا صحيحًا، إنها انحراف واضح تجب مقاومته والتصدي له. إن المرونة المنهجية تعني في نظري الآتي:
1- حسن الاستماع وحسن تفهم ما لدى الآخر. إن الأمة في أزمة متشعبة ولو لم يكن من معالم تلك الأزمة سوى ابتعاد عدد كبير من أبنائها عن جادة الالتزام بتعاليم الشريعة الغرّاء وسوى تدني مكانتها العالمية بين الأمم لكان ذلك كافيًا . حين يكون المرء في أزمة؛ فإن عليه أن يفتح عشر عيون وعشر آذان لالتقاط أي فكرة أو أي حل أو أي أسلوب أو أي أداة في إمكانه أن يخفف من غلواء الأزمة التي يعاني منها. إن مشكلة: كمشكلة البطالة، أو رداءة مستوى خريجي الجامعات، أو مشكلة تسلط الحكومات، أو انتقال السلطة بسلاسة وعلى أسس مشروعة، أو مشكلة ضعف الالتزام، أو تفكك الأسرة المسلمة بالتدريج... أقول: إن مشكلة كهذه المشكلات لن نستطيع الحصول لها على حلول من خلال استعراض التاريخ وتجارب الأجداد والآباء لأن سنة الله – جلّ وعلا- مضت ألا تتسع رحلة حضارية سابقة لمرحلة لاحقة. فالحلول التي عثر عليها الناس لأي مشكلة من هذه المشكلات قبل خمسة قرون لن تصلح لحلها اليوم. كما أن ما نحصل عليه من حلول ناجعة وعبقرية لمشكلاتنا لن تحل عين المشكلة بعد قرنين من الزمان.
ولن نجد حلاًّ لأي مشكلة من المشكلات آنفة الذكر لدى الغرب أو لدى اليابان أو الصين...؛ لأن أي حل من الحلول يرتكز على نوعية معينة من المعطيات الثقافية والسياسية وهذه النوعية تختلف اختلافًا واسعًا عن عالمنا الإسلامي وبين الدول غير الإسلامية المعاصرة لنا. لكن سنجد في التاريخ وسنجد لدى الآخرين نواة لحلٍّ؛ تحتاج إلى إنضاج وإنماء أو نجد فكرة ذكية تحتاج إلى تطوير أو أقلمة وتوطين. وهذه وتلك تحتاجان إلى عقل مرن ومحترف في الاقتباس ودمج الأفكار والطرق والمنهجيات المتفاوتة والمتباينة. ولن ينفع الذكاء وحده في الشأن بل لا بد من البحث العلمي المتقن والمتخصص والمستفيض، وهذا ما لم يتم الاعتراف به حتى الآن!
2- تعني المرونة الذهنية والمنهجية -أيضًا- القدرة على إدراك الفرق بين ما هو موجود في حياتنا بسبب الالتزام بالأمر الشرعي وبدافع من الالتزام بأمر الله، وبين ما هو موجود نتيجة عادات وتقاليد أنتجتها ظروف واعتبارات تاريخية، أو أنتجها التوسع في مبدأ (سد الذرائع) بسبب فهم جزئي أو زمني أو مؤقت للمصالح والمخاطر التي تترتب على سلوك معين.
ويقدم لنا وضع المرأة المسلمة نموذجًا لهذا؛ حيث إن كثيرًا مما يحتاج إلى الإصلاح في حياة المرأة المسلمة ومهامها العامة نشأ نتيجة مواصفات اجتماعية معينة مالت بها نحو الغلو أو نحو التفريط والتساهل بعيدًا عن المنهج الرباني الأقوم. قد يكون من الأسس النافعة في تصور إصلاح أوضاع المرأة المسلمة النظر إلى أن الأصل هو تطابق كل ما يُطلب من النساء، وكل ما يحل لهن، وكل ما يصح لهن عمله وممارسته مع ما هو ثابت للرجال؛ إلا ما جاءت النصوص الصريحة بإثبات خصوصية لهن فنصير إليه، ونأخذ به. وإذا اختلف أهل العلم الموثوقون والمتخصصون في مسألة هل هي خاصة بالرجال أو النساء – نظرنا إلى خلافهم على أنه باب من أبواب التوسيع على الأمة ورفع الحرج عنها. ومثل ذلك يقال في اختلاف أهل العلم في كون عمل من الأعمال – يجرّ مفسده أوْ لا. والذي يظن أن الأخذ بالأحوط وبالقول الأشد حذرًا وبالأميل إلى التشدد- يحل مشكلات الأمة أو يساعد الناس على مزيد من الالتزام – يكون واهمًا؛ حيث إن مثل هذا قد يدفع كثيرًا من الناس بعيدًا عن منطقة التدين كلها بما فيها من ألوان صفراء وحمراء، وواقعنا مملوء بالشواهد على هذا.(/10)
3- تعني المرونة كذلك القدرة على إعادة ترتيب الأولويات الدعوية والإصلاحية والإنمائية. حين نقول: إن إصلاح هذا الأمر يشكل أولوية فإن هذا يعني أننا ندرك خطورة استمراره، وعظم حاجة الناس إليه، وارتباط صلاح مسائل أخرى بصلاحه. وهذه مهمة شاقة جدًّا، وتحتاج إلى فهم عميق للسنن الربانية وللتداعيات المنطقية القائمة بين جوانب الحياة المختلفة. في معظم البلاد الإسلامية تتمثل الأولوية الإصلاحية في تعليم الناس أمور دينهم ، وفي حل أزماتهم الاقتصادية المتراكمة والمتعاظمة. وفي بعض البلدان الإسلامية يشكل الإصلاح السياسي أولوية. ويشكل إصلاح النظام التعليمي في بعض الدول أولوية مطلقة وهكذا... ولا يعني القول بأولوية شيء من الأشياء تعطيل الاهتمام بغيره من جوانب الحياة المختلفة؛ لكنه يعني أن نصرف عليه من الوقت والجهد أكثر مما نصرفه في غيره.
موضوع المرونة المنهجية موضوع طويل وقد أعود إليه في يوم من الأيام.
ومن الله الحول والطول.
المناعة الفكرية (7)
د. عبدالكريم بكار 10/7/1425
26/08/2004
الفكر المنيع فكر قادر على الاستمرار ومناعته نابعة من طبيعته ومقوماته الذاتية، ومقومات الفكر الإسلامي ليست شيئًا يصنعه الناس جريًا وراء أهوائهم أو اجتهاداتهم الشخصية، فالفكر لا يكون إسلاميًا إلا إذا كان تكونه في إطار تعاليم الإسلام ومقاصده العامة، ولا يكون نموه صحيحًا إلا إذا كان عن طريق حبل سري متصل بالمصالح المنضبطة للأمة وبالطبيعة البشرية، وما نعرفه من سنن الله –تعالى- في الخلق. وشيء من هذا الكلام ينطبق على الفكر الإنساني أيضًا؛ حيث إن صناع الأفكار يستطيعون أن يقولوا – على مستوى التفاصيل الدقيقة- الكثير مما يريدون، لكن تظل حيوية ما يقال وقدرته على تشكيل الحضارة مرهونة لاتصالها بالسنن الربانية وبتشوقات البشر وتطلعاتهم.
وتأسيسًا على كل هذا يمكن القول: إن الغلو بكل سماته وأشكاله ومظاهره ومنطلقاته يشكل إحدى الآفات والعلل المزمنة والخطيرة التي طالما أصابت الفكر الإنساني والإسلامي في مقتل، والحقيقة أن البعد عن القصد والميل إلى المنازع والاتجاهات الغالية المتطرفة يشكِّل جزءًا من التراث الحضاري لكل الأمم؛ وإني لأكاد أزعم أن ذلك متصل بالتكوين العقلي والنفسي لبني الإنسان. وإذا صح هذا فإنه يكون جزءًا من أدوات الابتلاء في هذه الحياة. إن الغلو مصطلح شرعي، لكن تطبيقاته واسعة جدًا إلى درجة أن بعضها يتصل بالذوق وبالخبرة البشرية وبالتراكمات الثقافية المتنوعة، ولهذا فإننا حين نتحدث عن الغلو أو الإفراط أو التطرف أو التشدد في أمر من الأمور المتصلة بالتدين والالتزام فإن علينا ألا نتجاوز الأحكام الشرعية. وفي هذا الإطار فإننا نجد اليوم في الساحة الثقافية العامة صنفين ممن يتحدث عن الغلو: صنف يهرف بما لا يعرف، حيث ينطلق من خبرة محدودة جدًا بالشريعة وبالفقه الإسلامي لكنه يملك جرأة تصل إلى حد الوقاحة في إطلاق الأوصاف والنعوت النارية علىسلوكات ومواقف لا ينبغي أن يتحدث فيها إلا أهل الاختصاص وهم الفقهاء، وهذا شيء طبيعي فكما أنه لا يتحدث في الأمور الهندسية الدقيقة إلا مهندس، وكما لا يتحدث في المسائل الفيزيائية العويصة إلا فيزيائي فكذلك لا يتحدث في مسائل التدين والالتزام والتعبد والسلوك الإسلامي عامة إلا فقيه خبير. أما الصنف الثاني فإنه ينطوي على سوء نية وعلى انحراف في الوجهة، إنه يريد من خلال الحديث عن الغلو هدم الإسلام ذاته؛ فالذي يمتنع عن إيداع أمواله في البنوك الربوية متزمت غال، والمرأة التي تستر وجهها أو تمتنع عن مجالسة الرجال الأجانب متخلفة ومعقدة، والمسلم الذي يستدل بالآيات والأحاديث في التنظير للقضايا حرفّي محدود. والمسلم الذي لا يستمع للموسيقى غليظ المشاعر، ومفتقر إلى نوع من التهذيب لا يأتي إلا عن طريق الموسيقى...!!
وقد كثر هذان الصنفان في الساحة الثقافية والإعلامية، وكثير منهم يظنون أنهم يساعدون الأمة على النهوض والارتقاء، وهم في حقيقة الأمر يمارسون عملية تخريب واسعة النطاق ولا تظهر آثارها إلا بعد عقد من الزمان.(/11)
وعلى كل حال فإن من واجب المفكرين والمنظِّرين وأهل كل الاختصاصات العلمية أن يشيعوا في الجماهير المسلمة مفاهيم الوسطية والاعتدال والتسامح واليسر، وأن يقاوموا نزعات الغلو التي تجتاج كل الشرائح والفئات وكل الدوائر والتخصصات؛ فهناك غلوّ في السياسة وفي الاجتماع وفي التدين وفي الاقتصاد والتربية والتعليم والتعامل مع التاريخ والتخطيط للمستقبل.. وأهل كل تخصص هم الذين يقررون الاتجاهات والأقوال الغالية في تخصصهم، وهم الذين يحددون درجة ذلك الغلو، وعليهم تقع مسؤولية معالجته وتخليص الناس منه، وهذه نقطة مهمة حيث يظن بعض الناس أن الغلو عبارة عن مشكلة دينية محضة، وهذا غير صحيح. قد كانت الشيوعية مغالية حين أعطت دورًا استثنائيًا للدولة في إدارة شؤون الناس، وقد أدى ذلك تهميش المجتمع وتعطيل كثير من وظائفه، وكانت النتيجة هي انهيار الدولة والمجتمع معًا.
ومن المربين من يغالي فيجعل دور البيئة حاسمًا في تقرير ثمار الجهود المربية. ومن المؤرخين من فسّر التاريخ تفسيرًا عرقيًا عنصريًا، ومنهم من فسره على أساس عبقرية المكان والدور الحاسم للجغرافيا وهكذا وهكذا.. وكلما تقدم العلم خطوة إلى الأمام يتضح لنا أكثر فأكثر أن المراهنة المبالغ فيها على بعد من الأبعاد أو قول من الأقوال أو عنصر من العناصر أو تفسير من التفسيرات أو دليل من الأدلة معلومة من المعلومات... هي شيء بعيد عن القصد وعن الواقع، وقريب من أن يكون مجازفة علمية، فالتعقيد الذي نكتشفه اليوم في طبيعة كل البنى الثقافية يحتم علينا أن نبلور دائمًا رؤى ونظريات واجتهادات ذات طبيعة تركيبية. والطبائع التركيبية تساعد دائمًا على الحد من الغلو والانجراف خلف وجهات أحادية ضيقة. إننا –كما أخبر سبحانه- ولا نعرف إلا القليل. وكثير من معارفنا هش وغير مكتمل، ومنفتح على آفاق مجهولة، مما يعني أن علنيا أن نحذر أشد الحذر من الاعتزاز باجتهاداتنا الشخصية ومن المغالاة في انتماءاتنا الحزبية والحركية، وأن نظل إلى جانب ذلك في حالة من البحث المستمر عن الرؤى المتوازنة البعيدة عن الإفراط والتفريط، فالمتقدم على الصف والمتأخر عنه يسهم كلٌّ منهما في اعوجاجه. إن اليهود فرّطوا في موقفهم من الرسل -عليهم الصلاة والسلام- بل من رب العالمين –جل وعز- فقد قالوا: يد الله مغلولة، ووصفوه بما لا يليق بإنسان فضلاً عن أن يليق بالخالق، وكذّبوا الرسل وأهانوهم وقتلوهم. أما النصارى فقد أفرطوا في هذا الشأن حيث قدّسوا عيسى -عليه السلام- حتى جعلوه إلهاً. أما أمة الإسلام الوسطية فقد نجت في موقفها العقائدي العام من هذا و ذاك.
ونحن اليوم في حاجة إلى أن نتلمس المزيد من المواقف والتطبيقات التي تعكس وسطيتها في مجالات الحياة كافة. وقد ابتلى الإسلام على مدى عهوده المتطاولة بفئتين من أبنائه : فئة تتفلت من تعاليمه، وتتقاعس عن أداء مقتضياته وواجباته. وفئة تحمل الناس على المكاره، وتدفعهم في اتجاه العسر والحرج والضيق. والفئة الأولى خاضعة غالبًا للشهوة أما الفئة الثانية فإنها في الغالب خاضعة للشبهة. ومن هذه وتلك تتكون وضعية بائسة تجمع بين القصور والانحراف.
وللحديث صلة.. والله وفي التوفيق.
المناعة الفكرية (8)
د.عبد الكريم بكار 24/7/1425
09/09/2004
الإسلام هو رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- الأخيرة التي تتلقاها البشرية من الله –جل شأنه-؛ ولهذا فهي رسالة عامة وشاملة، فيها ما يحتاجه صلاح الناس مهما اتسعت أمداء الزمان والمكان، ومهما تنوعت الظروف والأوضاع والأحوال. وهذا يتطلب بداهة سعة الأطر، ورحابة الأحكام، ومراعاة شيء من التنوع الثقافي، وترك بعض التفصيلات أو كثير منها لتقدير علماء الأمة وباحثيها، ليستنبطوا من الأصول العامة للشريعة السمحة ما يغطيها ويوضح للناس أحكامها.
ويلاحظ في هذا السياق ثلاثة أمور مهمّة:
1- معظم نصوص الكتاب والسنة ظنيّة الدلالة، مما يفتح باستمرار مجالاً للاجتهاد واختلاف الآراء. ولو شاء الله –تعالى- لجعلها جميعاً محكمة قطعية الدلالة؛ لكن ما هو ماثل الآن ينسجم مع خلود الرسالة وختمها وعمومها. ومن شأن الاختلاف توفير إمكانات واختيارات وبدائل. كما أنه يعكس رؤى المجتهدين وتنوع ثقافاتهم وتقديرهم للحالة أو الوضعية موضع النظر. وهذا يضفي على الأحكام طابع اليسر والسهولة، ويجعلها قريبة من معاناة الناس ومشاعرهم. وكل هذا جزء صغير من رحمة الله –تعالى- ولطفه بعباده.(/12)
2- النصوص على نحو عام في المسائل التي تختلف باختلاف الزمان والمكان قليلة، وفيها توجيهات عامة. وقلة النصوص ترمي إلى إفساح المجال للمجتهدين كي ينظروا ويستنبطوا في ظلال المقاصد العامة للشريعة وفي إطار حاجات المجتمع المسلم. ونجد هذا واضحاً في المسائل السياسية والإدارية والعلاقات الدولية والمسائل التنظيمية عامة وقد عتب الإمام الجويني في كتابه (الغياثي) على الماوردي في أنه ساق في كتابه (الأحكام السلطانية) الأحكام المتعلقة بالسياسة الشرعية بلغة فيها الكثير من الجزم واليقين أو بعبارة أخرى: ساق الظنيات في موارد وسياقات القطعيات. وهذا لا يليق بمجال، النصوص فيه قليلة والاجتهادات كثيرة مع امتداد آفاقه وتنوع مستجداته. وهذه الملاحظة ملاحظة ذكية من عقل كبير.
3- في صميم المنهج الاجتهادي والاستنباطي شيء يثير الإعجاب، وهذا الشيء هو ما يقوم به الأصولي والفقيه من نظر وتفكر وتحقق قبل إصدار حكم في واقعة من الوقائع أو وضعية من الوضعيات.
إن المجتهد قبل أن يصدر حكماً في واقعة جديدة، لا نص فيها ولا إجماعاً سابقاً، يحتاج إلى كثير من التأمل والبحث، فإذا كان بصدد قياس الواقعة الجديدة على واقعة سابقة أو كان في سياق الحكم على شيء جديد بعين الحكم الصادر في شيء سابق منصوص عليه؛ فإن عليه أن يكتشف علة الحكم في الأصل وهذه العلة قد تكون جلية وقد تكون غامضة، وقد يحتمل الحكم في الأصل أكثر من علة واحدة، ويكون عليه آنذاك أن يقوم بعملية أطلقوا عليها (السبر والتقسيم) أو (تنقيح المناط)، وذلك من أجل اكتشاف العلة المؤثرة فعلاً في الحكم. وهذا العمل عمل اجتهادي عظيم يقوم به الأصوليون والفقهاء الكبار المتمكنون.
ونتائج هذا التمحيص كثيراً ما تكون موضع نزاع وموضعاً لتباين الآراء والاجتهادات. فإذا عُرفت العلة المؤثرة في الحكم، فإن هناك عملية أخرى لا تقل شأناً عما سبق، وهي التأكد من أن العلة موجودة في الحادثة الجديدة، وأن الشروط المطلوبة لجعل الفرع مساوياً للأصل أو الشروط المطلوبة لصحة إصدار الحكم موجودة ومتوفرة. وهذا ما سماه الأصوليون (تحقيق المناط) إذا قلنا إن إنكار شيء من المعلوم بالدين بالضرورة يجعل المنكر كافراً كما هو الشأن في منكر فرضية الصلاة أو حرمة الزنا، وإن بلغنا عن شخص شيء من ذلك؛ فإن علينا قبل الحكم بكفره أن نتأكد من صحة ما نسب إليه ودقته في الدلالة على الإنكار. وعلينا أيضاً أن نتأكد أنه عالم بإخراج ذلك الإنكار من الملة، وأنه لم يتراجع عنه ويتب منه وعلينا وعلينا... إن تحقيق المناط أو التأكد من انطباق الحكم على الواقعة يشتمل على رحمة عظمى للأمة حيث جعل الله –تعالى- شيئاً من التشريع في النوازل إلى الأمة ممثلة في مجتهديها.
إذا تأملنا في الملاحظات الثلاث التي سقناها وجدنا أنها جميعاً تدفع في اتجاه واحد هو الرفق واللطف بالمكلفين، وهو الأناة والتريث قبل إصدار الأحكام. وهو التيسير ورفع الحرج ورفع التشدد والغلو.(/13)
وهذا الاتجاه في الحقيقة هو سبيل المؤمنين الفاقهين، وسبيل العارفين بأسرار الشريعة ومقاصدها، والخبراء بطبائع الأشياء وسنن الله تعالى في الخلق. إن الغلاة لا يساعدون فكر الأمة على الانتشار، ولا يساعدون المسلمين على بناء منطق عالمي قابل للشرح والتوضيح وقابل للتفهم من قبل الآخرين؛ إنهم على العكس من هذا يتركون لدى الناس انطباعاً بأن الدين جاء لأولي العزم من الناس وليس لعامتهم. وهم إلى جانب هذا يحيدون عن قواعد المنهج الرشيد الذي بلوره علماء الأمة من أجل فهم كيفية الاستجابة لأمر الله في المناشط والاستجابة له في المكاره. وذلك المنهج يأخذ بعين الاعتبار حالات الضعف البشري وحالات القصور الإنساني، كما يأخذ بعين الاعتبار الظروف الموضوعية التي يمر بها العباد. كيف لا والله تعالى يقول في وصف نبيه محمد –صلى الله عليه وسلم-: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) ؟ [سورة الأعراف:157]. إنه يضع عن أمة الإسلام الأحكام والتكاليف الشاقة التي يضعف عن حملها الإنسان والتي كانت على بني إسرائيل من مثل قتل النفس بالتوبة وتحريم الغنائم. والله تعالى علم المسلمين كما في أواخر سورة البقرة كيف يدعونه برفع الحرج عنهم حين قال: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة:286] وقد ورد في صحيح مسلم ما يدل على أن الله استجاب دعاءهم. وقال عز وجل: (طه. مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) [طه:1-2] وقال: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) [الأعلى:8] قال ابن كثير في تفسيره: "أي نسهّل عليك أفعال الخير وأقواله ونشرع لك شرعاً سمحاً مستقيماً عدلاً لا اعوجاج فيه ولا حرج ولا عسر".
هذا وللحديث صلة.
المناعة الفكرية (9)
د. عبد الكريم بكار 9/8/1425
23/09/2004
إن العمل الذي قام به فقهاؤنا على مدار التاريخ الإسلامي هو حقاً شيء يثير الإعجاب. وتأتي روعته من انضباطه بأصول محددة ومن حركته داخل النصوص. ترى فيه الثبات والاتفاق في الأصول والمسائل الكبار. وترى فيه المرونة والاتساع للتنوع والاختلاف في الفروع والمسائل الجزئية. وأعتقد أن قدراً غير قليل من (المناعة الفكرية) يجب أن يستمد من الارتكاز على روح الإنجاز الفقهي ورسومه. وإذا تأملنا في كثير من الانحرافات الفكرية لدى بعض الطوائف الإسلامية وجدنا أنها تشكل نوعاً من الخروج على منهج الاستدلال الذي سار عليه الأصوليون والفقهاء، كما تشكل خروجاً سافراً على الأحكام التي انتهوا إليها. إن الفقيه يقدم لنا دائماً نموذجاً لاعتبار الرأي المخالف. وكتب الفقه المقارن مثل: (المحلى) لابن حزم، و(المغني) لابن قدامة، و(المجموع) للنووي...؛ شاهدة على هذا. وإذا عدنا مرة أخرى إلى (الغلو) بوصفه العدو اللدود لاستقامة الفكر ومناعته واستمراره وجدنا أن الغالين يصدرون في معظم شأنهم عن تجاهل لقول غيرهم واستخفاف بالمخالف كائناً من كان. ولا شك أن هناك الكثير من المسائل التي يكون الخلاف فيها ضعيفاً حتى كأنه غير موجود، لكن هناك أيضاً الكثير من المسائل التي يعد فيها تجاهل الخلاف وتجاوزه ضرباً من الجهل العريض والطيش الكبير. وعلى سبيل المثال فقد ذهب بعض الغلاة في عصرنا هذا إلى تحريم التقليد وإيجاب الاجتهاد، وحجتهم في ذلك أن التقليد طاعة مطلقة. وهذه الطاعة المطلقة لا تكون إلا لله، ولذلك فإنهم يكفرون المقلد لأنه حكَّم غير الله، واتبع غير رسول الله. وهذا يذكرنا بالخوارج حين أطلقوا مقالتهم الذائعة الصيت: "لا حكم إلا لله". والقول بحرمة التقليد يتجاهل ما قرره علماء الأمة في هذا الشأن ويتجاهل تاريخ الأمة كله؛ حيث إن لدينا ملايين الناس المشهود لهم بالخير والصلاح والعلم ومع هذا فإنهم لم يجتهدوا، وكانوا يقلدون أحد الأئمة المتبوعين. كما أن هذا القول يجافي ما تواضع عليه البشر في كل العلوم؛ إذ لا يجيز أي أهل علم أو اختصاص لأي إنسان مهما بلغ أن يجتهد في كل شيء لأن في ذلك هدماً لقطعيات العلم ومواطن الإجماع فيه. وإذا كانوا لا يجيزون الاجتهاد المطلق من القيود؛ فكيف يوجبه هؤلاء في أخطر العلوم، وهو علم الحلال والحرام وتحديد ما يحبه الله –تعالى- ويبغضه؟!(/14)
ويتجاهل الغلاة الخلاف بين أهل العلم في تحديد بعض المصطلحات، فيصيرون إلى فهمهم الخاص غير عائبين بتعريف غيرهم، ويلتزمون بما فهموه التزاماً صارماً، ولا يكتفون بذلك، وإنما يصيرون إلى إلزام غيرهم، ويرتبون لأحكام على ذلك، ويتصرفون وكأنهم أمام نص قطعي الثبوت.. قطعي الدلالة؛ هذا مع أن كل العارفين بمناهج البحث وطرق الاستدلال يعرفون أن المصطلح حين يكون هشاً أو انتقائياً أو غامضاً فإن المنهجية تقضي بمراعاة ذلك والأناة في البناء عليه. والمصطلحات التي أساء بعض الغلاة المعاصرين التعامل معها عديدة، ولعل منها مصطلح (جماعة المسلمين)؛ فقد قامت مجموعة منهم بتنصيب أمير عليها، جعلته في مقام أمير المؤمنين، وجعلت نفسها جماعة المسلمين، وصاروا يعتقدون أنهم جماعة آخر الزمان المجتباة قدراً المعلومة عند الله والمكتوبة في اللوح المحفوظ! ويقول أحد قيادييها: نحن جماعة المسلمين، وما عدانا فليس بمسلم. وقد جعل من لم ينضم إليهم بمثابة التارك لدينه المفارق للجماعة، والذي ورد في الحديث الصحيح أنه حلال الدم. مع أن الذي يعود إلى كلام أهل العلم في مفهوم (جماعة المسلمين) يجد أن منهم من ذهب إلى أن جماعة المسلمين هم الصحابة –رضوان الله عليهم- على وجه الخصوص. ومنهم من ذهب إلى أن جماعة المسلمين هم السواد الأعظم من أهل الإسلام. وذهب بعضهم إلى أنها أئمة العلماء المجتهدين. وذهب فريق رابع إلى أنها أهل الإسلام في مقابل الكفار...
ومن المعاصرين من لم يدّعوا أنهم جماعة المسلمين، لكنهم أقرب الجماعات إلى أن يكونوا جماعة المسلمين، ولا ريب أن هذا القول أخفّ من السابق لكنه ترك على تلك الجماعة آثاراً سيئة حيث أصيبت بعقدة الأخ الأكبر الذي يُستشار، ولا يستشير، ويُطلب منه التعاون ولا يطلبه..
الغلو في التكفير مظهر آخر من مظاهر استغلال غموض المصطلحات والإعراض عن الشروط والتعريفات. وقد ورد الكثير من النصوص التي تحذر المسلم من المسارعة إلى تكفير أخيه المسلم، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما". وقال: "... ولعن المؤمن كقتله ومن رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله". إن أهل العلم الثقات العارفين بموارد النصوص والفاقهين لاستخدامات هذه الكلمة يقولون: إن الكفر يَرِد في الكتاب والسنة ويراد به الكفر المخرج من الملة، وأحياناً يَرِد ويراد به كفر لا يخرج من الملة، فكما أن للإيمان شعباً كذلك للكفر شعب والأدلة على هذا أكثر من أن تحصى. لكن الغلاة لا يأبهون للتفصيلات ولذلك حكموا على مرتكب الكبيرة بالكفر، وكفروا كل من لم يحكم بما أنزل الله مع أن الحاكم إذا لم يحكم بما أنزل الله لأن شهوته حملته على ذلك مع الاعتقاد بأن حكم الله ورسوله هو الحق واعترافه على نفسه بالخطأ لم يخرجه ذلك من الملة، وإن كان ارتكب كبيرة من أعظم الكبائر. والراسخون في العلم يحرّجون كثيراً في تكفير شخص بعينه؛ لأنه قد يكون جاهلاً أو مكرهاً أو دخل في موازنة مخلصة يحقق بها ما يمكن تحقيقه من الخير للمسلمين، ويدفع بها من الشر ما يمكن دفعه. وقد يكون له إيمان وعمل صالح كثير وقد... وقد...، وهذا مما ينقل الحكم على الحاكم من حيز الكفر الأكبر إلى حيز الكفر الأصغر.
إن الغلاة حملوا أنفسهم على المركب الصعب، وقد وجدوا أنفسهم في نهاية المطاف في الزاوية الضيقة. وكانت النتيجة هي الاضمحلال والانحسار؛ فمنهم من قُتل، ومنهم من شُرد، ومنهم من تراجع عن أفكاره، ومنهم من لا يزال على طريقته الأولى لكنه يجد نفسه دائماً عاجزاً عن تقديم شيء إيجابي تنتفع به الأمة.
وللحديث صلة، والله الموفق.
المناعة الفكريّة (10)
د. عبدالكريم بكار 23/8/1425
07/10/2004
ذكرْت أنّ الغلوّ قصير النَفَس، وهو ما دخل فكرًا أو مشروعًا أو مؤسّسة إلا شكّل نقطة ضعف فيما توضّع فيه، والسؤال الذي علينا أن نحاول الإجابة عنه هو: لماذا ينشأ الغلوّ؟ وما الخلفيّة النفسيّة والثقافيّة والبيئيّة التي تساعد على انتشاره وكسبه للأنصار؟
والجواب عن هذا السؤال جواب طويل، ولكن سأحاول إجماله في مفردات قليلة.
1- كثيرًا ما ينشأ الغلوّ نتيجة فهم خاطئ للنصوص كما حدث للخوارج في صدر الإسلام. وتعدّد النصوص في القضيّة الواحدة، وكون معظم النصوص ظنّية الدلالة يساعدان على هذا. أضف إلى ذلك القصور الذي يشكّل ما يشبه العاهة الدائمة للنظام اللّغوي في العالم كله وفي كل اللغات؛ حيث إن اللّغة ناقل غير شفّاف، وهي تُنتج لنا -في معظم الأحيان- الفهم المتعدّد بل المتناقض، ولهذا أسباب وحيثيّات يطول شرحها.
2- اعتقاد الاكتمال قبل الأوان سبب من الأسباب القويّة للغلوّ؛ حيث إنك تجد شبابًا يُصدِرون الفتاوى بغاية السهولة، وبالقليل القليل من الشعور بالمسؤوليّة في أمور توقّف فيها كثير من أهل العلم، وتنازع فيها أهل الاختصاص، وكل هذا بسبب الجهل، وبسبب الغرور وسوء الطريقة التي تثقّفوا بها.(/15)
3- اعتقاد كثير من الشباب بوجود مؤامرة ضخمة وصريحة وعامة، يشارك فيها الداخل والخارج –دفع دفعًا قويًا في اتجاه الغلوّ. ومن السهل تكفير حاكم ثبت أنه يضرّ بمصالح المسلمين عمدًا لصالح الكافر الأجنبيّ حبًا فيه وولاءً له، وهذا ما يعتقده كثير من الغُلاة، وهو يعبّر عن جهل عريض بطبائع الأشياء، وعن جهل عريض بطبيعة العمل السياسيّ وتعقيداته وموازناته.
4- الضغط الخارجيّ والهيمنة الأجنبيّة على بلاد المسلمين ومكتسباتهم وثرواتهم يجعل التوازن الفكريّ يختلّ لدى كثير من الناس –ولاسيما الشباب- فتجد الخانع التابع الخائف والباحث عن فرصة لإظهار ممالأته للأجنبيّ، وتجد الغالي الذي يريد تحرير العالم الإسلاميّ بأقصى سرعة وبكل وسيلة.
5- العُزلة وإنضاج الأفكار في الظلّ بعيدًا عن أجواء المناظرة والحوار والجهر بالدعوة، وإذا تأمّلنا في تاريخ الدعوات المنحرفة؛ فإننا نجد أن السواد الأعظم منها نشأ، وترعرع تحت الأرض بعيدًا عن الأنظار، وإنّ ضرْب حظرٍ على الأنشطة السياسيّة والاجتماعيّة في كثير من البلدان الإسلاميّة، يدفع كثيرًا من الشباب إلى الاعتقاد بأن الطريق الوحيد المتبقّي لتحقيق أهدافهم في نُصرة الإسلام هو سلوك طريق العنف والقتال.
ممارسة الأنشطة الدّعويّة والاجتماعيّة والسياسيّة تُبقي باب الأمل للإصلاح مفتوحًا؛ ولذا فإن المجتمعات المفتوحة تكون معاناتها من الغلوّ أقل من غيرها.
6- المثاليّة والنظر إلى الأمور بعيدًا عن الواقع: إن كثيرًا من المُغالين لا يرون إلا جزءًا من الصورة، وهو تراجع مستوى حكام المسلمين عن المستوى الذي كان عليه حكام الأمة في صدر الإسلام، أو الذي كان عليه الصّفوة من حكام الأمة على مدار التاريخ الإسلاميّ. وهم لا ينظرون إلى التراجع الخطير الذي حدث على المستوى الشعبيّ العام. إنهم يريدون حُكْمًا راشديًا على شعوب بعيدة عن أخلاق الصحابة –رضوان الله عليهم- والتزامهم الصارم، ويذكّرني هذا بقوْل من قال لعلي –رضي الله عنه-: "إنك لا تسير فينا سيرة الشيخيْن: أبي بكر وعمر؟ . فقال: نعم. الشيخان كانا أميريْن على أمثالي، وأنا أمير على أمثالكم". وقال معاوية –رضي الله عنه- لابنه يزيد حين عيّنه وليًا للعهد: كيف ستسير في الناس بُعَيْدي؟ فقال: سأسير فيهم سيرة الشيخيْن: أبي بكر وعمر، فقال معاوية: حاولت فيهم سيرة عثمان فلم أستطع". حين تتجه السفينة نحو القاع فإن الماء يغمر كل أجزائها، وحين تراجع مستوى الالتزام في الأمة لم ينجُ منه إلا القليل، وفي بعض المجالات وليس في جميعها. إن كثيرًا ممن يحملون الفكر الغالي يملكون شعورًا مبالغًا فيه بالواجب، ويحمّلون أنفسهم تكاليف لم تحمّلهم إياها الشريعة الغرّاء؛ مما أدّى بهم إلى ركوب المركب الصعب، ثم أخذوا يحاولون جرّ غيرهم إلى ما صاروا إليه، ولو اقتضى ذلك تكفير المسلمين وحمل السلاح عليهم.
7- ثبت أن كثيرًا ممن تُمارَسُ القسوة في تربيتهم، تنشأ في نفوسهم أحقادٌ دفينة، وتميل طبيعتهم إلى القسوة، ويُظهرون قدرًا أقلَّ من التسامح مع المخالِفين، ومع الأفكار المباينة لأفكارهم.
8- استُخْدِم العنفُ الشديد ضدّ بعض الشباب، واستُخْدِمت أنواعٌ من التعذيب تمسّ الكرامة الإنسانيّة، وتؤكّد لهم أنه لا يُعقل أن يقوم بذلك أناس يخافون لقاء الله أو يؤمنون به. وهذا قدّم برهانًا قويًا للقائلين بالتكفير وبنظريّة المؤامرة.
9- لم يستطع كثير من الإعلاميّين، وكثير من المناوئين للشباب الذين يحملون أفكارًا غالية –أقول لم يستطع هؤلاء أن يظهروا بمظهر الخصْم الشريف؛ فألصقوا بهم أشياء لم يفعلوها، ونسبوا إليهم أقوالاً لم يقولوها، وبعضهم استغلّ موجة الهجوم على الغلوّ ليجعل من كلامه هجوماً على الإسلام، وهذا زاد في غلوّ الغالين، وأكّد لديهم صدق معتقداتهم في اتّهام الخصوم.
إننا هنا لا نسوّغ لأحد الغلوّ، ولا نقدّم عذراً للغالين، ولكن نحاول فهم جذور هذه الظاهرة ومنطلقاتها.وأعتقد أن فتح أبواب الحِوار سيساعد كثيراً في امتصاص هذه الظاهرة، وقد ثبت من تجربة بعض الحكومات العربيّة في هذا الشأن نجاعة التعامل باحترام وتقدير، وانفتاح وعقلانيّة ومصداقيّة مع حَمَلة الفكر الغالي. وهي تجربة قابلة للتّكرار(/16)
المنافقون بين العيان والحقيقة ...
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على رسول الله.
قال تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام* وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسدَ فيها ويهلكَ الحرث والنسل*والله لا يحبّ الفساد, وإذا قيلَ له اتّقِ الله أخذته العزّة بالإثم فحسبه جهنّم ولبئس المهاد}(البقرة204-205-206).
ما الذي يأسر قارئ هذه الكلمات الإلهيّة؟! وما الذي يجعله يُشَدُّ إليها فيرجع إليها المرّة تلو المرّة, ويعيد النظر فيها ذهاباً وإياباً!
ألأنّها كلمات الربّ والتي هي صفة من صفاته؟ وهو القائل: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية الله}. أم لأنّها تكشف للمرء حقائق الباطن وتُصوّر ظواهره بأبلغ كلامٍ وأحسنه! والله يقول: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}.
أم لأنّها تُريك صوراً بشريّة كثيرة تنطبق عليهم تمام الانطباق فلا يخرمون منها شيئاً مهما قلّ أو صغر!
أم لأنّها تُسَلّيك في مواطن كثيرة تُغلب فيها بكلام الآخر في باطله وتعجز عن ردعه وغلبته في جولة المبارزة بالكلام, فتَجْبُر آلامك العظيمة فتطمئنّ أنّه {حسبه جهنّم ولبئس المهاد}.
أم لأنّها تهدّئ روعك وجزعك أمام الظواهر الكاذبة مهما علت وتعاظمت, ومهما طال تغييبها الحق عن الناس! إنّها لذلك كلّه ولغير ذلك من أمور عظام. يا إلهي ما أحسن حديثك وما أعظمه وما أحلاه وما أطلاه!
وقبل أن يتمثّل المسلم الصور البشرية المختزنة في هذه الآيات العظيمة فإنّه لا بدّ أن يَعْلَم ما في داخلها من معادلات, وكيف تعرض هذه الآيات فضائح المخبوء في هذه الصور القبيحة -صور المنافقين- المعادلة: الشقّ الأول: الدعوى والشق الثاني: الحقيقة
أولاً: الدعوى
1– {يعجبك قوله في الحياة الدنيا}: الإعجاب بالحديث يقع في النفس لسببين:-
البلاغة والموافقة؛ فالمرء يمدح القول ويتفاعل معه إذا رأى فيه قوّة الخطاب، فهي كالسحر كما سمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالجمل البلاغيّة وصبّ المعاني في قوالبٍ من اللفظ الحسن تدعو السامع ولا بدّ إلى الإعجاب، والإعجاب هو مقدّمة قبول القول وقائله، لأنّ الإعجاب مبنيّ على الاستحسان، والاستحسان لا يقع إلاّ بعامل الرضا، وههنا القرآن الكريم يكشف لنا عن مزلق من المزالق التي يقع فيها الكثير من الناس جهلاً، ويستخدمها دعاة الشرّ خبثاً، إنّه مزلق جمال الخطاب وقوّة البيان وحسن صياغة الأفكار، وهذا المزلق استُخدِم كثيراً في تاريخنا، كما يُستخدم اليوم كثيراً في واقعنا، فكم من داعٍ على أبواب جهنّم تمكّن بحسن بيانه وقوّة خطابه أن يأسر الناس إليه، ويسوق الجموع إلى فكره وعقيدته، فعلى العاقل الفطن أن لا ينساق إلى هذا المزلق، فلا تغرّه الظواهر التي تزيّن الباطل، بل عليه أن ينظر إلى حقيقة الموضوع وإلى المعاني الجوهريّة، فيدرس الأمور دراسة الوعي والعلم، لا دراسة الجمال والزينة. ثمّ إذا نظرنا إلى الجانب الآخر من هذه المسألة لوجدنا كذلك أنّه من اللازم على دعاة الحقّ أن لا يغفلوا عن تقديم ما عندهم من حقّ وخير بأحلى عبارة وأجمل خط اب، إذ عليهم أن يتخيّروا العبارت والصور البيانيّة ما يكون داعياً للسامع أن يُقبِل على ما عندهم من هُدى، ولا نعني بهذا أن نجمّل الحقَّ بالشهوات، وأن نخلط الحقّ بالباطل، لأنّ الكثير من الناس يتمنّون أن يَعرضوا القرآن برغيف من "الساندويتش" أو أن يَلبس السنّة ثوب امرأة حسناء ليسارع الناس إليهما، وليس هناك مثل القرآن أعظم في هذا الباب، فهو{أحسن الحديث} ولهذا وصف الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقرأ القرآن ولا يعمل به مثل الريحانة، ريحها طيّب وطعمها مرّ، ومثل المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به مثل الأترجة، ريحها طيّب وطعمها طيّب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها حلو ولا ريح لها، وهذا يدلّ على أثر القرآن واتّخاذه وسيلة في الحجاج والحديث، ودوام الاستشهاد به، فإنّ الريح الطيّبة مدعاةٌ للقرب والقبول. والقصد من هذا بيان أنّ اللفظ الحسن لا يصحّ أن يتّخذ حاكماً على قضيّة من القضايا، كما أنّه كذلك لا ينبغي لأهل الحقّ أن يُعرضوا عنه لأثره على النفوس والقلوب.
وأمّا الشقّ الثاني الذي يقع بسببه الإعجاب فهو الموافقة لما يقوله المتحدّث، والإعجاب ههنا بهذا الصنف من الناس يقع بسبب إظهاره موافقة أهل الحقّ لما عندهم، وإن كان هو في حقيقة الأمر يستخدم هذا لما يريده فيما بعد ذلك من المخاصمة وإثارة الشبهات وتزوير الحقّ الذي عند المؤمنين، لقوله سبحانه وتعالى {وهو ألدّ الخصام}.(/1)
وهذا كلّه على اختيار أنّ قوله تعالى {في الحياة الدنيا} متعلّقٌ بقوله سبحانه {يُعجبك}، أيّ أنّك تستحسن قوله ما دام في هذه الدنيا، لأنّه لا يصدر منه إلا القول الحسن، فهو يتكلّم بما يوافق ما عندكم من الحقّ والخير. وقال بعض أهل العلم: إنّ قوله تعالى: {في الحياة الدنيا} متعلّق بقوله {قوله} أي أنّه يتقن الكلام فيما هو من شأن الدنيا. والذي أراه -والله أعلم- أنّ القول الأوّل هو الصواب، فإنّ إعجاب المؤمن بكلام المرء لا يكون إلاّ حين يتكلّم المرء بكلام الدين والحقّ، وأمّا كلام الدنيا فليس هو معيار الإعجاب عند المؤمن، ثمّ إنّ مراد الآيات هو بيان مخالفة كلام المرء بقوله الحسن مع فعله القبيح -وهو الإفساد في الأرض.
2– {ويشهد الله على ما في قلبه}: إنّ أوّل ما يخطر على بالك عند هذه الكلمات أن تسأل: لماذا يسارع المجرم والمُبطِل -غالباً- إلى نقل الموضوع الذي يدور حوله الخلاف إلى المنطقة الخطأ؟ ولماذا يحاول المبطل -غالباً- التنبيه على ما يمكن أن يتّهم به لقرائن الحال؟!
فههنا رجل لو كَشَفَ الله تعالى عن قبله لرآه الناس من أقبح القلوب وأشنعها، ولأبصروا فيه أفاعي الشرّ وعقارب السوء، وهوام الحسد والحقد، وغيلان الزور والكذب، وهو مع ذلك يستهتر بربّه، وقد جعله من أهون الناظرين إليه، فالحديث معه يدور حول فعله القبيح -الإفساد في الأرض- فلماذا ينقله إلى أمر لا يمكن الاطلاع عليه على الحقيقة إلا من خلال هذا الظاهر، والقصد أنّ نقل الحوار والمناقشة إلى هذه المنطقة من الحديث هو نقل تعسُّفيّ يُراد منه إدخال الناس في الحوار الخطأ وصرف النظر عن القضيّة المهمّة، وهي: لماذا تُفسد في الأرض؟ فهي تحذير لنا أن لا نقبل من القول إلاّ ما احتفت به الأدلّة، وأن نحذر الحوار فيما لا يمكن البحث في حقيقته.
ولماذا يحلف بالله على صدق ما في قلبه وحسن نيّته؟! وهل ثمّة أحد سأله عن هذا؟
أهو تطبيقٌ للمثل القائل: يكاد المجرم أن يقول خذوني؟
أم هي قاعدة: لا بدّ للمجرم أن يعود إلى مكان جريمته؟
أم هو هاجس الكذب وقلقه على النفس، فيبقيه شاعراً بمعرفة كلّ الناس له مع استحضار عاقبة الخيبة والخسران؟
إنّ هذه الآيات بمقدار ما تفضح الأيمان الكاذبة، بمقدار ما تنفّرك وتقزّزك من هذا السمت والنمط، فهي تبيّن أن جريمته الأولى ليست خصومتهم مع المسلمين، وإنّما هي جريمة أخرى تسبق ذلك، إنّها جريمةٌ تقع منهم تجاه ربّهم وخالقهم، فانظر إلى استهتارهم بنظر الله إليهم، وبهوان مراقبة الله لقلوبهم، فهم يحلفون بالله ويشهدونه عما في قلوبهم دون خجل أو حياء، أفمثل هؤلاء الذين لا يُقيمون رأساً لنظر الله إليهم يمكن أن يطمع المرء العاقل أن يقيموا رأسا ًلنظر الناس إليهم؟!!
والآية لا تبيّن لنا ماذا يشهد هذا المنافقُ ربَه على ما قلبه، بل تركها الربّ لنا مفتوحة لأنّ هذا الترك هو قمّة الامتلاء، فإنّ هناك العديد والآلاف من الصور التي يمكن للمرء أن يملأها من واقعه، فهي دعوة لنا أن نملأها بالصور التي نراها وتعيش بيننا.
فإذاً هو: {يعجبك قوله في الحياة الدنيا} و {ويشهد الله على ما في قلبه}. هذا هو شقّ المعادلة الأوّل. لكن ما هي حقيقة هذا المدّعي؟ وأيّ صنفٍ من الناس هو؟ هذا ما أراد القرآن بيانه. وممّا يستوقفك هنا أنّ هذه المقدّمة تجعلك تسير سيراً حسناً مع الموصوف وكأنّك في راحةٍ من حاله ووضعه، فقوله حسن تَعْجب له، وأيمانه مُغلَّظة أنّه صادقٌ محسن، ولكن ما يأتي يجابهك بصدمة تعادل صدمتك بما تراه من واقع الموصوف، وهي صفة لازمة لهذا القرآن العزيز أنّ مراد الربّ في كلامه معروض مع حركة الكلام الإلهي. فههنا مقدّمة تريحك وتبعث في نفسك الراحة والاطمئنان، ولكنّها تريحك لتكون الصدمة القادمة والعاصفة الآتية أكثر تأثيراً على نفسك. فكان بعد ذلك أن قال: {وهو ألدّ الخصام}، وكلمة "ألدّ" تقطع النَفَس الذي انساب قبل قليل مرتاحاً مع قوله سبحانه وتعالى {ومن الناس...}. فهي كلمات تتأنّى في قراءتها وكأنّك تسير مع سهل منبسط تحت قدميك، ولكن للحظة مفاجئة تأتي الهزّة: {وهو ألدّ..} إنّها نفس الحالة الواقعية في تعامل المسلم الموحّد مع هذا الصنف من البشر. فتذكّر هذا مع كلّ آيات الكتاب تراه جليّاً واضحاً، وتذكّرها فيما يأتي من قوله سبحانه: {ولبئس المهاد}. فكلمة المهاد تبعث على الراحة والهناء، ولكن ما قبلها يرفع هذا المعنى إلى ضدّه {ولبئس} فكأنّك مع فراش وثير في ظاهره ولكن حقيقته الشقاء والتعب، إنّه نفس الخداع الحاصل من حال هؤلاء المنافقين -الظاهر شيءٌ والباطن شيءٌ آخر-. فتذكّر هذا مع القرآن ولا تنساه.
إنّه {وهو ألدّ الخصام}، هذه أوّل علامة من العلامات الدالّة على قبح صورته الحقيقية من غير تزوير وتخييل، عوج المجادلة فلا يستقيم على حقّ في خصومة، واللدّ في اللغة: شدّة الخصومة وعوجها، فهولا يخضع لحقّ ولا يقبل دليلاً ولو أتيته بملء الأرض حججاً.(/2)
إنّ مقابلة هذا الصنف من البشر هي أسوء ما يمكن للمرء أن يلقاه في حياته، ولكنّ صورها في الواقع كثيرة وكثيرة جدّاً، إنّ من صور هذه الكلمات في واقعنا وفي حياة البشر: كلّ من حاجج بباطل، وكلّ من استخدم الكذب في حواره، وكلّ من تعالى عن قبول الدليل الحقّ، أو أخرج أي بحثٍ عن موضوعه من أجل التمويه والغلبة، وكلّ من آنف أن يعترف للآخر بالحقّ والصواب.
وفي هذه الكلمات الربّانية تسلية للمؤمن ولصاحب الحقّ أنّه وإن فاتته الغلبة على خصمه المجادل لتصرّفه بالكلام المعسول، أو لتركيبه مقدّمات متناقضة للوصول إلى أهدافه، فإنّه وإن ضاع حقّه في الدنيا فلن يضيع عند الله تعالى.
وفيها الردّ على من ظنّ أن نهاية أي حوار بين حقّ وباطل، بين سنّة وبدعة، بين صواب وخطأ، ينبغي أن ينقطع الباطل في جداله وسكوت صاحبه، لا، إنّ هذا القول خطأ ولا شكّ، فإنّ من قاس ميزان الصواب والخطأ بهذا المقياس سيجني على نفسه الشرّ ولا شكّ، ولكن لنتذكّر أنّ للحقّ نوراً وعلامات.
ذكر الذهبي في السير(11/249) في كلامه عن المحنة للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، قال: قال صالح بن الإمام أحمد عن أبيه: فإذا جاء شيء من الكلام مما ليس في الكتاب والسنّة، قلت: ما أدري ما هذا. والقرآن الكريم علّمنا أن نعرض عن المجادل المعاند، واقرأ إن شئت قوله تعالى: {لا حجّة بيننا وبينكم}[الشورى]. فإنّها جليّة واضحة في أنّ حججنا عند المعاندين لا تُقبَل لعدم اهتدائهم بها، ولأنّهم لا يُقيمون لما نحتجّ به رأساً، فإنّهم لا يعتبرون أنّ الكتاب والسنّة يقطعان حجج المناظر، كما أنّ أدلّتهم من الباطل لا نقيم لها شاناً، فليس هناك من أرضيّة مشتركة للحوار بين الموحّد وبين المعاند، وهذا إن تفكّر المرء به في هذا الزمان رأى أن الكثير من الزاعمين لفتح الحوار بين الأديان أو بين المذاهب للتقريب بينها فيما يزعمون إنّما يضطرون إلى مسايرة أهل الباطل في الكثير من مبادئهم وذلك بِكَتْم بعض ما أنزل الله تعالى أو بتأويل بعض معانيه ظانّين أنّ عداء اليهود والنصارى لدين الله تعالى إنّما هو لعدم فهمهم للدين، ولذلك راحوا يشرحون الإسلام بصورة زعموا أنّها الحق، بها يرضى اليهود والنصارى عن الإسلام، وهي في الحقيقة صورة تشوّه الإسلام ولا تحسّنه. ولذلك صدق من قال: إنّ الله لما علم أنّ في الناس من لا ينفعه الكتاب الذي أنزله الله، أنزل معه الحديد فيه بأس شديد لعلمه أنّه لا يُخرج المراءَ من أدمغة أهل اللجاج إلا الحديد. وإلاّ فماذا يصنع المسلم مع من يقول: {ربّنا عجّل لنا قطّنا} أي عذابنا؟ إنّ الجواب هو قوله تعالى: {إصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنّه أوّاب}[ص:16-17].
إنّ هؤلاء القوم: {ولئن جئتهم بآية ليقولنّ الذين كفروا إن أنتم إلاّ مبطلون}[الروم]، {فإنّك لا تُسمع الموتى ولا تسمعُ الصمَّ الدعاءَ إذا ولّوا مدبرين، وما أنتَ بهادِ العمي عن ضلالاتهم إن تُسمِع إلاّ من يؤمنُ بآياتنا فهم مسلمون}[الروم: 52-53]، فالفصل بين الناس ليس في هذه الدنيا، إنّما هو ليوم الفصل، يوم القيامة، ومن ظنّ أنّه يمكن الفصل بين كلّ المختلفين في هذه الدنيا فهو مضيّع لوقته في غير ما فائدة. ولذلك كان الواجب على المسلم أن يبيّن الحقّ كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تبديل، وبالطريقة النبوية التي عرض بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدين، وكلّ زعْمٍ أنّ هناك طريقة أسلم أو أعلم من طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو زعمٌ ضالٌّ مبطل.
ثانيا: الحقيقة
1– {وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسدَ فيها ويُهلِكَ الحرثَ والنّسلَ والله لا يحبُّ الفساد}:
فهذه هي الحقيقة التي تكذّب كلّ الدعاوى اللفظيّة، وهي التي ينبغي أن يُحكَم على المرء من خلالها، فإنّ آلاف المحسّنات اللفظيّة لا يمكن أن تقفَ أمام حقيقةٍ واقعيّة، وإنّ الأيمان المغلّظة المزعومة لا يمكن أن تثبُتَ أمام حجج الواقع العيانيّة.
إنّها تكشف استخفاء هؤلاء القوم، فهم أمام المؤمنين يتكلّمون الكلام الحسن، ويبشّون في الوجوه، ويحلفون إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً، فإذا طلب منهم العمل المؤيّد لما يقولون لم يأتِ منهم إلا الشرّ، فإذا خرجوا من عندك {إذا تولّى} ملأ الدنيا شروراً وفساداً {سعى في الأرض} والسعي هو المشي السريع، إنّها كلمات تملأ النفس بصورِ حكّام الردّة والكفر، فانظر بالله عليك إلى مطابقة الخبر الربّاني لمخبَر هؤلاء المجرمين. فحسبنا الله ونعم الوكيل كم خدعوا من جاهل وكم لبّسوا على الناس.
وههنا نقطة مهمّة جليلة وهي الخلاف حول ميزان القبح والحسن، ميزان الخير والشرّ، ذلك لأنّ هؤلاء المجرمين من لددهم الباطل وجدالهم الفاسد ما كشفه الله تعالى بقوله: {وإذا قيلَ لهم لا تُفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون ألا إنّهم هم المفسدونَ ولكن لا يشعرون} فهم يسّمون إفسادهم إحساناً.(/3)
ألم يسمّوا الزنا والدعارة حرّيةً وفنّاً؟!!
ألم يسمّوا الخمر مشروبات روحيّة؟!!
ألم يسمّوا الزندقة حرّية فكريّة؟!!
ألم يسمّوا بيع البلاد والعباد سلماً وإخاءً؟
وهكذا تحوّل الفساد في الأرض إلى خير وجمال، وصار معيار الشيطان في الحقّ والخير هو المعيار والميزان.
ولكنّ قوله سبحانه وتعالى {والله لا يحبّ الفساد} يقطعُ عليهم أهواءهم، فإنّه سبحانه وتعالى ما نهى عن أمرٍ إلا وفيه مفسدة، وما أمر بأمر إلا وفيه مصلحة. فهو سبحانه وتعالى له الخلق والأمر، ولا معقّب لحكمه.
2– {وإذا قيل له اتّق الله أخذته العزّة بالإثم، فحسبه جهنّم ولبئس المهاد}:
وههنا دليلٌ آخر على كذب دعواه، وأنّه لا يُقيم لربّ العزّة شأناً، وأنّ أمر الله تعالى عنده هيّن لا قيمة له.
فإنّه إذا نُوصِحَ أعرضَ وتولّى، بل {أخذته العزّة بالإثم} ، وانظر إلى هذا الكلام الربّاني: {أخذته} ، فكأنّها تنقله نقلة بعيدة، إنّها نقلةٌ إلى الشرّ، وما الحامل له على ذلك؟ {العزّة بالإثم}. إنّه يتعامل مع حقائق باطنيّة ثابتة لديه: الإثم، فهو قرينه ووليّه، وهو مقياسه وميزانه، يغضب له وينتصر له ويتحاكم إليه، وهو مفتخر به، يتعالى بصحبته، والمرء المسلم يعتزّ بالحقّ وبانتسابه إليه، ولكنّ هذا: عزّته بالإثم، فانتصاره له يحكم مواقفه، ومحبّته له تسيّر خطواته، فإذا كان الخيار بين {اتق الله} وبين {العزّة بالإثم} كان المقدّم عنده: العزّة بالإثم.
وههنا نكتة لا بدّ من ذكرها وهي تكشف الحقائق المخفيّة: رجلٌ في حال السعة والرخاء وترتيب المواضيع على مهل وتؤدة يُعجبك قوله، فهو محضر نفسه للعرض أمام المؤمنين، ألبَسَ نفسه القناع. ولكنّه في هيجانه الشيطاني وخلال سعيه الدؤوب للإفساد في الأرض: لو فاجأه موحّد بقوله: "اتق الله" تفجّرت حينئذ الحقائق وكشف عن مخبوء نفسه وفجأة: أخذته العزّة بالإثم. ولم تبيّن لنا الآية ماذا فعل حين أخذته العزّة بالإثم: لأنّ الترك ههنا كما هو في كلّ موضع من أبلغ الإملاء والإحاطة.
فحسبه جهنّم ولبئس المهاد، وههنا سأتكلّم عمّا شعرت به في نفسي حين وقفت وكلّما وقفت على هذه الخاتمة: إنّه شعور الرضا، شعور الأمان بأنّ الله لن يترك هؤلاء على آمالهم الكاذبة، وشعور الثقة أنّ الله هو الحقّ المبين، وأنّه سينتصر للضعفاء وسيذلّ المستكبرين، ثمّ هي تبيّن عاقبة هذا المكر السيّئ وهذا النفاق القبيح، ما الذي سيجنيه؟ أيظنّ أنّه يخدع ربّ العالمين، وسيأخذ الدنيا والآخرة؟ لا والله! بل حسبه جهنّم ولبئس المهاد.
والحمد لله ربّ العالمين(/4)
المنافقون والإفساد في الأرض
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
إن الله عز وجل خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه فلا يشركوا به شيئاً وأرسل الرسل وأنزل الكتب وأقام الحجة على الخلق. والناس أمام ذلك أقسام ثلاثة:
قسم آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فهم يناصرون الحق ظاهراً وباطناً، ويضحون في سبيل الله بالنفس والنفيس وهؤلاء هم المؤمنون الصادقون.
وقسم آخر: يكفر بالله ويكذب رسله ويعاديهم ظاهراً وباطناً وهؤلاء هم الكافرون.
وقسم ثالث: يكفر ويعادي في الباطن، ويناصر ويدعي الإيمان في الظاهر وهؤلاء هم المنافقون المخادعون الذين ابتليت بهم الأمة قديماً وحديثاً، إنهم الأعداء المتربصون بنا ولكن في صورة أصدقاء، وهم السم الزعاف ولكن بشكل غذاء ، ولخبثهم وسوء طويتهم، أخبرنا الله تعالى عن صفاتهم وكشف لنا مخبآت نفوسهم وقسمات وجوههم فلا يخفون بحمد الله على المتوسمين والمتفرسين من أهل الإيمان واليقين، ولقد وصفهم الله تعالى في سور كثيرة من القرآن ؛ فمن ذلك ما أخبر الله عنهم بقوله الكريم: ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ?[البقرة:8-10] . لقد أنعم الله علينا بذكر أوصاف كل صنف من عبيده ليظهر كل على حقيقته دون التباس.
في قلوبهم مرض: إن الداء الذي أعيا الأطباء دواؤه إنه مرض الشكوك والشبهات ، مرض الريب والشهوات، فقلوبهم مليئة بالشكوك والشبهات التي تفسد عقيدتهم وأخلاقهم كما أن قلوبهم مليئة بالغل والحقد والحسد والغيظ.
? فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً ...?[ البقرة:10]: بسبب كفرهم وخداعهم وبسبب كبرهم وانحرافهم عاقبهم الله بذلك كما قال تعالى: ? وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ?[ الأنعام:110]، وقال سبحانه: ?... فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ...?[ الصف:5]، وقال: ? وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ... ?[ التوبة:125].
وأمراض القلوب أمراض خطيرة إذا لم يتفقد العبد نفسه ويعالج قلبه بالإيمان والطاعة والانقياد والإخلاص لله رب العالمين. فإنه يخشى عليه إذا مات على علته ودائه أن يكون علاجه في نار جهنم، حيث تدخل النار إلى القلب المريض الذي مُليء بالشكوك والريب والشبهات والشهوات فإن نار الله كفيلة بالمكذبين كما قال تعالى: ? نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ ?[ الهمزة:6-9].
ولقد جاءت النصوص بذكر مجموعة من أمراض القلوب المعنوية وهي الرين كما قال تعالى:?كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ?[ المطففين:14].
والزيغ: ?... فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ...?[ الصف:5] والطبع، والصرف والضيق والحرج والختم والإقفال والإشراب والرعب والقساوة والإصرار وعدم التطهير والنفور والاشمئزاز والإنكار والشكوك والعمى والغفلة، والغمرة واللهو والارتياب والنفاق ، وكل هذه أمراض خطيرة مهلكة لصاحبها في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: ? فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ?[ البقرة:10]، فعلى المؤمن أن يتفقد قلبه وأن يحذر من النفاق وأن يطهر نفسه من الشرك ويخلص وجهه لله.(/1)
ومن أوصاف المنافقين التي ذكرها الله لنا إفسادهم في الأرض وتبريرهم لفسادهم بأنه صلاح وإصلاح كما قال تعالى: ? وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ?[ البقرة: 12].
هكذا هو شأن كل مفسد يدعي أنه مصلح في إفساده وتخريبه سواء كان إفساده عن علم بدافع عداوته للإسلام وأهله أو كان إفساده عن تقليد لرؤسائه الروحانيين أو السياسيين ، فهو يدعي الإصلاح في الحالتين تغريراً للمنخدعين من السذج المتأثرين بدعايته والمنفذين لخطته، مع تبرئته لنفسه من وصمة الإفساد، بالتمويه والتلبيس والمغالطة.
وهكذا نجد اليوم كما كان بالأمس أن كل مغرض وحاقد على الإسلام يسعى لهدم الإسلام ومحاربة عقيدته وتحطيم أهله أن يتذرع بدعوى الإصلاح والعمل على رفع الظلم وإزالة البؤس ونشر الحرية. حتى الكفار الأصليين قد لجئوا لهذا المكر ، فقد استولوا على بلاد المسلمين ونهبوا الثروات وحاربوا كل قطر للإسلام ويدعون أنهم مصلحون.
فالمنافقون الأوائل الذين نزل فيهم القرآن يرون أفسد الفساد والمتمثل في الصد عن سبيل الله ومحاربته إصلاحاً، زاعمين أن هذا الدين مخالف لتراث الأجداد وأنه منفر ومفرق للصفوف ومقيد للنفوس وقاض على حاجاتها وشهواتها.
ويرون ممالأة الكفار وموالاتهم من دون المؤمنين إصلاحاً لأحوالهم وتقوية لمصالحهم لا يجوز لزاعمي الدين أن يتدخلوا فيها.
ومنافقوا زماننا يرون أفسد الفساد وأعظم الكفر المتمثل في الطعن في الدين والاستهزاء به والعمل على إقصائه عن الحكم واستبعاده عن جميع شؤون الحياة وحصره في المسجد فقط يرون هذا صلاحاً وإصلاحاً للمجتمع وتطويراً له.
إن الغارقين في النفاق والمغموسين فيه ، يدرءون عن أنفسهم الشناعة والقباحة بدعوى الإصلاح فيسمون الخلاعة التي يتبنونها والإباحية والرذائل ومفاسد الأخلاق تطوراً ومدنية ويسعون جاهدين لنشر الموبقات وإفساد المجتمع باختلاط الرجال بالنساء والتبرج والتعري ، وبث دور الرقص والمسارح والخمور يسمون ذلك رقيّاً وتقدماً ومسايرة لركب الأمم المتحضرة زعموا.
إن هؤلاء المنافقين في ديار المسلمين اليوم يقضون على الدين ويمحون تعاليمه وشعائره بواسطة وسائل الإعلام الموجهة من قبل أعداء الإسلام ويزعمون أنهم يثقفون الأمة ويطورونها ويصلحون أمرها.
إن المنافقين في بلاد الإسلام اليوم ينهبون ثروات الأمة ويعبثون بها، ويفرضون على الناس الإتاوات والضرائب الباهضة بدعوى الإصلاح المالي والاقتصادي : ? وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ?[البقرة: 11].
إن المنافقين اليوم يبيحون الربا ويبيحون الدماء والأعراض ويستخفون بالدين والقيم، وإذا ما روجعوا أو نوقشوا وطلب منهم عدم الإفساد في الأرض على هذا النحو ? ...قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ?[البقرة: 11].
إن المنافقين يجيدون إثارة الفتن والشغب والقلاقل في المجتمع ويؤججون صراع الطبقات والأحزاب وفئات المجتمع المختلفة بحجة ممارسة الديمقراطية والحرية السياسية: ? وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ?[البقرة: 11].
إن المنافقين في ديار الإسلام يعطلون أحكام الله في الأموال والدماء والأعراض بحجة أن هذه الأحكام والحدود قاسية وبشعة لا تتناسب مع النظام الدولي الجديد. وهذا إجرام وفساد وإفساد في الأرض عظيم ، وإذا ما سئلوا عنه قالوا ?... إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ?[البقرة: 11].
? أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ?[ البقرة: 12]، إشارة وتنبيه إلى أن الفساد مصاحب لهم محصور في أحوالهم وأعمالهم مهما زعموا خلاف ذلك ، فهم مفسدون لكل شيء لا يصدر عنهم إلا الخراب والفساد لخبث ضمائرهم وفساد سرائرهم ، إنهم يفسدون الحياة فساداً عظيماً، وهم لا يشعرون بعظم وفظاعة ما يفعلون، إنهم لا يشعرون بجرمهم لمروج عقولهم وفساد طبائعهم وقلوبهم بسبب ما حل فيها من الشبهات الناشئة من ظلمات الأمراض المعنوية التي أظلمتها حتى حجبتها عن كل نور وهدى، ولهذا كان من أعظم أنواع إفسادهم التشكيك في الدين وتفريق كلمة المؤمنين .
الخطبة الثانية:
أيها المؤمنون إن هذه الآيات التي كشفت لنا جانباً من طبيعة المنافقين هي من نعم الله علينا حيث عرّفنا بطباعهم وأحوالهم إلا أن فيها كذلك تهديداً وتنبيهاً للمؤمنين من سلوك مسالكهم، أو أن تغزو قلوبهم الأنانيات وأغراض النفوس، فينغمسوا في وحل النفاق الذي نهى الله عنه وحذر منه أشد التحذير، ولهذا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم من أشد الناس خوفاً على أنفسهم من النفاق.
فهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على جلالة قدره وعظم منزلته المبشر بالجنة كان يخشى على نفسه النفاق.. فنحن أحق بالخوف منه.(/2)
أيها المؤمنون: إن دينناً مستهدف قد أجلب عليه الأعداء بخيلهم ورجلهم وتعاون على حربنا الكفار من الخارج والمنافقون من الداخل، إنهم جميعاً يعملون لتحطيم المقومات والركائز التي يقوم عليها المجتمع المسلم إنهم يعملون على تحطيم الإيمان من النفوس وإخراجه منه بوسائل عديدة ومتطورة.
إنهم يسعون جادّين لتخريب الأخلاق في مجتمعنا بواسطة الإعلام وتشجيع الانحلال وإقامة الجمعيات والمنظمات النسائية المشبوهة التي ظاهرها تعليم المرأة ومساعدتها وهدفها الحقيقي هو إفسادها وتشجيعها على التمرد والخروج على أحكام الدين وتقاليد المجتمع المسلم المحافظ.
إن الدول الكافرة تقدم لنا السم في صورة مساعدات وهبات مشروطة ببرامج ينفذها مع الأسف من لا دين لهم ولا خلاق من أبناء جلدتنا. إن اليهود قدموا للرسول - صلى الله عليه وسلم - شاة مشوية هدية له ليأكلها - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم كانوا قد حشوها سماً. وهم اليوم يقدمون لنا الهبات والقروض والمساعدات ولكنها في واقع الأمر مليئة بالسموم والكيد الذي يحطم الأمة ويدمرها في دينها ودنياها، بل وفي وجودها وبقائها.
إنهم يركزون بالدرجة الأولى على إفساد الناشئة والمرأة، ولو تعلمون مقدار المؤامرات التي تستهدف هذين الصنفين لعملتم كثيراً ولهجرتم الغفلة وتخلصتم من السلبية والغثائية التي أوتينا من قبلها.
أيها المؤمنون: إن الله تعالى جعل لنا فرجاً ومخرجاً ورسم لنا الصراط المستقيم الذي إن سرنا عليه وتمسكنا به فلن يضرنا إنس ولا جان، ولن يفلح الكافرون والمنافقون في تنفيذ مخططاتهم وسياستهم.
إن الواجب على كل مسلم ومسلمة أن يقوم بالرعاية والعناية لأبنائه وبناته، وأن يتعاون الجميع في إيجاد المحاضن التربوية التي تغرس الخير والإيمان والفضائل في نفوسهم وتحصنهم من الأوبئة والفساد الذي يروج له في كل بلد أكابر مجرميها.
إن الفراغ الذي يعيشه أبناؤنا وبناتنا يولد الفساد والانحراف فإذا ما أضيف إليه غفلة الآباء وكيد الأعداء من شياطين الإنس والجن فإن الكارثة حاصلة لا محالة . وإن من أعظم الوقاية والتحصين هو أن ندفع بأبنائنا إلى المساجد والمراكز لتعليمهم كتاب الله وتحفيظهم إياه.
ينبغي أن يكون في كل حي محضن قرآني للبنين، ومحضن للبنات، لنشجع أبناءنا ، لنرصد لهم المكافئات والجوائز التي تدفعهم إلى معالي الأمور وعظائمها لنشجعهم على القراءة وتنمية المواهب والإبداع في كل عمل نافع ومفيد. ينبغي أن نعلمهم وأن نبصرهم بأعدائهم وبالمخاطر التي تحدق بأمتنا ومجتمعنا، إنني أدعوا القادرين على التبرع والإنفاق في سبيل الله، لإيجاد مدارس ومراكز لتحفيظ القرآن الكريم في هذا المسجد وفي غيره .
يا أهل القرآن أنفقوا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم وقوموا بواجبكم تجاه أبنائكم وأمتكم والله ألله أن يؤتى الإسلام من قبلكم .وسجلوا أبنائكم في مراكز التحفيظ.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرش(/3)
المنافقون والإفساد في الأرض
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً? [النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون?[آل عمران: 102]. ?يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً?[الأحزاب:71].
فإن الله عز وجل خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه فلا يشركوا به شيئاً وأرسل الرسل وأنزل الكتب وأقام الحجة على الخلق. والناس أمام ذلك أقسام ثلاثة قسم آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فهم يناصرون الحق ظاهراً وباطناً، ويضحون في سبيل الله بالنفس والنفيس وهؤلاء هم المؤمنون الصادقون.
وقسم آخر يكفر بالله ويكذب رسله ويعاديهم ظاهراً وباطناً وهؤلاء هم الكافرون.
وقسم ثالث: يكفر ويعادي في الباطن، ويناصر ويدعي الإيمان في الظاهر وهؤلاء هم المنافقون المخادعون الذين ابتليت بهم الأمة قديماً وحديثاً، إنهم الأعداء المتربصون بنا ولكن في صورة أصدقاء، وهم السم الزعاف ولكن بشكل غذاء ، ولخبثهم وسوء طويتهم، أخبرنا الله تعالى عن صفاتهم وكشف لنا خبايا نفوسهم وقسمات وجوههم فلا يخفون بحمد الله على المتوسمين والمتفرسين من أهل الإيمان واليقين، ولقد وصفهم الله تعالى في سور كثيرة من القرآن ؛ فمن ذلك ما أخبر الله عنهم بقوله الكريم: ?وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ(8)يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(9)فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ?[البقرة:8-10]. لقد أنعم الله علينا بذكر أوصاف كل صنف من عبيده ليظهر كل على حقيقته دون التباس.
في قلوبهم مرض: إنه الداء الذي أعيا الأطباء دواءه. إنه مرض الشكوك والشبهات ، مرض الريب والشهوات، فقلوبهم مليئة بالشكوك والشبهات التي تفسد عقيدتهم, أخلاقهم كما أن قلوبهم مليئة بالغل والحقد والحسد والغيظ.
في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا: بسبب كفرهم وخداعهم وبسبب كبرهم وانحرافهم عاقبهم الله بذلك كما قال تعالى: ?وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ?[الأنعام:110]، وقال سبحانه: ?فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ?[الصف:5]، وقال: ?وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ?[التوبة:125]
وأمراض القلوب أمراض خطيرة إذا لم يتفقد العبد نفسه ويعالج قلبه بالإيمان والطاعة والانقياد والإخلاص لله رب العالمين. فإنه يخشى عليه إذا مات على علته ودائه أن يكون علاجه في نار جهنم، حيث تدخل النار إلى القلب المريض الذي مُليء بالشكوك والريب والشبهات والشهوات فإن نار الله كفيلة بالمكذبين كما قال تعالى: ?نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ(6)الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ(7)إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ(8)فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ?[الهمزة:6-9].
ولقد جاءت النصوص بذكر مجموعة من أمراض القلوب المعنوية وهي الرين كما قال تعالى: ?كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ?[المطففين:14]
والزيغ: ?فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ?[الصف:5] والطبع، والصرف والضيق والحرج والختم والإقفال والإشراب والرعب والقساوة والإصرار وعدم التطهير والنفور والاشمئزاز والإنكار والشكوك والعمى والغفلة، والغمرة واللهو والارتياب والنفاق ، وكل هذه أمراض خطيرة مهلكة لصاحبها في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: ?فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ?[البقرة:10] ، فعلى المؤمن أن يتفقد قلبه وأن يحذر من النفاق وأن يطهر نفسه من الشرك ويخلص وجهه لله.(/1)
ومن أوصاف المنافقين التي ذكرها الله لنا إفسادهم في الأرض وتبريرهم لفسادهم بأنه صلاح وإصلاح كما قال تعالى: ?وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11)أَلَا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ?[البقرة:11-12].
هكذا هو شأن كل مفسد يدعي أنه مصلح في إفساده وتخريبه سواء كان إفساده عن علم بدافع عداوته للإسلام وأهله أو كان إفساده عن تقليد لرؤسائه الروحانيين أو السياسيين ، فهو يدعي الإصلاح في الحالتين تغريراً للمنخدعين من السذج المتأثرين بدعايته والمنفذين لخطته، مع تبرئته لنفسه من وصمة الإفساد، بالتمويه والتلبيس والمغالطة.
وهكذا نجد اليوم كما كان بالأمس أن كل مغرض وحاقد على الإسلام يسعى لهدم الإسلام ومحاربة عقيدته وتحطيم أهله أن يتذرع بدعوى الإصلاح والعمل على رفع الظلم وإزالة البؤس ونشر الحرية. حتى الكفار الأصليين قد لجأوا لهذا المكر ، فقد استولوا على بلاد المسلمين ونهبوا الثروات وحاربوا كل قطر للإسلام ويدعون أنهم مصلحون.
فالمنافقون الأوائل الذين نزل فيهم القرآن يرون أفسد الفساد والمتمثل في الصد عن سبيل الله ومحاربته إصلاحاً، زاعمين أن هذا الدين مخالف لتراث الأجداد وأنه منفر ومفرق للصفوف ومقيد للنفوس وقاض على حاجاتها وشهواتها.
ويرون ممالأة الكفار وموالاتهم من دون المؤمنين إصلاحاً لأحوالهم وتقوية لمصالحهم لا يجوز لزاعمي الدين أن يتدخلوا فيها.
ومنافقوا زماننا يرون أفسد الفساد وأعظم الكفر المتمثل في الطعن في الدين والاستهزاء به والعمل على إقصائه عن الحكم واستبعاده عن جميع شؤون الحياة وحصره في المسجد فقط يرون هذا صلاحاً وإصلاحاً للمجتمع وتطويراً له.
إن الغارقين في النفاق والمغموسين فيه ، يدرأون عن أنفسهم الشناعة والقباحة بدعوى الإصلاح فيسمون الخلاعة التي يتبنونها والإباحية والرذائل ومفاسد الأخلاق تطور ومدنية ويسعون جاهدين لنشر الموبقات وإفساد المجتمع باختلاط الرجال بالنساء والتبرج والتعري ، وبث دور الرقص والمسارح والخمور يسمون ذلك رقياً وتقدماً ومسايرة لركب الأمم المتحضرة كما زعموا.
إن هؤلاء المنافقين في ديار المسلمين اليوم يقضون على الدين ويمحون تعاليمه وشعائره بواسطة وسائل الإعلام الموجهة من قبل أعداء الإسلام ويزعمون أنهم يثقفون الأمة ويطورونها ويصلحون أمرها.
إن المنافقين في بلاد الإسلام اليوم ينهبون ثروات الأمة ويعبثون بها، ويفرضون على الناس الأتوات والضرائب الباهضة بدعوى الإصلاح المالي والاقتصادي : ?وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ? [ البقرة:11].
إن المنافقين اليوم يبيحون الربا ويبيحون الدماء والأعراض ويستخفون بالدين القيم، وإذا ما روجعوا أو نوقشوا وطلب منهم عدم الإفساد في الأرض على هذا النحو ? قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ? [ البقرة:11].
إن المنافقين يجيدون إثارة الفتن والشغب والقلاقل في المجتمع ويؤججون صراع الطبقات والأحزاب وفئات المجتمع المختلفة بحجة ممارسة الديمقراطية والحرية السياسية : ?وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ? [ البقرة:11].
إن المنافقين في ديار الإسلام يعطلون أحكام الله في الأموال والدماء والأعراض بحجة أن هذه الأحكام والحدود قاسية وبشعة لا تتناسب مع النظام الدولي الجديد. وهذا إجرام وفساد وإفساد في الأرض عظيم ، وإذا ما سئلوا عنه قالوا ? إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ? [ البقرة:11].
? أَلَا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ? [البقرة: 12]، إشارة وتنبيه إلى أن الفساد مصاحب لهم محصور في أحوالهم وأعمالهم فمهما زعموا خلاف ذلك، منهم مفسدون لكل شيء لا يصدر عنهم إلا الخراب والفساد لخبث ضمائرهم وفساد سرائرهم ، إنهم يفسدون الحياة فساداً عظيماً، وهم لا يشعرون بعظم وفضاعة ما يفعلون، إنهم لا يشعرون بجرمهم لمروج عقولهم وفساد طبائعهم وقلوبهم بسبب ما حل فيها من الشبهات الناشئة من ظلمات الأمراض المعنوية التي أظلمتها حتى حجبتها عن كل نور وهدى، ولهذا كان من أعظم أنواع إفسادهم التشكيك في الدين وتفريق كلمة المؤمنين.
أيها المؤمنون إن هذه الآيات التي كشفت لنا جانباً من طبيعة المنافقين هي من نعم الله علينا حيث عرفنا بطباعهم وأحوالهم إلا أن فيها كذلك تهديداً وتنبيهاً للمؤمنين من سلوك مسالكهم، أو أن تغزو قلوبهم الأنانيات وأغراض النفوس، فينغمسوا في وحل النفاق الذي نهى الله عنه وحذر منه أشد التحذير، ولهذا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم من أشد الناس خوفاً على أنفسهم من النفاق.
فهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على جلالة قدره وعظم منزلته المبشر بالجنة كان يخشى على نفسه النفاق.. فنحن أحق بالخوف منه.
الخطبة الثانية(/2)
أيها المؤمنون: إن بلادنا مستهدفة قد أجلب عليها الأعداء بخيلهم ورجلهم وتعاون على حربنا الكفار من الخارج والمنافقون من الداخل، إنهم جميعاً يعملون لتحطيم المقومات والركائز التي يقوم عليها المجتمع المسلم إنهم يعملون على تحطيم الإيمان من النفوس وإخراجه منها بوسائل عديدة ومتطورة.
إنهم يسعون جادين لتخريب الأخلاق في مجتمعنا بواسطة الإعلام وتشجيع الأنحلال وإقامة الجمعيات والمنظمات النسائية المشبوهة التي ظاهرها تعليم المرأة ومساعدتها وهدفها الحقيقي هو إفسادها وتشجيعها على التمرد والخروج على أحكام الدين وتقاليد المجتمع المسلم المحافظ.
إن الدول الكافرة تقدم لنا السم في صورة مساعدات وهبات مشروطة ببرامج ينفذها مع الأسف من لا دين لهم ولا خلاق من أبناء جلدتنا. إن اليهود قدموا للرسول - صلى الله عليه وسلم - شاة مشوية هدية له ليأكلها - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم كانوا قد حشوها سماً. وهم اليوم يقدمون لنا الهبات والقروض والمساعدات ولكنها في واقع الأمر مليئة بالسموم والكيد الذي يحطم الأمة ويدمرها في دينها ودنياها، بل وفي وجودها وبقائها.
إنهم يركزون بالدرجة الأولى على إفساد الناشئة والمرأة ولو تعلمون مقدار المؤامرات التي تستهدف هذين الصنفين لعملتم كثيراً ولهجرتم الغفلة وتخلصتم من السلبية والغثائية التي أوتينا من قبلها.
أيها المؤمنين: إن الله تعالى جعل لنا فرجاً ومخرجاً ورسم لنا الصراط المستقيم الذي إن سرنا عليه وتمسكنا به فلن يضرنا إنس ولا جان ولن يفلح الكافرون والمنافقون في تنفيذ مخططاتهم وسياستهم.
إن الواجب على كل مسلم ومسلمة أن يقوم بالرعاية والعناية لأبنائه وبناته، وأن يتعاون الجميع في إيجاد المحاضن التربوية التي تبني الخير والإيمان والفضائل في نفوسهم وتحصنهم من الأوبئة والفساد الذي يروج له في كل بلد أكابر مجرميها.
إن الفراغ الذي يعيشه أبناؤنا وبناتنا يولد الفساد والانحراف فإذا ما أضيف إليه غفلة الآباء وكيد الأعداء من شياطين الإنس والجن فإن الكارثة حاصلة لا محالة . وإن من أعظم الوقاية والتحصين هو أن ندفع بأبنائنا إلى المساجد والمراكز لتعليمهم كتاب الله وتحفيظهم إياه.
ينبغي أن يكون في كل حي محضن قرآني للبنين، ومحضن للبنات، لنشجع أبنائنا ، لنرصد لهم المكافئات والجوائز التي تدفعهم إلى معالي الأمور وعظائمها لنشجعهم على القراءة وتنمية المواهب والإبداع في كل عمل نافع ومفيد. ينبغي أن نعلمهم وأن نبصرهم بأعدائهم وبالمخاطر التي تحدق بأمتنا ومجتمعنا، إنني أدعوا القادرين على التبرع والإنفاق في سبيل الله، لإيجاد مدارس ومراكز تحفيظ القرآن الكريم في هذا المسجد وفي غيره .
يا أهل القرآن أنفقوا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم وقوموا بواجبكم تجاه أبنائكم وأمتكم والله الله أن يؤتى الإسلام من قبلكم .وسجلوا أبنائكم في مراكز التحفيظ. ...(/3)
المنافقون والحاكمية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? [ آل عمران : 102] ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً? [ النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
فمن الكلمات الخالدة التي تنسب إلى الحسن البصري رحمه الله وهو من سادات التابعين قوله: (ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكنه ما وقر في القلب وصدقه العمل)، نعم ليس الانتساب إلى الإيمان والإسلام مجرد ادعاء، وإنما يتفاوت الناس ويختلفون في العمل والتطبيق والانقياد في الباطن والظاهر لله ولرسوله وتنفيذ حكم الله ورسوله في كل شيء في الكبير والصغير والحقير والعظيم، لا يثبت الإيمان ولا يستقر في قلب عبد حتى ينفذ حكم الله ورسوله في الدماء والأعراض والأموال وفي كل شيء.. أما إذا أعرض الإنسان عن حكم الله ورسوله وتنصل منه وتهرب أو تلكأ، فهو مدعي في إيمانه كاذب في انتسابه إلى الإسلام وإلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى أمته.. ولقد بين الله هذا الأمر وأظهره غاية البيان والإظهار، فقال جل وعلا مقسماً قسماً عظيماً في قوله الكريم: ? فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًاً? [النساء:65]. إن التسليم لحكم الله وحكم رسوله والمتمثل في كتاب الله وسنة رسول الله والقبول به مع الارتياح وعدم الحرج هو الترجمة الحية لصدق الإيمان وحقيقة الإسلام.. غير أن طائفة من الناس تحسب الإيمان مجرد دعوى وانتساب ثم لا يتحاكمون إلى شرع الله إلا إذا كانت لهم مصلحة في ذلك,و تأكدوا بأن الحق في جانبهم، أما إذا شعروا بأن الحق عليهم وأنهم سيلزمون به ، فإنهم يتهربون ويلفون ويدورون وفي هؤلاء وأمثالهم يقول الله تعالى مبيناً حقيقتهم وكاشفاً نفاقهم: ? وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(47)وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48)وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49)أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ? [النور:47-50]
هذا الفريق الذي يدعي الإيمان ، ثم يسلك هذا المسلك الملتوي، إنما هو نموذج للمنافقين في كل زمان ومكان.
المنافقون الذين لا يجرءون على الجهر بإعلان كفرهم خوفاً من الحكومات الإسلامية –إن وجدت- أو خوفاً من الشعوب المسلمة التي تغضب لربها وتتأثر لحرمات الله إذا انتهكت، فيضطر المنافقون حينئذ إلى التظاهر بالإسلام. ولكن أمرهم ينكشف حين يدعون إلى تحكيم شريعة الله الاحتكام إليها ، بآبائهم وأعراضهم وانتحالهم المعاذير.. واختلاقهم الأكاذيب، فراراً وهرباً من تنفيذ حكم الله ورسوله وقد وضح الله أمرهم في سورة النساء حيث قال سبحانه: ? وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا?[النساء: 61]. يا سبحان الله أين دعوى الإيمان وأين الانتساب إلى الإسلام. إن النفاق يأبى إلا أن يكشف نفسه بموقف المنافقين وسلوكياتهم من الإعراض والصدود وعدم التحاكم إلى الله والرسول.(/1)
إن الرضى بحكم الله ورسوله هو دليل الإيمان الصادق، وهو الترجمة العملية لاستقرار الإيمان في القلب، وإن الرضى بحكم الله ورسوله هو الأدب الواجب مع الله ورسوله، ولا يصح ولا يستقيم أن يدعى شخص أنه يؤمن بالله ورسوله ثم يرفض حكم الله وحكم رسوله . لا يفعل ذلك إلا المنافق معلوم النفاق لم يُشرق قلبه بنور الإيمان، ولم تزك نفسه وتتطهر من الكفر والعصيان، ولهذا نجد أسئلة التعجب والاستنكار لأدعياء الإيمان الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت, ويرفضون حكم الله ورسوله ولا ينقادون إلا إذا كان لهم الحق أو لهم مصلحة، فيقول سبحانه: ? أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ? [النور:50]، فالسؤال الأول يثبت لهم علة المرض الذي ينحرف بالإنسان فلا يرى الأشياء على حقيقتها والمنافقون يرون الحق باطلاً والمعروف منكراً، والاستقامة جموداً وتخلفاً.. والتمسك بالدين إرهاباً وتطرفاً.
والسؤال الثاني للتعجب ? أَمْ ارْتَابُوا؟ ? هل يشكون في حكم الله وهم يزعمون أنهم مؤمنين، هل يشكون في صلاحيته لإقامة العدل، أم يشكون في مجيئه من عند الله ، على أية حال فهذا ليس طريق الإيمان ولا هو من صفات المؤمنين .
والسؤال الثالث: للاستنكار والتعجب من أمرهم الغريب ? أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ? وإنه لعجيب أن يقوم مثل هذا الخوف في نفس إنسان، فالله خالق الجميع وهو رب العالمين، فكيف يحيف على أحد من خلقه لحساب آخر من خلقه، تعالى الله عن ذلك وتقدس.
إن حكم الله هو الحكم الوحيد البراء من الظلم والحيف والميل لأن الله عز وجل أقام السماوات والأرض بالحق والعدل وأمر بإقامة العدل، وكل خلقه في شرعه وحكمه سواسية كأسنان المشط لا فضل لأحد على أحد إلا بالإيمان والتقوى. ولا يظلم سبحانه أحداً لمصلحة أحد ? وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ? [فصلت:46]، وفي الحديث القدسي: (ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
إن الجور والظلم والهوى إنما يكون في أحكام البشر وأنظمتهم ودساتيرهم وقوانينهم حين يشرعون لأنفسهم أفراداً كانوا أم طبقات أم أحزاباً وتنظيمات أم دولة.
حين يسود فرد ويحكم فإنه يفصل القوانين والأنظمة على ميوله ورغباته، ويلحظ في التشريع حماية نفسه وحماية مصالحه وذويه، وكذلك حين تحكم طبقة أو حزب، أو دولة فإنها تعمل الفعل ذاته، فإذا قننت وشرعت فإنها تحتكر كل شيء الأموال والوظائف والإمكانات لصالحها وتجور على الآخرين، فيكون حزب أقوى من حزب ، وتكون أمة هي أربى من أمة أكثر مالاً وأتباعاً وسلاحاً وإعلاماً ووظائف ومنافع ومصالح، ويحرم منها الآخرون، هكذا هم البشر حين يعيشون بعيداً عن دين الله وهديه.(/2)
فأما دين الله وشرعه فهو مبرأ من كل حيف وميل وشطط، إنما هو العدالة المطلقة، التي لا توجد في أي تشريع وضعي ولا توجد في أي حكم إلا في حكم الله. من أجل ذلك كان الذين لا يرتضون حكم الله ورسوله هم الظالمون، الذين لا يريدون للعدالة أن تستقر، ولا يحبون للحق أن يسود، فهم موقنون بأن حكم الله هو العدل المطلق، وهو الحق الذي لا ريب فيه أصلاً ولكن الظلم والطغيان يحملهم على مجانبة الحق والهروب منه وعدم الإذعان لحكم الله ورسوله وهذا آية النفاق وعلامة الشقاق والخذلان، وقد ذكر المفسرون أن رجلاً من اليهود كان له عند رجل من المسلمين حق – وكان هذا المسلم متظاهراً بالإسلام وهو من المنافقين فجحد حق اليهودي وأكل ماله فقال اليهودي لذلك المنافق الذي يزعم أنه مسلم تعال نتحاكم إلى محمد ، فقال المنافق بل نتحاكم إلى كعب بن الأشرف وكان من رؤساء أهل الكفر وهو تاجر يهودي، فرفض اليهودي أن يحاكمه إلا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال له: أدعوك إلى نبيك محمد فتأبى الذهاب فخشى المنافق أن ينكشف أمره ويظهر نفاقه فذهب مع اليهودي مكرهاً، وبعد سماع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لليهودي وإقرار خصمه له قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لليهودي وحكم له على ذلك المنافق الذي يتظاهر بالإسلام، فلما خرجا من عند رسول الله لم يرض المنافق بحكم رسول الله وقال له تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب، فأتيا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال اليهودي: كان بيني وبين هذا الرجل خصومة ، فتحاكمنا إلى محمد فقضى لي عليه، فلم يرض بقضائه وزعم أن يخاصمني إليك، فقال عمر للمنافق، أكذلك هو الأمر؟ فقال: نعم، وظن المنافق أن عمر سيحترمه ويجله لأنه رضي قضاءه. فقال لهما عمر: مكانكما انتظراني قليلاً، فدخل بيته وأخذ سيفه ثم خرج فضرب رأس ذلك المنافق الذي يدعي الإسلام حتى قتله، ثم قال: هذا حكمي فيمن لم يرض بحكم الله ورسوله ، وفي هذه الحادثة نزلت آيات بينات تتلى إلى يوم القيامة ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يقول العلماء، ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا(60)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا? [النساء:60-61].
إن الله فرض على المؤمنين عند وقوع الاختلاف أو النزاع أن يحكموا كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما قال الله عز وجل: ? ... فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا?[النساء:59].
أما أدعياء الإيمان من المنافقين فإنهم لا يرضون بحكم الله ورسوله حكماً فيما يعرض لهم من خلاف، وإنما يتحاكمون إلى غير دين الله وشرعه، إنهم يتحاكمون إلى طواغيتهم وأوليائهم ويحلونهم محل المعصوم - صلى الله عليه وسلم - وينزلونهم منزلته.
إن الذي لا ينفذ حكم الله عز وجل ويعمل على إلغائه يكون بذلك منافقاً معلوم النفاق، والذي يطالب بأن يستبدل بحكم الله حكم اليهود والنصارى وتنفيذ قوانينهم وأنظمتهم المخالفة للقرآن وللرسول - صلى الله عليه وسلم - من يفعل ذلك يكون قد مرق من الدين وخلع ربقة الإسلام.
والذين يعطلون أحكام الله وحدوده بحجة أنها لا تصلح لهذا الزمن أو أن اليهود والنصارى يلوموننا إن نحن نفذنا ، هؤلاء منافقون معلوموا النفاق، يخادعون الله والذين آمنوا ، حين ينتسبون إلى الإسلام، وهم ينخرون في الأمة من الداخل.
وفي بلادنا اليوم وفي كثير من بلاد الإسلام ثلاث طوائف تمثل وجهات ثلاث: طائفة تريد أن تتمسك بدينها تحيا وتموت عليه، وطائفة تريد أن تسوق البلاد والعباد إلى علمانية كافرة تُقصي الإسلام من واقع الحياة، وفق برنامج خبيث مدروس يلغي الإسلام من واقع الحياة فمثلاً الإعلام كل ما فيه ـ إلا القليل ـ يحارب الإسلام ويقضي على قيمه وأخلاقه ومثله وكلكم يلحظ ذلك. هذا البرنامج العلماني يلغي الإسلام من التعليم والتربية ويطارد كل ما هو إسلامي بشكل أو بآخر، إما في المنهج وإما في المدارس أو بهما معاً. وهذا البرنامج العلماني يلغي الإسلام من السياسة والاقتصاد فيقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، ويصلون أعداء الله من اليهود ويتوددون إليهم سراً وعلانية، ويبيحون الربا ويفرضون على الأمة الجرعات والضرائب والرسوم لتحطيمها وإفقارها.
هذا البرنامج العلماني يستخف بالدين ويهزأ ويسخر بعقيدة المسلمين تحت مسميات حرية الفكر والإبداع.(/3)
هذا البرنامج العلماني يشيع الفوضى والانحلال ويقضي على العفة والشرف ويقتل الغيرة والنخوة وينشر الرذائل في أوساط المسلمين. وغير ذلك كثير. وإن واجب الأمة أن تكون يقظة ترقب هؤلاء الذين ينفذون هذه المخططات الإجرامية، وأن نتعاون على مقاومتهم وجهادهم.
وحذار حذار من أن تكونوا من الصنف الثالث وهم الذين اتخذوا دينهم هزواً ولعباً، يأخذون من الإسلام ما يتناسب مع أهوائهم وأذواقهم وما يحقق لهم مصالحهم ويحافظ على مكانتهم في أمة الإسلام. أما إذا كان الإسلام يطلب من أهله الصدق والجهاد والتضحية والفداء، فإنهم يتوارون ويقفون موقف المتفرج وكأن الأمر لا يعنيهم ولا يخصهم بل هم في كثير من الأحيان يتزلفون لإخوانهم الذين كفروا من سدنة العلمانية والصهيونية واليهودية ويقفون معهم في خندق واحد في حرب الإسلام والمسلمين وكأن هذا النوع من الناس هم المعنيون بقول الله عز وجل: ? وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ? [الحج:11].
اللهم حبب إلينا الإيمان واشرح صدورنا بالقرآن وارزقنا الهداية والإخلاص.. وباعد بيننا وبين الكفر والنفاق كما باعدت بين المشرق والمغرب، وتوفنا وأنت راض عنا ولا تفتنا في ديننا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
) أنظر صحيح مسلم .باب تحريم الظلم ج4 ص1994 رقم الحديث: 2577(/4)
المنافقون وخطرهم على الدين والأمة
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
عداوة المنافقين للإسلام وأهله هي أشد ضرراً وأكثر خطراً على الإسلام والمسلمين من الكفار الواضحين. ذلك لأنهم الأعداء ولكن في صورة أصدقاء، وإن واجب الأمة أن تكون يقظة وحذرة من كيدهم وأساليب خداعهم وتضليلهم، ولقد حذر الله نبيه من المنافقين وأمره بأن يحذر منهم وبين له حقيقتهم فقال له: ?... هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ? [المنافقون:4 ]، ومن نعمة الله تعالى علينا أن ذكر لنا صفات وأخلاق المنافقين في كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ومن صفات المنافقين وأخلاقهم التي ذكرها الله عز وجل براعتهم في حسن القول وتزيينه ومقدرتهم على خداع الجماهير وتضليلهم، فأنت إذا سمعت المنافق يتحدث يعجبك قوله، إذا تحدثت مع المنافق عن الدين والإيمان وعن الخير والاستقامة والصلاح أو عن الفساد والمفسدين أفاض معك في القول، وأظهر أن قلبه يتفطر حسرة وندامة على الفساد الموجود الذي نراه كل يوم ، وأنه يتمنى أن يصلح الناس ويستقيموا على الصراط المستقيم، ويظهر لك الموافقة على كل ما تريد أن تعمله، وقد يتعاون معك ظاهراً، وقد يصف لك طريق الخلاص من الفساد الذي عمَّ وطمَّ. ولكنه في حقيقة أمره يحفر لك الحفر، ويمد لك الأحابيل ويطوقك بالمؤامرات والمكائد.
والله تعالى يدلنا على حقائق أحوالهم، ومكنونات قلوبهم الخبيثة وأنهم يمثلون الخطر الداهم على البشرية والإنسانية ، إنهم يتحذلقون ويتملقون للجماهير، ويظهرون لها كلاماً مزخرفاً مغرياً، يلبسون للناس جلد الضأن اللين ، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب، فقولهم يعجب كل سامع ، ويشهد أحدهم الله على صحة ما يقول وعلى مطابقة قوله لفعله، إن المنافق يحمل بين جنبيه شخصية مزدوجة وكأنما شخصان في شخص. حين يكون أحدهم ضعيفاً فإنه يتمسكن حتى يتمكن، ويكون أحدهم في الظاهر خيِّراً صالحاً فإذا ما حصل له نفوذاً أو نجح له تدبير أو أسند له عمل قيادي على الأمة تحوَّل إلى شيطان رجيم ولكن في صورة إنسان، وأخذ في ظلم العباد وتخريب البلاد وعاث في الأرض الفساد ، استمعوا أيها المؤمنون إلى قول الله تعالى وهو يكشف لنا هذه النفسيات الخبيثة ويفضحها ويعريها للناظرين: ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ?[البقرة:204-206].
لقد ابتليت أمة الإسلام على امتداد ساحتها بهذا النوع النكد من الناس، الذين يتملقون ويخادعون ويبرمجون برامجهم وأفكارهم ودعاويهم المغشوشة، ويبرزونها في أحسن المظاهر، وسواء ظهرت في شكل هيئات ومنظمات ، أو كانت في صورة كتل وأحزاب أو غير ذلك. حتى يستلبوا عقول الناس ويكسبوا مودتهم، والثقة بهم، فإذا ما وصلوا إلى التحكم في رقاب الناس وأموالهم وأعراضهم كشروا عن أنيابهم وظهروا على حقيقتهم من اللدد في الخصومة ورميهم الآخرين بالسفه ، وتحولوا إلى خصوم ألداء بالباطل، يفتنون الناس بباطلهم ويُبعدوهم عن ضروب الحق والخير والهدى والصلاح ويُنفسون عن أحقادهم وشدة عداوتهم من السعي بالإفساد في الأرض وتحطيم الأمة وإرهاقها، وإهلاك الحرث والنسل وعمل كل ما نهى الله عنه رسوله من الظلم والجور والإرهاب والبطش. وبث جميع أنواع المفاسد الأخلاقية وتفكيك بنية المجتمع ومحاربة الدين، وإذلال أهله، ورفع الأراذل والرويبضات من الناس.(/1)
لقد وصف الله تعالى هؤلاء المنافقين المغرضين الذين يعملون على حرب الإسلام والمسلمين. وصفهم بثلاثة أوصاف خطيرة يعتمد عليها السامع ، وينجذب إليها وينخدع:
أولها: حسن القول المعجب، الذي يروق ويكون له وقع في القلوب ? ...وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ... ?[ المنافقون:4].
وثانيها: توسيط الله بجعله شاهداً على هذا القول، وموثقاً له، وهذا من أعظم الجناية على الله عز وجل ، حيث يظنون أن الله لا يعلم سرهم ونجواهم ، وأنه تعالى محيط بهم وبعملهم.
وثالثها: المهارة في الجدل ، وقوة الإقناع لقمع كل معارضة تقف أمام هذا المنافق أو ذاك.
إن هذا النوع من المنافقين الذين بيَّن الله لنا خطرهم يوجدون في كل زمان ومكان، يلبس أهله ألواناً من الإيهام والتضليل بعضهم يدعي أنه يعمل لخير الوطن والمواطن ، وبعضهم يتبجح بإصلاح البلاد والإخلاص للدين القيم، وقد يكثر من شتم اليهود والنصارى، وهم في باطن الأمر يوالونهم وينفذون مخططاتهم وبرامجهم ويتآمرون على أمتهم وأوطانهم.. ولقد تفاقم شر هؤلاء في هذا الزمن وعظم خطرهم وأثرهم لامتلاك وسائل الخداع والتضليل الإعلامي.
إن الجماهير كثيراً ما تخدع بأطروحات المنافقين الذين يحسنون القول ويسيئون العمل . إن المنافقين يحاولون إقناع كل الفرقاء يتحدثون مع كل فريق بما يروقه ويعجبه، فنجد المنافق يتكلم مع بعض الناس بالأنظمة الغربية والدساتير الديمقراطية لمعرفته بميولهم إليها.
ويتكلم مع بعض الناس بأحكام الشريعة ونصوص القرآن لاعتقاده أن هذا ينخدع بالحديث عن هذا الجانب وهكذا يحاول إقناع كل فريق بما يعجبه من الكلام ويجعل الله واسطة على صدق ما يقول، إنهم يتدثرون بالإيمان والحلف للتستر على حقيقتهم الإجرامية ونواياهم العدوانية وصدق الله حيث قال فيهم: ?... وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ?[ التوبة: 107].
إن من أخطر ما يقوم به المنافقون في أمة الإسلام هو خداعها وتضليلها وترويج الفساد والانحراف بأساليب ووسائل عديدة من الكذب والدجل والتشدق والتفاصح ولهذا فقد تخوف الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أمته من هؤلاء المنافقين الذين يخدعون الناس بحديثهم وحسن طرحهم وجدالهم فقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام أحمد والطبراني وغيرهما: "إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان".
ثم تأمل أيها المؤمن إلى هؤلاء المنافقين الذين يحسنون الأقوال ويغشون ويخادعون الأمة، تأمل وانظر إلى أعمالهم حين تؤول إليهم مقاليد الأمور تجد مصداق قول الله تعالى: ? وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ?[ البقرة: 205]. إنهم ينشرون الظلم والمظالم والموبقات والجرائم. يعطلون أحكام الله ويمنعون حقوق الله، ويكثرون من الضرائب والمظالم ويسنون القوانين والأنظمة المخالفة لدين الله ولواقع البلاد ومصالحها، وقد سئل الإمام مجاهد أحد أئمة التفسير رحمه الله عن قوله تعالى: ? وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ...? [ البقرة: 205] ، قال : يلي في الأرض فيعمل فيها بالعدوان والظلم ، فيحبس الله بذلك القطر من السماء، فهلك بحبس القطر الحرث والنسل. ثم قرأ قول الله : ? ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ...?[ الروم: 41]، لقد أفسد المنافقون حياة المسلمين حسياً ومعنوياً ونشروا في الأرض أنواع المفاسد الرامية إلى تعطيل الدين وتهميشه من حياة الناس ثم إفساد أخلاقهم، وفق برامج محددة عبر وسائل الإعلام والتوجيه وإنشاء منظمات لإفساد المرأة والمجتمع وإفساد الحياة الإنسانية في كافة جوانبها.
اجعل أيها المسلم هذه الآيات الكريمات نصب عينيك دائماً وفي مخيلتك حتى لا تقع فريسة الدجل والتضليل وحتى لا يستخف بعقلك المنافقون، وكن على حذر دائم فهم أعداؤك المتربصون بك، يتحينون الفرص للانقضاض عليك وعلى أمتك ودينك.
هناك قضايا ومستجدات برزت خلال هذا الأسبوع المنصرم فهناك المحتفلون بميلاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كلاماً، والمخالفون له - صلى الله عليه وسلم - عملاً ونظاماً، العاملون لهدم شريعته نقضاً وإقداماً، الناكصون عن تنفيذ أحكام الله خوفاً وإحجاماً.
نقول لهؤلاء على رسلكم لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً، ولا تتوقعوا السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة مع استمرار العصيان والمخالفة فإن الله تعالى يقول: ?... فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ?[ النور: 63].(/2)
والرسول - صلى الله عليه وسلم - يتبرأ ممن بدّلوا وغيّروا وحرّفوا وعطّلوا دينه وشريعته وخالفوا سنته فإنه - صلى الله عليه وسلم - في عرصات القيامة قائم على الحوض يستقبل أمته ليشربوا منه ولكن أقواماً من هذه الأمة يمنعون ويصدون فيقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (يا رب أمتي أمتي، فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فيقول: سحقاً سحقاُ لمن غير بعدي) .
فيا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون.
الخطبة الثانية:
ومن القضايا التي أسعدتنا وأثلجت صدورنا هو الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين المملكة العربية السعودية واليمن بعد خلاف ومد وجزر في العلاقات استمرت لأكثر من ستين سنة كانت سبباً للقلق والتخلف واستنزاف الجهود في أمور تسر العدو وتغيض الصديق. فنحمد الله تعالى على هذه البادرة الطيبة التي تحقن الدماء بين المسلمين، والتي ستشيع إن شاء الله على المسلمين في البلدين أمناً واستقراراً وحباً وتعاوناً على الخير ومواجهة للتحديات التي تحيط بأمة العروبة والإسلام والوقوف أمامها صفاً واحداً.
ونسأل الله العلي القدير أن يُقر أعيننا بجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن أول النصر اجتماع، وألف وميل يبدأ بخطوة وإذا أراد الله أمراً هيأ له أسبابه ?... وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ?[يوسف:21].
القضية الثالثة التي تقض مضاجعنا وتعكر علينا حياتنا هي المجاهرة من بعض الصحف بالكفر والفجور وعظائم الأمور التي تمس ديننا وعقيدتنا وهي أغلى ما نملك فإذا مس ديننا وتطاول الزنادقة على الله والرسول والقرآن فلا معنى لبقائنا ووجودنا فبطن الأرض خير لنا من ظهرها.
في بلادنا اليوم علمانيون مرجفون يتطاولون على مقوماتنا وثوابتنا وهم الأذلون، إنهم يُظهرون كفرهم بين الحين والحين إما لإثارة البلابل والفتن والقلاقل وإما لتمرير مخططات قادمة من الغرب تنخر في الأمة والمجتمع والأسر والأفراد والجماعات، فيصطنعون أزمات داخلية ويدخلون الناس في دوامة الصراع لتمرير تلك المخططات ، ولكنهم مخذولون غير موفقين حين ينالون من دين الأمة.. والأمة كلها بحمد الله تغار على دينها بمختلف تنظيماتها وتوجهاتها فليست لدينا أقليات غير إسلامية ولله الحمد، والشعب كله مسلم ولكنه لا يدرك ولا يطلع على فضائح ما يقوم به العلمانيون اللادينيون من كراهيتهم للإسلام وحربهم له فإذا ما تبين لهم الأمر فإنهم يغارون على دين الله ويثورون.
ومن تلك المنابر الشاذة والغريبة على أمتنا ومجتمعنا ما يسمى بالملاحق الثقافية، ولا سيما تلك التي تصدر من محافظة تعز وتعرف بالثقافية والتي تصدر عن مؤسسة الجمهورية للصحافة والنشر، فقد دأبت هذه الصحيفة على شن حملة مسعورة آثمة على ديننا وأخلاقنا وقيمنا عبر ما تنشره من صور عارية وكتابات إباحية تزين الجريمة وتغري بها وتطعن في الدين، ومن أبرز ما جاء في أعدادها الماضية إنكار الآخرة، ووصف نعيم الجنة بالتخاريف وأخيراً طلعت علينا في الأسبوع الماضي بتقاليع جديدة حيث تجرأت هذه المرة على سب ذات الله عز وجل ووصفته تعالى بما لا يليق أن يوصف تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. ولقد استاء كل مسلم اطلع على هذا الكفر أو سمع به وتجاوب المجتمع وأنكر ذلك، ونوقشت القضية في مجلس النواب وطرح الأمر على رئيس الجمهورية وقيادات الدولة وكلهم يعلنون رفضهم وتبرأهم من هذا الكفر والانحراف. ووعدوا بمحاسبة الصحيفة والقائمين عليها ، وكلنا أمل في أن ينال هؤلاء المجرمون اللاعبون العابثون جزاءهم الرادع..
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
مسند أحمد 1/ 22 ، حديث رقم 143، وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده قوي .
صحيح البخاري: باب: ?... وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ?[المائدة:117]الحديث رقم: (4349)عن ابن عباس رضي الله عنهما . وصحيح مسلم: باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته :الحديث رقم: (2304) عن أنس بن مالك .(/3)
المناهج التربوية من منظور إسلامي
أ.د حسن عبد الرحمن الحسن*
مقدمة :
مشكلات التعليم في الوطن العربي كانت وما زالت عديدة ولا يألو أولي الأمر عن بحث دائب لإيجاد حلول لهذه المشكلات.
ولكن المشكلة الهامة من هذه المشاكل هي المناهج الدراسية في المدارس، فهي لا تغطي احتياجات المواطنين الثقافية والاجتماعية والاقتصادية لأنها لا ترتبط بالبيئة مما قاد إلى انعدام العلاقة بين هذه المناهج الدراسية وهذه الاحتياجات أي عدم الصلة بين التربية والنمو الشامل للبيئة.
كما أن عدم وجود علاقات وقنوات سليمة بين المناهج الدراسية والعقيدة عند الناس في معظم المواد حجبها عن دورها في المجتمع، وكذلك عدم استقرار خطط التربية ومتابعتها وعدم وضوح علاقاتها بالتربية أدى إلى افتقار التخطيط التربوي السليم في جميع مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
إذا رجعنا إلى الخلف قليلاً فإننا نجد أن حركة التعليم كانت بطيئة قبل استقلال الدول العربية التي كانت مستعمرة مما أدى إلى انتشار الجهل والأمية. وبعد الاستقلال بدأت هذه الدول تجاهد للخروج من هذه الأزمة، ولكن كانت هنالك بعض المشكلات التي رافقت هذه المجاهدة مثل عدم وجود تخطيط تربوي علمي سليم مما قاد للاقتباس والارتجال في الهيكل التربوي والاجتماعي.
لهذا كان لابد من إيجاد حل سليم وسريع لهذه المشكلة التي يرتكز عليها حل معظم مشكلات التعليم من تخطيط سليم وتدريب وإعداد للأساتذة واستقرارهم .
لقد شهد التعليم في الدول العربية في السنوات الأخيرة اهتماماً واسعاً. فقد انتشرت المدارس والجامعات وبصورة كبيرة وسريعة في كل أرجاء العالم العربي. فالعملية التربوية يجب أن تواكب هذا التوسع والتوجه الحضاري وأن تكون مبينة على القيم الإسلامية السمحة والعقيدة الإسلامية الحقة. بهذا أصبح التركيز على وضع مناهج تربوية صالحة لجيل الطلاب ضرورة ملحة لتحقيق الأهداف الإسلامية لبناء الإنسان المسلم حتى يحقق سعاده في الدارين ، الدنيا والآخرة.ويصبح نافعاً لمجتمعه ولنفسه. فالتربيةالإسلامية يمارس بها المسلم ما يتعلمه ويحول كل ذلك إلى سلوك يمارسه في حياته، وبهذا يكون سلوك التربية الداعية للإصلاح . فالتربية الجامعية هي" الجهود التي يبذلها الإنسان قصداًلإحداث تغيرات مرغوب فيها في البيئة المادية والاجتماعية"1.
إن مستقبل المجتمع المسلم يبنى على أهداف التربية الإسلامية في مؤسساته التعليمية والتي تهتم بالتربية الفعلية والتربية الإيمانية والتربية الجسدية والتربية الاجتماعية والتربية الخلقية والتربية النفسية بصورة متوازنة. لهذا كان لا بد من وضع منهج يحقق هذه الأهداف المرغوب فيها.
لا أحد ينكر أن التربية الإسلامية هي الأساس المتين لحضارة المسلمين، وأن المثل في هذه التربية تتفق معها الاتجاهات الحديثة والتي تتحدث عن التربية من جميع جوانبها خاصة بعد الاكتشافات الجديدة والتي ساعدت على اكتشاف جوانب نمو الفرد العقلية والجسمية والخلقية وكذلك الاجتماعية, ولكن رغم عن ذلك نجد أن المادة العلمية لعناصر المنهج الآن في المؤسسات التعليمية العربية انطلقت من منطلقات أصحاب المبادئ والأفكار غير المسلمين، مع أننا نعرف أن للمسلمين منهج للحياة كاملاً من جميع الجوانب،ولهم مفهوم كامل وشامل للحياة وما فيها من مبادئ وقيم وأفكار وخبرات ومعلومات بناءة. فالمنهج يجب أن يكون" معالجة للكائن البشري كله معالجة شاملة، لا تترك منه شيئاً ولاتغفل عن شيء، جسمه وعقله وروحه، حياته المادية والمعنوية وكل نشاطه على الأرض"2.
أهداف التربية الإسلامية:
من هذا المفهوم نقول إن التربية الإسلامية جمعت" بين تأديب النفس وتصفية الروح وتثقيف العقل وتقوية الجسم. فهي تعنى بالتربية الدينية والخلقية والعلمية والجسمية دون تضحية بأي نوع منها على حساب الآخر"3. وفي هذا يتضح أن التربية الإسلامية قد وازنت بين حاجات المتعلم الروحية والمادية والاجتماعية. فالفهم الإسلامي لهدف التربية هو إعداد الفرد ليكون نافعاً في مجتمعه ونفسه وسعيداً في الدنيا والآخرة . فالأهداف العامة للتربيةالإسلامية " تتصف بأمرين: الأول أنها تبدأ بالفرد وتنتهي بالمجتمع الإنساني عامة، والثاني أنها تبدأ بالدنيا وتنتهي بالآخرة بأسلوب متكامل متناسق"4" ففي الأمر الأول، الهدف، هو إعدادا لفردالمسلم فالتعليم يأخذ بيد الفرد في طريق التقدم، وفي نهاية الأمر يهيئ الفرد نفسه للحياة الاجتماعية السعيدة. الأمر الثاني، فأهدافه هي تنمية وترسيخ العقيدة الإسلامية عند الفرد المسلم وتحيقق العبودية لله تعالى وتزكية نفسه وتهذيب الأخلاق والطباع"5.(/1)
كذا فإن الإسلام قد وضع لنا عناصر للمناهج في المؤسسات التعليمية تمثل حجر الزاوية في العملية التعليمية. وقد تطرقت هذه العناصر لجميع التغيرات المتوقع حدوثها في كل جوانب النمو في الفرد المسلم. ونجد أن الإسلام اعتبر أن خطوة وضع الأهداف بصورة سليمة حسب متطلباته يساعد على تصميم معيار مناسب لاختيار المحتوى والخبرات وطرق التدريس ووسائله والنجاح بعد ذلك في التقويم، وبذلك يصل الفرد المسلم المتعلم إلى هدف التربية الإسلامية ألا وهو سعادته في الدنيا والآخرة.
وفي عصرنا هذا فإن " المدارس والجامعات أصبحت غير قادرة على إعداد الشباب الناشئ للحياة في عالم سريع التحول والتغير، ولذلك فإن العمل المستمر الإضافي للتربية خارج النطاق المدرسي، يجب أن يكون متواصلاً في صورة نشاطات حية على جبهة عريضة واسعة في كل الممالك والبلاد وفي كل مستويات التطور"6. فالتربية الإسلامية تمتاز عن التربية الغربية الحديثة بالهدف البعيد الذي يحفظ للفرد المسلم سمو روحه وعزة نفسه ونشاط جسمه وسلامة نموه الفكري والعلمي والعقلي.فالهدف البعيد يرنو إلى العلاقة الاحتماعية بين أفراد المجتمع وبينهم وبين الخالق سبحانه وتعالى. وبالتالي يكون الهدف هو الراعي المسلم في جميع أجزاء تكوينه الجسمي والعقلي والروحي والخلقي وبالتالي السلوكي"7.
استمرار تطور سبل حياة الإنسان وازدياد المعرفة اوانفجارها أدى إلى تطور معنى المنهج، كما أدى إلى تطور المفاهيم التربوية الأخرى. وقد اختلف المربون في تعريف المنهج تبعاً لذلك ارتكازاً على عدة عوامل نذكر منها:ـــ
ـــ التطور الذي حدث في مفهوم المعرفة مما أدى إلى التغيير الواسع الذي طرأ على فلسفة التربية في المجتمعات المختلفة. وحسب درجة تطور المعرفة في المجتمع المعلوم وضعت فلسفة التربية لذلك المجتمع.
ـــ التطور والتغير الذي حدث في أحوال المجتمعات في العصر الذي يعيشون فيه، مما أدى إلى وجود مطالب متغيرة للمجتمع تبعاً لميولهم ورغباتهم واهتماما تهم للوصول إلى حاجاتهم.
ـــ التطور الكبير الذي حدث في عملية التعليم والتعلم نتيجة التوسع في دراسة سيكولوجية الطالب وجوانبه المختلفة لربط ما يتعلمة في مجتمعه بما يدرسه في المؤسسة التعليمية لمواكبة ما يحدث وما يتطلبه المجتمع لحياته.
ـــ وأخيراً النتائج المستمرة يوماً بعد آخر والتي تتوصل إليها البحوث والتجارب العلمية في علم النفس التربوي خاصة والتربية عامة، وقد أظهرت هذه الدراسات أهمية نمو الفرد حسب متطلبات نموالمجتمع والتي تتغير حسب المجتمع المتغير باستمرار.
لهذا كله على المناهج أن تضع أهمية كبرى لما يلي:ــ
(1) الطالب هو مركز الاهتمام في هذا المنهج، وليست المادة الدراسية التي يجب أن تأتي في المرتبة الثانية. فالمنهج يجب أن يساعد الطلاب على النمو المتكامل من جميع جوانبهم الجسمية والعقلية والخلقية، كما يساعد على اكتشاف استعدادتهم وقدراتهم وميولهم ورغباتهم وتأهلهم بذلك للوصول إلى حاجاتهم. فالطالب يعيش في جو يوجهه فيه الأساتذة ويرشدهم ويكون هذا الطالب إيجابياً ونشطاً يختار ما يناسبه من المادة الدراسية التي يشعر أنه بحاجة إليها، كما أنه يتدرب على التعاون مع زملائه وعلى النقد البناء وتحمل المسئولية، كما يعتمد على نفسه ويثق بها، كما أن هذا المنهج ينمي فيه الميل إلى البحث والاطلاع وينمي فيه أيضاً الإقدام والابتكار والتطبيق والاستنباط.
ولا ننسى أن يكون المنهج مدركاً لما بين الطلاب من فرق فردية ومراعياً لها. كما ينمي في الطالب قدراته ومهاراته. أيضاً المنهج الموضوع يجب أن يهيئ الفرصة أمام الطلاب للاستفادة من أوقات فراغهم فيما ترتضيه عقيدتهم الإسلامية كما يستفيدون منه في نموهم الاجتماعي الذي يشعرون فيه أنهم ينتمون إلى الجماعة التي تحترمهم ويحترمونها في أوجه النشاط الاجتماعي المختلفة. وهذا الشعور بالاطمئنان في المجتمع والشعور بالانتماء يقودان الطالب إلى الاتزان النفسي والنمو الكامل المتكامل الذي هو هدف التربية الإسلامية.
(2) جميع الخبرات والمعلومات التي توضع في شكل مواد دراسية يجب أن تبحث في جوانب حياة الأفراد المختلفة في المجتمع مثل الحياة السياسية والاقتصادية والقانونية والأمنية والدينية والصحية والترفيهية ... الخ. لذا وجب توضيح العلاقات التأثيرية المتبادلة بينها جميعاً من جانب، وبينها وبين التربية من جانب آخر . ولا بد أن يوضع كل ذلك في شكل مترابط ومتصل ترابطاً واتصالاً منطقياً لبيان هذه العلاقات التأثيرية المختلفة بين هذه النظم جميعاً.
إن النظام التربوي يجب أن يستمد أهدافه ومادته ووسائله من النظم الاجتماعيةالمختلفة منفردة ومجتمعة ومن أهدافها ومن ثقافاتها ومن أنشطتها المختلفة وعقيدتها. وبما أن هذا الترابط مهم، فكان لا بد من وضع المعلومات والخبرات في شكل مواد دراسية مترابطة ليس بينها فواصل ما دامت كلها تبحث في أمور حاجات المجتمع.(/2)
(3) مما سبق نقول بأن الاهتمام عند وضع الخبرات والمعلومات للطالب يجب أن ينصب على النواحي الاجتماعية والبيئية بالصورة التي تجعل من الطالب مرتبطاً بهاومدركاً لجميع ما يحيط بها.
(4) وبهذا تكون العلاقة بين المؤسسة التعليمية والمجتمع والأسرة علاقة تعاون لأن الهدف واحد هو تنمية الطالب التنمية الكاملة المتكاملة من جميع جوانبه. فالمدرسة تقوم بإعداد الطالب وتنمية قواه ومواهبه إعداداً فردياً، وتتيح له الفرص للنمو الكامل، وإعداداً اجتماعياً يوجه هذا النمولينسجم مع نمو بقية أعضاء المجتمع ليحقق رغباته وليفهم نظمه ويتقبلها ويحترمها ويعمل على إصلاح الفاسد منها. والمجتمع له نظم وحضارة وقوانين متغيرة، ولهذا يجب أن تساير المدرسة المجتمع في هذا التغير وألا تتخلف عنه، وإلا فقد قصرت في وظيفتها، إذ ليس من المعقول أن تكون تجارب المتعلم ومعارفه وأخلاقه تمثل الماضي فقط.
(4) لتحقيق ما سبق كان لابد من إيجاد طريقة تدريس تناسب الوصول لهذا الهدف والطريقة المناسبة هي أن تكون الدراسة من خلال نشاط الطلاب الذي يقوم على خبراتهم الذاتية المبنية على أفكار وخبرات لديهم اكتسبوها سابقاً بنفس الطريقة. هذا النشاط الذي يقوم به الطلاب يتيح لهم القيام بدور إيجابي وفعال. وذلك من خلال قيام الطالب وتعاونه مع زملائه في وضع الأفكار والخطط التي يحويها المنهج، حيث يشترك الطالب في اختيار الموضوع أو المشكلة التي تدور حولها الد ارسة، وفي تحديد الأهداف ورسم الحلول وتنفيذها وتقويمها، ويتم ذلك كله في ضوء ميوله ودوافعه ومقدراته العقلية ومشاركته الآخرين وتعاونه معهم في وضع القيم الدينية للمجتمع الذي يعيش فيه الطالب موضع الاعتبار. لذا تصبح طريقة التدريس المناسبة هي الطريقة التي توفر للطالب مجالاً للنشاط الذاتي. ومثل هذه الطريقة تتمثل في الوحدات والموضوعات وهي تنظيم للخبرات يقود إلى نشاط الطلاب.
(5) في هذه الحالة يصبح دور الأستاذ هو الإرشاد والتوجيه للطلاب والعملية التربويةكلها، لأن العمل أساساً ـــ كما ذكرنا ـــ يقوم على نشاط الطلاب. فهو يشجع الطالب على أن يقدم الأسئلة والاستفسار عما غمض عليه من الأمور، وعلى الأستاذ أن يوجه إلى المصادر التي يمكن أن يجد فيها الإجابة الصحيحة والكافية والكاملة لأسئلته واستفساراته، كما يدربه على عملية تنظيم وربط الخبرات والأفكار المختلفة ومعرفة العلاقة بينها. وقدرة الأستاذ على ذلك تقود إلى تقريب الحقائق إلى أذهان الطلاب ومداركهم. وأيضاً على الأستاذ أن يشجع الطلاب جميعهم على تقديم اقتراحات فيما يدرسونه، ويسمح لهم بحرية الحركة والكلام ما دام هذا لا يؤدي إلى تعطيل سير النشاط والتعليم، ويدربهم على ما يناسبهم من أساليب النقد البناء، كما يدرب كلاً منهم على استغلال ما لديه من مواهب ويهيئ لهم الفرص لتنميتها.
وبما أن التوجه الحضاري العام في الدول الإسلامية هو نحو بناء الإنسان المسلم الحق، فيجب أن تبنى المناهج على تأصيل كل الخبرات والمعلومات التي تعطي للطلاب. فعملية التأصيل هذه أصبحت من القضايا الهامة في الدول الإسلامية نسبة لتوجههم الإسلامي.
إذن يجب الرجوع إلى القيم التي في الجذور الإسلامية لنستمد منها ما نضمن أنه يبني الإنسان الكامل المتكامل من جميع جوانبه الخلقية والعقلية والجسدية والاجتماعية على أساس إسلامي حقيقي، ويجب أن توضع كل المناهج من منظور إسلامي متجدد حسب التطور والانفجار المعرفي والتكنلوجي الذي حدث في عالم اليوم مع التمسك القوي بالأصالة في النشأة والوجود مع الاستمرارية، حتى لا يتهم المنهج الدراسي بأنه جامد في قوالب لا تتغير بظروف الزمان والمكان ولكن يجب أن يظل الأصل ثابتاً مهما تغيرت الأنماط والأشكال والتي تكون نتاجا طبيعيا لتوجه المجتمع المعين وجهده، فكلما تغيرت حياته بتغير الظروف تغير الشكل دون المضمون ــ وهو الأصل ــ لأنه يظل مرتبطاً بتصورات المجتمع العامة في الحياة والمعتقدات والتقاليد والمثل التي يتمسك بها المجتمع وهو التوجه الحضاري.
وبهذا يكون للمجتمع الإسلامي صبغة خاصة لا تتغير ولاتتبدل على الرغم من اختلاف ظروف الزمان والمكان، وهذه الصبغة الخاصة هي نتاج لوحدة التصور النابغ من وحدة العقيدة الإسلامية. وهذا التصور معناه المنظار الذي يرى به المسلم الأشياء من حوله ويميزها ليدرك الصواب من الخطأ بمعنى آخر التصور هو عبارة انعكاس القيم والمفاهيم في عالم الواقع لتكون سلوكاً وأعرافاً وتقاليد ونظم الحياة الاجتماعية.
فالمنهج الدراسي يجب أن تكون له ثوابت لا يحيد عنها لبناء الإنسان المسلم المتمسك بعقيدته لتأتي الثمرة في النهاية كما ذكرنا سابقاً، ومن هذه الثوابت مايلي:ــ
• وجود الخالق بصفاته وانعكاس التوحيد على سائر جوانب الفكر والعمل.
• عبودية الإنسان لله سبحانه وتعالى وغاية وجود الإنسان هي عبادة الله تعالى.
• يكون الإيمان بالله شرطاً لقبول الأعمال وصحتها.(/3)
• الإسلام هو دين الله القويم.
• الإنسان مخلوق مكرم على سائر الخلق.
• العقيدة هي رابطة التجمع الإنساني لا العرقي ولا الجنسي.
• الدنيا دار ابتلاء وعمل والآخرة دار الحساب.
• الإنسان مستخلف في الأرض والكون مسخر له.
• الإيمان بكامل الوحي وهو المصدر للمعرفة والعقل وسيلة لهذه المعرفة.
• الإيمان بكل هذه الحقائق في الزمان والمكان والإنسان.
إن قيمة خاصية الثبات هي تثبيت الأصل الذي يقوم عليه المسلم وتصوره وبذلك تستقر حياته وحياة مجتمعه، وذلك مع إطلاق الحرية للنمو الطبيعي في الأفكار والمشاعر وفي النظم والأوضاع وبالتالي لا جمود ولاانفلات.
من هذا كله نخلص إلى أن المنهج الدراسي يكون شاملا والشمول من أهم خصائص التصور الإسلامي المبعوث من الربانية، فالمنهج الذي تلقاه البشر من الله سبحانه وتعالى شامل لكل شيء، لم يهتم ببعض الأمور ويهمل الأخرى وإنما اشتمل على كل مجالات الحياة. وبالتالي يمكن أن يكون المنهج الدراسي وفي جميع الميادين يقوم على هذا الأساس. هذا كله يقودنا إلى عملية تأصيل المعرفة في المدارس جميعاً لأن الهدف ليس مدرسة واحدة إذا أردنا أن يكون البناء الصحيح لكل أفراد المجتمع. إذ أن المطلوب هو تأصيل العلوم التي تقدم للطالب المدرسي لنموه نمواً صحيحاً لأنها أساساً نشأت لتتناول المشاكل التي تدور في المجتمع، لهذا يجب ألا تكون هذه الخبرات والمعلومات غريبة على من تقدم له حتى يسهل عليه استيعابها، وهي يجب أن تكون مبنية على الأصل الإسلامي الذي هو القيم الاجتماعية والثقافية العامة السائدة في المجتمع، وهذه هي قيم الإسلام وأعرافه وتقاليده.
عملية تأصيل وأسلمة المناهج هامة فهي تعطي المناهج البعد والصيغة الإسلامية،بربط المواد الدراسية بمبادئ الإسلام ، مثل القيم الخلقية والدينية وربط هذا كله بحياة الطالب في مجتمعه.
عملية التأصيل هذه تتطلب إعادة صياغة المناهج الدراسية الحالية على ضوء الإسلام من حيث المعلومات وتنسيقها وربط بعضها ببعض ربطاً منطقياً. هذا كله يتطلب صياغة الأهداف بطريقة تجعل فروع المعرفة المختلفة تثرى التصور الإسلامية لتربية الطالب ليكون عاملاً ومشاركاً في بناء مجتمعه بصورة جادة ونشطه ويتمكن من أداء دوره بإيجابية وفعالية.
وبما أن المؤسسات التعليمية كلها بما فيها الجامعات هي المؤسسات التي تهتم ببناء الفرد المسلم من جميع جوانبه الاجتماعية والنفسية والعقلية والخلقية والجسدية وتعدل من سلوكه واتجاهاته،كان لا بد من مراعاة عوامل التغيير والبناء وربطها بالمؤثرات والمتغيرات الثقافية والحضارية، وربط هذا بواقع التلميذ وعقيدته.
أسس المناهج من منظور إسلامي:ــ
1ــ الأساس المعرفي:
الأساس المعرفي في الإسلام يعني النظرة الإسلامية لجميع أنواع معارف العلوم التي يجب أن يتعلمها الفرد المسلم أو الجماعة حسب فائدتها ودرجة نفعها لهم مع عدم معارضتها للتعاليم الإسلامية التي تنطلق منها. لهذا فطبيعة المعرفة التي تكون المنهج تكون مستلة من التعاليم الإسلامية. ( اختلف الناس في العلم الذي هو فرض على كل مسلم. فقال العلماء هو العلم بالفقه وقال المفسرون والمحدثون هو علم الكتاب والسنة ... وأما العلوم التي ليست فرضاً فتنقسم إلى شرعية وغير شرعية .. فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ماهو محمود وإلى ما هو مذموم و إلى ماهو مباح. فالمحمود ما ترتبط به مصالح وأمور الدنيا كالطب والحساب ... وأما المذموم من العلوم فكعلم السحر وعلم الشعوذة وأما المباح منه فالعلم بالأشعار وتواريخ الأخبار وما يجري مجراه. وأما العلوم وهي المقصودة بالبيان فهي محمودة كلها... فالأصول أربعة: كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام. وإجماع الأمة وآثار الصحابة، والفروع هي ما فهم من الأصول لابموجب ألفاظها بل بمعان تنبهت لها العقول.. والمقدمات وهي التي تجري منه مجرى الآلات كعلم اللغة والنحو، فإنها آلة لعلم كتاب الله والتفسير والناسخ والمنسوخ .. وعلم أصول الفقه والعلم بالرجال وأسماءهم وأنسابهم .. فهي كلها محمودة، بل كلها من فرض الكفايات) 9.
إذن التربية الإسلامية ليست غاية وإنما هي وسيلة لغاية وهي بناء الإنسان الكامل المتكامل القادر على أن يحمل رسالة الإسلام بعد إيمانه بها ويلم بعقيدته ويطبق شرع الله في نفسه ويأمر غيره لتطبيقه ثم نشره بين التلاميذ ليكونوا صالحين محققين لأهداف الإسلام في المجتمع .(/4)
إذن الأساس المعرفي لمنهج التربية الإسلامية يقوم على مقومات العقيدة الإسلامية وفلسفته تشكل الخبرات والمعلومات المكونة للمنهج الدراسي، كما أنها تسمتمد من الأدلة العقلية والنقلية والحسية التي تسعى لإسعاد المجتمع المسلم في الدنيا والآخرة. ومما لاشك فيه( أن الله هو المثل الأعلى للمسلمين وهو الغاية القصوى التي يجب أن تنتهي إليها كل غايات التربية والتعليم وأن القرآن الكريم هو نقطة الانطلاق لبناء النفس الإنسانية في الفرد وبناء الأسرة ثم بناء الإسلامية القائمة على شرع الله بالحق وإقامة نهجة الباني المصدر الرباني الإنساني الهدف من الأرض)10.
2. الأساس الفلسفيي أو الفكري :
جاءت الشريعة مكتملة الجوانب لبناء الإنسان المسلم الذي يعمل لإسعاد نفسه ومجتمعه .
فقد ضمنت تعاليم الإسلام العقيدة والعبادة وتشريع الحكم والفقه ونظام الأسرة والمجتمع وجميع ميادين الحياة وفق التصوير الإسلامي . فالإسلام بهذه المفهوم هو أيدلوجية المجتمع المسلم وهو عقيدة الفرد والجماعة ةهو توجيه وتشريع (11). وهذا هو الأساس الفلسفي للتربية الإسلامية الذي ينادي بعبادة الله سبحانه وتعالى والإيمان بوحدانيته وهو الذي خلق الإنسان وكرمه واستخلفه في الأرض لتعميرها عالماً بأن الأرض والكون جميعه مسخر للإنسان كما أنه عامل هام وميدان واسع للتأمل والتفكير لمعرفة الله سبحانه وتعالى . هذا كله يتطلب من الفرد المسلم أن يلتزم بما فيه مع الإيمان الكامل بأن الإسلام جاء بآخر الرسالات وهو منهج حياة كامل وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هوآخر الأنبياء والرسل.قال تعالى( انا كل شيء خلقناه بقدر ) (12) .كما قال تعالى (وابتغ فينا أتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا) (13) .
من هذا كله يتضح أن هذا الأساس هو أساس يستمد أهميته من نظرة الإسلام إلى الكون والإنسان والحياة عامة . كما يقوم هذا الأساس يستمد أهميته من نظرة الإسلام إلى الكون والإنسان والحياة عامة. كما يقوم هذا الأساس على الإيمان بالقيم والمثل العليا التي أنزلها الله سبحانه وتعالى والإيمان بأن الكون وما فيه من ماديات يخضع في تطوره لعوامل يجب على الإنسان أن يفكر وبجتهد في الكشف عنها، وكل ذلك مبني على مبدأ الفروق الفردية بين الأفراد المتعلمين .
اهتمت التربية الإسلامية بعلم النفس حتى تكتشف مقدرات واهتمامات وميول ورغبات المتعلم حتى تتوفر له الخبرت والمعلمومات المناسبة له لكي يستفيد منها في نموه الكامل المتكامل جميع جوانبه ليكتسب سعادة الدنيا والآخرة وهو هدف التربية الإسلامية، وبهذا يوفر علم النفس أفضل الطرق لتعليم الفرد المسلم الذي يلبي حاجاته العقلية والجسدية والخلقية والاجتماعية في توازن.
فعلم النفس يتعامل مع الإنسان ككائن حي يرغب ويحس ويدرك وينفعل ويتعلم ويتخيل ويفكر ويعبر ويريد ويفعل مع تأثيره بالمجتمع الذي يعيش فيه كما يؤثر هو أيضاً في ذلك المجتمع.( 14) .
المقصود من كل هذا التدرج في المفاهيم مع مراعاة القدرات العقلية للمتعلم حتى تتحقق الشخصية الإسلامية المتزنة .. قال الإمام الغزالي في الاهتمام بعلم النفس لمراعاة قدرات المتعلم: ( أن لا يخوض في فن من فنون العلم دفعة، بل يراعي الترتيب ويبتدئ بالأهم، فإن العمر إن كان يتسع لجميع العلوم غالباً، فالحذق أن يأخذ من كل شيء أحسنه ... ويصرف قدرته في الميسور من علمه إلى استكمال العلم الذي هو أشرف العلوم وهو علم الآخرة ....ولا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله، فإن العلوم مرتبة ترتيباً ضرورياً وبعضها طريق إلى بعض ...وعلى المعلم أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقى إليه ما لا يبلغه عقله فينفره أو يخبط عليه عقله اقتداءً بسيد البشير حيث قال : ( نحن معشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ونكلمهم على قدر عقولهم ...وأن يلقى إليه الجلى اللائق به).
4.الأساس الاجتماعي :
الاسس الاجتماعية تمثل الجانب العلمي والإجرائي للأسس المذكورة سابقاً والتي تمثل الجانب النظري لأسس المناهج . وفي هذا الأساس توضع الأهداف الرئيسية التي تحدد حاجات وقيم ومتطلبات المجتمع التي تسمى التربية لغرسها في الفرد المتعلم والذي هو جزء من ذلك المجتمع.
من هنا يتضح أن التربية يجب أن تقوم على أساس متكامل من القيم والمبادئ والأسس الإسلامية .والتي ينادي بها الإسلام والتي تسير كل شئون الحياة. قال تعالى:( ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيروأحسن تأويلاً) .(/5)
وهدف الأساس الاجتماعي في الإسلام هو التطبيع الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية للطلاب وإكسابهم العادات وطرق التفكير عندما تقابلهم مشكلات في حياتهم وكيفية التعامل مع أفراد المجتمع الآخرين وتنمية روح التعاون مع البعض واحترام الواجب وبذل النفس رخيصة في إعلاء كلمة الله وفي سبيل العقيدة وحمايتها والمساهمة في تطوير المجتمع الإسلامي وتقدمه.
هذا الأساس الاجتماعي مبني على اعتماد أن الإنسان خلقه الله مكرماً حيث قال تعالى) : ولقد كرمنا بني آدم) . وأن الإنسان مخلوق اجتماعي حيث قال تعالى: ( إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) . بهذا تصبح العلاقة بين أفراد المجتمع المسلم علاقة ود وتراحم وتعاون للتأمين والحماية لهذا المجتمع من أعدائه والمتربصين به ولتأمين نشر الدعوة الإسلامية في المجتمعات الأخرى قال تعالى: ( وما أرسلناك إلا كافةً بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون) .
لهذا كله تصبح العلاقة بين الفرد والمجتمع الإسلامي علاقة مبنية على أسس تحمي الفرد ومجتمعه الإسلامي من التغول من المجتمعات الجائرة الأخرى ، وأصبحت مسؤولية الفرد نحو مجتمعه الإسلامي قائمة على( أن تنمي في الفرد وذاتيته، مسؤولية في الوقت ذاته عن أن تنمي فيه عضويته في المجتمع من العلاقات والعوامل الاجتماعية وأن الأدوار التي يقوم بها الأفراد في جماعاتهم أدوار متعددة ومتشابكة ومتنوعة، ومختلفة باختلاف الظروف والمواقف).
الخاتمة:
عملية تأصيل وأسلمة المناهج هامة في المدارس، فهي تعطي المناهج البعد والصيغة الإسلامية بربط المواد الدراسية بمبادئ الإسلام مثل القيم الخلقية والدينية وربط هذا كله بحياة الطالب في مجتمعه . وهذه العملية تتطلب إعادة صياغة المناهج الحالية على ضوء الإسلام من حيث المعلومات وتنسيقها وربطها ببعضها منطقياً . هذا كله يتطلب صياغة الأهداف بطريقة تجعل فروع المعرفة المختلفة تثري التصور الإسلامي لتربية الطالب ليكون عاملاً ومشاركاً في بناء مجتمعه بصورة جادة ونشطه ، ويتمكن من أداء دوره بإيجابية وفعالية.
لهذا يجب ان يتسم المنهج بالثبات الذي يشتق من ثوابت القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وسير الصحابة وعلماء المسلمين والإجماع والقياس . كما يجب أن يكون منهجاً متكاملاً يهتم بحياة الفرد والجماعة وينميها من جميع جوانبها المختلفة . وعلى المنهج أيضاً أن يعالج التعليم في ظل أهداف التربية الإسلامية التي تبني الفرد البناء الكامل المتكامل من جميع جوانبه بناءً متوازناً .
كذلك يجب أن يكون المنهج متوازناً ومرناً وقابلاً للتعديل بالإضافة أو الحذف فيما يتعلق بالفروع وفق ما تتطلبه وتقتضيه مصلحة المجتمع المسلم وبهذا يواكب المجتمع المسلم التطور الذي يحدث من حوله في المجتمعات الأخرى.
يتضح أن هنالك توجهات لطبيعة المنهج التوجه الأول، هو مراعاة طبيعة الطالب، وهو توجه سيكوبوجي، والتوجه الثاني، هو مراعاة طبيعة المجتمع وهو التوجه الاجتماعي، فالمنهج يجب أن يجمع بين الطالب والمجتمع، كما لا يجوزفصل المؤسسة التربوية كمؤسسة اجتماعية عن المجتمع وما يدور فيه لأنها هي جزء لا يتجزأ عن المجتمع، فالاهتمام بالنواحي الاجتماعية ودراسة البيئة والظروف المحلية للشكل الذي يجعله مواطناًً صالحاً مستنيراً مدركاً لجميع الأوضاع المحلية به لا يكون إلا بالتعاون بين المجتمع والمؤسسة التعليمية، عليه يجب أن تكون هناك علاقة وثيقة بين المنهج وكل من خصائص المجتمع وحاجاته وأهدافه الرئيسة ومشكلاته، لهذا عند وضع أي منهج يجب أن تدرس هذه النواحي جميعها وتوضع في شكل خيارات يكتسبها الطالب حسب رغبته واهتمامه وقدراته واستعداده للوصول إلى حاجاته المنبثقة من حاجات المجتمع الذي يعيش فيه والتي لا تتعارض وعقيدته الإسلامية. وهذا معناه أن نأخذ ما نراه صالحاً لحياتنا من المجتمعات الأخرى على ألا يتعارض مع القيم والعادات والتقاليد المستمدة من الشريعة.
المراجع:
(1) إبراهيم ناصر، التربية المدنية( عمان: مكتبة الرائد العلمية، 1993)
(2) ابن خلدون، المقدمة( الناشر:عبدالرحمنبن محمد، بدون تاريخ)
(3) أحمد فؤاد الاهواني، التربية في الإسلام( القاهرة : دار المعارف، بدون تاريخ ).
(4) أحمد شبلي ، التربية في الإسلام ، نظمها ـ فلسفتها ـ تاريخها ( القاهرة: مكتبة النهضةالمصرية،1978).
(5) المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، استراتيجية تطوير التربية العربية ( بيروت: موسسة دار الريحاني للطباعة والنشر، 1979).
(6) أنور الجندي ، التربية وبناء الأجيال في ضوء الإسلام ، ( بيروت : دار الكتاب اللبناني 1975)
(7) حسن علي الساعوي " تأصيل العلوم الاجتماعية " مجلة أبحاث الإيمان ، السنة الأولى العدد 3، سبتمبر 1993) .
(8) لطفي بركات أحمد ، في الفكر التربوي الإسلامي ،ط1( الرياض : دار المريخ ، 1982)(/6)
(9) ماجد عرسان الكيلاني، تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية ( عمان : جمعية عمال المطباع التعاونية،1978)
(10) محمد قطب : منهج التربية الإسلاميةج 3. ط4. (القاهرة : دار الشروق ، 51400 )
محمد مصطفى الزحيلي، طرق تدريس التربية الإسلامية، ط5( دمشق : دار المعارف للطباعة،1991) .
----------
ــ لطفي بركات أحمد، في الفكر التربوي الإسلامي ص 47.
ـــ محمد قطب، منهج التربية الإسلامية، ص19.
ـــ أحمد فؤاد الأهواني، التربية في الإسلام، ص9.
ـــ ماجد عرسان الكيلاني، تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية،ص(34ــ 35).
ــ محمد مصطفى الزحيلي، طرق تدريس التربية الإسلامية، ص172.
ــ عبد المجيد سيد أحمد منصور، " توجيه وارشاد المسلم" ، سلسلة دعوة الحق، السنة العاشرة، العدد 107.
ــ محمد عطية الابراشي، التربيةالإسلامية وفلاسفتها، ص(30ــ 31).
ــ عباس محمود العقاد، أثر العرب في الحضارة الأوربية، منقول من حسن الساعروي ، "تأصيل العلوم الاجتماعية"،ص19.
ــ أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ص17.
ــ أنور الجندي، التربيةو بناء الأجيال في ضوء الإسلام، ص(186ــ 187).
ـــ اسحق أحمد فرحان وآخرون، المنهاج التربوي بين الأصالة والمعاصرة،ص64.
ــ سورة القمر، الآية 49.
ـــ سورة القصص، الآية77.
ــ يوسف مراد، مبادئ علم النفس العام، ص11.
ــ الغزالي، إحياء علوم الدين، ص57.
ــ سورة النساء، الآية 51.
ـــ عمر محمد التومي اليباني، فلسفة التربية الإسلامية، ص386.
ــ سورة الإسراء، الآية 70.
ــ سورة الحجرات، الآية13.
ــ سورة سبأ، الآية 28.
ــ لطفي بركات، في الفكر التربوي الإسلامي، ص69.
* عميد كلية التربية جامعة أم درمان الإسلامية(/7)
المناهي اللفظية
من كتاب مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين المجلد الثالث
س1: سئل فضيلة الشيخ: عما يقوله بعض الناس من أن تصحيح الألفاظ غير مهم مع سلامة القلب؟
جـ1: فأجاب بقوله: إن أراد بتصحيح الألفاظ إجراءها على اللغة العربية فهذا صحيح فإنه لا يهم –من جهة سلامة العقيدة- أن تكون الألفاظ غير جارية على اللغة العربية ما دام المعنى مفهوماً وسليماً.
أما إذا أراد بتصحيح الألفاظ ترك الألفاظ التي تدل على الكفر والشرك فكلامه غير صحيح بل تصحيحها مهم، ولا يمكن أن نقول للإنسان أطلق لسانك في قول كل شيء ما دامت النية صحيحة بل نقول الكلمات مقيدة بما جاءت به الشريعة الإسلامية.
س2: سئل فضيلة الشيخ: عن هذه الأسماء وهي :أبرار-ملاك-إيمان-جبريل-جنى؟
جـ2: فأجاب بقوله: لا يتسمى بأسماء أبرار،جـ3: وملاك،جـ4: وإيمان،جـ5: وجبريل أما جنى فلا أدري معناها.
س3: وسئل فضيلته: عن صحة هذه العبارة "اجعل بينك وبين الله صلة،س4: واجعل بينك وبين الرسول،س5: صلى الله عليه وسلم،س6: صلة"؟
جـ6: فأجاب قائلاً: الذي يقول اجعل بينك وبين الله صلة أي بالتعبد له واجعل بينك وبين الرسول،جـ7: صلى الله عليه وسلم،جـ8: صلة أي باتباعه فهذا حق.
أما إذا أراد بقوله اجعل بينك وبين الرسول صلى الله عليه وسلم صلة أي اجعله هو ملجأك عند الشدائد ومستغاثك عند الكربات فإن هذا محرم بل هو شرك أكبر مخرج عن الملة.
س7: سئل فضيلة الشيخ: عن هذا القول "أحبائي في رسول الله"؟
جـ9: فأجاب فضيلته قائلاً: هاذ القول وإن كان صاحبه فيما يظهر يريد معنىً صحيحاً،جـ10: يعني: أجتمع أنا وإياكم في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم،جـ11: ولكن هذا التعبير خلاف ما جاءت به السنة،جـ12: فإن الحديث "من أحب في الله وأبغض في الله" ،جـ13: فالذي ينبغي أن يقول: أحبائي في الله –عز وجل- ولأن هذا القول الذي يقوله فيه عدول عما كان يقوله السلف،جـ14: ولأنه ربما يوجب الغلو في رسول الله،جـ15: صلى الله عليه وسلم،جـ16: والغفلة عن الله،جـ17: والمعروف عن علمائنا وعن أهل الخير هو أن يقول: أحبك في الله.
س8: وسئل فضيلة الشيخ: إذا كتب الإنسان رسالة وقال فيها "إلى والدي العزيز" أو "إلى أخي الكريم" فهل في هذا شيء؟.
جـ18: فأجاب بقوله: هذا ليس فيه شيء بل هو من الجائز قال الله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم). وقال تعالى: (ولها عرش عظيم). وقال النبي،جـ19: صلى الله عليه وسلم،جـ20: "إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف" . فهذا دليل على أن مثل هذه الأوصاف تصح لله تعالى ولغيره ولكن اتصاف الله بها لا يماثله شيء من اتصاف المخلوق بها،جـ21: فإن صفات الخالق تليق به وصفات المخلوق تليق به.
وقول القائل لأبيه أو أمه أو صديقه "العزيز" يعني أنك عزيز علي غالٍ عندي وما أشبه ذلك، ولا يقصد بها أبداً الصفة التي تكون لله وهي العزة التي لا يقهره بها أحد، وإنما يريد أنك عزيز عليَّ وغالٍ عندي وما أشبه ذلك.
س9: وسئل: عن عبارة "أدام الله أيامك"؟.
جـ22: فأجاب بقوله: قول "أدام الله أيامك" من الاعتداء في الدعاء لأن دوام الأيام محال مناف لقوله تعالى: (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام).وقوله تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون).
س10: وسئل ما رأي فضيلتكم في هذه الألفاظ: جلالة وصاحب الجلالة،س11: وصاحب السمو؟وأرجو وآمل؟
جـ23: فأجاب بقوله: لا بأس بها إن كانت المقولة فيه أهلا لذلك،جـ24: ولم يخش منه الترفع والإعجاب بالنفس،جـ25: وكذلك أرجو وآمل.
س12: سئل فضيلة الشيخ: عن هذه الألفاظ: "أرجوك"،س13: و"تحياتي" ،س14: و"أنعم صباحاً" ،س15: و"أنعم مساءً"؟.
جـ26: فأجاب قائلاً: لا بأس أن تقول لفلان "أرجوك" في شيء يستطيع أن يحقق رجاءك به.
وكذلك "تحياتي لك". و"لك مني التحية". وما أشبه ذلك لقوله تعالى (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها). وكذلك : "أنعم صباحاً" و "أنعم مساءً" لا بأس به، ولكن بشرط ألا تتخذ بديلاً عن السلام الشرعي.
س16: وسئل فضيلة الشيخ: عمن يسأل بوجه الله فيقول أسألك بوجه الله كذا وكذا فما الحكم في هذا القول؟
جـ27: فأجاب قائلاً: وجه الله أعظم من أن يسأل به الإنسان شيئاً من الدنيا ويجعل سؤاله بوجه الله – عز وجل- كالوسيلة التي يتوسل بها إلى حصول مقصوده من هذا الرجل الذي توسل إليه بذلك،جـ28: فلا يقدمن أحد على مثل هذا السؤال،جـ29: أي لا يقل وجه الله عليك أو أسألك بوجه الله أو ما أشبه ذلك.
س17: وسئل الشيخ حفظه الله: ما رأيكم فيمن يقول "آمنت بالله،س18: وتوكلت على الله،س19: واعتصمت بالله،س20: واستجرت برسول الله،س21: صلى الله عليه وسلم"؟.(/1)
جـ30: فأجاب بقوله: أما قول القائل "آمنت بالله،جـ31: وتوكلت على الله واعتصمت بالله" فهذا ليس فيه بأس وهذه حال كل مؤمن أن يكون متوكلاً على الله،جـ32: مؤمناً به،جـ33: معتصماً به.
وأما قوله "واستجرت برسول الله صلى الله عليه وسلم"فإنها كلمة منكرة والاستجارة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته لا تجوز، أما الإستجارة به في حياته في أمر يقدر عليه فهي جائزة قال الله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله).
فالاستجارة بالرسول، صلى الله عليه وسلم بعد موته شرك أكبر وعلى من سمع أحداً يقول مثل هذا الكلام أن ينصحه، لأنه قد يكون سمعه من بعض الناس وهو لا يدري ما معناها وأنت "يا أخي" إذا أخبرته وبينت له أن هذا شرك فلعل الله أن ينفعه على يدك. والله الموفق.
س22: سئل فضيلة الشيخ: ما حكم قول "أطال الله بقاءك" "طال عمرك"؟.
جـ34: فأجاب قائلاً: لا ينبغي أن يطلق القول بطول البقاء،جـ35: لأن طول البقاء قد يكون خيراً وقد يكون شراً،جـ36: فإن شر الناس من طال عمره وساء عمله،جـ37: وعلى هذا فلو قال أطال الله بقاءك على طاعته ونحوه فلا بأس بذلك.
س23: سئل فضيلة الشيخ: عن قول أحد الخطباء في كلامه حول غزوة بدر: "التقى إله وشيطان". فقد قال بعض العلماء إن هذه العبارة كفر صريح،س24: لأن ظاهر العبارة إثبات الحركة لله عز وجل نرجو من فضيلتكم توضيح ذلك؟.
جـ38: فأجاب بقوله: لا شك أن هذه العبارة لا تنبغي،جـ39: وإن كان قائلها قد أراد التجوز فإن التجوز إنما يسوغ إذا لم يوهم معنى فاسداً لا يليق به. والمعنى الذي لا يليق هنا أن يجعل الشيطان قبيلاً لله تعالى،جـ40: ونداً له،جـ41: وقرناً يواجهه،جـ42: كما يواجه المرء قرنه،جـ43: وهذا حرام،جـ44: ولا يجوز.
ولو أراد الناطق به تنقص الله تعالى وتنزيله إلى هذا الحد لكان كافراً، ولكنه حيث لم يرد ذلك نقول له: هذا التعبير حرام، ثم إن تعبيره به ظاناً أنه جائز بالتأويل الذي قصده فإنه لا يأثم بذلك لجهله، ولكن عليه ألا يعود لمثل ذلك.
وأما قول بعض العلماء الذي نقلت: "إن هذه العبارة كفر صريح" فليس بجيد على إطلاقه، وقد علمت التفصيل فيه.
وأما تعليل القائل لحكمه بكفر هذا الخطيب أن ظاهر عبارته إثبات الحركة لله عز وجل فهذا التعليل يقتضي امتناع الحركة لله، وأن إثباتها كفر، وفيه نظر ظاهر، فقد أثبت الله تعالى لنفسه في كتابه أنه يفعل، وأنه يجيء يوم القيامة، وأنه استوى على العرش، أي علا عليه علواً يليق بجلاله، وأثبت نبيه، صلى الله عليه وسلم أنه ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ واتفق أهل السنة على القول بمقتضى ما دل عليه الكتاب والسنة من ذلك غير خائضين فيه، ولا محرفين للكلم عن مواضعه، ولا معطلين له عن دلائله. وهذه النصوص في إثبات الفعل، والمجيء، والاستواء، والنزول إلى السماء الدنيا إن كانت تستلزم الحركة لله فالحركة له حق ثابت بمقتضى هذه النصوص ولازمها، وإن كنا لا نعقل كيفية هذه الحركة، و لهذا أجاب الإمام مالك من سأله عن قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى). كيف استوى؟ فقال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة". وإن كانت هذه النصوص لا تستلزم الحركة لله تعالى لم يكن لنا إثبات الحركة له بهذه النصوص، وليس لنا أيضاً أن ننفيها عنه بمقتضى استبعاد عقولنا لها، أو توهمنا أنها تستلزم إثبات النقص، وذلك أن صفات الله تعالى توقيفية، يتوقف إثباتها ونفيها على ما جاء به الكتاب والسنة، لامتناع القياس في حقه –تعالى-، فإنه لا مثل له ولا ند، وليس في الكتاب والسنة إثبات لفظ الحركة أو نفيه، فالقول بإثبات لفظه أو نفيه قول على الله بلا علم. وقد قال الله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله مالا تعلمون). وقال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً). فإذا كان مقتضى النصوص السكوت عن إثبات الحركة لله تعالى أو نفيها عنه، فكيف نكفر من تكلم بكلام يثبت ظاهره – حسب زعم هذا العالم- التحرك لله تعالى؟! وتكفير المسلم ليس بالأمر الهين، فإن من دعا رجلاً بالكفر فقد باء بها أحدهما، فإن كان المدعو كافراً باء بها، وإلا باء بها الداعي.
وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في كثير من رسائله في الصفات على مسألة الحركة، وبين أقوال الناس فيها، وما هو الحق من ذلك، أن من الناس من جزم بإثباتها، ومنهم من توقف، ومنهم من جزم بنفيها.(/2)
والصواب في ذلك: أن ما دل عليه الكتاب والسنة من أفعال الله تعالى ولوازمها فهو حق ثابت يجب الإيمان به، وليس فيه نقص ولا مشابهة للخلق، فعليك بهذا الأصل فإنه يفيدك، وأعرض عما كان عليه أهل الكلام من الأقيسة الفاسدة التي يحاولون صرف نصوص الكتاب والسنة إليها ليحرفوا بها الكلم عن مواضعه، سواء عن نية صالحة أو سيئة.
س25: وسئل فضيلته: يستعمل بعض الناس عند أداء التحية عبارات عديدة منها: "مساك الله بالخير" . و"الله بالخير" و"صبحك الله بالخير" بدلاً من لفظة التحية الواردة،س26: وهل يجوز البدء بالسلام بلفظ: عليك السلام"؟.
جـ45: فأجاب قائلاً: السلام الوارد هو أن يقول الإنسان: "السلام عليك"،جـ46: أو "سلام عليك"،جـ47: ثم يقول بعد ذلك ما شاء من أنواع التحيات،جـ48: وأما "مساك الله بالخير" ،جـ49: و"صبحك الله بالخير"،جـ50: أو "الله بالخير" . وما أشبه ذلك فهذه تقال بعد السلام المشروع. وأما تبديل السلام المشروع بهذا فهو خطأ.
وأما البداءة بالسلام بلفظ: "عليك السلام" فهو خلاف المشروع، لأن هذا اللفظ للرد لا للبداءة.
س27: وسئل: عن هذه الكلمة "الله غير مادي"؟
جـ51: فأجاب: القول بأن الله غير مادي قول منكر،جـ52: لأن الخوض في مثل هذا بدعة منكرة،جـ53: فالله تعالى ليس كمثله شيء،جـ54: وهو الأول الخالق لكل شيء وهذا شبيه بسؤال المشركين للنبي عليه الصلاة والسلام هل الله من ذهب أو من فضة أو من كذا وكذا؟ وكل هذا حرام لا يجوز السؤال عنه وجوابه في كتاب الله: (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد). فكف عن هذا،جـ55: مالك ولهذا السؤال.
س28: سئل فضيلته: عن قول بعض الناس إذا انتقم الله من الظالم "الله ما يضرب بعصى"؟
جـ56: فأجاب بقوله: لا يجوز أن يقول الإنسان مثل هذا التعبير بالنسبة لله عز وجل ولكن له أن يقول: إن الله سبحانه وتعالى حكم لا يظلم أحداً،جـ57: وأنه ينتقم من الظالم،جـ58: وما أشبه هذه الكلمات التي جاءت بها النصوص الشرعية،جـ59: أما الكلمة التي أشار إليها السائل فلا أرى أنها جائزة.
س29: سئل فضيلة الشيخ: كثيراً ما نرى على الجدران كتابة لفظ الجلالة "الله"،س30: وبجانبها لفظة محمد صلى الله عليه وسلم،س31: أو نجد ذلك على الرقاع،س32: أو على الكتب،س33: أو على بعض المصاحف،س34: فهل موضعها هذا صحيح؟
جـ60: فأجاب قائلاً: موضعها ليس بصحيح لأن هذا يجعل النبي،جـ61: صلى الله عليه وسلم نداً لله مساوياً له،جـ62: ولو أن أحداً رأى هذه الكتابة وهو لا يدري من المسمى بهما لأيقن يقيناً أنهما متساويان متماثلان،جـ63: فيجب إزالة اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم،جـ64: ويبقى النظر في كتابة: "الله" وحدها،جـ65: فإنها كلمة يقولها الصوفية،جـ66: ويجعلونها بدلاً عن الذكر،جـ67: يقولون: "الله الله الله" وعلى هذا فتلغى أيضاً،جـ68: فلا يكتب "الله" ،جـ69: ولا "محمد" على الجدران،جـ70: ولا في الرقاع ولا في غيره.
س35: سئل فضيلة الشيخ: كيف نجمع بين قول الصحابة "الله ورسوله أعلم" بالعطف بالواو وإقرارهم على ذلك وإنكاره صلى الله عليه وسلم على من قال "ما شاء الله وشئت"؟
جـ71: فأجاب بقوله: قوله "الله ورسوله أعلم" جائز. وذلك لأن علم الرسول من علم الله،جـ72: فالله تعالى هو الذي يعلمه مالا يدركه البشر ولهذا أتى بالواو.
وكذلك في المسائل الشرعية يقال: "الله ورسوله أعلم" لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بشريعة الله وعلمه بها من علم الله الذي علمه كما قال الله تعالى : (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم). وليس هذا كقوله "ما شاء الله وشئت" لأن هذا في باب القدرة والمشيئة، ولا يمكن أن يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم مشاركاً لله فيها.
ففي الأمور الشرعية يقال "الله ورسوله أعلم" وفي الأمور الكونية لا يقال ذلك.
ومن هنا نعرف خطأ وجهل من يكتب الآن على بعض الأعمال (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله). لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرى العمل بعد موته.
س36: سئل فضيلة الشيخ: عن هذه العبارة "أعطني الله لا يهينك"؟
جـ73: فأجاب فضيلته بقوله: هذه العبارة صحيحة،جـ74: والله سبحانه وتعالى قد يهين العبد ويذله،جـ75: وقد قال الله تعالى في عذاب الكفار: (إنهم يجزون عذاب الهون بما كانوا يستكبرون في الأرض) فأذاقهم الله الهوان والذل بكبريائهم واستكبارهم في الأرض بغير الحق.) وقال : (ومن يهن الله فما له من مكرم) والإنسان إذا أمرك فقد تشعر بأن هذا إذلال وهوان لك فيقول: "الله لا يهينك".
س37: وسئل فضيلة الشيخ: عن هذه العبارة "الله يسأل عن حالك"؟(/3)
جـ76: فأجاب بقوله: هذه العبارة: "الله يسأل عن حالك"،جـ77: لا تجوز لأنها توهم أن الله تعالى يجهل الأمر فيحتاج إلى أن يسأل،جـ78: وهذا من المعلوم أنه أمر منكر عظيم،جـ79: والقائل لا يريد هذا في الواقع لا يريد أن الله يخفى عليه شيء،جـ80: ويحتاج إلى سؤال،جـ81: لكن هذه العبارة قد تفيد هذا المعنى،جـ82: أو توهم هذا المعنى،جـ83: فالواجب العدول عنها،جـ84: واستبدالها بأن تقول: "اسأل الله أن يحتفي بك"،جـ85: و"أن يلطف بك" ،جـ86: وما أشبهها.
س38: وسئل: هل يجوز للإنسان أن يقسم على الله؟
جـ87: فأجاب بقوله: الإقسام على الله أن يقول الإنسان والله لا يكون كذا وكذا،جـ88: أو والله لا يفعل الله كذا وكذا والإقسام على الله نوعان:
أحدهما: أن يكون الحامل عليه قوة ثقة المقسم بالله عز وجل وقوة إيمانه به مع اعترافه بضعفه وعدم إلزامه الله بشيء فهذا جائز ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: "رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره" ودليل آخر واقعي وهو حديث أنس بن النضر حينما كسرت أخته الربيع سناً لجارية من الأنصار، فطالب أهلها بالقصاص فطلبوا إليهم العفو فأبوا، فعرضوا الأرض فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فقال أنس بن النضر أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنس كتاب الله القصاص" فرضي القوم فعفوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" وهو رضي الله عنه لم يقسم اعتراضاً على الحكم وإباء لتنفيذه فجعل الله الرحمة في قلوب أولياء المرأة التي كسرت سنها فعفوا عفوا مطلقاً، عند ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" فهذا النوع من الإقسام لا بأس به.
النوع الثاني: من الإقسام على الله: ما كان الحامل عليه الغرور والإعجاب بالنفس وأنه يستحق على الله كذا وكذا، فهذا والعياذ بالله محرم، وقد يكون محبطاً للعمل، ودليل ذلك أن رجلاً كان عابداً وكان يمر بشخص عاص لله، وكلما مر به نهاه فلم ينته، فقال ذات يوم والله لا يغفر الله لفلان –نسأل الله العافية- فهذا تحجر رحمة الله، لأنه مغرور بنفسه فقال الله عز وجل (من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان قد غفرت له وأحبط عملك) قال أبو هريرة: "تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته". ومن هذا نأخذ أن من أضر ما يكون على الإنسان اللسان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله" قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه فقال: كف عليك هذا، فقال: يا رسول الله وإنما لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" والله الموفق والهادي إلى سواء الصراط.
س39: س:وسئل فضيلة الشيخ: عن التسمي بالإمام؟
جـ89: فأجاب قائلاً: التسمي بالإمام أهون بكثير من التسمي بشيخ الإسلام لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى إمام المسجد إماماً ولو لم يكن معه إلا واحد،جـ90: لكن ينبغي أن لا يتسامح في إطلاق كلمة "إمام" إلا على من كان قدوة وله أتباع كالإمام أحمد وغيره ممن له أثر في الإسلام،جـ91: ووصف الإنسان بما لا يستحقه هضم للأمة،جـ92: لأن الإنسان إذا تصور أن هذا إمام وهذا إمام ممن لم يبلغ منزلة الإمامة هان الإمام الحق في عينه.
س40: سئل فضيلة الشيخ: عن إطلاق بعض الأزواج على زوجاتهم وصف أم المؤمنين؟
جـ93: فأجاب فضيلته بقوله: هذا حرام،جـ94: ولا يحل لأحد أن يسمي زوجته أم المؤمنين،جـ95: لأن مقتضاه أن يكون هو نبي،جـ96: لأن الذي يوصف بأمهات المؤمنين هن زوجات النبي،جـ97: عليه الصلاة والسلام،جـ98: وهل هو يريد أن يتبوأ مكان النبوة وأن يدعو نفسه بعد النبي؟ بل الواجب على الإنسان أن يتجنب مثل هذه الكلمات،جـ99: وأن يستغفر الله تعالى مما جرى منه.
س41: سئل فضيلة الشيخ: ما حكم قول "يا عبدي" و "يا أمتي"؟
جـ100: فأجاب: قول القائل: "يا عبدي" ،جـ101: "يا أمتي"،جـ102: ونحوه له صورتان:
الصورة الأولى: أن يقع بصيغة النداء مثل: يا عبدي، يا أمتي، فهذا لا يجوز للنهي عنه في قوله صلى الله عليه وسلم "لا يقل أحدكم عبدي وأمتي".
الصورة الثانية: أن يكون بصيغة الخبر وهذا على قسمين:
القسم الأول: إن قاله بغيبة العبد، أو الأمة فلا بأس فيه.
القسم الثاني: إن قاله في حضرة العبد أو الأمة، فإن ترتب عليه مفسدة تتعلق بالعبد أو السيد منع وإلا فلا، لأن القائل بذلك لا يقصد العبودية التي هي الذل، وإنما يقصد أنه مملوك له وإلى هذا التفصيل الذي ذكرناه أشار في (تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد) في باب لا يقول عبدي وأمتي. وذكره صاحب فتح الباري عن مالك.
س42: وسئل فضيلة الشيخ: عن قول الإنسان: "أنا حر"؟(/4)
جـ103: فأجاب بقوله: إذا قال ذلك رجل حر وأراد أنه حر من رق الخلق،جـ104: فنعم هو حر من رق الخلق،جـ105: وأما إن أراد أنه حر من رق العبودية لله عز وجل فقد أساء في فهم العبودية،جـ106: ولم يعرف معنى الحرية،جـ107: لأن العبودية لغير الله هي الرق،جـ108: أما عبودية المرء لربه عز وجل فهي الحرية فإنه إن لم يذل لله ذل لغير الله،جـ109: فيكون هنا خادعاً نفسه إذا قال: إنه حر يعني إنه متجرد من طاعة الله،جـ110: ولن يقوم بها.
س43: سئل فضيلة الشيخ: عن قول العاصي عند الإنكار عليه "أنا حر في تصرفاتي"؟
جـ111: فأجاب بقوله: هذا خطأ،جـ112: نقول: لست حراً في معصية الله،جـ113: بل إنك إذا عصيت ربك فقد خرجت من الرق الذي تدعيه في عبودية الله إلى رق الشيطان والهوى.
س44: سئل فضيلة الشيخ عن قول الإنسان: "إن الله على ما يشاء قدير" عند ختم الدعاء ونحوه؟
جـ114: فأجاب بقوله: هذا لا ينبغي لوجوه:
الأول: أن الله تعالى إذا ذكر وصف نفسه بالقدرة لم يقيد لذلك بالمشيئة في قوله تعالى: (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير) وقوله: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) وقوله (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض) فعمم في القدرة كما عمم في الملك وقوله (ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير) فعمم في الملك والقدرة، وخص الخلق بالمشيئة لأن الخلق فعل، والفعل لا يكون إلا بالمشيئة، أما القدرة فصفة أزلية أبدية شاملة لما شاء وما لم يشأه، لكن ما شاءه سبحانه وقع وما لم يشأه لم يقع والآيات في ذلك كثيرة.
الثاني: أن تقييد القدرة بالمشيئة خلاف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه فقد قال الله عنهم: (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير) ولم يقولوا "إنك على ما تشاء قدير"، وخير الطريق طريق الأنبياء وأتباعهم فإنهم أهدى علما وأقوم عملاً.
الثالث: أن تقييد القدرة بالمشيئة يوهم اختصاصها بما يشاؤه الله تعالى فقط، لا سيما وأن ذلك التقييد يؤتى به في الغالب سابقاً حيث يقال: "على ما يشاء قدير" وتقديم المعمول يفيد الحصر كما يعلم ذلك في تقرير علماء البلاغة وشواهده من الكتاب والسنة واللغة، وإذا خصت قدرة الله تعالى بما يشاؤه كان ذلك نقصاً في مدلولها وقصراً لها عن عمومها فتكون قدرة الله تعالى ناقصة حيث انحصرت فيما يشاؤه، وهو خلاف الواقع فإن قدرة الله تعالى عامة فيما يشاؤه وما لم يشأه، لكن ما شاءه فلا بد من وقوعه، وما لم يشأه فلا يمكن وقوعه.
فإذا تبين أن وصف الله تعالى بالقدرة لا يقيد بالمشيئة بل يطلق كما أطلقه الله تعالى لنفسه فإن ذلك لا يعارضه قول الله تعالى: (وهو على جمعهم إذا يشاء قدير) فإن المقيد هنا بالمشيئة هو الجمع لا القدرة، والجمع فعل لا يقع إلا بالمشيئة ولذلك قيد بها فمعنى الآية أن الله تعالى قادر على جمعهم متى شاء وليس بعاجز عنه كما يدعيه من ينكره ويقيده بالمشيئة رد لقول المشركين الذين قال الله تعالى عنهم: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين، قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون) فلما طلبوا الإتيان بآبائهم تحدياً وإنكاراً لما يجب الإيمان به من البعث، بين الله تعالى أن ذلك الجمع الكائن في يوم القيامة لا يقع إلا بمشيئته ولا يوجب وقوعه تحدي هؤلاء وإنكارهم كما قال الله تعالى (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن) والحاصل أن قوله تعالى : (وهو على جمعهم إذا يشاء قدير) لا يعارض ما قررناه من قبل لأن القيد بالمشيئة ليس عائداً إلى القدرة وإنما يعود إلى الجمع.(/5)
وكذلك لا يعارضه ما ثبت في صحيح مسلم في كتاب "الإيمان" في "باب آخر أهل النار خروجاً" من حديث ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آخر من يدخل الجنة رجل" فذكر الحديث وفيه أن الله تعالى قال للرجل: "إني لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قادر" وذلك لأن القدرة في هذا الحديث ذكرت لتقرير أمر واقع والأمر الواقع لا يكون إلا بعد المشيئة، وليس المراد بها ذكر الصفة المطلقة التي هي وصف الله تعالى أزلاً وأبداً، ولذلك عبر عنها باسم الفاعل "قادر" دون الصفة المشبهة "قدير" وعلى هذا فإذا وقع أمر عظيم يستغربه المرء أو يستبعده فقيل له في تقريره إن الله على ما يشاء قادر فلا حرج في ذلك، وما زال الناس يعبرون بمثل هذا في مثل ذلك، فإذا وقع أمر عظيم يستغرب أو يستبعد قالوا قادر على ما يشاء، فيجب أن يعرف الفرق بين ذكر القدرة على أنها صفة الله تعالى فلا تقيد بالمشيئة وبين ذكرها لتقرير أمر واقع فلا مانع من تقييدها بالمشيئة لأن الواقع لا يقع إلا بالمشيئة، والقدرة هنا ذكرت لإثبات ذلك الواقع وتقرير وقوعه، والله سبحانه أعلم.
س45: سئل فضيلة الشيخ: عن حكم قول الإنسان "أنا مؤمن إن شاء الله"؟
جـ115: فأجاب بقوله: قول القائل "أنا مؤمن إن شاء الله" يسمى عند العلماء (مسألة الاستثناء في الإيمان) وفيه تفصيل:
أولاً: إن كان الاستثناء صادراً عن شك في وجود أصل الإيمان فهذا محرم بل كفر، لأن الإيمان جزم والشك ينافيه.
ثانياً: إن كان صادراً عن خوف تزكية النفس والشهادة لها بتحقيق الإيمان قولاً وعملاً واعتقاداً، فهذا واجب خوفاً من هذا المحذور.
ثالثاً: إن كان المقصود من الاستثناء التبرك بذكر المشيئة، أو بيان التعليل وأن ما قام بقلبه من الإيمان بمشيئة الله، فهذا جائز والتعليق على هذا الوجه أعني بيان التعليل لا ينافي تحقق المعلق فإنه قد ورد التعليق على هذا الوجه في الأمور المحققة كقوله تعالى: (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون) والدعاء في زيارة القبور "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" وبهذا عرف أنه لا يصح إطلاق الحكم على الاستثناء في الإيمان بل لا بد من التفصيل السابق.
س46: سئل فضيلة الشيخ: عن قول "فلان المرحوم". و "تغمده الله برحمته" و "انتقل إلى رحمة الله"؟
جـ116: فأجاب بقوله: قول "فلان المرحوم"،جـ117: أو "تغمده الله برحمته" لا بأس بها،جـ118: لأن قولهم"المرحوم" من باب التفاؤل والرجاء،جـ119: وليس من باب الخبر،جـ120: وإذا كان من باب التفاؤل والرجاء فلا بأس به.
وأما "انتقل إلى رحمة الله" فهو كذلك فيما يظهر لي أنه من باب التفاؤل، وليس من باب الخبر، لأن مثل هذا من أمور الغيب ولا يمكن الجزم به، وكذلك لا يقال "انتقل إلى الرفيق الأعلى".
س47: سئل فضيلة الشيخ: عن عبارة "لكم تحياتنا" وعبارة "أهدي لكم تحياتي"؟
جـ121: فأجاب قائلاً: عبارة "لكم تحياتنا،جـ122: وأهدي لكم تحياتي" ونحوهما من العبارات لا بأس بها قال الله تعالى : (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها). فالتحية من شخص لآخر جائزة،جـ123: وأما التحيات المطلقة العامة فهي لله،جـ124: كما أن الحمد لله،جـ125: والشكر لله،جـ126: ومع هذا فيصح أن نقول حمدت فلاناً على كذا قال الله تعالى (أن اشكر لي ولوالديك).
س48: وسئل فضيلة الشيخ: يقول بعض النا"أوجد الله كذا"،س49: فما مدى صحتها؟ وما الفرق بينهما وبين: "خلق الله كذا" أو "صور الله كذا"؟
جـ127: فأجاب بقوله: أوجد وخلق ليس بينهما فرق،جـ128: فلو قال: أوجد الله كذا كانت بمعنى خلق الله كذا،جـ129: وأما صور فتختلف لأن التصوير عائد إلى الكيفية لا إلى الإيجاد.
س50: سئل فضيلة الشيخ: عن حكم التسمي بإيمان؟
جـ130: فأجاب بقوله: الذي أرى أن اسم إيمان فيه تزكية وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غير اسم "برة" خوفاً من التزكية ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن زينب كان اسمها برة فقيل تزكي نفسها فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب 10/575فتح،جـ131: وفي صحيح مسلم 3/1687 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت جويرية اسمها برة فحول النبي صلى الله عليه وسلم اسمها جويرية وكان يكره أن يقال خرج من عند برة،جـ132: وفيه أيضاً ص1688 عن محمد بن عمرو بن عطاء قال سميت ابنتي برة فقالت لي زينب بنت أبي سلمة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم وسميت برة فقال النبي صلى الله عليه وسلم،جـ133: "لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم" فقالوا: بم نسميها؟ قال: "سموها زينب" فبين النبي صلى الله عليه وسلم وجه الكراهة للاسم الذي فيه التزكية وأنها من وجهين:
الأول: أنه يقال خرج من عند برة وكذلك يقال خرج من برة.
والثاني: التزكية والله أعلم منا بمن هو أهل للتزكية.(/6)
وعلى هذا ينبغي تغيير اسم إيمان لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما فيه تزكية ولا سيما إذا كان اسماً لامرأة لأنه للذكور أقرب منه للإناث لأن كلمة (إيمان)مذكرة.
س51: وسئل فضيلته: عن التسمي بإيمان؟
جـ134: فأجاب بقوله: اسم إيمان يحمل نوعاً من التزكية ولهذا لا تنبغي التسمية به لأن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسم برة لكونه دالاً على التزكية،جـ135: والمخاطب في ذلك هم الأولياء الذين يسمون أولادهم بمثل هذه الأسماء التي تحمل التزكية لمن تسمى بها،جـ136: أما ما كان علماً مجرداً لا يفهم منه التزكية فهذا لا بأس به ولهذا نسمي بصالح وعلي وما أشبههما من الأعلام المجردة التي لا تحمل معنى التزكية.
س52: سئل فضيلة الشيخ: ما حكم هذه الألقاب "حجة الله" "حجة الإسلام" "آية الله"؟
جـ137: فأجاب بقوله هذه الألقاب "حجة الله" "حجة الإسلام" ألقاب حادثة لا تنبغي لأنه لا حجة لله على عباده إلا الرسل.
وأما "آية الله" فإن أريد المعنى الأعم فهو يدخل فيه كل شيء:
وفي كل شيء له آية .. تدل على أنه واحد
وإن أريد أنه آية خارقة فهذا لا يكون إلا على أيدي الرسل، لكن يقال عالم، مفتي، قاضي ، حاكم، إمام لمن كان مستحقاً لذلك.
س53: سئل الشيخ: عن هذه العبارات: "بسم الوطن،س54: بسم الشعب،س55: بسم العروبة"؟
جـ138: فأجاب قائلاً: هذه العبارات إذا كان الإنسان يقصد بذلك أنه يعبر عن العرب أو يعبر عن أهل البلد فهذا لا بأس به،جـ139: وإن قصد التبرك والاستعانة فهو نوع من الشرك،جـ140: وقد يكون شركاً أكبر بحسب ما يقوم في قلب صاحبه من التعظيم بما استعان به.
س56: وسئل فضيلته: هل هذه العبارة صحيحة "بفضل فلان تغير هذا الأمر،س57: أو بجهدي صار كذا"؟
جـ141: فأجاب الشيخ بقوله: هذه العبارة صحيحة،جـ142: إذا كان للمذكور أثر في حصوله،جـ143: فإن الإنسان له فضل على أخيه إذا أحسن إليه،جـ144: فإذا كان للإنسان في هذا الأمر أثر حقيقي فلا بأس أن يقال: هذا بفضل فلان،جـ145: أو بجهود فلان،جـ146: أو ما أشبه ذلك،جـ147: لأن إضافة الشيء إلى سببه المعلوم جائزة شرعاً وحساً،جـ148: ففي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عمه أبي طالب: "لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار". وكان أبو طالب يعذب في نار جهنم في ضحضاح من نار،جـ149: وعليه نعلان يغلي منهما دماغه،جـ150: وهو أهون أهل النار عذاباً –والعياذ بالله- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار".
أما إذا أضاف الشيء إلى سبب وليس بصحيح فإن هذا لا يجوز، وقد يكن شركاً، كما لو أضاف حدوث أمر لا يحدثه إلا الله إلى أحد من المخلوقين، أو أضاف شيئاً إلى أحدٍ من الأموات أنه هو الذي جلبه له فإن هذا من الشرك في الربوبية.
س58: سئل فضيلة الشيخ: عن حكم قول: "البقية في حياتك" عند التعزية ورد أهل الميت بقولهم: "حياتك الباقية"؟
جـ151: فأجاب فضيلته بقوله: لا أرى فيها مانعاً إذا قال الإنسان "البقية في حياتك" لا أرى فيها مانعاً،جـ152: ولكن الأولى أن يقال إن في الله خلفاً من كل هالك،جـ153: أحسن من أن يقال "البقية في حياتك" كذلك الرد عليه إذا غير المعزي هذا الأسلوب فسوف يتغير الرد.
س59: وسئل حفظه الله تعالى: عن حكم ثناء الإنسان على الله تعالى بهذه العبارة "بيده الخير والشر"؟(/7)
جـ154: فأجاب بقوله: أفضل ما يثني به العبد على ربه هو ما أثنى به سبحانه على نفسه أو أثنى به عليه أعلم الناس به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والله عز وجل لم يثن على نفسه وهو يتحدث عن عموم ملكه وتمام سلطانه وتصرفه أن بيده الشر كما في قوله تعالى : (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير). فأثنى سبحانه على نفسه بأن بيده الخير في هذا المقام الذي قد يكون شراً بالنسبة لمحله وهو الإنسان المقدر عليه الذل،جـ155: ولكنه خير بالنسبة إلى فعل الله لصدوره عن حكمة بالغة،جـ156: ولذلك أعقبه بقوله (بيدك الخير) وهكذا كل ما يقدره الله من شرور في مخلوقاته هي شرور بالنسبة لمحالها،جـ157: أما بالنسبة لفعل الله تعالى لها وإيجاده فهي خير لصدورها عن حكمة بالغة،جـ158: فهناك فرق بين فعل الله تعالى الذي هو فعله كله خير،جـ159: وبين مفعولاته ومخلوقاته البائنة عنه ففيها الخير والشر،جـ160: ويزيد الأمر وضوحاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه تبارك وتعالى بأن الخير بيده ونفى نسبة الشر إليه كما في حديث علي رضي الله عنه الذي رواه مسلم وغيره مطولا وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) إلى أن قال: (لبيك وسعديك والخير كله في يديك،جـ161: والشر ليس إليك) فنفى صلى الله عليه وسلم أن يكون الشر إلى الله تعالى لأن أفعاله وإن كانت شراً بالنسبة إلى محالها ومن قامت به فليست شراً بالنسبة إليه تعالى لصدورها عن حكمة بالغة تتضمن الخير،جـ162: وبهذا تبين أن الأولى بل الأوجب في الثناء على الله أن نقتصر على ما أثنى به على نفسه وأثنى به عليه رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه تعالى أعلم بنفسه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق به فنقول: بيده الخير ونقتصر على ذلك كما هو في القرآن الكريم والسنة.
س60: سئل فضيلة الشيخ: عن قول العامة "تباركت علينا" "زارتنا البركة"؟
جـ163: فأجاب قائلاً: قول العامة "تباركت علينا" لا يريدون بهذا ما يريدونه بالنسبة إلى الله عز وجل وإنما يريدون أصابنا بركة من مجيئك،جـ164: والبركة يصح إضافتها إلى الإنسان،جـ165: قال أسيد بن حضير لما نزلت آية التيمم بسبب عقد عائشة الذي ضاع منها قال: "ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر".
وطلب البركة لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن يكون طلب البركة بأمر شرعي معلوم مثل القرآن الكريم قال الله تعالى (وهذا كتاب أنزلناه مبارك) فمن بركته أن من أخذ به وجاهد به حصل له الفتح، فأنقذ الله به أمماً كثيرة من الشرك، ومن بركته أن الحرف الواحد بعشر حسنات وهذا يوفر للإنسان الجهد والوقت.
الأمر الثاني: أن يكون طلب البركة بأمر حسي معلوم، مثل العلم فهذا الرجل يتبرك به بعلمه ودعوته إلى الخير، قال أسيد بن حضير " ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر" فإن الله قد يجري على أيدي بعض الناس من أمور الخير مالا يجريه على يد الآخر.
وهناك بركات موهومة باطلة مثل ما يزعمه الدجالون أن فلاناً الميت الذي يزعمون أنه ولي أنزل عليكم من بركته وما أشبه ذلك، فهذه بركة باطلة لا أثر لها، وقد يكون للشيطان أثر في هذا الأمر لكنها لا تعدو أن تكون آثاراً حسية بحيث أن الشيطان يخدم هذا الشيخ فيكون في ذلك فتنة.
أما كيفية معرفة هل هذه من البركات الباطلة أو الصحيحة؟
فيعرف ذلك بحال الشخص، فإن كان من أولياء الله المتقين المتبعين للسنة المبتعدين عن البدعة فإن الله قد يجعل على يديه من الخير والبركة مالا يحصل لغيره، أما إن كان مخالفاً للكتاب والسنة، أو يدعو إلى باطل فإن بركته موهومة، وقد تضعها الشياطين له مساعدة على باطله.
س61: سئل فضيلة الشيخ: عن إطلاق عبارة: "كتب التراث" على كتب السلف؟
جـ166: فأجاب بقوله: الظاهر أنه صحيح،جـ167: لأن معناه الكتب الموروثة عمن سبق. ولا أعلم في هذا مانعاً.
س62: وسئل فضيلة الشيخ: هل في الإسلام تجديد تشريع؟
جـ168: فأجاب بقوله: من قال: إن في الإسلام تجديد تشريع فالواقع خلافه،جـ169: فالإسلام كمل بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم والتشريع انتهى بها نعم الحوادث والوقائع تتجدد ويحدث في كل عصر ومكان ما لا يحدث في غيره،جـ170: ثم ينظر فيها بتشريع ويحكم عليها على ضوء الكتاب والسنة. ويكون هذا الحكم من التشريع الإسلامي الأول،جـ171: ولا ينبغي أن يسمى تشريعاً جديداً،جـ172: لأنه هضم للإسلام،جـ173: ومخالف للواقع،جـ174: ولا ينبغي أيضاً أن يسمى تغيير للتشريع،جـ175: لما فيه من كسر سياج حرمة الشريعة،جـ176: وهيبتها في النفوس،جـ177: أو تعريضها لتغيير لا يسير على ضوء الكتاب والسنة،جـ178: ولا يرضاه أحد من أهل العلم والإيمان.
أما إذا كان الحكم على الحادثة ليس على ضوء الكتاب والسنة، فهو تشريع باطل، لا يدخل تحت التقسيم في التشريع الإسلامي.(/8)
ولا يرد على ما قلت إمضاء عمر رضي الله عنه للطلاق الثلاث مع أنه كان واحدة لمدة سنتين من خلافته، ومدة عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر لأن هذا من باب التعزير بإلزام المرء ما التزمه ولذا قال عمر رضي الله عنه: "أرى الناس قد تعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم". فأمضاه عليهم، وباب التعزيز واسع في الشريعة، لأن المقصود به التقويم والتأديب.
س63: وسئل عن حكم قولهم: تدخل القدر؟ وتدخلت عناية الله؟
جـ179: فأجاب قائلاً: قولهم "تدخل القدر" لا تصلح لأنها تعني أن القدر اعتدى بالتدخل وأنه كالمتطفل على الأمر،جـ180: مع أنه أي القدر هو الأصل فكيف يقال تدخل؟ والأصح أن يقال: ولكن نزل القضاء والقدر أو غلب القدر ونحو ذلك،جـ181: ومثل ذلك "تدخلت عناية الله" الأولى إبدالها بكلمة حصلت عناية الله،جـ182: أو اقتضت عناية الله.
س64: وسئل: عن حكم التسمي بأسماء الله مثل كريم،س65: وعزيز ونحوهما؟
جـ183: فأجاب بقوله: التسمي بأسماء الله عز وجل يكون على وجهين:
الوجه الأول: وهو على قسمين:
القسم الأول: أن يحلى بـ"ال" ففي هذه الحال لا يسمى به غير الله عز وجل كما لو سميت أحدا بالعزيز، والسيد، والحكيم وما أشبه ذلك فإن هذا لا يسمى به غير الله لأن "ال" هذه تدل على لمح الأصل وهو المعنى الذي تضمنه هذا الاسم.
القسم الثاني: إذا قصد بالاسم معنى الصفة وليس محلى بـ"الـ" فإنه لا يسمى به ولهذا غير النبي صلى الله عليه وسلم كنية أبي الحكم التي تكنى بها لأن أصحابه يتحاكمون إليه فقال النبي عليه الصلاة والسلام "إن الله هو الحكم وإليه الحكم" ثم كناه بأكبر أولاده شريح فدل ذلك على أنه إذا تسمى أحد باسم من أسماء الله ملاحظاً بذلك معنى الصفة التي تضمنها هذا الاسم فإنه يمنع لأن هذه التسمية تكون مطابقة تماماً لأسماء الله سبحانه وتعالى فإن أسماء الله تعالى أعلام وأوصاف لدلالتها على المعنى الذي تضمنه الاسم.
الوجه الثاني: أن يتسمى بالاسم غير محلى بـ"ال" وليس المقصود به معنى الصفة فهذا لا بأس به مثل حكيم ومن أسماء بعض الصحابة حكيم بن حزام الذي قال له النبي عليه الصلاة والسلام، "لا تبع ما ليس عندك" وهذا دليل على أنه إذا لم يقصد بالاسم معنى الصفة فإنه لا بأس به.
لكن في مثل "جبار" لا ينبغي أن يتسمى به وإن كان لم يلاحظ الصفة وذلك لأنه قد يؤثر في نفس المسمى فيكون معه جبروت وغلو واستكبار على الخلق فمثل هذه الأشياء التي قد تؤثر على صاحبها ينبغي للإنسان أن يتجنبها. والله أعلم.
س66: وسئل: عن حكم التسمي بأسماء الله تعالى مثل الرحيم والحكيم؟
جـ184: فأجاب بقوله: يجوز أن يسمي الإنسان بهذه الأسماء بشرط ألا يلاحظ فيها المعنى الذي اشتقت منه بأن تكون مجرد علم فقط،جـ185: ومن أسماء الصحابة الحكم،جـ186: وحكيم بن حزام وكذلك اشتهر بين الناس اسم عادل وليس بمنكر،جـ187: أما إذا لوحظ فيه المعنى الذي اشتقت منه هذه الأسماء فإن الظاهر أنه لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسم ابي الحكم الذي تكنى به،جـ188: لكون قومه يتحاكمون إليه وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله هو الحكم وإليه الحكم" ثم كناه بأكبر أولاده شريح وقال له : "أنت أبو شريح" وذلك أن هذه الكنية التي تكنى بها هذا الرجل لوحظ فيها معنى الاسم فكان هذا مماثلاً لأسماء الله سبحانه وتعالى لأن أسماء الله عز وجل ليست مجرد أعلام بل هي أعلام من حيث دلالتها على ذات الله سبحانه وتعالى وأوصاف من حيث دلالتها على المعنى الذي تتضمنه،جـ189: أما أسماء غيره سبحانه وتعالى فإنها مجرد أعلام إلا أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فإنها أعلام وأوصاف،جـ190: وكذلك أسماء كتب الله عز وجل فهي أعلام وأوصاف أيضاً.
س67: وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم ثناء الإنسان على نفسه؟
جـ191: فأجاب قائلاً: الثناء على النفس إن أراد به الإنسان التحدث بنعمة الله عز وجل أو أن يتأسى به غيره من أقرانه ونظرائه فهذا لا بأس به،جـ192: وإن أراد به الإنسان تزكية نفسه وإدلاله بعمله على ربه عز وجل فإن هذا فيه شيء من المنة فلا يجوز وقد قال الله تعالى : (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين)(سورة الحجرات17).
وإن أراد به مجرد الخبر فلا بأس به لكن الأولى تركه.
فالأحوال إذن في مثل هذا الكلام الذي فيه ثناء المرء على نفسه أربع:
الحال الأولى: أن يريد بذلك التحدث بنعمة الله عليه فيما حباه به من الإيمان والثبات.
الحال الثانية: أن يريد بذلك تنشيط أمثاله ونظرائه على مثل ما كان عليه.
فهاتان الحالتان محمودتان لما يشتملان عليه من هذه النية الطيبة.
الحال الثالثة: أن يريد بذلك الفخر والتباهي والإدلال على الله عز وجل بما هو عليه من الإيمان والثبات وهذا غير جائز لما ذكرنا من الآية.(/9)
الحال الرابعة: أن يريد بذلك مجرد الخبر عن نفسه بما هو عليه من الإيمان والثبات فهذا جائز ولكن الأولى تركه.
س68: سئل فضيلة الشيخ: عن قول "يا حاج" ،س69: و"السيد فلان"؟
جـ193: فأجاب بقوله: قول "حاج" يعني أدى الحج لا شيء فيها.
وأما السيد فينظر إن كان صحيحاً أنه ذو سيادة فيقال: هو سيد بدون أل فلا بأس به، بشرط ألا يكون فاسقاً ولا كافراً، فإن كان فاسقاً أو كافراً فإنه لا يجوز إطلاق لفظ سيد إلا مضافاً إلى قومه، مثل سيد بني فلان، أو سيد الشعب الفلاني ونحو ذلك.
س70: وسئل أيضاً: عن حكم ما درج على ألسنة بعض الناس من قولهم "حرام عليك أن تفعل كذا وكذا"؟
جـ194: فأجاب بقوله: هذا الذي وصفوه بالتحريم إما أن يكون مما حرمه الله كما لو قالوا حرام أن يعتدي الرجل على أخيه وما أشبه ذلك فإن وصف هذا الشيء بالحرام صحيح مطابق لما جاء به الشرع.
وأما إذا كان الشيء غير محرم فإنه لا يجوز أن يوصف بالتحريم ولو لفظاً، لأن ذلك قد يوهم تحريم ما أحل الله عز وجل أو يوهم الحجر على الله عز وجل في قضائه وقدره بحيث يقصدون بالتحريم التحريم القدري، لأن التحريم يكون قدرياً ويكون شرعياً فما يتعلق بفعل الله عز وجل فإنه يكون تحريماً قدرياً، وما يتعلق بشرعه فإنه يكون تحريماً شرعياً وعلى هذا فينهى هؤلاء عن إطلاق مثل هذه الكلمة ولو كانوا لا يريدون بها التحريم الشرعي، لأن التحريم القدري ليس إليهم أيضاً بل هو إلى الله عز جل هو الذي يفعل ما يشاء فيحدث ما شاء أن يحدث ويمنع ما شاء أن يمنعه، فالمهم أن الذي أرى أنهم يتنزهون عن هذه الكلمة وأن يبتعدوا عنها وإن كان قصدهم في ذلك شيئاً صحيحاً والله الموفق.
س71: سئل فضيلة الشيخ: قلتم في الفتوى رقم (457) أن التحريم يكون قدرياً ويكون شرعياً فنأمل من فضيلتكم التكرم ببيان بعض الأمثلة؟
جـ195: فأجاب بقوله: سؤالكم عما ورد في جوابنا رقم (457" من أن التحريم يكون قدرياً ويكون شرعياً وطلبكم أمثلة لذلك فإليكم ما طلبتم:
فمن التحريم القدري قوله تعالى في موسى: (وحرمنا عليه المراضع من قبل). وقوله تعالى : (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) ومن التحريم الشرعي قوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم) وقوله تعالى (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة) الآية.
س72: وسئل فضيلة الشيخ: نسمع ونقرأ كلمة،س73: "حرية الفكر"،س74: وهي دعوة إلى حرية الإعتقاد،س75: فما تعليقكم على ذلك؟
جـ196: فأجاب بقوله: تعليقنا على ذلك أن الذي يجيز أن يكون الإنسان حر الاعتقاد،جـ197: يعتقد ما شاء من الأديان فإنه كافر،جـ198: لأن كل من اعتقد أن أحداً يسوغ له أن يتدين بغير دين محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كافر بالله عز وجل يستتاب فإن تاب وإلا وجب قتله.
والأديان ليست أفكاراً، ولكنها وحي من الله عز وجل ينزله على رسله ليسير عباده عليه، وهذه الكلمة أعني كلمة فكر التي يقصد بها الدين. يجب أن تحذف من قواميس الكتب الإسلامية، لأنها تؤدي إلى هذا المعنى الفاسد، وهو أن يقال عن الإسلام: فكر، والنصرانية فكر، واليهودية فكر وأعني بالنصرانية التي يسميها أهلها بالمسيحية فيؤدي إلى أن تكون هذه الشرائع مجرد أفكار أرضية يعتنقها من شاء من الناس، والواقع أن الأديان السماوية أديان سماوية من عند الله عز وجل يعتقدها الإنسان على أنها وحي من الله تعبد بها عباده، ولا يجوز أن يطلق عليها "فكر".
وخلاصة الجواب: أن من اعتقد أنه يجوز لأحد أن يتدين بما شاء وأنه حر فيما يتدين به فإنه كافر بالله عز وجل لأن الله تعالى يقول: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه). ويقول: (إن الدين عند الله الإسلام). فلا يجوز لأحد أن يعتقد أن ديناً سوى الإسلام جائز يجوز للإنسان أن يتعبد به بل إذا اعتقد هذا فقد صرح أهل العلم بأنه كافر كفراً مخرجاً عن الملة.
س76: سئل فضيلة الشيخ: هل يجوز أن يقول الإنسان للمفتي ما حكم الإسلام في كذا وكذا؟ أو ما رأي الإسلام؟
جـ199: فأجاب بقوله: لا ينبغي أن يقال "ماحكم الإسلام في كذا"،جـ200: أو "ما رأي الإسلام في كذا" فإنه قد يخطئ فلا يكون ما قاله حكم الإسلام،جـ201: لكن لو كان الحكم نصاً صريحاً فلا بأس مثل أن يقول: ما حكم الإسلام في أكل الميتة؟ فنقول: حكم الإسلام في أكل الميتة أنها حرام.
س77: سئل فضيلة الشيخ: عن وصف الإنسان بأنه حيوان ناطق؟(/10)
جـ202: فأجاب بقوله: الحيوان الناطق يطلق على الإنسان كما ذكره أهل المنطق،جـ203: وليس فيه عندهم عيب،جـ204: لأنه تعريف بحقيقة الإنسان،جـ205: لكنه في العرف قول يعتبر قدحاً في الإنسان،جـ206: ولهذا إذا خاطب الإنسان به عامياً فإن العامي سيعتقد أن هذا قدح فيه،جـ207: وحينئذ لا يجوز أن يخاطب به العامي،جـ208: لأن كل شيء يسيء إلى المسلم فهو حرام،جـ209: أما إذا خوطب به من يفهم الأمر على حسب اصطلاح المناطقة،جـ210: فإن هذا لا حرج فيه،جـ211: لأن الإنسان لا شك أنه حيوان باعتبار أن فيه حياة،جـ212: وأن الفصل الذي يميزه عن غيره من بقية الحيوانات هو النطق. ولهذا قالوا: إن كلمة (حيوان) جنس،جـ213: وكلمة "ناطق" فصل،جـ214: والجنس يعم المعرف وغيره،جـ215: والفصل يميز المعرف عن غيره.
س78: سئل فضيلة الشيخ: عن قول بعض النا(خسرت في الحج كذا،س79: وخسرت في العمرة كذا،س80: وخسرت في الجهاد كذا،س81: وكذا)؟
جـ216: فأجاب قائلاً: هذه العبارات غير صحيحة،جـ217: لأن ما بذل في طاعة الله ليس بخسارة،جـ218: بل هو الربح الحقيقي،جـ219: وإنما الخسارة ما صرف في معصية،جـ220: أو في ما لا فائدة فيه،جـ221: وأما ما فيه فائدة دنيوية أو دينية فإنه ليس بخسارة.
س82: سئل فضيلة الشيخ: عن قول الإنسان لرجل: "أنت يا فلان خليفة الله في أرضه"؟
جـ222: حـ: فأجاب بقوله: إذا كان ذلك صدقاً بأن كان هذا الرجل خليفة يعني ذا سلطان تام على البلد،جـ223: وهو ذو السلطة العليا على أهل هذا البلد،جـ224: فإن هذا لا بأس به،جـ225: ومعنى قولنا "خليفة الله" أن الله استخلفه على العباد في تنفيذ شرعه،جـ226: لأن الله تعالى استخلفه على الأرض،جـ227: والله سبحانه وتعالى مستخلفنا في الأرض جميعاً وناظر ما كنا نعمل وليس يراد بهذه الكلمة أن الله تعالى يحتاج إلى أحد يخلفه،جـ228: في خلقه أو يعينه على تدبير شئونهم،جـ229: ولكن الله جعله خليفة يخلف من سبقه،جـ230: ويقوم بأعباء ما كلفه الله.
س83: وسئل فضيلته: يستخدم بعض الناس عبارة (راعني) ويقصدون بها انظرني،س84: فما صحة هذه الكلمة؟
جـ231: فأجاب قائلاً: الذي أعرف أن كلمة: (راعني) يعني من المراعات أي أنزل لنا في السعر مثلاً،جـ232: وانظر إلى ما أريد،جـ233: ووافقني عليه،جـ234: وما أشبه ذلك،جـ235: وهذه لا شيء فيها وأما قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولا انظرنا).
فهذا كان اليهود يقولون (راعنا)، من الرعونة فينادون بذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يريدون الدعاء عليه، فلهذا قال الله لهم: (وقولوا انظرنا) وأما (راعني) فليست مثل (راعنا)، لأن راعنا منصوبة بالألف وليست بالياء.
س85: وسئل حفظه الله: ما حكم قول (رب البيت)؟ (رب المنزل)؟
جـ236: فأجاب: قولهم رب البيت ونحوه ينقسم أقساماً أربعة:
القسم الأول: أن تكون الإضافة إلى ضمير المخاطب في معنى لا يليق بالله –عز وجل- مثل أن يقول "أطعم ربك" فهذا منهي عنه لوجهين:
الوجه الأول: من جهة الصيغة لأنه يوهم معنى فاسداً بالنسبة لكلمة رب، لأن الرب من أسمائه سبحانه، وهو سبحانه يطعم ولا يطعم، وإن كان لا شك إن الرب هنا غير الرب الذي يطعم ولا يطعم.
الوجه الثاني: من جهة أنك تشعر العبد أو الأمة بالذل لأنه إذا كان السيد ربا كان العبد مربوباً والأمة مربوبة.
وأما إذا كان في معنى يليق بالله تعالى مثل أطع ربك كان النهي عنه من أجل الوجه الثاني.
القسم الثاني: أن تكن الإضافة إلى ضمير الغائب مثل ربه، وربها، فإن كان في معنى لا يليق بالله كان من الأدب اجتنابه، مثل أطعم العبد ربه أو أطعمت الأمة ربها، لئلا يتبادر منه إلى الذهن معنى لا يليق بالله.
وإن كان في معنى يليق بالله مثل أطاع العبد ربه وأطاعت الأمة ربها فلا بأس بذلك لانتفاء المحذور.
ودليل ذلك قوله، صلى الله عليه وسلم في حديث اللقطة في ضالة الإبل وهو حديث متفق عليه (حتى يجدها ربها) وقال بعض أهل العلم إن حديث اللقطة في بهيمة لا تتعبد ولا تتذلل كالإنسان، والصحيح عدم الفارق لأن البهيمة تعبد الله عبادة خاصة بها. قال تعالى: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب) وقال في العباد (وكثير من الناس) ليس جميعهم (وكثير حق عليه العذاب).
القسم الثالث: إن تكون الإضافة إلى ضمير المتكلم فقد يقول قائل بالجواز لقوله تعالى حكاية عن يوسف : (إنه ربي أحسن مثواي) أي سيدي، وإن المحذور هو الذي يقتضي الإذلال وهذا منتف لأن هذا من العبد لسيده.
القسم الرابع: أن يضاف إلى الاسم الظاهر فيقال: هذا رب الغلام فظاهر الحديث الجواز وهو كذلك ما لم يوجد محذور فيمنع كما لو ظن السامع أن السيد رب حقيقي خالق لمملوكه.
س86: سئل فضيلة الشيخ: عن قول من يقول إن الإنسان يتكون من عنصرين عنصر من التراب وهو الجسد،س87: وعنصر من الله وهو الروح؟
جـ237: فأجاب بقوله: هذا الكلام يحتمل معنيين:(/11)
أحدهما: أن الروح جزء من الله.
والثاني: أن الروح من الله خلقاً.
وأظهرهما أنه أراد أن الروح جزء من الله لأنه لو أراد أن الروح من الله خلقاً لم يكن بينها وبين الجسد فرق إذ الكل من الله تعالى خلقا وإيجاداً.
والجواب على قوله: أن نقول لا شك أن الله أضاف روح آدم إليه في قوله تعالى : (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) وأضاف روح عيسى إليه فقال: (ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا) وأضاف بعض مخلوقات أخرى إليه كقوله : (وطهر بيتي للطائفين والقائمين) وقوله: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه) وقوله عن رسوله صالح: (فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها) ولكن المضاف إلى الله نوعان:
أحدهما: ما يكون منفصلاً بائناً عنه، قائماً بنفسه أو قائماً بغيره، فإضافته إلى الله تعالى إضافة خلق وتكوين، ولا يكون ذلك إلا فيما يقصد به تشريف المضاف أو بيان عظمة الله تعالى لعظم المضاف، فهذا النوع لا يمكن أن يكون من ذات الله، ولا من صفاته أما كونه لا يمكن أن يكون من ذات الله تعالى فلأن ذات الله تعالى واحدة لا يمكن أن تتجزأ أو تتفرق، وأما كونه لا يمكن أن يكون من صفات الله فلأن الصفة معنى في الموصوف لا يمكن أن تنفصل عنه، كالحياة، والعلم، والقدرة، والقوة، والسمع، والبصر وغيرها. فإن هذه الصفات صفات لا تباين موصوفها، ومن هذا النوع إضافة الله تعالى روح آدم وعيسى إليه وإضافة البيت وما في السماوات الأرض إليه وإضافة الناقة إليه، فروح آدم، وعيسى قائمة بهما، وليست من ذات الله تعالى ولا من صفاته قطعاً والبيت وما في السماوات والأرض، والناقة أعيان قائمة بنفسها، وليست من ذات الله ولا من صفاته، وإذا كان لا يمكن لأحد أن يقول: إن بيت الله، وناقة الله من ذاته ولا من صفاته فكذلك الروح التي أضافها إليه ليست من ذاته ولا من صفاته، ولا فرق بينهما إذ الكل بائن منفصل عن الله عز وجل وكما أن البيت والناقة من الأجسام فكذلك الروح جسم تحل بدن الحي بإذن الله، يتوفاها الله حين موتها، ويمسك التي قضى عليها الموت، ويتبعها بصر الميت حين تقبض، لكنها جسم من جنس آخر.
النوع الثاني من المضاف إلى الله: مالا يكون منفصلاً عن الله بل هو من صفاته الذاتية أو الفعلية، كوجهه، ويده، وسمعه ، وبصره، واستوائه على عرشه، ونزوله إلى السماء الدنيا، ونحو ذلك، فإضافته إلى الله تعالى من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، وليس من باب إضافة المخلوق والمملوك إلى مالكه وخالقه.
وقول المتكلم "إن الروح من الله" يحتمل معنى آخر غير ما قلنا: إنه الأظهر، وهو أن البدن مادته معلومة، وهي التراب، أما الروح فمادتها غير معلومة، وهذا المعنى صحيح. كما قال الله تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً). وهذه والله أعلم من الحكمة في إضافتها إليه أنها أمر لا يمكن أن يصل إليه علم البشر بل هي مما استأثر الله بعلمه كسائر العلوم العظيمة الكثيرة التي لم نؤت منها إلا القليل، ولا نحيط بشيء من هذا القليل إلا بما شاء الله تبارك وتعالى.
فنسأل الله تعالى أن يفتح علينا من رحمته وعلمه ما به صلاحنا، وفلاحنا في الدنيا والآخرة.
س88: سئل فضيلة الشيخ: عن المراد بالروح والنفس؟ والفرق بينهما؟
جـ238: فأجاب قائلاً: الروح في الغالب تطلق على ما به الحياة سواءً كان ذلك حساً أو معنى،جـ239: فالقرآن يسمى روحاً قال الله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) لأن به حياة القلوب بالعلم والإيمان،جـ240: والروح التي يحيى بها البدن تسمى روحاً كما قال الله تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي).
أما النفس فتطلق على ما تطلق عليه الروح كثيراً كما في قوله تعالى : (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى).
وقد تطلق النفس على الإنسان نفسه، فيقال جاء فلان نفسه، فتكون بمعنى الذات، فهما يفترقان أحياناً، ويتفقان أحياناً، بحسب السياق.(/12)
وينبغي بهذه المناسبة أن يعلم أن الكلمات إنما يتحدد معناها بسياقها فقد تكون الكلمة الواحدة لها معنى في سياق، ومعنى آخر في سياق، فالقرية مثلاً تطلق أحياناً على نفس المساكن، وتطلق أحياناً على الساكن نفسه ففي قوله تعالى عن الملائكة الذين جاءوا إبراهيم (قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية) المراد بالقرية هنا المساكن، وفي قوله تعالى: (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً) المراد بها الساكن، وفي قوله تعالى : (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها) المراد بها المساكن، وفي قوله: (واسأل القرية التي كنا فيها)المراد بها الساكن، فالمهم أن الكلمات إنما يتحدد معناها بسياقها وبحسب ما تضاف إليه، وبهذه القاعدة المفيدة المهمة يتبين لنا رجحان ما ذهب إليه كثير من أهل العلم من أن القرآن الكريم ليس فيه مجاز، وأن جميع الكلمات التي في القرآن كلها حقيقة، لأن الحقيقة هي ما يدل عليه سياق الكلام بأي صيغة كان، فإذا كان الأمر كذلك تبين لنا بطلان قول من يقول إن في القرآن مجازاً، وقد كتب في هذا أهل العلم وبينوه، ومن أبين ما يجعل هذا القول صواباً أن من علامات المجاز صحة نفيه بمعنى أنه يصح أن تنفيه فإذا قال: فلان أسد، صح لك نفيه، وهذا لا يمكن أن يكون في القرآن، فلا يمكن لأحد أن ينفي شيئاً مما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم.
س89: سئل فضيلة الشيخ: عن حكم إطلاق لفظ (السيد) على غير الله تعالى؟
جـ241: فأجاب بقوله: إطلاق السيد على غير الله تعالى إن كان يقصد معناه وهي السيادة المطلقة فهذا لا يجوز،جـ242: وإن كان يقصد به مجرد الإكرام فإن كان المخاطب به أهلاً للإكرام فلا بأس به. ولكن لا يقول: السيد بل يقول يا سيد،جـ243: أو نحو ذلك،جـ244: وإن كان لا يقصد به السيادة والإكرام وإنما هو مجرد اسم فهذا لا بأس به.
س90: سئل فضيلة الشيخ: من الذي يستحق أن يوصف بالسيادة؟
جـ245: فأجاب بقوله: لا يستحق أحد أن يوصف بالسيادة المطلقة إلا الله عز وجل فالله تعالى هو السيد الكامل السؤدد،جـ246: أما غيره فيوصف بسيادة مقيدة مثل سيد ولد آدم،جـ247: لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،جـ248: والسيادة قد تكون بالنسب،جـ249: وقد تكون بالعلم،جـ250: وقد تكون بالكرم،جـ251: وقد تكون بالشجاعة،جـ252: وقد تكون بالملك،جـ253: كسيد المملوك،جـ254: وقد تكون بغير ذلك من الأمور التي يكون بها الإنسان سيداً،جـ255: وقد يقال للزوج سيد بالنسبة لزوجته،جـ256: كما في قوله تعالى: (وألفيا سيدها لدا الباب).
فأما السيد في النسب فالظاهر أن المراد به من كان من نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أولاد فاطمة رضي الله عنها أي ذريتها من بنين وبنات وكذلك الشريف وربما يراد بالشريف من كان هاشمياً وأياً كان الرجل أو المرأة سيداً أو شريفاً فإنه لا يمتنع شرعاً أن يتزوج من غير السيد والشريف، فهذا سيد بني آدم وأشرفهم، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد زوج ابنتيه رقية وأم كلثوم عثمان بن عفان، وليس هاشمياً، وزوج ابنته زينب أبا العاص بن الربيع وليس هاشمياً.
س91: وسئل فضيلته عن الجمع بين حديث عبدالله بن الشخير رضي الله عنه قال: "انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا أنت سيدنا فقال: (السيد الله تبارك وتعالى). وما جاء في التشهد (اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد) وحديث "أنا سيد ولد آدم"؟
جـ257: فأجاب قائلاً: لا يرتاب عاقل أن محمداً صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم فإن كل عاقل مؤمن يؤمن بذلك،جـ258: والسيد هو ذو الشرف والطاعة والإمرة،جـ259: وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم من طاعة الله سبحانه وتعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) ونحن وغيرنا من المؤمنين لا نشك أن نبينا صلى الله عليه وسلم سيدنا وخيرنا وأفضلنا عند الله سبحانه وتعالى وأنه المطاع فيما يأمر به صلوات الله وسلامه عليه ومن مقتضى اعتقادنا أنه السيد المطاع،جـ260: عليه الصلاة والسلام أن لا نتجاوز ما شرع لنا من قول أو فعل أو عقيدة ومما شرعه لنا في كيفية الصلاة عليه في التشهد "أن نقول اللهم صل على محمد،جـ261: وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم،جـ262: وعلى آل إبراهيم،جـ263: إنك حميد مجيد" أو نحوها من الصفات الواردة في كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ولا أعلم أن صفة وردت بالصيغة التي ذكرها السائل وهي "اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد" وإذا لم ترد هذه الصيغة عن النبي عليه الصلاة والسلام فإن الأفضل ألا نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بها وإنما نصلي عليه بالصيغة التي علمنا إياها.(/13)
وبهذه المناسبة أود أن أنبه إلى أن كل إنسان يؤمن بأن محمداً صلى الله عليه وسلم سيدنا فإن مقتضى هذا الإيمان أن لا يتجاوز الإنسان ما شرعه وأن لا ينقص عنه، فلا يبتدع في دين الله ما ليس منه، ولا ينقص من دين الله ما هو منه، فإن هذا هو حقيقة السيادة التي هي من حق النبي صلى الله عليه وسلم علينا.
وعلى هذا فإن أولئكم المبتدعين لأذكار أو صلوات على النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بها شرع الله على لسان رسوله محمد صلى الله ع ليه وسلم تنافي دعوى أن هذا الذي ابتدع يعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلم سيد لأن مقتضى هذه العقيدة أن لا يتجاوز ما شرع وأن لا ينقص منه فليتأمل الإنسان وليتدبر ما يعنيه بقوله حتى يتضح له الأمر ويعرف انه تابع لا مشرع.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا سيد ولد آدم" والجمع بينه وبين قوله: "السيد الله" أن السيادة المطلقة لا تكون إلا لله وحده فإنه تعالى هو الذي له الأمر كله فهو الآمر وغيره مأمور، وهو الحاكم وغيره محكوم، وأما غيره فسيادته نسبية إضافية تكون في شيء محدود، وفي زمن محدود، ومكان محدود، وعلى قوم دون قوم، أو نوع من الخلائق دون نوع.
س92: وسئل فضيلته: عن هذه العبارة "السيدة عائشة رضي الله عنها"؟
جـ264: فأجاب قائلاً: لا شك أن عائشة رضي الله عنها من سيدات نساء الأمة،جـ265: ولكن إطلاق "السيدة" على المرأة و"السيدات" على النساء هذه الكلمة متلقاة فيما أظن من الغرب حيث يسمون كل امرأة سيدة وإن كانت من أوضع النساء،جـ266: لأنهم يسودون النساء أي يجعلونهن سيدات مطلقاً،جـ267: والحقيقة أن المرأة امرأة،جـ268: وأن الرجل رجل،جـ269: وتسمية المرأة بالسيدة على الإطلاق ليس بصحيح،جـ270: نعم من كانت منهن سيدة لشرفها في دينها أو جاهها أو غير ذلك من الأمور المقصودة فلنا أن نسميها سيدة،جـ271: ولكن ليس مقتضى ذلك أننا نسمي كل امرأة سيدة.
كما أن التعبير بالسيدة عائشة، والسيدة خديجة، والسيدة فاطمة ما أشبه ذلك لم يكن معروفاً عند السلف بل كانوا يقولون أم المؤمنين عائشة أم المؤمنين خديجة، فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك.
س93: سئل فضيلة الشيخ: عن الجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم "السيد الله تبارك وتعالى" وقوله صلى الله عليه وسلم "أنا سيد ولد آدم" وقوله "قوموا إلى سيدكم" وقوله في الرقيق "وليقل سيدي"؟
جـ272: فأجاب بقوله: اختلف في ذلك على أقوال:
القول الأول: إن النهي على سبيل الأدب، والإباحة على سبيل الجواز، فالنهي ليس للتحريم حتى يعارض الجواز.
القول الثاني: إن النهي حيث يخشى منه المفسدة وهي التدرج إلى الغلو، والإباحة إذا لم يكن هناك محذور.
القول الثالث: إن النهي بالخطاب أي أن تخاطب الغير بقولك "سيدي أو سيدنا" لأنه ربما يكون في نفسه عجب وغلو إذا دعى بذلك، ولأن فيه شيئاً آخر وهو خضوع هذا المتسيد له وإذلال نفسه له، بخلاف إذا جاء على غير هذا الوجه مثل "قوموا إلى سيدكم" و"وأنا سيد ولد آدم".
لكن هذا يرد عليه إباحته صلى الله عليه وسلم للرقيق أن يقول لمالكه "سيدي"؟
لكن يجاب عن هذا بأن قول الرقيق لمالكه "سيدي" أمر معلوم لا غضاضة فيه، ولهذا يحرم عليه أن يمتنع مما يجب عليه نحو سيده والذي يظهر لي والله أعلم أن هذا جائز لكن بشرط أن يكون الموجه إليه السيادة أهلاً لذلك، وأن لا يخشى محذور من إعجاب المخاطب وخنوع المتكلم، أما إذا لم يكن أهلاً، كما لو كان فاسقاً أو زنديقاً فلا يقال له ذلك حتى ولو فرض أنه أعلى منه مرتبة أو جاهاً، وقد جاء في الحديث "لا تقولوا للمنافق سيد فإنكم إذا قلتم ذلك أغضبتم الله" وكذلك لا يقال إذا خشي محذور من إعجاب المخاطب أو خنوع المتكلم.
س94: وسئل فضيلة الشيخ: عن قول: "شاءت الظروف أن يحصل كذا وكذا"،س95: و"شاءت الأقدار كذا وكذا"؟
جـ273: فأجاب قائلاً: قول : شاءت الأقدار" ،جـ274: و "شاءت الظروف" ألفاظ منكرة،جـ275: لأن الظروف جمع ظرف وهو الأزمان ،جـ276: والزمن لا مشيئة له،جـ277: وكذلك الأقدار جمع قدر،جـ278: والقدر لا مشيئة له،جـ279: وإنما الذي يشاء هو الله عز وجل نعم لو قال الإنسان: "اقتضى قدر الله كذا وكذا". فلا بأس به. أما المشيئة فلا يجوز أن تضاف للأقدار لأن المشيئة هي الإرادة،جـ280: ولا إرادة للوصف،جـ281: إنما الإرادة للموصوف.
س96: وسئل فضيلته: عن حكم قول "وشاءت قدرة الله" و"شاء القدر"؟
جـ282: فأجاب بقوله: لا يصح أن نقول "شاءت قدرة الله" لأن المشيئة إرادة،جـ283: والقدرة معنى،جـ284: والمعنى لا إرادة له،جـ285: وإنما الإرادة للمريد،جـ286: والمشيئة لمن يشاء،جـ287: ولكننا نقول اقتضت حكمة الله كذا وكذا،جـ288: أو نقول عن الشيء إذا وقع هذه قدرة الله أي مقدوره كما تقول: هذا خلق الله أي مخلوقه. وأما أن نضيف أمراً يقتضي الفعل الاختياري إلى القدرة فإن هذا لا يجوز.(/14)
ومثل ذلك قولهم "شاء القدر كذا وكذا" وهذا لا يجوز لأن القدر والقدرة أمران معنويان ولا مشيئة لهما، وإنما المشيئة لمن هو قادر ولمن هو مقدر. والله أعلم.
س97: وسئل فضيلته: هل يجوز إطلاق "شهيد" على شخص بعينه فيقال الشهيد فلان؟
جـ289: فأجاب بقوله : لا يجوز لنا أن نشهد لشخص بعينه أنه شهيد حتى،جـ290: لو قتل مظلوماً،جـ291: أو قتل وهو يدافع عن الحق،جـ292: فإنه لا يجوز أن نقول فلان شهيد وهذا خلاف لما عليه الناس اليوم حيث رخصوا هذه الشهادة وجعلوا كل من قتل حتى ولو كان مقتولاً في عصبية جاهلية يسمونه شهيداً ،جـ293: وهذا حرام لأن قولك عن شخص قتل هو شهيد يعتبر شهادة سوف تسأل عنها يوم القيامة،جـ294: سوف يقال لك هل عندك علم أنه قتل شهيداً؟ ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم "ما من مكلوم يكلم في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يثعب دما،جـ295: اللون لون الدم،جـ296: والريح ريح المسك" فتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "والله أعلم بمن يكلم في سبيله" يكلم : يعني يجرح فإن بعض الناس قد يكون ظاهره أنه يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ولكن الله يعلم ما في قلبه،جـ297: وأنه خلاف ما يظهر من فعله،جـ298: ولهذا بوب البخاري رحمه الله على هذه المسألة في صحيحه فقال "باب لا يقال فلان شهيد" لأن مدار الشهادة على القلب،جـ299: ولا يعلم ما في القلب إلا الله عز وجل فأمر النية أمر عظيم،جـ300: وكم من رجلين يقومان بأمر واحد يكون بينهما كما بين السماء والأرض وذلك من أجل النية فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما الأعمال بالنيات،جـ301: وإنما لكل امرئ ما نوى،جـ302: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله،جـ303: ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" والله أعلم.
س98: سئل فضيلة الشيخ: عن حكم قول فلان شهيد؟
جـ304: فأجاب بقوله: الجواب على ذلك أن الشهادة لأحد بأنه شهيد تكون على وجهين:
أحدهما: أن تقيد بوصف مثل أن يقال كل من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن مات بالطاعون فهو شهيد ونحو ذلك، فهذا جائز كما جاءت به النصوص، لأنك تشهد بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعني بقولنا جائز أنه غير ممنوع وإن كانت الشهادة بذلك واجبة تصديقاً لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن تقيد الشهادة بشخص معين مثل أن تقول لشخص بعينه إنه شهيد، فهذا لا يجوز إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أو اتفقت الأمة على الشهادة له بذلك وقد ترجم البخاري رحمه الله لهذا بقوله: "باب لا يقال فلان شهيد" قال في الفتح 90/6 "أي على سبيل القطع بذلك إلا إن كان بالوحي" وكأنه أشار إلى حديث عمر أنه خطب فقال تقولون في مغازيكم فلان شهيد، ومات فلان شهيداً ولعله قد يكون قد أوقر راحلته، ألا لا تقولوا ذلكم ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات في سبيل الله أو قتل فهو شهيد وهو حديث حسن أخرجه أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما من طريق محمد بن سيرين عن أبي العجفاء عن عمر" ا.هـ كلامه.
ولأن الشهادة بالشيء لا تكون إلا عن علم به، وشرط كون الإنسان شهيداً أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا وهي نية باطنة لا سبيل إلى العلم بها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم مشيراً إلى ذلك: "مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله" وقال: "والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يثعب دماً اللون لون الدم، والريح ريح المسك".
رواهما البخاري من حديث أبي هريرة. ولكن من كان ظاهره الصلاح فإننا نرجو له ذلك ولا نشهد له به ولا نسيء به الظن. والرجاء مرتبة بين المرتبتين، ولكننا نعامله في الدنيا بأحكام الشهداء فإذا كان مقتولاً في الجهاد في سبيل الله دفن بدمه في ثيابه من غير صلاة عليه، وإن كان من الشهداء الآخرين فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه.
ولأننا لو شهدنا لأحد بعينه أنه شهيد لزم من تلك الشهادة أن نشهد له بالجنة وهذا خلاف ما كان عليه أهل السنة فإنهم لا يشهدون بالجنة إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالوصف أو بالشخص وذهب آخرون منهم إلى جواز الشهادة بذلك لمن اتفقت الأمة على الثناء عليه وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى-.
وبهذا تبين أنه لا يجوز أن نشهد لشخص بعينه أنه شهيد إلا بنص أو اتفاق، لكن من كان ظاهره الصلاح فإننا نرجو له ذلك كما سبق، وهذا كاف في منقبته، وعلمه عند خالقه –سبحانه وتعالى-.
س99: سئل فضيلة الشيخ: عن لقب "شيخ الإسلام" هل يجوز؟
جـ305: فأجاب بقوله: لقب شيخ الإسلام عند الإطلاق لا يجوز،جـ306: أي أن الشيخ المطلق الذي يرجع إليه الإسلام لا يجوز أن يوصف به شخص،جـ307: لأنه لا يعصم أحد من الخطأ فيما يقول في الإسلام إلا الرسل.(/15)
أما إذا قصد بشيخ الإسلام أنه شيخ كبير له قدم صدق في الإسلام فإنه لا بأس بوصف الشيخ به وتلقيبه به.
س100: وسئل: ما رأي فضيلتكم في استعمال كلمة "صدفة"؟
جـ308: فأجاب بقوله: رأينا في هذا القول أنه لا بأس به وهذا أمر متعارف وأظن أن فيه أحاديث بهذا التعبير صادفنا رسول الله "لكن لا يحضرني الآن حديث معين في هذا الخصوص".
والمصادفة والصدفة بالنسبة لفعل الإنسان أمر واقع، لأن الإنسان لا يعلم الغيب فقد يصادفه الشيء من غير شعور به ومن غير مقدمات له ولا توقع له، لكن بالنسبة لفعل الله لا يقع هذا، فإن كل شيء عند الله معلوم وكل شيء عنده بمقدار وهو سبحانه وتعالى لا تقع الأشياء بالنسبة إليه صدفة أبداً، لكن بالنسبة لي أنا وأنت نتقابل بدون ميعاد وبدون شعور وبدون مقدمات فهذا يقال له صدفة، ولا حرج فيه، وأما بالنسبة لفعل الله فهذا أمر ممتنع ولا يجوز.
س101: سئل فضيلة الشيخ: عن تسمية بعض الزهور بـ"عباد الشمس" لأنه يستقبل الشمس عند الشروق والغروب؟
جـ309: فأجاب بقوله: هذا لا يجوز لأن الأشجار لا تعبد الشمس،جـ310: إنما تعبد الله عز وجل كما قال الله تعالى: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس). وإنما يقال عبارة أخرى ليس فيها ذكر العبودية كمراقبة الشمس،جـ311: ونحو ذلك من العبارات.
س102: وسئل فضيلة الشيخ: لماذا كان التسمي بعبد الحارث من الشرك مع أن الله هو الحارث؟
جـ312: فأجاب قائلاً: التسمي بعبد الحارث فيه نسبة العبودية لغير الله عز وجل فإن الحارث هو الإنسان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلكم حارث وكلكم همام" فإذا أضاف الإنسان العبودية إلى المخلوق كان هذا نوعاً من الشرك،جـ313: لكنه لا يصل إلى درجة الشرك الأكبر،جـ314: ولهذا لو سمي رجل بهذا الاسم لوجب أن يغيره فيضاف إلى اسم الله سبحانه وتعالى أو يسمى باسم آخر غير مضاف وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبدالرحمن" وما اشتهر عند العامة من قولهم خير الأسماء ما حمد وعبد ونسبتهم ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس ذلك بصحيح أي ليس نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحيحة فإنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ وإنما ورد "أحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبدالرحمن".
أما قول السائل في سؤاله "مع أن الله هو الحارث" فلا أعلم اسما لله تعالى بهذا اللفظ، وإنما يوصف عز وجل بأنه الزارع ولا يسمى به كما في قوله تعالى: (أفرأيتم ما تحرثون .أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون).
س103: سئل فضيلة الشيخ عن هذه العبارة : "العصمة لله وحده"،س104: مع أن العصمة لا بد فيها من عاصم؟
جـ315: فأجاب قائلاً: هذه العبارة قد يقولها من يقولها يريد بذلك أن كلام الله عز وجل وحكمه كله صواب،جـ316: وليس فيه خطأ وهي بهذا المعنى صحيحة،جـ317: لكن لفظها مستنكر ومستكره،جـ318: لأنه كما قال السائل قد يوحي بأن هناك عاصماً عصم الله عز وجل والله سبحانه وتعالى هو الخالق،جـ319: وما سواه مخلوق،جـ320: فالأولى أن لا يعبر الإنسان بمثل هذا التعبير،جـ321: بل يقول الصواب في كلام الله،جـ322: وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
س105: وسئل فضيلة الشيخ: عن قول: "على هواك" وقول بعض الناس في مثل مشهور: "العين وما ترى والنفس وما تشتهي"؟
جـ323: فأجاب بقوله: هذه الألفاظ ليس فيها باس إلا أنها تقيد بما يكون غير مخالف للشرع،جـ324: فليس الإنسان على هواه في كل شيء،جـ325: وليست العين في كل شيء تراه،جـ326: المهم أن هذه العبارة من حيث هي لا بأس بها لكنها مقيدة بما لا يخالف الشرع.
س106: وسئل فضيلة الشيخ: عن عبارة: "فال الله ولا فالك"؟
جـ327: فأجاب قائلاً: هذا التعبير صحيح،جـ328: لأن المراد الفأل الذي هو من الله،جـ329: وهو أني أتفاءل بالخير دونما أتفاءل بما قلت،جـ330: هذا هو معنى العبارة،جـ331: وهو معنى صحيح أن الإنسان يتمنى الفأل الكلمة الطيبة من الله سبحانه وتعالى دون أن يتفاءل بما سمعه من هذا الشخص الذي تشاءم من كلامه.
س107: سئل فضيلة الشيخ: عن مصطلح "فكر إسلامي" و "مفكر إسلامي"؟
جـ332: فأجاب قائلاً: كلمة "فكر إسلامي" من الألفاظ التي يحذر عنها،جـ333: إذ مقتضاها أننا جعلنا الإسلام عبارة عن أفكار قابلة للأخذ والرد،جـ334: وهذا خطر عظيم أدخله علينا أعداء الإسلام من حيث لا نشعر.
أما "مفكر إسلامي" فلا أعلم فيه بأسا لأنه وصف للرجل المسلم والرجل المسلم يكون مفكراً.(/16)
س108: سئل فضيلة الشيخ: جاء في الفتوى رقم (484) أن كلمة الفكر الإسلامي كلمة لا تجوز لأنها تعني أن الإسلام قد يكون عبارة عن أفكار قد تصح أو لا تصح وهكذا،س109: بينما قلتم إن إطلاق كلمة (المفكر الإسلامي) تجوز لأن فكر الشخص يتغير وقد يكون صحيحاً أو العكس،س110: ولكن الأشخاص الذي يستخدمون مصطلح (الفكر الإسلامي) يقولون: إننا نقصد فكر الأشخاص ولا نتكلم عن الإسلام ككل او عن الشريعة الإسلامية بالتحديد فهل هذا المصطلح (الفكر الإسلامي) جائز بهذا التفسير أم لا وما هو الدليل؟
جـ335: فأجاب فضيلته بقوله: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما أقضي بنحو ما أسمع" ونحن لا نحكم على الأفراد إلا بما يظهر منهم فإذا قيل (الفكر الإسلامي) فهذا يعني أن الإسلام فكر،جـ336: وإذا كان القائل بهذا التعبير يريد فكر الرجل الإسلامي فليقل (فكر الرجل الإسلامي) أو (الفكر الإسلامي) وبدلاً من أن نقول (الفكر الإسلام) نقول (الحكم الإسلامي) لأن الإسلام حكم والقرآن الكريم إما خبر وإما حكم كما قال تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم).
س111: سئل فضيلة الشيخ: عن قول بعض الناس إذا شاهد من أسرف على نفسه بالذنوب: (فلان بعيد عن الهداية،س112: أو عن الجنة،س113: أو عن مغفرة الله) فما حكم ذلك؟
جـ337: فأجاب بقوله: هذا لا يجوز لأنه من باب التألي على الله عز وجل وقد ثبت في الصحيح أن رجلاً كان مسرفاً على نفسه وكان يمر به رجل آخر فيقول: والله لا يغفر الله لفلان،جـ338: فقال الله عز وجل "من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر فلان قد غفرت له،جـ339: وأحبطت عملك" ولا يجوز للإنسان أن يستبعد رحمة الله عز وجل كم من إنسان قد بلغ في الكفر مبلغاً عظيماً،جـ340: ثم هداه الله فصار من الأئمة الذين يهدون بأمر الله عز جل والواجب على من قال ذلك أن يتوب إلى الله حيث يندم على ما فعل،جـ341: ويعزم على أن لا يعود في المستقبل.
س114: وسئل فضيلته: عن قول الإنسان إذا سئل عن شخص قد توفاه الله قريباً قال: "فلان ربنا افتكره"؟
جـ342: فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان مراده بذلك أن الله تذكر ثم أماته فهذه كلمة كفر،جـ343: لأنه يقتضي أن الله عز وجل ينسى والله سبحانه وتعالى لا ينسى،جـ344: كما قال موسى،جـ345: عليه الصلاة والسلام،جـ346: لما سأله فرعون: (فما بال القرون الأولى. قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى) فإذا كان هذا هو قصد المجيب وكان يعلم ويدري معنى ما يقول فهذا كفر.
أما إذا كان جاهلاً ولا يدري ويريد بقوله: "أن الله افتكره يعني أخذه فقط فهذا لا يكفر، لكن يجب أن يطهر لسانه عن هذا الكلام، لأنه كلام موهم لنقص رب العالمين –عز وجل- ويجيب بقوله: توفاه الله أو نحو ذلك".
س115: سئل فضيلة الشيخ: عن حكم التسمي بقاضي القضاة؟
جـ347: فأجاب قائلاً: قاضي القضاة بهذا المعنى الشامل العام لا يصلح إلا لله عز وجل فمن تسمى بذلك فقد جعل نفسه شريكاً لله عز وجل فيما لا يستحقه إلا الله عز وجل وهو القاضي فوق كل قاض.
والحكم وإليه يرجع الحكم كله، وإن قيد بزمان أو مكان فهذا جائز، لكن الأفضل أن لا يفعل، لأنه قد يؤدي إلى الإعجاب بالنفس والغرور حتى لا يقبل الحق إذا خالف قوله، وإنما جاز هذا لأن قضاء الله لا يتقيد، فلا يكون فيه مشاركة لله عز وجل وذلك مثل قاضي قضاة العراق، أو قاضي قضاة الشام، أو قاضي قضاة عسره.
وأما إن قيد بفن من الفنون فبمقتضى التقيد يكون جائزاً، لكن إن قيد بالفقه بأن قيل: عالم العلماء في الفقه سواء قلنا بأن الفقه يشمل أصول الدين وفروعه على حد قوله صلى الله ليه وسلم "من يرد الله به خيرا ًيفقه في الدين"أو قلنا بأن الفقه معرفة الأحكام الشرعية العملية كما هو المعروف عند الأصوليين صار فيه عموم واسع مقتضاه أن مرجع الناس كلهم في الشرع إليه فأنا أشك في جوازه والأولى التنزه عنه. وكذلك إن قيد بقبيلة فهو جائز ولكن يجب مع الجواز مراعاة جانب الموصوف حتى لا يغتر ويعجب بنفسه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للمادح: "قطعت عنق صاحبك".
س116: وسئل فضيلة الشيخ: عن تقسيم الدين إلى قشور ولب،س117: (مثل اللحية)؟(/17)
جـ348: فأجاب فضيلته بقوله: تقسيم الدين إلى قشور ولب،جـ349: تقسيم خاطيء،جـ350: وباطل،جـ351: فالدين كله لب،جـ352: وكله نافع للعبد،جـ353: وكله يقربه لله عز وجل وكله يثاب عليه المرء،جـ354: وكله ينتفع به المرء،جـ355: بزيادة إيمانه وإخباته لربه عز وجل حتى المسائل المتعلقة باللباس والهيئات،جـ356: وما أشبهها،جـ357: كلها إذا فعلها الإنسان تقرباً إلى الله عز وجل واتباعاً لرسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يثاب على ذلك،جـ358: والقشور كما نعلم لا ينتفع بها،جـ359: بل ترمى،جـ360: وليس في الدين الإسلامي والشريعة الإسلامية ما هذا شأنه،جـ361: بل كل الشريعة الإسلامية لب ينتفع به المرء إذا أخلص النية لله،جـ362: وأحسن في اتباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الذين يروجون هذه المقالة،جـ363: أن يفكروا في الأمر تفكيراً جدياً،جـ364: حتى يعرفوا الحق والصواب،جـ365: ثم عليهم أن يتبعوه،جـ366: وأن يدعوا مثل هذه التعبيرات،جـ367: صحيح أن الدين الإسلامي فيه أمور مهمة كبيرة عظيمة،جـ368: كأركان الإسلام الخمسة،جـ369: التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "بني الإسلام على خمشهادة أن لا إله إلا الله،جـ370: وأن محمداً رسول الله،جـ371: وإقام الصلاة ،جـ372: وإيتاء الزكاة،جـ373: وصوم رمضان،جـ374: وحج بيت الله الحرام" وفيه أشياء دون ذلك،جـ375: لكنه ليس فيه قشور لا ينتفع بها الإنسان،جـ376: بل يرميها ويطرحها.
وأما بالنسبة لمسألة اللحية: فلا ريب أن إعفاءها عبادة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، وكل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فهو عبادة يتقرب بها الإنسان إلى ربه، بامتثاله أمر نبيه، صلى الله عليه وسلم بل إنها من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسائر إخوانه المرسلين كما قال الله تعالى عن هارون: أنه قال لموسى: (يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي). وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إعفاء اللحية من الفطرة التي فطر الناس عليها، فإعفاؤها من العبادة، وليس من العادة وليس من القشور كما يزعمه من يزعمه.
س118: سئل فضيلة الشيخ: عن عبارة "كل عام وأنتم بخير"؟
جـ377: فأجاب بقوله: قول: "كل عام وأنتم بخير" جائز إذا قصد به الدعاء بالخير.
س119: سئل فضيلة الشيخ: عن حكم لعن الشيطان؟
جـ378: فأجاب بقوله: الإنسان لم يؤمر بلعن الشيطان،جـ379: وإنما أمر بالإستعاذة منه كما قال الله تعالى (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) وقال تعالى في سورة فصلت: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم).
س120: وسئل فضيلة الشيخ: عن قول الإنسان متسخطاً: "لو أني فعلت كذا لكان كذا"،س121: أو يقول: "لعنة الله على المرض هو الذي أعاقني"؟
جـ380: فأجاب بقوله: إذا قال: "لو فعلت كذا لكان كذا" ندماً وسخطاً على القدر،جـ381: فإن هذا محرم ولا يجوز للإنسان أن يقوله،جـ382: لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "احرص على ما ينفعك،جـ383: واستعن بالله،جـ384: ولا تعجز،جـ385: فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا،جـ386: فإن لو تفتح عمل الشيطان،جـ387: ولكن قل قدر الله وما شاء فعل" وهذا هو الواجب على الإنسان أن يفعل المأمور وأن يستسلم للمقدور،جـ388: فإنه ما شاء الله كان،جـ389: وما لم يشأ لم يكن.
وأما من يلعن المرض وما أصابه من فعل الله عز وجل فهذا من أعظم القبائح والعياذ بالله لأن لعنه للمرض الذي هو من تقدير الله تعالى بمنزلة سب الله سبحانه وتعالى فعلى من قال مثل هذه الكلمة أن يتوب إلى الله، وأن يرجع إلى دينه، وأن يعلم أن المرض بتقدير الله، وأن ما أصابه من مصيبة فهو بما كسبت يده، وما ظلمه الله ولكن كان هو الظالم لنفسه.
س122: وسئل: عن قول "لك الله"؟
جـ390: فأجاب بقوله: لفظ "لك الله" الظاهر أنه من جنس "لله درك" وإذا كان من جنس هذا فإن هذا اللفظ جائز،جـ391: ومستعمل عند أهل العلم وغيرهم،جـ392: والأصل في هذا وشبهه الحل إلا ما قام الدليل على تحريمه،جـ393: والواجب التحرز عن التحريم فيما الأصل فيه الحل.
س123: سئل فضيلة الشيخ: عن عبارة لم تسمح لي الظروف؟ أو لم يسمح لي الوقت؟
جـ394: فأجاب قائلاً: إن كان القصد أنه لم يحصل وقت يتمكن فيه من المقصود فلا بأس به،جـ395: وإن كان القصد أن للوقت تأثيراً فلا يجوز.
س124: وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم استعمال "لو"؟
جـ396: فأجاب بقوله: استعمال "لو" فيه تفصيل على الوجوه التالية:
الوجه الأول: أن يكون المراد بها مجرد الخبر فهذه لا بأس بها مثل أن يقول الإنسان لشخص لو زرتني لأكرمتك، أو لو علمت بك لجئت إليك.(/18)
الوجه الثاني: أن يقصد بها التمني فهذه على حسب ما تمناه إن تمنى بها خيراً فهو مأجور بنيته، وإن تمنى بها سوى ذلك فهو بحسبه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي له مال ينفقه في سبيل الله وفي وجوه الخير ورجل آخر ليس عنده مال، قال لو أن لي مثل مال فلان لعملت فيه مثل عمل فلان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هما في الأجر سواء" والثاني رجل ذو مال لكنه ينفقه في غير وجوه الخير فقال رجل آخر: لو أن لي مثل مال فلان لعملت فيه مثل عمل فلان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هما في الوزر سواء" فهي إذا جاءت للتمني تكون بحسب ما تمناه العبد إن تمنى خيراً فهي خير، وإن تمنى سوى ذلك فله ما تمنى.
الوجه الثالث: أن يراد بها التحسر على ما مضى فهذه منهي عنها، لأنها لا تفيد شيئاً وإنما تفتح الأحزان والندم وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان". وحقيقة أنه لا فائدة منها في هذا المقام لأن الإنسان عمل ما هو مأمور هب من السعي لما ينفعه ولكن القضاء والقدر كان بخلاف ما يريد فكلمة "لو" في هذا المقام إنما تفتح باب الندم والحزن، ولهذا نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الإسلام لا يريد من الإنسان أن يكون محزوناً ومهموماً بل يريد منه أن يكون منشرح الصدر وأن يكون مسروراً طليق الوجه، ونبه الله المؤمنين لهذه النقطة بقوله: (إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله).
وكذلك في الأحلام المكروهة التي يراها النائم في منامه فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أرشد المرء إلى أن يتفل عن يساره ثلاث مرات، وأن يستعيد بالله من شرها ومن شر الشيطان، وأن ينقلب إلى الجنب الآخر، وألا يحدث بها أحداً لأجل أن ينساها ولا تطرأ على باله قال "فإن ذلك لا يضره".
والمهم أن الشرع يحب من المرء أن يكون دائماً في سرور، ودائماً في فرح ليكون متقبلاً لما يأتيه من أوامر الشرع، لأن الرجل إذا كان في ندم وهم وفي غم وحزن لا شك أنه يضيق ذرعاً بما يلقى عليه من أمور الشرع وغيرها، ولهذا يقول الله تعالى لرسوله دائماً: (ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون) (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) وهذه النقطة بالذات تجد بعض الغيورين على دينهم إذا رأوا من الناس ما يكرهون تجدهم يؤثر ذلك عليهم، حتى على عبادتهم الخاصة ولكن الذي ينبغي أن يتلقوا ذلك بحزم وقوة ونشاط فيقوموا بما أوجب الله عليهم من الدعوة إلى الله على بصيرة، ثم إنه لا يضرهم من خالفهم.
س125: سئل الشيخ حفظه الله تعالى: عن هذه العبارة "لولا الله وفلان"؟
جـ397: فأجاب قائلاً: قرن غير الله بالله في الأمور القدرية بما يفيد الاشتراك وعدم الفرق أمر لا يجوز،جـ398: ففي المشيئة مثلاً لا يجوز أن تقول "ما شاء الله وشئت" أن هذا قرن لمشيئة الله بمشيئة المخلوق بحرف يقتضي التسوية وهو نوع من الشرك،جـ399: لكن لا بد أن تأتي بـ(ثم) فتقول (ما شاء الله ثم شئت) كذلك أيضاً إضافة الشيء إلى سببه مقرون بالله بحرف يقتضي التسوية ممنوع فلا تقول "لولا الله وفلان أنقذني لغرقت" فهذا حرام ولا يجوز لأنك جعلت السبب المخلوق مساوياً لخالق السبب،جـ400: وهذا نوع من الشرك،جـ401: ولكن يجوز أن تضيف الشيء إلى سببه بدون قرن مع الله فتقول "لولا فلان لغرقت" إذا كان السبب صحيحاً وواقعاً ولهذا قال الرسول،جـ402: عليه الصلاة والسلام،جـ403: في أبي طالب حين أخبر أن عليه نعلين يغلي منهما دماغه قال: "ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" فلم يقل لولا الله ثم أنا مع أنه ما كان في هذه الحال من العذاب إلا بمشيئة الله،جـ404: فإضافة الشيء إلى سببه المعلوم شرعاً أو حساً جائز وإن لم يذكر معه الله جل وعلا وإضافته إلى الله وإلى سببه المعلوم شرعاً أو حساً جائز بشرط أن يكون بحرف لا يقتضي التسوية كـ"ثم" وإضافته إلى الله وإلى سببه المعلوم شرعاً أو حساً بحرف يقتضي التسوية كـ"الواو" حرام ونوع من الشرك،جـ405: وإضافة الشيء إلى سبب موهوم غير معلوم حرام ولا يجوز وهو نوع من الشرك مثل العقد والتمائم وما أشبهها فإضافة الشيء إليها خطأ محض،جـ406: ونوع من الشرك لأن إثبات سبب من الأسباب لم يجعله الله سبباً نوع من الإشراك به،جـ407: فكأنك أنت جعلت هذا الشيء سبباً والله تعالى لم يجعله فلذلك صار نوعاً من الشرك بهذا الاعتبار.
س126: وسئل فضيلة الشيخ: عن قولهم "المادة لا تفنى ولا تزول ولم تخلق من عدم"؟(/19)
جـ408: فأجاب قائلاً: القول بأن المادة لا تفنى وأنها لم تخلق من عدم كفر لا يمكن أن يقوله مؤمن،جـ409: فكل شيء في السماوات والأرض سوى الله فهو مخلوق من عدم كما قال الله تعالى (الله خالق كل شيء) وليس هناك شيء أزلي أبدي سوى الله.
وأما كونها لا تفنى فإن عنى بذلك أن كل شيء لا يفنى لذاته فهذا أيضاً خطأ وليس بصواب، لأن كل شيء موجود فهو قابل للفناء، وإن أراد به أن من مخلوقات الله مالا يفنى بإرادة الله فهذا حق، فالجنة لا تفنى وما فيها من نعيم لا يفنى وأهل الجنة لا يفنون، وأهل النار لا يفنون. لكن هذه الكلمة المطلقة "المادة ليس لها أصل في الوجود وليس لها أصل في البقاء" هذه على إطلاقها كلمة إلحادية فتقول المادة مخلوقة من عدم، فكل شيء سوى الله فالأصل فيه العدم.
أما مسألة الفناء فقد تقدم التفصيل فيها. والله الموفق.
س127: سئل فضيلة الشيخ: ما حكم قول "شاءت قدرة الله"،س128: وإذا كان الجواب بعدمه فلماذا؟ مع أن الصفة تتبع موصوفها،س129: والصفة لا تنفك عن ذات الله؟
جـ410: فأجاب قائلاً: لا يصح أن نقول: "شاءت قدرة الله"،جـ411: لأن المشيئة إرادة،جـ412: والقدرة معنى،جـ413: والمعنى لا إرادة له،جـ414: وإنما الإرادة للمريد،جـ415: والمشيئة للشائي ولكننا نقول: اقتضت حكمة الله كذا وكذا،جـ416: أو نقول عن الشيء إذا وقع هذه قدرة الله،جـ417: كما نقول هذا خلق الله،جـ418: وأما إضافة أمرٍ يقتضي الفعل الاختياري إلى القدرة فإن هذا لا يجوز.
وأما قول السائل: "إن الصفة تتبع الموصوف" فنقول: نعم، وكونها تابعة للموصوف تدل على أنه لا يمكن أن نسند إليها شيئاً يستقل به الموصوف، وهي دارجة على لسان كثير من الناس، يقول شاءت قدرة الله كذا وكذا، شاء القدر كذا وكذا، وهذا لا يجوز، لأن القدر والقدرة أمران معنويان ولا مشيئة لهما، وإنما المشيئة لمن هو قادر ولمن هو مقدر.
س130: سئل فضيلة الشيخ: عن هذه العبارة: "ما صدقت على الله أن يكون كذا وكذا"؟
جـ419: فأجاب قائلاً: يقول الناس ما صدقت على الله أن يكون كذا وكذا،جـ420: ويعنون ما توقعت وما ظننت أن يكون هكذا،جـ421: وليس المعنى ما صدقت أن الله يفعل لعجزه عنه مثلاً،جـ422: فالمعنى أنه ما كان يقع في ذهني هذا الأمر،جـ423: هذا هو المراد بهذا التعبير،جـ424: فالمعنى إذن صحيح لكن اللفظ فيه إيهام،جـ425: وعلى هذا يكون تجنب هذا اللفظ أحسن أنه موهم،جـ426: ولكن التحريم صعب أن نقول حرام مع وضوح المعنى وأنه لا يقصد به إلا ذلك.
س131: سئل فضيلة الشيخ: عن قول الإنسان إذا شاهد جنازة: "من المتوفي" بالياء؟
جـ427: فأجاب بقوله: الأحسن أن يقال من المتوفى؟ وإذا قال من المتوفي؟ فلها معنى في اللغة العربية،جـ428: لأن هذا الرجل توفى حياته وأنهاها.
س132: سئل فضيلة الشيخ: عن قول "إن فلاناً له المثل الأعلى" ،س133: أو "فلان كان المثل الأعلى"؟.
جـ429: فأجاب بقوله: هذا لا يجوز على سبيل الإطلاق،جـ430: إلا الله سبحانه وتعالى فهو الذي له المثل الأعلى وإما إذا قال: "فلان كان المثل الأعلى في كذا وكذا"،جـ431: وقيده فهذا لا بأس به.
س134: سئل فضيلة الشيخ: ما حكم قولهم "دفن في مثواه الأخير"؟
جـ432: فأجاب قائلاً: قول القائل "دفن في مثواه الأخير" حرام ولا يجوز لأنك إذا قلت في مثواه الأخير فمقتضاه أن القبر آخر شيء له،جـ433: وهذا يتضمن إنكار البعث،جـ434: ومن المعلوم لعامة المسلمين أن القبر ليس آخر شيء،جـ435: إلا عند الذين لا يؤمنون باليوم الآخر،جـ436: فالقبر آخر شيء عندهم،جـ437: أما المسلم فليس آخر شيء عنده القبر وقد سمع أعرابي رجلاً يقرأ قوله تعالى: (ألهاكم التكاثر. حتى زرتم المقابر) فقال: "والله ما الزائر بمقيم" لأن الذي يزور يمشي فلا بد من بعث وهذا صحيح.
لهذا يجب تجنب هذه العبارة فلا يقال عن القبر إنه المثوى الأخير، لأن المثوى الأخير إما الجنة، وإما النار في يوم القيامة.
س135: وسئل عن قول: "مسيجيد،س136: مصيحيف"؟
جـ438: فأجاب قائلاً: الأولى أن يقال المسجد والمصحف بلفظ التكبير لا بلفظ التصغير،جـ439: لأنه قد يوهم الاستهانة به.
س137: سئل فضيلة الشيخ: عن إطلاق المسيحية على النصرانية؟ والمسيحي على النصراني؟(/20)