ثم يجيب على تساؤله هذا بالقول : (( إنَّ إدعاء أن السنَّة نوعٌ من الوحي زعمٌ لا دليل عليه ، حتى في قوله تعالى : { و ما ينطق عن الهوى - إن هو إلاَّ وحيٌ يوحى } [ النجم : 2 ، 4 ] ، فالذي ينطق به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو القرآن الكريم الموحى إليه و لا ريب أن المقصود في الآية هو القرآن الذي كان يتلوه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و بيِّنه للناس الذين اتبعوه بافترائه من عند نفسه … و الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع الحديث إلى منزلة الوحي ، بل كان يرى أنَّ القرآن من الله ، و أنَّ الحديث من البشر ، و لو لم يكن الأمر كذلك لأمر بتدوين السنَّة كما أمر بكتابة القرآن الكريم )) (1) .
موقف دعاة السنة في البوسنة من المدرسة العقلية الحديثة :
لقد أخرج الله تعالى من أبناء البوسنة أنفسهم من ينقض دعاوى الشيخ حسين جوزو و أترابه ، و يبين فسادها في ضوء القرآن الكريم الذي يزعم العقلانيُّون أن لا وحي غيره .
و من هؤلاء الأفاضل الأستاذ مصطفى كاراليتش الذي تولى إحقاق الحق في هذه المسألة في بحث نُشر في العدد الثاني و الأربعين من مجلَّة ( الفكر الإسلامي ) ، الصادر في شهر ( 6 ) سنة 1982م ، و ضمَّنه مسألتين هامتين على صلة بمسألة حجية السنة التي تناولها المؤلف في الجزء السابق و هما :
مسألة كون السنة وحياً غير متلو ، و ذكر الخلاف في ذلك مرجحاً كونها وحياً من عند الله تعالى القائل : { و ما ينطق عن الهوى - إن هو إلا وحيٌ
يوحى } [ النجم : 2 ، 4 ] و راداً على من زعم أنَّها مجرَّد اجتهادات بشرية لا يؤخذ بها في الأحكام الشرعيَّة .
أما المسألة الثانية ففيها زيادة تفصيل و بيانٍ لسابقتها ، حيث سار المؤلف على منهج الإمام ابن قتيبة في كتاب ( تأويل مختلف الحديث ) فقسَّم السنة إلى ثلاثة
أقسام (2) .
و لا أعرف أحداً من البوسنويين كتب في مثل هذه المسائل ، راداً أقوال العقلانيين و مثبتاً أقوال العلماء الراسخين ، رغم خطورة ذلك تحت الحكم الشيوعي سوى الأستاذ مصطفى كاراليتش جزاه الله خيراً .
أما بعد انقضاء الحرب الأخيرة ، فقد كثر الدعاة إلى الكتاب و السنة ، و أجرى الله على أيديهم الخير الكثير ، فكانوا شوكة في حلوق العقلانيين ، يغصون بها كلما ارتفعت عقيرتهم بدعوى فاسدة ، أو رأي غير سديد .
__________
(1) ... حسين جوزو : الإسلام و العصر : 266 و ما بعدها .
(2) ... قال ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث " ص 132 – 134 : ( السنن عندنا ثلاث : سنة أتاه بها جبريل عليه السلام عن الله تعالى ، كقوله : لا تنكح المرأة على عمتها ... و السنة الثانية : سنة أباح الله له أن يسنها و أمره باستعمال رأيه فيها ، فله أن يترخص فيها لمن شاء على حسب العلة و العذر ، كتحريمه الحرير على الرجال ، و إذنه لعبد الرحمن بن عوف فيه لعلة كانت به ... و السنة الثالثة : ما سنه لنا تأديباً ، فإن نحن فعلناه كانت الفضيلة في ذلك ، و إن نحن تركناه فلا جناح علينا إن شاء الله ، كأمره في العمة بالتحلي ، و كنهيه عن لحوم الجلالة ، و كسب الحجام ) .(/9)
المدرسة الفقهية المالكية في ليبيا
خلال القرون الستة الأولي للهجرة ...
( مصادرها وأشهر علمائها )
د . حمزة أبوفارس
"كان بإفريقية رجال عدول, بعضهم بالقيروان وتونس وطرابلس"
"رأيت بطرابلس رجالا ما الفضيل بن عياض أفضل منهم"
الإمام سحنون
المذاهب الفقهية في ليبيا قبل دخول المذهب المالكي إليها :
لا نريد أن نتطرق إلي تفاصيل نشأة المذاهب الفقهية وتوزيعها الجغرافي , ولا إلي أصولها وقواعدها , فقد كتب في هذا الموضوع الكثير . ولكني سأذكر ما لابد منه لترتبط الصورة , أو علي الأقل لنحاول ربطها:
تفرق كثير من الصحابة , بعد موته , صلي الله عليه وسلم , في الأمصار . واشتهر منهم جماعة بالفقه والفتوي , إلي جانب رواية حديث رسول الله , صلي الله عليه وسلم, وسمع من هؤلاء جماعات من التابعين, كل بمنطقته. ونبغ بالعراق أبوحنيفة, رحمه الله , الذي انتقل إليه علم الصحابي الجليل ابن مسعود وغيره عن طريق كبار التابعين.
وأصبح لهذا الإمام تلاميذه, ونضج مذهب أهل الرأي علي يديه وأصبح مذهبه يعرف بمذهب العراقيين والكوفيين ومذهب أهل الرأي.
انتشر تلاميذه هنا وهناك يبثون علم إمامهم . ودخل مذهب الكوفيين إلي إفريقية , و غلب عليها. قال القاضي عياض : وأما إفريقية وما وراءها من المغرب , فقد كان الغالب عليها في القديم, مذهب الكوفيين .
دخول المذهب المالكي ليبيا :
تلقي الإمام مالك , رضي الله عنه, الحديث والفقه في مدينة رسول الله , صلي الله عليه وسلم , ومن أشهر شيوخه في الحديث محمد بن مسلم بن شهاب الزهري , ومن أشهر شيوخه في الفقه ابن هرمز وربيعة. وانتقل إليه فقه الفقهاء السبعة. وجلس الإمام للتدريس , وكان يؤخذ عنه الحديث كما يؤخذ الفقه, وطبقت شهرته الأفاق, وجاءه الناس من كل مكان.
وممن رحل إليه من هذه البلاد ثلاثة. ترجم لأحدهما بما ينير ولو جزاءا من حياته. أما الأخران فقد درس تاريخهما , ولم يذكرا إلا بأسطر لا تشفي الغليل.
وهؤلاء هم :
1) )علي بن زياد العبسي الطرابلسي:
ولد بطرابلس . ثم سافر إلي تونس. ومنها إلي الحجاز, حيث سمع من الإمام مالك الموطأ, وأخذ عنه أقواله , بل وناقشه أصوله. رجع ابن زياد إلي القيروان , وجلس للتدريس هناك. وكثر تلاميذه. واشتهر أمره. وكاد أن يمتحن بالقضاء, ولكنه امتنع, وسافر علي إثر ذلك إلي تونس. واجتمع عليه الناس. وكان ملاذهم, بل كانت الأسئلة تأتيه من القيروان. واشتهر من تلاميذه ثلة منهم: سحنون بن سعيد التنوخي, والبهلول بن راشد, وأسد بن الفرات. ولا أريد هنا أن أترجم لهذا العالم الجليل, فذلك يلزمه كتاب مستقل, ولكني أريد أن أنبه إلي أنه أول من أدخل الموطأ إلي إفريقية, وهو أوا من فسر للمغاربة قول مالك, ولم يكونوا يعرفونه, وهو معلم سحنون الفقة. توفي علي بن زياد سنة 183 هـ.
2) ) أبو سلمان محمد بن معاوية الحضرمي الطرابلسي:
من أصحاب مالك. سمع منه أبي معمر والليث بن سعد. مشهور ثقة. سمع من مالك الموطأ. قال محمد بن معاوية: كان بقي علي شيئ من الموطأ من كتاب الصلاة, فأتيت إلي مالك وقد دخل الناس , فقال: من يقرأ لك؟ قلت : حبيب. وكنت قاطعته بخمسة دراهم, ويقرأمن الكتاب خمسا وعشرين ورقة, فقرأ لي حبيب في مجلس واحد. قال لي حبيب : لم تفتني اهمك يا مغربي.
قال المالكي: وفي روايته للموطأ جامع الجامع, وليس ذلك عنده غيره.
3) ) محمد بن ربيعة الحضرمي الطرابلسي:
روي عن مالك , وأبي معمر, وابن أبي حازم, وإبراهيم بن يحي, وابن لهيعة. قال أبو علي بن البصري : محمد بن معاوية أعلم من محمد بن ربيعة الحضرمي.
وهذان الأخيران لا نعرف عنهما إلا تلك الكلمات اليسيرة التي قالها أبو العرب والمالكي , وكررها عياض في مداركه. وليس فيها هل رجعا إلي طرابلس بعد ذلك أولا؟
مصادر الفقه المالكي
أ?- مصادر رئيسية, وتشمل الموطأ والمدونة.
الموطأ: عرفنا فيما سبق كيف أن الليبين كانوا من السابقين في الرحيل إلي الإمام مالك لسماع موطئه وأقواله, وأن علي بن زياد هو الذي أدخل الموطأ إلي إفريقية. وهنا نضيف شيئا ليس عندنا عليه دليل, وهو أنه لا يبعد أن يكون ابن زياد قد توقف في مسقط رأسه طرابلس, أثناء رجوعه من المشرق إلي تونس, فأسمع أبناءها روايته للموطأ, كما حدث لسحنون كما سنعرف فيما بعد.
وكذلك أوردنا ترجمة لمحمد بن معاوية الحضرمي الذي روى الموطأ عن مؤلفه والذي كانت في روايته زيادات لم تكن في غيرها. وربما يكون ابن معاوية قد عاد بعد ذلك إلي طرابلس لإسماع الموطأ, غير أن كتب التراجم سكتت عن ذلك لما ذكرناه آنفا.
روياته:
وهكذا دخلت روايتان من روايات الموطأ, على الافتراض, للبلاد الليبية. وربما دخلت رواية يحي بن يحي الليثي الأندلسي إلي المنطقة أثناء مرور يحي من المشرق إلي بلاد وبالعكس; إذ كانت له أكثر من رحلة إلي المشرق.
شروحه:
أما الذي لا شك فيه هو أن الموطأ كان يروى ويسمع ويشرح. وممن شرحه ممن ينتسب إلي البلاد الليبية:(/1)
1) ) محمد بن عبدالله بن عبدالرحيم البرقي. كان من أصحاب الحديث والفقه روى عن عبدالله بن عبدالحكم وأشهب وابن بكير وغيرهم. ألف كتابين يخصان الموطأ : أحدهما في رجاله, والآخر في شرح غريبة. ولا نعلم لهما وجودا. توفي البرقي سنة 249 هـ.
2) ) أحمد بن نصر الداوودي الطرابلسي. دفين تلمسان. كان فقيها فاضلا. أخذ عنه البوني. ألف في شرح الموطأ كتابا سماه (( النامي)), كما أنه ألف كتابا في الفقه سماه (( الواعي)). وله غير ذلك من التأليف. توفي سنة 402 هـ.
وقد وصل إلينا كتابه النامي, فقد احتفظت به خزانة القرويين بفاس بنسخة منه مبتورة الأول والآخر تحمل رقم 175. وهي جزء واحد بخط أندلسي. وهي نسخة متلاشية في أغلبها, ورقاتها 123. ولا نعلم لهذا الكتاب أية نسخة أخرى. وكتاب النامي كتاب مفيد أقواله معتمدة في أغلبها. استفاد منه الزرقاني في شرحه للموطأ كثيرا. وقد أملي الداوودي كتابه هذا في طرابلس, ثم انتقل بعد ذلك إلي تلمسان حيث توفي هناك. وهذا يرجح انتشار نسخه في المكان الذي أملاه فيه آنذاك.
المدونة: المصدر الثاني من مصادر الفقه المالكي في البلاد الليبية مدونة الإمام سحنون بن سعيد التنوخي القيرواني. سمع عددا من تلاميذ الإمام مالك كعلي بن زياد, وأسد بن فرات, وابن القاسم, وأشهب, وابن ذهب. توفي سنة 240 هـ.
أصل المدونة, من أسد بن الفرات, ثم صححها علي ابن القاسم في مصر, ثم رجع إلي القيروان فرتبها وهذبها وذيل أبوابها بالحديث والآثار إلا بعض الأبواب بقيت علي حالها; إذ شغل بالقضاء آخر حياته. وكانت أسدية ابن الفرات تسمع في نفس الوقت الذي تسمع فيه المدونة ثم لم تلبث أن نسيت فلا ذكر لها. وقد اختصر الأسدية البرقي وغيره. ثم لم تلبث تلك الاختصارات أن تلاشت.
بعد أن سمع الإمام سحنون المدونة ( التي كانت آنذاك تسمي الأسدية والمختلطة) من ابن القاسم نفسه, وراجعها معه وسأله عن كثير من الاشكالات سؤال تمحيص وفهم. بعد هذا كله رجع سحنون إلي وطنه. وفي أثناء رجوعه توقف في أجدابية ليسمع أهل العلم بها ما جاء به من علم في رحلته المشرقية وما أخذه عن مشائخه في البلاد التونسية. وقد صرح الإمام سحنون بتاريخ إسماعه أهل أجدابية حيث قال : ( سمع مني العلم سنة وإحدي وتسعين ومائة أهل أجدابية).
وهكذا يكون الليبيون أسبق من غيرهم, بحكم موقعهم, في السماع من سحنون مدونته قبل ترتيبها وتهذيبها.
وقد ذكر صاحب الديباج أن عبد الله بم محمد بن خالد بن مرتنيل سمع من سحنون الأسدية قبل تدوينها. ثم يترك الإمام سحنون أجدابية ليذهب إلي طرابلس فيتخذها مقاما له, كما يقول الدكتور أحمد مختار عمر. ولعله أخذ ذلك من قول سحنون : كان بإفريقية رجال عدول, بعضهم بالقيروان وتونس وطرابلس ..... وقوله لما رجع إلي القيروان وسئل عن الصاحين : رأيت بطرابلس رجالا ما الفضيل بن عياض أفضل منهم. ويجدر بنا هنا أن نذكر عبدالجبار بن خالد السرتي الذي ذهب إلي سحنون ولازمه طويلا وسمع عليه بمنزله بالساحل.
مما يدل علي أن أقوال مالك كانت منتشرة ومعروفة في طرابلس في وقت سحنون, قوله لسليمان بن سالم لما أراد الخروج إلي الحج : إنك تقدم طرابلس, وقد كان فيها رجال, ثم تقدم إلي مصر وبها الرواة, ثم تقدم المدينة, وهي عش مالك, ثم تقدم مكة فاجتهد مجهودك, فإن قدمت علي بلفظة خرجت من دماغ مالك ليس عند شيخك أصلها, فاعلم أن شيخك كان مفرطا.
ونتوقف قليلا عند قول سحنون : ( فيها رجال) عند ذكره طرابلس , هذه الكلمة لها معناها. فقد فرق بين من في طرابلس وبين من في مصر, فوصف الأخيرين بأنهم رواة, وهذا يعني النقل لا غير. أما كلمة رجال فأحسب أنه يريد وصفين النقل والاجتهاد. وكلام سحنون يؤيد ما قلناه آنفا عن الدكتور أحمد مختار عمر بأنه أقام في طرابلس مدة في طريقه إلي القيروان; لأن هذا الوصف لا يصدر إلا ممن اختلط بهم وسبر غورهم .
ومما يؤيد ما ذكرناه أن ابن حارث ذكر أن محمد بن عيسى بن رفاعة, من أهل رية سمع المدونة في طرابلس سنة 290 هـ علي ابراهيم بن داوود بن رقيق عن سحنون.
ب) مصادر ثانوية: وإلى جانب الموطأ والمدونة كانت الدراسة منصبة في البلاد الليبية علي كتب أخرى أهمها:
1) ) مختصر ابن عبد الحكيم . فقد ورد أن البرقي المذكور سابقا شرح مختصر ابن عبد الحكيم الصغير, والغالب أن من يشرح كتابا يكون قد تصدى لإقرائه.
2)) المعالم الفقهية تأليف علي بن محمد بن زكريا بن الخصيب الأطرابلسي, المعروف بابن زكرون. كان فقيها, محدثا, زاهدا, عالما. توفي سنة 370 هـ. وقد اشتهر هذا الكتاب, واستمر الطلبة يتدارسونه مع الشيوخ زمنا طويلا, فقد أورد لنا التجاني في رحلته نصا يفيد بأن الكتاب محل إقبال الطلبة في طرابلس أواخر القرن السابع ولا نعلم له الآن وجودا.(/2)
3) ) الكافي في الفرائض, لأبي الحسن علي بن المنمر, الفقيه المالكي, قامع البدع وناصر السنن. المتوفي سنة 432 هـ. وقد حصلت لهذا الكتاب شهرة عظيمة. وقد أفادنا التجاني أيضا أن الكتاب كان متداولا في الدرس في أواخر القرن السابع. ومن حسن الحظ أن بعض المكتبات احتفظت بنسخة منه ينقصها قليل من أولها .
ورغم أن كتاب الكافي له أهمية كبرى في موضوعه, إذ أنه يعتبر من الكتب الأصول في بابه, فهو يعتمد الأمهات في الفقه المالكي, علي الرغم من ذلك فإننا لا نعلم سر ندرة نسخه.
4) ) ولا نشك في أن تهذيب البراذعي للمدونة وتأليف أبي محمد بن أبي زيد القيرواني كالرسالة والنوادر, كانت متداوله بين الطلبة في الفترة التي نتحدث عنها; إذ قد سافر بعض علماء طرابلس ( ابن المنمر مثلا) إلى القيروان حيث سمع من الفقيه الإمام أبي زيد. لكن كتب كتب التراجم كانت شحيحة فلم تسعفنا بأسماء تلك الكتب, بل شحت بأسماء العلماء أنفسهم.
تذليل بقائمة الفقهاء المالكية في ليبيا منذ نشأة المذهب المالكي إلي أواخر القرن السادس الهجري
وقبل أن أسرد هذه الأسماء أود أن أقدم ثلاث ملاحظات بين يديها:
الملاحظة الأولى: أن عنولن البحث لا يستلزم ذكرهم, لكن رأيت من المفيد أن أذكرهم, لأن كثيرا من القراء لا يعرفون شيئا عنهم, مع التزام الاختصار الشديد واعطاء المصادر لمزيد من التفصيل لمن أراده.
الملاحظة الثانية: سأحاول ذكر من اشتهر بالفقه منهم, لا بغيره من العلوم.
الملاحظة الثالثة: اقصد بالليبي من ولد أو استقر طويلا أو توفي في هذا البلد ولم ألتزم ما رآه البعض من ان النسبة إنما تكون لمن يدفن في بلد ما. ولست بداحض رأي من رأى ذلك, ولكني أردت أن أبين اصطلاحي الذي اعتمدته هنا, ولا مشاحة – كما يقولون – في الاصطلاح.
1- علي بن زياد العبسي الطرابلسي.
2- سعيد بن عباد السرتي, أبو عثمان . يعرف بمزغلة. أصله من سرت , وسكن القيروان . من أكابر أصحاب سحنون. توفي سنة 251 هـ.
3- محمد بن عبدالله بن عبد الرحيم البرقي.
4- أبو إسحاق إبراهيم بن عبدالرحمن البرقي. كان صاحب حلقة أصبغ. روي عن ابن وهب وشهيب. توفي سنة 245هـ.
5- عبدالجبار بن خالد بن عمران السرت. من كبار أصحاب سحنون سمع منه أبو العرب وغيره. قال الجبار: ما قرأ سحنون قط كتابا في بادية ولا حاضرة إلا وأنا حاضر. توفي سنة 281هـ. .
6- حبيب بن محمد الأطرابلسي . سمع من جماعة من أهل بلدة طرابلس , منهم محمد بن معاوية. روي عنه أبومسلم العجلي.
7- إسحاق بن إبراهيم الأزدي, المعروف بابن بطريق. قاضي طرابلس. قال أبوالعرب : كان فقيها ثبتا ثقة.
8- موسى بن عبدالرحمن القطان الطرابلسي. روي عن شجرة وحمد بن سحنون وغيرهما. توفي سنة 306هـ.
9- علي بن أحمد بن زكريا بن الخطيب المعروف بابن زكرون.
10- محمد بن الحسن بن أبي الدبسي الطرابلسي. كان موجودا عام 369هـ. قال عنه ابن حجر : من طرابلس الغرب. كان قاضيها فاستدعاه الوزير يعقوب وفوض إليه قضاء دمياط وغيرها.
11- أبوجعفر أحمد خلف الأجدابي. كان فقيها, ذا أدب وكرم نفس, وجميل خلائق توفي سنة 391هـ.
12- أبوعبدالله محمد بن حسن الزويلي السرتي. طلب العلم في رحلاته إلي الرق والغرب. كان متفرغا للتدريس والافتاء. عاش بطرابلس, ومات بها سنة 383هـ.
13- محمد بن يحي الأجدابي. كان من أصحاب أبي إسحاق بن سفيان الفقيه. لقيه محمد بن هتنون أثناء مروره بأجدابية في طريقه إلي الحج سنة 383هـ
14- أحمد بن نصر الداوودي.
15- أبو الحسن علي بن محمد المنمر.
16 إبراهيم بن قاسم الأطرابلسي. دخل الأندلس. روي عنه أبو محمد علي بن أحمد بن حزم.
17- مالك بن سعيد بن مالك القرافي. ولي قضاء طرابلس, ثم قضاء مصرز قتله الحاكم الفاطمي سنة 450هـ.
18 عمر بن عبدالعزيز بن عبيد الطرابلسي. فقيه مالكي. قدم دمشق من مكة وحدث بها ثم ذهب إلي العراق فتوفي ببغداد سنة 519هـ. سمع منه ابن عساكر.
19- علي بن عبدالله بن مخلوف الطرابلسي. أخذ عنه السلفي. سافر إلي الحج فتوفي هناك سنة 522هـ.
20- محمد بن إسحاق أبو عبدالله الجبلي. تولي قضاء برقة سنة 341هـ.
21 أحمد بن الحسين أبو جعفر المؤدب. سمع منه بطرابلس أبو جعفر أحمد بن محمد بن عبيدة الأموي ( ت. سنة 400 هـ) أحد الصاحبين.(/3)
هؤلاء هم أشهر فقهاء المالكية في القرون الستة الهجرية الأولى, وكل منهم يحتاج إلي دراسة مستقلة موسعة, وقد ساهمت في بحوث مستقلة سابقة في التعريف باثنين منهم هما / ابن زكرون وابن المنمر, ولعل الله ييسر للبقية من يدرسهم حتي يستطيع القارئ أن يلم بما كان في هذا البلد من إشعاع ثقافي ساهم به مع بقية الأقاليم الإسلامية في بناء حضارة كانت مضرب الأمثال استفاد منها الغرب فتقدموا, وتركها أصحابها فتقهقروا. ونحن نأمل أن تساهم هذه الدراسة وأمثالها في إيقاظ العالم الإسلامي من غفوته, وإن البشائر لتلوح رغم تربص الأعداء, ومن يدور في فلكهم, لضرب من يقوم من كبوته, ولكن الله ناصر من ينصره إن الله لقوي عزيز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أهم المصادر والمراجع
1- الاستيعاب ( علي هامش الإصابة ) , يوسف بن محمد البر النمري تصوير دار صادر بيروت لطبعة السعادة 1328 هـ.
2- أسد الغابة, علي بن محمد بن الأثير الجزري . نشر جمعية المعارف 1280 هـ.
3- الإصابة, ابن حجر العسقلاني . تحقيق علي البجاوي نهضة مصر القاهرة دون تاريخ
4- الأعلام , خير الدين الزركلي دار العلم للملايين – بيروت الطبعة الخامسة 1980 م.
5- أعلام ليبيا, الشيخ الطاهر الزاوي مكتبة الفرجاني طرابلس الطبعة الثانية 1971م.
6- البيان المغرب ( الجزء الأول) , ابن العذاري المراكشي. تحقيق كولان وبروفنسال.الدار العربية للكتاب – ليبيا- تونس ط. الثالثة 1972م.
7- تاريخ الفتح العربي في ليبيا, الشيخ الطاهر الزاوي . دار الفتح ودار الثرات العربي ليبيا الطبعة الثالثة 1972م.
8- تاريخ ليبيا الإسلامي, عبداللطيف البرغوثي . منشورات جامعة طرابلس.
9- تاريخ ليبيا منذ الفتح العربي إلي مطلع القرن التاسع, إحسان عباس . دار ليبيا للتوزيع . بنغازي . الطبعة الأولى 1967م.
10- التاريخ الكبير, محمد بن إسماعيل البخاري . مؤسسة الكتب الثقافية بيروت.
11- ترتيب المدارك, القاضي عياض بن موسى اليحصبي . تحقيق جماعة من العلماء . طبعة وزارة الأوقاف المغربية.
12- تهذيب التهذيب, ابن حجر العسقلاني تصوير دار صادر بيروت لطبعة حيدر أياد الدكن 1325هـ.
13- جدوة المقتبس, محمد بن أبي نصر الحميدي تحقيق إبراهيم الأبياري دار الكتاب اللبناني بيروت الطبعة الثانية 1403 هـ 1983م.
14- الديباج المذهب, إبراهيم بن فرحون.
أ) تحقيق محمد الأحمدي أبو النور. دار الثرات القاهرة دون تاريخ.
ب) تصوير دار الكتب العلمية . بيروت لطبعة القاهرة 1350 هـ.
15- رياض النفوس , أبوبكر المالكي تحقيق بشير البكوش طبعة دار الغرب الإسلامي.
16- سير أعلام ليبيا (جزء 14), محمد بن أحمد الذهبي . تحقيق أكرم البوشي إشراف شعيب الأرنؤوط مؤسسة الرسالة الطبعة الرابعة 1406 هـ 1986م.
17 شجرة النور الزكية, محمد بن محمد مخلوف دار الكتاب العربي بيروت تصوير لطبعة المكتبة السلفية سنة 1349هـ.
18- طبقات علماء إفريقية وتونس, أبو العرب محمد بن أحمد تميم تحقيق علي الشابي ونعيم اليافي الدار التونسية للنشر والمؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر الطبعة الثانية 1985م.
19- طبقات الفقهاء, أبو إسحاق الشيرازي . تحقيق إحسان عباس دار الرائد العربي بيروت 1978م.
20- ليبيا منذ الفتح العربي حتي سنة 1911م, اتوري روسى. ترجمة خليفة التليسى دار الثقافة بيروت الطبعة الأولي 1394هـ 1974م.
21- مختصر تاريخ دمشق, لابن عساكر الجزء التاسع عشر .اختصره علي نهج ابن منظور وحققه إبراهيم صالح. دار الفكر دمشق الطبعة الأولى 1409هـ 1989م.
22- معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان, عبد الرحمن بن محمد الدباع . تكملة أبي القاسم بن عيسى بن ناجي جـ1 تحقيق شبوح جـ2 تحقيق محمد الأحمدي أبو النور ومحمد ماضور جـ3 وتحقيق ماضور مكتبة الخانجى بمصر والمكتبة العتيقة بتونس.
23- معجم البلدان, ياقوت الحموي دار صادر</< td> ...(/4)
المدرسة القرآنية د. الحبر يوسف نور الدائم*
هاهو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم بالقرآن حتى تتفطر قدماه, وها هم أولاء أصحابه الميامين يقومون معه فتتنفخ منهم الأقدام أيضاً ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل و النهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه) وبين هذه الآية الأخيرة من سورة المزمل وبين أول السورة سنة من الزمان كاملة نصب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم و أصحابه قاموا فيها الليل يقرآون القرآن و يصلون:
إذا ما الليل أظلم كابدوه ** فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا ** وأهل الأمن في الدنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم سجود ** أنين منه تختلف الضلوع
فيا له من نصب, ويالها من رغبة ويالها من حياة (فإذا فرغت فانصب . وإلى ربك فارغب) كانوا يرون إجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن فيحفزهم ذلك إلى أن يجتهدوا كما اجتهد, وأن يعملوا كما عمل ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) يقبل عليهم يجالسهم فيقتبسون من نوره, ويغرفون من بحره, وينالون من فيضه وفضله, منه ينهلون, وعنه يصدرون, وإليه يرجعون.
وهو بينهم يحنو عليهم حنو المرضعات على الفطيم, يوطئ لهم من كنفه, ويشملهم برعايته, ويتعهدهم بالتربية و التعليم, والتزكية و التوجيه ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) أرأيت نعمة أجل, ومنة أفضل؟ رسول كريم يضرب من نفسه المثل الحي, والأسوة الحسنة, و القدوة الصالحة... إن أمرهم بأمر كان أول الممتثلين و إن نهاهم عن شيء لم يخالفهم اليه...يرونه أمامهم يغدو بالقرآن ويروح يتلوه مقبلا ومدبرا, مصبحا وممسيا... باليل و النهار في الحل و الترحال في العسر و اليسر وعلي كل حال.
أقبل يوما على عبد الله بن مسعود الذي قال فيه ( من أحب أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه علي قراءة ابن ام عبد ) .
ابن أم عبد الذي أخذ من في رسول الله صلي الله عليه وسلم سبعين سورة , إبن أم عبد الذي ما من آية في كتاب الله إلا وهو يعلم أبليل نزلت أم بنهار... أبسهل نزلت أم بجبل... إبن أم عبد الذي كان يقول ( إذا وقعت في آل حم وقعت في رياض دمثات أتأنق فيهن) فحق أن تزن ساقه الدقيقة جبل احد يوم القيامة.
أقبل الرسول الكريم على صاحبه الجليل يقول له (إقرأ علي شيئاً من القرآن) فيقول له صاحبه متعجبا (أأقرأ وعليك أنزل؟! ) فيقول ( إني أحب أن أسمعه من غيري) نعم إنه ليتلوه وإنه ليسمعه من غيره فيحسن السماع بل إنه ليستمع لأصحابه وهم يقرءون القرآن ولا يعلمون مكانه, أولم يقل لصاحبه أبي موسى لقد سمعتك البارحة وأنت تتلو القرآن... لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داوود فيقول الصاحب الكريم ( أما لو علمت مكانك لحبرته لك تحبيرا) هاهو ذاك صاحبه ابن مسعود يستجيب للطلب الكريم فيقرأ آيات من سورة النساء حتى إذا بلغ قوله تعالى
( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً . يومئذ يود الذين كفروا لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا ) قال حسبك, قال الصاحب فالتفتّ فإذا عيناه تذرفان , وفي رواية مسلم فإذا دموعه تسيل. أرأيت تأثرا أبلغ و أكمل من هذا التأثر الذي تسيل منه الدموع, وتفيض منه العيون , ألا إنه الحق الذي يتحرك له القلب الحي, و الضمير المتيقظ , و الحس الرهيف. وفي التفاتة اخرى من رسول الله كريمة يقول لصاحبه أبي بن كعب الذي قال فيه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما (أبي أقرؤنا لكتاب الله) وكيف لا يكون أقرؤهم لكتاب الله وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ليهنك العلم أبا المنذر) وذلك أنه سأل أصحابه ذات مرة عن سيد آي القرآن فكانت الإجابة الصائبة من أبي إذ قال (هي آية الكرسي يا رسول الله) فأعجب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له ما قال. أقبل الرسول الكريم على صاحبه ذي القدم الراسخ, الضرس القاطع , و الباع الطويل أقبل عليه ليقول له ( إن الله قد أمرني أن أقرأ عليك سورة) قال قتادة ( كنا نحدث أنها سورة (لم يكن)... (إن الله قد أمرني أن أقرأ عليك سورة) يالها من قولة, ويا له من شرف وياله من تكريم ! الرسول يؤمر من فوق سبع سموات أن يقرأ علي صاحبه سورة ! عجب لها صاحبه فقال متسائلاً (آلله سماني لك يا رسول الله؟ ) قال نعم , فلم يملك الصحابي نفسه أن فاضت عيناه... لقد بكى ...بكى فرحا فقال له إخوانه (وفرحت بذلك أبا المنذر؟ قال ( وما لي لا أفرح وأنا أسمع الله يقول (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) هكذا كان الهم وهكذا كانت الهمة, وتلك كانت المقاييس:(/1)
ذي المعالي فليعلون من تعالى ** هكذا ..هكذا وإلا فلا لا
لقد أقبل أصحاب رسول الله على كتاب الله يتعاهدونه ويتدارسونه فيما بينهم فحفتهم الملائكة, وغشيتهم الرحمة وتنزلت عليهم السكينة فكانوا خير أمة اخرجت للناس يأمرون بالمعروف, وينهون عن المنكر, ويؤمنون بالله... سمعوه فانصتوا وانتفعوا وقرأوه فعلموا أنه الحق من ربهم فخشعت له القلوب, واقشعرت منه الجلود وذرفت منه العيون (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فمل له من هاد ) و التشابه هنا ليس هو التشابه المذكور في في سورة آل عمران. هناك التشابه الذي يقابل المحكم (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) وهنا التشابه بمعني المشابهة في الحق وعدم التفاوت فيه فالقرآن يشبه بعضه بعضاً صدقاً وعدلاً ولن تجد فيه اختلافاً ولا تناقضاً ولا اضطراباً فهو وحدة واحدة محكمة متشابهة مستوية.
وحق لكتاب هذا شأنه أن يفعل فعله في القلوب فكان الخشوع و الخضوع و الإذعان و الإخبات. وكيف لا يخشع القلب و يتواضع لكتاب لو نزل على جبل لهده (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعاً من خشية الله و تلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) و التصدع التشقق و التفرق ومنه قول متمم بن نويرة اليربوعي في رثاء اخيه:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ** من الدهرحتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً ** لطول إجتماع لم نبت ليلة معا
هكذا تلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فكانوا منه بالموضع الذي لا ينكر, و المنزلة التي لا تجحد.
قرأوه مؤمنين به معولين عليه, داعين له فانفتح لهم باب من الرحمة رحيب... قرأوه متفكرين فيه, متدبرين له فنالوا من العلم غاية لا تدرك, ومنزلة لا تضاهي. ما نثروه نثر الدمل, ولا هذوه هذ الشعر, ولا قرأوه هذرمة فكان الواحد منهم أمة وحده:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم** مثل النجوم التي يهدى بها الساري.
لقد تعلموا القرآن وعلموه, وعرفوا به فكانوا أهله وحملته الذين نقلوه كابرا عن كابر فجزاهم الله عنا خيراً .
جزى الله بالخيرات عنا أئمة ** لنا نقلوا القرآن عذباً وسلسلا
لقد تعلموا القرآن وعلموه و الرسول يدعوهم في أخراهم ( خيركم من تعلم القرآن و علمه)
و ( أشراف أمتي حملة القرآن) و (الجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب) و (تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده إنه لأشد تفلتاً من الإبل في عقلها) و(مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة فإن عاهدها أمسكها وإلا ذهبت) و (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب.)
فكن أترجة نضخ العبير بها** كأن تطيابها في الأنف مشموم.(/2)
المدينة الملعونة
د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة 4/2/1426
14/03/2005
لماذا دوماً مدينة (أريحا) وليس غيرها من المدن الفلسطينية المحتلة التي تتمحور حولها أيّ مفاوضات للسلام من الجانب الصهيوني؟!
ألم تكن(أريحا) أول المدن التي أخضعت للحكم الذاتي الفلسطيني؟! ألم يتم ذلك بإصرار من جانب ذلك الكيان الصهيوني؟! ألم تكن آخر المدن التي احتلها هذا المحتل مجدداً؟! ثم ألم تكن أول المدن المطروحة في المفاوضات التي جرت مؤخراً وانتهت بالفشل كسابقتها؟!
إن الكيان الصهيوني لم يكن يوما متمسكاً بـ(أريحا) ولن يكون، السبب هو ما سأحاول تبيانه في هذه السطور..
لقد حُرّمت أريحا على بني إسرائيل بنص العهد القديم، فقد ذكر سفر يشوع الإصحاح السادس منه، دعوة "يشوع بن نون" على مدينة أريحا وعلى سكانها بقوله: "ملعون قدام الرب الرجل الذي يقوم ويبني هذه المدينة أريحا. بِبِكره يؤسسها، وبصغيره ينصب أبوابها". إن هؤلاء يؤمنون أن كل من يقوم بإعادة بنائها ملعون، يفقد بِكره كما يفقد أبناءه، سواء كان من بني إسرائيل أم من غيرهم، فملعون كل من عزم الأمر على بنائها أو السكن فيها ..وبالتالي كانت النجاة منها بزعمهم غنيمة.
إنّ عهدهم القديم يؤكّد أن هذه اللعنة أصابت هذه المدينة وأهلها، ومن ينوي بناءها لكونها استعصت على بني إسرائيل إثر انتهاء فترة التيه ومحاولتهم الاستيلاء عليها، وإمعاناً في تأكيد هذه اللعنة نجد السّفر والإصحاح نفسه يذكر: (حرّموا - اقتلوا - كل ما في المدينة – أريحا- من رجل وامرأة، من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف).
لعلنا أدركنا مغزى وجود هذا الجزء من الأرض الفلسطينية المحتلة دوماً داخل دائرة المفاوضات الصهيونية، فأريحا مدينة ملعونة يجدر الفرار منها.. وهكذا فعلوا!! فهي خالية تماماً من المستوطنات الصهيونية، بل هي خالية تماماً من اليهود، أما أهلها فملعونون، وعليه كان من الحكمة إسكان أعدائهم فيها.
أما القول إن أريحا القديمة والمقصودة بهذه اللعنة تبعد عن أريحا الحالية قرابة الميل فمردود، بدليل حديث أدلى به شمعون بيريز وفاجأ الصحفيين المتدينين الذين اجتمعوا في مكتبه لتلقى توجيهات حول المسيرة السياسية، فقد أخرج من جيبه سفر يشوع يقرأ منه المقاطع التي يلعن فيها يشوع بن نون أريحا والذي لعن من يبني أريحا، ويفقد بِكره حينما يضع أسسها، ويفقد أبناءه حينما يضع أبوابها، أضاف بيريز: يجب أن تدركوا أن أريحا محظورة حظراً تاماً على اليهود، وأنا لا أدري لماذا يقاتل المتديّنون من أجلها؟!
كلمات جاءت على لسان رجل سياسي صهيوني ذي صيت عند أهله..كلمات فيها الجواب الكافي فيما نحن بصدده ...(/1)
المرء يكتب تاريخه 7/5/1426
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
ربما رأى أحدنا نوعاً من النظرات التي لا يرتضيها يرمق بها من قبل الناس، وربما تساءل لماذا ينظرون إلي هذه النظرة؟
ثم يبحث عن مجيب فلا يرى أحداً فيظل متسائلاً مغتماً!
ومن العجيب أن هذا السؤال قل أن يتوجه عند من يضعه الناس موضع عناية ومحل تقدير، فلا يتأزم ولا يبحث عن جواب لسؤال مفاده: لماذا ينظرون إلي هكذا؟
وإن طرأ هذا السؤال يوماً جاء الجواب مباشرة بقول القائل:
نفس عصام سودت عصاما ...
وفي الحقيقة مثل هذا يصح جواباً على النظرتين المتباينتين الآنفتين جميعاً، على اختلافٍ في معنى التسويد! ولكن النفس تأبى أن تعترف به –وهو الحقيقة- جواباً عن النظرات الأولى فتظل في همها تتساءل وتتردد!
والسبب هو أن نسبة الخطأ إلى النفس والاعتراف بالجرم أمر عسير لايجرؤ عليه كل أحد.
والحق أن المرء يكتب تاريخه والناس –ولاسيما العقلاء الحكماء- تنظر وتقيم وفقاً لذلك التاريخ وتتعامل في الحاضر والمستقبل دون إغفال لتلك الخلفية، فمهما وجدت ما لا يرضيك من نظراتهم –وأخص العقلاء والفضلاء منهم- فراجع ماضيك وحاضرك.
لقد قص الله _تعالى_ علينا في القرآن خبر إخوة يوسف يوم منع منهم الكيل، فقال _سبحانه_: "فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (يوسف:63) مع أنهم بينوا منعهم الكيل، وأكدوا أنهم سيحفظونه، وهم صادقون في ذلك، ولكن كيف كان الجواب؟
على نفسها جنت براقش: "قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" (يوسف:64) لن أعطيكم إياه، أمنتكم على يوسف من قبل فلم تكونوا أمناء، وقد قلتم لي في السابق سنحفظه ولما قلت لكم أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قلتم: "لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ"، وما يدريني أن تأكيدكم هنا ليس كتأكيدكم هناك؟
إن خطأهم السابق مع أبيهم ومع أخيهم أصبح يلاحقهم مع أنهم هذه المرة صادقون، لا يبيتون أمراً لأخيهم، وإنما طلبوه من أبيهم استجابة لطلب عزيز مصر الذي هو يوسف ومع ذلك لم يستجب لهم.
ثم لما أعطوه العهود والمواثيق، ورأى ما يدل على صدقهم، وبعث معهم بنيامين، ووقع ما كان يحاذر، ومكث كبيرهم في مصر متأسفاً ينتظر الإذن عازم على مفارقة أهله وبنيه إن لم يأذن له أبيه يعقوب في العودة، ومع أن كل الناس شهود على صدقهم حتى عبر عن أهل القرية بالقرية وعن رجال القافلة بلفظ العير، وذلك مشعر بشهادة كل شيء على صدقهم.
مع هذا كله قال لهم: "قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ".
لقد تيقن كذبهم في شأن يوسف أولاً، ثم لما أعطوه موثقهم في شأن بنيامين ما وفوا وهذه الثانية، فكيف له أن يصدقهم ثالثة؟ هكذا الأمور أمام عينيه.
ولهذا قال هنا: "بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ" فذكر هذا الكلام بعينه في هذه الواقعة كما ذكره في الواقعة الأولى؛ عندما زعموا أكل الذئب ليوسف، إلا أنه قال في واقعة يوسف _عليه السلام_: "(وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلى مَا تَصِفُونَ" [يوسف: 18) وقال ههنا: "عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا" تأسفاً على كبيرهم الذي فقده وتلك شفقة الوالد.
لقد "ظنّ بهم سوءاً فصدق ظنّه في زعمهم في يوسف ـ عليه السلام ـ ولم يتحقق ما ظنّه في أمر بنيامين، أي أخطأ في ظنه بهم في قضية (بنيامين)، ومستنده في هذا الظن علمه أن ابنه لا يسرق، فعلم أن في دعوى السرقة مكيدة، فظنه صادق على الجملة لا على التفصيل، وأما تهمته أبناءه بأن يكونوا تمالؤوا على أخيهم بنيامين فهو ظن مستند إلى القياس على ما سبق من أمرهم في قضية يوسف _عليه السلام_" ومما يدل عنده على أن في الأمر شيئاً التساؤل من أين يدري الملك أن السارق يُؤخذ في السرقة، إذ ليست بشريعته؟
والشاهد في ها الموضع أن يعقوب _عليه السلام_ اجتمعت عنده قرائن متباينة وشهادات مختلفة فمال إلى ما يحكم به تاريخ الأبناء.
فهل يلام أحد إن حصل له ما ورد على الأنبياء؟
أرأيتم كيف تجر بعض التصرفات الخاطئة على صاحبها الويلات؟
فتأمل أخي الكريم وتأكد من تصرفاتك وإياك أن تتصور أن تصرفك ينتهي بانتهاء هذا التصرف، بل قد يبقى تاريخاً شاهداً عليك في حياتك يقرأ الناس به أفعالك وتصرفاتك، بل قد يكون شاهداً عليك بعد وفاتك.(/1)
فكل امرئ يكتب تاريخه، يوسف كتب تاريخه وإخوانه _عليهم السلام_ كتبوا تاريخهم، يوسف _عليه السلام_ كتب تاريخه في هذه الصفحات المشرقة الناصعة في كل هذه المراحل وإخوانه لما وقعوا في الخطأ الأول لاحقهم حتى نهاية القصة، وإلى أن جاء قوله: "لاتثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم".
فما أحوجنا إلى أن نعرف كيف نتصرف كيف أن نضع أقدامنا في المواضع الصحيحة وفي المواطن الصحيحة حتى نصل إلى بر النجاة وتحقق لنا السلامة فلا لا يدنس المرء تاريخه وسيرته بتصرف خاطئ، قد يعف الناس عنه وقد يسامحه الناس فيه، ولكن يبقى ذلك التصرف جزءاً من تاريخه يُقرأ بين مدة وأخرى، وهؤلاء قد سامحهم أخوهم، وسامحهم أبوهم _عليهما السلام، وغفر الله لهم_ لكن بقي صنيعهم تاريخاً يُقرأ إلى يوم القيامة، فلننتبه لهذه الأمور من أجل أن نحافظ على حياتنا وعلى تاريخنا وعلى سيرتنا من أن ندنسها بخطأ مقصود، أما الأخطاء غير المقصودة فلسنا معصومين، أسأل الله أن يتجاوز عنا وأن يغفر لنا وأن يرحمنا، وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وصحابته ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(/2)
المرآة اللبنانية وانعكاسات الأزمة العربية
أحمد فهمي
مجلة البيان / عدد رجب 1427هـ
يقول إبراهيم أمين السيد من علماء الشيعة اللبنانيين المؤسسين لحزب الله: «نحن لا نقول إننا جزء من إيران، نحن إيران في لبنان، ولبنان في إيران». ويقول الشيخ حسن طراد من علماء الشيعة: «إن إيران ولبنان أمة واحدة ووطن واحد». وفي المقابل يقول أحد كبار علماء إيران: «نحن ندعم لبنان سياسياً وعسكرياً كما ندعم إحدى محافظات إيران». [الإسلاميون في مجتمع تعددي/ حزب الله في لبنان نموذجاً. د. مسعود أسد إلهي].
هذه الأقوال المتحمسة تطرح تساؤلاً مهماً حول الأزمة اللبنانية التي أشعلتها عملية «الوعد الصادق» التي نفذها حزب الله اللبناني الشيعي، ونتج عنها مقتل ثمانية جنود إسرائيليين وأسر جنديين، وهذا التساؤل هو: هل هذه الحرب التي أشعلها حزب الله، حرب لبنانية أم إيرانية؟ وهل هي حرب بين حزب الله والاحتلال الصهيوني، أم بين طهران وواشنطن؟
وهناك تساؤلات أخرى أثارتها ردود الأفعال الإقليمية والدولية، ويمكن تلخيصها في أمرين:
ـ لماذا أتى الرد الصهيوني على هذا النحو العنيف والمدمر؟
ـ لماذا أتى الرد العربي عاجزاً ومنتقداً لأداء حزب الله في الوقت نفسه؟
ونقدم في هذا المقال محاولة للإجابة عن التساؤلات الثلاثة.
ü إيران وسياسة تصدير الحروب:
لتحديد الهدف الحقيقي من عملية حزب الله الأخيرة لا بد من توضيح الإطار السياسي والعقدي الذي يحكم العلاقات المتبادلة بين ثلاثة أطراف محورية في المنطقة، وهي: إيران، سورية، حزب الله؛ لأن هذه العلاقات المتبادلة أصبحت العنصر الأكثر تأثيراً على الساحة اللبنانية، وإذا كانت العلاقة بين سورية وإيران محكومة منذ الحرب العراقية الإيرانية بتحالف «العدو المشترك» وهو صدام حسين؛ فإن إطار هذه العلاقات يتوسع حالياً ليتضمن بُعداً عقدياً من ناحية، وسياسياً من ناحية أخرى تجاه خصم مشترك آخر هو الولايات المتحدة، وقد أثمرت العلاقة المتنامية توقيع اتفاقية للدفاع المشترك بين البلدين، إضافة إلى استخدام حزب لله كأداة سياسية وعسكرية لضبط التوازن داخل الساحة اللبنانية والمنطقة على إيقاع طهران أولاً ودمشق ثانياً.
أولاً: حزب الله وصلته بالحرس الثوري:
في عام 1982م اتفقت طهران ودمشق على إرسال وحدات من الحرس الثوري الإيراني للمشاركة في مقاومة الاحتلال الصهيوني للبنان، وعندما وصلت الوحدات الإيرانية إلى دمشق تراجع نظام حافظ الأسد خشية تنامي نفوذ الحركات الشيعية الدينية في لبنان، وجرى الاتفاق على أن يقتصر دور الوحدات على التدريب دون المشاركة الفعلية في القتال، ووصل إلى الجنوب اللبناني في أسابيع قليلة 1500 عسكري إيراني، تم اختيارهم بعناية ليكونوا مدربين عسكريين وكذلك دعاة دينيين يرسخون مبادئ الثورة الخمينية في الجنوب اللبناني، ويؤسسون للسيطرة الشيعية على الجنوب، وكان لهذه الوحدات الدور الأكبر في تأسيس حزب الله بصورة فعلية من النواحي التنظيمية والعسكرية والدعوية، وكانت تلك بواكير ثمار سياسة تصدير الثورة التي تبنتها جمهورية الخميني.
يقول إبراهيم أمين السيد: «لقد نقل الإخوة الحرسيون من الجمهورية الإسلامية إلى لبنان الروح الثورية والاستشهاد وخط الثورة وقيادة الإمام الخميني إلى حد أنه بدا وكأننا مرتبطون جغرافياً ارتباطاً مباشراً بالجمهورية الإسلامية ولا نرى حدوداً تفصلنا عنها». [الإسلاميون في مجتمع تعددي/ حزب الله في لبنان نموذجاً. د. مسعود أسد إلهي].
وكانت غالبية الصفوف الأولى المؤسسة لحزب الله من تلاميذ العالم الشيعي العراقي محمد باقر الصدر مؤسس حزب الدعوة العراقي، وكانوا يحملون فكراً ثورياً شيعياً لم تتحمله المؤسسة الرسمية الشيعية في لبنان وهي المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بزعامة محمد مهدي شمس الدين وقتها، وحسن نصر الله نفسه تلقى العلوم الدينية على يد محمد باقر الصدر في النجف، ثم رحل إلى قم وتتلمذ على مرجعياتها قبل أن يعود إلى لبنان.
ثانياً: حزب الله يدين بالولاء المطلق لخامنئي:(/1)
يقول الحزب في كتيب أصدره لبيان تاريخ نشأته ووجهات نظره: «نحن نلتزم بولاية المرجعية الرشيدة التي يجسدها الولي الفقيه. وهذه المرجعية ليس لها صفة جغرافية أو مصلحية أو قومية أو غير ذلك». ويقول حسن نصر الله: «الفقيه هو (ولي أمر) زمن الغيبة، وحدود مسؤوليته أكبر وأخطر من كل الناس. نحن ملزمون باتباع الولي الفقيه ولا يجوز مخالفته». ويوضح إبراهيم السيد أن هذه التبعية للولي الفقيه ليست قاصرة على الشؤون الدينية فقط، بل تتعداها إلى القرار السياسي: «نحن لا نستمد عملية صنع القرار السياسي لدينا إلا من الفقيه، والفقيه لا تعرفه الجغرافيا؛ فنحن في لبنان لا نعتبر أنفسنا منفصلين عن الثورة في إيران، نحن نعتبر أنفسنا ـ وندعو الله أن نصبح ـ جزءاً من الجيش الذي يرغب الإمام في تشكيله من أجل تحرير القدس الشريف». ويقول حسين الموسوي من قيادات حزب الله: «نحن على المستوى السياسي والديني والعقائدي نتبع عقيدة الإمام الخميني وفكره».
وبعد موت الخميني انتقلت التبعية لخليفته علي خامنئي الذي عيَّن في العام 1995م كلاً من محمد يزبك عضو مجلس شورى حزب الله، وحسن نصر الله الأمين العام للحزب وكيلين له في استلام الحقوق الشرعية من شيعة لبنان وفي مقدمتها الخُمْس بالطبع، كما أن مؤسسات خامنئي هي إحدى أهم مصادر تمويل الحزب الخارجية، وقد صرح خامنئي تعليقاً على المطالبة بنزع سلاح حزب الله كشرط أساس بالقول: «الولايات المتحدة طالبت بنزع سلاح حزب الله، هذا لن يحصل» [صحيفة الحياة]
ثالثاً: حزب الله وسورية من العداء إلى التحالف:
كانت حركة أمل الشيعية في لبنان تحمل وجهات علمانية، أو على الأقل لم تكن تحمل فكراً دينياً متشدداً مثل حزب الله، وكانت حركة أمل حليفاً لدمشق في لبنان، وعندما برز حزب الله للعلن بدأ في سحب البساط من تلك الحركة بتأييد إيراني، ونشأ عن ذلك صراعات وخلافات تطورت إلى حد القتال المباشر نهاية الثمانينيات ولمدة عامين متصلين، ونتج عن التقاتل الشيعي 2500 قتيل و5000 جريح أغلبهم من حركة أمل، إلى أن تم احتواء الموقف من قِبَل دمشق وطهران مطلع التسعينيات، وأصبح حزب الله الأقوى في الساحة الشيعية، وبدأ النظام البعثي في مد جسور التعاون مع الحزب بدعم إيراني لتكوين إطار شيعي ممتد من إيران إلى لبنان، وتأسست العلاقة بين الحزب وسورية على أساس المصالح السياسية المشتركة في لبنان. يقول أبو سعيد الخنساء من عناصر حزب الله: «إن بعض أصدقائنا كانوا ينظرون إلى سورية كعدو ولو لم يتدخل السيد القائد ـ علي خامنئي ـ مباشرة لما صححت هذه النظرة». [الإسلاميون في مجتمع تعددي/ حزب الله في لبنان نموذجاً. د. مسعود أسد إلهي].
ومؤخراً تلاقت المصالح بين الطرفين على وجوب السعي لتغيير قواعد اللعبة في المنطقة، وخاصة أن مستوى الجرأة الصهيونية تجاه دمشق يتزايد باضطراد، والتهديدات لا تتوقف بخصوص الوجود الفلسطيني الفصائلي في دمشق، كما أن الخلافات السياسية اللبنانية تفاقمت وبات من الصعب توجيهها بالصورة التي تخدم مصالح الطرفين، فكان لا بد من البحث عن وسيلة لإعادة ترتيب الأوضاع وفق ترتيبات جديدة.
رابعاً: طهران وسياسة تصدير الحروب:
دخل نظام الملالي منذ عدة أشهر في صراعات سياسية مع الغرب وأمريكا تحديداً، بعد الإعلان عن تخصيب اليورانيوم في المفاعلات الإيرانية، ولأن الطرفين يحرصان على عدم تصعيد النزاع إلى الصدام المباشر، فقد أصبح العراق ميداناً غير مباشر للتنافس بين البلدين، وصدَّرت إيران سياستها التصادمية عبر الأحزاب والميليشيات الشيعية، ولكن مع تصاعد الضغوط الغربية وتوقع تحويل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن واحتمال فرض عقوبات اقتصادية، كان لا بد من البحث عن ساحة أو وسيلة إضافية لتفريق الضغوط الغربية، وكان أحد الخيارات المطروحة استخدام ما يعرف بـ «خيار شمشون» في مواجهة فرض حصار جوي واقتصادي على إيران، حيث تقوم طهران بمنع وصول الإمدادات النفطية من الخليج إلى بقية دول العالم. يقول محمد نابي روداكي عضو في مجلس الأمن القومي ولجنة السياسة الخارجية في البرلمان الإيراني: «في حال اتخاذ قرار بالحظر الجوي أو الاقتصادي فلن يتم تصدير ولو قطرة نفط واحدة من المنطقة. إن جمهورية إيران لديها المقدرة على منع تصدير النفط من ساحل الخليج ومن نفطنا إذا ما أخفقت أوروبا في تناول القضية النووية بحكمة. [دورية مختارات إيرانية، العدد 71].
ولكن كان هناك خيار آخر هو «الحرب الاستباقية عن بُعد» التي تشعل المنطقة وتصرف الأنظار عن الملف النووي الإيراني، وتكسب طهران ورقة تفاوضية جديدة، كما تدعم تأثيرها الإقليمي من خلال قدرتها على إثارة المشكلات والأزمات، ولعل من الشواهد المؤيدة لهذا التحليل الحرص الإيراني على توفر البعد العسكري لدى الأقليات الشيعية التي تدعمها في دول أخرى، وهذه حقيقة ثابتة لا يمكن التشكيك فيها.(/2)
خامساً: الهدف الحقيقي من عملية حزب الله:
أعلن حزب الله عن عمليته التي سماها «الوعد الصادق» وذلك نسبة إلى الوعد الذي قطعه حسن نصر الله على نفسه أن يشارك سمير قنطار المعتقل في السجون الصهيونية في احتفالات التحرير القادمة 25 مايو، وبذلك يكون الهدف الرئيس المعلن من العملية تنفيذ عملية تبادل موسعة للأسرى في سجون الكيان الصهيوني.
ولكن هذا التخريج للأحداث يبدو عسيراً على القبول، وذلك لتوفر مؤشرات وشواهد كثيرة تدعم تحليلاً آخر يقول إن حزب الله نفذ حرباً بالوكالة نيابة عن طهران، وأن الهدف لم يكن تنفيذ عملية تبادل للأسرى، أو حتى تغيير قواعد اللعبة من خلال تفعيل أسلوب الاختطاف باعتباره وسيلة ردع، ولكن كان الهدف الأساس من كل ذلك هو استدراج العدو إلى حرب مكشوفة تكون الخيارات فيها مفتوحة لقصف المدن الصهيونية بالصواريخ ـ الإيرانية والسورية ـ وهو ما يعني ابتكار وسيلة ردع جديدة يفتتحها حزب الله، وهي القصف المتبادل في العمق المدني والعسكري. وكان واضحاً منذ بدء الأزمة أن حزب الله لديه أجندة محددة وخطوات مرتبة، وتصعيد مدروس ومتدرج في تنفيذ عمليات القصف على المدن، بل وفي إدراجها في سياق رد الفعل ـ الردعي ـ على القصف الصهيوني، كما كان هناك تقسيم دقيق للأهداف لا يحرقها جملة واحدة، وبذلك أصبح وارداً ومحتملاً وقريباً أن يتعرض العمق الصهيوني للقصف بصواريخ أقوى تأثيراً في حال تعرض إيران وسورية لهجمات أمريكية أو صهيونية، ولدى البلدين صواريخ تصل إلى عمقها بسهولة، وقد كان واضحاً تطور مستوى الدقة في إصابة صواريخ حزب الله لأهدافها.
وبذلك تكون عملية الوعد الصادق ليس المقصود بها تحرير الأسرى، ولكن تقديم صورة لما يمكن أن يحدث في حال تعرض إيران أو سورية لهجمات أمريكية، وأيضاً تفعيل وسيلة الردع الجديدة. وهناك كما قلنا شواهد تؤيد هذا التحليل نذكر أهمها فيما يلي:
1 ـ عملية «الوهم المتبدد» التي نفذتها حماس قدمت نموذجاً ومثالاً عملياً واضحاً لرد الفعل الصهيوني لا يمكن أن يغيب عن أي متخذ للقرار داخل حزب الله، وبذلك لا يمكن أن يكون الحزب قد فوجئ بمستوى رد الفعل الصهيوني كما يرجح بعض المراقبين.
2 ـ أسرى الحزب في سجون العدو تراجع عددهم كثيراً وأبرزهم ثلاثة فقط هم يحيى سخاف، وسيم نصار، سمير قنطار. ولا يبدو معقولاً أن يُقْدِم الحزب على مغامرة خطيرة كهذه من أجل تحرير قنطار من الأسرى وليس أسيراً واحداً، وخاصة أن الحزب نجح بالفعل في إتمام صفقة تبادل لـ 314 أسيراً لبنانياً وفلسطينياً مع الكيان الصهيوني منذ سنوات مقابل ثلاث جثث متحللة لجنود صهاينة، وكان يمكن بسهولة الاحتفاظ ببضع جثث من عملية الوعد الصادق لمبادلتها لاحقاً، وذلك بلا شك سيكون أخف وطأة.
3 ـ امتلكت الترسانة العسكرية لحزب الله كميات كبيرة ومتطورة من الصواريخ في الفترة الأخيرة، وقدرت مصادر مخابراتية صهيونية عدد الصواريخ بنحو 10 آلاف إلى 15 ألف صاروخ، من بينها فجر 3 وفجر 4 وفجر 5 ويصل مداها إلى أبعد من مدينة حيفا التي تبعد 40 كم فقط عن حدود لبنان، ويمتلك الحزب صاروخاً يصل مداه إلى 150 كم وهو قادر على الوصول إلى العاصمة تل أبيب التي تبعد 120 كم فقط عن حدود لبنان، وترجح التقارير امتلاك الحزب لـ 100 صاروخ فقط من هذا النوع، وقالت تقارير أخرى إن الحزب أطلق صاروخ أرض بحر من نوع سي 208 يتخطى مداه 100 كم وهو من الصواريخ المتطورة جداً في العمليات البحرية. [صحيفة المصري اليوم 17/7/2006م].
4 ـ في حوار مع صحيفة الحياة قال وليد جنبلاط: «الجواب الفارسي لموضوع التخصيب ما حصل في لبنان» وأضاف: «هذه الترسانة المتطورة لا تأتي من العبث، تقول إيران لأمريكا تريدون محاربتي في الخليج أو ضرب المنشآت النووية، نصيبكم في عقر داركم في أرض العدو المحتلة، وساحة المعركة طبعاً لبنان». [الحياة 21/6/1427هـ].
5 ـ توقيت عملية الوعد الصادق في حال افترضنا صحة الهدف المعلن لها، سيكون عجيباً جداً، وخاصة أن هناك عملية سابقة نفذها الفلسطينيون ولم يقبل الكيان الصهيوني حتى الآن بتنفيذ عملية تبادل للأسرى، وعملية نوعية كهذه تحتاج إلى تخطيط طويل المدى وتنتظر فقط قراراً سياسياً، وقد قال حسن نصر الله بصراحة: «نحن الذين نختار الزمان والمكان، ولا يستطيع العدو أن يفرض علينا الوسيلة أو زمن اختيار الوسيلة» إنه إذن اختيار عجيب. [صحيفة الحياة].
ü الرد الصهيوني القوي دليل على الضعف:(/3)
كان إيهود أولمرت رئيس وزراء دولة العدو في زيارة لمنزل الجندي المخطوف في غزة يعد والده بقرب إطلاق سراحه، عندما جاءه السكرتير العسكري للحكومة بخبر اختطاف جنديين آخرين في جنوب لبنان، وكانت الصدمة قوية لدرجة أن اتخاذ قرار الحرب المفتوحة على لبنان جاء سريعاً جداً ودون دراسة كافية لأبعاده، وقد نقلت الصحافة الصهيونية أنه في مجلس الوزراء المصغر الذي اتخذ قرار الحرب على لبنان، كان شيمون بيريز الوزير الوحيد المعترض، وكان سؤاله لرئيس الأركان دان حلوتس عن الخطوات التالية، وقال إنه يفهم الخطوة الأولى والثانية، ولكن لا يفهم الثالثة والرابعة، وجاء رد حلوتس معبراً، فقال: إن الخطوة الثالثة مرتبطة بالخطوة الثانية، وإن الرابعة مرتبطة بالثالثة، وكلها مرتبطة بما سيحدث على أرض الواقع. [صحيفة الفجر 17/7/2006م]. وقد جاء تهديد وزير الدفاع الصهيوني (عامير بيرتس) المفاجئ بأن دولتهم يمكن أن تحتل لبنان عشرين عاماً، ليبرز مدى التخبط حول الخطوات التالية بالفعل، كما أن حزب الله نجح في أن ينافس الجيش الصهيوني في منظومة الفعل ورد الفعل؛ فبعد أن كان الحزب يهدد بأن قصف الضاحية الجنوبية سوف يكون خطاً أحمر، صرحت حكومة العدو بأن ضرب حيفا خط أحمر، ولما ضُربت حيفا أمر الجيش سكان الجنوب اللبناني بالرحيل إلى الشمال، كما هدد الحزب بضرب المنشآت البتروكيماوية في حيفا وغيرها.
والمثير في المشهد السياسي الصهيونيي والذي يكشف عن مستوى المفاجأة أن الحكومة التي يرأسها ويشغل منصب وزير دفاعها مدنيان للمرة الأولى في تاريخ الكيان الصهيوني منذ عام 1948، كانت قد وافقت بإجماع 18 وزيراً وامتناع 8 عن التصويت على تخفيض ميزانية وزارة الدفاع بمبلغ نصف مليار شيكل، ولا شك في أن تعديلاً سيطرأ على الميزانية بعد أن تضاف تكلفة شن حرب مفتوحة ضد لبنان لا يعلم على وجه التحديد متى تنتهي وما تبعاتها.
وقد ذكرت صحيفة هآرتس اليهودية خبراً لو تأكد فسوف يكون مؤشراً على مستوى الضعف السياسي الذي بلغته الحكومة الحالية بقيادة أولمرت والتي تعرضت لخمس طلبات لسحب الثقة منها في الأيام الماضية من أحزاب المعارضة بما فيها الليكود.
قالت هآرتس: إن يوفال ديسكين رئيس جهاز الشاباك الذي التقى (أبو مازن) سراً في الأردن نقل إليه رسالة شبه رسمية مفادها أن تل أبيب لديها استعداد للتفاوض حول صفقة لإطلاق أسرى مقابل الجندي الأسير ولكن مع (أبو مازن) وليس مع حماس. وقال ديفيد وولش مساعد رايس في مؤتمر صحفي عقب محادثاته مع أبو مازن في رام الله: إن قضية الأسرى قضية عاطفية بالنسبة للفلسطينيين ولا بد من معالجتها بين عباس والجانب (الصهيوني) بعيداً عن التدخلات الخارجية. [صحيفة المصري اليوم 16/7/2006م].
ü المرآة اللبنانية والعجز العربي:
أخطر ما في الحرب أنه لو نتج عنها نصر واضح للجيش الصهيوني فسوف يكون ذلك بادرة غير مسبوقة لها انعكاساتها على المنطقة في المرحلة القادمة؛ حيث سيعني ذلك أن حكومة العدو نجحت في تنفيذ سياسة ردع جديدة وفعالة عن طريق استخدام رد فعل هائل يتضمن كل الأعمال الوحشية من قتل وتدمير وتهجير، في مواجهة فعل متوسط أو محدود، ومع استحضار ردود الفعل العربية والدولية الباهتة فإن مستقبل المقاومة سيكون في خطر كبير، وستكون هناك حسابات جديدة ربما تؤدي إلى تقهقر المقاومة، وخاصة أن الانتقال من استهداف المدنيين إلى التركيز على الأهداف العسكرية لم يخفف من الضغوط على المقاومة، بل تأتي الأحداث الأخيرة لتدفع بمسار المقاومة في اتجاه معاكس تماماً، وبذلك تكون الحسابات الإيرانية في المنطقة العربية قد أحدثت ضرراً كبيراً للمقاومة التي تزعم طهران تبنيها ودعمها.
وعلى الجانب العربي أصبحت الدول ذات المشكلات الطائفية والعرقية تعكس بوضوح مستوى الفعل السياسي العربي المتدهور دائماً، والذي انتقل من سياق رد الفعل الذي كان مثار الانتقاد إلى سياق الفعل المُعادي، بحيث إن وزير شؤون الهجرة الصهيوني (زئيف بويم) رحب بالضغوط المتصاعدة التي مورست على حزب الله بشكل شجاع جداً داخل لبنان، وكذلك من جانب الدول العربية المعتدلة [صحيفة المصري اليوم 16/7/2006م].
ويمكن تلخيص دلالات الموقف العربي تجاه الحرب على لبنان في المؤشرات التالية:(/4)
1 ـ تحولت بعض الدول العربية إلى ساحات للصراع وميادين للحروب بالوكالة بين أطراف دولية وإقليمية، وتطور نفوذها داخل الدول العربية إلى التفاوض المشترك بعيداً عن أي طرف عربي حتى لو كانت مصالحه مرتبطة بالدولة محل النزاع، وبعد أن دعت واشنطن طهران إلى مفاوضات مباشرة حول العراق، تسعى إيران حالياً للمشاركة في أي مفاوضات تتعلق بلبنان، وقد كشف الرئيس المصري أن طهران كانت ترغب في المشاركة في جهود الوساطة العربية لدى حزب الله، وقال: «إن الإيرانيين طلبوا حضور اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب وتشكيل لجنة مشتركة تضم حزب الله وحماس، لكن مصر أدركت أن هذا فخ». (الحياة 21/6/2006م).
2 ـ لا تزال الدول العربية عاجزة عن التعامل مع الأمر الواقع، وتصر لاعتبارات الرأي العام ولافتقاد كل قدرة على الفعل على تداول مصطلحات ومسميات لم تعد ذات قيمة في الصراعات الدولية، مثل: دور المجتمع الدولي ـ دور الأمم المتحدة ـ وساطة الولايات المتحدة ـ المصالح العربية المشتركة.
3 ـ الدور المصري منذ استلام شارون للسلطة في عام 2001م طرأ عليه تغير إستراتيجي لم يهتم به كثير من المراقبين، وهو الانتقال من دور اللاعب والمفاوض الرئيس إلى دور الوسيط، والذي تتمثل قيمته في ممارسة الضغوط على الطرف الفلسطيني أو العربي.
4 ـ لم يعد بالإمكان تجاهل حقيقة أن الأقليات العرقية والطائفية بمثابة قنابل تنتظر تفجيرها من قِبَل أعداء العالم العربي، وقد انضمت إيران إلى قائمة الدول التي تسعى إلى اللعب بهذه الورقة لتحريك الأحداث داخل الدول العربية بما يتوافق مع مصالحها.
5 ـ رخص الدماء العربية وتراجع مستوى ردود الفعل حتى لدى الرأي العام المحلي والعالمي مؤشر ينذر بالخطر؛ فهذا يعني أن طابور الطامعين سوف يزداد مع رخص الثمن، وأن المنطقة ستظل معرضة لافتعال حروب جديدة يمكن أن تثور لأتفه الأسباب وأسرعها أيضاً، ولا شك أن دخول إيران على الخط سوف يدفع بدول أخرى للتنافس على الكعكة العربية، وخاصة أن هناك بعض الآراء الغربية التي تدعو للقبول بإيران نووية، فقد صرح بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق في عهد الرئيس جيمي كارتر خلال مشاورات الوكالة الدولية للطاقة مع واشنطن بشأن اتخاذ موقف ضد إيران قائلاً: «إن الغرب مضطر أن يتعايش بجوار إيران النووية» [مختارات إيرانية 71].
6 ـ حكومة حماس أصبحت على مفترق طرق، فرغم أن مركز الحدث انتقل إلى لبنان إلا أن الخطر يكمن في النتيجة التي يمكن أن تسفر عنها الأزمة الحالية، وقد بدأت دول عربية بالفعل في التجهز لهذه المرحلة التي يتوقعون فيها انتصاراً صهيونياً، وستكون حماس أولى الضحايا، ولعل المؤشرات بدأت بالظهور؛ فقد تم إلغاء مؤتمر صحفي لمحمد نزال القيادي في حماس كان مقرراً عقده بالقاهرة التي كان يزورها للالتقاء مع اللواء عمر سليمان مدير المخابرات، وأُخبر نزال أن حياته في خطر؛ لأنه مدرَج على قائمة الاغتيالات الصهيونية، فاضطر للعودة إلى دمشق. [صحيفة الأسبوع المصرية 17/7/2006م].
ويبقى في النهاية تساؤل بسيط في ألفاظه عميق في دلالاته، وهو: ما هي الخطوط الحمراء لدى الدول العربية التي لا يسمح بتجاوزها من قِبَل الولايات المتحدة، أو العدو الصهيوني؟ وهل يمكن القول إن العالم العربي قد تحول بأسره إلى أفق أخضر؟
نسأل الله ـ تعالى ـ أن يلطف بأمتنا المسلمة، وأن يكفيها شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.(/5)
المرأة إماماً وخطيباً
أ.د. سليمان بن فهد العيسى 25/2/1426
04/04/2005
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
أقول وبالله التوفيق ومنه أستمد العون والتسديد: جمهور العلماء من السلف والخلف يرون عدم جواز إمامة المرأة للرجال في الجمعة والجماعات، بل يرون عدم صحة الصلاة خلفها لما يأتي من الأدلة.
هذا وغاية ما استدل به من يرى إمامة المرأة هو حديث أم ورقة، وهذا نصه: (روى أبو داود والحاكم والدارقطني وأحمد واللفظ له، عن أم ورقة بنت عبدالله بن الحارث، وكانت قد جمعت القرآن، وكان النبي –صلى الله عليه وسلم- قد أمرها أن تؤم أهل دارها، وكان لها مؤذن، وكانت تؤم أهل دارها)، هذا وقد صحح الحديث ابن خزيمة، وأعله المنذري بالوليد بن عبد الله، لكن رُدَّ عليه بأن مسلماً احتج به وقد وثقه ابن معين وغيره.
وقد قال الألباني في إرواء الغليل (ج2 ص256) (الحديث حسن)، هذا وقد جاء في نيل الأوطار للشوكاني (جـ3 ص187) ما نصه: وقال الدار قطني: إنما أذن لها أن تؤم النساء أهل دارها) انتهى.
وقال ابن قدامة في المغني (جـ 2 ص199) ما نصه: وحديث أم ورقة إنما أذن لها أن تؤم نساء أهل دارها كذلك) رواه الدار قطني، وهذه زيادة يجب قبولها. انتهى.
قلت: فإن ثبتت هذه الزيادة فلا حجة فيه لقول من يجيز إمامة المرأة للرجال، وإن لم تثبت فلم يثبت أن مؤذن أم ورقة كان يصلي معها مقتدياً بها، فيحتمل أنه يؤذن ثم يذهب إلى المسجد فيصلي به.
هذا والقول بجواز إمامة المرأة للرجال قال به أبو ثور والمزني وابن جرير، وهو رواية في مذهب الحنابلة في التراويح فقط مع اشتراط تأخرها، لكن هذا القول قول شاذ ومخالف لما عليه جماهير أهل العلم، كما تقدم وكما سيأتي.
القول الثاني: عدم صحة إمامة المرأة للرجال لا في الجماعة ولا الجمعة، وهو قول عامة العلماء، فهو قول الفقهاء السبعة، قاله البيهقي في سننه (جـ3 ص90)، وهو أيضاً قول الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي، وأحمد، فقد جاء في المجموع شرح المهذب للنووي (ج4 ص255)، ما نصه: (وسواء في منع إمامة المرأة للرجال صلاة الفرض والتراويح وسائر النوافل، هذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف –رحمهم الله- وحكاه البيهقي عن الفقهاء السبعة فقهاء المدينة التابعين، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وسفيان وأحمد وداود. وقال أبو ثور والمزني وابن جرير تصح صلاة الرجال وراءها حكاه عنهم القاضي أبو الطيب والعبدري، وقال الشيخ أبو حامد: مذهب الفقهاء كافة أنه لا تصح صلاة الرجال وراءها إلا أبو ثور، والله أعلم: قال أصحابنا فإن صلى خلف المرأة ولم يعلم أنها امرأة ثم علم لزمه الإعادة بلا خلاف) إلى أن قال: (ثم إذا صلت المرأة بالرجل أو الرجال فإنما تبطل صلاة الرجال، وأما صلاتها وصلاة من وراءها من النساء فصحيحة في جميع الصلوات إلا إذا صلت بهم الجمعة، فإن فيها وجهين حكاهما القاضي أبو الطيب وغيره في مسألة القارئ خلف الأمي (أصحهما) لا تنعقد صلاتها (والثاني) تنعقد ظهراً وتجزئها، وهو قول الشيخ أبي حامد وليس بشيء) انتهى.
وقد ابن قدامة في المغني (ج2 ص199) في باب الإمامة ما نصه: (وأما المرأة فلا يصح أن يأتم بها الرجل بحال في فرض ولا نافلة في قول عامة الفقهاء، وقال أبو ثور: (لا إعادة على من صلى خلفها وهو قياس قول المزني، وقال بعض أصحابنا: يجوز أن تؤم الرجال في التراويح وتكون وراءهم، لما روي عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- جعل لها مؤذناً يؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها) رواه أبو داود، وهذا عام في الرجال والنساء، ولنا قول النبي – صلى الله عليه وسلم-: "لا تؤمن امرأة رجلاً، ولأنها لا تؤذن للرجال، فلم يجز أن تؤمهم كالمجنون (وحديث أم ورقة إنما أذن لها أن تؤم نساء أهل دارها كذلك) رواه الدارقطني، وهذه الزيادة يجب قبولها) إلى أن قال: (ولأن تخصيص ذلك بالتراويح واشتراط تأخرها تحكم يخالف الأصول بغير دليل فلا يجوز المصير إليه) انتهى.
هذا ومن الأدلة على عدم جواز إمامة المرأة للرجال ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي بكرة –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" والإمامة في الصلاة ولاية.(/1)
أمَّا بالنسبة لمن ضعف حديث أبي بكرة – رضي الله عنه – هذا، واحتجاجه بأن عدالته زالت في زمن عمر – رضي الله عنه – وحاول النيل من عرضه أمر خطير يجب على المسلم الذي يخشى الله ويخاف عقابه أن يترفع عنه، فقد اتفق أهل السنة على أن جميع الصحابة –رضي الله عنهم- عدول، ولكون مثل هذا الكلام يجب إنكاره فإنني أنقل ما قاله العلماء في بيان حال الصحابة من العدالة، فقد قال ابن حجر –رحمه الله- في الإصابة في تمييز الصحابة (ج1 ص162) ما نصه: "(اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول (يعني الصحابة رضي الله عنهم)، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة، وقد ذكر الخطيب في الكفاية فصلاً نفيساً في ذلك، فقال: عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم، فمن ذلك قوله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" [آل عمران: 110]، وقوله: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" [البقرة: 143]، وقوله: "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم" [الفتح: 18]، وقوله: "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه] [التوبة: 100]. إلى أن قال: (في آيات كثيرة يطول ذكرها وأحاديث شهيرة يكثر تعدادها، وجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله له إلى تعديل أحد من الخلق، على أنه لو لم يرد من الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم- فيهم شيء مما ذكرنا لأوجبت الحال التي كانوا عليها - من الهجرة والجهاد، ونصرة الإسلام، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأبناء، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين - القطع على تعديلهم، والاعتقاد بنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع الخالفين بعدهم، والمعدلين الذين يجيئون من بعدهم، هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتمد قوله.
ثم روى بسنده إلى أبي زرعة الرازي قال: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة.
والأحاديث الواردة في تفضيل الصحابة كثيرة، من أدلها على المقصود ما رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن مغفَّل قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه".
وقال ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام (ج5 ص86/87) عن الصحابة، (وكلهم عدل إمام فاضل رضى مرضي، علينا توقيرهم وتعظيمهم، إلى أن قال رحمه الله: (وكلهم من أهل الجنة قطعاً، قال الله تعالى: "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى" [الحديد: 10]، وقال تعالى: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون" [الأنبياء: 101]، فثبت أن الجميع من أهل الجنة، وأنه لا يدخل أحد منهم النار؛ لأنهم المخاطبون بالآية السابقة) انتهى.
هذا ومن الأدلة أيضاً على عدم جواز إمامة المرأة للرجال ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها"، هذا وقد صدرت فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية بعدم جواز إمامة المرأة للرجل، ففي المجلد السابع من الفتوى جمع أحمد الدويش الفتوى رقم (2428)، ما نصه: (ثانياً: لا تصح إمامة المرأة للرجل؛ لأن الإمامة في الصلاة من العبادات، والعبادات مبنية على التوقيف، والسنة العملية تدل على إمامة الرجل للرجال، ولا نعلم دليلاً يدل على أن المرأة تؤم الرجال، أما إمامتها للنساء فلا بأس بذلك، وقد فعلته عائشة –رضي الله عنها-، وأم سلمة –رضي الله عنها-، وروي عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه أمر امرأة من أصحابه أن تؤم أهل دارها -يعني من النساء-.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبدالله بن باز
وأيضاً في الفتوى رقم (2218).
السؤال الثاني: س4 هل يجوز للمرأة أن تؤم الرجال؟
الجواب: لا يجوز للمرأة أن تؤم الرجال؛ لأن ذلك خلاف ما عُلم من الشرع المطهر، وبالله التوفيق
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبدالله بن باز(/2)
هذا وفي مجموع فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله- (ج15 ص147) فتوى رقم (1007) سئل فضيلته عن حكم إمامة المرأة للرجال، فأجاب فضيلته بقوله: المرأة لا تؤم الرجال مطلقاً (فلن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).
هذا ما أردت إيضاحه حول هذه المسألة الهامة، وأسأل الله أن يهدي ضال المسلمين وأن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(/3)
المرأة الأمريكية والتاريخ!!
د.باسم خفاجي
مفكرة الإسلام: لعبت المرأة دوراً هاماً في تاريخ البشرية، وكان لها دور حاسم في تغيير مجرى الكثير من أحداث العالم. وعرفت البشرية عبر حضاراتها المختلفة نساء عظيمات، ولكن بعض الحضارات فشلت في أن تنجب للبشرية نساء يذكرهن التاريخ، بينما نجحت حضارات أخرى في إنجاب نساء كان لهن أثراً ملموساً في حضارات أممهم.
ومن اللافت للنظر أن أمريكا – رغم حضارتها المدنية – قد فشلت في أن تقدم للبشرية امرأة واحدة من سلسلة النساء اللائي ساهمن في صياغة تاريخ البشرية. ليست أمريكا هى الحضارة الوحيدة التي لم تقدم للعالم نساء يعرفهن التاريخ، فكلا من الحضارة الرومانية واليونانية لم تنجحا أيضاً في ذلك، وكذلك الحضارة الصينية.
عندما غادر سيموند فرويد – عالم النفس المعروف – أمريكا عائداً إلى النمسا ذكر أن أحد التجارب الأمريكية الهامة هى تجربة تحرير المرأة، وأعرب عن اعتقاده أن التجربة لن تنجح في إسعاد المرأة الأمريكية، ولعله كان محقاً في ذلك. لقد حصلت المرأة الأمريكية على العديد من الحقوق المدنية، ولكنها فقدت في المقابل العديد من الحقوق الإنسانية، ويفسر ذلك انتشار الإكتئاب والانتحار والطلاق والأمراض النفسية لدى المرأة الأمريكية بدرجة أكبر من معظم الدول الصناعية المتقدمة، وأعلى بدرجة كبيرة من باقي دول العالم.
إن الحفاظ على الحقوق الإنسانية للمرأة أهم من الحفاظ على الحقوق المدنية لكي يحافظ المجتمع على توازنه رغم استحقاق المرأة لكل من الحقوق المدنية والإنسانية ليس مناً من الرجل، ولكنه حق سنه الخالق لها. ولكن التاريخ يشهد أن المرأة نجحت بشكل أكبر في التأثير على المجتمع عندما تمتعت بكامل حقوقها الإنسانية من محبة وتعاطف المجتمع معها، وتقدير الرجل لدورها في بناء الأمة حتى وإن لم تتمتع بكل الحقوق المدنية التي تمتع بها الرجل.
لقد ساهمت المرأة في القرون الماضية في صناعة تاريخ أوربا الحديث رغم عدم حصولها على الحقوق المدنية المتعارف عليها اليوم. وشهدت أوربا إنجازات الملكة فيكتوريا في بريطانيا. والإمبراطورية كاثرين في روسيا القيصرية، وجين دو آرك التي وحدت فرنسا. كان للحضارات الأخرى التي احترمت المرأة واحاطتها بالحب والتقدير نصيبها الوافر أيضاً من نساء التاريخ.
فقد أنجبت الحضارة المصرية كليوباترا، وكذلك الحال مع الأمة الإسلامية التي أخرجت للعالم العديد من النساء اللائي صنعن التاريخ وغيرن من مساره أيضاً وعلى رأسهن أمهات المؤمنين عائشة وخديجة رضي الله عنهن.
إن الحضارات تنجب عظيمات عندما تحظى المرأة باحترام وتقدير المجتمع، وعندما يحيطها المجتمع بالمحبة والتعاطف، وليس بالتنافس والإستغلال. ومن يظن أن المرأة كانت مهملة في تاريخ البشرية قبل القرن العشرين، فليعيد قراءة التاريخ فقد فاته الكثير.
لم يذكر التاريخ عائشة رضي الله عنها أو كليوباترا أو الملكة فيكتوريا فقط لأن مجتمعاتهم شملتهن بالمحبة والتقدير .. ولكن لأن المرأة في تلك الحقب التاريخية كانت محل المحبة والإحترام من كل المجتمع لكل النساء. لم تحتج المرأة في تلك الأيام أن تتعرى لكي تعرف وتشتهر، ولم تستخدم المرأة كسلعة إعلانية أو سائقة شاحنة لكي تنعم بالحرية. لقد تحررت المرأة في أمريكا، وأصبحت قادرة على منافسة الرجال في معظم ميادين الحياة، ونجحت في الحصول على حق الإنتخاب وحق استخدام قدراتها وأحياناً حتى جسدها للنجاح المادي، ولكنها فقدت الكثير من محبة المجتمع واحترام الأجيال الناشئة، ولذلك فقدت السعادة، وتوارت عن صفحات التاريخ.(/1)
المرأة الداعية كيف تنجح في دعوتها
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
ففي عصور الإسلام الفاضلة اشتهرت صحابيات وتابعيات ونساء فقيهات عالمات وأديبات وشاعرات حملن لواء الدعوة والعلم وانطلقن ينشرون في أرجاء المعمورة فانتفع بعلمهن الكثير، فكانوا أقماراً وشموساً في سماء الإسلام الساطعة . واستكمالاً للمسيرة الدعوية ، نقدم للأخت المسلمة الداعية لمحات يسيرة فيما يجب أن تكون عليه لتنجح دعوتها إلى الله .
1- الداعية الناجحة : تأتلف مع البعيدة وتربي القريبة وتداوي القلوب ، قال الشاعر :
احرص على حفظ القلوب من الأذى *** فرجعوها بعد التنافر يصعب
إن القلوب إذا تنافر ودها *** مثل الزجاجة كسرها لا يشعب
2- الداعية الناجحة : تظن كل واحدة من أخواتها بأنها أحب أخت لديها عند لقائها بها ، قال تعالى : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي )
3- الداعية الناجحة : عرفت الحق فعرفت أهله ، وإن لم تصورهم الأفلام ، أو تمدحهم الأقلام ، قال تعالى : { تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ }
4- الداعية الناجحة : أذا قرعت فقيرةٌ بابها ذكرتها بفقرها إلى الله عز وجل ، فأحسنت إليها ، قال الله تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }
5- الداعية الناجحة : تعلم أنها بأخواتها ، فإن لم تكن بهن فلن تكون بغيرهن قال تعالى : { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا }
6- الداعية الناجحة : لا تنتظر المدح في عملها من أحد ؛ إنما تنظر هل يصلح للأخرة أم لا يصلح ؟
7- الداعية الناجحة : إذا رأت أختاً مفتونة لا تسخر منها ، فإن للقدر كرات قال تعالى : { وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ) ، وليكن شعارك : ( يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك )
8- الداعية الناجحة : ترعى بنات الدعاة الكبار الذين أوقفوا وقتهم كله للدعوة ، والجهاد في سبيل الله ، بعيداً عن الأهل والبيت قال تعالى : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وفي الحديث : ( من خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا ) .
9- الداعية الناجحة : تجعل من بيتها مشغلاً صغيراً تنفع به الدعوة ، والمحتاجين ، كأم المساكين ( زينب ) رضي الله عنها .
10- الدعية الناجحة : تعطي حق زوجها ، كما لا تنسى حق دعوتها حتى تكون من صويحبات خديجة رضي الله عنها ، قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم ( صدقتني إذ كذبني الناس ، وآوتني إذ طردني الناس ، وواستني بنفسها ومالها ، ورزقني الله منها الولد ، ولم يبدلني الله خيرا منها ) .
11- الداعية الناجحة : مصباح خير وهدى في دروب التائهين .. تحرق نفسها في سبيل الله ... ( لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من حمر النعم )
12- الداعية الناجحة : تعلم أن مناهجها على ورق إن لم تحيها بروحها وحسها وضميرها وصدقها وسلوكها وجهدها المتواصل .
13- الداعية الناجحة : لا تهدأ من التفكير في مشاريع الخير التي تنفع المسلمين في الداخل والخارج .. أعمالها تظل إخوانها في كل مكان { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
14- الداعية الناجحة : تنقل الأخوات من الكون إلى مكونه ، فلا تكون كبندول الساعة ، المكان الذي انطلق منه عاد فيه .. بل تشعر دائماً أنها وأخواتها في تقدم إلى الله . { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ }
15- الداعية الناجحة : تشارك بقلمها في الجرائد والمجلات الإسلامية والمنتديات ، تشترك فيها وتقوم على إهدائها للأخوات وإرشادهن إلى أهم الموضوعات . والمقال القصير المقروء خير من الطويل الذي لا يقرأ (( أحب الأعمال إلى اله أدومها وإن قلَّ ))
16- الداعية الناجحة : تحقق العلم على أرض الواقع ، كان خلق الرسول الكريم القرآن ، فهي تعلم أن العلم بلا عمل كالشجر بلا ثمر .
17- الداعية الناجحة : تبحث عن الوسائل الجديدة والمشوقة في تبليغ دعوتها ، ولكن في حدود الشرع وسيأتي الزمن الذي تسود فيه التقنية والمرئيات على الكتب والمؤلفات في اكتساب المعلومات { وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ }
18- الداعية الناجحة : لها مفكرة تدون فيها ما يعرض لها من فوائد في كل زمان ومكان " كل علم ليس في قرطاس ضاع "
19- الداعية الناجحة : تعرف في أخواتها النشاط وأوقات الفترة فتعطي كل وقت حقه ، فلنشاط إقبال تستغل ، وللفترة إدبار تترفق بهن (( لكل عمل شرة ولكل شرة فترة ))(/1)
20- الداعية الناجحة : غنية بالدعوة فلا تصرح ولا تلمح بأنها محتاجة لأحد لقوله تعالى { يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا }
21- الداعية الناجحة : تعلم أن المال قوة فلا تسرف طلباتها لكماليات المنزل قال تعالى { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } وتسخر المال في خدمة الإسلام والمسلمين .
22- الداعية الناجحة : تمارس الدعاء للناس ، وليس الدعاء عليهم ، لأن القلوب الكبيرة قليلة كما في قوله صلى الله عليه وسلم (( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون )) ، وقد قال تعالى { قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ }
23- الداعية الناجحة : إذا نامت أغلب رؤياها في الدعوة إلى الله فإذا استيقظت جعلت رؤياها حقائق . قال تعالى { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا }
24- الداعية الناجحة : تطيب حياتها بالإيمان والعمل الصالح ، لا بزخارف الدنيا قال الله تعالى { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
25- الداعية الناجحة : عرفت الله فقرت عينها بالله ، فقرت بها كل عين ‘ وأحبتها كل نفس طيبة ، فقدمت إلى الناس ميراث الأنبياء .
26- الداعية الناجحة : لا تعتذر للباطل من أجل عملها للحق ، وهل يأسف من يعمل في سبيل الله ؟ { قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ }
27- الداعية الناجحة : تكون دائما على التأهب للقاء الله ، وإن نامت على الحرير والذهب !! { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ }
28- الداعية الناجحة : لا تأسف على ما فات ولا تفرح بما هو آت من متاع الدنيا ولو أعطيت ملك سليمان ، لم يشغلها عن دعوة الله طرفة عين ، قال تعالى { لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }
29- الداعية الناجحة : لا تفكر في نفسها فقط ، بل تفكر في مشاريع تخدم المسلمين والمسلمات ، قال الله تعالى { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
30- الداعية الناجحة : تسأل الله دائماً الثبات على الإيمان ، وتسأله زيادته ، قال صلى الله عليه وسلم (( اسئلوا الله ان يجدد الإيمان في قلوبكم ))
31- الداعية الناجحة : لا ترجو غير الله ولا تخاف إلا الله . ومتوكلة على الله ، وراضية بقضاء الله .
32- الداعية الناجحة : قرة عينها في الصلاة ، قال صلى الله عليه وسلم (( وجعلت قرة عيني في الصلاة ))
33- الداعية الناجحة : يجتمع فيها حسن الخلق ، فهي ودودة كريمة جوادة .
34- الداعية الناجحة : تتحمل الأذى من كل من يسيء إليها ، وتحسن إليهم .
35- الداعية الناجحة : العلم عندها العلم الشرعي لا الدنيوي .
36- الداعية الناجحة : أولادها مؤدبون ، دعاة ، قدوة ، تربوا في بيت دين وعلم ، لا يولدون للآخرين الإزعاج .
37- الداعية الناجحة : منارة تحتط لنفسها في مجال النسوة ، وفي غاية الأدب والتحفظ ، وهي صادقة في أخلاقها .
38- الداعية الناجحة : منضبطة تعرف متى تزور ومتى تزار ، حريصة على وقتها ليست بخيلة بزمانها ، وليست ثقيلة فتُمل ، ولا خفيفة فيستخف بها .
39- الداعية الناجحة : لا تنس الفقراء وهي تلبس ، ولا تنسى المساكين وهي تطبخ ، ولا تنسى الأرامل وهي تشتري حاجياتها ، ولا تنسى اليتامى وهي تكسو عيالها ، قال تعالى { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ }
40- الداعية الناجحة : تسعى على تزويج أخواتها في الله ، لأنها تعلمت من حديث النبي صلى الله عليه وسلم (( أن المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا )) ، فلا تترك أخواتها للهم والوحدة والأحزان ، ولا تهدأ الأخت حتى يتم لأختها الخير والسعادة .
41- الداعية الناجحة : إن وقع عليها بلاء كغضب زوج ، أو إيذاء جار ، تعلم أن ذلك وقع لذنب سبق فعليها التوبة والاستغفار .
42- الداعية الناجحة : تصبر على الدعوة إلى الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتصبر على إصلاح عيوب أخواتها ، ولا تتعجل ولا تظن بأحد الكمال ، بل تنصح بلطف وتتابع باهتمام ولا تهمل .
فنسأل الله أن يوجد في أخواتنا وبناتنا مثل هذه الداعية الدرة الثمينة . إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم .
إعداد
دار القاسم(/2)
المرأة الغربية في مستنقع الحداثة
الحداثة تعني عند أربابها شرعية المرحلة الأخيرة من التطور كمنطلق إلى ما بعدها دون مرجعية قيمية أو دينية أو ما أشبهها باعتبار أنها تحمل شرعيتها في ثناياها من منطلق الحداثة وكفى .
وفي اعتقادنا أن الفهم المعاصر لقضايا المرأة في الإسلام لا يمكن أن يتم بغير فهم حدود التماس والتداخل القائم بينها وبين قضايا المرأة الحداثية المستوردة من الغرب ، ومن ثم كان لابد من طرح الموضوع في سياقه الاجتماعي والتشريعي والحضاري العام حول وضع المرأة في المجتمعين : الإسلامي والغربي ، وبتعبير صريح : المرأة بين حقائق الإسلام وأباطيل الغرب ، وهي لاشك من قضايا الساعة الساخنة التي يظن أعداء الإسلام أنهم ينفذون منها إلى حصون الإسلام ليقضوا عليه.
وعندما نضع شئون المرأة هكذا : بين يدي الحقائق تأتي من الإسلام والأباطيل تأتي من الغرب فما ذاك إلا لأن وضع المرأة في الإسلام هو وضع أتانا من الله ، وإذن فإن كل ما يقرره لها الله هو الحق ، لأن الله هو الحق ، ولأنه وهو يضعها حيث يشاء يفعل ما هو حقه من حيث كونه المبدع الحق ، ويبين ما هو حق لها من حيث كونه العدل بحق ، ويبين ما هو حق عليها من حيث كونه الملِك بحق .
أما وضع المرأة في الغرب فهو وضع البشر ، ومن هنا فإن الكثير مما يقرره لها البشر هو بالبداهة باطل ، لأن البشر هنا دخيل على موضوع لا يملكه : لا يملكه معرفة ، ولا يملكه صناعة ، ولا يملكه عدلا ، ومن ثم كان الكثير مما يقرره لموضوعه – الذي هو المرأة – لا مفر من أن يصدر في منطقة الباطل .
نعم لقد حصل – حتى في تراثنا القديم – هذا الانتقال من سعة الحق في الإسلام إلى ضيق المنافذ البشرية بدعوى سد الذرائع أمام الفتنة ، وانحرفت النظرة إليها وإلى طبيعتها نتيجة لذلك ، إننا يجب أن ندرك ما يمكن أن تصل إليه الأمور تحت أسلوب المبالغة في توقع الفتنة وسد الذرائع بتطبيقه الأعرج ، لأنه بهذا التطبيق ينقلب على نفسه بتوليد مفاسد أعظم .
أسلوب سد الذرائع بغير شروطه وما يقتضيه من أفق شامل للرؤية والموازنة لا يلد إلا انفجارا ، وانفلاتا إلى الطرف النقيض الذي آل إليه في المجتمع المعاصر ، مسلما كان أو غير مسلم .ولم يصر المجتمع الأوربي المعاصر إلى ما صار إليه في شئون المرأة إلا بعد أن وصل إلى أقصى الغايات في التضييق على المرأة ثم فيما جره ذلك من تحقيرها ، وظلمها ، والقضاء على إنسانيتها . إننا بهذا التضييق لما وسعه الله نتابع قانون المجتمع الأوربي في منطوقه العام – مهما تدرعنا بالنقاب - وهو قانون المادة في الفعل ورد الفعل .
نعم أليس المجتمع الأوربي هو الذي ضرب الرقم القياسي فيما ابتدعه من حزام العفة ؟ أليست هي أوربا التي بالغت في سلوك هذا الطريق ، فوقع المجتمع الإنساني كله – بعد أن انفصل عن هدي الله – في حلقة مفرغة من قانون الفعل ورد الفعل ؟ والانتقال من النقيض إلى النقيض ؟ وهو قانون المادة الذي رضيه المجتمع الأوربي لنفسه ، ومارسه بطوعه ، وانحرم فيه من عنصر الإرادة الفاعلة ؟
هل أصبح قدرا علينا أخيرا أن ننتقل وراء أوربا من النقيض إلى النقيض من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ، أومن أقصى الطرف هنا إلى أقصى الطرف هناك ، فيحكمنا بذلك قانون رد الفعل بدون تعقل أو بصيرة ؟ فالغلو في التحريم كالغلو في الإباحة حيلة شيطانية تدفع للغواية والعصيان في نهاية المطاف.
وهذا ما حدث عندما غلا المجتمع الإسلامي في التحريم من باب نظرة قاصرة إلى مبدأ سد الذرائع ، فانفلت عيار المجتمع وتلقفته مصاريع أبواب الغرب التي كانت مفتحة أمامه هناك ، وانغلقت أبواب الدعوة ، وانغلقت بذلك أبواب انتشار الإسلام كبديل لحضارة منهارة ، كما انغلقت أبواب تطبيق الشريعة بدعوى واقع منفرلأنظمة وجماعات وحركات إسلامية أخذت تطبق نظرتها إلى المرأة من باب سد الذريعة وخوف الفتنة ، فمنعتها من التعليم كما منعتها من العمل ، فوقعنا في الفساد الأعظم من حيث أردنا التوقي من الفساد الأقل فخرقنا مبدأ سد الذرائع نفسه وأهدرناه .
إنه إذا كان لابد من اختلاف في المسائل التي لم يرد فيها نص قطعي أو إجماع صحيح فاتركونا نختلف لصالح الدعوة : لصالح الدفاع عن الإسلام ، وفتح الآفاق أمامه مرة أخرى .
وقواعد الفقه غنية بما يمكن النظر فيه من أجل أن تتحرك الحركة الإسلامية على قاعدة من الوفاق العملي ، وإن اختلفت الأحكام النظرية – في المدى البعيد – في بعض الحالات .(/1)
لو علم المختلفون في المجال الإسلامي عمق المعركة التي يتعرض لها الإسلام من خلال موقع المرأة في المجتمع ، وهي المعركة التي كان مؤتمر بكين الذي عقد عام 1995 – على ضجته ، ودوليته وعالميته التي أحرزها – مجرد ذؤابة جبل الجليد المستتر بجسمه وحجمه الحقيقي تحت الماء ..لو علموا ذلك للملموا أوراقهم ، وهرولوا للوقوف في صف واحد ، يذودون عن الإنسانية ، وعن الدين ، وعن المجتمع ، وعن الإسلام ، جميعا ، ضد عوامل الضلال والتدمير التي تطل برأسها من خلال العولمة ، والعصرنة ، والحداثة ، والفكر الحديث ، والثقافة الحديثة ، والحضارة الحديثة ، بل من خلال بروتوكولات حكماء صهيون - التي تمثلها أمثال الكاتبة اليهودية شولاميت فاير ستون في كتابها " جدلية الجنس " ومؤتمر بكين ، وهيئة الأمم المتحدة ، - والتي لا تحتاج إلى دليل على صدورها عن الصهاينة أقوى مما يجري على الساحة اليوم .
وإنا لنضم إلى خصوم الإسلام هؤلاء - في سوء الأثر- أطفالا يجتهدون !! وعلمانيين يجتهدون ، ومتكلفين ، ومرائين ، تمتلئ بهم ساحة الفتوى : ممسوخين بظاهرة الهزيمة الحضارية والمبادرة إلى التزييف من ناحية ، أو التعصب والتشنج من ناحية أخرى ، والمسارعة إلى قذف الآخر بأخطر التهم وأشنعها مما لا محل له في هدي الإسلام ، ولا مكان له في هدي السلف الصالح .
لقد تبين لكل ذي عينين المدى الواسع الذي ذهب إليه الإسلام في تكريم الإسلام للمرأة وفي تمكينها من الحياة الكريمة - مما بيناه في مقام آخر وتكفلت به موسوعة جليلة بعنوان " تحرير المرأة " للأستاذ عبد الحليم أبو شقة يرحمه الله – كما تبين إلى أي حد أننا بإسلامنا في غنى عمن يدلنا على قيمة المرأة في المجتمع الإسلامي .
إننا في غنى عن الدفاع عن موقف الإسلام من المرأة بدروع ممزقة ملطخة من دروع الثقافة الأوربية أو القاسمية أوالبيكينية أو الحداثية .
نشير هنا إلى معالم البيئة التي ظهرت فيها دعوات تحرير المرأة المعاصرة ، تلك التي تنصب لنا على كل قارعة ، وتصل إلى مؤتمر بكين : هدفا حضاريا ، علينا أن نعمل للوصول إليه.
هنا نلقي نظرة – نستغني معها عن حاسة الشم – على المستنقع الذي يراد لنا أن نغترف منه، تجري فيه الحركة وفقا لقانون المادة الغاشمة : " فعلا" و " رد فعل " .
إذا ذهبنا إلى الجذورلنسجل " الفعل "- ولابد من ذلك وإن كنا نستهدف في النهاية المرأة الحداثية فهذه الثمرة لابد من تلك الجذور - نجد :
أن المرأة كانت عند اليونان من سقط المتاع تباع وتشترى في الأسواق ، وكان رد الفعل على ذلك أن انتشرت عبادة أفروديت ، وأصبحت مواخير الدعارة ذات شأن عظيم ، وصارت مراكز للعبادة .
وعند الرومان كان عقد الزواج يسمى " اتفاق السيادة " سيادة الرجل على المرأة ، ثم انفلت العيار – كرد فعل – إلى النقيض ، فتورمت قضية المرأة ، وانفلت معها عيار الفحش ، والعري ، والاستحمام المختلط العاري ، والمسرحيات العارية المختلطة ، ، والفن العاري.
واعتبرت المرأة في التراث اليهودي رأس الرجس ، والنجس ، ومنبع الخطايا ، ، وفي حال الحيض تعتبر نجسة ، نجاسة عينية فلا يجالسها أحد ولا يؤاكلها أحد ، وكانت لا ترث إذا كان لها إخوة ذكور .
وتبنت الكنيسة الغربية نظرة اليهود إلى المرأة ، وأصبحت مشغولة بقضية المرأة : هل لها روح مثل الرجل ؟ وهل هي من جنس الإنسان ؟ أم من جنس آخر ؟ وظلت هذه المشكلة قائمة إلى ما بعد القرن السادس الميلادي ( 586 ) م ، حيث قرر مؤتمر كنسي : أن المرأة إنسان ، وليست بحيوان ، ولكنها خلقت مع ذلك للاستخدام في مصالح الرجل .
يقول الواعظ المسيحي الشهير تريليان وهو يتحدث عن النساء : ( كل منكن " حواء " [هكذا] أنتن باب الشيطان ، أنتن الآكلات من الشجرة ، أنتن أول من خالف الشريعة الإلهية ) . وزعموا أن هذا هو كلام الله الذي يدخل في صلب العقيدة .(/2)
وكانوا وما زال كثير منهم يحرم الزواج على رجال الكنيسة ، ويسمي الزواج الزنا المهذب ، وما يزال بابا الكنيسة الكاثوليكية يرفض المطلب الذي تقدمت به الراهبات لفتح الباب أمامهن لخدمة الرب في السلك الكهنوتي ، ومن المعروف أن في الولايات المتحدة الأمريكية مائة وخمسة وأربعون ألف راهبة يتطلعن للمساواة مع الرهبان ، ولكن لم تجرؤ على إعلان هذا المطلب والاحتجاج المهذب إلا خمسون فقط ..وقفن أثناء خطاب البابا في زيارته لنيويورك عام 1979 وقد وضعن شارة على أذرعتهن ، وبعد صلاة استغفار طوال الليل ، ولكن البابا أصر على أن الكهانة مهنة الرجل . وأن الله اختار الرجل لهذه المهنة ، ولو كان يريد مساواة الرجل بالمرأة لما جاء المسيح في صورة الرجل . يقول كلير راندال سكرتير عام المجلس الوطني للكنائس : ( لقد تكلم البابا كأن المرأة لا يمكن أبدا أن تصبح كاهنة ، وأكد فيما يتعلق بالقداسة أنه لا يمكن للمرأة أن تكون لها نفس علاقة الرجل بالرب . كأن الرب لا يستطيع – على حد تعبير ذلك الكاهن ، وحاشا لله - : لا يستطيع استخدام المرأة بنفس الطريقة التي يستخدم بها الرجل ) . مع أن العقل يمكنه أن يجزم – كما يقول أحد المعلقين – بأنه إذا كانت هناك مهنة في العالم يجب أن تتحقق فيها المساواة بين الرجل والمرأة فتلك هي خدمة الرب في سلك الرهبنة ، لأن كلا منهما يتعالى في هذه المهنة عن صفته المميزة ، ويتحول إلى كائن فوق الذكر والأنثى عندما يضحي بأقوى غريزة في الإنسان ) أنظر كتابنا " الفكر الإسلامي في مواجهة التيارات الفكرية المعاصرة " ص 53-54
ويتساءل بعض الباحثين : لماذا يهتم مؤتمر بكين للمرأة بتقرير الحرية الجنسية للمرأة ، ولا يهتم بتحريم الجنس نهائيا على مائة وخمسين ألف امرأة في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها ، وما لا يقل عن خمسة عشر مليونا في العالم هن عدد الراهبات ؟ فإذا كان الرد هو : لأنه في الحالة الثانية تتم الرهبنة باختيار المرأة وإرادتها ، فإن الرد على ذلك : هو أن الحرية لا تكون مرة واحدة ، ولابد من حق المراجعة ، والبابا – عام 1979 بالتحديد – يرفض أن يحل أي راهب أو راهبة من القسم ، ويقول : " إن السلك الكهنوتي هو اختيار أبدي ، فنحن لا نرد عطاء الله ، الرب الذي قال : نعم ، لا يحب أن يسمع : لآ " هكذا
وفي باب المقابلة بين الدعوة إلى حرية المرأة وحرية الجنس وبين تعاليم الكنيسة نتساءل : أي سجن هذا ضد طبيعة الإنسان وفطرته ؟ وأي انفلات ذاك – في جانب الحرية – ضد طبيعة الإنسان وفطرته أيضا ؟ إنه قانون المادة : الفعل ورد الفعل
وإذا كان هذا موقف الكنيسة الغربية فإن المجتمع الأوربي الحديث كان غارقا في هذا المستنقع ، ولنخط خطوة صغيرة إلى الوراء لنرى القانون الإنجليزي حتى عام 1805 يتيح للرجل أن يبيع زوجته ، وحدد ثمنها بستة بنسات ، وظل هذا البيع ساريا ، حتى بعد إلغاء هذا القانون . ففي عام 1931 باع رجل زوجته بخمسمائة جنيه لا غير \ انظر ( المرأة بين الفقه والقانون ) للدكتور مصطفى السباعي ص 21 \ ، ثم اقرؤا بعد ذلك قصة توماس هاردي الأديب والشاعر الإنجليزي الكبير بعنوان ( عمدة كاستر بردج ) حيث نجد البطل بعد أن تدهور به الحال إلى قاع الفقر يعرض زوجته باتفاق معها في الأسواق ، ويبيعها ويقبض ثمنا زهيدا لها . أنظر القصة
ولم يكن للمرأة في أوربا المعاصرة ذمة مالية مستقلة ، ولا تملك التصرف في ملكها بدون موافقة الزوج ، ولا يزال لهذا القانون أثره في القوانين الفرنسية إلى عهد قريب .
وظل القانون الفرنسي حتى عام 1938 يسوي بين الصبي والمجنون والمرأة في عدم أهلية التصرف في الملك الخاص .
ولقد كان الأديب الإنجليزي الشهير هـ . ج . ولز يذهب إلى أن الاختلاف بين الرجل والمرأة راسخ الجذور بحيث يستعصي على الزوال ، وأنها أقل منه طموحا وأقل مهارة حيث يتاح لها العمل بجوار الرجل وهي أكثر انشغالا بشئون المنزل ، وسيظل الشطر الأعظم من أعمال الإنسان مقسوما بينهما إلى الأبد : أعمال يختص بها الرجل وأعمال ينفرد بها النساء : أنظر كتابه " المرأة " – ترجمة الدكتور زكي نجيب محمود –
وكيف ينظر علم النفس الحديث إلى المرأة ؟ عند فرويد بخاصة وهو من هو في تأسيس المدرسة التحليلية الكبرى في علم النفس الحديث ؟(/3)
إن المرأة عند فرويد مخلوق مغرم بتعذيب الذات ( السادية ) من ناحية ، والإعجاب بالذات والنرجسية من ناحية أخرى ، وهي أمور تتميز بها المرأة على الرجل ، كما أنها أكثر منه عرضة للأمراض العصابية القهرية ، وأكثر منه افتقارا إلى الشخصية الأخلاقية التي يتميز بها الرجل ، أو على الأقل : عدم قدرتها على بلوغ نفس المستوى الأخلاقي الذي يمكن للرجل أن يصل إليه . وقد نبعت كل هذه الصفات والخصائص من الفكرة الفرويدية عن غيرة المرأة من تمتع الرجل بعضو الذكورة وحرمانها منه ، من حيث نشأ لديها ما يسميه " عقدة الإخصاء " ، وبحيث إن كثيرا من سلوك المرأة يمكن رده إلى هذا الشعور بالغيرة أو حتى بالحسد . بل إنه يمكن في رأي فرويد ومدرسته رد معظم الآمال التي تحاول المرأة تحقيقها وكذلك الإنجازات التي تصل إليها إلى رغبتها في تعويض فقدها لهذا العضو الهام .
وهذه النظرية تعتبر أحد الأسس القوية في التحليل النفسي كما يقول بعض العلماء ، وإن كان التحليل النفسي أخيرا يميل إلى تقليل الأهمية التي أعطيت لعقدة الإخصاء . \ أنظر مقال : الدكتور أحمد أبو زيد بمجلة عالم الفكر ، العدد الأول من المجلد الثامن ص 237
وماذا عن موقف العلم الحديث من المرأة ؟ فيما يسمى اليوم علم البيولوجيا الاجتماعية كفرع جديد من العلوم الاجتماعية ؟
يعتبر عالم الحيوان الأمريكي إدوارد ويلسون في طليعة من يروجون لهذا العلم ، ويدافعون عنه . وهو وكثيرون غيره من الأنصار والتلاميذ يعتقدون أن جانبا من السلوك الإنساني محدد وراثيا ، وأن العنصر الفعال في الصراع من أجل الحياة والاستمرار في الوجود والتناسل يرجع إلى الجينات الوراثية ، وتفسر البيولوجيا الاجتماعية الكثير من الاختلافات السلوكية بين الجنسين على أساس اختلاف الجينات ايضا .
فالرجل لا يأبه كثيرا برعاية الأطفال – بعكس المرأة – بدافع وراثي لأنه أي الرجل يمكنه أن يوزع جيناته أومورثاته وينشرها بسهولة ، وعلى نطاق واسع عن طريق تلقيح وإخصاب أي عدد يشاء من الإناث .
بينما المرأة تتحمل عبء تربية الأطفال لأنها لا تستطيع أن تحمل طوال حياتها سوى عدد معين من المرات ، وهو عدد محدود وقليل جدا إن هو قورن بما يستطيع الرجل أن يفعله ، وهذا يعني أن المرأة – بدافع حيواني بحت – تميل بطبيبعتها إلى التركيز على أعمال البيت وإعداد الطعام . بينما يميل الرجل – بدافع حيواني بحت أيضا - إلى التركيز على النساء . وهي ميول تقدمها البيولوجيا الاجتماعية من خلال منطلق غريزي عند كل من الرجل والمرأة ، وقد ذهب ويلسون إلى أقصى ما يمكن من نتائج هذه النظرية ، حيث ذهب إلى أن تقسيم العمل بين الرجل والمرأة يرجع إلى اختلاف الجينات لدى كل منهما ، وقد نشر ويلسون هذه الآراء كلها في كتاب له بعنوان " البيولوجيا الاجتماعية " عام 1975 { تلك نظرة السوق أم البيولوجيا ؟ }
وكيف تنظر الرأسمالية إلى المرأة اليوم ؟
إنها تدفعها دفعا قويا إلى العمل في المصانع والمكاتب ، لا لشيء غير أن تزاحم الرجل في سوق العمل فيزداد المعروض منهما كسلعة رأسمالية تزداد رخصا \ أنظر مقال الأستاذ الدكتور أحمد أبوزيد بمجلة عالم الفكر العدد الأول المجلد الثامن ص 245\
وإذا تسببت في انتشار البطالة في المجتمع – لزيادة العرض في الأيدي العاملة – فإنها تلجأ – أي الرأسمالية – إلى حلولها الوحشية في التضخم ، ورفع الأسعار ، وطرح النقود كسلعة في الأسواق .
وكيف ينظر الإعلام الحديث إلى المرأة ؟ إذ يدفعها دفعا قويا في وسائل العرض في التليفزيون والمسرح والسينما باعتبارها سلعة من الرقيق من ناحية وعنصرا فعالا من عناصر الجذب والترويح والترويج بعيدا عن كل قيمة وشرف من ناحية أخرى ؟
ثم لننظر إلى نتائج ذلك كله ؟
في دراسة نشرتها مجلة إيسكوير – عدد يونيو 1990 ، أظهرت أن :
50% من الأزواج يخونون زوجاتهم بحسب اعترافهم .
بينما يقول 65% من الزوجات أنهن مقتنعات بأن ليس لأزواجهن علاقة بواحدة من غيرهن ، { فانظر إلى أسطورة الصراحة والصدق التي يتجملون بها كذبا في ممارسة الفاحشة } .
35% من الزوجات يخن أزواجهن بحسب اعترافهن .
بينما 75 % من الأزواج يقولون : إنهم متأكدون من أن زوجاتهم غير خادعات لهم على الإطلاق ، تلك هي الخيانة فأين الصدق الذين يتباكون حول قبره في ممارسات الساسة الكبار؟(/4)
وفي أمريكا تؤكد بعض الإحصائيات الأخيرة أن 4,5 مليون زوجة تعرضن للعنف والقسوة والضرب من جانب أزواجهن في العامين 1993 ، 1994 ، وهذا يعني بإحصائية بسيطة أن كل الزوجات هناك – على وجه التقريب – يتعرضن للعنف ، والقسوة . ولقد كانت هذه النسبة سببا في إنشاء بوليس خاص لنجدة الزوجات من أزواجهن ، وذلك بعد أن دفع بوليس مدينة واحدة هي " تورنيجتون " تعويضات باهظة وصلت إلى ثلاثة ملايين دولار ، بسبب فشل هذا البوليس في حماية الزوجات اللاتي طلبن نجدته . أنظر جريدة الخليج 23- 9- 1995 كلمة " فوزية رشيد " بعنوان جدول ضرب جديد .
وقد أفادت الإحصائيات التي أعدها مجلس مكون من رؤساء المنظمات الصحية والتجارية في أمريكا :
أن مليون مراهقة أمريكية – أي ما يعادل واحدة من كل عشرة مراهقات – يتورطن بحمل غير مرغوب كل عام .
وأن مليونين ونصف مليون من المراهقين والمراهقات يصابون بأمراض تناسلية خطيرة نتيجة تفشي الإباحية .
وأن معدل الانتحار بين فئة هذا الجيل – الحاضر – تضاعف منذ عام 1968 ، وأن 10% من الذكور المراهقين ، و 20% من الإناث المراهقات يحاولون كل عام الانتحار كوسيلة للتخلص من مشاكلهم الصحية والعاطفية والاجتماعية .
وأن أمريكا هي الدولة الأولى في العالم من حيث استهلاك المشروبات الكحولية .
وهي الأولى في العالم من حيث الإدمان على المخدرات ، حيث تستهلك 80% من إجمالي المخدرات في العالم .
وأن 60% من الشباب في أمريكا يتعاطى المخدرات بشكل متقطع أو دائم يصل إلى حد الإدمان .
وأنه في خلال عقد الثمانينات ارتفع بشكل ملحوظ عدد حالات الطلاق وأصبحت أمريكا الدولة الأولى من حيث عدد الأسر الأحادية ، أي التي تقوم على الأب والأطفال فقط ، أو الأم والأطفال فقط .
وأنه زاد عدد السجناء في أمريكا عام 1990 على ثلاثة ملايين سجين .
وأن الشعب يحمي نفسه بحمل السلاح ، حيث يحمله 85% من الشعب الأمريكي للدفاع عن أنفسهم .
وأن أمريكا هي الدولة الأولى في العالم من حيث وقوع حالات الاغتصاب ، حيث يتعرض 21% من كل نساء أمريكا للاغتصاب ، وأن 24 حالة اغتصاب أبلغ عن حدوثها في صفوف الجيش خلال حرب الخليج لتحرير الكويت .
وأن 22 ألف حالة اغتيال تمت عام 1991 ، أي أنه في كل 25 دقيقة هناك اغتيال ما في مكان ما في أمريكا ، وحتى في العاصمة واشنطن تزايد الإجرام بنسبة 60% خلال عام 1991 \ راجع بحثا للدكتور عبد الخالق عبد الله ، نشر بعضه بجريدة الخليج في 21- 9\ 1992.
وأن جرائم القتل تعد العامل الأول في وفيات الأمريكيين السود الذين تتراوح أعمارهم بين 10-20 عاما \ جريدة الاتحاد 11-6-1990
وفي كتاب (أمريكا بلا آباء ) الذي أثار ضجة في أمريكا بصدوره أخيرا : يورد المؤلف نسبة هامة من الأطفال - وللمرة الأولى في التاريخ - لا يعرفون آباءهم ، حيث توضح الإحصائيات أن نسبة 30% من الأطفال الأمريكيين تربوا بعيدا عن آبائهم الطبيعيين .
وقد تأثر المجتمع الأمريكي بشدة من مشكلات الطلاق ، وانفصال الأبوين ، وكذلك من ولادة الأطفال غير الشرعيين .
ويؤكد المؤلف على أن نسبة النصف من الأطفال الأمريكيين سيمضون جزءا من الوقت بعيدا عن آبائهم . ويقرر : أن مفهوم الأبوة في مجمله قد أصبح يتعرض لتهديد وهجوم بالغين من تيارات ثقافية واجتماعية .حيث يرى المجتمع الأمريكي بقيمه الجديدة أن الآباء يمثلون عبئا لا ضرورة له ، وليست له أهمية ، بل إن البعض يتطرق إلى فكرة الأبوة وكأنها ( شر مستطير ) ، وحيث يقدس بعض المنظرين فكرة البطولة الشخصية التي تتحلى بها المرأة التي تقوم بتربية أبنائها بدون مساندة الأب ماديا ومعنويا .
ويتعرض الكتاب أيضا لظاهرة الأطفال اللقطاء بين الجنس الأبيض في أمريكا خلال العقدين الأخيرين ، وكانت تلك مشكلة قد استفحلت بين السود فقط فيما مضى ، وعلى نحو أدى إلى انهيار الأسرة خلال الستينات وما بعدها .
ويرصد المؤلف التيارات التي تدعو إلى الاهتمام بدور المرأة وحدها في المجتمع ، والتي تروج للفكرة القائلة بأن "الرجال ليسوا سوى عنصر مضايقة للنساء " ، ويصور المشاكل النفسية التي لا حصر لها التي تنتج عن اختفاء دور الأب ، ويعتقد بأن ظاهرة العنف والجريمة في المجتمع الأمريكي قد جاءت نتيجة عدم تلقي الأولاد الضالين التوجيه من الآباء ، وخاصة في أعوام التكوين الأولى ، ويرصد المؤلف أيضا ظاهرة انتشار الأمهات المراهقات التي أشرنا إليها سابقا ، حيث إن فتيات عديدات لم يخرجن بعد عن مرحلة الطفولة والسذاجة يصبحن أمهات في وقت مبكر . ويشير الكاتب إلى ظاهرة أخرى تتمثل في أن أعلى نسبة من الشذوذ الجنسي تأتي بفعل زوج الأم .
ويرصد المؤلف ظاهرة الطلاق في المجتمع الأمريكي : حيث يظهر أن 75 % من قضايا الطلاق في أمريكا حاليا تكون المرأة وحدها هي المسئولة عنها .(/5)
كما يرصد في الوقت نفسه ظاهرة لجوء بعض النساء إلى عمليات التلقيح الصناعي من آباء ليس لهن بهم علاقة أو ارتباط : معنويا ، أو أخلاقيا ، وحيث يكون دورهم مجرد إخصاب المرأة عن طريق التبرع بالحيوانات المنوية ، في مقابل مكافأة مالية ، وحيث تفضل هذه الطريقة على بنك الحيوانات المنوية ، وحيث تسود هذه المشكلة بين النساء الشاذات جنسيا اللائي يرغبن مع ذلك في إنجاب الأطفال بدون معاشرة جنسية مع الرجل .
كما يرصد لجوء بعض الأمهات إلى خدمات رجال يعملون " مربي أطفال " ، وحيث تعتقد المرأة الأمريكية أن في هذا بديلا عن الأب الحقيقي ، وحيث المفهوم السائد أن كل شخص يمكن أن يلعب دور الأب .
كذلك فهو يرصد حالات العيادات النفسية المليئة بآلاف الحالات التي تصل فيها الأم إلى حد الجنون والهوس بسبب تملك الروح الانفصالية لديها ، ومحاولة السيطرة بمفردها على مقدرات أولادها .
ويوجه المؤلف تحذيرا بأن أمريكا ستصبح أمة من اليتامى والمجرمين والمنحرفين لأن فكرة استقلال المرأة عن الرجل قد خرجت عن الحدود المعقولة ، لتصبح مجرد تيار هدام ، يرسخ الانفصالية النسائية ، ويستبعد دور الرجل .
ثم يشير المؤلف إلى الإعلام الأمريكي – وبخاصة شبكات التليفزيون – التي تبث أفلام الرعب ، والجريمة ، بلا انقطاع ، وإلى دورها في تغذية هذه المفاهيم . \ كتاب " أمريكا بلا آباء " تأليف ديفيد بلانكينهورن ، ، نشر : بيسك بوكس – لندن ، عرض : رائف محسن جريدة الخليج 29-9-1995
وإذا كانت ظاهرة الأطفال بلا آباء قد أصبحت مزعجة فإنه يحق لنا أن نربط ذلك بظاهرة ثقافة بلا آباء تلك التي يشير إليها المؤلف في قوله : لقد أصبحت الثقافة الأمريكية ( مجرد ثقافة بلا آباء ) ، أي أنه ليس لها جذور عميقة وأصول راسخة ، بل تعتبر ثقافة شيطانية ، مثل النباتات البرية ، بل يحق لنا أن نجعل كلا من الظاهرتين متأثرة ومؤثرة في الأخرى ، وماذا تجني مرجعية مفقودة غير قِبلة موؤدة ؟!
وترجع أهمية الكتاب إلى أن المؤلف هو رئيس معهد أبحاث في نيويورك ، يعرف باسم (معهد القيم الأمريكية ) . وقد أصدر هذا المعهد دراسات تتعرض لهذه المشكلات الخطيرة ، وتوضح أن الافتقاد إلى روح ومضمون الأبوة ليس مجرد أزمة في حد ذاتها فحسب ، ولكن لأنها – أيضا – تؤدي إلى خلل خطير في نسيج المجتمع .
تلك هي الثقافة اللقيطة التي يراد لنا أن نتجه إليها تحت إرهاب ما يسمى النظام العالمي الجديد ، أو ما أصبح يسمى العولمة ، أو الحداثة ، أو ما أخذ يتبلور أخيرا ليصبح عالم القوانين الدولية الصادرة عن الكونجرس الأمريكي !!.
تلك التطورات التي تحدث للغرب في شئون المرأة والأسرة عموما تمثل جناية كبرى على الطفل ومن ثم على المستقبل .
إنه من الواضح أن المرأة مستعمرة الطفل :
يتبين ذلك في تركيبها الجسماني عموما وفي تشريح الصدر والحوض والرحم على وجه الخصوص ، فماذا في هذا الجسم للمرأة ؟!
ويتبين في تركيبها العاطفي المسخر تماما لمصلحة الطفل ، فماذا لها في عواطفها بعد ذلك؟!
ويتبين في تركيبها الذهني المستعد لمعاشرة الطفل ، فأي نكران لذلك ؟!
ومن ثم نقول : إن أي تصرف أساسي مضاد لطبيعتها تلك فإنه لن يكون في نهاية المطاف إلا تخريبا لمستعمرة الطفل وجناية عليه ، ثم جناية على الإنسانية كلها من بعد ذلك .
إنهم يسحقون الطفولة خلافا لكل دعاية مصطنعة .
وإننا لنجد مصداق ذلك فيما كتبته الكاتبة اليهودية " شولاميت فاير ستون " من ثورة على الأمومة في كتاب لها صدر في عام 1970 بعنوان ( جدلية الجنس ) شنت فيه هجوما شديدا على مفهوم الأمومة ، و اعتبرتها – أي الأمومة – مصدر النظام الطبقي القائم على الجنس ، وصرحت بأن قهر النساء يبدأ بتحولهن إلى أمهات ، ثم أضافت أن ذلك قد يبدو تنكرا للطبيعة ، لكن الطبيعة في رأيها ينبغي أن تذهب إلى الجحيم ، إذا وقفت حائلا دون ثورة النساء على العبودية والقهر . ولاشك لدينا أن الكاتبة قد أدركت حقيقة وضع المرأة الطبيعي بالنسبة للطفل ، ولكنها ضلت ضلالا بعيدا عن سلم القيم الصحيح حين وضعت قيمة التمرد فوق قيمة النظام الطبيعي ، كما أن ما ذهبت إليه يسمح لنا بأن نشخص معركة المرأة المعاصرة تشخيصا صحيحا بأنها ليست كما يشاع صراعا بين الرجل والمرأة ، ولكنها إذن صراع المرأة الغربية المعاصرة ضد الطفل الأعزل ، في الوقت الذي لا يزال الرجل في بعض وعيه ليتبنى قضية الطفل في هذا الصراع.(/6)
وفي ألمانيا يؤكد عدد كبير من المنظمات الألمانية – بمناسبة اليوم العالمي للطفل الذي صادف يوم 20\ 9\1995 أن الألمان لا يحبون الأطفال ، وأن بلادهم تحتل مركز الصدارة الأوربية في العداء نحوهم . وتبلغ هذه الكراهية حد اشتراط عدم وجود أطفال مع المستأجرين ، وقال رئيس اتحاد حماية الطفولة – { وهكذا تنشأ هذه الاتحادات مؤشرا على خراب ما يتحدون من أجله } – هاينتس هيلغرز أن الحكومة الألمانية " تنتهج سياسة ضد الأطفال لا معهم " وأشار إلى أن أكثر من ثلاثة ملايين ومائتي ألف طفل من أصل ستة ملايين وخمسة عشر ألف طفل : يعيشون في حالة فقر في ألمانيا ، وأن أكثر من مليون طفل يتعرضون للضرب على أيدي ذويهم ، وأن 70% منهم يعانون اضطرابات نفسية وجسدية . وأنه منذ وقت طويل يفوق عدد الوفيات في ألمانيا على عدد الولادات \ جريدة الخليج 21 \9\1995.
الشذوذ الجنسي وتغيير خلق الله:
وفي هذا السياق صدر بيان باسم ( الجمعية الدولية للدفاع عن حقوق (!! ) الإنسان للشواذ جنسيا ) يبين أن الشذوذ ليس انحرافا من أي نوع ، ولكنه أمر طبيعي متعلق ب ( جينات ) الجسم ، ويدعو إلى اعتبار تصرف المرء في جنسه من حقوق الإنسان التي ينبغي أن تكفل له ، أطلقوا عليه ( حق التكيف الجنسي ) ، ومن ثم فإن البيان يطالب بإثبات هذا الحق ضمن الإعلان العالمي لحقوق النساء .
وهاهي تتحالف منظمات نسائية مع جماعات الشذوذ الجنسي في الدعوة إلى " تحييد الجنس " ، بمعنى أن الإنسان يولد محايدا جنسيا ، ولكن المجتمع هو الذي يفرض عليه تلك القسمة التقليدية بين الذكور والإناث ، وهو الأمر الذي يجري ترويجه عالميا ، وتصديره إلينا بعنوان " الجندر "
ويلخص الأستاذ فهمي هويدي في مقال له نشر بجريدة الخليج في 13\9\1995 دراسة متداولة في الأوساط الأمريكية في هذا الشأن بعنوان ( الأجناس الخمسة ) كتبتها باحثة تدعى آن فوستس ستيرلنج ، قررت فيها أن تقسيم الخلق إلى ذكور وإناث أصبح واقعا تجاوزه الزمن ، ولم يعد يعبر بدقة عن حقيقة الواقع الإنساني .
وحق لها أن تقول ما تشاء انطلاقا من ارتكازها على العلم البشري وحده وتحكيم الإرادة البشرية وحدها ، وفقدانها شمولية العلم لكل من الوحي والعقل والتجربة وتحكيم التسليم للخالق شأن الإسلام وهو ما أشرنا إليه سابقا في مقدمتنا عن الإطار المرجعي ..
وكما جاء في مقال الأستاذ فهمي هويدي فإن الباحثة ذهبت إلى أن الواقع أصبح يحفل بأجناس خمسة : فبجانب الرجال والنساء كجنسين ، هناك المخنثون ، والنساء الشاذات اللائي يعاشرن النساء ، والرجال الذين يعاشرون الرجال . !
وقد أشارت باحثة أمريكية أخرى اسمها ديل أوليري في كتاب لها بعنوان ( تحييد الجنس تدمير للمرأة ) إلى أن أصحاب تلك الدعوة انطلقوا من فكرة الصراع الطبقي التي فشلت فيها الماركسية ، حيث حصرتها في الزاوية الاقتصادية ، وينبغي نقلها إلى منظومة الأسرة . ، وتقول أوليري تعليقا على شولاميت سابقة الذكر : ( إنهن يردن إقامة مجتمع الجنس الواحد ، وأضافت : أن منظمات التطرف النسوي أعلنّها حربا شعواء ضد طبيعة المرأة ، حيث اعتبرن أن تقسيم الخلق إلى رجال ونساء يجعل المرأة تعتمد على الرجل ، الأمر الذي يؤدي إلى تبعيتها له ، ومن ثم بدء مسلسل قهرها وانسحاقها .
وهناك رموز لهذه الحركة أيضا غير شولاميت ، هناك بيلا ابزوج ،وآن فيرجسون ،ونانسي فولير ، يذهبن جميعا إلى أن التحرير الحقيقي للمرأة لن يتحقق إلا إذا تخلصت من شرين : الأسرة والأمومة !! وأن التحرير ينبغي أن يبدأ من هذه الزاوية ، حتى وإن لم ترغب النساء في ذلك .
وكما تلخص أوليري فإن نقاط الارتكاز عند أصحاب ( الدعوة إلى تحييد الجنس ) تقوم على :
أنه فيما يختص بفكرة الأمومة والأسرة والزواج هي المصدر الأساسي لقهر المرأة ، وينبغي أن يتم تقاسم العمل بنسبة 50% ، لكل من الرجل والمرأة في كافة شئون المنزل ورعاية الطفل:
وفيما يختص بالجنس : للمرأة أن تتحكم في كل مرحلة من مراحل عمرها في علاقاتها الجنسية ، بما في ذلك الحق في أن تقيم علاقاتها الخاصة خارج حدود الزواج مع من تشاء من النساء والرجال ، كما أن لها الحق في أن تغير هويتها الجنسية.
وفيما يختص بالولادة : للمرأة حق إجهاض نفسها إذا شاءت ، لكي تتحكم في حياتها كما يفعل الرجال !!
وفيما يختص بالعنف : فإن الرجال مهيأون لممارسة العنف ، وكل النساء يعشن في خوف دائم من ذلك ، ولا مخرج من هذا المأزق إلا بإعلان النساء عن ثورة جنسية شاملة تصحح تلك المعادلة .
وفيما يختص بالاستغلال الجنسي فإن أية علاقة جنسية تغيب عنها الرغبة المشتركة هي بمثابة اغتصاب ، وإن يكن بين زوجين ، كما أن الدعارة تصبح مرفوضة فحسب في حالة الإكراه .
وفيما يختص بالتعليم : فإنه يجب أن تتلقى الفتيات تعليما يقتلع من أعماقهن فكرة المرأة الزوجة أو الأم ، كما يقتلع الأعباء التقليدية التي حمّلها المجتمع للمرأة دون غيرها .(/7)
وفيما يختص بالاقتصاد : فإن على النساء أن يسعين إلى الاعتماد على أنفسهن اقتصاديا ، وأن يمارسن أنشطتهن بصورة مستقلة عن الرجال ، وجميعهن يجب أن يعملن خارج البيت ، كما أنه يجب على الحكومات أن تلزم الرجال باقتسام الأعمال المنزلية مع زوجاتهم .
وفيما يختص بحقوق الإنسان : ينبغي أن يشمل مفهوم حقوق الإنسان حق كل مخلوق في أن يغير جنسه حسب رغبته .
وفيما يختص بالدين : يجب أن يعاد تفسيره بواسطة القائمات على التنظير في الحركة النسائية باعتبارها مختصة بمحاربة الأصولية الدينية التي تقوم بدورها في قهر المرأة .
هذه هي القيعان التي يراد لها أن تكون مستنقعا لبلادنا ، فيها تختنق قيمنا وتتلطخ وجوهنا تحت غطاءات متنوعة من الكلام عن الحضارة الإنسانية تارة ، والعولمة والعصرنة تارة ، والحداثة و تجديد الخطاب الديني تارة أخرى ، ثم تجديد المناهج التربوية والدينية والإعلامية على أساس من ذلك كله ، وهذه هي الطامة
ولمن شاءت أن تكون هي أو رجلها في هذه القيعان أو من شاء أن يكون هو أو أنثاه فيها فالدبابات الأمريكية كفيلة بأن تحملها إليه أو بالأحرى تحمله إليها ، وما عليه إلا أن يكون مثقفا أو متحضرا أو عميلا أو زعيما ! وكفاه مجدا دبابة وحداثة .
ولله الأمر من قبل ومن بعد(/8)
المرأة المسلمة والعولمة
حسن عبد الحميد*
سعدت في الأسبوع الماضي بمتابعة أعمال مؤتمر المرأة المسلمة والعولمة الذي نظمته منظمة المشكاة الخيرية واستمرت جلساته من الثلاثاء 6/9 إلى الخميس 8/9/2005م بقاعة الصداقة بالخرطوم، وقد شارك في المؤتمر عدد من أساتذة الجامعات والمتخصصين في قضايا الفكر والدعوة من داخل السودان وخارجه.
وقد ركّزت أوراق العمل والمناقشات على أهمية الاعتزاز بالهدي الإسلامي في قضايا المرأة والأسرة والمجتمع، كما كشفت الأوراق والمناقشات حجم التآمر الغربي على المجتمع الإسلامي والأسرة المسلمة متخذا من المرأة أداة لتنفيذ مخططاتهم، ومن المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة مطية لتمرير أهدافهم الشريرة.
ولله در الأستاذ أبو الأعلى المودودي ـ رحمه الله ـ مؤسس الجماعة الإسلامية في باكستان ، وهو من أبرز أئمة العمل الإسلامي في القرن الماضي، فقد ناقش في كتابه القيم ( الحجاب ) هذه القضايا نقاشا مستفيضا قبل حوالي نصف قرن من الزمان، وقال مخاطبا المتغربين من أبناء المسلمين المنبهرين بالحضارة الغربية:( وهنا ينبغي للقوم أن يتثبتوا في الأمر، وقبل أن يخوضوا في سيرهم عليهم أن يجزموا موقفهم من سؤال أساسي، وهو بكلمات موجزة: هل أنتم مستعدون لقبول النتائج التي حصلت في أوروبا وأمريكا وهي ثمرات طبيعية لازمة لذلك الطريق الاجتماعي؟ وهل أنتم ترضون أن تروا في مجتمعكم مثل تلك البيئة الغربية المهيجة للشهوات؟ وأن يروج في أمتكم ما راج في أمم الغرب من فقد الحياء، وزوال العفة، وغلبة الفواحش، فتعم الأمراض السرية كالأوبئة، ويتبدد نظام العائلة والبيت، ويكثر الطلاق والتفريق، ويتربى الشباب والشياب على قضاء الشهوات أحرارا من كل قيد، ويُقطع التناسل بتدابير منع الحمل وإسقاطه وقتل الأولاد، ويُضيّع الفتية والفتيات خير ما أوتوا من قوة العمل وصحة الجسم في شهواتهم المجاوزة حد الاعتدال، حتى لا ينجو من ذلك الصغار، فتنشأ فيهم النزعات الجنسية قبل الأوان، ويصيب نموهم الجسدي ونشأتهم الفكرية فتور عظيم منذ بداية عمرهم؟
فإن كنتم تريدون أن تقبلوا كل هذه العواقب الوخيمة طمعا في المنافع المادية واللذات الحسية، فأنتم أحرار في أن تتبعوا سبيل الغرب، ولا تشغلوا أنفسكم بذكر الإسلام. ولكنكم قبل أن تسلكوا تلك السبيل يجب عليكم أن تعلنوا قطع صلتكم عن الإسلام، حتى لا يكون لكم بعد ذلك أن تخدعوا أحدا باسمه، ولا تكون فضيحتكم وسوء سمعتكم سببا في تشويه سمعة الإسلام والمسلمين. )
إن السبيل أصبح واضحا بين من يتمسكون بعقيدتهم ودينهم الإسلامي، وبين الذين يريدون لنا أن نتبع طريق الغرب البائس،وصدق الله تعالى: ( يريد الله ليبين لكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم* والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ) النساء: 26ـ 27(/1)
المرأة المسلمة ورمضان
منظر طبيعي للمطبخ
إذا دخلنا المطبخ في الأيام الأولى من رمضان فإننا نجد العجب العجاب.. أوانٍ هنا وأطباق هناك، والخضار والفاكهة والتمر والمكسرات وأكواب المشروبات. يزدحم المطبخ بمختلف الألوان والأشكال من المأكولات والأواني, لماذا كل هذا؟
إنه من أجل شهر رمضان.. وكأن شهر رمضان شهر الأكل والشرب.
عزيزتي المرأة المسلمة:
لقد أظلك شهر عظيم ونفحة ربانية وهدية إلهية كما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: 'إن لله في أيام دهره نفحات فتعرضوا لنفحاته واسألوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم'.
فعليكِ عزيزتي باستغلال هذا الشهر بنفس متحمسة راغبة في فعل الخيرات، لما فيه من فضائل لو علمها العاقل لم يفرط فيها، ويحرص على استثمار ساعات رمضان بل ودقائقه ولا يستسلم لمرض 'التسويف' الذي يقطع أعمارنا ويكون سببًا في التفريط في هذه النفحات الربانية.
لقد كان السلف الصالح رضوان الله عنهم إذا أقبل رمضان تركوا طلب الحديث وطلب العلم من أجل التفرغ لقراءة القرآن. فكان الزهري إذا دخل رمضان يقول: 'إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام'.
المرأة المسلمة في رمضان
المرأة المسلمة تصوم شهر رمضان ونفسها مغمورة بالإيمان 'أن من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه'.
وتتخلق بأخلاق الصائمات الحافظات ألسنتهن وأبصارهن وجوارحهن عن كل مخالفة تخدش الصوم.
وتضاعف المرأة فيه الأعمال الصالحات لأن الجزاء أكبر مما يتصوره خيال كما جاء في الحديث القدسي: 'كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف, قال تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به, يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه'.
ـ وعلى المرأة المسلمة أن تغتنم الأوقات المباركة في الطاعة والعبادة والتقرب إلى الله، فلا تلهيها أعمالها المنزلية عن الصلوات المفروضة في أوقاتها وقراءة القرآن وصلاة النوافل، ولا تلهيها السهرات العائلية عن قيام الليل والتهجد والدعاء.
ـ والمرأة المسلمة الواعية هي النبراس لأسرتها، وهي المعلم لأولادها, فبسلوكها يقتدون, وبقولها يهتدون, وهي القادرة على تنبيه أولادها وإشعارهم بأهمية رمضان وفضله كما كان يذكِّر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه, ولكِ في حديثه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجان، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب. وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر, ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة'. رواه الترمذي.
ـ وعلى الأم أن تشجع أولادها على الصيام وتحْتفي بالصائمين وتقدم لهم الجوائز، وتذكر أبناءها بالثواب العظيم للصائمين: 'كل عمل بن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به'.
ـ نظمي وقت أولادك في النوم ولا تتركي الأمر يخرج من يديك، بل ضعي لهم جدولاً لساعات النوم واليقظة، وحددي أوقات المذاكرة وأوقات تلاوة القرآن.
ـ ارحمي أولادك وأشفقي عليهم وادعي لهم بالصلاح والهداية.
ـ وإذا تساءلت المرأة المسلمة: كيف أنظم وقتي في رمضان وماذا سأفعل؟ فلتراجع المقال على موقعنا 'إدارة الوقت في رمضان [1]' http://links.islammemo.cc/filz/one_news.asp?IDnews=515, و'إدارة الوقت في رمضان [2]' http://links.islammemo.cc/filz/one_news.asp?IDnews=516 فهو يفيدك في تنظيم وقتك وأولوياتك مع نفسك ومع أسرتك ومع صلة رحمك ومع الآخرين.
وإليك أيتها المرأة المسلمة للإجابة على السؤال ماذا أفعل؟ هذه الإشارات التي تعينك على رسم خطتك في هذا الشهر الكريم.
1ـ أنت والقرآن.
2ـ أنت والصدقة.
3ـ أنت والدعاء.
4ـ أنت وصلة الأرحام.
5ـ أنت وقيام الليل.
6ـ أنت والصلاة في المسجد.
7ـ أنت والمطبخ.
[1] أنت والقرآن: فرمضان شهر القرآن. حددي وقتًا لقراءته بتدبر ولا تلهيك أعمال المنزل عن قراءة القرآن واغتنام هذه النفحات المباركة.
[2] أنت والصدقة: تصدقي وأنفقي وتذكري قول الرسول صلى الله عليه وسلم: 'يا معشر النساء تصدقن, فإني رأيتكن أكثر أهل النار'. ولقد كان رسول الله جوادًا, وكان أجود ما يكون في رمضان, فهو كالريح المرسلة, وحثي أيضًا أولادك على الصدقة بجزء من مصروفهم ليعتادوا العطاء والجود.
[3] أنت والدعاء: حددي الأدعية التي ستدعين بها في ورقة، وتذكري أن للصائم دعوة لا تُرد, ادعي لأولادك بالصلاح والهداية، ولا تدعي عليهم, فدعوة الوالد على الولد مستجابة, وعلمي أولادك الأدعية المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
[4] أنت وصلة الأرحام: فرمضان فرصة لغسيل النفس والتواصل الأسري والتقارب الاجتماعي, اتصلي بأقاربك وصلة رحمك إن ضاق وقتك عن الزيارة, وخاصة الوالدين وأهل الزوج وكسب ودهم وبرهم والإهداء إليهم, فإن الرحمة لا تنزل على قاطع رحم.(/1)
[5] أنت وقيام الليل: احرصي على قيام الليل مهما كانت الظروف وتذكري قول رسولنا الكريم: 'من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه'. ولا تلهيك أعمال منزلك عن قيام ليلك.
وخاصة في العشر الأواخر من رمضان, وفيها ليلة القدر, من حرم خيرها فقد حرم خيرًا كثيرًا. اللهم لا تحرمنا خيرها وأجرها.
[6] أنت والصلاة في المسجد: إن تمكنت من الصلاة في المسجد فلا بأس، وإن لم تستطيعي فـ'بيوتهن خير لهن', صلي في بيتك وأعانك الله على قيام رمضان.
[7] أنت والمطبخ: يقول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]. فلا تسرفي في إعداد الطعام وأصناف المأكولات بما يؤدي إلى تضخم في ميزانية البيت وتضييع الوقت، واستثمري الوقت أثناء إعداد الطعام في سماع القرآن الكريم والأشرطة المفيدة والدعاء. ولا تنسي وجبة السحور امتثالاً لأمر رسولنا صلى الله عليه وسلم: 'تسحروا فإن في السحور بركة', وأيضًا اهتمي عند إعدادك وجبتي الإفطار والسحور أن تكون مشتملة على كل العناصر الغذائية وخاصة الفيتامينات المتمثلة في طبق السلطة والفواكه, لأن ذلك يعينهم على مواصلة الصوم.
عزيزتي المرأة المسلمة: اجعليه رمضانًا مختلفًا هذا العام وكوني أنت أيضًا مختلفة, اللهم كما بلغتنا شهر رمضان, فأعنَّا على صيامه وقيامه ولا تحرمنا الأجر, ونسألك العتق من النار .. اللهم آمين.(/2)
المرأة اليوم وشعار مساواتها بالرجل !*
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
كَثُر الحديث عن المرأة في المجتمعات الإسلامية خلال القرن الماضي ، والقرن الحالي ، وطُرحت آراء ومقترحات متناقضة متضاربة .
واقع المرأة في الغرب واضح كلّ الوضوح : أبيح لها الزنا والفجور والتحلل ، وأبيح لها العمل في تنظيف الشوارع ، في المصانع والوظائف المختلفة . ونادوا بشعار مساواة المرأة بالرجل وانحلال الأسرة كليّة وقيام القوانين على أساس ذلك .
وتلقّف الكثيرون في المجتمعات الإسلامية هذا الشعار : "مساواة المرأة بالرجل " وأخذوا ينادون به . نادى به أولاً العلمانيون في المجتمعات الإسلامية بمختلف مذاهبهم ، ثمّ أخذ يزحف إلى عقول بعض الدعاة المسلمين وأقلامهم وكتبهم ، حيناً على استحياء ، و حيناً آخر على جرأة واندفاع .
ما المقصود بمساواة المرأة بالرجل ؟! وكيف يمكن أن يتساويا ؟!
المرأة لها وظائف خاصة بها لا يستطيع الرجل أن يقوم بها ، والرجل له وظائف خاصة به لا تستطيع المرأة أن تقوم بها ، وهناك أعمال مشتركة بين الرجال والنساء. ولا يمكن للحياة أن تمضي إلا أن تكون المرأة امرأة وأن يكون الرجل رجلاً ، وأن يقوم كلّ منهما بما كلّفه به ربّه ، ليتكامل العمل في الحياة الدنيا حتى يؤدّي كلٌّ دوره الذي خُلقَ له . إن هذا هو معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( النساء شقائق الرجال ) ، أيّ أنّ كلاً منهما يكمل الآخر. ولو كان المعنى أن المرأة مناظرة للرجل مساوية له ، لاستغنى كلّ منهما عن الآخر . ولو كان الأمر كذلك لخلق الله الحياة تقوم بها المرأة دون وجود رجال، أو يقوم بها الرجل دون وجود نساء .
الشعار ( مساواة المرأة ) شعار مضلل خاطئ علميّاً ، لأنهما لا يمكن أن يتساويا ، وخاطئ عقلاً لأنه لا مفهوم له ، وخاطئ ديناً لأنه مخالف للنصوص الحاسمة في الكتاب والسنة ، وللتطبيق الواضح أيام النبوة الخاتمة والخلفاء الراشدين .
جعل الله للمرأة المسلمة مسؤولية ثابتة في رعاية أولادهما ورعاية زوجها، ورعاية بيت زوجها . هي مسؤوليتها الأولى التي ستحاسَب عليها بين يدي الله ، البيت يحتاج إلى رعاية ، فهل يُتْرك أمره إلى الخدم والمربيات ؟! أليست الأم أولى بهذه الرعاية ؟! أليست الزوجة أولى بذلك ؟! هنا المرأة مكلفة شرعاً لأن تكون أمّاً وأن توفي بواجبات الأمومة وفاءً أميناً ، ليس كما هو الحال في الغرب الذي جعل الأمومة شعاراً يتغنّون به في عيد الأم . إنه عيد الأم الذي ابتدعه الغرب بعد أن قتل الأمومة و الأبوة ومزّق الأسرة شرّ ممزّق .
ولقد عبّر القرآن الكريم أجمل تعبير وأكرمه عن تكامل دور المرأة وتكامل دور الرجل في آيات متعددة، وحسبنا هذا التعبير: ( …. هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ ) [ البقرة : 187] . وتعبير آخر : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) [ الروم : 21]
هكذا جاء التعبير الرباني : ( لتسكنوا إليها …… )، ولم يقل : ( لتسكنّ إليهم ) ثم جاء التعبير عن المشاركة : " وجعل بينكم مودة ورحمة " .
وتعبير ثالث : ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدّموا لأنفسكم واتّقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشّر المؤمنين ) [ البقرة 223] . ولم يقل :" رجالكنّ حرث لكنّ " ، فللرجل دوره وللمرأة دورها ، وكلّ يكمّل الدور الآخر ولا يساويه ، حتى تمضي الحياة على سنن لله ثابتة ، أدوار متكاملة وليست أدواراً متساوية ! إنّها ليست قضية عمل واحد ، أو عملين ، أو أعمال متناثرة ، نستدلّ حيناً بهذا العمل أو ذاك . كلا ! إنها قضية نهج متكامل متماسك يرسم العلاقة بين الرجل والمرأة ، ويحدّد دور كلّ منهما ، ويُحدّد التفاعل بين الدورين . إنه النهج المتكامل المترابط الذي يؤخذ كلّه بتكامله ، ولا يؤخذ منه أجزاء وتترك أجزاء . ولا يتبيّن هذا النهج من خلال تأويل آية أو آيتين أو أكثر ، ولكنّه نهج ممتدّ في الكتاب والسنّة ، ممتدّ في ممارسة إيمانية أيام النبوّة الخاتمة ، وممارسة إيمانية أيام الخلفاء الراشدين ، وفي عصور أخرى يتفاوت شأنها .
إن مسؤولية المرأة المسلمة عن بيت زوجها ، لا يعني أنها هي المسؤولة الوحيدة التي عليها الوفاء بها . فهي داعية مسلمة لله ولرسوله ، وهي ناشطة في ميادين الحياة الاجتماعية التي تكفل لها عفّتها ، وهي طبيبة ومعلمة ، وتاجرة ، وغير ذلك . ولكنّ هذا كلّه ليس على إطلاقه وتفلّته ، فله في الإسلام حدود وضوابط .(/1)
ولكن محور ما يسعى إليه دعاة المعاصرة هو مشاركة المرأة في الميدان السياسي ، ليكون هذا الميدان حقّاً لها مثل حقّ الرجل . فكما يمكن للرجل أن يكون رئيساً للدولة فيمكن للمرأة أن تكون كذلك . هذا هو محور ما يسعى إليه دعاة المعاصرة . ولو سألنا التاريخ عند غير المسلمين أولاً . كم نسبة النساء اللواتي حكمن وترأسن الدول ؟! الجواب : نسبة ضئيلة جدّاً . ولو سألنا كم النسبة في التاريخ الإسلامي ؟! النسبة أقل بكثير ! فلماذا الحرص على تولّي المرأة رئاسة الدولة ؟ لماذا هذا الحرص وما مسوّغاته ؟! إذا انعدم في الأمة رجالها ، فلا حرج من يحكم بعد ذلك !
أما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( لن يُفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة ). (1) فإن مدار الحديث عن ولاية أمر القوم ، وليس أمر الأمة المسلمة الواحدة فقط . فالنصّ واضح وهو عام لكلّ " قوم " مهما امتدوا أو صغروا . وحسب المسلم والمسلمة من هذا الحديث الاستجابة لله ولرسوله وعدم تأويله بما يخرجه عن معناه . فالرجل هو القوّام في البيت ، وهو المسؤول الأول ، وهو الراعي الأول بنصّ الأحاديث الشريفة والآيات الكريمة . ولكن بعض المسلمين يريدون أن يلووا الأحاديث والآيات ليسوّغوا مساواة المرأة للرجل في كلّ شيء . وهل هذه هي قضيتنا اليوم ، أن تكون المرأة رئيسة الدولة أو لا تكون ؟! وما المصلحة في إثارتها اليوم ؟!
وفي الحديث الذي رواه عبد الله بن أبي أوفى ، وروى بعضه أبو هريرة ومعاذ وبريدة رضي الله عنهم أجمعين ، وبرواية أخرى عن عائشة رضي الله عنها :
( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها . والذي نفس محمد بيده ، لا تؤدي المرأة حقّ ربّها حتى تؤدي حقّ زوجها كلّه ، حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه )
[ رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان ] (2)
ويُستشهدُ على أن الإسلام يفرض مساواة المرأة بالرجل بالآية الكريمة من سورة النساء : ( يا أيها الناس اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساء ….. ) [ النساء : 1]
فأين الدلالة على المساواة بعد أن جاء الرجل متميّزاً برجولته في جميع معانيها ، والمرأة متميّزة بأنوثتها في جميع معانيها ؟ فكيف تتساوى الرجولة والأنوثة وقد جاء في كتاب الله ( ….. وليس الذكر كالأنثى …. )
[ آل عمران : 36]
ويستشهد أهل المساواة كذلك بقوله سبحانه وتعالى : ( يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم …) [ الحجرات : 13] (3)
ولا نرى في هذه الآية الكريمة أي علاقة للمساواة لا بين الرجل والمرأة ، ولا بين الكافر والمؤمن ، ولو كان أصل الخلق كلّه واحداً من تراب . البشر كلّهم من أصل واحد ، ولكنهم يتفاوتون في ميزان الله في الدنيا والآخرة . فالأصل الواحد آية من آيات الله تفرّع عنه شعوب وقبائل متباينة في ميزان الله . إن ما ذهب إليه أهل المساواة بين الرجل والمرأة من الاستشهاد بهذه الآية الكريمة مغالطة كبيرة ، وتحميل للآية ما لم تقصده . فالأصل الواحد للخلق لا يعني التساوي في كلّ شيء .
ويذهب أهل المساواة كذلك إلى الاستنتاج من استشارة الرسول صلى الله عليه وسلّم لزوجه أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ في شأن امتناع أصحابه عن الحلق والذبح في عمرة الحديبية ، يذهبون إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلّم : " كان يستشير زوجاته في الأمور العامة ويأخذ بقولهنّ ورأيهنّ " !(4) عجباً لهذا الفقه ! هذه هي سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم مفصّلة بين أيدينا . كم مرّة استشار الرسول صلى الله عليه وسلّم زوجاته ؟!
وكم زوجة استشارها ؟! وما هي الأمور العامة التي استشار بها الرسول صلى الله عليه وسلم زوجاته ؟! وهل استشارة الزوج لزوجته تصبح قاعدة لاستشارة النساء بعامة في أمور الدولة كلّها ، لتصبح ذلك حقّاً لكلّ امرأة ؟ وهل كانت استشارته صلى الله عليه وسلم لأم سلمة أو غيرها من زوجاته مثل استشارته لأبي بكر وعمر وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم ؟ ومَنْ مِنَ النساء كانت موضع الشورى الدائمة أيام النبوة الخاتمة أو الخلفاء الراشدين ؟!(/2)
وقصّة أم سلمة في عمرة الحديبية ، وما يقال عن استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لها بخصوص موقف أصحابه من الحلق والذبح بعد أن تمّ توقيع الصلح ، لا نرى فيها صورة الشورى العامة في الأمة ، بقدر ما هي شكوى الرسول صلى الله عليه وسلم ، شكوى الزوج لزوجته . فلنستمع إلى القصة كما هي في زاد المعاد : ( فلما فرغ من قضيّة الكتاب . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قوموا فانحروا ، ثم احلقوا " فوا الله ما قام منهم رجل واحد حتى قال ذلك ثلاث مرات . فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس . فقالت أم سلمة : " يا رسول ! أتحبّ ذلك ؟! اخرج ثمّ لا تكلّم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدْنك ، وتدعو حالقك فيحلقك ". فقام ، فخرج ، لم يكلم منهم أحداً حتى فعل ذلك : نحر بُدْنه ، ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأى الناس ذلك، قاموا فنحروا …. )(5)
موقف خاص جدّاً ، لم يكن حول الرسول صلى الله عليه وسلم أحد يستشيره في هذا الموقف . فما كان إلا أن دخل بيته ليفرغ فيه ما أهمه وأحزنه . فواسته زوجته أم سلمة بالرأي الصائب . أمن هذه الحادثة الخاصة الفريدة نخرج بحكم عام لجميع النساء في جميع العصور في جميع الأمور والأحوال ؟!
ويُدلي بعضهم بحجج أخرى من المذهب الشيعي ومن بعض آراء الفقهاء في عصور مختلفة . ولكن هذه كلّها ليست حجّة على الإسلام ، ولا حجة مقبولة للقضايا المثارة ، إلا أن تردّ هذه الحجج إلى الكتاب والسنة لتُقبل أو ترفض . هذه هي القاعدة الفقهية التي أمر بها الله ورسوله ، والتي أكّدها أئمة الإسلام في مختلف العصور : أن تُردّ القضايا كلّها إلى منهاج الله ، وأن لا يأخذ أحد عنهم ، ولكن يأخذ من حيث أخذوا ، وأن لا يأخذ أحد برأيه إلا مع الدليل من الكتاب والسنة .
واليوم يلغي بعضهم هذه القاعدة الأساسية ، ليصبح رأي رجل واحد يخالفه جمهور من الفقهاء مستنداً ودليلاً ، وليأخذوا بآراء غربيّة علمانيّة يريدون تسويغها بالآيات والأحاديث بليّ معانيها وفساد تأويلها :
يقولون عن قوامة الرجل التي نصّ عليها القرآن الكريم : ( الرجال قوّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم … ) : " بأن القوامة هي التكفّل بما ينصلح به الحال "(6) فإذا كان الأمر كذلك فقد جعلها الله من مسؤوليّة الرجل ، ليتضح لنا موقف من المواقف التي لا يتساوى فيها الرجل والمرأة . فالرجل هو المكلف شرعاً بالإنفاق على البيت ، وللمرأة إن رغبت أن تساعد في ذلك ورضي الزوج فلا بأس . ولكن المسؤولية هي مسؤولية الرجل . وفي تتمة الآية يبيّن الله سبحانه وتعالى التوجيه الرباني الكريم للمرأة لنعرف مسؤوليتها وحدودها :( فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله …. ) ! هذا التوجيه الرباني هو الذي ينجي المرأة المسلمة عند الله . ويبين الله كذلك في الآية نفسها التوجيه الرباني للرجل ليوفي بقوامته ومسؤوليته التي هي له وليست للمرأة : ( واللاتي تخافون نشوزهنّ فعظوهنّ واهجروهنّ في المضاجع واضربوهنّ فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلاً) فهل هذا من معاني المساواة ؟!
وهذا التوجيه الرباني ينصّ على أن الله فضّل بعضهم على بعض ، وأن الرجال هم القوّامون ، وهم الذين يُنفقون ، ولكنّه حدّد بعض المسؤوليات والحقوق لكلّ منهما . وفي هذه الحالة لم تكن الحقوق ولا الواجبات متساوية . فأين المساواة ؟!
ويفرّق الإسلام بين الذكر والأنثى في الإرث . وهذا التفريق ناتج عن طبيعة النظام الإسلامي كلّه ، وما حمّل الرجل من تكاليف الإنفاق ، وما حمّل المرأة من تكاليف أخرى . والله الذي خلق الرجل والمرأة أعلم بما يصلح لهما . فهل هذا أيضاً من معاني المساواة ؟!
ولكنّ " روجيه جارودي " بإسلامه الذي ابتدعه من عنده يقول ما معناه : " لو كان لي الأمر لأعطيت الأنثى ضعف ما يُعطى الرجل " ، وضع نفسه مشرّعاً بدلاً من الخشوع بين يدي تشريع الله .
لقد تأثّر كثير من المسلمين ، ومن المسلمين الدعاة ، بشعارات الغرب العلماني قبل أكثر من قرن . وأخذوا ينقلون هذه الشعارات إلى العالم الإسلامي ظنّاً منهم أنها رمز التقدّم والحضارة . وما دروا أن الغرب العلماني يهلك نفسه بهذه الشعارات ويلقي بجماهيره في ظلمات الفتنة والضلال ، وفي جحيم جهنّم لكلّ من مات على غير دين الإسلام . ومن بين هذه الشعارات ذلك الشعار المتفلّت التائه : " مساواة المرأة بالرجل " ! إنه شعار لم يعرفه الإسلام لا بنصوصه ولا بممارسته ، لأنه لا يمثّل قضيّة مفهومة قابلة للتطبيق في أجواء التقوى والإيمان ، إنه شعار ورمز للعلمانية .
أمّا شعار الإسلام فهو : " النساء شقائق الرجال "! بمعنى أن الله جعل لكلّ منهما دوراً يكمّل دور الآخر ، ولا يحلّ محلّه ولا يساويه .(/3)
إنّ هذا الدور المحدد لكل منهما كما شرعه الإسلام في مختلف نواحي الحياة ، دور تتطلب ممارسته توافر المجتمع المسلم الذي يحكمه منهاج الله . وعند توافر هذا المجتمع ينشأ شرطان آخران ضروريان ، يجب توافرهما في كلّ من الرجل والمرأة . وهذان الشرطان هما : صفاء الإيمان والتوحيد، والخشية من الله ورجاء الدار الآخرة ، وكذلك العلم بمنهاج الله ـ قرآنا وسنة ولغة عربية ـ.
إن أوضاع العالم الإسلامي أخذت تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى بعض مظاهر العلمانية . وكأنّ هناك قوى تفرض فتنتها على الناس فرضاً ، والغرب يُصرّ بشكل واضح على العالم الإسلامي أن يساوي بين المرأة والرجل ، وأن ينزع حجاب المرأة ، وأن يبيح الاختلاط ، ويطلق حرية المرأة في المعاشرة الجنسية وحرية الرجل كذلك . إن الغرب العلماني يضغط بكلّ وسائل الضغط على العالم الإسلامي ليطبق المسلمون مناهج العلمانية في الفكر والاقتصاد والسياسة والاجتماع وغير ذلك . ولقد نجح الغرب في عدد غير قليل من بلدان العام الإسلامي ، سواء أكان ذلك بالقهر والقوة ، أو الاستدراج السريع أو البطيء . وأهمُّ ما نجح به الغرب العلماني أن أوجد من المسلمين ، أو المنتسبين إلى الإسلام، من يتبنى أفكاره ومخططاته ويدعو لها سرّاً وجهراً . وقد بلغ نجاحه درجة أصبح فيها بعض دعاة المسلمين ينفقون أوقاتهم وجهدهم ، لا على الدعوة إلى الله ورسوله كما يأمرهم الله ، ولكن على الدعوة إلى الديمقراطية أو الاشتراكية أو الحداثة أو البنيوية أو التفكيكية ، فوفّروا على الغرب جهوداً كثيرة . ومنهم من يقوم بذلك عن وعي ومنهم عن غير وعي .
العالم الغربي تمزّقت به الأسرة وروابطها ، وتفلّت الأب والأم والأبناء ، وأصبح دور المرأة خارج البيت في معظم وقتها ، وها هو جورباتشوف أحد قادة الغرب يعلن عن ذلك فيقول : " ولكن في غمرة مشكلاتنا اليومية الصعبة كدنا ننسى حقوق المرأة ومتطلباتها المتميزة المختلفة بدورها أمّاً وربّة أسرة ، كما كدنا ننسى وظيفتها التي لا بديل عنها مربّية للأطفال … "(7)
ويتابع جورباتشوف قوله فيقول : " … فلم يعد لدى المرأة العاملة في البناء وفي الإنتاج وفي قطاع الخدمات وحقل العلم والإبداع ، ما يكفي من الوقت للاهتمام بالشؤون الحياتية اليومية ، كإدارة المنزل وتربية الأطفال ، وحتى مجرّد الراحة المنزلية . وقد تبيّن أن الكثير من المشكلات في سلوكية الفتيان والشباب ، وفي قضايا خلقية واجتماعية وتربوية وحتى إنتاجية ، إنما يتعلق بضعف الروابط الأسرية والتهاون بالواجبات العائلية ".
ومما يلفت النظر أنه عند طرح مساواة المرأة بالرجل حتى تنال حقوقها ، لا يسأل أولاً هل الرجل نال حقوقه ، وهل الحقوق كلّها هي الانتخابات والبرلمان
وما شابه ذلك ؟ وهل الرجل العادي المسلم يعرف واجباته ومسؤولياته ، ويعرف معها حقوقه ، فيوفي بهذه ويطلب تلك ؟!
وكذلك هل المرأة المسلمة تعرف جميع مسؤولياتها وواجباتها ، وتعرف معها حقوقها ، حتى توفي بهذه وتطالب بتلك ؟!
ولماذا الإصرار على المناداة والمطالبة بحقوق المرأة دون المطالبة بمسؤولياتها ؟! أليس الأولى بالدعاة أن يثيروا قضيّة المسؤوليات ولا يفصلوا الحقوق عن المسؤوليات ، فالإسلام يوازن بين الحقوق والواجبات !
ومن أهمّ مسؤوليات الرجل والمرأة رعاية الحقّ الأول للإنسان ، الحقّ الذي أهملته كلّ مؤسسات حقوق الإنسان . هذا الحقّ هو حماية فطرة الإنسان التي فطر الله الناس عليها . وجعل الله سبحانه وتعالى الوالدين أوّل المسؤولين عن حمايتها أو انحرافها . فكيف يفلح الوالدان في الوفاء بهذه الرعاية الهامة إذا تفلّت كلّ منهما بين الأمور العامة والسياسة والوظيفة وغير ذلك .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلّم قال : ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه ، كما تنتج البهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء )
[ رواه الشيخان وأبو داود ](8)
هذه المسؤولية الهامة الخطيرة كم تحتاج من الجهد والوقت والتفكير في رعاية الأبناء منذ لحظة الولادة إلى أن يستووا ناضجين ؟! إنها تحتاج إلى رعاية متصلة ، ودراية وخبرة ، ليكون البيت هو الأساس الأوّل لمصنع الأجيال المؤمنة التي لا تتشوّه فيهم الفطرة ولا تنحرف . وللأم دور رئيس في ذلك ، وبخاصة في المراحل الأولى !
وإننا نسأل الله أن يهدينا سبيل الرشاد ، وأن يعيننا على التزام الكتاب والسنة وممارستهما في واقعنا على صدق إيمان وخشية من الله .
وهذا الالتزام بالكتاب والسنة يفرض علينا أن نوازن بين الحقوق والمسؤوليات . فالقضية ليست مجرد مطالبة بالحقوق دون وفاء بالمسؤوليّات !
* لمزيد من التفاصيل يراجع كتاب " المرأة بين نهجين الإسلام أو العلمانية " للدكتور عدنان علي رضا النحوي .
(1) رواه البخاري والترمذي والنسائي وأحمد عن أبي بكرة . صحيح الجامع الصغير وزيادته ، ط3، رقم ( 5225) .(/4)
(2) صحيح الجامع الصغير وزياداته (ط3) رقم : ( 5239، 5294، 5295) .
(3) د. محمد سليم العوّا : ـ الفقه الإسلامي في طريق التجديد ـ ص : 61.
(4) المصدر السابق ، ص : 62 .
(5) زاد المعاد في هدي خير العباد ـ ابن قيم الجوزية ـ (ط1) مؤسسة الرسالة : مجلد 3 ، ص: 295.
(6) د. محمد سليم العوّا : الفقه الإسلامي في طريق التجديد ، ص: 67.
(7) جورباتشوف : البروسترويكا والتفكير الجديد لبلادنا والعالم أجمع . ترجمة أحمد محمد شومان وإخوانه ، ص: 166.
(8) صحيح الجامع الصغير وزيادته : ط3 ، رقم : (5784) .(/5)
المرأة بين مطرقة الإباحية و سندان الرجعية
هيفاء علوان *
المقدمة
المرأة ، ذاك الإنسان الذي يصول ويجول , ويبني العقول , يصل ليله بنهاره يذوب ليضيء الحلكة لأبنائه , لقد تسربل يومها بالأسى , وعاشت الماضي في سرادق الردى ، وجفاها ثلة من الورى .
تباكى لأجلها المدعون المتحررون , وأقسموا أنهم لها ناصحون ولخدمتها مسخرون, ولعرشها بانون , ما أنصفها نعيق المتحررين , ولا زئير المتنطعين .
أقاموا لها المؤتمرات,وأمعنوا في الادعاءات ,فكانت الويلات , تحوم حول البنات , أثخن جراح نسائنا ثلة من المسلمين المتنطعين ,وتمنوا لها الشقاء والأنين ,وأمعنوا في إغفال صوت الحق والدين ,أرادوها كالجواري تنهشها الأسود الضواري ,فبعد أن سُفِهت الأحلام ,وساد القتام ,وانتفش الموت الزؤام ,جاءها الإسلام فارس الأحلام , وأيقظها من سبات المنام , ما صانها إلا الإسلام الذي أنصفها من اللئام ,نأى بها عن وهاد الحرام ,لترسو على شاطئ الأمان, هذبها بهدي خير الأنام , وأكرمها أيما إكرام وفضلها على كثير من الأنام,ووعدها بدار السلام إن صانت الذمام ونأت عن الحرام في هذه الصفحات أبوح للورى همسات نديات عبقات , تزينها هفهفات شجيات مائسات علَّها تشفي الصف المسلم من الهِنات وتبري سقامه والشتات. وتجتمع الأمة على مائدة القرآن ,فيأخذ الإنسان بيد أخيه الإنسان ,فيبلغا العنان ,وما يزال العبد في دأب وغليان وحب وإحسان حتى يبلغ الجنان ويحظى بالأمان وينال رضى الرحمن ويشاهده ويكلمه الله من غير واسطة ولا ترجمان .
إن القيم والفضائل هي المصدر والمرجعية وإن السيرة النبوية هي المنجم الذي فيه كنوز المعرفة والإيمان وفيه مشاعل الهداية وسنام المعاملات ,هذا المنجم الذي يمد الحياة بنسغ فيه العطاء والتصويب وطيب المعاملة وحسن السلوك يوائم بين قيم الحق الجليلة وبين الواقع المعاش, فلا ينحدر الإنسان المسلم إلى حضيض البهيمية ,ولا يشتط ويدعي أنه يعمل ويطمح للعيش في برج عاجي من المثالية ,ولا يكون له الفوز والفلاح إلا أن يفيء إلى منبع الهدى كتاب الله المحكم قولاً وعملاً,وإلى سنة الحبيب المصطفى وما حواه من مبادئ مشعة نعب منها ونقتفي أثر الحبيب قولاً وعملاً,لابد أن نلجأ لهذا في وقت يكثر فيه الجدل والمراء في أكثر أمور الدين خطورة , وقد تشُرَع الأسنة وتُقطع الرقاب في أمور ليست هي في صلب الدين , وقد يتجرأ بعض المتفيهقين على بعض تعاليم شرع الله الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فيتصدرون للإفتاء وما أكثر المفتون في زماننا هذا! !فقد يفتي بعضهم وما في قلبه ذرة من الإيمان ,وكثيراً ما تصبح العادات والتقاليد هي مصدر الفتوى ,وتكثر الآراء ويُصدق الرويبضة عند ذلك تتراجع التعاليم والقيم الشرعية وتتحكم بالاجتهادات الظروف الخاصة والمعاناة الفردية حيث في هذا الزمان يعيشها كثيرون من رجال ونساء ويحاولون التفتيش لإيجاد المشروعية الشرعية لما يعتقدون ويجتهدون .
وقد يكون في واقعنا بعض النساء والرجال قد عانوا في حياتهم تعرضوا في حياتهم لظروف خاصة في حياتهم الأسرية مع آبائهم أو أزواجهم أو زوجاتهم أو إخوانهم , قد يكون ما أصاب بعضهم تزمتاً لا أصل له في الدين ,بعيد كل البعد عن القيم الإسلامية الصحيحة ,وإنما قد يمارَس عليهم تحت شعار الإسلام أو بعض المفهومات المعوجة أو المغشوشة للتدين, ويحاول من يمارسونها أن يلبسوها ثوب الدين لفرض سلطانهم ,وقد يكون الدين منها براء ,ويعجز الذين يتعرضون لهذه المعاناة بسبب معاناتهم نفسها عن التفريق بين الصورة التي تمارس عليهم باسم الدين ’ وبين الحقيقة التي تقتضيها القيم الإسلامية فتجيء أحكامهم وآراؤهم فيها الكثير من عدم الروية والموضوعية والكثير من التجني على الحقيقة .
وكثيراً ما يتابع الإنسان السيرة الشخصية لبعض من يخاصمون القيم الإسلامية , أو يعادون هذا الدين فلا يلبث أن يكتشف السبب الحقيقي لمثل هذه المواقف الجائرة والأحكام الظالمة , ذلك أن اختزال القيم الإسلامية في موقف أو شخص أو زمان أو مكان - وهذا ما نعاني منه في وقتنا الحاضر –واعتباره مقياساً وعدم القدرة على تجريد الحقيقة من ظرفها كائنا من كان , واعتمادها معياراً يحدد الانحراف والخروج يمكن أن يعتبر من أخطر الإشكاليات والمغالطات التي يعيشها أعداء الإسلام وهم من بعض أبنائه وبناته الذين يسقطون ضحايا الصور المشوهة للتدين التي يمارسها الآباء أو الأزواج أو الإخوة أو مَن في حكمهم .ولعل الدخول في الإيمان والارتقاء إلى درجة توحيد الألوهية والربوبية التي أوضحت مفهومها النبوة الخاتمة وأصلتها في الرؤية الإسلامية هو الذي يشكل المصدر الأساس للحرية سواء بالنسبة للذكر والأنثى على حد سواء ولأجل أن نبين الحقيقة ونجلو الغبش والضبابية التي غشت عيون بعض ضعاف الإيمان كان لابد لنا من كتابة بعض الصفحات.
-1-(/1)
لا أخال أحدا ًفي زماننا هذا ولا سيما ممن يمتلكون قدراً من العلم والثقافة والفكر يجهل طبيعة وحجم إكرام الإسلام للمرأة ومنحها حقوقها وإعلاء شأنها بعد أن كانت في كثير من المجتمعات الجاهلية شيئاً من المتاع
الذي يرثه الإنسان من دون أن يكون لها أدنى حق ويشمل ذلك حقوقها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية غيرها ولأن المرأة المسلمة في مجتمعاتنا الإسلامية تتمتع بخصوصية واضحة جعلتها محط أنظار الكثير من المثقفين في العالم كله بما في ذلك العربي والإسلامي الأمر الذي قاد الكثير من هؤلاء للتعبير عن مستويات النقد لطبيعة دورها وممارساتها في مجتمعاتنا ولم يتوقف هؤلاء إلى حد استنهاض همة المرأة المثقفة الواعية والمتعلمة ليكون لها دور بارز في المساهمة في العديد من المؤسسات الثقافية والاجتماعية والثقافية وصياغة مستقبلها في المجتمعات المسلمة عندما يتم ذلك وفق معايير الشرع الإسلامي ,وربما تجاوز عدد غير قليل منهن وعبر منابر إعلامية إلى تهميش طبيعة دورها في مجتمعاتنا اليوم على ألا يعدو هذا أن يكون شكلا ًمن أشكال الممارسة الاعتيادية الطبيعية التي لا تعكس اهتمام المجتمع وقادة الرأي فيه لمنحها حقوقها . وربما أكثر ما يعني به هؤلاء هو الحديث عن قصورها في المشاركة السياسية وعبر مؤسسات العمل الثقافي والاقتصادي رغم حضورها في مجتمعاتنا , وفي المدى القريب نلاحظ كثرة البرامج التي تثير قضية أن تسوق المرأة السيارة ففي كل أسبوع وفي الفضائيات قد يُقدم أكثر من برنامج في هذا الموضوع المصيري ويوصم الإسلام بالتخلف والرجعية إن هضمت بعض البلاد الإسلامية المرأة في هذا الحق. إلا أن المؤسف أن يظل عدد من وسائل الإعلام العربية والغربية تمارس دور الوصاية على مجتمعنا,مصادرة منا الحق في اتخاذ ما نراه مناسباً لطبيعتها.من المؤسف أن تجد بعض وسائل الإعلام _خاصة الفضائية_تلح وعبر برامج حوارية على استضافة عناصر غير ملتزمة لتتحدث بحرية لا نظير لها بلا احتشام ولا اعتبار, بل تشعر بعدم إدراك هؤلاء لطبيعة الدور الذي يقوم به نصف المجتمع الثاني في أيامنا هذه.نجد عند هؤلاء قصور وعدم توضيح للرؤية في الحديث وإيضاح الحقيقة وتقديم معلومات دقيقة وصحيحة تعكس حجم المشاركة الجيدة الفاعلة للمرأة في مجتمعنا . . حينئذ يمكن لنا أن نُسكِِت كل تلك الأصوات التي تمارس وصايتها علينا .
تتسم نظرة الإسلام إلى المرأة بالشمولية والكمال وتبتعد عن الجزئية والتفاضلية في نظرتها إلى نصف المجتمع ،فما أجمل خطاب القرآن الكريم حين قال سبحانه وتعالى :
(يا
أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) النساء-ا-(/2)
من هنا خلقت أمنا حواء من أبينا آدم عليه السلام وقطعت معه مرحلة الامتحان و الابتلاءات، وتقادمت السنون والأيام وكانت الحضارات التي سادت ثم بادت ، وقد أجحفت هذه الحضارات في حق المرأة وحادت عن جادّة الإنصاف.كانت المسيحية ترى أن المرأة باب من أبواب الشيطان وقرر أحد المجامع الكنسية في روما أنها حيوان نجس لا روح له ولا خلود وفي الهند نجد في أساطير (مانو) ما يعبر عن وصفها بالدنس ومقارنتها بالباطل , ولم تتحسن النظرة إليها حتى وقتنا الحاضر إلا قليلا ًبحكم تمازج الحضارات في المجتمعات الهندية .وفي اليونان لم تكن لها قيمة تُذكر سوى اعتبارها شيئا ممتعا ًللرجل يستخدمه للذته ومتعته ، لكنها بدأت تأخذ مكانة مهمة في المجتمع مع وصول الحضارة اليونانية إلى أوجها , وبدلا ًمن أن تتحرر بوصفها إنساناً كامل الأهلية أصبحت رمزاً للجمال المادي فانتشر الفساد والإباحية باسم الفن والجمال وأصبح التحرر مرادفاً للتحلل والفاحشة .واعتبرت المرأة عند الرومان مساعدة للشيطان , ونفسها لا تقارن بنفس الرجل فهي وضيعة لا تستحق الخلود في الآخرة وكان للرجل سلطة عليها مطلقة قد تصل إلى حد التعذيب والقتل.. ثم انقلب القانون فجعل لها استقلالية تامة دون ضوابط فتعدد الزواج والطلاق , وأصبح الزنا يعترف به القانون , وكانت الدعارة من أكثر المهن رواجا حتى بين العائلات العريقة . وفي المجتمعات اليهودية سويت المرأة بالخدم لأنها دون مرتبة الرجل وأجازت تلك المجتمعات لأبيها بيعها وهي صغيرة لأنها موصومة بطابع الخطيئة البشرية الأولى وكانت المرأة في اليهودية كمثيلتها في النصرانية بوصفها عنواناً للإغواء ومتاعا ًللذة والمتعة .أما العرب رغم اتصافهم بالمروءة والشهامة التي تحتم عليهم حماية المرأة و تبويئها مكانة متميزة في الأسرة وهذا في الجاهلية إلا أنها لم تكن تملك من نفسها شيئاً, فقد كانت تُستعبد وتُذل وتُكره على البغاء ولا تستفتى في الزواج , ويظاهرها زوجها وتعضل إذا كانت أرملة وغير ذلك من مظاهر المهانة والاستعباد ,ورغم كثرة الحديث عن الحرية التي ملكتها المرأة الغربية في العصر الحديث إلا أنها لم تستطع بعد أن تأخذ كثيراً من حقوقها ,وخاصة في ظل التشدق بحقوق الإنسان والمساواة وغيرها من الألفاظ التي تطبق معانيها بانتقائية , فنجدها مثلاً غير متساوية في الأجرة الوظيفية مع الرجل رغم قيامها بالعمل نفسه , كما أنها تستغل في الدعاية لتسويق مختلف السلع والبضائع , ويستغل جسدها ليكون مجرد شيء للاستهلاك وعرضه حسب قانون العرض والطلب نفسه,وغير ذلك من أنواع المهانة التي تتعرض لها المرأة ,والتي تؤكد أن المرأة مازالت تخضع لرغبات الرجل في عالم تسوده النزعة الذكورية المستغلة لجسد المرأة . ومنهم مَن أقر أن المرأة إنسان ولكنه خُلق لأجل الرجل فقط .
في الجاهلية كانت أكثر نفوس البشر قبل الإسلام إنصافاً للمرأة رغم غلبة القسوة على طبيعتها,ومرد ذلك في الدرجة الأولى إلى خصائصها العربية الفطرية .وقد رأينا قبائل برمّتها ورجالاً من أكابر القبائل ينسبون لأمهاتهم لا لآبائهم مثل ربيعة و فزارة وسليم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أنا ابن العواتك من سُلَيم)رواه الطبراني عن ابن عاصم بسند صحيح . و في رواية أحمد من بني سليم يشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى نسوة من أصوله كل منهن تسمى عاتكة .وكان لبعض النسوة في الجاهلية أثرهن في كبار الأحداث ، وهذه معركة ذي قار من أضخم أيام الجاهلية سببها امرأة أرادها كسرى وأباها النعمان عليه, وحرب الفجار نشبت من أجل امرأة أراد بعض الشباب كشف نقابها وكذلك رأينا شعر الجاهليين طافحاً بالحديث عن المرأة وأثرها في تنشيط الفضائل لدى الشباب , وامتازت بعض البيوت في الجاهلية بإكرام البنت حتى لا تسمح بزواجها إلا برضاها هي كما حدث للخنساء إذ رفضت دريد بن الصمّة سيد بني هوازن لتتزوج من متلاف الذي ذاقت في ظله ضروب الشقاء ,لكن هذا الحظ من التكريم لم يكن منتشراً في كل جزيرة العرب إذ أن طبيعة البادية قد نالت من المرأة العربية أقسى منال, فقد قضى نظامها ألا تعترف بالحياة لغير القوي ,وكانت القاعدة المشتركة بين المرأة العربية وغير العربية قبل الإسلام أنها مسلوبة الحق وكان الاتفاق بين كليهما على الانحدار إلى مستوى الحيوانية .(/3)
عندما نتحدث عن وأد البنات من قبل بعض القبائل العربية خوف العار نجد أن قبائل أخرى –حتى في أيام قريبة من الرسالة الإسلامية –تولي أمرها لامرأة فقد ادعت( سجاح ) النبوة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقادت قبائل تميم نحو الجزيرة تريد القضاء على المسلمين إلا أنها فشلت في ذلك وأسلمت فيما بعد . وجاء الإسلام ليخلصها من الأغلال التي أرهقت كاهلها ومن التفريط الذي مسخها ومن الإجحاف الذي ألم بها .فإذا كانت مدنية الغرب وهي وليدة الوثنية اليونانية والرومانية قد رضيت هذا المصير المزري فلا تنتظر من الإسلام وهو عدو الوثنية أن يرضى لها غير الانسجام الكامل مع قوانين الفطرة ,هذه القوانين التي لا تُكره المرأة على مالا يتفق مع كرامتها كإنسان ومع تركيبها اللطيف الرقيق كأنثى .
كان من آثار امتهان المرأة عند بعض الجهلة أن انطلقت أصوات بالهجوم على الإسلام فهم يريدون أي ثغرة ليعلنوا حربهم على هذا الدين العظيم .
ففي عصور الازدهار قام في الدنيا لأول مرة مجتمع تُحتَرم فيه المرأة كإنسان كامل الأهلية وتلاقي من المجتمع الاحترام كزوجة وأم صانعة للأبطال والعظماء وتُصان سمعتها عن اللغط وأقاويل السوء بعدم الاختلاط المشبوه مع الرجال إلا في أماكن العبادة ومجالس العلم. وفي عصور الانحطاط , أتى على المرأة عصور متباينة من حيث الرعاية للمرأة ومن حيث إهمالها نتيجة لتطور الحضارة الإسلامية وعادات المسلمين حتى انتهى الأمر بالمرأة في عصور الانحطاط إلى إهمالها إهمالاً تاما ًمما جعلها معطَّلة عن أداء رسالتها الاجتماعية التي حمَّلها إياها الإسلام . وينبغي أن نلاحظ في هذه العصور المظلمة أنه قد بقيت حقيقتان قائمتان بفضل الله سبحانه وحاشاه أن يَظلِم أو يقبل الظلم لعباده:
الحقيقة الأولى : أن حقوق المرأة التي قررها الإسلام بقيت مقررة في كتب الفقهاء على الرغم من أن المجتمع كان لا ينفذ من هذه الحقوق إلا ما يروق له منها ويعود هذا إلى أن الحقوق التي اكتسبتها المرأة المسلمة في الإسلام لم تكن حقوقاً أوحت بها ظروف اجتماعية طارئة ثم زالت ,وإنما كانت حقوقاً ثابتة جاء بها تشريع إلهي من فوق سبع سماوات لا يجرؤ أحد ولا يستطيع مهما علا شأنه في المجتمع أن يناله بالتغيير والتبديل . والحقيقة الثانية : أن عفة المرأة وسمتها العطرة وقيامها بواجبها تجاه أولادها وبيتها خير قيام , جعلت حقوقها باقية خلال هذه العصور رغم ميع الاضطرابات التي انتابت المجتمع الإسلامي في عصور الانحطاط وهذا ما جعل المرأة المسلمة محل غبطة شديدة من مثيلاتها ممن لم يحظين بمثل هذه المنح الربانية . ومن الحق أن نشهد بأن الأوساط غير الإسلامية في بلادنا استفادت من تقاليد المجتمع الإسلامي في صيانة عفة المرأة والابتعاد عن العبث بها سمعةً مشرفة أيضاً بالنسبة للمرأة الغربية وإن كانتا تتبعان ديناً واحداً وهذا ما نشاهده في الأسر المسيحية العريقة رغم ما أصابنا وأصابهم من عدوى التقاليد والأخلاق والعادات الغربية التي جعلت مكانة المرأة في الحضيض .لقد اهتم الإسلام بسلامة نسب الأطفال وعدم جمع المرأة بين زوجين ووضع ضوابط للرجل والمرأة , بدءاً من عملية الاختيار أو الانفصال مشروطة بالفقه والشريعة والعرف ما لم يتعارض مع النص , وتحريم الزنى للرجال ,والنساء على السواء حماية للطفل لما في ذلك من أثر سلبي خطير على نفسه وعقله ونشأته الاجتماعية . والعلاقات في الأسرة المسلمة تقوم على المودة والرحمة والترابط وصلة الأرحام وبر الوالدين وغير ذلك من الآداب التي تؤلف بين أفرادها . والحقوق في الأسرة متبادلة مع الواجبات فكل حق للزوج يقابله واجب عليه وكذلك ا لأمر بالنسبة للزوجة.
1- أول ما يطالعنا الإسلام ، إبطاله النظرة الجاهلية من حزن و شعور بالخزي و العار لدى ولادة الأنثى وهذا الحديث الشريف مصداق ذلك: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أكثر فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن وفي رواية فأدبهن وأحسن إليهن وزوجهن فله الجنة) .
2- اعتبار مسؤوليتها وتوجيه خطاب التكليف لها كالرجل قال تعالى:
( كل نفس بما كسبت رهينة ) (المدثر)
38. وقال تعالى:
(وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) (النجم)- 39-
فالنفس في الآية الأولى والإنسان في الآية الثانية كلاهما يشمل الرجل والمرأة . وفي قول لابن ماجة (نعم رفع الإسلام عن المرأة الإلزام ببعض التكاليف لا لأنها غير أهل لها ولو فعلتها لم تقبل منها ولم تثب عليها , لكن أبيح تركها تخفيفا وترخيصا وبعدا عن مزاحمة الرجل كما في صلاة الجمعة والجهاد ولو أقرت حضور الصلاة الجامعة أو دخلت صفوف المجاهدة كان عليها حرج في الدين ) .
3- مطالبتها بالعلم والعمل (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ) .(/4)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء من التفقه في الدين) .فالمرأة كالرجل لها الحق في طلب العلم, وفرص العلم متاحة لها قال تعالى
(يؤتي الحكمة مَن يشاء ومَن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) البقرة –269 .
وقد أبيح لها العمل والسعي لكسب الرزق ، فالرؤية الإسلامية تتيح للمرأة ممارسة العمل خارج مؤسسة الأسرة إذا لم يتعارض ذلك مع دورها داخل الأسرة، و في الوقت ذاته يحافظ الإسلام على كيان المرأة و فطرتها و خصائصها التي أودعها الخالق فيها ، من ممارسة الأعمال العنيفة مثل العمل في المناجم و التعدين و المهام الخطرة ، و يحترم الإسلام عمل المرأة في إطار المشروع و المرتبط بحاجة المرأة للعمل أو حاجة العمل للمرأة .وينبغي أن يكون واضحاً أن الإسلام أعلنها صريحة أن الإنسان يستحق عائد عمله الصالح النافع يستوي في ذلك الذكر والأنثى قال تعالى
(للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن )النساء 32 .
الآية تقرر مبدأ استحقاق العامل لعائد عمله المفيد للناس في الدنيا والآخرة دل هذا على أن عمل كل من الذكر والأنثى ليس ضائعاً عند الله , وإن عمل المرأة مأجور مما يدل على أن الحق في العمل المقرر بأصل الإباحة ويتساوى فيه كل من الذكر والأنثى , نعم لقد جُعِل لها الأجر على العمل الصالح كالرجل سواء بسواء
فلم يكن لها أجر أدنى من أجر الرجل. قال تعالى
(فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أوأنثى بعضكم من بعض . . )آل عمران 195.
وهناك آيات أخرى تفيد نفس المعنى .
من الجدير بالذكر أن الإسلام يرفض أن يكون التنافس والتصارع بين الزوجين هو أساس العلاقة الزوجية أو إعلان تفوق طرف على الآخر , والتسليم بأن المولى عز وجل ميز كل طرف بخصائص تختلف عن خصائص الطرف الآخر ,ليس من أجل التكافل والتوافق فيما بينهما ,بالإضافة إلى أن الرجل هو المكلف بتحمل النفقات المالية والأعباء المادية للأسرة .
المرأة بين مطرقة الإباحية و سندان الرجعية-2-
هيفاء علوان *
مساواتها للرجل في الحقوق السياسية :
فلها أن تكون ناخبة في انتخاب خليفة المسلمين ومبايعته على الوفاء بحقوقه عليها .قال تعالى (ياأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ) الممتحنة 212.
وللمرأة حق في أن ترث وكثيراً ما كانت تُحرم قديما من الميراث ولكن ديننا العظيم ضمن لها هذا الحق وقد أثار بعض الناعقين شبهة مفادها :لمَاذا كان الذكر نصيبه مثل حظ الأنثيين نقول لهم إن هذا الحكم الشرعي لم يقصد النيل من إنسانيتها أو يقلل من قيمتها ,وإنما بنى الحكم على أساس ما تقتضيه حكمة الله سبحانه وتعالى وتتطلبه طبيعتها العملية .
قد يتساءل أحدهم لماذا فضَّل الله عز وجل الرجل في الميراث مثلا وجعل له القوامة في البيت و. . و. . نقول :إن الله تعالى فضل الذكر في خلقته بقوة في الجسم والعقل كان بها أقدر على الكسب وتحصيل الرزق ,وعنده من قوة الشكيمة والحمية ما يجعله أقدر من المرأة على الدفاع الخاص عن الأسرة و عن الدولة وفُرضت عليه النفقة . وبها كان الرجال قوامين على النساء قال تعالى (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم )النساء 34 ,ومن مقتضى الفطرة اختصاص المرأة بالحمل والرضاع وحضانة الأطفال فرجال المستقبل يحتاجون لمن يتفرغ لهم لتوجيههم وتقييم سلوكهم ,إذ ليس البيت بمثابة الفندق يجتمع فيه أفراد الأسرة للمنامة والطعام ,إنما هو حجر الأساس في المجتمع وهو المدرسة الأولى للطفل وبقدر ما تكون الأم على قدر من العلم والوعي والفضيلة يكون الطفل قال الشاعر :
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
وإذا ما أهمل الأبوان رعاية وتربية أولادهم كان أولادهم بمثابة اليتامى ولله در الشاعر حين قال :
ليس اليتيم من انتهى أبواه (م) من همِّ الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا
والمرأة لها الرياسة في جميع الأعمال الداخلية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالرجل في بيته راع ٍوهو مسؤول عن رعيته والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها . .)
ينبغي أن يعلم المشككون أن الرجل ليس مستبدا وإنما رئاسته شورية لا استبدادية قال تعالى في كتابه الكريم (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً) النساء 19.(/5)
وفي الحديث الشريف ( لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلق رضي آخر )رواه مسلم .فالقاعدة التي يجب أن تسود في البيت التزام كل من الذكر والأنثى بإرشاد الشرع والتشاور والتراضي في غير المنصوص عليه ومنع الضرر والضرار وعدم تكليف أحدهما الآخر ما ليس في وسعه قال تعالى (و الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة )البقرة 233, وقال عز من قائل :
( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم )الشورى38
وفي الحديث الشريف (قال رسول الله : استوصوا بالنساء خيرا ًفإن المرأة خُلقت من ضلع أعوج وإن َّأعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته ,وإن تركته لم يزل أعوج ) وفي الحديث ( خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ) رواه الترمذي عن عائشة , وابن ماجة والطبراني عن معاوية وهو حديث صحيح .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه عن آية الوعيد على كنز الذهب والفضة ( ألا أخبرك بخير ما يكنز المرأة الصالحة , إذا نظر إليها سرته وإذا غاب عنها حفظته )أبي يعلى ,ابن أبو شيبة داود وغيره .إسناده ضعيف قال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا كما فضلن عليهن في الميراث، فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء .
وقال النساء : إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة ,كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا .
4- احترام رأيها واعتباره مهماً فيمن يتقدم لزواجها .فلها الحق في إبرام عقد الزواج واختيار زوجها وليس لولي أمرها أن يجبرها على الزواج ممن لا تريد .قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن ,قالوا يا رسول الله وكيف أذنها قال : أن تسكت ).
5- مسؤوليتها العامة بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والفضائل والتحذير من الرذائل قال تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله ).التوبة 71
وقال الإمام محمد شلتوت (إن مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي أكبر مسؤولية في الإسلام وقد سوى الإسلام فيها بصريح العبارة بين شطري المجتمع: المرأة والرجل).
6- أهليتها في التصرفات المالية والتجارية واحترام حقها في امتلاك ما تشاء والتصرف بما تشاء , قال تعالى (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن )النساء32 صدق الله تعالى الحقُّ العدل .
7- وهي تنال قبل الرجل ما بين ثلاث إلى ست سنوات –وهذه المدة هي التي تسبق بها الأنثى الذكر قبل سن البلوغ -: أ- تتسلم أموالها من يد الولي أو الوصي لتنفرد هي بالتصرف فيها .
ب-حقوقها السياسية ناخبة ومنتخَبة .
ج-تختار لنفسها عند البلوغ إذا زوَّجها قبل البلوغ الأولياء من غير الأب والجد .
د- ويكون لها حق تزويج نفسها –على رأي مَن يقول بذلك –على أن تكون مع بلوغها عاقلة رشيدة وأن تزوج نفسها من كفء , وإلا كان لوليها حق فسخ النكاح .وحين ساوت القوانين الوضعية بين الرجل والمرأة في سن البلوغ , وجعلته سن الثامنة عشر لكليهما في غالب البلاد الإسلامية،أُصيبت المرأة بالضرر , لأنه سيتأخر نيلها لحقوقها التي ذكرت للمادة التي بُينت .
والأشد وطأة من كل ذلك وضعها تحت إكراه قانوني للعيش مع من لا تحب لمدة تتراوح بين ثلاث إلى ست سنوات , إذ سيتأخر اختيارها لنفسها طول تلك المدة في حالة تزويجها وهي صغيرة من غير أبيها أو جدها,فإذا زوّجها أبوها أو جدها , فلا خيار لها عند البلوغ , وذلك لظهور شفقتهما, ولعدم التهمة منهما في غالب الأحوال.
8-قبلت الشريعة الإسلامية شهادة المرأة الواحدة فيما لا يطلع عليه إلا النساء . كإثبات البكارة أو عدمها , وإثبات الولادة للمولود, وإثبات استهلال المولود , أي خروج صوت منه بعد ولادته وقبل وفاته ,أو إثبات ولادته ميتاً .
وفي إثبات ما تقدم من الآثار الخطيرة ما لا يخفى :
1- فبولادة المولود حياً يستحق الميراث وما أوقف عليه من وقف وهو جنين ,وما أوُصي إليه به وهو جنين.
2-وقد يثبت له الملك في الملكيات الوراثية , فهي تشهد على صحة ولادة الأم له وليس كونه مولوداً مدَّعَى.(/6)
وكم من مفاسد في التاريخ حصلت بهذا الادعاء أو التبديل .فإذا لم تشهد القابلة بالولادة والولادة مع الحياة فقد تكون التركة تقدر بالملايين التي لا تدخل في ذمة هذا الوليد وبالتالي لا يستحقها ورثته ،بل تنتقل إلى ورثة مورثه عداه , وكذلك استحقاقه للارتزاق في الوقف , أو دخول المال الموصى به في ذمته, وقد تكون تلك الأمور أموالاً جمة لا يستحقها هو أو ورثته , إن مات بعد ولادته حياً. فأية ثقة هي تلك الثقة التي أعطاها الشرع الحنيف للمرأة القابلة الواحدة . فإذا علمنا أن (حد الزنا ) لا يثبت إلا بشهادة أربعة من الرجال فقط كانت حينئذ شهادتها تعدل أربع شهادات للرجل لأن الزنا واقعة . . والولادة واقعة ! فإذا نصَّف الشارع الحكيم فهو قد ساواها بأربعة رجال في مواضع أخرى.
9-اختصاص المرأة دون الرجل ببعض صيغ طلب الفعل في خطابات الشارع ,وطلب الفعل يكون بصيغ معلومة في اللغة العربية هي :
أ-صيغ فعل الأمر كافة .
ب- المصدر النائب عن الفعل وهو لا ينوب إلا عن فعل الأمر .
ج-اسم فعل الأمر .
د-الفعل المضارع المقترن باللام .ً
و-صيغة الخبر الدالة على الطلب.
فإذا كان الخطاب للرجال والنساء كان بالصيغ الأربعة الأولى ,وفيها شدة تناسب الطلب ,وتأكيد على طلب التنفيذ فإذا كانت المرأة مع الرجل في ذلك الخطاب , أصابها من الشدة الذي خوطب بها ومن التأكيد القوي ، وإذا كان لها الخطاب دون الرجال خوطبت بالطريقة الخامسة الدالة على : الرقة والتحبب والتحنن, والقائمة على الثقة بالمخاطبة والتمثيل على ذلك بالتسلسل كما يلي :
1-قوله تعالى (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين) (سورة البقرة 43) وقوله سبحانه(قوا أنفسكم و أهليكم ناراً ) (سورة التحريم 6)
2-قوله تعالى (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا ًبعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها . .) (سورة محمد4)
3-مثل : صه, آمين , مه .
4- قال تعالى (ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين على اجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتقِ الله ربه ولا يبخس منه شيئاً فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل)البقرة 282
5- قوله تعالى (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً)البقرة 234. وقوله تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهنّ)الطلاق.
6- وقوله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف. )البقرة 233 .فالآية الأخيرة تعني أيتها المرأة إن تزوجت ورزقت بولد,فسترضعين ولدك حولين كاملين إذا أراد الزوج ذلك , فالله عز وجل لا يقول لها أرضعي . . أو رضاع .أو لترضعي . فكل ذلك فيه شدة وقوة وجزم وحزم وكل ذلك لا يتناسب مع رقة المرأة وشدة حساسيتها فناسبها الخطاب الذي خوطبت فيه! فجلت حكمة ربنا عز وجل .
وهذا الأسلوب أدعى إلى الاستجابة بسبب ما ذكر ,ولما يتضمنه من الإيحاء بالمطلوب , بحيث يكون القرار أخيراً للفاعل وكأنه عمل الفعل من نفسه ,وهذا أسلوب تربوي ونفسي عالٍ جداً ولهذا يكون عقاب العاصي لهذا الأسلوب اشد , وهذا ما يفسر قول المصطفى عليه الصلاة والسلام ( ورأيت النار فلم أر كاليوم منظراً أفظع , ورأيت أكثر أهلها النساء .لأن عصيانهن بعد تلك الخصوصية من العظائم , ولأنه أعطاها أكثر من
الرجال , فمخالفتها تكون أشد مؤاخذة وعقاباً, وهذا من العدل الإلهي الذي فيه توازن بين النعم والنقم ,وبين العطايا والتبعات وحين يخاطب الباري عز وجل الله عز وجل الرجل –في نفس الآية يخاطبه بما يناسبه –فيقول ( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن . .) ومعلوم أن لفظ على من ألفاظ الإيجاب وفيها من الشدة مالا يخفى على العاقل المتدبر .
7-حقها في حضانة أولادها حين يقع الطلاق بينها وبين زوجها ويختلف الفقهاء في سن الحضانة وفي كل الأحوال فإن الزوج مُكلَّف بالإنفاق عليهم مدة الحضانة .
8- حقها في أداء عباداتها , وليس للزوج أو ولي الأمر أن يمنعها عن ذلك ولكن شرط عدم المبالغة والتفريط في حقوق الزوج .
9- حقها في طلب الفراق من زوجها إذا كان الزواج يضر بها أو كان هذا الزواج يؤدي إلى المنكر ولكن هذا الحق في الواقع ضيق جداً لأن الإسلام يميل إلى إبقاء وحدة العائلة .
10- وهنالك حقوق جانبية للمرأة أخرى يمكن إجمالها بما يلي :
أ- حقها في الحصول على أجور مساوية لأجور الرجل في العمل .(/7)
ب- حقها في أن تحصل على ما يكفيها من مؤونة البيت من زوجها وإن كانت تعمل , والبنت لها حق المؤونة المذكورة من أبيها أو ولي أمرها.وقد جعلت الشريعة الإسلامية نفقة الزوجة على زوجها وإن كانت غنية وذلك جزاء الاحتباس له ,وهو من توازن التبعات الدقيق في شريعتنا الغراء وإن لم تكن متزوجة . فنفقتها من مالها الخاص إن كانت غنية وإلا فنفقتها من مال عصبتها –أقاربها من الذكور-لأنهم يرثونها إن كانت غنية .قال تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تَكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك . . )
فهي غير مُلزَمَة بالكسب , ولا تحمل أعباءه,ولا الخروج لأجله , مع ما في ذلك من مشقة غير منكورة , وتحمل مضايقات الرجال , أو تلصصهم عليها بالنظرات لإشباع نهمهم, فصانها منهم ورفّعها عليهم فهم يسعون بين يديها , وتبقى هي درة مكنونة,وسيدة مصونة !, ولأجل هذا وغيره نُصِّف ميراثها !
نعم إن خرجت للكسب جاز بحسب الأحوال, ووفق الضوابط الشرعية , وإنما رُفِع الإلزام عنها , ولم يُرفَع الجواز عند الحاجة .
ج- وعلى الرجل إسكان الزوجة على سبيل الوجوب .قال تعالى :
(أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تُضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى * لينفق ذو سعة من سعته ومَن قُدِر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً ) الطلاق6.
بل حتى لو طُلِّقَت المرأة فتبقى لها حقوق كثيرة منها في قوله تعالى (ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة *فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف) . الطلاق 1 -2. .
ج- بعض الحقوق الشخصية الأخرى , كحقها في الحفاظ على اسمها بعد الزواج.وبقدر ما كانت المرأة قد حصلت على حقوق فإن عليها واجبات فهي مُخاطَبة كالرجل في التكاليف . . عليها ما عليه إلا ما كانت المخاطبة خاصة بجنس أحدهما فلا يلزم الآخر , وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم :
(كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته) يجمل الأمر بشكل واضح .
د-لقد اعتنى الإسلام بالمرأة كثيرا وذكر النساء في كثير من الأحيان بصورة مباشرة,ثم نزلت سورة كاملة تحمل اسم النساء تكريماً لهن .وكان النبي يوصي بالنساء خيرا ًفيقول (استوصوا بالنساء خيراً)وكان صلى الله عليه وسلم يسمع شكاواهن ويشترك في حلها ,وكان يبعث في طلب أزواجهن فيأمرهم بمعاملة نسائهم برفق, وكان عليه السلام يستفسر منهن عن بعض الأمور, وخاصة فيما يتعلق بأمورهن النسوية ,إذ لا مصلحة للمجتمع في تجاهلهن, فرأينا أن المرأة قد أبدت تجاوباً مبكرا مع رسالة الإسلام منذ أيامه الأولى وقد سجل لها التاريخ مآثر كثيرة منها :
1-إنها قد ناصرت الإسلام, أسلمت ودعت له تماما ًكالرجل بل لربما تفوقت عليه لكونها أول من آمن بالرسالة كما فعلت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها, وكانت المرأة أول شهيدة تهب حياتها للإسلام كما فعلت (سمية بنت خياط)رضي الله عنها ,فنحن نجدها تثبت على الإيمان وترفض النطق بالكفر رغم أن ابنها عمار بن ياسر رضي الله عنه قد نطق به اتقاء الموت , فسجلت باستشهادها مأثرة لا يمكن للتاريخ أن ينساها.
2-ولم تكن الدعوة إلى الإسلام محصورة في الرجال,إذ إن النساء قد شاركن فيها , فكانت صفية بنت عبد المطلب وأم سليم بنت ملحان ونسيبة بنت كعب هذه المجاهدة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها (ما التفت يميناً ولا شمالاً إلا ورأيت أم عمارة تقاتل دوني) .(/8)
كانت رضي الله تعالى عنها إحدى اثنتين بايعتا بيعة العقبة كان قلبها يخفق فرحاً للقاء الحبيب صلى الله عليه وسلم, لم يغمض لها جفن في تلك الليلة ,فؤادها كاد يطير من الفرح من بين ضلوعها شوقاً إلى نبيها , بايعت الرسول من غير مصافحة . عادت أم عمارة إلى يثرب فرحة بما أكرمها الله به من لقاء الرسول الأعظم ,عاقدة العزم على الوفاء بشروط البيعة,مضت الأيام سراعاً,حتى كان يوم أحد كان لها فيها شأن وأي شأن خرجت أم عمارة إلى أحد تحمل سقاءها لتروي ظمأ المجاهدين , ومعها لفائفها لتضمد جراحها لاعجب كان لها في هذه الغزوة زوجاً وثلاثة أفئدة هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وولداها حبيب وعبد الله ,رأت أم عمارة كيف أخذ القتل يشتد في صفوف المسلمين وكيف زلزلت الأقدام وتفرق المسلمون عن رسول الله حتى لم يبقَ معه إلا نحو عشرة مما جعل منادي الكفار يقول لقد قتل محمد ,عند ذلك ألقت سقاءها ,وانبرت إلى المعركة كالنمرة التي قصد أشبالها بشر .,ولما انكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلمكم تقول رضي الله عنها كملت إليه أنا وزوجي وابني وأحطنا به إحاطة السوار بالمعصم وجعلنا نزود عنه بكل ما نملكه من قوة .ورآني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ترس معي أقي به نفسي من ضربات المشركين ثم أبصر رجلاً موليا ًومعه ترس فقال له ( ألق ترسك إلى من يقاتل فألقى الرجل ترسه ومضى فأخذته وجعلت أتترس به عن النبي , وما زلت أضارب عن النبي بالسيف وأرمي دونه بالقوس حتى أعجزتني الجراح وفيما نحن كذلك أقبل ابن( قمئة ) كالجمل الهائج وهو يقول : دلوني على محمد ,فاعترضت سبيله أنا ومصعب بن عمير فصرع مصعبا بسيفه وأرداه قتيلاً , ثم ضربني ضربة خلفت في عاتقي جرحا ًغائرا ًفضربته ضربات لكن عدو الله كان عليه درعان , وفيما كان ابني يناضل عن رسول الله ضربه أحد المشركين ضربة كادت تقطع عضده أخذ الدم يتفجر من جرحه الغائر فأقبلت عليه وضمدت جرحه ,وقلت له انهض يابني وجالد القوم . . فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ومَن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة)ثم قٌدم الذي ضرب ابني فقال النبي عليه السلام (هذا ضارب ابنك يا أم عمارة ),فما أسرع أن اعترضت سبيله وضربته على ساقه ,فسقط صريعاً على الأرض فأخذنا نتعاوره بالسيوف ونطعنه بالرماح حتى أجهزنا عليه فالتفت النبي الأعظم إلي مبتسما وقال( لقد اقتصصت منه يا أم عمارة والحمد لله الذي أظفرك به وأراك ثأرك بعينك) ومما حدث عنها ابنها :شهدت أُحدا ًمع رسول الله ,فلما تفرق الناس عنه دنوت منه أنا وأمي نذب عنه فقال ابن أم عمارة ؟قلت:نعم قال:ارم فرميت رجلا من المشركين بحجر فوقع على الأرض ,وحانت منه التفاتة فرأى جرح أمي على عاتقها يتصبب من الدم فقال:أمك . . اعصب جرحها بارك الله عليكم أهل بيت لمقام أمك خير من مقام فلان وفلان رحمكم الله أهل بيت ) فالتفتت أمي وقالت :ادعُ الله أن نرافقك في الجنة يا رسول الله .فقال(اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة )فقالت أمي :ما أبالي بعد ذلك ما أصابني في الدنيا.رحمها الله,حقاً ومَن يطيق ما تطيقه أم عمارة . ألم يكن جهادها ومكابدتها تفوق بعض الرجال ؟
3-وعندما قاطع المشركون بني هاشم وهم عشيرة النبي عليه السلام والأقربون وأجبروهم على الدخول في شعاب مكة فإننا نجد أن المرأة حالها في ذلك حال الرجل قد واجهت مشاق القطيعة , فتحملت الجوع والعطش وهي تأبى إلا أن تناصر النبي صلى الله عليه وسلم ودينه وتؤثر ذلك على الراحة تحت ظل الكفر .(/9)
4-ولقد كان نصف المهاجرين إلى الحبشة –هجرة المسلمين الأولى –من النساء وبذلك فإنها قد شجعت الرجل على الوقوف في وجه الظلم فتحملت معه قسوة الغربة ,وعندما يذكر لنا التاريخ أن عبيد الله بن جحش وهو رجل من المسلمين قد ارتد عن الإسلام وتنصر, فإن زوجته رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها أبت ذلك وثبتت على إسلامها , والقصة أنه بعد أن آمنت وزوجها عبيد الله بالله وحده ضيقت قريش عليهما الخناق وأرهقتهما اشد الإرهاق , ولما أذن رسول الله صلوات الله عليه للمسلمين بالهجرة كانت رملة وطفلتها الصغيرة حبيبة ,وزوجها عبيد الله في طليعة المهاجرين إلى الله بدينهم إلى حمى النجاشي بإيمانهم .وذات ليلة رأت حبيبة فيما يراه النائم أن زوجها عبيد الله يتخبط في بحر لجي غشيته ظلمات بعضها فوق بعض ,وهو بأسوأ حال . . فهبت من نومها مذعورة مضطربة ولم تذكر ما رأت لأحد حتى لزوجها لكن رؤياها مالبثت أن تحققت إذ لم ينقضِ يوم على تلك الليلة المشؤومة حتى كان عبيد الله قد ارتد عن دينه ,وجدت أم حبيبة نفسها بين ثلاث : فإما أن تطيع زوجها وترتد عن دينها وهو مالا تفعله ولو مشطت بأمشاط الحديد وإما أن تعود إلى بيت أبيها في مكة ,فتعيش مغلوبة مقهورة ,وإما أن تبقى في بلاد الحبشة وحيدة شريدة لا أهل لها ولا وطن ولا معيل, فآثرت رِضى الله سبحانه على ما سواه وأزمعت البقاء في الحبشة ، أرأيتم إلى هذا الثبات على الحق و الذي قد يفوق ثبات بعض الرجال .
5- وإن الطريق بين المدينة المنورة ومكة المكرمة معروف بوعورته ,إلا أن النسوة قد خرجن مع أزواجهن وإخوانهن مهاجرات حين سمح النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إليها , بل لقد كان بعضهن يهاجرن إليها فرادى كما فعلت أم سلمة رضي الله عنها .
7- وبعد أن كانت المرأة عرضة للنهب والسبي في حروب الجاهلية لا رأي لها فيما يجري حولها في الاقتتال بين القبائل لأسباب عصبية جاهلية قد تشارك فيها أبناءها في المفاخرة شعراً على أكثر الاحتمالات فإننا نرى الإسلام قد اصطحبها مع الرجل في جهاده مع الكفر , ويمكن أن نعدد أدوارها التي يمكن التحدث بها بكل فخر .ولابدَّ لنا من أن نذكر أدوارها :-
- في الحروب والفتوحات والغزوات الإسلامية
- أدوارها في الحياة العامة .
- مشاركاتها العامة في الحياة الاجتماعية والأدبية .
- مشاركاتها في التشريعات الفقهية .
- أما عن مشاركاتها الاقتصادية نرى ذلك في قيام النبي قبل البعثة بالمتاجرة للسيدة خديجة رضي الله عنها. واستمرت المرأة في الإسلام تتاجر وتضارب بأموالها وتنزل إلى الحقل لتزرع وتبني إلا أنها لم تكتفِ بذلك , فإنها بعد تطور الدولة الإسلامية شاركت في قيادتها من الناحية السياسية فكانت العباسة و زبيدة والخيزران وغيرهن قد لعبن أدواراً قيادية في سياسة الأمور أو في قيادة الدولة حين يختفي دور الرجل كما حدث مع شجرة الدر إحدى الملكات الفاطميات التي دحرت الروم في معركة ضارية في مصر,وفي الهند كانت (رضية بنت التمش) ملكة تحمي بلدها مدة طويلة , وكذلك كانت أروى بنت لأحمد الصليحية من ملكات اليمن والتي تمكنت من حماية بلدها من أطماع البلدان المجاورة ردحاً طويلاً, وما نقصد من ذكر هؤلاء إلا للتذكير بأن المرأة لم تكن عاجزة عن قيادة البلد في حال غياب الرجل عن ذلك ,وكانت تواجه بالطبع اعتراضات من بعض مَن يرى أن القوامة للرجل شرعاً حيث إن في هذا الأمر تفسيرات كثيرة . ويجب ألا ننسى في غابر الزمان ملكة سبأ الملكة بلقيس فقد كانت ملكة عظيمة في بلاد اليمن وإن عرشها مزخرف بأنواع الجواهر و اللآلئ والذهب والحلي الباهر .وكانت حكيمة في تدبير أمورها وقد كان ذلك عندما بعث إليها سليمان بكتاب يأمرهم فيه بعبادة الله سبحانه نادت وزراءها وقومها لتهتدي برأيهم وتعتصم بحكمتهم فأجابوها أنهم أصحاب قوة وأبناء حرب ولما رأت ميل جندها للقتال والحرب اعترضت على طريقتهم في معالجة الأمر ومالت إلى الصلح فإن فيه الخير ورأت أن على الإنسان الحكيم أن يواجه الأمور بالحكمة والفطنة وقالت لهم (إن الملوك إذا دخلوا على قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ) فقد سبقت بلقيس كل رجالاتها في الحكمة
المرأة بين مطرقة الإباحية و سندان الرجعية-3-
هيفاء علوان *
مشاركاتها في الحياة الاجتماعية والأدبية :(/10)
لو تتبع المرء تطورات المجتمع المختلفة , لوجد أن المرأة تواكب مسيرته بشكل منتظم , فهي لم ترضَ أن تبقى أماً وزوجة قابعة بين جدران البيت الأربعة , بل إنها كانت تخوض كل الميادين فقد استمرت المرأة أديبة وشاعرة تتوارث قدرات المرأة الجاهلية في ذلك ولكنها وضعت الشعر في خدمة أمتها وعقيدتها فبرزت لنا نساء كثيرات عبر التاريخ لازال الفكر يدين لهن بالكثير,ولا أقل أن نذكر هنا رابعة العدوية الشاعرة المتصوفة التي كان بيتها البسيط المتواضع ملتقى لكل الناس يستمعون إلى شعرها ويتدارسون فلسفتها ,وكانت بيوت بعض الأميرات قد أصبحت منتدى للأدب والشعر تحضره شواعر العرب وأديباتهم ,فيتدارسن الجديد منه ويروين أشعار العرب المختلفة .
وكان أن تطور الأمر عند بعضهن ليصبحن كاتبات للأمراء أو الوزراء وفي ذلك تقويم رائع من الدولة الإسلامية للمرأة ولكن ما غلب على الكثير منهن مهنة التعليم ،ولم يكن التعليم مقتصراً بطبيعة الحال على الفقه وأمور الدين , وإنما تعداه إلى الكثير من العلوم التي بدأت تنتشر تباعاً في العالم الإسلامي ,وكان نظام الحلقات للنساء في البيوت والمساجد هو طريق المحاضرات التي كانت المرأة تلقيها , وتتلمذ الكثير من أدباء العرب وفقهائهم على أيدي النساء , فكانوا يسمعون منهن من خلف حجاب ومن أمثال هؤلاء العلم المؤرخ الطبري وابن حجر العسقلاني من الذين تتلمذوا على أيدي النساء من المدرسات ,ويروَى أن عدد من المدرسات في العصور العباسية المتأخرة كان كثيراً جداً ومنتشراً في كل أرجاء الدولة , وكانت لنساء القصور والأمراء مدرِّسات خاصات بهن , بعضهن متخصصات بتعليم القراءة والكتابة وأخريات بالأدب واللغة والعلوم .وتتلمذت كثير من النسوة على أيدي الأطباء والحكماء فتعلمن منهن الطبابة ومداواة الجرحى وعلاج المرضى , فكان بعضهن طبيبات لعوام الناس , بينما تخصصت أخريات بقصور الأمراء والوزراء فصرن طبيبات نساء القصر.
- مشاركاتها في التشريعات الفقهية :
لايُقَصد بهذا أن المرأة قد أضافت إلى التشريعات الإسلامية شيئاً من عندها , وإنما دورها في التحديث والتفقه وإعطاء آرائها وتفسيراتها الفقهية .فرواية الحديث تعني إبلاغ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بأنواعها القولية والفعلية والإقرارات إلى الناس ومن بين الأحاديث تلك أحكام يعتمَد عليها في التشريعات الفقهية , حيث السنة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع وقد شاركت المرأة في الحديث الشريف بشكل فعال, فقد روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها ما يزيد على الألف حديث , كما حدَّثت بقية أمهات المؤمنين رضي الله عنهن عن النبي إضافة إلى نخبة كبيرة من المهاجرات والأنصاريات ,فتتلمذت على أياديهن نساء من التابعيات روين عنهن الكثير ,وبعضهن قد علمن مجموعة من رجال الحديث , أجزنهم في التحدث عنهن . ويحدثنا تاريخ الفقه عن طبقات الفقهاء في كل عصر من العصور , ومن بين هؤلاء مجموعة كبيرة من الفقيهات ممن تتلمذ الكثير على أيديهن واشتهرت من بينهن الشيخة (فخر النساء )التي كانت تُحاضر للناس في مسجد بغداد (وأم الخير )والتي لازال قبرها مزاراً مقدساً لأبناء مصر إلى يومنا الحاضر . وكانت كثير من النساء الفقيهات ينذرن أنفسهن للتدريس في المدينة المنورة .وانتشرت هذه العادة في القرن السابع والثامن الهجري فكن إذا كبرن في السن هاجرن من كل أقطار العالم الإسلامي إلى المدينة وبدأن بتدريس الفقه والتفسير وأمور الدين المختلفة , وكنَّ يُدعينَ (جارات الله) .
إذا كانت هذه نظرة الدين إلى المرأة وهذه مكانتها العظيمة في شريعتنا الغراء وهذا دورها وتاريخها ومشاركتها الفعالة في بناء مجد الأمم وحضارتها فأين هي اليوم ؟(/11)
فهي جزء من الواقع , ولا يمكن أن نفصل الجزء عن الكل, فلا بدَّ للمرأة أن تكون صاحبة نصيب فيه وصورة منه , وإذا كان متفسحاً فلا عجب أن تظهر آثاره عليها , فالمرأة المسلمة بين طريقين : طريق التغريب القائم على المادية والمتعة , وطريق الإسلام الذي غذيت به ونشأت عليه يافعة فهي في صراع بين هذا وذاك . والأَوْلى بها أن تحتذي حذو النبي والصحابة والتابعين الذين استسلموا لحكم خالقهم الحكيم الذي يعلم ما يصلح لهم وما يسوؤهم ,هذا الدين الذي كرمها وأنصفها وحماها إنسانا وكرمها وأنصفها وحماها أنثى ,قال تعالى ) ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً و نساءً )النساء1 وكرمها وأنصفها وحماها بنتاً ,( وإذا بشِّر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم ) وكرم الإسلام المرأة وأنصفها وحماها زوجة قال سبحانه وتعالى (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً)النساء 19. وقال تعالى (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) وقد حفظ الإسلام حقوق المرأة وكرمها عندما تبتلى بالطلاق. قال سبحانه (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون )البقرة 229 وقال سبحانه ( ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً) وكرم المرأة وأنصفها وحماها أماً قال تعالى : (حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين) ولما سئل صحابي مَن أحق الناس بحسن صحابتي ؟قال أمك قال ُثم مَن قال أمك قال ثم من ؟ قال أمك قال ثم من قال أبوك ) فهي نصف المجتمع , وتربي و تهيء النصف الآخر فعليها يعول في تنشئة رجال المستقبل , و كرم الإسلام المرأة إنساناً حين اعتبرها مكلفة لها كامل المسؤولية والأهلية كالرجل وكان ذلك في صدور أول تكليف إلهي صدر للإنسان في خطاب الله سبحانه لأبي البشرية آدم عليه السلام ( يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين )البقرة 35.ومما لابد من ذكره أن القرآن الكريم أكد أنَّ آدم عليه السلام هو المسؤول قال تعالى : (ولقد عهدنا إلى آدم فنسي ولم نجد له عزما) لقد اتهم أدعياء الحضارة الإنسانية أن الإسلام قد ظلم المرأة . ومما نُسِب إلى الإسلام زورا وبهتاناً ما نسبوه إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم (شاوروهن وخالفوهن) وقد ثبت أن هذا حديث موضوع و هناك مفاهيم خاطئة تركت أثراً كبيراً عند الرجال و النساء و يجب أن تصحح .
و المفاهيم الخاطئة الشائعة قد انتشر الكثير منها بين الرجال و النساء و أصبح كثير من المواقف والتصرفات و العلاقات يبنى عليها . صحيح أن أكثر هذه المفاهيم الخاطئة تستند إلى نصوص صحيحة ، لكن إساءة فهم النصوص و تفسيرها و تأويلها بما يلائم العادات و الهوى يؤدي إلى تلك النتائج الخاطئة .
أولاً: النساء ناقصات عقل و دين :(/12)
وكان النبي عملياً يشاور زوجاته في أهم أمور الإسلام والمسلمين وقال المرجفون زوراً عن النساء أنهن (ناقصات عقل ٍ ودين ) ونسبوا ذلك إلى النبي , النبي صلى الله عليه وسلم لم يقر النقص الخلقي في النساء والحقيقة يراد أنهن ناقصات عقل لأن شهادة الرجل تعدل شهادة امرأتين ,وليس المعنى كما فهموه هم بأن كل امرأة ينقص عقلها عن أي رجل فقد يكون عقل بعض النساء أحيانا أكمل من عقول كثير من الرجال , وهذا مُشاهَد وملموس لا يحتمل أي جدال ,ولكن المقصود أن الله تعالى أعطى الرجال منة القوى العقلية ما يجعلهم أكثر سيطرة على عواطفهم وأهوائهم ,وأعطى النساء أقل من ذلك ليبقى إمكان تغليب العاطفة على مقتضيات العقل , وليس ذلك تكريماً للرجل على حساب المرأة وإنما هو إعطاء كل منهما ما يساعده على القيام بالوظيفة التي فطر عليها,ولولا رجحان عاطفة المرأة على عقلها لما استطاعت الصبر على رعاية أطفالها أما أنهن ناقصات دين , فلأن كل أنثى تعرض لها الدورة كل شهر فتسقط عندها العبادات ,وقد أوضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه نقصان في ال –كم –وليس في الكيف فالمرأة في وقت الحيض لا تصلي ولا تصوم بينما الرجل يصلي ويصوم , وهي تقضي ما فاتها من صيام ولا تقضي مافاتها من صلاة فيكون مجموع صلواتها أقل من مجموع صلوات الرجل . هذا هو نقصان دين المرأة نقصان في الكم لا في الكيف , وربما وجد من النساء مَن تكثر من النوافل فتعوض هذا النقص وقد تزيد عن الرجال وربما يوجد من النساء من يكن أتقى لله,ومن تكون عبادتهن أفضل من عبادة كثير من الرجال ومَن تكون أخلاقهن والتزامهن بأمر الله أفضل من الرجال,ذلك أن الكيف تتنافس فيه النساء مع الرجال على قدم سواء وقد يسبق هؤلاء أولئك والله تعالى يقول (مَن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) .
وإذا كان نقصان دين المرأة الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نقصانا في الكم لا في الكيف ونقصان الكم هذا يمكن أن يعوض بزيادة في العبادات أو في الأعمال الصالحة,فلم يعد هناك أي سبب ينال من جدارة المرأة المسلمة لأن تكون صاحبة دين,ولأن تكون مجاهدة وداعية لهذا الدين,وبالتالي أن يكون لها دور فاعلا في العمل الإسلامي المعاصر ويتحدى بجدارة وبقوة موجات الإلحاد والعولمة اللتان تصبان جام غضبهما على هذا الشرع الحنيف وتخططان لهدم ما بنى وليعم طوفان شريعة الغاب في العالم ولينسلخ ثوب الهدى والحياء. إنَّ النقصان نسبي كما يقول الإمام ابن حجر العسقلاني,فالكامل ناقص بالنسبة للأكمل .ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصف الرجال بكمال العقل لكن مما لاشك فيه إن عقل الرجل إجمالاً أقوى من عواطفه, وهذا ما يجعلنا نميل إلى تفسير نقصان عقل المرأة بأنه نقصان بالنسبة لعاطفتها,ويكن بالتالي رجحان عقل الرجل على عاطفته وكلا الأمرين مشاهد ومحسوس وكلاهما نعمة من الله عز وجل لتستطيع المرأة من القيام بواجب الحضانة والرعاية لأطفالها,وليستطيع الرجل القيام بواجب القيادة في البيت والمجتمع إذا كان نقصان الدين والعقل كما ذكرنا فليس من حق الرجل المسلم أن ينظر إلى المرأة المسلمة نظرة ازدراء أو احتقار بحجة أنها أقل دينا ًوعقلا ًمنه,وليس من حقه أن يجعل هذا الحديث النبوي الكريم مادة استهزاء بالنساء المسلمات.كيف وقد قال رسول الله عليه وسلم(خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي).
ثانياً قوامة الرجل على المرأة :
المفهوم الثاني الذي يجب أن نوضحه والذي يجب تصحيحه لدى الرجال هو مفهوم القوامة.فبعض الرجال يظنون أن القوامة تعني أفضلية الرجال على النساء وهذا خطأ.إن القوامة هي المسؤولية هي القيادة في نطاق البيت,وقد أعطاها الله عز وجل للرجل بما منحه من مزايا تجعله أكثر أهلية لها.قال تعالى :(الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) النساء34. فأفضلية الرجال على النساء هنا تتعلق بمزايا خاصة تجعلهم أقدر على القيادة,وليس أفضلية مطلقة, بل إن النساء أفضل من الرجال فيما يتعلق مثلاً بحضانة الصغار, مما يؤكد أن القضية هنا هي قضية وظائف مختلفة بين الرجال والنساء.(/13)
وقد اقتضت حكمة الله عز وجل تفضيل الرجال على النساء بمزايا تساعدهم على أداء وظائفهم,وتفضيل النساء بمزايا تساعدهن على أداء وظائفهن.وقوامة الرجال على المرأة وظيفة كلف بها الرجل وأعطي من المزايا والطاقات ما يساعده عليها كما إن القيادة الأولى في المجتمع الإسلامي وظيفة كلف بها الرجل أيضا. ولكن هذا التكليف للرجل بالقيادة في البيت وفي المجتمع لا ينبغي أن يشل حركة المرأة ودورها الفاعل المثمر البناء في العمل الإسلامي والذي لا يؤتي أكله إلا بتضافر جهودها مع الرجل وينبغي ألا يجعله هامشياً ًإن الفهم الخاطئ لمعنى القوامة جعل المرأة في مجال العمل الإسلامي شبه مشلولة تنتظر من الرجل أن يحدد لها المنهج,وأن يضع لها الخطة ,وأن يتخذ لها القرار,وهي تقوم بالتنفيذ. بينما المرأة المسلمة أكثر قدرة على فهم الواقع ,واقع العمل النسائي والتخطيط له , وينبغي أن تأخذ المبادرة في ذلك بدل أن تنتظر ايحاء الرجل لها وإشرافه على عملها, وحين تفعل ذلك ستكون فاعلية العمل النسائي الإسلامي أكبر وأجدى بكثير .
ثالثا : ًخروج المرأة من بيتها للمساهمة في العمل النسائي :
كثير من الرجال يعتقدون أن المرأة لا تخرج من بيتها إلا لضرورة قاهرة ويستندون إلى قوله تعالى:
(وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) فالآية صريحة وواضحة وهي تدل على أمرين :
الأول :أن المرأة المسلمة تكون في بيتها مع شعور كامل بالاستقرار والراحة لأنها تقوم بواجبها الطبيعي المنسجم مع الفطرة التي فطرها الله عز وجل عليها وفي هذه الحالة فإنها تتقن عملها أيما إتقان أما إذا بقيت في بيتها و هي تشعر أنها مرغمة و تتحين الفرصة للخروج ، فهي هنا تخالف أمر الله تعالى في وجوب (القرار) في البيت أي الاستقرار فيه ، كما أنها ستكون فاشلة في واجباتها المنزلية .
الثاني : الذي تدل عليه الآية فهو نهي المرأة عن الجاهلية الأولى . و إنما نتساءل هل تبرّج المرأة في بيتها لزوجها ممنوع أم هو من حسن التبعُّل ؟ إن التبرج المحرم هو بلا شك تبرج المرأة خارج منزلها ، و بالتالي فيكون معنى الآية الكريمة إن على المرأة المسلمة أن تقر في بيتها لتقوم بواجبها ، فإن خرجت لمبرر مشروع فيجب عليها أن لا تتبرج في خروجها تبرج الجاهلية الأولى ، و بذلك تكون الآية الكريمة موضحة لما يجب على المرأة منى عدم التبرج حين الخروج ، و هي تعني ضمناً جواز الخروج إذا وجد السبب المشروع . و من البديهي القول بعد ذلك أن خروج المرأة من بيتها لأداء واجب شرعي يكون واجباً ، و إن
خروجها من أجل أمر مستحب يكون مندوباً ، و أن خروجها من أجل أمر مباح يكون مباحاً ، و أن خروجها من أجل ارتكاب مكروه أو حرام يعد مكروهاً أو حراماً . و بالتالي فإن خروج المرأة من بيتها للمشاركة في العمل الإسلامي يأخذ حكمه من الحكم لشرعي في مشاركة المرأة في العمل الإسلامي و هل هو واجب أو مندوب أو مباح ، كما سنشرحه بعد قليل.
السبب الثاني أنانية الرجال :
من أسباب ضعف دور المرأة المسلمة في العمل الإسلامي : أنانية الرجل . كثير منا يحب الرحلة و التمتع بمباهج الحياة الدنيا ، و يصعب عليه أن يحتمل شيئاً من التعب ليترك لزوجته فرصة المشاركة في العمل الإسلامي . الرجل يحب إذا رجع إلى البيت أن يجد الطعام الشهي حاضراً ، و أن يرى بيته نظيفاً مرتبا ً ، و أن يلقى أولاده على أحسن حال ، و أن تكون زوجته متفرغة ً له ، و هذا حق الزوج و سبب سعادة البيت بلا جدال ، لكن التشدد الدائم من قبل الرجال و عدم تنازلهم عن شيء من هذه الحقوق يجعل المرأة المسلمة لا تجد وقتا للخروج من المنزل من أجل اللقاء بأخواتها المسلمات فتتلقى درساً أو تعطي درساً أو تشارك في عمل يساهم في إصلاح المجتمع ، أو في بناء مجتمع نسائي إسلامي جديد .
إننا نريد أن نعيش دنيانا بالكامل ثم ندّعي أننا مجاهدون أو دعاة نسعى لاستئناف حياة إسلامية و بناء مجتمع إسلامي جديد ، و هل يمكن أن يقوم المجتمع الإسلامي المنشود على الرجال دون النساء ؟ إن المرأة نصف المجتمع من حيث الكم و لكن تأثيرها في إصلاح المجتمع و إفساده ربما يكون أكثر من ذلك بكثير لأنها مربية الأجيال و صانعة الرجال . و كيف يمكن للمرأة أن تربي أبناءها ليكونوا أصحاب عقيدة و رسالة إذا لم تكن هي صاحبة عقيدة ، و كيف يضيء قلبَها نورُ الرسالة إذا كان كل وقتها و همها مُنصَبّاً على أمور تحضير الطعام و ترتيب البيت و رعاية الأولاد و التزيّن للزوج ؟ .(/14)
قد يقول بعضنا إنه يهيئ لزوجته و أولاده أوقاتاً خاصة في المنزل من أجل الاهتمام بالمسائل الإسلامية فتجلس العائلة كلها تتلو كتاب الله تعالى أو تفسره ،أو تطلع على دراسات شرعية أو تتباحث في أمور الدعوة والإٍسلام, لكننا نقول إن هذا الجو الإسلامي في البيوت لا يقدر عليه إلا القليل النادر من الرجال,وهو في كل الأحوال ليس كافياً أبداً لأن ساحة المجتمع النسائي أوسع بكثير ,ولأن حاجة النساء المسلمات لمثل هذه المرأة التي تعيش في بيتها مثل هذا الجو الطيب لا تقل عن حاجة أولادها لها بل هي أكثر بكثير,وبالتالي فإن خروج هذه المرأة من بيتها للمشاركة في العمل النسائي أكثر وجوباً عليها من غيرها من النساء. لا بد لكل واحد منا أن يسأل نفسه,وأن يجيب بصدق وصراحة .
هل هو جاد في الدعوة لإحياء مجد الإسلام من جديد ؟. هل الإسلام له من نفسه ووقته وهمه المقام الأول؟هل هو مستعد للتنازل عن بعض متاع الحياة الدنيا من أجل خدمة الإسلام ؟
هل يمكن بناء أمة الإسلام وإقامة حضارة الإسلام بالرجل دون المرأة ؟
وهل يمكن أن تنهض الدعوة الإسلامية بين النساء إذا لم تشارك زوجاتنا وبناتنا جميعاً؟
وهل يمكن أن تشارك زوجاتنا وبناتنا في العمل النسائي الإسلامي إذا لم تساعدهن على ذلك بالتنازل عن بعض حقوقنا أو بالمساهمة معهن في بعض أمور البيت أم إننا انسياقاً مع عنفوان الرجل وأنانيته ننسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يساعد زوجاته في شؤون وأمور البيت عند حاجتهم إلى ذلك وكان يقول عليه الصلاة والسلام(خيركم خيركم لنسائهم ..) رواه الترمذي.
والعمل الصالح مطلوب من المرأة والرجل على حد سواء لأنه النتيجة الطبيعية للإيمان,لذلك فإنك حيثما رأيت الإيمان في كتاب الله تعالى رأيت معه العمل الصالح,فكلما ذُكرِ الإيمان ذكر معه العمل الصالح ( الذين آمنوا وعملوا الصالحات) قال تعالى( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) .
ولذلك قال تعالى(مَن عمل صالحا ًمن ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)والعمل الإسلامي اليوم جزء من العمل الصالح لأن محور الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسعي لإقامة حكم الله في الأرض,وكل هذه من الواجبات الشرعية المطلوبة من الرجال والنساء على حد سواء. قال تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم).
إذا كانت المرأة المسلمة مطالبة بالواجبات الشرعية التي يطالب بها الرجل إلا أن هذا لا يمنع وجود أولويات بالنسبة للرجل وبالنسبة للمرأة عندما تتزاحم أمامهم الواجبات بحيث لا يمكن القيام ببعضها إلا مع التقصير بالبعض الآخر. وبما أن حديثنا يدور عن المرأة فلنتكلم إذاً ًعن سلم الأولويات بالنسبة إليها.
جاءت أسماء بنت يزيد الأنصارية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت(إنما أنا وافدة النساء إليك إن الله بعثك للرجال والنساء كافة فآمنا بك وبالله و ها نحن معشر النساء محصورات مقصورات , قواعد بيوتكم وحاملات أولادكم ,فأنتم معشر الرجال فضلتم علينا بالجمع والجماعات وعيادة المرضى وشهود الجنائز والحج بعد الحج, وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله . .وإن أحدكم إذا خرج حاجاً أو معتمرا ًحفظنا لكم أموالكم وغزلنا أثوابكم وربينا أولادكم فهل نشارككم في الأجر؟فالتفت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال:هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن في مسألتها من هذه؟قالوا يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تُهدَى لمثل هذا. فقل رسول الله صلى الله عليه وسلم(اعلمي أيتها المرأة وأعلمي مَن خلفك أن حسن تبعُّل المرأة لزوجها وطلبها مرضاته وأتباعها موافقته يعدل ذلك كله ) .
لاجدال إذاً أن الأولوية في عمل المرأة المسلمة إنما هي لواجبها في البيت, ولكن هل الأولوية تعني إلغاء الواجبات الأخرى خارج البيت؟هذا ما لا يقول به أحد ,بل على المرأة المسلمة أن توازن بين واجباتها الشرعية المختلفة و تحفظ لواجبات البيت الأولوية الكاملة إذا تزاحمت أو تعارضت مع الواجبات الأخرى . و لقد رأينا في سيرة الرسول (ص) كيف كانت المرأة المسلمة تخرج مع المجاهدين في سبيل الله تداوي الجرحى و تقاتل عند الحاجة ، و هذه رفيدة الأسلمية و نسيبة المازنية و خولة بنت الأزور و أم سليم و غيرهن كثيرات و قد أفرد البخاري في صحيحه باباً بعنوان ( خروج النساء مع الغزاة في سبيل الله ) ، و روى فيه عن إحدى الصحابيات قالت ( كنا نغزو مع رسول الله نسقي القوم و نخدمهم و نرد القتلى و الجرحى إلى المدينة ) .(/15)
إن الخروج للجهاد في سبيل الله لم يفرض على المرأة لأنها مشغولة بحق زوجها و بيتها كما يقول الفقهاء ، و لكن إذا أذن لها الزوج أو أخذها معه للجهاد لا يكون عليه أو عليها أدنى حرج بل لهما معاً ثواب المجاهدين في سبيل الله ، أما إذا هجم العدو على بلاد المسلمين و أصبح الجهاد فرض عين على الجميع عند ذلك يجوز للمرأة أن تخرج للجهاد من غير إذن زوجها كما يخرج الولد بدون إذن أبيه ، و هذا مما لا خلاف في رأي جمهور العلماء لأن حقه في ملازمة زوجته البيت واجب عليها .
أما خروج المرأة المسلمة من بيتها لحضور صلاة الجماعة مع الرجال في المساجد العامة فهو أمر مشروع وفي الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها )رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية أخرى لهما أيضا(إذا استأذنكم نساءكم بالليل إلى المسجدً فأذنوا لهن )وقال لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )رواه مسلم.
صحيح أن صلاة المرأة في بيتها أفضل لحديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال(صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها, وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها) رواه أبو داود بإسناد صحيح . لكننا نذكر بأن صلاة الجماعة بالنسبة للنساء لا تزيد على كونها مباحة مشروعة ومع ذلك فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال عن منع النساء منها إذا أردن الخروج لذلك واعتبر العلماء هذا النهي نهي تنزيه فلو منع الرجل امرأته من الخروج إلى المسجد لم يحرم عليه ذلك في رأي جمهور العلماء لأن حقه في ملازمة زوجته البيت واجباً عليها فليس لها أن تتركه من أجل فضيلة صلاة الجماعة.
أما إذا كان خروج المرأة من بيتها من أجل القيام بواجب شرعي ، فليس للزوج عند ذلك منعها كما لو كان خروجها للجهاد إذا اعتدي على بلاد المسلمين ، فقد اتفق العلماء كما ذكرنا على وجوب الجهاد في هذه الحالة على الجميع و أن المرأة تخرج بغير إذن زوجها .إننا نتساءل : إذا كان الاعتداء على بلاد المسلمين يوجب على المرأة الخروج للجهاد ألا يكون الاعتداء على الإسلام نفسه في بلاد المسلمين موجباً لخروجها من البيت من أجل المساهمة في الدفاع عن الإسلام ؟ عندما تُعطَل شريعة الله و يسود المنكر و تُفرَض القوانين الوضعية و الأعراف الجاهلية ألا يكون من واجب المرأة الخروج للدعوة إلى الله تعالى و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، إننا نلاحظ في عصرنا هذا أن إسلامنا معرض للخطر و أن الشعوب الإسلامية كلها في دائرة الخطر و أن واجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الدعوة إلى الله و السعي لاستئناف حياة إسلامية تحكمها شريعة الله ، كل ذلك من أهم الواجبات الشرعية المطلوبة من أمة الإسلام كلها رجالاً و نساءً و للمرأة دورٌ كبير في هذا المجال يفرض عليها الخروج من منزلها و يفرض على زوجها أن يأذن لها بذلك لتسهم بدورها في بناء مجتمع نسائي مسلم يكون جزءاً من المجتمع الإسلامي المنشود ، إننا نتحدث هنا عن خروج المرأة من بيتها من أجل عمل إسلامي يرضي الله ويساهم في الإصلاح ولا نقصد ما قد تفهمه بعض النساء من خروج من البيت تحت ستار العمل الإسلامي وليس هناك إلا زيارات مليئة بالثرثرة والغيبة والنميمة وهتك الأعراض والهمز واللمز,إن القضية أمانة ورسالة, ولا بد أن تستيقن المرأة المسلمة أن واجبها الأول في بيتها وحين تخرج فلا يصح أن يكون ذلك إلا لواجب آخر فيه مرضاة رب العالمين . إذاً على المرأة واجب شرعي خارج البيت,فيجب عليها الخروج للقيام بهذا الواجب ويجب على زوجها,أن يسمح لها ورأينا هذا في معرض الكلام عن الجهاد في سبيل الله عندما يصبح فرض عين عند هجوم العدو على بلد من بلاد المسلمين وهناك أمثلة أخرى لسنا الآن بصدد ذكرها لأن الموضوع الأهم هو معرفة ما هو تصورنا للدور العظيم, دور المرأة في العمل الإسلامي المعاصر حتى يكون خروجها لأداء هذا الدور واجباً أو مستحباً أو مباحاً من الناحية الشرعية ؟
من المعروف أن الهدف النهائي للعمل الإسلامي المعاصر تطبيق شرع الله سبحانه وحكمه في الأرض وأن هذا الهدف يمر بمجموعة من الأهداف المرحلية ألا وهي بناء اللبنة الأولى ألا وهو الفرد المسلم, ثم البيت المسلم يتلوها بناء المجتمع المسلم ثم بناء الدولة الإسلامية حيث يرجع الحكم في كل أمر إلى الله عز وجل (إن الحكم إلا لله )
المرأة بين مطرقة الإباحية و سندان الرجعية-4-
هيفاء علوان *
أولاً:هل للمرأة دور في تربية أفراد المجتمع؟(/16)
للجواب على هذا السؤال : لابد أن نحدد أولا ًمَن هو الفرد المسلم المطلوب هل هو الرجل فقط أم المرأة أيضاً ؟ وهل يكفي لإقامة شرع الله في الأرض إعداد الرجال المسلمين أم لابد من إعداد النساء المسلمات أيضاً؟ إننا لا نحتاج إلى بحث أو استدلال لنؤكد حقيقة قاطعة لا لبس فيها ولا مراء ألا وهي أن الإسلام وجهٌ للرجال والنساء على حد سواء ,وأن المطلوب دائماً وأبداً الإعداد للرجال المسلمين والنساء المسلمات ليقوم المجتمع المسلم الذي يطبق شر ع الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ,وإننا لنرى في كتاب الله المحكم أن الله سبحانه قد قَرَن في كثير من الصفات التي يجب أن يتصف بها الرجل المسلم قرن الله النساء مع الرجال قال جل من قائل :
(إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً)الأحزاب :35 .
فالفرد المسلم المراد تكوينه وتنشئته التنشئة الحسنة ليس الرجل فحسب وإنما الرجل والمرأة لأنه ليمكن للرجل وحده ولا يستطيع أن يوجه النساء والرجال فلا بد من تضافر جهود المرأة والرجل ليقوموا بهذه المهمة ,لكن لو قيل إن المرأة يمكن لها أن توجه المرأة والرجل لكان ذلك ممكناً,أما أن ينفرد الرجل بهذه المهمة فلا يقول به عاقل, لأن المرأة مربية لجيل المستقبل الواعد وإن شاء الله سيقود البشرية إلى الهداية وإلى جادة الحق ,وتستطيع أن توجه عامة النساء ,في المحصلة لنا أن نقول وفي جميع الأحوال إن أحداً لا يستطيع أن ينكر دور المرأة المسلمة في تربية وإعداد أولادها من بنين وبنات ليكونوا مسلمين ومسلمات .
وهنا لابد من سؤال ,كيف تستطيع المرأة أن تقوم بهذا الدور إذا كانت هي نفسها تفتقد الكثير من المعلومات عن دينها وقد تجهل كثيراً من الأخلاق الإسلامية,وتجهل جلَّ الأحكام الشرعية ؟إن خروج المرأة من بيتها من أجل تلقي العلم الشرعي الواجب هو الذي يساعدها على القيام بهذا الواجب ,بل هو الذي يمكنها من أداء رسالتها في البيت وهو الواجب الأول ولا عبرة لقلة من الرجال الذين يهتمون بزوجاتهم ويفرغون أنفسهم ليوجهوهن ويعلموهن أمور دينهن لأن أكثر هؤلاء إن وجدوا القدرة على ذلك فقد لا يجدون الوقت اللازم كما هو مشاهَد ومعلوم وقد لا يجدي توجيههم لأنه كما قيل (مغنية الحي لا تطرب) فقد يكون التوجيه من خارج البيت أجدى وأنفع ,ثم أليس للمرأة المسلمة دور في تربية وإعداد النساء المسلمات ؟ إذا كان الزوج غير قادر على إعداد زوجته لتكون مسلمة حقاً ألا يكون من الواجب لتهيئة مجتمع نسائي إسلامي يقوم على إعداد هذه الزوجة ومَن أقدر على القيام بهذا الواجب من المرأة؟بل أليس من الأفضل شرعاً أن تقوم المرأة المسلمة من إعداد النساء المسلمات وتعليمهن ما يجب عليهن معرفتهن من الحلال والحرام وتربيتهن على التزام أخلاق الإسلام التي زهد كثيرون فيها وجعلوا جل اهتمامهم في الشكل فاللحية وغيرها عند الشاب المسلم والخمار والجلباب عند المرأة المسلمة وترى عند هؤلاء البون الشاسع بين ما يقولون وما يفعلون فتحقق فيهم قوله تعالى (لم تقولون مالا تفعلون) . وإذا تذكرنا أن أكثر الرجال اليوم عاجزون عن تربية زوجاتهم أدركنا بيقين الواجب الكبير في إقامة مجتمع نسائي إسلامي يقوم بهذا الدور أو يساعد فيه على الأقل ,وأدركنا أيضا أن مثل هذا المجتمع النسائي لا يقوم إلا بنساء مسلمات , وإن هؤلاء النسوة لا يستطعن أداء هذا الواجب إلا بالخروج من البيت .
ثانياً:هل للمرأة دور في بناء البيت المسلم؟
ومن الضروري أن نتساءل هل يقوم البيت المسلم بدون المرأة المسلمة ؟أليست هي راعية البيت كما سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم (والمرأة راعية على بيت زوجها وولده). . متفق عليه
إن بناء البيت المسلم يقتضي من المرأة المسلمة أن تجعل أكثر وقتها وهمها داخل البيت لترعى شؤون زوجها وأولادها, ولكن إسلامية البيت ليست مجرد الخدمة والنظافة والترتيب وطاعة الزوج والعناية بالأولاد . . إن إسلامية البيت هي مجموعة من المعاني والمبادئ تتجلى في علاقة المرأة مع زوجها وأولادها , وفي علاقة الجميع مع الله تبارك وتعالى , وإذا لم تكن المرأة متعلقة بهذه المعاني متمسكة بهذه المبادئ, فمن أين لها أن تنشرها في أجواء البيت ففاقد الشيء لا يعطيه.
ثم إننا نتساءل أيضا من أين نأتي بالمرأة المسلمة التي تخاف الله وتطيع زوجها وترعى أبناءها وتربيهم على مبادئ الإسلام وأخلاقه ؟ إن مدارسنا وجامعاتنا وأعلامنا ومجتمعاتنا وحكوماتنا تسعى لتخريج زوجة تحسن المكياج وتتفنن في أنواع الزينة والمظاهر ،وتحرص على جلسات الثرثرة الفارغة ، وتطالب زوجها في ما تظنه من حقوقها من دون أن تؤدي واجباتها..(/17)
إنه إذا لم يوجد في مجتمعاتنا حركة نسائية إسلامية تربي بناتنا على مبادئ الإسلام وأخلاقه ،وتطلق في قلوبهن عواطف الخير ،وتجعلهن يحببن الله ورسله ويحرصن على القيم العليا أكثر من حرصهن على المظاهر الفارغة ،إنه إذا لم توجد حركة نسائية إسلامية تصارع الباطل المتفشي بين النساء وتبعث فيهن روح الإسلام من جديد فمن الصعب بعدها أن نجد الزوجة المسلمة التي تساهم في بناء البيت المسلم.وهل تقوم حركة نسائية إسلامية في مجتمعاتنا المنحرفة إذا كانت القلة من نساءنا المسلمات لا تخرج من البيوت ولا تنشر الخير بين سائر النساء؟ إذا كانت مؤسسات المجتمع الجاهلي لا تربي لنا زوجات مسلمات فغن مجتمعات الدولة الإسلامية يجب أن تحل محلها في أداء هذه المهمة ،وإلا فإننا لن نفقد فقط المجتمع المسلم بال سنفقد معه أيضا البيت المسلم والفرد المسلم نفسه .
لا يمكن للمرأة المسلمة أن تقوم بدورها في بناء البيت المسلم إذا لم تتلق هي الإسلام ،وإذا لم تساهم مع أخواتها في إطلاق تيار نسائي إسلامي عريض يكون محضنا طبيعيا لتربية الفتيات على الإسلام ،ولتخريج زوجات صالحات ،وعلى كل امرأة مسلمة دور في إقامة هذا التيار وتغذيته وتنشيطه .ليس معنى ذلك أن تترك المرأة واجبها المنزلي .بل عليها أن توفق بين الواجبين وليس ذلك صعبا إذا ساعدها زوجها .كما أن هناك نساء تساعدهن ظروفهن على العمل الاجتماعي .فالمرأة العزباء والمرأة التي تأخرت في الإنجاب ،والأم التي كبر أبناؤها وغيرهن.... هؤلاء قادرات على إعطاء العمل الإسلامي النسائي من وقت وجهد أكثر من غيرهن ،وهن قادرات بالتالي على إيجاد التيار الإسلامي النسائي المطلوب والذي تستفيد منه بنات المسلمين ويساهم في بناء المجتمع الإسلامي.
ثالثاً : وهل للمرأة المسلمة دور في بناء المجتمع الإسلامي؟
إن المجتمع ليس مجرد مجموعة من أفراد ،إنه فوق ذلك مجموعة من العلاقات والمؤسسات .وقد تضاعف دور المؤسسات في المجتمعات المعاصرة حتى كاد يطغى على دور الأفراد ،وأصبحت المؤسسات اليوم تتحكم في حياة الناس وتلبي حاجاتهم وتقوم بالخدمات اللازمة .بعض هذه المؤسسات يمكن أن تقوم بدون المرأة .مثلا:المؤسسات التعليمية النسائية هل يمكن أن تستغني عن المرأة وأيضا المؤسسات الصحية هل يمكن أن تستغني عن المرأة ؟.
إن المؤسسات الاجتماعية التي ترعى شؤون العجزة والأيتام والمعاقين وغيرهم هل يمكن أن تقوم بدون
المرأة ؟لماذا تقوم أمثال هذه المؤسسات الاجتماعية على أيدي غير المسلمين رجالاً ونساء من المبشرين الداعين إلى النصرانية , والذين يعملون جاهدين لإخراج المسلمين من ربقة هذا الدين العظيم والذي ماجاء إلا رحمة للعالمين ,يقومون بمثل هذه المهام غيرة وشفقة وحمية على هؤلاء المسلمين المعذبين ! !, بل لماذا تكون هذه الرعاية على أيدي المسلمات المنحرفات أو غير الملتزمات على الأقل ؟ لماذا لا تتصدى النساء المسلمات الملتزمات لإقامة مثل هذه المؤسسات الاجتماعية؟أو للعمل من خلال المؤسسات القائمة فيقمن بدورهنّ في مواجهة استغلال هذه الأعمال الإنسانية لأهداف منحرفة , ويساهمن في بناء المجتمع الإسلامي المنشود من خلال هذه المؤسسات
رابعاً : هل للمرأة المسلمة دور في العمل السياسي الإسلامي ؟
الأصل إن المرأة راعية في بيت زوجها , والأصل أنها تقوم بالأعمال الاجتماعية التي تتناسب مع طبيعتها إذا كانت ظروفها العائلية تسمح لها بذلك .أما العمل السياسي فهو بطبيعة الحال لا ينسجم مع طبيعة المرأة ومما يؤكد ذلك أن كل الدول الأجنبية فتحت أمام المرأة مجال العمل السياسي على مصراعيه فكم من النساء اقتحمت هذا المجال؟إنهن بلا شك قلة وقلة نادرة, وهذا يؤكد أن العمل السياسي أصله لا ينسجم مع طبيعة المرأة وفطرتها,غير أن هذا الأصل لا يمنع الاستثناء عند الضرورة . فكما أن القتال أصلاً من مهمات الرجال, ولا يمكن أن ينسجم مع طبيعة المرأة لكن الإسلام أباح لها الخروج للجهاد في سبيل الله ومباشرة القتال عندما يتعرض الإسلام للخطر كما هو معروف . وبناء على ذلك نقول إن المرأة المسلمة يمكن أن تشارك في العمل السياسي استثناء وفي الظروف المصيرية الشائكة مع مراعاة الآداب الشرعية ,إذا كان لهذه المشاركة حكم الضرورة, ومن المعروف عند الفقهاء أن حفظ الدين من الضروريات وبالتالي فإن المشاركة في عمل سياسي إسلامي يهدف إلى حفظ الدين وتطبيق الشريعة تكون مباحة وربما مطلوبة في المنعطفات الكبيرة .إن إباحة الأكثر أو وجوبه –وهو الجهاد- تتضمن إباحة الأقل أو وجوبه –وهو العمل السياسي-لكن كل ذلك استثناء من الأصل ويجب أن يظل محكوماً بالآداب الشرعية. ونظراً لأهمية وحساسية عمل المرأة وخروجها من البيت وما ذكرناه من حكم الشرع في ذلك سنستخلص ونجمل ما ذكرناه من ضوابط شرعية عن المرأة وخروجها من البيت وعملها للأهمية :(/18)
1- إن عمل المرأة في البيت هو واجبها الأول, وإن مشاركتها في العمل الإسلامي خارج بيتها واجب أيضاً وعليها أن تُوفق بين الواجبين ما أمكن ....
2- من واجب الزوج أن يتيح لزوجته فرصة المساهمة بالعمل النسائي لنشر الدعوة في صفوف النساء اللاتي يقع على أعبائهن تربية رجال المتقبل ورائدو نهضة الأمة الإسلامية وإن عمله هذا وإتاحة الفرصة لها للعمل الدعوي ليس له منَّة في ذلك وليس هذا صدقة يتصدق بها على دعوة الإسلام ولا على زوجته بل هذا واجب شرعي عليه ,قياسا على أمر رسول الله عليه وسلم للرجال أن لا يمنعوا نساءهم من الخروج إلى المساجد إذا أردن ذلك ,لأن خروج المرأة هنا لواجب شرعي وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ولأن اشتراك المرأة مع أخواتها في الله في العمل الإسلامي النسائي يرجع بالخير عليها وعلى بيتها وعلى زوجها فهي إما أن تتعلم الإسلام أوتعلمه , وتربي غيرها أو تتربى على طاعة الله وطلب مرضاته .
3-إذا رفض الزوج أن يسمح لزوجته بالخروج من البيت للمشاركة في العمل الدعوي فعلى الزوجة أن تطيعه مهما كانت الضرورة التي تراها لأن طاعة الزوج مقَدَّمة على كل واجب آخر عندما يحصل تعارض, ثم إذا كان الزوج معذورا في منعها فليس عليه شيء , وإذا كان متعسفاً يمنعها بدون سبب, أو سبب غير كاف عليه الإثم في ذلك . وفي جميع الأحوال لا يجوز لها أن تخالفه.
4-إن اشتراك المرأة في عمل تنظيمي إسلامي يلزمها بواجبات محددة هو أمر مشروع, وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة من النساء وهي أعلى درجات الالتزام ,وإذا وجدت مجموعة من النساء المسلمات يعملن في الدعوة إلى الله سبحانه فهذا أمر مشروع كما أسلفنا ولكن المرأة المسلمة ليس لها أن تلتزم بعمل خرج بيتها حتى لو كان عملا إسلاميا ًإلا إذا أذن زوجها لأن حقه مقدم ,فإن لم يأذن تعسفاً فهو آثم ولكنعليها أن تطيعه, وإن سمح لها بالعمل دون التزام أصبحت مشاركتها واجبة في الحدود التي سمح لها زوجها بها .
هذه الضوابط الشرعية التي ذكرناها حتى لا يحصل أي خلاف بين الزوجين فإذا كان حمل مهمة الدعوة هدف الزوجين كليهما أمكن التفاهم بينهما ,وأصبح التوفيق بين الواجبات المتزاحمة سهلا ًميسوراً,وفي كل الأحوال يجب أن يرفق الزوج بزوجته ويعاملها بتلطف حتى يسود الود والوئام ويرفل جميع أفراد الأسرة بالود والوئام فيكون رضى الله ويكون التفاهم هو السيد في مملكة البيت ومن ثمَّ يكون التوفيق والسداد وكانت شبهات توارثها أهل النفاق,أو قد تكون من موروثات بعض المتشددين ,فهؤلاء مشكلتهم ومشكلة كثير من المسلمين ,أنهم في كثير من القضايا الفكرية, منهم مَن يميل إلى الإفراط, ومنهم مَن يميل إلى التفريط وقلما يهتدون إلى التوسط,الذي يمثل إحدى الخصائص العامة لأمة الإسلام ,وهذا أوضح ما يكون في قضيتنا هذه, وقضايا المسلمة المعاصرة بصفة عامة . فقد ظلم المرأة صنفان من الناس متقابلان بل متناقضان:
1-المستغربين الذين يريدون أن يفرضوا عليها التقاليد الغربية بما فيها من فساد وتحلل من القيم وأعظمها الدين وانحراف عن سواء الفطرة , وبعد عن الصراط المستقيم الذي بعث الله الرسل وأنزل الكتب لبيانه ودعوة الناس إليه ,وهم يريدون أن تتبع المرأة المسلمة سنن المرأة الغربية(شبراً بشبر وذراعاً بذراع)كما صوَّر الحديث الشريف(حتى لو دخلت جحر ضب لدخلته وراءها على ما في جحر الضب من الالتواء والضيق وسوء الرائحة , ومع هذا لو دخلته الغربية لدخلته المسلمة بعدها,أو بعبارة لظهرت موضة جديدة يروج لها المروجون (موضة جحر الضب) وهذا المقال للشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله .ويتابع الشيخ : هؤلاء يغفلون ما تشكو منه المرأة الغربية اليوم وما جر عليها من ويلات .(/19)
2- والصنف الثاني هم الذين يفرضون على المرأة تقاليد أخرى ,لكنها تقاليد الشرق لا الغرب وإن صُبِغَت في كثير من الأحيان ي\بصبغة الدين ونسبها مَن نسبها إلى ساحته, بناء فَهم فهمه أو رأي قلده لأنه يوافق رأيه في المرأة , وسوء ظنه بها بدينها وبعقلها وسلوكها لكنه على أية حال لا يخرج عن كونه رأياً للبشر غير معصوم,متأثر بزمانه ومكانه وشيوخه ومدرسته تعارضه آراء أخرى تستمد حجيتها من صريح القرآن العظيم ومن هدي النبي الكريم ومن مواقف الصحابة وخير القرون.ومن الشبهات التي تمسك بها هؤلاء هو هذا الحديث الشريف :عن النبي صلى الله عليه وسلم (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) رواه البخاري . فقد فهموا من فتنة النساء أنهن شر بلية يُبتلى بها الرجال , مع أن الأموال والأولاد وهما زينة الحياة الدنيا حذر الله الآباء من فتنتهم ,قال تعالى ( واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ) سورة الأنبياء .والمراد بالفتنة هنا تحذير الله لنا من الانغماس في نعمة المال والغنى , ومن أن نبالغ ونجعل جل وقتنا في تربية الأبناء , ولا فندع من وقتنا إلا القليل لخالقنا وواهب النعماء لنا , وفاتَهم أن الإنسان قد يُفتَن بالخير وقد يفتن بالشر ، قال تعالى ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة) . وقد يفتن المرء بالخيرات والمسرات أكثر مما يفتن بالنوائب والمضرات , فقد تكون المرأة مبعث إثارة وإشعال نيران الشهوات التي إن تفاقمت جعلت الإنسان يتردى من الإنسانية إلى الحيوانية , بعد أن كرمه خالقه سبحانه وتعالى وسخر له ما في البر و البحر فإن أصبحت المرأة وسيلة لإشعال الغرائز وتبلد الإحساس , استهان الناس بالأخلاق وكثرت الفاحشة وتحلل المجتمع المسلم .
كأن الغرب يحسد المرأة على ما هي عليه من مكانة ومن تقدير ولا بد أنه يرى البون الشاسع بين ما هي عليه المرأة المسلمة وما آلت إليه المرأة في الغرب من استهانة وتحقير فقد أصبحت سلعة تباع وصورها العارية التي تشم منها ريح الفتنة وسعار الجنس , تراها مهانة مبتذلة في الدعايات لكل سلعة ولكل بضاعة مهما كانت تافهة , تنشر صورها في الإعلانات مادامت رشيقة وجميلة حتى إذا ما ذوى عودها وماتت نضارتها , وضحك المشيب لها, ورُدَّت إلى أرذل العمر, رُميت في سلة المهملات ناسين الربح اللامحدود الذي جنوه من مفاتنها واستعراضاتها , وتركوها تنتظر القدر المحتوم , وكم من هؤلاء لا ينتظر القدر المحتوم والميتة الطبيعية بل يسارعن بالانتحار علهن يتخلصن من الشقاء والإهمال فلا من معيل من زوج أو ولد لأن الحياة الأسرية في الغرب معدومة والأسرة أصابها التفكك , فما أن يبلغ الولد والبنت الثامنة عشرة إلا وتوجب عليه الخروج من بيت أهله ويعيش منفرداً في بيت خاص حيث لا رقيب ولا ناصح , تعضه الوحشة بنابها , وتلبسه الهلوسة , ويشعر بالضياع , فيلجأ إلى ما يسري عنه وينسيه الوحدة ,يلجأ إلى المخدرات وإلى العربدة ومن ثَم إلى الجريمة.
المرأة في الإسلام تعيش في بيتها معززة مكرمة تنال ما تريد ومتى تريد , لا يتوجب عليها أن تعمل فترهق نفسها في البيت الذي هو مملكتها العاجية , وتزهق روحها خارج البيت من شدة الضنى والتعب , وإن تعمل فبمحض إرادتها وبقرار منها. لي قريب تزوج من امرأة أجنبية غربية , قامت الدنيا ولم تقعد , جنَّ جنون أهلها وهددوها تخلصت من بطشهم بقدرة قادر, بعد فترة ليست بالطويلة بعد عام وبعد ما سمعوا عن زوجها وكيف معاملته لها أصبح الأثير لديهم وكانوا يحسدونها على ما هي عليه من عز وتبجيل .أما المرأة في الغرب فلا بد لها أن تعمل منذ ساعات الصباح الأولى إلى ما قبل الغروب, ترجع منهكة متعبة لا طاقة لها في تدبير أمور أولادها إن كانت تعيش حياة مستقرة أو كان لها أولاد , وإن لم تعمل فسوف تعضها الفاقة ويجهز عليها الجوع , ويحل بها اليأس والحرمان . أما الرجل في الإسلام فتجب عليه النفقة في البيت ليس بمنة فقد قسّم الله تعالى الأدوار المرأة تنجب وتربي وتدير أعمال البيت وشؤونه وتعاني ما تعاني والرجل يكد ويكدح ليجعل أسرته تعيش الحياة الكريمة . المرأة في الإسلام نظيفة عفيفة حيية محتشمة , لا تظهر زينتها إلا لمن سمح الله تعالى لها قٌال عز من قائل:
( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء).
المرأة في الغرب متهتكة مسترجلة مصدر فتنة وبلاء الرجال لذا عم ّالغرب الزنا والسفاح وانتشرت في المجتمعات البعيدة عن الإسلام الأمراض. المستعصية كمرض الزهري ومرض الإيدز الذي ينتشر بصورة سريعة وعجيبة وقد ينتشر في بعض البلاد الإسلامية التي يعم فيها الجهل والتخلف.(/20)
المرأة في الشرق تجد لها قسطاً من الراحة بعد عمل يوم ِشاق,ولها صلة وثيقة تجمعها مع أولادها, تجمعهم المودة و الألفة والحنان. أما المرأة في الغرب إن كانت تجمعها أسرة فهي تعمل خارج البيت من الصباح حتى المساء فأي رابط يربطها مع أبنائها ؟ فلا عطف ولا حنان ينبع من نهر قلبها على أولادها بل على العكس هي تحتاج وقد تعبت كل النهار إلى من يرعاها ويخفف عنها تعبها , لذا وبعد هذا العرض الموجز نعرف لماذا يريد الناعقون من أهل الغرب , ومن أبنائنا الذين رضعوا من لبان الغرب وثقافتهم , لماذا يريدون من أمهاتنا وبناتنا أن يقلدوا الغربيات لا حُباً بهن ولا حفاظاً عليهن وإنما ليصبحوا مثل الغربيات في حمأة الجنس والرذيلة وليصبح بالتالي مجتمعنا الإسلامي مجتمعاً لادينيا, ولينس المسلمون شرع الإسلام وبالتالي يُمحَ الإسلام ويتفكك مجتمعنا المسلم . إن هؤلاء يغفلون أو يتغافلون ما تشكو منه المرأة الغربية في زماننا وهم يصمون آذانهم عن صيحات الاستنكار التي تصدر من الغرب ومن أعلامهم و مفكريهم ويتعامون عن مخاوف المفكرين والمصلحين على الحضارة الغربية, وسبب ذلك إلغاء القيود في الاختلاط بين الجنسين, كما ينسى هؤلاء أن لكل أمة شخصيتها التي تكونها وعقائدها وتصورها للكون والحياة والوجود ورب الوجود, ولكل أمة قيمها وعاداتها وتقاليدها و موروثاتها وثوابتها ولا يجوز بأي شكل أن يصبح مجتمع صورة مكررة لمجتمع آخر.
لو نظرنا في هدي الإسلام لرأينا أن المرأة المسلمة لم تكن مكبوتة ولا مسجونة ولا معزولة فقد كانت تشهد الجمعة والجماعة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحض على اتخاذهن الصفوف الأخيرة خلف الرجال .
وكن يحضرن الجمعة حتى إن إحداهن حفظت سورة (ق) من فيّ رسول الله من طول ما سمعتها من فوق منبر الجمعة. وكان النساء يحضرن صلاة العيدين. ويشاركن في هذا المهرجان الإسلامي الحاشد الذي يضم الصغار والكبار و الرجال والنساء مهللين مكبرين روى مسلم عن أم عطية قالت:أمرنا رسول الله أن نخرجهن ّفي الفطر والأضحى العواتق والحُيَض وربات الخدور فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين,قلت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب قال لتلبسها أختها من جلبابها,هذا ما لم نجده في زماننا الحالي ولا في العهد القريب ولكن بدأنا نلمس بوادر عودة النساء إلى صلاة الجمعة والجماعة والعيدين ليشهدوا الخير .
وكان النساء يحضرن دروس العلم ويسألن عن أمر دينهن,مما قد يُستحى منه .وقد أثنت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها على نساء الأنصار أنهن لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين, وقد طلبن من النبي أن يجعل لهن يوماً خاصاً بهن يتعلمن به أمور الدين وقلن صراحة: ( يا رسول الله قد غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما ًمن نفسك) .
وقد شاركن أيضاً في الحروب وكن يشجعن الرجال ويسعفن الجرحى ويقدمون لهم الماء والطعام .عن أم عطية قالت( غزوت مع رسول الله سبع غزوات أخلفهم في رحالهم فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى )رواه مسلم وروى مسلم :عن أنس رضي الله عنه (أن عائشة وأم سليم كانتا في أحد مشمرتين تنقلان القرب على متونهما - ظهورهما ثم تفرغانها في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ) .
روى أحمد (أن ست نسوة من نساء المؤمنين كن مع الجيش الذي حاصر خيبر يتناولن السهام ويسقين السويق ويداوين الجرحى .ويغزلن الشعر ويعنَّ في سبيل الله وقد أعطاهنَّ النبي نصيباً من الغنيمة .
روى مسلم عن أنس رضي الله عنه ابنها: إن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجراً كان معها فرآها أبو طلحة زوجها فقال :يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر !فقال لها رسول الله ما هذا الخنجر؟قالت: اتخذته إن دنا مني أحد المشركين بقرت به بطنه فجعل رسول الله يضحك.رواه مسلم .
لايحلو له القريض ولا تكتمل الصورة إلا إذا وشينا صفحاتنا بشيء عن ذات النطاقين ,أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها لقد اجتمع لأسماء رضي الله عنها من خصائل الخير وشمائل النبل , ورجاحة العقل ما لم يجتمع إلا للقليل النادر من الرجال.فقد كانت من الجود بحيث يضرب بجودها المثل . حدث ابنها عبد الله قال:ما رأيت امرأتين أجود قط من خالتي عائشة وأمي أسماء لكن جودهما مختلف .أما خالتي فكانت تجمع الشيء إلى الشيء حتى إذا اجتمع عندها ما يكفي قسمته بين ذوي الحاجات . وأما أمي فكانت لا تمسك شيئاً إلى الغد.(/21)
وكانت أسماء إلى ذلك عاقلة حسنة التصرف في المواقف الحرجة من ذلك أنه لما خرج أبوها الصديق مهاجرا بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل معه ماله كله , ومقدار ستة آلاف درهم ولم يترك لعياله شيئاً . فلما علم والده أبو قحافة برحيله, وكان ما يزال مشركاً جاء إلى بيته وقال لأسماء:والله إني لأراكم قد فجعكم بماله بعد أن فجعكم بنفسه .قالت له:كلا يا أبتاه إنه قد ترك لنا مالاً كثيراً, ثم أخذت حصى ووضعتها في الكوة التي كانوا يضعون فيها المال , وألقت عليها ثوباً ثم أخذت بيد جدها –وكان مكفوف البصر – وقالت : لا بأس . إذا كان ترك لكم هذا كله فقد أحسن .
وقد أرادت بذلك أن تسكن نفس الشيخ , وألا تجعله يبذل لها شيئاً من ماله, ذلك لأنها تكره أن تجعل لمشرك عليها يداً حتى لو كان جدها .وإذا نسي التاريخ لأسماء بنت أبى بكر مواقفها كلها فإنه لن ينسى لها رجاحة عقلها وشدة عزمها وقوة إيمانها وهي تلقى ولدها عبد الله اللقاء الأخير . وذلك أن ابنها عبد الله بويع له بالخلافة بعد موت يزيد بن معاوية ودانت له الحجاز و مصر والعراق و خراسان وأكثر بلاد الشام ,لكن بني أمية ما لبثوا أن سيروا جيشاً لجباً بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي .فدارت بين الفريقين معارك طاحنة أظهر فيها ابن الزبير من ضروب البطولة ما يليق بفارس كمي مثله غير أن أنصاره جعلوا ينفضُّون عنه شيئاً فشيئاً فلجأ إلى بيت الله الحرام, واحتمى هو ومن معه في حمى الكعبة المشرفة.
وقبيل مصرعه بساعات دخل على أمه أسماء وكانت عجوزاً فانية , قد كف بصرها, فقال: السلام عليكِ يا أماه ورحمة الله وبركاته.فقالت وعليك السلام يا عبد الله, ما الذي أقدمك في هذه الساعة , والصخور التي تقذفها منجنيقات الحجاج على جنودك في الحرم تهز دور مكة هزاً. قال جئت لأستشيرك .قالت تستشيرني في ماذا؟
قال: لقد خذلني الناس وانحازوا عني رهبةً من الحجاج أو رغبة بما عنده حتى أهلي وأولادي انفضوا عني ولم يبقَ معي إلا نفر قليل من رجالي وهم مهما عظم جلدهم فلن يصبروا إلا ساعة أو ساعتين , ورسل بني أمية يفاوضونني على أن يعطوني ما شئت من الدنيا إذا ألقيت السلاح , وبايعت عبد الملك بن مروان فما ترين؟ فعلا صوتها وقالت الشأن شأنك ياعبد الله وأنت أعلم بنفسك . فإن كنت تعتقد أنك على حق وتدعو إلى حق فاصبر وجالد كما صبر أصحابك الذين قتلوا تحت رايتك.
وإن كنت إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت , أهلكت نفسك وأهلكت رجالك. قال ولكني مقتول اليوم لامحالة.
قالت ذلك خير لك من أن تسلم نفسك للحجاج مختاراً فيلعب برأسك غلمان بني أمية. قال: لست أخشى القتل وإنما أخاف أن يمثلوا بي, قالت ليس بعد القتل ما يخافه المرء, فالشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ فاستبشر وقال بوركت من أم وبوركت مناقبك, فأنا ما جئت إليك في هذه الساعة إلا لأسمع منك ما سمعت , والله يعلم أني ما وهنت ولا ضعفت وهو الشهيد علي,إنني ما قمت بما قمت به حباً بالدنيا وزينتها ,وإنما غضباً لله أن تستباح محارمه وهاأنذا أمض إلى ما تحبين , فإذا أنا قُتلت فلا تحزني علي وسلمي أمرك إلى الله .قالت إنما أحزن عليك لو قُتلت في باطل .ثم قالت :اقترب مني يا بني لأتشمم رائحتك وألمس جسدك فقد يكون هذا آخر العهد بك . فأكب عبد الله على يديها ورجليها يوسعهما لثماً .وأطلقت يديها تتلمس جسده , ثم ما لبثت أن ردتهما عنه وهي تقول:ما هذا الذي تلبسه يا عبد الله ؟
قال : درعي . .قالت : ما هذا يا بني لباس من يريد الشهادة ؟.قال إنما لبستها لأطيّب خاطرك . قالت انزعها عنك فذلك أشد لحميتك .البس بدلاً منها سراويل مضاعفة , حتى إذا صرعت لم تنكشف عورتك .
نزع عبد الله درعه وشد عليه سراويله له ومضى إلى الحرم لمواصلة القتال وهو يقول :لا تفتُري عن الدعاء لي يا أمه . فدعت قائلة:اللهم ارحم طول قيام وشدة نحيبه في سواد الليل والناس نيام . .اللهم إني قد سلمته لأمرك , ورضيت بما قضيت له فأثبني عليه ثواب الصابرين .لم تغرب شمس ذلك اليوم إلا كان عبد الله قد لحق بجوار ربه . ولم يمضِ على مصرعه غير بضعة عشر يوما ًإلا كانت أمه أسماء بنت أبي بكر قد لحقت به , وقد بلغت من العمر مئة عام , ولم يسقط لها سن ولا ضرس , ولم يغب من عقلها شيء. رحمك الله يا أختنا أسماء في الخالدين ورزقنا الله حكمتك وصبرك.(/22)
هذه هي المرأة وهذا هو دورها وثقلها في المجتمع الإسلامي .ولقد عقد البخاري في صحيحه باباً في غزو النساء .ولم يقف طموح المرأة المسلمة في عهد النبوة والصحابة للمشركة في الغزو عند المعارك الجانبية والقريبة ,بل طمحن إلى ركوب البحار والإسهام في فتح الأقطار البعيدة لإيصال رسالة الإسلام وفتح تلك البلاد, وفي صحيح البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند أم حرام بنت ملحان خالة أنس يوماً, ثم استيقظ وهو يضحك ,فقالت ما يضحكك يا رسول الله ؟قال ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة .قالت فقلت: يا رسول الله ادعُ الله أن يجعلني منهم ,فدعا لها .فركبت أم حرام البحر في زمن الخليفة عثمان رضي الله عنه مع زوجها عبادة بن الصامت إلى قبرص فصُرِعت عن دابتها , فتوفيت ودُفِنَت هناك .
المرأة بين مطرقة الإباحية و سندان الرجعية-5-
هيفاء علوان *
إن الكلام عن حقوق المرأة في الإسلام من اكثر المواضيع التي أُلِّفَت فيها المؤلفات ودبجت فيه المقالات وكانت فيه المشاحنات بين أخذ ورد, والحقيقة أنه لا توجد قضية التبس فيها الحق بالباطل ,واختلط فيها الصواب بالخطأ ووقع فيها الغلو بالتقصير مثل قضية المرأة في مجتمعنا الإسلامي كتاب (نظام حقوق المرأة في الإسلام ) للإمام آية الله مرتضى المطهري قال تحت عنوان :لا للتشابه نعم للمساواة ..(تساوي المرأة والرجل في الإنسانية غير قابلة للنقاش أما هل إنَّ حقوقها الأسرية متساوية ..؟ المرأة والرجل في الإسلام إنسانان كاملا الإنسانية ويتمتعان بنفس الدرجة من حقوق الإنسان لكن يطرح الإسلام أن المرأة بما أنها امرأة تختلف عن الرجل لكونه رجل في جوانب كثيرة ,فعالم المرأة غير عالم الرجل وطبيعتها غير طبيعته وهذا يؤدي إلى أن َّ كثيراً من الحقوق سوف لا تكون واحدة .
الحقيقة أن موضوع بحثنا يدور حول المرأة والتمييز بينها وبين الرجل ,وإنني أرى أنه لا بد أن أستعرض بعض الأمثلة من أحكام الله وشريعته السمحاء لنرى بعد ذلك كم ظلمت المرأة من قبل بعض المسلمين بل من قِبل بعض الدعاة .ولابد أيضاً من ذكر فضل النساء .
إذ للمرأة الفضل في إنجاب الرسل والأنبياء والعلماء والأبطال . يروع الذي يتصل عن قرب بالجزيرة العربية يرى حرص أهل جزيرة العرب في جاهليتهم بكرم النسب وطهارة الأرحام ,ويحرصون على كرم المحتد ,وهذا أكثم ابن صيفي يقول (لا يفتنكم جمال النساء عن صراحة النسب فإن المناكح الكريمة مدرجة الشرف ) .
وانظر إلى رواية أبو عمرو ابن العلاء عن أحدهم :قال ( لا أتزوج حتى أنظر إلى ولدي منها . قيل كيف له كيف ذلك ؟قال أنظر إلى أبيها وأمها فإنها تجر بأحدهما).
وإنك لو تمعنت في سيرة الأنبياء عليهم السلام إسماعيل وموسى وعيسى والنبي محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لرأيت أن الله عز وجل عهد بهم جميعاً إلى في طفولتهم إلى الأمهات وحدهن دون مشاركة من الآباء , فأم كل نبي لم تقم بدورها الطبيعي كأم هي مبعث الحنان والعطف بل عوضت إلى جانبه فقد الأب أو غيابه , غير أنا نرى الأمر طبيعياً لا غرابة فيه ولا مصادفة ولا اتفاق فالأمومة في عاطفتها الجياشة المتدفقة وإيثارها الرائع تموت ليحيا فلذة كبدها أقرب إلى أن ترعى أصحاب الرسالات السماوية الدينية التي تقوم على الروحانية فذكر الله في محكم كتابه أم إسماعيل والسيدة مريم عليها السلام وأم موسى عليها السلام .
إن ما ذكرناه إن دل على شيء فإنما يدل على عظم المرأة ودورها العظيم وانه لا يمكن لشرع الله و لديننا العظيم أن يبخسوها فضلها .
لابد من أن نعلن أن تلك النساء الخالدات في عصر النبوة لم يعقم زماننا أن يلد مثلهن ،على قلة وندرة منهن كاللآلئ النادرة .
إليك أختي واحدة من هذه النماذج وهي الدكتورة منى يكن درست اللغة العربية و حصلت على الماجستير وبسبب الحرب اللبنانية خرجت إلى باريس واضطرت للتحويل إلى تاريخ الفلسفة الإسلامية في السوربون ثم أنهت الدكتوراه في تاريخ الفلسفة الإسلامية .أسست في طرابلس جامعة الجنان وتسلمت رئاسة الجامعة مع أو متابعتها لسلسلة المدارس التي ساهمت بإنشائها .
بدأت الدعوة في ريعان شبابها في أول العقد الثاني كانت تؤمن بضرورة العمل الجماعي ،وبعد جهد وعمل متواصلين دام حوالي(12) سنة حصلت مع مجموعة من الأخوات للعمل تحت اسم الرابطة النسائية الإسلامية وهي أول مجمع نسائي إسلامي ملتزم يُنشأ في لبنان ولا تزال تعمل والحمد لله حتى اليوم على نشر الإسلام بين الفتيات والنساء وترعى الأيتام والمعوقين ذوي الاحتياجات الخاصة وتشارك الجمعيات الخيرية في أعمال البر والإحسان وتتعاون مع الآخرين تحت شعار (وتعاونوا على البر والتقوى).(/23)
في مقابلة أَجرتها معها مجلة الشقائق سألتها:تعيش المرأة المسلمة هذه الأيام في صراع بين التمسك بتعاليم الدين الحنيف وإغراءات العصر ،فكيف يمكن لها مواجهة تلك الإغراءات والصمود في وجهها والثبات على الحق ؟،كان جوابها:إذا كان حقا أن المرأة المسلمة تعيش في صراع بين التمسك بتعاليم الدين وإغراءات العصر فإننا في نعمة كبيرة وخير جزيل ؛لأن الصراع بين الثبات على الحق وبين الانحراف وراء المغريات هو من صلب التزامنا الإسلامي بل هو الفيصل بين من هو ملتزم ومن هو ضعيف الالتزام وهذه هي سُنة الحياة مصداق لقول رسول الله : (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ) فهذا الصراع هو دليل بما فيه ،ولكن السؤال :هو كيفية تحقيق التنصر في هذا الصراع والثبات على الحق ؛هناك ثوابت ومسلمات في ديننا تدلنا على الطريق وتجتمع كلها حول تمتين العلاقة مع الله: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) فالنصر يتجسد في إيداعه فينا المقدرة على الصمود والثبات ،كما أن مواجهة الإغراءات لا يمكن أن تحقق بشكل فردي فالأجدر أن تواجه بشكل جماعي وإيجاد البدائل وتدعيم التضحيات وتلك هي وسائل ضرورية وفعالة في وجه إغراءات العصر التي تواجهنا جملة وبقوة.
لذلك لابد من تضحيات برامج عمل وحكمه في هذا الصراع الدائم المستمر ونحن نكبر بمواجهته ،أما إذا ابتعدنا عنه وتخاذلنا فإنه سيدخل ويغزونا في عقر دارنا.
فالمواجهة تكون جماعية بتحصين علاقاتنا مع بعضنا وتمتين علاقتنا مع الله وتقديم الغالي والنفيس في هذا الصراع لأن النصر فيه هو ثبات على الحق الذي يورث الفردوس .
في جوابها على حرية المرأة قالت: إن الحرية لا تنفصل عن مفهوم الحرية العام أما ما يثار حول حرية المرأة بالتحديد فيكاد يكون للصِدام مع الرجل أو للكلام على حدود علاقة المرأة بالرجل وفي هذا تضييق لمفهوم حرية المرأة التي تتعدى علاقتها مع الجنس الآخر حيث علاقتها بذاتها وبمجتمعها وبرها هي الأهم لها بصفتها إنسانا قبل أن تكون أنثى أما ربط مفهوم الحرية بالإباحية ،كما يراه البعض فهو مفهوم غريب ومستورد وبعيد كل البعد عن قيمنا لذلك يجب التصدي له بالقول والعمل لأن فيه تشويها لمعنى الحرية التي قدسها الإسلام.
وفي جواب لها على سؤال :سخرت وسائل الإعلام لتحقيق أهداف فكرية مشبوهة أخلاقية ساقطة ما رؤيتكم لهذه القضية ؟ كان جوابها : إن تناول الإعلام للمرأة بالصورة المشوهة شكلا ومضمونا له أسوأ الأثر على المرأة ذاتها وعلى أفراد أسرتها حيث ستنحرف المفاهيم عن موقعها الصحيح ،ونظرا لضخامة أثر الإعلام فإن التصدي له يجب أن يكون على مستوى رفيع ويجب أن ترفق وتتبع بالتركيز بكافة الوسائل المتاحة على البناء العقائدي والفكري والعقائدي القوي القادر على الفهم والتحدي والمواجهة ولا يمكن لنا في هذا الخضم المتلاحم أن ننس الدور الإيجابي البناء لوسائل الإعلام البديلة التي تخدم الفكر الإسلامي وضرورة تطويرها لتسد ثغرة كبيرة ولتحقق رغبات وتطلعات المخلصين وفق أطر أخلاقية نظيفة وفكر قويم يرسخ قيمنا الإسلامية ويُحسِّن عرضها على العالم كله ليعود للمرأة المسلمة الريادة في هذا العالم المتخبط في الانحلال والعلمانية والفجور الذي ينبذ العلم والحشمة والثقافة , ويسعى وراء التبذل والاستهتار والتفاهات.
السيدة منى يكن المثال الأمل من العصر الحديث ولدينا أمثلة كثيرة عن ثلة من النساء اللاتي تأسينا بالصحابيات قولاً وعملاً ,كن عفيفات محتسبات لا يرتضين السمعة والرياء وإنما يعملن احتساباً لبارئهن ,لم يكنَّ هؤلاء من عصر النبوة وإنما كن يعشن بين ظهرانينا وقد ذكرت السيدة أم إسراء بنت عرفة البيومي في مؤلَّفِها (نساء لها تاريخ )بعضا ًمنهن وهذه إحداهن:
هي أم أيمن العصرية . إن نور الإيمان يشع من وجهها رغم أنها ذات بشرة سمراء ,إلا أن وجهها يشع نوراً يشعر به مَن يخاطبها كيف لا وذكر الله لا يفارق لسانها ! كيف لا وقد ربت أيتامها منذ أكثر من خمس عشرة سنة صابرة محتسبة لا تستعين إلا بربها ,فقد توفي زوجها بعد مرض عضال. في زيارة له في المستشفى تلقت خبر وفاة رفيق عمرها كي يتركها هي وأربعة أولاد ليس لهن إلا الله فما زادت على قولها إنا لله وإنا إليه راجعون ,حسبي الله ونعم الوكيل ، حسبي الرب من المربوبين , حسبي الخالق من المخلوقين ,حسبي الله ونعم الوكيل , ثم عادت إلى بيتها وأخبرت أهل زوجها, وعادت إلى أولادها وجهزت لهن طعام الإفطار ثم قالت: سوف يزورنا اليوم ضيوف من ٌأقاربنا وجيراننا, أفطر أولادها واستعدوا لاستقبال الضيوف ,أخبرتها بخبر الوفاة بلطف وشفقة كل هذا وهي أكثرهم صدمة وحسرة ,لكنه الصبر الجميل الذي ملاْ قلبها .(/24)
هذه المرأة السالفة الذكر لم تكن في عصر الصحابة,هي من حاضرنا ,ذكرتنا بأم سليم بنت ملحان لما توفى ابنها.ولنا مثال من نساء فاضلات معاصرات .إحداهن :أم إبراهيم العابدة البصرية وهي من النساء اللاتي سُجِلت أسماءهن في سجل الأمهات الخالدات المربيات الصالحات ,كانت من العابدات الشهيرات في البصرة ,عن عبد المؤمن بن عبد الله القيسي قال: لقد حرصت على ما عند الله في الآخرة فزوجت ولدها بحورية من الجنة وأرسلت مهر هذه الحورية أموالاً تنفق في سبيل الله . لقد سمعت من شيخ يخطب خطبة الجمعة عن مكانة الشهداء ,وعن الجنات التي فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر , وتحدث عن الحور العين وهذا البهاء والنضارة التي يتصفن بها فبادرت مسرعة وأرسلت مبلغاً من المال مهراً لهذه الحورية , بارك الله بهذه المرأة فكم في قلبها من الحب لفلذة كبدها ولكن رضى الله هو منتهى الغايات وأغلى الأمنيات .
كثير من الناس ابتلوا في هذه الدنيا وأطبقت عليهم النوائب , ولكنهم قالوا لها : إليك عني و هذه جارة قديمة لصديقتي لقد رزقت ثمانية أولاد:ثلاثة قد كمل الله خلقتهم وخمسة ولدوا بكما توفي والدهم والكبير في الأول الإعدادي ً كانوا يسكنون كوخاً مستأجراً كبر ولدها الأول , درس في الجامعة .أصبح له وظيفة تنكر لامه واخوته,كانت تعجن وتخبز , اشترت أرضا صغيرة بنت غرفتين وبعد عام بنت ثالثة ثم بعد سنتين ابتنت طابق ثان , زوجت ابناً ثانياً بقي عندها أربعة من الصم البكم زوجتهم من أمثالهم , ما رأيتها مرة إلا والبسمة ترتسم على وجهها تكتسي بالرضى وتتكحل بشكر المنعم ، و لسان حالها يقول : حمداً لله على ما أنعمَ و تفضّل ، حمداً يا رب على نعمك و آلائك .
هذه هي المرأة المسلمة وهذا هو دورها في تسيير دفة السفينة ليصل ملاحوها ومَن على متنها إلى بر الأمان ,فلمَ تُهان من بعضهم أو تُضرب ؟ نعم تضرب . تحت عنوان (وليس خيركم من يفعله) بقلم صالح أحمد الشامي في مجلة المجتمع الغراء وردت هذه الواقعة (إي والله رأيته يضربها في السوق المزدحم بالناس كان ذلك في سوق الليل القريب من المسجد الحرام ,وكانت الأيام أيام الحج .لقد نهى المصطفى عن ضرب العبيد والأرقاء في قوله (من ضرب غلاماً له أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه)أما ضرب النساء فقد عالجه الإسلام بأسلوب آخر إذ جعل الإسلام النبي صلى الله عليه وسلم قدوة للمسلمين وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول(ما ضرب رسول الله شيئاً قط بيده لا امرأة ولا خادماً) انظر معي إلى هذا المشهد عن أنس رضي الله عنه قال (كان النبي عند عائشة وكان عنده بعض أصحابه فأرسلت أم سلمة بطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فضربت عائشة يد الخادم فسقطت الصحفة فانكسرت,فجعل النبي يجمع الطعام ويقول :غارت أمكم ) .
الخاتمة
أخيرأ . . وبعد هذا العرض المستفيض عن المرأة المسلمة مالها من حقوق وما عليها من واجبات يجد كل من له لب وكانت عنده بصيرة ثاقبة ,أنه ما من دين كفل للمرأة ما كفله لها الإسلام وما من شريعة أكرمتها واحتفت بها كالإسلام ,كثيرة هي حوادث العنف ضد المرأة في الغرب ,وليس لها إلا أن تصمت وإلا انهالت عليها الضربات واللكمات , لو كان هذا التمييز في بلد عربي أو إفريقي لقوبل بالضجيج ولأسرعت لجان حقوق الإنسان لدرء الظلم عن المرأة بل قد تُجيَّش الجيوش لدرء الظلم عنها!
في ختام هذا الإبحار بين لجج متلاطمة من واقع المرأة المسلمة المسف في الانحطاط ,المزري إلى حد الإذلال والامتهان أرى أنه لابد للمرأة المسلمة أن تكون متفهمة واعية لما يحاك لها , وأن لا تتهم ديننا العظيم إن أهينت أو ديست كرامتها ,ألا فلتعلم أن هذا الدين براء مما بدر ويبدر من أبنائه وليكن قدوتها في ذلك الحبيب المصطفى ولكن أرى على المرأة المسلمة أن تكون متميزة وفاعلة في المجتمع ,أن تكتشف نفسها وقدراتها التي وهبها الله سبحانه ,وأن لا تكتفي بذلك ولا تنتظر غيرها بل تشمر عن ساعد الجد وتقوم بمهمتها الكبرى ,ولكن يجب عليها أيضاً أن تدرك أن عليها أن تعرف أن أمامها طريقان لا ثالث لهما:طريق الهدى وطريق الهوى وهي حرة حرية مطلقة أن تختار أي الطريقين شاءت قال تعالى (أرأيت من اتخذ إلهه هواه فأنت تكون عليهم وكيلاً) وقال جل من قائل (الم *ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) (البقرة)
ونهانا سبحانه أن نتبع الهوى (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله )ص (ًً26)(/25)
وعلينا أن لا يكون دأبنا أن نقتفي آثار الناعقين الذين يريدون شراً بالمرأة ,ليس معنى هذا أن نكون متقوقعين ,بل نأخذ من الغرب ما ينفعنا وندع ما يضر بنا ويسيء إلينا فلا نكون إمّعة , فيسوء حالنا أكثر مما نحن فيه .وما أخشاه أن تسوء حالنا أكثر إذا لم نتدارك أنفسنا ونعي المزالق الخطيرة التي ستلم بنا, إن استسلمنا لهذا الواقع المرير وأتمنى أن يجنبنا الله سوء الأخلاق ومنها الجهل والكبر جنبنا الله إياها, فهما آفتان توديان بصاحبهما إلى خسران الدنيا والآخرة.
هدانا الله وإياك إلى سواء السبيل وما توفيقي إلا بالله .
قائمة المصادر والمراجع
إنصاف المرأة في الإسلام : أ . محمد أمين زيد الكيلاني.
كتاب الأمة .قضية المرأة رؤية تأصيلية . الأديبة سعاد عبد الله الناصر.
أضواء على أحاديث أسيء فهمها. العلامة .د.يوسف القرضاوي.
مجلة الأحمدية :جوانب تفضيلية للمرأة. أ.د.محمد محروس الأعظمي
في الشريعة الإسلامية
الإسلام وبناء المجتمع . أحمد محمد العسال .
حوارات لقرن جديد :المرأة والدين د. نوال السعداوي-هبه رؤوف عزة
والأخلاق .فصل:المرأة والعمل
السياسي رؤية إسلامية .
مجلة الشقائق:العدد56 تحرير اختيار الشيخ محمد إبراهيم الحمد.
الإسلام للمرأة بقلم الشيخ البشير الإبراهيمي.
م/لشقائق:64.الإسلام والمرأة. تاريخيًا بقلم حيان الحافظ .
م/الشقائق64: وليس خيركم من يفعله. بقلم صالح أحمد الشامي.
م/الشقائق 61:منى يكن في سطور. مقابلة وحوار.
أكذوبة تحرير المرأة. م/ المجتمع العدد1591
رؤية إسلامية قدمت للأمم المتحدة . م/ المجتمع ع/1591
صور من حياة الصحابيات . د. عبد الرحمن رأفت الباشا.
قصص النساء في القرآن. د. عبد المنعم الهاشمي.
المرأة بين الفقه والقانون. د.مصطفى السباعي
حقوق النساء في الإسلام . محمد رشيد رضا.
المرأة ودورها في المجتمع . الشيخ فيصل مولوي .
المرأة ومكانتها في الإسلام. أحمد عبد العزيز الحصين.
المرأة عبر تاريخ الإسلام. د:سعدون محمد الساموك (مجلة الفرقان )ع/31
نساء لها تاريخ . أم إسراء بنت عرفة بيومي.
نظرات في المجتمع. أ.محمد المجذوب .
نظام حقوق المرأة في الإسلام . آية الله مرتضى المطهري .
مفيد البشرية للسعادة الزوجية
وصلاح الحياة الاجتماعية . أ. محمد القاضي.
مقتطفات من حقوق المرأة الشرعية المحامية رحاب القدومي .
معجم النساء .(/26)
"المرأة في المؤتمرات الدولية"؟! [1/2]
د. لطف الله خوجه 4/7/1427
29/07/2006
تفسير العنوان.
تقرير وتأصيل للحقوق الإنسانية.
تصوير لقضية حقوق المرأة.
مناقشة وتحليل التصوير.
تاريخ المؤتمرات.
* * *
تفسير العنوان:
"المرأة في المؤتمرات الدولية":
- "المرأة": إنسان، هو القسم الآخر من النوع الإنساني، وهي شقيق الرجل.
- "في": حرف جر، دال على ظرف حالي.
- "المؤتمرات": جمع مؤتمر، ومعناها: المجامع التي يأتمر فيها المجتمعون؛ أي يأمر فيه بعضهم بعضا، ليجتمعوا – كلهم، أو جلّهم – على أمر واحد، في آخر المؤتمر.
- "الدولية": جمع دولة، والياء للنسبة؛ أي المجامع بصبغتها الشاملة لدول العالم: جميعها، أو جلّها.
فتفسير العنوان: حال ووضع المرأة خصوصا، دون القسم الآخر من النوع الإنساني: الرجل. في هذه التجمعات المؤتمرة، من دول شتى.. حالها بالنظر إلى الأوامر الصادرة بشأنها.
* * *
تقرير وتأصيل للحقوق الإنسانية.
أساس قضية المرأة هو: الحقوق. فالباعث لعقد المؤتمرات هو: إعطاء المرأة حقوقها.
ومسألة الحقوق، من جهة الأصل الشاملة لكل إنسان، مؤصلة ومقررة بالكيفية التالية:
أولا: : للإنسان (ذكرا، أو أنثى) حقوق ثبتت بالدين، وأخرى ثبتت بالعقل، ولا تعارض بينهما.
ثانيا: : منعه من حقوقه تلك: ظلم. وإعطاؤه إياها: عدل.
ثالثا: : إذا ظلم، فالظلم قبيح: دينا، وعقلا. فلا بد أن يزال.
رابعا: : كل وسيلة تزيله فهو فرض مطلوب.
فهذا التقرير والتأصيل العام في كل الحقوق، لكل إنسان، ذكرا أو أنثى: متفق عليه بين جميع العقلاء.
ثم إن الأول منه محل خلاف، من جهة تحديد منابع الحقوق ومصادرها، بين المتدينين وغير المتدينين !!. لكنهم جميعا متفقون على الأصل: أن للإنسان حقوقا.
* * *
تصوير لقضية حقوق المرأة
التقرير والتأصيل الآنف بنى عليه المؤتمرون في قضية المرأة: تصورهم لما يعتبرونه مشكلة المرأة. والتصوير التالي عرض وتحليل لمقدمات القضية، ثم نتيجتها:
أولا: المرأة لها حقوق.
ثانيا: المرأة منعت من حقوقها، وذلك ظلم.
ثالثا: الظلم يزال فرضا.
رابعا: وسيلة الإزالة فرض مطلوب.
خامسا: المؤتمرات وسيلة من وسائل الإزالة، فهي مطلوبة.
هذه المقدمات ينتج عنها:
"أن القرارات الصادرة عن هذه المؤتمرات بحق المرأة مفروضة؛ لأن بها يزال الظلم، وتنال حقوقها".
فهذه المؤتمرات قد بنيت على فرضية، هي عندهم حقيقة:
"أن المرأة ممنوعة من حقوقها".
وقد سموا منع المرأة من حقوقها: اضطهادا. وإعطاءها حقوقها: تحريرا..!!.
باعتبار أن منعها من حقوقها سببه – كما هو تعبيرهم - : القيود المفروض عليها من جهة الرجل.
والقيود إنما تزول بالتحرر منها؛ أي فكّها، والانفلات منها.
ومن هنا سميت هذه الحركة المختصة بهذا النشاط: حركة تحرير المرأة. والقضية: تحرير المرأة.
* * *
مناقشة وتحليل التصوير
مقدمات التصوير الآنفة، لقضية حقوق المرأة: من ناحية السرد، وكون كل مقدمة مبنية على ما قبلها: مسلّم به، لا خلاف عليها؛ فترتيبها منطقي، عقلي صحيح.. فالصورة الشكلية للمقدمات، ثم نتيجتها صحيحة.
غير أن هاهنا أمرا جديرا بالتنبيه، هو:
أن تحديد مضمون المقدمة الأولى، وما يراد بها، قد يغير هذا الحكم من التسليم إلى الاعتراض والتنديد..!!.
كيف يكون ذلك ؟!.
يقال: إن المقدمة الأولى قيل فيها: المرأة لها حقوق. وهي صحيحة؛ فمن حيث المبدأ: للمرأة حقوق. وكذا: الرجل، وكذا البهائم، والنباتات، والجمادات. كل كيان قائم في هذا العالم له حقوق، بحسب منزلته، والإنسان أعظم الكائنات حقوقا لشرفه.
لكن ومع الإقرار بحقوق المرأة؛ كونها إنسانا وكيانا، إلا إن هذه الحقوق بالتأكيد ليست مطلقة، بل مقيدة. وهذا التقرير مسلّم به، لا يخالف فيه عاقل.. فلا أحد يقول: إن من حقوق المرأة تملك مال غيرها.. مثلا.
ولا نظن القائمين على مؤتمرات المرأة يجهلون هذه الحقيقة.. ومن هذه المسلّمة ننطلق لنقول:
تلك الحقوق المقيدة ما حدّها ؟، وما المصدر الذي يرجع إليه لتحديد حدودها ؟.
إن الحدود والقيود إما أن تكون دينية، أو لا دينية.. ولا ثالث، والأمر المؤكد أن الحدود التي تحد بها هذه المؤتمرات حقوق المرأة ليست دينية، لا من قريب ولا من بعيد.
هذا التأكيد مستفاد من معرفتنا باتجاه هذه المنظمة العالمية: هيئة الأمم المتحدة. التي ترعى هذه المؤتمرات؛ فإنها تقوم على المبدأ العلماني: فصل الدين عن الحياة. فقراراتها، وقرارات مؤتمراتها لا تصدر عن نصوص دينية، ولا تعتمد على أية شريعة إلهية، سواء في ذلك شريعة: الإسلام، أو اليهودية، أو النصرانية.
ثم إن القرارات نفسها خالية من أي مستند أو استدلال ديني، ويوجد في كثير من بنودها ما يعارض الدين.
فالمبدأ: "العلماني". هو المحتضن لهذه الحقوق، فما كان منها منسجما معه فهو من الحقوق، وإلا فلا.
فهل معرفتنا هذه، بعلمانية هذه القرارات، وأن الحقوق تقررت في إطار علماني: يفيد في تحديد هذه الحقوق بالتفصيل الدقيق ؟.(/1)
الجواب: ليس بعد.. فالعلمانية نظام حكم عام شامل، ينتظم فيه جميع الأفراد، والجماعات، والأديان، والمذاهب، لا يختص بجهة معينة كالمرأة، فمعرفة أن العلمانية محتضن لحقوق المرأة، لا يستفاد منه تحديد هذه الحقوق، غاية ما يستفاد الإطار العام الحقوق، مثل أنه لا يشترط فيها ألا تخالف دينا، أو عرفا، أو تقليدا.
وعليه فالحدود المفصلة لهذه الحقوق، والمصدر والمنبع الممد لها، لم يزل بحاجة إلى توضيح وتعريف..؟!!.
وهذا ما سنفعله:
* * *
عند دراسة دساتير ومواثيق الأمم المتحدة وقرارات مؤتمراتها المتعلقة بالمرأة، نلحظ شيئا لافتاً..؟!!:
نلحظ أنها تتوافق وتتطابق مع نظرة الغرب إلى حقوق المرأة، في الناحية النظرية تفصيلا، والتطبيقية جملة.
والفكرة الغربية لحقوق المرأة مبناها على المبدأ: الليبرالي. ومعناه: الحرية. وفي تعريفه يقولون:
- " التخلص من التسلط الخارجي: الدين، المجتمع، القبيلة، الأسرة. وطاعة قوانين النفس وأحكامها".
فهذا المبدأ يتوافق كليا مع المبدأ العلماني، فكلاهما يرفض الخضوع للدين.
فحقوق المرأة تحد بحدود الحرية، فكل ما كان من حرية المرأة، فهو من حقوقها، كالرجل..
والمرأة في المفهوم الغربي: لها الحق أن تفعل ما تشاء، تهب نفسها لمن تشاء، تتزوج من تشاء، حتى لو أنثى مثلها، وأن تجهض حملها، وتمارس الحياة الجنسية منذ فترة مبكرة، وأن تتساوى مع الرجل في كافة الحقوق، دون تمييز بأي شكل من الأشكال.. وهكذا، وكل ذلك تحت قانون الحرية.
فهكذا هي حدود حقوق المرأة في هذه القرارات الأممية..!!.
وهنا ملاحظات:
أولا: اختلاف النتيجة باختلاف صورة القضية.
يقال هنا: على هذه الحقوق بنيت صورة المعادلة فكانت كالتالي:
- هذه الحقوق - في الإطار العلماني، والأساس الليبرالي - : هي حقوق المرأة.
- ومنعها من هذه الحقوق ظلم، وإزالة الظلم فرض مطلوب، ووسيلة الإزالة مطلوبة، والمؤتمرات وسيلة.
- فقراراتها الجارية في إطار علماني وأساس ليبرالي إذن: مُلزِمة؛ لأن بها يزال الظلم.
هكذا هي قضية المرأة.. عند من يؤمن بالمبدأين العلماني والليبرالي..!!.
لكن ما حال من لم يؤمن بهما ؟!.
من قَبِل بالحقوق في هذا الإطار وهذا البناء: هو الذي يقبل القرارات الصادرة وفق هذه الأسس..
لكن من لم يقبل فلا يلزمه أن يقبل تلك القرارات، وتنهار صورة المسالة عنده حينئذ:
- فلا يكون منع المرأة من الحرية اللبيرالية، في الإطار العلماني: مصادرة لحقوقها.
- ومن ثم فلا ظلم عليها في هذا النوع من المنع.
- وعليه فلا حاجة لإزالة شيء غير موجود، ولا لاتخاذ الوسائل، ولا عقد المؤتمرات، ولا إصدار القرارات في إطار علماني ليبرالي.
ذلك لأن صورة الحقوق هذه غير متفق عليها، ومثل هذه المؤتمرات لا بد أن تتبنى قرارا يحوي رأي الجميع، ويأخذ خياراتهم بعين الاعتبار؛ كونها تقع تحت رعاية الأمم المتحدة، الممثلة لجميع شعوب العالم، والتي ينبغي لها أن تكون إلى جانب كل الدول وسيادتها، تحميها من الانتهاك، أو التدخل في شؤونها ؟!!.
ثانيا: هل يصح تعميم المشكلة الخاصة ؟.
قد تبين أن هذه القرارات بنيت على المبدأ العلماني كإطار عام للحقوق، وعلى المبدأ الليبرالي كصور وأشكال لهذه الحقوق.
وهذه المبادئ غربية بحتة، وأفكار نتجت في بيئة كان لها ظرفها الخاصة، ليس بالضرورة أن تكون البيئات والمجتمعات الأخرى مرت بالظرف ذاته.
فلو فرض جدلا أنها مبادئ صالحة لبيئة مثل أوربا وأمريكا.. فهل لا بد من صلاحها لغيرها ؟!.
هل من الضرورة أن تكون ملائمة لكافة دول العالم، وشعوب العالم ؟!.
كثير من هذه الدول لم تمر بما مرت بها أوربا، ولم تعان ظروفها كظروف أوربا، فكيف تلزم بأن تنتهج ذات النهج، وتسلك ذات السبيل ؟!.
ثالثا: أين احترام المبدأ، أم هو الإرهاب ؟!.
إن الغرب والأمم المتحدة نفسها ما فئت ترفع شعار:
احترام الآخر، وقبول الآخر، وعدم إقصاء الآخر، وعدم إلغاء الآخر.. إلخ.
لكن أليست هذه الهيئة نفسها تمارس: احتقار الآخر، ورفض الآخر، وإقصاء الآخر، وإلغاء الآخر..!!. حينما تفرض قرارات مؤتمراتها المصوغة سلفا، على شعوب العالم، وهذه الشعوب فيها ثقافات وقناعات مختلفة، وهي ملتئمة تماما مع نفسها متوافقة، ليس لديها المشكلات التي لدى الغرب، والنساء فيها ليس لديهن من المشكلات، كتلك التي تؤرق المرأة الغربية ؟!.
أليست هذه الهيئة تناقض نفسها ؟!!..
يوما تظهر بصورة المثالي، المحترم لإرادة الشعوب، الرافض قسرها وإجبارها على ما لا تريد.
ويوما تقول: ما أريكم إلا ما أرى !!.
وهذا ما هو معمول به الآن، ولا يُدرى ماذا يكون غدا ؟!.
ربما ستفرض على الدول الممتنعة، من العمل بالقرارات المختصة بالمرأة، عقوبات اقتصادية، وحصارا دوليا..
أو ربما جرت كبرى الدول جيوشها؛ لتأديب الممتنعين، وإخضاعهم بالقوة والإرهاب لتفعيل القرارات؟!.
لا ندري كل ذلك وارد، غير ممتنع من جهة: العقل، والواقع ..!!.(/2)
فهذه المؤتمرات تقوم فكرتها على: أن ما يصدر عنها من قرارات فهي ملزمة لكافة الدول. والقائمون عليها يسعون لتحقيق هذا الهدف، بالاستعانة بالدول الكبرى للضغط على الدول الضعيفة في هذا الاتجاه.
وأمام هذه الأمور نتساءل:
- هل هذه حكومة عالمية، تحكم جميع الدول والشعوب، فتأمر بما تشاء ؟.
- هل انتفت سيادة الحكومات والشعوب على دولها، فصارت تحكم من قبل هؤلاء المؤتمرين ؟.
- أين حرية الشعوب في اختيار مصيرها ؟، لم يفرض عليها قرارات لم تصنعها، ولم تطالب بها ؟.
- أليس من بنود هيئة الأمم المتحدة: أن كل دولة لها سيادة كاملة على حدودها وشعوبها، ولا يصح لأخرى أن تنتهك سيادتها تلك ؟، فإذا فرضت عليها هذه القرارات أو تلك: فأين هي سيادتها ؟.
الواضح أن مثل هذه المؤتمرات، التي تتم تحت رعاية الأمم المتحدة: تضع العين على مصداقية هذه المنظمة. فبدل أن تكون نصيرة وعونا للشعوب الضعيفة، هاهي عون للدول الكبرى، تنفذ سياستها، وتكون الجلاد والعصا لإخضاع الدول والشعوب، والتدخل في شؤونها.
يقولون:
ثمة انتهاك وظلم للإنسان والمرأة، هنا وهناك، يجب أن يزال، وهيئة الأمم معنية بتحقيق العدل.
ويقال: نعم.. الظلم غير مقبول، والمسألة ليست في هذه، إنما في تفسير الظلم والانتهاك: ما هو ؟.
فهذه المؤتمرات تفرض رؤيتها، فما تعده ظلما فهو ظلم، والعدل هو ما تراه. وبذلك تجعل الشيء ظلما، وقد يكون عند غيرها عدلا. وتجعل الشيء عدلا، وقد يكون عند غيرها ظلما..!!.
نعم، هناك نوع من الظلم، يتفق الجميع على كونه ظلما. كالإيذاء الجسدي، والاغتصاب.
لكن هناك أمورا هي في عيون المؤتمرين ظلم، ليست كذلك عند شعوب العالم إلا الشذاذ، مثل المنع من زواج الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة..!!.
السعي في فرض هذه القرارات على الشعوب، ينافي الميثاق العام أن: الشعوب لها الحق في اختيار طريقها. والدول الكبرى لا تسمع، ولا تسمح لدول أخرى أن تتدخل بفرض القوانين عليها، في أي مجال: اجتماعي، أو سياسي، أو ثقافي، أو اقتصادي. فلا حق لها إذن أن تفرض إرادتها على غيرها.
وإذا جاز لهذه الدول الكبرى أن تتدخل في الدول الأخرى بتغيير قوانينها، وامتثالها لقرارات هذه المؤتمرات: فمن الجائز أن تتدخل هذه الأخرى في شؤونها لتغيير قوانينها، فكما أن هذه تتحفظ على قوانين بعض الدول، كذلك تلك الدول تتحفظ على جملة من قوانينها، ولو كانت دولة كبرى.!!.
والواقع أن هذا الإلزام بالمثل من الأماني التي لا تتحقق إلا بشروط، فما دامت هذه الدول ضعيفة ذليلة، فما لها إلا الخضوع والخنوع، ولن تفكر يوما في فرض إرادتها على الدول الكبرى، إلا إن انسلخت من ذلتها، ولبست ثوب العزة، ولن يضرها بعدئذ ضعفها، أمام قوة أكبر منها..!!.
* * *
هذه محاكمة إلى قانون الغرب نفسه، وقانون الهيئة نفسها، من فمهم ندينهم.. لم نحاكمهم إلى دين، ولا إلى شريعة، ما حاكمناهم إلا إلى ما يدينون به: إلى المبدأ العلماني، والليبرالي.
فالعلمانية كما يقررونها مذهب يقوم على الحياد إزاء كل الأديان، والمذاهب، والأجناس؛ أي يترك لكل أهل ملة الحرية في التدين بما شاءوا.. لكن هؤلاء انقلبوا على دينهم ومذهبهم هذا، فصاروا منحازين إلى فئة، يبتغون حمل كافة الفئات على مذهب واحد.
والليبرالية تقرر الحرية، حرية أن يختار المرء ما يشاء، وأن ما يختاره الإنسان لنفسه هو الأحسن، ولو كان عند غيره هو الأسوء.. لكنهم انقلبوا على مذهبهم هذا، لما جعلوا من خيارهم هو الأمثل والأحسن، وأنه ينبغي أن يكون الناس على المثال الذي صنعوه.
فهذا هو الاعتراض على صورة القضية لديهم، وهذا ملخصه:
- أن حقوق المرأة – في هذه المؤتمرات - نابعة من مذهب لا ديني، هو العلمانية.
- أن حقوق المرأة تسير وفق النهج الليبرالي، دون اعتبار لأحكام: دين، أو مجتمع، أو أو أسرة.
- أن المؤتمرين حينما يفرضون قراراتهم على الشعوب كافة، مستخدمين في ذلك سلطان الدول الكبرى، فإنهم يرتدون عن مبادئ العلمانية والليبرالية نفسها، ويمارسون ما ينهون عنه من إقصاء وإلغاء الآخر.
* * *
تاريخ المؤتمرات
كل المؤتمرات تمت برعاية من هيئة الأمم المتحدة، أو لجان تابعة لها..!!.
فقد بدأ اهتمام الهيئة بالمرأة منذ عام ستة وأربعين وتسعمائة وألف للميلاد (1365هـ)؛ أي بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وفي المواد الأولى لدستور الهيئة وميثاقها، الذي كتب في سان فرانسيسكو عام خمسة وأربعين وتسعمائة وألف للميلاد (16/7/1364، 26/6/1945): التأكيد على مبدأ المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق. وهذه قضية لازالت الهيئة تؤكد عليها، في اتفاقياتها، ومؤتمراتها.
واللجان التابعة للهيئة المعنية بالمرأة هي:
1- لجنة مركز المرأة.
2- صندوق الأمم المتحدة للسكان.
3- صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة.
4- برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
5- المعهد الدولي للبحث والتدريب من أجل النهوض بالمرأة.
6- جامعة الأمم المتحدة.(/3)
7- معهد الأمم المتحدة لبحوث التنمية الاجتماعية.
8- اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة.
9- منظمة الأمم المتحدة للطفولة.
10- منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة.
وغيرها..
أما المؤتمرات الخاصة بالمرأة، المنعقدة تحت رعاية هذه الهيئة، فهي من حيث الترتيب الزمني كالتالي:
1- مؤتمر مكسيكو ستي لعقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة، والتنمية، والسلم. عقد عام 1975م/1395. واعتبر ذلك العام: العام العالمي للمرأة. واعتمد فيه أول خطة عالمية متعلقة بوضع المرأة.
2- في عام 1399هـ – 1979م عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤتمراً تحت شعار (القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة) وخرج المؤتمرون باتفاقية تتضمن ثلاثين مادة وردت في ستة أجزاء، للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة. وجاءت هذه الاتفاقية لأول مرة بصيغة ملزمة قانونياً للدول التي توافق عليها، إما بتصديقها أو بالانضمام إليها. وقد بلغ عدد الدول التي انضمت إلى هذه الاتفاقية مائة وثلاثاً وثلاثين دولة، إلى ما قبل مؤتمر بكين عام 1995م.
3- في عام 1400هـ –1980م عقدت الأمم المتحدة (المؤتمر العالمي لعقد الأمم المتحدة للمرأة : المساواة والتنمية والسلم) وهو المؤتمر الثاني الخاص بالمرأة؛ وذلك لاستعراض وتقويم التقدم المحرز في تنفيذ توصيات المؤتمر العالمي الأول للسنة الدولية للمرأة والذي عقد عام 1395هـ - 1975م في المكسيك، ولتعديل البرامج المتعلقة بالنصف الثاني من العقد الأممي للمرأة، مع التركيز على الموضوع الفرعي للمؤتمر: العمالة والصحة والتعليم.
4- في عام 1405هـ – 1985م عقد (المؤتمر العالمي لاستعراض وتقييم منجزات عقد الأمم المتحدة للمرأة : المساواة والتنمية والسلم) في (نيروبي) بكينيا – المؤتمر الثالث الخاص بالمرأة – الذي عرف باسم (إستراتيجيات نيروبي المرتقبة للنهوض بالمرأة) وذلك من عام 1406-1420هـ/ 1986حتى عام 2000م.
5- في عام 1416هـ – 1995م عقدت الأمم المتحدة (المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة)، في (بكين) بالصين. وقد دعت فيه إلى مضاعفة الجهود والإجراءات الرامية إلى تحقيق أهداف استراتيجيات نيروبي التطلعية للنهوض بالمرأة بنهاية القرن الحالي.
بالإضافة إلى هذه المؤتمرات الخاصة بالمرأة فهناك مؤتمرات أقامتها الأمم المتحدة خاصة بالسكان، إلا أنها ناقشت - من ضمن وثائقها - قضايا متعلقة بالمرأة، هي:
1- في عام 1394هـ – 1974م أقيم المؤتمر العالمي الأول للسكان (بوخارست – رومانيا)، وقد اعتمدت في هذا المؤتمر خطة عمل عالمية.
2- في عام 1404هـ – 1984م أقيم المؤتمر الدولي المعني بالسكان) في (مكسيكو سيتي – بالمكسيك).
3- في عام 1415هـ – 1994م أقيم المؤتمر الدولي للسكان والتنمية) في (القاهرة) بمصر.
كما أقيمت مؤتمرات أخرى للأمم المتحدة نوقشت فيها بعض قضايا المرأة، من هذه المؤتمرات:
1- المؤتمر العالمي لتوفير التعليم للجميع، والمنعقد في (جومتيان-تايلند) عام 1410هـ –1990م.
2- مؤتمر القمة العالمي من أجل الطفل، والمنعقد في (نيويورك – الولايات المتحدة الأمريكية) عام 1410هـ – 1990م.
3- المؤتمر العالمي للبيئة والتنمية، والمنعقد في (ريودي جانيرو-البرازيل) عام 1412هـ – 1992م.
4- المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في (فينا – النمسا)، أو ما يسمى إعلان وبرنامج عمل فينا، عام 1413هـ – 1993م. وطالب هذا المؤتمر الأمم المتحدة بالتصديق العالمي من قبل جميع الدول على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة بحلول عام 1420هـ –2000م.
5- إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن القضاء على العنف ضد النساء، وذلك في عام 1413هـ – 1993م.
6- مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية، الذي أقيم في (كوبنهاجن – الدنمارك) عام 1415هـ – 1995م.
7- مؤتمر الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (الموئل الثاني )، الذي انعقد في (إستنبول – تركيا) عام 1416هـ – 1996م.
8- مؤتمر الأمم المتحدة للمرأة عام (1420هـ -2000م) المساواة والتنمية والسلام في القرن الحادي والعشرين، الذي انعقد في (نيويورك – الولايات المتحدة الأمريكية). ويعتبر أهم هدف في هذا المؤتمر هو: الوصول إلى صيغة نهائية ملزمة للدول، بخصوص القضايا المطروحة على أجندة هذا المؤتمر، التي صدرت بحقها توصيات ومقررات في المؤتمرات الدولية السابقة، تحت إشراف الأمم المتحدة.
ولأهمية هذا المؤتمر - وتعويل التيار النسوي العالمي عليه –؛ فقد أقيمت عدة مؤتمرات إقليمية لمتابعة توصيات مؤتمر بكين، والتمهيد لهذا المؤتمر المسمى: (( المؤتمر التنسيقي الدولي للنظر في نتائج وتطبيق قرارات المؤتمرات الأممية للمرأة)). ومن هذه المؤتمرات الإقليمية:
1- اجتماع في نيويورك في شهر مارس عام 2000م، تحت شعار [ بكين +5] (إشارة إلى السنوات الخمس التي مضت على مؤتمر بكين)، جرت في هذا الاجتماع محاولة لإدخال تعديلات على وثيقة مؤتمر بكين.(/4)
2- المؤتمر النسائي الإفريقي السادس في نوفمبر 1999م في أديس أبابا، نظمه المركز الأفريقي التابع للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية.
3- مؤتمر – شبيه لما سبق – في عمان بالأردن، وفي بيروت، وذلك في أواخر عام (1420هـ -1999م)، نظمته اللجنة الاجتماعية والاقتصادية لغرب آسيا، التابعة للأمم المتحدة.
وهكذا يظهر - بوضوح - اهتمام الأمم المتحدة القوي بالمرأة وقضاياها، من خلال هذا العدد الهائل من الاتفاقيات والمؤتمرات العالمية التي تقيمها، وتشرف على صياغة وثائقها عبر المنظمات والوكالات التابعة لها.
[ انظر: العدوان على المرأة في المؤتمرات الدولية. فؤاد العبد الكريم]
* * *
"المرأة في المؤتمرات الدولية"؟! [2/2]
د. لطف الله خوجه 8/7/1427
02/08/2006
القرارات والتوصيات
تحليل ومناقشة القرارات
الختام
* * *
القرارات والتوصيات
ليس ما يؤخذ على هذه القرارات ينحصر في مخالفته لصريح الدين الإسلامي، وكافة الأديان؛ فإن فيها بنودا تعد انقلابا على ثقافات كافة الشعوب، منذ بدء التاريخ الإنساني..!!.
إنهم يبتغون تغيير وجه العلاقة بين الجنسين كليا.. بعد أن غيروه جزئيا، وأدخلوا على الشعوب أخلاقا وثقافات لم تعرف إلا في المجتمعات البدائية، الجاهلة بكل أنواع العلوم، والآداب، والأذواق، التي كانت تتمتع بها المجتمعات المتحضرة.
فهي توجهات تخالف: الفكر الإنساني، والطبيعة الإنسانية، والتاريخ الإنساني.
فمشكلتهم ليست مع المسلمين، ولا الإسلام، إنما مع كل العقلاء وأصحاب الفكر السليم في شعوب العالم.
وهذه جملة من هذه القرارات، ليست على سبيل التتبع، وإنما قلنا: قرارات؛ كونها ليست مجرد توصيات، بل صيغت لتنفذ، ولو بالضغط، وربما الحرب مستقبلا ؟!!..:
* * *
1- في تقرير المؤتمر الدولي للسكان، في مكسيكو سيتي (1984-1404):
"ينبغي أن تكون السياسات الأسرية - التي تعتمدها، أو تشجعها الحكومات – حساسة؛ للحاجة إلى ما يلي:
- تقديم الدعم المالي، أو أي دعم آخر إلى الوالدين – بما في ذلك الوالد غير المتزوج، أو الوالدة غير المتزوجة خلال الفترات التي تسبق أو تلي ميلاد الطفل…
- مساعدة الزوجين والوالدين الشُبّان – بما في ذلك الوالد غير المتزوج، أو الوالدة غير المتزوجة – في الحصول على سكن مناسب".
- "تعترف خطة العمل العالمية للسكان بالأسرة – بأشكالها المتعددة – باعتبارها الوحدة الأساسية للمجتمع، وتوصي بإعطائها حماية قانونية، والأسرة مرت – ولا تزال تمر – بتغيرات أساسية في بنيتها ووظيفتها".
- "ينبغي أن تبذل الحكومات المعنية جهودا لرفع سن الزواج في البلدان التي ما زال سن الزواج فيها منخفضة جدا".
- "تشجيع التثقيف المجتمعي؛ بغية تغيير المواقف الحضارية التي تقرر الحمل في سن مبكرة، اعترافا بأن حدوث الحمل لدى المراهقات – سواء كن متزوجات أم غير متزوجات – له آثار ضارة على معدل تفشي الأمراض والوفيات بين الأمهات والأطفال على السواء".
* * *
2- في تقرير المؤتمر العالمي للمرأة في كوبنهاجن (1400هـ- 1980):
- "ينبغي الإسهام في إحداث تغيير في المواقف بالقضاء على الأنماط التقليدية لدوري الرجل والمرأة، والعمل على خلق صور جديدة أكثر إيجابية عن مشاركة المرأة في الأسرة وسوق العمل، وفي الحياة الاجتماعية والعامة".
- "فحص المناهج والمواد التعليمية؛ بغية إزالة ما قد يكون فيها من تحيز جنسي، وإزالة الصورة التقليدية لأدوار الفتيات والنساء، والعمل على إيجاد موارد ومواد للمناهج التي لا تميز بين الجنسين".
- "تعزيز سبل وصول الفتيات إلى المهن التي يسيطر عليها الذكور في العادة".
- "تفسر المساواة هنا: على أنها لا تعني فقط المساواة القانونية، والقضاء على التمييز القانوني، ولكنها تعني أيضا المساواة في الحقوق، والمسؤوليات، والفرص المتعلقة بإشراك المرأة في التنمية".
- "توفير المساعدة اللازمة لإقامة تعليم مختلط، متى كان ذلك ممكنا، وتوفير معلمين مدربين من كلا الجنسين".
-
* * *
3- في تقرير المؤتمر الدولي للسكان والتنمية في القاهرة (1415هـ-1994):
- "ينبغي أن تقوم الحكومات، والمنظمات غير الحكومية، والقطاع الخاص بالاستثمار في جميع جوانب الصحة الإنجابية، بما في ذلك تنظيم الأسرة، والصحة الجنسية، وتعزيز ذلك ورصده وتقييمه".
- "إن من الأمور الأساسية تحسين الاتصال بين الرجل والمرأة، فيما يتعلق بقضايا الحياة الجنسية والصحة الإنجابية".
- "تشجيع التطوير المناسب للحياة الجنسية المسؤولة، بما يسمح بوجود علاقات المساواة والاحترام المتبادل بين الجنسين، ويسهم في تحسين نوعية حياة الأفراد".
- "ينبغي العمل على إتاحة الرفالات والعقاقير للوقاية من الأمراض المنقولة عن طريق الاتصال الجنسي، وتوفيرها على نطاق واسع، وبأسعار متهاودة، مع إدراجها في جميع قوائم العقاقير الأساسية".
- "منع حالات الحمل غير المرغوب فيه".
- "ينبغي للمجتمع الدولي أن يتحرك من أجل توريد وسائل منع الحمل".(/5)
- "المراهقات اللاتي يحملن يحتجن إلى دعم خاص من أسرهن ومجتمعهن المحلي، خلال فترة الحمل ورعاية الطفولة المبكرة".
- "توجد أشكال مختلفة للأسرة تبعا لاختلاف النظم الثقافية، والسياسية، والاجتماعية".
- "اشتراك المرأة اشتراكا كاملا، وعلى قدم المساواة في الحياة: المدنية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية. على كل من الصعيدين الوطني، والإقليمي، والدولي. وإزالة جميع أشكال التمييز على أساس الجنس، هما من الأهداف التي تحظى بالأولوية لدى المجتمع الدولي".
- "ينبغي إزالة أوجه الجور والحواجز القائمة، التي تقف أمام المرأة في مكان العمل".
* * *
4- في تقرير المؤتمر العالمي للمرأة في بكين (1416هـ-1995):
- "محدودية ما يتمتع به كثير من النساء من سلطان على حياتهن الجنسية والإنجابية، والافتقار إلى التأثير في عملية صنع القرار، هي من الحقائق الاجتماعية التي تترك أثرا معاكسا على صحة المرأة".
- "المواقف السلبية تجاه المرأة أو الفتاة، والقدر المحدود من سيطرة كثير من النساء والفتيات على حياتهن الجنسية والإنجابية".
- "للمرأة حقها في أن تتحكم، وأن تبت بحرية ومسؤولية، في المسائل المتصلة بحياتها الجنسية".
- "توجد أشكال مختلفة للأسر في النظم الثقافية، والسياسية، والاجتماعية المختلفة".
- "وضع سياسات في مجال التعليم تتناول – في جملة أمور – تغيير الاتجاهات التي تعزز تقسيم العمل على أساس نوع الجنس، بغية تعزيز مفهوم اقتسام المسؤوليات الأسرية في العمل، وفي المنزل".
- "ينبغي تعزيز الاستقلال الاقتصادي للمرأة، بما في ذلك توفير فرص العمل لها".
- "سنّ وتعزيز القوانين التي تقر بتكافؤ الفرص، واتخاذ إجراءات إيجابية في هذا الشأن، وضمان الامتثال لها من جانب القطاعين العام والخاص، باتباع أساليب مختلفة".
- "بلوغ الهدف المشترك، المتمثل في تحقيق المساواة بين الجنسين، في جميع أنحاء العالم".
- "تعزيز المشاركة الكاملة، والمتساوية للبنات في الأنشطة غير المدرسية، مثل الألعاب الرياضية، والأنشطة المسرحية، والثقافية".
* * *
5- في تقرير المؤتمر العالمي للمرأة في نيروبي (1405هـ-1985):
- "وتسليما بأن الحمل الذي يحدث للمراهقات – سواء المتزوجات منهن أو غير المتزوجات – لها آثار معاكسة، بالنسبة لأمراض الأم والطفل ووفياتهما، يهاب بالحكومات أن تضع سياسات لتشجيع التأخير في إنجاب الطفل".
- "هناك حاجة إلى استبعاد عبارات مثل (رب الأسرة)، وإدخال عبارات أخرى على درجة من الشمول تكفي للتعبير عن دور المرأة – على نحو مناسب – في الوثائق القانونية، ضمانا لحقوقها".
- "على الحكومات أن تشجع المشاركة الكاملة للمرأة، في مجموع المهن، خاصة في الميادين التي كانت تعتبر – فيما سبق- وقفا على الرجال؛ بغية تحطيم الحواجز والمحظورات المهنية. وينبغي ورضع برامج لتحقيق المساواة في العمالة؛ من أجل إشراك المرأة في جميع الأنشطة الاقتصادية على قدم المساواة مع الرجل".
- "ينبغي أن تزال إزالة تامة العقبات التي تعترض تحقيق المساواة بالنسبة للمرأة، التي تتسبب فيها القوالب النمطية الجامدة، والتصورات والمواقف تجاه المرأة، وتتطلب إزالة هذه الحواجز، بالإضافة إلى التشريع".
- "ينبغي تشجيع الأخذ بطرائق جديدة في التعليم؛ للتدليل – بوضوح – على المساواة بين الجنسين. كما يجب أن تكون البرامج، والمناهج الدراسية، ومستويات التعليم، والتدريب واحدة بالنسبة للذكور والإناث".
[ العدوان على المرأة في المؤتمرات الدولية. فؤاد العبد الكريم]
* * *
تحليل ومناقشة القرارات
تلخص تلك القرارات فيما يلي:
1- المساواة بين المرأة والرجل مساواة كلية، في كافة الحقوق. وهذا البند عامل مشترك في جميع القرارات الصادرة من هذه المؤتمرات، منذ البدايات.
2- مطالبة الدول بإقرار الحرية الجنسية لغير المتزوجين، من الجنسين، حتى الصغار من المراهقين والمراهقات، وبتقديم الرعاية لهم، في الوقاية، والصحة، والسكن، ودعوة الأسر باحتضانهم.
3- في الوقت نفسه: مطالبة الحكومات برفع سن الزواج..؟!!!.
4- إباحة الشذوذ الجنسي وهو: زواج الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة. تحت مسمى "الأشكال المختلفة للأسرة"، ويدخل تحت هذا المسمى أيضا الأسرة من رجل وامرأة لا تربطهما علاقة شرعية.
5- إلغاء مفهوم "رب الأسرة"، بما يعني إلغاء قوامة الرجل على المرأة.
6- الدعوة إلى الاختلاط بين الجنسين في الأعمال وغير ذلك.
7- وضع سياسات لتغيير الاتجاهات التي تعزز تقسيم العمل على أساس الجنس.
8- تغيير المناهج التعليمية، وإيجاد مناهج لا تميز بين الجنسين.
9- تسخير وسائل الإعلام والمناهج التعليمية لتثقيف المجتمع بالنواحي الجنسية، والمساواة.
ولن نناقش في هذه المحاولة، سوى المسائل التي تلتبس على بعض الناس، مثل: المساواة، ورب الأسرة، والاختلاط. أما الشذوذ، والحرية الجنسية، فهي انحرافات جلية.
* * *
أولا: المساواة:(/6)
جاء في مؤتمر بكين: "بلوغ الهدف المشترك، المتمثل في تحقيق المساواة بين الجنسين، في جميع أنحاء العالم".
----
أول استعمال لهذا المبدأ حدث في شعار الثورة الفرنسية: حرية، إخاء، مساواة.
حينها كان أمنية تمناها جميع من عانى من: الأنظمة الملكية الدكتاتورية، والسلطة البابوية، والاضطهاد الإقطاعي. حيث حرمت شعوب أوربا من أبسط حقوقها، التي استأثر بها جمع من المتسلطين.
كان الشعار جميلا، لكن أحدا لم ينفذ إلى العمق، ليدرك كنهه وماهيته..!!.
لم يسأل أحد: في أي شيء تكون المساواة ؟:
أمساواة بين العالم والجاهل ؟، أمساواة بين المجتهد والكسول ؟، أمساواة بين العامل والعاطل ؟.
أم مساواة بين الناس في الحقوق العامة الأساسية: كالسكن، والعمل، والتعليم، وإبداء الرأي ؟.
قدر من المساواة مطلوب، لا شك.. هي التي لا تصلح حياة الإنسان وكرامته من دونها.
فأما المساواة المطلقة فظلم ظاهر: ظلم أن يساوى في المكافأة بين العامل والمهمل، والعالم والعامي. لكن ذلك الشعار لم يفصل، ولم يبين حدود المساواة، بل أطلق، ليبقى محل الجدل والتوهم، والاستعمال السيء إذا لزم.
ولما أرادت الشيوعية المساواة بين الناس في ذلك: كان من نتيجتها تراجع الإنتاج، وضعف الاقتصاد. فأي شيء يغري الإنسان في العمل الجاد، إذا كان ما يعطاه في الآخر، هو ما يعطاه المتواني في عمل ؟!.
ولو عدنا إلى المساواة بين الرجل والمرأة: نجد التضليل ذاته يعاد ويكرر هنا..!!.
فكيف يساوى مساواة مطلقة، بين اثنين مختلفين في الجنس، ولو اتفقا في النوع ؟!.
هذا شيء يخالف: الخلقة، والجبلة، والفطرة، والعقل، والدين..!!.
المرأة في شكلها، وتكوينها، وروحها، وعقلها شيء آخر غير الرجل.. والوظائف تختلف تبعا لذلك؛ ولذا نرى المرأة لا تقوى على كثير من أعمال الرجل، خاصة الشاقة منها.
ونحن نتحدث عن مساواة مطلقة، هي التي تدعو إليها هذه القرارات. أما المقيدة، فقد تقدم أن قدرا من المساواة مطلوب، تلك التي تكون في الحقوق العامة، التي لا تصلح حياة الإنسان وكرامته إلا بها.
وفي المساواة المطلقة انتهاك لحياة المرأة وكرامتها؛ فعندما تطالب المرأة أن تكون رجلا، فهذا انتهاك ظاهر لأنوثتها، الذي تعتز بها، وليس من امرأة إلا وتعتز بأنوثتها، وليس في أمانيها أن تصبح رجلا.
فالمطالبة بمساواتها المطلقة بالرجل لا يكون إلا بأحد أمرين:
- إما أن تترك أنوثتها، لتكون ذكرا حقيقة لا مجازا، وهذا مستحيل.
- وإما أن يترك الرجل رجولته، ليكون أثنى حقيقة لا مجازا، وهذا مستحيل أيضا، وهم لا يدعون إليه.
نعم.. هذه القرارات تطلب من المرأة أن تكون رجلا، والدليل:
- أنها تقرر أن المرأة لها أن تعمل نفس عمل الرجل، وفي أعماله أشياء لا تطيقها المرأة، إلا أن تكون رجلا
- أنها تقرر سلب قوامة الرجل عليها، لتكون شريكا له، وفي هذا مساواته بالرجل.
- هذه القرارات تخرج المرأة من طبيعتها، ولا تخرج الرجل من طبيعته، لم تطلب من الرجل أن يدع عمله، واختصاصه، بل طلبت من المرأة أن تدع عملها، واختصاصها، لتتولى مهام مثل مهام الرجل، بغير فرق.
وأكبر دليل على استحالة حصول هذه المساواة بهذا المفهوم المقرر:
أن الغرب أول من دعا لمثل هذا المفهوم، منذ ما يزيد على القرنين، من حين بدء الثورة الصناعية، وإلى اليوم لم تنل المرأة الغربية القدر المطلوب الحسن من هذه المساواة، دع عنك المطلقة منها، فعلى سبيل المثال:
- أجرها على النصف والثلث من أجر الرجل، وهي تقوم بالعمل نفسه الذي يقوم به للرجل.
ومثل هذا الظلم لا يوجد في كثير من البلدان، خاصة الإسلامية، التي تحصل فيها المرأة على كامل حقوقها المالية، مثل الرجل بلا فرق.
حقيقة الأمر: أن الدعوة إلى حقوق المرأة ومساواتها بالرجل لم يكن الغرض منه سوى:
- رفع قوامة الرجل عنها.
- وأن تمنح حريتها الجنسية، لتتمتع بجسدها وتمتع من شاءت.
- تحت حماية القانون، ورقابته.
- هذا هو الغرض.. لا غير.
ولا أدل على هذا من التركيز الشديد على مسألة الجنس، والحرية الجنسية للمرأة، في كافة المؤتمرات، وكثير من البنود والقرارات، فكثرتها ملفتة للنظر، يعطي دليلا على أن الغاية كلها تدور حول الجنس.
ولأن هذا هو الباعث للبحث في حقوق المرأة، فإن الغرب أكد ودلل على أن هذا هو هدفه وغايته؛ لما منح المرأة هذا الحق، كما هو تعبيرهم، ثم حرموها من الحقوق الأخرى، وفيها ما هو حق لها حقيقة، كمساواتها بالرجل في الأجور، وفيها ما هو من دعاواهم، كحقها في الترشح، والوزارة، والرئاسة، والقضاء، والمناصب العليا، والقيادات:
- فلو ذهبت تحصي عدد رؤساء الدول من النساء مدة قرن وزيادة، ما وجدت إلا واحدة أو اثنتين.
- أو وزيرات، ما وجدت شيئا يستحق الذكر.
- أو جنرالات حرب، وقادة عسكريين من النساء، لم تجد شيئا ذا بال.
- أو قاضيات، فأعداد لا تتناسب مع النسب النسوية.(/7)
ما وجدت إلا: سكرتيرات، عاملات نظافة، نادلات، بائعات هوى، بغايا، فتيات دعاية وإعلان، عارضات أزياء، ممثلات، مغنيات، كانسات للطرق، عاملات في المحطات، ممرضات، حاضنات، بائعات.
كلها أعمال متدنية، ليست راقية، ولا بأعمال وعدت بها المرأة، لما نودي بمساواتها بالرجل..!!.
فهل ظلمها الغرب، أو احتال عليها، أو نسي وعوده ؟!.
كل ذلك جائز، لكن الحقيقة أن المرأة نفسها لم تخلق لما كانوا يدعون إليه، ولو خلقت لمثل ذلك، لكسرت كل العوائق، ووصلت بكثافة نسائية إلى كل تلك المناصب التي حرمت منها، كما وصلت إلى ما دونها.!!.
الغرب أكبر شاهد على فساد هذه المؤتمرات وقراراتها:
- شاهد بأن شعار حقوق المرأة، لن يعطي المرأة إلا الحرية الجنسية، والتخلص من قوامة أبيها الشفيق، لتكون تحت قوامة كل عشيق، وكل محتال.
- شاهد بأن المرأة لن تصل إلى ما قيل لها أنها تصل إليه: إلى المساواة بالرجل.
- شاهد أنها ستشقى، وتخسر حنان البيت والأسرة، والأولاد، والأبوين، والإخوة والأخوات، لتعيش في غربة موحشة، وحياة فردية ليس فيها أنيس.
- شاهد أنها لن تجني من الحقوق إلا: الاغتصاب، والنصب، والاحتيال، وبيع الجسد، والتقوت بالشرف.
وهاهي هذه المؤتمرات تعيد الكرة من جديد، وهاهم الأوفياء لها يسعون في الأرض بهذه القرارات، لتنفذ، وهانحن نراها تسري بيننا كالسرطان، لا طبيب قادر على إيقافها، ولا دواء يمكن به علاجها..!!.
* * *
ثانيا: رب الأسرة.
جاء في مؤتمر نيروبي: "هناك حاجة إلى استبعاد عبارات مثل (رب الأسرة)".
----
في هذا العالم: لا يوجد مجتمع صغير أم كبير إلا وله: رئيس ومرؤوس.. مدير وموظفون.. ملك ورعية.. حاكم ومحكومون. من: المدرسة، إلى المؤسسة، إلى الشركة، إلى الدائرة، إلى الوزارة، إلى الدولة.
ولا أحد يجادل في هذه الوضعية، ولم نسمع بأحد عاقل ينادي بمدرسة بلا مدير، أو شركة بلا رئيس، أو دولة بلا حاكم؛ ولم نر فاهما يقترح وجود مديرين، أو رئيسين، في أي عمل مشترك، حتى في صنع الطعام.
والسبب بدهي لا يحتاج إلى تذكير؛ فتنظيم الأمر، والقضاء على الفوضى، وتحصيل الأهداف المرجوة من تلك الاجتماعات، لا تتم إلا بهذه الطريقة فقط.
ولو حصل اختلال لهذا الترتيب: حصل اللغط والفوضى، وانتفى الأمن والأمان، وتعطلت المصالح.
هذه المسلمة البدهية يريد هؤلاء المؤتمرون، ومن وراءهم: نقضها، وفسخها، وإقناعنا بضرورة وصلاحية ذلك لنظام الأسرة خصوصا، دون باقي الأنظمة.
لم الأسرة بالذات ؟!!..
أليست الأسرة مجتمعا كسائر تلك المجتمعات، تحتاج إلى مسؤول ورئيس قيّم ؟!.
أليست الأسرة أخطر المجتمعات وأهمها، من جهة التربية والإصلاح؛ فأغلب سنوات الطفل يكون فيها، يتلقى عنها، ويتعلم فيها، فإذا كانت صالحة، كان صالحا، وإلا فلا..
والأسرة لن تكون صالحة، ولن تعطي الطفل ما يحتاجه من الرعاية والتربية، إلا وهي في حال استقرار. فكيف للأسرة أن تنعم بالاستقرار مع إلغاء منصب الرئيس والمدير والمسؤول فيها ؟.
بل كيف يستقر حال الزوجين، ولا مسؤول في الأسرة، يكون فيصلا في كل خلاف ؟!.
فالمعادلة كما يلي:
- المقدمة الأولى: كل تجمع يحتاج إلى مدير.
- المقدمة الثانية: الأسرة نوع من أنواع التجمع.
- النتيجة: الأسرة تحتاج إلى مدير.
من نازع في هذه النتيجة، فأحد أمرين:
- إما أنه ينازع في المقدمة الأولى، فيزعم أن التجمعات لا تحتاج إلى مدير.
- وإما أنه ينازع في المقدمة الثانية، فيزعم أن الأسرة ليست نوعا من أنواع التجمع.
وحينئذ - في كلا الحالتين - فالنزاع في المسلّمات، ومن نازع في المسلّمات فلا يلومنّ إلا نفسه.
أما الذي يسلّم بهما - وليس له إلا هذا – فعليه وجوبا أن يسلّم بالنتيجة.
* * *
وإذا حصل التسليم بالنتيجة، فالأسرة لا بد لها من رب، فمن يكون هذا الرب ؟.
الجواب المنطقي: أحدهما: إما الزوج، أو الزوجة. ولا ثالث، وبعدئذ ينظر في أصلحهما لهذه المسؤولية.
فهل المرأة مهيئة لهذه المسؤولية، ومستعدة لها ؟.
وبعيدا عن العاطفة: هل المرأة قادرة على إدارة سفينة الأسرة، فتكون المخططة، والمنظمة، والمسؤولة عن تقويم الأولاد، وتأديبهم، والسعي في قوتهم، والإنفاق عليهم، وحمايتهم، وصونهم، والانتقال بهم من مكان إلى آخر، وعلاجهم، والذهاب بهم إلى الأطباء. مع أعبائها الأخرى، التي ليس في وسع الرجال القيام بها: من حمل، وولادة، ورضاع، وحضانة. وما يعتريها من نفاس، وحيض ؟.
ولا يعترض هنا: بأن ثمة نساء قادرات على كل هذا ؟.
فالمسألة المطروحة هنا: بحسب حال عموم النساء، وليس بحسب حال بعضهن. فعموم النساء هل يقدرن على القيام بهذه المهام المضنية، التي تحتاج إلى صبر طويل، وعمل شاق، وحزم وقوة ؟.
الجواب: كلا، عموم النساء عاجزات عن هذا، وليس هذا عيبا فيهن، بل عجزهن في القيام بهذه الأعمال، كعجز الرجل عن القيام بحضانة الطفل ورعايته، وكعجزه عن القيام بشؤون البيت، وتنظيمه وترتيبه.
عجز هنا، وعجز هناك.. واقتدار هنا، واقتدار هناك..(/8)
فالحكمة أن يكلف الإنسان بالعمل الذي يقدر عليه، وليس من الحكمة تكليفه بما لا يقدر عليه.
وقد جربت المرأة أن تتكلف عمل الرجل، لتكون شريكا له، فرجعت مقرة أنها لم تخلق لعمل كهذا، بل خلقت لأعمال البيت والأمومة، تلك الأعمال الجليلة، التي لازال المؤتمرون يكرهونها إليها، ويقبحونها في عينها، حتى صدقت، فجربت غيرها، فتيقنت أنها خدعت خدعة كبرى ..؟!!
وإن كنتم في ريب: فاسألوا العاملات، والموظفات، واللاتي اقتحمن أعمال الرجال ؟.
* * *
فإذا ثبت أن المرأة غير مؤهلة للقيام بدور رب الأسرة، فما بقي إلا الرجل ..!!.
ثم إن كون الرجل رب الأسرة، لا يخول له أن يتحكم تحكما مطلقا، ويكون جبارا دكتاتورا؛ فإن من أهم أسباب فشل المؤسسات والشركات، وأي نوع من أنواع التجمعات، وضعف إنتاجها، وإفلاسها، وعدم تحقيق أهدافها: أن يستبد المدير المسؤول بالأمر، فلا يكون لمن معه أي خيار، ولا مشورة، ولا رأي.
وكذا الأسرة، تفشل إذا اتبع ربها هذا الأسلوب..
فإذا قيل: إن الرجل بحكم أنه رب الأسرة، أساء استغلال منصبه هذا، فما كان من حل إلا إلغاء هذا المنصب، وجعله شراكة بينه وبين المرأة، ضمانا لعدم تكرار المشكلة.
فيقال: إذن طبقوا هذه القاعدة المحدثة على: المدارس، والمؤسسات، والوزارات، والدول.
فإن فيها من الفساد والاستغلال شيئا لا يخفى، واعقدوا المؤتمرات، وأصدروا القرارات والتوصيات بجعل الإدارة في هذه التجمعات شراكة بين الأعضاء، ليس لها رئيس.. فهل سيفعلون ؟.
كلا، والسبب ظاهر: إنهم يريدون الأسرة، فقط الأسرة..!!.
أما غيرها فلهم لمشكلاتها حلول أخرى، ليس منها إلغاء مفهوم: "رب العمل".. ؟!!! .
* * *
ثالثا: الاختلاط.
جاء في مؤتمر كوبنهاجن: "توفير المساعدة اللازمة لإقامة تعليم مختلط".
جاء في مؤتمر القاهرة: "ينبغي إزالة أوجه الجور والحواجز القائمة، التي تقف أمام المرأة في مكان العمل".
-----
يعنون بالاختلاط: تعليم وعمل مشترك بين الجنسين. وهو ضد الفصل في هذا النشاطات.
فهل من حقوق المرأة أن تختلط بالرجال ؟.
الحقوق – كما تقدم – هي: التي لا تصلح حياة الإنسان وكرامته إلا بها.
فهل حياة المرأة لا تصلح، وكرامتها لا تتم إلا بأن تخالط الرجال في التعليم، والعمل ؟.
ما الذي تخسره المرأة إن هي تباعدت، فتعلمت، وعملت في بيئة نسائية خاصة ؟.
وما الذي تكسبه إن اختلطت بالرجال ؟.
ولو فرض أن للاختلاط مكاسب، مثلما ما يقال: اكتساب الخبرة، والمعرفة، والثقة، والاحترام.
فما نسبة هذه المكاسب إلى الخسائر ؟!..
أو لا خسائر في الاختلاط ؟!!.
أو خسائر تغتفر في بحور المكاسب ؟!!.
مسائل لا بد من الإجابة عنها بصدق، ونصح؛ فتجارب الاختلاط عرفتنا بالمكاسب والخسائر، وصار من السهل جدا المقارنة بينهما، فأصحاب الشأن، أولئك الذين خاضوا تجربة الاختلاط – خصوصا النساء – كل يوم يحكون للعالم عن تجربتهم، فماذا يقولون ؟.
إنهم يحذرون من الاختلاط، ويدعون إلى الفصل بين الجنسين:
- فها هو الرئيس الأمريكي جورج بوش يدعو إلى الفصل بين الطلاب والطالبات في المدارس.
- وهاهو وزير التربية الأمريكي ينادي بالفصل بين الذكور والإناث في المدارس.
- وهاهي المدارس والكليات والمعاهد الخاصة بالإناث تنتشر في الولايات المتحدة الأمريكية، وتنتشر كذلك في دول أوربا.
- وكثير من الكتّاب والكاتبات وأصحاب الفكر في الغرب يحذرون من الاختلاط في التعليم: [انظر: مقولاتهم، ودراساتهم في كتاب: العدوان على المرأة في المؤتمرات الدولية. ص232-239]
- كما يحذرون من العمل المختلط. [انظر: مقولاتهم، ودراساتهم في كتاب: العدوان على المرأة في المؤتمرات الدولية. ص311-318. كذلك كتاب: عمل المرأة في الميزان. لمحمد علي البار]
بعد تجربة دامت أكثر من قرنين يرتدون عن وصايا فرويد ونظرياته حول الكبت..!!.
فما الذي حصل ؟.
- الذي حصل: انتشار حالات الاغتصاب من الذكور للإناث، في كل مكان، حتى في دورات المياه.
- الذي حصل: تدني مستوى التحصيل عند الجنسين، لاشتغال كل جنس بلفت نظر الآخر.
- الذي حصل: حمل الفتيات سفاحا في سن مبكرة، ودخولهن عالم الأمومة، وحالات الإجهاض.
- الذي حصل: ظلم المرأة، وابتزازها، وتحطيم معنوياتها، واستغلال جسدها.
- الذي حصل: تحرش جنسي من الرئيس للموظفة، والمدير للمعلمة.
- الذي حصل: آلام ومشاكل نفسية عانت منها الفتاة، والمرأة، ولازمتها طيلة الحياة.
هذه الأمور هي التي أعادوا لأجلها النظر في الاختلاط بين الجنسين.. والسلبيات غير هذه كثيرة، لكنهم وبحسب فهمهم للحريات، لا تعنيهم تلك السلبيات كثيرا.
فهذه هي الخسائر، إزاء ما يمكن اعتباره مكاسب، فأين هذه من هذه ؟.
المشكلة تكمن في: أن الغرب يدرك هذه المخاطر، ثم هو يوجه هذه المنظمات لتكرار تجربته في دول أخرى.(/9)
مما يدل على أن ثمة أيدٍ تعمل على نشر سلبيات وأخطاء الغرب، لتعم العالم كله، لتؤدي الدور نفسه التي أدته في الغرب، وتتجرع الشعوب نفس الداء الذي تجرعه الغرب.
* * *
إن معرفة الآثار السيئة للاختلاط لا تتوقف على التجربة، فنفس معرفة طبيعة الرجل، ونظرته إلى المرأة، وافتتانه بها، وطلبه إياها.. ومعرفة طبيعة المرأة، وميلها إلى الرجل، وإغرائه: يكفي في إدراك خطر الاختلاط.
لكنا صرنا في زمن نناقش فيه البدهيات:
- لإقناع من ذهبت عقولهم من رؤسهم، فما عادوا يميزون بين البدهي، والذي يحتاج إلى برهان.
- ولإبطال حجج من فسد سلوكهم، فصاروا يدللون مع على محاسن الاختلاط، مع كونهم أول من يعرف خطره، لكنهم يحبون ذلك..!!.
كل عاقل يدرك فتنة الرجل بالمرأة، والعالم كل يدرك؛ وآية ذلك: استعمالها أداة للإغراء في الدعايات، والأفلام، والأزياء، والبضائع. ولجلب الزبائن إلى المحلات، والمؤسسات، والشركات.
وكل إنسان يدرك أن المرأة تنجذب إلى الرجل؛ وآية ذلك: سعيها في الزينة كلما خرجت ودخلت.
وإذا كان كذلك: فما يكون إلا اجتمعا ؟.
لا ريب يكون مقدمات العلاقة الجنسية: نظر، وتأمل، وتحرش.. إلخ، وربما وقع المحذور نفسه.
وفي كل مجتمع مختلط يعيش كلا من الرجل والمرأة حالة نفسية من التجاذب، فإما أن يميل، وإما أن يتحمل من الهوى ما يتحمل..
فلم هذا العناء، من أمر أقله أحواله: تعب النفس، وانشغال الخاطر، ووساوس الشيطان الرجيم.؟.
وفي مقابله لا مكاسب تذكر، بل تراجع وضعف في التحصيل، والإنتاج.. ثم إباحية، وعلاقة غير مشروعة، وحمل مبكر، وإجهاض، وأولاد لقطاء، يحرمون حنان الأسرة، والأبوّة، والأمومة. وأمراض نفسية واجتماعية، وحقد على المجتمع، وانتقام، وأجيال لا تعرف القيم والفضائل..؟!!.
* * *
الختام
المرأة.. ذاك المخلوق، شقيق الرجل، الذي يمثل ما لا يقل عن نصف سكان العالم: شغل الجميع بقضيته، فليس لهم إلا الحديث عن المرأة: ماذا فعلت ؟، وماذا ستفعل ؟، ومتى وكيف ستفعل ؟.
أما هي فكما قال المتنبئ:
أنام ملء جفوني عن شواردها***ويسهر الخلق جراها ويختصم
وهذا قاله على سبيل الفخر، حيث ينظم المعاني ويلقيها، ثم يترك الخلق يسهرون عليها، ويختصمون فيها.
أما هي فقد أسهرت الخلق، وهي لا تدري.. وهم يختصمون فيها، وهي لا تعلم !!.
فالرجل هو الذي يأخذ بقضيتها، فيرعاها ويحميها، أو يضيعها ويفسدها.. وهي تتبع خطواته، ليس لها غير ذلك.. هذا هو الواقع ..!!.
- فهل في هذا تأكيد على مبدأ: قوامة الرجل ؟.
فهذا هو طبعها وجبلتها: خضوعها للرجل. حتى لو أنكرت ذلك، فهذا مصيرها، وقدرها.
- أم تأكيد على وصفها بكونها: من الغافلات ؟.
وهذا وصف سيق في معرض المدح لها: "إن الذين يرمون المحصنات الغافلات .."؛ أي الغافلة عن الشر.
في كل حال، وفي مثل هذه الأحوال: ينبغي على المرأة أن تكون يقظة، حذرة. ترعى قضاياها بنفسها، وتهتم لشؤونها قبل غيرها. ولا ينبغي لها أن تقف موقف الناظر لما تصير إليه الأمور المتعلقة بها ..!!.
إن كل ما يطرح اليوم من قضايا تتعلق بحقوق المرأة: قد عرفت آثارها، وسلبياتها، ومفاسدها.
فأمم قد جربت.. ودول قد وقعت.. ونساء وفتيات قد تحررن، واختلطن، وفعلن كل ما يحلو لهن.
مرّ على التجربة أكثر من قرن، وكل خفايا التجربة ظاهرة، بمقدور كل فتاة أن تصل إليها، دون أية مشقة، لتعرف من خلالها: ما الذي يحدث لها: إن هي تبعت، وقبلت مثل هذه القرارات، والتوصيات.
والتجميل والتزيين لوجه كالح، أسود، متجعد: لا يخدع إلا النائم، الغافل، أو فاسد النظر، مريض القلب.
وقد صيغت كلمات هذه المؤتمرات بجمل وكلمات تخدع، وتعمي. اتخذت مظهر الحريص، وصورة الناصح، فخليت من التجريح، ومن التصريح. وعرضت كل تلك الموبقات تحفها: الزهور، والورود، والعطور.
- وكم من سمّ وضع في عسل.
- وكم من حية أخفيت بين جواهر ودرر.
غير أن هذه السموم صارت اليوم بادية؛ للتجربة.. والحيات ظاهرة؛ كذلك للتجربة.
- هي معركة المرأة: تكون، أو لا تكون..
- معركة فضيلة، ورذيلة.
- معركة حياة، وبقاء.
- معركة دين، ولا دين.
* * *(/10)
المرأة في حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ... ... ...
لقد كان للمرأة دور بارز وخطير في مسيرة الدعوة الإلهية وحركة الأنبياء والمرسلين (عليهم الصلاة والسلام)، فقد ساهمت المرأة في الكفاح الفكري والسياسي، وتحمّلت التعذيب والقتل والهجرة وصنوف المعاناة كلّها والإرهاب الفكري والسياسي والجبروت، وأعلنت رأيها بحريّة، وانضمّت الى الدعوة الإلهية رغم ما أصابها من خسارة السلطة والجاه والمال، ولحوق المطاردة والقتل والتشريد والإرهاب بها، فها هي مريم اُمّ المسيح التي عظّمها القرآن كما عظّمها نبيّ الإسلام محمّد (صلى الله عليه وسلم)، فقد أثنى القرآن في آيات عديدة على هذه المرأة النموذج وهو يقدِّمها مثلاً أعلى للرّجال، كما يقدِّمها مثلاً أعلى للنّساء ليقتدى بسلوكها واستقامة فكرها وشخصيّتها .
والذي يدرس تأريخ المرأة في الدعوة الإلهية، يجدها جهة للخطاب كما هو الرّجل، من غير أن يفرِّق الخطاب الإلهي بينهما بسبب الذكورة والأُنوثة .
وبدراسة عيّنات تأريخية من حياة النساء في مسار الدعوة الالهية، نستطيع أن نفهم الموقع الرائد والفعّال الذي شغلته المرأة في حياة الأنبياء ودعواتهم، فتتجلّى قيمة المرأة في المجتمع الإسلامي، ومشاركتها الفكرية والسياسية، وحقوقها الإنسانية والقانونية، نقرأ هذه المشاركة المتقدِّمة والواسعة عندما نقرأ قصّة كفاح أبي الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) ضدّ قومه في بابل، في أرض العراق، ومصارعتaه النمرود، ذلك الصراع الذي انتهى بنجاة إبراهيم (عليه السلام) من النار بمعجزة الهية تفوق تصوّرات العقل المادي، ممّا دعاه الى الهجرة الى بلاد الشام، فكانت سارة زوجته والمؤمنة بدعوته رفيقة جهاده، وصاحبته في هجرته الى الشام، ثمّ الى مصر، ليعودا مرّة أخرى الى الشام فيستقرا هناك؛ وليبدأ فصل من أعظم فصول تاريخ الإنسان على يد النبيّ إبراهيم (عليه السلام) تسانده زوجه سارة، وتقف الى جنبه في جهاده ومعاناته وهجرته .
ويتحدّث القرآن عن قصّة الهجرة والحياة الأسرية هذه، كما يتحدّث عن دور هاجر الزوجة الثانية لإبراهيم (عليه السلام) ومشاركتها في كتابة الفصل المضيء من تاريخ الإنسان في أرض الحجاز، في مكّة المكرّمة، حيث جاء بها من مصر .
لقد كانت قصّة هذه المرأة من أشهر قصص التاريخ، وأكثرها غرابة، وأعظمها كفاحاً وصبراً، فتألّقت في سماء التأريخ من خلال احتضان ابنها النبيّ اسماعيل، في واد غير ذي زرع عند البيت المحرّم، ليكون أباً لاعظم نبيّ في تأريخ البشرية، وهو محمّد (صلى الله عليه وسلم)، ويسجِّل القرآن تلك الحوادث بقوله : (ربِّ إنِّي أسكنتُ مِن ذريّتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ) . (ابراهيم / 37)
ويتحدّث القرآن عن اُمّ موسى (عليه السلام) وتلقّيها للتلقين والتوجيه الإلهي الذي اُلقي في نفسها، لتحفظ موسى (عليه السلام) من ظلم فرعون، وتكريمها العظيم بإعادته (عليه السلام) لها؛ لتكون اُمّ النبيّ المنقذ، الذي حطّم بمساعدة الهية أعظم طاغوت في تأريخ البشرية. يعرضها القرآن محوراً أساسياً في صنع هذه الحوادث، ثمّ يتحدّث عن زوجة فرعون (آسيا) وعن مريم اُم المسيح عيسى (عليها السلام) ويعرضهما نموذجاً ومثلاً أعلى لأجيال البشرية، بقوله :
(وضربَ اللهُ مثلاً للّذينَ آمنوا امرأةَ فرعون إذ قالت ربِّ ابن لي عندكَ بيتاً في الجنّةِ ونجِّني من فرعونَ وعمله ونجِّني من القوم الظالمين * ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربِّها وكتبه وكانت من القانتين).(التحريم/11 ـ 12)
لنقرأ هاتين الآيتين، ولنتأمّل بمحتواهما الفكري الرائع الذي تحدّث عن شخصية المرأة بإجلال واحترام، ليس بوسع أيّة حضارة ماديّة أن تمنحهما لها . فقد قدّم القرآن المرأة الصالحة مثلاً عمليّاً للرِّجال والنِّساء، وطالبهم بالاقتداء بها . جاء ذلك في قوله : (وضرب الله مثلاً للّذين آمنوا )انّ عبارتي (ضرب الله مثلاً ) و(للّذين آمنوا ) كما هي واضحة، تبرزان لنا مفهوماً حضارياً إيمانياً فريداً في عالم الفكر والحضارة الخاص بالمرأة الصالحة؛ فقد جعلها مثلاً أعلى، وقدوة للرّجال، كما هي قدوة النساء في العقيدة والموقف الاجتماعي والسياسي، فعرض نموذجين لسموّ شخصيّة المرأة المؤمنة ومكانتها في الفكر الإسلامي. عرض امرأة فرعون، ملكة مصر، وسيِّدة التاج والبلاط والسلطة والسياسة والدولة الكبرى في ذلك العالم،التي تحدّت السلطة،ومريم ابنة عمران التي تحدّت كبرياء بني اسرائيل وتآمرهم،وحربهم الدعائيّة ضدّها.(/1)
وكما كان للمرأة دورها في حياة ابراهيم وموسى وعيسى، نجد دورها واضحاً وعظيماً في حياة النبيّ محمّد (صلى الله عليه وسلم) ودعوته؛ فلقد جسّدت هذا الدّور العقيدي الفريد خديجة بنت خويلد القرشيّة (رضي الله عنها ) التي كانت سيِّدة مجتمع مرموقة في مكّة المكرّمة، وثريّة صاحبة مال وثروة وتجارة ورأي، لقد كانت أوّل من حدّثها النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ـ بعد عليّ (عليه السلام) ـ بدعوته، فآمنت به وصدّقته، وبذلت أموالها الطائلة لنصرة دعوته، ولاقت معه صنوف الأذى والاضطهاد على امتداد عشر سنوات من حياتها المقدّسة، ودخلت معه الشِّعب، وتحمّلت معاناة الحصار الذي دام ثلاث سنوات، فكانت من أعظم الشخصيات في تاريخ الإسلام؛ لذا سمّى رسول الله (ص) العام الذي توفِّيت فيه عام الحزن .
ويُعظِّم المسلمون هذه الشخصية تعظيماً فريداً، ويقتدون بسلوكها ومواقفها الكريمة تلك . وفي حوار له مع زوجه عائشة حول شخصيّة خديجة ردّ عليها قائلاً : «ما أبدلني الله خيراً منها، كانت اُمّ العيال، وربّة البيت، آمنت بي حين كذّبني النّاس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورُزِقتُ منها الولد، وحُرِمتُ من غيرها»(18).
ويتحدّث عنها مرّة أخرى فيقول: «إنِّي لاحبُّ حبيبها» (19) .
وكما تحدّث عن موقعها في نفسه، وحركة دعوته، ومسار رسالته، تحدّث عن ابنته فاطمة الزّهراء (عليها السلام)، فقال: «فاطمة بضعة منِّي، يؤذيني ما آذاها»(20). وسُئل مرّة : «يا رسول الله أيّ أهلك أحبّ إليك ؟ قال : فاطمة بنت محمّد...»(21).
من هذه النصوص نفهم مقام المرأة وشخصيّتها في حياة النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ودعوته، والموقف النبويّ هذا يمثِّل في المفهوم الإسلامي أرقى تقييم لمكانة المرأة الإنسانية، واحترام شخصيّتها . ولعلّنا نكتشف من خلال البيان القرآنيّ والتاريخي الموجز هذا أنّ المرأة في مفهوم القرآن والرسالة الإلهية هي حاضنة عظماء الأنبياء (عليهم السلام)، والمكلّفة بحفظهم، والعناية بهم، والوقوف الى جنبهم، تجسّد ذلك جليّاً في حياة ابراهيم وموسى واسماعيل وعيسى ومحمّد (صلى الله عليه وسلم )، أعاظم الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) ، وقادة الفكر والإصلاح والحضارة الإلهية على هذه الأرض .
ولقد سجّل القرآن دور المرأة في حياة النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ودعوته ومشاركتها له في الهجرة والجهاد مقروناً بدور الرّجل عند حديثه عن الهجرة والبيعة والدعوة والولاء، واستحقاق الاجر والمقام الكريم وعلاقة الرّجل بالمرأة... الخ في مئات الآيات من بيانه وحديثه في هذه الموضوعات، مثل قوله تعالى : (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر).(التوبة / 71) (ربِّ اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تُزِد الظّالمين إلاّ تبارا ) . (نوح / 28) (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم ) .(الحديد / 12)
في هذه الآيات يرفع القرآن المرأة الى أكرم مقام يمكن أن يحتلّه انسان في الدنيا والآخرة، وهو يتعامل معها كما يتعامل مع صنوها الرّجل على حدٍّ سواء، فهي والرّجل في مفهوم الرسالة الإسلامية (أولياء) يوالي بعضهم بعضاً، ولاءً عقائديّاً، يقومون بإصلاح المجتمع، ومحاربة الفساد والجريمة والانحطاط، ويحملون رسالة الخير والسلام والأعمار في الأرض .
وفي الآية الثانية يتوجّه النبيّ نوح (عليه الصلاة والسلام) إلى ربِّه بالدعاء للمؤمنات، كما يتوجّه اليه سبحانه بالدعاء للمؤمنين، ومن محتوى هذه المناجاة تشعّ مبادئ التكريم والحبّ والاحترام للمرأة، ذلك لأنّ الدّعاء لشخص يحمل هذه المعاني كلّها .
ويتألّق مقام المرأة مضيئاً، ويشرق مقدّساً على صفحات القرآن من خلال تصويره للمؤمنين والمؤمنات في هالة من نور، يوم لقاء الربّ وساعة استحقاق الجزاء الذي يُقيّم فيه الإنسان من خلال عمله وسعيه في الحياة . وهكذا نفهم أنّ القرآن قد منح المرأة الصالحة الحبّ والولاء، ودعا لها بالمغفرة والعفو والرّحمة ، وأحاطها بهالة من نور، وهي المرأة التي مثالها آسية زوجة فرعون، ومريم اُمّ المسيح، وخديجة زوج الرّسول محمّد (صلى الله عليه وسلم ) وفاطمة بنت محمّد (صلى الله عليه وسلم) .(/2)
وندرك عظمة المرأة في الرسالة الإسلامية وفي حياة النبيّ (صلى الله عليه وسلم) بالشكل الذي يتسامى بشخصيّتها، ويمجِّدها باحترام وتقدير، حين نعرف أنّ أوّل من استشهد في الإسلام هي (سميّة) اُمّ الصحابيّ الجليل عمّار بن ياسر، قتلها أبو جهل أصد قادة الشرك والرجعيّة . فقد دفعت حياتها ثمناً لمبادئ الرسالة الإسلامية حين بدأت المواجهة بين الإرهاب والطاغوت، وبين محمّد (صلى الله عليه وسلم) والمستضعفين والعبيد الذين وجدوا في رسالة الإسلام المنقذ لحقوق الإنسان، والمحرِّر من الجهل واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان . كما سارع العديد من النساء المستضعفات لتصديق النبيّ (صلى الله عليه وسلم ) في بدء دعوته، وتحمّلن الأذى والتعذيب والاضطهاد، فهاجرن الى الحبشة والى المدينة المنوّرة، ونصرن الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم ) بكلّ ما اُوتين من قوّة .
إنّ المرأة المسلمة لمّا تكتشف مكانتها الحقيقية في الإسلام بعد، وانّ الرّجل المسلم لمّا يعرف مكانة المرأة في الإسلام على حقيقتها أيضاً،لذا اختلّ ميزان التعامل والعلاقة،الذي لا يستقر إلاّ بالعودة الى مبادئ القرآن ليعرف كلّ منهم حقّه ومكانته ومسؤوليّته تجاه الآخر وعلاقته به.
وإنّ المرأة اللاّهثة وراء سراب الحضارة المادية الذي يخفي وراءه مستنقع السقوط والاضطهاد للمرأة، لو عرفت ما لها في الإسلام من قيمة وحقّ وتقدير لما نادت إلاّ بالإسلام، ولعرفت أنّ المنقذ لكرامة المرأة وحقّها هو مبادئ القرآن.
المصدر: موقع تربوي
...(/3)
المرأة و الإبداع
الكاتب : د.هدى بنت دليجان الدليجان
لقد أتى الإسلام بتشريعاته الحكيمة ونصوصه المبينة بالتكريم الإلهي لبني الإنسان عمومًا، وللمرأة خصوصًا، بما حباها الإله –تعالى- من نعم جليلة وصفات جميلة ومشاعر فياضة عميمة، فشهدت المرأة تحولات واقعية في المجتمعات التي تعيش فيها خلال تقلب الأزمان والأماكن، فمن الحضارات الإنسانية من أعلى شأن المرأة ومنها ما أهانها ،وجعلها كسقط المتاع،حتى جاء الإسلام والمرأة في أشد حالاتها انتكاسة وجهلاً وتضييعًا وذلة، فرفع شأنها وأدبها وخاطبها بما خاطب به الرجال العقلاء، وجعلها مؤهلة للتكاليف الشرعية والتصرفات المالية والواجبات الاجتماعية والثقافة الإنسانية.
وتنقلت المرأة في العصور الإسلامية ما بين الزوجة العالمة والأم المربية والمثقفة الأديبة والطبيبة الحكيمة والنسابة الشريفة، وكل ذلك وهي تتدثر بدثار الإسلام وتتحلى بأخلاقه وآدابه، حتى نبتت نابتة الاستعمار في وطننا الإسلامي؛ فتغيرت أحوال المرأة المصونة إلى المرأة المتبذلة المتبرجة التي تبحث عن قضيتها من بين القضايا لتخالط الرجال بكل وقاحة وتستعرض مفاتنها بكل جراءة وخناعة،حتى أصبحت المرأة العصرية هي المرأة التي خلعت ثياب الحياء والدين وأسلمت زمام نفسها لأهل الأهواء وإخوان الشياطين.
ولئن ساغ للمرأة المسلمة – في أزمان خلت وظروف مرت- حينما كانت منعزلة في باديتها، أو مزرعتها، أو قريتها المحدودة، أو وظيفتها المغلقة، أن تكتفي بقدر باهت من الأمور الثقافية والمعرفة الذاتية، فإن هذا الزمان مع كثرة المتغيرات والنوازل الملمات اخترقت السهام ثقافة المرأة القريبة والبعيدة سواء المنغلقة في البيت أم المنفتحة في الوظيفة والتجمعات النسائية،فأصبحت المرأة المسلمة محطة استقبال لصنوف الثقافات البشرية والمطامع الأجنبية ، فكان لزامًا على المرأة المسلمة الواعية أن تواجه التحديات بالأصالة الشرعية والثقافة العميقة الواقعية، وتتكفل بوضع الحلول للمشكلات العارضة ، وتفجير الطاقات الأنثوية الكامنة ،مع الاستقامة الشرعية الكاملة، والإيجابية الفعالة المؤثرة.
وهذا هو الإبداع الحقيقي للمرأة عندما تضع يديها الناعمتين على الداء، وتبدأ بالتشخيص الصحيح وصرف الدواء .
فما هو الإبداع بالنسبة للمرأة؟ وهل نحن بحاجة إلى الإبداع؟ وما هي مقومات الإبداع؟ وكيف تكونين مبدعة؟ أسئلة متناثرة.. حاولت جاهدة الإجابة عنها خلال هذه الورقة.
أولا:ما هو الإبداع؟
لغة : من مادة (بدع) أي أنشأه وبدأه،قال تعالى ( بديع السموات والأرض) [البقرة:117] فالبديع من أسماء الله تعالى ويعني : إيجاد الشيء وإحداثه على غير مثال سابق.
فقد خلق الله تعالى البديع الكون آية في الجمال والكمال والحسن، وغاية في الإحكام والإتقان، فرفع السماء بغير عمد ترونها وجعلها سقفًا مرفوعًا محفوظًا، وخلق الأرض ومد فيها الرواسي الشامخات، وفجر أنهارها، وأخرج ثمراتها، وألبس الليل النهار فجعله ساكنًا، وألبس النهار الليل فجعله مضيئًا معاشًا، وكذا كل مخلوقات الله تعالى.. البديع.. ذي الجلال والإكرام.
اصطلاحًا: الإبداع والابتكار والاختراع مصطلحات مترادفة يراد بها: عملية بشرية تراكمية مرنة، لتطوير فكرة قديمة، أو إيجاد فكرة جديدة، مهما كانت الفكرة صغيرة، لتحقيق إنتاج متميز غير مألوف، يمكن تطبيقه واستعماله. [علي الحمادي- الإبداع1].
وقيل:هو القدرة على إيجاد علاقات بين أشياء لم يسبق النظر فيها ،لاستحداث طريقة جديدة لعمل شيء ما أو استبدال طريقة قديمة. [عبد الإله الحيزان- تنمية التفكير الإبداعي].
محترزات التعريف:
عملية بشرية: أي أن الإبداع عمل مستمر يقوم على أسس عقلية؛ لأن العقل مناط التكليف للإنسان وتكريمه بين المخلوقات.
تراكمية: أي هي القدرة على التحليل والتركيب من الأفكار القديمة فكرة جديدة ولو كانت صغيرة، وهذا يعني الإفادة من مجهودات السابقين وأفكارهم والبناء عليها، فالإبداع لا وطن له ولا قومية ولا احتكار فيه.
مرنة: أي لديها القدرة على التكيف مع الظروف والمتغيرات.
لتحقيق إنتاج متميز غير مألوف، وهذه صفات المنتج الإبداعي أن يكون فيه الجدة والأصالة وملائم للهدف المراد تحقيقه من الفكرة ونافع غير ضار، ومحكم في تركيبه وقوي في جاذبيته للآخرين.
يمكن تطبيقه واستعماله: أي ليس خيالاً فلا يمكن الإفادة منه، ولا مستحيلاً فلا يمكن الوصول إليه.
وهذه خلاصة تنمية التفكير الإبداعي الأنثوي في جميع المجالات الحيوية والهامة.
ثانيا- الفرق بين الإبداع والابتداع:(/1)
الأفكار حق بشري مشاع ، بينما الدين حق إلهي مطاع، فلا يمكن تغييره ولا تبديله، قال تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)[ المائدة:3] فالبدعة هي: كل محدثة في الدين ليس لها أصل في الشرع ، ولم يأذن بها الله ولا رسوله، وقد أحسن الإمام النووي عندما عقد في كتابه الجامع رياض الصالحين، باب في النهي عن البدع ومحدثات الأمور، وذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، أي مردود عليه.
قال ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم: فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه؛ فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء ذلك في مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة.
ثالثا:مقومات الإبداع:
تمتلك النفس البشرية طاقات كامنة من المواهب والقدرات التي تؤهلها لبلوغ درجة المبدعين والمبدعات، فالشاعرة المجيدة، والمعلمة الفعالة، والإدارية الناجحة، والأم الماهرة، والمربية الفاضلة، والداعية المؤثرة..؛ يستخدمون قدراتهم الإبداعية بطريقة معينة لتشمل عدة مناحي واتجاهات؛ فالطاقة الإبداعية لعقولنا مصدر غني بالطاقات الخام التي لا تنضب، فضلا عن المهارات الإبداعية التي يمكن أن نتعلمها ونتدرب عليها.
فالمرأة مأسورة –غالبًا- لنمطية معينة في التفكير، تكاد تتجمد عليها، فينضب التفكير وتشح الموارد، فتتراكم المشاكل اليومية والمسائل التربوية التي مجموعة الحل فيها خالية من الحلول، فالإبداع في التفكير ضرورة ملحة لمواجهة التيارات المتلاطمة والأمواج العالية من الفتن والأزمات ، وأصبح أسلوب الإجابة الواحدة الصحيحة ركامًا من الماضي التليد لأن مجموعة الحل مليئة بأنواع الحلول التي يمكن استغلالها بطرق التفكير الإبداعية.
ويمكن إجمال مقومات التفكير الإبداعي بعدة أمور كالتالي:
1- الصحة النفسية للمبدع : يرى علماء النفس التربويون أن المبدع شخصية تمتلك مجموعة من القدرات الظاهرة والسمات الباطنة المنعكسة على السلوك منها:
- التفاؤل: وهي النظرة الطيبة للأمور، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "ويعجبني الفأل : قالوا : وما الفأل يا رسول الله؟ قال: الكلمة الطيبة"، فالتفكير الإبداعي يحتاج إلى هذه الكلمة الطيبة ليندفع بحماس وحكمة نحو الهدف المراد تحقيقه، مع إيمانه اليقيني بالقضاء والقدر خيره وشره.
- المرونة في التفكير: وهي القدرة على التكيف السريع مع المواقف والمشاكل الطارئة، وذلك بأن يمتلك المبدع سيلاً كبيرًا من الأفكار المتنوعة، ويساعده في ذلك طلاقته في التعبير عن هذه الأفكار وتصويرها واقعيًا، فيستطيع تصنيع الحلو من الليمون الحامض، وهذا ما حدث –فعلاً- مع النساء الأوليات المؤمنات المهاجرات اللاتي استجبن لأمر الله ورسوله ، واستطعن التخلص من ركام الجاهلية والانطلاق في فضاء الدين الجديد، فهذه امرأة سعد بن عبادة بعد أن استشهد زوجها بـ"أحد" استولى عم بناتها على ميراثهن ، فأتت رسول الله تسأله عن ذلك، فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فنزل قوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم.. )..الآية[ النساء:11]؛ فيقسم النبي -صلى الله عليه وسلم- ميراث البنتين ، وحق الزوجة ، والباقي للعم. [الحديث في الصحيحين]. فسؤال تلك المرأة الجليلة كان سببًا لفصل الحكم في قضية ميراث النساء إلى قيام الساعة .
- الإحساس بالمشكلات والإدراك الدقيق للثغرات وقراءة ما بين السطور: ويتمثل في الإحساس المرهف للتعرف على المشكلات العادية التي تصبح مع مرور الأيام رانًا ثقيلاً يصعب إزالته وعلاجه، فتدرك تمامًا نواحي القصور في الأفكار الشائعة، وتنظر بعين ثالثة للأمور، ومثال على ذلك: تلك الصحابية الجليلة التي عرضت على رسول الله صنع منبر له يقوم عليه عند خطبته للناس، وذلك عندما ازدحم الصحابة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم-، وضعف صوته أمام الحشود المتوثبة لسماع ورؤية نبضات رسول الهدى نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم-. [أخرجه البخاري].
- التجديد: ويرى المبدع أنه نسيج وحده من الخبرات والقدرات فلا يقبل بتكرار الحلول ولا أن يسد مسد الخبر، فلا يرضى بتكرار نفسه ولا تكرار أفكار غيره،مثل ما ذكر عن أديسون أنه كرر تجربة المصباح الكهربائي1800 مرة لم يكرر إحداها مرتين، يقول: الذكاء والعبقرية1% منه إلهام ووحي،99% عرق وجهد وكفاح .
2- حب التنظيم : وهذه إحدى المقومات المهمة للوصول إلى الإبداع في تنظيم التفكير والوقت والأولويات والأهداف ، فلا يطغى شيء على شيء من الأهداف، فمنهجية التفكير لديه واضحة ودقيقة، فنجد أعماله لوحة رسام رائعة في ترتيب الألوان وتناغم الشخوص.
3- البيئة الواعية: وتتمثل البيئة الواعية في عدة أمور:(/2)
-التغلب على العادات: فالعادات هي في الأصل استجابات نمطية متكررة وغير إبداعية لعمل شيء بالطريقة نفسها والظروف نفسها؛ كالأكل والشرب والنوم والاستيقاظ، لكن هناك الكثير من العادات التي تحتاج إلى تغيير في نمطيتها وتطويرها بشكل إبداعي، مثال على ذلك:ما رأته السيدة الزهراء فاطمة بنت النبي- صلى الله عليه وسلم- من انكشاف جسد المرأة المتوفاة وهي محمولة على السرير، فأخبرت أسماء بنت عميس ، فأخبرتها أنها رأت في الحبشة النساء يغطين بالعباءات على سرير الموت، وفي ذلك ستر لهن، وتغيير للنمطية المعتادة فأوصت بذلك رضي الله عنها، ثم غلب ذلك الفعل بالمرأة المحمولة على سرير الموت.
4- تشجيع روح المغامرة والجرأة : وتتمثل حقًّا البيئة الواعية الرفيعة في الجيل القرآني الفريد الذي تخرج من مدرسة النبوة ونهل من معينها الرقراق، فمن أمثلة ذلك: موقف أم عمارة في غزوة أحد، وأم سليم في غزوة حنين، وأم حرام في ركوب البحر.
فالمبدع لا يتملكه الخوف من النقد لينكفئ على نفسه ويطوي أفكاره، لذا قال الله تعالى في وصف المؤمنين: (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم)[ المائدة: 54]. فمادام أن العمل على صواب، فلا يخاف المبدع لومة لائم، ولا داعي لإضاعة الوقت في التفكير في هذا النقد أو الرد عليه ، بل يدير ظهره لَهُ ويتوكل على الله، ومن ذلك بيعة أم عمارة في العقبة الأولى مع النقباء من الأنصار.
5- تسخير الإمكانات المتاحة : فالمبدع يستفيد من تجارب الآخرين ومجهوداتهم الخيرة سواء بالقراءة أو المشاورة أو المحاكاة، ويبني عليها أفكاره ولو كانت مجرد فكرة صغيرة، ولا تكون الظروف التي حوله عائقًا له من الانطلاق نحو الهدف،يقول العالم النفساني (الفرد أدلر):إن من أسمى خصائص الإنسان قدرته على تصيير القوى السلبية قوى إيجابية، ومن أمثلة ذلك :
-المجاهدات الصابرات في أرض الرباط والعراق والشيشان وغير ذلك.
- ذوات الحاجات الخاصة اللاتي يمتلك بعضهن قدرات إبداعية رائعة في التعامل مع التقنيات وغير ذلك.
رابعا: معوقات الإبداع :
الإبداع مهارة عالية يمكن تعلمها بالمراس والتمرين ، لكن قد يعيق تعلم الإبداع بعض الأمور منها:
1- الشعور بالنقص، و عدم الثقة بالنفس وتحقيرها.
2- الانشغال بالأمور الروتينية (زوجة عادية- أم روتينية- معلمة نمطية).
3 - الاكتفاء بالتعليم العادي دون محاولة التطوير والاستمرار فيه.
4- الخوف من النقد.
5- الخوف من الفشل.
6- عدم وضوح الأهداف المستقبلية القريبة والبعيدة.
7- القناعة السلبية بالرضا بالواقع.
8- التشاؤم.
9- التأثر بالبيئة الجامدة.
10- الاتكالية على الآخرين في تحقيق الهدف.
صناعة الإبداع:
أي صناعة حيوية تقوم على عدة معادلات تفاعلية، وتكون بنسب قياسية متوازنة ، مع وجود العوامل المساعدة ، ويمكن تفسير معادلة الإبداع بما يلي:
هل أنت مبدعة؟
نفسية متفائلة + تفكير منظم + هدف واضح+ بيئة واعية = إبداع
ويمكن تطبيق معايير الإبداع بقياس مستوى بعض المقومات اللازمة للإبداع، وذلك بحل التمرين التالي الذي يظهر بوضوح مستوى استعدادك النفسي لخوض غمار الإبداع والانطلاق في رحابه الواسعة.
تمرين (1)
ولكي تتمكني من قياس مستوى الإبداع لديك قومي بهذا التمرين –شخصيًا- واكتشفي طاقاتك الإبداعية لعلك تحرريها من قيودها وأغلالها، لتقدمي فكرة إبداعية تكون خطوة في سلم الرقي والحضارة الإسلامية.
حددي المستوى الذي تتمتعين به من خلال القيم التالية:
ممتاز(10-8) متوسط(7-5) ضعيف(4-1)
1- مدى نظرتك المتفائلة للأمور.
2- مدى وضوح أهدافك المراد تحقيقها.
3- مدى قدرتك على تحديد المشكلات.
4- مدى قدرتك على وضع الحلول لها.
5- مدى استفادتك من تجارب الآخرين.
6- مدى استغلالك للوقت وتنظيمه.
7- مدى ثقتك بنفسك واتخاذك للقرارات.
8- مدى التصميم على العمل ولو كانت المحاولات فاشلة.
9- مدى اهتمامك بتشجيع الآخرين أو نقدهم.
10- مدى الجرأة وحب المغامرة لديك.
أخيتي: توقفي الآن ، واجمعي محصلة الدرجات: المجموع =(..)
فإذا كان مجموع درجاتك من 100-90 فقدراتك الإبداعية رائعة، وأنت مؤهلة لتكوني في صفوف المبدعات ، فحيهلا بأفكارك وأعمالك الإبداعية.
وإذا كان مجموع درجاتك من 89-75 فقدراتك الإبداعية جيدة، وعليك بالتزود بالتعليم الذاتي في المجال الذي تحبينه، ومراجعة صفات المبدعين، والتحرر من معوقات الإبداع.
أما إذا كان مجموع درجاتك من 74-60 فقدراتك الإبداعية ضعيفة، وكما قال بعض العلماء : إذا لم تزد في الحياة شيئًا فأنت على الحياة زائد، فابحثي عما يشغل بالك وحددي أهدافك وارسمي طريقك بحكمة وأناة ، لعلك في يوم سعيد تنضمين إلى صفوف المبدعات.
---------------------
* رئيسة قسم الدراسات الإسلامية في كلية التربية للبنات بالأحساء
المصدر : الإسلام الي ...(/3)
المرأة والعمل السياسي
د. عدنان علي رضا النحوي 22/5/1426
29/06/2005
لقد سبق أن كتبت أكثر من مقال نُشر حول المرأة وميادين نشاطها، وكتبت كذلك كتاب:"المرأة بين نهجين: الإسلام أو العلمانية". ولكن على كثرة ما أُثير حول هذا الموضوع في الآونة الأخيرة، وما طُرح من مغالطات، وجدت من واجبي أن أعود وأكتب هذا الردَّ والتعقيب على بعض ما قرأت.
يطلق بعضهم اليوم نصاً عاماً مطلقاً دون أي قيود يقول: إنَّ الإسلام قرَّر مساواة المرأة بالرجل مساواة كاملة سواء بسواء، أو يحصرها بحقِّ المرأة في النشاط السياسي كالرجل سواء بسواء. ولقد ذكرتُ في مقالة سابقة أنَّ هذا النصّ العام لا يصحّ إلا أن يستند على نصٍّ من الكتاب والسنَّة أو على ممارسة حقيقيّة ممتدّة زمن النبوّة الخاتمة والخلفاء الراشدين.
وردّ بعضهم عليّ في قولي المذكور أعلاه: إذا لم يوجد النصّ العام في الكتاب والسنّة ولا الممارسة الممتدّة، فهل يوجد نصّ بالتحريم، وهل الأصل في الأشياء الحلّ ما لم يقم نصّ على التحريم أو على العكس؟!
أقول هذا أسلوب جدليّ فيه مغالطة كبيرة، وخلط بين أمرين مختلفين. في مجال الحرام والحلال الأصل في الأشياء التحليل ما لم يرد نصّ على التحريم. أما في أمور التشريع المتعلق بالحقوق والواجبات، والعلاقات بين الرجل والمرأة، وبين الناس عامة، وميادين الممارسة في الحياة فلا بدَّ من نصّ يبيّن الحقوق والواجبات، ويؤيد ما يضعه الناس من نصوص عامة خالية من الضوابط والقيود أو يرفضها. ولذلك جاءت في الكتاب والسنّة نصوص ثابتة تحدّد حقوق الرجل والمرأة في الميراث حيث تختلف الحقوق، وجاءت نصوص ثابتة في أنَّ المسؤولية الأولى للمرأة رعاية بيت زوجها، وطاعته ورعاية ولده: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيّته ..... والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم ... " [أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي[.
والإسلام فرض الجهاد في سبيل الله على الرجل المسلم، ولم يفرضه على المرأة المسلمة، وإن اشتركت المرأة المسلمة فما كان ذلك إلا في بعض جوانب المعركة كمداواة الجرحى، وتوفير بعض المساعدات، أو في ظرف خاص مثل معركة أحد، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سألته عائشة رضي الله عنها فقال:
"نعم! عليهنَّ جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة" [أخرجه البخاري]. وأحاديت صحيحة أخرى. وصلاة الجمعة فرض على الرجل المسلم وليست فرضاً على المرأة المسلمة، وصلاة المرأة المسلمة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، وكذلك قوله سبحانه وتعالى:
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً). [ النساء : 34].
والرجل هو المكلف بالإنفاق على البيت، والمرأة ليست مكلفة بذلك إلا إن أحبَّت أن تعين زوجها. فالرجل قوَّام على بيته وعلى زوجه، وقوَّام صيغة مبالغة تفيد المسؤولية الكبيرة.
وقِوامة الرجل في البيت على زوجه مفصّلة في الكتاب والسنَّة تفصيلاً واسعاً لا يترك لأحد فرصة لفساد تأويل، وكلها تجعل الرجل أمير البيت بالمعروف، وعلى الزوجة طاعته بالمعروف، ليسود السكن والمودة، حين يعرف الرجل دينه والمرأة دينها، ويتّقي كلّ منهما ربَّه، فيعرف كلّ منهما مسؤولياته وحدوده عن إيمان صادق وعلم صاف بالكتاب والسنّة.
ولكن من الناس اليوم من يريد أن يؤوّل معنى القِوامة حتى يحصرها في أمور ضيّقة تجعل من الزوجة مساوية للرجل في نظام الأسرة، تاركاً الأحاديث والآيات الكثيرة الواردة في ذلك.
ولا يحل لامرأة أن تصوم "نافلة" وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاثة أيام إلا ومعها محرم، ولا يحل لها أن تسافر مسيرة يوم إلا ومعها محرم ، وأحاديث صحيحة أخرى كثيرة حول ذلك يصعب عرضها. وفي أحوال الطلاق تكون القاعدة: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ.
وبالفطرة ندرك الفروق بين المرأة والرجل بصفة عامة، وجاء العلم اليوم ليكشف الفروق الرئيسة بين الرجل والمرأة في النواحي الجسمية والنفسية. ولكن الله أعلم بكل الفروق، فأنزل تشريعه رحمة بعباده ولصالحهم في الدنيا والآخرة.
إذا كانت هذه بعض الفروق بين الرجل والمرأة، فإنها كلها لا تنقص من قدر المرأة في الإسلام ولا من كرامتها، فكرامة المرأة وقدرها تنبع من طاعتها لله في شرعه، وكرامة الرجل وقدره تنبع من طاعته لله في شرعه، ليعرف كلٌّ منهما حدوده التي حدّها الله دون التمرّد عليها بتأويل فاسد أو تجاهل لنصوص ثابتة.(/1)
وإذا كانت هذه بعض الفروق، فإن الإسلام ساوى بين المرأة والرجل في أمور أخرى واضحة. فالشعائر فرض على المسلم والمسلمة، وطلب العلم فرض على المسلم والمسلمة، وتبليغ رسالة الله ودينه فرض على المسلم والمسلمة كلٌّ في ميدانه وفي نطاق مسؤوليته، كلٌّ قدر وسعه الصادق. وللمرأة ميادين للعمل ليست للرجل، وللرجل ميادين للعمل ليست للمرأة، ويمارس الرجل مسؤولياته وحقوقه في النهج الذي رسمه الله له وبيّنه وفصَّله، وتمارس المرأة مسؤولياتها وحقوقها في النهج الذي رسمه الله لها وبيّنه وفصَّله. والأسرة هي الميدان الذي تشترك فيه المرأة والرجل في العمل في سكن ومودَّة وتعاون، ولكل دوره ومنزلته كما أشرنا سابقاً.
فيمكن للمرأة أن تمارس نشاطها العلمي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي وهي في ميدانها الذي رسمه لها الإسلام، دون اختلاط بالرجال، ودون تبرّج وكشف للزينة، ومع كامل الالتزام بآداب الإسلام. وهذا كله بعد أن تُوفي المرأة بمسؤوليَّتها الأولى التي حدَّدها الله لها في رعاية زوجها وبيته وولده. وأساس ذلك أن يكون المجتمع مجتمعاً ملتزماً بشرع الله خاضعاً له، حتى يتسنَّى وضع النظام والقانون الذي يفسح المجال للمرأة أن توفي بمسؤولياتها، من حيث تنسيق الوقت لكل نشاط دون تعارض وإخلال.
ولفهم فقه هذه القضية لا يكفي أن نأخذ حادثة واحدة نتلقّفها من هنا وهناك، ننتزعها من ظروفها وملابساتها لنبتدع نصّاً بشريَّاً عاماً ننزله منزلة نصوص الكتاب والسنَّة ليُطبّق في كلِّ زمان ومكان! القضيّة قضية نهج ربّاني متماسك متكامل أنزله الله على رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- فلا بدّ من دراسته كلّه على ترابطه، وتطبيقه كله والتزامه كله على ترابطه وتماسكه، ولا يجوز التزام جزء وترك أجزاء.
والأمثلة التي يستدل بها مروّجو مساواة المرأة بالرجل كلها حالات فرديّة. لا تحمل صفة الامتداد والاستمرار، ولا تخضع لنصٍّ عام من كتاب أو سنَّة. وتظل مرتبطة بظروفها الخاصة. وكلُّ المروّجين لمبدأ مساواة المرأة بالرجل يأخذون قصة أم سلمة في الحديبية، حين شكا إليها زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم همّه من أنّ الصحابة لم ينصاعوا لأمره بالتحلّلِ وفكّ الإحرام. فأشارت عليه: اخرج أنت وفك الإحرام، فيقتدوا بك! واستحسن الرسول صلى الله عليه وسلم رأيها. وهكذا كان ! فالرجل يفرغ همه لزوجه، سواء أكان هماً سياسياً أو غير ذلك، ولا يُعقل أن ينحصر حديث الرجل مع زوجه في أمور المنزل، فالحياة كلها مفتوحة أمامهما يخوضان فيها على طاعة الله من خلال السكن والمودة، فهي ليست دليلاً على مشاركة المرأة للرجل سواء بسواء في النشاط السياسي. ولا أدلّ على ذلك من أنَّ أمّ سلمة نفسها لم نعد نراها هي أو غيرها مشاركة للرجال سواء بسواء في مجالس الشورى والسياسة وغيرها. أم سلمة -رضي الله عنها- كانت زوجة أعانت زوجها برأيها، ولم تكن سياسية مارست السياسة في المجتمع. ولا نجد في كتب السيرة والتاريخ لها دور المرأة التي خاضت ميادين السياسة كما يدعو بعضهم النساء إليه اليوم!
ومن النساء اليوم، ومن الدعاة من يستدل على حق المرأة ومساواتها للرجل في النشاط السياسي، (وهذا يتبعه المساواة في غير السياسة) ، مِنْ أنَّ مِنَ النساء من هنَّ موهوبات مبدعات مثل الرجل أو أكثر. لا خلاف حول ذلك، فالله يضع المواهب في الرجال والنساء على حكمة له. لا ننكر أنّ من النساء من هنّ موهوبات في هذا الباب أو ذاك، وأنه من حقّهنّ ممارسة هذه الموهبة في الطبّ والتدريس والأدب والعلوم وغير ذلك. ولكن الاختلاف هو في أسلوب الممارسة، فهناك فرق بين النساء اللواتي يتولّين التدريس للذكور أو للإناث فقط، أو يمارسن التدريس مع الرجل في نفس المدرسة سواء بسواء كالرجل، أو أن يمارسن التدريس في أجواء النساء فقط! وأسلوب الإسلام واضح جلي! وكذلك في الطب وفي مختلف العلوم والميادين. فالمرأة تمارس مواهبها من خلال ضوابط شرعيّة، ومن خلال التزام منهج ربّاني متكامل وليس من خلال قواعد متفلّتة!
وخديجة -رضي الله عنها- كانت أول امرأة آمنت، وأعانت الرسول صلى الله عليه وسلم بمالها وعقلها وجهدها، وبالتزامها لدين الله في حدود ما كان ينزل حينذاك. وذهابُها مع الرسول -صلى الله عليه وسلم - إلى ورقة بن نوفل أمر طبيعي من زوجة تقف مع زوجها وتعينه، خاضعة لشرع الله، على قدر ما كان يتنزّل آنذاك. ولكن أين المشاركة السياسية كالرجل سواء بسواء. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه في دار الأرقم، فهل كان النساء يختلطن مع الرجال في دار الأرقم كالرجال سواء بسواء، حيث كانت تدور شؤون الدعوة كلها؟(/2)
وانتداب أسماء -رضي الله عنها- عند الهجرة، وكانت هذه المهمّة هي نقل الطعام والأخبار إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولكن الحماسة أخذت ببعضهن حتى جعلت من هذا العمل دليلاً على مشاركة المرأة في النشاط السياسي كالرجل سواء بسواء، أو "جعلت من هذا العمل لا يقف عند النشاط السياسي والمشاركة فيه، ولكنه صناعة للحياة كلها"! وما زالت المرأة تقوم بمثل هذا الجهد في مجتمعات كثيرة خاضعة لأعراف المجتمع مع كل حالة.
كل هذه الأمثلة لم تقع إلا في مرحلة لم يكتمل فيها التشريع المنزّل من عند الله. فلم يكن الحجاب آنذاك قد فرض، وكثير من حدود المرأة والرجل لم يكن تنزّل بها تشريع أو اكتمل.
وأمَّا أنَّ الفاروق -رضي الله عنه- عهد إلى الشفاء بنت عبد الله محتسبة على السوق، فخبر يحتاج إلى تدقيق. فما ورد في "الإصابة في تمييز الصحابة" قوله: "وربما عهد إليها بشيء من عمل السوق" . و"ربما" تجعل الخبر غير موثوق، ولم ينقله عنه كثير ممن كتب عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أو عن الشفاء رضي الله عنها. وكان أحرى بنا أن نبرز الشفاء -رضي الله عنها- معلِّمة للنساء من الصحابة الكتابة والقراءة والرقية. فقد كانت من فضليات الصحابيات تعرف حدودها. وربما كان ما كُلِّفت به من أمر السوق، لو ثبت الخبر أمراً ليس فيه اختلاط بالرجال. فالخبر غير دقيق ولا العمل معروف وفيه "ربما"! وفيه: "بشيءٍ من عمل السوق" . وبعضنا يقرر من عند نفسه العمل عن غير علم ولا تبيُّنٍ.
أما القول بأنَّ سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ أفتى بدخول المرأة هذه المجالس النيابية، والمشاركة فيها فقول غير سليم. وسماحته لم يُفْتِ بذلك، وإنَّما أفتى بعكس ذلك. ففي كتابه: " الفتاوى النسائية " يقول: " فإن الدعوة إلى نزول المرأة للعمل في ميدان الرجل المؤدي إلى الاختلاط سواء كان على جهة التصريح أو التلويح بحجة أنَّ ذلك من مقتضيات العصر ومتطلبات الحضارة أمر خطير جداً له تبعاته الخطيرة وثمراته المرّة وعواقبه الوخيمة، رغم مصادمته للنصوص الشرعيّة. ومن أراد أن يعرف ما جناه الاختلاط من المفاسد التي لا تُحصى فلينظر إلى تلك المجتمعات التي وقعت في هذا البلاء العظيم ...." ويقول سماحته: "فالدعوة إلى نزول المرأة في الميادين التي تخصّ الرجال أمر خطير على المجتمع الإسلامي ..." [ ص: 15-17]
ويقول فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين ـ رحمه الله ـ في كتابه: "من الأحكام الفقهية في الفتاوى النسائية" ص 62 : " ... المجال العمليّ للمرأة أن تعمل بما يختص به النساء مثل: أن تعمل في تعليم البنات سواء أكان ذلك عملاً إدارياً أو فنياً، وفي بيتها أعمال كثيرة ....، وأما العمل في مجالات تختص بالرجال فإنه لا يجوز لها أن تعمل حيث إنه يستلزم الاختلاط بالرجال وهي فتنة عظيمة يجب الحذر منها" .
والاستشهاد بالآية الكريمة : (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [الجمعة :11]
ليس حجة على شيء إلا أن في الرجال ضعفاء ومنافقين، وكذلك في النساء يوجد ضعيفات ومنافقات. فهذا أمر خارج عن موضوع البحث كله.
وربما تجد امرأة أو فتاة تردُّ على ما طرحته حول هذا الموضوع، ثم تخفي اسمها، و كان أولى أن تُفصح عن اسمها لتمارس حقَّها في ذلك. فبإخفاء اسمها ناقضت نفسها في دعواها من حق المرأة في المشاركة في العمل السياسي كالرجل سواء بسواء. فإذا أخفت اسمها فكيف ستنزل ميادين الرجال باسمها وجسمها؟!
وكان خيراً لكل من يتعرَّض لمثل هذه الموضوعات أن يتثبَّت من كل خبر قبل أن ينقله على غير وجهه الصحيح، كما في موضوع الصحابية شفاء بنت عبد الله العدوية رضي الله عنها، وكما فيما نُقل عن سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله.
وأنصح كذلك أن يتجنب المسلم المغالطة والتأويل الفاسدين واللعب بالألفاظ، كما نرى عند بعض من يدعو إلى مساواة المرأة بالرجل مساواة مطلقة، أو بالعمل السياسي، وأنصح بعدم تلقُّط الحوادث المرتبطة بظروفها غير ممتدَّةٍ مع الزمن، وغير ممثِّلة لقاعدة شرعيَّة.
وكذلك فمما قرأته من جميع الداعين إلى مساواة المرأة بالرجل إما مساواة مطلقة، أو مساواة في العمل السياسي، لم أجد أحداً أتى بدليل شرعي واحد يحسم القضية لصالح رأيه. وكما قلت فإنَّ الأمثلة التي يسوقونها إما حوادث لم تحمل صفة الاستمرار في المجتمع الإسلامي زمن النبوّة الخاتمة والخلفاء الراشدين، وإما تأويل غير سليم لآية أو حديث، تأويل لم يُعرف خلال خمسة عشر قرناً الماضية، ولا يتفق وأُصول اللغة العربية أو قواعد الاجتهاد، أو تحميل الألفاظ ما لا تحتمل، أو أن تكون الرواية غير صحيحة أو غير دقيقة، ويكون الاستنتاج تبعاً لذلك غير سليم.(/3)
ولا بدّ من أن نعي أنَّ إثارة حقوق المرأة اليوم ومساواتها بالرجل إثارة تحمل الفتنة والتضليل. ذلك لأن مشكلة المسلمين اليوم ليست مساواة المرأة بالرجل، فالمرأة نفسها تحتاج إلى بناء وإعداد، والرجل يحتاج إلى بناء وإعداد، وقضايا الأمة كلها يجب أن تُدرس وتُحدد المشكلات ومواطن الخلل، ثمّ يوضع نهج عام وخطة كاملة لمعالجة جميع المشكلات. أمّا أن نخفي مشكلاتنا الكبيرة ونبرز مساواة المرأة بالرجل فأمر غريب يتنافى وأبسط قواعد المنطق وواجبات الإصلاح ومنهاج الإسلام.
ولقد طُبّقت مساواة المرأة بالرجل في السياسة وغيرها في بلدان عربية وإسلامية، فماذا قدَّمت هذه المساواة لبلادهم؟ وماذا جنت البلاد غير الهزائم والذل والهوان؟ ولم تأخذ من الحضارة إلا زخرفاً كاذباً، لم يهب القوَّة للأمة ولا العزّة والمنعة، ولا القدرة على حماية الأرض والنفس والعرض.
لقد أشغلنا الغرب بقضايا كثيرة أخذت وقتنا وجهدنا وأموالنا واستنفدت طاقاتنا، حتى وقفنا عاجزين لا وزن لنا.
المظاهرات صورة من صور النشاط السياسي، والمرأة شاركت في المظاهرات في بعض البلاد الإسلامية، فلننظر ماذا لا قين وماذا كتبت الصحف عن ذلك. وأنشطة سياسية أخرى رأينا عواقبها في بعض مجتمعاتنا الإسلامية، ورأينا عواقبها الخطيرة في العالم الغربي. أليس في هذا كله من واعظ وعبرة؟!(/4)
من سلسلة إلى من تحفر قبرها بيديها
المرأة والولاية العامة وولاية القضاء
د. حياة بنت سعيد باأخضر(*) 20/1/1427
19/02/2006
الحمد لله رب العالمين الذي خلقنا على نعمة الإسلام والحب فيه ولأجله، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
لقد كثرت المقالات واللقاءات حول موضوع المرأة والدفاع عن قضاياها في أشكال عدة ومن الجنسين، وكل يدلي بدلوه ويطرح ما في جعبته من معلومات تتضارب أحياناً وتتشعب حتى تصل إلى حد التعصب الممقوت، والذي يدفع بصاحبه إلى المراء والرغبة في الانتصار للذات بليّ أعناق الأدلة واستدلالات العلماء، مما أوجد مناخاً خصباً لتفتيت الجهود وصرف الهمم عن الأولى في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى التمسك بديننا بقوة في الوقت الذي نرى أعداءنا مستمسكين بدينهم في حربنا فأشعلوا همم شعوبهم شيباً وشباباً بأرواحهم وأموالهم.
وكامرأة مسلمة تعتز دائماً وأبداً بخصائصها التي ميزها الخالق الحكيم بها عن باقي نساء العالمين خاصة وعن الرجال عامة، وإنني كامرأة مسلمة تفتخر بأنها ولدت وتربت وتنتسب لهذه البلاد المباركة مهبط الوحي والموطن الذي احتضن السلفية ومجددها، ووقف حكامها دائماً معه ومع علماء هذه الدعوة المباركة والمنهج الصحيح، أكتب هذه الورقات لا أخص بها أحداً بعينه بل أبتغي بها أن تقف على الحق الذي يسعى إليه الجميع من خلال قضية المرأة التي أنا وغيري من الغيورات على الدين أولى من يطرحها مع تقديري التام لكل علمائنا ودعاتنا الأفاضل الذين نافحوا وما زالوا عن المرأة المسلمة التي يريدها الله تعالى ورسوله –صلى الله عليه وسلم- وأتمنى ممن سيقرأ ورقاتي أن يعلم بل يتيقن أنني أقف من المسلم المخالف موقف الائتلاف الواجب بين المسلمين وأدعوا الله له ولنفسي ولكافة المسلمين أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن من أسس مذهب أهل السنة والجماعة أنهم يخطئون ولا يكفرون، ويرحمون المخطئ ولا يستخفون أو يشتمون به. وسأجعل كلامي مرتباً على تمهيد ومقدمة وتفصيل، فأقول وبالله التوفيق.
أولاً: التمهيد: من المعلوم بداهة لدى كل المتابعين لأحداث العالم من حولنا أن هناك قضيتين أساسيتين هما قطبا الرحى التي يدور حولها أعداؤنا لتجفيف منابع الإسلام وإبقائه صورة لا حقيقة لها في واقع الحياة وهما: دعوى القضاء على الإرهاب، ومن خلاله يتم تمييع المناهج والمؤسسات الدعوية والثوابت الدينية. والقضية الثانية: المرأة، وقد انتهوا تقريباً من جميع النساء المسلمات، وبقيت نساء بلادنا الطاهرة، فطفقوا يشعلون حولها نيران وأبواق دعاوى سابقة أشعلت من قبل في ديار مسلمة فأحالت نساءها رماداً احترق من شدة احتكاكه بشياطين الإنس والجن، إنها دعاوى ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، فهم يرددون ذات الدعاوى التي طرحها الغربيون على قاسم أمين وأمثاله، والتي ترجموها إلى لغات عدة من رفع الظلم عن المرأة وأنها مهضومة الحقوق مغيبة عن التنمية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإعلامية، ومناقشة قضايا شرعية حُسمت من قبل كبار العلماء وجمهورهم على مر العصور الإسلامية كوجوب تغطية الوجه وعدم سفر المرأة إلا بمحرم وحرمة الاختلاط بين الجنسين... وغيرها من القضايا.
وها نحن نقرأ ونسمع من يدعو وبقوة لفتح باب الفتن والرسول –صلى الله عليه وسلم- يقول: "تعوذوا من الفتن ما ظهر منها وما بطن" لنقرأ معاً مقاطع من كتابات قاسم أمين ولننظر كيف تطابقت مع كتابات المعاصرين، يقول في كتابه تحرير المرأة: "هل يظن المصريون أن رجال أوروبا مع أنهم بلغوا من كمال العقل والشعور مبلغاً مكنهم من اكتشاف قوة البخار والكهرباء واستخدامها على ما نشاهده بأعيننا، وأن تلك النفوس التي تخاطر كل يوم بحياتها في طلب العلم والمعاني، وتفضل الشرف على لذة الحياة هل يظنون أن تلك العقول وتلك النفوس التي نعجب بآثارها يمكن أن يغيب عنها معرفة الوسائل لصيانة المرأة وحفظ عفتها؟ هل يظنون أن أولئك القوم يتركون الحجاب بعد تمكنه عندهم لو رأوا خيراً؟ كلا، وإنما الإفراط في الحجاب من الوسائل التي تبادر عقول السذج، وتركن إليها نفوسهم، ولكنها يمجها كل عقل مهذب وكل شعور رقيق... متى ما تهذّب العقل ورقَّ الشعور في الرجل عرف أن الحجاب إعدام لشخصها فلا تسمح له نفسه بعد ذلك أن يرتكب هذه الجريمة توسلاً إلى راحة بال واطمئنان قلب". ويقول في كتابه المرأة الجديدة: "لو لم يكن في الحجاب عيب إلا أنه مناف للحرية الإنسانية لكفى وحده في مقته، وفي أنه ينفر منه كل طبع غرز فيه الميل إلى احترام الحقوق والشعور بلذة الحرية، ولكن الضرر الأعظم للحجاب -فوق ما سبق- هو أنه يحول بين المرأة واستكمال تربيتها".(/1)
ويقول في موضع آخر من كتابه: "أما الحجاب فضرره أنه يحرم المرأة من حريتها الفطرية"، ويقول: "بلغ من أمر احترام الرجل الغربي لحرية المرأة أن بنات في سن العشرين يتركن عائلاتهن ويسافرن من أمريكا إلى أبعد مكان في الأرض وحدهن أو مع خادمة، ويقضين الشهور والأعوام متغيبات في السياحة متنقلات من بلد إلى آخر، ولم يخطر على بال أحد من أقاربهن أن وحدتهن تعرضهن إلى خطر ما... أول جيل تظهر فيه حرية المرأة تكثر الشكوى منها، ويظن الناس أن بلاء عظيماً قد حل بهم؛ لأن المرأة تكون في دور التمرين على الحرية ثم مع مرور الزمن تتعود المرأة على استعمال حريتها وتشعر بواجباتها شيئاً فشيئاً وترقى ملكاتها العقلية والأدبية وكلما ظهر عيب في أخلاقها يداوى بالتربية حتى تصير إنساناً شاعراً بنفسه"، بل يقول: "بل الكل متفقون على أن حجاب النساء هو سبب انحطاط الشرق، وأن عدم الحجاب هو السر في تقدم الغرب... توجد وسيلة تخرجكم من الحالة السيئة التي تشتكون منها، وتصعد بكم إلى أعلى مراتب المدن كما تشتهون وفوق ما تشتهون ألا وهي تحرير نسائكم من قيود الجهل والحجاب". ويقول في مسالة تربية المرأة: "لا تجد من الصواب أن تنقص تربية المرأة عن تربية الرجل أما من جهة التربية الجسمية فلأن المرأة محتاجة إلى الصحة كالرجل، فيجب أن تتعود على الرياضة كما تفعل النساء الغربيات اللائي يشاركن أقاربهن الرجال في أغلب الرياضات البدنية، ويلزم أن تعتاد على ذلك من أول نشأتها وتستمر عليه من غير انقطاع، وإلا ضعفت صحتها وصارت عرضة للأمراض". [ثم نجده وبعد عدة أسطر يناقض نفسه لما يذكر تميز المرأة الريفية على المرأة المدنية، لأن المرأة الريفية متعودة على العمل البدني وتتعرض لأشعة الشمس والهواء النقي إذن لا دخل للرياضة في تفوقها]، ونجده يواصل حربه على دين الله –تعالى- فيقول عن أساليب تربية المرأة التي يلزم اتخاذها للمرأة: "ولابد هنا من استلفات النظر إلى وجوب الاعتناء بتربية الذوق عند المرأة وتنمية الميل في نفسها إلى الفنون الجميلة، وإني على يقين من أغلب القراء لا يستحسنون أن تتعلم بناتهم الموسيقى والرسم؛ لأن منهم من يعدها من الملاهي التي تنافي الحشمة والوقار، أو أنها لا فائدة منها، وقد ترتب على هذا الوهم الفاسد انحطاط درجة هذه الفنون في بلادنا إلى حد يأسف عليه كل من عرف مالها من الفائدة في ترقية أحوال الأمم".
هذا ما قاله كبيرهم الذي علمهم السحر، وهو قول متناقض متهافت لدى كل ذي بصيرة ولا أدل على ذلك من منعه زوجته من ممارسة كل ما سبق.
هذا هو كلام من ينفخ في نار هذه الفتن صباح مساء، بدلاً من إيضاح الضوابط الشرعية للرجال، وإقامة العقوبات الربانية على المقصرين منهم. والكلام في هذا يطول ولكن أختم هذا التمهيد بالدعوة إلى التبصر عامة والفقه لواقعنا والعلم التام بما يدور في العلن من خطط لسحق ثوابتنا نحو المرأة، والتي منها الحجاب الصحيح الذي ارتضته أمهات المؤمنين والصحابيات القائم على الفقه الحقيقي لنصوصه الصحيحة، ولو سمعتم مدى الغبطة التي تشعرها الطالبات الوافدات بجامعة أم القرى نحو النعم التي امتن الكريم –سبحانه- بها علينا والتي منها نعمة يسر الالتزام بالحجاب الصحيح بدون أي عقبات لتمسكت نساؤنا بحجابهن ودينهن، إننا أمام ملامح حرب جديدة على المرأة المسلمة لتفكيك البنية الأساسية للمجتمع، فالمرأة هي نصف المجتمع وتلد وتربي النصف الآخر، فهي للمجتمع كله بل هو مخطط لتدمير الأسرة عامة والمسلمة على وجه الخصوص، من خلال ادعاء حقوق المرأة والطفل وحتمية الصراع بين الرجل والمرأة، وكم من المصائب ترتكب باسمك يا حقوق المرأة!
ثانياً: المقدمة: وسأتناول فيها موضوعين:(/2)
الموضوع الأول: التعالم: يقول الإمام الشافعي –رحمه الله-: "فالواجب على العالمين ألا يقولوا إلا من حيث علموا، وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب من السلامة -إن شاء الله- وقال ابن عبد البر –رحمه الله- (لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف)، والمتعالم إنما هو ضعف ظاهر ودعوى عريضة؛ لأن من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب، وإذا كثر الملاحون غرقت السفينة، والحجر لاستصلاح الأديان أولى من الحجر لاستصلاح الأموال والأبدان، فإن التعالم في الفتوى هي القاصمة لقوة الدين ومن أفسدها تفسير كتاب الله وشرح السنة بلا زاد الفقه بأقوال الصحابة واللغة العربية وقواعد العلم بالصحيح من الضعيف، وغير ذلك مما هو معلوم بالضرورة لدى الحاذقين بهذه العلوم، قال ابن القيم –رحمه الله- قال بعض العلماء: (قل من يتجاسر على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها إلا قل توفيقه واضطرب في أمره) ودخل رجل على ربيعة –رحمه الله- فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه، فقال: (لا ولكن استفتي من لا علم عنده، وظهر في الإسلام أمر عظيم)، وقال: (ولبعض من يفتي هاهنا أحق بالحبس من السراق) فكيف لو رأى ربيعة زماننا وتجرؤ الكثيرين على الفتيا بغير علم من الرجال والنساء، حتى تبارت الصحف والقنوات في عرض صنائع المتعالمين ويكفينا قول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- "لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم من أكابرهم، فإذا أخذوه عن أصاغرهم وشرارهم هلكوا".
وخلاصة القول: إن التعالم هو عتبة الدخول على القول على الله تعالى بلا علم، والقول على الله تعالى بلا علم هو أصل الشرك والكفران، وأساس البدع والعصيان، وما هو أغلظ منها ومن جميع الفواحش والآثام والبغي والعدوان، والدليل قوله تعالى في سورة الأعراف "قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" يقول ابن قيم الجوزية –رحمه الله- في التعليق على الآية في كتابه: أعلام الموقعين (ج1ص31). فرتب الله تعالى المحرمات على أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريماً منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريماً منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه.
الموضوع الثاني: تتبع زلات العلماء وإظهارها على أنها أصل مذهبهم ومعتمده، وترك باقي علمهم مع عدم التحقق من نسبة هذه الأقوال لهم، أو فهمها على الوجه الذي أرادوه من هوادم الدين، فقد قال –صلى الله عليه وسلم- "أخاف على أمتي ثلاثاً: زلة عالم وجدال منافق بالقرآن والتكذيب بالقدر" ورحم الله الإمام الصنعاني لما قال: "وليس لأحد من أفراد العلماء إلا وله نادرة ينبغي أن تغمر في جنب فضله وتجتنب"، وقال أبو هلال العسكري: "ولا يضع من العالم الذي برع في علمه زلة إن كان على سبيل السهو والإغفال، فإنه لم يعف من الخطأ إلا من عصمه الله جل ذكره، وليتنا أدركنا بعض صوابهم أو كنا ممن يميز خطأهم".
ثالثاً: التفصيل: في قضية ولاية المرأة للولاية العامة أو القضاء، فأقول وبالله التوفيق:
أولاً: المناداة بأن للمرأة حقوقاً سياسية يعني أنها حُرمت منها وأخذت ظلماً وأن ذلك الظلم عليها مطرد منذ عهد الرسول –صلى الله عليه وسلم- فداه أبي وأمي وحاشاه عن الظلم –والصحابة –رضي الله عنهم- حاشاهم ذلك- ومن جاء بعدهم، حيث لم تتقلد المرأة أي منصب قيادي في كل الأزمنة الماضية، فهل يقول عاقل بذلك، وهل أهل هذا العصر من المسلمين وغيرهم أكثر عدلاً وإنصافاً ممن سبقهم؟ فلا يجوز بالتالي تأثيم الأمة بأنها مقصرة في حق المرأة.
ثانياً: حديث الرسول –صلى الله عليه وسلم- صحيح البخاري (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) ففي هذا الحديث ورد لفظ (قوم) و(امرأة) بصيغة العموم؛ ليدخل فيهما كل قوم ولو أمرهم امرأة، فهو عام يشمل كل الأقوام. ولم يثبت قط أن النبي –صلى الله عليه وسلم- ولى امرأة واحدة في أي ولاية، ولا أمر بأن تولى أي ولاية ولو في مستقبل الزمان.
ثالثاً: إذا كنتم تريدون إخراج المرأة لتعمل رئيسة دولة وقاضية وسائقة للسيارة ومهندسة وفي كل مجالات الرجل، فماذا بقي للرجال ليقوموا به وليحققوا القوامة الفطرية على نسائهم؟ أو ماذا بقي لنا معشر النساء من حقيقتنا الفطرية؟ فنحن نتحمل الحمل والولادة والرضاعة والاهتمام بشئون الأسرة، فإذا كنا سنخرج لكل الأعمال فمن سيرعى شئون المنزل؟ الرجال أم الخادمات؟!(/3)
رابعاً: لا يصح القياس على حال النساء غير المتزوجات بأنهن لا مسؤوليات لديهن كالمتزوجات؛ لأن هذا قياس على غير الأصل، ثم إن المسلمة غير المتزوجة مأمورة بالقرار في بيتها وبالعناية بوالديها إن كانا على قيد الحياة، أو الانشغال بطلب العلم النافع من قرآن وتفسير وحديث وفقه وتوحيد وسيرة، أو القيام على شئون الأيتام والأرامل في مدينتها في حدود استطاعتها بدون أن تكلف نفسها ما لا تطيق.
خامساً: دلت الإحصائيات على أن عدد النساء اللاتي تمكن من شغل منصب الولاية العامة كالرئاسة والمحافظة والنيابة العامة وقيادة الشرطة والمصانع والشركات في المجتمعات التي تمنح لهن هذا الحق وتضعهن على قدم المساواة مع الرجال يبدو ضئيلاً مقارنة بالرجال مع أن النسبة السكانية للنساء أكثر من الرجال فتكاد النسبة لا تزيد عن 1%، أما في الوزراء والمحافظين فلا تزيد على 5%، ورواتب النساء العاملات في هذه الدول أقل من رواتب الرجال، ولا يمكن أن نعزو هذا إلى القوانين والتربية، فإن القوانين والتربية في تلك البلاد لا تقيم اعتباراً لاختلاف الجنسين إنما يرجع السبب إلى الاختلاف الفطري بين الرجال والنساء والذي يتجاهله الكثير اتباعاً للأهواء أو مكابرة للفطرة التي أرغمتهم على التسليم بحقائقها ثم حتى النساء اللاتي تقلدن الحكم فإن حكمهن صوري فهن يملكن ولا يحكمن بل إن بعضهن وفي أثناء حكمها ظهر ضعفها الأنثوي الفطري لما ضاع ولدها في صحراء الجزائر أخذت تبكي، وأوقفت عملها لحين العثور عليه، والأخرى رئيسة الدولة لما تم القضاء على الانقلاب العسكري عليها خرجت من تحت السرير وأول ما طلبته إصلاح هندامها وشعرها لتظهر أمام الصحفيين، وهذا كله أوردته وسائل الإعلام.
سادساً: لا ينبغي طلب ولاية القضاء لما في ذلك من الخطر العظيم من أن يخطئ القاضي في الحكم فيكون في النار –نعوذ بالله- فقد ورد في الحديث: "القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة" فإذا كان هذا حال القضاء فلماذا نقاتل للحصول عليه ألا تكفينا ذنوبنا؟
سابعاً الرد على شبهاتهم:
1/ النقل غير الصحيح لأقوال العلماء، يقول الشيخ الجليل بكر أبو زيد –شفاه الله- في كتابه القيم (التعالم): كما يُزجر عن الفتوى بالشاذ فكذلك يُزجر عن الأقاويل المغلوطة على الأئمة لعدم صحة النقل أو انقلاب الفهم، ومن أمثلة ذلك:
* شهرة النسبة إلى مذهب الإمام أبي حنيفة –رحمه الله تعالى- من القول بجواز تولي المرأة القضاء في غير الحدود، وهذا غلط عليه في مذهبه وصحة قوله: أن الإمام إذا ولى المرأة القضاء أثم ونفذ قضاؤها إلا في الحدود والقصاص فأصل التولية عنده المنع.
وقوله هذا إنما قيل على باب الافتراض والنظرية، وما أكثر ذلك في كتب الفقه ولم تطبق على أرض الواقع أبداً لا في عهد من سبقهم من العهود الزاهرة ولا في عهد المؤلف أو من جاء بعده. وتفصيل مذهب الأحناف أنهم انقسموا في هذه المسألة إلى ثلاث فرق.
الفرقة الأولى: ترى أن المرأة لا يجوز لها أن تتولى القضاء مطلقاً، وإلى هذا ذهب زفر بن الهذيل وهو بذلك يوافق الجمهور.
الفرقة الثانية: ترى أن المرأة يجوز لها أن تتولى القضاء ابتداء فيما تجوز شهادتها فيه وهو ما عدا الحدود والقصاص وإليه ذهب بعض الحنفية.
الفرقة الثالثة: ترى أن المرأة لا يجوز لها أن تتولى القضاء ابتداء وأن الذكورة شرط في القاضي، لكنها إن وليت ممن له السلطة أو حكمها شخصان في نزاع بينهما فحكمت نفذ قضاؤها ضرورة وأثم مُوَلِّيهَا.
وهذا هو المذهب عند الحنفية الذي نصت عليه كتبهم المعتمدة في تأثيم مولي المرأة القضاء ولا إثم إلا بارتكاب المحظور، ومما يدل على ذلك أن قاضي القضاء في أكثر العصور حنفياً، وكان إليه تقليد القضاة في جميع أنحاء البلاد الإسلامية، ولم يؤثر عنه أنه قلد امرأة قط منصب القضاء.
* أما ما نقل عن ابن جرير الطبري في جواز تولي المرأة القضاء فموضوع، ولم يصح ذلك عنه خاصة، ولم يرو ذلك عنه بسند من الأسانيد، ومذهب الطبري مندثر لم يكتب له البقاء ولم يدونه عنه تلاميذه، وفي تفسيره المتواجد بين أيدينا لم نجد قوله المنسوب إليه كما أن كتبه في الفقه لم يُعثر عليها.
1- يقول المفسر الإمام ابن العربي –468-543 في تفسيره (أحكام القرآن م/3/ص/1457) [ونقل عن محمد بن جرير الطبري وإمام الدين أنه يجوز أن تكون المرأة، قاضية ولم يصح ذلك عنه، ولعله كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه المرأة وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق، ولا بأن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة في الحكم إلا في الدماء والنكاح، وإنما ذلك كسبيل التحكيم أو الاستبانة في القضية الواحدة، بدليل قوله –صلى الله عليه وسلم- "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير.
2- جزم بعدم صحة ذلك لابن جرير الطبري المفسر القرطبي –رحمه الله- حيث قال: ونقل عن محمد بن جرير الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح عنه ذلك.(/4)
3- إن صاحب الرأي دائماً ينافح عنه ويقدم عليه الأدلة كلما ناسبته الفرصة لذلك، وقد ناسب ذلك ابن جرير –رحمه الله- العديد من الفرص سواء في تفسيره أو في تاريخه لما تكلم عن قصة سليمان –عليه السلام- وعن توليه ابنة كسرى لما مات أبوها ولما ذكر حديث "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" ورغم ذلك لم يشر لولاية المرأة للقضاء أو عدمها كما هي عادة العلماء.
وخلاصة ما سبق أن الخلاف بين الفقهاء حول تولية المرأة القضاء لم يتعد مجرد إبداء الرأي، فلم يرشدنا تاريخ القضاء الإسلامي من عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- حتى نهاية الخلافة العثمانية أن المرأة تقلدت ولاية.
* الاعتماد على قصة تعيين عمر –رضي الله عنه- للشفاء –رضي الله عنها- محتسبة في السوق:
1- ابن حزم –رحمه الله- لما ذكر الرواية في كتابه المحلى لم يسندها على خلاف صنيعه وذكرها بصيغه التمريض (رُوي) وهذا يدل على عدم صحتها، ثم إنه من العجب أن يستدل ابن حزم بفعل عمر –رضي الله عنه- مع أنه ينفي حجية رأي الصحابي، وأعجب من هذا أنه يستأنس بقول أبي حنيفة مع أنه أوسعه في غير هذا الموضع تشنيعاً وتجريحاً، والأعجب أنه يرى أن المرأة لا تزوج نفسها ولا غيرها، ثم يرى جواز تقليدها القضاء لتزوج غيرها بمقتضى ولاية القضاء. انظر الاختصاص القضائي د. ناصر الغامدي.
2- يقول ابن العربي –رحمه الله- وقد رُوي أن عمر –رضي الله عنه- قدم امرأة على حسبه السوق ولم يصح، فلا تلتفتوا إليه فإنما هو من دسائس المبتدعة في الحديث.
3- الأثر المروي عن الشفاء –رضي الله عنها- ذكره ابن الجوزي في تاريخ عمر وابن عبد البر في الاستيعاب وتبعه ابن حجر في الإصابة كلهم بدون إسناد ولا عزو لأحد ولم يذكره ابن سعد في ترجمتها ولا ابن الأثير في أسد الغاية ولا الطبراني في المعجم الكبير، كما أنه ورد بصيغة التمريض كما أسلفت (رُوي).
4- لا تقبل هذه الرواية لأن عمر –رضي الله عنه- المعروف بغيرته على الإسلام والمسلمين وخاصة النساء، فكيف يولي امرأة ولاية تدعوها إلى الاختلاط مع الرجال ومزاحمتهم.
* لاحتجاج بقصة بلقيس ملكة سبأ، والرد على ذلك بالآتي:
1- أن الهدهد وهو طير استنكر من شأنها وقومها أمرين عظيمين: كون امرأة تملكهم، وكونهم يعبدون الشمس من دون الله؛ ولذلك عمل سليمان –عليه السلام- على إزالة هذين المنكرين العظيمين جميعاً، ولو كان متولي أمرهم رجلاً لأمرهم بالإسلام فقط وأقرهم على ملكهم إن أسلموا، وقد كان هذا في شريعته وشريعة نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- وسليمان –عليه السلام- لم يكن ليقر امرأة لو أسلمت ملكة على قومها؛ لأن هذا مخالف لأمر الله وحكمه لذلك دعاها وقومها إلى الإسلام وأن تأتي بنفسها مع قومها متجردة من ملكها قبل أن يرسل إليها من يخرجها وقومها، ولما علم بإعلام الله تعالى له بأنهم سيأتون إليه مسلمين نقل عرشها إليه لينهي وجود هذا المنكر، ولو لم يكن هذا منكراً لما حل له أن يأخذ عرشها غنيمة وهي مسلمة، كيف والغنائم لم تحل إلا لأمة محمد –صلى الله عليه وسلم-.
2- هل كان في القرآن إقرار لتملكها وترؤسها؟ لا بل إن هدهداً مؤمناً مع سليمان –عليه السلام- استنكر ملكها على قومها قبل أن يستنكر كفرها وسجودها للشمس، فقال لسليمان –عليه السلام- "وجئتك من سبأ بنبأ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون" (النمل:22-24) فالعجب أن يتخذ هذا الدليل الصريح من القرآن على منع المرأة من الولاية العامة دليلاً عند المعاصرين على جواز أن تكون المرأة ملكة وأن تولى ولاية عامة.
3- كيف نتخذ من شرائع الكفار دليلاً في ديننا الخاتم؟! وهذا السؤال موجه لمن اتخذ من حكم بلقيس -وهي على الكفر- دليلاً ولم يتخذ من فعلها بعد إسلامها وهو ترك الحكم دليلاً.
* الاستدلال بخروج أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- في موقعة الجمل: وبيان ذلك:
1- نقول لهؤلاء هل اقتديتم بأم المؤمنين في حجابها وحرصها على طلب العلم والعمل بالإسلام في كل حياتها والبعد عن مواطن الرجال وهي أمهم التي لا يحل لهم الزواج بها أبداً؟ فقد ورد في صحيح البخاري –رحمه الله- كتاب الحج أنها كانت –رضي الله عنها- تطوف معتزلة عن الرجال فدعتها امرأة إلى استلام الركن فأبت.
بل هي زجرت بشدة مولاة لها لما أخبرتها أنها استلمت الحجر الأسود مرتين أو ثلاثاً أثناء الطواف، فقالت لها: لا أجرك الله، لا أجرك الله، أتدافعين الرجال ألا كبرت ومررت؟ بل هي –رضي الله عنها- من أنكرت على المرأة التي تشبهت بالرجال بلبسها النعلين، فقالت: لعن رسول الله الرَّجلة من النساء.
فبعد كل هذا الإنكار يقول من يقول: إنها –رضي الله عنها- قد خرجت في أمور سياسية تؤدي إلى اختلاطها بالرجال؟!(/5)
2- أن عائشة –رضي الله عنها- لم تخرج ملكة ولا أميرة ولا متولية شئون هذه الجماعة وكان هؤلاء الصحابة قد بايعوا علياً –رضي الله عنه- بالخلافة، ولم يدعوا إلى خلافة أو ولاية غير ولاية أمير المؤمنين علي –رضي الله عنه- وقد عمد الزبير وطلحة –رضي الله عنهما- إلى إخراج أم المؤمنين –رضي الله عنها- لعله أن يسمع لها الناس، فهي أمهم والتي توفي عنها الرسول –صلى الله عليه وسلم- وهو راضٍ عنها، بل هي أحب الناس إليه فقد توفي ورأسه الشريفة بين حجرها ونحرها، وقد ظنا –رضي الله عنهما- أن الجميع سيسمع كلامهما وتجتمع الأمة ولا تتفرق، فقد كانت كما وصفها علي –رضي الله عنه- [أطوع الناس في الناس] ولكن كان ما لم يكن في الحسبان، وهو إشعال قتلة عثمان الحرب بين الفريقين حتى لا يصطلحا على قتلهم، فإذن لم يكن خروجها –رضي الله عنها- قط متولية شئون المسلمين، وإنما كان خروجها معنوياً لمنزلتها ومكانتها بين الجميع، ثم هي قد ندمت على خروجها.
* الاستدلال بشجرة الدر وغيرها من النساء
1- هذا من أقبح الأدلة؛ فإن الحجة الشرعية في كتاب الله تعالى وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- الصحيحة وفعل الصحابة والخلفاء الراشدين –رضي الله عنهم- وإجماع الأمة، وليس الاستدلال بالأعمال الخاطئة في القرون المتأخرة.
2- أما أروى الصليحية فهي من أتباع المذهب الباطني الفاطمي، وزوجها قد كان في الأصل سنياً ثم تشيع على يد أحد أتباع الدولة الفاطمية التي كانت تسيطر على مصر وغيرها، فكيف تكون قدوة هي أو غيرها؟!
3- أما شجرة الدر أم خليل التركية فقصتها معلومة، فهي في الأصل كانت مملوكة محظية للملك الصالح نجم الدين أيوب –رحمه الله تعالى- وكانت لا تفارقه سفراً ولا حضراً من شدة محبته لها، ومات ولدها منه وهو صغير، وبعد مقتل ابنه توران شاه على أيدي المماليك بعد شهرين من توليه الحكم تولت الديار المصرية مدة ثلاثة أشهر، فكان يخطب لها وتضرب السكة باسمها، وقد تزوجت عز الدين التركماني وصار هو الملك، ولما علمت أنه يريد الزواج عليها بابنة صاحب الموصل أمرت جواريها أن يمسكنه لها فما زالت تضربه بقباقيبها والجواري يعركن في بطنه حتى مات وهو كذلك، ولما سمع مماليكه أقبلوا بصحبة مملوكه الأكبر سيف الدين قطز فقتلوها وألقوها على مزبلة. انظر البداية والنهاية/م/13/ص/208-209 فامرأة مثل هذه تتخذ قدوة لنا؟!
4- الاعتماد على كتب الإعلام التي تذكر الجميع بدون نقد وتمحيص لا يعد دليلاً، فهذه الكتب لا تحل حراماً أبداً.
* الاستدلال بما حدث في مصر وهو تولي المرأة القضاء.
1- والصحيح أنها فقط تولت وظيفة إدارية، ولم تقف على منصة قضاء أو تتولى ذلك بأي صورة.
2- رئاسة المرأة للحكم في مصر مرفوضة باتفاق عقلاء مصر -حرسها الله تعالى- فقد صرح المستشار د. البيومي محمد البيومي نائب رئيس مجلس الدولة بأنه في ضوء المادة الثانية من الدستور القائمة على الإسلام هو الدين الرسمي للدولة فإنه لابد أن يكون المرشح لرئاسة الدولة ذكراً؛ لأن المرأة بإجماع الفقهاء قديمهم وحديثهم لا تصلح للإمامة العظمى قديماً أو رئاسة الدولة حديثاً. وما قلناه ينطبق على منصب نائب رئيس الدولة.
3- القانون المصري يسير على عدم تولي المرأة القضاء [سواء الإداري أو العادي] فهذه المهمة قاصرة على الرجال فقط، كذلك لا تتولى مهمة النيابة العامة؛ لأنها تعتبر من الهيئات القضائية. انظر تولية المرأة القضاء شرعاً وقانوناً. د. كامل شطيب الرأوي.
* الاستدلال ببعض الدول الإسلامية في تولي نسائها رئاسة دولهن
والرد على ذلك:
1- أن هذه الدول بعضها يعلن صراحة أنها علمانية فلا دين رسمي لها، فكيف نتخذ أمثال هؤلاء قدوة لنا؟ ثم هؤلاء النسوة مخالفات للهدي النبوي، فهل نتبع أهل العصور الحاضرة أم نتبع ما كان عليه الرسول –صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام؟!
2- لا يجوز الاستدلال بالواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية في زماننا؛ لأن أمر تولية المرأة قد حدث في غياب الإسلام عن واقع المجتمعات وعدم استفتاء العلماء الراسخين في العلم.
3- الفيصل في هذا الأمر الشرعي لا يكون في الإتيان بأمثلة من أناس مخالفين للهدي النبوي.
* الاستدلال بأن المرأة يصح أن تكون مفتية وتؤخذ عنها الفتوى
قضية أن المرأة يصح أن تكون مفتية لا يردها عاقل، وهي تستطيع أن تفعل ذلك وهي في بيتها بدون خروج أو اختلاط بالرجال، وفرق بين الإفتاء وبين الخروج للقضاء الذي يقتضي الاختلاط والاستماع للخصوم ووضع مساعدين، والتعرف على ما يحدث في الخارج والسفر وغير ذلك. والإفتاء ليس من باب الولايات؛ لأنه إخبار عن حكم شرعي ولا إلزام فيه أما القضاء فهو إخبار مع إلزام.(/6)
ثامناً: السبب في كل هذا التخبط هو الميل إلى ما عند غيرنا من الأمم الأخرى، والتشبه بهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: [إن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تشابها وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال وهذا أمر محسوس، فإن اللابس لثياب أهل العلم مثلاً يجد نفسه في نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة يجد نفسه في نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعهم متقاضياً لذلك...
إن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد له الحس والتجربة.... فالمشابهة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي...والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضاً مناسبة وائتلافاً وإن بعد المكان والزمان فمشابهتهم –يقصد اليهود والنصارى- في الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم في عين الأخلاق والأفعال المذمومة بل في الاعتقادات. ثم يضرب مثالاً من واقع الناس، فيقول: لو اجتمع رجلان في سفر أو في بلد غريب وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو في الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما، وكذلك تجد في أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضا ما يألفون غيرهم حتى أن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة... ثم يقول: فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟ فإن إفضاءها إلى نوع من المولاة أكثر وأشد، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان] كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم تحقيق د. ناصر العقل /1/ص79/488-489.
الخاتمة
وأختم ما سبق بأقوال للإمام ابن قيم الجوزية –رحمه الله- يقول في كتابه الفوائد: طالب الله والدار الآخرة لا يستقيم له سيرة إلا بحبسين: حبس قلبه في طلبه ومطلوبه، وحبسه عن الالتفات إلى غيره، وحبس لسانه عما لا يفيد وحبسه عن ذكر الله وما يزيد في إيمانه ومعرفته، وحبس جوارحه عن المعاصي والشهوات وحبسها على الواجبات والمندوبات، فلا يفارق الحبس حتى يلقى ربه فيخلصه من السجن إلى أوسع فضاء وأطيبه. ومتى لم يصبر على هذين الحبسين وفر منهما إلى قضاء الشهوات أعقبه ذلك الحبس الفظيع عند خروجه من الدنيا، فكل خارج من الدنيا إما متخلص من الحبس وإما ذاهب إلى الحبس.
وقال: عشرة لا ينتفع بها، وذكر منها: وفكر يجول فيما لا ينفع.
وكما قلت في البداية ما قصدت بكتابتي إلا توضيح الحق الذي نحبه جميعاً، وأوصي نفسي والمسلمين بهذا الدعاء المأثور: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، أهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. يقول الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- في شرحه لهذا الدعاء: الرسول –صلى الله عليه وسلم- يسأل الله عز وجل أن يهديه لما اختلف فيه من الحق، وهل نحن نسأل هذا؟ قليل، فيجب علينا ألا نعتد بأنفسنا وألا نغتز بعلومنا، ونسأل الله دائماً أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه. كما نوصي أنفسنا بقفل باب الفتن والالتفاف حول علمائنا، وكفانا انشغالا بأمور قد كفلها لنا الشرع الحنيف، ولنلتفت لتنمية مجتمعنا والأخذ بأيدي شبابنا نحو معالي الأمور، ونكون نحن قدوة لغيرنا في التمسك القوي بديننا ذلك التمسك القائم على الأدلة الصحيحة المجمع عليها، فمن شذ فقد شذ في النار.
________________________________________
(*)أستاذ مساعد بمعهد اللغة العربية لغير الناطقين بها بجامعة أم القرى(/7)
المرأة.. لا تستطيع النهوض بأمانة الدعوة دون التسلح بالوعي الاجتماعي
أجرى الحوار في عمان:
نجدت كاظم لاطة
ما المعوقات التي تحد من دور المرأة الملتزمة في العمل الدعوي والمشاركة في كافة الأنشطة؟
<< تحتاج المرأة المسلمة اليوم إلى مزيد من الوعي الاجتماعي ومعرفة متطلبات العصر لتقوم بدورها المطلوب في الدعوة، وحضورها في كل الميادين التي يمكن أن تحدث التغيير، خاصة الإعلامية منها والسياسية والفكرية والفنية، لأن بقاء دور المرأة الداعية محصوراً في إعطاء الدروس والمواعظ يعني أنها توصل فكرتها لمن يقبلها أصلاً ويريد سماعها، وتبقى حواراتها محصورة مع المقتنعات بفكرها.. وما جدوى الحوار لتقنع مقتنعاً أو تسمع سامعاً؟! ولا شك أن اقتحام الجديد ليس بالأمر السهل، إنه يحتاج إلى ثقة عالية بالمبدأ والوسيلة، وإيمان عميق وتفكير دقيق ورؤية واسعة شاملة لأهداف الدعوة الإسلامية ووسائلها المتاحة.
فما أسباب هذا الغياب؟
لعل أهم الأسباب هي:
1 وجود بعض الأعراف الاجتماعية بين الملتزمين وإلباسها ثوب الدين، على سبيل المثال: رؤية امرأة مسلمة تقف أمام الجمهور العام للحديث في شأن من شؤون الحياة العامة، هو أمر مستهجن ومستنكر عند كثير من الملتزمين من الرجال والنساء على حد سواء، حتى وإن كانت ملتزمة بحجابها وأدبها الإسلامي. والبعض يبرر أن وجه المرأة عورة أو صوتها عورة.. والبعض الآخر لا يجرؤ على القيام بهذه المبادرة خوفاً من القيل والقال، وآخرون اعتادوا أن يروا الرجال فقط يتحدثون. فكسر حاجز العادة التي أصبحت عرفاً ليس سهلاً على الإطلاق.
2 عدم تحديد المفاهيم لبعض المظاهر: منها ظاهرة الاختلاط والفرق بين الاختلاط المحرم والمشاركة الواجبة إن جاز التعبير. وكذلك تحديد مفهوم الفتنة، ما الفتنة؟ كيف نقيسها؟ ألا تختلف من زمن إلى زمن ومن مجتمع إلى آخر ومن مكان إلى غيره؟ وما معنى الاختلاط ومتى يحرم؟ وما معنى المشاركة ومتى تكون واجبة على المرأة.
3 بعض الرجال المتدينين يسيطر عليهم فهم خاطئ لشرع الله، وشعور منحرف بامتلاك المرأة، فلا يرضون لها القيام بأي مهمة خارج البيت ولو كانت لصالح البيت أو لصالح المجتمع، مع أن القرآن الكريم بيّن صراحة في قوله تعالى: ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى" وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا (124) (النساء) فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى" بعضكم من بعض (آل عمران:195) التعبير الإلهي بعضكم من بعض حد من طغيان الرجل فجعله بعض من المرأة.. وأقر مكانة المرأة أنها بعض من الرجل. فهل يمكن أن نفصل الحياة: عالم للرجال وعالم للمرأة لا شأن لأحدهما بالآخر؟
يوعز البعض في تحجيم دور المرأة الملتزمة إلى طغيان ظاهرة الاختلاط بين الرجال والنساء في كافة مرافق المجتمع.. مما يضطرها إلى عدم المشاركة في كثير من الأنشطة. هل هذا السبب كافٍ لقعودها في البيت وترك المجتمع يزداد بعداً عن الله؟
<< إذاً كيف يمكن للمرأة الملتزمة أن تمارس دورها الدعوي الذي كلفها به الله سبحانه وتعالى في قوله والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (التوبة:71) كيف تقوم بهذه الأمانة والمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون أن تتسلح بالوعي الاجتماعي المطلوب (قضايا المجتمع، همومه، مشكلاته، تحدياته، الحلول الممكنة..؟!) كيف يتكون هذا الوعي بعيداً عن المشاركة في ميادين الحياة المختلفة والتي يوجد فيها الرجال والنساء بطبيعة الحال؟
المساجد لا تفتح أبوابها للنساء إلا في صلاة الجمعة وصلاة التراويح في رمضان، مع أن الصحابيات رضوان الله عليهن كان لهن حضور دائم في المسجد النبوي حتى في صلاة الفجر. إلى من يعود السبب في هذا الخلل؟
<< إن قراءتنا لسيرة سلفنا الصالح من الرجال والنساء تعلمنا الكثير.
وقد كانت امرأة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي عاتكة بنت زيد تشهد صلاتي الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد، فقيل لها: لِمَ تخرجين وأنت تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟ فقالت: وما يمنعه أن ينهاني؟ قال: يمنعه قول رسول الله ص "لاتمنعوا إماء الله مساجد الله" (رواه البخاري). وفي هذا الحديث بيان أن مشاركة المرأة في مجالات الدعوة أو حضورها الصلاة في المسجد يعود إلى الدافعية الموجودة عند المرأة نفسها.. إلى إيمانها الذاتي الذي يحتاج أن يتحقق عملاً وسلوكاً.. فهذه زوجة عمر، ومَن أقوى شخصيةً من عمر الفاروق؟ لكنه لايمنعها التزاماً ومراقبة لأمر الله ورسوله. فليت رجالنا يتعلمون منه اليوم.. إن الغيرة على الزوجة أو الابنة ليست مبرراً لاستلابها أي حقٍ من حقوقها، والقوامة على الزوجة قوامة العدل يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط (النساء:135) والأمة المسلمة وهي تحاول اليوم استعادة دورها الحضاري كالطائر لا يمكن أن يحلق إلا بجناحين: النساء والرجال. "إنما النساء شقائق الرجال".(/1)
لماذا لا تبادر المرأة الملتزمة من نفسها بالحضور إلى ساحات العمل الإسلامي ولا تنتظر أن يفسح لها الرجال لأن العقود السابقة أثبتت أن هناك تقاعساً ملحوظاً من قبل الرجال في إعطاء المرأة الدور المطلوب في العمل الإسلامي؟
<< بالفعل، على المرأة أن تقوم بالمبادرة المنبعثة من إيمانها الخالص لله عز وجل، وعلى الرجل الحريص على دين الله ونصرته دور التشجيع، فإن لم يكن التشجيع فعلى الأقل لايقف حائلاً بين زوجته أو ابنته أو أخته وأن تأخذ دورها الحضاري الإسلامي المطلوب. وعلينا معاً.. رجالاً ونساءً الوقوف على أحكام الله وشرعه ومراعاة الضوابط الشرعية دون إفراط أو تفريط.
أليس من الواجب على المرأة أن تقوم بنفسها بتصحيح الأعراف الخاطئة لاسيما التي تقف حائلاً بينها وبين ممارسة العمل الدعوي؟
<< لقد علّم الله سبحانه وتعالى المرأة المؤمنة في سورة المجادلة كيف تغيّر عرفاً خاطئاً يتعارض مع إيمانها بالحق عز وجل.. ولا أريد أن أخوض في تفاصيل القصة هنا (كونها معروفة) إلاّ أننا نتعلم منها أ لا تسكت المرأة المؤمنة على استلاب حق من حقوقها، وأن تراقب الله في كل صغيرة وكبيرة في حياتها، وأن تكون قيمة الحق واضحة في النفس.. وأن تمتلك من القوة الإيمانية ما يدفعها للحوار والمجادلة مدافعة عن الحق فيكون الله معها، وذلك بأن الله هو الحق.
والتحرر من الخوف، والمبادرة لرفع الظلم، المنطلقان من الإيمان بالله عز وجل كفيلان بتغيير كثير من الأعراف الخاطئة التي ارتبطت أو التبست بالشرع وما هي منه؛ لأن الإلف أو العادة تنسي الإنسان وتجعله يغفل عن معايير الحق، فلا بد من محرك قوي يثير هذا التفاعل في النفس أولاً..
ما رأيك بالشباب المسلم اليوم وهو يرى التحولات الفكرية الناتجة عن ثورة الاتصالات؟
<< إنني أتطلع بأمل كبير إلى الشباب المسلم الذي نشأ وتكوّن في عصر التحديات الكبيرة التي تواجه أمتنا، وأتيحت له فرصة الإلمام بمقتضيات العصر التكنولوجية من كمبيوتر وإنترنت.. أن يساهم مساهمة حقيقية في رفع مستوى الأداء للدعوة الإسلامية بما يقدم من أفكار جديدة ومشاريع عملية تثبت نجاحها على أرض الواقع. وإنني ألمح فجراً جديداً في مجال العمل الإسلامي بما نفخر به من مؤسسات أنشأها شباب الدعوة الإسلامية بمبادرات شخصية، منطلقين من قوله تعالى وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون (التوبة:105). والعصر (1) إن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (3)(العصر).(/2)
المرأةُ والولايات السيادية
تقديم
فضيلة الشيخ العلامة : عبد الرحمن بن ناصر البراك
وفضيلة الشيخ الدكتور: محمد بن رزق طرهوني
وفقهما الله تعالى
تأليف
عبد الرحمن بن سعد الشثري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله , والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه .
أمَّا بعد : فقد اطلعتُ على البحث الذي كتبه أخونا الشيخ : عبد الرحمن بن سعد الشثري , في حكم تنصيب المرأة في الولايات العامة , كالإمامة العظمى , والوزارة , والإدارة , فوجدته بحثاً جيِّداً , قد تضمَّن ذكر الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال العلماء في هذه المسألة , مما يتضمَّنُ الرَّد على أصحاب التوجُّه التغريبي من المنافقين والمخدوعين , فجزى الله المؤلف خيراً , ونفع بما كتبه .
وذلك بمناسبة ما نُشر في بعض الصحف من ترشيح عدد من النسوة ليكنَّ سفيرات في وزارة الخارجية , وهي خطوة مسبوقة لخطوات تغريب المرأة المسلمة , وهو تحقيق لِما تقضي به وثيقة هيئة الأمم المتحدة من تحريم التمييز ضد المرأة – أي تمييز الرجل على المرأة – وذلك يعني التسوية بينهما في جميع المجالات , وهي وثيقةٌ باطلةٌ , لأنها مناقضةٌ لجميع أحكام الإسلام التي فيها تمييزٌ بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات (( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ )) (المائدة:50) .
وصلى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
حُرِّر في يوم الخميس 10/9/1426هـ .
أملاه
عبد الرحمن بن ناصر البراك
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله , والصلاة والسلام على رسول الله .
أمَّا بعد : فقد اطلعت على رسالة الأخ الكريم المفضال الشيخ عبد الرحمن بن سعد الشثري , وعنوانها : المرأة والولايات السيادية , فوجدتها رسالة قيِّمة , تسدُّ ثغرة هامة في وقتنا الحاضر , وتُمثِّل حصناً دفاعياً تجاه النعرات التي يعلو صوتها هذه الأيام .
وقد أجاد أخونا الفاضل وفقه الله لكل خير في تستطير تلكم الرسالة القيمة , وذلك ضمن اهتماماته المتكرِّرة , نفع الله به بما يَجدُّ في الساحة الإسلامية من مسائل ينتظر فيها ناشدو الحق من المسلمين الإيضاح والبيان من أهل العلم , ولكنهم يُصابون بخيبة أمل حينما لا يجدون البيانَ الشافي, والتوضيح الْمُؤصَّل , فكانت هذه الرسائل نبعاً صافياً ينهلُ منه كلُّ من اختلطت عليه الأمور وتلاقفته الأهواء .
والمرأة خلال أربعة عشر قرناً خلت كانت مملكتها بيتُها , وحجابها سترها , وحياؤها هو رأس مالها مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها)) , ولِما روي عنه أيضاً من قوله : ((من قعدت منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين )) , وتبيينه صلى الله عليه وسلم أنَّ النساء أسيرات عند أزواجهنَّ حيث قال : (( اتقوا الله في النساء فإنهنَّ عوان عندكم )) .
والنصوص في هذا المعنى كثيرة , وقد نقل الشيخ عبد الرحمن طائفة منها تُغني عن غيرها , وأردفها بفهم علماء الأمة الجهابذة فلم يترك مجالاً لمغرض أو لعابث فجزاه الله خير الجزاء .
وخروج المرأة من بيتها واختلاطها بالرجال مفتاح كل فساد وشر , وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( المرأةُ عورةٌ ، فإذا خَرَجَت اسْتَشْرَفَهَا الشيطانُ ، وأقربُ ما تكونُ مِن ربِّها إذا هيَ في قَعْرِ بيتها )) .
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : ( بلغني أنَّ نساءكم ليُزاحمْنَ العلوج في الأسواق ، أما تغارون ؟ إنه لا خير في مَنْ لا يغار ) .
ولا شك أن تولية المرأة أيَّ ولاية هو انتكاس لفطرتها وتعريض لها لأن تَفتن وتُفتن , ولا يرضى رجل لأهله مثل ذلك إلاَّ وهو ناقص في رجولته مضيع للأمانة التي استرعاه الله إياها , وإذا كان الله تعالى قد حرَّم تمكين النساء والأطفال من التصرف في الأموال إلاَّ تحت الوصاية والرعاية من الرجال فقال : (( وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً)) (النساء:5) كيف بما هو أعظم من ذلك من ولايات أهل الإسلام .
وها هو الغرب الكافر الذي فُتحت فيه أبواب الاختلاط السافر وتولية المرأة المناصب يشهد أهله من خلال دراسات ميدانية أن المرأة العاملة تتعرض دوماً للابتزاز الجنسي , ولا تكاد تسلم المرأة من ذلك حتى وإن كانت دميمة , فسبحان من شرع للمرأة الحجاب والقرار في البيت ومباعدة الرجال الأجانب .
أسأل الله تعالى أن يجزي الشيخ عبد الرحمن خير الجزاء على هذه الرسالة القيمة , وأن ينفع بها قارئها , وإني أُهيب بولاة أمور المسلمين - وفقهم الله - أن يَعضُّوا على ما جاء فيها بالنواجذ , وأن يسعوا إلى نشرها بكلِّ وسيلة ممكنة , بل هي أهلٌ لأن تُوزَّع على الطالبات في مراحل الدراسة المختلفة في بلاد المسلمين .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وكتبه
د. محمد بن رزق بن طرهوني
المدينة النبوية في 15/11/1426هـ(/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده , والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعده نبيِّنا وسيِّدنا وقدوتنا محمد صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم .
أما بعد : فقد اقترحَ بعضُ من يُظنُّ به الخير لمصالحَ يراها أنْ تُنشأ وزارة تختصُّ بشؤون المرأة , يتولاَّها امرأةٌ على مرتبة وزير , وكذلك : أن تتولَّى شؤون تعليم النساء امرأة على مرتبة وزيرة أو نائبة وزير , ودعا غيرهم إلى أن تولية المرأة بعض الوزارات , ودخولها الانتخابات الرئاسية في بعض الدول , ودَعَى بعضهم إلى إدخال المرأة في السلك الدبلوماسي فتكون منهن السفيرة والممثلة القنصلية .. إلخ .
ولقد عَدَّ الحافظ ابن رجب الحنبلي ت795هـ - رحمه الله - الرَّد على المقالات الضعيفة وتبيين الحقِّ في خلافها بالأدلة الشرعية : من النصيحة لله , ولكتابه , ولرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم , ولأئمة المسلمين , وعامتهم (1).
ولبيان الحقِّ فيما ذُكر , والتعاون على البرِّ والتقوى أكتبُ عن حكم تولِّي المرأة للخلافة العظمى , والوزارة , ما دونها مما فيه ولاية لها على الرجال كالسفارة مثلاً , وذلك عبر الفصول التالية :
الفصل الأول : معنى الولاية , والوزارة , والسفارة .
الفصل الثاني : أقسام الوزارة , وشروط مُتقلِّدها .
الفصل الثالث : دلالة الكتاب على حُرمة تولِّي المرأة للولاية والوزارة والسفارة .
الفصل الرابع : دلالة السنة على حُرمة تولِّي المرأة للولاية والوزارة والسفارة .
الفصل الخامس : الإجماع على حُرمة تولِّي المرأة للولاية والوزارة والسفارة .
الفصل السادس : دلالة العقل على حُرمة تولِّي المرأة للولاية والوزارة والسفارة .
الخاتمة .
وإلى الرسالة نفعني الله والمسلمين بها .
الفصل الأول
معنى الولاية , والوزارة , والسفارة .
معنى الولاية أو الإمامة أو الخلافة :
قال أبو الحسن علي بن محمد الماوردي ت450هـ رحمه الله تعالى : ( الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا )(2).
والمعنى : وسياسة الدنيا به , أي : بالدين .
معنى الوزارة :
قال أبو بكر بن العربي ت543هـ رحمه الله : ( الوزارة ولاية شرعية , وهي عبارةٌ عن رَجُل موثوقٍ به في دينه , يُشاوره الخليفة فيما يَعِنُّ له من الأمور )(3).
معنى السَّفارة :
( عمل السفير ومقامه ) (4), والسفير : ( الرسول والمصلح بين قومين , وفي القانون الدولي : مبعوث يُمثِّل الدولة لدى رئيس الدولة المبعوث إليها ) (5).
وقال أبو زكريا محيي الدين النووي ت676رحمه الله : ( في آخر الباب الرابع من كتاب الخلع : أصل السفارة الإصلاح , يُقال : سفرت بين القوم أي أصلحت , ثمَّ سُمِّي الرسول سفيراً لأنه يسعى في الإصلاح ويُبعثُ له غالباً ) (6).
الفصل الثاني
أقسام الوزارة , وشروط مُتقلِّدها .
ذكر علماء الأحكام السلطانية أنَّ الوزارة تنقسم إلى قسمين :
وزارة التفويض : وهي : ( أنْ يَسْتَوْزِرَ الإمامُ مَنْ يُفوِّضُ إليه تدبيرَ الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده ) (7).
( ويُعتبرُ في تقليد هذه الوزارة شروط الإمام ) (8)الأعظم من : الإسلام (9), والتكليف (10), والحرية(11), والذكورة (12), والعدَالة (13)
__________
(1) يُنظر : الفرق بين النصيحة والتعيير لابن رجب ص11 .
(2) الأحكام السلطانية والولايات الدينية ص5 للماوردي .
(3) أحكام القرآن ج4/1462 .
(4) المعجم الوسيط ص433 مجمع اللغة العربي بالقاهرة بإشراف عبد السلام هارون.
(5) المصدر السابق .
(6) تهذيب الأسماء واللغات ج3/2142 .
(7) الأحكام السلطانية ص22 للماوردي , والأحكام السلطانية ص29 للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء الحنبلي ت458هـ .
(8) الأحكام السلطانية للفراء ص29 .
(9) يُنظر : حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار ج1/548 لابن عابدين ت1306هـ , والإرشاد للجويني ص427 , والتاج والإكليل لمختصر خليل ج6/276 لأبي عبد الله محمد العبدري المعروف بابن المواق .
(10) أي : بالغاً عاقلاً , وهذا بالإجماع .
(11) يُنظر : كتاب الإرشاد ص427 , ولمع الأدلة ص116 وكلاهما للجويني , وغاية المرام ص383 لعلي بن محمد الآمدي ت631هـ , وحاشية ابن عابدين ج1/548 , وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4/265 لمحمد عرفة الدسوقي ت123هـ , ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ج7/389 للشافعي الصغير لمحمد الرملي ت1004هـ , والأحكام السلطانية ص20 لأبي يعلى , والمبدع في شرح المقنع ج10/10 لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن مفلح ت880هـ .
(12) باتفاق الفقهاء .
(13) وهو مذهب المالكية , يُنظر : التاج والإكليل لمختصر خليل ج6/277 للمواق
ومذهب الشافعية , يُنظر : نهاية المحتاج ج7/390 .
وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد واختاره أكثر أصحابه , يُنظر : الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص20 , وكشاف القناع ج6/159 .
وقول بعض الحنفية , يُنظر : أحكام القرآن ج1/69 لأبي بكر أحمد بن علي الجصاص .
وقول الظاهرية , يُنظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل ج4/180 لعلي بن حزم الظاهري ت548هـ , وهذه المراجع المذكورة هي لشروط الإمامة العظمى .(/2)
, والاجتهاد (1) , والكفاية (2)( إلاَّ النسب وحده )(3), ( فإنه لا يُعتبرُ فيه كونه قرشياً )(4).
وهي أشبه ما يكون بمنصب رئيس الوزراء (5)من جهة التفويض العام , أمَّا التفويض الْمُقيَّد فيدخل فيه بقيَّة الوزراء .
القسم الثاني : وزارة التنفيذ :
و ( هي التي لا يكونُ لصاحبها تدبير الأمور باجتهاده , وإنما يكونُ عملُه فيها قاصراً على تنفيذ أوامر الخليفة والتزامِ آرائه )(6).
وفي عصرنا الحاضر : لَمْ تَعُدْ فيه وزارات التنفيذ مقصورة على أوامر الحاكم الْمُقيَّدة بالأنظمة والقوانين , بلْ أصبحَ لكلِّ وزارة تنفيذية صلاحيات عامة لِمُتقلِّدها وفق الأنظمة , ووظائف مخصوصة به من توظيف , ونقل , وتأديب , وترقية , تقع الأمة والدولة تحت نظره وتصرُّفه عليهما بموجب تلك الصلاحيات في مجال وظائفه المختصِّ بها .
الفصل الثالث
حكم تولِّي المرأة للولاية والوزارة من القرآن الكريم .
لقد دلَّ القرآن الكريم على حُرمة تولِّي المرأة للولاية ووزارة التفويض والتنفيذ , ومن ذلك :
1 - قول الله تعالى : (( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ )) (النساء:34)(7).
قال محمد بن أحمد القرطبي ت671هـ رحمه الله تعالى : ( أي يقومون بالنفقة عليهنَّ والذبِّ عنهنَّ , وأيضاً : فإنَّ فيهم الحكام والأمراء ومن يغزو , وليس ذلك من النساء) (8).
وقال البغوي ت516هـ : ( يعني فضَّل الرجال على النساء بزيادة العقل والدين والولاية ) (9).
وقال البيضاوي : ( يقومون عليهنَّ قيام الوُلاة على الرعيَّة , وعلَّل ذلك بأمرين : وهبي وكسبي فقال : (( بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)) بسبب تفضيله تعالى الرجال على النساء بكمال العقل وحسن التدبير ومزيد القوة في الأعمال والطاعات , ولذلك خُصُّوا بالنبوة والإمامة والولاية وإقامة الشعائر والشهادة في مجامع القضايا ووجوب الجهاد والجمعة ونحوها , والتعصيب وزيادة السهم في الميراث والاستبداد بالفراق ) (10).
وقال محمد بن علي الشوكاني ت1250هـ : ( إنما استحقوا هذه المزية لتفضيل الله للرجال على النساء بما فضلهم به من كون فيهم الخلفاء والسلاطين والحكام والأمراء , والغزاة وغير ذلك من الأمور ) (11).
وقال أبو الأعلى المودودي : ( هذا النصُّ يقطعُ بأنَّ المناصب الرئيسية في الدولة : رئاسة كانت أو وزارة ... لا تُفَوَّضُ إلى النساء ... ) (12).
2 – قول الله تعالى : (( وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ)) (البقرة:228) (13).
قال ابن أبي حاتم : ( حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ثنا وكيع قال : سمعت سفيان يقول : سمعت زيد بن أسلم يقول في قول الله : (( وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ )) قال : الإمارة ) (14).
__________
(1) وبه قال جمهور العلماء , وهو مذهب المالكية , يُنظر : متن مواهب الجليل من أدلة خليل ج4/200 لمحمد الأمين الشنقيطي ت1393هـ .
ومذهب الشافعية , يُنظر : حاشية البجيرمي ج4/204 .
ومذهب الحنابلة , يُنظر : المبدع ج10/10 .
وبعض الحنفية , يُنظر : حاشية ابن عابدين ج1/549 .
(2) كالشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو , والرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح .
يُنظر : الأحكام السلطانية للماوردي ص6 , وحاشية ابن عابدين ج1/548 , والإرشاد ص426 , ومقدمة عبد الرحمن بن خلدون ص193 , وبلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك على الشرح الصغير للدردير ج2/414 لأحمد بن محمد الصاوي , ومغني المحتاج ج4/130 , والإنصاف ج10/310 , والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص20 , والمواقف مع شرح الجرجاني ج8/349 للإيجي .
(3) قاله الماوردي في الأحكام السلطانية ص22 , والفراء في الأحكام السلطانية ص29 .
(4) قاله بدر الدين بن جماعة ت733هـ في كتابه : تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام ص77
(5) نظام الوزارة في الدولة الإسلامية , دراسة مقارنة للدكتور إسماعيل البدري ص354 .
(6) عبقرية الإسلام في أصول الحكم للدكتور منير العجلاني ص166 .
(7) الآية 34 من سورة النساء .
(8) الجامع لأحكام القرآن ج5/168 .
(9) تفسير البغوي ج1/422 .
(10) تفسير البيضاوي ج2/184 .
(11) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ج1/460 .
(12) نظرية الإسلام وهديه ص316 .
(13) الآية 228 من سورة البقرة .
(14) تفسير ابن أبي حاتم ج2/417 , ويُنظر : تفسير الطبري ج2/454 .(/3)
وقال العلامة عبد الرحمن السعدي ت1376هـ رحمه الله : ( أي رفعة ورياسة وزيادة حق عليها , كما قال تعالى : (( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ )) ومنصب النبوة , والقضاء , والإمامة الصغرى والكبرى , وسائر الولايات مختصٌّ بالرجال وله ضعفا ما لها في كثير من الأمور كالميراث ونحوه ((وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ)) أي : له العزة القاهرة , والسلطان العظيم الذي دانت له جميع الأشياء , ولكنه مع عزته حكيم في تصرفه )(1).
3 - قول الله تعالى : (( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى )) (الأحزاب:33)(2).
دلَّت الآية الكريمة على وجوب لزوم المرأة المسلمة بيتها , وعدم خروجها منه إلاَّ عند الحاجة , ويدلُّ لذلك أيضاً ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : ( خرجت سودة بنت زمعة ليلاً فرآها عمر فعرفها فقال : إنك والله يا سودة ما تخفين علينا , فرجعت إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له وهو في حجرتي يتعشَّى وإن في يده لعرقاً , فأُنزل عليه , فرفع عنه وهو يقول : (( قد أذن الله لكنَّ أن تَخرجن لحوائجكنَّ )) (3)
ومن أقوال المفسرين في الآية الكريمة :
قال أبو عبد الله القرطبي : ( معنى هذه الآية : الأمر بلزوم البيت , وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى , هذا لو لم يرد دليل يخصُّ جميع النساء , كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة )(4).
وقال أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ت597هـ : ( قال المفسرون : ومعنى الآية : الأمر لهن بالتوقر والسكون في بيوتهن وأن لا يخرجن ) (5)
وقال أبو الفداء إسماعيل بن كثير ت774هـ : ( أي : الزمن بيوتكنَّ فلا تخرجن لغير حاجة ) (6).
وقال القاضي أبو بكر بن العربي ت543هـ : ( يعني : اسكنَّ فيها ولا تتحركن ولا تبرحن منها ) (7).
وقال أحمد مصطفى المراغي : ( أي : الزمن بيوتكنَّ فلا تخرجن لغير حاجة ، وهو أمرٌ لَهُنَّ ولسائر النساء ) (8).
وقال حسنين محمد مخلوف : ( الزمنها فلا تخرجن لغير حاجةٍ مشروعة ، ومثلُهنَّ في ذلك سائر نساء المؤمنين ) (9), وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي : ( أي : اقررن فيها ، لأنه أسلمُ وأحفظُ لَكُنَّ )(10).
وقال أبو الأعلى المودودي : ( صفوة القول : أنَّ خروج المرأة من البيت لَمْ يُحمد في حالٍ من الأحوال ، وخير الهدي لَها في الإسلام أنْ تُلازمَ بيتَها كما تدلُّ عليه آية (( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)) دلالة واضحة )(11).
وقال أبو الثناء محمود الألوسي ت1270هـ رحمه الله - بعد أن ذكر القراءات المتعدِّدة لقوله تعالى : (( وَقَرْنَ)) - : ( والمرادُ على جميع القراءات : أمرُهُنَّ رضي الله تعالى عنهنَّ بمُلازمة البيوت ، وهو أمرٌ مطلوبٌ من سائر النساء )(12).
4 - قول الله تعالى : ((وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ)) (الأحزاب:53) (13).
قال الإمام القرطبي رحمه الله : ( التاسعةُ : في هذه الآية دليلٌ على أنَّ الله تعالى أذنَ في مسألتهنَّ من وراء حجابٍ في حاجةٍ تَعرضُ , أو مسألةٍ يُستفتينَ فيها , ويدخلُ في ذلكَ جميعُ النساء بالمعنى , وبما تضمَّنته أصولُ الشريعة مِنْ أنَّ المرأة كلُّها عورةٌ بَدَنُها وصوتُها كما تقدَّم , فلا يجوزُ كشف ذلك إلاَّ لحاجةٍ كالشهادة عليها , أو داءٍ يكونُ ببدنها , أو سؤالها عما يعرضُ وتعيَّن عندها )(14).
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص102
(2) الآية 33 من سورة الأحزاب .
(3) رواه البخاري رحمه الله واللفظ له ح4939 باب خروج النساء لحوائجهن , ومسلم رحمه الله ح2170 باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان .
وقال أحمد بن حجر العسقلاني ت852هـ رحمه الله عن ترجمة الإمام البخاري رحمه الله على هذا الحديث : ( عقب المصنف بهذه الترجمة ليُشير إلى أنَّ خروج النساء للبراز لم يستمر , بل اتخذت بعد ذلك الأخلية في البيوت , فاستغنين عن الخروج إلاَّ للضرورة ) فتح الباري شرح صحيح البخاري ج1/250 .
(4) الجامع لأحكام القرآن ج14/179 .
(5) زاد المسير في علم التفسير ج6/379 .
(6) تفسير القرآن العظيم ج3/482 .
(7) أحكام القرآن ج3/1535 .
(8) تفسير المراغي ج22/6 .
(9) صفوة البيان لمعاين القرآن ص531 .
(10) تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ج6/219 .
(11) الحجاب ص 235 .
(12) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ج22/6 .
(13) الآية 53 من سورة الأحزاب .
(14) الجامع لأحكام القرآن ج14/227 .(/4)
وقال الدكتور إسماعيل البدوي : ( يُقرِّر القلقشندي أنَّ الإمام (1)لا يَستغني كلٌّ منهم عن الاختلاط بالرجال والمشاورة معهم في الأمور , والمرأةُ ممنوعةٌ من ذلك , ولأنَّ المرأة ناقصةٌ في أمر نفسها حتَّى لا تملك النكاح , فلا تُجعل إليها الولاية على غيرها ) (2).
فالشريعة جاءت باحتجاب النساء عن الرجال , ومنع الاختلاط بين الرجال والنساء , قال الإمام محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية ت751هـ رحمه الله تعالى : ( وَمِنْ ذَلِكَ : أَنَّ وَلِيَّ الأمْرِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ اخْتِلاطَ الرِّجَالِ بالنِّسَاءِ فِي الأَسْوَاقِ , وَالْفُرَجِ , وَمَجَامِعِ الرِّجَالِ , قَالَ مَالِكٌ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ : أَرَى لِلإِمَامِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى الصُّيَّاغِ فِي قُعُودِ النِّسَاءِ إلَيْهِمْ , وَأَرَى أَلا يَتْرُكَ الْمَرْأَةَ الشَّابَّةَ تَجْلِسُ إلَى الصُّيَّاغِ , فَأَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُتَجَالَّةُ وَالْخَادِمُ الدُّونُ , الَّتِي لا تُتَّهَمُ عَلَى الْقُعُودِ , وَلا يُتَّهَمُ مَنْ تَقْعُدُ عِنْدَهُ : فَإِنِّي لا أَرَى بذَلِكَ بَأْسًا , انْتَهَى , فَالإِمَامُ مَسْئُولٌ عَنْ ذَلِكَ , وَالْفِتْنَةُ بهِ عَظِيمَةٌ , قَالَ صلى الله عليه وسلم : (( مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ )) (3), وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : (( بَاعِدُوا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ )) (4), وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : أَنَّهُ قَالَ لِلنِّسَاءِ : (( لَكُنَّ حَافَّاتُ الطَّرِيقِ ))(5)
__________
(1) ومثله وزير التفويض , والوالي ولاية عامة .
(2) نظام الوزارة في الدولة الإسلامية ص102 .
(3) رواه البخاري ح4808 باب ما يُتَّقى من شؤم المرأة وقوله تعالى : (( إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ )) (التغابن) , ومسلم ح2740 باب أكثر أهل الجنة الفقراء , وأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة بالنساء .
(4) قال الملا علي قاري ت1014هـ : ( غيرُ ثابتٍ , وإنما ذكره ابن الحاج في المدخل في صلاة العيدين , وذكره ابن جماعة في منسكه في طواف النساء من غيرِ سَنَد ) الأسرار المرفوعة ص145 .
(5) رواه أبو داود ت275هـ رحمه الله ح5272 باب في مشي النساء مع الرجال في الطريق , وسليمان الطبراني في المعجم الكبير ج19/261 , والبيهقي في شعب الإيمان ح7822 , وحسَّنه الألباني ت1420هـ رحمه الله في صحيح سنن أبي داود , وصحيح الجامع الصغير ح929 .(/5)
, وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَنْعُ النِّسَاءِ مِنْ الْخُرُوجِ مُتَزَيِّنَاتٍ مُتَجَمِّلاتٍ , وَمَنْعُهُنَّ مِنْ الثِّيَابِ الَّتِي يَكُنَّ بهَا كَاسِيَاتٍ عَارِيَّاتٍ , كَالثِّيَابِ الْوَاسِعَةِ وَالرِّقَاقِ , وَمَنْعُهُنَّ مِنْ حَدِيثِ الرِّجَالِ , فِي الطُّرُقَاتِ , وَمَنْعُ الرِّجَالِ مِنْ ذَلِكَ , وَإِنْ رَأَى وَلِيُّ الأَمْرِ أَنْ يُفْسِدَ عَلَى الْمَرْأَةِ - إذا تَجَمَّلَتْ وَتَزَيَّنَتْ وَخَرَجَتْ - ثِيَابَهَا بحِبْرٍ وَنَحْوِهِ , فَقَدْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَأَصَابَ , وَهَذَا مِنْ أَدْنَى عُقُوبَتِهِنَّ الْمَالِيَّةِ , وَلَهُ أَنْ يَحْبسَ المَرأَةَ إذا أَكْثَرَت الْخُرُوجَ مِنْ مَنْزِلِهَا , وَلا سِيَّمَا إذَا خَرَجَتْ مُتَجَمِّلَةً , بَلْ إقْرَارُ النِّسَاءِ عَلَى ذَلِكَ إعَانَةٌ لَهُنَّ عَلَى الإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ , وَاَللَّهُ سَائِلٌ وَلِيَّ الأَمْرِ عَنْ ذَلِكَ , وَقَدْ مَنَعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه النِّسَاءَ مِنْ الْمَشْيِ فِي طَرِيقِ الرِّجَالِ , وَالاخْتِلاطِ بِهِمْ فِي الطَّرِيقِ , فَعَلَى وَلِيِّ الأَمْرِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فِي ذَلِكَ , وَقَالَ الْخَلالُ فِي جَامِعِهِ : أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ : أَنَّهُ قَالَ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : أَرَى الرَّجُلَ السُّوءَ مَعَ الْمَرْأَةِ ؟ قَالَ : صِحْ بهِ , وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا تَطَيَّبَتْ وَخَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ (1) , وَيَمْنَعُ الْمَرْأَةَ إذَا أَصَابَتْ بَخُورًا أَنْ تَشْهَدَ عِشَاءَ الآخِرَةِ فِي الْمَسْجِدِ (2) , فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : (( الْمَرْأَةُ إذا خَرَجَتْ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ ))(3), وَلا رَيْبَ أَنَّ تَمْكِينَ النِّسَاءِ مِن اختِلاطِهِنَّ بالرِّجَالِ : أَصْلُ كُلِّ بَلِيَّةٍ وَشَرٍّ , وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ نُزُولِ الْعُقُوبَاتِ الْعَامَّةِ , كَمَا أَنَّهُ مِنْ أَسبَابِ فَسَادِ أُمُورِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ , وَاخْتِلاطُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ سَبَبٌ لِكَثرَةِ الفَوَاحِشِ وَالزِّنَا , وَهُوَ مِن أَسبَابِ الْمَوتِ العَامِّ , وَالطَّوَاعِينِ الْمُتَّصِلَةِ , وَلَمَّا اخْتَلَطَ الْبَغَايَا بِعَسْكَرِ مُوسَى , وَفَشَتْ فِيهِمْ الْفَاحِشَةُ : أَرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِمْ الطَّاعُونَ , فَمَاتَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَبْعُونَ أَلْفًا , وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ فِي كُتُبِ التَّفَاسِيرِ , فَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ الْعَامِّ : كَثْرَةُ الزِّنَا , بسَبَبِ تَمْكِينِ النِّسَاءِ مِنْ اخْتِلاطِهِنَّ بالرِّجَالِ , وَالْمَشْيِ بَيْنَهُمْ مُتَبَرِّجَاتٍ مُتَجَمِّلاتٍ , وَلَوْ عَلِمَ أَوْلِيَاءُ الأَمْرِ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الدُّنْيَا وَالرَّعِيَّةِ - قَبْلَ الدِّينِ - لَكَانُوا أَشَدَّ شَيْءٍ مَنْعاً لِذَلِكَ , قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه : ( إذَا ظَهَرَ الزِّنَا فِي قَريَةٍ أَذِنَ اللَّهُ بهَلاكِهَا ) (4), وَقَالَ ابْنُ
__________
(1) رواه الأئمة : أحمد ح19711 , والترمذي ح2786 باب ما جاء في كراهية خروج المرأة متعطرة , وابن حبان ح4424 باب ذكر وصف زنى الأذن والرجل فيما يعملان مما لا يحل ، والبيهقي في الكبرى ح5769 باب ما يكره للنساء من الطيب عند الخروج وما يشتهرن بها , وابن خزيمة ح1681 باب التغليظ في تعطر المرأة عند الخروج ليوجد ريحها وتسمية فاعلها زانية , والحاكم ح3497 تفسير سورة النور , وقال الذهبي ح5318 : ( صحَّحه الترمذي ) ، وحسَّنه الألباني في صحيح موارد الظمآن ح1230
(2) رواه مسلم ح444 باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة ، وأنها لا تخرج مطيبة .
(3) رواه ابن حبان ح5599 في : ذكر الإخبار عما يجب على المرأة من لزوم قعر بيتها , والطبراني في الكبير ح9481 , والأوسط ح2890 , والبزار ح2061 , ورواه الترمذي ح1173 , وحسَّنه ابن قدامة في المغني ج7/74 , وقال الهيثمي : ( رواه الطبراني في الكبير , ورجاله موثوقون ) مجمع الزوائد ج2/35 , وصحَّحه الألباني في صحيح ابن خزيمة ح1685 .
(4) رواه الحاكم عن ابن عباس وصحَّحه ح2261 كتاب البيوع , ويُنظر : تفسير البغوي ج3/120 , صفوة الصفوة ج1/420 , والكبائر للذهبي ص63 , الزواجر للهيثمي ج1/441 , وقال الحافظ ابن حجر : ( وأخرجه الحاكم من وجه آخر موصولاً بلفظ : إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله ) فتح الباري ج10/193 , وقال العجلوني ت1102هـ : ( رواه الطبراني , ورواه الطبراني أيضاً والحاكم عن ابن عباس بلفظ : إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلُّوا بأنفسهم عذاب الله ) كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من أحاديث الناس ج1/111 .(/6)
أَبِي الدُّنيَا : حَدَّثَنَا إبرَاهِيمُ بْنُ الأَشْعَثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ الْعَمِّيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (( مَا طَفَّفَ قَوْمٌ كَيْلاً , وَلا بَخَسُوا مِيزَاناً , إلاَّ مَنَعَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْقَطْرَ , وَلا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الزِّنَا إلا ظَهَرَ فِيهِمْ الْمَوْتُ , وَلا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ إلا ظَهَرَ فِيهِمْ الْخَسْفُ , وَمَا تَرَكَ قَوْمٌ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ إلاَّ لَمْ تُرْفَعْ أَعْمَالُهُمْ , وَلَمْ يُسْمَعْ دُعَاؤُهُمْ )) (1)(2) .
5 – قوله تعالى : (( أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ)) (الزخرف:18) (3).
حيثُ دلَّت الآية الكريمة على ضعف المرأة الخلْقي , وعدم استطاعتها في الغالب على إظهار حقِّها , فضلاً عن حقِّ غيرها .
قال ابن كثير رحمه الله : ( أي المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي منذ تكون طفلة , وإذا خاصمت فلا عبارة لها بل هي عاجزة عيية , أو من يكون هكذا ينسب إلى جناب الله العظيم , فالأنثى ناقصة الظاهر والباطن في الصورة والمعنى , فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي وما في معناه ليجبر ما فيها من نقص ... وأما نقص معناها فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار عند الانتصار )(4).
وقال قتادة رحمه الله : ( قلَّما تكلَّمت امرأة تريد أن تتكلم بحجتها إلاَّ تكلَّمت بالحجة عليها )(5).
وقال العلاَّمة الشنقيطي رحمه الله : ( ولأنَّ عدم إبانتها في الخصام إذا ظُلمت دليلٌ على الضعف الخلْقي , كما قال الشاعر :
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
فلم يعتذر عذر البريء ولم تزل به سكتة حتى يقال مريب
ولا عبرة بنوادر النساء , لأنَّ النادرَ لا حكم له )(6).
6 - قول الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ )) (الأحزاب:59) (7).
فقد دلَّت الآية الكريمة على وجوب تغطية المرأة لوجهها , وروى ابن جرير الطبري - ت310هـ - وغيره بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( أمرَ الله المؤمنات إذا خرجن من بيوتهنَّ في حاجة أن يُغطِّين وجوههنَّ من فوق رؤسهنَّ بالجلابيب ويُبدين عيناً واحدة (8).
الجلابيب مفرده جلباب (9)، وهو : ( كساء كثيف تشتمل به المسلمة من رأسها إلى قدميها ، ساتر لجميع بدنها ، وما عليه من ثياب وزينة ) (10).
__________
(1) يُنظر : ذم الهوى ص192 لابن الجوزي ت579هـ , والكبائر ص63 للذهبي ت748هـ .
(2) الطرق الحكمية 287 ، ويُنظر : فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء برئاسة سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى رقم 5944 .
(3) الآية 18 من سورة الزخرف .
(4) تفسير ابن كثير ج4/126 .
(5) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ج7/370 لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي ت911هـ .
(6) أضواء البيان ج1/104 .
(7) الآية 59 من سورة الأحزاب .
(8) تفسير الطبري ج22/45-46 , ورواه البيهقي في سننه الكبرى ج7/94 باب ما تُبدي المرأة من زينتها للمذكورين في الآية من محارمها , ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره ج1/334 .
(9) والجلباب ثوب أكبر من الخمار ، وروي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما : أنه الرداء ، واختلف الناس في صورة إدنائه ، فقال ابن عباس وعبيدة السلماني : ذلك أنَّ تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تُبصر بها ) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج4/399 لابن عطية ت546هـ .
(10) قال الإمام السمعاني في تفسيره ج4/307 : ( وهو الرداء ، وهو المُلاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار ، قال عبيدة السلماني : تتغطى المرأة بجلبابها ، فتستر رأسها ووجهها وجميع بدنها ، إلا إحدى عينيها ) ويُنظر : معاني القرآن للنحاس ج5/378 , والدرعُ هو القميص ( ينظر : مطالب أولي النهى ج1/332 لمصطفى الرحيباني ت1243هـ ) .
وقال شيخ الإسلام : ( قد ثبتَ بالنصِّ والإجماع : أنه ليس عليها في الصلاة أن تلبس الجلباب الذي يسترها إذا كانت في بيتها ، وإنما ذلك إذا خرجت ، وحينئذ فتصلي في بيتها ، وإن رُؤي وجهها ويداها وقدماها ) مجموع الفتاوى ج22/115(/7)
ويُقال له : الْمُلاءة (1) , والمِلْحَفَة(2), والرداء(3), والدِّثار (4) .
والكساء (5) , والقناع (6) , وهو المسمَّى ( العباءة ) (7).
وصفة لبسه : أنْ تضعَها فوق رأسها ، ضاربة بها على خمارها وعلى جميع بدنها وزينتها ، حتى تستر قدميها ) (8).
وقالت أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في قصة الإفك : « .. فأتاني فعَرَفَنِي حينَ رآني(9), وكانَ يَرَاني قبلَ الحجابِ ، فاستيقظتُ باسترجاعهِ حينَ عرَفَنِي فخَمَّرْتُ وجهي بجلْبابي(10), والله مَا كلَّمَنِي كَلِمَةً ولا سمعتُ منه كلِمَةً غير استرجاعه .. )(11)(12) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ، قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : (( مَن جرَّ ثوبَهُ خُيَلاءَ لَمْ ينظُرِ اللهُ إليه يومَ القيامة )) (13).
__________
(1) يُنظر مثلاً : تفسير البغوي ج3/544 ، وتفسير الجلالين ص560 لمحمد بن أحمد , عبد الرحمن بن أبي بكر المحلي , والسيوطي ، وأضواء البيان ج6/244 , وعون المعبود ج11/106 لأبي الطيب العظيم آبادي .
(2) يُنظر مثلاً : الكشاف ج3/569 لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي ت538هـ ( والزمخشري معتزلي , فيكون القارئ على يقظة وحذر ) ، وتفسير أبي السعود ( إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم ) ج7/115 لأبي السعود العمادي ت951هـ .
(3) قاله ابن مسعود رضي الله عنه ، يُنظر مثلاً : الدر المنثور ج6/222 ، وتفسير ابن أبي حاتم 2/443 للرازي ت327هـ .
(4) يُنظر مثلاً : المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج5/392 ، وتفسير الثعالبي ج4/358 ، وروح المعاني ج29/115 ، وتفسر البحر المحيط ج8/361 لأبي حيان ت745هـ .
(5) يُنظر مثلاً : جمهرة اللغة ج2/1101 لأبي بكر محمد بن الحسن الأزدي ، وتاج العروس من جوهر القاموس ج29/288 لمحمد مرتضى الحسيني الزبيدي ت1205هـ .
(6) قاله سعيد بن جبير رحمه الله ، يُنظر مثلاً : تفسير ابن أبي حاتم 8/576، والدر المنثور للسيوطي ج6/182 .
(7) يُنظر مثلاً : لسان العرب ج9/6 لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري ت711هـ ، والقاموس المحيط ص60 لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي ت817هـ ، ومختار الصحاح ص371 لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي ت721هـ ، والمعجم الوسيط ج2/579 لإبراهيم مصطفى , وأحمد الزيات , وحامد عبد القادر , ومحمد النجار .
وقال الفيومي : ( الْعَبَاءَةُ بالْمَدِّ , وَالْعَبَايَةُ بالْيَاءِ لُغَةٌ , وَالْجَمْعُ : عَبَاءٌ بحَذْفِ الْهَاءِ وَعَبَاءَاتٌ أَيْضاً ) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير ج2/391 .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( والجلباب : هو المُلاءة , وهو الذى يُسميه ابن مسعود وغيره الرداء , وتسميه العامة الإزار , وهو الإزار الكبير الذى يُغطِّي رأسها وسائر بدنها , وقد حكى أبوعبيد وغيره أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تُظهر إلا عينها , ومن جنسه النقاب , فكنَّ النساء ينتقبن , وفى الصحيح : أنَّ المحرمة لا تنتقب , ولا تلبس القفازين , فإذا كُنَّ مأمورات بالجلباب لئلا يُعرفن وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب , كان الوجه واليدان من الزينة التى أُمرت ألاَّ تُظهرها للأجانب فما بقي يَحلُ للأجانب النظر إلاَّ إلى الثياب الظاهرة ) مجموع الفتاوى ج22/110-111 .
(8) يُنظر : حراسة الفضيلة للشيخ للعلامة بكر بن عبدالله أبو زيد - وفقه الله تعالى - ص31-36 .
(9) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى : ( هذا يُشعر بأنَّ وجهها انكشف لَمَّا نامت ، لأنه تقدَّم أنها رضي الله تعالى عنها تلفَّفت بجلبابها ونامت ، فلما انتبهت باسترجاع صفوان رضي الله عنه بادرت إلى تغطية وجهها ) فتح الباري ج8/462-463 .
(10) أي : غطيتُ وجهي ) المصدر السابق .
(11) رواه الإمامان البخاري ح4473 واللفظ له , باب قوله تعالى : (( لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ* لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ )) (النور) , ومسلم ح2770 باب : حديث في الإفك وقبول توبة القاذف .
(12) رواه الإمامان البخاري ح4473 واللفظ له , باب قوله تعالى : (( لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ* لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ )) (النور), ومسلم ح2770 باب : حديث في الإفك وقبول توبة القاذف .
(13) رواه البخاري ح5784 باب : من جر إزاره من غير خيلاء , ومسلم ح5457 باب : تحريم جر الثوب خيلاء ، وبيان حدِّ ما يجوز إرخاؤه إليه ، وما يستحب .(/8)
وفي رواية (1) : ( فقالت أمُّ سلمةَ رضي الله تعالى عنها : فكيفَ يَصْنَعُ النساءُ بِذُيُولِهِنَّ ، قال صلَّى الله عليه وسلَّم : (( يُرْخِيِنَ شِبْراً ، فقالت : إذاً تنكشِفُ أقدَامُهُنَّ ، قال صلَّى الله عليه وسلَّم : فيُرخِينَهُ ذِرَاعاً لا يَزِدْنَ عليه )) .
قال الشيخ عبد المحسن العباد : ( فإنَّ مجيء الشريعة بتغطية النساء أقدامهنَّ يَدلُّ دلالة واضحة على أنَّ تغطية الوجه واجبٌ , لأنه موضع الفتنة والجمال من المرأة , وتغطيته أولى من تغطية الرجلين )(2).
وقال الحافظ ابن حجر : ( لَمْ تزل عادة النساء قديماً وحديثاً يسترنَ وجوههنَّ عن الأجانب ) (3).
7 – قوله تعالى : (( وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) (النور:31) (4).
قال أبو بكر الجصاص : ( فيه دلالة على أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب إذ كان صوتها أقرب إلى الفتنة من صوت خلخالها ولذلك كره أصحابنا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت والمرأة منهية عن ذلك )(5).
وقال ابن قدامة : ( قال ابن عبد البر : أجمع العلماء على أنَّ السنة في المرأة أن لا ترفع صوتها , وإنما عليها أن تُسمع نفسها , وبهذا قال عطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي , وروي عن سليمان بن يسار قال : السنة عندهم أنَّ المرأة لا ترفع صوتها بالإهلال , وإنما كُره لها رفع الصوت مخافة الفتنة بها , ولهذا لا يُسنُّ لَها أذان ولا إقامة , والمسنون لها في التنبيه في الصلاة التصفيق دون التسبيح )(6).
وتولِّي المرأة للولاية العظمى فما دونها يُعرِّضها لِمحادثة الرجال الأجانب .
8 - قوله تعالى : (( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)) (النور:30-31) (7).
فذهبَ أكثر العلماء إلى تحريم نظر المرأة للرجل , وهو مذهب الشافعية في الصحيح عندهم (8) , والحنابلة في رواية ثالثة (9) , ورأي عند المالكية (10) .
وتولِّي المرأة للولاية يُعرِّضها للنظر إلى الرجال قطعاً .
__________
(1) للإمام مالك ح1657 , والترمذي واللفظ له ح1731 وقال : هذا حديث حسن صحيح , باب : ما جاء في جرِّ ذيول النساء ، والنسائي ت303هـ ح5338 في ذيول النساء , وذكره الألباني في الصحيحة ح1864 رحمهم الله تعالى .
(2) الدفاع عن أبي بكرة رضي الله عنه ومروياته ص35 .
(3) فتح الباري ج9/224 .
(4) الآية 31 من سورة النور .
(5) أحكام القرآن ج5/177 .
(6) المغني ج3/157 .
(7) الآيتان 30-31 من سورة النور .
(8) يُنظر : منهاج الطالبين ص95 , وروضة الطالبين ج7/25 , والمجموع ج15/11 وهذه الكتب الثلاثة للإمام النووي ت676هـ , وقليوبي وعميرة على شرح جلال الدين المحلِّي على منهاج الطالبين ج1/176 ج3/211 لشهاب الدين القليوبي ت1069هـ وعميرة , وفتح الوهاب ج2/32 لأبي زكريا الأنصاري ت925هـ , وفتح الجواد ج2/67 لابن حجر الهيتمي ت974هـ , ونهاية المحتاج ج6/189-195 للرملي , والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2/121 للشربيني ت977هـ , وحاشية البيجوري ج1/146 , وحواشي عبد الحميد الشرواني والشيخ أحمد العبادي ج7/200-201 , وإعانة الطالبين ج3/259 للسيد البكري .
(9) يُنظر : مسائل الإمام أحمد ج2/149 رواية إسحاق بن هانئ ت275هـ , والمغني ج6/563 , والكافي ج3/9 كلاهما لابن قدامة ت620هـ , ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ج15/396 , والإنصاف ج8/25-26 للمرداوي .
(10) يُنظر : مواهب الجليل ج1/345 لأبي عبد الله محمد المغربي المعروف بالحطاب ت902هـ .(/9)
وقال الإمام النووي رحمه الله : ( الصحيح الذي عليه جمهور العلماء وأكثر الصحابة : أنه يَحرمُ على المرأة النظر إلى الأجنبي , كما يحرمُ عليه النظر إليها لقوله تعالى : (( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ)) (( وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ)) ولأنَّ الفتنة مشتركة , وكما يَخافُ الافتتان بها تَخافُ الافتتان به , ويدلُّ عليه من السنة حديث نبهان مولى أمِّ سلمة عن أمِّ سلمة أنها كانت هي وميمونة عند النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فدخل ابن أم مكتوم , فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : (( احتَجبا منه , فقالتا إنه أعمى لا يُبصر , فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : أفعمياوان أنتما فليس تبصرانه ؟ )) وهذا الحديثُ حديثٌ حسنٌ , رواه أبو داود والترمذي وغيرهما (1) , قال الترمذي : هو حديث حسن , ولا يُلتفت إلى قدَحِ مَن قدَحَ فيه بغير حُجَّة معتمدة , وأما حديث فاطمة بنت قيس مع ابن أمِّ مكتوم فليس فيه إذنٌ لها في النظر إليه , بل فيه أنها تأمنُ عنده مِن نظر غيرها , وهي مأمورةٌ بغضِّ بصرها , فيمكنُها الاحترازُ عن النظر بلا مشقَّة , بخلاف مُكثها في بيت أمِّ شريك ) (2).
فهذا تصحيح الإمام النووي لحديث نبهان رحمه الله عن أمِّ سلمة رضي الله عنها , وقال إسحاق بن هانئ النيسابوري ت275هـ : ( سألتُ أبا عبد الله عن حديث نبهان عن أمِّ سلمة – وساق الحديث – ثمَّ قال : هذا لا ينبغي للمرأة أن تنظر إلى الرجل كما أنَّ الرجل لا ينبغي له أن ينظر إلى المرأة ؟ قال - أي الإمام أحمد - نعم ) (3).
وقال الإمام الترمذي ت279هـ رحمه الله : ( هذا حديثٌ حسنٌ صحيح ) , وقال الحافظ ابن حجر ت852هـ : ( وإسناده قوي ) (4), وقال الإمام الذهبي ت748هـ : ( نبهان عن مولاته أم سلمة , وعنه الزهري , ومحمد بن عبد الرحمن , ثقة ) (5), وقال العيني ت855هـ : ( وهو حديث صحَّحه الأئمة بإسناد قوي ) (6), ومِمَّن صحَّحه : التركماني في الجوهر النقي ج10/327-328 , والشوكاني في نيل الأوطار ج6/117 .
وسألتُ الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن السعد وفقه الله عن هذا الحديث فقال : ( إسناده صالح ) .
وعن إسحاق الأعمى قال : « دخلتُ على عائشة رضي الله عنها فاحتجَبَت منِّي , فقلتُ : تحتجبين منِّي ولستُ أراك ؟ قالت : إنْ لَم تكن تراني فإني أراك »(7).
وقال الإمام ابن كثير : ( فقوله تعالى : (( وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ)) أي عما حرَّم الله عليهنَّ من النظر إلى غير أزواجهنَّ , ولهذا ذهب كثيرٌ من العلماء إلى أنه لا يجوزُ للمرأة النظر إلى الرجال الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلاً , واحتجَّ كثيرٌ منهم بما رواه أبو داود والترمذي من حديث الزهري عن نبهان مولى أمِّ سلمة أنه حدَّثه أنَّ أمَّ سلمة حدَّثته – ثمَّ ذكر الحديث بتمامه - ثمَّ قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح )(8).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ت728هـ رحمه الله تعالى : ( وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الأجانب من الرجال بشهوة ولا بغير شهوة أصلاً ) (9).
__________
(1) رواه أبو داود ح4112 باب في قوله عزَّ وجلَّ : (( وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ)) (النور) , والترمذي ح2778 باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال , والنسائي في الكبرى ح13303 باب مساواة المرأة الرجل في حكم الحجاب والنظر إلى الأجانب قال الله تعالى : (( وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)) (النور), وابن حبان ح5575 ذكر الزجر عن أن تنظر المرأة إلى الرجل الذي لا يبصر , والهيثمي في موارد الظمآن ح1968 باب دخول الأعمى .
(2) شرح صحيح مسلم للنووي ج10/76 .
(3) رقم المسألة 1838 ج2/149 .
(4) فتح الباري ج9/337 .
(5) الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة , ترجمة رقم 5892 ج3/198 للذهبي .
(6) عمدة القاري ج20/216 .
(7) رواه ابن سعد ت230هـ في الطبقات ج8/69 , وصحَّحه ابن عبد البر ت463هـ , وقد أخرجه الإمام مالك في إحدى موطآته كما عزاه الحافظ إليه في التلخيص الحبير ج3/148-149 , وينظر : كتاب رفع الجنة أمام جلباب المرأة في الكتاب والسنة للسندي .
(8) تفسير ابن كثير ج3/284 .
(9) مجموع الفتاوى ج15/396 .(/10)
وروى الإمام البخاري في عدَّة مواضع من صحيحه حديث رؤية عائشة رضي الله عنها لِلَعبِ الحبشة بالحراب في المسجد , والموضع الأول منها : ( كتاب الصلاة ) ( باب أصحاب الحراب في المسجد ) ثمَّ قال : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال : حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن بن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير أنَّ عائشة قالت : « لقد رأيتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوماً على باب حجرتي والحبشة يلعبونَ في المسجد ورسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يسترني بردائه أنظرُ إلى لعبهم , زاد إبراهيم بن المنذر حدثنا بن وهب أخبرني يونس عن بن شهاب عن عروة عن عائشة قالت : رأيتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم والحبشة يلعبونَ بحرابهم » .
قال ابن حجر : ( وقال النووي : أمَّا النظر بشهوة وعند خشية الفتنة فحرامٌ اتفاقاً , وأمَّا بغير شهوة فالأصح أنه محرَّم , وأجاب عن هذا الحديث : بأنه يحتمل أن يكون ذلك قبل بلوغ عائشة , وهذا قد تقدَّمت الإشارة إلى ما فيه , قال : أو كانت تنظر إلى لعبهم بحرابهم لا إلى وجوههم وأبدانهم , وإن وقع بلا قصد أمكنَ أن تصرفه في الحال , انتهى ) (1).
ومن السنة :
1 – قوله صلَّى الله عليه وسلَّم : (( لن يُفلحَ قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة )) رواه البخاري (2) .
قال الشيخ الْمُحدِّث عبد المحسن بن حمد العباد : ( وأخرجه الإمام أحمد في مسنده 20402 , 20474 , 20477 بلفظ : (( أسندوا أمرهم إلى امرأة )) (3)و 20438 , 20478 , 20517 بلفظ : (( تملكهم امرأة )) (4)و 20508 بلفظ : (( ما أفلح قومٌ تلي أمرهم امرأة )) , وأخرجه النسائي في كتاب القضاء من سننه 5388 : باب النهي عن استعمال النساء في الحكم (5) , ولفظه : (( لن يُفلح قوم ولوا أمرهم امرأة )) وأخرجه الترمذي 2262 بمثل لفظ البخاري والنسائي , وقال : « هذا حديث صحيح » وهذا الحديث واضح الدلالة على أنَّ المرأة ليست من أهل الولاية العامة , بل في ذكر النسائي له في كتاب القضاء دلالَة على أنها ليست أهلاً لِما دون ذلك وهو القضاء ) (6).
وقال الماوردي والفرَّاء عن وزارة التنفيذ : ( لا يجوزُ أن تقوم بذلك امرأةٌ وإنْ كان خبَرُها مقبولاً لِمَا تضمنه معنى الولايات المصروفة عن النساء , لقول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم : (( ما أفلح قومٌ أسندوا أمرهم امرأةٌ )) (7), ولأنَّ فيها من طلب الرأي وثبات العزم ما تضعف عنه النساء , ومن الظهور في مباشرة الأمور ما هو عليهنَّ محظور ) (8).
__________
(1) فتح الباري ج2/445 , ويُنظر : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ج15/396 .
(2) رواه البخاري ح4163 بابُ كتاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى كسرى وقيصر .
(3) وكذا عند ابن أبي شيبة ت235هـ ح37787 , والبزار ت292هـ ح3649 وح3685 , والطيالسي ح878 ت204هـ .
(4) وكذا ابن حبان ح4516 ذكر الإخبار عن نفي الفلاح عن أقوام تكون أمورهم منوطة بالنساء , والبزار ح3647 , والحاكم وصححه ح7790 , وابن الشهاب في مسنده ح864 , وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى ح20149 باب لا يُولِّي الوالي امرأة ولا فاسقاً ولا جاهلاً أمر القضاء , ولفظه : ( لن يفلح قوم ملَّكوا أمرهم امرأة ) .
(5) اشترط جمهور العلماء أن يكون القاضي ذكراً , وهو مذهب المالكية , يُنظر : بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج2/531 لأبي الوليد محمد بن رشد المعروف بابن رشد الحفيد , وتبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام ج1/18 لأبي الوفاء إبراهيم بن فرحون , ومواهب الجليل ج6/87-88 للحطاب , وحاشية الدسوقي ج4/115 , وهو مذهب الشافعية , يُنظر : تحفة المحتاج ج10/106 لابن حجر الهيثمي , والوجيز في المذهب الشافعي ج2/143 لأبي حامد محمد الغزالي , والمجموع للنووي ج20/127 , وهو مذهب الحنابلة , يُنظر : الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل ج4/433 لأبي محمد عبد الله بن قدامة , والمغني مع الشرح الكبير ج11/380 , وكتاب الفروع ج6/421 لمحمد بن مفلح المقدسي .
وذكر الماوردي إجماع العلماء على ذلك فقال : ( وشذَّ ابن جرير الطبري فجوَّز قضاءها في جميع الأحكام , ولا اعتبار بقول يردُّه الإجماع ) الأحكام السلطانية ص65 .ولهذا لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه الراشدين ولا عن جميع الصحابة والتابعين أنهم ولَّوا امرأة قضاء أو ولاية بلد , ولو كان ذلك جائزاً لَم يخل جميع الزمان منه غالباً , يُنظر : المغني مع الشرح الكبير ج11/380 , ومواهب الجليل ج4/202 وغيرهما .
(6) الدفاع عن الصحابي أبي بكرة ومرويَّاته , والاستدلال لمنع ولاية النساء على الرجال ص32-33 .
(7) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ح20402 وح20474 وح20477 .
(8) الأحكام السلطانية للماوردي ص27 , والأحكام السلطانية للفراء ص31-32.(/11)
وقال الحسين البغوي ت516 رحمه الله : ( اتفقوا على أنَّ المرأةَ لا تصلحُ أنْ تكونَ إماماً , ولا قاضياً , لأنَّ الإمامَ يحتاجُ إلى الخروج لإقامة أمر الجهاد , والقيام بأمور المسلمين , والقاضي يحتاجُ إلى البروز لفصل الخصومات , والمرأة عورةٌ لا تصلحُ للبروز , وتعجزُ لضعفها عن القيام بأكثر الأمور , ولأنَّ المرأةَ ناقصةٌ , والإمامة والقضاء من كمال الولايات , فلا يصلحُ لها إلاَّ الكامل من الرجال ) (1).
وقال محمد بن إسماعيل الصنعاني ت852هـ : ( فيه دليلٌ على أنَّ المرأة ليست من أهل الولايات , ولا يَحِلُّ لقومها توليتها , لأنَّ تجنُّبَ الأمر الْمُوجب لعدم الفلاح واجبٌ ) (2).
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ت1420هـ رحمه الله : ( وقد حرصَ الإسلام على أن يُبعد المرأة عن جميع ما يُخالف طبيعتها ، فمنَعَها من تولي الولاية العامة كرئاسة الدولة والقضاء وجميع ما فيه مسؤوليات عامة ، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم : (( لن يُفلحَ قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة )) (3).
فتبيَّنَ لنا من هذا الحديث : أنَّ مناطَ عدم الفلاح هو الأُنوثة , وهو نصٌ في منع المرأة من تولِّي أيٍّ من الولايات العامة , وكونها وزيرة إنما هو من الولايات العامة (4) .
قال الماوردي : ( فلما منعها نقص الأنوثة من إمامة الصلوات مع جواز إمامة الفاسق كان المنع من القضاء الذي لا يصح من الفاسق أولى ) (5).
وقال الدكتور محمد البهي رحمه الله : ( قد تولَّت المرأة في العشر سنوات الماضية في بعض دول آسيا وأمريكا اللاتينية , في الهند , وسيلان , والأرجنتين : الرياسة الكبرى , وخرجت كلُّ واحدة منهنَّ من ولايتها العامة بضياع كلِّ الثقة تماماً التي أولتها هذه الولاية , وبرصيد كبير من الانحرافات في الحكم تُعطي الدليل الواضح على تقلُّب المرأة وسرعتها في الاستجابة العاطفية للمؤثرات , وعدم الاطمئنان إلى فصلها في الأمور , بروح التجرُّد , أو بروح التأنِّي والروية ) (6).
2 - عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال : (( يا معشرَ النساء تصدَّقنَ وأكثرنَ الاستغفارَ فإنِّي رأيتُكُنَّ أكثرَ أهلِ النار , فقالت امرأةٌ منهنَّ جَزْلَةٌ : وما لَنا يا رسولَ الله أكثرَ أهلِ النار ؟ قال : تُكْثِرْنَ اللعنَ , وتكْفُرْنَ العشيرَ , وما رأيتُ مِنْ ناقصاتِ عقلٍ ودينٍ أغلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنكُنَّ , قالت : يا رسولَ الله , وما نُقصانُ العقل والدين ؟ قال : أمَّا نُقصانُ العقلِ : فشهادةُ امرأتينِ تعدلُ شهادةَ رجلٍ , فهذا نقصانُ العقل , وتَمكُثُ اللياليَ ما تُصلِّي , وتُفطرُ في رمضانَ , فهذا نُقصان الدين )) (7).
قال محمد صديق القنوجي ت1307هـ رحمه الله : ( ومَنْ كان كذلك لا يصلحُ لتدبير أمر الأمة ولتولِّي الحكم بين عباد الله وفصل خصوماتهم بما تقتضيه الشريعة المطهرة ويوجبه العدل , فليسَ بعد نقصان العقل والدين شيء .. ) (8).
3 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : (( المرأةُ عورةٌ ، فإذا خَرَجَت اسْتَشْرَفَهَا الشيطانُ ، وأقربُ ما تكونُ مِن ربِّها إذا هيَ في قَعْرِ بيتها )) (9).
__________
(1) شرح السنة ج10/77 للإمام الحسين بن مسعود الفراء البغوي .
(2) سبل السلام شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام ج4/1496 .
(3) التبرج وخطورته ص30-31 .
(4) يُنظر : حكم الشريعة الإسلامية في اشتراك المرأة في الانتخاب للبرلمان للجنة الفتوى بالأزهر , وولاية المرأة في الفقه الإسلامي ص102-103 للشيخ حافظ محمد أنور .
(5) أدب القاضي للماوردي ج1/168 .
(6) الإسلام واتجاه المرأة المسلمة المعاصرة ص50 .
(7) رواه البخاري ح298 بابُ ترك الحائض الصوم , ومسلم واللفظ له ح79 بابُ بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات , وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله ككفر النعمة والحقوق .
(8) إكليل الكرامة ص108-109 .
(9) رواه ابن حبان ح5599 واللفظ له في : ذكر الإخبار عما يجب على المرأة من لزوم قعر بيتها , والطبراني في الكبير ح9481 و 10115 , والأوسط ح2890 , والبزار ح2061 , ورواه دون لفظ : ( وأقرب .. ) الترمذي ح1173 باب استشراف الشيطان المرأة إذا خرجت , وابن خزيمة ت311هـ ح1685 ح1686 , وحسَّنه ابن قدامة في المغني ج7/74 , وقال علي بن أبي بكر الهيثمي ت807هـ : ( رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثوقون ) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ج2/35 , وصحَّحه الألباني في صحيح ابن خزيمة ح1685 .(/12)
(( اسْتَشْرَفَهَا )) : ( أي رفع البصر إليها ليغويها أو يغوي بها .. أو المراد شيطان الإنس .. بمعنى أنَّ أهل الفسق إذا رأوها بارزةً طمحوا بأبصارهم نحوها .. أَسندَ إلى الشيطان لِما أَشربَ في قلوبهم من الفجور ، والأصلُ في الاستشراف : رفعُ البصر للنظر إلى الشيء وبسط الكف فوق الحاجب ) (1).
قال العلاَّمة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى عن هذا الحديث : ( وما جاء فيه من كون المرأة عورةٌ يدلُّ على الحجاب للزوم ستر كل ما يصدق عليه اسم العورة , ومما يُؤيِّدُ ذلك ما ذكره الهيثمي أيضاً في مجمع الزوائد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : (( إنما النساء عورةٌ ، وإنَّ المرأة لتخرجُ من بيتها وما به من بأسٍ ، فيستشرفُ لَها الشيطانُ فيقولُ : إنكِ لا تَمُرِّينَ بأحدٍ إلاَّ أعجبتهِ ، وإنَّ المرأةَ لتلبسُ ثيابَها ، فيُقالُ : أينَ تريدين ؟ فتقولُ أعودُ مريضاً ، أو أشهد جنازةً ، أو أُصلي في مسجدٍ ، وما عَبَدَتْ امرأةٌ ربَّها مثلَ أنْ تعبُدَهُ في بيتها ! )) (2)ثمَّ قال : رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات , انتهى منه , ومثله له حكم الرفع إذ لا مجال للرأي فيه ) (3).
4 – عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول : (( لا يخلونَّ رجلٌ بامرأة , ولا تسافرنَّ امرأة إلا ومعها محرم , فقام رجلٌ فقال يا رسول الله : اكتتبت في غزوة كذا وكذا وخرَجَت امرأتي حاجة , قال : اذهب فحُجَّ مع امرأتك )) (4).
وقال صلى الله عليه وسلم : ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يحل لامرأة مسلمة تُسافر مسيرة ليلة إلاَّ ومعها رجلٌ ذو حرمة منها )) (5).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها ))(6).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم )) (7).
قال الإمام النووي : ( قال العلماء : اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين , واختلاف المواطن , وليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم والليلة أو البريد , قال البيهقي : كأنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن المرأة تسافر ثلاثاً بغير محرم فقال : لا , وسُئل عن سفرها يومين بغير محرم , فقال : لا , وسُئل عن سفرها يوماً , فقال : لا , وكذلك البريد , فأدَّى كلٌّ منهم ما سمعه , وما جاء منها مختلفاً عن رواية واحد فسمعه في مواطن فروى تارة هذا وتارة هذا وكلُّه صحيح , وليس في هذا كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر , ولم يُرد صلى الله عليه وسلم تحديد أقل ما يُسمَّى سفراً , فالحاصلُ أنَّ كلَّ ما يُسمَّى سفراً تُنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم , سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يوماً أو بريداً أو غير ذلك لرواية ابن عباس المطلقة )(8).
وهذه الأحاديث في تحريم الخلوة بالمرأة إلاَّ مع ذي محرم , وتحريم سفرها إلاَّ مع ذي محرم , وهي دالة على أنَّ المرأة ليست من أهل الولاية العامة ولا ما دونها من الولايات على الرجال , وكيف تلي الأمر من لا تسافر إلاَّ مع ذي محرم ؟ ومن لا يخلو بها رجل إلاَّ مع ذي محرم (9) .
5 - عن أُسامة بن زيد رضي الله عنه قَالَ : قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : (( مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ ))(10).
__________
(1) فيض القدير ج6/266 ، وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ج4/283 لمحمد عبد الرحمن المباركفوري ت1353هـ .
(2) رواه الطبراني في الكبير ح8914 ج9/185 ، ووثَّق رجاله الهيثمي في مجمع الزوائد ج2/35 .
(3) أضواء البيان ج6/251 .
(4) رواه البخاري ح2844 باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة وكان له عذر هل يُؤذن له .
(5) رواه مسلم ح1339 باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره .
(6) رواه البخاري ح1139 باب بيت المقدس , ومسلم واللفظ له ح827 باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره .
(7) رواه البخاري واللفظ له ح1036 باب في كم يقصر الصلاة وسمى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وليلة سفراً , وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد , وهي ستة عشر فرسخاً , ومسلم ح1338 باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره .
(8) شرح صحيح مسلم ج9/103 .
(9) الدفاع عن الصحابي أبي بكرة ومرويَّاته والاستدلال لمنع ولاية النساء على الرجال للشيخ العباد ص37-38 بتصرف .
(10) رواه البخاري ح4808 باب ما يُتَّقى من شؤم المرأة وقوله تعالى : (( إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ)) (التغابن)(/13)
قال الحافظ ابن حجر : ( ويدلُّ الحديثُ على أنَّ الفتنة بالنساء أشدّ من الفتنة بغيرهنَّ ، ويشهدُ له قوله تعالى : (( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)) (آل عمران:14) (1)فجعلهنَّ من حبِّ الشهوات ، وبدَأَ بهنَّ إشارة إلى أنَّهنَّ الأصل في ذلك )(2).
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله : ( فعملُ المرأة بين الرجال من غير المحارم فتنةٌ تضعها على الطريق الْمُوصل إلى ما لا تُحمَد عقباه مما حرَّم الله ، وما يُؤدِّي إلى الحرامِ حرامٌ ) (3).
6 – قوله صلى الله عليه وسلم : (( ولا يَؤُمَنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه )) (4).
قال محمد المباركفوري رحمه الله : ( أي : في مظهر سلطنته ومحل ولايته , أو فيما يملكه , أو في محلٍ يكون في حكمه ) (5).
فدلَّ الحديث على أنَّ الإمام الأعظم ونُوَّابه أحقُّ بإمامة الصلاة من غيرهم , وهذا هو المشهور في المذاهب الأربعة (6) .
والمرأة لا يجوز أن تؤم الرجال في مكان إمارتها أو وزارتها أو سفارتها ولا في غيرها لا في الفريضة باتفاق المذاهب الأربعة , ولا في النافلة باتفاق : الحنفية (7) , والمالكية (8) , والشافعية (9) , والظاهرية (10) .
لقوله صلى الله عليه وسلم : (( خير صفوف الرجال أولها , وشرُّها آخرها , وخير صفوف النساء آخرها , وشرُّها أولها )) (11), وروى هذا الحديث البيهقي في الكبرى ح4908 وأورده في ترجمة ( باب لا يأتم رجل بامرأة ) , وقال ابن قدامة رحمه الله : ( ولا خلاف في أنها لا تؤمهم في الفرائض ) (12).
وقال ابن رشد : ( لَمَّا كانت سُنتهنَّ في الصلاة التأخير عن الرجال , عُلمَ أنه ليس يجوزُ لهنَّ التقدّم عليهم ) (13), وقال الإمام البخاري ت256هـ رحمه الله في صحيحه : ( باب إمامة العبد والمولى , وكانت عائشة يَؤُمُّها عبدها ذكوان من المصحف , وولد البغي , والأعرابي , والغلام الذي لم يحتلم , لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم : (( يَؤُمُّهم أقرؤهم لكتاب الله )) .
فهذا في صلاة التراويح فكيف يُعقلُ أن تُصلي المرأة بالرجل الفريضة , وهذه هي أعلم النساء عائشة رضي الله عنها , وفي صلاة النافلة , ومع ذلك يُصلِّي بها عبدها رحمه الله .
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( أخِّروهنَّ حيث أخَّرهنَّ الله ) (14).
وقال ابن رشد عن حكم إمامة المرأة للرجل : ( لو كان جائزاً لَنُقل ذلك عن الصدر الأول ) (15).
__________
(1) الآية رقم 14 من سورة آل عمران .
(2) فتح الباري ج9/138 .
(3) الرسائل والفتاوى النسائية ص 15-18 .
(4) رواه مسلم ح673 باب من أحق بالإمامة .
(5) تحفة الأحوذي ج2/29 .
(6) يُنظر : المبسوط ج1/42 لأبي بكر محمد السرخسي , ومختصر خليل ص33 لخليل بن إسحاق المالكي , وحاشية الخرشي على مختصر خليل ج2/42-43 لمحمد بن عبد الله الخرشي , والمجموع شرح المهذب ج4/162 , والكافي ج1/186 , وكشاف القناع ج1/473 .
(7) يُنظر : الاختيار لتعليل المختار ج1/58 لعبد الله بن محمود الموصلي ت683هـ , والبحر الرائق شرح كنز الدقائق ج1/380 لابن نجيم الحنفي ت970هـ , والمبسوط ج1/183-184 , وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ج1/426 لأبي بكر بن مسعود الكاساني ت587هـ .
(8) يُنظر : التاج والإكليل ج2/92 , وحاشية الخرشي على مختصر خليل ج2/22 , وأقرب المسالك لمذهب الإمام مالك ص26 , والشرح الكبير على أقرب المسالك ج1/325 لأحمد الدردير , وتفسير القرطبي ج1/356 , وبداية المجتهد ج2/213 , وأحكام القرآن لابن العربي ج4/105 .
(9) يُنظر : الأم ج1/164 للإمام محمد بن إدريس الشافعي ت204هـ , والمهذب ج1/97 لأبي إسحاق إبراهيم الشيرازي ت476هـ , والمجموع ج4/135-136 , وروضة الطالبين ج1/35 كلاهما للنووي .
(10) يُنظر : المحلى ج3/135 لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم الأندلسي .
(11) رواه مسلم ح440 باب تسوية الصفوف وإقامتها , وفضل الأول فالأول منها , والازدحام على الصف الأول , والمسابقة إليها , وتقديم أولي الفضل وتقريبهم من الإمام .
(12) المغني ج2/16 , ويُنظر : الإنصاف ج2/263 للمرداوي , والمبدع ج2/72 لابن مفلح .
(13) بداية المجتهد ج1/105 .
(14) رواه عبد الرزاق ت211هـ في المصنف ح5115 باب شهود النساء الجماعة , والطبراني في الكبير ح9484 ج9/295 , وصححه الألباني في صحيح ابن خزيمة ح1700 , والسلسلة الضعيفة ج2/319 .
(15) بداية المجتهد ج2/213 .(/14)
وقال الشوكاني : ( أقول لَم يثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في جواز إمامة المرأة بالرجل أو الرجال شيء ولا وقع في عصره ولا في عصر الصحابة والتابعين من ذلك شيء , وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوفهنَّ بعد صفوف الرجال , وذلك لأنهنَّ عورات , وائتمام الرجل بالمرأة خلاف ما يُفيده هذا , ولا يُقال الأصل الصحة , لأنا نقول قد ورد ما يدل على أنهنَّ لا يصلحن لتولِّي شيء من الأمور , وهذا من جملة الأمور , بل هو أعلاها وأشرفها , فعموم قوله : لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة , كما في الصحيحين وغيرهما يُفيد منعهنَّ من أن يكون لَهنَّ منصب الإمامة في الصلاة للرجال ) (1).
7 - عن أم عطية رضي الله عنها قالت : ( أخذ علينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم عند البيعة أن لا ننوح , فما وفَّت منا امرأة غير خمس نسوة : أم سليم , وأم العلاء , وابنة أبي سبرة امرأة معاذ , وامرأتان , أو ابنة أبي سبرة , وامرأة معاذ , وامرأة أخرى )(2).
قال الحافظ ابن حجر : ( وفي حديث أم عطية مصداق ما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنهنَّ ناقصات عقل ودين , وفيه فضيلة ظاهرة للنسوة المذكورات , قال عياض معنى الحديث : لَم يَفِ مِمَّن بايع النبيَّ صلى الله عليه وسلم مع أم عطية في الوقت الذي بايعت فيه النسوة إلاَّ المذكورات , لا أنه لم يترك النياحة من المسلمات غير خمسة ) (3).
وعن أبي بردة بن أبي موسى رضي الله عنه قال : ( وجع أبو موسى وجعاً فغُشيَ عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله فلم يستطع أن يَرُدَّ عليها شيئاً , فلما أفاق قال : أنا بريءٌ ممن برئَ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم , إن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئَ من الصالقةِ والحالقةِ والشاقةِ ) (4).
فدلَّت الأحاديث على أنَّ الضعف والجزع من صفات النساء , وأنَّ الرجال أشد منهن قوة وأكثر تحملاً , ولهذا جاء الوعيد في النياحة على الميت مُضافاً إلى النساء , لأن الجزع وعدم الصبر غالبٌ عليهنَّ , والولاية والوزارة والسفارة في الشرع ثبتت لأهل القوة والصبر , لا لذوات الجزع والضعف (5) .
قال الحافظ ابن حجر : ( إن ضعف النساء بالنسبة إلى الرجال من الأمور المحسوسة التي لا تحتاج إلى دليل خاص ) (6).
8 – عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : (( لَعَنَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجالِ بالنِّساءِ ، والمُتَشَبِّهاتِ مِنَ النِّساءِ بالرِّجالِ )) (7).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ليسَ مِنَّا مَنْ تشبَّهَ بالرِّجالِ مِن النِّساءِ ، ولا مَنْ تشبَّه بالنِّساءِ مِن الرِّجالِ )) (8).
وقال صلى الله عليه وسلم : (( ثلاثةٌ لا ينظرُ اللهُ عزَّ وجلَّ إليهم يومَ القيامةِ : العاقُّ لوالديهِ ، والْمرأةُ المُترَجِّلَةُ ، والدَّيُّوثُ ، وثلاثةٌ لا يدخلونَ الجنةَ : العاقُّ لوالديهِ ، والمُدْمِنُ على الْخَمرِ ، والْمَنَّانُ بمَا أَعطَى )) (9).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : (( لعنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الرَّجُلَةَ مِنَ النساءِ )) (10).
( الرَّجُلة ) : ( بمعنى : الْمُتَرَجِّلة ، ويقال امرأة رجُلة إذا تشبَّهت بالرجال .. ) (11).
والولاية والوزارة والسفارة ثبتت في الشريعة الإسلامية للرجال , فتولِّي النساء لها تشبُّهٌ بالرجال , وترجُّلٌ , فمن فعلت ذلك دخلت في الوعيد , والله تعالى أعلم .
9 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ تَشَبَّهَ بقومٍ فَهُوَ مِنْهُم )).
__________
(1) السيل الجرار 1/250 .
(2) رواه البخاري ح1244 باب ما يُنهى عن النوح والبكاء والزجر عن ذلك , ومسلم ح936 باب التشديد في النياحة .
(3) فتح الباري 3/117 .
(4) رواه البخاري ح1234 باب ما ينهى عن الحلق عند المصيبة , ومسلم ح104 باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية .
(5) يُنظر : الدفاع عن الصحابي أبي بكرة رضي الله عنه للشيخ العباد ص38-39 .
(6) فتح الباري ج3/182 .
(7) رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى ح5885 باب المُتَشَبِّهينَ بالنساءِ ، والمُتَشَبِّهاتِ بالرِّجالِ .
(8) رواه الإمام أحمد ح6875 , وقال المحققون : مرفوعه صحيح ، وأبو نعيم في الحلية ج3/321 ، وحسنه السيوطي في التيسير بشرح الجامع الصغير ج2/329 .
(9) رواه النسائي ح2562 في المنان بما أعطى , وقال الألباني في صحيح النسائي ح2402 حسن صحيح .
(10) رواه أبو داود ح4099 باب : لبس النساء , والبيهقي في معرفة السنن والآثار ح6166 ج7/581 ، وحسنه النووي في المجموع ج4/344 ، وكذا السيوطي في التيسير ج2/292 .
(11) لسان العرب ج5/155 ، ويُنظر : صحيح الترغيب والترهيب للألباني ح2511 .(/15)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( وهذا الحديثُ أقلُّ أحواله : أنْ يقتضي تحريمَ التَشَبُّهَ بهم ، وإنْ كان ظاهره يقتضي كفرَ المتشبِّه بهم ، كما في قوله تعالى : (( وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )) (المائدة:51)(1), وهو نظيرُ ما سنذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال : مَنْ بَنَى بأرضِ المشركين , وصنعَ نيروزهم , ومهرجانهم , وتشبَّه بِهم حتَّى يموت , حُشِرَ معهم يوم القيامة (2) , فقد يُحمل هذا على التشبُّه المطلق , فإنه يُوجبُ الكفر , ويقتضي تحريمَ أبعاض ذلك , وقد يُحمل على أنه منهم , في القدر المشترك الذي شابَهَهُم فيه , فإنْ كانَ كُفراً , أو معصيةً , أو شعاراً لَها , كان حُكمه كذلك , وبكلِّ حال : يقتضي تحريم التشبه بهم , بعلَّة كونه تشبُّهاً ) (3).
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى : ( ففيه دلالةٌ على النهي الشديد , والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم , وأفعالهم , ولباسهم , وأعيادهم , وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لَمْ تُشرع لنا , ولا نُقرُّ عليها ) (4).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : ( ومعناه إن شاء الله : أنَّ المسلم يتشبَّه بالمسلم في زَِيِّهِ فيُعرف أنه مسلم ، والكافرُ يتشبَّه بزيِّ الكافر فيُعلم أنه كافرٌ ، فيجبُ أنْ يُجبرَ الكافرُ على التشبُّه بقومه ليعرفه المسلمونَ به )(5), وقال أيضاً : ( فلأنَّ المشابهةَ في الزيِّ الظاهرِ تدعو إلى الموافقة في الهدي الباطن ، كما دلَّ عليه الشرعُ والعقلُ والحِسُّ ، ولهذا جاءت الشريعة بالمنع من التشبه بالكفار , والحيوانات , والشياطين , والنساء , والأعراب , وكلِّ ناقص ) (6), وقال : ( وسِرُّ ذلك : أنَّ المشابهةَ في الهدي الظاهر ذريعةٌ إلى الموافقة في القصدِ والعمل )(7).
وقال الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى : ( والحديثُ دالٌّ على أنَّ مَن تشبَّه بالفساق كان منهم ، أو بالكفار أو بالمبتدعة في أيِّ شيءٍ مما يختصُّون به من ملبوسٍ أو مركوبٍ أو هيئةٍ ، قالوا : فإذا تشبَّه بالكافر في زيٍّ ، واعتقدَ أنه يكونُ بذلك مثله كفرَ ، فإنْ لِمْ يعتقد ففيه خلافٌ بين الفقهاء ، منهم من قال : يكفرُ (8) وهو ظاهرُ الحديث ، ومنهم من قال : لا يكفرُ ، ولكنْ يُؤَدَّب )(9).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ليسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بغيرنا ، لا تشَبَّهُوا باليهودِ ولا بالنصارى .. )) (10).
قال الإمام عبد الرحمن بن حسن بن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى في مثل هذه النصوص : ( هذا من نصوص الوعيد ، وقد جاء عن سفيان الثوري وأحمد : كراهةَ تأويلها ليكونَ أوقعَ في النفوس ، وأبلغ في الزجر ، وهو يدلُّ على أنه يُنافي كمالَ الإيمانِ الواجب )(11).
__________
(1) الآية رقم 51 من سورة المائدة .
(2) رواه البيهقي في السنن الكبرى ح18642 ج9/234 , وصحَّح إسناده شيخ الإسلام في الاقتضاء ج1/457-458 .
(3) الاقتضاء ج1/237-238 .
(4) تفسير ابن كثير ج1/149 .
(5) أحكام أهل الذمة ج2/736 .
(6) الفروسية ص121 – 122 ، ويُنظر : إعلام الموقعين ج3/112 .
(7) أعلام الموقعين لابن القيم ج3/140 .
(8) وهو قول جمهور الفقهاء ، يُنظر : الموسوعة الفقهية ج26/99 كلمة شعار .
(9) سبل السلام ج4/348 .
(10) رواه الترمذي وضعَّف إسناده ح2695 باب ما جاء في كراهية إشارة اليد بالسلام , والطبراني في الأوسط ح7380 ج7/238 , والقضاعي في مسند الشهاب ح1191 ج2/205 , وجوَّده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى ج25/331 , وقال في الاقتضاء ج1/85 : ( وإن كان فيه ضعفٌ فقد تقدَّم الحديث المرفوع : من تشبه بقوم فهو منهم , وهو محفوظ عن حذيفة بن اليمان أيضاً من قوله , وحديث ابن لهيعة يصلحُ للاعتضاد , كذا كان يقولُ أحمد وغيره ) وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية ج3/496 : ( وهو حسنٌ بما قبله ) أي بحديث : من تشبه بقوم .. وحسنه المناوي في التيسير بشرح الجامع الصغير ج2/329 , والألباني في صحيح سنن الترمذي ح2168 ، والصحيحة ح2194 .
(11) فتح المجيد ص339 .(/16)
وقال الإمام ابن القيم قدَّس الله روحه : ( والمقصودُ الأعظم : ترك الأسباب التي تدعو إلى موافقتهم ومشابهتهم باطناً ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم سنَّ لأمته ترك التشبُّه بهم بكلِّ طريق ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( خالفَ هَديُنا هَدْيَ المشركين )) (1), وعلى هذا الأصل أكثر من مئة دليل ، حتى شرع لنا في العبادات التي يُحبُّها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، تجنُّبَ مشابهتهم في مجرَّد الصورة ) (2).
وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى : ( ولَمْ يختلف أهل العلم منذ الصدر الأول في هذا ، أعني في تحريم التشبه بالكفار ، حتى جئنا في هذه العصور المتأخرة ، فنبتت في المسلمين نابتةٌ ذليلةٌ مُستعبَدةٌ ، هُجَيْرَاها وديدَنُها التشبُّه بالكفار في كل شيء ، والاستخدام لهم والاستعباد , ثم وَجَدُوا من الملتصقين بالعلم ، المنتسبين له من يُزَيِّنُ لهم أمرهم ، ويُهَوِّنُ عليهم أمرَ التشبه بالكفار في اللباس والهيئة ، والمظهر والخُلُق ، وكل شيء ، حتى صرنا في أمةٍ ليس لها من مظهر الإسلام إلاَّ مظهرَ الصلاة ، والصيام ، والحجِّ ، على ما أدخلوا فيها من بدعٍ ، بلْ من ألوانِ التشبه بالكفار أيضاً )(3).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تقومُ الساعةُ حتَّى تأخذ أُمَّتي بأخذِ القرون قبلَها شبراً بشبرٍ , وذراعاً بذراعٍ , فقيلَ يا رسولَ الله : كفارس والروم , فقال : وَمَنِ الناسُ إلاَّ أولئك )) (4).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : (( لَتَتَّبعُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قبلكم شبراً بشبرٍ , وذراعاً بذراعٍ , حتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تبعتموهُم , قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى , قال : فَمَنْ )) (5).
قال النووي : ( والمرادُ بالشبر والذراع وجُحر الضبِّ : التمثيلُ بشدَّةِ الموافقة لَهُمْ في المعاصي والمخالفات ) (6).
وقال شيخ الإسلام : ( وهذا كلُّه خَرَجَ منه مَخْرجَ الْخَبَر عن وقوع ذلك , والذَّمُّ لِمَنْ يفعله , كما كانَ يُخبِرُ عمَّا يفعله الناسُ بين يَدَيِّ الساعة من الأشراط والأمور المحرَّمات , فَعُلِمَ أنَّ مشابهتها هذه الأمة اليهود والنصارى , وفارس والروم , مِمَّا ذَمَّهُ الله ورسولُه , وهو المطلوب ) (7).
وقال رحمه الله : ( فَعُلِمَ بخبره الصِّدْقِ أنه في أمته قومٌ متمسِّكونَ بهديه , الذي هو دينُ الإسلام محضاً , وقومٌ منحرفونَ إلى شعبة من شُعَبِ اليهود , أو إلى شُعْبَةٍ مِنْ شُعَبِ النصارى , وإنْ كان الرجلُ لا يكفرُ بكلِّ انحراف , بل وقدْ لا يفسقُ أيضاً , بل قد يكون الانحرافُ كفراً , وقد يكونُ فسقاً , وقد يكون معصيةً , وقد يكونُ خطأً , وهذا الانحراف أمر تتقاضاه الطباع ويزينه الشيطان , فلذلك أُمِرَ العبدُ بدوام دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهوديةَ فيها ولا نصرانيةَ أصلاً ) (8).
ففي هذه الأحاديث إخبارٌ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن وقوع التشبُّه بالكفار في هذه الأمة , ولا شكَّ أنَّ مما أحدثه المشركون : تولية المرأة للخلافة فما دونها .. ويشهد لذلك سبب ورود حديث : (( لن يفلح قوم .. )) قال أبو بكرة رضي الله عنه : ( لَمَّا بلغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ أهل فارس قد ملَّكوا عليهم بنت كسرى , قال : (( لن يُفلح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة )) (9), ( وصدق ابن خلدون رحمه الله , فلقد توقَّع استيلاء الإفرنج على الأندلس الإسلامية , وخروج المسلمين منها قبل أن يقع ذلك بنحو مئتي سنة , ولم يكن له دليل على ذلك إلاَّ مشاهدته تشبه المسلمين بالأعداء ) (10).
__________
(1) رواه البيهقي ح9304 كتاب الحج ، باب الدفع من المزدلفة قبل طلوع الشمس , بلفظ : ( .. هدينا مخالف هديهم .. هدينا مخالف لهديهم .. ) وأبو داود في مراسيله ح151 بلفظ : ( فخالفَ هديُنَا هديَ أهلَ الشركِ والأوثان ) , وصحَّحه الحاكم ح3097 , ووافقه الذهبي ج2/304 .
(2) أحكام أهل الذمة ج3/1282- 1286 .
(3) من تعليق الشيخ على مسند الإمام أحمد رحمهما الله تعالى ح6513 ج10/19
(4) رواه البخاري ح6888 باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : لتتبعن سنن من كان قبلكم .
(5) رواه البخاري ح6889 باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : لتتبعن سنن من كان قبلكم , ومسلم ح2669 باب اتباع سنن اليهود والنصارى .
(6) شرح صحيح مسلم للنووي ج16/219-220 .
(7) اقتضاء الصراط المستقيم ج1/147-149 .
(8) اقتضاء الصراط المستقيم ج1/70 , ويُشيرُ رحمه الله تعالى إلى دعاء المسلم ربه تعالى في كلِّ يوم وليلة سبعة عشر مرة فأكثر : ( - - رضي الله عنه - الله أكبر ( - ( - - - - ((- عليه السلام - - ( - ( - - -
(9) رواه البخاري ح4163 بابُ كتاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى كسرى وقيصر .
(10) عودة الحجاب ج2/28 للشيخ محمد المقدم .(/17)
فالدعوة لتولية المرأة لرئاسة دولة , أو الإمارة , أو الوزارة , أو السفارة هو دعوة للتشبُّه بالمشركين , وإذا عَلِمَ المسلمُ أنَّ مِمَّا يُدندنُ عليه المشركون والجاهلون ويُلحُّوا على المسلمين بتنفيذه - عبر منظمة الأمم المتحدة - :
1 - حق المرأة في أن تكون رئيسة دولة , أو رئيسة وزراء , أو وزيرة .
2 - اتخاذ الإجراءات من أجل مشاركة المرأة في الأنشطة السياسية .
3 - تشجيع الأحزاب السياسية على تعيين مرشَّحات من النساء من أجل انتخابهنَّ على قدم المساواة مع الرجل .
4 - الدعوة لإصدار تعليمات حكومية خاصة لتحقيق تمثيل منصف للمرأة في مختلف فروع الحكومة .
5 - الدعوة لتمثيل المرأة تمثيلاً منصفاً على جميع المستويات العليا في الوفود , كوفود الهيئات والمؤتمرات واللجان الدولية التي تُعالج المسائل السياسية والقانونية ونزع السلاح وغيرها من المسائل المماثلة .
6 - التقليل من عمل المرأة داخل منزلها , واعتبار ذلك عملاً ليس له مقابل وأنه من أسباب فقر المرأة .
7 - الدعوة إلى خروج المرأة للعمل المختلط .
8 - الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل فيما يتعلق بنوعية العمل ووقته .
9 - الدعوة لقيام الحكومات بإصلاحات تشريعية وإدارية لتمكين المرأة من الحصول الكامل على الموارد الاقتصادية وفتح جميع مجالات العمل لها (1) ... إلخ .
وقد أصدرت هيئة كبار العلماء بالمملكة القرار التالي :
( قرار رقم 179 وتاريخ 23/3/1415هـ .
الحمد لله وحده , والصلاة والسلام على رسول الله , وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه , أما بعد :
فإنَّ مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الاستثنائية الثامنة المنعقدة في مدينة الطائف في الفترة من 20/3/1415هـ إلى 23/3/1415هـ نظر في برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المرفق بمذكرة الأمانة العامة للأمم المتحدة , الذي سيُعقد في القاهرة بتاريخ 29/3/1415هـ إلى 8/4/1415هـ الموافق 5-13 سبتمبر عام 1994م , واطلع على ما صدر حول البرنامج من :
1 – الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي .
2 – الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي .
3 – مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة برئاسة سماحة شيخ الأزهر
4 – المركز الدولي الإسلامي للدراسات والبحوث السكانية بجامعة الأزهر .
كما اطلع على الدراسة المقدمة من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية إلى المجلس .
وبعد الدراسة , وتبادل الآراء , اتضح للمجلس ما يلي :
1 – تبنِّي هذا البرنامج – في ظاهره – المشكلة السكانية القادمة , والتي سببها – في نظر معدِّي البرنامج – تكاثر السكان لكثرة النسل أمام قلة الموارد , مما سيؤدي إلى مشكلة الفقر العام حسب زعمهم .
2 - قدم لهذا المؤتمر مسودة وثيقة – كبرنامج عمل – حسبما وافقت عليه اللجنة التحضيرية للمؤتمر المنعقدة في نيويورك من 20 إلى 22 نيسان – إبريل عام 1994م , وهي تتكون من (16) فصلا في (121) صفحة بصياغة تعتمد التصريح حيناً , والمفهوم والتلويح حيناً آخر بما يفضي إلى الإباحية .
3 - ركزت الوثيقة كعلاج لذلك على الدعوة إلى أمرين :
الأول : الدعوة إلى الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة , والقضاء التام على أي فوارق بينهما , حتى فيما قررته الشرائع السماوية , واقتضته الفطرة , وحتمته طبيعة المرأة وتكوينها .
وعقدت الوثيقة لذلك فصلاً كاملاً هو الفصل الرابع بعنوان ( المساواة بين الجنسين والإنصاف وتمكين المرأة ) .
وفي مواضع أخرى من الوثيقة كما في الفصل الثاني ( المبدأ / 2 , والمبدأ / 7 ) والفصل الثالث ( م / 18 , م / 30 ) , والفصل الحادي عشر : الأهداف / أ ب ح والفصل الخامس عشر : المبدأ / 9 .
__________
(1) يُنظر : وثيقة المؤتمر العالمي للمرأة / كوبنهاجن 1980م , الصفحات : 20 , 22-23 , 30 , 31 , 33 , 37 , 46 , 51 , 87 , 148 , ووثيقة المؤتمر العالمي للمرأة / نيروبي 1985م , الصفحات : 19 , 25-26 , 27 , 31 , 32 , 34 , 36-37 , 45 , 50-53 , 65 , 75 , 85 , 94 , 106 , 115 , 124 , 127 , 143 , 146 , 167 , ووثيقة المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة / بكين 1995م , الصفحات : 6-8 , 14-16 , 18 , 22-23 , 25-26 , 31-34 , 87-88 , 90-91 , 95-96 , 98-100 , 102-108 , 113 , 144 , 195-196 , 204 , 207 .
ووثيقة المؤتمر الدولي المعني بالسكان / مكسيكو 1984م ص20 , ووثيقة المؤتمر الدولي للسكان والتنمية / القاهرة 1994م , الصفحات : 26 , 28 , 31 , ووثيقة المؤتمر العالمي للبيئة والتنمية / ريودي جانيرو 1992م , الفصل 24 , الصفحات : 400-401 , 403 , ووثيقة مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية / كوبنهاجن 1995م , الصفحات : 21 , 52 , 57 , 73 , 76 , 78 ( يُنظر : قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية دراسة نقدية في ضوء الإسلام – رسالة دكتوراة - للدكتور فيصل العبد الكريم ) .(/18)
الثاني : الدعوة إلى فتح باب العلاقات الجنسية المحرمة شرعاً , واتخذت له من الوسائل الآتي :
( أ ) السماح بحرية الجنس , وأنواع الاقتران الأخرى غير الزواج , والدعوة إلى الإجراءات الكفيلة بذلك ( فصل 2/7 , وفصل 5/5 , وفصل 6/11 , وفصل 6/15 , وفصل 7/1 , 7/2 ) .
( ب ) التنفير من الزواج المبكر , ومعاقبة من يتزوج قبل السن القانونية ( وإتاحة بدائل تغني عن الزواج المبكر , من قبيل توفير فرص التعليم والعمل ) كما في الفصل الرابع , مبدأ /21 , والفصل السادس , مبدأ /7 , فقرة (ج) , ومبدأ /11 .
( ج ) العمل على نشر وسائل منع الحمل , والحد من خصوبة الرجال , وتحديد النسل , بدعوى تنظيم الأسرة , والسماح بالإجهاض المأمون وإنشاء مستشفيات خاصة له , وحث الحكومات على ذلك , وتكون التكاليف قليلة جداً , كما في الفصل 3/13 , والفصل 4/ جـ27 , والفصل 7/ 31 , 7/ 37 , والفصل 11/ 8 , والفصل 12 / 14 , والفصل 15/ 16 .
( د ) التركيز على التعليم المختلط بين الجنسين , وتطويره , لأنه من أعظم إزالة الفوارق بين الجنسين , وتعويق الزواج المبكر , وتنشيط الاتصال الجنسي , كما في الفصل السادس , الهدف/ج , والفصل الحادي عشر / الإجراء /8 .
( هـ ) التركيز على تقديم الثقافة الجنسية للجنسين بسن مبكر : سن الطفولة والمراهقة , كما في الفصل 4/ 29 , والفصل 6/ 7 , (ب) و6/15 , والفصل 7/ 5 , و 7/6 .
( و ) تسخير الإعلام لتحقيق هذه الأهداف , كما في الفصل 11/16 .
4 - نتيجة لهذه الدعوة للإباحية , ولعلمهم المسبق بما يترتب على الانفلات الجنسي , ركزت الوثيقة على الخدمات الصحية التناسلية والجنسية وكيفية معالجة ما يقع من الأمراض الجنسية , والحمل وبخاصة ( الإيدز ) .
5 - إهمال التعاليم الدينية , والقيم الإنسانية , والاعتبارات الأخلاقية , وعدم إقامة أي وزن لها .
6- إعلان الإباحية , والمحادة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - , ولدينه وشرعه وسلب قوامة الإسلام على العباد , وسلب ولاية الآباء على الأبناء وقوامة الرجال على النساء , وإلغاء ما دلت عليه الشريعة الإسلامية من مقومات وضوابط , وموانع في وجه الإباحية والتحليل , وفوضى الأخلاق , والتفسخ من الدين .
ومن خلال توافر هذه المعلومات الموثقة من نصوص الوثيقة ومضامينها , فإنها تؤدي إلى المنكرات والآثار السيئة التالية :
1 - نشر الإباحية , وتعقيم البشرية , وتحويلها إلى قطعان بهيمية مسحوبة الهوية من الفضيلة والخلق والعفة والطهارة التي تؤكد عليها تعاليم الدين .
2 - هتك حرمات الشرع الإسلامي المطهر المعلومة منه بالضرورة , وهي حرمات : الدين , والنفس , والعرض , والنسل , فالإباحية هتك لحرمة الدين , والإجهاض بوصفة المذكور في الوثيقة هتك لحرمة النفس , وقتل للأبرياء , والعلاقات الجنسية من غير طريق الزواج الشرعي : هتك لحرمة العرض والنسل .
3 - جميع ذلك تحد لمشاعر المسلمين , ومصادرة لقيمهم ومثلهم الإسلامية .
4 - جميع ذلك أيضاً هجمة شرسة , ومواجهة عنيفة للمجتمع الإسلامي لتحويل ما فيه من عفة وطهارة عرض وحفظ نسل إلى واقع المجتمعات المصابة بأمراض الشذوذ الجنسي والانفلات في الأخلاق وعليه فإن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية يقرر بالإجماع ما يلي :
أولاً : أنَّ ما دعت إليه هذه الوثيقة من المبادئ والإجراءات والأهداف الإباحية مخالف للإسلام ولجميع الشرائع التي جاءت بها الرسل عليهم الصلاة والسلام , وللفطر السليمة والأخلاق القويمة وكفر وضلال .
ثانياً : لا يجوز شرعاً للمسلمين حضور هذا المؤتمر – الذي هذا من مضمون وثيقة عمله - ويجب عليهم مقاطعته وعدم الاشتراك فيه .
ثالثاً : يجب على المسلمين حكومات وشعوباً وأفراداً وجماعات الوقوف صفاً واحداً في وجه أي دعوة للإباحية , وفوضى الأخلاق , ونشر الرذيلة .
رابعاً : يجب على كل من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين أن يتقي الله في نفسه وفي رعيته , وأن يسوسهم بالشرع الإسلامي المطهر , وأن يسد عنهم أبواب الشر والفساد والفتنة , وألا يكون سبباً في جرِّ شيء عليهم , وأن يحكم شريعة الله في جميع شؤونهم , ونذكر الجميع بقول الله سبحانه : (( يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً )) (النساء:26-27).
وبقوله عز وجل : (( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ )) (1).
__________
(1) الآية 50 من سورة المائدة .(/19)
والله المسئول أن يوفق جميع المسلمين حكومات وشعوباً لما فيه رضاه , وأن يصلح أحوالهم , وأن يمنحهم الفقه في الدين , ويعيذهم جميعاً من مضلات الفتن , ونزغات الشيطان إنه على كل شيء قدير , وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين .
هيئة كبار العلماء
الرئيس
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
صالح بن محمد اللحيدان راشد بن صالح الخنين محمد بن إبراهيم بن جبير
عبد الله بن سليمان بن منيع عبد الله بن عبد الرحمن الغديان د/صالح بن فوزان الفوزان
محمد بن صالح العثيمين عبد الله بن عبدالرحمن البسام حسن بن جعفر العتمي
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ ناصر بن محمد الراشد محمد بن عبد الله السبيل
د/ عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ محمد بن سليمان البدر د/عبد الرحمن بن حمزة المرزوقي
د/عبد الله بن عبد المحسن التركي محمد بن زيد آل سليمان د/بكر بن عبد الله أبو زيد
د/صالح بن عبد الرحمن الأطرم (1) .
ثمَّ أصدرت هيئة كبار العلماء البيان التالي في 3/4/1416هـ :
( الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين الذي أوصى بالنساء خيراً فقال : (( استوصوا بالنساء خيراً )) وقال : (( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي )) , فكان بأقواله وأفعاله داعياً إلى الرحمة وهو نبي الرحمة , وبعد :
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية قد اطلع في دورته الاستثنائية التاسعة المعقودة في مدينة الطائف ابتداء بيوم الثلاثاء 3/4/1416هـ على مذكرة منهاج عمل مؤتمر المرأة المقرر عقده في بكين عاصمة الصين , وتَأمَّل منهاج هذا المؤتمر وأهدافه , ورأى مناقضات بعض مواد هذا المنهاج لبعض موادِّه , وتعمية متعمَّدة , والتواء في العبارات واضح , والهدف منه إطلاق الرغبات من كلِّ قيد , وإفساح المجال للممارسات البعيدة عن ضوابط الأخلاق , وفطرة التي فطر الناس عليها , وشريعته التي شرعها لعباده , للانفلات وراء الرغبات الجنسية وإعداد الفتيات لهذه النزوات تحت ستار حرِّية المرأة , والرفق بالمرأة , ومشكلة المرأة .
ومعلوم أن المرأة المسلمة لا تواجهها مشكلة من حيث مكانتها في المجتمع , فهي أم وزوجة وأخت وبنت , كفلت لها شريعة الإسلام جميع الحقوق , وصانتها عن الابتذال والإذلال بكلِّ معاني الصيانة والاحترام , وأعطتها من الحقوق كل ما يناسب تكوينها الذي منحها إياه خالقها , كما قال تعالى : (( وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ)) (2).
وفضَّل الرجل عليها في أحكام كثيرة كالإرث والشهادة وأمور أخرى , كما قال الله تعالى : (( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ )) (3), الآية من سورة النساء , وقال سبحانه في سورة النساء أيضاً : (( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ )) (النساء:11) (4), وقال سبحانه في آخرها : (( وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) (النساء:176)(5), وقال تعالى : (( وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء)) (البقرة:282) (6) الآية من سورة البقرة .
ووثيقة منهاج عمل مؤتمر المرأة فيها المصادمة الصريحة لما شرعه الله والإلزام بنبذ كل ما جاء عن الله إذا كان يخالف ما يدعو إليه هذا المؤتمر , وفي ذلك مصادمة لشرع الله , وتحطيم للأسرة , ومحادة لله ورسوله ولكافة رسله وأنبيائه , وإباحة صريحة لممارسات الزنا وغيره من الفواحش , وقضاء على ما بقي لدى الأمم من الأخلاق والقيم , وبذل الأموال طائلة في سبيل هذا الهدف الخبيث البعيد عن فطرة الله التي فطر الناس عليها وعن شرع الله الحكيم , مما لو بذل بعضه لإغاثة أمم منكوبة أو حماية أمم مقهورة بالظلم والعدوان لكفى , وما هذا المؤتمر إلاَّ عقدة في سلسلة عقد سابقة ولاحقة يترتب عليها تدمير الكيان الاجتماعي السليم , أو الباقي على شيء من القيم الكريمة .
ولكلِّ ما تقدم فإنَّ مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية يدعو المسلمين : حكومات وشعوباً وعلماء ومنظمات وجماعات وأفراداً للتنديد بمنهاج هذا المؤتمر , والتحذير منه , ودعوة الجميع للرد على أهدافه التي تقدمت الإشارة إليها , إنكاراً لما أنكره الله ورسوله وحماية للمسلمين عن الوقوع فيها , والله ولي التوفيق .
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية عدد42 ص383-388 .
(2) الآية 228 من سورة البقرة .
(3) الآية 34 من سورة النساء .
(4) الآية 11 من سورة النساء .
(5) الآية 176 من سورة النساء .
(6) الآية 282 من سورة البقرة .(/20)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه , ومن سار على نهجه إلى يوم الدين .
هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية
الرئيس
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
صالح بن محمد اللحيدان راشد بن صالح الخنين محمد بن إبراهيم بن جبير
عبد الله بن سليمان بن منيع عبد الله بن عبد الرحمن الغديان د/صالح بن فوزان الفوزان
محمد بن صالح العثيمين عبد الله بن عبدالرحمن البسام حسن بن جعفر العتمي
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ ناصر بن محمد الراشد محمد بن عبد الله السبيل
د/ عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ محمد بن سليمان البدر د/عبد الرحمن بن حمزة المرزوقي
محمد بن زيد آل سليمان د/بكر بن عبد الله أبو زيد د/عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان
د/صالح بن عبد الرحمن الأطرم (1) .
وأصدر سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله البيان التالي :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحابته ومن اهتدى بهديهم واستن بسنتهم إلى يوم الدين ، أما بعد :
فقد نشر في وسائل الإعلام خبر انعقاد المؤتمر الدولي الرابع المعني بالمرأة ، من 9 إلى 20 / 4 عام 1416 هـ الموافق 4 / 15 سبتمبر عام 1995م في بكين عاصمة الصين ، واطلعت على الوثيقة المعدة لهذا المؤتمر المتضمنة ( 362 ) مادة في ( 177 ) صفحة , وعلى ما نشر من عدد من علماء بلدان العالم الإسلامي في بيان مخاطر هذا المؤتمر ، وما ينجم عنه من شرور على البشرية عامة وعلى المسلمين خاصة ، وتأكَّد لنا أن هذا المؤتمر من واقع الوثيقة المذكورة هو امتداد لمؤتمر السكان والتنمية المنعقد في القاهرة في شهر ربيع الثاني عام 1415 هـ ، وقد صدر بشأنه قرار هيئة كبار العلماء ، وقرار المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي ، كلاهما برئاستي واشتراكي ، وقد تضمَّن القراران إدانة المؤتمر المذكور بأنه مناقض لدين الإسلام ومحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، لِما فيه من نشر للإباحية وهتك للحرمات ، وتحويل المجتمعات إلى قطعان بهيمية وأنه تتعين مقاطعته . . إلى آخر ما تضمنه القراران المذكوران .
والآن يأتي هذا المؤتمر في نفس المسار والطريق الذي سار عليه المؤتمر المذكور ، متضمناً التركيز على مساواة المرأة بالرجل والقضاء على جميع أشكال التمييز بين الرجل والمرأة في كل شيء , وقد تبنَّت مسودة الوثيقة المقدمة من الأمانة العامة لهيئة الأمم المتحدة على مبادئ كفرية ، وأحكام ضالة في سبيل تحقيق ذلك منها :
الدعوة إلى إلغاء أي قوانين تميِّز بين الرجل والمرأة على أساس الدين ، والدعوة إلى الإباحية باسم : الممارسة الجنسية المأمونة , وتكوين الأسرة عن طريق الأفراد , وتثقيف الشباب والشابات بالأمور الجنسية , ومكافحة التمييز بين الرجل والمرأة ، ودعوة الشباب والشابات إلى تحطيم هذه الفوارق القائمة على أساس الدين ، وأن الدين عائق دون المساواة , إلى آخر ما تضمنته الوثيقة من الكفر والضلال المبين ، والكيد للإسلام وللمسلمين ، بل للبشرية بأجمعها وسلخها من العفة ، والحياء ، والكرامة .
لهذا فإنه يجب على ولاة أمر المسلمين ، ومن بسط الله يده على أي من أمورهم أن يقاطعوا هذا المؤتمر ، وأن يتخذوا التدابير اللازمة لمنع هذه الشرور عن المسلمين ، وأن يقفوا صفاً واحداً في وجه هذا الغزو الفاجر , وعلى المسلمين أخذ الحيطة والحذر من كيد الكائدين ، وحقد الحاقدين .
نسأل الله سبحانه وتعالى ، أن يردَّ كيد الأعداء إلى نحورهم ، وأن يُبطل عملهم هذا ، وأن يوفق المسلمين وولاة أمرهم إلى ما فيه صلاحهم ، وصلاح أهليهم رجالاً ونساءً ، وسعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة , إنه وليُّ ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
والمفتي العام للمملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن باز (2)
الفصل الخامس
الإجماع على حُرمة تولِّي المرأة للولاية والوزارة والسفارة .
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية عدد45 ص331-334 .
(2) مجلة البحوث الإسلامية عدد45 ص335-336 .(/21)
لقد أجمعَ العلماءُ على عدم جواز تولِّي المرأة للولاية العظمى (1) , ولَمْ يُخالف هذا الإجماع إلاَّ فرقة الشبيبة من الخوارج (2) , وبعض المتفيهقين في هذا العصر , ولا عبرة بخلافهم .
قال الإمام ابن حزم ت456هـ رحمه الله : ( وجميع فرق القبلة ليس فيهم أحدٌ يُجيزُ إمامة امرأة ) (3).
وقال أبو المعالي عبد الملك الجويني ت478هـ : ( وأجمعوا على أنَّ المرأة لا يجوزُ أن تكونَ إماماً ) (4).
وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله : ( ولا تصلحُ للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان , ولهذا لَمْ يُولِّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولا أحدٌ من خلفائه ولا مَن بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد فيما بلَغنا , ولو جازَ ذلك لَمْ يَخلُ منه الزمانُ غالباً ) .
وقال القرطبي : ( وأجمعوا على أنَّ المرأة لا يجوز أن تكون إماماً ) (5)
وقال البغوي رحمه الله : ( اتفقوا على أنَّ المرأةَ لا تصلحُ أنْ تكونَ إماماً , ولا قاضياً .. ) (6).
وقال أبو الوليد الباجي ت494هـ رحمه الله : ( ويكفي في ذلك عملُ المسلمينَ من عهد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم , لا نعلمُ أنه قدَّم امرأةً لذلك في عصرٍ من الأعصار , ولا بلدٍ من البلاد , كمَا لَمْ يُقدِّم للإمامة امرأة )(7).
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى : ( تولية المرأة واختيارها للرياسة العامة لا يجوز , وقد دلَّ الكتاب والسنة والإجماع على ذلك ) (8).
وقال الدكتور محمد منير العجلاني : ( لا نعرف بين المسلمين من أجاز خلافة المرأة , فالإجماع في هذه القضية تام لَم يشذ عنه أحد ) (9).
الفصل السادس
دلالة العقل على حُرمة تولِّي المرأة للولاية والوزارة والسفارة .
1 – إنَّ من القواعد الشرعية الثابتة : ( درء المفاسد - إذا كانت مكافئة للمصالح أو أعظم - مقدَّم على جلب المصالح ) ؟ (10) .
فالشريعة الإسلامية مبناها على جلب المصالح وتكميلها , ودفع وتعطيل المفاسد وتقليلها ، فما غلبت مصلحته أباحته ، وما غلبت مفسدته منعته (11) ، فالمأمورات والمنهيات في الشريعة تشتمل كل منهما على مصالح ومضار ، والحكم في كل منها على الأغلب (12) .
وهذه القاعدة : من مسائل الإجماع عند العلماء ، الثابتة بالكتاب , والسنة , والعقل (13) .
ولو سُلِّم بأن هناك بعض الفوائد القليلة العائدة على المرأة في تولِّيها للإمامة العظمى فما دونها مما فيه ولاية على الرجال ، إلاَّ أنه بالنظر إلى ما يترتب عليه من مفاسده نجده أضعافاً مضاعفة بالنسبة لتلكم المصالح القليلة النسبية التي يرجوها من يدعو إليها ! لأن أخطارها ومفاسدها قد بلغت من الكثرة والعموم ما لا ينكره عاقل منصف .
__________
(1) يُنظر : حاشية رد المحتار لابن عابدين ج1/548 , الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي ص338 , حجة الله البالغة للدهلوي ج2/396 , أحكام القرآن لابن العربي ج3/1457 , الفروق ج2/158 لأحمد بن إدريس القرافي ت684هـ , الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك ج2/329 لأحمد بن أحمد الدردير ت1201هـ , تحفة المحتاج للهيثمي ج9/75 , نهاية المحتاج للرملي ج7/409 , المبدع لابن مفلح ج10/10 , إعلام الموقعين ج2/149 , الأحكام السلطانية للفراء ص20 و60 , إكليل الكرامة لصديق حسن خان ص108 , الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم ج5/10 , فضائح الباطنية ص180 لأبي حامد محمد الغزالي ت505هـ .
(2) يُنظر : الفرق بين الفرق ص109-111 لعبد القاهر البغدادي ت429هـ , وهذه الفرقة تُنسب إلى أبي الضحاك شبيب بن يزيد بن نعيم بن قيس الشيباني , ولد سنة 26هـ وتوفي غرَقاً سنة 77هـ .
(3) الفصل في الملل والأهواء والنحل ج4/179 .
(4) الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد ص427 .
(5) الجامع لأحكام القرآن ج1/270 .
(6) شرح السنة ج10/77 .
(7) المنتقى شرح موطأ الإمام مالك رحمه الله ج5/182 .
(8) ذكره الشيخ جوهر الرحمن في كتابه : رياسة المرأة في ضوء القرآن والسنة ص25 .
(9) عبقرية الإسلام في أصول الحكم ص70 .
(10) يُنظر : المجموع المذهب في قواعد المذهب للعلائي , لوحة 46 فما بعدها , ولوحة 95أ , الأشباه والنظائر ج1/15 لابن السبكي ت771هـ , كتاب القواعد ج1/354 للحصني ت829هـ , القواعد في الفقه الإسلامي القاعدة 109 لابن رجب ت795هـ , القاعدة 34 من إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي ت914هـ , الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية ص87-105 للسيوطي ت911هـ , القواعد ص201 للمقري ت758هـ , الأشباه والنظائر ص90 لابن نجيم ت790هـ .
(11) يُنظر : أصول الفقه ص 308 لمحمد البرديسي .
(12) يُنظر : مجموع الفتاوى ج1 / 265 , قواعد الأحكام في مصالح الأنام ج1/ 12 لابن عبد السلام ت660هـ ، وفقه الأولويات ص225 لمحمد الوكيل .
(13) يُنظر : الموافقات في أصول الشريعة ج4/ 194 – 201 لإبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي ت790هـ ، الفتاوى الكبرى ج3 / 256 ، إعلام الموقعين ج3 / 147 – 171 .(/22)
ومن هنا جاء باب ( سدّ الذرائع المفضية إلى المفاسد ) أو المؤدية إلى إهمال أوامر الشرع ، أو التحايل عليها ولو بغير قصد (1)، فإنَّ ( سدَّ الذرائع أصلٌ من أصول الشريعة الإسلامية ، وحقيقته : منع المباحات التي يُتوصل بها إلى مفاسد أو محظورات .. ولا يقتصر ذلك على مواضع الاشتباه والاحتياط ، وإنما يشتمل كل ما من شأنه التوصل به إلى الحرام ) (2).
وعرَّفها الباجي ت474هـ بقوله : ( المسألة التي ظاهرها الإباحة ويُتوصل بها إلى فعل المحظور ) , وابن رشد ت520هـ بقوله : ( هي الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويُتوصل بها إلى فعل المحظور ) (3), وابن العربي ت543هـ بقوله : ( هي كل عمل ظاهره الجواز يُتوصل به إلى محظور ) (4).
والقرطبي ت671هـ بقوله : ( الذريعة : عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يُخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع ) (5), والقرافي المالكي ت684هـ بقوله : ( سد الذرائع ومعناه : حسم مادة وسائل الفساد دفعاً لها ) (6).
وشيخ الإسلام ابن تيمية ت728هـ بقوله : ( الذريعة : الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرَّم ) (7).
والشاطبي ت790هـ بقوله : ( الذريعة : هي التوصل بما هو مصلحة إلى مفسدة )(8), وابن النجار ت972هـ بقوله : ( الذريعة هي ما ظاهره مباح , ويُتوصل به إلى محرَّم ) (9).
فالشارع الحكيم إذا حرَّم أمراً حرَّم الوسائل المفضية إليه (10) .
ولقد اتفقت جميع المذاهب الأربعة على إعمال قاعدة سدِّ الذرائع في الذريعة التي تؤول إلى المحرَّم قطعاً , وفي الذريعة التي تؤول إلى المحرَّم ظناً (11) .
2- أتت الشريعة الإسلامية بالعمل بالعُرف والعادة التي لا تُخالف الشرع , وما تعارفَ عليه المسلمون مما لا يُخالف الكتاب والسنة يُعتبرُ حجة يجب العمل به (12) .
قال النسفي رحمه الله تعالى : ( العُرف والعادة ما استقرَّ في النفوس من جهة العقول , وتلقَّته الطباع السليمة بالقبول ) (13).
وقال محمد الجرجاني ت816هـ رحمه الله تعالى : ( العُرف ما استقرَّت النفوس عليه بشهادة العقول , وتلقَّته الطبائع بالقبول .. وكذا العادة هي ما استمرَّ الناس عليه على حكم العقول وعادوا إليه مرَّة بعد أخرى ) (14).
وقد أَعمل الشارع الحكيم جانب العرف وجعل له اعتباراً في كثير من العقود والأحوال الشخصية والتصرفات الدنيوية , وأخذ الفقهاء بالعرف وأولوه عناية فائقة في المسائل الفقهية , قال ابن نجيم رحمه الله تعالى : ( واعلم أنَّ اعتبار العادة والعرف يُرجع إليه في الفقه في مسائل كثيرة ) (15).
ولقد دلَّ القرآن الكريم , والسنة التقريرية , والإجماع التقريري على العمل بالعادة والعرف (16) .
__________
(1) يُنظر : الموافقات ج4 / 199 ، الاستصلاح والمصالح المرسلة في الشريعة الإسلامية وأصول فقهها ص45 لمصطفى الزرقاء .
(2) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي ص209 بتصرف .
(3) المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات مج2/ص39 لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد .
(4) أحكام القرآن لابن العربي ج2/798 .
(5) الجامع لأحكام القرآن ج2/57 .
(6) الفروق ج2/ص32 , ويُنظر : مقاصد الشريعة الإسلامية ص118 للطاهر بن عاشور ت1393هـ .
(7) الفتاوى الكبرى ج3/256 .
(8) الموافقات في أصول الشريعة ج4/ص199 , ويُنظر : إرشاد الفحول ص411 للشوكاني .
(9) مختصر التحرير في أصول فقه السادة الحنابلة ص98 لمحمد بن أحمد النجار , ويُنظر : الإنصاف ج5/337 للمرداوي , الفواكه الدواني للنفراوي ج2/102 , شرح الزرقاني على مختصر خليل ج2/400 لعبد الباقي الزرقاني , مواهب الجليل ج4/524 للمغربي , فتح الباري ج4/401 , ج5/61 , ج12/327 , نصب الراية لأحاديث الهداية ج1/328 لعبد الله بن يوسف الزيلعي ت762هـ .
(10) إعلام الموقعين عن رب العالمين ج3 / 135 لابن القيم .
(11) يُنظر : قواعد الأحكام في مصالح الأنام ص76 للعز بن عبد السلام ت660هـ , والموافقات للشاطبي ج3/350 .
(12) يُنظر : قواعد ابن رجب 121 , 122 , قواعد الخادمي ص308 , وشرحها للقرق أغاجي ص5 , قواعد الفقه ص57 لمحمد البركتي , مجلة الأحكام مادة 37 , درر الأحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر ج1/41 , المدخل الفقهي العام فقرة 60 لمصطفى الزرقا , الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية ص292 لمحمد صدقي البورنو .
(13) العرف والعادة في رأي الفقهاء ص10 لأحمد أبو سنة , وأثر العرف في التشريع الإسلامي ص50 لسيد صالح النجار .
(14) التعريفات للجرجاني ص149 .
(15) الأشباه والنظائر لابن نجيم مع شرحه غمز عيون البصائر ج1/295 , ويُنظر : مجموع فتاوى ابن تيمية ج29/16-17 .
(16) يُنظر : شرح الجلال المحلي ت864هـ على جمع الجوامع لابن السبكي ج2/353 , وبدائع الصنائع ج5/ص2-3 , وشرح تنقيح الفصول ص322 لابن حلولو الزليطي ت898هـ .(/23)
وإنما يُعتبر العرف عند عدم التصريح بخلافه , ووردت هذه القاعدة الفقهية بلفظ : العرف إنما يُعتبر فيما لا نصَّ بخلافه , وبلفظ : العرف غير معتبر في المنصوص عليه , وبلفظ : العرف يسقط اعتباره عند وجود التسمية بخلافه , وبلفظ : العرف لا يُعارض النص , وبلفظ : العرف يكون حجة إذا لم يُخالف نصَّ الفقهاء (1) .
ومن هنا : تظهر العلاقة الجلية بين العرف وسدِّ الذرائع حيث إنَّ كلا القاعدتين تسعيان لتحقيق مقاصد الشارع , وجعل أحكام الشرع صالحة لكلِّ زمان ومكان ... فتبيَّنَ لنا : أنَّ عادات وأعراف المسلمين عبر كلِّ العصور تُنكر ( تولِّي المرأة للإمامة فما دونها مما فيه ولاية على الرجال ) والحمد لله .
3 - إنَّ المرأة ليست أمثل من الرجل - في تولِّي إحدى وزارتي التفويض , أو التنفيذ - من ناحية القدرة والكفاية على معاناة السياسة في تحصيل مصالح الأمة , فضلاً عن التفرُّغ التام لمهام ومسؤوليات تلك الوزارتين والسفارة , وبيانه من ناحيتين :
الناحية الأولى : للمرأة وظيفتان : الوظيفة الأولى : أصلية , وهي الأمومة وكونها زوجة .
والوظيفة الثانية : خاصة - طارئة - وهي الوزارة أو رئاستها .
فإذا أجزنا للمرأة مخالفة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين - ومعاذ الله من ذلك - بتولِّيها الوزارة أو رئاستها , وهي ليست وظيفتها الأصلية , فإننا نكون بذلك - علاوة على مخالفة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين - قد أهدرنا وظيفتها الأساسية في الحياة مع وجود من يقوم مقامها بالنصِّ .
والناحية الثانية : إنَّ المرأة المسلمة مشغولة بما يعتريها من عوارض الأنوثة , من نحو الحيض , والحمل , والولاة , والإرضاع , والنفاس , فضلاً عن انشغالها بتربية أطفالها وتدبير شؤونهم الحياتية , فهم بأمسِّ الحاجة إلى حنانها ورعايتها اليومية .. بالإضافة إلى قيامها بواجباتها الزوجية .
فإذا كانت المرأةُ المسلمةُ مشغولةٌ بحقوق أُسرتها المأمورة برعاية مصالحا العامة وتحصيلها ابتداءً , فلا تُشغَلُ بحقوق الأُمة غير المكلَّفة بِها من باب أولى , لوقوع التعارض الحتمي بين المصلحتين : مصلحة رعاية الأسرة والحياة الزوجية العامة , ومصلحة المرأة المسلمة الخاصة في كونها رئيسة وزراء , أو وزيرة تنفيذية , فتُقدَّم شرعاً عندئذٍ المصلحة العامة على المصلحة الخاصة , لأنها هي الأولى بالرعاية .
4 - إذا كانت المرأة غير قوَّامةٍ على أمر زوجها وبيتها فَمِنْ باب أولى ألاَّ تكون لها القوامة على سياسة الرعية والدولة بتولِّي أحد منصبي وزارة التفويض أو التنفيذ .
ولهذا نصَّ الفقهاء على أنَّ : الرَّجُلَ أنفعُ منها , ويسدُّ ما لا تسدُّه المرأة من المناصب الدينية , والولايات , وحفظ الثغور , والجهاد , وعمارة الأرض التي لا تتمُّ مصالح العالَم إلاَّ بِها والذَّبِّ عن الدنيا والدين (2) .
ولهذا فلا مجالَ للرأي القائل بتخصيص وزارة لشؤون المرأة , وحماية مصالحها لأنَّها أَحنُّ من الرجل وأعطف .. وهذا تخصيصٌ بلا مُخصِّص شرعي , ولأنَّ اشتراط العاطفة الحانية ليست من شروط صحَّة تقليد الوزير , وحتَّى لو اشتُرط ذلك فيه فيبقى المنعُ من تولية المرأة على الوزارة مطلقاً قائماً لورود النهي عن ذلك ) (3).
الخاتمة
تبيَّن لنا مِمَّا مضى :
حُرمة تولِّي المرأة للولاية العظمى , أو لرئاسة الوزراء , أو لوزارة التفويض , أو التنفيذ , أو فيما دونها مما فيه ولاية على الرجال .
أسأل الله سبحانه أنْ يهديَ ضالَّ المسلمين , وأنْ يُذهب عنَّا وعنهم البأس , وأنْ يصرفَ عنَّا وعنهم كيدَ الكائدين , وأنْ يحفظنا بالإسلامِ قائمينَ , وقاعدينَ , وراقدينَ , وأنْ لا يُشْمِتَ بنا الأعداءَ ولا الحاسدينَ , إنَّ الله لسميعُ الدعاء (( إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)) (هود:88) .
وصلى الله وسلَّم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلَّم .
__________
(1) يُنظر : شرح السير ص1634 , المبسوط ج4/227 , ج12/142 , ج14/136 , قواعد الفقه ص71 و92 .
(2) يُنظر : إعلام الموقعين للإمام ابن القيم ج2/149 .
(3) يُنظر : المرأة والحقوق السياسية في الإسلام , للدكتور مجيد محمود أبو حجير ص323-325 بتصرُّف .(/24)
المراباة للإنفاق على مدرسة لتحفيظ القرآن
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 22/08/1425هـ
السؤال
نظراً لحاجة المسلمين في المنطقة المقيمين فيها بدولة كافرة، تم افتتاح مدرسة لتعليم القرآن الكريم والتجويد واللغة العربية والإنجليزية مجاناً، ويأتي الدعم من أهل الخير ولا يفي باحتياجاتها، فهل يجوز أخذ أرباح من البنك الربوي على حساب المدرسة واستخدامه لدعم ميزانيتها؟ علماً بأنه لا يوجد بنك إسلامي لدينا، والبنك لا شك يشغل أموال المدرسة ويستفيد من أرباحها.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
لا يجوز الاقتراض بالربا لغرض القيام بعمل خيري كتحفيظ القرآن وتعليمه؛ لأن هذا الغرض (تعليم القرآن) قربة وطاعة لله ولا يتقرب إلى الله بأفعال وأحوال محرمة؛ كما جاء في الحديث: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً" أخرجه مسلم (1015)، ولا يجوز أن يتقرب إلى الله بمعاصيه، وهذا بمنزلة المرأة التي تتعاطى الزنا وتتصدق من أجرة زناها – نعوذ بالله من ذلك-، وخير لكم أن تقتصروا على التبرعات والصدقات التي تأتيكم، ففيها الخير والبركة، وعليكم أن يكون توسعكم في تعليم القرآن وتحفيظه وتجويده على حسب إمكاناتكم، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وفقكم الله وأعانكم.(/1)
المراجعة الشخصية
د. عبد الكريم بكار 27/11/1426
29/12/2005
سيظل وعي الواحد منا بنفسه منقوصًا ومحدودًا بحسب غموض التعريفات، ونسبية المعايير، وضعف قدرة الناس على مواجهة أنفسهم بصرامة وصراحة، ولكن مع هذا فلا بد من السعي المستمر إلى مراجعة الصورة التي كوَّناها لأنفسنا عن أنفسنا، وتلك التي كوّنها الآخرون لنا، ثم تلقفناها على أنها صورة صحيحة وصادقة. وتستمد هذه المراجعة مشروعيتها من كون عقولنا لا تدرك أبعاد الحقائق إلا على سبيل التدرّج. وإذا حاولنا التبصّر بالأمور التي نحتاج إلى تدقيقها لوجدنا الكثير الكثير مما ينبغي التوقف عنده وإعادة تقييمه. وحسبي هنا أن أقدم نماذج لما أعده مهمًا في هذه السبيل، وعلى القارئ الفطن أن يقيس ما لم يُقل على ما قيل، وما هو متوارٍ على ما هو ظاهر:
1- كثيرًا ما يلتقي المرء بأناس محبطين متشائمين، ضاقت بهم الأرض، وظنوا أن ما هو قادم من الأيام لن يكون بحالٍ أفضل مما مضى. وإذا دقق الإنسان في أسباب ما هم فيه فسيجد أن مشكلة (التعميم) غير الموضوعي وغير الرشيد هي التي أوقعتهم في ذلك. قد يخفق الواحد منهم في مشروع تجاري، فيعمم الإخفاق على كل ذاته، وتتكون لديه قناعة بأنه لا يصلح للنجاح في أي شيء؛ ويبدأ في توقع الإخفاق في كل مجالات الحياة؛ مما يدفعه في اتجاه الخوف والخمول واحتقار النفس... وبعض هؤلاء المتشائمين يرى اثنين أو ثلاثة في محيطة، وقد أخفقوا في مساعيهم في مجال من المجالات، فيدفعه ذلك إلى القول: إن ذلك المجال سيِّئ، ولا خير فيه، ويبدأ في التدليل على ذلك بإخفاق فلان وفلان وهكذا..
المراجعة لهذه الحالة وغيرها تعتمد على محاولة توسيع قاعدة الفهم والتخلص من أسْر الصور الجزئية، ومحاولة رؤية الوقائع عبر مفاهيم جديدة ومغايرة للمفاهيم السابقة. وعلى سبيل المثال فإن الاعتقاد بأن لدى كل واحد منا نقاط قوة ونقاط ضعف، يبعث صاحبه على رؤية الإخفاق في مجال من المجالات بوصفه نتيجة لضعف الأهلية في ذلك المجال أو قلة الاستعداد وعدم إحكام الأسباب والمقدمات. وعليه عوضًا عن اليأس والتشاؤم أن يكتشف نقاط القوة لديه، ويحاول الانخراط في الأعمال التي تنسجم مع تلك النقاط. والواقع والتاريخ يشهدان من خلال ألوف الأمثلة والوقائع على صحة هذا المفهوم، فكم من رجل غيّر مجال عمله، فأصاب نجحًا منقطع النظير بعد الإخفاق الذريع. وقُل مثل هذا في النظر إلى مجال من المجالات على أنه مجال صعب أو ضعيف أو قليل الجدوى أو خطر... حيث يدلّ عدد غير متناهٍ من النماذج على أن الناجحين في أي مجال من المجالات اليوم هم أكثر بكثير من المخفقين، وفي إمكان المرء أن يطلع على قصص نجاح مثيرة في كل المجالات التي يظن المتشائمون أنها مجالات ميتة. وقد قال أحدهم: ليس هناك مشروع مخفق، وإنما هناك إدارة مخفقة. وقال آخر: ليس هناك إخفاق بمعنى الكلمة، وإنما هناك نتائج غير جيدة بسبب وجود مقدمات واستعدادات سيئة. وهذا حق.
إن على كل واحد من أولئك الذين أصدروا على أنفسهم أحكامًا قاسية ونافذة بعدم الأهلية لإنجاز الأشياء العظيمة أن يقفوا ليتلمسوا خطيئة (التعميم) التي وقعوا فيها، وحينئذ سيجدون آفاقًا جديدة تتسع، وأبوابًا موصدة تنفتح. ولن يستفيد أي من هؤلاء من هذه النصيحة إذا كان اتخذ من سوء ظنه بنفسه متكأ للهروب من تحمل المسؤولية، أو وجد فيه ملاذًا من التعب وبذل الجهد!(/1)
2- تعني المراجعة الشخصية أننا نأمل من درأ استعراض تاريخنا الخاص أن نتعلم وننضج أكثر مما يمكن أن نحصل عليه من ذلك إذا ما نظرنا في تاريخ الآخرين وسيرهم الخاصة. إن سجل حياة كل واحد منا مملوء بالمؤشرات ذات الدلالات الكبيرة والواضحة. إذا تأمل الواحد منا في مجموعة الرؤى التي كانت تشكل نظرته للحياة والأحياء، فسيجد أن كثيرًا من تلك الرؤى انتهى إلى غير رجعة بسبب الوعي الذي حصلنا عليه عبر معاناة شؤون الحياة؛ كما أنه سيجد أن بعضها قد تبلور أكثر وتعمق، بل تحوّل إلى معتقدات ومسلّمات راسخة. وسيجد قسمًا ثالثًا مازال موضع نظر وتمحيص. وإن هذه الأقسام الثلاثة على ما بينها من تباين تعمل على خط واحد، هو جعل المرء يعتقد أنه مازال في حالة من النمو والصيرورة والانتقال من حال إلى حال. وهذا الاعتقاد هو الذي يحفزنا على أن نتحسس مآلات أوضاعنا وتسليط نور الوعي عليها؛ كي نشعر أننا نتقدم في مدارج الصلاح والازدهار، وأننا نحرز نوعًا من التفوق المستمر على أنفسنا. ومن وجه آخر فإن من الصعب على الواحد منا أن يقوم بدوره التربوي تجاه أبنائه من غير أن يتذكر الوضع السلوكي والعقلي والروحي الذي كان فيه في مرحلة الطفولة والمراهقة. إن كثيرًا من الأسر المسلمة يشهد نوعًا من (صراع الأجيال) بسبب فقدان الوسيط الثقافي الذي ينقل عبره الآباء أفكارهم ومشاعرهم وقيمهم إلى الأبناء، وبسبب الجهل بطبيعة المراهق، وما يتعرض له من ضغوط، وما يواجهه من أزمات ومشكلات. المراجعة الشخصية تتيح الفرصة لمقارنة ما عليه أبناؤنا اليوم بما كنا عليه يوم كنا في مثل أعمارهم، ومن خلال المقارنة ندرك كُنْه المواقف التي علينا أن نقفها تجاه أوضاعهم وتصرفاتهم المختلفة.
3 – من خلال التبصر الذاتي سندرك أن كثيرًا من الأخطاء التي وقعنا فيها كان بسبب الجهل: جهل بعظمة من نعصيه، وجهل بالطريقة الصحيحة التي علينا أن نعالج بها الأمور، وجهل بأنواع قصورنا وضعفنا. ونحن نريد من خلال معرفة كل هذا أن نتعلم كيف نحمي أنفسنا في المستقبل من الوقوع في مثل ما وقعنا فيه. وهذا الغرض النبيل لا يتحقق من غير تحليل عميق لطبيعة الطموحات والتطلعات التي تحركنا، وطبيعة الحوافز والمحطات التي تنظم ردود أفعالنا تجاه الأحداث المختلفة. وسيظل مثل هذا التحليل ممكنًا إذا تحلّينا بالهدوء، ومنحنا أنفسنا الفرصة الكافية للقيام بذلك، إلى جانب امتلاك ما يكفي من الإرادة والاهتمام
المراجعة الشخصيّة 2/2
د. عبد الكريم بكار 14/12/1426
14/01/2006
تحدثت في المقال السابق عن ثلاث نقاط تتعلق بمسألة المراجعة الشخصية، وفي هذا المقال أعرض لباقي ما لديّ في هذا الشأن:
4- سيظل من مهامنا الشخصية الأساسية العمل على إدراك الفرق بين ما هو كائن في أوضاعنا الشخصية، وبين ما ينبغي أن نكون عليه. وتنبع أهمية هذه المسألة من كونها المصدر الأساس لبلورة وعينا بالطموحات والتطلعات والأحلام التي تحركنا، وتحدد اتجاهاتنا. البداية ستكون في محاولة تحديد الوضعية القائمة الآن، وذلك من خلال طرح عدد من الأسئلة، من مثل: كيف أقيّم درجة التزامي بأمور ديني؟ هل أنا ممن يستفيدون من أوقاتهم على نحو جيد؟ هل رؤيتي للمستقبل واضحة؟ هل أوظف طاقاتي على نحو جيد؟ هل أعطي علاقاتي مع الناس حقها من الرعاية والاهتمام...؟ هل ...؟
ليست عملية تقييم الحالة الراهنة لأي واحد منا بالأمر السهل كما نرغب أن تظهر في معظم الأحيان، لكن أعتقد أن المرء مهما كانت معاييره غامضة، يظل يمتلك من الأحاسيس والمشاعر والمؤشرات ما يمكّنه في النهاية من الحصول على أشياء ذات قيمة؛ والله –عز وجل- يقول: (بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (القيامة:14-15). بعد هذا ننتقل إلى تحديد ملامح الوضعية التي نتطلع أن نكون عليها في مختلف شؤونها ومن الواضح جدًا في هذا السياق أن معظم الناس لا يعرفون ماذا يريدون؛ إن لديهم أحلامًا وتطلعات، لكنها غير محددة، ولا يملكون للوصول إليها أي برامج أو توقيتات زمنية معينة، وهذا هو السبب الذي يدفعهم إلى التحدث عما لا يريدون، وعن الأشياء التي لا تعجبهم، ولا يرتاحون إليها. الذين يعرفون ماذا يريدون تشكل طموحاتهم ما يشبه الهاجس، وهم باستمرار يسألون، ويستشيرون، ويتعلمون. قد يكون مما يساعد على تحديد الوضعية التي نتطلع إليها –السعي إلى تحديد عدد من المجالات المتعلقة بحياتنا الشخصية، مجال السلوك الشخصي، مجال الحياة الأسرية، مجال العمل، مجال الحياة الاجتماعية، مجال الصحة الجسمية، مجال الثقافة والصحة العقلية والنفسية الخ... وفي كل مجال من هذه المجالات وغيرها نحاول أن نحدد ما الذي نريد الحصول عليه. من خلال معرفة ما هو كائن ومعرفة الذي نريده أن يكون تتضح لنا المسافة الفاصلة بينهما. وهي مسافة تشبه المساحة الفاصلة بين الصحة والمرض.(/2)
5- تتضمن عملية مراجعة الحالة الشخصية العمل على محاولة فهم القناعات التي يحملها كل واحد منا ومراجعتها على نحو دقيق. حين نكون في المرحلة العمرية الأولى فإننا نكون مستعدين لتصديق كل ما نرى، وكل ما نسمع، ومع الأيام تتراكم لدينا الخبرات، ونبدأ بتشكيل قناعاتنا حول مختلف المسائل المطروحة. والذي أود التأكيد عليه، هو أنه ليس هناك أي ضمانة لصحة وصواب ما تشكّل لدينا من قناعات ومسلّمات حول أساليب العمل، وحول المجدي من غير المجدي من محاولات التجديد والإصلاح؛ وذلك لأن الأساس الذي نبني عليه قناعاتنا في هذه القضايا، يظل يتسم بالنسبة والهشاشة. وهذا يعني أن نعتقد أن المراجعة دائمًا ممكنة، وقد تكون مفيدة. والذي يهمنا هو مراجعة القناعات التي تسبب لنا القوة والقناعات التي تسبِّب لنا الضعف. إن عقولنا وهي تحاول إنتاج المفاهيم التي تساعدها على معالجة الأشياء، كثيرًا ما تنتج الأوهام والمقولات الزائفة، وهذا من القصور المستولي على جملة البشر. ومن واجبنا التحرر من الأوهام وامتلاك المفاهيم التي نحاكم إليها القناعات. من القناعات التي تسبِّبُ لنا القوة الآتي:
- لم أستخدم بعدُ كل إمكاناتي، ولم أستثمر كل طاقاتي الكامنة.
- ما من حالة ولا وضعية إلا وهي درجة من التحسين.
- من خلال المثابرة في العمل أستدرك على ما يكون لديّ من نقص.
- العلاقات الحسنة مع الناس باب من أبواب الرزق.
- في فضل الله –تعالى- ما يكفي الجميع، ولذلك فلا داعي للحسد.
- ما أكتسبه من معارف وخبرات أهم مما ورثته عن آبائي من إمكانات.
- ما عند الله –تعالى- يُنال بطاعته، وليس بمعصيته.
- ما يُغلق باب إلا ويُفتح باب آخر.
ومن القناعات التي تسبب الضعف:
- لست مؤهّلاً لاحتلال مناصب قيادية.
- لا فائدة من كثرة المحاولة مع معظم المشكلات التي تواجهني.
- الذين حولي يكرهونني من غير سبب واضح.
- العمل مع الناس متعب والأفضل الاستقلالية.
- أنا لا أفهم إلا في المجال الفلاني، ومن الصعب تعلّم شيء في غيره.
- لم يبق في العمر ما يستحق البدء بمشروع جديد.
6- لا يكتمل وعينا بأنفسنا، ولا نستطيع مراجعتها على النحو المطلوب إذا لم نقيّم الأساس الذي تقوم عليه سلوكاتنا على نحو عام. وذلك الأساس قد يكون راشدًا، وقد يكون سيئًا، يعبر عن الضياع والضعف. ومن هنا فإن على الواحد منا أن يحاول إدراك ما يكون من تصرفاته عبارة عن استجابة لأحكام الشرع والعقل، وما يكون منها عبارة عن استجابة لأحكام الغريزة والشهوة والمصلحة. بهذا التساؤل اليومي والمستمر تنتعش الرقابة الذاتية لدى الواحد منا، كما تقوى حاسّة النقد الذاتي. وإذا استجبنا لهذا الوعي الجديد، وبدأنا في تكثير الاستجابات الراشدة، وتقليل الاستجابات الغريزية، فإننا نكون قد وضعنا أنفسنا في سياق الارتقاء الذاتي وإصلاح الأخطاء الشخصية التي طال أمدها.
من خلال الوعي والعزيمة والمثابرة ومن خلال المحاسبة والتدقيق والمراجعة نحصل –بإذن الله تعالى- على ثمرات كنا نعدها من جملة الأحلام والأمنيات؛ بفضل الله.
وقد أعود إلى هذا الموضوع في يوم من الأيام(/3)
المراحل الانتقالية في الدعوة الفردية
يتناول الدرس أهمية العمل الدعوي من خلال القرآن والسنة لاسيما وقد استشرى الفساد. ثم بين بعض المفاهيم للتعامل مع الناس وأصناف الناس وفن التعامل معهم مع التنبيه على أهمية الاتصال الفردي مع طرح شعارات ربانية كأساس للتعامل. وتناول أساليب الدعوة ووسائلها وجوانب مهمة في التربية .
مدخل : استشرى الفساد في كل ناحية من نواحي الحياة، وتخلل الانحلال كل خلية من خلايا الحياة البشرية، واستعملت جميع الأسلحة لحرب الإسلام، وذلك واضح من غير تفصيل في نواحي الحياة: الاجتماعية، التربية ومناهج التعليم، والحياة السياسية، وهذا أمر وضعت له برامج استراتيجية من قبل خصوم الإسلام . وعلى هذا فلابد من العمل الدعوي؛ لتحقيق العبودية الكاملة لله، ولتحقيق النصوص القرآنية؛ والحديثية الكثيرة التي نذكر منها ما يعيننا على تلمس الواجب الملقى على عاتقنا:
أولاً: القرآن الكريم : وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة توجب الدعوة إلى الله، منها ما تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، فتدخل أمته في الخطاب تبعًا له، ومنها ما خاطبت الأمة مباشرة.
فمن الآيات التي تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:
قوله تعالى: }وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ[67] {'سورة الحج' } وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[87] { 'سورة القصص'
[وهذه الآيات يدخل فيها المسلمون جميعًا؛ لأن الأصل في خطاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم دخول أمته فيه إلا ما استثني. وليس من هذا المستثنى أمر الله تبارك وتعالى له بالدعوة إليه، ومعنى ذلك: أن الله تعالى أكرم هذه الأمة الإسلامية، وشرفها أن أشركها مع رسوله الكريم في وظيفة الدعوة إليه].
وأما الآيات التي تخاطب الأمة، وتوجب عليها أن تأمر وتنهى، فكثيرة:
قوله تعالى:}وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ[71]{'سورة التوبة'.قال القرطبي:'فجعل الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقًا بين المؤمنين والمنافقين، فدل على أن أخص أوصاف المؤمنين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها: الدعاء إلى الإسلام'.وقد سرد الغزالي رحمه الله هذه الآيات، وعقب عليها تعقيبات قيّمة قال:' }لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ[113]يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ[114]{'سورة آل عمران'. فلم يشهد لهم بالصلاح بمجرد الإيمان بالله واليوم الآخر حتى أضاف عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر'.
وقوله تعالى:} لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ[78] كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ][79] {'سورة المائدة'.
وقوله تعالى: }كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ[ 110] {'سورة آل عمران' وهذا يدل على فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ بيّن أنهم كانوا به خير أمة أخرجت للناس.
وقوله تعالى: }فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [165]{ 'سورة الأعراف' فبين أنهم استفادوا النجاة بالنهي عن السوء، ويدل ذلك على الوجوب أيضًا.
وقوله تعالى: }الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41]{ 'سورة الحج' .
وقوله تعالى:} وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ[2]{ 'سورة المائدة' وهو أمر جزم، ومعنى التعاون: الحث عليه، وتسهيل طرق الخي،ر وسد سبل الشر والعدوان بحسب الإمكان.
وقوله تعالى:} لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[63]{ 'سورة المائدة' فبين أنه أهلك جميعهم إلا قليلاً منهم كانوا ينهون عن الفساد.(/1)
وقوله تعالى:} قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا[22]إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا[23]{ 'سورة الجن' إذن فلا نجاة إلا بتبليغ دعوة الله إلى الناس، التي هي أمر بمعروف أو نهي عن منكر.
ثانياً:الحديث الشريف :
عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:' وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيْ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَ يَلْعَنَنَكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ' رواه الطبراني . أي كما لعن بني إسرائيل. وفي بعض الروايات لهذا الحديث:' تلا صلى الله عليه وسلم الآية:} لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ[78]كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[79] {'سورة المائدة' ' رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه من حديث ابن مسعود .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 'إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوْا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ فَلَا يُنْكِرُوهُ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ' رواه الإمام أحمد. وبالإمكان التغيير لو صمم الناس؛ لأن الطاغوت واحد، وهم كثير.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ'رواه مسلم والترمذي وأبوداود وابن ماجه والنسائي وأحمد. حيث إن الطلب في هذا الحديث محمول على الوجوب، فهو من قبيل الفرائض على جماعة المسلمين .
أولاً : مفهوم التعامل مع الناس:
أنت أيها الداعية : يجب عليك ابتداءً أن توطد نفسك على ارتياد كل المجتمعات، واستغلال كل المناسبات والفرص؛ لتبيان آراء الدعوة ومواقفها من الأحداث.. ولك في رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراث وفير:
فقد دعا عليه الصلاة والسلام في اجتماع سياسي، بين بني عبد الأشهل عندما قدموا من يثرب يطلبون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، فأتاهم ودعاهم إلى الإسلام.
ودعا في الحج، فقد لقي عند العقبة من منى في الموسم ستة نفر كلهم من الخزرج وهم يحلقون رءوسهم، فجلس إليهم، فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن؛ فآمنوا، وعرض صلى الله عليه وسلم نفسه في موسم الحج أيضًا على كل القبائل الوافدة إلى مكة، وهم بنو عامر، وغسان، وبنو حنيفة، وبنو عبس، وبنو نصر، وكندة وغيرهم.
وذهب إلى الطائف جازمًا في تصميمه على الاستمرار في دعوته، وعدم اليأس من استجابة الناس لها، والبحث عن ميدان جديد للدعوة، وتنقيب عن ركائز جديدة ترفع الراية، وتملأ الفراغ، وتجمع الصادقين. وذلك فيه تأكيد لصدق الداعية الأول صلى الله عليه وسلم في دعوته، وتصميم على الاستمرار فيها مهما قامت في وجهه الصعاب، وأنه لا يهمه إلا رضا الله وحده، فلا يهمه رضا الكبراء والزعماء، ولا رضا العامة والدهماء.
وفي عرض الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل في موسم الحج دليل على أن الداعية لا ينبغي أن يقتصر في دعوة الناس إلى الخير ضمن مجالسه وبيئته فحسب، بل يجب أن يذهب إلى كل مكان يجتمع فيه الناس، أو يمكن أن يجتمعوا فيه، وهكذا يجب أن يكون الداعية ذا همة وثَّابة، وروح عالية، وحركة دائبة .. نريد من يتصل برجال السياسة والمطلعين على الأحداث؛ يتبادل معهم الرأي، ويبلغهم مفاهيم الدعوة، ويطلع بواسطتهم على دقائق الأحداث وأسبابها..ونريد من يتصل بأصحاب المشاعر الإسلامية، والمصلين، والمسئولين في الدولة.. ونريد من يرتاد مجتمعات العمال، والطلاب، والموظفين، والرياضيين..ونريد من يتصل بأساتذة الجامعة، والأدباء، وأهل الصحافة والمؤلفين؛ ليبلغهم آراء الدعوة..نريد من يجوب مجال العلماء في المساجد، وطلبة العلوم الشرعية؛ ليقرب الجميع من مفاهيم الدعوة، وينمي ثقتهم بها وبسيرتها.
نريد كل هؤلاء، فعنواننا هو: لا انعزالية .. !! ونريد بالانعزالية: انعزالية الخلطة البدنية، والدعوة بالقول، لا انعزالية الفكر، وتميز المنهج والطريق، فذلك لابد منه، ونتصل بالجميع نبلغهم القول الحق.(/2)
لا انعزالية عن أهل الفسوق: خطأ ذلك المفهوم لدى بعض العاملين من أن التبشير بالدعوة يجب ألا يتجاوز مجتمعات المصلين، أو المبتعدين عن الكبائر، وألا يذهب أبعد منها، فالداعية يجب عليه أن يبتدئ مركّزًا جهوده على مجتمعات المصلين- وذلك صحيح- ولكن عليه أيضًا: ألا يعتزل ويهمل أصحاب الفسوق، فكثير من هؤلاء الناس صرعتهم المدنية الحديثة، والتربية المدرسية اللادينية، وشهوة اللهو، حتى لم تصادف واعظًا مرشدًا، ولكن معادنهم طيبة لم تتوطد عندهم معاني الشر والفساد والانحلال، وإنما تلبسوا بها تلبسًا طارئًا على غفلة من أنفسهم، ومن الممكن إذا كان الداعية لبقًا صبورًا أن يتدرج بهم نحو اكتساب المعاني الإسلامية وأداء الفروض، وعليه أن يدرك تمامًا أنَّ ترك هؤلاء سيحرم الدعوة من نماذج مفيدة كثيرة، يمكنها أن تؤدي دورها، خصوصًا أصحاب المراكز الحكومية والاجتماعية منهم. وليس بالضرورة أن ينتهي هذا الاتصال بأولئك بإدخالهم في المحاضن التربوية حتى يكون جديرًا بحيازة وصف الاتصال الناجح وإنما هذه درجة. وقد يبقى الفرد طوال عمره في عداد المجلين الأنصار وعلى الدعوة أن تستفيد منه بقدر استطاعتها، بالصورة التي يستطيع أن يقدم هو فيها لله سبحانه وتعالى.
الروحانية الاجتماعية والاعتزالية : الروحانية الاجتماعية هي التي تكون لصاحبها ولغيره، أما الروحانية الاعتزالية فهي التي تقبض صاحبها عن الناس، فلا يتصل بهم ولا يتصلون به، ولا يعلمهم ولا يتعلم منهم.. إنك أخي داعية، والداعية مسئول عن رعيته، فإذا غاب عنها؛ فقد تخلى عن واجبه.. عرض الناس لعبث المبطلين، وغواة الشياطين.
وإنا لنرى في سيرة سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم، أنه لم يلجأ للعزلة مرة واحدة، منذ أمره الله سبحانه بالدعوة والتبليغ، فقد ظل مع أصحابه لايفارقهم، فهو معهم في المسجد، والسوق، والبستان وسائر مجالسهم، وكان يصحبهم في حروبهم، ويزورهم في بيوتهم، ويعود مرضاهم، ويشيع جنائزهم، ويجاملهم ويواسيهم، ويشاطرهم ما ينزل بهم من خير أو شر، وهو في كل ذلك مصدر إرشاد وهداية، وزاد لقلوبهم وأرواحهم، ونور يمشون به إلى الله عز وجل.. فإذا انغمست أخي الداعية في الدعوة حقيقة؛ فلن تجد نفسك إلا أشعث أغبر؛ لكثرة التجوال، وفي أثناء تجوالك ستمر بقرى، أو مجرد مجموعة بيوت يتوسطها مسجد، فلا ترى بعضها أثر دعوة ولا دعاة، وتأخذك الغيرة، فتنحدر دمعاتك بصمت وسكون على خديك، ويسألك صحبك عن دموعك، فتجيب بلسان الصدق أن:
كلما أبصرت ربعًا خاليًا فاضت دموعي
الإيغال بالدعوة في صميم حياة الناس: إن كل النجاح أن تدخل دعوتك في صميم حياة الناس، وأن تسكبها في قلوبهم وأعصابهم، أما أن تبقى على هامش الحياة فلا. إن نجاحك أيها الداعية أن تجعل دعوتك مسألة حيوية حارة، يتحدث بها الناس في مجالسهم ومنازلهم، مع أصدقائهم وأهليهم. تأمل هذا جيدًا فليس النجاح حفلة تقام أو خطبة تقال، أو رحلة تشق فيها كثيرًا من القرى والأمصار .. النجاح أن تكون الدعوة هي مسألة الساعة في حياة الناس: يلقى الرجل أخاه فلا يحدثه إلا عنها، ويزور الصديق صديقه، فتكون أقرب المسائل إلى حديثهما، ويسمر السامرون، فيدور جدلهم حولها كما هو شأن الناس فيما يشغلهم من المسائل العامة في كل وقت.
هذا معنى اشتغال العقول والقلوب بالدعوة، وليس ضروريًا أن يتناولها الجميع في استحسان وإعجاب وتأييد، وإنما المهم أن يتحدثوا عنها في اهتمام وكفى، فإذا رأيت الخصوم والموالين: هؤلاء يعارضون ويحتدون في معارضتهم، والآخرون يؤيدون ويتحمسون في تأييدهم، فذلك من صميم النجاح. فلقد جد الداعية الأول صلوات الله وسلامه عليه، وعمل ونصب حتى أدخل دعوته في صميم الحياة ولم يبقها خافتة على الهامش الخامل، وحسب دعوة الحق نجاحًا أن ينفذ إلى لب حياة الناس:حياتهم العاطفية والعقلية.
أيها الأخ الداعية: اجعل مثلك الذي تقتدي به في التبليغ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، اهتم بدعوتك، وانصب لها نفسك في محيطك، في قريتك، أو مدينتك، واقتحم بها كل مجلس وناد، وتحين لها كل فرصة سانحة، وتخير لأحاديثها ما يلقى الناس من كوارث الطاغوت وآلامه، والقلب والبدن، بل بثَّ ذلك بثًا في ثنايا حديثك عن شذوذ الأوضاع، وبلايا المطامع، وفساد الأخلاق، وضحايا الطغيان والطاغوت، ولا تكف عن ذلك السعي حتى تحيا دعوتك في قلوب من يفزعهم أمرك أو يرضيهم، ويشتغل بك الجميع في حضورك وغيابك.
أخي الداعية: إن تجاربك بالتجوال، ومعاشرة الجماهير، والتعرف على عوائد الناس، وأوضاعهم ومشكلاتهم، لها أثر كبير في نجاح دعوتك. ومن أراد أن يصلح المتدينين؛ عليه أن يعيش معهم في مساجدهم ومجالسهم ومجتمعاتهم، ومن أراد أن يصلح حال العمال والفلاحين؛ عليه أن يعيش معهم في قراهم ومصانعهم، ويؤاكلهم في بيوتهم، ويتحدث إليهم في مجتمعاتهم، ومن أراد أن يصلح المعاملات الجارية بين الناس؛ عليه أن يخالطهم في أسواقهم ومتاجرهم، ومصانعهم.(/3)
وهكذا يجب أن يكون لك أيها الداعية تجاربك في الحياة، ومعرفتك بشئون الناس، وما أبدع ماقَالَهُ عَلِيٌّ: [ حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ] .
ونعود نكرر: بأن شأنك أن تترصد أخيار الرجال في المجتمع، فتحتك بهم، وتتعرف عليهم، وتزورهم وتعلمهم طريق ضم الجهود الإسلامية وتنسيقها..لابد من اتصال بالناس، لابد من مجالس معهم تعلمهم فيها، لابد من ترك زوجك وأولادك، ومجالس الدنيا وهموم التجارة بضع ساعات في كل يوم تتوجه فيها إلى الله، داعيًا أن يعين بك ضالاً من ضحايا الطواغيت الحالية، لتهديه، أو يعين بك يائسًا جامدًا، يستهلكه الحزن على واقع المسلمين، وتقيده همومه الدنيوية فتحركه، وتهزه، وتغطه غطًا.
فالإسلام اليوم يحتاج إلى دعاة يتكاتفون ويتحركون، قال تعالى:}وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ[20]{ 'سورة يس ' } مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ { جاء ليأمر وينهى، ويعلم، ولم يتباعد الطريق !
فهم خاطئ: وقد يفهم كثير من الدعاة خطأ أن مهمة القيام بأعباء وتكاليف الاتصال بالناس ونشر دعوة الله إنما تفرض على من يريد أن يتصدى لها: أن يكون على جانب كبير من العلم والمعرفة، وأن هذا يقتضيه التعمق في دراسة علوم القرآن وتفسيره، وعلوم الحديث ومصطلحه، وعلوم الشريعة وأصولها وفروعها، عدا قدرًا من الثقافة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، مما لا يمكن أن يتوفر إلا لقليل من الأفراد الذين قد تسمح لهم ظروفهم وإمكانياتهم بهذا .. ولكن الأمر أبسط من هذا بكثير .. وأن الأخ إذا تكاملت جوانب فهمه للإسلام؛ أصبح بمقدوره التعبير بوضوح وبساطة عن هذا الفهم، ولو بلسان حاله، لا بلسان مقاله؛ فلسان الحال أبلغ وأجزل. فالمهم أن يبدأ، ويستعين بالله، فالله موفقه إن شاء الله.
* أصناف الناس وفن التعامل معهم :
* الملأ: وهم كما يقول المفسرون: أشراف الناس، وقادتهم، ورؤساؤهم وساداتهم.
فهم إذاً: المبرزون في المجتمع، وأصحاب النفوذ فيه، الذين يعتبرهم الناس أشرافًا وسادة، أو يعتبرون حسب مفاهيم المجتمع وقيمه: أشراف المجتمع وسادته.
وهؤلاء يحتاجون إلى بذل النصح وإسداء المعروف بأسلوب دمث مؤثر، ألا ترى إلى القرآن الكريم في معرض التوجيه الرباني يخاطب 'موسى وهارون' ويوصيهما بمبادأة الطاغية فرعون باللين والحسنى: } اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى[43]فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى[44] {'سورة طه' بل إن اللفتات القرآنية، والإشارات النبوية إلى الرفق ومجانبة الغلظة والقسوة؛ تؤكد بما لا يحتمل الشك فاعلية هذا الأسلوب وقيمته التوجيهية.
* المنافقون: والمنافق أضر وأسوأ من الكافر؛ لأنه ساواه في الكفر وامتاز عليه بالخداع والتضليل، وإمكانية تسلله في صفوف المسلمين..أما كيفية التعامل مع هذا الصنف: فلنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة 'فقد كان يقبل منهم ظاهر أمرهم، ويترك إلى الله سرهم، ويشفق عليهم من إثم ما هم في، ويكتفي بأن يشعرهم بفطنته التي لا يروج لديها نفاقهم، ولا يوقع بهم من الأذى أكثر من وصف مجموعهم بالجبن، وتفاهة القدر، دون أن يعرض لأشخاصهم بشيء'.
* العصاة: وهم من كان عندهم أصل الإيمان، وهو الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ولكنهم لا يقومون بحقوق هذه الشهادة الكاملة، فهم يخالفون بعض أوامر الشرع ويرتكبون بعض نواهيه، ومنهم: المكثر من المعاصي، ومنهم: المقل، ومنهم: بين ذلك على درجات كثيرة .
* كيفية التعامل معهم: 'إن الداعي ينظر إلى العصاة نظرة إشفاق ورحمة فهو يراهم كالواقفين على حافة واد عميق، سحيق، في ليلة ظلماء. يخاف عليهم من السقوط، ويعمل جهده لتخليصهم من الهلاك. وهو في سبيل هذه الغاية، يتجاوز عن تجاوزهم على حقه، إن كانت معصيتهم في حقه ولا يشمت بهم، و لا يحتقرهم افتخارًا بنفسه عليهم، وإدلالاً بطاعته، ولكن له أن يستصغرهم لمعصيتهم، وتجاوزهم حدود الشرع، وأن يغضب لهذا التجاوز. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: [مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا].
جمهور الناس: وهم معظمهم؛ لأن جمهور كل شيء معظمه وأكثره، وهم أسرع من غيرهم إلى الاستجابة إلى الحق، فهم أتباع رسل الله، يصدقونهم ويؤمنون بهم قبل غيرهم، كما قال هرقل لأبي سفيان يوم اجتمع به في الشام، لما سمع هرقل بأنه من مكة فأراد أن يسأل عن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، قال هرقل:' أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل : هم أتباع الرسل'.
المتعلمون: وينقسم هؤلاء إلى قسمين :(/4)
1- المتعلمون الذين أحاطوا علمًا ببعض العلوم، والأفكار الغربية عن طريق المدارس الرسمية التي تعلم وفقًا لمناهج التعليم والتربية الغربية.
2- المتعلمون الذين تلقوا بعض التعليم الديني في المدارس الخاصة بتعليم هذا النوع من العلم، كالمعهد الديني وغيره، أو على أيدي العلماء.
كيف يعامل هؤلاء؟
أولاً:المتعلمون وفق الأساليب الغربية: وهم أكثرية المتعلمين في مجتمعنا الحاضر. وهؤلاء ليسوا عينة واحدة يمكن معاملتها بأسلوب واحد إنما يمكن تصنيفهم إلى الأصناف التالية :
أ- متعلمون ينطوون على عاطفة خيرة طيبة نحو الإسلام: فهم يحبون الإسلام حبًا عاطفيًا، ولكن لأنهم يجهلونه؛ولأن الأمور التي تعلموها تعطي الدين- أي دين- طابعًا غير مرغوب فيه؛ يتعلقون بالأفكار الغربية في أساليب الحياة، ولا يرون بأسًا بذلك.
وهذا الصنف من الناس يحتاج تأجيج عاطفته المنطوية على حب الإسلام، وبث الثقة لديهم، وإشعارهم أن مجاميع الدعاة اليوم حملة رسالة الإسلام في هذا العصر؛ لذلك يجب أن يُحرص على الذكي الشجاع المتحمس.
ب- عامة الناس: الدعاة بحاجة إليهم؛ لأنهم يشكلون الجماعات الضاغطة التي تطالب بحكم الإسلام. والدعاة في سباق مع الآخرين لاكتساب عامة الناس من أجل تكوين الوعي الإسلامي، ومن أجل جعل الدعوة الإسلامية مسألة حيوية حارة، يتحدث بها الناس في مجالسهم، ومنازلهم، وأسواقهم، وأنديتهم هو النجاح الذي نبتغي ونريد.
ثانيًا:المتعلمون الذين تلقوا تعليمًا دينيًا في المدارس الدينية، أو الخاصة لدى العلماء، وهم قسمان:
أ- متعلمون جمدوا على ما تعلموه ولم يوسعوا مداركهم بالدراسة والتتبع، وصاروا يرددون ما قرأوا غير واعين به، ولا مدركين له. وهذا الصنف ينطوي على حب للإسلام وعلم بأحكامه. ولكن شعورهم بالعجز عن نصرته، وجعله النظام المهيمن على الحياة قد قعد بهم عن العمل من أجل إعلاء كلمته. وهذا الصنف تحتاجهم الدعوة؛ لأنهم المفروض فيهم أن يكونوا في طليعة من يحمل لواءها؛ لأنهم يعلمون أحكام الإسلام، وعلى الداعية أن يبذل قصارى جهده لجذبهم للدعوة، وإشعارهم بأهميتهم، واستلال الشعور بالعجز والتردد من نفوسهم، وتنويره بأحكام الإسلام ونظمه، ومحاولة نقل حبه للإسلام من المجال السلبي الذي يكتفي به، إلى مجال إيجابي يحمله على السير خطوات أكثر في هذا السبيل، وإفهامه أن الإسلام نظام شامل للحياة .. ويجمل بالأخ أن يلتمس ميله الثقافي، فيحاول أن يزين له قراءة الكتب الإسلامية التي تنسجم مع هذا الميل، فإذا وجده يميل إلى قراءة الكتب الاقتصادية – مثلاً- زوده بما يجعله يفهم الإسلام كما نفهمه.
أخي الداعية: إن المفاتيح التي يمكن بها لفت الناس إلى الإسلام كمقدمة لإقناعهم به كثيرة ومتعددة، ولا يمكن إحصاؤها أو حصرها: فقد يكون المفتاح حلاً يقدمه الداعية لمشكلة معيشية، أو خدمة قضية يتبناها..وقد يكون المفتاح موقفًا سياسيًا تقفه مجاميع الدعاة إلى الله يلفت الناس إلى الإسلام، ويرشحه عندهم كاتجاه- على الأقل- جدير بالدراسة والتفكير..كما يمكن أن يكون مفتاح ذلك زيارة هادفة لصديق، أو حديثًا في مسجد، أو حوارًا في ندوة، أو مقالاً في كتاب أو صحيفة..وهكذا تتكاثر الأساليب التي يمكن بها لفت الناس إلى الإسلام وتحضير عقولهم ومشاعرهم للتلقي والانفعال.
ومن الخطأ أن نترك هذا الصنف من الناس بحجة أن فهمه للإسلام ليس كما نريد. وليعلم الداعية أن صيحته بالإسلام في هذا العصر لن تذهب مع الريح، وهي إن ذهبت معها اليوم، فستذهب غدًا بأوتاد الفساد التي تقف في وجه الإسلام.
ثانيا:الاتصال الفردي:
أخي الداعية: إن الدعوة تحتاج إلى رجال، دعاة يسرعون بها ويدفعونها قدمًا إلى الأمام، وإن حسن الابتداء يؤدي إلى حسن الانتهاء .. وإن التربية الطيبة للمدعو منذ البداية تجعل منه فيما بعد جنديًا صالحًا لحمل هذه الأمانة وأدائها حق الأداء وقائدًا يستطيع البذل في سبيلها الغالي والنفيس.
فلا تغلق الباب في وجه هؤلاء وإن استطعت أن تجذبهم إلى الصف فافعل .. ولكنك قد تكون بحاجة إلى أسس ومبادئ تقف عليها موقف المتدبر فيها، المطبق لها؛ حتى تسير على بصيرة من أمرك، وعلى هدى من الله تعالى.(/5)
نفوس طيبة: اعلم أخي الداعية أن خير النفوس تلك النفس الطيبة التي ترى سعادتها في إسعاد الناس وإرشادهم، وتشهد سرورها بإدخال السرور عليهم، ورد المكروه عنهم .. وتعد التضحية في سبيل الإصلاح العام ربحًا وغنيمة، وتتغلغل في مظاهر المجتمع، فتتعرف على ما يعكر على الناس صفاء عيشهم، ومسرة حياتهم، وما يزيد في هذا الصفاء، ويضاعف تلك المسرة .. وأعتقد أن العمل الذي لا يعدو نفعه صاحبه، ولا تتجاوز فائدته عامله؛ قاصر ضئيل . وخير الأعمال وأجلها ذلك الذي يتمتع بنتائجه الناس جميعًا: من أسرته، وأمته، وبني جنسه .. وبقدر شمول هذا النفع؛ يكون جلاله وخطره. وإن هذه العقيدة التي أضاءت خوافق قلوبنا، وجعلت بالنا لا يهدأ حتى نرى منهج الله العظيم سائدًا بين بني البشر، ولا يكون ذلك إلا إذا سلكنا سبيل المعلمين المربين؛ لأنهم أنوار ساطعة، يستنير بها الجمع الكثير، ويجري هذا النور في الجم الغفير، وإن نورهم كنور الشمس التي تضيء للناس الطريق، وتبدد عنهم الظلمات.
طبيب على الطريق : أخي الحبيب: لم يزل بَعْدُ في الناس بقية خير واضحة يقرب وصولنا إليها إن جعلناها ديدننا .. فأنت طبيب أيها الداعية، فيراد منك أن تعالج الناس من هذا الإخلاد إلى الأرض، ومن هذه الفلسفات والتحزبات الباطلة، والتردي في عبادة الدينار.
فأد واجبك، وفتش عن بقية الخير في الناس؛ فستجد طائفة لم تسلم السلامة الكاملة، ولم تسرف على نفسها، ولم تمش مكبة على وجهها .. وفي إصلاحها وتربيتها أمل استئناف الحياة الإسلامية القويمة بمجهودك واستعانتك بالله.. أخي الداعية: إن هناك ناشئة من ذراري المسلمين بريئة كل البراءة، ويمكنها أن تتحمل ثقل رحلة العودة إلى الإسلام .. فتقدم بها إلى الأمام.
شعارات ربانية وأوصاف دعوية :
لين الجانب: يجب عليك أيها الداعية أن تتوفر فيك الطبيعة الرحيمة، الهينة، اللينة، المعدة لأن تتجمع عليها القلوب، وتتألف حولها النفوس، ولو كنت فظًا غليظًا؛ ما التفت حولك القلوب، فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ودّ يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم، وضعفهم ونقصهم.. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم، ويجدون عنده دائمًا الاهتمام، والعطف والسماحة، والود .
القدوة:إن القدوة من أهم الأسس التي تؤدي إلى حسن التربية للمدعو.. نعم إنك تحتاج ابتداء لإيمان عميق، نام، متجدد.. وبحاجة إلى تطبيق ما تدعو إليه على نفسك؛ حتى تكون حياتك الشخصية وسلوكك موافقين لما تقتضيه تربيتك لأخيك، ولكي يتشرب هذا المدعو منذ بدايته بالمبادئ الإسلامية، وبالخلق القرآني القويم. ولسان الحال أبلغ من لسان المقال، فكن كالكتاب المفتوح الذي يقرأ فيه الناس معاني الإسلام؛ فيقبلون عليها، وينجذبون إليها. نداؤك كما قال شعيب عليه السلام لقومه:} وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[88]{ [سورة هود].
بصيرة وفطنة: }قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [108]{ [سورة هود] . فاعرف أصول فكرتك وخطوطها، مع الوعي التام لواقعك وعصرك وبيئتك، وربط هذا الوعي بوسيلة الدعوة، وأنت بحاجة إلى هذا الفهم الدقيق. وذلك الفهم يقوم على تدبّر معاني القرآن، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن تبعه بإحسان، فلا تأمر إلا بحق ولا تنه إلا عن باطل !!
الإخلاص:لا خير في عمل خلا من الإخلاص، واعلم أخي الداعية أن للإخلاص أثرًا كبيرًا جدًا في استجابة المدعوين إلى مضمون الدعوة؛ لأنه يكسبك جرأة منقطعة النظير في الإقدام على ما ترى أنه مصلحة للدعوة، ويكسبك قوة هائلة لم تحسب أنها لديك!! فنحن لا نريد إن نحظى بمكانة اجتماعية مرموقة، إنما نريد ونؤثر ما عند الله، فالله يحب الأتقياء الأخفياء، فإياك والعجب، وإياك والرياء، واعلم أن قبول العمل مقرون بأمرين: الإخلاص وموافقة الشرع.(/6)
ربطٌ بالله:إن الدعية بحاجة بعد ذلك كله إلى العيش في كنف الله تبارك وتعالى، بأن يتصل به سبحانه اتصالاً وثيقًا .. وبأن يعمل ويتوكل على الله. ويزداد هذا الاتصال بأن يستحضر الثقة الكاملة بالنصر من عند الله، وأن الله يبعد عنك كل الشرور} إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُوا [38] {[سورة الحج] .. }وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ[173] {[سورة الصافات] فهذا الاتصال الوثيق هو كفيل بأن يهون عليك المصاعب، ويخفف عنك الآلام، وينزع من قلبك خشية الناس، فتكون من الذين} الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[173] {[سورة آل عمران] وتحس بعزة الإيمان؛ لأنك موصول بالقوي العزيز، فلا يعظم في عينيك باطل ولا مُبطل؛ لأن ذلك كله تافه حقير }وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [8] {[سورة المنافقون] .
من نختار ؟ ؟
ابحث عن العنصر الصافي وفتش عن: [خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ...]رواه البخاري ومسلم وأحمد. ملاحظًا ما يأتي:
* لا تتحرج أبدًا من أن توصل إلى دعوتك وتربيتك المقصرين في الطاعات، المقبلين على بعض المعاصي الخفيفة، ما دمت تعرف منهم الخوف من الله عز وجل؛ فإن هؤلاء سيتوبون عن قريب بإذن الله.
* تلطف بالصالح الذي لا يحترم نظام المجموعة، فإن هذا الصنف ينفع منفردًا، وينتج في العمل وحده .
* الحرص على من في المسجد؛ فإنه قريب إليك بعيد عن غيرك.
* احرص على صاحب المركز الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي وتذكّر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَبِي جَهْلِ ابْنِ هِشَامٍ أَوْ بِعُمَرَ]رواه الترمذي.
فهؤلاء في صوتهم قوة، وفي عيونهم بريقًا وعلى وجوههم سنا الإيمان والعزم، ومنهم من تعرف فيه الهمة العالية، والذكاء المتوقع، والحسرة على ما حل بالمسلمين، ودوام النشاط والحركة الذاتية.
وهذه الأمور مجتمعة لا تجدها في شخص واحد، ولكنك ستجد من توافرت فيه بعض هذه الخلال، فاحرص عليه حرصًا كبيرًا، ولا تفرط فيه؛ فإن هؤلاء إن تأثروا بالدعوة، وصاغتهم الدعوة وربتهم؛ سيكونون بإذن الله تعالى نعم الرجال العاملين لإعلاء كلمة الله تعالى .
الداء والدواء 'أساليب الدعوة ووسائلها ' :
قال سيد قطب رحمه الله:'يجب أن يعرف أصحاب هذا الدين جيدًا أنه كما أن هذا الدين رباني، فإن منهجه في العمل منهج رباني كذلك، متوافقٍ في طبيعته، وإنه لا يمكن فصل حقيقة هذا الدين عن منهجه في العمل'. فالدعاة حين يدعون الناس إلى الله بالخروج من طاعة غير الله إلى طاعته وحده، ورفض شرائع العبد والتزام شرعه وحده، يشعرون بتناقض ـ حين يكون إحساسهم مرهفًا ـ بين ما يدعون الناس إليه وما يبتدعونه لأنفسهم من وسائل الوصول، إذ يكون الهدف ربانيًا والطريقة بشرية ! أما حين تكون الطريقة أيضًا ربانية؛ فإن الانسجام بينها وبين الغاية يصبح حقيقة واقعة.
كذلك يشعر الدعاة ـ حين يكون فهمهم ربانيًا ـ أنهم موصولون وأنهم سائرون على قدم الرهط الكريم من الأنبياء والرسل ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ فتمتلئ أرواحهم بالأنس، ونفوسهم بالبهجة، ويستهينون بالصعاب حين يرون في الأفق البعيد موكب السادة العظماء عليهم الصلاة والسلام.
إذاً:إذا أردنا معرفة المنهج فإننا لا نستطيع معرفته إلا من خلال الأسلوب النبوي في تربية ذلك الجيل السامق الفريد، وأسلوب الصحابة والتابعين بإحسان، ومن التجارب، فالحكمة ضالة المؤمن يأخذها من أي وعاء خرجت، أما كيفية الاستقاء فالمرجع فيها هو القرآن، والسيرة الكريمة في مكة والمدينة، والسنة عمومًا. فتؤخذ النصوص بجملتها وتكون أساسًا لمنهج تربوي تفصيلي، دون طمس لأي جانب، ودون إبراز لجانب على حساب جانب، فلا نريد أن نعلي من شأن الجانب الروحي على حساب الجانب الفكري، والعملي، والحركي الجهادي، ولا هذا على ذاك بل خطوط متوازية متكاملة تكوّن تلك الشخصية المتكاملة.
أوليات التربية التكاملية :
وحين تدفع بأخيك الراغب الراهب إلى العمل التجميعي، فاحرص أن تصوغه الصياغة التي تراعي التكامل والانسجام وتوفير جميع الصفات التي يحتاجها الداعية:(/7)
* وفّر له قسطًا إيمانيًا كافيًا، ووعيًا عقائديًا يستقيم به على دروب السلف وعقيدة من يحرص على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجماعة الآخذين بها من الأوائل، ويعصمه من محدثات الأمور، ويخلصه من الشبهات . ويكون هذا بإفهامه وتركيز كليات العقيدة الإسلامية، بتعريفه بخالقه، وقدرته، ورحمته، وفضله، ونعمه، وجميع صفاته العليا وأسمائه الحسنى، وبتعريفه بالرسل، وفضل من خط طريقه ورائهم، واهتدى بهديهم، ودعا بدعوتهم. وببيان مشتملات اليوم الآخر، وعلامات الساعة الكبرى، والجنة والنار، والملائكة والجن .. الخ [فصفاء العبادات لا ينال إلا بصفاء التوحيد].
* وفّر له علمًا شرعيًا أوليًا يعصمه من المزالق والأخطاء .. ووعيًا فقهيًا مبدئيًا يحمله على تتبع النص الصحيح أنَّى وجده، من غير سلاطة لسان على المقلدين ولا خشونة .. ولا تحاول التفرع في المسائل الفقهية، أو تلجأ إلى المصطلحات الغامضة، ولا تلجأ إلى الأمور الخلافية ولكن بيّن له أن دين الله أوسع وأيسر من أن يتحكم فيه عقل فرد، أو جماعة، وإنما مرد كل شيء إلى الله ورسوله وجماعة المسلمين.
* حَبّب إليه الاتصال الوثيق بالله تعالى، والحرص على العبادة وشحن 'بطارية القلب' بالذكر والدعاء والاستغفار والخلوة في الأسحار .. والصيام، حتى يفتح له باب حلاوة العبادة، بحيث لايكاد يشبع منها، ويجد فيها من اللذة أضعاف ما كان يجده في اللهو ونيل الشهوات، ولتكن الصلاة قرّة عين له، وراحة بعد عناء وجهد.
* الاهتمام بجانبي فقه فنون الدعوة، وقضايا العمل الإسلامي، والأمور العاصمة من الفتن. ودراسة الناس وكيفية تخيّر العناصر الصالحة .. والاتصال المباشر بهم، والتدرج ومراعاة الحكمة في الدعوة والتربية لهم، والنشاط الدائم والعمل الدائب، وإلا فإن الصياغة الجزئية المضطربة الناقصة توقعه في الأخطاء.. أخطاء في اختياره للعناصر، وأخطاء في تبليغ معاني الدعوة حسب أهميتها، وأخطاء في معاملته اليومية لهم، فإن لم تسارع أنت إلى صياغته، فإنه سيصوغ نفسه باجتهاده، فاحترس من الشطط الذي سيؤدي إليه به اجتهاده، إلا من رحم ربك.
* وفّر لديه الوعي الذي يبعده عن الكمين الذي ينصبه له العدو، ويبصر به لوائح الخطر وإشاراته من بعد، ودله على أماكن الفرص وأوقاتها ليستغلها. أنبئه بما حل بالأمة الإسلامية من ضعف في العقيدة، والعاطفة، والأخلاق، والاجتماع، والإرادة والعزم، وما جلبته المدنية الغربية المادية الماجنة من فساد وانحلال، وبيّن له أثر التعليم العصري اللاديني الفاسد. وخفوت صوت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، زد على ذلك كله نشاط دعاة الفساد والهدم، والخلاعة والمجون، والإلحاد والزندقة، وتزعم الصحف والمجلات واسعة الانتشار قوية التأثير للدعوات المفسدة، والحركات الهدامة، والاستخفاف بالدين وقيمه، والفساد الشامل الذي حل بأجهزة الإعلام.
* حبب إليه مجالس الأتقياء؛ ليدوم حبه لهم ويتعظ بمظهرهم وسمتهم، فيعيش معهم في حسّه وشعوره وكينونته وجسمه، فالتربية هي التأثر بكل شيء مسموع أو منظور. وسترى نفوره من مجالس الذين يخوضون في آيات الله ورسله، ويعرض عنهم.
أساليب حكيمة في التربية :
التجاوب الروحي والمشاركة العاطفية بين الداعية والتلميذ؛ أثر بالغ وعميق في نفس المدعو، فبهذا تجده يحبك حبًا جمًا رغم ما قد تكلفه به من أعمال، وستكون بعد هذا التجاوب الروحي أخاه المحبب إلى نفسه، وستترك في نفسه أجمل الآثار .
ما أحوجك أخي الداعية إلى قوة التأثير في نفوس الناس: فأظهر اهتمامًا بالمدعو حينما تقابله أول مرة؛ تكن موضع ترحيبه وحبه لك، فأعرب له عن تقديرك له، وأبرز محاسنه، وغض الطرف عن هفواته التي قد تبدو لأول مرة، ولا تحكم عليه من الآن دون معرفته حق المعرفة، وكلما كثر تقديرك للناس قدروك. وتعرف على ما يحبه، وتكلم فيه معه، واسأله عن عمله ودراسته، وكيف كانت نتيجته وما إلى ذلك .
تبسمك في وجه أخيك صدقة: فاحرص على البشاشة والبساطة والاعتدال عند مقابلة المدعو، فالتبسم يترك أثرًا طيبًا فيمن تقابله لأول مرة مهما طال عنك غيابه .. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أطلق الناس وجهًا، وأحسنهم بشرًا. فلابد أن يشمل القلوب ويغلفها ذلك الحب الشفيف الذي يطلق البسمة من القلب، فينشرح لها الصدر وتنفرج منها القسمات.
احرص على حفظ اسم المدعو وسمّه بأسماء جميلة تحبها النفس: فهو من المفاتيح الهامة لقلبه، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينادي أصحابه بأسمائهم ويكنيهم.(/8)
لتكن محدثًا لبقًا تؤثر في نفوس السامعين: واجنح إلى النقاش العلمي الهادئ، وتكلم بإيجاز، ولا تحاول تكرار ما قلته إلا في الأمور التي تحتاج إلى تكرار، واترك الجدل في الجزئيات، وقرر رأيك بما ترى من الأدلة، وقيل أن تتكلم احرص أخي الداعية على التفكير والأناة فيما تقول، وزن الأقوال وزنًا دقيقًا، وراع الصراحة التامة في إبداء الرأي. وإياك أن تتعرض لتجريح، أو تعريض بأشخاص، أو هيئات، ولا تتناول عيوب المدعو التي هو عاكف عليها باللوم والتعنيف، ولكن الفت النظر إلى الأخطاء من طرف خفي.
وتحرَّ الأسلوب الجميل بالقصص والأمثال والحكايات القصيرة جدًا، وتحايل دائمًا لجذب نفس المدعو باعثًا فيه الرغبة والشوق إلى ما تقول، ولا تطل حتى لا يمل، مع الحرص التام على أن توفي في هذا الوقت معنى خاصًا تقصده، وأن تتركه وافيًا واضحًا في نفس المدعو، واستشهد بالآيات، والأحاديث، وتخيرها تخيرًا مناسبًا، واقرأ الآيات قراءة خاشعة، واستشهد بالمقصود، واشرحه، ولا تجعل النقاش يتجاوز الإدلاء بالحجة، والتعرف على الحق.
ليحبك المدعو اسبغ عليه تقديرك المخلص والصادق له: فاسلك معه مسلك الصداقة والتوقير، والإجلال والاحترام، واحرص على الكلمة الطيبة؛ لتظفر منه بمثلها. ولا تقف في طريق رغباته وآرائه وتدحضها مباشرة وتخطئها، ولكن احرص على الثناء والتقدير لآرائه، واجعله يشعر بأهميته.
والرفق يقود إلى التدرج معه، وتحمل أخطائه وعيوبه، فالمربي الناجح لا يكثر من الأوامر ومظهر الصرامة فليس في الدعوة ميدان إظهار أستاذية، بل أخوة وعطف ولطف وحنان، وإن النفوس حساسة فاحذر، ولا تضجر من بطء السير، ولا تيأس من إصلاح ذوي العيوب بل افتح لتلميذك القلب الواسع وأطل له الصبر، وتدرج في التهذيب، فإن المربي الذي ينفد صبره بسرعة ولا يصمد أمام تسويف التلميذ؛ لا يسمى مربيًا.
إن الرجل ذا التقوى والصلاح يترك أثرًا طيبًا في كل مكان ينزل به: ونحن نأمل أن تكون كذلك.
إن الله جميل يحب الجمال: فليكن مظهرك ولباسك حسنًا أمام الناس، ورائحتك طيبة، فقد يترك شكلك أثرًا طيبًا، فقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام من أطيب الناس رائحة، مرجلاً شعره، لابسًا أجمل الثياب، فاحرص على ذلك أخي الداعية.
انتهز الفرص: فاستغلال الحوادث التي تمر علينا، مهمة كبيرة من مهام التربية، ينطبع أثرها في نفس التلميذ، فلا يزول أثرها بسهولة. فالمربي الفطن لا يترك الأحداث تذهب سدى بغير عبرة وبغير توجيه، وإنما يستغلها لتربية النفوس وصقلها وتهذيبها. واعلم أن القرآن كان ينزل مع الأحداث، فيؤثر في النفوس أبلغ التأثير.
إنما هو ترغيب وترهيب: ومن تمام مهارة المربي في إسباغ رفقه على تلاميذه أن يمهر في ترغيبهم وترهيبهم، فقد أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مخاطبة الناس بذلك. وكيفية ذلك في أن تقلد القرآن في صورة عرضه، فيعرض صورًا نموذجية عالية من أفعال الخير الإيمانية، كي يعيش التلميذ نفسه بها دائمًا، يفتضح ما بدا منه من التقصير، فترهبه منزلته المتدنية، فيشمّر للارتقاء، ويعرض المربي صورًا من الإفراط في السوء والشر والغفلة وتحكيم الهوى، وتفضيل حظوظ النفس؛ ليشعر التلميذ بنفسه أنه على بقية من خير، فيحمد الله بأنه أنجاه من التردي والنكوص؛ فتأخذه عزة إيمانية ترغبه برحمة الله، وبهذا التردد بين الرغبة والرهبة تدوم استقامته.
لا تجادل فـ :'مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ'رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني . فالمربي الحكيم لا يسمح لمن معه بالإكثار من الجدل في الخلافيات والمشتبهات من الأمور، ولا يردد كلام الملاحدة والمبشرين والزنادقة أمام من هم في أول الطريق، ويتحدث أمامهم بالمعاني المؤثرة العملية التي توجههم إلى طاعة الله، فقد تعلق في نفس أحدهم الشبهة، ولا يفهم الرد؛ فيتشوش اعتقاده بلا سبب وتكون أنت السبب في ذلك. فليكون الغرض دائمًا معرفة الحق لا الانتصار للرأي وليحتفظ كل برأيه في حال الاختلاف، ولتكن معاني الحب والأخوة سائدة والتسامح واحترام الآراء إيثارًا للحسنى، وسدًا للذريعة فإن المراء لا يأتي بخير قط .. واعلم أن الله سيسألك عن أوقات هؤلاء الذين اجتمعت بهم هل أفدتهم فيها؟! فيكون لهم الثواب ولك مثله، أم انصرفت هباء فيؤاخذون وتؤاخذ أنت، واعلم قول عمر بن الخطابما جادلت قومًا إلا وددت أن يكون الحق معهم].
دع من معك يتولى دفة الحديث وكن مستمعًا طيبًا: ودعه يحسب أن الفكرة فكرته هو فأنصت بإصغاء، واستمع في شوق ولا تصرف بصرك، وأكثر من عبارات النصح، والتشجيع، والثناء، والإعجاب، فإن هذا يدفع إلى نقص من الخطأ، ومزيد من الصواب، وأعرض عن هفواته غير المقصودة .
حبب إليه القراءة: فحسن الابتداء يؤدي إلى توفيق ونجاح فيما بعد.
أشغل الناس عن الفكرة الباطلة بالفكرة الصحيحة .(/9)
* ألفت النظر إلى الأخطاء من طرف خفي، وإن كنت مخطئًا فسلِّم بخطئك، فلا تواجه من معك بأخطائه باللوم والتعنيف، فإنَّ ذلك يضر ولا يجدي، والداعية لا يستنكف عن مجاهدة نفسه فيما يحب ويكره، فإن كنت مخطئًا فقل: 'إني أرى هذا الرأي فقد أكون مخطئًا' أو أرجو منك أن تصحح خطئي إن كنت مخطئًا، فكثيرًا ما أخطئ، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:'رحم الله امرءًا أهدى إليَّ عيوبي' وإياك والنصح في مكان عام بين الناس، ولكن اجعل نصيحتك سرًا، فإنها أبلغ في التأثير.
* تكلم بالرفق واللين، ودع الغضب والعنف، فإنما بُعثنا ميسّرين لا مُعسّرين، فالداعية الموفق لا يطلق لنفسه العنان، فيثور لأتفه الأمور وأدقها. وتدبّر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:' إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ'رواه مسلم . وفي قوله:' إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ'رواه البخاري ومسلم وأحمد .
لا تهمل اللفتات البسيطة: ككلمة 'طَيّب' و'جميل' و'يا أخي' .. إلخ. ولا تنس أن تضع في جيبك مفكرة لملاحظاتك، ولكتابة أسماء من تتعرف عليهم لأول مرة؛ لئلا تنساها.
اجعل العمل الذي تريد أن ينجز سهلاً، والغلطة التي تريد تصحيحها ميسورة، وحبب إلى من معك العمل الذي تقترحه عليه: وامتدح أقل الإجابة، وكن مخلصًا في تقديرك .. 'نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ'رواه البخاري ومسلم وابن ماجه والدارمي وأحمد.
وأشعره بأن وعد الله حق، وسيتم وعده لا محالة- وإن طال الجهاد- وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لمعاذ بن جبل عندما سأله عن أمر عظيم: 'لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ' رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد . وقال تعالى:}فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى [5]وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى[6] فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [7] وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى[8] وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى [9] فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى[10]{ [سورة الليل] .
أخي الداعية، قد يكون البرنامج التربوي في نظرك ضربًا من المحال، ولكن ثق بنفسك، واستعن بالله، فإنما هو يسير على من يسّره الله عليه، فإن التربية التكاملية التي أهّلت بها تلميذك ستجعله إذا دعا فيما بعد، وشارك في العملية التجميعية بهذه الصياغة المتينة سينقلب من نصر إلى نصر بإذن الله، ومن توفيق إلى توفيق، ومن نجاح إلى نجاح. رابط الجأش لا يذهب بصبره نكوص الناكصين ممن يدعوهم، سالم العقيدة لا يحار ولا يعدم جوابًا أمام من خدعه المتطرفون، آسرًا للمقابل بظرفه، ودماثته، وفتوته، وحلمه، وجميل خلقه ومعاملته، فهو الداعية الموفق الذي إذا عزم تقدم، وإذا بشر نجح، وإذا استجيب له ربّى، وإذا ربّي عصم، يغدو في الدعوة، ويروح إلى الدعوة. }وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ[24]{ [سورة السجدة] .
فلعل القارئ فهم مقصدنا، فيشمر عن سواعد الجد، ويجتهد في الطاعة، وليكن داعية مؤثرًا، أو مدعوًا مستجيبًا، وفي كلٍ خير، والله أسأل أن يعم النفع، وأن نعرف الأعداء، وأن نقضي على الداء وأن يكون عملنا حسن الابتداء، حسن الانتهاء، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
تمت
من سلسلة رسائل فتيان الدعوة: [المراحل الانتقالية في الدعوة الفردية] بإشراف: الشيخ / جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين.. والشيخ / أحمد بن عبد العزيز القطان .
...(/10)
المراد بالدخول بالمرأة في النكاح
السؤال :
عقدت على امرأةٍ عقداً شرعيّاً ، و قبل الزواج خلوت بها و مارست معها بعض أمور الاستمتاع ( المباشرة ) بدون جماع ، ثم اختلفنا و أدى الخلاف بيننا إلى الطلاق ، فهل تُعتبر مدخولاً بها ، رغم أنّ ما بيننا لم ينتهِ إلى الجماع بعد ؟
الجواب :
بالنسبة للسؤال عمّا يُعتبر دخولاً بالمرأة أقول مستعيناً بالله تعالى :
من أساليب البيان في القرآن الكريم الكناية و التورية في التعبير عمّا قد تستهجن النفوس ذكره صراحةً ، كما في قوله تعالى : ( كلا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ) [ المعارج : 39 ] .
و من هذا القبيل ذكر الدخول بالمرأة في القرآن الكريم كما في قوله تعالى في آية المحرّمات في النكاح : ( وَ رَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ) [ النساء : 23 ] ، حيث كنّى سبحانه و تعالى بالدخول عن الجماع أو مقدّماته ، على قولين لأهل العلم .
قال الحافظ ابن حجر [ في فتح الباري : 9 / 158 ] :
( و أما الدخول ففيه قولان :
• أحدهما : أن المراد به الجماع ، و هو أصح قولي الشافعي .
• و القول الآخر : و هو قول الأئمة الثلاثة المراد به الخلوة ) .
قلت : و الأرجح و الأحوط – و الله أعلم – هو مذهب الجمهور ، فإذا خلا الرجل بزوجته في حال يمكنه معه مواقعتها كان ذلك دخولاً ، و إن لم يقع الجماع ، إذ إن العبرة بالتمكّن لا بالفعل ، و مقدّمات الشيء تأخذ حكمه في كثير من الأحوال ، و هذه إحداها .
و يؤيد هذا ما رواه القرطبي في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أن الخلفاء الراشدون قضوا فيمن أغلق بابا أو أرخى ستراً على المرأة ثمّ طلّقها بالصداق كاملاً ، أي أنّهم عدّوا ذلك منه دخولاً ، و إن لم يقع فيه جماع .
هذا ، و الله المستعان ، و عليه التكلان
و الحمد لله ربّ العالمين .(/1)
المراهقة عبور بلا أزمات
مفكرة الإسلام: إن مرحلة المراهقة مرحلة تتميز بالثورة النفسية، والتغيرات السريعة والتقلبات المزاجية والنفسية، مما قد يسبب للوالدين نوعًا من الاضطراب في التعامل مع أبنائهم في هذه المرحلة، وهذه المرحلة حيوية وهامة بالنسبة للشخص المراهق لأن فيها تكتمل ملامح شخصيته، وقد يكون الإخفاق فيها مدمرًا للشخص.
وأهم جزء في هذه المشكلة هو احتواء المراهق والمراهقة حتى تمر هذه الفترة بسلام وأمان، ونعود بالسفينة إلى بر الأمان.
ولكي يتم هذا الإبحار والعودة بسلام لابد من التعرف على هذا المراهق عن كثب ما هي طبيعته وسماته وما هي حاجاته وكيفية التعامل معها.
من هو المراهق ؟
المراهقة عند بعض علماء النفس هي المرحلة التي تبدأ من البلوغ إلى اكتمال نمو العظام، حيث تنتهي باستقرار النمو العضوي عند الفرد.
طبيعة المراهقة:
1] ثورة الجسد: إن ما يحدث في جسد المراهق يشبه الثورة، فكل شهر أو اقل تحدث تغيرات كثيرة في جسد المراهق، إن جسد المراهق يأخذ في الزيادة بصورة ملحوظة مع فروق جسمية واضحة بين الذكور والإناث، والذي يجمع بين جميع المراهقين هو الزيادة الملحوظة في الوزن مقارنة بالمراحل السابقة، ويبدأ النمو السريع في الأعضاء الخارجية وتبدأ التناسلية في إفراز الهرمونات الخاصة بها.
أما هيئة المراهق فتبدأ بالتحول إلى ملامح الرجولة أو الأنوثة بحيث يظهر الشعر في الوجه والعانة والإبطين ويظهر على وجه البنت ملامح أخرى تتناسب مع أنوثتها ويتبع ذلك تغير الصوت بين خشونة للمراهق ونعومة للمراهقة، ونزول المني والاحتلام للمراهق وظهور الطمث والنهدين والنمو الذهني عند المراهقة, ونظرًا لهذه التغيرات الجسمية والشكلية للمراهق التي لا تجد لها تفسيرًا نظرًا لقوتها وسرعتها فإنه يكون حساسًا جدًا للنقد الجسمي والشكلي من حوله.
2] تأكيد الذاتية وعقل المراهق: هناك تحول مهم وجديد حدث في تكوين المراهق وعقله وحياته، لقد تحول المراهق أو المراهقة من التفكير المادي إلى التفكير المعنوي، ومن التفكير الفردي البحت إلى التفكير شبه الجماعي، ومن التفكير الخارجي فقط إلى نوع من التفكير ينظر إلى الذات ويرى المحيط الخارجي أيضًا، وقد تحول المراهق والمراهقة إلى الإيجابي الباحث عن المسئولية بدلاً من التفكير السلبي، وبدأ أيضًا يفكر في المستقبل بعد أن كان لا يفكر في الحاضر.
إن عقل المراهق يشهد تحولاً نوعيًا مهمًا حيث يبدأ الفرد بإدراك المعنويات، بعد أن كان أسيرًا للماديات والمحسوسات، ولا يستوعب الأشياء إلا بالتمثيل المادي فقط، ولا يستوعب القضايا إلا بعد اقترانها بالنماذج والأمثلة الموضحة.
إن التحول الجديد في المراهق يجعله يعي المعاني والقيم ويستطيع تفهمها، وتتجاوز تساؤلاته الإطار المادي القريب إلى الأبعاد المعنوية والنفسية والكونية.
ورغم ما تمنحه خاصية التفكير المجرد والتأمل المعنوي في نفسه ومن حوله والأحداث والكون وغير ذلك، إلا أن ذلك بعض المشاكل الذهنية والاجتماعية من أهمها، المثالية والحيرة والتردد.
المثالية: المراهق قليل الخبرة نظرًا لصغره وحداثة تجربته إلا أنه مع ذلك يفكر ويحاول أن يصل إلى حلول، ولكن هذه الحلول مع فقد الخبرة لا تكون واقعية في كثير من الأحيان مما يؤدي إلى رفضها ممن حوله، مما يجعله يدخل في صراع مع من حوله ممن يكبرونه وأكثر منه خبرة.
الحيرة والتردد: إن فقد الخبرة مع الطبيعة الانفعالية للمراهق مع إلزام المراهق نفسه باتخاذ القرار بنفسه، وهنا تبدأ مشكلة المراهق عندما يريد أن يأخذ قرارًا في أمر ما، فهو يستطيع أن يتصور المواقف المختلفة قبل حدوثها، ويستطيع أن يدرك الوجوه المختلفة لهذه المواقف والبدائل المتعددة لحلها، وعندما يواجه مشكلة ذات بدائل متعددة في حلها ولابد من اتخاذ قرار لتحويل الحل واختياره.
ورغم ما يواجهه المراهق من حيرة بين البدائل إلا أنه ينزع إلى اتخاذ القرار بنفسه لكنه يفشل في كثير من الأحيان، وهنا كان لابد من الاحتواء، ووجود وسط يساعده على اتخاذ القرار المناسب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
القيمة: هذا ولدى المراهق مستوى من النضج العقلي يمكنه من الشعور بالهامشية عندما يكون مهملاً منبوذًا وكذلك الشعور بالقيمة عندما يكون له وضعه ومسئولياته وكذلك يستطيع أن يدرك وبقوة ارتباط صورته عند الناس بماله من قيمة وأعمال ودور وهذا بدوره يشير إلى إيجابية التفكير وانطلاقه في ميادين الحياة.
الوقت: ومما يتميز به المراهق عن الطفل إدراكه التام لقيمة الوقت وقدرته على التفكير المستقبلي إضافة إلى التفكير الآني، ويكون لدى المراهق استعداد للتفكير المستقبلي بالإضافة إلى نفسه كذلك في أسرته وفي مجتمعه وأمنه ومكانتها بين الأمم وكيفية النهوض بها.(/1)
3] انفعالات المراهق: قوة العاطفة وغزارة الوجدان: إن لدى المراهقين استعداد لسرعة الإثارة وهشاشة الانفعال، والفراغ النفسي المستعد للامتلاء، ولهذا فإن المراهق لا يستنفذ في انفعالاته ولا يكون واقعيًا في التعبير عنها فهو يغضب كثيرًا وسريعًا ولأسباب صغيرة ويتعجل في اتخاذ القرارات الخطيرة، وإذا أحب أسرف وبالغ وذلك من أسباب انتشار وشيوع الحب والغرام في سن المراهقة.
فالمراهق بسبب تكامله العضوي والعقلي يملك ما يملكه الكبار من أنواع الانفعالات ويدرك ما يدرك الكبار من الاستثارة العاطفية والشعورية، فهو يحب ويكره، ويهدأ ويغضب، ويتأنى ويتعجل، ويجرؤ ويخاف وهكذا صفات الرحمة والشفقة والشجاعة والأنفة. والمراهق تنقصه الخبرة والتجربة ويستولي عليه التغير السريع المتتابع، فهو من حيث النمو والنضج يعيش في أوضاع وسمات جديدة عليه من حيث البيئة والاكتساب ولم تصقله الخبرة.
الذاتية: وتعني إعجاب المراهق بنفسه، واعتزازه بها، والاعتقاد بأنه محط أنظار الناس وبؤرة اهتمامهم ويسيطر على بعض المراهقين الاعتقاد بأن الناس ينظرون إليهم كما ينظرون هم إلى أنفسهم ويجب أن تكون صورته عندهم كما هي صورته عند نفسه، وهذا ناتج عن فقد التوازن الانفعالي والعاطفي لديه، وعن التحولات الفجائية المؤدية للرجولة والأنوثة مما يشعره بالاكتمال والتمام.
الخوف والقلق: وقد يخاف المراهق ولا يعرف مم يخاف حيث يدركه القلق من المجهول ويتوقع أن شيئًا مؤذيًا سيحدث له ولا يدري ما هو هذا الشيء وقد لا يكون لهذا الشيء وجود أصلاً، فهو مجرد توهم سببه الإفراط في الحساسية والعاطفة لديه.
فالمراهق غالبًا يخاف على ذاته ومستقبله ويخشى من احتمالات الفشل والنجاح ويشعر بعدم الاستقرار نظرًا لعدم الثبات على شيء، ولفقد الرؤية الواضحة، وللغموض الذي يكتنف طريقه الجديد عليه، فهو يشعر بمشاعر الرجال ويملك بعض صفاتهم، لكنه لا يسلك طريقهم.
4] المراهق والمجتمع: يحتاج المراهق إلى المجتمع حوله ليحقق فيه ذاتية ووجوده وهذه طبيعة المراهق وغيره فهي حاجة إنسانية، والمراهق يحقق ذاته في المجتمع من خلال معرفة أهمية وحاجته إلى التقدير والمسئولية ويحتاج كذلك إلى اختبار قدراته وتحديد ميوله وتوجهاته.
وقد كلف الإسلام الإنسان بالتكاليف الشرعية بالبلوغ، وحمله مسئولية نفسه سواء في العبادات أو المعاملات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمح لمن بلغ الحلم بالجهاد وهو من أشق الأمور وأعنفها. والمراهق يكره التبعية ويسعى إلى الذاتية، وهذه النقطة هي التي تحدد موقفه من الكبار وموقف الكبار منه.
وكما يشعر المراهق بالذاتية ويحب التقدير فهو كذلك يشعر بالحاجة إلى الانتماء إلى رفقة أو صحبة تشاركه مشاعره وتعيش مرحلته، وهذه الرفقة تتحد في المشاعر والأحاسيس وتسعى إلى إشباع الحاجات والرغبات، وهذه الرفقة تخلص لبعضها البعض ولو في الشر, وحاجة ماسة بالنسبة للمراهق نظرًا للتغيرات الفجائية التي تحدث له ويحتاج لها إجابات يستحي أن يسأل عنها الكبار.
والتغيرات المفاجئة التي تحدث للمراهق وتطور المراهق العضوي والعقلي والنفسي يؤذن ببداية رجولته واكتماله ولكن الكبار يرفضون ذلك أو لا يأبهون به أو يصادمونه وهذا التصرف من الكبار يسيء إلى المراهق ويؤدي به إلى خيبة الأمل وبالتالي إلى المعاندة وضعف الارتباط والخروج عن الأعراف والتمرد عليها والارتماء في أحضان الرفقة(/2)
المراهقون الوجه الآخر
المحتويات
مقدمة
ما الفرق بين المراهقة والبلوغ ؟
أسباب تولد النظرة الشائعة
الأول: نشأة علم النفس
الثاني: العلوم الإنسانية تتأثر بشخصية الباحث
الثالث: الدراسات الإنسانية تمثل المجتمعات التي أجريت فيها
الرابع: المراهقة ومرحلة البلوغ الشرعي
الخامس: المراهقة والاتجاه نحو التدين
السادس: شواهد من التاريخ
السابع: وقفات مع شباب الصحابة
الثامن: أين المشكلة في التاريخ الإسلامي؟
التاسع : مع النماذج المعاصرة؟
العاشر: شواهد من علم النفس المعاصر
خلاصة الموقف من مشكلات المراهقة
مسؤولية المجتمعات المعاصرة عن مشكلات المراهقين
مقدمة
الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
فحديثنا بعنوان:- المراهقون الوجه الآخر، وهو ليس حديثا حول علم النفس، فالحديث حول هذه الموضوعات إنما يتحدث به المختصون، ويوجه إلى أصحاب الاهتمام لكن ثمة قضايا تعنينا باعتبارنا مسلمين، ولها أبعاد شرعية ومن ثم فلا يسوغ أن تكون حكرا على أهل الاختصاص وحدهم، أو أن يكون ما يقولونه فيها مسلَّماً.
الحديث عن المراهقة والمراهقين يكثر في هذا الوقت عند علماء النفس، وعند دعاة الإصلاح وعند رجال التربية والتعليم، وفي العصر الحاضر أصبح حديث الكثير من الناس، سواء أكانوا شبابا يعيشون هذه المرحلة فيتحدثون عن همومها وآلامها ومشكلاتها، أم كانوا ولاة أمور يتحدثون عن ما يعانونه من أبنائهم وبناتهم، أو كانوا أهل تربية وتعليم يبثون شكواهم حول ما يلقونه من الجيل، الذين عامتهم هم من أهل هذه المرحلة.
سيطر على كثير من الناس - وتدعم هذا دراسات كثيرة في علم النفس المعاصر- أن مرحلة المراهقة أزمة ومشكلة، وحين يطلق لفظ المراهق فهو يعني عند الكثير الطيش والانحراف والشطط، وأدى الغلو في هذا المفهوم إلى نتائج خاطئة؛ فصار الأب يعتذر عن انحراف ابنه وعن صبوته بأنه مراهق، وحينما نتحدث مع أحد أولياء الأمور، أو مع أحد المعلمين، أو مع أحد ممن يتحمل مسؤولية في بلاد المسلمين – حول شاب من الشباب، أو حول جمع من الشباب مبديا شكواك لما تراه عليه يجيبك بأنه مراهق، وهذا يعنى أن مرحلة المراهقة هي عذر لارتكاب الجريمة، وهي عذر للانحراف، وعذر للصبوة والشطط والغفلة، أو بعبارة أخرى إن هذه المرحلة تعني التلازم مع هذه الحالة، وحين يطلب منه أن يرتقي بابنه أو بمن يتولى تربيته إلى مستوى أعلى مما هو عليه يعتذر لك بأنه لايزال شابا مراهقا فما مدى صحة هذه النظرة؟ وهل ثمة وجه آخر للمراهقين غير هذا الذي نراه؟
بين يدي مناقشة هذه القضية نعرج سريعا على التعريف بالمراهقة، وهو مصطلح ورد في لغة العرب يقولون: رهق: أي غشي أو لحق أو دنا منه سواء أخذه أو لم يأخذه، والرهق محركا: السفه والخفة وركوب الظلم والشر وغشيان المحارم، وراهق الغلام: قارب الحلم. ودخل مكة مراهقا: أي آخر الوقت حتى كاد يفوته التعريف (يعني الوقوف بعرفة).
وقد ورد هذا اللفظ في كتاب الله عز وجل في قول سبحانه وتعالى: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) أي: لا يغشى وجوههم قتر ولا ذلة. وأيضا في قوله عن الجن:(وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا).
والمراهقة تعني: هذه المرحلة التي هي قرب البلوغ، أما في علم النفس المعاصر فهي: المرحلة التي تلي البلوغ وهي غالباً من الثانية عشرة إلى التاسعة عشرة أو الحادية والعشرين. فعلماء النفس يصنفون من كان في هذا السن مراهقا تحكمه خصائص معينه وطبيعة معينة.
ما الفرق بين المراهقة والبلوغ ؟
هناك من يعتبر أنهما مترادفان؛ فالبلوغ يعني المراهقة، و هناك من يعتبر أن البلوغ هو العلامة المتميزة كبداية مرحلة المراهقة، ومنهم من يعتبر أن المراهقة أعم فالبلوغ يختص بالنمو الجنسي أو النمو العضوي والجنسي، والمراهقة تشمل ما سوى ذلك.
ولا يهمنا كثيرا الوقوف حول المعاني اللغوية، لكن هذه إشارة سريعة للتعريف بالمقصود حول هذا المصطلح.
أسباب تولد النظرة الشائعة
ونتيجة عوامل عدة تولدت نظرة شائعة عن المراهقة وأنها تعني الصبوة والانحراف والطيش، وثمة عوامل عدة تدعونا إلى إعادة النظر في قبول هذه النظرة للمراهق:
الأول: نشأة علم النفس
فهو قد نشأ نشأة غربية ووجد كغيره من سائر العلوم الإنسانية المعاصرة، والمسلمون لا يحسنون إلا الترجمة والنقل الحرفي، دون تمييز وتمحيص مايتعارض مع الشرع من هذه العلوم.
وأكثر جامعات بلاد المسلمين فيها فروع مستقلة لعلم النفس وسائر العلوم الإنسانية، فكيف تدرس هذه العلوم؟(/1)
إن أعضاء هيئة التدريس فيها هم ممن تخرج في الجامعات الغربية، أو درس على يد خريجيها، وقليل منهم من يملك العلم والحصانة الشرعية التي تعينه على نقد وتمحيص مايتعارض مع الشريعة الإسلامية، بل طوائف كثر من هؤلاء لايؤمنون بمبدأ التأصيل الإسلامي والمراجعة الشرعية لهذه العلوم، ومن ثم فخريجو هذه الجامعات سيتلقون ويتعلمون هذه العلوم بالنَّفَس والروح الغربية.
وحين تقلب الطرف بمكتبة من المكتبات العربية فستجد قسما خاصًّا للكتب المؤلفة في علم النفس وسائر العلوم الإنسانية باللغة العربية، وهذه الكتب لا تعدو أن تكون نقلا حرفيًّا لما قرره علماء الغرب، ولا تعدو أن تكون ترجمة ركيكة –في الأغلب- لعلم النفس الغربي.
قد يكون من المقبول أن تترجم علوم مادية بحتة كالطب والفيزياء والكيمياء والهندسة ونحوها، لكن العلوم الإنسانية لا يليق أن ننقلها من تلك المجتمعات نقلا حرفيا.
ومما يزيد المشكلة تأخر كثير من الخيرين المتخصصين في هذه التخصصات عن عرض نتاج علمي يتناول هذه العلوم بما يتفق مع الشريعة الإسلامية.
الثاني: العلوم الإنسانية تتأثر بشخصية الباحث
إن الذي يبحث في أي فرع من فروع العلوم الإنسانية لا يمكن أن يتخلص من شخصيته ونظرته للإنسان، ومن نظرته للدين، ومن نظرته للأخلاق والسلوك…إلخ، لكل هذه الاعتبارات كان هذا العلم الذي نشأ في الغرب لا يعدو أن يكون انعكاسا لنظرتهم تجاه الدين والأخلاق.
ومن أوائل علماء النفس الغربيين الذين عنوا بالمراهقة عالم غربي اسمه ستانلي هول. ألف كتابه عام 1917م يقول فيه عن مرحلة المراهقة:" المراهقة فترة عواصف وتوتر وشدة تكتنفها الأزمات النفسية، وتسودها المعاناة والإحباط والصراع والقلق والمشكلات وصعوبات التوافق".
ويرى آخر وهو: جراندر الذي كتب كتابه عام 1969 م أن المراهقة مجموعة من التناقضات، ويشبه البعض حياة المراهق بحلم طويل في ليل مظلم تتخلله أضواء ساطعة تخطف البصر أكثر مما تضيء الطريق فيشعر المراهق بالضياع ثم يجد نفسه عند النضج، ويصفها البعض بأنها مرحلة جنون.
ويعتبر ستانلي هول الذي أشرنا إليه قبل قليل أن جميع المراهقين مرضى ويحتاجون إلى المعالجة الطبية والنفسية.
إن هذه الأقوال وغيرها لا يمكن أن تفصلها عن شخصية أولئك الذين قالوها فهم ممن نشأ في تلك المجتمعات وعاش فيها وتشرب قيمها.
الثالث: الدراسات الإنسانية تمثل المجتمعات التي أجريت فيها
إن الدراسات الإنسانية هي في الأغلب نتاج دراسات وبحوث أجريت على الإنسان الغربي، ولا يسوغ أن يعمم نموذج الرجل الغربي على سائر المجتمعات فضلاً عن المجتمعات المسلمة.
هل يسوغ أن نقيس المراهق الذي عاش في بلد مسلم يتسم بقدر كبير من المحافظة على المراهق الذي عاش في مجتمع غربي منحل؟
وهاهو أحد الزعماء الأمريكان ألا وهو جون كنيدي يطلق تصريحه المشهور (عام 1962م) الذي يقول فيه:"إن مستقبل أمريكا في خطر لأن شبابها منحل غارق في الشهوات، لا يقدِّر المسؤولية الملقاة على عاتقه، وإنه من بين كل سبعة شبان يتقدمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين لأن الشهوات التي أغرقوا فيها أفسدت لياقتهم الطبية والنفسية "فمن بين كل سبعة من الشباب لا يوجد إلا واحد فقط صالح للجندية ثم هذا الواحد الصالح لا يعني أنه عفيف طاهر نزيه، بل إن مستوى ما يعبه من الشهوات ومستوى إقباله عليها لا يصل إلى ذلك الحد الذي يمنعه من الدخول إلى الجندية، ولعلكم تعرفون أن الشواذ جنسيا لا يزالون يطالبون بإعطائهم الحق في الالتحاق في القوات المسلحة الأمريكية.
وفي نفس العام أصدر الرئيس السوفيتي خروتشوف تصريحا شبيها بهذا فيقول:"إن مستقبل روسيا في خطر وإن شباب روسيا لا يؤمن على مستقبله لأنه منحل غارق في الشهوات، وأهم أسباب ذلك: الفوضى الجنسية، والخيانة الزوجية".
وإذا كانت هذه التصريحات قبل خمسة وثلاثين عاماً فكيف أصبح الأمر اليوم؟
المقصود من هذا أن هذا الجيل من الشباب الذي يصفه قادته هذا الوصف هو الذي تجرى عليه الدراسات وتستورد بعد ذلك إلى مجتمعاتنا، فهم حين يتحدثون عن طبيعة المراهق أو عن مشكلاته وشخصيته يتحدثون عن أولئك المراهقين والمراهقات.
الرابع: المراهقة ومرحلة البلوغ الشرعي
من أهم العوامل التي تدعونا إلى إعادة النظر في ما يطرح الآن في علم النفس المعاصر حول المراهقة: أن هذه المرحلة ترتبط بسن التكليف الشرعي.
فالشاب حين يصل سن البلوغ يصبح مكلفاً تكليفا شرعيا، وتجب عليه الواجبات الشرعية التي تجب على سائر المسلمين، ولو مات وهو في هذه السن فإنه سيحاسب في قبره ويسأل، وسيحاسب في موقف الحشر والجزاء عند الله سبحانه وتعالى.(/2)
وحينها نتساءل من خلق الإنسان؟ أليس هو الله سبحانه وتعالى؟ أليس سبحانه وتعالى هو العليم بهذا الإنسان وبدواخله وبنوازعه (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) ، فهو سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان، وهو سبحانه وتعالى أعلم بهذا الإنسان بكل مافيه، بخصائصه ونوازعه ودوافعه وشهواته ورغباته وقد كلف سبحانه وتعالى الإنسان في هذه السن بالتكليف الشرعي؛ فصار مؤتمنا على الصلاة والصيام والصدقة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر التكاليف الشرعية.
وحينما كلف الله تبارك وتعالى الإنسان في هذه المرحلة فهذا دليل على قدرته على القيام بواجب هذا التكليف، بل إن اختيار هذا السن فيه حكمة بالغة؛ فهو في هذه المرحلة وهذه السن أقرب ما يكون للعبادة، وأقرب ما يكون للتوبة إلى الله سبحانه وتعالى، ولأن يتحمل أمانة التكليف.
إن الله سبحانه وتعالى أعلم بخلقه من هؤلاء البشر، فهو الذي خلق الإنسان سبحانه وتعالى وهو أعلم به، فمهما أظهرت الدراسات البشرية المعاصرة مايتعارض مع شرع الله، ومع حكمته تبارك وتعالى في التكليف فهي مرفوضة، ولامكان لها لدى المسلم الموقن بشرع الله عز وجل وحكمته في خلقه.
الخامس: المراهقة والاتجاه نحو التدين
لقد توصلت دراسات معاصرة عديدة إلى أن المراهق في هذه المرحلة يعيش توجها نحو التدين، وهذا مما يكشف لنا عن شيء من حكمة ارتباط التكليف الشرعي بهذه المرحلة.
يبدأ المراهق في التساؤل عن نفسه من أين أنا؟ وكيف جئت؟ يبدأ يتساءل عن سر خلق الوجود والكون، ويبحث عن الإجابة التي تقنعه حول هذه التساؤلات، وقد يهتدي إلى المنهج السليم، وقد يضل ويزيغ.
ومن الظواهر الملفتة في ذلك ما نراه من بعض الشباب في هذه المرحلة، من إقبال على التدين والعبادة لله عز وجل، حتى من بعض الذين لم ينشأوا في بيئة محافظة. لكن الواقع السيئ للمجتمع كثيراً ما يفسد هذه الفطرة ويجر الشاب بعيداً عن الطريق الشرعي.
السادس: شواهد من التاريخ
حين نقرأ في تاريخ الأمة –بالمفهوم الواسع فالأمة التي تدين بالإيمان أمة واحدة منذ آدم إلى قيام الساعة- فإننا نرى نماذج من حياة الشباب يبدو فيها الوجه الآخر للمراهقة.
فهاهم أهل الكهف فتية آمنوا بربهم في وسط مجتمع يعج بالشرك والكفر بالله تعالى، ويذكر الله قصتهم في كتابه في آيات يتلوها المسلم كل أسبوع لتكون عبرة للشباب المؤمن إلى قيام الساعة (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى* وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا).
ويحكي لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن قرية آمنت ودخلت في دين الله سبحانه وتعالى على يد شاب يعيش في هذه المرحلة التي يسمونها مرحلة المراهقة، واستطاع أن يصمد وأن يبقى بإذن الله عز وجل وتوفيقه أمام الابتلاء وأمام الإيذاء، وأن يقدم نفسه رخيصة لله سبحانه وتعالى؛ فيؤمن الناس حين رأوا ثباته وموقفه، وتبقى قصة محفوظة في ذاكرة التاريخ ويرددها الجميع، الكبار قبل الصغار
السابع: وقفات مع شباب الصحابة
حين نعود إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ونقرأ حياة أصحابه نرى عجبا من الشباب الذين كانوا في هذه السن، كيف كانوا في العلم والجهاد والعبادة وسائر الميادين، ولنستعرض طائفة قليلة من أخبارهم في ذلك:
فمن هؤلاء جابر بن عبدالله رضي الله عنه وهو من رواة الحديث المكثرين، كان عمره عند الهجرة ستة عشر عاما، أراد أن يحضر غزوة بدر وأحد فمنعه والده لأنه كان يريد أن يشهدها هو واستشهد والده في أحد، ثم لم يتخلف جابر –رضي الله عنه- عن غزوة بعدها.
ومنهم أيضا عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه، بايع بيعة الرضوان وعمره سبعة عشر عاماً، وأهل بيعة الرضوان هم أولئك الذين قال الله سبحانه وتعالى عنهم :(لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا) وقال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم :"لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة".
ومن شباب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في أحد فلم يجزه ، وعرض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه، وهو ممن بايع تحت الشجرة، وعمره حينها ستة عشر عاماً.
ومنهم سلمة بن الأكوع –رضي الله عنه- ومواقفه مشهودة مشهورة، وهو صاحب غزوة ذي قرد، وهو الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم :"خير رجالاتنا سلمة وخير فرساننا قتادة"، وفي غزوة حنين جاء جاسوس من المشركين إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فجلس معهم ساعة، ثم ولى فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلحاقه فلحق به سلمة حتى أدركه وقتله.
وكثيراً ما نقرأ في السيرة استعراض النبي صلى الله عليه وسلم الناس ورده للصغار، مما يعني أن الشاب كان يَنشأ ويُنشَّأ منذ صغره على حب الجهاد ونصرة الدين.(/3)
وفي ميدان العلم كان جابر وابن عباس وأنس وابن عمر وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل رضوان الله عليهم من فقهاء ومحدثي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
ولعله أن تتاح فرصة لأن نشبع الحديث حول هذا الموضوع المتعلق بشباب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إما مسموعاً أو مقروءاً بإذن الله سبحانه وتعالى (وقد تم بحمد الله بعد هذه المحاضرة بسنوات إخراج كتاب بعنوان شباب الصحابة مواقف وعبر).
الثامن: أين المشكلة في التاريخ الإسلامي؟
لو ألقيت هذا السؤال على من له أدنى صلة بالتراث الإسلامي لأجابك بالنفي مباشرة، فحين نقرأ ما سطره السلف في أي فن من فنون العلم فإننا لا نجد أثرا لهذه المشكلة، نعم قد تجدهم يوصون الشاب بالعبادة والطاعة، لكن هل تجد الحديث المستفيض حول مشكلات الشباب وعن أزماتهم وعن عالم المراهقة الذي نعيشه الآن؟ هل تجد الحديث عن انحراف الشباب
لقد كان الشباب آنذاك في حلق العلم ومجالسه، فما إن يبلغ أحدهم السابعة أو الثامنة حتى تراه قد أتم حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، أو قطع مرحلة فيه، ثم أصبح يثني ركبه في مجالس العلم مستمعاً ومقيدا لما يسمعه، ولهذا فقد كان الحديث عن سماع الصغير، ورواية الصغير، وحضوره مجالس العلم، كان الحديث عن ذلك يأخذ حيزاً واسعاً من حديثهم عن الشباب .
هكذا كان الشباب في سلف الأمة، وهذا يعني بالضرورة أن هذه المشكلة لم تكن موجودة عند سلفنا، فأنت تجد الحديث عن صبوة الشباب وتصابي الشيوخ، لكنها لم تكن بهذا القدر وهذا الحجم الذي نعيشه اليوم، بل ولا قريباً منه.
وهذا يعني أن واقع الشاب اليوم إنما هو نتاج طبيعي للمرحلة التي يعيشها، بل ثمة عوامل عدة أسهمت في معاناة المراهق وصبوته.
التاسع : مع النماذج المعاصرة؟
ننا ومع ما نعيش الآن من أزمات المراهقين ومشكلاتهم، إلا أننا نرى نماذج تثبت خطأ هذه النظرة. فمن هم عمار المساجد؟ ومن حفاظ القرآن الكريم؟ ومن رواد مجالس العلم ودروس العلماء؟
لو تأملت في حفاظ القرآن الكريم لرأيت عامتهم في هذا السن، ولو أجريت جولة سريعة على مجالس العلم لرأيت أن معظم روادها من هؤلاء.
وفي عالم الجهاد لم ننسى جميعا كم هم الشباب المراهقون الذين دفنوا هناك في بلاد العجم في حين كان أقرانهم وأترابهم يسافرون إلى حيث الفساد والرذيلة.
لقد ذهبوا وهم يتمثلون بقول ابن رواحة –رضي الله عنه- :
إذا أديتني وحملت رحلي ** مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك أنعم وخلاك ذم ** ولا أرجع إلى أهل ورائي
وجاء المسلمون وخلفوني ** بأرض الشام منجدل الثواء
هناك لا أبالي طلع بعل ** ولا نخل أسافلها رواء
لقد كان المسلمون يظنون أن تلك القصص والروايات التي تروى عن البطولات وعن الشهادة قد أغلق عليها في كتاب لن يفتح أبدا، إنما سيبقى حبيساً في ذاكرة التاريخ.
العاشر: شواهد من علم النفس المعاصر
حقيقة أخرى نختم بها هذا الحديث، فكثير من علماء النفس وعلماء التربية اليوم يشككون في صحة هذه الدعوى، ويرون أنها مبالغ فيها.
ومن علماء النفس المعاصرين الذين ناقشوا في مدى مصداقية مقولة أزمة المراهقة امرأة غربية اسمها (مارجرت ميد) فهي تعتبر المراهقة مرحلة نمو عادي، ومادام هذا النمو يسر في مجراه الطبيعي لا يتعرض المراهق لأزمات، وقد اهتمت هذه المرأة بدراسة المجتمعات البدائية، تقول: وفي هذه المجتمعات تختفي مرحلة المراهقة، وينتقل الفرد من الطفولة إلى الرشد بعد احتفال تقليدي.
ويقول الدكتور عبدالرحمن العيسوي: جدير بالذكر أن النمو في مرحلة المراهقة لايؤدي بالضرورة إلى أزمات، ولكن النظم الحديثة هي المسؤولة عن أزمة المراهقة.
ويقول الدكتور ماجد الكيلاني:"وقد أفرز فقدان ذلك مضاعفات سلبية في حياة الناشئة أهمها ما سماه فقهاء التربية الحديثة بالمراهقة، وهذه فتوى خاطئة أصدرها علماء النفس المحدثون تبريرا للسياسات الجائرة التي يمارسها مترفو العصر من أصحاب الرأسمالية والشركات الدولية، المراهقة ليست ظاهرة حتمية في تطور العمر الزمني للإنسان إنها مشكلة يمكن تجنبها كليا في حياة الفرد، وألا يمر بها الإنسان أبدا وهي من مزاعم علماء النفس في المجتمعات الصناعية الرأسمالية، ومرض من أمراضه الاجتماعية"
خلاصة الموقف من مشكلات المراهقة
إنه لا اعتراض على أن هذه المرحلة مرحلة صعبة، بل هي من أصعب مراحل العمر، ولا على أن كثيراً من مشكلات الشباب وأزماتهم تقع في هذه المرحلة، إنما اعتراضنا ينصب في أمور:
الأول: إهمال الوجه الآخر؛ وهو أن المراهقة مرحلة التكليف الشرعي ودخول الشاب إلى عالم الرجال
الثاني: إهمال البعد الديني وإقبال المراهق على التدين والعبادة.
الثالث: افتراض أن مشكلات المراهقة ملازمة لهذه المرحلة، وليست نتاج الواقع المعاصر والأخطاء التربوية التي تمارسها التربية المعاصرة.
الرابع: اعتقاد أن الشاب معذور فيما يأتيه من الصبوة والانحراف بحجة كونه مراهقاً.(/4)
إننا بحاجة إلى أن يعيد الآباء والمربون والمعلمون نظرتهم للمراهقين، وحينها سيعيدون تعاملهم معهم على أساس هذه النظرة، وبحاجة إلى أن يعيد أهل التوجيه في مجتمعات المسلمين من رجال التربية والتعليم النظر فيما يقدم للشباب والفتيات في مجتمعات المسلمين
وسيواجهون صعوبات في تربيتهم والتعامل معهم، لكن هذا لا يعني أن الأمر مستحيل، ولا أن ما يقع فيه المراهق أمر طبعي لا ينبغي أن يؤاخذ عليه، وفرق بين سلوك أسلوب الحكمة في العلاج والتصحيح، وبين الإهمال والتماس العذر للخطأ.
مسؤولية المجتمعات المعاصرة عن مشكلات المراهقين
إن مانعانيه اليوم من أزمات ومشكلات في عالم المراهقين، إنما هو نتاج التربية المعاصرة، ولقد تركت المجتمعات المعاصرة أثرها عليهم من خلال جوانب عدة، منها:
الأول: تلقي العلوم الإنسانية عن العالم الغربي تلقياً حرفيًّا، وسيطرة المعايير الغربية في الحكم على الانحراف والسواء، ولهذا صار الوالدان وصار أهل التربية يتعاملون مع الشاب ومع الفتاة في هذه المرحلة وهذا السن على أنهم معذورون لكونهم مراهقين، وصارت كثيراً من المظاهر التي تعد انحرافاً بالمعيار الشرعي مظاهر عادية عند هؤلاء.
الأمر الثاني: نظام التعليم المعاصر في المجتمعات يسهم في طول مرحلة المراهقة؛ وذلك أن الشاب يعيش في التعليم إلى أن يصل إلى سن الثانية والعشرين، يعيش أولا بعيدا عن الزواج وتحمل المسؤولية، ثم هو خلال هذه المرحلة يعتمد على أبويه اعتمادا تاما، بل حتى نظم التعليم يعيش فيها الطالب على التسول العلمي، فهو يتلقى المعلومة جاهزة من أستاذه الذي هو الآخر يلقيها كما جاءت في الكتاب، فلا يمارس الطالب جهده في اكتشاف المادة العلمية، لا يمارس جهدا ذاتياً في التعلم، وغاية ما يقوم به الاستماع الجيد وأن يحفظ ما في الكتاب، ثم يعبر عنه بعد ذلك في الامتحان، وهذا يولد شخصية ونفسية تعتمد على الغير.
الأمر الثالث: الإثارة والمغريات وحياة الترف المعاصر، وقد صارت الأجهزة الإعلامية تبالغ في إثارة الفتنة أمام المراهقين والمراهقات، فتصور غرف النوم تصويرا فاضحا، وتصور العملية الجنسية أمامهم بكل وقاحة، وحتى أصحاب السلع المادية لاتروج سلعهم إلا من خلال استخدام الإغراء والإثارة في الإعلان والدعاية؛ فأنتج ذلك جيلاً من المراهقين والمراهقات تأسره الغريزة ويلهث وراءها.
الأمر الرابع: غياب التوجيه والقدوة أمام الشباب والفتيات، فالنماذج التي تُبرز أمامهم هم أهل الفن والرياضة وأهل المجون والفساد.
هذه العوامل وغيرها لها أثرها البالغ في حياة المراهقين والمراهقات في هذا العصر الذي نعيشه، ولو أصلحنا تربيتنا لكان لهم شأنه آخر.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحمينا وإياكم من أسباب الفساد، وأن يصلح ذرياتنا، وأن يجنبنا وإياكم أسباب معصيته وسخطه إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب.(/5)
المرجفون
يتناول الدرس علاج ظاهرة سيئة وهي الإرجاف مبينا معناه ودوافعه وأصناف المرجفين ومقاصدهم وصور من إرجافهم في العصر النبوي. وتناول الفرق بين الإرجاف و والنصح والانكار ثم بين نتائج الإرجاف وحكمه. ثم كيف نتقي هذه الظاهرة السيئة وموقفنا منها .
ما معنى المرجفون ؟ ؟
الإرجاف: هو الزلزلة والاضطراب الشديد؛ وإشاعة الكذب والباطل، فالإرجاف وصفت به الأخبار الكاذبة لكونها فى نفسها متزلزلة غير ثابتة، أو لتزلزل قلوب المؤمنين واضطرابها منها .
? فتبين لنا أن المرجفين: قوم ينقلون الاحداث بصورة مزيفة ملؤها الإثارة والتخويف حتى يتصور للسامع أن هذه الحادثة هى القاضية من خلال نقل الحدث بصورة مرجفة تخيف سامعها، وتثبط من عزيمته، وتضعف ايمانه.
ما الفرق بين الارجاف والاشاعة ؟
? الإشاعة: عامة فى نقل الأخبار الحسنة والسيئة؛ أي أنها عامة فى الخير والشر.
? والإرجاف: خاص بنقل الاخبار السيئة؛ فهو خاص فى الشر.
المرجفون فى زمن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :هم قوم كانوا يخبرون المؤمنين بما يسؤهم من عدوهم؛ فيقولون اذا خرجت سرايا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنهم قد قتلوا، أو هزموا، وأن العدو قد أتاكم. وقيل: هم قوم من المسلمين ينطقون بالاخبار الكاذبة حبا للفتنة.
هل هناك مرجفون فى زماننا ؟
سؤال يجيب عنه الواقع الذى نعيشه، والشاهد بأن هناك إرجافاً ومرجفين يعيشون بين صفوفنا. وإليك أخبارهم:
مقامات المرجفين:المرجفون فى هذا الزمن تختلف مشاربهم بالإرجاف على الاسلام وأهله:
فمنهم سود الأكباد على الإسلام وأهله: ألسنتهم لاتعرف إلا بالشر؛ فمرة يخبرونك بأن الإسلام باد ومات وأهله فى تلك البلاد، حتى يضعفوا عزيمة المسلمين فى نصرة إخوانهم بالنفس والمال والدعاء؛ فهم يوجهون هذا الإرجاف حرباً نفسية على المسلمين؛ فهذا الإرجاف يوهن القوى، ويفتت العزائم الصلاب، فإذا جاءتك مثل هذه الأنباء المقلقة، والأخبار المفزعة، وأنت فى منأى عن الواقع فترت عزيمتك وضعفت همتك فى نصرة إخوانك بالنفس والمال والدعاء؛ إذ أنك من خلال هذا الإرجاف فقدت الأمل، وتضخم اليأس فى محيطك، فيكون الأعداء قد كسبوا مكسباً عظيما، ويتسنى لهم أن يبيدوا المسلمين فى تلك البلاد وغيرها، دون أن يكون هناك نصرة من المسلمين، أو رادعا يردعهم؛ والسبب هو هذا الإرجاف.
ومنهم من يرهبنا: بأن أعداء الإسلام يملكون الأسلحة الفتاكة، والآلات المدمرة، والاقتصاد العالمى تحت أيديهم، وأنهم أصحاب القرار والكلمة النافذة، فبإرجافهم هذا يريدون أن يقولوا لنا: ارفعوا أيديكم وضعوا أسلحتكم فلا طاقة لكم بهؤلاء وجنودهم... وكم سمعنا مثل هذا الإرجاف، وكم قرأناه، مما يوحى اليك بأن الحرب ضد المسلمين لم تتمركز في ساحات القتال العسكرى، ولا الإرهاب الفكرى؛ وانما تجاوزت هذا وذاك لتصل الى الحرب النفسية من خلال هذا الإرجاف.
ومنهم قوم من أبناء جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا: لاتحلو لهم المجالس،ولا تتحرك أقلامهم الا بالإرجاف، فهم يضخمون الأحداث التى قد تقع فى مساحة صغيرة ليجعلوا هذا الحدث نبأ الساعة، ويجعلوه يستحوذ على مساحات شاسعة من المقالات والكلمات، حتى أنهم ليصوروا لك الحدث وكأنه قاصمة الظهر التي لا قيام بعدها. وتتنّوع مواضعيهم التي يتحدثون حولها دون مصداقية أو تروٍ في معالجة الحدث بشكل سليم.
ومنهم طائفة – رواة للأخبار فقط – يريدون الخير والإصلاح: تستهويهم الأحداث المقلقة ، فيتتبعون أخبارها فتضيق بها حواصلهم ، فلا يرون بدًا من التحدث بها في المجالس ؛ وقصدهم بذلك تجلية الأحداث والمخاطر للناس! وما علموا أنهم بذلك يضعفون القوى الإيمانية في السامعين، ويحطمون تفاؤلهم بنصرة الدين وأهله، وبمحاربة الفساد وحزبه. وإليك بعض الأحداث التي نسمعها في مجالسنا وبين معارفنا وأصحابنا:
? يأتي بعضهم بأخبار المجتمع وما يدور فيه، ما حصل فيه من بعد عن دين الله، وإلفه للمعاصي والسيئات، حتى يظن السامع أن المجتمع لا خير منه، ولا أمل في رجوعه، فبتلك الكلمات القاتلة يشعر السامع بضخامة الفجوة، وباستفحال الداء، حتى لا يبقى لعزيمته قوة، فيترك العمل الإصلاحي ظنًا منه أن المجتمع لا يجدي فيه المعروف، ولا يستقيم له حال بعد هذه الحال.
? ويخبرك البعض بأن الدعوة إلى الله محاربة، وأن أهل الخير لا مكان لهم، وأن أهل الباطل هم الممسكون بزمام الأمور، في كلمات ملؤها الوهن والضعف، مع ما هي فيه من مبالغة مقيتة، فتغلب اليأس على السامعين، ويلقوا بقدراتهم وطاقاتهم في سلة الكسل، فلا تقوم لهم همّة بعد هذه الأخبار المرجفة.(/1)
? وطائفة تستعرض أخبار السقطة في المجتمع، وما يقترفونه من منكرات، وليس النقل لهذه المنكرات بالتلميح، وإنما بالتصريح، حتى يقوم السامع من مجلسه الذي سمع فيه هذه الأحداث وقد ضعف إيمانه، وتبلدت أحساسيسه من هذه الأنباء التي يسمعها، حتى لو خرج من هذا المجلس فوجد منكرًا أمامه فإنه لا يغيره، ولسان حاله يقول: هذا منكر من بين مئات المنكرات التي سمعتها في المجالس، فلن يقدم تغييري لهذا المنكر شئ، ولن يؤخره، حتى يصل إلى حد استمراء السكوت عن المنكر؛ نتيجة لهذا الإرجاف.
? ومن هؤلاء من يعطيك نبذة موجزة، وأخرى مطولّة عن التراجع والانتكاس في صفوف الصالحين من كثرة الفتن المحيطة بهم، والحرب الكلامية ضدهم، فيعمم هذا الداء حتى تظن من خلال هذا الإرجاف أن الناجين قليل، وأن الثابتين على دينهم يعدون على الأصابع، فيعكس هذا الإرجاف في نفسك الضعف والمرض، حتى تقف على شفا جرفٍ هارٍ، فتفقد حرارة الإيمان، وحلاوة الطاعة بسبب هذه الأنباء المقلقة.
نصح وإنكار.. لا إرجاف: ولا نعنى بكلامنا السابق أن نغمض أعيننا عن الواقع وما فيه من الفساد، ونخدر الناس بأننا بخير والحمد لله، وأن ليس في الإمكان أفضل مما كان. وإنما ننكر على من يتكلم بروح انهزامية مشيعًا لليأس والخوف في صفوف المسلمين، دون أن يقدم حلاً، أو علاجًا لما يذكره.
? أما من كان من أهل الإصلاح، ويحذر المسلمين مما يقع في مجتمعهم من فساد أوشرور، مع الاتزان في كلامه دون تهويل ولا تهوين، يتكلم بنبرة المسلم الحق المستعلي على الباطل؛ مشيعًا لروح الإصلاح والتغيير، وناشرًا لمعاني قوله تعالى:} وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ[21] {'سورة يوسف' وقوله:} يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ[8]{ 'سورة الصف' .
وهو مع ذلك أيضًا يقدم العلاج النافع، والحل الدافع لما يذكره من خلل؛ أما من كان شأنه كذلك، فهذا من المصلحين، وهو بذكره للخلل وعلاجه يكون ممن يعمل بقوله تعالى:} وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ[55]{ 'سورة الأنعام' .
?وخلاصة القول: أن المسلم إذا رأى منكرًا، فإنه لا يسكت عنه خشية الإرجاف في أوساط الناس، وإنما يغير المنكر بالمعروف، لا بما هو أنكر منه.
دواعي الإرجاف: أسباب الإرجاف، ودواعيه كامنة في غايتين:
الغاية الأولى: إظهار ضعف المسلمين، وتوهين قواهم؛ وهذا ما يسعى له أعداء الإسلام من خلال نشراتهم وإعلاناتهم وأخبارهم؛ وهو ما يسمى: بـ 'الإرهاب الفكري' ، و'الحرب النفسية'.
الغاية الثانية:حبّ نقل الأخبار دون أن يكون هناك قصد سيئ، ودون أن يكون هناك علم بنتيجة ما يقولونه، وما يتناقلونه، وإنما القصد هو استعراض المعلومات، والظهور لدى الآخرين بمظهر المعرفة والعلم بما يجرى في أوساط المجتمعات.
نتائج الإرجاف: من هذه النتائج ما يخدم مصالح الأعداء مباشرة ، ومنها ما يهز كيان المسلم بدينه، ويضعف همته عن العمل الدعوي والإصلاحي، فيكون ذلك مكسبًا للأعداء أيضًا، بطريق غير مباشر، فمن هذه النتائج:
? تخويف المسلم من عدوهِّ حتى لا تتم المواجهة، وحتى يكون المسلم ذليلاً تحت عزة الكفار المصطنعة من خلال هذا الإرجاف.
? إماتة النصرة الإسلامية في نفوس المسلمين لإخوانهم في العالم، وإماتة الآمال في إعادة أمجاد المسلمين من خلال بث الأحداث الكاذبة التي توحي بهزيمة المسلمين، وكسر شوكتهم.
? توقف العمل الدعوي والإصلاحي والإغاثي في تلك البلاد التي أعلن عنها بأنها دمرت وأصبحت في قبضة اليهود أو النصاري.
? فقدان المسلمين لأراضيهم، والتنازل عن مبادئهم من خلال هذا الإرجاف، حتى لا يبقى للمسلمين حق في أراضيهم، ولو بعد حين.
? جعل المسلم البعيد عن تعاليم دينه أسيرًا لهذا الإرجاف، فتتشبع روحه، ويتغذى عقله من هذا، حتى ينسى التوكل على الله، والاستعانة به، فيصل به الحال إلى اليأس من روح الله، والقنوط من نصرة الإسلام، فلا يبعد على ضعيف الإيمان، وعلى الجاهل بدينه أن يرتد بسبب هذا.
? إضعاف إيمان الآخرين بنقل أحداث السقطة، والسفهاء من الناس، والنفس البشرية تتأثر بما يجري حولها سلبًا وإيجابًا.
? إدخال الحزن والهم على الغيورين على دين الله من خلال تضخيم المنكرات لهم، ونقلها بصورة مبالغ فيها، فيتأثرون بمثل هذا النقل المزيف، وهو في الواقع أقل من هذا بكثير.
? تشجيع أهل الباطل وحثهم على استمراء أعمالهم بطريقة غير مباشرة؛ فكأن المرجف يقول لهؤلاء: الطريق لكم مفتوح، وليس أمامكم ما تخشونه؛ ففي كل وادٍ بنو سعد، والشر قد عمّ وطمّ ، فاعملوا ما شئتم.(/2)
حكم الإرجاف :الإرجاف حرام؛ لأن فيه أذيّة للمسلمين وتخويف وتهويل، وهذا أمر لا يجوز؛ يقول الإمام القرطبي رحمه الله:'الإرجاف حرام؛ لأن فيه إذاية، فدلت الآية على تحريم الإيذاء بالإرجاف'. والآية هي قول الله تعالى:} لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا[60]مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا[61]سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا[62] { 'سورة الأحزاب'.
كيف نتقي هذا الإرجاف؟ إن داء الإرجاف له دواء ؛ فمن العلاج النافع له ما يلي:
أولاً: بالنسبة لرواة الأخبار الذين يطلون ظاهر كلامهم بالمفزعات والقوارع:
? إدراك خطورة هذا الأمر؛ فما دب الضعف في نفوس الكثير، وما تقهقر البعض عن الإقدام لعمل الخيرات إلا من خلال هذا الإرجاف.
?تأثم الإنسان؛ ويكفيه من ذلك الإثم نقله للأخبار بمجرد سماعها، وقد جاء في الحديث: [كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ] رواه مسلم وأبوداود- واللفظ له- . فكيف بنقلها على وجه إخافة الآخرين وإرجافهم، وإضعاف عزائمهم؟!
? المصداقية في نقل الأحداث دون مبالغة، ودون مؤثرات كلامية، يظن من خلالها أن الأمر خطير، فيستوحش منه.
?ما الفائدة المرجوة من الإرجاف في صفوفنا ونحن داخل خندق واحد، ونحن نعلم أن الإرجاف يخلخل الصفوف ويبث الرعب في النفوس، وهو من أسلحة الأعداء الفتاكة، فكيف يوجه لنا من أنفسنا؟!
? تعويد أنفسنا التثبت بضبط الكلمات التي تخرج من أفواهنا؛ فقد تكون الأخبار التي ننقلها واهية كاذبة، وقد تكون ما أكل عليه الدهر وشرب، فنجعل من أنفسنا أضحوكة السامعين.
ثانيًا: بالنسبة للمتلقين الذين يسمعون هذه الأخبار والأنباء المرجفة:
? عدم تصديق هذه الأنباء المزعجة إلا بعد التثبت من صدقها. وكم من أخبار وروايات نقلت في المجالس، وسار بها الركبان، وليس لها في أرض الواقع حقيقة.
? تقوية الرجاء بالله سبحانه، وتفويض الأمر إليه، والاعتماد عليه؛ حتى تخف وطأة هذه الأراجيف على قلب الإنسان. فإذا سمعت مثل هذه الأحداث المقلقة فقل:'حسبنا الله ونعم الوكيل' فإنها بلسم نافع، وعلاج ناجع لمثل هذه الأقاويل، ولنا في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوة حسنة.
? تقوية القلب وتعويده على استقبال هذه الأنباء بنفسٍ ملؤها الهدوء والثقة بأن ما يحدث إنما هو بقدر الله عز وجل، ولعل في المحنة منحة.
? ليعلم السامع لهذه الأراجيف أن الشر لا يكال بمكيال، ولا يوزن بميزان، ليس له أرض دون أرض؛ فما يقع اليوم قد وقع مثله بالأمس، وسيقع مثله غدًا؛ لأن الحق والباطل يتصارعان إلى أن تقوم الساعة، فلا يكن سماع هذا الحدث، وهذا الإرجاف مكبلاً للإنسان عن عمل الخير، والوقوف أمام هذه التيارات بضعف وخواء. والجبال لا تهزها الرياح.
مبشرون لا مرجفون : إن المتأمل في محن العالم الإسلامي اليوم؛ يرى جليًا أن هذه المحن المتتالية تكون في أثنائها المنح، وأن الظلام إذا اشتد تنبثق من خلاله النور:
? فالرجوع إلى دين الله أصبح هو السمة البارزة لدى شعوب العالم.
?حلقات القرآن أصبحت عامرة بالشباب صغارًا وكبارًا.
?الصحوة الإسلامية احتضنت الشباب والنساء حتى أصبحت ظاهرة الرجوع إلى الدين لدى فئة الشباب، والنساء هي الظاهرة التي تقلق أعداء الدين.
? دخول الأمم من غير المسلمين في دين الله أفرادًا، وجماعات، له بريق لامع، ونور ساطع، يراه الأعشى واضحًا.
? رايات الجهاد بدأت ترفرف في أنحاء العالم شرقًا وغربًا.
?والعاملون لهذا الدين كثروا وتناموا .
? وأصبحت هناك مؤسسات وجماعات وأفراد، يعملون بدقة وبمنهجية واضحة لمصلحة الإسلام والمسلمين.
? ظهر في الساحة ما لم يكن موجودًا من قبل من مجلات إسلامية تحاكي، بل تتفوق شكلاً ومضمونًا وقراءً ما هو موجود في الساحة من مجلات إعلانية متعددة.
الباطل مهما تنامى.. ومهما طالت جذوره وفروعه؛ فإن له يدًا من أهل الحق حاصدة.. فلا خوف.. ولا اضطراب؛ فبشائر النصر تلوح في الأفق:
? } وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ[171]إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ[172]وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ[173]{ 'سورة الصافات'.
? }وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[139]{ 'سورة آل عمران' .
فأبشروا يا أولياء الله.. واستبشروا يا جند الله.. ولا تثنيكم الكلمات المثبطة عن العزم على فعل الخيرات، ولا توقفكم الأنباء المرجفة فتراوحون مكانكم لا تتقدمون ولا تؤثرون، واعتصموا بحبل الله، وثقوا بنصر الإله،}وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[101]{ 'سورة آل عمران'.(/3)
واجعلوا هذه الأراجيف خلف ظهوركم؛ فإنما هي من جند الشيطان.. }إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[175]{ 'سورة آل عمران' . فهو يخوفنا برجاله تارة، وبكلماتهم تارة، وبتيئيسنا تارة، والله وحده حسبنا وناصرنا وكافينا، فنعم المولى ونعم النصير .
من رسالة:' المرجفون' تأليف / أحمد بن ناصر الخطاف(/4)
المرض يكفر السيئات ويرفع الدرجاتة
أكتب لكم لا لأسأل عن مشكلتي؛ وإنما عن مشكلة أختي، والتي تبلغ من العمر 19 عاماً، أصابها مرض السرطان، والحمد لله رب العالمين كان من النوع الذي فيه أمل كبير بالشفاء، ولكن باستخدام العلاج الكيماوي.
وعندما بدأنا بعلاج أختي فأخذت الجلسة الأولى والثانية، والحمد لله هناك تقدم ملحوظ من حيث اختفاء أعراض المرض، ولكن المشكلة تكمن في أختي التي انهارت معنوياتها تماماً، وترفض تناول الطعام، مما أدى إلى تدهور صحتها، كما أن إيمانها ضعف فهي يائسة بشكل كبير.
وتسيطر عليها وساوس الشيطان، لذا لم تعد تصلي ولا تتكلم، وحتى عندما نذكرها بذكر الله لا تستجيب، ما تفعله بنفسها هو انتحار، نحن أسرة ملتزمة والحمد لله، من الأم والأب إلى الأخوات، جميعنا نشعر بالعجز بعد أن جربنا كل الوسائل، الأطباء عاجزون أيضاً ومتعجبين لما وصلت إليه حالتها، وجميعنا موقنين بأن مرد كل ذلك إلى ضعف إيمانها.
فأفيدونا نرجوكم فالمسألة أصبحت مسألة حياة أو موت، فالوالدة لم تترك شيئاً؛ فهي ترقيها وتقرأ عليها، ونحن نقرأ لها الكثير من الكتب المفيدة التي تتحدث عن الإيمان والصبر والقضاء والقدر، ورغم ذلك لا تقدم، إيمانها يضعف، وصحتها تتدهور لرفضها تناول الطعام والشراب.
أرجوكم أفيدونا كيف بإمكاننا تقوية إيمانها، وطرد وساوس الشيطان عنها، وتقوية عزيمتها فنحن عجزنا ولا نملك سوى الدعاء لها الآن.
يقول الشيخ سمير حشيش :
الأخت الفاضلة/ أم أمل
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
ذكرت أنكم بدأتم بعرض أختك على الأطباء، ثم ذكرت أن الأطباء عجزوا عن حالتها، وأنتم الآن تقرءون لها الرقى الشرعية وتذكرونها بالإيمان بقضاء الله وقدره وبالصبر وبمنزلة الصابرين، ثم تسألين عن كيفية تقوية إيمانها، وأقول بداية:
أختي الكريمة، إن لم يكن للإنسان نفسه رغبة في الهدى فلن يهتدي مهما صنع الناس من أجله، وليس بإمكان أحد أن يرد أحدا للإيمان الصادق إلا أن يساعده على ذلك عزم صاحبه ورغبته في الخير، يقول تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين} (القصص: 56).
وأنا يا أختي الفاضلة لا أقول هذا تقنيطا لك من رحمة الله عز وجل؛ أو لأضيق عليك واسعا، أو لأقعدك عن عمل واجب مع أختك. حاشا لله، إنما قلته تهوينا عليك؛ وحتى تأخذي بالأسباب التي يسرها الله لك ما استطعت إلى ذلك سبيلا؛ بقلب المؤمن الواثق أن كل شيء في هذه الحياة إنما هو من قدر الله وقضائه.
فإن أتت أسبابك بنتيجة فبها ونعمت وهي من فضل الله تعالى، وإلا فإن الله لن يحاسبك إلا على ما قدمته من أسباب، أما النتائج فهي بيده سبحانه إن شاء يسرها وإن شاء منعها، وكل فعله تعالى عن حكمة وتدبير، {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} (216 - البقرة).
فطيبي نفسا أيتها الأخت الكريمة، و استمري مع أختك فيما أنت عليه الآن من الاستعانة بالدعاء، وتلاوة القرآن، وتذكيرها بالله تعالى، وبأحوال الصالحين السابقين، وأنبياء الله الذين صبروا على المرض طويلا وعلى رأسهم أيوب عليه السلام. ولتتمثل بدعائه الذي ذكره الله لنا: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين* فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر...} (83،84- الأنبياء).
وأهم شيء يا أختي الكريمة إضافة لما سبق هو ألا تيأسي من المحاولة مع الأطباء، فان لم يستطع طبيب استطاع آخر. ولتبحثوا عن طبيب ثقة له سمعة طيبة في مجال العلاج النفسي فتعرضوها عليه؛ فهي في حاجة شديدة لطبيب نفسي مع العلاج العضوي.
أسأل الله أن يشفي أختك من مرضها وأن يشفي أمراض المسلمين، وأن يهديها للحق ولما يحب ويرضى، وأن يجعل عملك هذا في ميزان حسناتك.
و يضيف الأستاذ مسعود صبري:
الأخت الفاضلة أم أمل
أمهد للإجابة على سؤالك بنقطتين:
الأولى: أشكرك على الاهتمام بأختك، فهذه من العرى الوثقى التي يثيب الله تعالى، فكما قال صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "، سواء أكان نفعا في الدنيا ، أو عملا من أعمال الطاعة يرجى به ثواب الآخرة .
الثانية: اسم ابنتك "أمل"، أجعله خيطا نبدأ به، فنحن لا نستطيع أن نعيش دون أمل، فلولاه ما استطعنا أن نعيش على دنيانا، وكما أخبر الله تعالى على لسان يعقوب حين قال لبنيه:{ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}(يوسف:87)، فيجب أن يكون عندكم أمل .
أما عن مشكلة أختك، فأوجز قائلا:
الإنسان يتكون من روح وجسد، فمن الخطأ حين نعالج مرض البدن أن ننسى علاج الروح، فعلاج الجسد بلا اهتمام بالروح ضرب من الخطأ له آثاره السيئة، فابتلاء الأخت بالسرطان لا يعني نهاية الدنيا، وأحسب أنكم بعد فترة انهزمتم نفسيا، فأنتم في مقام المعالج، وعلى المعالج دائما أن يكون في مرتبة أعلى من المريض.(/1)
فليست أختكم هي أول من يبتلى بهذا المرض ولا آخره، كما أنه كم ممن ابتلى عافاهم الله تعالى، وكم من الحالات هي أكبر من حالات أختكم بكثير. فحين يشعر المريض أنه ليس وحده في هذا الهم والبلاء، وأن له شركاء فيه، وأن منهم من هم أعلى منه، ومنهم من عوفي منه، فيبث في نفسه روح الأمل والتفاؤل.
والابتلاء دليل على محبة الله تعالى ، كما جاء في الحديث :" إذا أحب الله عبدا ابتلاه"، وفي حديث آخر: "يبتلى الناس على قدر إيمانهم ...." الحديث. وهذا يعني أن أختكم تقدر تماما على الصبر على هذا البلاء، لأن الله تعالى ما كان يبتليها، إلا وهو يعلم أنها تمتلك أدوات الصبر الذي يؤدي للنجاح.
وحين يسقط الإنسان نفسيا، فقد خلع عن نفسه أهم سلاح له في المعركة مع المرض، فكم من جسد عليل ما أثر في حياة صاحبه، إذ كان صاحب همة تحيي أمة، فيتهاوى الضعف الجسدي أمام الصحة النفسية. بل أزعم أن قوة النفس تقاوم مرض البدن، أو على الأقل يحد من شره على الإنسان، وربما مع شيء من المجاهدة يصل إلى بر الأمان، فيهبه الله تعالى الصحة والعافية.
ولا يجب أن ننظر دائما على أن الابتلاء شر، فقد يكون الخير في حالة أختك أن تبقى مريضا، والله تعالى هو الحكيم بما يبتلي به العباد، فسبحانه "يعلم السر وأخفى"، كما أنه سبحانه منزه عن كل نقص، كما قال تعالى:{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}(المؤمنون:115-116).
فالمرض تكفير للسيئات، ورفع للدرجات، وهو ابتلاء للإيمان قبل أن يكون ابتلاء للمرض، لأنه من الله، ومادام من الله يجب قبوله بسعة صدر، وصبر جميل، لأنه منه، ونحن له، فله أن يفعل فينا ما يشاء، وعلينا أن نتقبل ذلك برضا كامل.
كما أن المرض شيء فطري في الإنسان، يعني ليس هناك إنسان في الدنيا لا يمرض، ولا علاقة لهذا بالدين، فهل النصارى لا يمرضون؟ وهل اليهود لا يمرضون؟ وهل المجوس لا يمرضون؟ إننا يجب علينا أن نوسع مداركنا في التفكير، ومادام المرض لسنا سببا فيه من التلوث أو غيره من الأسباب التي تؤدي إليه، وجاء رغما عنا، فهذا شيء إنساني، فليس المرض حكرا على دولة دون أخرى، أو قارة دون أخرى، وإن تفاوتت نسبه، والتفاوت يعود إلى الإنسان ذاته، ولكن مادام الإنسان إنسانا، فهو قابل لأن يمرض، وهذا يعني أن نخفف عن أنفسنا، وأن نفهم الشيء في إطاره الذي يفهمه جميع الناس.
فهذه أشياء يجب تتناقشوا معها، لأن هذا ربما خفف عنها ما هي فيه من الألم، ويا حبذا لو ضربتم لها أمثلة أناس ابتلوا بمثل ما ابتليت، وعافاهم الله، لنبث فيها روح الأمل والتفاؤل وحسن الظن بالله تعالى، كما قال تعالى في الحديث القدسي فيما يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم :"أنا عند حسن ظن عبدي بي".
وأحسب أن عليكم بعض الأدوار الهامة في ذلك الإطار، من أهمها:
* أن يأخذ المرض مساحته الطبيعية في حياتها، فالمرض هو شيء عارض يتعلق بجزء من الجسد، فلا هو في كل الجسد، ولا هو يعني تعطل كل الحياة.
* أن تساعدوها على أن تعيش حياتها، مثل الخروج للتنزه أو صلة الرحم، أو غيرها من الأنشطة الاجتماعية التي تجعلها تعيش حياتها مع مجتمعها المحيط بها.
* أن تقترحوا لها بعض الأشرطة أو الاسطوانات التي تتحدث عن البلاء والحكمة من ورائه، وكيف يواجه الإنسان هذا إيمانيا، وأقترح عليكم شرائط الشيخ علي القرني من علماء السعودية، والأستاذ عمرو خالد.
* يا حبذا لو تلتزم الأخت الفاضلة مع بعض الأخوات في مسجد، فتحضر دروس العلم، والصلوات في جماعة، والاشتراك في بعض الأنشطة الاجتماعية.
* الاهتمام بالنظام الغذائي لها، حيث إنه حسب ما ورد في الرسالة أنه تسبب في تدهور حالتها.
* اقتناء بعض الكتب التي تحكي عن قصص المرضى وموقف الصالحين القدامى من المرض، وكيف قابلوا ابتلاء الله؟ وكيف أكرمهم الله تعالى.
* الدعاء لها أن يصبرها الله تعالى، فكم من الأمور تتغير بدعاء من قلب صادق، ولكنا دائما نرى الظواهر دون البواطن، وأن تكثر أختكم في الدعاء لله تعالى أن يرفع عنها البلاء.
خفف الله تعالى عن أختك، وتابعينا بأخبارك وأخبارها لنطمئن عليكما...(/2)
المرض.. وقفات إيمانية
وبشر الصابرين
ينظر كثير من الناس إلى المرض نظرة قاصرة، فيراه البعض دليلاً على غضب الله، ويراه آخرون انتقاماً من هذا المريض، والحق أن المرض ابتلاء من الله عز وجل للإنسان المسلم، لينظر أيصبر على قدر الله ويرضى به، فيرضى الله عنه، ويكتب له الأجر في الدنيا والفوز في الآخرة؟ أم يجزع وييأس ويقنط من رحمة الله فيخسر ثواب الدنيا، ويفوته رضا مولاه في الآخرة؟
فمن فضل الله علينا أن ديننا لم يترك لنا شيئا إلا وحدثنا عنه أو أعطانا مفاتيح العلم به، وكثيرا ما نخطئ في أمور كثيرة حين ننظر إلى الأسباب المادية المحسوسة ونحتكم إليها دونما أن نحتكم للمعايير الإيمانية التي هي أقوى سلاح في يد المسلم، فمن صميم عقيدتنا أن الدواء لا يشفي والطبيب لا يشفي.
ولكن الشافي الحقيقي الذي بيده الشفاء هو الله تبارك وتعالى، وما الطبيب والدواء إلا مجرد أسباب نأخذ بها، أمرنا بها رسولنا الكريم، ونحن مسئولون أمام الله عن تركها، أما النتيجة الحقيقة فهي بيد الله تعالى.
أرحم بنا منا
لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي أنزل الداء -أي المرض- هو الله جل وعلا. ومَنْ هو الله؟ إنه الرحمن بعباده، الرحيم بالضعفاء سبحانه وتعالى، وهو لا يريد العذاب لعباده سبحانه.
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من السبايا ملصقة ولدها ببطنها فقال لأصحابه: "أرأيتم هذه مضيعة ولدها؟" قالوا لا يا رسول الله فقال: "لَلَّهُ أرحمُ بعبده من هذه على ولدها"!!
أرأيت أخي المسلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من الأم على ولدها؛ لذلك أبشر يا من ابتليت فسوف تجد من رحمة الله وعدله ما يرضيك، فإنما أنزل بك هذا المرض ليُقربَك لا ليعذبك، أصابك به ليطهرك ويصطفيك، لا ليبعدك ويقليك، ولك في أنبياء الله وأصفيائه قدوة حسنة فهم أشد الناس بلاء.
لقد أخبرتنا السنة النبوية بأن لكل داءٍ دواء، ولكل مرض شفاء، ولا يوجد على وجه الأرض مرض ظهر قديما أو حديثا، إلا وله علاج ودواء بصريح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
فربما يقول المريض قد أصابني المرض فرضيت وسلمت لأمر الله تعالى، وعلمت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وإخبارَه فيها بأن لكل مرض علاجا وشفاء ففرحت واستبشرت، ولكني حزين لِمَا أصابني من أمراض؛ لأن هذا معناه أن الله تعالى غاضب مني، ولا يحبني وأنني هيِّن على الله تعالى، فلذلك أقعدني بالمرض وأذلني بالداء حتى صرت أشعر بالحرج بين الناس حين يرونني طريحَ الفراش أو يسمعون بما أصابني من أوجاع، فلعلهم يشمتون فيَّ ويتكلمون عليَّ.
فلتطرح أيها المبتلى هذه الوسوسة الشيطانية بعيدا، فقد أراد الشيطان أن يوقع بينك وبين ربك جل وعلا، وأن يعميك عن الحكمة من هذا البلاء، يقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن رب العالمين: "إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم... مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال تعالى: "أما علمْتَ أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عُدْتَه لوجدتني عنده..."[رواه مسلم].
فلاحظ فيها أن الله تعالى قد شرفك تشريفاً عظيماً حينما جعلك حال مرضك كأنه هو سبحانه المريض فهذا تشريف ومواساة لك، وتأَمَّلْ أيضا قوله تعالى: "لو عدته لوجدتني عنده" تجد أن الله سبحانه يرفع من شأنك حال مرضك، ويعلم من يزورك أنه سيجد عندك المولى الجليل سبحانه وتعالى، وما ذاك الشرف والفضل لك إلا لأنك مريض، إذن من أراد أن يزور الله رب العالمين في الدنيا فليسرع لزيارتك أيها المريض.
البلاء عنوان المحبة
ومن لطف الله عز وجل ورحمته أنه لا يغلق بابا من أبواب الخير إلا فتح لصاحبه أبوابا. فعلاوة على ما يكتب للمرضى من الأجر جزاء ما أصابهم من شدة ومرض وصبرهم عليه، لا يحرمهم ثواب ما اعتادوا فعله من الطاعات؛ إذا قصروا عنها بسبب المرض.
فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما" [رواه البخاري]، فأي كرم بعد هذا الكرم، وأي فضل أوسع من فضل الكريم المتعال؟
إن البلاء عنوان المحبة.. عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط" [رواه الترمذي]. وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبده خيرا عجل له العقوبة في الدنيا" [رواه الترمذي].
ومن تأمل سير الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام -وهم من أحب الخلق إلى الله- وجدهم قد واجهوا الكثير من البلاء والشدة والمرض.(/1)
يقول تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155- 157]. الله أكبر.. أي فضل بعد صلوات الرب ورحمته وهداه؟.
وعندما دخل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- على الرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، قال: يا رسول الله إنك توعك وعكا شديدا، قال صلى الله عليه وسلم: "أجل، إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم.." [متفق عليه]، وسأله سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: أي الناس أشد بلاء؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسن دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، وما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة" [رواه الترمذي].
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقارض" [رواه الترمذي].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة" [رواه الترمذي].
وأتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله تعالى لي، فقال: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك"، فقالت: أصبر.. [متفق عليه].
لكل داء دواء
أيها المبتلى.. لعل لك عند الله تعالى منزلة لا تبلغها بعملك، فما يزال الله تعالى يبتليك بحكمته بما تكره ويصبرك على ما ابتلاك به، حتى تبلغ تلك المنزلة..فلم الحزن إذا؟!
يكفر الذنوب
لما نزل قول الملك تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} اشتد ذلك على الصحابة –ومعنى ذلك أن على كل سيئة عقاب– حتى قال الصديق كيف الصلاح بعد هذه الآية يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم موضحا لفضل المرض وفائدته: "غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَمْرضُ؟ أَلسْتَ تَنْصَبُ أَلَسْتَ؟ تَحْزَنُ؟ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللأْوَاءُ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَهُوَ مَا تُجْزَوْنَ بِهِ"[رواه أحمد]، فقد بين صلى الله عليه وسلم أن المرض من الأسباب التي يمحو الله بها السوء والسيئات.
ويقول صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه" [رواه البخاري].
فإذا كانت الشوكة وهي أدنى أنواع المرض تكفر الخطايا فمن باب أولى كل مرض فوقها يكفر الخطايا، وهذا مسلك الشرع الحنيف إذا نبه على الأدنى فهو تنبيه على الأعلى من باب أولى.
ولا بد للعسر من يسر، فقد قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5-6]. وهذه سنة الله تعالى في خلقه.. ما جعل عسرا إلا جعل بعده يسرا، والأمراض مهما طالت وعظمت لا بد لأيامها أن تنتهي، ولا بد لساعاتها- بإذن الله- أن تنجلي يقول الشاعر:
ولرب نازلةٍ يضيق بها الفتى ... *** ... ذرعا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ... *** ... فرجت وكان يظنها لا تفرج
قال وهب بن منبه –رحمه الله-: لا يكون الرجل فقيها كامل الفقه حتى يعد البلاء نعمة ويعد الرخاء مصيبة، وذلك أن صاحب البلاء ينتظر الرخاء وصاحب الرخاء ينتظر البلاء.
عجِّل التوبة
لا يقدر نعم الله تعالى إلا من فقدها، وكأني بك أيها المريض، وقد أنهك المرض جسدك، وأذهب السقم فرحك، أدركت قوله صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ" [رواه البخاري].
فالصحة من أَجَلِّ النعم التي أنعم الله تعالى بها علينا، لا يقدرها إلا المرضى، وهكذا فكم من النعم قد غفلنا عنها، وكم من النعم قد قصرنا بواجب شكرها، وأجلّ تلك النعم وأعظمها نعمة الإيمان والهداية، فكم من الناس قد غبنها، فلم يقوموا بواجب شكرها، وتكاسلوا عن الاستقامة عليها.
وحين تلوح لك بوادر الشفاء.. وتسعد ببدء زوال البلاء، فلتقدر لهذه النعم قدرها، ولتعرف فضل وكرم منعمها، وتدبر حالك عند فقدها أو نقصها، فأعلن بذلك توبة نصوحا من تقصيرك في شكر كل نعمة، وتفريطك في استعمالها فيما يرضي ذا الفضل والمنة.
بل اجعل توبتك الآن.. نعم الآن عل هذه التوبة أن تكون سببا في رفع ما أنت فيه من كربة، ودفع ما تعانيه من شدة، قال سيدنا علي- رضي الله عنه-: "ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة.. وإن لم يكتب لك من مرضك شفاء، فنعم ما يختم العمر به توبة صادقة".
الرضا والتفاؤل(/2)
من ينظر إلى نعيم الآخرة يهون عليه عذاب الدنيا، ومن يعلم أن الله يحبه وهو أقرب ما يكون منه حال مرضه لن ييأس أو يحزن أبداً، وفي ذلك علاج ودواء؛ لأن الحزن واليأس يُزيدان المرض ويجعلان مقاومة الجسم للأمراض تقل بل تنهار وتنهزم عن مقاومة المرض، وهذا ما أثبته الطب حديثا.
وهناك بعض الأطباء- سامحهم الله- ينفرون المريض من الشفاء وييئسونه تماما، وهذا خطأ فادح يقعون فيه ومخالف تماما لهدي رسولنا صلى الله عليه وسلم حيث قال: "بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا".
فالبشر مدعاة لجلب الفرج، فكم من مريض استطاع مواجهة أفدح الأمراض بوجه بش ونفس مطمئنة، وكم من مريض خارت قواه لحزنه ويأسه ربما من مجرد الشك أو الوسوسة وخوف الهلاك، أو تقرير متسرع من طبيب غير ماهر.
ولا بد أن نعلم أن عقيدتنا كمسلمين في المرض مختلفة عن نظرة الآخرين له، حيث إنه يشيع في بلاد الشرق والغرب أن هناك أمراضا لا شفاء لها، وهذا ما يخالف عقيدتنا؛ لأن رسولنا صلى الله عليه وسلم قال:"... فإن الله تعالى لم يضع داءً إلا وضع له دواءً..." [رواه الحاكم]وصدق من قال:
لكل داءٍ دواءٌ يُسْتَطَبُّ بِه ... *** ... إلا الحماقةَ أعْيَتْ مَنْ يُداوِيهَا
فلا بد للمسلم أن يستبشر في كل أحواله، معلنا رضاه بقسمة مولاه، متخذا من بلائه مطية لبلوغ مرماه، فعجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا، وإن أصابته ضراء فصبر فكان خيرًا، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حال المؤمن الصابر الراضي بقضاء الله تعالى. وقديما قال الشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة في معلقته:
فاقنعْ بما كتَبَ المَليكُ فإنّما ... *** ... قَسَمَ الخلائقَ بيننا علاّمُ(/3)
المرونة والتكييف في الأحكام الإسلامية
بقلم : الأستاذ خير رمضان يوسف
وردت في الشريعة قواعد ومبادئ عامة، تتضمن أحكامًا عامة يمكن بسهولة ويسر تطبيقها في كل مكان وزمان . وقد صيغت بكيفية تمكنها من سهولة هذا التطبيق ويسره . كما أن معناها الحق لايمكن أن يتخلف عن أي مستوى عال يبلغه أي مجتمع . ومن ثم يتسع لكل مصلحة حقيقية جديدة للناس . كما أن هذه القواعد والمبادئ تعتبر كالأساس لما يقوم عليها من أحكام جزئية ، ولما يتفرع عنها من فروع(1) . وهو مايثبت لنا إيجابية الأحكام الشرعية وتكييفها للمجتمعات مطلقًا .
ونذكر بعض هذه القواعد في إطار إعلامي :
أولاً : مبدأ الشورى :
وهو مبدأ ثابت وقاعدة كلية لاتتبدل ولاتتغير. وهذه القاعدة يجب العمل بها في كل زمان ومكان، ولكن وسائل تطبيق قاعدة الشورى متروك للزمن والحياة .. فتطبيق قاعدة الشورى في مجلس استشاري يضمّ النخبة من أهل الاختصاص والرأي، أو في مجلس انتخابي ينتخبه الشعب ، أو انتقاء مجالس وزارية من أهل الخبرة والمشورة ، أو انتخاب مجالس محلية لكل مقاطعة أو بلد .. فهذا كله متروك للأصلح من تجارب البشرية .
فمقصد الشريعة الأول تطبيق قاعدة الشورى، فليكن التطبيق بأية وسيلة كانت ، وبأية صورة أو هيئة ارتآها أهل الحل والعقد ، مادامت الدولة بمسؤولها الأول ، ووزرائها، ورجال الحكم فيها، تحقق قاعدة الشورى ، وتقوم على تنفيذ مبدأ ?وَأَمْرُهُمْ شُوْراى بَيْنَهُمْ?(2).
وترجع أهمية الشورى إلى أنها تؤلف قلوب الجماعة ، وهي مسار العقول وسبب إلى الصواب ، والشورى هي الطريق الصحيح لمعرفة أصوب الآراء والوصول إلى الحقيقة وجلاء الأمر ، وهي أثر طبيعي لاحترام العقل ، كما أنها من مقتضي تكريم الله للإنسان ، وهي مظهر من مظاهر المساواة وحرية الرأي والنقد والاعتراف بشخصية الفرد . والشورى تربية للفرد على أداء وظيفته الاجتماعية عن طريق تهيئة الفرصة له لأن يبرز في المجتمع فيربي ملكاته وينمي قدراته حتى يكون أهلاً للمشورة ، وهذا يدعوه إلى الاستزادة من العلم والمعرفة ، وذلك أن انفراد شخص بالرأي في أمر عام يتعلق بالجميع ودون اعتبار للآخرين فيه ظلم وإجحاف ، وهو يتضمن نوعًا من تعظيم النفس واحتقار الرأي العام . والشورى سبيل لمعرفة الرأي الصائب عن طريق مناقشة الآراء وظهور أفضلها ، وهي سبب لقلة الخطأ ، وبها يستفاد من جهود الآخرين وخبراتهم ، وهي عصمة لولي الأمر من الإقدام على أمور تضرّ الأمة ولايشعر هو بضررها ، وهي تذكير للأمة بأنها صاحبة السلطان ، وتذكير لرئيس الدولة بأنه وكيل عنها في مباشرة السلطان(3).
والإعلام في المجتمع الإسلامي، مسؤول عن إشاعة مناخ الشورى وروح الحوار البناء والمناقشة الإيجابية ، إسهامًا منه في الوصول إلى أحكم القرارات . وللجماعة المسلمة حق إلزام الفرد المسلم والجماعة لسلطان الشورى والإجماع ، فوسائل الإعلام في المجتمع الإسلامي الحديث تستطيع أن تربّي في المجتمع روح المشاورة ، وتصونها وتحميها وتغار عليها وتنتقد من يستخف بها أو يحيف عليها.
فمن واجب الإعلام تيسير عمل الشورى وسريانها في جميع شرايين المجتمع ومختلف أرجائه ، وعليه أن يتأكد من إجراء المناصحة وتبادل الآراء ، مع إفساح صفحات الجرائد والمجلات ، وبرامج الإذاعات المسموعة والمرئية ، ومنابر الجمعيات ، لكي يتسع مجال الحوار والمناقشة تحقيقًا لمبدأ الشورى .
فالإعلام الإسلامي بذلك يتيح الفرصة لإجتماع آراء المؤمنين وأفكارهم وتنقيحها وتصنيفها ، وبذاك يسمو الفكر وتترقى العقول وتتفاعل الآراء ، ويخف حجاب الغفلة ، وتشحذ الأذهان وتتحاور العقول ، وتتلاقح الآراء فتنضج ويتبين الصواب ، ويتضح سبيل الحق . والإعلام بذلك يشيع روح التعاون والتناصح والمحبة ، ويؤلف بين القلوب ، ويشعر الجميع بأن مصلحتهم واحدة، فتتنبه الأذهان للأفكار الصالحة ، والتصرفات الموافقة للشريعة ، مما يؤدي إلى إتخاذ أصوب الأفكار المبنية على أفضل الآراء وأحكمها ، وهكذا يتكون الرأي العام الإسلامي على أساس الشورى ومن خلالها .
وفي كل ذلك يتخذ الإعلام ضوابطه من قيم الإسلام الأصيلة وأساليبه الرفيعة وأهدافه السامية ووسائله الشريفة ، وكلها تصدر عن الدين وتذكّر بحقائقه ، وتؤكد ضرورة السعي لتحقيق مقاصده ، مع التصدي لأعداء الدين وردّ مكائدهم وإيضاح الحقائق لتصل إلى جميع الآذان البشرية في عرض شائق جذاب تتوافر له عناصر القوة والموضوعية والسداد ، مع حرص على الوضوح والعمق والإقناع والبعد عن الإملال ، وبذلك يتحقق مناخ الشورى المؤدي إلى سلامة الرأي وعمومة(4).
ثانيًا : العدالية والمساواة :
وهذه أيضًا قاعدة كلية ومبدأ من مبادئ الإسلام يجب العمل به .. ووسائل تطبيقها متروكة لتغير الأزمان والأحوال ، إذ المهم هو تطبيقها بأية صورة يراها مجلس الشورى أو أهل الحل والعقد استلهامًا من أحكام الإسلام. قال تعالى :(/1)
?وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أنْ تَحْكُمُوْا بِالْعَدْلِ?(5).
وللمساواة "مظاهر كثيرة في جميع جوانب التشريع الإسلامي ، منها المساواة أمام القانون ، وفي تطبيق الأحكام ، وفي المراكز القانونية إذا ما تساوى الأشخاص في الشروط التي يشترطها التشريع الإسلامي ، ومساواة في التكاليف إذا تساوى الأفراد في أسبابها الموجبة..."(6).
والعدالة في الإسلام مبدأ بارز ، يظهر هذا البروز في الأمر بها والحكم بين الناس بموجبها ، والالتزام بمقتضاها بالنسبة للقريب والبعيد ، والعدو والصديق ، وفي المحكمة وفي السوق ، وإدارة كل شؤون الدولة وفي البيت وحتى فيما يعطيه الأب لأولاده أن روح العدل وجوهره إعطاء كل ذي حق حقه واستعمال كل شيء في موضعه . وهذا المعنى الواسع للعدل يحكم جميع تصرفات الإنسان وعلاقاته بغيره ووجباته نحو غيره من بني الإنسان(7).
والمهم فيما نذكره هنا هو الاستفادة من هذا المبدأ إعلاميًا ، وجعله نبراسًا لكل الدعاة والإعلاميين؛ ليتسلحوا به ويعرّفوا جوانبه والأصول التطبيقية له ..
وما أوسع هذا الجانب الذي من الممكن أن تسخر له الوسائل الإعلامية ، وتعطي مردودًا حسنًا وثمرات طيبة إن شاء الله .. وذلك بالصور التالية:
(أ) الإعلام والتأليف والترجمة في هذا المبدأ ، سواء عن طريق المؤتمرات أو مراكز البحوث ، وتقديمها إلى المحاكم الدولية وتوزيعها على المفكرين والقانونيين في العالم ، لبيان مايحمله هذه التشريع من جانب فريد لايعتمد على الأمر المحسوس فقط ، بل فيه عنصر الخشية من الله ، الذي يعتبر سرّ العدالة في الإسلام .
(ب) تقديم صور من عدالة الإسلام وسماحته في شكل قصص للأطفال ، لتربيتهم وتنشئتهم على حبّ هذا المبدأ والتحلّي به .
(ج) استخلاص هذا المبدأ من السيرة العطرة للرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم ، ومن سيرة الخلفاء الراشدين ، وبخاصة عمر بن الخطاب ، ثم حفيده عمر بن عبد العزيز ، وتقديمه بأساليب شتى ، مما يوافق الشريعة ، للتربية والتعليم والتثقيف.
(د) يحفل التأريخ بأخبار أمراء وقضاة وعلماء كانت لهم مواقف بطولية نادرة ، في قول كلمة الحق والقضاء به .. دون خوف من ظالم أو محاباة لقريب .. وقد يكون من النافع هنا الإشارة إلى جعل هذه القصص الواقعية مسلسلات أو أفلامًا تسجل وتصور بأسلوب مشوق وإخراج جميل ، ثم توزيعها في شرائط .. ويشترط أن تكون هذه المسلسلات حائزة على موافقة الجهة الشرعية المسؤولة .
هذا بشكل عام .
ومن الناحية الإخبارية ، أي استخدام مبدأ العدل في الإعلام ، يحدثنا الدكتور "إبراهيم إمام" عن ذلك فيقول:
هو أعلام يلتزم بالعدل والميزان بالقسط مهما كانت الظروف والأحوال ، فلا ينحاز إلى شخص أو إلى طبقة أو إلى جنس أو إلى قومية أو إلى منفعة مادية : ?يَا أَيُّهَا الَّذِيْن آمَنُوْا كُوْنُوْا قَوَّامِيْنَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أنْفُسِكُمْ أوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِيْنَ ، إنْ يَكُنْ غَنِيًا أوْ فَقِيْرًا فَاللهُ أوْلاى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوْا الْهَواى أنْ تَعْدِلُوْا وَإنْ تَلْوُوْا أو تُعْرِضُوْا فَإنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُوْنَ خَبِيْرًا?(8).
فالمعيار الإسلامي عند النقد والتعليق والتوجيه هو الحق الذي أراده الله تعالى ، ولايمكن الوقوف إلى جانب الأغنياء لأنهم أغنياء كما يحدث في الدول الرأسمالية ، أو إلى جانب الفقراء والدهماء من الطبقة الكادحة كما تزعم الدول الشيوعية ، ذلك لأن الإعلام الإسلامي يشتق معاييره وقيمه من العقيدة الإسلامية ، وهو يتحرى الصواب ويبتعد عن التعصب وينأى عن التحيّز للمال أو الجاه أو العرق أو القومية .
وحتى إذا تناول قضايا الخصوم والأعداء فإنه يكون عادلاً منصفًا ، لقوله تعالى : ?يَا أيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا كُوْنُوْا قَوَّامِيْنَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ، وَلاَيَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى ألاَّ تَعْدِلُوْا اِعْدلُوْا هُوَ أقْرَبُ لِلتَّقْواى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيْرٌ بِمَا تَعْمَلُوْنَ?(9).
وهكذا يصبح ضمير الإعلامي المسلم وثقافته الأصيلة وروحه الأمينة دافعًا له على قول الحق مهما كانت الإغراءات المالية أو السياسية أو الضغوط الاجتماعية ، فرقابة الضمير هي التي تحقق نجاح الإعلام ، حيث أخفقت جميع صنوف الرقابة الإدارية والمجالس الصحفية والإعلامية ولجان تقصي الحقائق . فبالرغم من هذه الإجراءات والمؤسسات لم يتحسن موقف الإعلام الغربي السادر في إثارته للغرائز ، والمتردي في نشر أخبار الجريمة والعنف بأساليب تهدد بسلامة المجتمع ، فقيم الإسلام النابعة من الإيمان بالله الواحد القهار هي أقوى الدعامات التي ينبني عليها الإعلام الإسلامي الصحيح(10).
ثالثًا : لاضرر ولاضرار :(/2)
ومما يدلّ على عطاء هذه الشريعة وتجددها المستمر على مدى الزمان والأيام ، أنها أتت بقواعد تشريعية ميسرة مستنبطة من استقراء النصوص وأسباب النزول ووقائع الأحداث ومقاصد الشريعة، مثل قاعدة "لاضرر ولاضرار" وهي حديث نبوي ، ومعناها أن الضرر مرفوع بحكم الشريعة ، أي لايجوز لأحد إيقاع الضرر بنفسه أو بغيره ، و"الضرر لايزال بالضرر" لأنه عبث وإفساد لامعنى له .. وهكذا تتوالى القواعد الحكمية في هذا الجانب:
"الضرر يزال" .
"يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام".
"الضرورات تبيح المحظورات" .
"ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها" .
"درء المفسدة يقدم على جلب المصلحة" .
وهناك فروع وأحكام كثيرة بنيت على هذه القاعدة . منها تقرير حق الشفعة ، ومنع التعسف في استعمال الحق ، وحق السلطة في اتخاذ الإجراءات الوقائية لمنع الضرر عن الناس ، كحجر المرضى والقادمين إلى البلاد في محاجر خاصة ، والتسعير في ظروف معينة ... الخ(11).
والإعلام واحد من الجوانب التي تنسحب عليه هذه الفروع والأحكام، بكل ماتحمله من معنى وإرشادات وتصويبات . بل ما أحوج الإعلام اليوم للالتزام بهذه القواعد ، حتى لايظل متخبطاً في جاهليته وظلامه . فلايجوز – مثلاً – تقديم أية مادة إعلامية فيها ضرر بالأمة ، ولا يجوز الكشف عن أية عورة للبلاد وثغورها ومحمياتها وأسرارها العسكرية إلا بإذن من الجهات الرسمية ، لئلا يلحق ضررًا بالبلاد ويدل الأعداء على المخابئ والأسرار!
كما لا يجوز إنتاج الأفلام الخليعة وعرض التمثيليات والمسلسلات الماجنة ، وتقديم البرامج أو المنوعات التي تركز على الموسيقي والغناء مما له أثر في أخلاق المستقبلين وسلوكهم . وإذا وجد أي نوع مما يخالف السياسة الإعلامية في نظام الإسلام ، فإنه يزال حسب القاعدة السابقة .
وبشكل عام ، فإننا نصل إلى أن المرونة والحيوية التي تتصف بها الشريعة الإسلامية حتى في قواعدها الثابتة ، ينعكس أمرها على الإعلام الإسلامي بشكل إيجابي ملموس ، ويجعل من الأجيال المسلمة المتعاقبة شعلة من النشاط في الدعوة إلى الله ، وبيان أنه نابض بالحياة .. كما هو ناطق بالحق .
________________________________________
(1) أصول الدعوة . عبد الكريم زيدان ، ص 62 .
(2) هذه الدعوة ماطبيعتها ، عبد الله علوان ، ص 36-37 . والآية في سورة الشورى ، رقم 38 .
(3) الرأي العام في الإسلام . محيي الدين عبد الحليم - القاهرة: مكتبة الخانجي ؛ الرياض : دارة الرفاعي ، 1403هـ ، 1982م ، ص 49 . نقلها الكاتب المذكور من كتاب الشورى وأثرها في الديمقراطية لعبد الحميد إسماعيل الأنصاري ص 5-7 .
(4) أصول الإعلام الإسلامي ، إبراهيم إمام ، ص 230-231 .
(5) سورة النساء ، الآية 58 .
(6) أصول الدعوة ، عبد الكريم زيدان ، ص 62 .
(7) المصدر نفسه ، ص 63 .
(8) سورة النساء ، الآية 135 .
(9) سورة المائدة ، الآية 8 .
(10) أصول الإعلام الإسلامي . إبراهيم إمام ، ص 47-48 .
(11) أنظر أصول الدعوة . عبد الكريم زيدان ، ص 63-64. وهذه الدعوة ماطبيعتها . عبد الله علوان ، ص 42 .(/3)
المسائل الفقهية في قيام الليل
المقدمة :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله خص بعض عباده بخير عظيم وعمل كبير، وفتح لهم من أبواب الخير والطاعة ما زكت به قلوبهم، وعزّت نفوسهم، واستنارت صدورهم، وطابت حياتهم وأنسهم ونعيمهم. وبصّرهم بطريق الحق، ويسّر لهم أسباب السعادة، ومنّ عليهم بلذة العبادة ومناجاة الله في أسحارهم وخلواتهم
قومٌ إذا جنّ الظلام عليهم باتوا هنالك سجّداً وقياما
خمصُ البطونِ من التعفف ضمراً لا يعرفون سوى الحلال طعاما
ويقول آخر :
بكى الباكون للرحمن ليلا وباتوا دمعهم لا يسأمونا
بقاع الأرض من شوق إليهم تحن متى إليّ يسجدونا
ويقول ابن المبارك:
إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع(1).
وفي هذا البحث المتواضع سأبدأ بذكر الآيات والأحاديث الواردة في التحريض في قيام الليل، وأذكر بعض أقوال السلف وأفعالهم في قيا م الليل، وهذا من أجل أن ننتفع بأفعالهم وأقوالهم، وأن نتأسى بهم في ذلك .
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح
ثم بعد ذلك أذكر المسائل الفقهية في أحكام قيام الليل، سائلا المولى - عز وجل- التوفيق والسداد والإخلاص في القول والعمل.
أولا: التحريض على قيام الليل :
من القران: قال الله تعالى :?وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً? [الإسراء:79]، وقال تعالى: ? قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ?[المزمل:2]، والخطاب من الله لرسوله- صلى الله عليه وسلم – هو خطاب لأمته إلا إن ورد دليل بالخصوصية، فيختص به دون غيره.
ووصف الله عباد الرحمن، فقال: ? وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ?[الفرقان:64]، وقال
تعالى: ? إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ?[المزمل:20].
قال الإمام النووي – رحمه الله – : نستفيد من هذه الآية أن وجوب صلاة الليل منسوخ في حق هذه الأمة، وهذا مجمع عليه (2).
ومن السنة: عن أبي هريرة – رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- :" أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل"(3).
وعن أبي إدريس الخولاني عَنْ بِلَالٍ – رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:" عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ وَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ وَمَنْهَاةٌ عَنْ الْإِثْمِ وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنْ الْجَسَد"ِ(4).
وجاء هذا الحديث من رواية أبي إدريس الخولاني عن أبي أمامة – رضي الله عنه -(5).
عن أبي الدرداء - رضي الله عنه- يبلغ به النبي - صلى الله عليه و سلم- :" من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم فيصلي من الليل فغلبته عينه حتى يصبح كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه"(6).
عن سالم عن أبيه - رضي الله عنه- قال: كان الرجل في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم- إذا رأى رؤيا فأقصها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم-. وكنت غلاما شابا وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار فإذا هي مطوية(7) كطي البئر وإذا لها قرنان(8) ،وإذا فيها أناس قد عرفتهم فجعلت أقول أعوذ بالله من النار قال: فلقينا ملك آخر قال لي: لم ترع(9) . فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: " نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل ". فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا (10).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما- قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- :" يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل "(11).(/1)
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما- : عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: " استعينوا بطعام السحر على صيام النهار . وبالقيلولة على قيام الليل "(12).
( السحر ): آخر الليل . ( والقيلولة ): الاستراحة نصف النهار .
وقيام الليل سنة. عن عمرة عن عائشة – رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل في حجرته وجدار الحجرة قصير فرأى الناس شخص النبي - صلى الله عليه وسلم- فقام أناس يصلون بصلاته فأصبحوا فتحدثوا بذلك فقام ليلة الثانية فقام معه أناس يصلون بصلاته صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثا حتى إذا كان بعد ذلك جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخرج فلما أصبح ذكر ذلك الناس فقال: إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل "(13).
قال ابن عبد البر – رحمه الله - :(كان في أول الإسلام فريضة حولا كاملا فلما فرضت الصلاة الخمس صار قيام الليل فضيلة بعد فريضة)(14).
ثانياً: ذكر القائمين حتى تورمت أقدامهم :
عن زياد قال سمعت المغيرة - رضي الله عنه - يقول: "إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم- ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه . فيقال له؟ فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا"(15).
وعن امرأة مسروق قالت: كان (أي مسروق ) يصلي حتى ترم قدماه فربما جلست خلفه أبكي مما أراه يصنع بنفسه(16)، وقيل: حج مسروق فما بات ليلة إلا ساجدا(17).
وعن مجاهد قال: لما قيل لمريم ، قال تعالى: ? يا مريم اقنتي لربك ? [آل عمران:43]، قامت حتى ورمت قدَماها (18).
ثالثاً: أفعال السلف وأقوالهم في القيام :
عن عبيد الله قال : كان عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- : إذا هدأت العيون قام فسمعت له دويا كدوي النحل (19).
وكان انس – رضي الله عنه - يصلي حتى تتفطر قدماه مما يطيل القيام – رضي الله عنه-(20).
قال الذهبي:" بلغنا أن معاذة العدوية كانت تحيي الليل عبادة وتقول: عجبت لعين تنام وقد علمت طول الرقاد في القبور "(21) .
وصدق الشاعر حيث قال:
صلاتك نور والعباد رقود ونومك ضد للصلاة عنيد
وعمرك غنم إن عقلت ومهلة يسير ويفنى دائما ويبيد
وقال الربيع: بت في منزل الشافعي- رحمه الله- ليالي كثيرة فلم يكن ينام من الليل إلا يسيرا. وقال أبو الجويرية: لقد صحبت أبا حنيفة - رحمه الله- ستة أشهر فما فيها ليلة وضع جنبه على الأرض، وكان أبو حنيفة يحيي نصف الليل فمر بقوم فقالوا: إن هذا يحيى الليل كله، فقال: إني أستحي أن أوصف بما لا أفعل فكان بعد ذلك يحيى الليل كله(22).
قال على بن الحسن بن شفيق: لم أر أحداً من الناس أقرأ من ابن المبارك، ولا أحسن قراءة ولا أكثر صلاة منه، وكان يصلي الليل كله في السفر وغيره. وقال محمد بن أعين ـ وكان صاحب ابن المبارك في الأسفار، وكان كريماً عليه. قال: ذهب عبد الله ذات ليلة ونحن في غزاة للروم ليضع رأسه ليريني أنه ينام، فوضعت رأسي على الرمح كأني أنام، فظن أني قد نمت، فقام فأخذ في صلاته، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر وأنا أرمقه، فلما طلع الفجر أيقظني وهو يظن أني نائم وقال: يا محمد، فقلت: إني لم أنم، قال: فلما سمعها منى ما رأيته بعد ذلك يكلمني ولا ينبسط إليَّ في شيء من غزاته كلها، كأنه لم يعجبه ذلك مني لما فطنت له من العمل.
وقال إبراهيم الخوَّاص: دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرّع عند السحر، ومجالسة الصالحين(23). وبات مالك بن دينار- رحمه الله- يردد هذه الآية ليلة حتى أصبح: ? أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ? [الجاثية : 21]. وقال المغيرة بن حبيب: رمقت مالك بن دينار فتوضأ بعد العشاء ثم قام إلى مصلاه فقبض على لحيته فخنقته العبرة فجعل يقول: حرم شيبة مالك على النار إلهي قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار فأي الرجلين مالك وأي الدارين دار مالك؟ فلم يزل ذلك قوله حتى طلع الفجر. وقال مالك بن دينار: شهوت ليلة عن وردي ونمت فإذا أنا في المنام بجارية كأحسن ما يكون وفي يدها رقعة فقالت لي: أتحسن تقرأ؟ فقلت: نعم. فدفعت إلى الرقعة فإذا فيها :
أألهتك اللذائذ والأماني عن البيض الأوانس في الجنان
تعيش مخلدا لا موت فيها وتلهو في الجنان مع الحسان
تنبه من منامك إن خيرا من النوم التهجد بالقرآن(24).
وقال الأوزاعي: ( من أطال قيام الليل هون الله عليه وقوف يوم القيامة ) (25) .
وما أجمل قول الشاعر:
وطول قيام الليل أيسر مؤنة وأهون من نار تفور وتلتهب(/2)
قال ثابت البناني - رحمه الله- : (ما شيء أجده في قلبي ألذّ عندي من قيام الليل )،وقال: كابدت الصلاة عشرين سنة ، وتنعمت بها عشرين سنة (26) . وقال سفيان -رحمه الله- : ( إذا جاء الليل فرحت وإذا جاء النهار حزنت)(27)، وقال أبو سليمان الداراني - رحمه الله- : (لأهل الطاعة بليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا)(28) . وقال حمد بن عنان - رحمه الله- : ثبوت الأقدام على الصراط يكون بحسب طول الوقوف بين يدي الله - عز وجل- في قيام الليل، ومزلة الأقدام تكون بحسب تركه القيام في بعض الليالي(29).
وقال الحسن: إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل(30) .وقال الفضيل: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم وقد كثرت خطيئتك. وقال رجل لبعض الحكماء إني لأضعف عن قيام الليل فقال له يا أخي لا تعص الله تعالى ولا تقم بالليل. وكان صلة بن أشيم - رحمه الله- يصلي الليل كله فإذا كان في السحر قال إلهي ليس مثلي يطلب الجنة ولكن أجرني برحمتك من النار(31).
فسبحان من تفضل على عباده بهذا النعيم قبل لقائه فحباهم من الخير والفضل ما فضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، فحازوا أسباب السعادة، واستمسكوا بطريق النجاة،واستعدوا للقاء الله ،وقدموا لأنفسهم، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . قال بعضهم ( مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها ؟ قيل: وما أطيب ما فيها قال محبة الله تعالى ومعرفته وذكره)(32).
وقال آخر: ( إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب) وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -: ( إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة )(33).
والحديث عن هذه المقاصد العظيمة والمطالب العالية المتعلقة بفضل قيام الليل وشأنه في حياة القلوب وعز النفوس وانشراح الصدور ونعيم الأرواح ومجاهدة النفس والهوى ودفع الأعداء أمرٌ يطول ذكره .
وليس القصد من هذا البحث الحديث عن أقوال السلف وأفعالهم، وإنما هي إشارات يسيرة، بها تنشرح الصدور،وتزكوا القلوب.
فالقصد هو تقييد بعض المسائل في أحكام قيام الليل وذكر أدلتها وبيان صحيحها من سقيمها. ولا يعظم العلم ويثمر إلا بالفقه الصحيح والعودة إلى الدليل وفهم مقاصد الشريعة وأسرارها وتسخير الجهود في ربط الوسائل بالمقاصد والغايات.
المسألة الأولى: افتتاح قيام الليل :
كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين لينشط لما بعدهما من الركعات.
عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: " لأرمقن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الليلة فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة"(34).
قال النووي: ولهذا يستحب أن تفتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين(35).
وقال صاحب عون المعبود: هذا الحديث يدل على مشروعية افتتاح صلاة الليل بركعتين خفيفتين لينشط بهما لما بعدهما(36).
ومن الأذكار التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يقولها عند قيامه لليل، ما ورد عن طاوس أنه سمع ابن عباس - رضي الله عنهما- قال:" كان النبي - صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل يتهجد قال : اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق وقولك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد - صلى الله عليه وسلم- حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت أو لا إله غيرك "(37).
وعن عاصم بن حميد قال: - سألت عائشة ماذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يفتتح به قيام الليل ؟ قالت: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك . كان يكبر عشرا . ويحمد عشرا . ويسبح عشرا . ويستغفر عشرا . ويقول: اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة" (38).
المسألة الثانية: أفضل ساعات الليل للتهجد:
الأفضل في صلاة الليل الثلث الأخير من الليل لأنه وقت نزول الرب - جل وعلا- ، والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- : " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له"(39) .
وجاء في صحيح الإمام مسلم من طريق حفص وأبي معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : " من خاف أن لا يقوم آخر الليل فليوتر أوله ، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر بالليل مشهودة وذلك أفضل "(40) وقال أبو معاوية: محضورة ، أي : تحضرها ملائكة الرحمة .(/3)
فمن قام في أول الليل أوفي أوسطه، ففعله صحيح إذ قد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم- ذلك. فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت :" من كل الليل قد أوتر رسول الله من أول الليل وأوسطه وآخره..."(41) إلا أن آخر الليل أفضل لأنه الأمر الذي استقر عليه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم- فقد جاء في الصحيحين عن مسروق عن عائشة - رضي الله عنها - قالت :" من كل الليل قد أوتر رسول الله فانتهى وتره إلى السحر "(42) .
وفي رواية لمسلم من طريق يحي بن وثّاب عن مسروق عن عائشة قالت : " من كل الليل قد أوتر رسول الله من أول الليل وأوسطه وآخره فانتهى وتره إلى السحر "(43).
وقد ذهب أكثر أهل العلم: إلى أن الوتر من بعد صلاة العشاء، سواء جمعت جمع تقديم مع المغرب، أو أخرت إلى منتصف الليل، وأما قبل صلاة العشاء فلا يصح على الراجح(44).
وقد جاء من طريق ابن هبيرة عن أبي تميم الجيشاني - رضي الله عنه- أن عمرو بن العاص - رضي الله عنه- : خطب الناس يوم جمعة فقال : إن أبا بصرة حدثني أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : " إن الله زادكم صلاة ، وهي الوتر ، فصلوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة
الفجر ....."(45) .وفي مسألة الوتر ثلاثة فروع :
الفرع الأول : من نام عن وتره أو نسيه قبل صلاة الفجر: ، فله صلاته بعد طلوع الفجر ، قبل صلاة الصبح . فقد عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه- قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : " من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره "(46) .
وورد الإجمال في رواية مسلم"... من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها..." (47).
وهذا القول مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول الإمام مالك، وقول للشافعي وأحمد(48) - رحمهم الله تعالى- .
الفرع الثاني: من فاته الوتر حتى طلعت عليه الشمس، فاختف فيه أهل العلم على قولين:
القول الأول: يقضيه شفعاً . واستدلوا بحديث سعد بن هشام بن عامر ...قال: قلت لعائشة –رضي الله عنها- أنبئيني عن قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقالت: ألست تقرأ ? يا أيها المزمل? ؟ قلت: بلى. قالت: فإن الله - عز وجل- افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبي الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حولا وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة. قال قلت يا أم المؤمنين: أنبئيني عن وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم ثم يقوم فيصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني فلما سن نبي الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنعيه الأول فتلك تسع يا بني وكان نبي الله - صلى الله عليه وسلم- إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ولا أعلم نبي الله - صلى الله عليه وسلم- قرأ القرآن كله في ليلة ولا صلى ليلة إلى الصبح ولا صام شهرا كاملا غير رمضان قال فانطلقت إلى ابن عباس فحدثته بحديثها فقال صدقت لو كنت أقربها أو أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني - به قال قلت لو علمت أنك لا تدخل عليها ما حدثتك حديثها "(49).
الشاهد من الحديث :" وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة".
القول الثاني: أنه يقضيه وتراً. قاله طاووس ومجاهد والشعبي وغيرهم ، وحجتهم في ذلك حديث أبي سعيد ، وقد سبق ذكره ، ولفظه "من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره "(50) فهذا الحديث يدل على مشروعية قضاء الوتر بعد طلوع الشمس لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا ذكره ". وقد قال الأوزاعي : ( يقضيه نهاراً وبالليل مالم يدخل وقت الوتر بصلاة العشاء الآخرة ، ولا يقضيه بعد ذلك لئلا يجتمع وتران في ليلة)(51).
وردوا عن حديث عائشة – رضي الله عنها _ فقالوا: حديث عائشة ليس فيه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يوتر، فلعله أوتر أول الليل مقتصراً على أقل العدد لغلبة النوم أو الوجع، فلما أصبح صلى قيام الليل. وفي هذا التوجيه نظر . ويبعد حمل حديث عائشة على أنه أوتر أول الليل فإن هذا الأمر لو حدث لبينت ذلك عائشة فإن هذا الحكم من الأهمية بمكان .
والظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم – عندما صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة لم يكن قد أوتر.. ويؤيده حديث جندب – رضي الله عنه- قال: "اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين"(52).(/4)
وقول عائشة - رضي الله عنها- :" صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة " يدل على ذلك فإنه لو أوتر أول الليل لصلى من النهار عشر ركعات. فقد قالت عائشة - رضي الله عنها- :" ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة " (53).
وعن حميد بن عبد الرحمن قال : من فاته ورده من الليل فليقرأه في صلاة قبل الظهر فإنها تعدل صلاة الليل(54).
وتفسير هذه الرواية: بأن يصلى من النهار من فاته ورده من الليل ثنتي عشرة ركعة، فيكون قد قضى الوتر شفعا .
ويجاب عن حديث أبي سعيد: بأنه لم يقل بعمومه أحد من الصحابة والمنقول عن بعضهم قضاء الوتر بعد طلوع الفجر قبل صلاة الصبح، فيحمل الحديث على قضاء الوتر في هذا الوقت(بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الصبح) ولا تعارض بين قوله - صلى الله عليه وسلم- وفعله – ،وهذا هو الصحيح _ والله أعلم-.
الفرع الثالث: من ترك الوتر متعمداً حتى طلع الفجر ، فالحق أنه قد فاته ، وليس له حق القضاء . ففي حديث أبي سعيد وقد تقدم تقييدُ الأمر بالقضاء فيمن نام عن وتره أو نسيه، فيخرج منه العامد. وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال :" من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له "(55) ، وأصل الحديث في صحيح مسلم أن أبا سعيد أخبرهم أنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم- عن الوتر ؟ فقال:" أوتروا قبل الصبح"(56) . فدل الحديث على أن وقت الوتر قبل الصبح، واستثني من نام عن وتره أو نسيه فله أن يصليه إذا ذكره ،- والله أعلم-.
المسألة الثالثة : في عدد ركعات قيام الليل .
ثبتت في السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- من طرق متعددة أنه كان لا يزيد في قيام الليل على إحدى عشرة ركعة لا في رمضان ولا في غيره .
فقد جاء في الصحيحين من طريق مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن أنه أخبره أنه سأل عائشة - رضي الله عنها- كيف كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ؟ فقالت : " مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ(57) ثمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ: إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي"(58). قال الإمام النووي – رحمه الله- : هذا (إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي) من خصائص الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم-.
وروى مالك في الموطأ عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة، قال: وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر...)(59).
قال ابن عبد البر - رحمه الله-: ( وأكثر الآثار على أن صلاته كانت إحدى عشرة ركعة )(60).
وقال الترمذي: وأكثر ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- في صلاة الليل ثلاث عشرة ركعة مع الوتر، وأقل ما وصف من صلاته بالليل تسع ركعات(61).
قال الإمام النووي – رحمه الله- : ورد في البخاري عن عائشة – رضي الله عنها - : أن صلاته - صلى الله عليه وسلم- بالليل سبع وتسع، وعند البخاري ومسلم من حديث ابن عباس أن صلاته - صلى الله عليه وسلم- من الليل ثلاث عشرة ركعة وركعتين بعد الفجر سنة الصبح، وفي حديث زيد بن خالد أنه - صلى الله عليه وسلم- صلى ركعتين خفيفتين ثم طويلتين ...فتلك ثلاث عشرة، قال القاضي: قال العلماء: في هذه الأحاديث إخبار كل واحد من ابن عباس وزيد وعائشة بما شاهد، وأما الاختلاف في حديث عائشة فقيل: هو منها، وقيل: من الرواة عنها فيحتمل أن أخبارها بأحد عشرة هو الأغلب وباقي رواياتها إخبار منها بما كان يقع نادرا في بعض الأوقات فأكثره خمس عشرة بركعتي الفجر وأقله سبع وذلك بحسب ما كان يحصل من اتساع الوقت أو ضيقه بطول قراءة كما جاء في حديث حذيفة وبن مسعود أو لنوم أو عذر مرض أو غيره أو في بعض الأوقات عند كبر السن كما قالت فلما أسن صلى سبع ركعات أو تارة تعد الركعتين الخفيفتين في أول قيام الليل كما رواه زيد بن خالد وروتها عائشة بعدها هذا في مسلم، وتعد ركعتي الفجر تارة وتحذفهما تارة(62).
وما جاء أن الناس كانوا يقومون في زمان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- في رمضان بثلاث وعشرين ركعة. فقد رواه مالك (63) وغيره لكن بسند منقطع .
وجاء عند عبد الرزاق عن داود ابن قيس وغيره عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أن عمر- رضي الله عنه- جمع الناس في رمضان على أبي بن كعب وعلى تميم الداري على إحدى وعشرين ركعة يقرؤون بالمئين وينصرفون عند فروع الفجر ...) (64).(/5)
لكنه ورد عند مالك عن محمد بن يوسف:( أن عمر- رضي الله عنه- جمع الناس في رمضان ... بإحدى عشرة ركعة )، وهذا أصح من رواية داود ابن قيس ، وأهل العلم بالحديث يقدمون الأحفظ على من دونه بالحفظ، فرواية ممالك مقدمة، فتقرر بهذا أن السنة عدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة، لأن هذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم- ، الذي داوم عليه ولم يذكر عنه خلافه، وعليه جرى العمل في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- ووافقه عليه الصحابة ولم يأت عن أحد منهم شيء صحيح يخالف هذا، وغاية ما يحتج به القائلون بسنية ثلاث وعشرين ركعة اجتماع الناس في عهد عمر على ذلك، وعمومات صحّ تقييدها ، والمحفوظ أنّه جمعهم على إحدى عشرة ركعة، كما تقدم.
وأنبه على أن ترجيح هذا القول لا يجعل القول الآخر بدعة ،فالمسألة اجتهادية والخلاف فيها وارد .
وقد قال كثير من أهل العلم بالزيادة، ورأوا أن من صلى عشرين ركعة أو ثلاثاً وعشرين أو أكثر أنه مصيب ومأجور.
وذكر الإمام ابن عبد البر - رحمه الله- إجماع العلماء على هذا فقال: ( وقد أجمع العلماء على أن لا حدّ ولاشيء مقدر في صلاة الليل وأنها نافلة فمن شاء أطال فيها القيام وقلت ركعاته ومن شاء أكثر الركوع والسجود )(65) .
غير أن البحث عن الراجح والعمل بالأفضل مطلب من مطالب الشريعة ، وقد بينت السنة بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم- الذي داوم عليه حتى فارق الحياة وجرى عليه عمل أصحابه من بعده أن قيام الليل إحدى عشرة ركعة في رمضان وغيره، وهو الصحيح .
تنبيه : لم يصح عن أحد من الصحابة الكرام التفريق في رمضان بين أول الشهر وآخره على عادة الناس اليوم بل كانوا يقومون بهذا العدد طِوال حياتهم، ويجتهدون في العشر الأواخر في الكيفية دون الكمية ، فيطيلون القيام والركوع والسجود متلذذين بتدبر القرآن، متنعمين بالوقوف بين يدي رب العالمين، ولم تكن همة أحدهم مصروفة إلى هَذّ القراءة أو تكثير عدد الركعات والإخلال بالطمأنينة .
المسألة الرابعة: في كيفية صلاة الليل:
ذهب الإمام مالك(66) والشافعي(67) وأحمد(68)وأبو يوسف ومحمد وغيرهم إلى أن صلاة الليل مثنى مثنى إلاّ ركعة الوتر، على خلاف بينهم هل هذا على الوجوب أم على الاستحباب. وحجتهم في هذا ما جاء في الصحيحين وغيرهما من طريق مالك عن نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم- عن صلاة الليل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:" صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى "(69). وقوله : " مثنى مثنى " معدول عن اثنين اثنين .
وعندما سئل ابن عمر –رضي الله عنهما – عن معنى: مثنى مثنى ؟ قال: أن تسلم في كل ركعتين(70). ‘ إذًا فالمراد أن تسلم في كل ركعتين، قيل: وجوباً. وقيل: استحباباً.
قال في المبدع(71): فإن زاد على ذلك فاختار ابن شهاب والمؤلف أنه لا يصح ، وللإمام أحمد فيمن قام في التراويح إلى ثالثة ثلاثة أقوال:
1- يرجع وإن قرأ، لأن عليه تسليماً، ولابد للحديث السابق.
2- يصح مع الكراهة . ذكره جماعة، وهو المشهور، سواء علم العدد أو نسيه ).
3- لا يكره(72)، وهو مذهب أبي حنيفة حيث قال - رحمه الله- في صلاة الليل: ( إن شئت ركعتين وإن شئت أربعاً وإن شئت ستاً وثمانياً لا تسلم إلا في آخرهن )(73). والأفضل في مذهب أبي حنيفة: صلاة أربع بسلام واحد(74) لخبر عائشة في الصحيحين حين سألها أبو سلمة بن عبد الرحمن عن كيفية صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم- في الليل؟ قالت:" يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً... "(75).
وهذا الحديث مجمل ليس فيه التصريح بصلاة أربع بسلام واحد، والاحتمال فيه وارد، فعلى الأخذ بالظاهر فيكون صلى الأربع بسلام واحد، وحديث " صلاة الليل مثنى مثنى " يدل على التسليم في كل ركعتين، فللاحتمال السابق يحمل حديث ابن عمر على الاستحباب، وأنه الأكثر استعمالاً.
قال الإمام النووي – رحمه الله- : يجوز جمع ركعات بتسليمة واحدة، وهذا لبيان الجواز وإلا فالأفضل التسليم من كل ركعتين، وهو المشهور من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- (76).
والعبادات الواردة على وجوه متنوعة يعمل بها كلها، وهذا أفضل من المداومة على نوع واحد وهجر غيره فإن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - عمل الأمرين، وكان يصنع ذلك مثل دعاء الاستفتاح بالصلاة وغيره، وهذا أمر عام في كل العبادات الواردة على هذا الوجه والقول الجامع فيها مراعاة المصالح، وهذا يختلف باختلاف الأحوال والبلاد والأشخاص - والله أعلم- .
وعلى أنه يصلي أربعا هل يتشهد في الركعتين أم يصلي الأربع بتشهد واحد؟ لم يرد في ذلك دليل، أما التسليم فلا يسلم إلاّ في آخرهن.(/6)
فائدة : قال ابن عبد البر:قوله - صلى الله عليه وسلم-:" صلاة الليل مثنى مثنى..."وقوله -عليه الصلاة والسلام-:" لا وتران في ليلة "(77) ومعلوم أن المغرب إن أعادها كانت إحدى صلاتيه تطوعا وسنة التطوع أن تصلي ركعتين وغير جائز أن يكون وتران في ليلة لأن ذلك لو كان صار شفعا وبطل معنى الوتر فلما كان في إعادة المغرب مخالفة لهذين الحديثين منع مالك من إعادتها(78).
وأما الوتر:
1- فله أن يوتر بركعة. لحديث ابن عمر السابق: " فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة ...". وعند مسلم من طريق شعبة عن قتادة عن أبي مجلز قال : سمعت ابن عمر يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : " الوتر ركعة من آخر الليل " وإن صلى قبلها شفعاً فهذا أفضل للرواية الواردة:"... فأوتر بواحدة توتر لك ما قد صليت "(79).
قال صاحب عون المعبود:قوله – عليه الصلاة والسلام-: "فإذا خشي أحدكم الصبح" استدل به على خروج وقت الوتر بطلوع الفجر، واستدل به على مشروعية الإيتار بركعة واحدة عند مخافة هجوم الصبح، ويدل أكثر الأحاديث الصحيحة الصريحة على مشروعية الإيتار بركعة واحدة من غير تقييد(80).
وعن عروة عن عائشة – رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة فإذا فرغ منها اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين "(81).
وقد يطلق على الركعة سجدة. فعن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أن ابن عمر حدثهم أن رجلا نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهو في المسجد فقال: يا رسول الله كيف أوتر صلاة الليل ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- :" من صلى فليصل مثنى مثنى فإن أحس أن يصبح سجد سجدة فأوترت له ما صلى"(82).
قال الأمام النووي – رحمه الله - : ونستفيد مما سبق أن الوتر ركعة وإن الركعة صلاة صحيحة" (83).
2- وله أن يوتر بثلاث وخمس وسبع وتسع إلاّ أنه إذا أوتر بثلاث لا يتشهد تشهدين، بل يقتصر على التشهد في آخر الصلاة. عن عائشة – رضي الله عنها - قالت:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها"(84).
والسنة أيضاً لمن صلى تسع ركعات أن لا يجلس فيها إلاّ في الثامنة فيجلس ويذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض بدون سلام، ثم يصلى التاسعة ثم يسلم لحديث سعد بن هشام بن عامر قال: قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنْبِئِينِي عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ؟ فَقَالَتْ :"كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنْ اللَّيْلِ فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ لَا يَجْلِسُ فِيهَا إِلَّا فِي الثَّامِنَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّ التَّاسِعَةَ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ وَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَيَّ فَلَمَّا سَنَّ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ وَصَنَعَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ صَنِيعِهِ الْأَوَّلِ فَتِلْكَ تِسْعٌ يَا بُنَيَّ وَكَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا..."(85) . وجاء في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم- صلى ركعتين بعدما سلم وهو قاعد .
فالتنويع في هذه الصيغ أفضل محافظة على السنة واتباعاً للنصوص الواردة في هذا الباب، وعملا بالروايات الصحيحة كلها، والكل سنة بما في ذلك قيام الليل .
قال أبو عمر: القيام في رمضان تطوع، وكذلك قيام الليل كله تطوع، وقد خشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يفرض على أمته، فمن فرضه أوقع ما خشيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وخافه وكرهه على أمته، وإذا صح أنه تطوع فقد علمنا أن التطوع في البيوت أفضل إلا أن قيام رمضان لا بد أن يقام اتباعا لعمر ابن الخطاب، واستدلالا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في ذلك، فإذا قامت الصلاة في المساجد: فالأفضل عندي حينئذ حيث تصلح للمصلى نيته وخشوعه وإخباته وتدبر ما يتلوه في صلاته فحيث كان ذلك مع قيام سنة عمر فهو أفضل إن شاء الله(86).
المسألة الرابعة: حكم الوتر:
اختلف الفقهاء في حكم الوتر إلى قولين :
1- أنه سنة مؤكدة ، كما هو قول جماهير العلماء من الصحابة والتابعين . وهو قول مالك والشافعي وأحمد (87)، والأخبار في هذا كثيرة .
2- أنه واجب، وهو مذهب أبي حنيفة - رحمه الله- (88).وقال غيره : واجب على أهل القرآن.
من أدلة الجمهور:(/7)
1- ما ورد في الصحيحين من حديث طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ- رضي الله عنه - قال:"
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصِيَامُ رَمَضَانَ. قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الزَّكَاةَ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ"(89).
الشاهد من الحديث قوله:" لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ" فما زاد على الخمس المفروضات فهو تطوع .
2- ما رواه أبو داود في سننه من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن الصُنابِحِيّ قال : زعم أبو محمد أن الوتر واجب . فقال عبادة بن الصامت : كذب أبو محمد . أشهد أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول : " خمس صلوات افترضهن الله - عز وجل- من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له ، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه "(90) .
ورواه أبو داود أيضاً من طريق مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُدْعَى الْمَخْدَجِيَّ سَمِعَ رَجُلًا بِالشَّامِ يُدْعَى أَبَا مُحَمَّدٍ يَقُولُ: إِنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ. قَالَ الْمَخْدَجِيُّ فَرُحْتُ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ عُبَادَةُ: كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ يَقُولُ:" خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ"(91).
ومن أدلة الموجبين :
1- حديث أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ – رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- :" الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ "(92). وهذا الحديث لا يصح إلاّ موقوفاً . قاله أئمة الحديث(93).
2- وحديث - عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:" الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا"(94). وهذا الحديث فيه مقال شديد عند المحدثين، فلا يصح هذا الحديث(95).
3- وحديث علي – رضي الله عنه - مرفوعاً :" يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر "(96) . وهو دليل لمن أوجب الوتر على أهل القرآن ، وهذا الحديث في صحته نظر، لان الحديث عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي ، وأخذ الحديث عن أبي إسحاق جمع ، لكن أحفظ وأضبط من رواه عن أبي إسحق هو سفيان الثوري ، وفي روايته :" الوتر ليس بحتم كهيئة الصلاة المكتوبة ولكن سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "(97).
فترجح من هذا قول الجمهور أن الوتر سنة وليس بواجب وعلى افتراض أن في أحاديث الموجبين شيء من الصحة فتحمل على تأكد السنية إذ قد دلت أحاديث أخرى على عدم الوجوب -والله أعلم- .
المسألة الخامسة : فيما يقرأ في الوتر:
السنة لمن أوتر بثلاث أن يقرأ بعد الفاتحة: ( سبح اسم ربك الأعلى ) وفي الثانية: ( قل يا أيها الكافرون ) وفي الثالثة: ( قل هو الله أحد ) . لحديث سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب- رضي الله عنه - قال :" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يوتر بسبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد "(98) .
وأما قراءة المعوذتين بعد الإخلاص :
فقد استحب الإمامان مالك والشافعي - رحمهما الله- قراءة المعوذتين بعد الإخلاص. وذلك لما ورد:(/8)
1- من طريق خصيف عن عبد العزيز بن جريج عن عائشة - رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- " كان يقرأ في الركعة الأولى بسبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية قل يا أيها الكافرون وفي الثالثة قل هو الله أحد والمعوذتين"(99) .
2- من طريق يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة به(100).
وقد أنكر الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم زيادة المعوذتين بعد الإخلاص في الوتر.
أقوال المحدثين في الحديث السابق ( حديث عائشة ) الذي ورد من طريق خصيف، ويحي ابن أيوب :
*من طريق خصيف: الحديث فيه انقطاع، قاله الإمام أحمد وابن حبان وجماعة، فإن ابن جريج لم يسمع من عائشة(101). وقال البخاري: عبد العزيز بن جريج عن عائشة لا يتابع في الحديث(102) . والراوي عن عبد العزيز بن جريج خصيف بن عبد الرحمن وهو سيء الحفظ، وقد ضعفه أحمد وابن خزيمة، وقال يحيى بن سعيد القطان: (كنا تلك الأيام نجتنب حديث خصيف )(103).
*من طريق يحي ابن أيوب: هذا الحديث صححه الحاكم، ولم يتعقبه الذهبي بشيء، وحسنه ابن حجر في نتائج الأفكار(104).
وقال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يُسأل عن يحيى بن أيوب المصري؟ فقال: كان يحدث من حفظه ، وكان لا بأس به ، وكان كثير الوهم في حفظه، فذكرت له من حديثه عن يحيى عن عمرة عن عائشة :" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر ..."الحديث. فقال : ها ، من يحتمل هذا ، وقال مرة : كم قد روى هذا عن عائشة من الناس ليس فيه هذا ، وأنكر حديث يحيى خاصة )(105) .
وقال العقيلي: ( أما المعوذتين فلا يصح ) ففي هذا الخبر ضعف، فيقرأ المصلي بالوارد من صحيح الأخبار ? سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى? [ الأعلى:1 ] في الأولى، وفي الثانية ? قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ? [ الكافرون: 1 ] ، وفي الثالثة ? قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ?[ الإخلاص: 1 ]وكما تقدم فإن الإمام الألباني صحح الحديث .
وبعض أهل العلم لا يرى استحباب تقصد قراءة هذه السور الثلاث(106). وفي هذا الكلام نظر ، وحديث أبي بن كعب وارد بذلك .
وقال بعض أهل العلم: لا يداوم على قراءة هذه السور في الوتر لأنه يفضي إلى اعتقاد أنها واجبة(107). لكن هذا التعليل ففيه نظر، وقد تقدم أن الوتر سنة، وقراءة هذه السور مسنون أيضا(108).
ويستحب إذا سلم من وتره أن يقول: سبحان الملك القدوس ثلاثاً لحديث أبي بن كعب- رضي الله عنه- قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى وفي الركعة الثانية ب قل يا أيها الكافرون وفي الثالثة ب قل هو الله أحد ولا يسلم إلا في آخرهن ويقول يعني بعد التسليم سبحان الملك القدوس ثلاثا"(109).
وفي حديث عبد الرحمن ابن أبزى وهو صحابي صغير :" ويرفع بسبحان الملك القدوس صوته بالثالثة "(110) . وزاد الدار قطني(111) من حديث أبي ابن كعب:" رب الملائكة والروح " ولا تصح هذه الزيادة، والمحفوظ ما تقدم .
المسألة السادسة: في القنوت :
أقوال الفقهاء في القنوت في الوتر:
قال الإمام أحمد: لا يصح فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء....)(112) .
وقال الإمام ابن خزيمة - رحمه الله- : ( ولست أحفظ خبراً ثابتاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم- في القنوت في الوتر ...)(113) . غير أنه ثبت عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم- كما قال عطاء حين سئل عن القنوت ؟ قال: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- يفعلونه(114) . وجاء عن بعض الصحابة أنه لا يقنت إلاّ في النصف من رمضان (115).
وقال الإمام الزهري - رحمه الله- : ( لا قنوت في السنة كلها إلاّ في النصف الآخر من رمضان ) (116) . وقال الإمام أبو داود: قلت لأحمد : القنوت في الوتر السنة كلها ؟ قال : إن شئت ، قلت : فما تختار ؟ قال : أما أنا فلا أقنت إلاّ في النصف الباقي ، إلاّ أن أصلي خلف الإمام فيقنت فأقنت معه (117) .
وذكر ابن وهب عن مالك في القنوت في رمضان أنه قال إنما يكون في النصف الآخر من الشهر (118) . وهذا مذهب الإمام الشافعي - رحمه الله-(119). وفي وجه عنده يستحب القنوت في الوتر بالسنة كلها وهذه آخر الروايات عن الإمام أحمد - رحمه الله- (120) . قال النووي - رحمه الله- : وهذا الوجه قوي في الدليل لحديث الحسن بن علي - رضي الله عنهما-(121) .(/9)
وعمدة القائلين باستحباب القنوت في السنة كلها(122) هو حديث الحسن بن علي - رضي الله عنهما- قال : علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كلمات أقولهن في قنوت الوتر " اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت "(123) والحديث من طريق أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن به . ورواه أحمد من طريق يونس بن أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء بمثله(124) . و إسناده جيد ، إلاّ زيادة ( قنوت الوتر ) . فقد رواه أحمد في مسنده(125) عن يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني بريد بن أبي مريم بلفظ :" كان يعلمنا هذا الدعاء ، اللهم اهدني فيمن هديت ..." وشعبة أوثق من كل من رواه عن بريد فتقدم روايته على غيره، وزيادة الثقة تقبل بضوابط(126) .
قال ابن خزيمة - رحمه الله- : ( وهذا الخبر رواه شعبة بن الحجاج عن بريد بن أبي مريم في قصة الدعاء ، ولم يذكر القنوت ولا الوتر . قال: وشعبة أحفظ من عدد مثل يونس بن أبي إسحاق ، وأبو إسحاق لا يعلم أسمع هذا الخبر من بريد أو دلسه عنه . اللهم إلاّ أن يكون كما يدعي بعض علمائنا أن كل ما رواه يونس عن من روى عنه أبوه أبو إسحاق هو مما سمعه يونس مع أبيه ممن روى عنه . ولو ثبت الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه أمر بالقنوت في الوتر أو قنت في الوتر لم يجز عندي مخالفة خبر النبي - صلى الله عليه وسلم- ولست أعلمه ثابتاً )(127).
وقد تقدم قول الإمام أحمد ( لا يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ) ولكن ثبت القنوت عن الصحابة(128) - رضي الله عنهم- على خلاف بينهم ، هل يقنت في السنة كلها أم لا ، والحق فيه أنه مستحب لتعليم النبي – صلى الله عليه وسلم- الحسن ، ولفعل الصحابة الكرام –رضوان الله عليهم- ، والحديث صححه الشيخ الألباني .
والقنوت يشرع بأي دعاء(129) ليس فيه اعتداء ولا سجع مكلف وتلحين مطرب ونحو ذلك مما اخترعه المتأخرون مما لا أصل له في الكتاب ولا في السنة ولا جرى به عمل الأئمة. بل هي اجتهادات فردية ، أدّت إلى هذا ، وقد جرّ هذا الأمر المغلوط إلى إطالة الدعاء والمبالغة فيه بما يشق على المأمومين.
هذا والأفضل في دعاء القنوت أن يبدأ الداعي أولاً بحمد الله تعالى والثناء عليه ويُثَنّي بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم- ثم يدعو فإن هذا أقرب إلى الإجابة من دعاء مجرد من الحمد والثناء . لما روي عن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه- قال :" سمع النبي - صلى الله عليه وسلم- رجلاً يدعو في صلاته فلم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم- . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- : عجل هذا ثم دعاه فقال له ولغيره : إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ، ثم ليصل على النبي - صلى الله عليه وسلم- ، ثم ليدع بعد بما شاء "(130) .
قال ابن القيم - رحمه الله- :
( المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله والثناء عليه بين يدي حاجته ثم يسأل حاجته كما في حديث فضالة بن عبيد ) (131). وقد دل هذا الحديث على أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم- من أسباب إجابة الدعاء ومن هنا كان أبيُ بن كعب يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم- في قنوته بالصحابة(132) .
وسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يصلي على النبي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أيها المصلي أدع تجب وسل تعط(133).
وقال الإمام إسماعيل القاضي: ... عن عبد الله بن الحارث أن أبا حليمة معاذاً كان يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم- في القنوت )(134) . وهذا سند صحيح إلى أبي حليمة معاذ بن الحارث الأنصاري وهو مختلف في صحبته .وقد ذكره ابن حبان في ثقات التابعين ، وهو ممن أقامه عمر بن الخطاب يصلى التراويح بالناس في شهر رمضان(135).
المسألة السابعة : رفع اليدين في القنوت :
وأما رفع اليدين في القنوت فقد منعه الإمام الأوزعي وجماعة من أهل العلم(136) . حتى قال الإمام الزهري: ( لم تكن ترفع الأيدي في الوتر في رمضان)(137).
وذهبت طائفة من أهل العلم وهم الجمهور: إلى استحبابه لأن الأصل في الدعاء رفع اليدين. وقد قاسه جماعة من الفقهاء وأهل الحديث على قنوت النوازل . فقد سئل الإمام أحمد عن القنوت في الوتر قبل الركوع أم بعده وهل ترفع الأيدي في الدعاء في الوتر ؟ فقال : القنوت بعد الركوع . ويرفع يديه . وذلك على قياس فعل النبي - صلى الله عليه وسلم- في القنوت في الغداة (138) .(/10)
وقال أبو داود : سمعت أحمد سئل ، يرفع يديه في القنوت ؟ قال: نعم يعجبني . قال أبو داود : فرأيت أحمد يرفع يديه في القنوت(139) . وذكر البخاري في جزء رفع اليدين(140) . من طريق أبي عثمان قال : كان عمر يرفع يديه في القنوت ، وقال البخاري:- رحمه الله- : ( وهذه الأحاديث كلها صحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لا يخالف بعضها بعضاً....) .
وذكر عن عبد الله بن مسعود: أنه كان يقرأ في آخر ركعة من الوتر قل هو الله أحد ثم يرفع يديه فيقنت قبل الركعة(141).
وقال البيهقي - رحمه الله- : (...إلا أن عدداً من الصحابة - رضي الله عنهم- رفعوا أيديهم في القنوت مع ما رويناه عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم- )(142).
المسألة الثامنة: مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء:
لم يثبت فيه حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ، ولم يصح عن الصحابة - رضي الله عنهم- لا في القنوت ولا في غيره ، وقد اعتاد بعض العامة فعل ذلك ولم يرد ذلك . واعتاد آخرون رفع الأيدي عقب النوافل ومسح الوجه بها بدون دعاء .
قال الإمام أبو داود في مسائله(143) : سمعت أحمد سئل عن الرجل يمسح وجهه بيديه إذا فرغ ؟ قال: لم أسمع به . وقال مرة : لم أسمع فيه بشيء . قال : ورأيت أحمد لا يفعله .
وسئل مالك - رحمه الله- عن الرجل يمسح بكفيه وجهه عند الدعاء ؟ فأنكر ذلك وقال : ما علمت )(144) .
قال العظيم آبادي (ويستحب رفع اليدين فيه( أي الدعاء) ولا يمسح الوجه. وقيل: يستحب مسحه)(145).
ونقل المباركفوري قولا فقال: في الحديث دليل على مشروعية مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء قيل: وكأن المناسبة أنه تعالى لما كان لا يردهما صفرا فكأن الرحمة أصابتهما فناسب إفاضة ذلك على الوجه الذي هو أشرف الأعضاء وأحقها بالتكريم(146).
ونقل صاحب مغني المحتاج عن العز ابن عبد السلام فقال: (وأما مسح الوجه عقب الدعاء خارج الصلاة فقال ابن عبد السلام بعد نهيه عنه: لا يفعله إلا جاهل)(147) ، وقال صاحب فقه العبادات : ولا يسن مسح الوجه أو الصدر عقب القنوت (148).
وقال الحافظ البيهقي- رحمه الله- :( فأما مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء فلست أحفظه عن أحد من السلف في دعاء القنوت وإن كان يروي عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة وقد روي فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم- حديث فيه ضعف وهو مستعمل عند بعضهم خارج الصلاة، وأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت بخبر صحيح ولا أثر ثابت ولا قياس، فالأولى أن لا يفعله ويقتصر على ما فعله السلف - رضي الله عنهم- من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة)(149).
وسئل الشيخ ابن عثيمين :ما حكم مسح الوجه باليدين بعد الدعاء ، والجسم ، وتقبيل العينين ؟
الجواب الحمد لله
لا يشرع مسح الوجه بعد الدعاء ، وقد تواتر في السنة دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم- ربَّه ، ولم يثبت أنه كان يمسح وجهه بعد دعائه
وقد استدل من قال بالمسح بأحاديث ، لكنها – عند التحقيق – ليست صحيحة ، ولا يقوِّي بعضها بعضاً
والذي يظهر – والله أعلم أن الأولى تركه،وصلى الله على محمد وعلى اله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
كتبه الفقير إلى عفو ربه / يونس عبد الرب فاضل الطلول
بتاريخ 1جماد الأول 1427ه الموافق 29/5/2006م
(1) إحياء علوم الدين ( 1 / 357).
(2) شرح النووي على مسلم ( 1 / 168 ) .
(3) صحيح مسلم ( 2 / 821 ) 1163، سنن الترمذي (2 / 301) ، سنن النسائي (3/206) رقم 1613.
(4) سنن الترمذي ( 5 / 552 ) برقم 3549، صحيح ابن خزيمة ( 4 / 313) برقم 1072، ، قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ بِلَالٍ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَا يَصِحُّ مِنْ قِبَلِ إِسْنَادِهِ قَالَ سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسماعيل يَقُولُ مُحَمَّدٌ الْقُرَشِيُّ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الشَّامِيُّ وَهُوَ ابْنُ أَبِي قَيْسٍ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ حَسَّانَ وَقَدْ تُرِكَ حَدِيثُهُ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، وقال الشيخ الألباني: حسن ، مختصر إرواء الغليل ( 1 / 91 ) رقم 452، وصححه في الجامع الصغير وزيادته (1 / 753 ) رقم 7528،وضعفه في السلسلة الضعيفة ( 11 /350 ) رقم 5348 ، وهذا بسبب اختلاف الطرق فحسنه من رواية أبي أمامة، انظر: صحيح الترمذي ( 3 / 178 ) رقم 2814 .
(5)سنن الترمذي (5 / 552 ) برقم 3549، قال أبو عيسى : وهذا أصح من حديث أبي إدريس عن بلال
، قال الشيخ الألباني: حسن، صحيح الترمذي ( 3 / 178 ) رقم 2814 .
[6] سنن ابن ماجه(1 / 426) برقم 1344، سنن النسائي ( 3 / 258 ) رقم 1787، وقال الشيخ الألباني: حسن ، الجامع الصغير وزيادته (1 / 1089 ) رقم 10885 .
(7) ( مطوية):مبنية الجوانب .
(8) ( قرنان ): جانبان.
(9) ( لم ترع ): لا خوف عليك .(/11)
(10) البخاري ( 1 / 378 ) رقم 1070.
(11) البخاري ( 1 / 387 ) رقم 1101
(12)سنن ابن ماجه ( 1 / 540 ) رقم 1693، قال في الزوائد: في إسناده زمعة بن صالح ،وهو ضعيف، وقال الشيخ الألباني: ضعيف،انظر: السلسلة الضعيفة ( 6 / 259 ) رقم 2758.
(13) البخاري (1 / 255 ) رقم 696.
(14) التمهيد ( 7 / 208 ) .
(15) البخاري ( 1 /380 ) رقم 1078، ومسلم (4 / 2171) رقم 2819.
(16) التهجد لابن أبي الدنيا ص 285.
(17) إحياء علوم الدين ( 1 / 356 ).
(18) تفسير الطبري ( 6 / 402)، تفسير القرطبي ( 4 / 84) ، تفسير البغوي ( 2 / 37) كلا هما من قول الأوزاعي .
(19) تحفة العلماء بترتيب سير أعلام النبلاء (329).
(20) تحفة العلماء بترتيب سير أعلام النبلاء (313).
(21) تحفة العلماء بترتيب سير أعلام النبلاء (323).
(22) إحياء علوم الدين ( 1 / 355 ).
(23) الأذكار للنووي ( 1 / 249 ) .
(24) إحياء علوم الدين ( 1 / 356 ).
(25) تحفة العلماء بترتيب سير أعلام النبلاء ( 338) ،ويروى هذا القول لحسان بن عطية، انظر: صفة الصفوة ( 4 / 222 ) .
(26)صفة الصفوة ( 3 / 262) ، تحفة العلماء بترتيب سير أعلام النبلاء (334) .
(27) مقدمة الجرح والتعديل للإمام أبي حاتم ( 1 / 85 – 86 ) .
(28)حلية الأولياء ( 9 / 275 ) .
(29) العهود المحمدية ( 1 / 442 ) .
(30)ويروى هذا القول لبشر، انظر: ذم الهوى ( 1 / 184 ) .
(31) إحياء علوم الدين ( 1 / 355 ) .
(32)الوابل الصيب للإمام ابن القيم ( 58 ) .
(33) الوابل الصيب للإمام ابن القيم ( 57 ) .
(34) صحيح مسلم (1 / 531 ) رقم 765.
(35) شرح النووي على مسلم ( 6 / 10 ) .
(36) عون المعبود ( 4 / 143 ) .
(37) البخاري (1 / 377 ) رقم 1069.
(38) سنن أبي داود ( 1 / 263 ) رقم766، سنن ابن ماجه ( 1 / 431 ) رقم 1356 ، سنن النسائي (3 / 208 ) رقم 1617، وقال الشيخ الألباني: صحيح، صحيح أبي داود (1 / 146 ] رقم 693 .
(39) البخاري ( 1/384 ) رقم 1094، ومسلم ( 1/ 521 ) رقم 758.
(40) مسلم (1/520) رقم 755.
(41) مسلم (1/520) رقم 755.
(42) البخاري ( 4 / 77) رقم 941، ومسلم (4/100) رقم 1230.
(43) مسلم (1/520) رقم 755.
(44) نقل ابن عبد البر في الاستذكار ( 5 / 287 ) ، والقرطبي في المفهم ( 2 / 382 ) الاتفاق على هذا مع أن فقهاء الأحناف ذكروا أنه يؤدى في وقت العشاء ، انظر البناية ( 2 / 575 ) .
(45) مسند الإمام أحمد مسند أحمد بن حنبل (2 /180 ) رقم 6693، تعليق شعيب الأرنؤوط : حسن لغيره ،وقال عنه ابن رجب في فتح الباري: إسناده جيد (9/ 146 )، قال الشيخ الألباني : صحيح ،صحيح الترغيب والترهيب ( 1 / 145 ) رقم 596 .
وبلفظ:" إن الله زادكم صلاة فحافظوا عليها و هي الوتر" قال الشيخ الألباني : صحيح، الجامع الصغير وزيادته (1 / 266 ) رقم 2653.
(46) سنن أبي داود ( 1 / 454 ) رقم 1431. وقال: صحيح على شرط الشيخين من طريق محمد بن مطرف المدني عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، قال الشيخ الألباني : صحيح ، صحيح أبي داود ( 1 / 268 ) رقم 1268.
(47) صحيح مسلم ( 1 / 471) رقم 680.
(48) انظر الاستذكار ( 5 / 288 )، وعون المعبود ( 4 / 309 )، وشرح مسلم للنووي ( 6 / 24 )، والمبدع في شرح المقنع ( 2 / 4 ).
(49) صحيح مسلم (1 / 512 ) رقم 746.
(50) تقدم تخريجه .
(51) فتح الباري لابن رجب ( 9 / 160 )، وانظر الأوسط لابن المنذر ( 5 / 194 ) .
(52) البخاري (1 /378 ) رقم 1072 .
(53) البخاري ( 1 / 372 ) رقم 1051، ومسلم (1 / 509 ) رقم 738.
(54) سنن النسائي (3/260) رقم 1793، قال الشيخ الألباني : صحيح مقطوع ، صحيح وضعيف سنن النسائي ( 4 / 437) رقم 1793.
(55) رواه ابن خزيمة في صحيحه ( 2 / 148) رقم 1092من طريق أبي داود الطيالسي عن هشام الدستوائي عن قتادة عن أبي نضرة، ، قال الشيخ الألباني : أخرجه الحاكم ( 1 / 302 ) وعنه البيهقي وقال : ( صحيح على شرط مسلم ) . ووافقه الذهبي . وأما البيهقي فأعله بقوله : " ورواية يحيى ابن أبي كثير كأنها أشبه ( يعني الحديث الأول ) ولا وجه لهذا الإعلال بعد صحة الإسناد وهو بمعنى الحديث الأول بل هو أصرح منه وأقرب إلى التوفيق بينه وبين حديث ابن مطرف، إرواء الغليل ( 2 / 153 - 154 ) .
(56) مسلم (1/519) رقم 754 .
(57) المعنى : أنهن في نهاية من كمال الحسن والطول مستغنيات بظهور حسنهن وطولهن عن السؤال عنه، شرح النووي على مسلم
( 6 / 20 ) .
(58) البخاري (4/319) رقم 1079، ومسلم (4/89 ) رقم 1219.
(59) الموطأ رواية يحيى الليثي ( 1 / 115 ) ، رقم 251، سنن البيهقي الكبرى ( 2 / 496 ) رقم 4392، شرح معاني الآثار للطحاوي ( 1 / 293 ) رقم 1610، قال الشيخ الألباني : سنده صحيح، صلاة التراويح ( 1 / 53 ) رقم 52 .
(60) الاستذكار ( 5 / 236 ).
(61) سنن الترمذي ( 2 / 305 ) .
(62) شرح النووي على مسلم ( 6 / 18- 19 ) بتصرف .(/12)
(63)الموطأ رواية يحيى الليثي ( 1 / 115 ) رقم 252 .، قال الشيخ الألباني : ضعيف، مختصر إرواء الغليل ( 1 /90 ) رقم 446 .
(64) المصنف ( 4 / 260 ) ، رقم 7730، قال الشيخ الألباني : جاء من رواية السائب بن يزيد قال : " كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة قال : وكانوا يقرؤون بالمئين وكانوا يتوكؤون على عصيهم في عهد عثمان -رضي الله عنه- من شدة القيام " قلت : هذه الطريق بلفظ العشرين هي عمدة من ذهب إلى مشروعية العشرين في صلاة التراويح، وظاهر إسناده الصحة ولهذا صححه بعضهم، ولكن له علة بل علل تمنع القول بصحته وتجعله ضعيفا منكرا وبيان ذلك : أن ابن خصيفة هذا وإن كان ثقة، فقد قال فيه الإمام أحمد في رواية عنه: " منكر الحديث ". ولهذا أورده الذهبي في " الميزان " ، صلاة التراويح ( 1 / 57 ) رقم 56.
(65) الاستذكار ( 5 / 244) .
(66) الاستذكار ( 5 / 237 – 249 – 255 ) .
(67) المجموع ( 4 / 49 – 51 )، تحفة الأحوذي ( 2 / 416 ) .
(68) مسائل الإمام أحمد ( 2 / 296 ( رواية ابنه عبد الله ومسائل أبي داود( ص 72 ) .
(69) صحيح البخاري ( 2 / 278) رقم 452، صحيح مسلم – ( 4 / 112) رقم 1239.
(70) صحيح مسلم ( 1 / 518 ) 749.
(71) المبدع ( 2 / 21 ) .
(72) الإنصاف ( 2 / 187 ).
(73) البناية في شرح الهداية ( 2 / 613 )، وانظر الاستذكار ( 5 / 237 ) .
(74) تحفة الأحوذي ( 2 / 416) .
(75) تقدم تخريجه ص 12.
(76) شرح النووي على مسلم ( 6 / 20 ) .
(77)سنن أبي داود ( 4 / 227) رقم 1227، سنن الترمذي ( 2 / 283) رقم 432 ، من رواية قَيْسِ بْنِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ . قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الَّذِي يُوتِرُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ ثُمَّ يَقُومُ مِنْ آخِرِهِ فَرَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَنْ بَعْدَهُمْ نَقْضَ الْوِتْرِ وَقَالُوا يُضِيفُ إِلَيْهَا رَكْعَةً وَيُصَلِّي مَا بَدَا لَهُ ثُمَّ يُوتِرُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ لِأَنَّهُ لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ إِسْحَقُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَغَيْرِهِمْ إِذَا أَوْتَرَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ ثُمَّ نَامَ ثُمَّ قَامَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي مَا بَدَا لَهُ وَلَا يَنْقُضُ وِتْرَهُ وَيَدَعُ وِتْرَهُ عَلَى مَا كَانَ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَحْمَدَ وَهَذَا أَصَحُّ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ صَلَّى بَعْدَ الْوِتْرِ، وهذه أشارة من الأمام الترمذي إلى حديث :" ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّ التَّاسِعَةَ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ" وسيأتي تخريجه ص17 ، سنن النسائي ( 6 / 172) رقم 1661، قال الشيخ الألباني : صحيح، صحيح وضعيف سنن أبي داود ( 3 / 439) رقم 1439.
(78) التمهيد (4 / 258 ).
(79) البخاري (1/180) رقم 461 .
(80) عون المعبود ( 4 / 146).
(81) صحيح مسلم ( 1 / 508 ) رقم 736 .
(82) صحيح مسلم ( 1 / 518 ) رقم 749 .
(83) شرح النووي على مسلم ( 6 / 16 ) .
(84) صحيح مسلم ( 1 / 508) رقم 737 .
(85) مسلم ( 4 / 104) رقم 1233.
(86) انظر:التمهيد ( 8 / 120 ) .
(87) الاستذكار (2/82) ، المجموع ( 4 / 19) .
(88) البناية في شرح الهداية ( 2 / 565 ) حاشية رد المختار ( 2 / 3 ، 4 ) .
(89) صحيح البخاري ( 1 / 80) رقم 44،صحيح مسلم ( 1 / 91) رقم 12.
(90) سنن أبي داود ( 2 / 14) رقم 361 ، قال الشيخ الألباني : صحيح، الجامع الصغير وزيادته ( 1 / 556 ) رقم 5553 .
(91) سنن أبي داود ( 4 / 203) رقم 1210، قال الشيخ الألباني : صحيح، الجامع الصغير وزيادته ( 1 / 556 ) رقم 5553 .
(92) سنن أبي داود ( 4 / 206) رقم 1212، قال الشيخ الألباني : ضعيف ، الجامع الصغير وزيادته ( 1 /1431 ) رقم 14306.
(93) قاله: أبو حاتم والذهلي والدار قطني وغيرهم . قال ابن حجر : وهو الصواب ، انظر التلخيص (2/14) .
(94) سنن أبي داود ( 4 / 202) رقم 1209 قال الشيخ الألباني : ضعيف، الجامع الصغير وزيادته ( 1 / 1431 ) رقم 14306.
(95) وفي إسناده عبيد الله بن عبد الله العتكي، قال عنه البخاري: عنده مناكير ، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه ولا يعرف إلاّ به، انظر الضعفاء ( 3 / 121 )، وقال ابن حبان: يجب مجانبة ما ينفردبه كتاب المجروحين ( 2 / 64 ) .(/13)
(96) رواه أبو داود (4 / 199) رقم 1207 من طريق زكريا والنسائي وابن ماجه من طريق أبي بكر بن عياش كلاهما عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي به، ورواه سفيان الثوري وغيره عند الترمذي والنسائي عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي - رضي الله عنه- قال: ( الوتر ليس بحتم كهيئة الصلاة المكتوبة ولكن سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وهذا هو المحفوظ فإن سفيان أحفظ وأضبط من كل من رواه عن أبي إسحق. قال الترمذي في جامعه: وهذا أصح من حديث أبي بكر بن عياش ( 2/317 )، قال الشيخ الألباني :حسن صحيح، صحيح الترغيب والترهيب ( 1 / 145 ) رقم 594.
(97) سنن الترمذي (2 / 255) رقم 415، قال الشيخ الألباني : صحيح لغيره، صحيح الترغيب والترهيب ( 1 / 144 ) رقم 592.
(98) سنن النسائي ( 3 / 244 ( رقم 1732، قال الشيخ الألباني: صحيح ،صحيح ابن ماجة ( 1 / 193 ) رقم 962.
(99) يسنن الترمذي ( 2 / 326 ) رقم 463، قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح، قال الشيخ الألباني: صحيح ، صحيح ابن ماجة (1 / 193 ) رقم 963.
(100)رواه ابن حبان في صحيحه ( 10 / 335) رقم 2473، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (1 / 193 ) رقم 963.
(101)كتاب المراسيل ( 112 ) لابن أبي حاتم، ومشاهير علماء الأمصار ( 145 ) لابن حبان .
(102) التاريخ الكبير (6/23).
(103)انظر: المجروحين لابن حبان ( 1 / 283 ) .
(104)انظر: التلخيص ( 2 / 18 – 19 ) .
(105) الضعفاء للعقيلي ( 4 / 391 ) ، وتنقيح التحقيق ( 2 / 1061 ) .
(106)انظر: مختصر قيام الليل ص ( 303 ) ، والبناية ( 2 / 585 – 586 ) .
(107)انظر: حاشية الروض المربع ( 2 / 188 ) .
(108) انظر: أحكام قيام الليل لسليمان ابن ناصر العلوان ص (21-22-23) .
(109) سنن النسائي ( 3 / 235 ) رقم 1710، قال الشيخ الألباني: صحيح ، صحيح أبي داود ( 1 / 268 ) رقم 1267.
(110) سنن النسائي ( 3 / 244 ) رقم 1732، قال الشيخ محمد ابن عبد الله الخطيب التبريزي : صحيح، مشكاة المصابيح ( 1 / 283 ) رقم 1275.
[111]( 2 / 31 ) .
(112) التلخيص لابن حجر ( 2 / 18 ) .
(113)صحيح ابن خزيمة ( 2 / 151 ) .
(114) مختصر قيام الليل ص ( 66 ) .
(115) مصنف ابن أبي شيبة ( 2 /98 ) رقم 6934، وكذلك ( 2 / 99 ) رقم 6935 ، قال الشيخ الألباني: ضعيف، ضعيف أبي داود ( 1 /142 ) رقم 311.
(116) رواه عبد الرزاق في المصنف) / 3 / 121) رقم 4995.
(117) كتاب مسائل الإمام أحمد لأبي داود . ص ( 66 ) .
(118) الاستذكار ( 5 / 166 ) .
(119) المجموع للنووي ( 4 / 15 ) .
(120) انظر مسائل أحمد ( 1 / 99 ) رواية اسحاق بن إبراهيم . والإنصاف ( 2 / 170 ) .
(121) المجموع ( 4 / 15 ) .
(122) رسالة في أحكام قيام الليل لسليمان ابن ناصر العلوان ص (25-26) .
(123) سنن أبي داود ( 1 / 452 ) رقم 1425، سنن الترمذي ( 2 / 328 ) رقم 464،وقال : هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي الحوراء السعدي واسمه ربيعة بن شيبان ولا نعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم- في القنوت في الوتر شيئا أحسن من هذا .واختلف أهل العلم في القنوت في الوتر :
فرأى عبد الله بن مسعود: القنوت في الوتر في السنة كلها واختار القنوت قبل الركوع،وهو قول بعض أهل العلم وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وإسحق وأهل الكوفة.
وقد روي عن علي بن أبي طالب : أنه كان لا يقنت إلا في النصف الآخر من رمضان وكان يقنت بعد الركوع،وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا ،وبه يقول الشافعي وأحمد، سنن الترمذي (2 / 328 ) ، سنن النسائي ( 3 / 248 ) رقم 1745، سنن ابن ماجه ( 1 / 372 ) رقم 1178، قال الشيخ الألباني: صحيح ، صحيح أبي داود ( 1 / 267 ) رقم 1363.
(124) مسند أحمد بن حنبل ( 1 / 199 ) رقم 1718، تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات، قال الشيخ الألباني: صحيح، صحيح ابن ماجة ( 1 / 194 ) رقم 967.
(125) أحمد في مسنده ( 1 / 200 ) ، رقم 1723، تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح، قال الشيخ الألباني: صحيح ، صحيح أبي داود ( 1 / 267 ) رقم 1363.
(126) انظر نظم الفرائد ( 376 ) للحافظ العلائي ، والنكت على كتاب ابن الصلاح ( 2 / 604 – 687 ) للحافظ ابن حجر .
(127) صحيح ابن خزيمة ( 2 / 152)رقم 1096.
(128)وأهل العلم مختلفون في محل القنوت فقال قوم بعد الركوع: وقال آخرون: قبل الركوع وسبب اختلافهم أنه لم يثبت في هذا الباب شئ .وقاسه أهل العلم على قنوت النوازل، والصحيح في المسألة جواز الأمرين .قال الإمام أحمد : وبعد الركوع أحب إلي . انظر مسائل أحمد رواية إسحاق بن إبراهيم (1 / 100) .
(129) انظر: أحكام قيام الليل لسليمان ابن ناصر العلوان ص (29) .
(130) سنن أبي داود ( 1 / 467 ) رقم 1481، سنن الترمذي ( 5 /517 ) رقم 3477، قال الشيخ الألباني: صحيح ، صحيح أبي داود ( 1 /278 ) رقم 1314.
(131)الوابل الصيب ( 110 ) .(/14)
(132) رواه ابن خزيمة في صحيحه (2/155/156) رقم 1100.
(133) صحيح ابن خزيمة ( 1 / 351 ) رقم 709، قال الشيخ الألباني: أحرجه النسائي بسند صحيح، صفة الصلاة ( 1 /181) .
(134) فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم- ص (86) .
(135)انظر تهذيب الكمال (28 / 117 ) .
(136)انظر مختصر قيام الليل ص ( 320 ) .
(137) رواه عبد الرزاق ( 3 / 122) رقم 4999.
(138)مختصر قيام الليل ص ( 318) .
(139)كتاب مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص ( / 66 ) .
(140) البخاري في رفع اليدين ص ( 68 ) .
(141) المعجم الكبير ( 9 / 283 ) رقم 9425.
(142) السنن الكبرى ( 2 / 211 ) رقم 2965،
(143)أبو داود ص ( 71 ) .
(144)مختصر قيام الليل ( 327 ).
(145) عون المعبود ( 4 / 222 )
(146) تحفة الأحوذي ( 9 / 232 )
(147) مغني المحتاج ( 1/ 165 ).
(148) فقه العبادات - شافعي ( 1 / 307 )
(149) سنن البيهقي الكبرى ( 2 / 212 ) رقم 2968.(/15)
المساجد وفضل عمارتها
الشيخ /محمد محمد أبو جليّل الهدار
الحمد له وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ،،
أيها الأفاضل :إن المساجد بيوت الله في أرضه أضافها لنفسه تشريفا وتعظيما ،وأذن في بنائها لعبادته وذكره والدعوة له سبحانه ، وقال عز من قائل ' فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ{36} رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ{37}' النور ، وقال عزمن قال ' وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً{18} ' الجن .
وقد رغب الرسول صلى الله عليه وسلم في بنائها فقال كما روى الشيخان 'من بنى لله مسجدا ، يبتغي به وجه الله ، بنى الله له بيتا في الجنة ' كما أنه صلى الله عليه وسلم أمر بتنظيفها وتطييبها وصيانتها ، فقال كما روى أحمد وغيره عن عائشة رضي الله عنها ' أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المساجد في الدور ، وأمر بها أن تنظف وتطيب ' ، وجاء في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال ' إن المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر ، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن ' ، وروى الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ' من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا ، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنوا آدم ' ، قلت ويلحق بالثوم والبصل والكراث كل شي له رائحة كريهة كالدخان مثلا ، كما نص على ذلك بعض العلماء ، وروى أحمد بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ' إذا تنخم أحدكم فليغيب نخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه ' .
كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رفع الصوت فيها واعتبر بعض العلماء النهي للتحريم ، فجاء في فقه السنة قوله : يحرم رفع الصوت على وجه يشوش على المصلين ولو بقراءة القرآن ، ويستثنى من ذلك درس العلم ، فعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة ، فقال ' إن المصلي يناجي ربه عز وجل فلينظر بم يناجيه ؟ ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن ' رواه أحمد بسند صحيح ، وروى عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال ' ألا إن كلكم مناج ربه ، فلا يؤذين بعضكم بعضا ، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة '، رواه أبو داوود والنسائي والبيهقي والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ....
هذا وقد رغب الله في عمارة المساجد ، وشهد لعمارتها بالإيمان ، وأعظم بها من شهادة وتزكية ، فقال عز من قائل ' إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ{18} ' التوبه ، وقد أكد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ' إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ' قال الله عز وجل ' إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ ' رواه أحمد وابن ماجه وابن حبان والترمذي وحسنه والحاكم صححه ، وقد قال البعض بأن الحديث ضعيف ، فقلت خير شاهد لتقوية الحديث الآية نفسها ، بل هو مستل منها ، وهي كافية حتى بدون الحديث في تأكيد هذا لأمر ، قال الإمام القرطبي : قوله تعالى' إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ ' ، دليل على أن الشهادة لعمار المساجد بالإيمان صحيحة ؛ لأن الله سبحانه ربطه بها وأخبر عنه بملازمتها، وقد قال بعض السلف : إذا رأيتم الرجل يعمر المساجد فحسنوا به الظن ' ، ومما جاء في الترغيب في عمارة المساجد كذلك قوله صلى الله عليه وسلم ' من غدا على المسجد أو راح ، أعد الله له في الجنة نزلا كلما راح أو غدا ' ، رواه الشيخان ، وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ' من تطهر في بيته ثم مشى على بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله ، كانت خطواته إحداها تحط خطيئة والأخرى ترفع درجته ' ، ومن الأحاديث المرغبة في الصلاة في المساجد وعمارتها ما رواه مسلم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ' صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه ، بضعا وعشرين درجة ، وذلك إن احدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد ، لا ينهزه إلا الصلاة ـ لا يريد إلا الصلاة ـ فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة ، وحط بها خطيئة حتى يدخل المسجد ، فإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه ، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه يقولون : اللهم ارحمه ، اللهم اغفر له ، اللهم تب عليه ، ما لم يؤذ فيه ، ما لم يحدث فيه ' .(/1)
ومن المرغبات أيضا ما رواه بعض أصحاب السنن والحاكم وابن حبان وهوا صحيح , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ' بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة '، وهذا يخص المحافظين على صلاتي العشاء والفجر على وجه الخصوص ، وبالأخص صلاة الفجر ، التي أصبح يتخلف عنها كثير من الناس ، فلا يصلون إلا فرادى ومنهم من لا يصليها إلا بعد طلوع الشمس ، مما يدل على عدم اهتمامهم بهذا الوقت المبارك الذي تشهده ملائكة الرحمن ، وتشهد لأهله المحافظين عليه كما قال سبحانه ' وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً{78} 'الإسراء، أي تشهده الملائكة ، وروى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ' يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم ، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون واتيناهم وهم يصلون ' ، فعدم اهتمام البعض بالحرص على صلاة الفجر في وقتها مع الجماعة في المسجد ن يعرضهم للحرمان من هذه الشهادة أمام أحكم الحاكمين ، من بعض ملائكته المقربين المطهرين ، كما يعرضهم للدخول في قوله تعالى ' فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ{4} الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ{5} ' الماعون، والويل قيل أنه واد في جهنم والعياذ بالله ، وتعتبر صلاة الفجر عند كثير من الصحابة والعلماء هي الصلاة الوسطى التي أمر الله بالمحافظة عليها خاصة ، مع أمره بالمحافظة على بقية الصلوات ، فقال سبحانه ' حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ{238}'البقرة، وممن قال بذلك من الصحابة : عمر بن الخطاب ، ومعاذ بن جبل ، وابن عباس ، وابن عمر ، وجابر ، ومن العلماء والأئمة : عطاء،وعكرمة ، ومجاهد ، والربيع بن انس ، والإمام مالك ، ورواية عن الشافعي وجمهور أصحابه ، رضي الله عن الجميع .
هذا ويستحب عند الخروج إلى الصلاة من المنزل أن يدعو المسلم بما رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي ، عن أم سلمة قالت كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته قال ' باسم الله ، توكلت على الله ، اللهم إني أعوذ بك من أن أَضل أو أُضل ، أو أَزل أو أُزل ، أو أَظلِم أو أُظلَم ، أو أَجهل أو يُجهَل علي ' ، وروى الترمذي بسند حسن أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال ' من قال إذا خرج من بيته : باسم الله ، توكلت على الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، يقال له حسبك : هُديت وكُفيت ووُقيت ن وتنحى عنك الشطان ' وهذه الدعوات المباركات يستحب أن تقال سواء كان الخروج من المنزل للمسجد أو لأي مكان آخر ، كما يسن لمن أراد الدخول إلى المسجد أن يقدم رجله اليمنى أثناء الدخول ثم يقول أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم وسلطانه الكريم ، من الشيطان الرجيم ، بسم الله ، اللهم صل وسلم على محمد ، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج قدم رجله اليسرى وقال : بسم الله ، اللهم صل وسلم على محمد ، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك ، اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم ، وذلك لورود الأدلة المرغبة في كل ما ذكر ، واستغنيت عن ذكرها حديثا حديثا ن طلباً للاختصار ، كما يسن لمن دخل المسجد أن يركع ركعتين فبل الجلوس ، لما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي قتادة ، قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ' إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس ' .
أيها الأعزاء : قال أحد العلماء : المساجد هي بيوت الرحمن ، ومأوى ملائكته ، ومهابط رحمته ، ودور عبادته ن وملتقى عباده المؤمنين ، لا تبنى لأجل المباهاة والزينة ، ولا تتخذ آثار ومتاحف ومظاهر للمفاخرة ، وإنما تبنى لإقامة الصلاة وذكر الله فيها ، والمسجد في كل حي يعتبر كمستشفى الحي ، فإذا كان المستشفى يعالج الأمراض الجسمية ، فالمسجد يعالج النفس البشرية من أمراضها النفسية ، ويوجهها إلى طريق الاطمئنان والسلام والسعادة في الدارين ، وذلك عن طريق الصلوات التي تقام فيه ، والأذكار التي تقال فيه والمواعظ والخطب التي تلقى فيه ..
وأختم كلامي بحديث حسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأسال الله أن ينفعنا به جميعا ، ويجعلنا من الحريصين على تطبيقه ، روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ' من صلى لله أربعين يوما في جماعة لا تفوته تكبيرة الإحرام كتبت له براءتان ؛براءة من النار، وبراءة من النفاق ' فصلاة الله وسلامه على معلم الناس الخير ، والحمد لله أولا وآخرا . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/2)
المساعدة بقرض ربوي
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 11/3/1424هـ
السؤال
في هذه البلاد تساعد الحكومة من يريد أن ينشئ شركة بمبلغ من المال حتى يبدأ مشروعه، ولكنها تشترط على الشخص أن يأخذ قرضاً من البنك بنفس المبلغ (طبعاً قرضاً ربوياً)، ولكن يستطيع المرء أن يعيد القرض إلى البنك بعد أيام (أي بعد انتهاء المعاملة الرسمية)، ولكن مع نسبة الربا لثلاثة أو أربعة أيام، فهل يجوز أن يقدم المرء على أمر كهذا؟ علماً أن هناك مصاعب شرعية، في العمل في المصانع، أو في الشركات، فكثير منهم يختلط عملهم بالحرام خلطاً شديداً ،وفرص الصلاة والعبادة ضيقة. جزاكم الله خيراً،.
الجواب
إذا كان الاقتراض من البنك لإنشاء شركة سيشغل عدداً من المسلمين المغتربين المقيمين في فرنسا أو غيرهم ويكون عملها حلالاً كبيع أو تسويق المباحات كالسيارات أو الملابس، أو الأطعمة الحلال ونحو ذلك إن كان الأمر كذلك فإن الاقتراض من البنك الربوي والحالة هذه لا بأس به إن شاء الله للمصلحة العامة والنفع المتعدي وقلة النسبة ورمزيتها حيث هي ليومين أو ثلاث فقط، أرجو أن يكون جائزاً بشرط أن تعتقد حرمة الربا، وأن تكون مضطراً لهذا الاقتراض، حيث لا تجد مورداً تعيش منه في بلاد الغربة هذه، فإن وجدت بديلاً فلا يجوز لك الاقتراض الربوي من البنك ولو قلَّت نسبته، أما وجود مصاعب شرعية في العمل في الشركات مما يختلط فيه الحلال بالحرام، فهذا واقع في كل بلاد الدنيا، وهو أمر خارج عن أساس العقد للشركة بالصحة أو الفساد، والخروج من مثل هذا يكون بالورع والاحتياط فقط، وليس بالجزم في القول بالتحريم؛ لحديث النعمان بن بشير – رضي الله عنهما- "الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه"، رواه البخاري (52)، ومسلم (1599)، وفيه نص على أن الشبهات ليست من الحلال البين ولا من الحرام البين، فهي تشبه الحلال من وجه وتشبه الحرام من وجه آخر ولذلك جعل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- اجتناب الشبهات من كمال الإيمان وتمامه، وليست من أساسه، كما جاء في الحديث "استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك" انظر ما رواه أحمد في مسنده (17742-18001) وفقنا الله وإياك ورزقنا التقى والعمل الصالح.(/1)
المسافة بين القول والعمل(1)
الكاتب: الشيخ د.سلمان بن فهد العودة
كثيرون يعتبرون مجرد انتحالهم لاسم الإسلام كافياً لتحقيق أمانِيِّهِمْ ، ولا شيء وراء ذلك .
إنك تعجب حقاً ، هذا الدين الذي حملت مضامينه تلك الحفاوة الشديدة بالعمل ، وربطت كل أسباب التوفيق والسعادة به ، ونزعت عن تاركيه كل صفات الخيرية ..
ثم يطول الأمل ، وتقسو القلوب ، ويصبح المسلم في حاجة إلى من يذكره، ويؤكد له أن مجرد انتحال الاسم لا يعني شيئاً ، ولا يغني شيئاً .
هل مجرد إدعاء الإنسان أنه عاقل - مثلاً - أو غني ، أو قوي ، أو صحيح البنية ، أو عالم أو سعيد ، أو .. أو .. يجعله كذلك ؟ أو يغير من واقعه شيئاً ؟ إن مجرد الأمانيّ العابرة ، والأحلام الطائرة ، لا تنفع ولا تدفع ، إذا لم تكن زاداً ووَقُوداً لفعل الأسباب الشرعية والطبعية ، واجتناب الموانع والعوائق والأوهام .
فدعوى ( الإسلام ) ، أو ( السنة ) ، أو( الحديث ) ، أو ( السَّلفية ) ، أو ( الاتِّباع ) .... معيارها صدق التمثل والعمل ، والالتزام الحقيقي ظاهراً وباطناً.
وهنا لابدّ من التفطن لثلاثة أمور :
أولها: إن هناك الأدعياء الذين يكتفون بالاسم ، ورفع الشعار ، ثم ينامون قريري العيون .
ثانيها : إن هناك من يطبق فهماً منقوصاً سبق إلى ذهنه ، وظنه هو الحق ، فهناك من يرى الإسلام عبادةً فحسب ، أو زهداً فحسب ، أو قتالاً فحسب ، أو ما شاء له تصوره ... ويتمسك بهذا ، معرضاً عما سواه ، وقد يرى الإسلام مظهراً وشكلاً مجرداً دون مضمون حقيقي .
ثالثها : إن هناك من يفهم الأمر على حقيقته ، لكنه لا يعمل به ، وهاهنا ؛ لا مشكلة في الفهم والإدراك ، لكن المشكلة في التنفيذ .
إن هناك أسماءً صحيحةً ، وعناوين مقبولة ، لكنَّ مجردَ التَّسَمِّي بها لا يفيد حتى يُضافَ إليه العمل والتحقق بالوصف والمعنى ، وإلا كان تزكية للنفس بغير حق. وكثيراً ما يستمسك الناس بالاسم ، بل ويتعصبون له ، ويغضبون ممن ينفيه عنهم ، لكنهم يمعنون في التكذيب العملي لهذه الدعوى العريضة .
وقد كانت آيات القرآن الكريم حاسمة في هذا المقام . "ليس بأمانيكم ، ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سوءاً يجز به ،ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا " النص واضح وصريح ، الانتماءات والأسماء وحدها لا تكفي ، ولو كانت شريفة وصحيحة في ذاتها ، حتى يقترن بها العمل ، الميزان مرتبط بـ " من يعمل ... "، أو " من يعمل ... " ولهذا كان بعض السلف يقولون : إن هذه أخوف آية في كتاب الله -تعالى- .
يقول الحافظ ابن كثير : " والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس بالتحلي ، ولا بالتمني ، ولكن ما وقر في القلب ، وصدقته الأعمال , وليس كلُّ من ادعى شيئاً ، حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال: إنه على الحق سمع قوله بمجرد ذلك ، حتى يكون له من الله برهان " ( 1 / 557 ) وكلمة الحسن البصري - رحمه الله - مشهورة ، وهي التي ساقها ابن كثير في صدر كلامه السابق .
ثم ؛ هذه الأسماء التي يدعيها المدعون ، ينبغي فرزها إلى صنفين متمايزين :
الصنف الأول : أسماء وانتسابات مشروعة مطلقاً ، والنسبة إليها هي من باب تقرير الواقع ، والاعتراف به ، وإعلانه ، وذلك مثل قول المسلم : أنا المسلم ، والحمد لله . فهذا انتساب محمود بكل حال ، وانتماء شريف عظيم ، وواجب على قائله تأييد قوله بفعله .
الصنف الثاني : أسماء وانتسابات شريفة في نفسها لكن لا ينبغي تزكية النفس بها مطلقاً ، ولا ادعاء تحصيلها ، مما يوهم كمال الإنسان ، واستيلاءه على الذروة العليا ، ومنها لفظ الإيمان ، فلا يحسن بالمرء أن يقول : أنا مؤمن ، على سبيل التزكية ، والثناء على النفس ، ولذلك قال الإمام أحمد - رحمه الله - : أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان ؛ لأن الإيمان قول وعمل ، فقد جئنا بالقول ، ونخشى أن نكون قد فرطنا في العمل فيعجبني أن نستثني في الإيمان ، نقول : أنا مؤمن إن شاء الله –تعالى- . وحديث ابن مسعود الذي أشار إليه الإمام هو ما رواه ابن أبي شيبة ( الإيمان 90 ) وأبو عبيد ( الإيمان 17 ) أنه قال : من شهد أنه مؤمن فليشهد أنه من أهل الجنة .
وفي لفظ عن الإمام أحمد أنه قال : أنا مؤمن -إن شاء الله- ومؤمن أرجو ، لأنه لا يدري كيف أداؤه للأعمال ، على ما افتُرِضَ عليه أم لا . واننظر بقييية الروايات عن أحمد في المسائل والرسائل بتنسيق وتحقيق : عبدالإله الأحمدي ( 1 / 117 - 125 ).(/1)
وذلك أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به كله ، وترك ما نهى الله عنه كله ، فإذا قال : أنا مؤمن ، بهذا الاعتبار ، فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين ، القائمين بفعل جميع الأوامر ، وترك جميع النواهي ، فهو من أولياء الله ، وهو من أهل الجنة ، كما قال ابن مسعود ( وانظر : فتاوى ابن تيمية 7 / 446 ) . إذاً فترجيح الاستثناء ، كأن يقول : أنا مؤمن -إن شاء الله- ، أو أرجو أنني مؤمن ، هو من باب نفي التزكية عن النفس ، وعدم دعوى الإيمان المطلق ، ولهذا لا يحسن بأحدٍ أن يقول : أنا مؤمن حقاً ، أو قطعاً ، أو أَلبتة ، أو عند الله .. لما يشعر ذلك به من دعوى الكمال ، وتزكية النفس بالأقوال دون الأعمال , هذا مع أن لفظ الإيمان لفظ شرعي ، وقد جاء في القرآن الكريم : " قولوا : آمنا .." "ربنا آمنا ..." " إني آمنت بربكم " الخ ، فما بالك بالألفاظ الاصطلاحية التي لم ترد في نص كتاب أو سنة ، والتي تحمل معنى التزكية المطلقة ، كلفظة (أنا سلفي) - على سبيل التمثيل- أليست أولى بالتقييد والضبط ؟ أليست السَّلفية قولاً وفعلاً ؟ أليست منهجاً وسلوكاً ؟ هل أضمن أنني أفهم ما كان عليه السَّلف من المعاني، والأعمال، والأقوال، والأحوال ؟ أم أضمن إذ فهمتها أنني تمثلتها في واقع حياتي، حتى حق لي أن انتحل النسبة الشريفة هذه ؟
أما حين تكون المسألة بيان حال ، أو تقرير واقع في جانب معين ، فالأمر يختلف ، كأن يقول : أنا على طريقة السلف في الإيمان ، أو على طريقة السلف في الأسماء والصفات ، أو على طريقتهم في الاعتقاد .. فهذا لا بأس به عندي ، والله أعلم .
والخلاصة أن المؤمنين يجب أن يُراعوا أهمية العمل والتحقيق ، وليس مجرد الانتساب والدعوى .
فمتى يعي المسلمون هذا ؟ ومتى يعي طلبة العلم والمنتسبون إلى الدعوة أن التفاخر بالنسبة لا يجدي شيئاً ، حتى يقترن بالعمل ؟ وأن التزكية الشرعية ليست بادعاء وصفٍ محمود ، يصدق أو لا يصدق ، بل بالتحلي بنقاء السريرة ، وصفاء السيرة ، وصلاح العمل ، وتدارك العيب ، وحسن الخلق والإنحاء على النفس بالملامة ، وكمال الصدق مع الله .
" قال الله هذا يومُ ينفع الصادقين صِدْقُهم لهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم"
بل إن شئت فقل : هي المسافة بين الدعوى والعمل ، فإن القول الصادق ، القول الجاد ، هو جزء من العمل ، هو عمل اللسان ، وهو أول عمل شرعي حسي يقوم به المكلف حين ينطق بالشهادتين ، معلناً الدخول في الإسلام.
وهذا العنوان مقتبس من قصيدة الطغرائي الشهيرة " لامية العجم " حيث يقول :
غاض الوفاء ، وفاض الغدر ، واتسعت مسافة الخلف بين القول والعمل
لكن الشيء الذي أعنيه تحديداً ـ الآن ـ هو أهمية العمل كقيمة أساسية في الإسلام ، لحفظ الدين ، وعمارة الدنيا ، وأن وجوب العمل قاعدة ضخمة مستقرة ، تحتشد حولها مئات النصوص القرآنية والنبوية .
العمل أساس نجاح الفرد ، أو فشله ، وأساس قوة المجموع أو ضعفه ، وأساس السعادة الدنيوية ، وأساس النجاة الأخروية .
وبالتعبير الشرعي ، فـ "العمل الصالح " هو القيمة المعتبرة ، والتي تترتب عليها آثارها المحمودة في العاجل والآجل .
وهذا العمل الموسوم بالصلاح ، هو الذي تتحقق فيه الشروط الضرورية ، والتي جملتها :
أ - صلاح النية ، وحسن المقصد ، وهو ما يعبر عنه بـ (الإخلاص ).
ب - موافقة السنة ، والتزام الشرع ، وهو ما يعبر عنه أحياناً بـ (المتابعة) أو بـ (الصواب) . وهما مجتمعان في قوله تعالى : "ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ".
فحسن العمل يدور على هذين القطبين ، أي : أكثر إخلاصاً لله ، وأكثر إصابة للشريعة ، والتزاماً بالمنهج ، ولهذا لم يأت في النص القرآني التعبير بـ : أيكم أكثر عملاً ..وكلمة الفضيل بن عياض في هذا الباب معروفة ، قال في تفسير آية الملك : " أحسن عملاً" : أخلصه وأصوبه ؛ فإن العمل إذا كان خالصاً ، ولم يكن صواباً لم يقبل وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل ، فلا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً .( وانظر : العبودية لابن تيمية ) .
ولقد حاولت أن أحصي المواضع التي وردت فيها كلمة " العمل الصالح " في القرآن الكريم ، بتصريفاتها ، مع المحافظةعلى اللفظين ، فوجدتها نحواً من تسعين موضعاً . أما كلمة " العمل " مع وصف آخر غير الصلاح ، أياً كان ، أو مطلقة غير موصوفة ، فهي أكثر من ذلك بكثير ، إنها حسب إحصاء سريع ... نحو من ثلاثمائة وستين موضعاً ، ولا يخلو سرد تصريفاتها من فائدة : عمل ، يعمل ، يعملون ، اعمل ، اعملوا ، عامل ، عاملون ، عاملة ، عمل ، أعمال ... الخ .( انظر : معجم ألفاظ القرآن ، إخراج مجمع اللغة العربية 2 / 249 - 252 ) .
إنها إشادة صريحة بأهمية العمل وقيمته وضرورته للحياة ، بل وللموت أيضاً ، حتى الموت هو عمل يتدخل فيه جانب الإرادة ، ولهذا قال سبحانه : "فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون ".(/2)
ولقد قامت في مدارس الفلسفة الغربية - والأمريكية منها على وجه الخصوص - سوق رائجة حديثاً للاتجاهات التي تهتم بالعمل والإنجاز والأداء ، وتعتبر هذه فلسفة الحياة الحقيقية ، دعك من الفلسفة التي يسمونها "براجماتية " وهي النفعية الواقعية التي تعتبر أن مقياس الحقيقة في المعرفة هو وجود نتائج عملية ملموسة لهذه المعرفة ، أي : أن المعرفة الحقيقية هي المعرفة المفيدة للممارسة ، وليست المعرفة النظرية المجردة ، المقطوعة الصلة بالواقع ( انظر : قاموس المصطلحات السياسسية والاقتصادية والاجتماعية ، سامي ذبيان وآخرون ، ص85). إن تلك الإشادة الربانية بقيمة العمل تحمل تسفيهاً مباشراً ، لاتجاهين جائرين عن المحجة :
( أولهما) الاتجاه العامل على غير هدى ولا بصيرة ، والذي لا معرفة له بالأسباب الشرعية والطبعية ، أولئك الذين يوصف عملهم بأنه سيِّء ، أو شر ، أو حابط ، أو خبيث ، أو خاسر .. فإن كان هذا العمل دينياً لم يقبل ، ولم يرفع ، ولم تحصل به نجاة في الدار الآخرة .
وإن كان دنيوياً لم يؤت ثمرته المطلوبة ، ولم ييحقق نتيجته المرقوبةة ، لأنه لم يكن ممممبنياً على نظر صحيح ، أو تجربة صادقة .
ولهذا قال تعالى :" وجوه يومئذٍ خاشعة ، عاملة ناصبة ، تصلى ناراً حامية ، تسقى من عين آنية " وقال : "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً ... "الآيات.
ويندرج في هذا التيار كل نحلة أو مذهب أو طريق يضل عن صراط الله ، فيعبد الله على جهل وضلال ، كالمتعبدين والعاملين الناصبين من أهل البدع ، خوارج كانوا ، أو صوفية ، أو غير ذلك . كما يندرج أصحاب المدارس المنهجية التغييرية التي لم تحسن قراءة النواميس والسنن الإلهية ، فبنت أسلوبها في العمل والحياة على تلك القراءة الفاسدة ، فكان أمرها كما قال الله تعالى : "قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد ، فخر عليهم السقف من فوقهم ، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ".
وأجلى صورة معاصرة لذلك الشيوعية بقاعدتها الفلسفية ، وبنائها السياسي والحضاري ، الذي تهاوى بطريقة لم يكن يتوقعها أكثر المتفائلين ، وعادت إنجازاته عبئاً عليه ...كيف يتخلص منها ، كيف يوقف تراجعها السريع ، كيف يحافظ على الحد الأدنى منها ؟ .... الخ .
أما ( الاتجاه الآخر )فهو الاتجاه الراكن إلى القعود ، وترك العمل ، والإخلاد إلى الدعة ، الاتجاه الغافل عن سنن الله ، فهو يريد أن تأتيه أمانيه طوعاً بلا كدٍ ولا تعب ، وهذا ، وإن كان صعب التحقق لما في طبع الإنسان من الحركة والفاعلية ، إلا أنه متحقق من وجوه أخر ، تبدو في أولئك المسترسلين وراء كل شهوة أو رغبة، المتقنعين تحت اسم أو شعار ظنوا أنه يكفيهم ..
فاليهود كانوا يقولون : لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة . ثم جاء النصارى فقالوا مثل قولهم ، وادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه 0 ثم خلف من بعدهم خلف من المسلمين ورثوا الكتاب - يأخذون عرض هذا الأدنى ...ويقولون : سيغفر لنا ! ، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه، نعم؛ كانت الآية لليهود والنصارى ، لكنها للمسلمين واجبة أيضاً ؛ إذ السنة واحدة ، وكما قال حذيفة رضي الله عنه : نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ، إن كان لكم الحلو ، ولهم المر ... !
كما أنه متحقق في أولئك الذين لا هدف لهم ، ولا غاية يسعون إليها ، فهم أسرى للصروف ، والظروف ، والأعمال التفصيلية ، والمجريات اليومية والأحداث الآنية ، لا ينتظم سلوكَهم منهجٌ ، ولا يربط بين أعمالهم رابطٌ غارقون في أعمال ليس لها معنى ، فأحدهم يعمل في الوظيفة ليسدد أقساط البيت ويسكن في البيت لينام ويأكل ويشرب ، ويشرب ويأكل وينام ليستقوي على أداء العمل .... !، دوامة آلية ليس لها روح ، ولكن الغارق فيها قد يلهو حتى عن إدراك الخلل ... بل الخواء الذي يكتنفه . وأبعد من ذلك مهوى ، أصحاب المدارس الفلسفية الخاوية ، كالسوفسطائية من المتقدمين ، والعدميين من المتأخرين ، الذين يرون ألا قيمة للعقل ، ولا قدرة له على المعرفة ، وما يعده الإنسان وجوداً هو في الحقيقة لا شيء ، ويرفضون القيم الأخلاقية ، ويَسْعَوْن للهدم دون أن يمتلكوا البديل الصالح ، ولقد كانت العدمية هي الأيديولوجية السياسية لحزب روسي نشأ عام 1870م ، وكان هدفه تحطيم النظام الاجتماعي القائم ، دون أن يكون في نيته إحلال أي نظام آخر محله ... وقد اشتهرت فلسفة العدمية بربطها بهذا الحزب .
وكثيرون يتبرمون من واقع معين ، ويسعون في تدميره ، ولا يعنيهم أن يكون البديل عنه هو الفوضى ... وعلى حد قول القائل : عليّ وعلى أعدائي ...
أو قول الشاعر العربي:
رُبَّ يومٍ بكيت منه فلما***صِرْتُ في غيره بكيت عليه(/3)
المسافرون إلى الله تعالى
د. لطف الله بن عبد العظيم خوجه 9/12/1426
09/01/2006
الحياة سفر، والناس فيها مسافرون، والغاية واحدة: الآخرة. والمنزل اثنان: جنات عدن، ونار جهنم.
كل الناس سائرون إلى الدار الآخرة، بغير اختيارهم.. إنما خيارهم في الطريق:
- فمنهم من يلزم طريق الجنة، فيتخذ: أركانه، وواجباته، وسننه.
- ومنهم من يلزم طريق النار، فيتخذ: سبيله، وموجباته.
قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً، إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً".
وفي الناس غفلة مترسخة، حكى الله تعالى عنها فقال: "اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ..." [الأنبياء:1-3]. فلا يذكرون سفرهم هذا، ولا مآلهم، وقد يرون الميت بين أيديهم، فلا تتحرك قلوبهم بذكر ولا موعظة..!!
وقد مضت سنة الله تعالى في عباده: أنه يذكرهم؛ رحمة بهم، وبلاغا، ولعلهم يتقون.
فأقام لهم العلامات، ونصبها لهم؛ لتكون عونا، وتذكرة، فيستذكرون ما هم فيه من رحلة، تمضي ولا تقف، تحصي الأعمار، وتجتزئ منها فلا تكل ولا تمل، فمن تلك العلامات: الحج.
* * *
للحج أركان، وواجبات، وسنن، فأركانه: الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة، وسعي الحج.
هذه الأربعة أركان الحج، من دونها لا يصح الحج:
- فبدون الإحرام، لا يحصل الدخول في النسك أصلا.
- وبدون الوقوف بعرفة، لا يحصل اللحاق بالحج، وعليه التحلل بهدي وعمرة، والحج من قابل.
- وبدون الطواف، لا يتم الحج، ويبقى عليه التحلل الثاني، لا يحل له الجماع، حتى يأتي به.
- وبدون السعي، لا يتم الحج، ويبقى في الذمة حتى يأتي به.
والحج سفر أصغر، هو مثال للسفر الأكبر: سفر الحياة الدنيا إلى الآخرة. لكنه سفر المؤمن، المتخذ طريق الجنة، دون سفر المتخذ طريق النار.
فكما أن سفر وشعيرة الحج لا تتم إلا بهذه الأركان، فكذلك سفر الدنيا، والقدوم على الله تعالى، ودخول جنات عدن لا تتم إلا بأركان أربعة مثلها:
أركان السفر إلى الجنة.
فالأول: الموت على الإسلام. فبدونه لا يحصل الانتقال، من دار الدنيا إلى دار الآخرة، والدخول إلى الجنة، قال تعالى: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" [آل عمران:185]. ومثاله الإحرام، فما أشبه الإحرام بالموت على الإسلام:
- ففي كليهما يقر الإنسان بالشهادة لله: المحرم يلبي: "لبيك اللهم لبيك"، والميت يلقن الشهادة: "لا إله إلا الله".
- ففي كليهما التجرد من الثياب، والكفن في ثياب بيضاء، غير مخيطة، يلتف بها الإنسان.
- وفي كليهما التطهر، والتنظف، والاغتسال، والتطيب.
- وفي كليهما صلاة تصلى تقربا إلى الله تعالى.
والفرق أن في الإحرام يفعل المحرم كل ذلك بنفسه، أما في الموت فيفعل به كل ذلك إخوانه المؤمنون.
فالإحرام يذكر الحاج مآله ومصيره، في هذه الحياة، كيف يخرج منها من دون شيء، فارغا، إلا من كفنه، وكيف يلقى بيت الله عز وجل مخالفا عادته في الزي، فكذلك يلقاه في زي مخالف لعادته.
والبقاء في الإحرام طيلة حجه، يذكر بهذا الحال غير المعتاد، ليفهم أنها آتية لا ريب، وأن الإعداد لها بعدة تخفف عنه هول ما يستقبل: واجب، كوجوب الإعداد للحج بعدة تخفف من وعثاء السفر.
الثاني: التوبة والاستغفار. فبدونها لا يفوز المرء بالجنة، لأن الخطيئة تحيط به من كل جهة، ولا يسلم منها، فإذا لم يحرقها بالتوبة والاستغفار أحاطت به. قال تعالى: "بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" [البقرة:81]. لكن التوبة والاستغفار تفك قيد الخطيئة، وتكسر أغلاله، لينفذ المؤمن إلى رضوان ربه، كما قال تعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ" [آل عمران: 135 – 136]. ومثالها الوقوف بعرفة في الحج:(/1)
- فالوقوف بعرفة: وقوف بباب المولى بطلب الصفح، والعفو، والمغفرة، يمكث الناس طيلة النهار وجزءا من الليل، يستغيثون المولى جل شأنه: أن يتجاوز عنهم، ويعاملهم بفضله وكرمه، وأن لا يؤاخذهم بما ركبوا، وجنوا، واجترحوا. والله تعالى يستجيب لهم في هذا الموقف، فيقول لملائكته: "انظروا إلى عبادي: أتوني شعثا، غبرا، أشهدكم أني قد غفرت لهم".
- "والحج عرفة"، أي أعظم ركن فيه، فمن فاته فلا حج له، وبدون الاستغفار والتوبة يفوت ثواب الرب ورضاه، ويحل غضبه وسخط. قال تعالى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ" [المنافقون:5].
فهؤلاء المنافقون، كان سبب هلاكهم استكبارهم عن الاستغفار والتوبة.
- " وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً" [النساء: من الآية64].
- وقال تعالى: "وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" [الأنفال: من الآية33].
فكان سبب امتناع عذابهم استغفارهم.
- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبب عذاب عبد الله بن جدعان ودخوله النار: "إنه لم يقل يوما من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين".
فالوقوف بعرفة يذكر بالتوبة والاستغفار الدائمين، ولزوم الباب حتى يفتح بالرحمة والرضوان، ورفع الغضب والهوان، فمن أطال قرع الباب فتح له، ومن صبر نال الخير.. والحاج يصبر ساعات النهار والليل يطلب الصفح، والعفو، والمغفرة، فكذلك المسافر، المبتغي جوار الرب في الدار الآخرة.
الثالث: تعلق القلب، وملازمة الذكر. فما وصل ولا اتصل، إلا من فرغ قلبه لذكره، وتعلق به حبا، وشوقا، وأنسا، فشرط الإيمان تعلق القلب بالله تعالى، وهو محبته. قال تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ" [البقرة: من الآية165].
والمؤمنون هم الذاكرون، كما قال تعالى:"الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ..." [آل عمران: من الآية191].
ومثاله الطواف بالبيت:
- فالطواف لف ودوران، وهو حال المؤمِّل، المتقرب، المحب، المشتاق: يدور حول محبوبه: منزله، وآثاره. المرة تلو المرة، لا يمل، ولا يتعب، ولا ينصرف، حتى ينعم بكلامه، ونظره، ورضاه.
- وفي الطواف يكون الذكر والاستحضار الدائم لمن يطوف له، حيث يفرغ القلب إلا منه، والعقل إلا من التفكر فيه، وفي آلائه، وهو حال الذاكرين الله تعالى كثيرا والذاكرات.
فالطواف عبادة تذكر بأصل الدين ولبه، وهو محبة الله تعالى وذكره، فيطوف حبا، وشوقا، وذكرا. ويتعلم أن هذا هو حال المؤمن في الدنيا، لا يقدم شيئا على مولاه، لا حبا، ولا ذكرا، وهذا حقيقة التلبية:
- "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك".
والتي تقال عند الإحرام، ويوم التروية، وعرفة، ومزدلفة، حتى رمي جمرة العقبة يوم العيد، فإن "لَبّ" من قولهم: أَلَبّ بالمكان؛ إذا أقام به والتزمه؛ ومعناه: أنا لازم لك، ومتعلق بك، لزوم المُلِبّ بالمكان، مقبل إليك. فقول: لبيك؛ أي أقبلت إليك، وتوجهت إليك، وانقدت لك.
الرابع: الإخلاص والاستقامة على الطاعة. فالجنة لا يدخلها إلا المخلصون، العاملون على استقامة، كما قال تعالى: "فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً" [الكهف: من الآية110]، وقال في العمل: "ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" [النحل: من الآية32]، وقال في لزوم الاستقامة: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ" [الأنعام: من الآية153]، وهذا مثاله السعي بين الصفا والمروة:
- فالسعي يكون جيئة وذهابا مرات. وهكذا المخلص يطلب القبول، إن لم يكن في الأولى ففي الثانية، والثالثة.
- والسعي على استقامة. وهكذا طريق الجنة في الدنيا صراط مستقيم غير معوج.
- والسعي فيه طول وصعود ونزول. وهكذا الطريق طويل وشاق، فسلعة الله غالية.
- والسعي فيه سعي شديد بين العلمين. وهكذا الطريق يحتاج إلى مسارعة ومسابقة، في بعضه.
فإذا سعى استدل بسعيه على الطريق، ووصف الطريق، من: إخلاص، واستقامة، وعمل، ومن معنى التلبية: "لييك اللهم لبيك": أنا مقيم على طاعتك، ولازمها، لا أبرح عنها
وهكذا فلا يجتاز سفر الحج، إلى القبول، والثواب، والخروج من الذنوب كيوم ولدته أمه، كما في الأثر، إلا بفعل هذه الأركان الأربعة، فكذلك لا يجتاز سفر الدنيا، إلى جنة المأوى، إلا بفعل هذه الأربعة.(/2)
ثم يبقى فعل الواجبات، وترك المحظورات، وقد تسامح في ترك الواجب لعذر، وأوجب فدية، وتسامح في فعل المحظور: نسيانا، أو جهلا، أو اضطرار وكرها. وجعل فيه الكفارة والفدية إذا كان عمدا، وهكذا الأمر في السفرين. فما أشبه سفر الحج بسفر الحياة، وما أسعد من اتعظ، وفهم المعنى، وأدرك المغزى، وما أنزل القرآن إلا للتدبر، والتفكر، قال تعالى:
- "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" [صّ:29]. - "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" [محمد:24].
الأصل الأكبر.
والأصل الأكبر في السفرين: توحيد الله تعالى. هذا الذي أرسلت به الرسل، ونزلت به الكتب، وخلق الله الخلق لأجله، ومايز بين الناس به، وحرم به الدم، والمال، وأدخل به الجنة، هو: إفراد الله تعالى وحده بالعبادة، ونبذ الشرك، وطرائق الشرك، سواء كان عبر الشفاعة، أو التوسل، أو التبرك.
هذا الذي يؤمر به الناس في حياتهم، كي يحصلوا ثواب الله تعالى، ويجتنبوا عقابه، منذ البلوغ حتى الممات، كما قال تعالى: "قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" [الأنعام:162 - 163]، فإذا جاء الحج أكد هذا الأصل بشعائره، ورسخه في النفوس، ورباهم عليه بالمظاهر التالية:
الأول: التلبية. فقد كان المشركون في حجهم يلبون فيقولون: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك"، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومنع هذا الشرك، وأمر الناس أن يقولوا في تلبيتهم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك"، فهذا شعار التوحيد وكلمته، يردده الحجاج منذ إحرامهم، وسائر أيامهم.
الثاني: القصد. فإن الحج يقصد لوجه الله وحده، لا لأجل فلان وفلان، لا نبي ولا صالح، يخرج الحاج من بلده وأهله، لا يبتغي إلا الله تعالى وحده، حتى النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل في قصده، فليس من شروط الحج، ولا من واجباته: زيارة مسجده صلى الله عليه وسلم. لكنها من المستحبات عموما.
الثالث: الأعمال. كل أعمال الحج تجرى لله تعالى، ليس لأحد حظ فيها، من الأول إلى الآخر: الإحرام، إلى المبيت بمنى، إلى الوقوف بعرفة، ثم المبيت بمزدلفة، ثم الطواف والسعي، ورمي الجمار.
الرابع: الدعاء. كل الأدعية المأثورة في أعمال الحج أدعية خالصة لله تعالى، فيها التوحيد ونفي الشريك، كدعاء الصفا والمروة، كما قال تعالى: "فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً" [البقرة: من الآية200]، قال القرطبي: "قال ابن عباس وعطاء والضحاك والربيع: اذكروا الله كذكر الأطفال آباءهم، وأماتهم: أبه أمه؛ أي فاستغيثوا به، وألجئوا إليه، كما كنتم تفعلون حال صغركم بآبائكم. وقال طائفة: معنى الآية: اذكروا الله، وعظموه، وذبوا عن حرمه، وادفعوا من أراد الشرك في دينه ومشاعره، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم، وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم".
الخامس: لا حظ لمخلوق. ليس في الحج تبرك بمشاهد، أو أضرحة، أو قبور، أو أشخاص، وليس فيه دعاء غير الله تعالى، أو الاستغاثة به، أو التوسل، بل ليس للمخلوق منه إلا الإحسان، بدعاء وعون، فيشرع في الحج: الحج عن ميت، أو عاجز. أو عون ضعيف أو محتاج، فكل حظ للمخلوق في الحج فبالإحسان إليه، وليس فيه أدنى شيء يدل أو يحث على التبرك به، أو التوجه إليه، وقد كان المشركون في حجهم يتفاخرون بآبائهم، ويذكرونهم، فأمر الله تعالى المؤمنين بقوله: "فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً" [البقرة: من الآية200]، فأمرهم بذكر الله تعالى أشد من ذكر الآباء، ليعلمهم أن هذا موضع يعظم فيه الرب سبحانه وحده دون غيره. وهذا قول آخر في تفسير الآية.
ففي الحج يتعلم المرء التوحيد خالصا صرفا، ليرجع بعده فيكون كذلك في باقي أيامه، كما كان في حجه.
* * *
لما كان الحج عبادة تشمل أعمال: القلب، واللسان، والجوارح.
وكانت عناية الناس، في أغلبهم، منحصرة في أعمال: اللسان، والجوارح.
قصدت التذكير بالعمل الغائب: عمل القلب.
لتحصيل التمام والكمال، في التعبد والأجر.
* * *(/3)
المسترجلة
حمود بن إبراهيم السليم
دار الوطن
الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، فجعل الزوجين الذكر والأنثى، والصلاة والسلام على رسول الهدى، وعلى آله وصحبه وعلى من اتبع الهدى، أما بعد:
فقد ظهر في هذا العصر صنف من النساء، خالفن فطرة الله التي فطر الناس عليها، وتخلقن بصفات لا تليق بطبيعة الأنثى التي خلقها الله لتتميز بها عن طبيعة الرجل، يحسبن بزعمهن أنهن أصبحن كالرجال بحسن التدبير، وحرية التصرف، ومواجهة أمور الحياة، والتنافس على الأعمال، والخوض في مجالات تخص الرجال ولاتليق إلا لهم وبهم.
فواجه ذلك الصنف من النساء من العنت والضيق الشيء الكثير، وحصلت لهن المشكلات النفسية والجسدية ومضايقة الرجال ـ الذين يكرهون تنافس أقرانهم من الرجال فكيف بالنساء ـ بل والتعدي عليهن، وأصبحن منبوذات حتى من بنات جنسهن، يكرهها ويمقتها زوجها وأبناؤها.
ومع ذلك كله جاء الوعيد الشديد لمن خالفت فطرتها، وتخلت عن أنوثتها، وتشبهت بالرجال في اللباس، والهيئة والأخلاق والتصرفات، ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: { لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال } [رواه البخاري]، واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً قال: { لعن النبي المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء } [رواه البخاري]. والمترجلات من النساء يعني اللاتي يتشبهن بالرجال في زيهم وهيئتهم فأما في العلم والرأي فمحمود.
سالم بن عبدالله عن أبيه قال: قال رسول الله : { ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث … } [رواه النسائي]، وفي رواية الإمام أحمد: { لا يدخلون الجنة } وفي رواية أخرى زاد تعريف المترجلة في قوله: { والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال } (594).
ومن تلك الأحاديث يتبين حكم المترجلة التي تتشبه بالرجال بأنه حرام وكبيرة من كبائر الذنوب، قال الذهبي رحمه الله: "تشبه المرأة بالرجل بالزي والمشية ونحو ذلك من الكبائر"، فهي مطرودة من رحمة رب العالمين، ملعونة على لسان رسول الله ، لا ينظر الله إليها يوم القيامة نظرة رحمة، ولا تدخل الجنة، فما أكبره من ذنب، وما أقبحه من جرم، لا يغفره الله إلا بالتوبة النصوح.
والله عز وجل نهى النساء المسلمات أن يتمنين أن يكن كالرجال، وكذلك الرجال نهاهم عن تمني ما للنساء في قوله تعالى: و لاتتمنوا ما فضل الله بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما ففي قول الله تعالى: ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض أي في الأمور الدنيوية وكذا الدينية، وهكذا قال عطاء بن أبي رباح: نزلت في النهي عن تمني ما لفلان، وفي تمني النساء أن يكن رجالاً فيغزون رواه ابن جرير، ثم قال: "للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن" أي كل له جزاء على عمله بحسبه إن خيراً فخير وإن شراً فشر، هذا قول ابن جرير، ثم أرشدهم إلى ما يصلحهم فقال: واسألوا الله من فضله لا تتمنوا ما فضلنا به بعضكم على بعض فإن هذا أمر محتوم، أي أن التمني لا يجدي شيئاً ولكن سلوني من فضلي أعطكم فإني كريم وهاب: إن الله كان بكل شيء عليما .
مظاهر تشبه المترجلة بالرجال
لقد كثرت في وقتنا الحاضر مظاهر تشبه النساء بالرجال فلم يعد الأمر قاصراً على اللباس فحسب، بل تعدى إلى أكثر من ذلك، فمن المظاهر التي تتصف بها المرأة المترجلة:
1ـ التشبه بالرجال في اللباس، من لبس ثياب تشبه تفصيل ثياب الرجل، ولبس البنطال وهو من ألأبسة الرجل أصلاً، فعن أبي هريرة أن رسول الله : { لعن الرجل يلبس لبسة المرأة، ووالمرأة تلبس لبسة الرجل } [رواه أحمد وأبو داود]، وكذلك لبس أحذية تشبه أحذية الرجل، ولقد قيل لعائشة رضي الله عنها: إن امرأة تلبس النعل فقالت: { لعن رسول الله الرجلة من النساء } [رواه أبو داود]، وللأسف الشديد فقد انتشر في الأسواق أحذية غريبة الأشكال، قبيحة المنظر، يتنزه الرجل العاقل عن لبسها، ويزعمون أنها أحذية نساء، ومع ذلك يوجد إقبال كبير على شرائها من قبل النساء، والله المستعان.
2ـ عدم الالتزام بالحجاب الشرعي، الذي هو غطاء الوجه الساتر والعباءة الفضفاضة التي توضع على الرأس من أعلى، وأصبح البديل عنه غطاء للوجه شفاف، وعباءة مزركشة مطرزة توضع على الكتف، تفتن أكثر من أن تستر، أو يلبس ما يسمى بالكاب الذي يظهر تفاصيل جسم المرأة وكأنه ثوب رجل، ويكون إما مزين أو خفيف، ومع ذلك كله لا تهتم بستر جسمها أو تغطية وجهها عن الأجانب، فيظهر جزء من لباسها، وتكشف وجهها أحياناً دون مبالاة.(/1)
قال الذهبي رحمه الله: "ومن الأفعال التي تلعن عليها المرأة إظهار الزينة والذهب واللؤلؤ من تحت النقاب، وتطيبها بالمسك والعنبر والطيب إذا خرجت، ولبسها الصباغات والأزر والحرير والأقبية القصار مع تطويل الثوب وتوسعة الأكمام وتطويلها إلى غير ذلك إذا خرجت، وكل ذلك من التبرج الذي يمقت الله عليه ويمقت فاعله في الدنيا والآخرة".
3ـ كثرة خروجها من البيت لغير حاجة: إما مع السائق، أو سيارة أجرة، أو تقود السيارة في كثير من الدول، أو على قدميها حتى ولو كان المكان بعيداً عنها، خراجة ولاجة، لا تهتم ببيت ولا أولاد، ولا تقيم لذلك وزناً، زعماً أنها تقوم بحاجات المنزل، مع أنه يمكن لأحد رجال البيت أن يقوم بعملها دون الحاجة إليها.
4ـ مزاحمة الرجال ومخالطتهم في الأسواق والأماكن العامة، بل بعضهن لا تستحي أن تصاف الرجال في صف الانتظار، وتدخل وتجلس بينهم وخاصة في المحلات التجارية، وتتكلم مع الباعة كأحد محارمها، وتشترك في البيع والشراء وحدها، وفي أحد تعريفات المترجلة: ( اللاتي يتشبهن بالرجال في الحركة والكلام والمخالطة ونحو ذلك ).
5ـ رفع الصوت بالكلام ومجادلة الرجال: بصوت عال يسمعه البعيد قبل القريب، مع أن المرأة من سماتها خفض صوتها، والبعد عن محادثة الرجال الأجانب، ووفي تعريف للمترجلة: ( التي تتشبه بالرجال.. أو رفه صوتهم ).
6ـ تقليد الرجال في المشية و الحركات: فتمشي في الطرقات والأسواق مشية الرجل بقوة وجلد، وتتمثل حركات الرجل التي تظهر الصلابة والخشونة، بل وصل الحال ببعضهن المشاركة في أندية الكاراتيه ورفع الأثقال وألعاب القوى.
7ـ الخشونة في التعامل والأخلاق: كالرجال ( مع أهل بيتها وأقاربها) فهي عنيدة، فظة الخلق، مستبدة برأيها، لاتقدر ولا تحترم أحداً، وهذه الصفات مذمومة بحق الرجل فكيف بالمرأة؟!.
8ـ ترك الزينة: الخاصة بالنساء كالحناء والكحل وغيره، فتصبح كالرجل في شكلها وهيئتها، قالت عائشة رضي الله عنها: أومت امرأة من وراء ستر بيدها كتاب إلى رسول الله فقبض النبي يده فقال: { ما أدري أيد رجل أم يد امرأة } قالت: بل امرأة قال: { لو كنت امرأة لغيرت أظفارك ـ يعني بالحناء } [رواه أبو داود].
9ـ التشبه بالرجل في الشكل والهيئة: من قص للشعر كشعر الرجل، وتطويل الأظافر، وهيئة الوقوف والجلوس ونحوها.
10ـ نبذ قوامة الزوج أو رعاية الولي: فهي لا تقبل أن تكون تحت قوامة رجل أو تصرف ولي، تريد حرية التصرف المطلقة، دون إذن أو مراعاة رجل البيت.
11ـ السفر دون محرم: بوسائل النقل المختلفة، ومن أشهرها الطائرة فهي التي تستخرج التذكرة وتذهب إلى المطار، وتسافر دون محرم يرافقها ويحميها من الفساق، مخالفة بذلك دينها وخلقها، والرسول قال: { لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم } [متفق عليه]، تريد بذلك الحرية الواهية، فكم حصل لهذا النوع من النساء الضرر والمضايقة، بعكس لو رافقها محرمها:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له *** وتتقي حومة المستأسد الضاري
12ـ قلة الحياء: المرأة المسترجلة قد نزعت الحياء من شخصيتها ومن أخلاقها، وبذلك أصبحت كالشجرة بلا لحاء، مصيرها إلى العطب أو الموت سريعاً، فالمسترجلة تتكلم في كل موضوع، وتتحدث مع كل الناس، وتذهب إلى كل مكان، بلا حياء ولا خلق، كما قال في الصحيح: { إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت }.
ورب قبيحة ما حال بيني *** وبين ركوبها إلا الحياء
فكان هو الدواء لها ولكن *** إذا ذهب الحياء فلا دواء
أهم المظاهر للمترجلة ـ في نظري ـ والتي ظهر شرها بين كثير من نسائنا مع الأسف الشديد، ومن تلك المظاهر يمكن أن نستخرج تعريفاً شاملاً للمترجلة، وهو: التي تتشبه بالرجال زياً وهيئة ومشية وكلاماً ورفع صوت وفي الحركة والمخالطة، وترجلت المرأة: صارت كالرجل.
أسباب تشبه المرأة بالرجل ( الترجل )
للتشبه أسباب عديدة يمكن إجمالها فيما يلي:
1ـ نقص الإيمان وقلة الخوف من الله: لأن الوقوع في المعاصي سواء الكبير منها والصغير نتيجة نقص الإيمان، وضعف مراقبة الله عز وجل، كما قال رسول الله : { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن } [متفق عليه]، ومما لاشك فيه أن المرأة التي تتشبه بالرجال ناقصة الإيمان، قد أغواها الشيطان للوقوع في كبيرة من كبائر الذنوب ورد تحريمها في أكثر من دليل صحيح عن النبي قد سبق ذكرها.(/2)
2ـ التربية السيئة: المرء ابن لبيئته كما يقال، فإذا كانت البيئة التي يعيش فيها صالحة كان صالحاً، وإن كانت سيئة كان كذلك، فالبنت التي تعيش في بيت يسوده الفوضى، وتنعدم فيه التربية الصالحة، معرضة للانحراف غالباً، ومن أشكال الانحراف التشبه بالرجال والاسترجال الذي يخالف فطرة المرأة وخلقها، فلا إيمان يمنعها، ولا تربية سليمة تردها، ولا ولي صالح يردعها عن السلوك السيئ، ويوجهها إلى الطريق الصحيح القويم.
3ـ وسائل الإعلام: بمختلف أشكالها وأنواعها، المرئية والمسموعة والمقروءة، فيها تبث وتنشر الأفكار الضالة والمنحرفة التي تغوي المرأة وتشجعها على التمرد على الدين والمبادئ السليمة، وعلى رفض سلطة الرجل ـ كما يزعمون ـ وتشجع المرأة على المطالبة بحقها في التصرف والحرية، وتعرض أنواعاً من الملابس الفاضحة والمشابهة لملابس الرجل باسم الموضة والأزياء. فتأثر كثير من النساء بما يعرض عليهن فخرجن عن الدين والخلق، وعن قوامة الرحل، وتشبهن بأخلاق الفاجرات وتصرفاتهن دون تفكير أو تمييز بين الخير والشر، وظهر نوع من النساء الشكل شكل امرأة واللبس والتصرفات والأخلاق كالرجال، إنهن ( المترجلات من النساء ).
4ـ التقليد الأعمى: فهي تلبس وتتصرف دون وعي أو إدراك لما تفعله، ودون تفكير في فوائد أو أضرار ما تعمله، فهي تقلد من حولها من صويحبات أو فنانات وإن كان الأمر منافياً لطبيعتها.
5ـ رفيقات السوء: مما لاشك فيه أن الصاحب له تأثير كبير في شخصية من يصاحبه سلباً أو إيجاباً، كما قال الصادق المصدوق نبينا محمد : { مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحاً خبيثة } [متفق عليه]، فالمرأة المجالسة للمترجلات من النساء لابد وأن تتأثر بهن في لبسهن وتصرفاتهن، مجاملة أو تقليداً لهن كي لا تكون شاذة بينهن.
6ـ النقص النفسي ولفت الأنظار: بعض النساء تشعر بنقص نفسي، ومحاولة منها لسد ذلك النقص تفرض شخصيتها عن طريق التشبه بالرجال في اللبس والتصرفات، وبعضهن تتشبه بالرجال للفت الأنظار إليها، وشد الانتباه لها، وذلك بتسريحة الشعر أو لبس ملابس الرجل كالبنطال والقبعة، أو المشي في السوق والأماكن العامة مشية غريبة تلفت الانتباه.
7ـ القدوة السيئة: والقدوة من أهم عناصر التربية، فقد تكون الأم مسترجلة تتصرف كالرجل، فيقتدي بها بناتها، وفي الغالب أن البنات يكتسبن شخصيتهن من أمهاتهن، فالأم التي لا تقدر الأب ولا تحترمه، غالباً ما تكون بناتها كذلك لا يقدرن أزواجهن، والأم التي تكون شديدة اللهجة في الخطاب، ترفع صوتها في الكلام، تكتسب البنت منها هذه الصفة، وكذلك التشبه بالرجال وباقي الصفات، وهذا ما أخبر عنه الصادق المصدوق نبينا محمد ، عن أبي هريرة قال: قال النبي : { كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء } [متفق عليه]، وقد يوجد من تقتدي به تلك المرأة المترجلة سواء من قريباتها أو من تعجب به من المتشبهات بالرجال، فيكون ذلك سبباً رئيساً في محاكاتها وتقليدها.
8ـ انعدام الغيرة من زوجها أو وليها: فلا يمنعها من مخالفتها لأمر الله في الحجاب واللباس، ولاينهاها عن تصرفات ى تليق بها كمجادلة الرجال ونحوها، فتجد أحياناً الزوج أو الأخ يرى تصرفات خارجة عن الحياء والأدب ولا تتحرك الغيرة في نفسه، وقد قال : { ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث … } [رواه أحمد والنسائي].
تلكم هي أهم أسباب تشبه المرأة بالرجال، وإليكم بعض فتاوى العلماء في التشبه:
سؤال ما حكم قص شعر الفتاة إلى كتفيها للتجميل سواء كانت متزوجة أو غير متزوجة؟
الجواب: قص المرأة لشعرها إما يكون على وجه يشبه شعر الرجال، فهذا محرم ومن كبائر الذنوب؛ لأن النبي لعن المتشبهات من النساء بالرجال، وإما أن يكون على وجه لا يصل به إلى التشبه بالرجال، فقد اختلف أهل العلم في ذلك على ثلاثة أقوال: منهم من قال: إنه جائز لا بأس به، ومنهم من قال: إنه محرم، ومنهم من قال: إنه مكروه، والمشهور من مذهب الإمام أحمد أنه مكروه، وفي الحقيقة أنه لا ينبغي لنا أن نتلقى كل ما ورد علينا من عادات غيرنا، فنحن قبل زمن غير بعيد كنا نرى النساء يتباهين بكثرة شعور رءوسهن وطول شعورهن، فما بالهن يذهبن إلى هذا العمل الذي أتانا من غير بلادنا، وأنا لست أنكر كل شيء جديد، ولكنني أنكر كل شيء يؤدي إلى أن ينتقل المجتمع إلى عادات متلقاة من غير المسلمين [أسئلة مهمة: للشيخ ابن عثمان].
وسئل الشيخ عبدالله بن جبرين حفظه الله عن حكم لبس الثوب الفاتح مثل الأصفر والأبيض والأحمر ولكنه ساتر؟(/3)
فأجاب: يجوز للمرأة أن تلبس من الثياب ما هو معتاد للنساء من أي لون كان، لكن ما كان خاصاً بالرجال فلا تلبسه النساء، فقد ورد لعن المتشبهات من النساء بالرجال وبالعكس.
وسئل الشيخ أيضاً عن إطالة الأظافر من أجل الجمال فقال: لا يجوز إطالة الأظافر، بل ورد الأمر بالتقليم كل أسبوع أو كل أربعين يوماً على الأكثر. [فتاوى المرأة].
وورد للجنة الدائمة للإفتاء في المملكة سؤال عن حكم لبس الثوب الضيق والأبيض للمرأة؟
فأجابت اللجنة: لا يجوز للمرأة أن تظهر أمام الأجانب أو تخرج إلى الشارع والأسواق وهي لابسة لباساً ضيقاً يحدد جسمها ويصفه لمن يراها؛ لأن ذلك يجعلها بمنزلة العارية ويثير الفتنة ويكون سبب شر خطير، ولا يجوز لها أن تلبس لباساً أبيض إذا كانت الملابس البيضاء في بلادها من سيما الرجال وشعارهم لما في ذلك من تشبهها بالرجال، وقد لعن النبي المتشبهات من النساء بالرجال. [اللجنة الدائمة للإفتاء].
علاج الترجل
* إن ظاهرة الترجل من النساء بدأت تنتشر ـ مع الأسف ـ في مجتمعات النساء وخاصة في الكليات ومدارس البنات، حتى إن البنات المترجلات يلاحقن البنات الأخريات في أرجاء الكليات ويضايقنهن، وكذلك ظهر نساء خلعن جلباب الحشمة ورداء الحياء في الأماكن العامة وغيرها، فلزم بيان العلاج لوقف تلك الظاهرة الخطيرة، ومن العلاج:
1ـ التربية الإيمانية: لا بد من تربية البنت منذ الصغر على طاعة الله عز وجل، وعلى العقيدة الصحيحة، والتأدب بآداب الشرع المطهر، لتنشأ البنت على الإيمان والأخلاق الفاضلة قال : { من يلي من هذه البنات شيئاً فأحسن إليهن كن له ستراً من النار } [متفق عليه]. وعن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله : { من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو ابنتان أو أختان فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن فله الجنة } [رواه الترمذي].
2ـ القدوة الحسنة: سواء في البيت من الأم عندما تتخلق بالحياء، وتتأدب مع الأب في المعاملة ولطف الكلام، ومع الرجال الأجانب بعدم الحديث معهم، وخفض الصوت إذا اضطرت إلى ذلك، وعندما تخرج تلتزم بالحجاب الشرعي والحياء والأخلاق الفاضلة، أو من مجتمعها النسوي من أخوات وصديقات يتصفن بالخلق وحياء.
3ـ إلزام البنت والمرأة بالحجاب الشرعي: وعدم السماح لهن بلبس ما يخالف ذلك من الكاب والعباءة المطرزة والنقاب وغيره.
4ـ عدم السماح للمرأة بالخروج دون حاجة: وإن خرجت مع السائق الخاص بالعائلة فلا بد من وجود المحرم معها، ثم معرفة إلى أين تذهب ومتى ترجع، حفاظاً عليها لا.
اتهاماً لها
5ـ نهيها عن التشبه بالرجال: سواء في اللباس أو في المظهر، ولابد أن يكون لباسها شبيهاً بلبس النساء.
6ـ عند النزول إلى الأسواق: وعند الشراء يستحسن أن يكون محرم المرأة هو الذي يسأل عن البضاعة ومجادلة البائع في الأسعار، ليحفظ للمرأة حياءها.
7ـ اليقين الكامل بحكمة خلق الله تعالى: بأن خلق الرجل بصفات وخصائص تؤهله للقيام لأعماله ومهامه المطلوبة منه، وكذلك المرأة خلقها الله تعالى بصفات وخصائص تختلف عن صفات الرجل لتقوم هي بأعمالها المطالبة بها، وأن محاولة المرأة التخلي عن طبيعتها واتصافها بصفات الرجل سيكلفها الكثير من المتاعب والمطالبة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ولاتتمنوا ما فضل الله بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما [النساء:32].
أختي الكريمة:
الحذر.. الحذر من الاتصاف بتلك الصفة التي حذر منها رسولنا ، ولعن من اتصفت بها وهي الترجل، وإياك ثم إياك التشبه بالرجال؛ فهو خلق تترفع عنه المؤمنة بربها، الموقنة بلقائة يوم العرض الأكبر.
إن المرأة المسلمة تتميز عن غيرها بصفات وأخلاق تحفظ بها دينها ونفسها، منها خلق الحياء وخفض الصوت والقرار في بيتها، والتزامها بالحجاب الشرعي، فإذا هي فعلت ما أمرت به واجتنبت ما نهيت عنه استحقت من الله تعالى الثواب والأجر العظيم، وأدخلها الجنة برحمته، قال عز وجل: ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا [ النساء: 124]، وإن هي خالفت أمره استحقت العقاب قال الله تعالى: من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب [غافر:4].
اللهم اجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، اللهم اهدنا إلى أحسن الأقوال والأعمال، وصل على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(/4)
المستضعفون
يتناول الدرس الحديث عن فئة من المجتمع المسلم وهي المستضعفون، فمن مقاصد الجهاد الدفاع عنهم، وقد شرعت الكثير من الرخص مراعاة للضعفاء، ثم عرض لمميزات الضعفاء وخصائصهم ، ثم ذكر أنواعا من المستضعفين في مجتمعاتنا، والواجب تجاههم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم، أما بعد ،،، لقد جاء الدين بحماية المستضعفين، أولئك الذين لا يجدون سلطة تحميهم، وليس لهم قوة تنفع أو تدفع إلا قوة الله، قال عز وجل:
}وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا [75]{ سورة النساء . فالقتال في سبيل الله عزوجل من أهدافه: حماية المستضعفين من بطش الجبارين، وحماية حقوقهم المشروعة .يقول عز وجل:} إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِين فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا [97] إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً [98] فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [99] { سورة النساء . فجعل الله الضعف في الإنسان رجلاً أو امرأة، كبيراً أو صغيراً ؛ من أسباب الرخصة والتوسعة عليه، ولهذا تجد النبي صلى الله عليه وسلم راعى الضعفة والضعفاء في مسائل كثيرة، وراعى حالة الضعف بالإنسان كالمسافر والمريض والصغير واليتيم؛ فجعل لهم رخصاً تناسب ضعفهم وغير ذلك من الأحكام الكثيرة ، ومنها على سبيل المثال:
1- جعل صلاة العشاء في أول الوقت : حيث كان يصلي صلاة العشاء في أول وقتها مراعاة للضعفاء من أجل أن يُمَكَّنوا الصلاة أو يدركوها دون أن يشق عليهم، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْنَا حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ فَخَرَجَ فَصَلَّى بِهِمْ ثُمَّ قَالَ: [ إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا وَنَامُوا وَأَنْتُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمْ الصَّلَاةَ وَلَوْلَا ضَعْفُ الضَّعِيفِ وَسَقَمُ السَّقِيمِ لَأَمَرْتُ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ أَنْ تُؤَخَّرَ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ] رواه أبوداود وابن ماجه والنسائي وأحمد.
2- التخفيف بالصلاة : وكذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الإمام بالتخفيف بالصلاة، وعلل ذلك بقوله: [فَإِنَّ مِنْهُمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي والنسائي ومالك وأحمد . ومثل أيضاً ما يتعلق بالدفع من مزدلفة فإنه صلى الله عليه وسلم رخص للضعفاء من النساء والصبيان ومن معهم ومن في حكمهم بالدفع مبكراً بعد مغيب القمر من مزدلفة ، وذلك مراعاة لضعفهم ، وحاجتهم إلى هذا التخفيف ، والتوسعة على الناس ؛ مراعاة لضعف الضعيف وحاجة المحتاج ، ومراعاة للكبير والضعيف والصغير والمرأة ونحو ذلك ، والضعف سبَّب الكثير من الأحكام التي شرعها الله لهذه الأمة مراعاة لحاجتها ، ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمر المغانم في الأمم السابقة بيَّن أنه كانت تنزل نار من السماء فتحرقها، فلما رأي الله ضعف هذه الأمة أحلها لها ،قال عليه الصلاة والسلام: [ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْغَنَائِمَ رَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا ] رواه البخاري ومسلم وأحمد .
من مميزات الضعفاء
1- هم في الغالب الأقرب إلى الخير وإلى الله: ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ عِبَادِ اللَّهِ الضَّعِيفُ الْمُسْتَضْعَفُ ذُو الطِّمْرَيْنِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّ اللَّهُ قَسَمَهُ] رواه أحمد. ذو طمرين يعني: ثوبين باليين خلقين. وفي حديث آخر: [ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد . بعيد عن الكبرياء الذي هو شأن المستكبرين في هذه الدنيا الذين هم وقود النار يوم القيامة.(/1)
2- أكثر أتباع الأنبياء: فالنبي إذا بعث إنما يتبعه ضعفة الناس، ومن ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سفيان لهرقل عندما سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم: [فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَقُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ] رواه البخاري ومسلم وأحمد. وقال عليه الصلاة والسلام: [ ابْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ] رواه الترمذي وأبوداود وأحمد . فالضعيف يدعو ويستغفر ويستنصر، فيستجاب له، وينصر؛ لأنه صاحب قلب منكسر، وعين دامعة، ونفس بعيدة عن التكلف، والكبرياء، والغرور الذي يصيب أهل المنازل العالية. وقد عاقب الله بني إسرائيل بالهلاك لأنهم كانوا يعاملون الضعيف معاملة ، ويعاملون القوي معاملة أخرى. ففي الحديث: [ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا] رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والدارمي .
المستضعفون في مجتمعاتنا
إذاً من خلال هذه النصوص السريعة يتبين لنا أن الدين جاء لحماية المستضعفين والدفاع عن حقوقهم، ولكن اليوم:ماذا نجد في مجتمع المسلمين؟ نجد انتهاكاً لحقوق الضعفاء على أشده ، وهذا باب يطول لكنني سوف أعرض بعض النماذج ، فمن الضعفاء
1] المرأة : فالمرأة في مقام الضعف بالنسبة للرجل: }الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء [34]{ سورة النساء .وكثير من النساء يقرن في البيوت، ولا يخرجن إلا لحاجة لابد منها أو ضرورة ، فتكون تحت هيمنة الرجل وقوامته فماذا ترى ؟ نجد أن الرجل يؤذي المرأة، ويغلظ لها في القول أحياناً، ويظلمها بل قد يضربها ويكثر في هجرها في الفراش، ويقبَّح لها في القول، ويمنعها من حقوقها الواجبة، فلا يرى لها قدراً ، وكأنه يعاملها بما كانت تعاملها الجاهلية الأولى: } وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [59] يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [59] {سورة النحل . فهو إن أمسكها، أمسكها على هون مذلاً لها مقصراً في حقوقها، مؤذياً لها بالقول والفعل، فضلاً عن أن الأكثرين من الناس يمنعون المرأة مما يحتاج إليه الإنسان العادي، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: [ لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ] رواه أبوداود وابن ماجه والدارمي .
فنهى عن ضرب النساء، وهذا إيماء إلى النهي عن كل أنواع الإيذاء والاعتداء على حقوق المرأة، فإذا كنت تظن المرأة ليس لها من يدافع عنها، فتذكر أن الله هو الذي يدافع عن حقها، وقد يبتليك الله بعقوبة في دنياك، أو عقوبة في الآخرة وهي أشد .
فاتقي الله أيها المسلم في هذه المرأة التي ولَّاك الله تعالى أمرها، وقد أخذ الله عليك: } فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [229] { سورة البقرة. فإما أن تمسكها بالمعروف، وتحفظ لها حقها، أو تسرحها بإحسان معززة مكرمة، أما إمساك مع ذل وهوان فهذا مما لم يأذن به الله، فعلى الإنسان أن يعرف أنه موقوف بين يدي الله: }وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ [24] { سورة الصافات. ومما سوف تسأل عنه ماذا قدمت لأهلك؟وإن من الظلم بل من أظلم الظلم للزوجة والأولاد، أن يهمل الإنسان رعايتهم، والقيام على شئونهم الدينية، فلا ينصح لهم، ولا يذكرهم بالله ، ولا يأمرهم بالمعروف ، ولا ينهاهم عن المنكر ؛ بل غايته أنه أحضر لهم أحياناً وسائل الإفساد من التلفزة ؛ بل ربما فيديو وغير ذلك من أشرطة الأغاني والمجلات الخليعة للزوجة والأولاد وللبنات يترك لهم الحبل على الغارب في هذا البيت، وهذا لا شك من الظلم؛ لأنهم بحاجة إلى رعايته في أمور دينهم كما هم بحاجة إلى رعايتهم في أمور دنياهم .
2 ] العمال: والعمال يعانون في مجتمعنا الأمرّين وتصلني شكاوى مكتوبة وشكاوى هاتفية، ومن ذلك:
أ - تسريح العمال ومطالبتهم بالخراج : فمن الناس من يأتي بالعمال، ثم يسرحهم لا يعرف عنهم شيئاً إلا أنه يطالبهم في رأس كل شهر أن يحضروا له خراجاً معلوماً يثقل به ظهورهم وكواهلهم،يعجب الإنسان منا أن رجلاً يؤمن بالله يبلغ به الجشع والطمع والحرمان إلى هذا الحد، فيأخذ رب العمل النائم المتكئ على أريكته جهد هذا العامل وعرق جبينه .(/2)
ب - عدم إعطاء الراتب أو تأخيره : وبعضهم يماطل، ولا يعطيه الراتب ... وهناك شركات تجلس سنة أو سنتين لا تعطي العامل مرتباً واحداً، بل بعضهم تبلغ به الوقاحة أن يطلب من العامل أن يوقع على ورق أبيض حتى إذا اشتكى هذا العامل إلى بعض الجهات؛ يكتب هذا الرجل في الورقة أي شيء يريد ويقول: أن العامل قد وقع على هذا العقد، والعامل قد وقع على ورقة بيضاء بسبب الضغط والإكراه ... و مع هذا: لا عناية ولا رعاية ولا إعاشة ولا مسكن ولا خدمة ولا تكييف ولا مرتب .
ج- الافتقاد إلى الخلق الحسن : فلا يخاطب العامل إلا بأبشع الألفاظ، وأحط الألقاب، ويعير ويسب ويغلظ في القول ويحتقر ويزدري .
كنا نطمع أن هذا العامل إذا جاء إلى هذا البلد تحفظ له الحقوق وتصان على المستوى الشعبي والرسمي... وثقوا ثقة كاملة أنه بقدر ما تؤذون عمَّالكم يسلِّط الله عليكم من يؤذيكم، وهذا أمر شاهد للعيان، فكل إنسان يظلم يبتلى بمن يظلمه، ويسومه الخسف ويعتدي على حقوقه مثل ما فعل هو بالآخرين، فالظلم من الذنوب التي يعجل بها العقاب في الدنيا قبل الآخرة، وهو من حقوق العباد: [ وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ] رواه الترمذي وابن ماجه.
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
كنا ننتظر أن يجد هذا العامل البيئة الإسلامية، فيتعلم الدين، والعقيدة الصحيحة، فلا يخرج من هذا البلد ما دام مسلماً إلا وقد تشبع بالفهم الصحيح للإسلام، فإذا رجع إلى بلده كان مشعلاً للنور، والدعوة ... ولكن الواقع الآن بالعكس : إن كان العامل كافراً رجع كما كان أو أشد ... سيئ الظن بأهل هذا البلد، قد أخذ صورة سيئة عنهم، وعن أخلاقهم، وعن معاملاتهم ... وإن كان مسلماً رجع يشتم، وقد رأينا عمالاً في بلادهم: صحفهم في بلادهم تنشر فضائح كثيرة عن مشاكل العامل والمستخدمين والخادمات وغير ذلك في هذه البلاد ، فأي أخلاق هذه؟ وأي صورة قدمناها لهؤلاء الذين يعيشون بين أظهرنا؟ والله تأخر وضياع أن يجلس العامل الكافر في هذه البلاد سنوات، ويرجع ما عرف الإسلام، أو يأتي العامل المسلم إلى هذه البلاد ويرجع كما كان أو أسوأ .
فلنتق الله تعالى في هؤلاء الضعفاء، وإن لم تكن الجهات الرسمية تستطيع أن تكتشف الألاعيب التي يصنعها أرباب العمل؛ فإن الله لا تخفى عليه خافية: }يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [19] { سورة غافر . وسوف ينتقم من كل من تعدى، أو ظلم، أو أخذ مالاً بغير حق، أو سرق جهد أحد، أو اعتدى على أحد في نفس، أو عرض، أو مال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: [ أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ فَقَالَ إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ] رواه مسلم والترمذي وأحمد . إنها أوضاع مؤسفة جداً ... وهذه أسئلة سوف تسألها بين يدي الله عز وجل، فلتعد لها جواباً :
أولاً : لماذا استقدمت هذا العامل؟ بحق أم بباطل ؟
ثانياً : هل استقدمت العامل لحاجة أم لغير حاجة ؟
ثالثاً : هل الأمة تحتاج هذا أم أنه عبء على البلاد في اقتصادها، و أخلاقها، وأمنها وفي كل شيء ؟
رابعاً : هل اخترت المسلم أم أنك اخترت الأرخص، أو الذي تعتقد أنه الأنفع لك بغض النظر عن ديانته؟
خامساً : لما أتيت به هل قمت بحقوقه الدينية من تعليمه الإسلام، وتربيته على الأخلاق... وغير ذلك أم قصرت في حقه؟
سادساً : هل راقبته في عمله أم لم تراقبه؟
سابعاً : هل تورط في أمور محرمة: أعمال غش، خيانة، فواحش، خمور، دعارة... وغير ذلك معاكسات هاتفية؟
ثامناً : هل قمت بحقوقه المالية وأعطيته حقه أم أنك ظلمته وسرقت جهده ؟
3 ] الأولاد: من الذكور والإناث من الصغار: ما أحوجهم إلى ابتسامة من أبيهم، ضحكة معهم، وقت- ولو عشر دقائق أو ربع ساعة- يتحدث معهم يبادلهم الحديث ، ومن الظلم الحاصل عليهم :
أ - ترك الأب لهم جهاز التلفاز واعتبر أن أهم ميزة فيه أنه يشغل الأطفال عنه، أما تأثير هذا على عقولهم وأخلاقياتهم، فهذا هو آخر ما يخطر بباله .
ب- أن يقصر الأب في نفقة الأولاد في طعامهم ، وشرابهم، وملابسهم ...وفيما يحتاجون ...(/3)
ج- ألا يجعل لهم وقتاً يجلس معهم فيه، ويبادلهم فيه المشاعر، ويقوم بحق الأبوة والتربية الواجبة في عنقه، وفي الحديث: [ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ... وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ]رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبوداود وأحمد .
4 ] الأمة: تعتبر مستضعفة بالقياس إلى من ولاه الله تعالى أمرها من الحكام والمسئولين، فإذا أرفقوا بها وأحسنوا رعايتها، وقاموا بحقوقها، وحاجاتها، وحافظوا على كرامتها، وإنسانيتها ؛ آجرهم الله على ذلك ، وأمَّنهم، ونفع بهم، ورزقهم المحبة والقبول، فتجد الألسنة كلها ثناء عليهم ومدحاً ودعاء لهم ، وإذا كان الأمر على نقيض ذلك: من المشقة على الأمة وإيذائها وإثقالها بالضرائب والرسوم، وكثرة الضغط عليها، ومصادرة حريتها، وترويعها، وإشغالها بما لا حاجة لها به، والتضييق عليها في دينها، والتأثير على أخلاقها، ودينها، وأعراضها، ونقل الفساد إليها، والتضييق عليها في اقتصادها، وتجارتها، وأرزاقها ... وغير ذلك فإن هذا مما يسبب غضب الله، ومقته لهؤلاء ويجعل قلوب الناس تنكرهم، وتبغضهم، فتكون الألسنة كلها ذماً لهم، وتوبيخاً، ونقداً، ودعاء عليهم وهذا ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: [ مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ ] رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد . ويقول: [ اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ] رواه مسلم وأحمد . فدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم مستجابة في حق كل من رفق بالأمة؛ أن يرفق الله به ويحفظه، وفي حق كل من شق على الأمة، وضايقها في دينها ودنياها وأمنها واقتصادها وإعلامها؛ أن الله تعالى يشق عليه ويسلط عليه...والضعفاء كثيرون، والضعف درجات، فعلينا أن نتقي الله تعالى في الضعفاء، والذين تحت أيدينا حتى يهيئ الله تعالى لنا من يتقي الله تعالى فينا ... وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله، وصحبه أجمعين.
من محاضرة: المستضعفون للشيخ/سلمان العودة(/4)
المستقبل شديد التعقيد
الهدنةماتت .. وخريطة الطريق تلفظ أنفاسها
عمان: عاطف الجولاني
jolaniatef@maktoob.com
التساؤل الأهم الذي يطرحه المراقبون للوضع السياسي في المنطقة: ماذا بعد سقوط الهدنة، وما المتوقع في الأيام القادمة بعد أن فُتحت أبواب المواجهة على مصراعيها بين الكيان الصهيوني وحركات المقاومة؟
حركة حماس التي كانت تدرك من البداية أن شارون لن يلتزم بشروط الهدنة، حذرت الصهاينة من مغبة التفسير الخاطئ لدوافع مبادرتها التي أكدت أنها لم تنطلق من حالة ضعف أو عجز كما توهم وزير الدفاع شاؤول موفاز الذي تسرع في إعلان تحقيق كيانه الغاصب انتصاراً على الانتفاضة والمقاومة. وشددت الحركة على أن وقف إطلاق النار المشروط والمؤقت جاء استجابة لجملة من المعطيات، ولا يعني أبداً إنهاء خيار المقاومة الاستراتيجي.
وخلال الأسابيع الماضية أدارت حماس معركة الهدنة بكفاءة عالية، حيث شكلت لجنة خاصة لرصد الانتهاكات "الإسرائيلية"، وزوّدت الأطراف المعنية في الجامعة العربية ومصر والاتحاد الأوروبي أولاً بأول بخروقات حكومة شارون للهدنة، والتي أكدت الحركة أنها تجاوزت ال900 اختراق. وحين شعرت الحركة بأن شارون أساء تفسير دوافعها لإعلان مبادرة الهدنة وراح يستغل حالة وقف إطلاق النار لتصعيد جرائمه بحق كوادر المقاومة وأبناء الشعب الفلسطيني، قررت تلقين شارون درساً قاسياً ينسف الأوهام التي روَّجها موفاز؛ حيث نفذ المجاهد القسامي رائد مسك عملية استشهادية موجعة في قلب القدس، أسقطت 20 قتيلاً و136 جريحاً في واحدة من أقوى العمليات الاستشهادية التي شهدتها الشهور الأخيرة.
سياسيون صهاينة وصفوا عملية القدس بأنها "عملية استراتيجية" شكلت تحولاً جوهرياً في قواعد اللعبة بين حماس و"إسرائيل". ومع أن عدداً من هؤلاء السياسيين دعوا شارون إلى عدم التعجل في الرد على العملية، واستثمارها سياسياً في تشديد الضغوط على السلطة الفلسطينية من أجل تنفيذ الخطوات العقابية التي أعلنتها قيادة السلطة بحق حركتي حماس والجهاد الإسلامي، فإن شارون الذي وقع عليه نبأ عملية القدس كالصاعقة لم يستطع التريث يوماً إضافياً، وقرر الردّ بجريمة اغتيال استهدفت المهندس إسماعيل أبوشنب القيادي السياسي في حماس.
وعلى الفور أعلنت جميع حركات المقاومة بصورة رسمية إنهاء الهدنة، وتوعَّدت "إسرائيل" بردود مؤلمة، وأكد العديد من المحللين السياسيين الإسرائيليين أن مسألة وقوع عمليات تهز شوارع القدس وتل أبيب ليست سوى عملية وقت، وأن الأيام القادمة ستكون "عاصفة مضرجة بالدماء والنار وأعمدة الدخان في المدن الإسرائيلية".
من جانبه أكد الشارع الفلسطيني انحيازه الكامل إلى جانب خيار المقاومة، وخرج نحو 150 ألفاً في شوارع قطاع غزة لتشييع جنازة الشهيد "أبو شنب"، ومطالبة كتائب القسام والأجنحة العسكرية لحركات المقاومة بالثأر والانتقام لجريمة الاغتيال البشعة. وهو ما شكل في رأي المراقبين استفتاءً حقيقياً لموقف الشارع الفلسطيني الذي واجهت حركات المقاومة صعوبة في إقناعه بتفهم قرار الهدنة المؤقتة عند إعلانه.
هدنة جديدة!!: السلطة الفلسطينية التي عوّلت على الهدنة من أجل تخفيف حدّة الضغوط التي مارستها عليها تل أبيب وواشنطن، وجدت نفسها في مأزق حقيقي وموقف حرج للغاية بعد سقوط الهدنة وتصاعد المواجهة بين "إسرائيل" وحركات المقاومة. حيث وقعت بين سندان المطالبات الشعبية لها بالوقوف في الخندق الفلسطيني لمواجهة الجرائم "الإسرائيلية"، ومطرقة ضغوط الإدارة الأمريكية وسلطات الاحتلال لتنفيذ استحقاقات خريطة الطريق التي تطالبها بقمع حركات المقاومة.
ولتلافي الضغوط والتبعات الخطيرة التي ترتبت على تصاعد المعركة بين حماس و"إسرائيل"، دعت السلطة إلى بلورة اتفاق هدنة جديد بوساطة أمريكية تكون "إسرائيل" هذه المرة طرفاً فيه.
لكن مصادر مقربة من شارون قالت للمرة الأولى: إن الحكومة الإسرائيلية لم تعد تكترث بمستقبل حكومة "أبو مازن"، وأكدت أنها مصرة على المضي في خططها ضد حركات المقاومة حتى لو أدى ذلك إلى سقوط "أبومازن" ودحلان.
وكشف الخبير الاستراتيجي الإسرائيلي زئيف شيف النقاب عن أن المجلس الوزاري لحكومة شارون ومجلس الدفاع ناقشا عقب عملية القدس، أخطار الرد "الإسرائيلي" على مستقبل حكومة "أبو مازن"، وقال: إن هذه المسألة كانت إحدى المسائل المركزية التي طرحت في المداولات المطولة. وأكد أن الحكومة "الإسرائيلية" قررت في النهاية أن "ردها على عملية القدس الصعبة يجب أن يكون قوياً دون الاكتراث بكيفية تأثيره على مستقبل حكومة أبو مازن. "إسرائيل" لن تتراجع عن خططها الميدانية التنفيذية حتى وإن سقطت الحكومة الفلسطينية".(/1)
وتقول المصادر "الإسرائيلية": إن لدى السلطة الفلسطينية مخاوف من أن تؤدي إجراءات حقيقية تتخذها بحق حماس والجهاد إلى اندلاع حرب أهلية فلسطينية. وعللت ذلك بأن مكافحة حماس في الوقت الراهن لا تشبه ما كان عليه الوضع عام 1996م حين شنت السلطة حملة قوية ضد الحركة. وحسب هذه المصادر "ليس لأبو مازن إسناد حقيقي من الشارع، وحتى فتح ليست كلها إلى جانبه، وعرفات يجلس على الجدار، ولا يزال من غير الواضح إذا كانت الأجهزة الأمنية الموالية للرئيس ستنضم إلى الحملة، وفضلاً عن ذلك فإن حماس هي اليوم أقوى بكثير مما كانت عليه في العام 1996م".
خطة ضرب الرؤوس
وكشفت أوساط إسرائيلية صحفية عن أن حكومة شارون بلورت في الأيام الأخيرة الخطوط العريضة لخطتها في التعامل مع الوضع الفلسطيني على النحو التالي:
1 ضغط عسكري مباشر على التنظيمات دون التعويل على السلطة الفلسطينية.
2 مواصلة الضغط السياسي على السلطة الفلسطينية باتجاه قمع حركات المقاومة.
3 ضرب قادة حماس وإبراز ذلك على أنه مساعدة للسلطة الفلسطينية لتسهيل قيامها بمهامها.
4 التمسك الشكلي والدعائي بعملية السلام وبمنع انهيار حكومة أبو مازن التي لم تعد موضع ثقة القيادة الإسرائيلية ولا تعوّل أي توقعات عليها.
وقالت مصادر إسرائيلية: إن "إسرائيل" وضعت بالفعل خطة لتصفية رموز حركتي حماس والجهاد الإسلامي أطلقت عليها اسم "خطة ضرب الرؤوس". وجرى تحديد قائمة بأهم الرموز المنوي تصفيتها، ووضعت على ورق لعب على غرار تلك التي وضعتها الإدارة الأمريكية في العراق على قائمة المطلوبين من رموز النظام السابق.
ونسبت صحيفة معاريف "الإسرائيلية" إلى كبار في الهيئة الأمنية الإسرائيلية العليا تبريرهم لاستهداف قيادات حركة حماس، حيث قالوا: إنه "في ضوء حقيقة ألا شيء في حماس يحصل دون مصادقة من فوق، من أعلى فوق، تقرر في الجيش قطع رأس هذا الهرم وتحطيمه إلى شظايا".
لكن "إسرائيل" تدرك إن حربها ضد حركة حماس لن تكون سهلة. وقالت معاريف: إن الهيئة الأمنية الإسرائيلية تصف حماس "كإحدى المنظمات الهرمية الأكثر انضباطاً في العالم". ونقلت عن أحد الجنرالات "الإسرائيليين" قوله: "حبذا لو كنا منضبطين هكذا في الجيش "الإسرائيلي".
في المقابل تسعى حماس إلى تكريس أصول لعبة جديدة مع سلطات الاحتلال، أساسها الردع والرد بعمليات كبيرة على كل محاولة اغتيال يتعرض لها قادتها السياسيون وكوادرها العسكرية، وعدم تفويت أية جريمة يرتكبها الإسرائيليون بحق رموز الحركة، بهدف إجبار القادة "الإسرائيليين" على التفكير مطولاً قبل التورط في أعمال تصفية جديدة لقيادات الحركة. وفي هذا الصدد قال رائد مسك منفذ عملية القدس إن عمليته تأتي رداً على اغتيال "إسرائيل" لقائد حماس العسكري في الخليل وجنوبي فلسطين عبدالله القواسمي الذي اغتالته "إسرائيل" قبل أيام من إعلان الهدنة.
احتمالات المرحلة القادمة:
سياسيون "إسرائيليون" حاولوا قراءة احتمالات تطور المواجهة في المرحلة القادمة بين "إسرائيل" وحركات المقاومة، وطرحوا السيناريوهات الخمس التالية:
الأول: توجيه ضربة مؤلمة لحركة حماس واغتيال عدد من قادتها، يلي ذلك تدخل قوي من قبل الإدارة الأمريكية وأطراف دولية وإقليمية من أجل إعادة فرض الهدوء مجدداً.
الثاني: استقالة حكومة أبو مازن بسبب فشلها في تحمل مهامها، يتبع ذلك نهاية عرفات وابتعاده أو إبعاده عن مسرح الأحداث.
الثالث: تسريع عملية بناء الجدار الفاصل مع الفلسطينيين وتقليل فرص تنفيذ عمليات في المدن الإسرائيلية.
الرابع: جولة دموية من العنف والفعل ورد الفعل المضاد، لا يعرف أحد كيف تنتهي وأين تضع أوزارها.
الخامس: مسارعة الإدارة الأمريكية ومصر إلى التدخل من أجل وقف حالة التصعيد والمواجهة الدامية وإنقاذ خريطة الطريق من خلال الضغط على طرفي الصراع.
وإذا كان الوضع على درجة كبيرة من التعقيد ومفتوحاً على كل الاحتمالات، فإن السيناريو الرابع يبدو مرجحاً خلال الفترة القصيرة القادمة. فمن المستبعد أن تسكت حركة حماس عن الثأر لعملية اغتيال أبو شنب، وفي المقابل لا تستطيع "إسرائيل" التزام الصمت، وسترد على الثأر بثأر مقابل. والضحية المتوقعة لجولة التصعيد القادمة ستكون خطة الطريق التي لا يشعر الشعب الفلسطيني بأي أسف على سقوطها، كما أن حركات المقاومة هي الأخيرة سترحب بإنهاء خريطة الطريق وستعتبر ذلك إنجازاً مهماً.
أما أمريكا التي انشغلت خلال الأسابيع الماضية بمواجهة التحدي الأمني في العراق في ظل تصاعد أعمال المقاومة هناك، فستكون مضطرة لإعطاء اهتمام أكبر للوضع في الساحة الفلسطينية. المحلل "الإسرائيلي" أليكس فيشمان قال: "لقد نوّمت الهدنة الأمريكيين، لكن بعد ما حدث، لن تتمكن الإدارة الأمريكية من إغلاق عيونها". =>(/2)
المستقبل لهذا الدين
ناصر محمد الأحمد
ملخص الخطبة
1- البشارة بمستقبل الدين رغم مرارة الواقع. 2- تنسم رسول الله النصر في أضيق الظروف وأصعب الأوقات. 3- أسباب تأخر النصر لن تمنع تحققه ولو بعد حين. 4- ما يبذله العدو من مال وجهد إلى تباب. 5- أحاديث البشارة النبوية بانتصار الإسلام. 6- واقع الإنسانية وإفلاس المدنيات المختلفة يبشر بالنصر القادم. 7- الصحوة الإسلامية العارمة تبشر باقتراب النصر. 8- متى يقترب النصر. 9- هل يتحقق النصر في ظل تكالب العدو وعجز الصديق.
الخطبة الأولى
أما بعد:
كثيراً ما يرد على أسماع المصلحين والدعاة وطلاب العلم أن المستقبل لهذا الدين، وأن المستقبل للإسلام، وأن النصر قادم إن شاء الله تعالى. فيقول القائل في مرارة وحسرة: أيّة بشرى بمستقبل الإسلام والمذابح الوحشية تلاحق المسلمين في كل مكان، أية بشرى وأيّ أمل وقد بُتر من جسد الأمة القدس الحبيب، أولى القبلتين ومسرى الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، أية بشرى وأي أمل وقد اتفق أعداء الإسلام - على اختلاف مشاربهم وتعدد دياناتهم - على القضاء على الإسلام واستئصال شأفة المسلمين، أية بشرى وأي أمل وقد مات العام الماضي ثلة من علماء الأمة الربانيين والمصلحين المخلصين واحداً تلو الآخر رحمهم الله تعالى جميعا، وبالرغم من كل هذا بل وأكثر من هذا نقول:
لئن عرف التاريخ أوساً وخزرجا فلله أوس قادمون وخزرج
وإن كنوز الغيب تخفي طلائعاً صابرةً رغم المكائد تخرج
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل، وكان صلوات ربي وسلامه عليه عند تناهي الكرب والشدائد يبشر أصحابه بالنصر والتمكين كما فعل يوم الأحزاب. لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً .
نعم أيها المؤمنون فإن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم لا محالة كقدوم الليل والنهار، وإن أمة الإسلام قد تمرض وتعتريها فترات من الركود الطويل، ولكنها بفضل الله جل وعلا لا تموت، وإن الذي يفصل في الأمر في النهاية ليس هو قوة الباطل وإنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ولا شك أنه معنا الحق الذي من أجله خلقت السماوات والأرض، والجنة والنار، ومن أجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل، معنا كما قال سيد قطب رحمه الله تعالى رصيد الفطرة.
فقال في فصل جميل له بعنوان رصيد الفطرة، قال: يوم جاء الإسلام أول مرة وقف في وجهه واقع ضخم، وقفت في وجهه عقائد وتصورات، ووقفت في وجهه قيم وموازين، ووقفت في وجهه أنظمة وأوضاع، ووقفت في وجهه مصالح وعصبيات، كانت المسافة بين الإسلام يوم جاء وبين واقع الناس مسافة هائلة سحيقة، ولو أنه قيل لكائن من كان في ذلك الزمان أن هذا الدين الجديد هو الذي سينتصر لما لقي هذا القول إلا السخرية والاستهزاء والاستنكار! ولكن هذا الواقع سرعان ما تزحزح عن مكانه ليخليه للوافد الجديد، فكيف وقع هذا الذي يبدو مستحيلاً، كيف استطاع رجل واحد أن يقف وحده في وجه الدنيا كلها، إنه لم يتملق عقائدهم، ولم يداهن مشاعرهم، ولم يهادن آلهتهم، ولم يوزع الوعود بالمناصب والمغانم لمن يتبعونه، فكيف إذن وقع الذي وقع؟ لقد وقع الذي وقع من غلبة هذا المنهج لأنه تعامل من وراء الواقع الظاهري مع رصيد الفطرة. انتهى.
إذن معنا رصيد الفطرة، وقبل ذلك كله معنا الله، ويا لها من معية كريمة جليلة مباركة، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إنه وعد الله وكلمته ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون إن هذا الوعد المبارك سنة من سنن الله الكونية الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير، وإن هذا النصر سنة ماضية كما تمضي الكواكب والنجوم في أفلاكها بدقة وانتظام.
أيها المسلمون: قد يبطئ النصر لأسباب كثيرة جداً، ولكنه آت بإذن الله تعالى في نهاية المطاف مهما رصد الباطل وأهله من قوى الحديد والنار، ونحن لا نقول ذلك رجماً بالغيب ولا من باب الأحلام الوردية لتسكين الآلام وتضميد الجراح كلا، ولكنه القرآن الكريم يتحدث، والرسول الصادق الأمين يبشر، والتاريخ والواقع يشهد.(/1)
نعم، فمع بشائر القرآن العظيم: قال الله تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وقال تعالى: يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ووعد الله المؤمنين بالنصر فقال: ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ففي هذه الآيات أخبر الله سبحانه وتعالى أن من سنته في خلقه أن ينصر عباده المؤمنين إذا قاموا بنصرة دينه وسعوا لذلك، ولئن تخلفت هذه السنة لحكمة يريدها الله في بعض الأحيان فهذا لا ينقض القاعدة، وهي أن النصر لمن ينصر دين الله. ومن البشائر وعد الله للمؤمنين بالتمكين في الأرض وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وقد وعد الله في هذه الآية وهو الذي لا يخلف الميعاد وعد المؤمنين باستخلافهم في الأرض، وأن يمكن لهم دينهم، وأيّ أمل للمسلمين فوق وعد الله عز وجل، وأيّ رجاء بعد ذلك للمؤمن الصادق.
ومن البشائر في كتاب الله الإشارة إلى ضعف كيد الكافرين وضلال سعيهم، إن مما يجلب اليأس لكثير من المسلمين ما يراه من اجتماع الكفار على اختلاف طوائفهم ومشاربهم على الكيد للإسلام وأهله، وما يقومون به من جهود لحرب المسلمين في عقيدتهم وإفساد دينهم، في حين أن المسلمين غافلون عما يكاد لهم ويراد بدينهم، وحين يرى المرء ثمرات هذا الكيد تتتابع حينئذٍ يظن أن أيّ محاولة لإعادة مجد المسلمين ستواجه بالحرب الشرسة وتقتل في مهدها، فيا من تفكر في هذا الأمر اسمع لهذه الآيات: قال الله تعالى: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون فكم من المليارات أنفقت ولا زالت تنفق بسخاء رهيب للصد عن سبيل الله لتنحية دين الله عز وجل، ولكن بموعود الله عز وجل فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون.
نعم فكم من المليارات أنفقت وبذلت لتنصير المسلمين، وكم من المليارات أنفقت لتدمير كيان الأسرة المسلمة، وكم من المليارات أنفقت لتقويض صرح الأخلاق بإشاعة الرذيلة عن طريق القنوات الفضائية وعن طريق الأفلام الداعرة والمسلسلات الفاجرة والصور الخليعة الماجنة والقصص الهابطة، والآن عن طريق شبكات الإنترنت، يعرض كل هذا وأكثر، ويدخل لا أقول كل بيت، بل كل غرفة بيسر وسهولة ودون رقيب، ولكن ما هي النتيجة، النتيجة بإذن الله عز وجل وموعوده: فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ، وتأمل في قول الله تعالى: إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً فأمهل الكافرين أمهلهم رويدا وقوله عز وجل: ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين فهما كاد هؤلاء لدين الله ومهما بذلوا لمحاربته، فالله لهم بالمرصاد، وهم أعداء الله قبل أن يكونوا أعداء المسلمين.
في وثيقة التنصير الكنسي صرخ بابا الفاتيكان بذعر لكل المنصرين على وجه الأرض قائلاً: "هيا تحركوا بسرعة لوقف الزحف الإسلامي الهائل في أنحاء أوربا".
سبحان الله إنه دين الله، تأمل أخي الحبيب جهود بسيطة لكنها مباركة تفعل فعلها في نفوس الكافرين، ترعبهم وتزعجهم، إنه دين الله، ووالله الذي لا إله إلا هو لو بذل الآن للإسلام مثل ما يبذله أعداء الإسلام لأديانهم لم يبق على وجه الأرض إلا الإسلام.
وستظل هذه البشائر القرآنية تبعث الأمل في القلوب الحية المطمئنة الواثقة بنصر الله جل وعلا، وإن تأخر النصر وطال الطريق.
أيها المسلمون: وتأتي البشائر النبوية الكريمة لتؤكد هذه الحقيقة، اسمع يا أخي المحب: روى الإمام أحمد في مسنده عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)).
ومن البشائر النبوية أحاديث الطائفة المنصورة وقد وردت عن عدد من الصحابة، جاء في حديث سعد بن أبي وقاص عند مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لايضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) وإن المسلم عندما يطرق سمعه هذا الوصف ليتمنى من أعماق قلبه أن يكون من هذه الطائفة وأن يضرب معها بسهم في نصرة دين الله وإعلاء كلمته، فتتحول هذه الأمنية وقوداً تشعل في نفسه الحماسة والسعي الدؤوب للدعوة لدين الله على منهج الطائفة الناجية أهل السنة والجماعة.(/2)
أيها المسلمون: إن البشائر النبوية التي سمعتها لهي بشائر عامة مطلقة، وقد جاءت أحاديث تبشر بانتصار الإسلام في حالات خاصة، فمن ذلك مثلاً قتال اليهود.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود)) وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "بينما نحن جلوس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أم رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مدينة هرقل تفتح أولاً)) يعني: القسطنطينية. قال العلامة الألباني رحمه الله: وقد تحقق الفتح الأول على يد محمد الفاتح العثماني كما هو معروف، وذلك بعد ثمانمائة سنة من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح، وسيتحقق الفتح الثاني بإذن الله تعالى ولا بد، ولتعلمن نبأه بعد حين.
وقد جاءت البشائر النبوية أيضاً بأن للمسلمين صولة وجولة وملاحم عظيمة مع الروم تكون فيها الغلبة للمسلمين والنصر لعباده المؤمنين، روى ذلك مسلم في صحيحه في كتاب الفتن وأشراط الساعة، وعد صادق وقد خاب من افترى.
أيها المسلمون: إن الإسلام قادم والله الذي لا إله إلا هو، لأنه الدين الذي ارتضاه الله للبشرية ديناً. إن الدين عند الله الإسلام ، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً .
وهناك بشائر أخرى تعرف من طبيعة هذا الدين وفطرة الله وسنته في خلقه، ومن ذلك أن الدين الإسلامي هو الذي يتوافق مع الفطرة ويحقق للناس مصالحهم في الدنيا والآخرة، فالرسالات السماوية قد نسخت وحرف فيها وبدّل، والأنظمة البشرية يكفي في تصور قصورها وفشلها أنها من صنع البشر، فمن طبيعة هذا المنهج الإسلامي نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دوراً في هذه الأرض هو منزّل لأدائه، أراده أعداؤه أم لم يريدوه.
ومن البشائر: أن العالم اليوم يشكو من إفلاس الأنظمة البشرية ويتجرع مرارة وويلات هذه النظم التي دمرت الإنسانية وقضت على كل جوانب الخير لديها، ومن أقرب الشواهد على ذلك انهيار الأنظمة الشيوعية واحدةً تلو الأخرى، وحقٌ على الله ما ارتفع شيء إلا وضعه، والدمار قادم بإذن الله لمن على شاكلتهم من الكفر والضلال ومحاربة الإسلام وأهله، وصدق الله العظيم: ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد والعالم اليوم يتطلع إلى المنقذ الذي يخلصه من ذلك، ولا منقذ إلا الإسلام.
سلام على قلب من الطهر أطهر وروح شفيف في رُبى الخلد يَخطُر
وأطياف جنات وأنسام رحمة وحبٌ عفيف رائق الذل أخضر
وساعات إسعاد يظل غمامها على كل ساحات المحبين يمطر
ترفق بقلبي فالأعاصير تزأر وسود الرزايا في الظلام تزمجر
ترفق بقلبي فالجراح كثيرة وذي أسهمٌ شتى عليه تكسّر
ففي أرض شيشان الشهيدة مأتم فهل تسمع الدنيا الضجيج وتُبصر
وفي الشام أنّاتٌ ووطأة غاشم وليل وآهات ودمع وأقبر
وفي دار هارون الرشيد زلازل وآثار مجدٍ أحرقوه ودمروا
حنانيك يا بغداد صبراً فربما يُتاح لهذا الكفر سيل مطهّر
لماذا دموع الحزن لستِ وحيدةً وأنتِ على الأيام عزٌ ومفخر
وكل بلاد المسلمين مقابر وهم صور الأحجار تنهى وتأمر
تماثيلُ لكن ناطقات وإنما بلاء البلاد الناطق المتحجر
جراح بني الإسلام غاب أُساتها وأنّاتهم في كل أرض تضّور
تساقيهم الدنيا كؤوس مذلة على أنهم عُزّل الأكف وحُسّر
وتجتمع الأحلاف تحت مظلة السلام لتربي فارساً لا يُعفّر
ويحشد أرباب الصليب حشودهم ليستنجزوا الوعد الذي لا يؤخر
فيا فارساً أطل زمانه تعال فما كلٌ على الصبر يصبر
وعودك حق لم نزل في انتظارها وكل الرزايا في جوارك تصغر
وجندك منصور وجيشك قادم ونورك في كل الدياجير يُسفر
تخطيت أسوار الولايات كلها لأنك من كل الولايات أكبر
وترهبك الدنيا وما أنت لعنةٌ ولكنك السيف الذي لا يكسّر
وأنت لكل الظالمين نهايةٌ فلا غرو إن صالوا وجالوا وزمجروا
فيا أيها المستكبرون توغلوا وعيثوا فساداً إن أردتم ودمروا
وسوموا عذاب الهون كل شعوبكم وقولوا لهم غير الحقيقة واسخروا
وظُنوا بأن الأمر طوع يمينكم وأنكم الحتم الذي لا يغيّر
فهذي ديار الظالمين تجيبكم وهذا غد الإسلام في الأفق يخطر
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. .
الخطبة الثانية
أما بعد:(/3)
أيها المسلمون، ومن البشائر بأن المستقبل لهذا الدين: هذا الذي يلوح في الأفق ويشرق كالفجر ويتحرك كالنسيم، إنه أكبر حدث إنساني في النصف الثاني من القرن العشرين بعد كل هذه المؤامرات والضربات المتلاحقة، هذا الحدث الكبير الذي هز كيان العالم كله متمثلاً في هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي نسأل الله أن يبارك فيها، تلك الصحوة الكريمة التي يغذيها كل يوم بل كل ساعة شباب في ريعان الشباب وفتيات في عمر الزهور، ينسابون من كل حدب وصوب، يمشون على الشوك، ويقبضون على الجمر في بعض البلدان تمسكاً بدين الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إنه الأمل إنه هذا الجيل الذي تفتحت عينه على نور الإسلام وانشرحت بصيرته لتقبل الحق ولم يخدع بصره بريق الحضارة الغربية الزائف الخاطف للأبصار، ولم يؤثر فيه سحرها المغير للعقول والأفكار، فحيثما توجهت بفضل الله عز وجل وجدت رجوعاً خاشعاً خاضعاً إلى الله تعالى، ووجدت نفوساً متعطشة إلى دين الله مشتاقة إلى الإسلام بعد أن أضناها لفح الهاجرة القاتل والظلام الدامس وحيثما توجهت سمعت آهات التائبين ودموع الخشوع تزين الوجوه تردد في خشوع وتبتل آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون.
وبعد ذلك كله نقول دون شك أو تردد إن المستقبل لهذا الدين، وإن العزة ستكون لأولياء الله، أوليس الله قد قال: ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ومن أصدق من الله قيلا وهو الذي لا يخلف الميعاد، ولكن السؤال هو متى يكون هذا؟ اليوم أم غداً أم بعد سنوات؟
الجواب: كما قال سيد قطب رحمه الله: في ذلك اليوم سيعود الناس إلى الدين سيعودون إلى الإسلام، وتلك قوة أكبر من إرادة البشر لأنها مبنية على السنّة التي أودعها الله في الفطرة وتركها تعمل في النفوس، وحين يجيء ذلك اليوم فماذا يعني في حساب العقائد عمر جيل من البشر أو أجيال، ليس المهم متى يحدث ذلك، إنما المهم أنه سيحدث بمشيئة الله وعد صادق وخبر يقين، وحين يجيء ذلك اليوم وهو آت إن شاء الله، فماذا تساوي كل التضحيات والآلام التي تحملتها أجيال من المسلمين، إنها تضحيات مضمونة في السماء والأرض. انتهى.
ولكن هل يتنزل النصر كما ينزل المطر، ويمكّن للمسلمين وهم قاعدون خاملون لم يبذلوا أي جهد ولم يسلكوا أي سبيل للنصر، لنقرأ الإجابة في قوله عز وجل: حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجّي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين إنها سنة الله في هذا الكون التي لا تتبدل ولا تتغير، لقد شاء الله وقضى أن يقوم هذا الدين على أشلاء وجماجم أوليائه وأحبابه وعلى أن توقد مصابيح الهداية بدم الشهداء الأبرار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة قال الله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين عن خباب رضي الله عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: ((لقد كان من قبلكم يمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظام أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتِمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) ما أحسن الكلمة وما أروع العبارة، لقد كان لها وقع كبير في قلوب المستضعفين في كل زمان ومكان ((ولكنكم تستعجلون)) استدراك عجيب منه صلى الله عليه وسلم ليخبر الصالحين والمصلحين أن الصبر هو الوسيلة العظمى والزاد النافع لهم في طريقهم الطويل الصعب الشاق الوعر، ذاك الطريق الاستقامة على شرع الله والدعوة إليها المليء بالعقبات، وذكّرهم عليه الصلاة والسلام بمن سبقهم من المستضعفين ليكون لهم زاداً في طريقهم الطويل، ويسليهم حتى يعلموا أن هناك من صبر أكثر منهم وبشرهم ووعدهم حتى لاييأسوا من العاقبة والعاقبة للمتقين.
وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير شاهد على ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم لقي ما لقي من الأذى والبلاء، وهو خليل الله وسيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه، نعم إن من رحمة الله أن جعل طريق النصر محفوفاً بالأشواك والمصائب، وهذا من كمال حكمته وعلمه، وهو الذي لا يُسأل عما يفعل، وقد أشار الله في كتابه إلى شيء من هذه الحكم، فمنها تمييز الصادقين من غيرهم، واتخاذ الشهداء والأجر والمثوبة من عند الله، والهداية والتوفيق لأنصار دينه، وأن ذلك سبب لهم في دخول الجنة، إلى غير ذلك من الحكم العظيمة.(/4)
أيها المسلمون: وقد يسأل سائل ويقول: كيف يكون المستقبل للإسلام والأعداء قد اجتمعوا عليه وتكالبوا من كل جهة؟ كيف والأعداء يملكون القنابل النووية والأسلحة الفتاكة، والمسلمون عزّلٌ من السلاح؟.
إن هذا السائل لينسى أن الذي ينصر المسلمين هو الله لا بجهدهم ولا قوتهم قال الله تعالى: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين فالمسلمون سبب لتحقيق قدر الله وإرادته فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً إن الله سميع عليم وينسى هذا السائل ثانياً أن الله يسبح له من في السموات ومن في الأرض، ومما يسبح له قنابل هؤلاء وأسلحتهم، وينسى ثالثاً أن الله إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون وما أمرنا إلا واحدةٌ كلمح بالبصر والله غالب على أمر ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وينسى رابعاً أن الأعداء وصلوا إلى هذه القوة الهائلة والتمكين بجهدهم البشري، وهو ليس حكراً على أحد، وحركة التاريخ لا تتوقف قال الله تعالى: إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وتلك الأيام نداولها بين الناس، فمهما كادوا للإسلام وأهله واجتمعوا لحربه فإن الله ناصر دينه ومعلي كلمته، من كان يظن ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع قلة مؤمنة في مكة يعذبون ويضطهدون ويحاربون بل ويطردون من بيوتهم وبلدهم، بل ونال الأذى والبلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع التراب وسلى الجزور على رأسه وهو ساجد وفي تلك الحالة يعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم بكنوز كسرى وقيصر.
فما هي إلا سنوات قليلة إلا وإذ برسول الله صلى الله عليه وسلم يعود إلى مكة فاتحاً منتصراً يحيط به عشرة آلاف رجل، ويدخل الحبيب المسجد فتتهلل الكعبة فرحاً بشروق شمس التوحيد وتتبعثر الأصنام والآلهة المكذوبة في ذل وخزي شديد، ويردد الحبيب قول الله عز وجل: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً .
وبعد فترة يموت النبي صلى الله عليه وسلم، وتبرز فتنة الردة بوجهها الكالح حتى ظنّ بعض من في قلبه مرض أنه لن تقوم للإسلام قائمة، فنهض الصديق رضي الله عنه، ووقف وقفته الخالدة، وانتهت الفتنة، وازداد الإسلام رفعةً وعزةً.
ومن كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة بعد ما استولى الصليبيون على كثير من بلدانهم ودنسوا المسجد الأقصى ما يقارب قرناً من الزمان حتى حرر الله الأرض وطهر المسجد الأقصى على يد البطل الكبير صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين الحاسمة التي سطرها التاريخ.
أيها المسلمون: إن المستقبل بل كل المستقبل للإسلام، فلتكن كلك للإسلام دينك لحمك، دينك عرضك، دينك دمك.
سر في الزمان وحدث أننا نفرٌ شم العرانين يوم الهول نفتقد
عدنا إلى الله في أعماقنا قبس من السموات لا يغتالها الأبد
جئنا نعيد إلى الإسلام عزته وفوق شم الرواسي تنصب العمد
==============
الهزيمة النفسية
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، وسلم تسليماً كثيراً{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (102) سورة آل عمران. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (70) (71) سورة الأحزاب، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم – وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد عباد الله:
أيها المسلمون:(/5)
فإن من أعظم ما أصيب به المسلمون اليوم، بل هو أعظمه ولا شك ما سيطر عليهم من روح الانهزام أمام أعداء الإسلام، وضعف الهمة عن بعث روح المقاومة والمغالبة، والعجز عن مجرد التفكير في ذلك، حتى بلغت الأمة الإسلامية في ذلك مبلغاً من الانحطاط، والتقهقر والتخلف لا مزيد عليه، فرضيت بالقعود واستسلمت للغزاة، وتخلفت عن القيام بالواجب. واستحلت الأخلاد إلى الدعة والراحة والسكون والمهادنة طمعاً في العاجلة, وفراراً من المواجهة, ورغبة في المزيد من الانغماس في الترف الذي غرقت في أوحاله إلى أذنيها، وانطبعت به حياتها فتعودت عليه.
إن هذه الروح الانهزامية التي انتشرت في أوساط الأمة الإسلامية لهي أخطر عليها من كل سلاح؛ بل لقد قامت وحدها مقام كل سلاح يمكن أن يغزوها به أعداؤها في القديم والحديث؛ إذ حققت لأولئك الأعداء ما لم يكونوا ليستطيعوا تحقيقه بالقوة والبطش والجبروت, فحققوا عن طريق ما يسمى بالغزو الثقافي والفكري الذي أنتج تلك الهزيمة النفسية في مجتمعات المسلمين وأفرادهم على السواء وأدى إليها ما لم يكونوا يحلمون به.
أيها المسلمون: إننا أمة النصر والتمكين، أمة العقيدة الصحيحة، أمة الاستخلاف الصحيح في الأرض كتب الله لنا العزة، {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} المنافقون8.
نعم العزة للمؤمنين بالله المتمسكين بشرعه {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}. (آل عمران 139).
أيها المسلمون: لقد أراد الله تعالى لهذه الأمة المحمدية أن تكون لها الريادة والسيادة على باقي الأمم تقود الأمم إلى الله، وتخضعها لمنهج الله تعالى الذي لا بد أن يحكم البشرية.
قال الله تعالى: {كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}(آل عمران100).
ولكن عندما تخلت الأمة عن دورها، وتركت واجبها صار حالها إلى ما نرى وما نسمع. فلم يعد خافياً على أحد من الناس اليوم ما يعيشه المسلمون من ذلة ومهانة، وما يحيط بهم من ظروف صعبة، وأحوال مريرة تتمثل في كيد الأعداء وتسلطهم على بلاد المسلمين، كما تتمثل في أحوال المسلمين أنفسهم وما طرأ على كثير من مجتمعاتهم من بُعد عن تعاليم الإسلام وإقصاء لشريعة الله سبحانه ورفض الحكم بها، والتحاكم إليها. وبهذا استطاع أعداء الله أن يقتلوا في الأمة روح العداء لهم, ليس ذلك فحسب، وإنما استطاعوا أيضاً أن يحولوا ذلك الشعور الدفاق في المسلمين بالعداوة لهم إلى شعور بالمحبة والصداقة والارتياح والرضى والثقة التي ليس لها حدود؛ بل وإلى ما هو أكثر من ذلك إلى الانبهار بالقوم والشعور بأنهم اصحبوا القادة والسادة والرواد.
إن الهزيمة النفسية شعور بالهوان والضعة والضعف والعجز .
إن الهزيمة النفسية في أدق صورها وأجلى معانيها ذوبان في الشخصية وتملك من التبعات ورخاوة في تناول شئون الحياة، وإخلاد إلى الدعة والسكون في ذلة وخور وإقبال على المتاع الغليظ.
إنها ذل يعيش في سويداء القلب، ورضى بالدونية يجعل صاحبه لا يرفع رأسه، ولا يفتح عينيه.. إنها إعطاء العقل والأحاسيس والشعور لغيرك، يتحكم فيه بما يريد، وأن يتحول إلى ظل لهازمه الذي ملأ عليه كل فراغ وسد عليه كل منفذ فلا يستنشق إلا الهواء الذي يستنشقه هازمه الذي يسير في ركابه ويسيطر على عقله وقلبه وكيانه كله، ولا يسلك إلا الطريق الذي يسلكه، ولا يرى إلا ما يراه ولا يسمع إلا ما يسمعه. إن الهزيمة النفسية بعبارة أخرى تحولٌ إلى نسخة كربونية. إن صح التعبير عن ذلك السيد الهازم المطاع.
هذه هي حقيقة الهزيمة النفسية الداء العضال, والمرض الفتاك التي تسلب المصاب بها أهم خصائصه والشعور بقيمته والإحساس بوجوده والاعتزاز بنفسه ومقوماته.
أيها المسلمون: لقد جاء الإسلام والعرب أمة تافهة حقيرة لا يعترف بها ولا قيمة لها في موازين الأمم، وصنع من الحفاة الرعاة الذي لا يفهمون ولا يفقهون صنع منهم سادة للإنسانية، وصناعاً للحضارة دكوا عرشي كسرى وقيصر، ودمروا عنجهية الفرس والرومان، ونشروا دين الله في أرض الدولتين اللتين كانتا تقتسمان العالم يومذاك. كان ذلك يوم كان الإسلام يعيش في قلوبهم وفي كل جارحة من جوارحهم يعيشون به ويعيشون له، لم يكن لهم من إله إلا الله، ولا من دستور غير القرآن، ولا من معلم غير محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
لقد انطلقوا في مجتمع البشرية مبشرين بعظمة دينهم وعزته وضرورة المحافظة عليه، والعض عليه بالنواجذ والاستمساك بعروته الوثقى، والسير على هدى تعاليمه الكريمة ومبادئه السامية.
لقد كان الإسلام عالي الأركان، شامخ البينان عظيم السلطان، ينطق بمجده في كل شبر في أرض الله الواسعة, ويحمله في الصدور رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، لا تلهيهم تجارة ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.(/6)
واليوم حين خلفت خلوفنا نحن، وتبدل كل شيء من ذلك وتغير – في الغالب والأعم- فلم يعد الإسلام يعيش في قلوبنا وجوارحنا، ولم نعد نعيش به ونحيا له، واتخذ كثير منا إلهه هواه، ودساتير شرقية وغربية غير القرآن، ومعلمين شرقيين، وغربيين غير محمد صلى الله عليه وسلم.
لما تغيرت حالنا عن حال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأصبحنا كأعدائنا, فدساتيرنا مستمدة من دساتيرهم ونظمنا مأخوذة من نظمهم وأفكارنا نسخة من أفكارهم، ومبادؤنا جزء من مبادئهم. إلا من رحم الله.
ولكن هل فقد الأمل؟! وهل استشرى اليأس إلى جميع هذه الأمة؟! وهل فقدت الأمة هويتها؟! لا والله، بل إن الله تعالى من رحمته بهذه الأمة أن يهيء لها من يعيد لها مجدها وكرامتها.
لقد أصاب الأمة الإسلامية فتور في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وذلك نتيجة لترك الناس الدين، وإقبالهم على الدنيا، فأدّب الله تعالى المسلمين، ولقنهم درساً بليغاً على يد التتار المجرمون، لقد جاء التتار إلى بلاد المسلمين في زمن كثرت فيه المعاصي وابتعد الناس عن منهج الله، وأصابهم هذا الداء العضال داء الهزيمة النفسية، وخافوا من عدوهم أشد من خوفهم من الله عز وجل، وانهزموا نفسياً حتى أن التتري كان يأتي إلى المسلم ويقول له: اجلس في مكانك وسأذهب آتي بالسيف لأقتلك، فيجلس في مكانه ويأتي إليه ويقتله ولا يحرك ساكناً. وفعلوا الأفاعيل بالمسلمين وأحرقوا الكتب.
ولكن ذلك لا يعني نهاية الدين والأمة المسلمة, فقد بين عليه الصلاة والسلام: أن طائفة من هذه الأمة ظاهرة على الحق منصورة لا تزال إلى قيام الساعة. والحديث عند مسلم وغيره.
وبعث الله فارساً عظيماً شيخ الإسلام ابن تيمية،استطاع بفضل الله أن يحي تلك المعالم التي اندرست في نفوس المسلمين، وذكرهم بآبائهم وأجدادهم الفاتحين، وذكرهم قبل ذلك بعظمة الله تعالى وقوته وسطوته، وأنه لا يعجزه شيء واستطاعوا بإذن الله رد كيد الأعداء في نحورهم وانتصروا بإذن الله تعالى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه أنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل العزة لمن أطاعه، وجعل الذلة والمهانة والصغار لمن عصاه، والصلاة والسلام على سيد ولد آدم من أكرمه ربه وبعثه إلى العالمين، وعلى آله وصحبه أما بعد أيها المسلمون:-
يسأل سائل ويقول: كيف الخلاص من هذا الذل والتبعية التي يعيشها المسلمون؟ وما العلاج لهذه الانهزامية النفسية المريرة؟ فأقول: لا بد أولاً أن نعرف أن هناك هزيمة نفسية وسببها البعد عن هذا الدين حتى أصبحنا في هذا الضعف، ومعرفة المشكلة هو نصف الحل.
ثانياً: لا بد من التربية على الإيمان الصحيح، وأول خطوة في طريق الألف ميل هذه هي التزام المسلمين. شباباً وشيوخاً صغاراً وكباراً رجالاً ونساءً بهذا الدين الالتزام الصحيح،و أن يتربوا على هذا الدين الحقيقي الذي يجعلهم لا يخافون إلا من الله سبحانه وتعالى. وهذه العقيدة السليمة التي هي فكرة فقط موجودة في الأذهان، ولكن يجب أن تكون حقيقة، والعجيب أن بعض الناس يقولون: لماذا تدرسون العقيدة؟! لماذا نتكلم عن العلمانية؟! فأقول: إن العقيدة تعطيك قوة وتعطيك استقلالية والمسلم عندما يعرف العقيدة الصحيحة، ويعرف أن هذا باطل، وأن أولئك الجاهليون يعيشون هذا الضعف عندما يرى طيراً أو غيره لماذا يتشاءم من أي قضية؟!
لماذا يخاف من أحدٍ إنه لا يخاف إلا من الله وحده لا شريك له، ولا ترهبه أي قوة مهما بلغت فإنها لا تساوي قوة الله تعالى.
ثالثاً: أن نبتعد عن التعلق بهذه الدنيا، وأن نرتبط بالآخرة فهي تجعلنا أقوياء وأعزاء، والله ما تعلق أحد بالدنيا ونسي الآخرة إلا أوكله الله إلى الدنيا وأهلها. ولقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم عن أن هذا المرض الخطير هو سبب ذل المسلمين ومهانتهم. (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل يا رسول الله:وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت1 .
وهذا واقع المسلمين اليوم "أمة المليار" غثاء كغثاء السيل؛ لأن الوهن قد دب فيهم. فلا خلاص إلا بالابتعاد عن التعلق بالدنيا، وتذكر الدار الآخرة، وحب الموت في سبيل الله.
رابعاً: الرجعة إلى التاريخ، رجعة جيدة، ففيه العظات والعبر، ولنقرأها للعبر لا للتسلية وقضاء وقت الفراغ، إن بعث التاريخ في نفوس المسلمين، وتذكيرهم بماضيهم التليد. يبعث فيهم روح الأمل، والقوة من جديد. ويرون من خلاله كيف استطاع المسلمون الخروج من مأزقهم وأزماتهم النفسية على مدار التاريخ الإسلامي ويحذون حذوهم.(/7)
خامساً: لا بد أن نتربى على علو الهمة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه رضي الله عنهم، وقد ذم عليه الصلاة والسلام الكسل وعلمنا أن نقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من ضلع الدين وقهر الرجال) أخرجه البخاري. وقال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير,أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل)أخرجه مسلم.
سادساً: لا بد أن نبتعد عن التشاؤم والمتشائمين، وأن يكون لدينا روح الأمل، وأن نعلم ونوقن وندرك ونستشعر أن المستقبل لهذا الدين بإذن الله، وهذا وعد الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعلموا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً} النور: 55. بشرط أن نعبده عبادة شاملة مع الخلوص من الشرك.
أيها المسلمون: يقول عليه الصلاة والسلام كما في حديث ثوبان: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها). رواه مسلم. وقال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر. رواه ابن حبان وصححه الألباني في الصحيحة.
وقال أيضاً: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت). رواه أحمد في مسنده وصححه الألباني في الصحيحة. ولقد ذكر بعض أهل العلم أن هذه كلها قد تحققت إلا الأخيرة وهي خلافة على منهاج النبوة وستعم الأرض بإذن الله. فأبشروا أيها المسلمون فإن المستقبل بإذن الله لهذا الدين، وإن الله متم نوره ولو كره الكافرون ولو كره المشركون.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداءك أعداء الدين.
والحمد لله رب العالمين،،
1 -رواه أبو داود وصححه الألباني في المشكاة5369والصحيحة956.
================= ...
عناصر المستقبل للإسلام
* 1 - حضارة الغرب
استمع لـ حضارة الغرب (هذا العنصر فقط) قم بتنزيل هذا المقطع الصوتي اضف للسلة العلمية
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
أما بعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونحمد الله تبارك وتعالى الذي وفقنا لنتحدث عن أمرٍ عظيم جليل يهم كل مسلم ومؤمن وغيور وداعية، ألا وهو مستقبل الحضارة الإنسانية، ومستقبل الجنس البشري على هذه الأرض.
لمن سيكون المستقبل في هذا العالم الذي يموج ويضطرب بالأحداث ويتفاعل بالقضايا؟
حتى أصبح هذا الكوكب الأرضي مسرحاً ومعتركاً للأفكار والآراء، وللحروب والعقائد المختلفة، فمن الذي سيفوز في النهاية؟
وأي دين أو جنس أو مبدأ سوف يسيطر على هذه البقعة من كون الله وخلقه؟
إن الحديث عن المستقبل لا بد أن يسبقه حديث عن الحاضر، فالحاضر هو الطريق إلى المستقبل، بل هو جزء منه في الحقيقة؛ لأنه بدايته، إذاً لا بد من النظر إلى الحاضر الذي نعيشه اليوم.
فمن الذي يقود الإنسانية؟
ومن الذي يتحكم في الجنس البشري؟
ومن الذي يسيطر -ولو ظاهراً- على هذا الكوكب؟
لننطلق بعد ذلك لمعرفة المستقبل، ولمن سيكون، والغيب عند الله تبارك وتعالى، ولكن الله قد أظهرنا على شيء منه فيما يتعلق بهذه القضية، وأودع سنناً كونية من تأملها، وكان لديه بصيرة بعواقب الأمور عرف ما ستؤول إليه الأحداث.
إن الحاضر الذي نعيشه اليوم لا يخفى على أحد ذي اطلاع في هذه الدنيا أن الحضارة المتحكمة في هذا الزمن هي الحضارة الغربية، ونحن عندما نتحدث عن أوروبا أو الحضارة الغربية فإننا نعني بذلك الامتداد الطبيعي، أو الفكري للقارة الأوروبية، أي: الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي بكلا النظريتين، وبجميع الدول التي تخضع لهاتين الفكرتين.
* حضارة الرجل الأبيض(/8)
هذه الحضارة الغربية هي التي تتحكم اليوم في الجنس الإنساني فكرياً ومادياً - ولو ظاهراً - وهي التي عبر عنها الفيلسوف الغربي الكبير برتراند رسل حين سماها: قيادة الرجل الأبيض، أي: الجنس الذي سماه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في القرآن، وسماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الروم) أو الجنس الرومي، كما سيتبين لنا من الأحاديث التي تطلق في الكتاب والسنة على هذه القارة اسم الروم.
لأن الامبراطورية الرومية والتي كان زعيمها هرقل ، هي التي كانت تتحكم في هذه المنطقة من العالم، بل في بلاد الشام ومصر قبل أن يفتحها المسلمون، فكلمة الغرب أو الحضارة الغربية أو أوروبا هي التي ترِد بمعنى الروم.
فالحضارة الغربية هي التي تتحكم اليوم في قيادة العالم مادياً وفكرياً، فهل هنالك من ضمانات لاستمرار هذه القيادة؟ أم أن هنالك مؤشرات وعوامل واضحة للانهيار، وبناءً على ذلك يكون بلا شك مستقبل البشرية؟
الواقع أننا لا نتكلم كلاماً عاطفياً، فلدينا الأدلة الصحيحة الصريحة على أن المستقبل للإسلام، وإن غَضب الروم، وإن كَثروا، وإن قَووا.
* مؤشرات انهيار حضارة الغرب
نحن لن نتكلم بمجرد العاطفة، أو بمجرد التفاؤل، إنما نتكلم بمنطلق النظر في هذه النصوص الشرعية، وهي كافية وفيها الغنى بلا شك، ولكن لكي يكون الإقناع التام، ولكي تكون الفكرة الواضحة، لننظر ولننتهج المنهج العقلي الحيادي المجرد ونحن نبحث في هذه المسألة.
يقول برتراند رسل : "لقد انتهى دور الرجل الأبيض"، وقبله كتبت كتابات لم يكتبها أشخاص متشائمون، وإنما فلاسفة الغرب، وعباقرة الغرب بأنفسهم قرروا وكتبوا عن مصير الحضارة الغربية والأمثلة على ذلك كثيرة.
ومن أوضح الكتب على ذلك كتاب أُلف في العشرينات من هذا القرن، وهو كتاب (تدهور الحضارة الغربية ) الذي ألفه الفيلسوف والمفكر الألماني أوزوالد اشبنجلر وهو كتاب ضخم ترجم للغة العربية باسم تدهور الحضارة الغربية ترجمه أحمد الشيباني ، وملخص ما ورد في هذا الكتاب، على طوله وسعته، أن هنالك عوامل ومؤشرات معينة إذا ظهرت في أي حضارة من الحضارات فإن مآلها إلى السقوط.
فقد درس هذا المفكر الحضارة المجوسية ، والحضارة اليونانية، والحضارة الرومانية، وإلى حد ما الحضارة التي يسميها العربية وهي الحضارة الإسلامية، ثم الحضارة الغربية فوجد أن كل عامل من عوامل الانهيار في أي حضارة من الحضارات المنهارة البائدة موجود ومتحقق في الحضارة الغربية، ودرس ذلك كثير من الأدباء، منهم على سبيل المثال (جورج أورويل )، بل ظهرت طبقة من الأدباء الغربيين هي الطبقة التي سماها كولن ولسن اللامنتمي، وهم مجموعة من الأدباء من السويد والنرويج وبريطانيا وفرنسا وغيرها وهؤلاء يطلق عليهم اسم اللامنتمي، وهؤلاء كلهم ينذرون بانهيار الحضارة، ومتشائمون بإفلاس الحضارة الغربية إفلاسا مريعاً ذريعاً.
ولعلنا نستعرض قضيه واحدة، وما أكثر القضايا والمؤشرات التي تدل على إفلاس الحضارة الغربية، لكن هناك قضية واحدة قد تعجبون لها، وهي فعلاً جديرة بأن يتعجب لها.
يقول (اشبنجلر ) لما نظر إلى الحضارات جميعاً وجد أن هناك عاملاً مشتركاً، بمثابة القاسم المشترك الذي تنهار الحضارات به، فما هو هذا العامل؟
قال: إذا خرجت المرأة من البيت -إذا تركت المرأة دورها كأم- لتعمل وخالطت الرجال؛ ونافستهم فيما خلقوا له، فإن ذلك من عوامل انهيار الحضارات، فيقول: إن هذا قد وجد في الحضارة اليونانية، ووجد في الحضارة الرومانية، ووجد في الحضارة المجوسية، وهو الآن متحقق في الحضارة الغربية.
وهو يكتب هذا الكلام في بداية الثلث الأول من هذا القرن، قبل أن يصل خروج المرأة إلى الحال الذي وصل إليه الآن، وقبل أن يتحقق الأمر الذي ربما لم يجر له على بال.
فهو يقرر هذه القاعدة، فالرومان انهارت حضارتهم في الوقت الذي كانت فيه المسارح الرومانية المختلطة في قوة المجد والأبهة والنشاط، فكان ذلك أحد العوامل في انهيارها، وكذلك الحال في الحضارة الغربية، ويستدل على ذلك بشواهد من كلام الأدباء والمؤرخين الأوروبيين في عصره، على أن الحضارة الغربية سيكون مصيرها إلى السقوط والانهيار، وأن أحد هذه العوامل الواضحة الجلية هو خروج المرأة من البيت ومشاركتها للرجل في العمل.
وحقيقة المسألة هي: أن الأمة التي تكون المرأة فيها أماً، هي أمةٌ متجددة الشباب بطبيعة الحال، ولهذا يلاحظ أن الأمم الشرقية عامة كالهند والصين ، ممكن أن يتجدد شبابها في أي قرن وفي أي مرحلة من المراحل، أما الضعف التكنولوجي فيمكن أن يعوض وأن يأتي جيل جديد ويستوعب التكنولوجيا وينطلق ويحقق تقدماً حضارياً، لكن الأمة التي تخرج المرأة فيها من البيت وتشارك الرجل في العمل هذه أمة هرمة، ستهرم بعد جيلين أو بعد ثلاثة، فمهما يكن فإنها ستهرم.(/9)
وكما قال المؤرخ الإنجليزي العالمي المشهور أرنولد توينبي حينما ذكر هذه القضية، واستدل عليها بحقيقة تاريخية إحصائية، وهي أن العالم الغربي -أوروبا - كانت أكثرية في القرن التاسع عشر، وما تزال هي من أكثر بلاد العالم بالنسبة للكثافة السكانية، وإذا استمرت الحياة في الغرب على هذا النمط، فإن أوروبا ستصبح بعد أجيال أقلية بالنسبة للعالم، بل نص هو على ذلك فقال: إن نسبه التوالد عند المسلمين هي ضعف أو أكثر منها عند الأوروبيين، ومعنى ذلك أنه بعد أجيال سوف يصبح العالم الغربي أقلية بالنسبة للعالم الإسلامي بالذات.
وأضاف أرنولد توينبي نقطة أخرى فيقول: "إن العالم الغربي ستفتك به المخدرات والخمور، في حين أن العالم الإسلامي لا يشرب الخمر"، وهذا وضعه كعامل من العوامل، إذا نظرنا إلى أمة شابة فتية يتضاعف سكانها، ونظرنا إلى أمة تهرم مع الزمن، وكلما يأتي جيل يكون عدد سكانها أقل، وفي نفس الوقت تتعاطى المهلكات كالخمور والمخدرات، فبلا شك -على نظره السطحي الظاهري وإن كان له حقيقة- أن العاقبة ستكون لتلك الأمة ولن تكون لهذه الأمة، فالعالم الغربي يتفوق اليوم بأسباب واضحة أعظمها وأجلاها هو التفوق العلمي الصناعي التكنولوجي.
وقد أثبت الباحثون والمفكرون ذلك نظرياً، وثبت - الآن- واقعيا أن التقدم التكنولوجي ليس بتلك المعجزة التي يعجز عنها خلق الله الآخرون،كما كان يزعم بعض الغربيين، فقد استوعبت الحضارة الغربية والتكنولوجيا الغربية شعوب شرقية، واستطاعت أن تقف على ساقيها وأن تنافس العالم الغربي في صناعاته، فاليابان أصبحت تنافس هذه الدول منافسة جلية واضحة حتى غزتها في عقر دارها، وهي محافظة على تقاليدها وبوذيتها ومجوسيتها.
وبإمكان الهند أو باكستان أن تستوعب القنبلة الذرية، وهي سر قوة الغرب وتستمر أكثر من ذلك، والصين قطعت خطىً لا تقل عن خطى روسيا جارتها الشيوعية ، وكذلك الكوريون فكما يقال: الكوريون قادمون، أيضاً تايوان (الصين الصغرى ) ودول كثيرة وكذلك العالم الإسلامي، وإن كنا سنؤخر الكلام عنه.
كل ذلك يثبت أن التفوق التكنولوجي ليس تلك المعجزة التي ستظل حكراً على الإنسان الغربي إلى الأبد، وإنما في إمكان الشعوب الأخرى أن تشارك، ففي أول الأمر تتعلم ثم تشارك ثم تنافس وفي النهاية سوف تتفوق، وهذه قضية أصبحت تُخيف العالم الغربي بشكل مزعج جداً، لكن السنن الربانية لا يمكن لأي أحد أن يدفعها، إذاً هذا جانب.
الجانب الآخر من جوانب تفوق الغرب هو: تفوقه الحضاري الفكري؛ فبلا شك ولا ريب أن العالم اليوم خاضع إلى حد كبير إلى الفكر الغربي، بمعنى أن اللغات الغربية، الانجليزية أو الفرنسية تكاد تكون لغات التخاطب العالمية، وأن مناهج تعليم الأفكار والأنماط السياسية كالديمقراطية والاشتراكية وأمثالها كلها شعارات وأفكار وثقافات ونظريات غربية، وهي التي تكتسح معظم العالم اليوم، لكن حتى هذه ليست بتلك الأزلية الثابتة أبداً.
* مستقبل التدين في الغرب
يتبين من الإحصاءات التي تجري سنوياً أن الذين يدخلون في الهندوسية والبوذية وحدها -فضلاً عن الإسلام- من الأمريكان والأوروبيين يتزايدون آلافاً مؤلفة سنوياً، ومعنى ذلك أن الثقافة الأمريكية والحضارة الغربية سوف تنطبع حتماً بطابع جديد وبمؤثرات جديدةٍ عليها، لأن الإنسان الأمريكي أو الأوروبي مهما كان فقناعته بحضارته وبثقافته نظرياً، فهو حينما يذهب يلهث وراء أي دين من الأديان.
وحينما يذهب إلى نيبال أو إلى سيام أو بورما ليبحث هنالك عن الدين ويعتنق أي دين فإنه يعبر تعبيراً صارخاً عن إفلاس الحضارة الغربية عقائدياً وفكرياً، وبالتالي فإنه لا بد أن تظهر بصمات واضحة وآثار جلية في الحضارة الغربية سوف تخسر بها كثيراً من نظرياتها التي يزعم أو يتوهم أصحابها أنها خالدة، وأنه لا يمكن لأحد أن يغيرها ولا أن يزحزحها.
فالتفوق الفكري للعالم الغربي ليس بذلك الذي لن ينقضي إذا ما قارناه بالثقافات المجوسية وبالثقافات البوذية والهندوسية ، وهي ثقافات بشرية وضعية وثنية قديمة منحطة تتنافى كل المنافاة مع واقع الإنسان الغربي، ومع ذلك فإن الكفة الآن تميل لصالح الإنسان البوذي ضد الإنسان الغربي، وإن كانت الأفكار الغربية اجتاحت الهند والصين ، إلا أنها أفكار جاءت عن طريق حكومات علمانية أو شيوعية تسيطر على تلك الملايين المؤلفة من البشر، وتفرض عليهم نظاماً غربياً، إما العلمانية في الهند وإما الشيوعية في الصين على سبيل المثال.(/10)
ولكن الشيء الثابت والأساس هو أن الأفراد الغربيين أنفسهم بدءوا هم يدخلون في الدين البوذي، في حين أن المثقفين الهنود والصينيين بدءوا يعيدون النظر في موقفهم من الحضارة الغربية، ويقولون: ليس للغرب أية ميزة، ونحن لنا حضاراتنا ولنا أمجادنا، فإن الشيوعية التي تسيطر بقوة الحديد والنار في الصين قد حدثت فيها عدة انتفاضات ضدها، وبدأ الإنسان الصيني يراجع نفسه ويقول: لا بد أن نرجع إلى البوذية ، لا بد أن نرجع إلى ديننا إلى دين الآباء والأجداد، ولماذا نأخذ نظريات ماركس ولينين وأمثالهما، ونحن عندنا أفكار بوذا فيها ما يغني وفيها ما يكفي وفيها ما يضمن لنا الحياة المستقرة الهادئة المطمئنة؟
مع أن كلا الحضارتين وكلا النظريتين باطلٌ ووثنيٌ جاهلي، إلا أن هناك رجحان في كفة هذه على تلك.
* 2 - واقع الأمة الإسلامية وأسباب التوبة
استمع لـ واقع الأمة الإسلامية وأسباب التوبة (هذا العنصر فقط) قم بتنزيل هذا المقطع الصوتي
إذا كان هذا بالنسبة لتلك الأمم فما هو الحال بالنسبة للعالم الإسلامي وللأمة الإسلامية؟
الأمة الإسلامية اليوم تشهد صحوة ويقظة، وإذا استخدمنا التعبيرات الشرعية -وهي الأصح والأولى- فإننا نقول ونسميها توبة، فالعالم الإسلامي اليوم يعيش بداية توبة وإنابة ورجوع إلى الله تبارك وتعالى، وذلك لعدة أمور:-
أولاً: أن من داخل العالم الإسلامي حركات ودعوات ضمير يحرك العالم الإسلامي للعودة إلى الدين نقياً سليماً صافياً، وهذا الضمير الموجود في هذه الأمة يعبر عنه وجود طائفة من هذه الأمة لا تتزحزح ولا يتزعزع إيمانها مهما ذهبت بقية الأمة؛ ومهما انحرفت ومهما انجرفت مع التيار، وهي الطائفة التي أخبر عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق حين قال: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله }.
وأمر الله هو الريح الطيبة التي تهب قُبيل قيام الساعة فتقبض أرواح المؤمنين، فلا يبقى إلا شرار الناس وعليهم تقوم الساعة، عافانا الله وإياكم من ذلك.
إذاً: فهذه الطائفة المنصورة موجودة وجوداً حقيقياً حسياً وموجودة وجوداً علمياً، فالقرآن -ولله الحمد- موجود وكأنما أنزل اليوم، وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موجودة، بل ظهر من الاعتناء بها في هذا العصر الشيء الذي لم يظهر مثله في قرون كثيرة مما سبق، وكتب السلف الصالح ودعاة الأمة والمجددين موجودة بين أيدينا، وتجاربهم موجودة بين أيدينا.
فإذاً هنالك عامل ورافد من روافد العودة والإنابة والتوبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى موجود في قلب الأمة الإسلامية أو في ضمير الأمة الإسلامية وهذا لن يموت، ولن يخفت بإذن الله تبارك وتعالى.
والأمر الآخر: أنه بقدر ما يظهر إفلاس الحضارة الغربية، وانهيار الحضارة الغربية وانحطاطها وتدهورها والسفول الأخلاقي البهيمي الذي تعيشه، بقدر ما يوجد لدى المسلمين -كما وجد لدى غيرهم من الشعوب- القوة والاعتزاز بالنفس والشعور بالانتماء وبالذات، ورفض التبعية والتقليد والانتماء لتلك المناهج التي أعلن أصحابها إفلاسها، وأعلنوا حيرتهم وضياعهم وشقاءهم.
فكل من هذين العاملين كلاهما يؤيد الآخر في أن الصحوة الإسلامية أو العودة والتوبة، أصبحت حقيقة واقعة يراها الإنسان في كل مكان من بلاد العالم الإسلامي.
والذي يبشر بالخير أكثر فأكثر: أن هذه العودة هي عودة إلى المنابع الأصلية، إلى القرآن والسنة وإلى سير السلف الصالح ، فلم يشهد عصر من العصور انتشاراً لكتب السلف الصالح وأئمتهم ودعاتهم وعلمائهم كشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وابن القيم ، والشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله أجمعين- كانتشارها في هذا العصر في شتى البقاع، وبلغات شتى، وفي هذا دليل على أن الأمة الإسلامية بدأت تعرف أين هو، وما هو المصدر الحقيقي الذي تكون الانطلاقة منه صحيحة وسليمة؟ ولا بد أن تتحقق النتيجة بإذن الله تبارك وتعالى.
* 3 - الأدلة الشرعية على سقوط الغرب
استمع لـ الأدلة الشرعية على سقوط الغرب (هذا العنصر فقط) قم بتنزيل هذا المقطع الصوتي وما سبق إنما هو بالنظرة المجردة للواقع، كواقع بالنسبة للعالم الغربي وبالنسبة للعالم الإسلامي، لكن إذا ما نظرنا إلى النصوص وإلى الأدلة الشرعية فإننا نجد ما يؤيد ذلك تأييداً قوياً جلياً صريحاً.
* سقوط الكنيسة الشرقية وملك فارس
يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عندما سأله أحد التابعين قال له: { يا عبد الله أيُّ المدينتين تفتح أولاً: مدينة هرقل أم روميا ؟
-يعني القسطنطينية تفتح أولاً أم روما - فأخرج عبد الله بن عمرو كتاباً من صندوق كان لديه، وفتحه وقرأه وقال: أخبرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -ونحن نكتب- أن مدينة هرقل تفتح أولاً }.
ما معنى ذلك؟(/11)
إذا تحدثنا بالنظرة الفكرية بغض النظر عن القضية الجغرافية، فإن العالم النصراني ينقسم إلى كنيستين كبيرتين: الكنيسة الشرقية، والكنيسة الغربية، والعالم الصليبي هو أعتى وأقوى أعداء الإسلام، وهو الذي -كما سنعرض في الأحاديث- سيظل العدو اللدود للإسلام إلى قيام الساعة.
هذا العدو ينقسم إلى كنيستين: الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية.
الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية ومقرها القسطنطينية ، والكنيسة الغربية الكاثوليكية ومقرها روما ، وعبد الله بن عمرو يُسأل فيقال له: أي المدينتين تفتح أولاً؟
ونلاحظ من هذا السؤال أن التابعي ليس لديه شك في أن كلاً من القسطنطينية وروما ستفتح، وما سأله هل ستفتح روما وإنما سأله أي المدينتين ستفتح أولاً؟ فعنده يقين بأن المدينتين ستفتحان لكن أيهما تفتح أولاً؟ فقال له عبد الله بن عمرو عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مدينة هرقل تفتح أولاً.
فالكنيسة الشرقية هي أول ما ينهار في طريق الزحف الإسلامي المظفر، وقد حصل ذلك، وقد اجتاحها المسلمون فبدءوا ببلاد الشام ، وقد كانت قاعدة حكم الامبرطورية الرومانية لهرقل ، وقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الصحيح: {إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل } وقد أنفقت كنوزهما في سبيل الله عز وجل.
ولما أن كانت القصة المعروفة المشهورة -التي رواها الإمام البخاري في أول الصحيح- ولم يؤمن هرقل ولكنه كاد أن يسلم ثم بقي على دينه، فلما أن جاء الزحف الإسلامي وتقدم إلى دمشق ففر هو إلى حمص ، فلما تقدم الزحف الإسلامي إلى حمص ، قال هرقل الكلمة المشهورة: سلاماً عليك يا سوريا ، وداعاً لا لقاء بعده.
فقد علم بذلك من قَبل لما جاءه كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {والله ليبلغن ملكه ما تحت قدمي هاتين } فقد كان يعلم ذلك، فهم يعلمون أن هذا الدين سيظهره الله على الدين كله ولو كرهوا وقاوموا، فانسحبت جيوش هرقل .
* سقوط الكنيسة الغربية
أما الكنيسة القبطية التي في مصر فقد اضمحلت -ولله الحمد- وتلاشت إلا ما بقي من الأقباط، وبدخول محمد الفاتح إلى القسطنطينية سقط معقل الكنيسة الأرثوذكسية ، أي النصف الشرقي من العالم الصليبي النصراني، سقط في أيدي المسلمين وبقي من العالم القسم الغربي وهو الذي قاعدته روما .
يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي رواه الإمام مسلم : {تغزون جزيرة العرب فيفتح لكم، ثم تغزون فارس فيفتح لكم، ثم تغزون الروم فيفتح لكم، ثم تغزون الدّجال فيفتح لكم }.
وبهذا الترتيب نجد أن الذي وقع فعلاً هو ذلك، فجزيرة العرب فتحت في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانتهى أمرها، وثبتت في أيام أبي بكر بعد القضاء على المرتدين، وظلت وستظل بإذن الله قاعدة للدين الإسلامي {لا يجتمع فيها دينان } كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا خبر ولكنه حكم يجب أن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان، فلا يبنى فيها كنيسة ولا معبد لأي دين من الأديان، ولا يقيم فيها غير مسلم إلا الإقامة المؤقتة، لا يسكنها ولا يقيم فيها اليهودي ولا النصراني إلا بصفة مؤقتة للضرورة، وإلا فهي معقل الإسلام الذي يجب أن يصان عن رجس الشرك.
{ثم تفتح فارس } وقد فتحت فارس فتحاً كاملاً، اجتاح المسلمون ملك كسرى إلى أن وصلوا إلى حدود الصين ، فكسرى مزق كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يمزق ملكه، فمزق الله ملكه ولم يبق منه شيء، وهرقل احترم كتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -هذه إحدى الدلالات البينات من دلائل النبوة، وكاد أن يسلم كما أشرنا- فبقي له جزء من الامبراطورية الغربية بعد أن تقدم المسلمون إلى بلاد الشام وإلى أن حاصروا القسطنطينية في أيام معاوية بن أبي سفيان ، ثم من بعده رضي الله عنهم.
قال: {ثم تفتح الروم } والفتح الحقيقي للروم كما يظهر من الحديث -لأنه قال {ثم الدجال }- يكون إذا فتحت المدينة الأخرى وهي مدينة روما ، وحينئذ تكون الكاثوليكية أو بمعنى آخر: تكون قاعدة الدين النصراني الكبرى قد سقطت هي الأخرى في أيدي المسلمين كما سقطت من قبل مدينة هرقل وهي قاعدة الكنيسة الشرقية، ونتيجة لذلك لن يقوم للنصرانية قائمة بعد ذلك بإذن الله تبارك وتعالى.
* ملحمة آخر الزمان
بقي لدينا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قال كما في الحديث الذي رواه مسلم وكان بحضرة عمرو بن العاص وشهد له {تقوم الساعة والروم أكثر الناس }.(/12)
وفي الحديث الآخر الذي جاء من عدة طرق وروايات: {أن الروم يقاتلون المسلمين ويغزوهم حتى ينزلون بالشام } وهذا يدل على أن هناك كرةً أخرى سوف تستعيد فيها أوروبا قوتها ونشاطها وتغزو العالم الإسلامي، حتى أنها تنزل بالأعماق في أرض الشام وهناك تكون الملحمة المشهورة التي في أرض الشام .
هذه هي الملحمة النهائية الفاصلة التي لا قيامة بعدها للروم، وفيها تكون المعركة الحاسمة، حتى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفها وذكر أيامها وأهوال هذه الحرب، وبعد انتهاء الملحمة بهزيمة الروم يكون تفوق العالم الإسلامي، وتفوق المسلمين النهائي على العالم الغربي، رغم أنهم قد يكونون أكثر منهم مناعةً وقوةً وعتاداً وسلاحاً.
فالمهم أن هذه الملحمة لا بد منها، ولا بد من أن تتفوق وتنتصر فيها الأمة الإسلامية ولا تقوم بعد ذلك للروم قائمة، وفي نفس الوقت نجد أحاديث صحيحة تدل على أن المسلمين سوف يقاتلون اليهود وينتصرون عليهم انتصاراً ساحقاً، كما في الحديث: {حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله }.
وتصوروا كيف تكون حالة العالم إذا قضى المسلمون على اليهود وقضوا على النصارى، ما الذي سيبقى؟
العالم الغربي -الآن- أشبه بوحش كبير جداً يسيطر على الدنيا ومنها العالم الإسلامي، وهذا الوحش على رأسه تلك الأفعى اليهودية توجهه يميناً وشمالاً، تمتص خيرات هذا العالم، وتوجهه ليحارب من شاء ويترك من شاء، فإذا قضى المسلمون على اليهود والنصارى -كما بشر بذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه لن تقوم حينئذ للعالم الغربي قائمة فيندحر بذلك ويندحر أقوى وأعتى أعداء الإسلام، ويتحقق قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار } ويدخلون في دين الله أفواجاً.
هذه نظرة عجلى على النصوص التي تدل على أن المستقبل -بإذن الله تبارك وتعالى- للإسلام، وأن الحضارة الغربية هي بلا ريب وبلا شك مآلها إلى الانهيار والدمار.
* 4 - بين عدالة الغرب وعدالة الإسلام
استمع لـ بين عدالة الغرب وعدالة الإسلام (هذا العنصر فقط) قم بتنزيل هذا المقطع الصوتي
إذا عدنا إلى المستقبل القريب الذي يعيشه العالم اليوم، وأردنا أن ننظر إلى بشائر العودة إلى الله والإنابة والتوبة إليه من جهة، وإلى واقع العالم الغربي من جهة أخرى، فإنه تتعارض لدينا قضيتان.
القضية الأولى: التفوق العلمي، والتفوق التكنولوجي والمادي الذي يعيشه العالم الغربي، بحيث إنه يمتلك من العتاد والسلاح والأساطيل والصواريخ والقوى ما يجعل مجرد التفكير في حربه ومقاومته -كما يبدو ظاهراً- أمراً صعباً ومريعاً للغاية، أو مستحيلاً لا يمكن أن يفكر فيه إلا مغامر مهووس لا يقدر العواقب والأمور، كما يتصور ذلك العالم الغربي على الأقل.
لكن في نفس الوقت نجد أن هذا العالم الغربي لديه الخواء النفسي والروحي الرهيب، فلديه الذعر الذي يسيطر عليه من داخله، وتسيطر عليه الجريمة، والإدمان بجميع أنواعه، والانهيار الاجتماعي وتفكك الأسرة من الداخل.
إذاً كما قال المفكر الإنجليزي (جود ): 'نحن مثل الذي يملك قوة العفاريت ولكن بعقول العصافير، هذا العالم قوة عفاريت ولكنها بعقول العصافير'.
فإذا فقد الروح هذا الهيكل العظمي الحديدي الذي يتمثل في الأساطيل وفي الصواريخ وفي الصناعات، إذا فقد الروح فإنه مهما كبر فلن يؤدي أي دور على الحقيقة، بل هناك نظرية معروفة الآن على المستوى السياسي والدفاعي وهي ما يسمى بنظرية "توازن القوى" بمعنى أن الأمة التي تمتلك قنبلة ذرية أو هيدروجينية متفوقة على الأمة الأخرى، فإذا امتلك الخصم قنبلة مناظره أو مقابله معنى ذلك: أن كلا الطرفين لن يستخدم السلاح النووي، فسيضطر الطرفان أن يعقدا الاتفاقيات للحد من الأسلحة النووية، لأنه لا يمكن أن يستخدمها لا هذا ولا ذاك في المعركة؛ لأن كلاهما خاسر في المعركة فيها، فتعود الأمور إلى الأسلحة التقليدية.
وهناك ما هو أعظم من ذلك حين تعود المسألة إلى المعنوية النفسية، وهذا أمر مشاهد، فالإفلاس عند الإنسان الغربي في ضميره وروحه وأخلاقه، فكيف كانت أحوالهم وهم يحاربون في فيتنام بل وإلى الآن، فقد نشر أن في القواعد الأمريكية في بريطانيا قد يصبح الشخص مدمناً على المخدرات بحيث إن بقاءه في القواعد لا يصلح، وهذا يؤدي إلى أن يطرد يومياً شخص على الأقل ما بين ضابط إلى صف ضابط إلى آخره.
وانظروا إلى هذه العوامل إذا استمرت كيف يكون الفتك، وكيف إذا انتشرت الأوبئة والأمراض التي أصبحت حديث العالم وهَمَّ العالم، وهي منتشرة بلا شك بين العالم الغربي، ومنه جنوده هؤلاء، فنقول: إن عوامل الانهيار الذاتية في العالم الغربي تجعله يوماً من الأيام يستسلم ويركع أمام أي عدو.
فكيف إذا كان الخصم المقابل هو من يملك النور والهداية والبرهان والحق المبين، والعالم الغربي يفتقر اليوم إلى العدالة، ومن الذي يملك العدالة؟(/13)
فالعالم الغربي أحوج ما يكون اليوم إلى العدالة، فلا تغرنا مظاهر ما يسمى بالديمقراطية أبداً، فإن هذا عالم يحتاج إلى العدالة.
يقول (توينبي ): "إن الديمقراطية -المزعومة بشعاراتها الثلاثة البراقة (الحرية، الإخاء، المساواة)- شعار براق لأن حياة الغرب في الحقيقة ما هي إلا صراع بين مبدئين: الحرية والمساواة"، كيف هذا؟
هذا كلام قد يستغربه بعض الناس، فيقول: إن حقيقة الديمقراطية ليست هي الحرية والإخاء والمساواة! بل إن فإن حقيقتها أن العالم الغربي يعيش في صراع بين مبدئين، وهما نفس المبدئين اللذين جاءت بهما الديمقراطية ، بين مبدئي الحرية والمساوة، ولا يمكن على الإطلاق أن تتحقق المساواة مع الحرية، ولا أن تتحقق الحرية مع وجود المساواة أبداً، فكيف يأتي هذا المبدأ ويرفع شعارين متناقضين في وقت واحد، ويؤمن به العالم الغربي، وهو يعاني هذا الصراع.
ويقول: اليكسيس كاريل في كتابه (الإنسان ذلك المجهول ): إني أتعجب كيف تصبر الإنسانية على هذا الشعار السقيم أو العقيم، ولن يدوم صبر الإنسانية على هذا الشعار -يعني الديمقراطية - لماذا؟
يقول: لأنها تقضي على الفرد الممتاز، فالديمقراطية والمساواة المطلقة في أي وقت وزمان تقضي على الفرد الممتاز المتفوق؛ فبالتالي فإنها تحشر الناس قوالب كبيرة جداً في أطر معينة، فإن فتح المجال للحرية ظهر التفاوت الكبير الذي لن تتحقق معه المساواة.
فالعالم الغربي يفتقد للعدل، يقتل عدد من رؤساء الدول أو رؤساء وزراء الدول بتدبير من شركات السلاح، وتستمر القضية (20 سنة) وأكثر ولا يعلم القاتل، أين العدالة؟
إن هذا ليس بشراً عادياً، إنه هذا رئيس الدولة، ولا يعلم قاتله، ولا تقتص العدالة من الجاني، إذاً هذا العالم يعاني الإفلاس الرهيب من العدالة، فأين توجد العدالة؟
وأين يوجد العدل؟
وأي أمة على ظهر الأرض تملك العدل؟
هل في الطرف الآخر الشيوعية ؟
كاتب غربي مشهور يدعى (آرثر فوستلر ) جرب الشيوعية وجرب الرأسمالية ، ثم كتب عن ذلك كتاباً يقول فيه: كثير من الناس يتكلمون عن مساوئ الشيوعية وينسون مساوئ الرأسمالية ، وكثير منهم يتكلم عن مساوئ الرأسمالية وينسى مساوئ الشيوعية ، أما أنا فأقول: لعن الله كليهما. يقول: إن الاثنين كلاهما مفلس، وهذا كاتب كبير على مستوى العالم، وأظنه فاز بجائزة نوبل ، يقول: إن الاثنين ملعونين، وإنهما سواء ليس هناك من عدل.
إذاً: فمن الذي يملك العدل؟
إنها الأمة الربانية التي تملك شريعة الله التي لا تحابي ولا تجامل أبداً، الأمة التي علمت الناس العدل.
ونضرب مثالاً واحداً على العدل، وما أكثر الأمثلة على ذلك العدل وغيره.
كانت مصر مستعمرة للدولة الرومانية، التي هي قبل الحضارة الغربية في سلم التسلسل الأوربي للحضارات، وكان الروم طبقتين -نفس الشعب على طبقتين- طبقة الأسياد، وطبقة العبيد، وطبقة العبيد في الدولة الرومانية يتحكمون في أبناء الشعوب المفتوحة مثل مصر والشام ، فكانت منزلة الإنسان المصري أو السوري هي طبقة عبيد العبيد للامبراطورية، وما الذي حصل عندما دخلوا في دين الله عز وجل؟
بعد أن فتح المسلمون مصر ودخلوا فيها، وأتى -ابن عمرو بن العاص ابن القائد الفاتح الذي يحكم مصر - فلطم أحد أبناء الأقباط، فما الذي وقع؟
يأتي هذا القبطي ويشد رحله -ناقته- ويسير المسافات والأيام إلى أن يصل المدينة ويقول لعمر : إن ابن فلان لطمني، ودعونا من عدل عمر المعروف، ثم دعونا من قضية الإسلام، وأنه لا يُقر لأحد أن يعتدي على أحد، مهما كان هذا المعتدي كبيراً أو ابن كبير، فهذا منكر وجريمة لا يقرها الإسلام، وهذا معروف، لكن انظروا ما الذي جعل القبطي يثأر لكرامته، ويرحل هذه المسافات البعيدة ليقتص ممن لطمه، وهو منذ سنوات كان هو وأعظم شخصيات بلده عبداً لعبيد الامبراطورية الرومانية، فهذا الانقلاب الكبير أحدثه الإسلام، وأحدثته عدالة الإسلام.
يفتح جيش قتيبة بن مسلم الباهلي رحمه الله وهو من كبار قواد المسلمين، وكما في تاريخ الطبري ، وابن كثير من قرأ فيهما يجد ما لقي المسلمون من عنت شديد من أهالي سمرقند وما حولها من البلاد، يصالحون ثم يغدرون، ويصالحون ثم يغدرون، حتى تعب المسلمون وخسروا أبطالاً عظاماً.
فقتيبة بن مسلم رضي الله تعالى عنه ورحمه صالحهم، ولما صالحهم وهو يعلم أنهم سيغدرون بدأ بهم فهاجمهم؛ فتمكن منهم فقضى عليهم، فجاءت العدالة التي لا يؤمن بها أولئك الوثنيون ولم يسمعوا عنها، فقالوا: لا بد أن نذهب ونشتكيه؛ لأن هذه أمة لا ترضى الظلم، فذهبوا إلى الخليفة.
وكان الأمر قد آل من سليمان بن عبد الملك الذي أرسل قتيبة إلى الخليفة العادل الراشد عمر بن عبد العزيز ، فقالوا: يا عمر إننا قد صالحنا جيشك ثم غدروا بنا، ونحن جئنا نشكوهم، فقال: أهكذا كان؟
قال المسلمون: نعم -فليس لدينا كذب فنحن أمة العدل- لماذا؟(/14)
قالوا: لأنهم غدروا بنا مرات، فقلنا: لابد أن نصالحهم ثم نغدر بهم وتمكنا منهم فقال: لا، وأمر الجيش بأن يخرجوا وأن يبقى الصلح.
فليغدر عدونا ما شاء وليكذب ما شاء، فنحن لا نكذب لأننا أمة العدل، إذا أردنا أن نحاربهم ننبذ إليهم على سواء، ونقول لهم: انتهى الصلح الذي بيننا وبينكم فاستعدوا، فلما رأوا ذلك تعجبوا وظنوا أن الأمر كذب وإذا به حقيقة، وإذا بالجيش ينسحب، فما كان منهم إلا أن أسلموا عن حق وحقيقة ودخلوا في دين الله، وبقيت معقلاً من معاقل الإسلام، ونسأل الله تبارك وتعالى أن تعود كذلك.
هذا من ناحية إفلاس العالم الغربي في العدالة، وإفلاسه في القيم، والأمن، والأسرة المتماسكة.
هناك أيضاً قضية مهمة جداً وهي: أن الوهم الذي كان يسيطر على العالم، وهو أن العالم الغربي لن يستطيع أن يقاوم صواريخه وأساطيله أية أمة من الأمم، هذا الوهم قد تبدد وتبخر بنموذج إسلامي حي معاصر وهو أفغانستان ، شعب أعزل يحارب بالبنادق المصنوعة في القرن التاسع عشر، على نمط البنادق القديمة التي تحاربت بها النمسا وفرنسا في القرن التاسع عشر -قديمة جداً- يسلب من عدوه الرصاصة الواحدة، ليعيدها إلى صدر عدوه، ومع ذلك يحارب أعتى دولة في القسم الشرقي من العالم.
وتعلمون جميعاً -ولله الحمد- كيف آلت أمر هذه الحرب، وبدون أية مساعدة وتدخل عسكري من أي دولة إسلامية أخرى أبداً، هذا الشعب الأعزل بمفرده يقاوم هذه المقاومة العنيدة الأبية الصامدة مع ضعف في التربية بلا شك، ومع تفرق ابتليت به الأمة الإسلامية، ومع عوامل كثيرة لا يهمنا الآن أن نعددها، ولكن الذي يهمنا هو أنه مع هذه العوامل التي لو ربيت الأمة الإسلامية من الأساس على ألا تكون فيها، لكان النصر أعجل وأقرب بإذن الله.
فكيف إذا قامت قومة واحدة، لا نقول: من المحيط إلى الخليج ، بل نقول قومة واحدة من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، كلها قامت قومة رجل واحد، وكانت كلها على منهج واحد، وهو ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه وأصحابه، هل تستطيع أي قوة من القوى مهما كانت الأساطيل، ومهما كانت القوى المادية أن تنتصر عليها؟ أبداً.
القضية التي أسكرت وأعمت خفافيش المقلدين لهم من أبناء المسلمين، الذين يتصورون ويتوهمون أن هذا العالم الغربي لن يقهر، حتى أن بعضهم يخيل إليه أنه ما دام في السماء والأرض خلق فإن الغرب سيظل هو المتفوق، وإذا رسخت هذه القاعدة في ذهنه واستقرت فإنه لن يعمل شيئاً على الإطلاق، لأن اليائس لن يعمل شيئاً مهما كانت قوته ومهما ملك، وسيظل مهزوماً تابعاً ما بقي، ولكن الذي يريد أن ينتقم، والذي يريد أن يثأر وإن كان مخلوقاً ضعيفاً ضئيلاً، فإنه سيحقق شيئاً ما على المستقبل البعيد.
إذاً: فقد تبين لنا من واقع الحضارة الغربية كواقع يعيش حالة من الإفلاس الفكري والمعنوي، من واقع النصوص الصحيحة الصريحة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن الشواهد العملية التي تدور الآن في العالم، أن المستقبل بإذن الله تبارك وتعالى هو للإسلام.
* 5 - الخاتمة
بقي أن نقول كلمة بين يدي ختام هذا الحديث وهي:
هل يقيننا وإيماننا الذي لا يتزعزع ولن يتزعزع -بإذن الله- بأن المستقبل للإسلام، هل يعني ذلك الركون والدعة والتكاسل؟ وهل يعني ذلك أن هذا العدو اللدود -ولاسيما العالم الغربي- سوف يستسلم لنا بسهولة ويخضع لنا بسهولة؟
الجواب: إنه لا يمكن أبداً، بل سوف تكون المعركة على أشد ما تكون، وهذا يستدعي من كل واحد منا أن يجعل نفسه فعلاً على ثغر من ثغور الإسلام، والله الله أن يؤتى الإسلام من قبله.
احم بيتك من تأثير هذه الحضارة الفاسدة الكاسدة، احم أبناءك من سمومها، احم نفسك من ذلك، وقاومها ما استطعت أن تقاوم، لتبدأ الطريق من أوله، وإذا كان غاندي رفع شعار المقاومة السلبية التي تعني ألا تشتري من الإنجليز ولا تركب في مواصلاتهم... إلخ كلها مقاومة سلبية، وحقق الانتصار لبلاده، فكيف المسلمون؟
كيف لو حققنا أو بدأنا ببيوتنا فنظفناها، وبدأنا بأموالنا فحفظناها من أن نبذرها على شهواتنا في تلك البلاد؟
بل حتى الأمور الحاجية، فلا نأخذ إلا الضروريات ونقف عند شيء من الحاجيات، فضلاً عن الكماليات، فضلاً عن المحرمات.
يجب علينا أن نعرف أننا أمة مستهدفة ومحارَبة وهي أيضاً محارِبة، فلابد أن نبدأ الطريق من الآن، ولا بد أن نهيئ أنفسنا وشبابنا بالإيمان القوي، لأن هذا العالم الكافر العنيد القوي لن يقاومه إلا من آمن بالله تعالى حق الإيمان.(/15)
كما كان المؤمنون في أيام اليرموك ، وفي فتوح فارس، يأتي المئات من جنود الروم أو الفرس مسلسلين بالسلاسل بعضهم مع بعض ويتقدمون صفاً واحداً حتى لا يتزحزحوا، ويأتون معهم بالفيلة، ومعهم الرماح الطويلة، ويهجم المسلمون حتى أن بعض المسلمين كعبد الله بن الزبير رضي الله عنه ألقى الدرع، وأخذ يواجه هذه الكتائب المسلسلة وهذه الفيلة بصدره وهو حاسر، وتقدموا وثبتوا حتى نصرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
يجب أن يكون شبابنا قوياً في إيمانه، ويجب أن يكون قوياً في جسمه، فسموم الحضارة الغربية وشهواتها تفتك بشباب المسلمين في جسده، وفي عقله، وفي إيمانه، وفي كل شأن من شئونه، بل حتى في ماله، فلا بد أن نخلص شبابنا من ذلك، وهذا هو بداية النصر، وهذا هو بداية المعركة.
والمعركة الآن قائمة معلنة من طرف واحد، وهو طرف العالم الغربي ونحن غافلون.
وانظروا -وأنا أذكر مثالاً من قضايا كثيرة- ماذا تكتب وسائل الإعلام والصحافة في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه عن العالم الغربي من اختراعات وبطولات عظيمة، حتى الجريمة الغربية تكتب وكأنها شيء جديد وحضاري، ولكن انظروا ماذا يفعل الغرب لو حققنا أعظم إنجاز، ما يكتب عنه الغرب إلا على سبيل الاستهزاء، أو الشماتة، أو التشاؤم، أو التحقير، وهذه الصحف الغربية أنتم أعلم مني قطعاً بها؛ لأنكم تقرؤونها بلغتها، وربما منكم من يقرأها يومياً، فلا يمكن أن تكتب عنا خيراً، لا صحافتهم ولا تلفازهم ولا وسائل إعلامهم.
فإلى متى يا شباب الإسلام؟
إلى متى تظل الحرب قائمة ومعلنة من طرف واحد والطرف الآخر مستسلم؟
نحن نقول هذا على مستوى الأمة الإسلامية ككل، وعلى مستوى الشباب المتنبه والغير متنبه، يجب أن نكون جميعاً أمة الإسلام يداً واحدة نقاوم هذا العدو، ونبدأ المعركة ونستشعرها -أقل ما يكون- في شعورنا الذاتي الخاص، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحب ويرضى.
============
المستقبل لهذا الدين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: ليس ثمة ما يسيء ويحزن إلا أن ترى الواقع المؤسف للمسلمين والآلام تتقاذفهم يومًا بعد يوم، وحين الخوض في مثل هذه المَعْمَعَات ينتاب الإنسان المحب لدينه وأمته حزن يكاد يفيض كلما تراءت له الأحداث؛ ومع ذلك فلا يزال هناك أمل يطل من بعيد يعلن وفي وضح من النهار أن النصر للإسلام وأن المستقبل لهذا الدين مهما ادْلَهَمَّت خطوب واسْتَأْسَدت فئران.
هذه مقدمة لما بعدها من خطاب يبين الأمل القادم الذي ليس للبشرية أمان في إعلان التحدي والتصادم معه ذلك أنه من عند الله، فكم من فِطَرٍ انتكست، وكم من أمَم ذلَّت لمصادماتها مع الدين الحق والفطرة الحقيقية؛ وإلا كيف أغرق فرعون وهو من هو في ادعاء الألوهية، وكيف خسف بقارون والمال والجاه تحت سيطرته وسيادته؛ فهل فكّر عاقل أين هم من زمننا هذا؟!
إنها النهاية الحقيقية للأمم والأفراد على السواء، وإن كانت تختلف العاقبة والمصير، والإسلام جاء ليعلن أن البشرية قد غرقت في وحل من الطين والآثام، ومن أجل ذلك بعث الله الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، فانتشل الناس بإذن ربه من ظلمات الجهل والظلام إلى نور الطاعة والهداية، وهكذا مضت سنة من الله في الأرض أن الدين لله، وأن العاقبة للمتقين، وقام هذا الفتى الهاشمي بنفض الغبار عن العرب قبل غيرهم إِذْ هم أقرب المدعوين الذين تستوجب دعوتهم ولم ييأس رغم أن هناك من عارض وتعدَّى ذلك إلى الإيذاء بكل أنواعه المعنوي والجسدي ولكنها الهمة التي لا تفتر والعزيمة التي لا تنقطع.
ألم يسارّه عمه أبو طالب يومًا من الأيام عن التخلي عن هذه الدعوة التي جلبت له المشكلات من كل الأقربين، وأرسل ساعتها تلك الكلمات المدوية ..... يا عم والله لو وضعوا الشمس .... ! لم يكن مجال للانسحاب، أو التخاذل عن الدعوة .. ليس لأنها مبدأ فقط .. لا .. بل لأنها الدين الحق من رب العالمين، فقد يتراجع الإنسان عن مبدأ ما لتأكده من خطأ ذلك المبدأ. أما الدين فهو الحياة، وهو الرسالة العظمى، والمستقبل القادم. ويريد الله لذلك النبي الأمي أن لا يموت إلا بعد أن رأى دعوته تجوب الآفاق مُدَوّيَة بلا إله إلا الله، وهي الماضية إلى قيام الساعة.
وتمضي السنة الربانية، ويخلف الرسول عدول ثقات حملوا هم الرسالة، وبلّغوا الأمانة؛ فليس لها ثمّ إلا الصحب الكرام، وتتوالى تباشير النصر؛ ويريد الله لدينه أن يمضي، ولِحَمَلة الرسالة أن يُمْتحنوا.
ومن هنا يعكس المسلم دوره ورسالته الحقيقية، وأما اللاَّهي والسادِر في ملذات الشهوة، ووحْل الغَيّ فلا أقل من أن يعيش صغيرًا ويموت حقيرًا.(/16)
وهانحن نرى اليوم ما يؤكّد أن الإسلام هو الرسالة العالمية، فأعداد الذين يدخلون في دين الله أفواجًا من الأديان الأخرى يفوق الوصف، ويَذْهَل له أهل الديانات أنفسهم ... فما السر العجيب في هذا الدين يا ترى؟! ليس هناك ثمة سر؛ ولكن صِدْق هذه الرسالة لأنها من عند الله يؤهلها لأن تبقى وتمضي إلى قيام الساعة؛ ولو كره الكافرون؛ وأَزْبَد الملحدون.
إن الإسلام رسالة خالدة وصالحة لأن تبقى ويتعايش بها أتباعها من عصر إلى عصر، ومن جيل إلى جيل؛ فلا التحريف يصلها، ولا التشويه يؤثر فيها، وهي في ثباتها ومرونتها تعلو ولا يُعْلى عليها.
الإسلام دين ودنيا، ومنهج حياة، وتواصل أخروي، فهل جمعت أفكار وأطروحات ما جمعته رسالة السماء .. أجزم بأن لا والله والحق أوضح مما أؤكد، فهل يعِي المسلم دوره في الحياة، ويعِي رسالته، والأمانة التي تبرأت منها السماوات والأرض والجبال وحملها هذا الظالم لنفسه؛ فليس من فِكَاك بغير عمل واتباع.
والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.
كتبه: الشيخ الحارثي
=============
أمتنا قد تضعف ولكنّها لا تموت...
الشيخ مشهور فواز - المحاضر في كلية الدعوة والعلوم الاسلامية - أم الفحم
الشيخ مشهور فواز - المحاضر في كلية الدعوة والعلوم الاسلامية - أم الفحم
الشيخ مشهور فواز: في مجلس بعض الأصحاب والتلاميذ، قال أحدهم وقد غشت وجهه سحابة من الحزن والأسى، واخترقت قلبه سكين من اليأس والقنوط: ألا ترى هذا الظلام المخيّم على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها? ألا ترى هذه الهجمة الشرسة على الأمّة الإسلامية? ألا ترى الإسلام في إدبار والكفر في إقبال? ألا ترى أمريكا تصول وتجول وتعربد في المنطقة بصلف وغرور وكأن الأمر بيدها تفعل ما تشاء كيفما تشاء وقتما تشاء ?! وليس فينا عرق ينبض ولا نفس يتردّد...
هكذا قال صاحبي، قال هذا كله يريد أن يدخل اليأس الى قلبي والقنوط الى نفسي.
وما قاله صاحبي من الواقع لا من الخيال، ولكن لا ينبغي أن ننظر الى الأمور فقط من منظار التشاؤم...
فلو نظرنا الى الأمور نظرة فيها إنصاف وموضوعية لرأينا أنّ هناك بشائر كثيرة تنبئنا أنّ الغد لهذا الدين، وأنّ المستقبل لهذا الإسلام، وأنّ هذه الأمة لن تموت، وأنّ في هذا الدين روحا بنّاءة تظهر وتستيقظ حينما تتعاظم الشدائد، فتحيط بهذه الأمة، حينها يُهاجم الدين في عقر داره، هنالك ينتفض هذا الدين... ينتفض هذا المارد ويخرج من قمقمه.
مبشرات من القرآن والسنة والتاريخ والواقع، بأنّ المستقبل لهذا الدين:
أولا: من القرآن الكريم:
أ) قوله تعالى:{ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله مُتمّ نوره ولو كره الكافرون} (سورة الصف، آية 8).
ب) وفي سورة التوبة:{ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتمّ نورَه ولو كره الكافرون} (سورة التوبة، آية 32).
يأبى الله: هذا الإباء الإلهي هو الذي يطمئنا على مصير هذا الدين وعلى مستقبله.
ج) وفي سورة التوبة، آية 33، والصف آية 9:{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كُلّه ولو كَره المشركون} ، {ليظهره على الدين كُلّه}.
هذا وعد من الله أنه لا بدّ أن يتمّ هذا النور وينتشر في الآفاق كلّ الآفاق.
د) ويقول سبحانه وتعالى في سورة النور:{ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدّلنّهم من بعد خوفِهم أمنا يعبدونني لا يُشركون بي شيئا}.
ثانيا: من السنة النبوية:
أ- ما رواه الإمام أحمد في مسنده (4/103) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/14)، ورجاله رجال الصحيح:«ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل، عزّاً يعزّ الله به الإسلام وذلاً يذلّ به الكفر».
«ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار»: أي سيشمل الكرة الأرضية كلها، حتى ينتشر في جميع العالم، لأنّه أحوج ما يكون لهذا الدين، إنّه يحتاج إليه حاجة الظمآن إلى الماء والعليل الى الدواء.
ب- ما رواه مسلم في صحيحه عن ثوبان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنّ أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها..» أي سيبلغ المشارق والمغارب، فإذا كان الحديث السابق يدلّ على انتشار الدين فهذا الحديث يدلّ على اتساع الدولة، سيملك المسلمون المشارق والمغارب، ويقيمون عدل الله في الأرض.(/17)
ج- روى الإمام أحمد بسنده عن أبي قبيل، قال: كُنّا عند عبد الله بن عمرو بن العاص، فسأله أحد الناس: أي المدينتين تفتح أولا: القسطنطينية أم روميّة؟ - ورومية هي روما عاصمة إيطاليا - فأخرج عبد الله صندوقا له حلق وأخرج من الصندوق كتابا، قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب، وإذا رجل يسأله: يا رسول الله، أي المدينتين تفتح أولا: قسطنطينية أو رومية؟ فقال:«مدينة هرقل تفتح أولا» ومدينة هرقل هي القسطنطينية التي كانت عاصمة الدولة الرومانيّة، وهرقل هو الإمبراطور الذي كان معاصرا للنبي صلى الله عليه وسلم .
وفعلا فتحت هذه المدينة (القسطنطينية) التي تسمّى الآن (استنبول) على يد الشاب العثماني الطموح محمد بن مراد، المعروف في التاريخ بإسم (محمد الفاتح) فتحها وهو ابن الثالثة والعشرين من عمره، وذلك لأنّ نفسه تاقت أن يكون ممّن قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم:«لتفتحنّ القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش».
وفعلا رتّب وخطّط لفتحها، حتى فتحها، وكتب الله له ذلك الفخر، ومن زار استنبول يجد جامع محمد الفاتح، وهذا الحديث مكتوب على بابه.
فتحت القسطنطينية وبقي أن تفتح روميّة، ومعنى هذا أن الإسلام سيعود الى أوروبا مرة أخرى بعد أن طرد منها: طرد من الأندلس، وقد بقي فيها ثمانية قرون، أقام فيها حضارة عظيمة، جمعت بين العلم والإيمان، وبين الرقي المادي والسموّ الروحي والأخلاقي.
وطرد مرّة أخرى من أوروبا من البلقان بعد أن وصل الى أبواب
========================
قراءة المستقبل
سلمان بن فهد العودة 9/7/1423
16/09/2002
من الأبيات السائرة التي تتردد في عدد من السياقات العلمية والوعظية البيت اليتيم الذي ينسب إلى أبي إسحاق الغزي :
ما مضى فات والمؤمل غيب ... ...
ولك الساعة التي أنت فيها
وإذا صح زعم ابن أبي دؤاد في أن العربي شاعر بطبعه، ولابد أن يقول البيت والبيتين، فإن هذا يوشك أن يكون متحققاًَ في تعطل ملكة النقد والتمحيص العلمي للمعاني المبثوثة في الشعر، فقد جرى العرف لدى الكثير أن الخبر المخلَّد في الشعر لابد أن يكون صحيحاً، وأن الشعر كله حكمة .
وفي لغة الشرع فإن ( من الشعر حكمة) كما عند الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهذا تبعيض يصدق على القليل والكثير، ولكن في محكم التنزيل ما يوحي أن الرشد في الشعر استثناء من القاعدة "والشعراء يتبعهم الغاوون*ألم تر أنهم في كل واد يهيمون*وأنهم يقولون ما لا يفعلون*إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون"[الشعراء :224-227] .
هذا البيت اليتيم لا يستقيم للنقد، وقد يصح أن الإنسان هو ما مضى وما يستقبل، وألا شيء بعد حاضراً، وأن الساعة التي أنت فيها هي نهب ماض، أو أمل مستقبل، ولا شيء فيها حاضر على التحقيق .
وعناية البشر بالتاريخ ظاهرة، تدويناً لأحداثه، وترجماناً لأبطاله، وتحليلاً لدوافعه ،بينما لا تجد الحفاوة ذاتها بأمور المستقبل، مع أن التاريخ إنما يقرأ ليعتبر به وتحفظ دروسه للزمن القادم .
والإنسان مجبول على التطلع للمستقبل واستقراء أحداثه وتحولاته واستجلاء غوامضه وخوافيه، ولهذا أقرَّت الشريعة في هذا الباب ما كان نافعاً للعباد مبنياً على معرفة النتائج من أسبابها، أو إتيان البيوت من أبوابها، وفي قصة يوسف عليه السلام طرف من ذلك يقول الله تبارك وتعالى : " قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون*ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون * ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون"[يوسف: 47-49] فهي رؤية مستقبلية ناضجة مستنيرة بنور الوحي والإلهام، ووضع للحلول والاستراتيجيات المكافئة، ورحمة بالعباد والبلاد .
وهذا ما حاوله الغرب حتى أبدع فيه، وصار يعتني بدقة المعلومة، ويحسن توظيفها، ويدرس كافة الاحتمالات والتحوطات، لا رجماً بالغيب، ولا تظنياً وتخرصاً، بل بناءً على استقراء النواميس والسنن، والاعتبار بمعطيات اليوم، وتجارب الأمس .
وفي التنزيل الحكيم : " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون"[البقرة : 144] .
فهذا استشراف وترقب لتغيير وجهة الصلاة فاض من قلب المصطفى عليه الصلاة والسلام وامتد من جوانحه إلى جوارحه، فصار يقلب طرفه في السماء منتظراً شريعةً ربانية جديدة تحوّل قبلة الصلاة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، وهكذا كان .(/18)
وربما تمنى وتطلع صلى الله عليه وسلم إلى المستقبل الذي لا سبيل إلى تحويله، ولكن الوله والشوق يحدو إليه، حتى إنه نام مرةً صلى الله عليه وسلم في بيت أم حرام بنت ملحان وهي تفلي رأسه ثم استيقظ وهو يضحك قالت: فقلت ما يضحكك يا رسول الله ؟ قال: ( ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة) يشك أيهما قال، قالت: فقلت : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ وهو يضحك قالت فقلت ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله...) الحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما .
وود أنه رأى إخوانه الذين لم يأتوا بعد، وحدث بما لهم من الخصوصية والثواب .
وجاءت مواعدة الخصوم عواقب ما تأتي به غِيَرُ الأيام كثيراً في الكتاب المبين : " قل انتظروا إنا منتظرون"[ الأنعام:158] وقال سبحانه: " فتربصوا إنا معكم متربصون"[التوبة:52] وقال : " ولتعلمن نبأه بعد حين"[ص:88] .
وهذا التطلع للمستقبل ليس هروباً من الحاضر، ولا قفزاً على السنن الربانية، ولكنه الأمل الذي يدفع إلى العمل .
أعلل النفس بالآمال أرقبها ... ...
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
والراشدون من رجال هذه الأمة المتبعون كانوا يعدون النظر في المستقبل وتوقع أحداثه والتحوط لها من الأسباب التي جاءت بها الشريعة، وكانت تخوفاتهم على الملة وأهلها ورجاءاتهم في حفظها وحياطتها ونصرتها تطلعات مستقبلية معززة بتلمس الأسباب فعلاً وتركاً يفعلون هذا في أسفارهم وتجاراتهم وجهادهم ودعوتهم .
ومن ذلك كتمان الأخبار كما في فتح مكة مثلاً، أو إشاعتها كما في قصة دوس، وقول كعب بن مالك رضي الله عنه
قضينا من تهامة كل حق ... ...
وخيبر ثم أجممنا السيوفا
نخيرها ولو نطقت لقالت ... ...
قواطعهن : دوساً أو ثقيفا
وكان عمر رضي الله عنه محدثاً ملهماً قلما قال لشيء : أظنه كذا..إلا كان كما قال، وكان يقول :
تفاءل بما تهوى يكن فلقلما ... ...
يقال لشيء كان إلا تحققا
وهذا هو التفاؤل الإيجابي الحذر، وليس التمنيات العريضة الفارغة .
وهكذا استقبلت أنفسهم خبر الصدق عن هذا الدين وأهله وما سيقع له من التفوق والانتشار، وما سيطرأ عليه من النقص والخلل والفتنة .
كما أن من المحقق أيضاً أن الراشدين من رجال هذه الأمة لم يعتبروا هذه مواعدات شخصية لذواتهم، ولا تعذيراً للنفس بترك العمل والمجاهدة والتصحيح المفترض، ولاحجة شرعية بتجاوز الأسباب وإغفال السنن .
حتى الموعودون بالجنة تبشيراً صادقاً لم يعن هذا لهم خروجاً على قانون الشريعة، ولاتنصلاً من الأمر والنهي، ولولا ما علم الله عنهم من الثبات على دينه ومحاذرة التجاوز ما كانوا أهلاً لذلك الوعد الكريم.
ومن الخلل المصاحب لهذا الضرب في الحياة الإسلامية المعاصرة اعتبار ضمان المستقبل لهذا الدين، وهذه الأمة تكأة للقعود والتواكل ومضغ الحديث مكتفين بأن دين الله منصور، بينما هو منصور بجهود مباركة زكت فيها النية وحالفها الصواب، وقرأت المعطيات وتذرعت بالأسباب.
ومن ذلك الغفلة الشديدة عن قراءة المقدمات والبوادر والوقوع في أسر المفاجآت والانسياق لردات الأفعال الوقتية العابرة دون أن نمتلك نظاماً فكرياً منهجياً جاداً، ولا رؤية موضوعية واعية، وربما صح هذا بإطلاق أو كاد، فالعالم الإسلامي بحكوماته ومؤسساته وتياراته يفتقر إلى مراكز الدراسات الحديثة التي تشكل " العقل المدبر " له.
وفي تقديري أنه حتى في الدوائر الأكثر تحديداً فثمت غياب مخيف للتفكير الاستراتيجي المستجمع للشروط .
وهذه دعوة إلى الجامعات العلمية والمؤسسات القادرة والتجمعات المهمومة بحاضر الأمة ومستقبلها أن تولي هذا الأمر اهتمامها، وأن تعنى بتربية شباب الأمة ورجالها على التفكير الواعي، وأن يجمعوا إلى الإخلاص الصواب .
والمسلمون اليوم يعايشون أزمات متلاحقة تضرب في جوانب حياتهم كلها بلا استثناء، وفي دولهم كلها بلا استثناء، ولعله يصح لنا أن نقول بثقة : إن الأزمة في حقيقتها مقيمة مستقرة في ذواتنا وشخوصنا، وما الأزمات الطارئة إلا بعض تجلياتها وآثارها، وكأن العالم الإسلامي في حالة مخاض متواصلة يجد متاعبها وآلامها، ويدفع ثمنها، ولكنه لايشهد لها أثراً ولا يبصر لها نهاية .
وفي مثل هذه الحال يغدو التفريط والتساهل في دراسة المستقبل واحتمالاته ورسم الخطط المكافئة تفريطاً في الضروريات وغفلة عما أوجب الله على العباد من التدبر والنظر والتخطيط، ولعل من أثر ذلك الانشغالات الجزئية بهموم خاصة عن هم الأمة الكبير .
ولعل من طريف ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أوقات الحرج يسائل أصحابه : ( هل رأى أحد منكم رؤيا ؟) والرؤيا الصالحة هي أحد النوافذ إلى قراءة المستقبل إذا كانت على حد الاعتدال والتوسط، وسيرد عنها حديث خاص بإذن الله .(/19)
إنه لمن المدهش أن تجد في ظل غياب التفكير الجاد في أمر المستقبل، سواءً كان المستقبل الشخصي للفرد في حياته العملية والاقتصادية والاجتماعية، أو المستقبل العام للأمة أو مجموعاتها أن تجد حضوراً مذهلاً للكهنة والعرافين والمنجمين الذين يفيضون على الناس خليطاً من التجربة العادية، ومن وحي الشياطين، ومن الحدس والبراعة، ومن الخداع والاستغفال، ويتفننون في توظيف المشتركات البشرية التي لا يخلو عنها أحد فيستهوون بذلك السذج والبسطاء، ويخدرون عقول العامة، ويتقحمون حرمة الغيب المصون " قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون"[النمل:65] وهذا ما تجده في برامج الحظ والأبراج في القنوات الفضائية أو الإذاعات أو الصحف، وهو ما تجده أيضاً في الزوايا المظلمة التي يقبع فيها السحرة ومستخدمو الجن والمشعوذون حيث تذبح الأديان والعقول، وتهدر الأموال بلا حساب .
وللمرء أن يطول عجبه من أمر هذه الأمة في غفلتها عما أوجب الله عليها، وهجومها على ما حرم، وانتهاك بعض منتسبيها لأستار الشريعة وادعاؤهم ما ليس لهم به علم .
إن المنطقة الإسلامية تمر بتحولات عميقة، ولا أزعم أن ثمت تغييراً شمولياً يتم تحضيره، لكن ربما تشهد المنطقة أحداثاً جادة، وأزمة مفتوحة يعلم الله وحده نهايتها، وقد يحق لنا أن نتحدث عن فترة انتداب جديدة، وعن فوضى قد تضرب أجزاء من المنطقة في جانب أو آخر .
وإذا كان هذا من الغيب، فهو من الغيب الذي جعل الله له مفاتيح تلتمس بدراسة المقدمات والأسباب، وقراءة الواقع في المنطقة ذاتها، وتحري أهداف السياسة الغربية، والأمريكية خاصة، في مرحلتها المقبلة والعوامل المؤثرة فيها، واستحضار التجارب المشابهة .
فهل يصحو المخلصون من سباتهم ويتفطنون لهذا، وهل يستمع المعنيون إلى أصوات الرشد التي تدعو إلى تجاوز الماضي، ومواكبة الأحداث، وتطوير الذات، والامتثال لمخاطبات التغيير الناصحة المشفقة " إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب"[هود:88] .
والحديث موصول بإذن الله لاحقاً حول هذه الجمل
============
المستقبل لمن يخدم هذا الدين ويعدل في الرعية!
حوار: أمين محمد/موريتانيا 18/3/1426
27/04/2005
تشن السلطات الأمنية في موريتانيا منذ يومين حملة اعتقالات واسعة في صفوف التيار الإسلامي وذلك على خلفية مطالبة رموز هذا التيار بالتحرك لإفشال الزيارة المرتقبة لوزير خارجية الكيان الصهيوني سيلفان شالوم - منتصف الشهر القادم - للعاصمة الموريتانية .
وقد شملت الاعتقالات لحد الآن 14 شخصية من بينهم علماء وأئمة وسياسيون، ويجري البحث حاليا – حسب مصادر إعلامية – عن العديد من الرموز والشخصيات الهامة داخل التيار الإسلامي ومن ضمن هؤلاء الوجه الإسلامي المعروف ونائب رئيس حزب الملتقي الديمقراطي، وعمدة بلدية عرفات السابق الأستاذ محمد جميل منصور؛ الذي استطاعت شبكة "الإسلام اليوم " الاتصال به حيث أجرت معه الحوار التالي عبر الهاتف:
ما هو حجم وطبيعة الاعتقالات الجارية في صفوف التيار الإسلامي الآن؟
لقد شنت السلطات الحاكمة حملة جديدة ضد الاتجاه الإسلامي طالت حتى الآن مجموعة من العلماء والشخصيات نذكر منها:
1- العلامة محمد الحسن ولد الددو
2- السفير السابق الدكتور المختار ولد محمد موسى
3- شيخنا ولدبيبه
4- حبيب ولد حمديت
5- المحامي الدكتور محمد أحمد بن الحاج سيدي
6- الإمام محمد الأمين بن المصطفى
7 - الإمام عبد الله ولد أمين
8- الإمام الحسن ولد حبيب الله
بالإضافة إلى آخرين. وقد تأكدنا اللحظة أن عدد المعتقلين بلغ 14. وتتحدث أو ساط أخرى عن 19.
في الوقت الذي كان الحديث جاريا عن حوار وانفتاح جاءت هذه الاعتقالات , ما هو تفسيركم؟
صحيح أنه جرت في الفترة السابقة أحاديث عن الانفراج السياسي وصدرت دعوات من أجل الحوار , بل نظمت بعض المبادرات في هذا السياق لكن النظام ظل دائما متحفظا ,إن لم نقل رافضا, وكانت تصريحات وزير الاتصال الناطق باسم الحكومة مظهرا لذلك. ويبدو أن النظام لم يكتف بالتحفظ أ و الرفض, بل أراد عمليا أن يقدم إجابته ! حيث أقدم على حملة اعتقالات ضد تيار في حجم وأهمية ومكانة التيار الإسلامي, وهو بذلك يفتح بابا واسعا للتوتر، وبالتالي فالنظام يؤكد لنا أن حليمة على عادتها القديمة .
ربط البعض بين هذه الاعتقالات والزيارة المرتقبة للوزير الصهيوني "شالوم", هل ترون ذلك صحيحا؟
هذا أوضح من أن يحتاج إلى اكتشاف, فالنظام يدرك أن جميع القوى الشعبية الصادقة تعارض هذه الزيارة وتتحرك بقوة ضدها ويدرك أن التيار الإسلامي سيلعب دورا متقدما في هذه السياق, فاستبق الزيارة المشؤومة بهذه الحملة الأمنية ليضعف ردة فعل التيار الإسلامي وليخيف ويربك القوى الأخرى ولكنه واهم فستزيد الحملة حماس الإسلاميين وستشجع القوى الأخرى التي لم تعد تهتم بتخويف النظام ووعيده.(/20)
ليست هذه المرة الأولى التي يستهدف بها التيار الإسلامي بحملة اعتقالات تتسع أحيانا وتضيق أخرى.. في تقديركم, لماذا دائما أنتم بالذات؟
أولا لسنا وحدنا الذين تعرضنا لظلم النظام. فالنظام ظلم الجميع .. فعل ذلك مع مرشحي الرئاسة في الانتخابات الأخيرة ، وفعل نفس الشيء مع كل القوى السياسية والنقابية والطلابية والمدافعين عن حقوق الإنسان. صحيح أنه في الفترة الأخيرة عاود استهداف الإسلاميين أكثر من مرة وتلك شهادة لهم تعني أن صوتهم في رفض منكراته ومواجهة أخطائه كان عاليا، وأن دورهم في النضال من أجل الهوية والحرية والوطنية كان بارزا...
يتهمكم النظام بجملة اتهامات خطيرة( كالتطرف,والعلاقة بالانقلابات العسكرية في البلد, ومحاولة القيام بعمليات إرهابية... كيف تردون؟
نحن لا نهتم بادعاءات النظام التي تعود أن يكذبها هو ويناقضها فضلا عن الآخرين.
وسواء كنتم تعنون ما وقع في السابق أو ما سيقع في اللاحق من اتهامات وتشهير فنحن معروفون ومنهجنا معروف..
إسلاميون نعتز بإسلامنا ونلتزم بأصوله وأحكامه ولا نفاوض في الثوابت والمنطلقات..
وسطيون.. اخترنا منهج الاعتدال والتوازن بعيدا عن الغلو والتشدد والتطرف..
ندعوا للحرية والديمقراطية ونقبل بالاختلاف ونرضى بالتنافس السلمي بعيدا عن العنف. وطنيون ننتسب لموريتانيا ونريد الخير لها ونعمل من أجل استقرارها ورفاه أهلها وندعوا لتخليصها من الاستبداد والظلم وتشويه الهوية والسمعة والعلاقات مع الكيان الصهيوني..
نتشبث بالوحدة الوطنية لموريتانيا بكافة أعراقها وفئاتها وجهاتها ونرفض كل دعوات العنصرية والفئوية وكذلك ممارساتها.
كيف تقرؤون مستقبل هذه الحملة ضد التيار الإسلامي؟
الحقيقة أن لا مستقبل لحملات القمع والظلم والملاحقة, ولا مستقبل لحملات الاستبداد والحيف, سيحاولون تصويرنا بأننا قوم متطرفون وسيفشلون كما فشلوا من قبل إن شاء الله ، وتزداد نصاعة ومصداقية الإسلاميين في موريتانيا . سيحاولون إيهام الغرب بأننا متشددون, نستهدفه وسيفشلون، لأنه أصبح يعرف حيل هذه الأنظمة وكذبها, وأصبح يعرف الإسلاميين, بل يدعو للحوار معهم, باختصار سيكذبون ولن يصدقهم أحد! ...
....المستقبل لهذا الدين.. والمستقبل للحرية والديمقراطية! والمستقبل لمن يخدم شعبه ولا يخيفه, ينفع وطنه ولا يضره, يعدل في الرعية ولا يحيف عليها!
ونحن لا نهتم كم ستستمر الأزمة لأننا منها نعيش, ومن تجربتها نتزود لمراحل قاد
============(/21)
المستقبل لهذا الدين
رئيسي :فكر :الأربعاء 2 رجب 1425هـ - 18 أغسطس 2004
الإسلام منهج حياة:
الإسلام منهج حياة بشرية واقعية بكل مقوماتها، منهج يشمل التصور الاعتقادي الذي يفسر طبيعة الوجود، ويحدد مكان الإنسان في هذا الوجود، كما يحدد غاية وجوده الإنساني.. ويشمل التنظيمات الواقعية التي تنبثق من ذلك التصور الاعتقادي وتستند إليه، وتجعل له صورة واقعية متمثلة في حياة البشر، كالنظام الأخلاقي والينبوع الذي ينبثق منه، والأسس التي يقوم عليها، والسلطة التي يستمد منها. والنظام السياسي وشكله وخصائصه، والنظام الاجتماعي وأسسه ومقوماته، والنظام الاقتصادي وفلسفته وتشكيلاته، والنظام الدولي وعلاقاته وارتباطاته..
ونحن نعتقد أن المستقبل لهذا الدين، بهذا الاعتبار: باعتباره منهج حياة، يشتمل على تلك المقومات كلها مترابطة، غير منفصل بعضها عن بعض، المقومات المنظمة لشتى جوانب الحياة البشرية، الملبية لشتى حاجات الإنسان الحقيقية، المهيمنة على شتى أوجه النشاط الإنسانية.
وهذا الدين بهذا الاعتبار ليس مجرد عقيدة وجدانية منعزلة عن واقع الحياة، وليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها المؤمنون بهذا الدين فرادى أو مجتمعين، وليس مجرد طريق إلى الآخرة لتحقيق الفردوس الأخروي؛ بينما هناك طريق، أو طرق أخرى لتحقيق الفردوس الأرضي، غير منهج الدين، وغير نظم وتنظيمات الدين !
وهذا الدين من الوضوح في هذا المعنى بحيث يبدو أن ليس هنالك أمل في نجاح أية محاولة لتصويره في صورة العقيدة المنعزلة عن واقع الحياة البشرية، والتي لا علاقة لها بتنظيمات الحياة الواقعية، وتشكيلاتها وأجهزتها العملية. أو العقيدة التي تعد الناس فردوس الآخرة إذا هم أدوا شعائرها وعباداتها، دون أن يحققوا – في واقع مجتمعهم – أنظمتها وشرائعها وأوضاعها المتميزة المتفردة الخاصة ! فهذا الدين ليس هذا.. ولم يكن هذا.. ولا يمكن أن يكون هذا..
و هناك جهود جبارة تبذل-منذ قرون- لحصر الإسلام في دائرة الاعتقاد الوجداني، والشعائر التعبدية، وكفه عن التدخل في نظام الحياة الواقعية؛ ومنعه من الهيمنة الكاملة على كل نشاط واقعي للحياة البشرية-كما هي طبيعته، كما هي حقيقته، وكما هي وظيفته-.
لقد كانت هذه الخصائص في هذا الدين.. خصائص الشمول والواقعية والهيمنة.. هي التي تعبت منها الصليبية العالمية في هجومها على الأمة المسلمة في الوطن الإسلامي. كما أنها هي التي تعبت منها الصهيونية العالمية كذلك، منذ عهد بعيد! ومن ثم لم يكن بد أن تبذلا معاً الجهود الجبارة لحصر هذا الدين في دائرة الاعتقاد الوجداني والشعائر التعبدية؛ وكفه عن التدخل في نظام الحياة الواقعية؛ ومنعه من الهيمنة على نشاط الحياة البشرية.. وذلك كله كخطوة أولى، أو كموقعة أولى، في معركة القضاء عليه في النهاية!
وبعد أن أفلحت تلك الجهود الجبارة؛ ونالت انتصارها الحاسم على يد [أتاتورك]-البطل!!!- في إلغاء الخلافة الإسلامية؛ وفصل الدين عن الدولة؛ وإعلانها دولة [علمانية] خالصة. عقب محاولات ضخمة بذلت في شتى أقطار الأمة المسلمة التي وقعت في قبضة الاستعمار قبل ذلك، لزحزحة الشريعة الإسلامية عن أن تكون هي المصدر الوحيد للتشريع؛ والاستمداد من التشريع الأوروبي؛ وحصر الشريعة في ذلك الركن الضيق المسدود: ركن ما سموه:الأحوال الشخصية!
بعد أن أفلحت تلك الجهود الضخمة، ونالت انتصارها الحاسم على يد [البطل!!!] أتاتورك.. تحولت إذن إلى الخطوة التالية - أو الموقعة التالية- ممثلة في الجهود النهائية، التي تبذل الآن في شتى أنحاء الوطن الإسلامي؛ لكف هذا الدين عن الوجود أصلاً؛ وتنحيته حتى عن مكان العقيدة، وإحلال تصورات وضعية أخرى مكانه ؛ تنبثق منها مفاهيم وقيم، وأنظمة وأوضاع ، تملأ فراغ [ العقيدة ] ! وتسمى مثلها .. عقيدة ..
وصاحب هذه المحاولة ضربات وحشية تكال لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان على ظهر هذه الأرض؛ تشترك فيه كل المعسكرات المتخاصمة التي لا تلتقي على شيء في مشارق الأرض ومغاربها، إلا على الخوف من البعث الإسلامي الوشيك؛ الذي تحتمه طبائع الأشياء، وحقائق الوجود والحياة، ودلالات الواقع البشري من هنا و من هناك ..
ولكننا نعلم كذلك أن هذا الدين أضخم حقيقة، وأصلب عوداً، وأعمق جذوراً، من أن تفلح في معالجته تلك الجهود كلها، ولا هذه الضربات الوحشية كذلك.. كما أننا نعلم أن حاجة البشرية إلى هذا المنهج أكبر من حقد الحاقدين على هذا الدين؛ وهي تتردى بسرعة مخيفة في هاوية الدمار السحيقة؛ ويتنادى الواعون منها بصيحة الخطر، ويتلمسون لها طريق النجاة.. ولا نجاة إلا بالرجوع إلى الله.. والى منهجه القويم للحياة.
إن هتافات كثيرة من هنا ومن هناك تنبعث من القلوب الحائرة.. تهتف بمنقذ، وتتلفت على مُخَلِّص. وتتصور لهذا المخلص سمات وملامح معينة تطلبها فيه، وهذه السمات والملامح المعينة لا تنطبق على أحد إلا على هذا الدين!(/1)
فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين، ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج، نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع، في أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه - أراد أعداؤه كلهم أم لم يريدوا - وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى- كما لا يملك منهج آخر- أن يؤديه. وأن البشرية بجملتها لا تملك أن تستغني طويلاً عنه.
إن البشرية قد تمضي في اعتساف تجارب متنوعة هنا وهناك- كما هي الآن ماضية في الشرق وفي الغرب سواء- ولكننا نحن مطمئنون إلى نهاية هذه التجارب، واثقون من الأمر في نهاية المطاف.
إن هذه التجارب كلها تدور في حلقة مفرغة، وداخل حلقة التصور والخبرة البشرية المشوبة بالجهل، والنقص، والضعف، والهوى، في حين يحتاج الخلاص إلى الخروج من هذه الحلقة المفرغة، وبدء تجربة جديدة أصيلة، تقوم على قاعدة مختلفة كل الاختلاف: قاعدة المنهج الرباني الصادر عن علم [بدل الجهل] وكمال [بدل النقص] وقدرة [بدل الضعف] وحكمة [بدل الهوى].. القائم على أساس: إخراج البشر من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده دون سواه.
مفرق الطريق بين منهج هذا الدين، وسائر المناهج غيره:
إن مفرق الطريق بين منهج هذا الدين، وسائر المناهج غيره: أن الناس في نظام الحياة الإسلامي يعبدون إلهاً واحداً، يفردونه بالألوهية، والربوبية، والقوامة، فيتلقون منه وحده التصورات والقيم والموازين، والأنظمة والشرائع والقوانين، والتوجيهات والأخلاق والآداب.. بينما هم في سائر النظم يعبدون آلهة وأرباباً متفرقة، يجعلون لها القوامة عليهم من دون الله، حين يتلقون التصورات والقيم والموازين، والأنظمة والشرائع والقوانين، والتوجيهات والآداب والأخلاق، من بشر مثلهم. فيجعلونهم بهذا التلقي أرباباً، ويمنحونهم حقوق الألوهية والربوبية والقوامة عليهم.. وهم مثلهم عبيد كما أنهم عبيد..
ونحن نسمي هذه النظم التي يتعبد الناس فيها الناس-كما يسيمها الله سبحانه- نظماً جاهلية. مهما تعددت أشكالها، وبيئاتها، وأزمانها. فهي قائمة على ذات الأساس الذي جاء هذا الدين-يوم جاء- ليحطمه، وليحرر البشر منه، وليقيم في الأرض ألوهية واحدة للناس؛ وليطلقهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده؛ بالمعنى الواسع الشامل لمفهوم [العبادة] ومفهوم [ الإله] ومفهوم [الرب] ومفهوم [الدين] .
لقد جاء هذا الدين ليلغي عبودية البشر للبشر، في كل صورة من الصور، وليوحد العبودية لله في الأرض، كما أنها عبودية واحدة لله في هذا الكون العريض..{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ[83]}[سورة آل عمران].
والمنهج الإسلامي المنبثق من هذا الدين- بهذا الاعتبار- ليس نظاماً تاريخياً لفترة من فترات التاريخ، كما أنه ليس نظاماً محلياً لمجموعة من البشر في جيل من الأجيال، ولا في بيئة من البيئات.. إنما هو المنهج الثابت الذي ارتضاه الله لحياة البشر المتجددة، ولتبقى هذه الحياة مكيفة بالصورة العليا التي أكرم الله فيها الإنسان عن العبودية لغير الله.
والناس إما أن يعيشوا بمنهج الله بكليته فهم في توافق مع نواميس الكون، وفطرة الوجود، وفطرتهم هم أنفسهم. وإما أن يعيشوا بأي منهج آخر من صنع البشر، فهم في خصام مع نواميس الكون، وتصادم مع فطرة الوجود، ومع فطرتهم هم أنفسهم، بوصفهم قطاعاً في هذا الوجود.. تصادم تظهر نتائجه المدمرة من قريب أو من بعيد.
ونحن- كما قلنا- نستيقن أن الناس عائدون إلى الله؛ عائدون إلى منهجه هذا للحياة. وأن المستقبل لهذا الدين عن يقين. ونحن مستيقنون كذلك أن كل الجهود التي بذلت أو سوف تبذل لزحزحة هذا الدين عن طبيعته كمنهج للحياة البشرية الواقعية، في كل مجالاتها العملية والشعورية؛ سوف تبوء بالفشل والخيبة. وقد بانت بوادر الفشل والخيبة.. لأن هذه العزلة ليست من طبيعة هذا الدين.
كُلُّ ديِن منهَج حَيَاة
ونظراً لهذه الحقيقة.. لم يكن هناك دين إلهي هو مجرد عقيدة وجدانية، منعزلة عن واقع الحياة البشرية في كل مجالاتها الواقعية، ولا مجرد شعائر تعبدية يؤديها المؤمنون بهذا الدين فرادى أو مجتمعين، ولا مجرد [أحوال شخصية] تحكمها شريعة هذا الدين، بينما تحكم سائر نواحي الحياة شريعة أخرى مستمدة من مصدر آخر، تؤلف منهجاً آخر للحياة غير منبثق انبثاقاً من [دين الله].
وما يملك أحد يدرك مفهوم كلمة [دين] أن يتصور إمكان وجود دين الهي ينعزل في وجدان الناس، أو يتمثل فحسب في شعائرهم التعبدية، أو[أحوالهم الشخصية]، ولا يشمل نشاط حياتهم كله، ولا يهيمن على واقع حياتهم كله، ولا يقود خطى حياتهم في كل اتجاه، ولا يوجه تصوراتهم، وأفكارهم، ومشاعرهم، وأخلاقهم، ونشاطهم، وارتباطاتهم في كل اتجاه.(/2)
لا.. وليس هناك دين من عند الله هو منهج للآخرة وحدها، ليتولى دين آخر من عند غير الله وضع منهج للحياة الدنيا.. فهذا تصور مضحك لحقيقة الواقع الكوني والبشري.. وذلك أن مقتضى هذا التقسيم المفتعل أن يكون لله جانب واحد من جوانب هذه الحياة ينظمه، ويشرف عليه، وينحصر [اختصاصه] فيه، ويكون لغير الله جوانب أخرى كثيرة ينظمها ويشرف عليها [أرباب] آخرون، يتعلق بها اختصاصهم.
إنه تصور مضحك إلى حد أن الذين يفكرون على هذا النحو، سيضحكون من أنفسهم، ومن تفكيرهم، ويسخرون من سذاجتهم وركة أفكارهم.. لو أنهم رأوا الأمر حقيقة من هذه الزاوية الصحيحة، وتحت هذا النور الهادئ الهادي..
وإلا يقم نظام الحياة كله على هذا التفسير الشامل الكامل، فهي إذن أهواء البشر. وهي إذن الجاهلية التي جاء كل دين من عند الله لإخراج الناس منها، ورفعهم إلى الربانية.. وإلا تكن العبودية لله وحده-ممثلة في التلقي عنه في هذا كله-فهي العبودية للعبيد.. وقد جاء دين الله لتحرير العباد من عبادة العبيد!
لا حاجة بنا للإطالة أكثر من هذا في هذه الحقيقة البديهية التي ما كان يجوز أن تكون موضع جدال، لولا تلك الملابسات النكدة التي قامت في أوروبا، وأدت إلى ذلك [الفصام النكد] بين الدين والدولة. بل بين الدين والحياة.
الفصَامُ النَّكِدْ
ليس من طبيعة [الدين] أن ينفصل عن الدنيا، وليس من طبيعة المنهج الإلهي أن ينحصر في المشاعر الوجدانية، والأخلاقيات التهذيبية، والشعائر التعبدية. أو في ركن ضيق من أركان الحياة البشرية.. ركن ما يسمونه [الأحوال الشخصية].
ليس من طبيعة [الدين] أن يفرد لله -سبحانه- قطاعاً ضيقاً في ركن ضئيل-أو سلبي- في الحياة البشرية، ثم يسلم سائر قطاعات الحياة الإيجابية العملية الواقعية لآلهة أخرى وأرباب متفرقين، يضعون القواعد والمذاهب، والأنظمة والأوضاع، والقوانين والتشكيلات على أهوائهم، دون الرجوع إلى الله!
ليس من طبيعة [الدين] أن يشرع طريقاً للآخرة، لا يمر بالحياة الدنيا! طريقاً ينتظر الناس في نهايته فردوس الآخرة عن غير طريق العمل في الأرض، وعمارتها، والخلافة فيها عن الله، وفق منهجه الذي ارتضاه!
ليس من طبيعة [الدين] أن يكون هذا المسخ الشائه الهزيل! ولا هذه الألعوبة المزوقة التي يلهو بها الأطفال! ولا هذه المراسم التقليدية التي لا علاقة لها بنظم الحياة العملية!
ليس من طبيعة [الدين] -أي دين فضلاً عن دين الله- أن يكون هذا العبث الممسوخ الهزيل.. فمن أين إذن جاءته هذه السلبية الهازلة ؟ وكيف إذن وقع ذلك [الفصام النكد] بين الدين والحياة ؟.
لقد تم ذلك [الفصام النكد] في ظروف نكدة! وكانت له آثاره المدمرة في أوروبا.. ثم في الأرض كلها، حين طغت التصورات الغربية، والأنظمة الغربية، والأوضاع الغربية، على البشرية كلها في مشارق الأرض ومغاربها..
ولم يكن بد-وقد انفصمت حياة المخاليق عن منهج الخالق- أن تسير في هذا الطريق البائس؛ وأن تنتهي إلى هذه النهاية التعيسة؛ وأن تحيط بالبشر الدائرة التي يتعذبون الآن في داخلها، ويذوق بعضهم بأس بعض، بينما هم عاجزون عن معرفة طريق الخلاص منها.. وهم يصطرخون فيها..!!.
انتهى دور الرجل الأبيض
لقد انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض؛ لأن حضارة الرجل الأبيض قد استنفدت أغراضها المحدودة القريبة، ولم يعد لديها ما تعطيه للبشرية من تصورات ومفاهيم ومبادئ وقيم، تصلح لقيادة البشرية، وتسمح لها بالنمو والترقي الحقيقيين.. النمو والترقي للعنصر الإنساني، وللقيم الإنسانية، وللحياة [الإنسانية].
إنها مبتوتة عن الأصل الكبير الذي لا تقوم الأنظمة الاجتماعية، ولا تعيش المبادئ والقيم، إلا إذا انبثقت منه، وقامت عليه. الأصل الاعتقادي المرتبط بالله، والتفسير الكلي للوجود، ومركز الإنسان فيه، وغاية وجوده الإنساني.. ومن ثم كانت قيماً محدودة موقوتة؛ لأنها في الأصل قيم مبتوتة!.. نبات لا جذور له في أعماق الفطرة البشرية؛ لأنه ليس آتياً من المصدر الذي جاءت منه الفطرة البشرية.
ومن أجل أنها لم تنبثق من ذلك الأصل؛ ولم تجئ من هذا المصدر، فإنها قامت على أساس مناقض لفطرة الإنسان؛ ولم تراع في الأسس التي قامت عليها، ولا في الوسائل التي اتخذتها، ولا في الطريق التي سارت فيه.. لم تراع في هذا كله احتياجات [الإنسان] الحقيقية، المنبثقة من طبيعة تكوينه، وأصل خلقته وحقيقة فطرته، وأهملت إهمالاً شنيعاً أهم مقوماته-التي بها صار الإنسان إنساناً- ولم تهملها فحسب، بل طاردتها في جفوة وعنف.. وسارت في طريق معارض للحقيقة الإنسانية، وللحاجات الحقيقية لبني الإنسان، وللقيم الصحيحة التي ينبغي أن تطبع الحياة الإنسانية وتميزها.(/3)
ومن ثم أخذ [الإنسان] يشقى شقاءً مريراً بالحضارة، التي قامت-أو المفروض أنها قامت- لخدمته وترقيته وإسعاده.. وحين تتناقض[الحضارة] مع [الإنسان] فالنتيجة الحتمية بعد فترة-تطول أو تقصر- من صراع الإنسان مع الحضارة، ومن الآلام والتضحيات، والخسائر والمرارات، أن ينتصر الإنسان، لأنه هو الأصل. ولأن فطرته أعمق وأبقى من أنماط الحضارة الطارئة عليها.. الحضارة المنبتة عن الله، وعن منهجه للحياة.
ثم ماذا؟
ثم إنه الخواء ينخر في روح الحضارة الغربية، بمذاهبها جميعاً، وبأنظمتها جميعاً، الخواء الذي تختنق فيه روح [الإنسان]، وتنهدر فيه قيمة [الإنسان]، وتنحدر فيه خصائص [الإنسان].. بينما تتكدس [الأشياء] وتعلو قيمتها، وتطغى على كل قيمة للإنسان!
إن بريق الحضارة المادية لا يجوز أن يغشي أبصارنا عن حقيقة الشقاء الذي باتت تعانيه البشرية في ظل هذه الحضارة. وإن الصواريخ المطلقة، والأقمار الصاعدة، لا يجوز أن تلهينا عن الدرك الذي ينحدر إليه [الإنسان] ومقومات [الإنسان]!
إن الإنسان هو أكرم ما في هذه الأرض. إنه هو الكائن الأساسي فيها، والمستخلف في مقدراتها. وكل شيء فيها في خدمته-أو ينبغي أن يكون كذلك-و[إنسانيته] هي المقوم الأعلى الذي يقاس به مدى صعوده أو هبوطه. وسعادة روحه هي مقياس ما في الحضارة التي يعيش فيها من ملاءمة لطبيعته أو مصادمة..
فإذا رأينا [الإنسان] ينحدر في صفاته [الإنسانية] وفي تصوره للقيم الإنسانية..
إذا رأيناه وقوداً للآلة، أو عبداً لها، أو تابعاً ذليلاً من توابعها..
إذا رأيناه- تبعاً لهذا- ينحط في تصوره وذكائه وأخلاقه..
إذا رأيناه يهبط في علاقاته الجنسية إلى أدنأ من درك البهيمة..
إذا رأينا وظائفه الأساسية تعطل وتذوي وتتراجع..
إذا رأيناه يشقى ويقلق ويتحير، ويعاني من القلق والحيرة ما لم يعانيه قط في تاريخه من الشقاء والتعاسة، والأمراض العصبية والنفسية، والشذوذ والعته، والجنون والجريمة.
إذا رأيناه هارباً من نفسه، ومن المخاوف، والقلاقل التي تلفه بها الحضارة المادية، والأنظمة الاجتماعية، والسياسية، والأخلاقية، والفكرية.
إذا رأيناه هائما على وجهه يقتل سآمته وملله، بما يقتل به روحه وجسمه وأعصابه، من المكيفات والخمور، أو ما يشبه المكيفات والخمور من الأفكار السود، ومذاهب اليأس والقنوط الملبس والضياع الأليم.. كما في [الوجودية] وغيرها من مذاهب الفكر التعيسة.
إذا رأيناه يئد نسله، أو يبيع أولاده، ليشتري بهم ثلاجات وغسالات كهربائية-كما جاءتنا الأنباء عن أوروبا الضائعة.
إذا رأيناه في مثل هذه الحال النكدة.. فإن جميع ما يصل إليه [العلم] في معزل عن [روح الإنسان] من تيسيرات للحياة المادية، ومن رفاهيات حضارية.. لا يغير شيئاً من حقيقة الانحدار الذي تهوي إليه البشرية؛ ومن حقيقة الشقاء الذي تعانيه؛ ومن حقيقة التعاسة التي تزاولها.. ثم.. من حقيقة فشل هذه الحضارة وقرب نهايتها.. ومن ثم حقيقة الحاجة الماسة إلي نظام آخر أصيل، بريء-في أساسه- من العيوب الأساسية التي أفسدت حياة البشر؛ وضيعت عليهم ثمار العلم والمعرفة والتقدم الحضاري.. نظام يسمح للإنسانية بأن تحقق غاية وجودها الإنساني-كما أرادها خالقها العظيم- وأن تستخدم [العقل] و[العلم] و[التجربة] استخداماً آخر، يتناسق مع احتياجاتها الحقيقية؛ ومع مقتضيات فطرتها الأصيلة.
لقد انتهى دور الرجل الأبيض.. انتهى دوره سواء أكان روسياً أم أمريكياً، إنجليزياً أم فرنسوياً، أم سويسرياً أم سويدياً.. إنه لابد من قاعدة من التصور الاعتقادي لكافة المذاهب والمناهج والنظم والأوضاع التي تقوم عليها حياة [الإنسان]. لابد من تفسير صحيح للوجود، ولمركز الإنسان فيه، ولغاية وجوده الإنساني. وهذا ما أغفلته حضارة الرجل الأبيض، بل حاربته حرباً شعواء، يستوي في هذا جميع الأنظمة السائدة في الغرب، وفي الشرق جميعاً.
والإنسان في حاجة إلى [عقيدة] تعمر قلبه؛ وتنبثق منها تصوراته؛ وتقدم له التفسير الشامل لحياته وللكون من حوله؛ ولعلاقته هو والكون بالخالق الأعلى..[عقيدة] ترسم له أهدافاً أكبر من ذاته، وأعم من جيله، وأبعد من حاضره، وأرفع من واقعه؛ وتربطه بذات علوية، لها عليه رقابة وسيطرة؛ يحبها ويخشاها؛ ويتقي غضبها ويطلب رضاها؛ وينتظر عونها على الخير؛ ويستحي من مواجهتها بالشر؛ ويرجو جزاءها العادل الكامل، الذي يعوض عليه ما يفوته في صراعه للشر في هذه الحياة الدنيا؛ ويربط حياته كلها بها؛ ويتلقى عنها نظام حياته، ومناهج فكره وسلوكه؛ كما يتلقى عنها شعائر عبادته سواء بسواء.. فتستقيم حياته كلها حزمة واحدة، لا فصام فيها ولا صدام..(/4)
ولقد يشغل الإنسان بعض الوقت بجوعة الجسد، وما يتعلق بها من الإنتاج بشتى وسائله وصنوفه، ومن المتاع الحسي بشتى ألوانه ومذاقاته.. وما أن تهدأ هذه الجوعة حتى تتحرك في الكائن الإنساني جوعة أخرى. جوعة لا يسدها الطعام، ولا يرويها الشراب، ولا يكفيها الكساء، ولا تسكنها كل ضروب المتاع.. إنها جوعة من نوع آخر. جوعة إلى الإيمان بقوة أكبر من البشر؛ وعالم أكبر من المحسوس؛ ومجال أكبر من الحياة الدنيا.. وجوعة إلى الوئام بين ضمير الإنسان وواقعه، بين الشريعة التي تحكم ضميره والشريعة التي تحكم حياته. بين منهج حركته الذاتية، ومنهج الحركة الكونية من حوله. جوعة إلى [إله] واحد؛ يتلقى منه شريعة قلبه، وشريعة مجتمعه على السواء.. وكل نظام للحياة لا يحقق السعادة للكائن البشري إلا إذا تضمن كفاية هذه الجوعات المتعددة في كينونته الواحدة.. وهذه السمة هي التي خلت منها حضارة الرجل الأبيض!
ولهذا السبب-من وراء كل سبب- انتهى دور الرجل الأبيض..
المُخَلِّص
'إن هتافات كثيرة من هنا ومن هناك، تنبعث من القلوب الحائرة وترتفع من الحناجر المتعبة .. تهتف بمنقذ، وتتلفت على [مخلص]، وتتصور لهذا المخلص سمات وملامح معينة تطلبها فيه..وهذه السمات والملامح المعينة لا تنطبق على أحد إلا على [هذا الدين] .
المستَقبل لهذا الدّين
وحين يتقرر أن الإسلام:
هو وحده القادر على إنقاذ البشرية مما يحدق بها من أخطار ماحقة، تدلف إليها مقودة بسلاسل الحضارة المادية البراقة.
وهو وحده القادر على منحها المنهج الملائم لفطرتها، ولاحتياجاتها الحقيقية.
وهو وحده الذي ينسق بين خطاها في الإبداع المادي، وخطاها في الاستشراف الروحي.
وهو وحده الذي يملك أن يقيم لها نظاماً واقعياً للحياة يتم فيه هذا التناسق الذي لم تعرفه البشرية قط إلا في النظام الإسلامي وحده على مدى التاريخ ..
حين يتقرر هذا كله تتضح معه شناعة الجريمة التي يرتكبها - في حق البشرية كلها - أولئك الذين يوجهون الضربات الوحشية لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان، والذين يجندون قواهم كلها، لطمس معالم المنهج الإسلامي، ومواراته عن أعين البشرية المتطلعة إلى منقذ، المتلفتة على [مخلِّص]، وتنفيرها منه بشتى الخدع والتمويهات والأكاذيب!
إنها جريمة بشعة في حق البشرية المنكوبة بهذه الحضارة المناقضة لفطرتها ولاحتياجاتها الحقيقة المهددة بغلبة الفلسفة المادية عليها..وهي في كل لحظة تقترب من الهوة الرعيبة، ولا منقذ لها إلا هذا الدين، الذي يحاربه أعداء البشرية، في كل مكان على وجه الأرض، بشتى الخطط، والمؤامرات، والأساليب!
إلا أن هذه الحرب المشبوبة على الإسلام لا تفقدنا الثقة المطلقة في أن [المستقبل لهذا الدين].
لقد صمد الإسلام في حياته المديدة، لما هو أعنف وأقسى من هذه الضربات الوحشية، التي توجه اليوم إلى طلائع البعث الإسلامي في كل مكان. وكافح - وهو مجرد من كل قوة غير قوته الذاتية- وانتصر، وبقى، وأبقى على شخصية الجماعات والأوطان، التي كان يحميها، وهو مجرد من السلاح!
إن الإسلام هو الذي حمى الوطن الإٍسلامي في الشرق من هجمات التتار؛ كما حماه من هجمات الصليبيين على السواء .. ولو انتصر الصليبيون في الشرق كما انتصروا في الأندلس قديماً، أو كما انتصر الصهيونيون في فلسطين حديثاً، ما بقيت قومية عربية، ولا جنس عربي، ولا وطن عربي .. والأندلس قديماً وفلسطين حديثاً كلاهما شاهد على أنه حين يطرد الإسلام من أرض، فإنه لا تبقى فيها لغة ولا قومية، بعد اقتلاع الجذر الأصيل!
والمماليك الذين حموا هذه البقعة من التتار، لم يكونوا من جنس العرب إنما كانوا من جنس التتار! ولكنهم صمدوا في وجه بني جنسهم المهاجمين، حمية للإسلام، لأنهم كانوا مسلمين! صمدوا بإيحاء من العقيدة الإسلامية، وبقيادة روحية إسلامية من الإمام المسلم [ابن تيمية] الذي قاد التعبئة الروحية، وقاتل في مقدمة الصفوف!
ولقد حمى صلاح الدين هذه البقعة من اندثار العروبة منها، والعرب، واللغة العربية .. وهو كردي لا عربي، ولكنه حفظ لها عروبتها ولغتها حين حفظ لها إسلامها من غارة الصليبيين. وكان الإسلام في ضميره هو الذين كافح الصليبيين، كما كان الإسلام في ضمير الظاهر بيبرس، والمظفر قطز، والملك الناصر .. هو الذي كافح التتار المتبربرين!(/5)
والإسلام هو الذي كافح في الجزائر مئة وخمسين عاماً. وهو الذي استبقى أرومة العروبة فيها. حتى بعد أن تحطمت مقوماتها الممثلة في اللغة والثقافة، حينما اعتبرت فرنسا اللغة العربية –في الجزائر- لغة أجنبية محظوراً تعليمها! هنالك قام الإسلام - وحده - في الضمير، يكافح الغزاة، ويستعلي عليهم، ولا يحنى رأسه لهم لأنهم أعداؤه [الصليبيون]! وبهذا - وحده - بقيت روح المقاومة في الجزائر، حتى أزكتها من جديد الحركة الإسلامية التي قام بها عبد الحميد بن باديس، فأضاءت شعلتها من جديد .. وهذه الحقيقة التي حاول أن يطمسها المغفلون والمضلِّلون، يعرفها الفرنسيون والصليبيون جيداً لأنهم [صليبيون]!
إنهم على يقين أن [الإسلام]، باستعلاء روحه على أعدائه، هو الذي يقف في طريقهم. ومن ثم يعلنونها حرباً على [المسلمين] .. لا على [العرب]!
والإسلام هو الذي كافح في برقة وطرابلس ضد الغزو الطلياني .. وفي أربطة السنوسية وزواياها نمت بذرة المقاومة، ومنها انبثق جهاد عمر المختار الباسل النبيل..
وأول انتفاضة في مراكش، كانت منبثقة من الروح الإسلامي. وكان [الظهير البربري] الذي سنه الفرنسيون سنة 1931 وأرادوا به رد قبائل البربر هناك إلى الوثنية، وفصلهم عن الشريعة الإسلامية .. هو الشرارة التي ألهبت كفاح مراكش ضد الفرنسيين.
لقد كافح الإٍسلام - وهو أعزل - لأن عنصر القوة:
كامن في طبيعته، كامن في بساطته ووضوحه وشموله، وملاءمته للفطرة البشرية، وتلبيته لحاجاتها الحقيقية. كامن في الاستعلاء عن العبودية للعباد بالعبودية لله رب العباد؛ وفي رفض التلقي إلا منه، ورفض الخضوع إلا له من دون العالمين.
كامن كذلك في الاستعلاء بأهله على الملابسات العارضة كالوقوع تحت سلطان المتسلطين، فهذا السلطان يظل خارج نطاق الضمير مهما اشتدت وطأته .. ومن ثم لا تقع الهزيمة الروحية طالما عمر الإسلام القلب والضمير، وإن وقعت الهزيمة الظاهرية في بعض الأحايين.
ومن أجل هذه الخصائص في الإسلام يحاربه أعداؤه هذه الحرب المنكرة؛ لأنه يقف لهم في الطريق، يعوقهم عن أهدافهم الاستعمارية الاستغلالية، كما يعوقهم عن الطغيان والتأله في الأرض كما يريدون!
ومن أجل هذه الخصائص يطلقون عليه حملات القمع والإبادة، كما يطلقون عليه حملات التشويه والخداع والتضليل!
ومن أجل هذا يريدون أن يستبدلوا به قيماً أخرى، وتصورات أخرى، لا تمت بسبب إلى هذا المناضل العنيد؛ لتستريح الصهيونية العالمية، والصليبية العالمية، والاستعمار العالمي من هذا المناضل العنيد!
إن خصائص الإسلام الذاتية هي التي تحنق عليه أعداءه الطامعين في أسلاب الوطن الإسلامي .. هذه هي حقيقة المعركة؛ وهذا هو دافعها الأصيل..
ولكن الذي لا شك فيه - على الرغم من ذلك كله - هو أن [المستقبل لهذا الدين]..
فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين؛ ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع، في أن المستقبل لهذا الدين. وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه - أراد أعداؤه أم لم يريدوا - وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى - كما لا يملك منهج آخر- أن يؤديه، وأن البشرية بجملتها لا تملك كذلك أن تستغني طويلاً عنه. ولا حاجة بنا إلى المضي في توكيد هذه الحقيقة على هذا النحو.
فنكتفي في هذا الموضع بعرض عبرة عن الواقع التاريخي للإسلام، لعلها أنسب العبر في هذا المقام:
بينما كان [سراقة بن مالك] يطارد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحبه أبا بكر رضي الله عنه - وهما مهاجران خفية عن أعين قريش .. وبينما كان سراقة يعثر به فرسه كلما هم أن يتابع الرسول وصاحبه، طمعاً في جائزة قريش المغرية التي رصدتها لمن يأتيها بمحمد، وصاحبه، أو يخبر عنهما .. وبينما هو يهم بالرجوع وقد عاهد النبي صلى الله لعيه وسلم أن يكفيهما من وراءه ..
في هذه اللحظة قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يا سراقة. كيف بك وسوارى كسرى؟] .. يعده سوارى كسرى شاهنشاه الفرس! [ملك الملوك!].. والله وحده يعلم ما هي الخواطر التي دارت في رأس سراقة؛ حول هذا العرض العجيب؛ من ذلك المطارد الوحيد .. إلا من صاحبه الذي لا يغني شيئاً عنه، والمهاجر - سرّا ً- معه!
ولكن كالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان عارفاً بالحق الذي معه، معرفته بالباطل الذي عليه الجاهلية في الأرض كلها يومذاك .. وكان واثقاً من أن هذا الحق لابد أن ينتصر على هذا الباطل. وأنه لا يمكن أن يوجد [الحق] في صورته هذه، وأن يوجد [الباطل] في صورته هذه، ثم لا يكون ما يكون!
كانت الشجرة القديمة قد تآكلت جذورها كلها، بحيث لا يصلها ري ولا سماد .. كانت قد خبثت بحيث يتحتم أن تجتث .. وكانت البذرة الطيبة في يده هي المعبأة للغرس والنماء .. وكان واثقاً من هذا كله ثقة اليقين .(/6)
نحن اليوم في مثل هذا الموقف بكل ملابساته، وكل سماته. مع الجاهلية كلها من حولنا.. فلا يجوز- من ثم - أن ينقصنا اليقين في العاقبة المحتومة. العاقبة التي يشير إليها كل شيء من حولنا. على الرغم من جميع المظاهر الخادعة التي تحيط بنا!
إن حاجة البشرية اليوم إلى هذا المنهج، ليست بأقل من حاجتها يومذاك .. وإن وزن هذا المنهج اليوم - بالقياس إلى كل ما لدى البشرية من مناهج - لا يقل عنه يومذاك ..
ومن ثم ينبغي ألا يخالجنا الشك في أن ما وقع مرة في مثل هذه الظروف لابد أن يقع. ولا يجوز أن يتطرق إلى قلوبنا الشك، بسبب ما نراه من حولنا، من الضربات الوحشية التي تكال لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان، ولا بسبب ما نراه كذلك من ضخامة الأسس التي تقوم عليها الحضارة المادية.. إن الذي يفصل في الأمر ليس هو ضخامة الباطل، وليس هو قوة الضربات التي تكال للإسلام. إنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ومدى الصمود للضربات!
إننا لسنا وحدنا .. إن رصيد الفطرة معنا .. فطرة الكون وفطرة الإنسان .. وهو رصيد هائل ضخم .. أضخم من كل ما يطرأ على الفطرة من أثقال الحضارة .. ومتى تعارضت الفطرة مع الحضارة، فلا بد أن يكتب النصر للفطرة .. قصر الصراع أم طال.
أمر واحد يجب أن يكون في حسابنا
إن أمامنا كفاحاً مريراً شاقاً طويلاً. لاستنقاذ الفطرة من الركام، ثم لتغليب الفطرة على هذا الركام، كفاحاً مريراً يجب أن نستعد له استعداداً طويلاً، يجب أن نستعد بأن نرتفع إلى مستوى هذا الدين ..نرتفع إلى مستواه في حقيقة إيماننا بالله. وفي حقيقة معرفتنا بالله، فإننا لن نؤمن به حق الإيمان حتى نعرفه حق المعرفة ..
ونرتفع إلى مستواه في عبادتنا لله. فإننا لن نعرف الله حق المعرفة إلا إذا عبدناه حق العبادة.
ونرتفع إلى مستواه في وعينا بما حولنا، ومعرفتنا لأساليب عصرنا .. ورحم الله رجلاً عرف زمانه واستقامت طريقته.
ونرتفع إلى مستواه في إحاطتنا لثقافة عصرنا وحضارته؛ وممارسة هذه الثقافة، وهذه الحضارة ممارسة اختبار واختيار .. فإننا لا نملك الحكم على ما ينبغي أن نأخذ منها، وما ينبغي أن ندع، إلا إذا سيطرنا عليها بالمعرفة والخبرة. فمن المعرفة والخبرة نستمد سلطان الاختيار ..
ونرتفع إلى مستواه في إدراكنا لطبيعة الحياة البشرية، وحاجاتها الحقيقية المتجددة، فنرفض ما نرفض من هذه الحضارة، ونستبقي ما نستبقي عن خبرة بالحياة ذاتها تعادل خبرتنا بهذه الحضارة كذلك!
وهذا كفاح مرير .. وكفاح طويل .. ولكنه كفاح بصير وكفاح أصيل.. والله معنا ..{...وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[21]}[سورة يوسف] ..وصدق الله العظيم.
من كتاب:'المستقبل لهذا الدين' للأستاذ/سيد قطب رحمه الله .(/7)
المسجد أساس من أسس بناء المجتمع الإسلامي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? [آل عمران : 102]? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً?[ النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
فقد أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناء الفرد والأسرة والمجتمع والأمة على أسس قوية متينة شامخة لا تتأثر بالأعاصير، وأول تلك الأسس التي غرسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثبتها في قلوب أصحابه الإيمان واليقين، وتصحيح التصورات الجاهلية عن الكون والإنسان وعن الحياة ، وربطهم بالله رب العالمين الخالق البارئ المصور ، بديع السماوات والأرض، ذي الجلال والإكرام ، ولما اكتمل بناء العقيدة الإيمانية التوحيدية، في الفترة المكية واشتد أذى الكفار للرسول وأصحابه، أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة حيث هيئ الله تبارك وتعالى لهذا الدين من يؤمن به ويحمله، فقد وجد - صلى الله عليه وسلم - المأوى والنصرة والحماية في الأوس والخزرج من سكان طيبة الطيبة، حيث وداعة الإيمان ، ولطف العشرة، والوفاء بالعهد، وشدة البأس على كل من تسول له نفسه المساس بالدعوة إلى الله وصاحبها، وبعد هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة أخذ في بناء الأسس للدولة والمجتمع الإسلامي فكان أول شيء فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو: بناء المسجد .. فقد أتفق أهل السير والمغازي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة نزل في مشارفها على بني عمرو بن عوف في قباء.
فأسس مسجدها وأكمل بناءه، ثم رحل عنهم إلى داخل المدينة، وكان الأنصار في محلاتهم وديارهم يخرجون للقائه ويأخذون بزمام ناقته ويعرضون عليه الإقامة بينهم حيث العدد والعدة والمنعة، فكان - صلى الله عليه وسلم - يتلطف في الاعتذار لهم ويشكرهم ويدعو لهم ويقول خيراً، ويطلب منهم أن يدعوا الناقة تواصل مسيرها ويقول: (دعوها فإنها مأمورة ) إنها مسيرة بإذن الله وأمره وزمامها بيده - صلى الله عليه وسلم - ، لا يثنيها عن اتجاهها ولا يكفها وهي تواصل سيرها ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها يحف به جموع أصحابه من المهاجرين والأنصار، حتى بلغت فناء أبي أيوب، في محلة بني مالك بن النجار، فبركت هناك ، وكان موضع بروكها وما حوله مربداً مملوكاً لغلامين يتيمين في حجر أبي أمامة أسعد بن زرارة نقيب بني النجار، فعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن هذا المكان هو الذي أراد الله أن يقام فيه المسجد فقال: " ها هنا المنزل إن شاء الله" فقال لهم: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم ، فقالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا من الله" يريدون أن يتحملوا ثمنه للغلامين، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبى أن يقبله بغير ثمن ، فاشتراه . وبعد أن اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحائط بدأ بالعمل، وكان ذلك المكان قبور المشركين، وكان فيه خرب ونخل وشجر من غرقد فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل والشجر فقطعت، وصفت في قبلة المسجد، وأخذ - صلى الله عليه وسلم - يعمل مع أصحابه في بناء المسجد كان ينقل اللبن معهم، ليرغب المسلمين في هذا العمل الصالح ويشجعهم، وينشطهم، فنهض بالعمل المهاجرون والأنصار بهمة وعزيمة وإخلاص، وكانوا ينشدون الشعر وهم يعملون، ليبعثوا في أنفسهم النشاط وليذهبوا عنها الفتور والملل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشاركهم في ذلك ومن قولهم:
هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر
ويقولون:
اللهم إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة
ويقولون:
لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل
وآخرون يقولون:
لا يستوي من يعمر المساجدا يدأب فيها قائماً وقاعدا
من يُرى عن التراب حائدا(/1)
وأتم الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أمته نعمته العظمى بإتمام بناء أفضل مسجد بعد المسجد الحرام، بناه أفضل نبي مرسل بأفضل دين. كان بناء مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بناء متواضع بسيط في عمارته وإنشاءه تسوده السماحة الفطرية والسهولة واليسر ويحوطه النور من أقطاره وتحف به الهداية من جوانبه، مئة ذراع طولاً ومئة ذراع عرضاً، سقفه جريد النخل، وعمده الجذوع وفرشه الرمل والحصباء، وبنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنب المسجد حجراته بالطريقة التي بنى بها المسجد من حيث البساطة والتواضع.
أيها الأخوة المؤمنون: لم تكن عناية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفائقة ببناء مسجده من اللحظة الأولى التي وطئت قدمه الشريفة أرض المدينة المنورة هذه العناية والاهتمام والتقديم على أي عمل آخر من أعمال البناء والتأسيس في مستقره ودار هجرته وموئل دعوته ومأرز رسالته وعاصمة أمته وقاعدة جهاده لمجرد أن يكون المسجد مصلى تقام فيه الصلاة فحسب ثم ينصرف الناس معرضين كما هو الحال في عصرنا وإنما كانت هناك حكمة عظيمة ومقاصد كبيرة من وراء ذلك نشير إلى بعض منها:
إن الدعوة إلى الله وتبليغ الرسالة والسير بها قدماً تحتاج إلى مكان عام يتناسب مع عموم الرسالة وخلودها. تأرز عليه ، ويأوي إليه المسلمون ، يتساوون فيه، لا يملك أحد من الناس فيه شيئاً، إنه مكان تملكه أمة الإسلام حيثما كان أفرادها وجماعاتها. كانت الضرورة تقتضي أن يكون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكان عام يتسع له ولأصحابه والقادمين عليه طلباً للهداية ورغبة في الإيمان، وسماعاً للذكر والقرآن، وحضور الصلوات خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجمع والجماعات ، فيتماسك المجتمع ويتآخى ويتعاون أفراده وإنما يتحقق ذلك في رحاب المسجد وبين جنباته.
وفي المسجد تتم الشورى وهي دعامة من دعائم هذا الدين الحنيف، سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتكون نهج أمته من بعده، يقيها مغبة الاستبداد الفردي ويدفع عنها التسلط والظلم والبغي، لأن الأمة إذا أقامت حياتها على مبدأ الشورى سلم لها مستقبلها واستنار طريقها للخروج من المآزق والأزمات، فكل أمر ذي بال كان المسلمون يتشاورون ويتداولون الرأي فيه في المسجد.
وهذا الدين دين العلم والمعرفة والتعليم والقراءة ، كانت الضرورة تقتضي أن يكون للمجتمع الجديد مكان عام يدرس فيه العلم بأوسع وأعم معانيه، ليشمل العقيدة وبراهينها، ويشمل التعبد وأحكامه، ويشمل نظام الحياة في المعاملات ليقوم الناس بالقسط ، ويشمل سياسة الأمة وعلاقتها مع بعضها أفراداً وجماعات، أو مع غيرها حكومات وشعوباً.
لأن المجتمع المسلم مكلف بقيادة الحياة في كل مجالاتها وهداية البشرية إلى هذا الدين العظيم وهذا هو منبع خيرية هذه الأمة كما قال الله تعالى: ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ..?[آل عمرآن:110].
إن بناء المسجد كان ضرورة للمجتمع المسلم الجديد الذي يتسع ويتزايد ويتعاظم كماً وكيفاً . مكان عام جامع يأوي إليه الغريب الذي قدم راغباً في الإيمان والهداية، ويأوي إليه الفقير الذي ليس له مسكن يسكنه، والمسكين الذي لا يجد ما يسد جوعته ممن ليس لهم رغبة في حطام الدنيا ومتاعها ولكنهم رغبوا في الانقطاع والعبادة وتعلم العلم ممن قال الله فيهم: ?...يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ...?[الأنعام:52].
وقد كان لهم في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - مكان يأوون إليه وهم ضيوف الإسلام عرفوا بأهل الصفة ، وكانوا يقلون ويكثرون حسب طوارئ الحياة.
وكان بناء المسجد ضرورة لأن المجتمع الجديد يحتاج إلى مكان عام لا يضيق عن إيواء جريح من كتائب الله وجنده في معارك الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته. ليكون هذا الجريح قريباً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده متى شاء وينظر في أمره، ويقوم بحاجته، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أولى المؤمنين من أنفسهم.
لقد أُنشئ المسجد ليكون منطلقاً ، منه تصدر الأخبار والرسائل، وفيه تتلقى الأنباء السياسية سلماً وحرباً، فيه تتلقى وتقرأ رسائل البشائر بالنصر، ورسائل طلب المدد، وفيه يُنعى المستشهدون في معارك الجهاد ليتأسى بهم المؤمنون ويقتدى بهم المتنافسون.
أُنشئ المسجد ليكون مرصداً ومرقباً للمجتمع المسلم، يتعرف منه المسلمون على حركات العدو ويرقبونها ولا سيما ممن يساكنوهم ويخالطوهم في بلدهم من شراذم اليهود وزمر المنافقين والمشركين، هذه الأمور والحكم قصدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جعل أول عمل يقوم به منذ اللحظة الأولى هو بناء وتأسيس المسجد. وسيظل المسجد مصدراً للطاقة والهداية والنور لهذه الأمة وإن رغمت أنوف الكافرين والمنافقين.(/2)
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين ، واجعلنا ممن تعلقت قلوبهم بالمساجد.
الخطبة الثانية
إن أول ركيزة في بناء المجتمع الإسلامي وأهمها هو إقامة المسجد والقيام بوظائفه وأنشطته كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسار على ذلك خلفاؤه وأصحابه رضوان الله عليهم.
إن الدرس الذي ينبغي أن تعيه الأمة جيداً قيادات وأفراداً حكاماً وشعوباً هو أن فلاحها ونصرها وعزتها منوط ومربوط بتحقيق العبودية لله والعودة إلى المسجد لإقامة الصلوات جماعة وإحياء رسالة المسجد في كافة المجالات قال تعالى: ?قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1)الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)?[المؤمنون:1-2] . الفلاح مربوط بالصلاة وشرع النداء إليها بالدعوة إلى الفلاح وبالصلاة يُطلَب النصر من الله تعالى قال سبحانه: ?وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ?[البقرة:45]، وقال الله: ?إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ ?[المائدة:12].
إن الأمة وهي تواجه أعداء الله لن تستطيع أن تتغلب عليهم وتنتصر إلا إذا بنت نفسها إيمانياً وحققت عبوديتها لله بإقامة الصلوات والمحافظة عليها وإحياء معاني الأخوة والتعاون والوحدة فيما بينها وكل هذه الأمور إنما تتحقق في رحاب المسجد وحرمه . وبداية ذلك عمارة بيوت الله بإقامة الصلاة جماعة فيها في أوقاتها.
أيها المؤمنون إذا أردنا أن نقيس مدا تفريطنا في حق الله تعالى وتعدينا حدوده ، فانظروا إلى الصفوف في صلاة الفجر ، إن المساجد خالية إلا قليلاً ممن رحم الله. وكأن صلاة الفجر على غيرنا كتبت. لقد صار المصلون بالنسبة إلى جملة المنتسبين إلى الإسلام قليل، والذين يحضرون صلاة الجماعة من هؤلاء أقل، والذين يشهدون صلاة الفجر في المسجد أقل. فيا لله! ماذا أصاب أهل الإسلام، أليس من عدل الله فينا أن يسلط علينا بذنوبنا من لا يخافه فينا ولا يرحمنا؟ من إخوان القردة والخنازير من اليهود وغيرهم، إن تمني النصر والعزة والتمكين وحالنا كما هي من الاغترار بربنا الكريم، فهل من يقظة للأمة من هذه الغفلة وهل من توبة ونهضة ورجوع إلى الله : ?...إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ...?[الرعد:11]
إن الطريق إلى الفلاح والنصر والتمكين يبدأ من المحراب حين يصلي الزعماء والقادة والحكام الصلاة في المسجد جماعة في أوقاتها ولا سيما صلاة الفجر فاعلموا حينئذ أن نصر الله آت.
أما وحكامنا ووزراؤنا قادة الأمة وساستها وأغنياؤها بعيدين عن المسجد فهم بعيدون عن الله تعلى، عن الأمة, بعيدون عن النصر والتوفيق
بذنوبنا دامت بليتنا والله يكشفها إذا تبنا
إنه لابد للأمة من تربية وبناء وإعداد من خلال العودة بها إلى القواعد والأسس التي أرسى دعائمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أعظم تلك الأسس عمارة بيوت الله عز وجل التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، في المسجد يبرز القادة وفيه يصنع الأبطال. ولقد أحسن من قال:
لابد من صنع الرجال ومثله صنع السلاح
وصناعة الأبطال علم قد دراه أولو الصلاح
من لم يلقن أصله من أهله فقد النجاح
لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح
في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح
شعب بغير عقيدة ورق يذروه الرياح
من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح
نعم إنه لم يخن الأمة ويتآمر عليها ويذلها إلا المجرمون ممن أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل وأفسدوا في الأرض، أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار.
( أنظر القصة والحديث في ألاستيعاب لابن عبد البر ج1 ص42
) أصل القصة والحديث في البخاري ومسلم : أنظر صحيح البخاري ج1 باب هل تنبش قبور المشركين ص165 رقم الحديث: 418 وصحيح مسلم ج1باب أبتناء مسجد النبي ص373 رقم الحديث: 524.(/3)
المسجد الأقصى .. والشاة القاصية
طارق مصطفى حميدة*
يقول سبحانه في مطلع سورة الإسراء( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير).
هذه الرحلة الأرضية انطلقت من مسجد إلى مسجد، والتسمية للمسجدين هي تسمية ربانية، ما يعني وجود تطابق بين الاسم والمسمى، وأن هذا الاسم هو في الحقيقة صفة وخاصية للمسمى.
المسجد الحرام، يحرم فيه القتال، وهو حرم آمن من زاوية التشريع ومن زاوية الموقع، فالناس من لدن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، التزموا غالباً، برعاية حرمة هذا المسجد، حتى كان الواحد منهم يرى قاتل أبيه في الحرم فلا يمسه بأذى ولا يذعره. ومن جهة أخرى فإن الله تعالى قد جعل هذا المسجد في شبه الجزيرة العربية، في منطقة لم تكن عبر التاريخ هدفاً للغزاة، ولا مطمعاً للمستعمرين.
هذا بالنسبة للمسجد الحرام، أما المسجد الأقصى، فاللافت أنه لم يُجعل حرماً كالمسجد الحرام في مكة التي حرمها إبراهيم عليه السلام، ولا كالمسجد النبوي في المدينة التي حرمها محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك يؤكد العلماء أنه لا يصح وصف المسجد الأقصى بأنه (حرم)، كأن يقال إنه( ثالث الحرمين)، أو يطلق عليه اسم( الحرم القدسي)، فضلاً عن أن واقع المسجد الأقصى وتاريخه، يؤكدان أنه ليس بحرم.
وهذا يعيدنا إلى ما بدأنا به من العلاقة بين اسم المسجد وحاله، ولماذا تسميته بالمسجد الأقصى؟!
ربما يساعدنا في تقريب الصورة قول المصطفى عليه الصلاة والسلام( عليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية). الذئب المقصود هنا هو الشيطان، الذي يتفرد بالقاصي البعيد عن حماية، كما يستغل الذئب الحقيقي فرصة انفراد شاة عن القطيع.
فهل يريد القرآن أن يقول لنا إن المسجد الأقصى مقارنة بالمسجد الحرام هو الأبعد عن وصف الحرمة والحماية، والمعرض على الدوام لخطر الشياطين، واستهداف الذئاب، وهذا ما يتضح من واقع المسجد الأقصى وتاريخه، حيث إنه في أرض ذات موقع استراتيجي، ولذلك فقد كانت فلسطين على الدوام مطمعاً وهدفاً للغزاة والمستعمرين، فضلاً عن أن أهل الكتاب يتذرعون بعلاقة عدد من الأنبياء السابقين بالأقصى وفلسطين، ليغلّفوا أطماعهم بدوافع دينية.
وهذا يعيدنا إلى افتتاح الآية بقوله تعالى( سبحان) أي تنزه عن النقص وثبت له الكمال، إذ خلق الشيء ونقيضه، فجعل أحد المسجدين حرماً آمناً، وقدّر أن يكون المسجد الثاني مهدداً بل ومستباحاً في أوقات كثيرة، كما خلق الموت والحياة، والخير والشر.
و(سبحان) الله أيضاً حيث قدر أن يكون المسجد الأقصى مهدداً، ليس عن عجز ولا ضعف ـ سبحانه ـ بل عن حكم عظيمة، وآيات باهرة ( لنريه من آياتنا)، وهذه الآيات المقصودة تتعلق بالرحلة الأرضية( الإسراء) إضافة إلى آيات الجزء السماوي من الرحلة (المعراج).
وليس كون المسجد الأقصى في دائرة الاستهداف والتهديد بالذي يقلل من أهميته، بل إنه والحالة هذه، مصدر بركة وخير مستقر ينبثق وينطلق منه ليعم الأرض المحيطة به( المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) وهذه البركة ليست لأهل تلك الأرض وحدهم بل إنها تشمل العالمين( ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) سورة الأنبياء:71.
وقد أفاض الأستاذ بسام جرار في الحديث عن مظاهر وشواهد بركة وقدسية هذه الأرض المحيطة بالأقصى للعالمين، ضمن كتابه(من أسرار الأسماء في القرآن الكريم)، حيث إنها الأرض التي لا يعمر فيها ظالم، ففيها كانت نهاية الدولة الرومانية الشرقية في معركة اليرموك، وكذا نهاية البطش المغولي في عين جالوت، وتحطمت أحلام نابليون على أسوار عكا، وفيها سينتهي الإفساد اليهودي المعاصر الذي تحدثت عنه آيات الإسراء والذي يأخذ أبعاداً عالمية، وستكون فيها نهاية المسيح الدجال، ونهاية يأجوج ومأجوج.
ويذكر الأستاذ بسام جرار كيف أن حطين كانت نقطة تحول هامة في تاريخ الأوروبيين حيث تأثروا تأثراً بالغاً بفكر وأخلاق الشرق الإسلامي، فكانت هزيمتهم من أهم مقدمات النهضة الغربية، وكذلك شكلت عين جالوت منعطفاً حاداً حول المغول من أمة مفسدة سافكة للدماء إلى أمة متحضرة أقامت العدل على أسس الإسلام.
وأضاف: "لقد شكلت القضية الفلسطينية حاجزاً صلباً حمى وحفظ شعوب المنطقة من الذوبان في الحضارة الغربية، وقد وقع ذلك في الوقت الذي كان فيه الإنسان في العالم العربي والإسلامي يعاني من الأمية والتخلف، فعندما شعرت الشعوب العربية والإسلامية بعداوة الغرب الشرسة، وعندما رأت هذه الغرب يبذل المال والسلاح والخبرات ليقيم الكيان الصهيوني على تراب الأرض المباركة، أدركت أنه العدو التاريخي وأنه النقيض الحضاري، فأصبح الانتماء إلى الذات الحضارية يقود بالضرورة إلى رفض التغريب".(/1)
إن الله تعالى يستدرج الطغاة المفسدين إلى الأرض المقدسة المباركة، ليجعل نهايتهم فيها ويريح البشرية من شرورهم، وفي الوقت ذاته يستنهض الأمة الإسلامية كي ترجع إلى دينها وتتوحد لرد العدوان وتحرير المقدسات واستئناف الدور الحضاري وإقامة الخلافة في الأرض .(/2)
المسجد الأقصى.. وقفات وعبرات
الشيخ محمد عبد الكريم*
تقديم فضيلة الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده، ثم أمّا بعد:
فإن ثلث مقدسات المسلمين ـ المسجد الأقصى ـ قضيته قضية كل مسلم، واجب على أهل العلم أن يبيِّنوا للناس تاريخه، وأن يذكّروا بفضائله، وأن يجلّوا في أذهان العامة أنها مسألة دين وعقيدة، لا مجرد أرض وسياسة، وثمرة هذا كله جواب على سؤال كثيراً ماطرحه المخلصون: كيف السبيل إلى استرداد الأقصى؟ وأن يصير إلى حكم الإسلام وأهله؟
هذه القضايا أجاب عنها هذا الكتاب الفذ الذي استفرغ فيه أخونا أبو عبدالله الشيخ محمد ابن عبدالكريم جهده ووسعه، وأودعه ثمرة بحثه واجتهاده. قرأته كلمة كلمة فألفيته نافعاً مفيداً، أسأل الله أن يجزي كاتبه خيراً وأن يوفقه لمزيد إنتاج وتوثيق، وبالله تعالى التوفيق، صلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.
كتبه:
أبوعمر عبدالحي يوسف
السادس من ربيع الأول/1422
مقدمة المؤلف
الحمد لله الذي شهدت له بالربوبية جميع مخلوقاته، وأقرت له بالخلق جميع مصنوعاته، سبحانه وبحمده، عدد خلقه، ورضى نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، والصلاة والسلام على محمدٍ عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه, أرسله الله رحمةً للعالمين، وإماماً للمتقين, وحجةً على الخلائق أجمعين. وبعد.
فإن للمسجد الأقصى المبارك في نفوس المسلمين أهميةً خاصةً ومكانةً عظيمةً، يُكنّون له الودّ الشديد, والحب العميق, وما ذلك إلا لتفضيل الله إياه، فيما خلق الله، ثم اصطفاه واجتباه (وربّك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخِيَرة)[1], والله جلّ وعلا طيّب؛ لا يختار من موجوداته تفضيلاً وتشريفاً إلا ما كان شريفاً طيباً مباركاً. خلق السموات سبعاً فاختار منها أعلاها فجعلها مستقراً لملائكته المكرّمين. ومحطًّاً لأرواح عباده الأبرار المقربين، واختصها بالقرب من كرسيّه ومن عرشه، (فتبارك الله أحسن الخالقين)[2], وخلق الملائكة فاصطفى منهم رسلاً وسادةً، كجبريل وميكائيل وإسرافيل, وخلق من الماء بَشَراً, فجعله نسباً وصهراً, فاختار منهم نبيين مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً جماً غفيراً, ثم اصطفى منهم رسلاً مبشّرين ومنذرين حجة منه عليهم وعدلاً, وخصّ منهم خمسةً من أولى العزم منّةً منه عليهم وفضلاً, ثم اجتبى من خيار الخيار عاقِبهم وخاتمهم الآخر السابق الذي أمّهم جميعاً بمسجد الأقصى ليلة الإسراء, صلى الله عليه وعلى سائر إخوانه الأنبياء الأصفياء.
ومن ذلكم كذلك اختيار الله تعالى البقاع المباركة الثلاثة من سائر مناحي الأرض التي دحاها. كما قال عزّ وجلّ مُقْسِماً بها: (والتين والزيتون. وطور سينين. وهذا البلد الأمين)[3] ؛ لأنها استنارت بنزول أعظم المنح السماوية, وتباركت بتنزُّل أفضل الكتب الإلهية.
ومن لطف الله تعالى بعباده, ورحمته السابغة وجُودِه أنْ خصّ لنا من المساجد والأمكنة الأماجد ماتضاعف فيه الحسنات, وتكفّر بالخطا إليه السيئات، ومسجدنا الأقصى المبارك من تلكم الأصقاع, تشد إليه الرحال، وتضاعف فيه الأعمال, وتحط في ساحته الأوزار، ولكن! أوّاه.. أوّاه..!! على المسجد المسلوب, مسرى النبي صلى الله عليه وسلم المغصوب, حُرِمنا من وصاله والسفر إليه لمناجاة الله العظيم وعبادته في فنائه. حيل بيننا وبينه ووُتِرنا نحن – هذا الجيل – باليهود وإذنابهم فمنعونا خيره. أواه.. أواه..!! المسجد الأقصى, كَلْمٌ غائرٌ نازفٌ في قلوبنا, فراقه غصةٌ نتجرعها في حلوقنا, ودمعه تجري في عيوننا.
اليهود اليوم مع أمريكا يثيرون نقعاً وغباراً هنا وهناك، يوارون به سوأتهم القادمة من زعم هدم المسجد الأقصى، وبناء هيكلهم المزعوم فوق ترابه، ودويلات العرب مشغولة باللهو واللعب، مهمومة بالمنافسات الكروية، والأولومبيات الرياضية العاليمة:
ولكن.. هيهات.. هيهات خاب ظن اليهود، وطاش فألهم، فإن الله جعل الجولة الأخيرة للمؤمنين اتباع المسجد الأقصى من الموحدين، وليس لليهود وأمريكا وأشياعها (ولتعلمن نبأه بعد حين).
ولكأني بطائفة الحق قد قامت مستندة إلى ولاية الله وحمايته ورعايته، وأعداؤهم مستندون إلى ولاية الشيطان وغوايته، يقفون على أرض صلبة، آوين ظهورهم إلى ركن شديد، واثقين بدفع الله عنهم، فهم يخوضون معركة لله ليس لأنفسهم ولا لقومهم أو جنس لهم فيه نصيب، يقاتلون اليهود تحت راية واضحة سوية غير جاهلية عمية، في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله، وتحكيم منهجه وشرعته السنية، أرضاءاً له سبحانه، وقياماً بواجب الأمر والنهي والجهاد، وثأراً للحرمات والأعراض، فمن بقي منهم حياً فحياة عزة وكرامة، ومن فاز بشهادة نال جنات الخلد وزيادة.(/1)
سيعود المسجد الأقصى، وسننتظم جميعاً –بإذن الله- صفوفاً طويلة، وندك بأقدامنا حصباءها المستنيرة، ونجلس سوياً نسمع صوت إمامنا مدوياً مردداً قول الله تعالى : (فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً)[4].
وكتبه:
محمد بن عبدالكريم الشيخ
الخرطوم 19/شعبان/1421
مستقصى فضائل المسجد الأقصى
أولاً: فضل المسجد الأقصى وبيت المقدس في القرآن الكريم:
(1) وصف القرآن الكريم في كثير من آياته بيت المقدس ومسجده بالبركة وهي النماء والزيادة في الخيرات والمنح والهبات؛ حيث قال سبحانه وتعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله)[5].
وقال تعالى (ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين)[6]. وهذا حكاية عن الخليل إبراهيم عليه السلام في هجرته الأولى إلى بيت المقدس وبلاد الشام.
وقال تعالى : (وأورثنا القوم الذين كانوا يُستَضْعَفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها)[7]. وفي قصة سليمان عليه السلام يقول سبحانه وتعالى: (ولسليمان الريح عاصفةً تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها..)[8].
وقال تعالى على لسان موسى: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة التي كتب الله لكم)[9].
وعند حديث القرآن عن هناءة ورغد عيش أهل سبأ يقول سبحانه: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرىً ظاهرةً)[10] وهي قرى بيت المقدس كما روى العوفي عن ابن عباس[11].
(2) وصف القرآن أرضها بالرَّبوة ذات الخصوبة وهي أحسن ما يكون فيه النبات, وماءها بالمعين الجاري. قال تعالى : (وجلعنا ابنَ مريم وأمّه آيةً وآويناهما إلى ربوةٍ ذات قرارٍ ومعينٍ)[12]. "قال الضحاك وقتادة: وهو بيت المقدس قال ابن كثير: وهو الأظهر"[13].
(3) أنه القبلة التي كان يتوجه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون قبل تحويلها إلى الكعبة, حيث صلى النبي صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بعد الهجرة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ثم حُوِّلت، وأشار القرآن إلى ذلك بقوله تعالى : (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول)[14].
(4) أنه أرض المنادي من الملائكة نداء الصيحة لاجتماع الخلائق يوم القيامة كما قال سبحانه: (واستمع يوم يُنادي المُنادِ من مكانٍ قريبٍ)[15]. "قال قتادة وغيره: كنا نحدَّث أنه ينادي من بيت المقدس من الصخرة, وهي أوسط الأرض"[16].
قال ابن تيمية رحمه الله: "ودلّت الدلائل المذكورة على أن (ملك النبوة) بالشام والحشر إليها, فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر، وهناك يُحشر الخلق، والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام, كما أن مكة أفضل من بيت المقدس, فأول الأمة خيرٌ من آخرها، كما أن في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام, كما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى[17].
(5) نَعَت الله تعالى المانعين لإقامة الشعائر فيه بأنهم أظلم البشر, وتوعدهم بالخوف عند دخوله, وبحلول الخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الأخرى كما قال سبحانه: (ومن أظلمُ ممّن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلاّ خائفين)[18]. ذكر بعض المفسرين أنها نزلت في (بختنصّر) لأنه كان خرّب بيت المقدس, وروي عن ابن عباس وعن قتادة قال: "أولئك أعداء الله النصارى حملهم إبغاض اليهود على أن أعانوا (بختنصر) البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس"، ومعلوم أن هذا التخريب بقي إلى زمان عمر رضي الله عنه[19]. ولكن الآن يعمّ حكمها كل مسجد مُنِعَ الناس من إقامة شعائر الله فيه سواء بالتخريب الحسي كما فعل (بختنصر) بمعبد بيت المقدس أو بصدّ الناسكين عنه كما فعلت قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: السنة الصحيحة وفضل المسجد الأقصى:
(1) مشروعية السفر إلى المسجد الأقصى لقصد التعبد:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تُشَدُّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد, مسجدي هذا, والمسجد الحرام, والمسجد الأقصى)[20]. فالشارع ينهي عن السفر إلى أي مكان مسجداً كان أو غيره لقصد العبادة ما عدا المساجد الثلاثة المستثناة في أسلوب الحصر, ومما يدل على تعميم كل الأماكن إلا المساجد المذكورة مارواه الإمام مالك بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: لقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من الطور فقال لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجتَ، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تعمل المطي الاّ إلى ثلاثة مساجد إلى المسجد الحرام وإلى مسجدي هذا وإلى مسجد إيليا أو بيت المقدس يشك)[21]. قال ابن تيمية: "وكذلك ينهى عن السفر إلى الطور المذكور في القرآن فمن باب أولى أن ينهى عن السفر إلى غيرهما من الأمكنة"[22].
(2) أن المسجد الأقصى هو ثاني مسجد بني في الأرض:(/2)
لما في حديث الصحيحين عن آبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: (قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول قال: المسجد الحرام. قال: قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة. ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصل فان الفضل فيه)[23]. وسيأتينا مزيد بيان لهذا الحديث عند الكلام عن تاريخ بناء المسجد الأقصى[24].
(3) إتيان المسجد الأقصى بقصد الصلاة فيه يكفر الذنوب ويحط الخطايا:
عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه, وملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده, و ألاّ يأتي هذا المسجدَ أحدٌ لا يريد إلاّ الصلاة فيه إلاّ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما إثنتان فقد أعطيهما, وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة)[25]. ولأجل هذا الحديث كان ابن عمر رضي الله عنهما يأتي من الحجاز, فيدخل فيصلي فيه, ثم يخرج ولا يشرب فيه ماء مبالغةً منه لتمحيص نية الصلاة دون غيرها, لتصيبه دعوة سليمان عليه السلام[26].
وليس في بيت المقدس مكان يقصد للعبادة سوى المسجد الأقصى، لكن إذا زار قبور الموتى وسلم عليهم وترحم عليهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه فحسن[27].
قال ابن تيمية: "والعبادات المشروعة في المسجد الأقصى هي من جنس العبادات المشروعة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من سائر المساجد إلاّ المسجد الحرام, فإنه يشرع فيه زيادة على سائر المساجد الطواف بالكعبة, واستلام الركنين اليمانيين, وتقبيل الحجر الأسود, وأما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى وسائر المساجد فليس فيها ما يطاف به, ولا فيها ما يتمسح به, ولا ما يقبّل، فلا يجوز لأحد أن يطوف بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم, ولا بغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين، ولا بصخرة بيت المقدس، ولا بغير هؤلاء.. بل ليس في الأرض مكان يطاف به كما يطاف بالكعبة. ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع فهو شرٌ ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة.. فمن اتخذ الصخرة اليوم قبلةً يصلى إليها فهو كافرٌ مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل, مع أنها كانت قبلة لكن نُسخ ذلك, فكيف بمن يتخذها مكاناً يطاف به كما يطاف بالكعبة؟!.. فهذه الأمور التي يشبه بها بيت المقدس في الوقوف والطواف والذبح والحلق من البدع والضلالات"[28].
(4) مدح النبي صلى الله عليه وسلم لمصلاه، وأن ثواب الصلاة فيه مضاعف:
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل: أمسجد رسول الله أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاةٌ في مسجدي أفضل من أربع صلواتٍ فيه، ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خيرٌ له من الدنيا جميعا، قال: أو قال: خيرٌ له من الدنيا وما فيها[29].
وهذا حديث شريف مشتمل على فوائد جمة منها:
بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بفتح بيت المقدس لأن هذا كان قبل الفتح العمري ببضع عشرة سنة، ومن مؤيدات هذه البشارة حديث عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس.. الحديث)[30].
الثانية: أن صلاةً في المسجد الأقصى بمائتين وخمسين صلاةً فيما سواه عدا مسجدي مكة والمدينة.
(5) ثبات أهل الإيمان فيه عند حلول الفتن.
لحديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي, فظننت أنه مذهوب به, فأتبعته بصري, فعمد به إلى الشام, ألا وإن الإيمان حيث تقع الفتن بالشام)[31].
(6) أنها حاضرة الخلافة الإسلامية في آخر الزمان.
عن أبي حوالة الأزدي رضي الله عنه قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسي أو على هامتي ثم قال: (يا ابن حوالة: إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة, فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك)[32].
(7) أهلها المقاتلون في سبيل الله من الطائفة المنصورة نصّاً:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وماحوله وعلى أبواب بيت المقدس وماحوله لا يضرُّهم من خذلهم ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة)[33].
المسجد الأقصى عبر القرون
المسجد الأقصى* هو الاسم الذي أطلقه القرآن على مُتعبَّد النبيين في أرض فلسطين، (إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله), ذلك المسجد الذي أٍسس على التقوى من أول يوم بُدئ فيه البناء, تولى إمامته الأنبياء, وتنسك بساحته الأولياء, واتخذ منبره الداعون إلى الإسلام عبر الدهور منارة ترشد السائرين, ومعلماً يهدي الحائرين.(/3)
والمسجد الأقصى عند العلماء والمؤرخين أشمل من مجرد البناء الموجود الآن بهذا الاسم, إذ هو اسم لجميع المسجد الذي بناه سليمان عليه السلام, فكل ما هو داخل السور الكبير ذي الأبواب يعتبر مسجداً بالمعنى الشرعي, فيدخل فيه على ذلك مسجد الصخرة ذو القبة الذهبية المنصوبة على المبنى المثمّن, والذي تنصرف اليه الأذهان كلما ذكر اسم المسجد الأقصى: وان كان بعض الناس يسمي الأقصى المصلى الذي بناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مقدمه، والصلاة في هذا المصلى الذي بناه عمر للمسلمين أفضل من الصلاة في سائر المسجد.. وأمّا "الصخرة" فلم يصل عندها عمر رضي الله عنه ولا الصحابة ولا كان على عهد الخلفاء الراشدين عليها قبة, بل كانت مكشوفة في خلافة عمر وعثمان وعلي ومعاوية ويزيد ومروان، ولكن لما تولى ابنه عبد الملك الشام، ووقع بينه وبين ابن الزبير الفتنة، كان الناس يحجون فيجتمعون بابن الزبير، فأراد عبد الملك أن يصرف الناس عن ابن الزبيرفبنى القبة على الصخرة، وكساها في الشتاء والصيف, ليرغب الناس في زيارة بيت المقدس, ويشتغلوا بذلك عن اجتماعهم بابن الزبير وأما أهل العلم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فلم يكونوا يعظمون الصخرة فإنها قبلة منسوخة كما أن يوم السبت كان عيداً في شريعة موسى عليه السلام، ثم نسخ في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بيوم الجمعة فليس للمسلمين أن يخصّوا يوم السبت ويوم الأحد بعبادة كما تفعل اليهود والنصارى, وكذلك الصخرة التي يعظمها اليهود وبعض النصارى[34].
لقد مر بيت المقدس ومسجده العتيق بعهود تاريخية حافلة بالأحداث نوجزها في السرد التالي:
أولاً: سكن الكنعانيون ساحل بلاد الشام في الألف الثالث ق.م, وعرفوا في الساحل الشمالي باسم الفينيقيين, بينما عرف القسم الجنوبي بأرض كنعان, فابتنوا أهم المدن فيها: أريحا، وأسدوس، وبيرسبع، وعسقلان، وبيسان، ونابلس "شكيم"، والخليل "أربع"، والقدس "يبوس"، وكان اليبوسيون أهم بطون الكنعانيين فبنوا مدينة القدس, وأطلقوا عليها "أورسالم" أي: مدينة سالم, كما أطلقوا عليها أسم "يبوس"، وكانت لغتهم عربية قديمة, ولكنها تختلف عن لغة القرآن التي نتحدث بها اليوم.
ولما تعرضت بلاد اليونان وجزر إيجة لغارات البرابرة اليونان، هربت قبيلة "بلست" من جزيرة "كريت" وغزت أرض كنعان، واستقرت في السهل الساحلي الجنوبي الغربي من يافا إلى غزة, وسمي هذا الجزء باسم فلسطين, وبقي الاسم على جزء من أرض كنعان إلى أن شملها كلها في العصور الحديثة.
ثانياً: تجلت قدسية بيت المقدس وما حوله – تاريخياً- بهجرة الخليل إبراهيم عليه السلام حوالي الألف الثاني ق.م, انتقل إبراهيم عليه السلام من "أور" بالعراق إلى أرض الشام "أرض الكنعانيين" وفي صحبته ابن أخيه لوط, وزوجه سارة بعد أن اعتزل أباه وقومه كما حكى القرآن (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين)[35] (ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين)[36]. قال ابن كثير: وأوحى الله إلى إبراهيم الخليل فأمره أن يمدّ بصره، وينظر شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وبشره بأن هذه الأرض كلها سأجعلها لك ولخلفك إلى آخر الدهر، وسأكثر ذريتك حتى يصبروا بعدد تراب الأرض, وهذه البشارة اتصلت بهذه الأمة, بل ما كملت ولا كانت أعظم منها في هذه الأمة المحمدية، يؤيد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها).[37]
فغدا بيت المقدس بلد (إبراهيم) الخليل وموطنه, ومكث بها مدة, ثم خرج منها إلى مصر, إثر قحط دبَّ في الشام, ثم عاد إليها, خوفاً على زوجته من فرعون مصر آنذاك, الذي حاول الظفر بها ولكن الله تعالى أنجاها منه ورد كيد الكافر, فأطلق سراحها وأخدمها (هاجر)، التي ولدت بعد ذلك إسماعيل, فلما غارت (سارة) من (هاجر) وولدها, أمر الله تعالى إبراهيم خليله, أن يرتحل بهاجر وإسماعيل إلى أرض مكة المكرمة, وكانت مكة حين ذاك وادياً لا زرع فيه ولا ضرع، فتركهما هناك بأمر ربه، وعاد إلى أرض التيمن وحفظ الله هاجر والغلام, وفجّر لهما في الوادي ماءً عذباً أبرك من غيث الغمام, فانجفل إلى مكة لسكناه الأنام, وفي إحدى زيارات الخليل إلى مكة من بلاد الشام, بني بمعاونة ابنه إسماعيل الكعبة البيت الحرام, أشرف المساجد في أشرف البقاع, ودعا لأهلها باليمن والبركات وأن يرزقوا من كل الثمرات مع قلة المياه, وعدم الأشجار والزروع والثمار, وهنا ذكر بعض العلماء أنه لما عاد إلى مهاجره بيت المقدس بنى المسجد الأقصى.
من أول من بنى المسجد الأقصى؟
اختلف العلماء من أهل التفسير والحديث والتاريخ في تعيين أول من وضع المسجد الأقصى, وبتتبع أقوالهم واستقرائها, بدا لي أنها لا تخرج عن ثلاثة آراء:(/4)
الأول: إن آدم عليه السلام هو الذي أسس كلا المسجدين, ذكر ذلك العلامة ابن الجوزي, ومال إلى ترجيح هذا الرأي الحافظ ابن حجر في الفتح, واستدلّ له بما ذكره ابن هشام في كتاب "التيجان" أنّ آدم لما بني الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه فبناه ونسك فيه. وبناء آدم عليه السلام الكعبة مشهور وفيه عدة آثار:
1- روى ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (لمّا كان زمن الطوفان رفع البيت, وكان الأنبياء يحجونه, ولا يعلمون مكانه حتى بوّأه الله لإبراهيم وأعلمه مكانه).
2- روى البيهقي في "الدلائل" من طريق أخرى عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً : (بعث الله جبريل إلى آدم فأمر ببناء البيت فبناه آدم, ثم أمره بالطواف وقيل له أنت أول الناس, وهذا أول بيت وضع للناس).
3- روى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء (أن آدم أول من بنى البيت).
وهذا القول أثبت كما قال الحافظ في الفتح وعليه فإنّ الذي أٍسس المسجد الأقصى هو آدم نفسه أو أحد أبنائه لأنّ المدة الفاصلة بين المسجدين أربعون سنة فقط[38].
الثاني: أن الخليل إبراهيم عليه السلام هو الذي أٍسس المسجد, لأنّ بناءه للمسجد الحرام مشهور بنص القرآن: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل)[39] وقوله تعالى : (وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت)[40]، وإذا ثبت بالنص أنه بني الكعبة، فإنّ بناءه لمسجد الأقصى محتمل راجح لقرب العهد بين المسجدين. وممن نصر هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: (والمسجد الأقصى, صلت فيه الانبياء من عهد الخليل), وفي موضع آخر قال: (فالمسجد الأقصى كان من عهد إبراهيم عليه السلام), ولكن يرد على هذا القول إشكالان: أحدهما: أنّ بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة لم يكن وضعاً وتأسيساً وإنما كان رفعاً وتجديداً, والثاني, أنّه لم ترد آثار في تأسيسه للمسجد الأقصى, سوى ما عند أهل الكتاب: (أنّه لما قدم الشام أوحى الله إليه إني جاعل هذه الأرض لخلفك من بعدك, فابتنى إبراهيم مذبحاً لله شكراً على هذه النعمة, وضرب قبته شرقي بيت المقدس)[41] ولكن هذا الذي بناه مذبح[42]وليس بمسجد, ثم ان هذا كان أول قدومه الشام أي قبل مولد إسماعيل وبناء الكعبة بمدة, وإنما بناء مسجد بيت المقدس كان بعد وضع الكعبة كما في حديث أبي ذر في الصحيحين.
القول الثالث: أن الذي بناه هو يعقوب عليه السلام, ورجّح هذا القول العلامة ابن القيم رحمه الله حيث قال: (والذي أسسه هو يعقوب بن اسحق صلى الله عليهما وآلهما وسلم بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار – أي أربعين سنة-..)[43] وهذا الذي ذكره ابن القيم موجود عند أهل الكتاب كما قال ابن كثير: (ثم مرّ -أي يعقوب- على أورشليم قرية شخيم فنزل في القرية واشترى مزرعة شخيم بن جحور بمائة نعجة فضرب هنالك فسطاطاً، وابتنى ثم مذبحاً فسماه بيت إيل إله إسرائيل وأمر الله بناء المستعلن له فيه وهو بيت المقدس اليوم الذي جدده بعد ذلك سليمان بن داود عليهما السلام)[44].
وأوجه الآراء الثلاثة, وأدناها إلى الرجحان قول من قال: إنّ الذي أسسه هو آدم عليه السلام أو أحد أبنائه، وأنّ الذي وقع من البناء بعد ذلك إنما هو تجديد لا تأسيس, والآثار المروية تسند هذا القول وتجعله أقرب إلى الصواب والله أعلم, وأمّا حديث أبي ذر: (أي مسجد وضع في الأرض أوّل؟.. ) فليس فيه تعيين الواضع الأول المؤسس، ولا يصلح أن يكون تفسيراً لقوله تعالى : (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت), ولذلك فان البخاري رحمه الله أورد الحديث في موضعين من كتاب الأنبياء، الأول في فضائل الخليل إبراهيم عليه السلام، والثاني في فضائل سليمان عليه السلام, فيفهم من صنيعِهِ هذا أنه أراد فضل بناء المسجدين, لا تعيين أول من أسسهما. ولهذا قال القرطبي: (إن الحديث لا يدل على أن إبراهيم وسليمان لما بنيا المسجدين ابتدآ وضعهما لهما, بل
ثالثاً: المسجد الأقصى وعهود بني إسرائيل:(/5)
1- في عهد يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عليهم السلام وهو المعروف باسم "إسرائيل"، أعيد بناء المعبد على مكان الصخرة، وقصة ذلك عند أهل الكتاب: (أن يعقوب عليه السلام لما خرج من عند أبيه "إسحق" وأخيه "عيسو" وآخر ذلك اليوم أدركه المساء في موضع فنام فيه أخذ حجراً فوضعه تحت رأسه ونام فرأى في نومه ذلك عراجاً منصوباً من السماء إلى الأرض وإذا الملائكة يصعدون فيه وينزلون والرب تبارك وتعإلى يخاطبه ويقول له إني سأبارك عليك وأكثِّر ذريتك وأجعل لك هذه الأرض ولعقبك من بعدك. فلما هبَّ من نومه فرح بما رأي ونذرلله لئن رجع إلى أهله سالماً ليبنينّ في هذا الموضع معبداً لله عز وجل, وان جميع ما يرزقه من شيء يكون لله عشره، ثم عمد إلى ذلك الحجر فجعل عليه دهناً يتعرفه به وسمى ذلك الموضع بيت إيل أي بيت الله وهو موضع بيت المقدس اليوم[45]. ثم إن يعقوب عليه السلام خرج بأبنائه من بيت المقدس, والتحق بابنه يوسف الذي كان عزيزاً في مصر, بعد أن اجتاح بلاد الشام وكثيراً من البلدان سنوات عجاف.
2- وفي عهد موسى بن عمران عليه السلام أعظم أنبياء بني إسرائيل, لما أنجاه الله ومن معه من فرعون وملائه, وجاوز بهم موسى البحر, حثَّ بني إسرائيل على قتال من كان في أرض بيت المقدس من المشركين الجبارين من الحيثانيين والفزاريين والكنعانيين, لأنها أرض لا ينبغي أن تكون ألا لعباد الله الصالحين كما قال تعالى عن موسى (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين)[46] فأبو ونكلو عن الجهاد، فسلط الله عليهم الخوف وألقاهم في التية في مفازة سيناء أربعين سنة, ولما شعر موسى عليه السلام بموته ولما يدخل الأرض المقدسة, سأل الله تعالى أن يكون مماته قريباً منها رمية بحجر فلبى الله طلبه كما هو ثابت في الصحيحين[47].
3- أول جهاد في التاريخ لفتح بيت المقدس: كان في عهد نبي الله تعالى يوشع من بنون الذي خلف موسى وهارون في بني إسرائيل, فخرج بالجيل الثاني وما بقي من جيل الجبن والهزيمة, فأجرى الله تعالى على يده الفتح المبين, بعد أن محَّص الله المؤمنين, وقد وقع قبيل الفتح آية باهرة, ومعجزة ظاهرة, كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: "لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن, ولا آخر قد بنى بنياناً ولم يرفع سقفها, ولا آخر قد اشترى غنماً أو خَلِفات وهو منتظر ولادها" قال : فغزا، فأدنى للقرية حين صلاة العصر, أو قريباً من ذلك, فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور, اللهم احبسها عليَّ شيئاً, فحبست عليه حتى فتح الله عليه..)[48], وهذا كان في فتح بيت المقدس كما في رواية أخرى: (إنّ الشمس لم تحبس على بشر الا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس)[49]، وهذه معجزة فريدة لهذا النبي في أول غزوة لفتح بيت المقدس كما قال الشافعي : (وقد صحَّ أنَّ الشمس حبست على يوشع ليالي قاتل الجباريين)[50].
ولما دخل بهم باب المدينة بيت المقدس، أُمروا أن يدخلوها سجداً أي ركعاً متواضعين شاكرين لله عزَّ وجل على ما منَّ به عليهم من الفتح العظيم الذي كان الله وعدهم إيّاه، وان يقولوا حال دخوله حطة، أي حطَّ عنَّا خطايانا التي سلفت من نكولنا الذي تقدّم، ولكنهم خالفوا ما أُمروا به قولاً وفعلاً، دخلوا الباب يزحفون على استاههم يقولون حبّة في شعرة، وفي روايةٍ حنطة في شعرة، وحكى القرآن عن ذلك في سورة البقرة والأعراف، وفي الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة فدخلوا على استاههم فبدلوا وقالوا حطة حبة في شعرة) [51]
4- عهد داود وسليمان وتوسعة المسجد وبناءه العظيم:(/6)
بعد وفاة النبي يوشع عليه السلام تلى عهد القضاة واستمر مدة 400سنة, ثم عصر الملوك, وكان القضاة في آخر عهودهم قد دبّ فيهم الضعف, فسلب الله منهم الأرض المقدسة, فلجأ بنو إسرائيل إلى نبي لهم أن يبعث عليهم ملكاً يقاتلون معه الكافرين الذين أخرجوهم من ديارهم وأبنائهم , فكان طالوت عليهم ملكاً كما هي القصة في سورة البقرة، وأراد طالوت أن يمحِّص جيشه كما محَّص النبي يوشع من قبل جيشه, ولكن كان ذلك هنا بطريقة أخرى كما أخبر القرآن الكريم: (قال إنَّ الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفةً بيده) فما صفا منهم إلا قلة مؤمنة صابرة على الجلاد والطعان[52], فهزموا المشركين بإذن الواحد الديان (وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلّمه مما يشاء)[53]. ثم أصبح داود النبي ملكاً على بني إسرائيل, وكان فتح المدينة المقدسة في نهاية القرن الألف ق. م. وعندها تجهز داود لتجديد بناء مسجد بيت المقدس ولكن الله تعالى كتب بناءه على يد ابنه سليمان عليه السلام كما هو عند الطبراني من حديث رافع بن عميرة: (أن داود عليه السلام ابتدأ بناء بيت المقدس ثم أوحى الله إليه: إني لأقضى بناءه على يد سليمان[54]، فتولّى سليمان عليه السلام البناء من بعد والده, فبنى المسجد على هيئة ضخمة فخمة, حتى نسب المعبد بعد ذلك اليه, وراح الناس يدعونه "معبد سليمان" قال الخطابي: يشبه أن يكون المسجد الاقصى أول ما وضع بناءه بعض أولياء الله قبل داود وسليمان ثم داود وسليمان زادا فيه ووسعاه, فا ضيف اليهما بناؤه[55], قال ابن تيميه: المسجد الأقصى كان من عهد إبراهيم عليه السلام لكن سليمان عليه السلام بناه بناءً عظيماً[56].
5- السبي البابلي وتدمير معبد سليمان:
ضعفت المملكة بعد عهدها الزاهر, عهد سليمان عليه السلام, وعم الفساد في بني اسرائيل وطم فالقي الله بينهم العداوة والبغضاء فأصبحوا بعد الوحدة والاتفاق, مملكتين إحداهما في الشمال (السامرة) إسرائيل وعاصمتها شكيم (نابلي) وتسلط عليها سرجون ملك الأثوريين فاستولى عليها, والشانير مملكة (يهودا) في الجنوب وعاصمتها أورشليم (القدس), غزاها الفراعنة فاستولوا عليها وعلى مملكة الشمال التي ظهر عليها الأشوريون أول مرة, ثم زحف (بحتنصر)(*) ملك البابلين على فلسطين فدمّر المسجد وبيت المقدس عام 587 ق.م وحقت كلمة العذاب على بني إسرائيل بما ظلموا , قال تعالى : (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً. فاذا جاء وعدُ أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً)[57].
فبقي بيت المقدس كذلك خراباً يباباً عقوداً من الزمان, بعد أن كانت كثيرة البنيان, وفيرة السكان, ولعل حكاية القرآن عن قصة ذلك الرجل في قوله تعالى : (أوكالذي مرّ على قرية وهي خاويةٌ على عروشها قال أنى يحي هذه الله بعد موتها, فأماته الله مائة عام ثم بعثته)[58] فربما كان وقوعها في تلك الحقبة التي ظل بيت المقدس فيها أطلالاً, كما قال ابن جريج وغيره: بلغنا أن عزيراً خرج فوقف على بيت المقدس, وقد خرّبه بُخت نصر, فوقف فقال: أبعد ما كان لك من القدس والمقابلة والمال ما كان !! فحزن , وقال وهب بن منبه وغيره إنما هو آرميا مرّ على بيت المقدس, والأشهر الأول, والله اعلم [59].
6- إعادة بناء المسجد وعهد أنبياء الله زكريا ويحي وعيسى عليهم السلام:(/7)
تمكن كورش الفارسي الذي تزوج من يهودية اسمهما (أستير) من احتلال بلاد الشام وضمها إلى دولته –فارس- عام 538 ق.م وقدم له اليهود مساعادات في فتحه بابل والشام ومصر, فسمح لمن يريد العودة من اليهود إلى أرض كنعان, وانتهى حكم الفرس عام 332 ق. م , وبدأ حكم اليونان باستيلاء الاسكندر المقدوني على بلاد الشام , واستمرّ حكمهم لبلاد الشام حتى عام 63 ق. م إذ استطاع القائد الروماني بومبي أن ينهي احتلال اليونان وبقي الرومان يحكمونها إلى أن أنقذها الاسلام عام 636 ب. م, وما يهمنا من تلك الأحقاب عهد الرومان, حيث تمكن اليهود في عهد (هيردوس) الملك على بيت المقدس من قبل الرومان من إعادة بناء المعبد (الهيكل) عام 20ق. م. وكان من أئمة مسجد الأقصى آنذاك زكريا نبي الله وابنه السيد الحصور يحي عليهما السلام, وكانا قد اتخذا من محراب المسجد ومنبره مجالاً للدعوة إلى الاسلام, وتقويم اعوجاج بني إسرائيل, ولما ولدت مريم البتول (خالة يحي عليه السلام) المسيح عيسى ابن مريم سلك ذات النهج في الدعوة إلى الله, وكان عوناً لهما في ذلك , ومن ذلك ما حدّث به الحارث الأشعري أن رسول الله صلى ا لله عليه وسلم قال: (إن الله أمر يحي بن زكريا بخمس كلمات: يعمل بهنّ ويأمر بني إسرائيل يعملون بهن وإن عيسى بن مريم قال له: إن الله أمرك بخمس كلمات تعمل بهن, وتأمر بهن بني إسرائيل يعملون بهن فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم قال: إنك أن تسبقني بهنّ, خشيت أن أُعذب أو يخسف بي) قال (فجمع النّاس في بيت المقدس حتى امتلأ, وقعد الناسُ في الشرفات قال: (فوعظهم...) الحديث[60].
ولكنّ بني إسرائيل كانوا في غفلة عن ذلك كله, قست قلوبهم, وأُشربوا فيها حبّ الدنيا, ونسوا الدار الآخرة فتردت أخلاقهم, وسفهت أحلامهم وانتهكوا حرمة المسجد الأقصى, فاتخذوه سوقاً للصيارفة, وملعباً للحمام, بل همّوا بأنبيائهم , فذبحوا السيد الحصور يحي, ونشروا بالمنشار زكريا, وأنذرهم عيسى بن مريم بأمر الله الذي لا يُردّ عن القوم الظالمين, وقال لهم فيما قال: (إن هذا المعبد سيهدم ولن يبقى فيه حجر على حجر), فما انتهوا عن غيهم, ولا ارعوَوا عن بغيهم, بل تماروا بالنذر حتى سدروا في طغيانهم , ودبّروا مكيدة للمسيح ابن مريم ليقتلوه ويصلبوه ولكن الله تعالى أنجاه منهم , وبعد انصرام أربعين سنة من رفعه عليه السلام حاق ببني إسرائيل بأس الله وتنكيله, ومكر بهم إذ أرادوا المكر بأنبيائه وأوليائه، حيث وقف اليهود ضد المسيحية مع الوثنية الرومانية. ثم حاولوا الثورة على الرومان عام 70م فقاد القائد الروماني (تيطس) حملة دخلت بيت المقدس, وأعمل فيها القتل والحرق والنهب, وشرد اليهود في أجزاء الأرض.
7- بناء معبد وثني مكان المسجد الأقصى:
حاول اليهود الانتفاضة مرة أخرى عام 135م زمن الامبراطور (هادريان), فقاد حملة بنفسه حتى قتل من اليهود 580 ألفاً وقضي على وجودهم نهائياً في فلسطين, ومنعهم من دخول بيت المقدس, ودعاها (إيليا كابيتولينا), وما أدق وصف القرآن لذلك التدمير الثاني: (ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً)[61], وبنوا حيث كان المسجد الأقصى معبداً وثنياً أسموه (جويبتار), حتى اعتنق الرومان النصرانية [62] المحرّفة في عهد الامبراطور (قسطنطين) فهدم المعبد الوثني وبقي مكان المسجد خالياً من بناء مقام فيه بقية عهد الرومان النصارى.
8- امتهان النصارى المسجد الأقصى واتخاذ مكانه كُناسة:
لم يكن للرومان النصارى اهتمام بالمسجد الأقصى, بل اتخذوا مكانه مزبلة, حتى إن المرأة كانت ترسل خرقة حيضتها من داخل الحوز لتلقى في الصخرة, وذلك مكافأة لما كانت اليهود عاملت به القمامة, وهو المكان الذي صُلب فيه شبيه المسيح ابن مريم, فظنت اليهود والنصارى أنه المسيح عليه السلام (وما قتلوه وماصلبوه ولكن شُبِه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علم إلاّ اتباع الظن وما قتلوه يقيناً) [63]. فاتخذ اليهود مكان الصلب قمامة حتى اذا ظهر النصارى الرومان اتخذوه كنيسة هائلة بنتها أم الملك قسطنطين, واتخذوا مكان قِبلة اليهود مزبلة, فلما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه, بيت المقدس, وتحقق موضع الصخرة, أمر بازالة ما عليها من الكناسة حتى قيل إنه كنسها بردائه[64].
وهكذا كان عام 135م نهاية للوجود اليهودي في أرض بيت المقدس, وانتهت علاقة اليهود بفلسطين سياسياً وسكانياً أي أنه كان الخروج الأخير, وبقيت محرمة على اليهود حتى الفتح الإسلامي أي خمسة قرون, إلاّ ما مُنحته أجيال اليهود من القدوم إلى آثارهم كي يقوموا بالبكاء والنواح على مجدهم الزائل عند حائط البراق (المبكى).
رابعاً: المسجد الأقصى في عهود الإسلام:(/8)
تجلت أهمية بيت ا لمقدس في الإسلام عندما أسري بالرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى, وبذلك وصل ما بين المسجدين العظيمين. فكان ذلك إيذاناً بانتقال الأرض المقدسة والمسجد الأقصى إلى ظل الدين الخاتم والرسالة الأخيرة, وقد كانت صلاته عليه الصلاة والسلام باخوته الأنبياء في تلك الليلة المباركة نحو البقعة المباركة برهاناً ساطعاً على تبعية الشرائع السابقة, وانقيادها طوعاً للإسلام كلمة الله الأخيرة إلى بني الإنسان والجان. وتوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه في صلاتهم شطر بيت المقدس, قبلتهم الأولى قبل المسجد الحرام.
وقد بدأت غزوات وسرايا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أرض الشام بغزوة دومة الجندل عام 5هـ وسرية مؤته عام 7هـ, وغزوة تبوك آخر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم عام 9هـ, ثم أخيراً بعث أسامة الذي انقذه ابوبكر رضي الله عنه.
1- الفتح العمري وبناء مسجد الأقصى:
بعد المعارك الحاسمة – اجنادين وفحل واليرموك – والتي شهدتها أرض الشام المباركة قدم أبو عبيدة عامر بن الجراح على عمرو رضي الله عنهما وهو محاصر إيلياء (القدس). ثم طلب أهلها الأمان والصلح, على أن يكون الخليفة عمر بن الخطاب هو الذي يتولى بنفسه تسلم بيت المقدس وعقد الصلح, فكتب أبو عبيدة إلى عمر بذلك فقدم عمر فنزل الجابية من دمشق ثم صار إلى إيلياء فأنفذ صلح أهلها, وتسلم بيت المقدس بنفسه من صفرونيوس بطريرك القدس عام 16هـ. وصدرت العهدة العمرية ونص فيها على أن لا يسكن إيلياء أحد من اليهود[65].
ودخل عمر رضي الله عنه القدس عن طريق جبل المكبر[66] ثم أتى موضع المسجد الأقصى فصلى فيه تحية المسجد, ويٌروى أنه صلى في محراب داود, وصلى بالمسلمين فيه صلاة الغداة من الغد فقرأ في الأولى بسورة ص وسجد فيها والمسلمون معه وفي الثانية ببني إسرائيل (الإسراء) وجعل المسجد في قبلة بيت المقدس.
روى الإمام أحمد عن طريق عبيد بن آدم قال: (سمعت عمر بن الخطاب يقول لكعب الأحبار: أين ترى أن أًصلي؟ فقال: إن أخذت عني, صليت خلف الصخرة, وكانت القدس كلها بين يديك, فقال عمر: ضاهيت اليهودية. لا, ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتقدم إلى القبلة فصلى, ثم جاء فبسط رداءه, فكنس الكناسة في ردائه, وكنس الناس)[67].
وبعد انقضاء عهد الخلفاء الأربعة الراشدين تلى عهد الأمويين ثم عهد العباسيين ثم الطولونيين والاخشيديين, وفي كل تلك العهود كان المسجد الأقصى وبيت المقدس مصاناً معظماً في أيدي المسلمين قروناً طويلة, قام الخلفاء خلالها بإصلاحات وتوسيعات عديدة في مسجد الأقصى.
2- مملكة نصرانية في بيت المقدس في القرن السادس الهجري:
رُزء المسلمون بالدولة العبيدية (297 – 567) والمسماة زوراً بالدولة الفاطمية, ظاهرهم الرفض** وحقيقتهم الكفر المحض, وقد وصف ابن كثير وغيره من المؤرخين ملوك الدولة العبيدية بأنهم من أنجس الملوك سيرة وأخبثهم سريرة, وقد ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات, وكثر أهل الفساد, وقل عندهم الصالحون والعلماء، وكثر بأرض الشام النصيرية والدرزية والحشيشية, وتغلب الفرنج على الساحل, وفي فلسطين قربوا اليهود والنصارى, وتزاوجوا منهم وأبرموا المعاهدات مع الدولة البيزنطية النصرانية.
قال الذهبي: وقد أجمع علماء المغرب على محاربة آل عبيد, لما شهدوه من الكفر الصراح الذي لا حيلة فيه)[68], وفي حوادث سنة (381)هـ ضرب رجل من أهل مصر وطيف به في المدينة لأنهم وجدوا عنده كتاب الموطأ للإمام مالك)[69].
وقعت القدس تحت طائلة الحكم العبيدي في عهد الحاكم الفاطمي المعز لدين الله, حيث احتل قائده جوهر الصقلي فلسطين 969م فكان حكمهم لبلاد المسلمين آنذاك من الأسباب الرئيسية في النكبة الصليبية, حيث أقام الأوروبيون بالقدس مملكة نصرانية، حيث سارت كتلة الجيش الصليبي نحو إنطاكية فسقطت سنة 1098م. وتقدم الصليبيون نحو الجنوب دون أن يجدوا مقاومة تذكر نحو بيت المقدس واقتحموا أسوارها في سنة 1099م وأنزلوا بأهلها مذبحة قتل فيها سبعون ألفاً من سكانها، وعاثوا فيها فساداً وخراباً دونما اكتراث لقدسيتها, وحولوا المسجد الأقصى إلى كنيسة, ومكاناً لسكن خيولهم[70].(/9)
ولكن الله تعالى قيض صلاح الدين الأيوبي, الذي بدأ طريق فتح القدس بإسقاط الدولة العبيدية الباطنية أولا, ثم ارجع مصر إلى السنة , وأقام الخطبة للخليفة العباسي بعد أن انقطعت الخطبة للعباسيين بمصر (208) سنة , ووحّد مصر والشام, ومن ثم قاد حملات مركزة ضد قلاع الصليبيين القريبة حتى هزم الصليبيين في معارك عديدة كان أهمها معركة حطين (قرب بحيرة طبرية), في 25/ربيع الثاني 83هـ, وفي السابع والعشرين من شهر رجب من نفس السنة وفي يوم جمعة أظفره الله بالفتح الأعظم فتح بيت المقدس, وعاد الأذان إلى منابرها, وعاد المسجد الأقصى بعد غياب أحد وتسعين سنة, وأرسل إليه ملك الإنجليز يساومه في أمر سكنى النصارى بيت المقدس فأجابه السلطان صلاح الدين: (إن القدس ليس لكم من حديث سوى الزيارة)[71]. فانتهى بذلك دور الصليبيين، فكانوا من الغزوات العابرة, ولن يكون حظ اليهود اليوم بمساعدة الغرب الصليبي بأفضل من مصير الصليبيين في الماضي بإذن الله تعالى الغالب على أمره.
المسجد الأقصى في قبضة اليهود
حكم الأيوبيون القدس بعد خروج الصليبيين، ثم حكمها المماليك ثم العثمانيون, وفي آخر عهد بني عثمان, كانت بفلسطين جالية يهودية صغيرة جداً لا تتجاوز تسعة آلاف وسبعمائة نسمة موزعين بين القدس والجليل وصفد وطبريا وباسم الامتيازات الأجنبية التي فرضت على الدولة العثمانية الضعيفة من قبل الدول الأوربية, أ قامت بريطانيا أول قنصلية غربية في القدس عام 1255هـ / 1839م, وجهت معظم جهودها لحماية الجالية اليهودية , واستقدامهم من الخارج لاسباب ودوافع استعمارية.
وفي عام 1895م / 1313هـ أصدر اليهودي النمساوي هرتزل كتابه (الدولة اليهودية) قرر فيه (إن المسالة اليهودية ليست مسألة اجتماعية أو دينية, بل هي مسألة قومية لا يمكن حلّها إلاّ عن طريق تحويلها إلى قضية سياسية عالمية يتم تسويتها على يد الدول الكبرى مجتمعة)[72], وتمكنت الصهيونية في هذه الأثناء من استمالة الأوربيين لأ فكارها: فالمتدين النصراني الأوربي دخلت إلى نفسه فكرة شعب الله المختار وأرض الميعاد وهو يؤمن كنصراني بالعهد القديم, وأما غير المتدين فرغب أن يتخلص من استغلال اليهود وجشعهم عن طريق تأييد الصهيونية في البحث عن أرض يتجمعون فيها, فتستريح أوروبا منهم كما قال وزير خارجية قيصر روسيا وهيرتزل يحدثه ويطلب منه تشجيع الهجرة: (إننا نعطي مثل هذا التشجيع على الهجرة بأن نركلهم بأقدامنا)[73].
قدمت جمعية (أحباء صهيون) طلباً للقنصل العثماني في أوديسا (روسيا) , يطلبون الإقامة في فلسطين فكان رد السلطان عن الحميد: (تحيط الحكومة العثمانية علماً جميع اليهود الراغبين في الهجرة إلى تركيا بأنه لا يسمح لهم بالاستقرار في فلسطين) ,فتوالت الضغوط الديبلوماسية عليه حتى تدخل السفير الأمريكي فقال السلطان: (إنني لن أسمح لليهود بالاستقرار في فلسطين ما دامت الإمبراطورية العثمانية قائمة) ,وقابل هيرتزل السلطان عبد الحميد سنة 1896م أي بعد إصداره كتاب (الدولة اليهودية) بسنة, فطلب السماح بإقامة مستعمرة واحدة في القدس, فقال السلطان: (إن الإمبراطورية العثمانية ملك العثمانيين الذين لا يمكن أن يوافقوا على هذا الأمر فاحفظوا أموالكم في جيوبكم) ,نجح هيرتزل بعد هذه المقابلة الفاشلة بسنة بعقد المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1897م، وضم 204 مندوباً يمثلون جمعيات صهيونية متناثرة في أرجاء مختلفة من العالم, وحدد المؤتمر أهداف الصهيونية بما يلي: (إن غاية الصهيونية هي خلق وطن للشعب اليهودي في فلسطين يضمنه القانون العام) مما دفع السلطان عبد الحميد أن يصدر قراره المشهور الذي بلّغ به جميع ممثلي دول العالم في استنبول سنة 1900م بمنع الحجاج اليهود من الإقامة في فلسطين أكثر من ثلاثة شهور وعليهم تسليم جوازات سفرهم عند دخولهم أرض فلسطين.. وكل من لا يغادر البلاد خلال هذه المدة سيطرد بالقوة) ثم اصدر قراراً ثانياً سنة 1901م يحرِم فيه اليهود شراء أي قطعة أرض في فلسطين ولكن اليهود لم ييأسوا إذ شكل هيرتزل وفداً مع (قرصو) سنة 1902م وتوجه إلى السلطات بعروض مغرية , وطلب مقابلة السلطان فرفض السلطان عبد الحميد المقابلة, فدفعوا العروض إلى رئيس وزرائه (تحسين باشا), ما هي هذه العروض ؟:
1- مائة وخمسون مليون ليرة إنجليزية لجيب السلطان الخاص.
2- وفاء جميع ديون الدولة العثمانية البالغة 23 مليون ليرة إنجليزية ذهبية.
3- بناء أسطول لحماية الإمبراطورية بتكاليف قدرها مائة وعشرون مليون فرنك ذهبي.
4- تقديم قرض بـ(35) مليون ليرة ذهبية دون فوائد لإنعاش مالية الدولة.
5- بناء جامعة عثمانية في القدس.(/10)
فكان جواب السلطان عبد الحميد كما جاء في مذكرات هرتزل: (انصحوا الدكتور هرتزل بألاّ يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع إنني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض فهي ليس ملك يميني بل ملك شعبي.. فليحتفظ اليهود بملايينهم عندهم، و إذا مزقت إمبراطوريتي يوماً فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن..)[74]، فأرسل إليه (قرصو) برقية يقول فيها: (ستدفع ثمن هذه المقابلة من عرشك ونفسك) وقابل هيرتزل المستشار القانوني للحكومة المصرية بهدف الاعداد للتعاقد على استعمار سيناء والعريش لمدة 99سنة, ولكن المشروع فشل بجهود الدولة العثمانية فكان لا بدّ من إزالة هذه الدولة التي أصبحت حجر عثرة في طريق استيطان اليهود في فلسطين, فاتبعوا الأساليب التالية:
1- تشويه سمعة السلطان عبد الحميد واتهامه بالرجعية والاستبداد حتى أصبح ممقوتاً عند شعبه لما تملكه الصهيونية من شبكات وسائل الإعلام.
2- محاولة إثارة النعرات القومية, داخل الدولة العثمانية عن طريق الجمعيات الماسونية التي انضوى إليها بعض الشباب العرب والأتراك في باريس وبقيّة أوروبا, فظهرت فكرة القومية التركية (الطورانية) وفكرة القومية العربية.
3- حاولوا نسف المنصة التي يجلس عليها السلطان في صلاة الجمعة بسيارة متفجرات, فأنجاه الله.
4- اتصلوا بالضباط وكبار الموظفين من خلال المحافل الماسونية فطالبوا بإعلان الدستور والذي فيه (مساواة اليهود والنصارى مع المسلمين) واجبروه على الإعلان في 23 تموز سنة 1908م.
وخلال تسعة اشهر في 27ابرايل 1909م أقصى السلطان عبد الحميد الثاني من الحكم على يد( جمعية تركيا الفتاة) و(جمعية الاتحاد والترقي) الماسونيتين وبدأ التمهيد بعد ذلك لهجرة اليهود إلى فلسطين.
ثم وقف زعماء العرب آنذاك وعلى رأسهم الشريف حسين ملك الحجاز بجانب بريطانيا في الحرب العالمية الأولى, وأغمدوا أنصالهم في قلب تركيا مقابل وعود بريطانيا بإعطاء الشريف حسين ملك العرب.
يقول لورنس – ملك الصحراء العربية, وضابط المخابرات البريطانية, الذي أغرى بالثورة العربية وقادها ضد تركياً- في مذكراته: (إنني جدُّ فخور أنني في المعارك الثلاثين التي خضتها لم يرق الدم الإنجليزي لأن دم إنجليزي واحد أحب إليّ من جميع الشعوب التي نحكمها , ولم تكلفنا الثورة العربية سوى عشرة ملايين دينار).
واتفق اللنبي القائد الإنجليزي مع مصطفى كمال اتاتورك سراً قائد الجيش الثاني في فلسطين أن يسمح لخيالة اللنبي أن يضربوا مؤخرة الجيوش التركية الأربعة مقابل تسليم تركيا فيما بعد لأتاتورك وفعلاً انسحب أتاتورك ووقع مائة ألف من الجيوش التركية في أسر الإنجليز، ودخل اللنبي القدس في 9/11/1917م واطلق كلمته مدوية تعبيراً عن الحقد الصليبي العميق (الآن انتهت الحروب الصليبية).
وهكذا تم تمهيد الطريق للاحتلال اليهودي للقدس..
ويمكن سرد الأحداث التاريخية لضياع فلسطين والمسجد الأقصى على النحو التالي:
1- في سنة 1897م مؤتمر بال بسويسرا.
2- في سنة 1907م كان العمل الماسوني المنظم لإسقاط السلطان عبد الحميد من أجل هجرة اليهود.
3- في سنة 1917م وعد لينين ووعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
4- في سنة 1927م زيادة بناء المستعمرات وشراء الأراضي من عائلات سرسق وتيانا والإنجليز.
5- في سنة 1937م بدأ إنشاء القوات النظامية لليهود, وأصبح لديهم عصابات إرهابية مسلحة لديها كميات من الأسلحة والذخيرة, اشترك فيلق يهودي مع الحلفاء في الحرب العالمية الثانية لأخذ الخبرة والتدريب.
6- في سنة 1947م قرار التقسيم الذي أقرته هيئة الأمم في 29 نوفمبر ثم حلّت جماعة الأخوان وبعد ذلك بعام تم إعلان دولة إسرائيل سنة 1948م ثم قتلت البنا في 12/2/1949م.
7- في سنة 1956م احتلت سيناء وغزة بعد ضرب الحركات الإسلامية.
8- في سنة 1967م وبعد إعدام سيد قطب الذي كان في أغسطس 1966م وإخوانه كانت النكبة الكبرى واحتلت كل فلسطين والجولان وسيناء.
9- في سنة 1977م الهجوم على لبنان وزيارة السادات للقدس, وبداية ضرب التجمعات الإسلامية على يده ومعاهدة كامب ديفيد والتي وقعت في 26/3/1979م.
10- في سنة 1982م بدأت قوات الاحتلال الصهيوني بغزو لبنان تحت اسم "عملية سلامة الجليل" والتي أسفرت عن تدمير البنية التحتية العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
11- وفي نفس السنة قام الجيش الإسرائيلي بالتعاون مع قوات الكتائب النصرانية بتنفيذ مذبحة صبرا وشاتيلا التي راح ضحيتها أكثر من 200 رجل وامرأة وطفل، والتي كان وراء تنفيذها المجرم أرئيل شارون وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك.
12- وفيها أيضاً خرج ياسر عرفات مع رجاله من بيروت عن طريق البحر على ظهر الباخرة (أتلانتس) التي تحمل العلم اليوناني.
13- 9/12/1987م انطلاق الانتفاضة الفلسطينية المباركة الأولى.
14- 14/12/1987م الإعلان عن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بصدور أول بيان لها في الانتفاضة.(/11)
15- نوفمبر 1988م أعلن المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الطارئة المنعقدة في الجزائر قيام الدولة الفلسطينية المستقلة في غزة والضفة الغربية وعاصمتها القدس الشريف واعترف ضمنياً "بإسرائيل" وذلك بقبول قراري مجلس الأمن 242، و 338.
16- 14/12/1988م الولايات المتحدة الأمريكية تقرر إقامة حوار مع منظمة التحرير الفلسطينية.
17- 19/5/1989م اعتقال الشيخ أحمد ياسين بتهمة تأسيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
18- 8/10/1990م استشهاد أكثر من 30 مصلياً وجرح 150 آخرين آثر قيام جنود الاحتلال بإطلاق النار عليهم في ساحات المسجد الأقصى، وبعدها بثلاثة أسابيع افتتاح مؤتمر سلام الشرق الأوسط في مدريد بحضور أطراف الصراع، ورعاية الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كراعيين للمؤتمر.
19- 17/12/1992م إبعاد 415 شخصاً من أعضاء حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى مرج الزهور في جنوب لبنان.
20- وقع الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية ما يسمى بإعلان المبادئ (اتفاقية أوسلو) في البيت الأبيض بواشنطن.
21- 25/2/1994م وقوع مجزرة (الحرم الإبراهيمي) في مدينة الخليل ضد المصلين أثناء سجودهم في صلاة الفجر يوم الجمعة من شهر رمضان على يد المستوطن الإرهابي باروخ غولدشتاين.
22- 1/7/1994م دخل ياسر عرفات رئيس م.ت.ف إلى غزة وتسلم منصب رئيس سلطة الحكم الذاتي.
23- 26/10/1994م وقع الأردن والكيان الصهيوني معاهدة سلام بينهما في وادي عربة بحضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون.
24- 24/9/1995م التوقيع على اتفاقية طابا (اتفاق المرحلة الانتقالية) بين ياسر عرفات ووزير خارجية الكيان الصهيوني شمعون بيريز في القاهرة، والذي يحدد تفاصيل تنفيذ الحكم الذاتي في معظم الأراضي المأهولة بالفلسطينيين في المدن الرئيسة بالضفة الغربية.
25- 6/1/1996م استشهاد المهندس يحيى عيّاش قائد قوات الإستشهاديين في كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس بعد مطاردة استمرت أربع سنوات بتفجير الهاتف النقال الذي يستخدمه على يد جهاز الشاباك الصهيوني.
26- عقد مؤتمر شرم الشيخ في مصر – لمكافحة الإرهاب! - على خلفية العمليات الاستشهادية النوعية والمفاجئة التي نفذت في شهري فبراير ومارس من نفس العام، وتم فيه اتخاذ القرارات بتفويض من المجتمعين بمطاردة حركات المقاومة في فلسطين.
27- 1/10/1997م إطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين من المعتقل الصهيوني.
28- وفي سبتمبر 2000م انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية إثر زيارة الخنزير إرئيل شارون إلى المسجد الأقصى المبارك.. التي لا تزال مستمرة.
وهكذا استطاع اليهود, من شذاذ الآفاق. أن يؤسسوا (دويلتهم) على التوراة المحرفة, فجعلوها دولة عنصرية دينية تتبني ا لدين المنحرف بكل خرافاته وخزعبلاته ولا أدل على دينية الدولة مما يلي:
1. أسموا دولتهم بـ (إسرائيل) اسم يعقوب عليه السلام البرئ منهم براءة الذئب من دم يوسف عليهما السلام.
2. وجعلوا شعارها الرسمي (نجمة داود) السداسية, تتوسط علمهم. ينقشونها على صناعاتهم وأسلحتهم وطائراتهم بل وعلى هام جنودهم.
3. أبوا أن يجعلوا لدولتهم دستوراً مكتوباً, فدستورها الأعلى هو التوراة!
4. ولأن خارطة التوراة لإسرائيل ـ من النيل إلى الفرات ـ لم تكتمل فإنهم لا يرسمون لإسرائيل حدوداً رسمية حتى الآن.
وماذا عن الهيكل؟
يقول بن غوريون ـ وردّد ذلك من بعده مناحيم بيغن ـ : "لاقيمة لإسرائيل بدون القدس, ولا قيمة للقدس بدون الهيكل." والصهيونية على ـ الرغم من أنها مذهب سياسي ـ تتخذ من الهيكل والأرض المقدسة اسماً لها، وشعاراً مقدساً تكافح من أجله, وتعتبر نفسها الحركة التي تستهدف إعادة مجد إسرائيل, وبناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى, ومن ثم السيطرة على العالم وحكمه من القدس على يد ملك اليهود الذي هو مسيحهم المنتظر.
جاء في شرح معنى الصهيونية في دائرة المعارف البريطانية: "إن اليهود يتطلعون إلى اقتداء إسرائيل، واجتماع الشعب في فلسطين، واستعادة الدولة اليهودية، وإعادة بناء هيكل سليمان, وإقامة عرش داود في القدس, وعليه أمير من نسل داود".
حتى الماسونية ـ الجمعية السرية التي استطاع اليهود جذب المئات, من غير اليهود باسم الحرية والإخاء والمساواة, بواجهاتها المتعددة كالروتاري, والليونز ـ هدفها الأساسي الأسمى: إعادة بناء الهيكل. يعرِّف المستشرق الهولندي (دوزي) الماسونية فيقول: "جمهور كبير من مذاهب مختلفة، يعملون لغاية واحدة هي: إعادة الهيكل الذي هو رمز دولة إسرائيل"، وكلمة ماسونية مأخوذة من التعبير الإنجليزي (Free mason), ومعناه: البناؤن الأحرار. ومما يدل على أن الماسونية أداة صهيونية ما جاء في البروتوكولات اليهودية عنها: "نحن جيش مشتّت عن الوصول لأغراضه بالطرق المستقيمة, فالمراوغة فحسب هي الوسيلة الصحيحة, وهي الأصل في تنظيمنا للماسونية التي لا يفهمها أولئك الخنازير من الأمميين"[75].(/12)
ويقول إدريس راغب وهو أحد الماسونيين العرب: "إن الاعتقاد بوجوب إقامة الهيكل يقوّي أيماننا بالوعود المذكورة بالكتاب".
وقالت دائرة المعارف الماسونية الصادرة في فيلادلفيا سنة 1906م: "يجب أن يكون كلّ فعل ماسوني رمزاً لهيكل اليهود, وهو بالفعل كذلك, وأن يكون كل أستاذ على كرسيه ممثلاً لملك اليهود, وكلّ ماسوني تجسيداً للعامل اليهودي"، ومن الأدعية التي يقرأها جميع الحاضرين من الدرجة 33 في المحافل الماسونية: "سنعود إلى عهد سليمان بن داود, ونبني الهيكل الأقدس, ونقرأ فيه التلمود, وننفذ كل ما جاء في الوصايا والعهود, وفي سبيل مجد إسرائيل نبذل كل مجهود".
المنظمات والجماعات اليهودية المعنيّة بهدم الأقصى وبناء الهيكل:
هي أكثر من عشرين منظمة وجماعة من أهمها:
- جماعة (جوش ايمونيوم), ومعناها (كتلة الإيمان) , وتطلق على نفسها ايضاً: (حركة التجديد الصهيوني)، وهي أداة طيِّعة في يد (أريل شارون) رئيس كتلة الليكود لتنفيذ سياساته في المناطق المحتلة.
- منظمة (يشيفات اتريت كوهانين) أي: التاج الكهنوتي , وتعود جذورهم إلى الحاخام (إبراهام يتس حامدكول) الحاخام الفلسطيني الأول, وهذه المنظمة لديها خطط هندسية جاهزة لإنشاء الهيكل, وهي تعقد ندوات دورية عن الهيكل وسبل العمل لإعادة بنائه.
- جماعة (أمناء الهيكل)، وتقوم هذه الجماعة بإقامة الصلوات اليهودية في الساحة المحيطة بحائط البراق.
- حركة (كاخ) ومعناها (هكذا) بالبندقية: ومؤسسها هو الحاخام اليهودي الأمريكي (مائير كاهانا)، ومن جماعته (واين جودمان) الذي قام بالهجوم على الأقصى في 11/4/1982م، وتسبب هذا الهجوم في استشهاد وجرح عدد من المسلمين، وقد قام (كاهانا) بدفع أتعاب المحاماة عنه حتى أطلق سراحه[76].
حتى النصارى يشاركون في الجريمة:
يشاطر النصارى الإنجيليون اليهودَ عقيدة قدسية الهيكل, وضرورة إقامته مكان المسجد الأقصى؛ لأن كليهما يأخذ عقيدته من التوراة المحرفة التي أفاضت الحديث عن الهيكل, والأنشطة التي يقومون بها واسعة النطاق, فكتبهم تزيد على ثلث مجموع الكتب التي يشتريها الجمهور, ويملكون ويديرون 1300 محطة راديو, وتنظم الكنيسة رحلات دورية سياحية دينية للقدس لزيارة الأماكن اليهودية, والمسيحيين المقدسة, ومن أبرز شخصياتهم الممثلة للتحالف القوي بين الصليب ونجمة داود:
- المطران (جيم دولوس): وهو عضو في منظمة الهيكل المقدس اليهودية.
- والقس (جيمي سواغارت): وهو يرى أنه ينبغي أن يُبني الهيكل للتمهيد لمجيء المسيح.
ولعل من أخطر شخصيات (المسيحيين الأصوليين) رجلين:
الأول: (جيري فالويل)، وله منظمة يسمونها منظمة (الأغلبية الأخلاقية) أو (الأغلبية المعنوية)، لها برنامج إذاعي وتلفزيون يومي يستمر ساعة كاملة، ومما يقوله: "إن الوقوف ضد إسرائيل هو وقوف ضد الله"، ويقول في برنامجه (ساعة من إنجيل زمان) حينما غزا اليهود لبنان واحتلوا بيروت عام 1982م: "يذكر سفر التكوين من التوراة أن حدود (إسرائيل) ستمتد من الفرات إلى النيل وستكون الأرض الموعودة.. وهي العراق وسورية وتركيا والسعودية ومصر والسودان وجميع لبنان والأردن والكويت".
الرجل الثاني: (بات روبرتسُن): النجم التلفزيوني الديني, المعروف في أنحاء أمريكا كلها، يملك هو وجماعته الإنجيلية الأصولية المحطة المشهورة C.B.N. وهي تذيع باستمرار على مدار 24ساعة, وفي برامجه يؤكد دائماً على عداوة العرب ويسميهم أعداء الله, ويعتقد أنه لا مجال للعدل مع الفلسطينيين طالما أن رغبة الله هي تأسيس (إسرائيل) وفي تعيين حدودها, وكان (بات روبرتسن) ضمن الوفد الرسمي الذي رافق (الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش) في زيارته للسودان عام 1985م، التي وقّع على إثرها اتفاق أمريكي سوداني بترحيل يهود الفلاشا إلى (إسرائيل), وهو يدل على قوة العلاقة التي تربط هذا الرجل بالرئيس بوش.
وهناك نحو 250 منظمة تحمل أفكار الإنجيليين,بدأت حرباً مكشوفة ضد المسلمين في أمريكا, وكلها تؤمن بحرفية التوراة والإنجيل, وتدعم اليهود لهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل فوق أنقاضه، تهيئةً لقدوم المسيح حسب تنبؤات الكتاب المقدس, ومن أشهر هذه المنظمات: السفارة المسيحية الدولية في القدس، أسسها الإنجيليون في سبتمبر 1985م وجعلوا مقرها في القدس, يقول رئيس هذه الطائفة: "إنّا صهاينة أكثر من الإسرائيليين أنفسهم, وإن القدس هي المدينة الوحيدة التي تحظى باهتمام الله, وإن الله قد أعطى هذه الأرض لإسرائيل إلى الأبد[77].
إستراتيجية اليهود لهدم الأقصى وبناء الهيكل على أنقاضه:
لم تنقطع محاولات اليهود الجادة يوماً لتشييد هيكلهم المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى, واتبع اليهود للوصول إلى هذا الهدف البعيد خطين:
1/ هدم المسجد الأقصى أولاً: ومضى العمل لتحقيق هذا الغرض في اتجاهين:(/13)
الأول: محاولات اليهود عصابات وأفراداً حرق ونسف المسجد الأقصى, وهي كثيرة جداً منها: في 21 أغسطس 1969م أقدم (دينس مايكل) على إشعال النار في المسجد الأقصى, وأتت النيران على أثاث المسجد وجدرانه، والتهمت منبره الذي كان صنعه نور الدين محمود زنكي ونصبه صلاح الدين الأيوبي بعد تحرير المسجد. ومن مساعيهم لنسف المسجد بالمتفجرات المحاولات التي اكتشفت في سنوات :1980م،1982، 1984م, وكثيراً ما اكتشف حراس المسجد الأقصى من المسلمين أعداداً من اليهود في الساحات المحيطة بالمسجد وهم يُعِدّون لعملية نسف تام للمسجد مستخدمين قنابل ومتفجرات مادة (TNT), كما تكرر ذلك في عام 1989م.
الاتجاه الثاني: مواصلة الحفريات تحت المسجد الأقصى المبارك، والتي شرع فيها منذ حرب يونيو 1967م، حيث هدم اليهود (حي المغاربة) كلياً لتكون الأرض جاهزة لأي أعمال حفر وتنقيب, وتم إجلاء أعداد كبيرة من سكان القدس القديمة, وأقصت بيوتاً عربية كثيرة سكن (أريل شارون) في أرض واحدةٍ منها تأكيداً على تهويد القدس. والهدف النهائي لهذه الأنفاق والحفريات هو تفريغ الأتربة, والصخور من تحت المسجد الأقصى وقبة الصخرة تمهيداً لانهياره بفعل تقلبات مناخية, أو اهتزازات طبيعية, وقد أدت حالياً إلى حدوث تشققات وانهيارات في أسوار المسجد الأقصى, لا سيما الحائط الجنوبي منه, وجرفت أكثر من مائة قبر من قبور الصحابة والتابعين التي كانت موجودة قرب الحائط الغربي من المسجد الأقصى، يصحب ذلك حركة بناء مكثفة لتغيير ملامح المنطقة المحيطة بالمسجد الأقصى.
2/ تشييد الهيكل الثالث: واتخذ اليهود, لتحقيق هذا الهدف البعيد عدداً من الأساليب:
1- محاولات اقتحام اليهود المسجد الأقصى لإقامة الصلاة اليهودية عنوة: في 30يناير 1976م أقرت إحدى المحاكم الإسرائيلية حق اليهود في الصلاة بساحات الأقصى في أي وقت يشاءون من النهار، ففي 15 أغسطس 1967م دخل (شلومو تمورين) الحاخام الأكبر لإسرائيل ولجيشها مرتدياً الزي العسكري إلى ساحة المسجد الأقصى، يرافقه عشرون من ضباط الجيش، واصطفوا لتأدية الشعائر اليهودية، وأوعز للجيش الاستيلاء على مفتاح باب المغاربة؛ لتيسير الدخول إلى حائط المبكى كلما أرادوا، كما أقدم الحاخام اليهودي (مائير كاهانا) زعيم حركة (كاخ) في 7 أغسطس 1984م على محاولة لتدنيس المسجد الأقصى, وذلك برفع العلم الإسرائيلي وكان ذلك في ذكرى تحطيم المعبد القديم وهو يوافق 7 أغسطس من كل سنة وقام آلاف من اليهود وقتها بإقامة الشعائر اليهودية في المسجد الأقصى.
2- استجاشة العواطف الدينية عند اليهود والإنجيليين الأصوليين، بما تبثه وسائل الإعلام عن خبراء سلطة الآثار من اكتشافات حفرية تَمُتُّ بصلةٍ إلى الهيكل الأول أو الثاني, كالحديث عن (الشارع العتيق) المكتشف (صدفةً!!) في عام 1997م، ومن ذلك ما قام به الفيزيائي الأمريكي (لاجرت دولفين) مع اليهودي (ستانلي فولت) من محاولة التحليق فوق المسجد الأقصى وقبة الصخرة لتصويرها بأشعة إكس بواسطة جهاز الاستقطاب المغناطيسي الذي ابتكره دولفين لتصوير باطن الأرض, ليثبت للعالم أن المسجد الأقصى مُقَام في موضع الهيكل, وهذه عوامل نفسية تشكل آلية من آليات تعميق المعتقد اليهودي والصليبي الإنجيلي بضرورة إقامة الهيكل.
3- القيام بوضع حجر الأساس, للهيكل الثالث بالقرب من مدخل المسجد الأقصى وبلغت زِنة هذا الحجر (3.5) طن وقال (جرشون سلمون) زعيم جماعة (أمناء الهيكل) : "إن وضع حجر أساس الهيكل يمثل بداية حقبة تاريخية جديدة" وأضاف: "لقد انتهى الاحتلال الإسلامي، ونريد أن نبدأ عهداً جديداً من الخلاص للشعب اليهودي"، كما توجد في المدينة المقدسة وحدها سبع مؤسسات تتولى مهمة الإعداد لبناء الهيكل مكان المسجد الأقصى.
أي الفريقين أحق بالمسجد الأقصى؟
لقد أسس اليهود آمالهم العريضة على شفا جُرُفٍ هارٍ من مقدمات مغلوطة، ومماحكات مكشوفة, وتُرّهات مفضوحة, إنهم يزعمون ـ زوراً وبهتاناً ـ أن التوراة هي التي منحتهم هذا الحق!!!
ومن هم اليهود في نصوص التوراة حتى يكونوا الوصاة عليها؟
جاء في توراتهم: قال الرب: "ها أنذا جالب شراً على أورشليم, ويهوذا, وأدفعهم إلى أيدي أعدائهم غنيمة ونهباً لجميع أعدائهم: لأنهم عملوا الشر في عيني"[78].
وتقول عنهم: "إن الله قال: اذهب قل لهذا الشعب: اسمعوا سمعاً, ولا تقهقهوا, وابصروا إبصاراً ولا تعرفوا غلظ قلب هذا الشعب, وثقل اذنيه واطمس عينيه لئلا يبصر بعينيه، ويسمع بأذنيه، ويفهم بقلبه"[79].
وتقول: "وصار مرشدو هذا الشعب مضلين, لأجل ذلك لا يفرح الرب بفتيانه، ولا يرحم يتاماه وأرامله؛ لأن كل واحد منهم منافق وفاعل شر"[80].
ثم من هم اليهود في حقائق التاريخ؟(/14)
إنهم المتطاولون على الله، الواصفون إياه سبحانه بالنقص والعيب والسوء، كما حكى القرآن عنهم: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء)[81] وقال أيضاً عنهم: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق)[82].
إنهم الجاحدون, الكاتمون ما أنزل الله على رسله: (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء من موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً)[83].
إنهم قتلة الأنبياء: (حزقيال) و (إشعيا) و (أرميا) و (زكريا) و(يحي) (ويقتلون النبيين بغير الحق)[84]، (وقتلهم الأنبياء بغير حق)[85].
فأي الفريقين أحق بالمسجد الأقصى؟
(من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل)[86] أمّن قال الله عنهم: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)[87] أمة السبق بالخيرات, الشهيدة على القرون الخاليات (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)[88].
إن الأحق بالأرض المقدسة, مُتعبَّد إبراهيم, ومحراب داود, ومسجد سليمان هم الصالحون العابدون, الموحدون المصلحون, بل هم الأحق بالأرض كلها كما قال سبحانه: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون. إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين. وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)[89].
إننا نستند في وعدنا وحقنا – نحن المسلمين – لسدانة المسجد الأقصى وبيت المقدس إلى كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وحقائق التاريخ، إن الوعد الذي يزعمه اليهود الملعونون على لسان داود وعيسى بن مريم ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه منسوخ وباطل مفترى. لأن وعد التوراة بالتمكين لأولياء الله قد تحقق على يد الصالحين من بني إسرائيل, وبلغ أوْجَهُ زمن النبيين الكريمين داود وسليمان عليهما السلام, وفضّلهم الله على العالمين من أهل زمانهم لما كان فيهم من الأخيار الأبرار, فلما بعث فيهم المسيح ابن مريم كفروا به وبدلوا نعمة الله كفراً, وأحلوا قومهم دار البوار, وإنما هم ينتظرون اليوم بدويلتهم الكافرة مسيحهم الأعور الدجال.
قال ابن القيم: "ومن تلاعبه – يعني الشيطان – بهم – يعني اليهود – أنهم ينتظرون قائماً من ولد داود النبي إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم, وإن هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذي وعدوا به, وهم في الحقيقة إنما ينتظرون مسيح الضلالة الدجال, فهم أكثر أتباعه وإلاّ فمسيح الهدى عيسى ابن مريم عليه السلام يقتلهم ولا يُبقي منهم أحداً.. "[90].
وإذا كان الله تعالى قد أعطى إبراهيم الخليل عليه السلام وعداً[91] فهو وعد الله لهذه الأمة الموحدة التي بارك الله تعالى فيها بكثرة العدد, فيهم قبائل الأرض من الهنود والعرب والزنوج والفرس والأوربيين والأفغان والبربر.., فهو الشعب الذي دخل في جميع الشعوب, أما اليهود فإنهم في الأرض شرذمة قليلة[92], ولا يصفو منهم من هو من بني يعقوب إلا أقل القليل[93], فالواقع يشهد أن هذه الوعود ليست لبني إسرائيل وأنهم يكذبون ويفترون على الله حين يجعلونها فيهم وإنما هي في بني إسرائيل فالسعداء بوعد إبراهيم عليه السلام, إنما هم أتباع النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم, كما قال تعالى : (إنّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين)[94], أما اليهود أعداء الله ورسله فإنهم محرومون من هذا الوعد الإلهي لخليله إبراهيم بنص الكتاب. (قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) [95], واليهود من أظلم الظالمين كما قال سبحانه وتعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين)[96], ووعد الله تعالى فيهم بالعذاب والذلة والمسكنة واضح جلي كما قال تعالى : (وإذ تأذن ربك ليبعثنّ عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب)[97] وقوله: (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلاّ بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب منه وضربت عليهم المسكنة)[98] ومهما بدا حبل أمريكا وأوروبا وروسيا لهم ممدوداً طويلاً فانه لا يلبث أن ينقطع ليرجعوا إلى ما كتبه الله عليهم من تسليط أمم الأرض عليهم وماربك بظلام للعبيد.
فإن ابتغوا الرحمة من هوان الدنيا وعذاب الآخرة, فسبيل ذلك الإذعان للإسلام (عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً)[99].
الطريق إلى خلاص المسجد الأقصى(/15)
1. كل المسلمين اليوم في مشارق الأرض ومغاربها يتطلعون إلى خلاص المسجد الأقصى وفلسطين من أيدي أعداء الله اليهود الغاصبين، ولكن هذه الأمنية تحتاج لتحقيقها واقعاً إلى تغيير في نفوسنا، يخلصنا أولاً من العبودية لغير الله في أي صورة من صور الشرك وعبادة غير الله. فلا بدّ من تغيير عميق للجذور, نبني به رجل العقيدة المسلم, الذي يحقق العبودية لله تعالى في نفسه ويعبِّد الآخرين لخالقهم, وبهذا الأساس الصلب سينفذ جيل النصر القادم لا محالة إلى اليهود القابعين في بيت المقدس, وبذلك الوصف سينادي الحجر والشجر جند الله المؤمنين الذين سينازلون اليهود: (يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي وارئي تعال فاقتله)، وسبيل ذلك التربية المتوازنة على العقيدة الصافية التي لا تكدرها شائبة, من خرافة ومحدثة وشبهة، العقدية التي يريدها القرآن الكريم، وتريدها السنة الصحيحة أن نعتقدها بشمولها عبادة ونكساً، وولاءً وبراءً، شريعة وحكماً، دون تجزئة , أونسيان حظ مما ذكرنا به، كما قال الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)[100].
2. السعي الدؤوب لوحدة المسلمين على كلمة سواء من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والاعتصام بهما (واعتصموا بحل الله جميعاً ولا تفرقوا)[101]، وأثبت الواقع أنه لم ولن تكون القومية العربية إطاراً يحقق الوحدة لأنها بناء قائم على جرفٍ هارٍ ودعوة مالها من الله من برهان ولا نصير، في حين اثبت الإسلام صلاحيته لتوحيد شعوب مترامية المسكن, مختلفة الأجناس, صهرهم في بوتقة واحدة, وصقلهم وهذب أخلاقهم وطباعهم، وأبدع بهم حضارة حكمت الشرق والغرب، وحقق لها شعور الانتماء الواحد , أكثر من الذي يشعر به أبناء البلد الواحد, واعتبر الإسلام هذه الرابطة أقوى وشيجة بقوله تعالى : (إنما المؤمنون إخوة)[102] وقوله تعالى : (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)[103], وبمثل قوله عليه الصلاة والسلام: (أن آل أبى فلان ليسوا بأوليائي أن وليّ الله وصالح المؤمنين ولكن لهم رحم أبلها ببلالها)[104].
إن رابطة البنوّة فَصَمَتْ بين نوح عليه السلام وابنه عندما انعدمت رابطة الإيمان (إنه ليس من أهلك أنه عملٌ غيُر صالح)[105], كذلك رابطة الأبوة بين إبراهيم عليه السلام وأبيه فصمت لما انعدمت رابطة العقيدة (فلما تبين له أنه عدوٌ لله تبرأ منه أن إبراهيم لأواه حليم)[106]. كذلك لم ينفع أبا لهب وهو العربي القرشي رابطةُ النسب والقوم، وكان من الهالكين لكفره, لكنّ بلالاً الحبشي, وصهيباً الرومي, وسلمان الفارسي كانوا من خير أبناء هذه الأمة, وهكذا ضمّت دائرة الإسلام العرب والفرس والأكراد والترك والبربر والهنود والصين والأفارقة وغيرهم, وجعلت منهم أمة واحدة من دون الناس كما قال عليه الصلاة والسلام, فكان لهم التاريخ الواحد, والمآثر الواحدة, والأفراح والأعياد الواحدة, ولغة الدين الواحدة، وسل التاريخ ينبئك!! فها هم أولئك المماليك الذين حموْا هذه البقعة من بلاد الشام وبيت المقدس لم يكونوا من جنس العرب، وإنما كانوا من جنس التتار، ولكنهم قاتلوا حميّة للإسلام، وحمى صلاح الدين هذه البلاد من اندثار العروبة والعرب واللغة العربية، وهو كردي لا عربي, ولكن حفظ لها عروبتها ولغتها حين حفظ لها إسلامها من غارة الصليبيين, وكان الإسلام في ضميره هو الذي كافح الصليبيين كما كان الإسلام في ضمير بيبرس والمظفر قطز.
لقد آن الأوان لننبذ كل تلك الطروح القومية والوطنية والاشتراكية والشيوعية والعلمانية وسواها من رايات الفشل والشقاق , ونتخذ راية الإسلام شعاراً لتوحيد الجهد والجهاد في سبيل الله (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)[107].
3. ما أشبه الليلة بالبارحة! فكما رزء المسلمون في القرن الخامس الهجري قبل فتح بيت المقدس بالحركات الباطنية كالعبيديين, والحشاشين, والنصيريين والدروز, فإننا اليوم مبتلون بهذه الحركات وغيرها مما لم يكن في الماضي كالقاديانية والبهائية, وإذا كان الإمامان نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي قد وفقا لإدراك خطر الدولة العبيدية على وحدة المسلمين ولم شعثهم، فإننا اليوم ينبغي أن نتصدى لهؤلاء بكل الوسائل الممكنة, ويجب أن نحذر من اعتبارهم في أي وحدة لانهم كالسوس ينخر من الداخل.(/16)
4. إن السبيل الأوحد في إدارة الصراع مع اليهود, لإخراجهم من بيت المقدس وفلسطين هو قتالهم في سبيل الله، وإن من أعظم صور الجهاد، وأروع ضروب الاستشهاد، ما يقوم به شباب الجهاد في فلسطين من عمليات فدائية، أفزعت اخوان القردة والخنازير، وأقضّت مضاجعهم، حتى أبلغت قلوبهم حناجرهم. ولما كانت هذه العميات الجهادية تستوجب وجود عنصر بشري لإحداث التفجير، بسبب إحكم العدو للتدابير الأمنية، سواءً بتدريع جسم المجاهد بالمتفجرات، أو باقتحام الثكنات بعربة ملغّمة، أو بالسقوط عليها بطائرة مفخخة. فإن جماهير العلماء في عصرنا الحاضر قد نصوا على جواز ومشروعية هذه العمليات الفدائية، لعموم نصوص الكتاب والسنة المحرّضة على قتال الكافرين، بُغية الإثخان في أعداء الله، والانتصار للدين، ومن ذلك قول الله تعالى : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)[108]، وقوله تعالى : (يقاتلون في سبيل الله فيَقتُلون ويُقتلون)[109] وقرأ حمزة والكسائي وخلف بتقديم المفعول على الفاعل (فيُقتلون ويَقتُلون)، وقوله سبحانه: (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون)[110]، وقوله عز وجل: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك)[111]، ومن الأحاديث قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يُحبهم الله –ذكر منهم- الرجلُ يلقى العدو في فئةٍ فينصُبُ لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه)[112]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من خير معاش الناس لهم، رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه كلما سمع هيْعَةً أو فزعة طار عليه يبتغي القتلَ والموتَ مظانَّهُ)[113]، ولحديث الغلام في قصة أصحاب الأخدود، وذلك أنَّه علَّم ملك نجران كيف يقتله، وأنه لا سبيل لهم إلى قتله إلا بالطريقة التي دلهم عليها، فكان متسبباً في قتل نفسه، من أجل دخول دخول أهل تلك البلاد في دين الله، وكان ما أراد، حيث قالوا جميعاً: آمنا بالله رب الغلام. ومن المعلوم بداهة أن قتل الأعداء من أعظم المخاطرة، لما في ذلك من تعريض النفس للتلف..
وإذا كان أكثر أهل العلم قديماً قد ذهبوا إلى مشروعية الاقتحام على العدو، والانغماس في صفوفه، مع تحقُّق الهلاك، وضعف العدة، وقلة العدد، بقصد النكاية بالعدو، وكسر عنفوانه، وفلِّ شوكته، وتوهين قناته، فإن الصورة العصرية أيضاً مشروعة لذات المقصد والغاية. قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني ـ تلميذ الإمام أبي حنيفة ـ رحمهما الله: "لو حمل رجل واحد على ألف من المشركين وهو وحده فلا بأس بذلك، إذا كان يطمع في النجاة، أو نكاية في العدو. وإن كان قصده إرهاب العدو، وليعلم صلابة المسلمين في الدين، فلا يبعد جوازه. وإن كان فيه نفع للمسلمين فتَلِفتْ نفسه لإعزاز الدين، وتوهين الكفر، فهو المقام الشريف الذي مدح الله تعالى به المؤمنين بقوله تعالى : (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة)"[114].
وصحح أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله جواز الاقتحام على العساكر لمن لا طاقة له بهم؛ لأربعة وجوهٍ: طلب الشهادة، ووجود النكاية، وتجرئة المسلمين عليهم، وضعف نفوسهم ليروا أن هذا صنع واحد فما ظنك بالجمع.[115] ومن شواهد ذلك في السيرة: حمل سلمة بن الأكوع والأخرم الأسدي وأبي قتادة وحدهم رضي الله عنهم على عيينة بن حصن ومن معه، وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (خير رَجّالتنا سلمة)[116]. قال ابن النحاس: "وفي الحديث الصحيح الثابت أول دليل على جواز حمل الواحد على الجمع الكثير من العدو وحده، وإن غلب علىظنه أنه يُقتل إذا كان مخلصاً في طب الشهادة كما فعل سلمة بن الأخرم الأسدي"[117]، ومن المشهور أيضاً فعل البراء بن مالك في معركة اليمامة، فإنه احتُمِل في ترس على الرماح، وألقوه على العدو فقاتل حتى فتح الباب، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة[118]، ومن ذلك أيضاً قصة أنس بن النضر رضي الله عنه في وقعة أحد، فقد قال: "واهاً لريح الجنة"، ثم انغمس في المشركين حتى قُتل[119].
ولا ريب أن البون شاسع بين من قتل نفسه جزعاً من الحياة و تخلصاً من آلامها كما في قصة قُزمان الذي نحر نفسه فاستعجل الموت[120]، أو ما يقع من حوادث انتحارية جراء المعيشة الضنك، وبين صورة ذلك الشاب المجاهد، الذي يقتل نفسه ليحيي أنفس الأجيال المسلمة من بعد ذلك (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)[121] فحاشا لمثل هذه الصورة الفدائية المشرقة أن تكون مجرد حماسة فائرة، أو عزمة مفردة، أو تغريراً بأنفس متهورة في باطل فضلاً عن أن تكون انتحاراً أو قتلاً للنفس بغير حق. قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله: "إن التغرير في النفوس إنما جاز لما فيه من مصلحة إعزاز الدين بالنكاية في المشركين"[122]، ونقل النووي الاتفاق على التغرير بالنفس في الجهاد[123].(/17)
وما دامت الجيوش الباسلة في بلاد المسلمين (مدجَّنةً) لا تحرك ساكناً إزاء غطرسة اليهود ومجازرهم، وحالها أنها (ملجّمة) من قِبل المخذِّلين والمنافقين، فلا سبيل إلى زعزعة هذا الكيان الجرثومي إلا بهاتيك العمليات الجهادية الفدائية، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
أما مفاوضات الاستسلام, فإنها تزيد اليهود غطرسة وعدواناً, ولا تورثنا إلاّ ذلاً وهواناً, لأن مشكلة فلسطين والمسجد الأقصى, قضية إسلامية بحتة, وماهي بمشكلة العرب وحدهم.. أو الفلسطينيين وحدهم.. فليس من حق كائن من كان أن يساوم عليها*, فهي من شمالها إلى جنوبها بقدسها الشريف أرض إسلامية تنتظر المخلص الإسلامي المجاهد, وهذا واجب كل مسلم وهو في حق مسلمي فلسطين ومن جاورهم أوجب, وإن أخشى ما يخشى اليهود اليوم أن تستيقظ روح الإسلام في النفوس , وتنتشر روح الجهاد وحب الاستشهاد، كما صرخ طائرهم بن غوريون قائلاً: "نحن لا نخشى الاشتراكيات, ولا الثوريات ولا الديمقراطيات في المنطقة نحن نخشى الإسلام هذا المارد الذي نام طويلاً, وبدأ يتململ من جديد".
5. يجب أن ننزع من قلوبنا حب الدنيا والتهالك عليها, ونتعلق بالآخرة التي نعيمها هو النعيم السرمدي الباقي (ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزينّ الذي صبروا أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون)[124], وها هو ذا صلاح الدين في الماضي قد شمر عن ساعد الجد وترك اللهو, وتقمص بلباس الدين, وحفظ ناموس الشرع, فحمل هموم الإسلام والمسلمين, ولم يهدأله بال, ولم يذق طعم الراحة حتى لقي ربه, يصف صاحب كتاب (الروضتين في أخبار الدولتين) صلاح الدين وهو ينقل الحجارة بنفسه لعمارة سور القدس فيقول: (ولو رأيته وهو يحمل حجراً في حجره, لعلمت أن له قلباً قد حمل جبلاً في فكره)
(ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).
فتوى علماء الأزهر في الصلح مع إسرائيل سنة 1956م
بعد قيام دولة اليهود في فلسطين سنة 1948م بيّن علماء المسلمين حكم الصلح مع دولة اليهود, ففي الفتوى الصادرة عن لجنة الفتوى – فتوى الأزهر – سنة 1956م إجابة على حكم الصلح والسلام مع دولة اليهود في فلسطين أعلنت اللجنة:
(إن الصلح مع (إسرائيل) لايجوز شرعاً لما فيه من إقرار للغاصب على الاستمرار في غصب ما اغتصبه وتمكينه والاعتراف بحقيّة يده على المعتدي من البقاء على عدوانه, فلا يجوز للمسلمين أن يصالحوا هؤلاء اليهود الذين اغتصبوا أرض فلسطين واعتدوا فيها على أهلها وعلى أموالهم بل يجب على المسمين أن يتعاونوا جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم لردّ هذه البلاد إلى أهلها..
ومن قصر في ذلك أو فرّط فيه أو خذل المسلمين عن الجهاد, أو دعا إلى ما من شأنه تفريق الكلمة , وتشتيت الشمل, والتمكين لدول الاستعمار من تنفيذ مخططهم ضد العرب والإسلام وضد فلسطين فهو في حكم الإسلام – مفارق جماعة المسلمين ومقترف أعظم الآثام).
فتوى علماء ودعاة السودان ببطلان الصلح مع اليهود ووجوب الجهاد لتحرير الأقصى
الحمد لله منزل الكتاب، مجري السحاب، هازم الأحزاب، سريع الحساب، القائل: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) [التوبة: 14]، وصلى الله على خيرته من خلقه، وصفيه من عباده، محمد نبي المرحمة، ونبي الملحمة، القائل: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يُعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذلّ والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم) [رواه أحمد].
وبعد، فإن المجازر التي يرتكبها أحفاد القردة والخنازير في بيت المقدس والضفة وقطاع غزة، وغيرها من مدن فلسطين ولبنان، والتي راح ضحيتها آلاف القتلى من الرجال والنساء والولدان، إن هذه المذابح لم تكن الأولى في تاريخ اليهود الأسود، ولن تكون الأخيرة (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) [البقرة: 217]؛ لأنّ عداوة اليهود وحربهم للإسلام أمر لا يحتاج إلى دليل، إلا إذا كانت الشمس تحتاج في إثباتها إلى دليل، وحسبنا ما أخبر به القرآن عنهم مؤكداً: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) [المائدة: 82].(/18)
أليس اليهود هم الذين ألبوا الأحزاب على الدولة المسلمة الأولى في المدينة، لما غلبهم الإسلام بعز عزيز؟ فاستمرّوا يكيدون له بنفث المفتريات؟ وبالبث بين صفوف المسلمين؟ وإثارة الفتنة بينهم؟ (يقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً) [النساء: 51]. أليسوا هم الذين حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالرحى مرة، وبالسم ثانية، وبالسحر تارة أخرى؟ أليس اليهود هم قتلة الأنبياء، ومشعلو الفتن، وموقدو الحروب، ومصاصو الدماء؟ إن منهم (كعب بن الأشرف)، و(أبا عفك)، و(سلام بن أبي الحُقيق) الذين ابتغوا الفتنة من قبل، وقلّبوا الأمور في أشرف قرون الدنيا، ثم الأفعى (عبد الله بن سبأ) رأس الفتنة في مقتل عثمان رضي الله عنه، وبمثل ذا مضوا على مرِّ الدهور وكرِّ العصور (كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين) [المائدة: 64]، حتى توالت نكبات القرن الحالي على أيدي شياطينهم المعاصرين، ومنهم (مدحت باشا) و (مصطفى كمال أتاتورك)، اللذان استخدما المخططات الماسونية في دولة بني عثمان حتى سقطت الخلافة، ثم موجة الإلحاد وإبليسها اليهودي (كارل ماركس)، والنزعة الحيوانية ومؤسسها اليهودي (فرويد)، ونظريات هدم الأسرة وتفكيك الروابط الاجتماعية على يد اليهودي (دوركايم)، ونزعة أدب الانحلال على يد اليهودي (جان بول سارتر)، وحركة الاستشراق لضرب الإسلام على يد اليهودي (جولد تسيهر)، وحركات التنصير في ديار المسلمين على يد اليهودي (صمويل زويمر)، وهلم جراً، كلما هلكت أمة منهم اقتفت أثرها أخرى، (أتواصوا به بل هم قوم طاغون) [الذاريات: 53].
ولم تكد الدنيا تستيقظ من الفاجعة الأولى (هدم الخلافة)، حتى مُنيَ المسلمون بخنجر مسموم غُرز في قلب بلاد المسلمين، وهي الفاجعة الأخرى (إنشاء دولة يهود، إسرائيل)، وهاهي تلكم الحرب الكئيبة والتي تشنّها هذه الجِبِلّة النكدة الشريرة لم تضع أوزارها بعد، وتكشف كل يوم عن وجهها الكئيب، وتاريخهم الحديث مليء بالمذابح التي دبرها ونفذها زعماء العصابات اليهودية لإبادة أكبر عدد من الفلسطينيين، وإرهاب كل من يبقى حياً كي يفر طلباً للنجاة تاركاً وراءه أرضه وبيته، وقبل ذلك كرامته، ولئن نسينا فلن ننسى (مذبحة دير ياسين) عام 1948م، و(خان يونس)عام 1956م، و(مذبحة كفر قاسم)عام 1959م، و(تل الزعتر)، و(صبرا وشاتيلا)؛ تلك المذبحة التي تدمي القلب وتدمع العين، والتي ارتكبتها القوات الإسرائيلية وقوات الكتائب المارونية ضد اللاجئين الفلسطينيين العزّل، والتي قدِّر عدد الضحايا فيها بما يزيد على أربعة آلاف، وهو رقم الجثث التي عثر عليها فقط!
هنالك ـ وبعد مضي خمسين عاماً على قيام دولة يهود ـ فشلت العنتريات العربية في استرداد الحقوق، ووقفت سدّاً منيعاً أمام الزحوف المجاهدة المنطلقة لتحرير فلسطين المغتصبة، بدعوى أن ذلك واجب الحكومات العربية التي انهزمت شرّ هزيمة. لقد فشلت الأنظمة العربية، بكل أثوابها العلمانية المتعددة، من اشتراكية وقومية وتقدمية وبعثية!
أيها المسلمون.. إن الذي هُزم وتراجع أمام اليهود ليس هو الإسلام بل العلمانية، والذي ألقى السلاح وطلب الاستسلام، ليس هو الإسلام بل العلمانية، بدءاً بقبول (مشروع روجرز)، إلى كارثة (كامب ديفيد)، إلى الغرق في الوحل بمهزلة (الحكم الذاتي) في غزة وأريحا، ثم معاهدة الاستسلام بين الأردن ودولة يهود.. وهكذا هرول حكام العرب والمسلمين في السنوات الأخيرة نحو الاعتراف بدولة يهود، فمنهم من عقد الصلح، ومنهم من فتح لها المكاتب، وتبادل السفراء، ومنهم من يقوم بالتجارة معها، ومنهم من يستقبل ممثليها علناً، ومنهم من يستقبلهم سراً، وكلهم يعلنون بأن السلام مع دولة يهود هدف استراتيجي، وقد ضجوا من قبل بشعارات: (لا صلح، ولا اعتراف، ولا مفاوضات) مع دولة يهود، وتباهوا بما تنص عليه دساتير وقوانين البلاد العربية، من جعل الاجتماع أو الاتصال بالعدو الإسرائيلي خيانة وجريمة، واليوم يهرولون نحو ما كان بالأمس عاراً وشناراً.
أيها المسلمون.. إن اليهود الذين تأذّن الله ليبعثنّ عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، ازدادوا غطرسةً وعناداً، وامتلأوا علواً وفساداً، إنهم يهجّرون المسلمين من أهل فلسطين لاستقدام مزيد من يهود العالمين، إنهم ينسفون المنازل بالطائرات، ويصادرون الأرض بالدبابات، ويعتقلون الناس، ويعذبونهم، ويكسّرون عظامهم، ويقتّلونهم، إنهم يرتكبون المجازر بالليل والنهار، والصباح والمساء، على مرأىً من العالم ومسمع.
إننا ـ أيها المسلمون! بين يدي هذا السيل المتلاطم من المآسي والقروح، والأمة مأزومة مكلومة جرحى، جراحها تنكأ جراحاً، كلما أراد أن يندمل جرح انفغر آخر، وتقيّحت جروح أخرى ـ نذكّر المسلمين عامة، ومن بفلسطين ولبنان وسوريا ومصر والأردن خاصة، بالحقائق الشرعية الآتية:(/19)
أولاً: المسارعة إلى الله عز وجل بالتوبة الصادقة، بمراجعة دينه، ونصرة منهجه عقيدة وشريعة، فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة، فاليهود المجبولون على الجبن والحرص على الحياة، أربعة ملايين يهودي، ونحن مائة وثلاثون مليوناً من العرب، ومليار ومائتا مليون من المسلمين خامدون خمود القبور، لا نملك من أمرنا نقيراً ولا قطميراً، ودولة يهود أكثر نفيراً، وأسمع قيلاً، وأشد تقتيلاً. نعم...إن الله يعذبنا بتسليط أبشع وأحطّ المخلوقات، علينا وعلى مقدساتنا وأعراضنا، لأننا تركنا منهجه ودينه، وارتمينا في أحضان المناهج الغربية والشرقية، التي صاغها اليهود أنفسهم، وكل هذا الذي نرى إنما هو عقاب للمسلمين؛ إذ تنكبوا طريق الحق إلى طريق الغواية والغرب، فهل وعينا ـ بعد نصف قرن من (تيه العرب) بين الاشتراكية واللبرالية والقومية ـ نداءَ الناصحين (ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون. وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) [المائدة: 23].
ثانياً: إن صراعنا مع اليهود والنصارى في القدس وفلسطين إنما هو صراع بين وعدين، بين الوعد الحق والوعد المفترى..صراع بين عقيدة التوحيد التي جاء بها نبي الله إبراهيم عليه السلام، وجدّدها سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، وسيجدّدها آخر الزمان عيسى عليه السلام، وبين عقيدة الشرك والخرافة والدجل، التي أسسها الأحبار والرهبان، مستندين في ذلك على أوهام وهرطقات، وعليه فإن صراعنا مع اليهود على أرض فلسطين الجريحة، وأرض القدس الذبيحة، إنما هو صراع وجود، لا صراع حدود، وحسمه لن يكون بتسوية سلمية أو سياسية، وإنما حسمه سيكون عن قتالٍ دامٍ تتحمل الأجيال القادمة مسؤولية إنجازه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر ـ ووراءه اليهودي ـ: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله) [رواه ابن ماجه]،ولن يكون قتالهم جهاداً في سبيل الله دون مراجعة دين الإسلام كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أدخل الله عليهم ذلاً لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم) [رواه أحمد].
ثالثاً: إن الحكم الشرعي المتفق عليه لدى المسلمين في الأعداء المحاربين الذين يغتصبون أرض المسلمين، ويقاتلونهم لأجل دينهم، ويخرجونهم من ديارهم، هو وجوب قتالهم وجهادهم، لأن دفع الصائل، والثأر للأعراض والحرمات التي انتهكها العدو فرض عين على كل من قَدِر في المحل، ويتوسع هذا الفرض عند عدم قيام أو تقصير أهل ذلك المحل، هذا هو الحكم في أي أرض اجتاحها عدو، ناهيك عن أرض بيت المقدس التي كانت في غالب عمر الدنيا قبل الإسلام أرضاً للتوحيد والإيمان، ثم كانت بعد البعثة النبوية معقلاً للقوة، ومعقداً للعزة تحت راية الإسلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بينما أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب احتُمِل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري، فعُمِد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان ـ حين تقع الفتن ـ بالشام) [رواه أحمد بسند صحيح]، وهذه البقعة بين دمشق وبيت المقدس كما في الحديث الآخر: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة) [رواه أبو يعلى]. تلك هي الأرض، وأما الغزاة فإنهم اليهود شرُّ الدوابِّ قتلة الأنبياء، شيمتهم الغدر، وسجيّتهم الخيانة.
رابعاً: إن حكام العرب والمسلمين الذين عقدوا صلحاً مع دولة يهود لا يمثلون شعوبهم، وإن ما أبرموه من صلح واتفاقات باطل لا قيمة له شرعاً، لما يلي:
[1] لأن هؤلاء الحكام يحملون الولاء للدول الكبرى قبل الولاء لدينهم أو حتى لشعوبهم، إذ أن الغرب وأمريكا هي التي أوصلتهم إلى كراسي الحكم، وهي التي تحافظ على بقائهم في السلطة، لذلك فإنهم يسوسون شعوبهم بالعلمانية، وينبذون أحكام الإسلام وراءهم ظهرياً، وقد انسلخوا من كل خلق كان يزيّن العرب الجاهليين، حتى من نخوة الخنساء التي قالت:
[2] الصلح الجائز شرعاً لا يكون مع هذا النوع من المحاربين، لأن جنوحه للسلم شرطه الجلاء عن كل أراضي المسلمين، وبغير هذا الشرط يعد الصلح تفريطاً بأرض إسلامية مقدسة، وإقراراً للعدو اليهودي الغاصب باحتلاله أراضي إسلامية، لذا فلا وجه للاستشهاد بآية الأنفال: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) [ الأنفال : 61 ] على هذا الصلح، وإنما الآية التي تناسب هذه الحال هي قوله تعالى : (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) [محمد: 35].(/20)
[3] إن هذا الصلح الذي عقده حكام العرب والمسلمين اليوم مشروط بإلغاء المقاطعة، وبضرورة التطبيع مع دولة يهود، في الأصعدة السياسية والإعلامية والسياحية، وأخطر من ذلك التطبيع الثقافي، الذي يعني إزالة كل ما في الكتب والصحف والمناهج من كون اليهود أعداء لأمتنا، وكسر الحاجز النفسي لنسف عقيدة (الولاء والبراء)، والتهويد القسري لأجيال المسلمين.
[4] هذا بالإضافة إلى المكاسب الكبيرة، التي جنتها دولة يهود من انتعاش الاقتصاد اليهودي، وتفريط الأمة في بناء قوتها ابتهاجاً بهذا السلام الموهوم، بينما العدو مسلح نووياً واقتصادياً وإعلامياً.
خامساً: إن قضية فلسطين قضية إسلامية، لا تخصُّ الفلسطينيين وحدهم، ولا العرب وحدهم، ولا المسلمين في هذا الزمان وحدهم، بل هي قضية المسلمين عامة عربهم وعجمهم إلى قيام الساعة، وكل محاولة لتأطيرها باسم العروبة يعد خدمة لاستراتيجية اليهود، كمل نشرت صحيفة (يديعوت أحرنوت) اليهودية في 11/3/1987م مقالاً جاء فيه: "إن على وسائل إعلامنا أن لا تنسى حقيقة مهمة هي جزء من استراتيجية إسرائيل في حربها مع العرب، هذه الحقيقة هي أننا نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال ثلاثين عاماً، ويجب أن يبقى الإسلام بعيداً عن تلك المعركة..".
أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها.. هبوا لنجدة إخوانكم المستضعفين في فلسطين، خلِّصوا أنفسكم من تضليلات حكامكم وتضليلات الدول الغربية، التي توهمكم بأنكم ضعفاء، وبأن اليهود أقوياء، وما عليكم إلا الخضوع لدولتهم، فلا قِبَل لكم بها، ما دامت دول الغرب والشرق تدعمها، لا تنخدعوا بهذه الأكاذيب (لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون) [آل عمران: 111]، انفضوا أيديكم من الحكام العملاء، ولا يغرنكم منهم الضجيج، فالأمة لم تذق في حكمهم إلا القمع والفقر والإذلال والهزائم، قولوا لحكام العرب والمسلمين: أخرجوا من سجونكم المجاهدين المتلهفين لقتال يهود، الذين تفرَق منهم إسرائيل، وترتجف منهم أمريكا.
أيها الحكام.. كفاكم إذلالاً لشعوبكم المسلمة، لقد عجزتم بعروشكم ودباباتكم وطائراتكم عن قتال اليهود، فما عليكم لو فتحتم حدودكم الموصدة أمام شعوبكم، ليسيلوا كالسيل العرم نحو العدو الغاصب، فيشرّدوا بهم من خلفهم لعلهم يذّكّرون.
أيها الحكام.. لِمَ تصدون عن سبيل الله من أراد قتال يهود، تبغونها عوجاً، أ تبتغون العزة عند أمريكا واليهود؟ فإن العزة لله جميعاً.
أيها المجاهدون في أرض فلسطين ولبنان.. سعِّروا الحرب على يهود، (ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون) [النساء: 104]، فأنتم أفضل الناس سبيلاً، وأصدقهم قيلاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الناس مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله) [رواه الترمذي]، وإن ما حلَّ بساحتكم من قتل وتنكيل، ونصب وهمٍّ وحزن، لا يذهبه إلا ملاحقة اليهود في جحورهم، كما قال نبيكم صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجهاد في سبيل الله، فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله به الهمّ والغمّ) [رواه أحمد والحاكم]. (ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين) [الأنفال: 18].
الموقعون على الفتوى:
الأستاذ/ كمال عثمان رزق
بروفيسور/ أحمد علي الأزرق
الأستاذ/ الصادق عبد الله عبد الماجد
الشيخ/ محمد الفاضل التقلاوي
الشيخ/ محمد عبد الكريم
البروفيسور/ عباس محجوب
الشيخ/ سليمان أبو نارو
الدكتور/ الحبر يوسف نور الدائم
الدكتور/ خضر عبد الرحيم
الدكتور/ عبد الحي يوسف
الدكتور/ القرشي عبد الرحيم
الشيخ/ محمد الأمين إسماعيل
الدكتور/ صالح التوم
الدكتور/ محمد الحسن عبد الرحمن
الدكتور/ العبيد معاذ
الدكتور/ إسماعيل حنفي
الدكتور/ علاء الدين الأمين الزاكي
الشيخ/ مساعد بشير علي
الشيخ/ ياسر عثمان جاد الله
الشيخ/ مدثر أحمد إسماعيل
الأستاذ/ جمال الطاهر الحسن
الدكتور/ بسطامي محمد سعيد
الشيخ/ عماد بكري أبو حراز
الشيخ/ عطية محمد سعيد
الدكتور/ عبد الله عبد الحي
الشيخ/ عبد الرحيم أبو الغيث
الشيخ/ العبيد عبد الوهاب حسن
الشيخ/ الأمين الحاج محمد أحمد
الشيخ/ محمد هاشم الحكيم
الشيخ/ إبراهيم عبد الله الأزرق
الشيخ/ دفع الله محمد حسن
الشيخ/ علي أبا صالح
الشيخ/ محمد سيد محمد حاج
الشيخ/ عمر النقر
الشيخ/ بكري مكيال
الشيخ/ عمر عبد الله عبد الرحمن
----------
الهوامش:
[1] القصص آية 68.
[2] المؤمنون آية 14.
[3] التين 1-3.
[4] الإسراء آية 7.
[5] الاسراء. آية 1.
[6] الانبياء آية 71.
[7] الاعراف آية 137.
[8] الانبياء آية 81.
[9] المائدة آية 21.
[10] سبأ آية 18.
[11] تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/497.
[12] المؤمنون آية 50.
[13] تفسير القران العظيم 3/233.
[14] البقرة آية 143.
[15] ق آية 41.
[16] تفسير الطبري 11/429.
[17] مجموع فتاوي ابن تيميه 27/443.
[18] البقرة آية 114.(/21)
[19] انظر تفسير القرطبيج2 ص 75، وأنظر قاموس القرآن الدامغاني ص321.
[20] رواه البخاري في باب مسجد بيت المقدس ومسلم في الحج والترمزي.
[21] الموطأ 1/109.
[22] مجموع الفتاوي الكبرى 2/59.
[23] رواه البخاري ومسلم.
[24] لابد من التنبيه هنا إلى ان ما اعتاد ترديده كثير من الكتاب والخطباء من أن المسجد الأقصى ثالث الحرمين الشريفين ليس صحيحاً, يقول شيخ الإسلام ابن تيميه (وليس بيت المقدس مكان يسمى حرماً ولابتربة الخليل، ولابغير ذلك من البقاع إلاّ ثلاثة أماكن: أحدها هو حرم باتفاق المسلمين، وهو حرم مكة شرفها الله تعالى ، والثاني حرم عند جمهور العلماء، وهو حرم النبي صلى الله عليه وسلم من عير إلى ثور، بريد في بريد، فإن هذا حرم عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وفيه أحاديث صحيحة مستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم. والثالث: وُجّ وهو واد بالطائف، فإن هذا روي فيه حديث، رواه أحمد في المسند، وليس في الصحاح، وهذا حرم عن الشافعي لاعتقاده صحة الحديث، وليس حرماً عند أكثر العلماء، وأحمد ضعف الحديث المروي فيه فلم يأخذ به. وأما سوى هذه الأماكن الثلاثة فليس حرماً عند أحد من علماء المسلمين، فإن الحرم ما حرم الله صيده ونباته، ولم يحرم الله صيد مكان ونباته خارجاً عن هذه الأماكن الثلاثة) مجموع الفتاوى 27/15.
[25] رواه احمد وابن ماجة (1408)بسند صحيح.
[26] انظر الفتاوي 27/258.
[27] الفتاوي 27/13.
[28] الفتاوي 27/10 – 11.
[29] معجم الأوسط (8230) ورواه الحاكم في مستدركه (8553) ووافقه الذهبي.
[30] رواه البخاري.
[31] رواه أحمد (21226) والبزار وصحح سنده الحافظ ابن حجر رحمه الله.
[32] رواه احمد (21981) وأبو داود (2535) انظر صحيح الجامع الصغير للالباني (7832) والحاكم في مستدركه (8309).
[33] رواه أبو يعلى (6417) والطبراني في الأوسط (47) وهو صحيح انظر مجمع الزوائد 10/263 2640.
* قيل له الاقصى لبعد المساحة بينه وبين الكعبة وقيل لان لم يكن وراءه موضع عبادة وقيل لبعده عن الأقذار والجنائس, والمقدس لمطهر عن ذلك فتح الباري 408.
[34] الفتاوي 27/11 – 13.
[35] الصافات آية 99.
[36] الأنبياء آية 71.
[37] البداية والنهاية. جـ1 / 144.
[38] فتح الباري, لابن حجر 6/408 – 409.
[39] البقرة 127.
[40] الحج 26
[41] البداية والنهاية 1/142.
[42] المذبح عند اهل الكتاب : ما خصص لايقاد البخور ويورد العهد القديم وصفاً مفصلاً له , فيصنع بان يكون طوله ذراعاً وعرضه ذراعاً وارتفاعه ذراعين, وأن يصنع من خشب السنط.. ) سفر الخروج 30 : 1 – 10.
[43] زاد المعاد 1/50.
[44] البداية والنهاية 1/184.
[45] البداية والنهاية1/182.
[46] المائدة آية 21.
[47] البداية والنهاية 1/182.
[48] رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
[49] رواه أحمد 2/325, الطحاوي 2/10 وانظر البداية والنهاية 1/323.
[50] اللآلئي المصنوعة للسيوطي 1/341.
[51] رواه البخاري ومسلم
[52] روى البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب قال: (كنا اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث ان عدة اصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر, ولما يجاود معه إلا بضعة عشر وثلاثمائة مؤمن).
[53] البقرة 251.
[54] فتح الباري 6/408.
[55] فتح الباري 6/409.
[56] الفتاوي 27/351.
* وهكذا سلط الله على بني إسرائيل بسبب بغيهم وعصيانهم جبابرة لا يرقبون فيهم إلاًّ ولا ذمة كما قال وهب بن منية: أوحي الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له أرميا, حين ظهرت فيهم المعاصي, أن قم بين ظهراني قومك فأخبرهم أن لهم قلوباً لا يفقهون واعيناً لا يبصرون وآذاناً لا يسمعون... وأن هؤلاء القوم تركوا الأمر الذي أكرمت عليه اباءهم والتمسوا الكرامة من غير وجهها , أما أحبارهم فأنكروا حقي, واما قراؤهم فعبدوا غيري واما نسّاكهم فلم ينتفعوا بما علموا وأما ولاتهم فكذبوا عليّ وعلى رسلي, وإني أقسم بجلالي وعزتي لأهيجنّ عليهم جيولاً لا يفقون ألسنتهم ولا يعرفون وجوههم ولا يرحمون بكاءهم ولأبعثنّ فيهم ملكاً جباراً قاسياً له عساكر كقطع السحاب.. ) البداية والنهاية 2/31.
[57] سورة الإسراء آية 4.
[58] البقرة آية 259.
[59] البداية والنهاية 2/31.
[60] رواه احمد والترمذي والحاكم, وحسنه الحافظ ابن كثير في التفسير (1/102) وصححه ابن خزيمة وغيره. وهو حديث عظيم في فضل التوحيد والصلاة والصيام والصدقة وذكر الله, وفي آخره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وأنا أمركم بخمس أمرني الله بهن: الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله, فمن فارق الجماعة قيد شبر, خلع ربقة الاسلام من رأسه, إلاّ أن يرجع, ومن دعا بدعوى الجاهلية فانه من جثي جهنم). قيل: وإن صام وصلى؟ قال: (وإن صلي وصام فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله.
[61] الإسراء 4.(/22)
[62] في الحقيقة ليس الرومان هم الذين تنصروا ولكن النصرانية هي التي تروّمت حيث تحولت النصرانية من عقيدة التوحيد إلى عقيدة التثليث!.
[63] النساء 157.
[64] رواه أحمد 1/268 قال أحمد شاكر: واسناده صحيح.
[65] انظر البداية والنهاية 7/55 – 57.
[66] سمي بذلك لأن عمر لما أشرف على بيت المقدس من فوقه كبر وكبر المسلمون معه.
[67] رواه احمد (1/268) قال احمد شاكر: وإسناده حسن,
* الرفض: هو التشيع العقائدي وأساسه موالاة آل البيت والتبرؤ من الصحابة وعلى رأسهم الشيخين أبي بكر وعمر وتكفيرهم.
[68] سير إعلام النبلاء 15/154.
[69] ضحى الإسلام 1/195.
[70] انظر أطلس تاريخ الإسلام لحسين مؤنس ص 268.
[71] الروضتين في أخبار الدولتين 2/200.
[72] تاريخ فلسطين الحديث. د. عبد الوهاب الكيالي ص5.
[73] إسرائيل : جارودي ص 72 عن كتاب أ. شوراني – ثيودور هرتزل.
[74] انظر الصهيونية خير حمادي ص41, حماس الجذور التاريخية والميثاق عبد الله عزام ص19.
[75] الخطر اليهودي ـ بروتوكولات حكماء صهيون ترجمة التونسي, بروتوكول 11ص 143, وأنظر قبل أن يهدم الأقصى, لعبد العزيز مصطفى ص73.
[76] قبل أن يهدم الأقصى 98 -105.
[77] قبل أن يهدم الأقصى 92 – 98, القدس بين الوعد الحق والوعد المفتري , د. سفر الحوالي.
[78] سفر الملوك الثاني 21/12 - 15
[79] سفر أشعيا 6/ 8 - 13
[80] سفر أشعيا 9/ 13 – 17.
[81] المائدة آية 64.
[82] آل عمران آية 181.
[83] الأنعام آية 91.
[84] البقرة آية 61.
[85] النساء آية 155.
[86] المائدة آية 60.
[87] آل عمران آية 110.
[88] البقرة آية 143.
[89] الأنبياء الآيات 105-107.
[90] اغاثة الهفان 2/338.
[91] جاء في الإصحاح (12) أن مما وعد به الرب إبراهيم قوله: (وأبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه، وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض).
[92] إن يهود العالم اليوم، وإن أسموا أنفسهم شعب التوراة، وزعموا أنهم من بني إسرائيل، كي يستدروا عطف النصارى بكذبتهم الكبرى أنهم يهود الأرض المقدسة، وأنهم شعب المسيح عليه السلام، إنما يرجعون في الحقيقة –إلا النزر اليسير منهم- إلى يهود الخزر الذين لا صلة لهم ببني إسرائيل، ولا بالأرض المقدسة، كما أن منهم "الفلاشا"، سكان الحبشة، ومنهم "الألمان" ذو السحنة الألمانية، ومنهم "التامل" أي اليهود السود في الهند، ومن الثابت تاريخياً أن يهود الخزر، الذين هاجروا من روسيا إلى غربي أوروبا هم الذين وجهوا الثورة الفرنسية والأمريكية فتركوا بصماتهم الخبيثة في الثقافة والاقتصاد، والأخلاق والفن في الحياة الأوروبية.
[93] الوعد الحق والوعد المفترى ص22.
[94] آل عمران آية 68.
[95] البقرة آية 124.
[96] الصف آية 7.
[97] الأعراف آية 167.
[98] آل عمران آية 112.
[99] الإسراء آية 8.
[100] البقرة آية 208.
[101] آل عمران آية 103.
[102] الحجرات آية 10.
[103] الأنبياء آية 92.
[104] رواه البخاري ومسلم.
[105] هود آية 36.
[106] التوبة آية 114.
[107] الأعراف آية 128.
[108] الأنفال آية 39.
[109] التوبة آية 111.
[110] التوبة آية 12.
[111] النساء آية 84.
[112] رواه أحمد.
[113] رواه مسلم.
[114] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 2/314.
[115] السابق.
[116] متفق عليه.
[117] مشارق الأنوار 1/540، نقلاً عن فتوى الشيخ حمود السبيعي.
[118] وقصته مذكورة في سنن البيهقي كتاب السير باب التبرع بالتعرض للقتل 9/44، وتفسير القرطبي 2/64، وأسد الغابة 1/206.
[119] متفق عليه.
[120] متفق عليه.
[121] المائدة آية 32.
[122] قواعد الأحكام 1/11.
[123] شرح مسلم 12/187.
* في ذيل هذه الرسالة نص فتوي علماء الأزهر سنة 1956م في الصلح مع اليهود, وكذلك ما صدر عن جماعة من العلماء والدعاة في السودان من فتوى شرعية في حرمة الصلح مع اليهود إبان انتفاضة رجب المباركة سنة 2000م.
[124] النحل آية 69.(/23)
المسجد البابري بين حلو ذكرياته ومرِّ عتابه
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
الذِّكْرَياتُ تَموجُ بين رِحَابِه
وتُعِيدُ في الآفاقِ مُرَّ عِتابه
ونَسَائِمُ التاريخ في سَاحاتِهِ
وندى أزاهِرِهِ عَلى محْرابِه
وترى السّحابَ يحوطُه و النورُ ما
ج خِلاله كالتّاج فوقَ قِبابَه
فتزَيَنتْ تلك الرُّبا بورودِهِ
وتعَطَّرَتْ من سَاحِه وسحابَهِ
وعلى مُصَلاّهُ يَموجُ النورُ منْ
ذِكْرٍ تَردَّدَ أو تُقى أَنْجابهِ
وقَوافِلُ الإِيمان تزحَف نَحْوهُ
ملءَ الزّمانِ تشُدُّ من أَسْبابهِ
تَمضي القُرونُ تُشيدُ من أَمَجادِهِ
وتَمُدُّ من آمالِهِ ووِثَابِهِ
ونداؤه العلويُّ منطلقٌ يُرَدِّ
دُ للدّنا آياً وعِزَّ خِطَابِهِ
ورُؤى مِنَ العَبَق الغنيِّ تضُمّهُ
وتَظَلُّ تَسْكُبُ مِن غنيِّ مِلابِهِ
وتَضمُّهُ وَجْداً عليه لمِا تَرَى
في الأُفْقِ من كَيْدٍ وبَيْن شعابِهِ
وتَضمُّه شَوْقاً وتحنو فَوْقَهُ
فَزعاً وكيدُ المجرِمين بِبَابهِ
***
***
المسْجدُ الزّاهي عَلى تَاريخهِ
تقوى وإِحسانٌ ويُمْنُ رِغَابِه
البابريُّ ! فيا لعزّة مَسْجدٍ
يَزْهو بِعَزَّة أهله و صِحَابِهِ
يا(( بابَر)) الإِسلام ! خُضْتَ ملاحماً
لله تظهر دينه بكتَابهِ
لله درُّك يا (( ظهير الدين ))هـ
ـذي الهند دانت كُلّها تغنَى بِهِ
فملأتَ أرض الهندِ من نور الهُدى
وحَطمْتَ من شِرْكٍ ومِنْ أَنصابهِ
ورفعتَ للرّحمن في ساحاته
قِمَمَ الهُدَى عادتْ بِصَفْوِ لُبَابِهِ
***
***
و بَسَطت للإنسان عَدْل رسالةٍ
أمناً يَفيض على الوَرى برطابهِ
يجني بدنياه حَلالَ معاشه
ويَفوزُ بالأُخرى بِحُسْنِ ثوابهِ
و أزَحْتَ عنه ظلامَهُ بمنائرٍ
لألاءة تزوي كثيف حِجَابِهِ
لتمدَّ بالإِسْلامِ بَرْدَ ظِلالِه
ونَداه بَين سُهوله وهِضَابهِ
فكسا الروابي كُلَّها بوُرودِهِ
هل كانَ أَحْلى من غَنِيِّ إِهابِهِ ؟ !
ما بَيْنَ ياقوت وبَيْنَ زُمُرُّدٍ
ولآلئٍ أَلَقَتْ بِكلِّ قِصابِهِ
أَغْلَى جَواهِرِهِ يَقينُ رسالةٍ
وجَلالُ توحيدٍ وعِزُّ طِلابِهِ
***
***
حتى إِذا وهَنَت عزائمُ أُمة
عَنْ أمِرهَا وغَفَتْ على أعْتَابهِ
وَثبَ الذّئابُ على الرُّبوع وأطلقوا
بالمكر من شِيَعٍ ومن أَحْزابِهِ
وَثَبَ الذّئاب وكلُّ ذئب دونَهُ
متوثّبٌ بعوائِهِ و بِنابِهِ
الإِنجليزُ ! ومَنْ سِواهُمْ مُفْسدٍ
في الأرضِ يُطْلقُ من عواء ذِئابِهِ
المجْرمون جميعُهمْ أخذوا مَنا
هجَ مَكْرِهِ وتَجرَّعُوا من صَابِهِ
و فحيحُ هَاتيك الأَفاعي مِنهُمُ
سمٌّ يفور على شديدِ عَذابِهِ
***
***
أَسَفاً على الهندوسِ كيف تنكّروا
لسماحة الإِسلام أو لرغَابِهِ
لم يَعرِفُوا معنى الأمانِ بغَيرهِ
أبَداً ولا ذاقوا الأسى بِرِحابِهِ
أسفا على الهندوس كيف تَنَمَّروا
وتواثبوا لصراعه وضرابِهِ
ونُسوا سماحة كفّه وعطائِه
ووفاءَ ميثاقٍ وصِدْقَ خِطابِهِ
ومَضَوا إِلى خَصْم ألدَّ مُراوغٍ
ليُضلَّهم منه بريقُ سَرابِهِ
سَقَطوا على شَرَكٍ يَحوكُ حباله
خَصْمٌ بمكرِ خداعِهِ وكِذابِهِ
وتواثَبُوا لجَريمةٍ مَطْويّةٍ
حِقداً تفجَّرَ في سَوادِ عُبابِهِ
***
***
المجرمون على الزّمان عصابَةُ
للشرِّ تَجمْعُ من هوى أوْشَابِه
وهَوىَ العَبيدِ عصابةٌ ركعت إِلى
أَصْنامِهِ وجَثَت إِلى أربابهِ
ألقوا بآلات الدّمَار و أوعَبُوا
بِجُموعِهْم لِدَماره وخَرابِهِ
المسجدُ المجْلوُّ في تاريخهِ
يَهْوي وتهْوي أُمّة بَتُرابِهِ
والمسلمون هوى يَشُقُّ صفوفَهم
مِزَقاً تناثَرُ في هوانِ رِغابِهِ
وغَفَوا على مُرِّ الهوانِ قلوبُهمْ
وَهنُ و عَزْمُهمُ هوانُ طِلابِهِ
وتَداعَت الدُّنْيا فكم من غاصِبٍ
نهبَ الدّيارَ وعاد في أسلابهِ
أو غاصبٍ نهبَ الديارَ ولم يزلْ
يَمْضي إِلى عُدْوَانِهِ ونِهابِهِ
***
***
الساحةُ الخضراءُ أين رُواؤها
غابَتْ على أَطلالِهِ وَ ببابِهِ
تَتلفَّتُ الأَطلالُ أَين جموعُها
غابت ! وأين الزاحفون لِبابِهِ
أيْنَ القِبابُ وأَيْنَ غَابَ أَذانُه
وَيْحي ! أَضرَّبنا طويلُ غيابِهِ
والمؤمنون فأيْنَ عِزّ خُشوعهم
وتِلاوَةُ القرآن في مِحْرابِهِ ؟ !
يا أُمَّة الإِسلام ! مالكِ غِبْتِ في
لَهْوٍ و بينَ طعامِهِ وشرابِهِ
أين الجماهير التي دوّتْ حنا
جرُها له غَضْباً ؟ فيا لِغضابِهِ
أين الدّعاة ؟ ! وكلُّ داعٍ عزمُهُ
خُطبُ تطول فيا لِطول خِطابهِ !
أين (( العزائم )) في الديار وعهدُهم
أن ينهضوا لِضِرابه وغلابِهِ
***
***
كَسروا السيوفَ وحطّموا أَرماحهم
وعدوُّهم متمكِّنٌ بِحِرابِهِ
نَزَلوا إلى الميدان كلُّ سلاحِهم
حُلْوُ((البيان)) ورقّةٌ ((بعتابِهِ))
والمسجدُ الأقْصَى يَئِنُّ وساحُهُ
ما بَيْنَ مِخْلَب ثَعْلبٍ أو نَابِهِ
حَرقوا منابره فكانت صيحة
طُويَتْ على هُونٍ وذلِّ مُصابِهِ
فَتَحُوا به نَفَقاً تطول درُوبهُ
وتَغيبُ قِصَّتُه عَلى أَسْرابهِ
***
***
يا أُمة الإِسلام كم نَفقٍ أَرى
ضِعْنا على ظُلُماتِه ودِرابهِ
(( كشمير)) تَسْكُبُ من دِماءِ رِجَالها
غَضَباً لربِّهمِ و خوف عَذابهِ(/1)
وتَخُوض ملحمةَ الجِهاد بِعَزْمةٍ
لله صَابِرةً لِيَوم حِسابِهِ
تَصِلُ الدِّيارَ وقد تقَطَّع حَبْلُها
بِدَمٍ جَرَى ليُعيد من أنسابِهِ
نَسبٌ مِن الإِيمان لُحْمتُه التُّقَى
و عزيمةٌ مِن جُنْدِهِ وصِلابِهِ
***
***
يا أُمَّةَ الإِسلام ! دُونَكِ ساحَةٌ
فِوّارةٌ بَدَمٍ ودَفْقِ عُبابِهِ
و أمَامَكِ الزَّحْفُ المروِّعُ لِلْعِدا
لَيلٌ تهيجُ به ِ الوُحوشُ بِغابِهِ
خُوضِي مَلاحِمَها بِنهْجِ مُحَمَّدٍ
صلى عَليه الله ، أَو بكتابِهِ
***
***
الرياض ـ الاثنين
18/5/1417هـ
30/9/1996م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان عبر وعبرات .(/2)
المسجد مهد الانطلاقة الكبرى
... بسم الله الرحمن الرحيم
المسجد مهد الانطلاقة الكبرى
إن الحمد لله ، نحمده ونستعيه ، ونستغفره ، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلي الله عليه وسلم.
أما بعد: فإن المسجد مهد الانطلاقة الكبرى التي شهدها تاريخ الإنسان، ولم يعرف في تاريخ أي حضارة ، ولا في سجل أي ثقافة، مسجد اثر في مسار العالم كمسجد محمد صلي الله عليه وسلم وهذا ما سنتاوله بالبحث في النقاط التالية:
أولاً: الرسول صلي الله عليه وسلم يفتتح مدينته ببناء المسجد:
قال الله تعالى: ( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ)(التوبة: من الآية108) .
عندما وصل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة كان أول مشروع قام بتنفيذه في عاصمته طيبة الطيبة أن وضع حجر الأساس لبناء ذاك المسجد ، لتنطلق منه الدعوة الإسلامية، ولتربى فيه الأرواح المؤمنة، ولتهتدي فيه القلوب الصادقة.
قام مسجده صلي الله عليه وسلم ليكون روضة من رياض الجنة، شيخه محمد صلي الله عليه وسلم ، وتلاميذه : أبو بكر وعمر، وعثمان، وعلى، وأبي بن كعب، ومعاذ بن حبل، وزيد بن ثابت، ومواده المقررة وحى سماوي خالد، أما مطلبه فأن تكون كلمة الله هي العليا.
ثانياً: عمار المساجد هم أولياء الله عز وجل وأحبابه من خلفه:
يقول سبحانه: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليوم الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة:18) .
وعمارة المسجد عند أهل العلم على ضربين:
العمارة الحسية: بالبناء والتشييد، وأجرها عظيم لمن قصد بها وجه الله عز وجل.
والعمارة المعنوية: بالصلاة والذكر والدعاء وقراءة القرآن الكريم.
وكلا المعنيين وارد في هذه الآية ، فلا يعمر هذه البيوت إلا أولياؤه سبحانه وتعالى، ولا يحق للزنادقة، ولا يصح للملاحدة، وليس للمنافقين طريقة إلى عمارة المساجد؛ لأن الذين يعمرون المساجد يريدون أن يعمر هذا الدين وأن يستمر وأن ينتشر ليصل نوره إلى كل مكان، فهم يبنون قلاعاً من الانتصار للرسالة الخالدة العظيمة، رسالة محمد صلي الله عليه وسلم، وهم يشيدون معاقل لرفع راية التوحيد خفافة في كل شبر من الأرض.
أما أعداء الله فلا يريدون ذلك ولا يتمونه؛ لأن المساجد تهدد بقاءهم، وتحول بينهم وبين شهواتهم ، وتنهي تواجدهم في الأرض ، فهم لذلك لا يريدون عمارتها وإنما يسعون جاهدين إلى هدمها وإزالتها من الأرض، ويتمنون عدم وجودها، ولذلك وصفهم الحق سبحانه وتعالى بقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ )(البقرة: من الآية114).
ثالثاً: الله عز وجل يشيد بالمساجد وعمارها من الرجال المؤمنين:
يقول سبحانه: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور:36،37).
فهؤلاء رجال ورد ذكرهم بصفة المدح، وكأن غيرهم ليسوا برجال.
رجال يعمرون بيوت الله سبحانه.
رجال يحافظون على الصلوات الخمس جماعة في المسجد.
رجال يحرصون على تلقي العلم الشرعي النافع في بيوت الله.
رجال يحمون هذه البيوت أن تغلف أو تهدم أو تزال أو تضيع قداستها.
فالمساجد بيوت الله عز وجل في الأرض ، وهو سبحانه الذي أذن أن ترفع، وهي أنقي بقاع الأرض ، واطهر مساحات الدنيا، وفيها تتألف القلوب المؤمنة وتتنزل الرحمات وتهبط الملائكة، وتحل السكنة والخشوع.
بنفسي تلك الأرض ما أحسن الربى
وما احسن المصطاف والمتربعا
*ومن هنا نري أن عمارة المساجد تكون بإقامة الصلاة فيها، وحلقات الدرس ، ومجالس الذكر ، ومدراسة القرآن وتلاوته وحفظه ، وبذلك يتحقق المعني الصحيح لعمارة المساجد، وتعود لها مكانتها حيث كانت شبيهة بخلايا النحل، فلا تكاد تخلو من راكع أو ساجد أو ذاكر لله سبحانه ، أو قارئ للقرآن، أو طالب للعلم، أو عام يعلم الناس. وليس هذا فحسب ؛ بل إن كثرة التردد عليها وتحمل المشاق في سبيل ذلك أمارة الإيمان الكامل الذي يستحق الثواب الجزيل .
رابعاً : حق على الأمة الاعتناء بمساجدها لأنها مظهر للرقي والفلاح:(/1)
كنا أمة مبعثرة قبل ظهور الإسلام ، فلما بعث محمد صلي الله عليه وسلم جمعنا في أعظم جامعة آخت بين قلوبنا، وجمعت كلمتنا، ووحدت شملنا ، ولمت شعثنا ألا وهي المسجد ، فكان حقاً علينا جميعاً أن نظهر هذه المساجد بأجمل مظهر يعرفه الناس فنعتني بها أكثر من بيوتنا ومنازلنا. فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (( أمر الرسول صلي الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب)).
وتنظيفها يعني: إزالة الأذى منها ، أما تطيبها فيكون بانبعاث الرائحات الندية من العطور والبخور، وما شابه ذلك بن جنباتها، لتشتاق إليها الأرواح المؤمنة، وترتاح بها الأنفس الزكية.
ومن هنا كان علينا جميعاً الاهتمام بشئون المساجد. والحرص على إقامتها في كل مكان تدعو الحاجة الى وجودها فيه، وخاصة في أماكن التواجد البشري، والعمل الجماعي، وعلى الطرق للمسافرين، وفي محطات الوقوف والانتظار، والمطارات، ودور التعليم، وأماكن النزهة والاصطياف، والحدائق وغيرها، ومن المهم جداً معرفة أنه لا يكفي أن تقام المساجد هنا وهناك دون عناية بشئونها أو اهتمام بخدمتها، أو حرص على جمال مظهرها، وإعدادها لاستقبال المصلين في كل حين.
خامساً : خطورة تحويل القبور إلى مساجد والمساجد إلى قبور:
وهذا لن يكون إلا إذا ضيعت الأمة رسالة ومبادئها، واختل نهجها، واضطربت مسيرتها، عندئذ يتحول المسجد إلى مقرة، وتنقلب المقبرة الى مسجد . يصبح المسجد خاوياً على عروشة ولا يؤدي رسالته العظيمة للأمة، فلا حلقات علم، ولا تدريس، ولا وعاظ، ولا خطابة، ولا إرشاد ،ولا توجيه. في حين يصبح القبر مسجداً يغض بالخرافات والبدع والضلالات . يقول الرسول صلي الله عليه وسلم : (( قاتل الله اليهود اتخذوا قبور الأنبياء مساجد)) وزاد مسلم : (( والنصارى)) . وللشيخين من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( أولئك قم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً )). وفيه : أولئك شرار الخلق عند الله)).
لماذا فعلوا ذلك ؟! لأنهم عطلوا مكان عبادتهم ، فقادهم الشيطان إلى المقبرة ليؤسس بيتاً للشرك، وثكنة للإلحاد، وداراً للخرافة والضلال.
وفي صحيح مسلم أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال: (( صلوا في بيوتكم ولا تتخذونها قبوراً)).
ولعل المسلم يلمح انحراف الأمة في آخر عهدها عن المسار الطبيعي الذي سار عليه رسولنا عليه الصلاة والسلام، وأصحابه الكرام في بناء المساجد وتعميرها بالعبادة والشريعة والدعوة الى الله، فنجد أن كثيراً من المساجد أصبحت خاوية على عروشها إلا من الصلوات الخمس، وعطلت الرسالة إلا في بعض الجزئيات.
وأصبحت المساجد في البلاد، وعند كثير من الشعوب الإسلامية دوراً للخرافة والبدع والضلالات والإنحراف عن التوحيد الخاص ، فقد وقع ما حذر منه عليه الصلاة والسلام حيث قال(( فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)).
سادساً : دعوة غير المسلمين في المسجد للمصلحة أعظم ما تهدى به القلوب وتهذب به الأرواح ويطاع فيه الله:
فالكافر إذا قدم على المسلمين، والذمي إذا دلف على أرضهم، وكان من المصلحة أن يدخل إلى المسجد فلا بأس بذلك ـ إن شاء الله ـ فعسي أن يلين قلبه ولعله يري الجموع السائرة إلى المسجد، ويستمع لكلام الله فيؤمن ويهتدي. قال تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ)(التوبة: الآية6) .
إذا كان ذلك كذلك فليغير المسلم أن يدخل المسجد ليسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (( بعث النبي صلي الله عليه وسلم خيلاً فجاءت برجل فربطوه بسارية من سواري المسجد))
وهذا الرجل ثمامة بن أثال سيد بني حنيفةالذي ما أن سمع كلام الله يتلي في المسجد حتى نزل النور على قلبه فأسلم))
وكذلك وفد ضمام بن ثعلبة ـ رضي الله عنه ـ على رسول الله صلي الله عليه وسلم ودخل مسجد فتعلم منه أصول الإسلام.
كما وفد عدي بن حاتم الطائي على الرسول صلي الله عليه وسلم في المسجد وكان منتصراً فأسلم وهاده الله.
سابعاً : المسجد منتدى أدبي ترسل منه الكلمة الصادقة:
إن أعلى منابر الأدب، وأحسن مواقع التأثير، وأعظم قنوات الاتصال ، تكون في المسجد؛ لأنه ليس مكاناً للزجر العنيف ولا للمواعظ والتخويف فحسب، ولكنه إلى جانب ذلك منتدى للكلمة الطيبة المباركة، ومنطلق للبيت الشعري الجميل، ومكان للقصة الوعظية الهادفة، وميدان للمناقشة المجدية المثمرة، ومساحة للحوار الهادئ المفيد.
وقد ورد عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن عمر بن الخطاب ، وهو عملاق الإسلام وفاروقه رضي الله عنه ، مر بحسان بن ثابت شاعر الإسلام وهو ينشد في المسجد، فلحظ إليه عمر، فقال حسان: كنت أنشد فيه، وفيه من خير منك ـ يعني رسول الله صلي الله عليه وسلم. (1)ولقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يقرب المنبر لحسان بن ثابت في مسجده ويقول : (( اهجم وروح القدس يؤديك)).(/2)
أما إذا تحول المسجد إلى مكان للأشعار الساقطة ؛ وما فيها من مديح كذاب، وهجاء مقذع ، وكلمات بذئية ، وصار إلقاء الشعر عادة مستمرة ، وكثر ذلك حتى طغي على قراءة القرآن، وطلب العلم ، والذكر ، وأداء الطاعات؛ فإنه ينهي عنه، فعند أبي داود في السنن مرفوعاً إليه عليه الصلاة والسلام ، أنه قال : (( من سمعتموه ينشد الشعر في المسجد فقولوا له : فض الله فاك)).
ثامناً : لا مكان للغوغائيين والمشاغبين في المسجد:
نحن أمة النظام ، وأمة الهدوء ، وأمة الرتابة، وأعظم المظاهر الحضارية والمنشآت المعمارية في حياتنا هي المساجد، أو قرية من القرى ، أو واحة من الواحات، فلينظر إلى مساجدها ، وليرى ما مقدار اهتمام الناس بهذه المساجد؟ وما هي علاقتهم بها؟ حينها يحكم على هذا الجيل أو هذه الطائفة من الناس ومدي رقيهم الحضاري الإسلامي.
ولذلك فإن للمساجد في الإسلام حقوقاً ، ولروادها آداباً ينبغي لكل مسلم معرفتها والتمسك بها، والعمل بمقتضاها، فلا يجوز لرواد المساجد أن يرفعوا أصواتهم مشاغبين أو مشوشين؛ لأنها مكان سكينة والهدوء والإنضباط . ولأن المسلم يقف فيها أمام مالك الملك ، وملك الملوك سبحانه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك؛ فإن المساجد لم تبن لهذا)).
إذ لو فتح الباب لأصبح المسجد مكانا للدعاية الإعلان ، ورفع الصوت والضوضاء ، وهذا بدوره مخالف لهدي محمد صلي الله عليه وسلم ، ومناقض لرسالة المسجد ومهمته في الحياة.
تاسعاً: مساجدنا أسواق لتجارة الآخرة لا لتجارة الدنيا:
تجار الآخرة هم عمار المساجد، وتجار الدنيا هم عمار الأسواق ، والمساجد في الإسلام أسواق للآخرة ، بل هي أسواق الجنة وميادين التجارة الرابحة مع الله سبحانه، لأنها أسواق الأرواح المؤمنة والقلوب المطمئنة.
أما الأسواق الدنيا فهي أسواق البطون والشهوات، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: (( إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك)).
والمعني أنه ليس لإنسان أن ينصب سوقاً فوق رؤوس المصلين في المسجد، ولا أن يعرض تجارته وسلعة عليهم في هذا المكان ، لأنهم فيه مشغولين بتجارة الآخرة وأرباح الجنة، ولأن في ذلك تعطيلاً لهذه الأوقات الثمينة ، وصرفاً للقلوب عن بارئها ، وإشغالها بالدنيا وزخرفها الزائل الزائف.
عاشراً : المسجد هيئة لتأديب القلوب وتهذيب الأرواح وليس ثكنة لإقامة الحدود والتعزيز:
فالقلوب لا تتأدب إلا بالتربية المتأنية ، والكلمة اللينة، والقدوة الحسنة ، وهذه كلها وجدت في مسجده عليه الصلاة والسلام، أما أن تتحول المساجد إلى دور للتعزير والضرب وأماكن لتأديب المخطئين، فهاذ ما لا يليق بها ولا يتفق مع دورها العظيم في حياة المجتمع، عن حكيم بن حزام ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (( لا تقام الحدود في المساجد ولا يستفاد فيها)).
ولذلك فإن قطع يد السارق ، وجلد الزاني البكر، ورجم الزاني الثيب، وجلد شارب الخمر وغيرها من الحدود والعقوبات الشرعية لا تكون في المساجد؛ لأن معني ذلك أنها سوف تتحول من منازل للرحمة والسكينة إلى ثكنات للتخويف وقلاع لتأديب المجرمين والعصاة الذين يمكن تأديبهم في مكان آخر غير المسجد.
• أنظر أخي المسلم إلى روعة الإسلام وجماله وكماله، حينما جعل المساجد أماكن لتربية النفوس وتهذيبها وتربيتها التربية الإسلامية الفاضلة؛ فإذا ما عصت هذه النفوس وتمردت ؛ فإن علاجها وتأديبها يكون خارج المسجد.
حادي عشر: من المسجد تصرف الأدوية الربانية وفي المسجد يعالج المرضي:
لم تعرف صيدليات العالم، ولا عيادات التاريخ الإنساني أعظم من صيدلية محمد صلي الله عليه وسلم وعيادته المباركة التي كتب عليها:
(وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (الشعراء:80) وما ذلك إلا لأن دواءها وعلاجها يصل مباشرة الى القلوب فيشفيها بإذن الله.
وكثيراً ما كان المرضي يأتون إلى مسجده صلي الله عليه وسلم الذي كان مكاناً لعلاج المرضى، وبخاصة في أيام الحروب والمعارك، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (( أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق في الأكحل ـ وهو عرق في وسط الذراع ـ فضرب النبي صلي الله عليه وسلم ـ له خيمة في المسجد ليعوده من قريب)).(/3)
وهذا يعني أن الجريح أو المريض له أن يعالج في المسجد لمصلحة، وليكون قريباً للإمام وأعيان الناس فيتمكنون من عيادته إذا اقتضي الحال ذلك، ثم لأن المسجد مكان عباده، وبقعة طاهرة تحف بها الملائكة ، وتغشاها السكينة، فيكون المريض بذلك قريباً من دعوات إخوانه المؤمنين ، فلعل ذلك يكون سبباً في شفائه وبرئه وسرعة استعادته لعافيته، وهذا سبب خفي قل من ينتبه له أو يتذكره، ومن هنا نري أن المسجد مكان طبيعي لعلاج مرضي القلوب إضافة إلى أنه من أحسن البقاع وأضلها في علاج الأبدان ـ بإذن الله سبحانه.
ثاني عشر : ليس لأحد أن يسيء الأدب في بيت الله عز وجل:
فبتيه سبحانه وتعالى محترم ومقدس، وينبغي أن تكون له مكانة سامية ، ومنزلة رفيعة، وحصانة شرعية تليق به، وكيف لا يكون كذلك وهو بيت مالك الملك، وملك الملوك؟! إن ملوك الدنيا لا يرضون ولا يسمحون أن يساء الأدب في بلاطهم وقصورهم وبيوتهم، ولا أن ترفع الأصوات بحضرتهم، ولا أن يكثر الضجيج في أماكن تواجدهم ، ولا أن تحدث حركة أو لفظة غير مسئولة عندهم.
فالله سبحانه وتعالى أولي بالاحترام والتعظيم والتقديس في بيوته جل شأنه.
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (( البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها)).
فلا يحق للمسلم أن يبزق في المسجد، ولا أن يتفل فيه، ولا أن يضع فيه أذى أو قذراً، ولا أن يجعله مكاناً للقمامة والزبالة، وقصاصات الأوراق، وفضلات الأشياء ، فإن هذا السلوك وهذا التصرف ينبئ عن قلة إيمان من فعل ذلك ، وعن سوء أدبه وعن عدم احترامه لبيت الله عز وجل.
ثالث عشر: شغل الناس بزخرفة المساجد على حساب رسالتها وآثرها في الأجيال:
يعمل المسجد على تخريج مسلم على درجة عالية من الوعي والمعرفة، فالمفسر للقرآن يخرج من المسجد، وكذلك المحدث والفقيه والخطيب والمفتي والمجاهد، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، والحاكم بشرع الله، والمنفذ لأوامر الله، والداعي إلى سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم، ولذلك فإن المسجد في عصور السلف الصالح خرج قادة الدنيا، وأصحاب التأثير في تاريخ الإنسان ، فالخلفاء الراشدون، والعبادلة الأربعة، والقادة الفاتحون والشهداء في سبيل الله ، جميعهم كانوا من المهاجرين والأنصار وغيرهم من الثلة الخيرة، والنخبة المصطفاة الذين كانوا عباداً للحجر فأصبحوا قادة وزعماء للبشر، وكانوا رعاة للغنم فأصبحوا سادة للأمم ، جميعهم تخرجوا من مسجد محمد صلي الله عليه وسلم الذي كان مبنياً من الطين، ومسقوفاً بجريد النخل.
* فماذا فعلت المساجد التي بنيت بأرقي الخامات؟ وصممت على أحدث التصميمات؟.
* ماذا فعلت في حياة الجيل وهي التي خططت تخطيطاً بديعاً؟!
* هل أثرت في مسيرة إياك نعبد وإياك نستعين؟!
* هل أخرجت لنا وللأمة المسلمة علماً نافعاً؟!
* هل وقفت سداً منيعاً أمام حملات الغزو الفكري والتيارات الهدامة؟!
* هل بعثت الفكر من مرقده وأيقظته من سباته؟!
* هل شحذت الهمم وحركت المشاعر في النفوس؟!
* هل بثت النور في قارات الأرض؟!
* وهل عبرت منها الكلمات الصادقة عبر المحيطات؟! لا وألف لا . وذلك أكر يؤسف له.
* أما لماذا؟ فلأننا عمرنا مساجدنا بالبناء ، ولم نعمرها بالذكر والدعاء، ولأننا عمرناها بالزخارف والألوان ولم نعمرها بتلاوة القرآن . عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( لا تقوم الساعة حتى يتباهي الناس في المساجد)). وزاد بعضهم : (( ثم لا يعمرونها إلا قليلا)).
وهذا هو الواقع الحالي في تعاملنا اليوم مع المساجد التي أصبحت مظاهر، واصبحت آيات في حسن البناء وروعة الهندسة، تعجب الناظرين وتسرهم في مظهرها إلا أنها في مخبرها وجوهرها لم تؤد رسالة ولم تحقق هدفاً .فعقم جيلها وسكنت ألسنتها، واختفت حلقاتها، وانطفأ نورها، وانعدم دورها.
والمباهاة في عمارة المساجد من علامات الساعة، لأن الأمة إذا ضعفت ومرضت واهتمت بالمظهر على حساب الجوهر، وبالقشور على حساب اللباب، والكم على حساب الكيف، أفل نجمها ودب فيها الوهن والخور والعجز,
روي ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( ما أمرت بتشييد المساجد)) فما بعث عليه الصلاة والسلام معمارياً يبني المساجد ويزخرفها ويهتم بنقوشها في حين ينسى عمارتها المقصودة وغايتها المنشودة، وهي عمارة الدعوة والتوجيه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل زمان ومكان.
إن محمد صلي الله عليه وسلم بعث في فترة كانت العرب في حاجة إلى عمارات ودور وقصور، ومحتاجة إلى مصانع وصوامع، ومحتاجة إلى دور رعاية، وبيوت إغاثة ؛ ولكنه صلي الله عليه وسلم وجد الأمة في حاجة ماسة وعاجلة إلى أحياء القلوب والأرواح، وزرع بذور العقيدة في النفوس ،فاهتم بالأهم قبل المهم، وحرص على زرع النور في القلوب حتى تشرق وتبصر وتستيقظ ، حينها يكون بإمكانها إن تبني وأن تعمر وأن تشيد ، وأن تقيم ما شاءت في الأرض.(/4)
رابع عشر: المؤمنون جميعاً خدم لبيوت الله، وهذه الخدمة تاج فخار ومنجم أجر:
فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (( عرضت على أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد)). والخدمة لغير الله عز وجل فيها ما فيها من المآخذ، أما خدمته جل وعلا في بيوته ولأوليائه ولأحبابه من المؤمنين الصادقين الصالحين فهي شرف عظيم، وهي عنوان العز في الدنيا ومداعة للأجر والثواب في الآخرة.
فالرسول صلي الله عليه وسلم أمر بتنظيف المساجد من الأقذار ومن كل ما يؤذي المسلمين، ورغب في ذلك كثيراً ، وحث عليه السلام على تطييبها بالروائح الطيبة، وجعل هذه المهمة مهمة لكل مسلم حتى لا ينفرد أحد بهذا الشرف الكبير وحده، وحتى تتاح الفرصة للجميع فيشاركون في تنظيف المساجد وتطييبها وتجهيزها للمصلين.
والقذارة هنا هي : ما يقع في العين أو الماء من تراب أو وسخ أو نحو ذلك، فكان على المسلم أن يحرص على نظافة بيت الله، وأن لا يهملها مهما كانت صغيرة؛ بل عليه أن يلتقطها وأن يزيلها من بيت الله، وقد روي أن الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ كان في مجلس الحديث فرأي قذاة في المسجد ، فقطع الدرس وأخذها ثم وضعها في جيبه . فما خرج من المسجد رمي بها.
خامس عشر: مساجدنا لها علينا تحية الشوق والإجلال:
عن أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ((إذا دخل أحدكم المساجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)). وهاتان الركعتان يسميها أهل العلم(( تحية المسجد)) فللمسجد في الإسلام تحية يحيا بها ،كما يحيي المسلم أحب حبيب أو أقرب قريب.
وهذه التحية تحية متميزة وليست كغيرها من أنواع التحايا؛ فهي تربي المسلم على أدب إسلامي رفيع ، فدخول المسلم غلي المسجد ليس كدخوله إلى مكتب من المكاتب، أو سوق من الأسواق ، أو منزل من المنازل، او شارع من الشوارع، وإنما هو دخول إلى مكان مقدس، وبقعة طاهرة تختلف عن غيرها من الأماكن والبقاع. ولذلك كان من اللائق أن يحيا المسجد بركعتين طيبين يصليهما المسلم قبل أن يجلس لتكونا ـ بإذن الله ـ فاتحة خير وبداية أنس مع الله جل شأنه.
بل إن بعض أهل العلم يذهب إلى وجوب هاتين الركعتين، ويستدل على ذلك بأن الرسول صلي الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم أقام رجلاً في أثناء خطبة الجمعة جلسولم يركع ركعتين وقال له: ((قم فصل ركعتين)).
وتصلي تحية المسجد على الصحيح حتى في أوقات النهي، وكم هو عظيم وجميل أن يبدأ المسلم جلوسه في المسجد بطاعة وقربي إلى الله سبحانه وتعالى؛ ليعلن بهما عن السمع والطاعة والخشوع والخضوع لرب هذا البيت جل جلاله. إضافة إلى أن هاتين الركعتين قطعاً للحديث بين المصلين وانتظارً للصلاة في خشوع ووقار وسكينة.
سادس عشر : القرارات العسكرية الخطيرة في حياة الأمة تصدر من المسجد:
كان المسجد في عهد المصطفي صلي الله عليه وسلم مكاناً لإعلان الحرب على أعداء الله، ولرفع راية الجهاد ولاستنهاض الهمم، وإيقاظ المشاعر، وتحريك القلوب ، وبث الحماس في النفوس، كان عليه الصلاة والسلام يعلن البيانات العسكرية من على منبره مباشرة، ولذلك كانت انتصاراتنا هائلة في بدر، وأحد، والفتح، واليرموك، وحطين، وعين جالوت، وغيرها من معرك الإسلام الفاصلة وانتصاراته العظيمة.
كان عليه الصلاة والسلام يعلن حالة الحرب من المسجد، ويتكلم عن ملابسات المعركة وعن ظروفها، وعن الشهداء وأخوالهم في المسجد. فقد أعلن عن معركة أحد يوم الجمعة،وبدأت أحداثها يوم السبت، وتكلم عليه الصلاة والسلام عن الشهداء في مؤتة من على منبره وكأنه يعيش أحداثها لحظة بلحظة.
وكان يرسل السراي والغزوات من المسجد، فيأتي بالقائد ليسلمه الراية من على المنبر، فتكون الغزوة مباركة والسير مباركاً. وكان عليه الصلاة والسلام يعلن نتائج المعارك من المسجد،وهذا ثابت في سيرته صلي الله عليه وسلم ، وذكر ذلك أهل العلم كصاحب زاد المعاد، وابن هشام في سيرته وغيرهما من أرباب السير ونقلة التاريخ.
وقال المهلب: (( المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه)).
سابع عشر:ميراث المصطفي صلي الله عليه وسلم يوزع في مساجد المسلمين:
لم يورث المصطفي صلي الله عليه وسلم درهماً ولا ديناراً ، ولم يترك قصوراً ولا حدائق ولا بساتين ولا منشآت حضارية، وإنما ترك لأناء الأمة وحياً سماوياً ، وسنة مباركة، فميزنا عن الأمم وشرفنا بها على بقية الشعوب. ترك لنا كتاباً عظيماً وسنة مطهرة ، وتعالي ماً ربانية، وشريعة خالدة لا تختلط بالتراب ولا تدس في الطين، وإنما هي تنزيل من رب العالمين.(/5)
هذا الميراث العظيم الذي تركه عليه الصلاة والسلام يقسم في المساجد وحلق العلم والصلوات الخمس وخطب الجمع والدروس والندوات والمحاضرات . والمساجد ـنسي الأماكن لهذه المهمة الجليلة خصوصاً عند اجتماع المسلمين للصلاة جماعة في كل يوم خمس مرات، وعدد أكبر يوم الجمعة تلقي عليهم خطبة الجمعة بما فيها ذكر، وتعاليم دينية ، وإرشادات ربانية، وقد كان عليه الصلاة والسلام يعقد مجالس العلم في مسجده، ويتزاحم المسلمون عليها ويتنافسون في القرب من المعلم الجليل صلي الله عليه وسلم ، حرصاً على تمام الاستفادة.
روي الطبراني بإسناد حسن عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه مر بسوق في المدينة ، فوقف عليها وقال : يا أهل السوق، ما أعجزكم!!
قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال : ذاك ميراث النبي صلي الله عليه وسلم يقسم وأنتم هاهنا، ألا تذهبون فتأخذوا نصيبكم منه. قالوا: وأين هو؟!
قال: في المسجد ز فخرجوا سراعاً، ووقف أبو هريرة لم يبرح مكانه حتى رجعوا فقال لهم: ما لكم؟
فقالوا : يا أبا هريرة، قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نر شيئاً يقسم.
قال: وما رأيتم؟ قالوا: رأينا قوماً يصلون، وقوماً يقرءون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام.
فقال لهم أبو هريرة: ويحكم! فذاك ميراث محمد صلي الله عليه وسلم إنه لم يورث درهماً ولا ديناراًوإنما ورث العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
ولذلك كانت مساجد السلف الصالح مباركة ، وعلامة بركتها هذه الأجيال العلمية الممتلئة بالمثل الحية في ضمير التاريخ، السائرة في كوكب الأرض لا تطمس ولا تنس، ولذلك وجد منهم أرباب المذاهب ، وعلماء الحديث، واساطين الفقه، وشعراء الفضيلة، وغيرهم من المفتين والوعاظ والخطباء والحكام والقضاة، كلهم تخرجوا من المسجد.
وليس هذا فحسب بل إن المصلي الذي يعتاد المساجد العامرة بالدروس والمحاضرات وحلق الذكر ، ومجالس العلم لا تكاد تمر عليه فترة زمنية بسيطة إلا وقد تعلم الكثير من أمور دينه ودنياه، هذا إذا كان مجرد مستمع للدروس مواظب على المحاضرات، أما إن كان طالب علم يحرص على السماع وتسجيل الفوائد ، وحفظ الآثار فإنه سيصبح يوماً ما مثل شيخه في العلم وسعة الاطلاع.
ثامن عشر: المسجد مركز اللقاءات العلمية، ومكان استقبال الوفود الدعوية:
كان النبي صلي الله عليه وسلم يستقبل في المسجد الوفود التي ترد عليه لأغراض مختلفة كطلب العلم ، أو إعلان إسلام، أو عقد معاهدة، او طلب معونة، أو نحو ذلك من إغراض . وكان المسجد أشبه بقاعة الاستقبال الرسمية الدائمة، وكان جاهز ومهيأ لجميع الوفود من مختلف البلاد والأقطار. فقد استقبل النبي صلي الله عليه وسلم وفد نجران، كما استقبل وفداً من بني تميم، وقدم عليه وفد من قبائل كندة، وغيرهم من الوفود وأبناء القبائل الذين أستقبلهم عليه الصلاة والسلام وسمع كلامهم، وعلمهم أصول الدين الإسلامي، واستضافهم ، فكانت المدينة المنورة عارمة باصناف الناس الذين دخلوا في دين الله أفواجاً وبخاصة بعد فتح مكة، وإسلام ثقيف، وفراغة صلي الله عليه وسلم من معركة تبوك. وفد عليه الجميع وجلسوا إليه واستمعوا له، وهو يعلم ويبني ويوجه، وينظر ويؤسس دولة الإسلام ، ويرفع البناء عالياً شامخاً باذخاً.
وحبذا لو أعيد إحياء هذه السنة النوبية المباركة، فتعقد اللقاءات ، وتنظم المؤتمرات في المساجد، سواء كانت فكرية، أو علمية، أو تربوية ، لتأسيس المناهج وإعادة بناء الثقافة، وإعداد المقررات، ودراسة المشاريع والمخططات .
وحبذا لو انطلقت من المساجد لتكون مباركة خيرة سديدة راشدة، ولتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
وحبذا لو عقدت مؤتمرات المسلمين في المساجد، لأنها لما عقدت في القاعات ذهبت بركتها وانطفأ نورها ولم تؤد رسالتها . مؤتمرات كثيرة لكن بلا بركة، فتخرج قراراتها ميتة. وصدق من قال في شأنها:
(( اتفقوا على ألا يتفقوا ، واختلفوا قبل أن يأتلفوا ، وتفرقوا قبل أن يلتقوا)) أما لقاءات المسجد فهي تلكم اللقاءات التي عقدها رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم ومن بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، ومن بعدهم من سلفنا الصالح عبر التاريخ والتي كانت قرارات سليمة، وكانت نتائجها عظيمة، ومكاسبها جسيمة شهد بها القريب والبعيد.
تاسع عشر: مسجد واحد فعل ما لم تفعله جامعات الدنيا:
ذلك المسجد هو مسجده صلي الله عليه وسلم الذي اختاره ليكون جامعة للدنيا بأسرها، ومنارة يهتدي بها في الأرض ، ومركزاً للتعليم والتوجيه والإرشاد ، ومكاناً للتفقه في علوم الدين والدنيا ويكفيه فخراً أنه مهبطاً لوحي السماء على خير الرسل والأنبياء .(/6)
ذلك المسجد الذي قال فيه الحق سبحانه: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ_)(التوبة: الآية109) ذلك المسجد الذي كان جامعاً لأمور الدين، وجامعة لشئون الدنيا. وليس أدل من ذلك من أنه ظل معقلاً من معاقل التربية والتعليم لعدة قرون، تمكن من خلالها من تخريج الأكفاء لإقامة دولة الإسلام الممتدة من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب ، وإمدادها بالعاملين الصادقين المخلصين في كل مجال من مجالات الحياة.
فقد كانت المساجد تخرج الخلفاء والأمراء، والقواد والزعماء ، والمحدثين والفقهاء، والمفسرين، ورجال القضاء وأساتذة اللغة، والنبلاء والأبطال والشهداء والمفكرين والعلماء والمفتين، والأدباء والدعاة والشعراء وغيرهم ممن سمع لهم التاريخ، وشهد لهم الزمن ، بأنهم أصحاب التأثير العظيم في مسار عجلة الزمن، وفي ثقافة الأمم وحضارة الشعوب، والتاريخ خير شاهد بأن أذن الدهر ما سمعت بجامعة حولت أمة كانت لاهية لاغية عابثة الى أمة راشدة قائدة، رائدة ماجدة، تنطق بكتاب ربها سبحانه، وتحكم بالعدل، وتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر.
كل هذه الإنجازات العظام انطلقت من مسجده عليه الصلاة والسلام.
عشرون : الشباب الطموح ورسالة المسجد:
إن مهمة أبناء الإسلام وشباب الإيمان أن يكونوا دعاة إلى الله سبحانه ، ينطلقون من المسجد لتكون انطلاقتنا الكبرى مباركة، وصحوتنا المعاصرة راشدة.
من المحراب ننطلق أسوداً حين تنبثق
بدين الله والإيمان
ورسالة الشباب المسلم تبدأ من المسجد، فهو مكانهم المعهود ، ومركزهم المبارك، لأن الخطيب المصقع إذا أراد أن ينفع أمة محمد صلي الله عليه وسلم فإن عليه أن يصعد المنبر، وأن يوجه الكلمات تلو الكلمات والعبارات بعد العبارات ليحيي الله سبحانه بها قلوب الناس. ولكن.. ما للشباب يصدفون عن الخطابة ويصدون عنها؟!
أهو الورع؟ إذا كان ذلك كذلك فإنه ورع بارد أكله حب الخمول، والبعد عن مظاهر الدنيا. وهو ورع لم نسمع بمثله في آبائنا ، فمحمد صلي الله عليه وسلم أزهد الناس، وأروعهم ، وأصدقهم ، وأبرهم، ومع ذلك فقد تولى خطابة الأمة فأسمع الأجيال كلمة الحق ، وألهب حماسها، وعاش مسيرتها، ومن بعده خلفاؤه الراشدون، والأئمة الصالحون، فمن أين علموا أن الخطابة مصدر للشهرة، ومرتكز لحب الظهور؟ ومن أفتاهم بذلك؟ حتى يتركوها لأناس لا يجيدونها، لأنهم ليسوا من فرسانها، ولا يقومون بها حق قيامها، فأصبحت المنابر فقيرة لا تؤدي رسالة، ولا ترفع أمة ، ولا تصلح خطأ ، ولا تهذب جيلاً ، ولا تقدم منهجاً، ولا ترد متهوراً .
ومن المسئول عن إشغال كثير من المنابر في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي بغير أهلها، وتركها لأناس هم عالة على الكتاب الكريم والسنة المطهرة؟ فلا يجيدون أداءها ولا يحسنون اختيارها. ولا يقومون بآدابها ، ولا يعيشون ظروفها الزمانية والمكانية.
إن هذا كله أدي إلى أن تهجر المساجد، ويقل فيها الراكع والساجد، حتى أصبحت خاوية على عروشها، وما أن تؤدي فيها الفريضة حتى تغلق بعدها لتصبح أشبه بالقبور.
فهل لطلبة العلم أن يعيدوا إحياء هذه السنة في مساجدهم ،وأن ينظموا للناس حلقات للعلم، ودروساً للفقه والتفسير، ومجاميع للتلاوة، وهكذا حتى تعود أصالتها، وعمقها ، ونورها وعزها.
ويا حبذا لو تفضل القائمون بالإشراف على الندوات الفكرية والثقافية، والاجتماعية، بتحويلها الى المساجد بدلاً من القاعات والمسارح التي وإن كبرت مساحتها فإن أثرها صغير ونفعها بسيط.
أما لماذا كانت القاعات بهذا المستوى؟ فلأنها لم تود دورها في الحياة عندما دخلها المهرجون والمروجون لكل فكر ساقط ومنهج منحل.
ولذلك فلابد من العودة إلى المساجد التي يدخلها المؤمنون الصادقون أصحاب النفوس الزكية ، والدعوات الربانية، والأفكار الإيمانية ، والأيادي المتوضئة.
** مقترحات:
تعد المساجد مكاناً مناسبا لتعارف المؤمنين وتآلفهم ، فلا يتعارف أهل الحي، أو سكان الحارات أو أبناء القرى إلا في المساجد، فيعلمون بمرض المريض ويعودونه ، ويعرفون غياب الغائب فيسألون عنه ، ويلتمسون حاجة المحتاج فيمدون له يد المساعدة.
فيا حبذا لو عقدت مجالس للأحياء والحارات في مساجدها، يكون من أبرز مهامها توثيق عرى الأخوة، وروابط المحبة بين رواد المسجد من المؤمنين ،وتفقد المتخلفين عن حضور صلاة الجماعة، ورعاية المحتاجين، ومد يد العون للمساكين، والشفاعة لمن أراد الشفاعة ، وتنظيم اللقاءات الدورية والزيارات الأخوية في المنازل ، والإشراف على المناسبات العامة، وإعداد فقراتها وبرامجها كالأعياد والأفراح ونحوها.
ويا حبذا لو تنقل شباب الدعوة في مساجد الأحياء مذكرين واعظين.(/7)
ويا حبذا لو تم إيجاد مكتبة مناسبة في كل مسجد؛ تشتمل على الكتب المقروءة والأشرطة الإسلامية، حتى تكون مرجعاً مناسباً وسريعاً للأئمة وطلبة العلم، تشتمل على الكتب المقروءة والأشرطة الإسلامية ، حتى تكون مرجعاً مناسباً وسريعاً للأئمة وطلبة العلم، ومكاناً مناسباً لتربيتهم وتثقيفهم واطلاعهم.
إهداء الشريط الإسلامي النافع، والكتيب الإسلامي المفيد لرواد المسجد ولأبناء المسلمين.
دعوة العلماء والدعاة والمشايخ لإلقاء الدروس والمحاضرات ، وعقد الندوات والإجابة عن التساؤلات.
إيجاد صندوق مالي يدعم من أهل البذل والعطاء تكون مهمته رعاية المحتاجين ، ومد يد العون للمجاهدين ، والعناية بمتطلبات المسجد وحاجاته الضرورية.
فتح أبواب المساجد ليلاً ونهاراً للمصلين، والدارسين والمرتادين، والسائلين، والمحتاجين وأبناء السبيل، والمعدمين.
توفير المتطلبات اللازمة للمسجد، كوسائل الإضاءة والتكييف، والأجهزة السمعية، ونحوها من الخدمات الحضارية ، كالهاتف والصيدلية للإسعاف الأولي وأدوات التنظيف.
تخصيص مكان مناسب ليكون مصلى للنساء، وإن كانت صلاتهن في البيوت أفضل، ولكن ربما كان في ذلك نفع إذا رغبن في حضور الدروس والمحاضرات.
وهناك أربع ملاحظات تتكرر في كثير من المساجد فيا حبذا لو تنبه لها:
الأولي: تكلف بعض الأئمة والخطباء والمؤذنين، وهذا أمر مخالف للسنة، فتجد المؤذن يتكلف في مخارج الحروف، ونبرات الصوت بشكل يثقل على النفوس، وتشمئز منه الأرواح. قال تعالى: ) وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)(صّ: الآية86) ويقول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : (( نهينا عن التكلف)). وجاء عمر بن عبد العزيز كما روى عنه البخاري أنه سمع مؤذناَ يمطط في صوته، فقال له : (( أذن أذاناً سمحاً وإلا فاعتزلنا)).
وتجد الإمام يتكلف في قراءته، ويتعب نفسه في تقليد إمام آخر، ويحاول استحداث صوت ليس بصوته ، وطريقة ليست طريقته، حينما يذهب الخشوع وتجف الدموع، وتشمئز النفوس ، والحذر الحذر من هذا الصنيع.
وبعض الخطباء يتكلف في إلقاء الخطبة فيتقطع صوته من على المنبر ، وكأنه يريد حنجرة غير حنجرته، وأداء غير أدائه ، وشخصاً غير شخصه، فمرة يزيد ومرة يرعد، ومرة يهدد، وأخري يتوعد، ويرفع صوته في مواطن خفض الصوت، ويخفضه في مواطن رفعه، إلى غير ذلك من ألوان التكلف المنهي عنه في مجموع النصوص الشرعية.
الثانية: كثرة الملصقات والإعلانات في المداخل والمخارج والممرات، وتعالي اللوحات، وهذا الأمر لا يخلو من حالتين:
أن تكون هذه الملصقات إعلانية خاصة بالمحاضرات النافعة والدروس العلمية وحلقات تحفيظ القرآن، وما شابه ذلك من أعمال الخير ، ففي هذه الحالة يكون الأمر ساغاً ومقبولاً بل يكون من وسائل الدلالة على الخير والدعوة إليه.
أن تحتوي هذه المادة على دعايات تجارية أو شبه تجارية، وهذا من شأنه إشغال المصلين عن الخشوع في الصلاة، إضافة إلى أنه مخالف لما كان عليه سلف الأمة الصالح. والواجب أن يكون لهذه الملصقات والإعلانات التجارية ونحوها مكان آخر غير جدران المساجد لغير ما وجدت له فهذا أمراً لا مصلحة فيه وينبغي التنبه له.
الثالثة: البعض يخطئ بحسن نية وسلامة مقصد فيعلق بعض الصور الفوتوغرافية ونحوها للمجاهدين والمنكوبين في أنحاء العالم الإسلامي بحجة أن يراها المصلون، وأن يشاهدها أبناء الإسلام؛ فيسارعون إلى دعمهم ومد يد العون لهم ، وتفريج عسرهم، وتقريب يسرهم.
وهذا خطأ ، فالصور مهما كانت لا تدخل المساجد، وينبغي أن تبعد عن بيوت الله.
الرابعة: الزينة المتكفلة في الزخرفة والفرش، وهذا مدعاة لإلهاء المصلين وإشغالهم بكثرة تخطيطاته، وتنميقه، وألوانه ، ونقوشه.
فيا حبذا لو روعي عدم المبالغة في تزيين المساجد وزخرفتها جدراناً أو سقوفاً أو محاريب.
ويا حبذا لو كانت فرش المسجد خالية من الرسوم، والأوان الصارخة، والكتابات ونحوها.
دور المرأة في بناء المسجد وعمارته:
لاشك أن للمرأة دوراً في بناء المسجد وعمارته، فهي شقيقة الرجل وهي نصف المجتمع، ولذلك فإن الإسلام لم يهملها وإنما اعتني بها وحياها، وكان عليه الصلاة والسلام يعظ النساء في المسجد ويعلمهن، وكن يحضرن دروس وخطبة صلي الله عليه وسلم بل إنه جعل لهن يوماً من أيام الأسبوع.
وكان النساء يأتين في الصفوف الأخيرة من المسجد، ليحضرن الصلاة وهن متحجبات، وغير متطيبات ، ولا فاتنات ، ولا مفتونات، ثم ينصرفن قبيل انصراف الناس من المسجد.
ومن هنا فعلى المسلمين أن يوجدوا مكاناً مناسباً ليكون مصلي للنساء، ليحضرن الصلاة، وليسمعن الخطب، والمحاضرات، والدروس العلمية، وان يكون هذا المصلي مستقلاً وخاصاً بالنساء، وله باب خاص يبعدهن عن مزاحمة الرجال في الدخول وفي الخروج.(/8)
ففي المساجد تتلقي الأم المسلمة تربيتها الإسلامية الحقة، وتذهب عنها الأمية، ويزول عنها الجهل والانحراف العقدي، ويستقيم سلوكها، إلا أن هناك بعض الملاحظات التي ينبغي مراعاتها ومنها:
على المرأة المسلمة ألا تتطيب وتتعطر إذا قصدت المسجد، فهذا أمر منهي عنه لما فيه من الفتنة.
وعليها ألا تزاحم الرجال، فإن ذلك سبب للفتنة وطريق للمعصية.
وعليها ألا تأتي إلى المسجد إلا مع محرم؛ فإن بعض النساء تأتي ومعها سائق، والخلوة بالأجنبي محرمة، فتكون قد حرصت على نافلة فارتكبت محرماً والعياذ بالله.
وعلى المرأة المسلمة إذا حضرت إلى المسجد ألا تنشغل بالحديث مع أخواتها، والسلام عليهن، ففي ذلك صرف للقلوب عن الذكر وقطع للخشوع، وتشويش على الناس.
وعليها ألا تحضر أطفالها الصغار إلى المسجد؛ فيتحول إلى روضة للأطفال، ويسبب ذلك إزعاجاً للمصلين، وإيذاءهم والتشويش عليهم، وربما تلطيخ المسجد بالنجاسات.
فيا اخوة الإسلام، ويا شباب الإيمان ، هذا هو المسجد مهد الانطلاقة الكبرى.
فهل لنا أن نعيد هذه الانطلاقة؟
وهل لنا أن نعيد للمسجد دوره العظيم في الحياة؟!
وهل لنا أن نعيد له مكانته السامية في النفوس؟!
وصلي الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
عائض بن عبد الله القرني(/9)
المسجد والتربية السياسية
خالد أحمد الشنتوت
*
abothaer_s@hotmail.com
للمسجد مكان الصدارة في المجتمع المسلم ، قال تعالى : (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين ) [ آل عمران : 96 ] . قال ابن كثير يرحمه الله [1/383] : ( يخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس ، أي لعموم الناس لعبادتهم ونسكهم ، يطوفون به ويصلون إليه ، ويعتكفون عنده ، ( للذي ببكة ) يعني الكعبة التي بناها إبراهيم عليه السلام ) .
كما أن رسول اللهr لم يستقر به المقام عندما وصل إلى حي بني عمرو بن عوف في قباء حتى بدأ ببناء مسجد قباء ، وهو أول مسجد بني في المدينة كماذكر ابن كثير يرحمه الله( 3/209).وعندما واصل سيره إلى قلب المدينة ( يثرب - يومذاك ) كان أول عمل قام به هو بناء مسجده (1). وهذا يدل على المكانة العظيمة للمسجد في المجتمع المسلم ، فهو بيت الله ، وكفاه شرفاًبهذاالنسب (وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً ) [ الجن :18 ] .
وظائف المسجد في المجتمع المسلم
للمسجد وظائف متعددة في المجتمع المسلم أولها وأهمها إقامة الصلاة وهي الركن الثاني من أركان الإسلام ، حيث يلتقي المسلمون خمس مرات في اليوم والليلة ، بعد أن يسمعوا النداء إليها مذكراً بتوحيد الله ( الله أكبر .... أشهد أن لاإله إلا الله .... ) .
والوظيفة الثانية للمسجد التربية الإسلامية ( الروحية والعقلية والسياسية والجسدية ... ) ونشر العلم ، وتعليم المسلمين ما ينفعهم في آخرتهم ، ثم ما ينفعهم في معاشهم . وعندما انطلق العلم من المسجد كان مباركاً خالصاً لله عزوجل ، ومن ثم نشأت الكتاتيب في المساجد ، ثم تحولت إلى مدارس وجامعات ([2]).
وفي المسجد تعقد المؤتمرات لمناقشة أحوال الأمة وما يواجهها من مشكلات ، وفيه تتخذ قرارات الشورى وفيه يجتمع أهل الحل والعقد لرسم السياسة العليا للمجتمع ، كما كان في عهد رسول الله r ، والخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم .
ومن المسجد كان العلماء يسيرون الجيوش المسلمة للدفاع عن المسلمين ، فهذا ابن تيمية والعز بن عبد السلام - يرحمهما الله- يقودون المسلمين لمواجهة التتار ، وحتى أثناء الحملة الفرنسية على مصر كان علماء الأزهر يقودون المسلمين في مصر لمواجهة الفرنسيين مثل عبدالله الشرقاوي ، والإمام أحمد الدردير ، وكان للأزهر دور كبير في ثورة (1919) ضد الإنجليز ووقفت الدوريات العسكرية الإنجليزية أمام الأزهر لتمنع العلماء والطلاب من المظاهرات ([3]) .
هذه بعض وظائف المسجد في المجتمع المسلم ، ولايسمح المقام للتفصيل ، لأننا سنعود للحديث عن التربية السياسية في المسجد :
الصلاة والتربية السياسية
وللصلاة فوائد كثيرة منها التربية السياسية التي تربي الفرد المسلم ليكون مواطناً صالحاً في المجتمع المسلم ، ويمكن تعريف التربية السياسية بأنها : إعداد المواطن الصالح للمجتمع المسلم ، الذي يعرف واجباته فيؤديها تقرباً لله عزوجل ، ويعرف حقوقه فيطالب بها بالطرق المشروعة ، ومن المسلمات أن الإنسان لا يعيش بدون مجتمع ، والمجتمع سابق على الفرد ، فلايوجد الفرد إلا ضمن مجتمع ، ولا يستطيع الفرد أن يحقق وجوده الإسلامي إلا ضمن المجتمع ، وثلاثة أرباع الفرائض والواجبات الإسلامية لاتتم بدون مجتمع مسلم ([4]) .
المسجد وصلاة الجماعة
وللمسجد أهمية كبيرة في تماسك المجتمع ليبقى حياً كالجسد الواحد كما وصفه رسول الله عندما قال : [ مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ] ([5]) . وكيف يتراحم المسلمون إذا لم يرَ بعضهم بعضاً !!؟ لذلك كانت صلاة الجماعة ليلتقي المسلمون خمس مرات في اليوم والليلة ، ويعيش الفرد المسلم متفاعلاً مع المجتمع ، ولاينعزل عنه .
( إن أهم رسالات المسجد لقاءات المؤمنين في رحابه خمس مرات يومياً في عبادة وتذاكر وتراحم ، وتعاون ، متماسكين كصفوفهم في الصلاة ، وصلاة المسلم في المسجد أفضل من صلاته في بيته أو سوقه ، فعن أبي هريرة t عن النبي r قال : [ صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً،وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لايخرجه إلا الصلاة ،لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه خطيئة ، فإذا دخل المسجد كان في صلاة ماكانت الصلاة تحبسه ، وتصلي عليه الملائكة مادام في مجلسه الذي يصلي فيه ، اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ، مالم يحدث فيه ] ([6]). ويتعلم المسلم في المسجد الكثير ، ومنه اتباع النظام والتعود عليه ، عند تسوية الصفوف ، القدم بالقدم ، والكتف بالكتف ، كما يتعلم التواضع ، فالفقير بجوار الغني ، كتف بكتف ، وقد يكون الإمام أقل الناس مالاً ، والمأموم أكثر منه ثراء ([7]) .(/1)
وقد رغّب رسول الله r في صلاة الجماعة ، وحث المسلمين عليها فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله r قال : [ صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة ]([8]).وعن أبي هريرة أن رسول الله قال:[ لو يعلم الناس مافي النداء والصف الأول،ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا،ولو يعلمون مافي التهجير لاستبقوا إليه ، ولو يعلمون مافي العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً] ([9]).
هذه الأحاديث الشريفة وغيرها كثير ، تحض المسلمين على صلاة الجماعة في المسجد ، لأن في صلاة الجماعة طاعة لله ورسوله ، ثم تربية روحية ، وتربية سياسية ينتج عنها التكافل الاجتماعي والتوادد والتراحم ، حتى يصبح المسلمون كالجسد الواحد .
الإمام والمصلون في المسجد
ولصلاة الجماعة في المسجد قيم ومعاني إسلامية كبيرة وكثيرة ، منها هذا الموقف العظيم ، حيث يصطف المصلون خلف الإمام ، والإمام أقرؤهم لكتاب الله ، وليس أغناهم ، أو أعظمهم جاهاً ، أو أشرفهم نسباً ، وكلهم ينفذون تعليماته رغبة في ثواب الله عزوجل ، يتابعونه ولايسبقونه ، يركعون بعد أن يركع ، ويسجدون بعد أن يسجد ، يطيعونه طاعة لله عزوجل ، ورغبة في ثواب الله عزوجل عندما يقبل صلاتهم .
وقد يدخل المسجد مسبوق أقرَأُ من الإمام ، فيلتحق بالجماعة حالاً ، وقد يدخل المسجد أمير والإمام شاب يافع فيلتحق بالجماعة فوراً ، وينفذ أوامر الإمام في الصلاة ، لأن المسلم يعلم جواز إمامة المفضول ، وما أعظم هذا المعنى في المجتمع المسلم ، فالإمام في الصلاة وهي أعظم شعائر الإسلام يجوز أن يكون مفضولاً ، وفي المصلين خلفه من هو أفضل منه ، وأحق منه في الإمامة ، ومع هذا تجوز إمامة المفضول ، وصلاة الجميع صحيحة مقبولة إن شاء الله . فمتى ينتبه المسلمون إلى هذا ، فينظرون إلى الإمامة أي إمامة بأنها تكليف وليست تشريفاً ، والمهم أن يوجد إمام ، فلا صلاة جماعة بدون إمام ، ولامجتمع مسلم بدون إمام . وإمام مطاع يتقرب الناس إلى الله بطاعته كما يتقرب المصلون إلى الله بطاعة إمامهم في الصلاة . وينظر إليه المواطنون في المجتمع ، كما ينظر المصلون إلى إمام الصلاة .
وقد يخطأ الإمام إمام الصلاة بالقراءة فيرده أقرب المصلين إليه ، بصوت لايكاد يسمعه غيره، وما أشبه هذا بتقديم النصيحة إلى أمير المسلمين ، فالأمير يخطأ لأنه بشر ، والمسلم مأمور بنصيحة الإمام كما وصى رسول اللهr : [ الدين النصيحة ، قلنا لمن ؟ قال : لله وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم ] ([10]) . ولا خير في أمة لاتنصح لحاكمها ، ومسؤولية العلماء والمصلحين في نصح الحكام أكبر وأعظم ، ومن آداب النصيحة أن تكون سراً ، قال بعضهم : من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة ، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه ، والمؤمن يستر وينصح ، والفاجر يهتك ويعير .
خطبة الجمعة والتربية السياسية :
ومن أكبر جوانب التربية السياسية في المسجد خطبة الجمعة ، عندما يكون الخطيب كفؤاً لها ، حيث يجتمع لصلاة الجمعة مالا يجتمع في صلاة الجماعة ، وكثير من المسلمين يتقاعسون عن صلاة الجماعة ، ولكنهم يحضرون صلاة الجمعة ، وأمام هذا العدد الكبير فإن الخطيب الداعية يستطيع أن يبث الوعي السياسي في أذهان المسلمين من خلال خطبة الجمعة ، عندما يعالج قضايا الساعة معالجة إسلامية ؛ محددة بكتاب الله وسنة رسوله r ، ومن نافلة القول أن للإسلام حكم في كل قضية مستجدة ، ويجب أن يعرف المسلمون حكم الإسلام فيها ، وخطبة الجمعة من أعظم الوسائل لتعريف المسلمين بحكم الله عزوجل في تلك المستجدات . ومن منا لا يذكر الشيخ عبد الحميد كشك يرحمه الله ، و أثره في بث الوعي بين المسلمين من منبر يوم الجمعة .
ومن آداب صلاة الجمعة أن يغتسل المسلم ويلبس ثياباً نظيفة ويتطيب ، ويبكر إلى المسجد ، وينصت المصلون إذا صعد الإمام المنبر ، ويستمعون له ، وإنه لمنظر رائع عندما ترى الألوف من الناس ينظرون إلى الخطيب صامتين يسمعون كلامه ، فقد أخرج البخاري يرحمه الله عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال قال رسول الله r : [ لايغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من الطهور ، ويدهن من دهنه ، ويمس من طيب بيته ، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ، ثم يصلي ماكتب له ، ثم ينصت إذا تكلم الإمام ، إلاغفر له مابينه وبين الجمعة الأخرى ]( [11]) .
فما أعظم هذا الملتقى الأسبوعي حيث يلتقي المسلمون ، ويتصافحون بعد الصلاة ، وقد وعظهم الخطيب ، وذكرهم بما يحيي القلوب ، كما علمهم حكم الله في قضية من قضايا الساعة.
المسجد والانتماء:
يبحث الفتى عن الرفقة لأنها تغذي حاجة نفسية ملحة عنده ، وينتقي أقرانه من الفتيان المشابهين له في الطباع ، ويختارهم ممن يكثر لقاؤه بهم ، وأقران المسجد يلتقي بهم خمس مرات في اليوم والليلة ، بالإضافة إلى درس تحفيظ القرآن ، ومن خلال هذه المعايشة ينتقي الفتى المواظب على المسجد أقرانه من رواد المسجد .(/2)
وليتمكن العاملون في المسجد من الإشراف على هؤلاء الفتيان تشكل لهم أسر مسجدية يشرف عليها الإمام والمدرس ومن يعاونهم من أهل الحي ، وتهدف هذه الأسر المسجدية ، إلى توفير جماعة أقران صالحة للفتى ، حيث يمارسون أنشطتهم ضمن المسجد ، وتحت إشرف العاملين فيه ([12]).
يقول الشيخ محمد قطب يحفظه الله : ( لم يعد الفتى متمركزاً حول ذاته ، إنما صار مشغولاً بالآخرين ، ومن أين يبدأ الإصلاح ، ومن هذا الخيط يسعى الشباب إلى ( الانتماء ) ، كما تتسارع الجماعات والأحزاب إلى جذب الشباب إليها من هذا الخيط ذاته ([13]) .
ويقول أيضاً : ( لابد من انتماء الشباب إلى الجماعة ، لأن هذا الشعور الجماعي فطري لدى الإنسان ، ولأن الحاجة إلى الانتماء من الحاجات الأساسية لدى الشباب . ) ([14]).
وعندما ينتمي الشاب إلى المسجد يكون انتماؤه إسلامياً ، ويسد الطريق على الأحزاب العلمانية ، والهيئات الملحدة ،وغيرهم التي تخرب عقائد الشباب.
الهوامش:
*
باحث في التربية الإسلامية
[1] عبد الله قادري ، دور المسجد في التربية ، دار المجتمع جدة 1407 ه ، ص 65 . وانظر كامل سلامة الدقس ، دولة الرسول من التكوين إلى التمكين ، ص 434 .
[2] عبد اللطيف بن دهيش ، الكتاتيب في الحرمين الشريفين وما حولها ، ط 1 ، مكتبة النهضة الحديثة ، مكة المكرمة ، 1406ه ص 15 .
[3] علي محمد مختار ، دور المسجد في الإسلام ، دعوة الحق ، جمادى الأولى ، 1402ه ، العدد 14 ، ص 78 بتصرف .
[4] خالد شنتوت ، كيف نربي أولادنا على الشورى ، ص5 .
[5] البخاري 1/27، ومسلم 2586 .
[6] البخاري 2/113، ومسلم 649، وغيرهما .
[7] علي محمد مختار ، ص 48 بتصرف .
[8] البخاري 2/109في الجماعة ، ومسلم رقم 650في المساجد وغيرهما .
[9] البخاري 2/116، ومسلم رقم 437 ، وغيرهما .
[10] صحيح مسلم ، رقم ( 55 ).
[11] صحيح البخاري ، 2 / 208 في الجمعة .
[12] خالد الشنتوت ، تربية الشباب المسلم ، . ص 70 .
[13] محمد قطب ، منهج التربية الإسلامية ، 2 /259 .
[14] المرجع نفسه ، ص 278 .(/3)
المسجد الأقصى
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
المسجدُ الأقصى رفيفُ حَنِينِه ... ... رَيَّا نَسِيمٍ بالأًرِيج مُحَمَّل
المسْجِدُ الأقْصَى على رَبواتِه ... ... و رحَابِه قَصص الهُدى المتنَزِّلِ
نورٌ مع التاريخ مُؤْتَلِقُ به ... ... يَغْنى بلألأة الهُداةِ وينجلي
مَهْوى قُلوبِ المؤمنين و قِبْلَةٌ ... ... أولى على حَقٍّ نَدِيٍّ مُخْضَلِ
وربى ملألِئَةُ يَشعّ بها الهُدى ... ... من كلِّ رُكْن بالبَهاءِ مُجَلَّلِ
شَعَّتْ بأنوار النبُوَّة و ازدَهَتْ ... ... بمكبِّرٍ في سَاحها و مهلِّل
ضَمّت ميادين الجِهادِ و فوّحَت ... ... بالعطِر مِنْ دمِ صادقٍ مُسْتبْسِلِ
هي ملكُ أُمّةِ أحمدٍ و جنودِه ... ... والسائرين على هُداهُ الأمْثَلِ
صفّاً بَنَتْهُ رسالةٌ فعلا بها ... ... للهِ ما تبني بذاك وتعتلي
... *** ... * ... *** ...
وتلفَّتَ الأقصى و بيْنَ أنينِه ... ... وحنينِهِ شكوى و صرْخةُ أعْزَلِ
وكأنَّ صرخَتَه تغيبُ مع المَدَى ... ... يُطْوى الصّدى ويغيبُ كلُّ مؤمَّل
ودمٌ يسيلُ كأنّه عَبقُ الجنا ... ... نِ ونفْحَةُ الأمَلِ النديّ الأجْملِ
ودمٌ يسيل ! و دمعةٌ تنسَابُ في ... ... عُتبى على صمتٍ مُبينٍ مُذهِلِ
ودمٌ يَسِيلُ ! ولَفْتَةٌ ! فأَشَاحَ عَنْ ... ... سَاحٍ تَمُوجُ على هَوَانٍ مُخْجِل
المسجِدُ الأقْصَى ! فيا لأَنينِه ... ... وحنينهِ و إِسارِه المتذَلَّل
... *** ... * ... *** ...
وتلفّتَ الأقْصى ! و مكّةُ بالهوى ... ... ترْنو وطيبةُ ، بالحنينِ الأوَّلِ
لله درُّ منائرٍ طَلَعَ الهُدى ... ... منْها وعمَّ الكوْنَ بالنورِ الجلي
المسجدُ الأقصى ! و لهْفَةُ مكّةٍ ... ... وحنينُ طيْبَةَ ! يا منائر أقْبِلي
شُدِّي على العَهْدِ الموثّقِ و انهضي ... ... للهِ في زحْفٍ أبَرَّ مُعَجَّل
زحفٍ يَضمُّ المؤمنين ! يشقُّ دَرْ ... ... بَ النّصر ! يجْلو من مناهُ و يجْتَلي
الكون كلُّ الكونِ فوْقَ قبابها ... ... نورٌ يموجُ وآية الله العَلي
*** ... * ... ***
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· من ملحمة الإسلام من فلسطين إلى لقاء المؤمنين .(/1)
المسلم العلماني وليد غير شرعي! ...
صبحي مجاهد ـ إسلام أون لاين
"المسلم العلماني" وليد غير شرعي!
"أنا مسلم علماني"، مقولة أصبحت تتردد في الآونة الأخيرة على ألسنة بعض المسلمين، سواء في البلاد الإسلامية، أو في غيرها من البلاد التي يمثل المسلمون فيها أقلية، برزت أول ما برزت خلال اللقاءات التي تعقدها القنوات الفضائية مع بعض المسلمين الذين يعرِّفون أنفسهم بهذه الصفة.
وقد أثار هذا الأمر اهتمام لجنة العقيدة والفلسفة -إحدى لجان مجمع البحوث الإسلامية المصري- ودفعها لمناقشته باعتباره قضية جديدة من نوعها تتعلق بعقيدة المسلمين.
أول من تحدث في هذا الموضوع هو الدكتور مصطفى الشكعة مقرر اللجنة، حيث صدَّر طلبه الذي رفعه إلى أعضاء اللجنة بما لوحظ في بعض القنوات الفضائية من تردد مصطلح "المسلم العلماني"، ووصف البعض نفسه به.
مرفوض عقديًّا
ولقد كان رأي لجنة العقيدة أن الإسلام دين متكامل مكتف بذاته، ولا يحتاج إلى وصف آخر يلحق به، يتردد بين حين وآخر، وعليه فإن مصطلح "المسلم العلماني" مرفوض عقديًّا.
ولكن ما هو رأي بقية العلماء في هذا الأمر؟ وهل المسلم بحاجة إلى وصف العلمانية كما يقول بعض المسلمين في الغرب؟ أم أن الأمر هو مجرد إقحام لمصطلحات من أجل زعزعة الإيمان في نفوس المسلمين، وطمس معالم الهوية الإسلامية؟!.
بداية يرى الدكتور طه جابر العلواني - رئيس مجمع فقهاء الشريعة الإسلامية بأمريكا - أنه لا بد من البحث عن جذور مقولة "المسلم العلماني" من أجل معالجة أسباب ظهورها. ويوضح أن الذين يجاهرون بمثل هذا المصطلح ويطلقونه على أنفسهم إنما يقصدون أنهم لا يؤمنون بأن الدين قد ترك للناس نظاما سياسيا، وإنما ترك عقيدة ونظام عبادة وتنظيما للعلاقات، وذلك بقصد ترسيخ نوع من التجاهل للتنظيم الإسلامي في جانب المعاملة، مؤكدا أن مواجهة ذلك لا يكون بتكفير هؤلاء، وإنما لا بد من الحوار معهم؛ لأن معظمهم يصر على الإيمان، وهناك حديث معاذ المشهور الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة"، وبالتالي لا يمكن تكفير من يصف نفسه بالعلمانية.
ويستطرد الدكتور علواني كلامه قائلاً: "إن من يطلقون على أنفسهم المسلمين العلمانيين ينفون وجود الدولة الإسلامية على مستويات، حيث هناك من ينفي وجودها ككيان سياسي، فإذا قال أحدهم بأنه ليس في الإسلام دولة، فإنه يقصد النظام السياسي، ومثل هؤلاء بحاجة إلى حوارات داخلية معهم لكي تتبلور الأمور، لكن المؤسف أن المسلمين في حوارهم ليس لديهم القدرات المناسبة للحوار الداخلي الذي بدأه بعض الإخوة بين التيار القومي بما فيه من علمانيين، وبين التيار الإسلامي من أجل الإصلاح، مؤكدا أنه لا بد من الحوارات كي تتضح الأمور بشكل أفضل لمن يطلقون العلمانية على أنفسهم ويعتبرونها جزءًا من عقيدتهم كمسلمين، وذلك بدلاً من التكفير وإبعاد الآخر؛ لأن التكفير لا يفيد في شيء".
ويركز الدكتور طه جابر العلواني على نقطة هامة في المسألة عند مواجهة من يقولون بالعلمانية مع الإسلام، وهي أنه لا يمكن القول مباشرة إن الإسلام لا يعرف العلمانية؛ لأن الغرب يدعي الآن أنه تعلم العلمانية من فلسفة ابن رشد، ويقول: إنه أخذ يعلم الناس في جامعة قرطبة كيف يفرقون بين الدين والدولة، مشيرا إلى أن هذه الدعوة تعد قضية في غاية الأهمية لا تنتهي برفع شعارات لمواجهة أمر المسلمين العلمانيين، وإنما لا بد من اجتهادات تتابع مسيرة البشرية، وكيف سارت العلاقة بين الشرائع والنظم، مع تحديد عناصر أي مشروع فكري أو نهضوي يكون قادرا على تجنيد كل طاقات الأمة في مواجهة الأفكار والمصطلحات الحديثة التي تستهدف اقتحام العقيدة لدى المسلمين.
ويختتم الدكتور علواني كلامه قائلا: "إنه لا بد أن ننمي الحوار بين المسلمين، بحيث يشترك فيه أهل العلم، وليس أصحاب المشاريع السياسية، مع قوى التيارات الحديثة المتأثرة بالتيارات الحضارية التي اجتاحت منطقتنا، بشرط معرفة الخطوط الحمراء، وغيرها القابل للاجتهاد، مع التركيز على وحدة الأمة لتكون قادرة على مواجهة كافة التيارات التي تجتاح أمتنا".
اعتراف غير مقبول
الدكتور مصطفى الشكعة عضو مجمع البحوث الإسلامية، وأحد المتخصصين في المذاهب والتيارات الإسلامية، يشير إلى أنه لا يمكن قبول العلمانية كجزء من عقيدة المسلم، حيث إن العلمانية ليست منسوبة للعِلم الذي يعد أساسا زيادة لإيمان المسلم كما يعتقد البعض، وإنما هي شيء آخر لا علاقة له بالإسلام، بل إنه يحارب الإسلام، مؤكدا أن البعض يقوم بمحاولات مستميتة من أجل فرض تلك العلمانية على العالم الإسلامي، وأن بعض هذه المحاولات نجحت حيث تحولت بعض الدول الإسلامية إلى العلمانية.(/1)
ويضيف: "إن العلمانية يراد من تطبيقها في الأصل محاربة الإسلام بصفة خاصة دون غيره من العقائد، وإن كانت في مجملها ضد الأديان السماوية جميعها؛ لأنها تهمش الدين وتقطع أي علاقة بينه وبين الحياة"، موضحا أنه بناءً على ذلك فإنه لا يمكن الاعتراف بوجود مسلم علماني، وخاصة أن الإسلام نظام متكامل ليس بحاجة إلى إضافات، إلا أنه في الوقت نفسه لا يمكن الحكم على من يقول من المسلمين بعلمانيته بأنه غير مسلم؛ لأنه لا يعلم بقوله بأنه أنكر معلومًا من الدين بالضرورة.
وصف مشتبه
أما الشيخ راشد الغنوشي، المفكر الإسلامي، ورئيس حركة النهضة التونسية المقيم ببريطانيا، فإنه يرفض أيضا أن يكون المسلم علمانيا أو أن يجعل العلمانية جزءا من عقيدته، ويؤكد قائلاً: "لا ينبغي للمسلم أن يطلق على نفسه أنه مسلم علماني حتى لا يلحق لأوصافه وصفًا مشتبها حمال أوجه، وخاصة أن من مقاصد العلمانية ما هو مناقض للإسلام".
ويوضح أن العلمانية مفهوم متعدد، ولكن ما يتم التركيز عليه فيها حاليا هو أن العلمانية تعني أن الدولة لا تنصر دينًا على دين، بل تجعل كل الأديان متساوية، وهو معنى تستفيد منه الأقليات الدينية في العالم، مشيرا إلى أن السبب في ظهور مصطلح العلمانية بين بعض المسلمين راجع إلى مشكلتنا في العالم الإسلامي، حيث إن الدولة تتدخل وتستغل الدين وتوظفه لصالحها، وتمنع غيرها من أن يقوم على خدمته.
العلمانية هي الحل..
من جانبه يركز الشيخ حسان موسى رئيس المجلس السويدي للأئمة، إمام وخطيب مسجد الشيخ سلطان آل نهيان بأستكهولم، على أهمية العلمانية لوجود المسلمين في الغرب، حيث يوضح أن العلمانية نتاج فكر وممارسة وصلت إليها أوربا بعد صراع مرير مع الكنيسة، وهي في أيسر تعريفاتها تعني فصل الدين عن الدولة، وأن الكنيسة لا سلطة لها على الدولة، وأن الدولة لا تحكم لا بالإنجيل ولا بالتوراة، وإنما تحكم بمنظومة قانونية في إطار عملية ديمقراطية، وقناعات شعبية وصل إليها المجتمع من خلال الممارسة والحراك الفكري والسياسي.
ويضيف قائلا: "لما سبق فإننا كأقليات مسلمة ونظرًا لوجود آليات ديمقراطية، مع هذه العلمانية؛ لأن العلمانية في السويد ترى أنه على الأغلبية أن تراعي الخصوصية الثقافية للأقليات، كما تتضمن بعض القيم الإيجابية مثل: الحرية الشخصية وحرية التدين، والحرية السياسية، لذا أعتقد أننا كأقلية لسنا بحاجة إلى دولة دينية، بل إلى دولة ديمقراطية يحكمها حزب مسيحي. وإن كنا في دولنا العربية نقول: "الإسلام هو الحل"، بحكم أن الأغلبية للمسلمين، فإننا كأقلية نقول: "العلمانية هي الحل"؛ لأنها لو كانت بهذه المفاهيم التي أشرنا إليها، فإننا من خلالها نستطيع أن نؤكد على مبدأ أننا في مجتمع متعدد الأعراق والثقافات والأديان، يحترم فيه الجميع بعضهم: "لكم دينكم ولي دين".
ومن خلال ما سبق يتضح أن هناك شبه إجماع على رفض إلحاق المسلم نفسه بالعلمانية عقديا باعتبار العلمانية في كثير من جوانبها تخالف العقيدة الإسلامية التي لا تفصل بين حياة الإنسان وإسلامه، إلا أنه من الممكن الاستفادة من بعض جوانب العلمانية في الغرب من أجل دعم حقوق الأقليات المسلمة هناك ...(/2)
المسلمون في فجر القرن الوليد – 22
أولاً – الحفاظ على الذاتية الإسلامية:
مع مطالع القرن الخامس عشر الهجري يجد المراقبون أن المسلمين يتقاربون اليوم في عدة مفاهيم أساسية يكادون يلتقون عندها ويكونون بها منطقاً" جديداً فيه طابع الأصالة وعلامة التحول من عصر التبعية إلى عصر الرشد الفكري. ولقد كان للتجارب التي مرت بهم خلال القرن الرابع عشر أثرها الواضح في هذا الفهم الجديد الذي يقرب بهم من الحقيقة بعد أن دفعوا ثمنها غالياً من الزمن والأنفس والأموال، وقد كانت بينة في كتاب ربهم ويبن أيديهم من قبل ولكنهم كانوا عنها غافلين، لم يستطيعوا استيعابها إلا بعد أن حزت في نفوسهم وتركت موضعها وعليه أثر كدمات الدم.
أولاً: لقد تبين للمسلمين أن جريهم وراء أسلوب العيش الغربي واندفاعهم وراء بريق الحضارة المنطلقة وراء شهوة الفم والبدن هو غواية الأمم الغربية لهم بهدف تبديد ثرواتهم وتحطيم معنوياتهم والقضاء على القوة النفسية والجسمية التي أعطاها لهم الإسلام بالاستقامة والصلاة ليكونوا قادرين على مواجهة الأحداث، مرابطين في الثغور حتى لا يفاجئهم غزو العدو ومن هنا فقد أخذوا يتحولون إلى بناء مستقبل بلادهم بهذه الثروات لتكون لهم قوة دائمة على الزمن.
ثانياً: اكتشفوا أن مناهج السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية التي قدمها لهم الغرب (بشقيه) خلال القرن الماضي لم تكن إلا تراكمات مجتمع آخر مختلف ونتيجة تحولات في عقائد وثقافات تختلف اختلافاً واضحاً عن المجتمع الإسلامي، وهي ثمرة تكوين نفسي واجتماعي وعقلي تنازعته وثنية اليونان والرومان، وتفسيرات المسيحية، واستعلاء العقل والعلم بعد كشوف الطبيعة، وقد تشكلت في مجتمع لم يكن من دينه "منهج حياة" أو "نظام مجتمع" فإن المسيحية حين عبرت من الشرق إلى الغرب عبرت على هيئة وصايا وعبادات وتراتيل فكان أهلها في حاجة إلى أسلوب عيش امتد سريعاً بين الرأسمالية واللبرالية والماركسية والوجودية والقومية والإقليمية دون أن يجد منها بعد تجربة السنوات الطوال إلا مزيداً من الصراع والاضطراب.
ومن هنا فقد كانت مؤامرة نقلا هذه الإيديولوجيات إلى بلاد الإسلام التي تملك أعظم منهج رباني جامع خالد أضحوكة التاريخ والأجيال، إذ كيف يقترض من يملك هذا المجد الأمثل فتات الأمم ومحاولات العقول البشرية القائمة على الهوى والظن والتي لم تثبت في مجال التجربة بل لقد كشفت أبحاث العلماء عن فساد هذه الإيديولوجيات في بيئاتها التي نبتت فيها ولم تحقق مطامح النفس البشرية وخلقت ما يسمونه أزمة الإنسان المعاصر فكيف تصلح هذه لبيئات أخرى تختلف أشد الاختلاف.
ثالثاً: آمن المسلمون بعد تجربتهم الطويلة مع الغرب إن حضارة الغرب ليست هي الأسلوب الأصلح لامتلاك الإرادة، ولتحقيق افتقاد المسلمين مكانتهم في الأرض، وإنما الأسلوب الأصلح هو التماس منهج القرآن وتطبيق شريعة الإسلام، فهذه هي "العروة الوثقى" التي كلما التمسها المسلمون على طول تاريخهم نجوا بها من أزمة التبعية والنفوذ الأجنبي وسلطان الأقوياء عليهم، وأن الحضارة المادية مهما بلغت من زخرفها لن تبرههم إلى الحد الذي يجعلهم يضحون وجودهم وكيانهم وذاتيتهم في سبيل الحصول على هذا البريق، وخاصة أن الحضارة المادية مهما بلغت من زخرفها لن تبرهم إلى الحد الذي يجعلهم يضحون وجودهم وكيانهم وذاتيتهم في سبيل الحصول على هذا البريق، وخاصة أن الحضارة الغربية اليوم لا تقدم – فيما غير العلم - إلا ذلك الانحراف الخطير في الترف والشهوات ولذائذ الماديات والإسراف في تبديد الكيان الإنساني وهو ما يتعارض مع كرامة المسئولية والالتزام الأخلاقي للإنسان الذي شرفه الحق تبارك وتعالى بالاستخلاف في الأرض وتعميرها وإقامة المجتمع الرباني بها.
هذه الحقائق التي تبدو واضحة الآن في العقل الإسلامي والنفسي الإسلامية تعطي هدفاً أساسياً هو أن القوى الأجنبية التي تتجمع اليوم لتواجه عالم الإسلام وهو يتحفز لامتلاك إرادته إنما تهدف إلى القضاء على هذه الذاتية الخاصة التي شكلها الإسلام في النفس المسلمة فأصبحت الأمة الإسلامية كالشامة في الجمع الغفير.(/1)
هذه الغاية قائمة اليوم من وراء كل محاولات الغزو الفكري والتغريب وتحريك قوى الشعوبية والاستشراق والتبشير الغربي وضرب الإسلام من الداخل بالفرق الضالة كالبهائية والقاديانية، أو ظهور جماعات من يدعون "العودة إلى الإسلام" لكسب ثقة المثقفين عن كتاباتهم وضرب الإسلام من الداخل على النحو الذي دعا إليه عتاة التغريبيين من الشيوعيين كمحاولة ماكرة وقد تكشف فعلاً في السنوات الأخيرة أن كثيراً ممن أعلنوا عودتهم إلى حظيرة الإسلام خدعة قد وقفوا في وجه تطبيق الشريعة الإسلامية، أو التمسوا مفاهيم الباطنية وأصحاب مفاهيم الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وذلك بعد أن رتبت لهم محاولات إبرازهم وكسب الثقة فيهم، والواقع أن بيننا وبين هؤلاء: مفهوم الإسلام الجامع الصحيح كمنهج حياة ونظام حياة مجتمع فكل نكوص أو نصول أو محاولة للتشكيك في هذه الوجهة إنما هي إقرار بالتبعية، ذلك لأن مفهوم المسلم الصحيح هو الإيمان بالمنهج الرباني وسلامة تطبيقه لا يعتوره في ذلك ذرة من الشك أو التردد أو التماس الأعذار لبقاء الأنظمة القائمة على القانون الوضعي وأخطر ما في هذا هو أن يتحدث هؤلاء عن الإسلام بمفهوم المسيحية أي يفصل بين الدين والسياسة أو بين الدين والمجتمع.
والحق أن القوى الأجنبية ما زالت قادرة على أن تقدم مموهين لهم بألفاظ براقة وكلمات خداعة، يحاولون الصد عن إحدى عقائد المسلمين اليوم وهي تطبيق الشريعة الإسلامية كمحاولة وحيدة وأخيرة لتحرير المجتمع الإسلامي من أسباب ضعفه واضطرابه. وكمنطق لامتلاك الإرادة الأساسية للأمة الإسلامية على أرضها وتأكيد وجودها ولتستطيع بعد ذلك أداء رسالتها المنوطة بها وهي "تبليغ" الإسلام للعالم المضطرب الممزق المتطلع إلى منهج جديد يخرجه من أزماته وانحلاله.
إن أخطر ما يواجه المسلمين اليوم هو حماية هذه
"الذاتية الإسلامية" بكل شاراتها وعلاماتها ومقدراتها ربانية قرآنية كما رسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيرته وسنته وخلقه وتصرفه اليومي في كل الأمور، ذلك أن هذه الذاتية الإسلامية هي هدف القوى الثلاث: الصهيونية والماركسية والغربية، من كل محاولات التخريب والغزو الثقافي، لأنها هي القوة الحامية لهذه الأمة من أن تذوب في العالمية والأممية الدولية وهي في مرحلة الضعف الذي تمر به وحيث أن الأممية ضالة مسرفة في الوثنية والمادية والإباحية.
ولذلك فإن أبرز مطامح القرن الخامس عشر هو تأكيد تمايز هذه الأمة عن الأمم، وهذا التمايز كما يقول الدكتور محمد محمد حسين مقصود لذاته لأن الأصل هو تباين الأمم ودفع بعضها ببعض وهو من سنن الله الكبرى، وإذا كانت النظريات الرياضية والتجريبية واحدة لا تختلف باختلاف الأمم فإن النظريات السلوكية التي تقنن سلوك الفرد وسلوك الجماعة مختلفة متباينة تباين أممهم.
"وأولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض".
"ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم".
ويتميز المسلمون بالمقدار الذي يعتمدون فيه على قيمهم وعقيدتهم، هذا الالتقاء على نظام يجعلهم كالجسم الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ومن طريق المخالفة لغيرهم الذي يصونهم عن الذوبان والفناء في غيرهم وهذا واضح في قوله تعالى:
"وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله".
فالآية تدعو المسلمين إلى الاجتماع على طريق الإسلام من ناحية وتنهاهم من ناحية أخرى عن إتباع طرق غير المسلمين لأنها تؤدي إلى تفرق جماعتهم. إن الخطر هو تطويع الإسلام لأشكال الحضارة الغربية ومفاهيمها وتطوير المجتمع ليكون في نهاية المطاف صورة من صور المجتمعات الغربية.
هذا التمايز، وهذه الذاتية الإسلامية، الواضحة العميقة، لا تقتصر على مجال واحد ولا ميدان واحد، ولكنها تشمل كل الميادين والمجالات، من الاقتصاد إلى السياسة إلى الأدب إلى اللغة إلى التاريخ إلى أدق الدقائق في القضايا الاجتماعية والفكرية والثقافية.
وهذا التمايز هو الحصانة الوحيدة دون الذوبان والانصهار في بوتقة هذه الحضارة المضطربة التي تمر بأقسى مراحل أزماتها ونهايتها.
الدعوة الإسلامية تشق طريقها إلى آفاق الأرض مع عديد من التحديات والانتصارات:
ما زال الإسلام يفتح آفاقاً جديدة أمام الدعوة إلى الله عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة في مختلف أجزاء الكوكب الأرضي على نحو هو الآن موضوع دهشة المراقبين وعجبهم نظراً لقلة الموارد المالية التي تنفق في هذا السبيل وبالرغم من كل أعمال المقاومة والحشد المبذول للحيلولة بين الناس وبين الإسلام.(/2)
وفي العالم الغربي (أوروبا والأمريكتين) بالرغم من ضخامة النفوذ الذي تفرضه الكنيستان الكاثوليكية والبروتستانتية والإنفاق الضخم والمحاولات الجديدة في كسب الشباب بفتح أبواب الإغراء بحلبات الرقص وتقبل قوانين الإجهاض وإقرار الشذوذ الجنسي والعياذ بالله ورفع الحظر عن معتنقي الماسونية فإن ذلك كله يوحي بالكساد الشديد والانصراف الشديد حتى في مجال تربية أجيال جديدة من قادة الفكر الديني فإن النسبة المطروحة توحي بالانصراف الشديد عن هذا المجال، هذا بينما يكسب الإسلام مزيداً من معتنقيه تحت تأثير قراءة النصوص الإسلامية أو الالتقاء بالدعاة المسلمين على ندرتهم في المراكز الإسلامية في بعض العواصم، بالإضافة إلى تلك الروح البارزة لإنصاف الإسلام ورسوله التي تكشف عنها الكتابات التلقائية التي لا يدرج أصحابها تحت قوائم الاستشراق والتبشير.
وفي مناطق مختلفة من الأمريكتين واستراليا بالإضافة إلى أوروبا نفسها نجد تجمعات جديدة تمثل أقليات صغيرة مسلمة تحاول أن تقيم مجتمعاً إسلامياً خالصاً وسط هذا الركام الضخم من فساد الحضارة الغربية واضطراب المجتمعات الأوروبية.
وتجرى المحاولات لاستخلاص تصريحات من قادة المسلمين ترمي إلى القول بأنه لا فوارق حقيقية بين الإسلام والمسيحية أو الأديان الأخرى بهدف تثبيط همم الذين يزعمون الدخول في الإسلام بوصفه يمثل عقيدة التوحيد الصحيحة اليوم المحررة من الوثنية والتثنية والتعدد.
وفي الولايات المتحدة جاليات من الملونين الذين هم من الأفارقة في الأصل يمثلون تجمعاً إسلامياً، ولكن هناك أعداد كثيرة من الأمريكيين أنفسهم أخذت تدخل في الإسلام حتى يقول مديرٍ إحدى المؤسسات الإسلامية في واشنطون: "إنه لا تطلع الشمس يوماً إلا على مسلم جديد" وإن هذا يحدث في كثير من بقاع القارة الأمريكية وتتزايد هذه الظاهرة حتى تمثل علامة جديدة يصفها الدكتور محمد عبد الرؤوف بقوله:
إنني أرى أن هناك قوة خفية تعمل على نشر الإسلام في هذه البلاد وهي قوة الله تبارك وتعالى وليس عملنا إلا من وراء إرادة الله وتقديره، حيث لا ينتشر الإسلام بين الأمريكيين السود فحسب بل بين العنصر المسيحي (أنجلو ساكسون) وقد وجد طريقه إلى ذوي النفوذ في البلاد.
وعندما تقرأ ما يكتبه أمثال الدكتور موريس بوكاي من مقارنات بين العهد القديم وبين القرآن من حيث (المصدر) حيث يكتشف "ربانية" القرآن و "بشرية العهد القديم" فإلي أي مدى تحدث هذه الآثار دوياً، فإذا أضيف إلى هذا ما تقدمه منظمات عدة في دراسات الكتب المقدسة، بالإضافة إلى ما كشفته مخطوطات كهف قمران وما تزال تكشفه الحفريات الأثرية مما يؤكد صدق نصوص القرآن الكريم وتزييف كثير من تلك المسميات الكاذبة التي تقوم عليها دراسات التاريخ القديم من حيث تجاهل (الحنيفية الإيراهيمية) ودورها في بناء ذلك التكوين الروحي الذي عرفته هذه المنطقة ممتداً من إبراهيم عليه السلام في أبنائه وفي إسماعيل إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
"ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً".
وما يتصل بهذه الرسالة من حقائق تتمثل في جماع الإيجابيات التي نراها في الجاهلية وفي فساد التفسيرات التي صرفتها اليهودية والمسيحية مما كشف القرآن زيفها مما غيره أهل الكتاب من وجهة الدين ومن إنكار الارتباط بالنبوة الخاتمة وما تزال هذه الحقائق تنكشف وما تزال قوى التزييف تحول بين الناس وبينها "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره".(/3)
وفي الوقت الذي تتعدد فيه الجاليات الإسلامية في كل مكان في العالم وفي أوروبا وفي آسيا لم يترك النفوذ الأجنبي هذا النشاط يزدهر وعلى هذا الأساس دعم الإنجليز الحركة الأحمدية (القاديانية) في الهند وغذوها بالأموال لإيجاد بلبلة في صفوف الأمة الإسلامية، وبنى في إنجلترا مسجد للأحمدية (أو القاديانية) ليكون مركز انطلاق لهم في إنجلترا أو أوروبا. كما ساعدت إنجلترا على طبع كتب الأحمدية المضللة وخصوصاً باللغة الإنجليزية، وقد توسعت الأحمدية في قلب أفريقيا ولكنها ما تزال مرفوضة لما تخالف من مفهوم السنة الجامعة، وقد فضح أهدافها وعمالتها للاستعمار العلامة المودودي والسيد الندوي ورابطة العالم الإسلامي وغيرها من الهيئات الإسلامية وقد توسعت في عديد من البلدان الأوروبية، وتزاحم الغربيون في كل مكان أمام الأعياد الإسلامية ليحضروا ويشاهدوا شعائر الصلاة الإسلامية من قيام وركوع وسجود وتقاطروا على سماع خطبة العيد مما لفت أنظارهم فسعوا إلى الاتصال بالمراكز الإسلامية والحصول على المؤلفات الشارحة للعقيدة الإسلامية، ولاشك أنها ملأت نفوس هذه الجماعات وخاصة شباب المدارس والجامعات شدتهم إلى الإسلام لبساطة عقيدته وسلامة مبادئه وسماحته واقترابه من الفطرة وعطائه وتكامله مع أشواق النفس الإنسانية، وحيث يدعو إلى الرحمة والعدل والإخاء والتوحيد، فقد شد إليه الزنوج الأمريكيين الذين عانوا من العسف والظلم والاسترقاق على أيدي الأمريكيين البيض.
ويعاني المسلمون معاناة شديدة في مناطق كثيرة من العالم.
وأقسى ما يواجهون ما يلقونه في المناطق الواقعة تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي والدول الشيوعية، وهناك ما يلقاه المسلمون في مناطق كثيرة من أفريقيا إزاء الحملات التبشيرية النصرانية حيث تتركز البعثات التبشيرية في نيجيريا والكاميرون وجنوب السنغال وكينيا وحيث تندفع القبائل الوثنية إلى الإسلام وتدخل القبائل الزنجية في دين الله أفواجاً وحيث تقف الدعوة الإسلامية بقوتها الذاتية في مواجهة الإمكانيات الضخمة المتاحة لرجال الإرساليات وحيث الكنائس والأديرة والمعابد مقامة في أنحاء كثيرة من البلاد في المدن والقرى.
وقد شهد الذين قاموا بنشر الدعوة الإسلامية بين الوثنيين بما يلقونه من ترحيب كبير وخاصة في المديريات الجنوبية الثلاث: أعالي النيل والاستوائية وبحر الغزال حيث الاتصال بالمواطنين البدائيين والضاربين في منابت الأحراش والغابات ومواطن الحشائش والمستنقعات، يقول أحدهم: "اقتنعنا بأن العمل في هذا الميدان سهل ميسور وأن ما يبذله المبشرون المسيحيون من جهود، لو بذل المسلمون عشر معشاره لأثمرت جهودهم أضعاف ما تثمر جهود المبشرين" بل إن الإسلام قد اقتحم مناطق جنوب أفريقيا: (جوهانسبرج، ديريين، ايست لندن، كيب تاون) حيث قامت مجتمعات صغيرة من المسلمين ولكنها متماسكة، فهم يجمعون الزكاة ويوزعونها على مستحقيها وينشئون المدارس الإسلامية والمساجد ويطبعون الصحف والمجلات الإسلامية والمساجد هي مركز نشاط المسلمين الاجتماعي، وكلما استولت الحكومة على منطقتهم، رحلوا إلى أرض أخرى وأقاموا مساجدهم ومساكنهم. ويتساءل بعض الذين زاروا تلك المناطق: "لماذا تتجه جميع بيوت المسلمين في جنوب أفريقيا نحو القبلة" رغم الصراع الحقيقي الذي يخوضونه مع جهاز البلدية عند تخطيط البناء. فالمسلم هنا لا ينام إلا في اتجاه القبلة ويقيم في داره ثلاث حنفيات للوضوء، وغرفة للمصاحف، ومكان للصلاة، والنساء المسلمات يخرجن محجبات ويعمل الجميع في تكامل رائع، والأطفال يحفظون القرآن ويحسنون تلاوته وتجويده، ويقبل الوثنيون في جنوب أفريقيا على اعتناق الإسلام اقتناعاً بأنه الدين الذي أوجب المساواة وذوب الفوارق بين الناس ولم يعترف بأي امتياز أو فضل أو تفوق مصدره اللون أو العرق أو المال.
وما تزال مناطق إسلامية كثيرة تقاوم، أمثال: إرتيريا في مواجهة الحبشة المسيحية الماركسية، ومسلمي الفيليبين (شعب بانجامور) المسلم 8 ملايين نسمة في الجزر الجنوبية الخمسة الكبرى وهناك اضطهاد المسلمين المتجدد في الهند وهناك مشاكل مسلمي بورما الذين شردتهم حكومة بورما ومسلمي كمبوديا وفيتنام ولاوس وهي مثل لما يقاسيه المسلمون الذين يعيشون في الدول الشيوعية وهناك مشكلة خمسة ملايين مسلم في تايلاند.
وما يزال مسلوم قبرص يقاومون في سبيل تثبيت وجودهم في الجزيرة وحقهم في البقاء حيث لم تكن قبرص في يوم من الأيام أرضاً يونانية وحيث عمد الاستعمار البريطاني إلى تفريغ الجزيرة من المسلمين وجعلهم أقلية فيها، وقد تعرض المسلمون لصنوف بشعة من التعذيب والحرمان.(/4)
ومن الآفاق الجديدة التي فتحها الإسلام في سنوات ما قبل بزوغ فجر القرن الخامس عشر الهجري: غزوته السلمية لليابان حيث ديانته الشنتو (عبادة الطبيعة) والبوذية القادمة من كوريا والصين في القرن السادس الميلادي حيث أصبح نصف الشعب الياباني يعتنقها، والمعروف أنه بعد اندحار اليابان في الحرب العالمية الثانية ودخول قوات الاحتلال أعلن الإمبراطور للملأ أنه لم يعد إلهاً وإنما هو بشر، وقد انتهزت الهيئات التبشيرية العالمية الفرصة وركزت جهودها على اليابان متطلعة إلى أن تكون "المسيحية" هي عقيدة الشعب الياباني، وفي ظل هذا الفراغ العقائدي وجد اليابانيون في الإسلام استجابة لمطامح نفوسهم وتطلعاتها بين ثلاث حركات تتصارع هي التبشير المسيحي (حيث توجد خمس جامعات تبشيرية ومدارس ثانوية وابتدائية تضم 300 ألف) ودعوة ماركسية شيوعية واشتراكية، وحركة بوذية. وقد دخل الإسلام إلى اليابان من عدة جهات من قازان عاصمة جمهورية التتار الإسلامية، ومن الصين، مقاطعة منشوريا، ومن إندونيسيا والملايو حيث اتصل أفراد جيش الاحتلال الياباني لإندونيسيا بالشعوب المسلمة هناك.
وما تزال الدعوة الإسلامية في اليابان تشق طريقها مع آمال عريضة. وهكذا نجد أن الدعوة الإسلامية في نهاية القرن الرابع عشر ومطالع القرن الخامس عشر تواجه عديداً من التحديات.
وسيبلغ الإسلام ما بلغ الليل والنهار مع امتداد الزمان وجهاد العاملين. والحمد لله رب العالمين.
المسلمون في فجر القرن الوليد (رد الشبهات ومواجهة التحديات):
إن العالم الإسلامي اليوم يعي في وضوح تلك المحاولة الماكرة اللئيمة التي تقوم بها قوى النفوذ الأجنبي لتحول بيته وبين انبعاث النهج الإسلامي للحياة والحضارة الذي تتطلع البشرية كلها إليه وتجد فيه أملها.
إن موجات التحامل والتشكيك في جوهر الإسلام وقدرته على العطاء، وسلامة منطلقه، وأصالة هدفه، تنطلق اليوم في عنف من الصهيونية لتثير في النفس الغربية الخوف من ضياء الإسلام البازغ من خلال السحب والغيوم. وتحاول هذه الكتابات المغرضة أن صف الإسلام على أنه دين رجعي متأخر جاد معاد للحضارة والتقدم والتطور. أو تصوير يقظة المسلمين على أنها حركة معادية للغرب الصناعي المتحضر، أو التحذير من نزعة الجهاد الإسلامية، ومن هنا تبزغ دعوة خصوم الإسلام إلى إشعال الفتن المذهبية، أو العمل على خلق صراعات طائفية في الشرق بين البلاد الإسلامية حتى تحول بين المسلمين وبين التضامن الإسلامي والوحدة الجامعة، وهم في ذلك يخدعون العرب الذي يعرف أن اليقظة الإسلامية بناءة وسمحة وكريمة، وأنها تقوم على العطاء والإيجابية والسماحة والبعد عن التعصب. ويخطئ مكسيم رودنسون حين يقول أن الإسلام لم يكف يوماً عن كونه رافضاً كل تطور لمجاراة الحياة العصرية بسبب تمسكه المتزمت بحرفية الدين.
فالواقع أن الإسلام متفتح في مواجهة الحضارات والأمم وهو لا يعارض النظم المختلفة ولكنه يؤمن بالحفاظ على ذاتيته ومنهجه العقائدي والفكري الذي ينطلق منه إلى التعامل السمح الكريم مع الأمم والشعوب، إما أن يفرض على المسلمين أسلوب عيش غير أسلوبهم في محاولة لمسخ شخصيتهم وإذابة كيانهم الخاص في أتون الأممية العالمية أو أن يكون الإسلام مبرراً للحضارة الغربية المضطربة في مرحلة أفولها وانهيارها فإن ذلك لن يكون.
ويكفي الإسلام أنه بحافظ على كيانه ويقيم حضارته ومجتمعه ليكون نبراساً للبشرية ليهتدي به إلى طريق الله. ولكنه لن يكون عدوانياً أو مدمراً لحضارات الأمم أو وجودها.
وحين نتلفت اليوم ونحن على أبواب القرن الخامس عشر الهجري نجد المسلمين وهم يبنون كيانهم الحضاري الاجتماعي وسط المحاولات التي تحاول أن تحول بينهم وبين اكتمال إرادتهم، وفي أفغانستان يقاوم المسلمون نفوذاً غريباً يحاول السيطرة عليهم، وفي باكستان نجد العمل الجاد في سبيل إقامة المجتمع الإسلامي الأصيل، وفي تركيا نجد الاتجاه الصحيح نحو تحرير المسلمين من نفوذ الإيديولوجيات والأنظمة ماضياً في طريقه.(/5)
يكشف هذا نجم الدين أربكان حين يقول: إن الصهيونية والماسونية حاولا عزل تركيا عن العالم الإسلامي، ومؤامرتهم مستمرة. ذلك أن المعركة بين الإسلام في تركيا والصهيونية قد اتخذت أشكالاً عدة وهي حرب طويلة المدى وهي مستمرة منذ خمسة قرون منذ فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية وعمل على فتح روميه ولكن هذا الصراع في المائة سنة الأخيرة أخذ شكل مخطط أعد له سلفاً فاستطاعت بعض القوى عام 1839م أن تؤثر في جسم الدولة الفكري وتدخل القوانين الوضعية البعيدة عن الإسلام بواسطة المنظمات اليهودية الماسونية، وقسم العمل اليهودي في تركيا إلى ثلاث مراحل مدتها ثلاثون سنة وهي عبارة عن تنفيذ فكرة تيودور هرتزل بإسقاط الدولة الإسلامية في تركيا، أما المرحلة الثانية فقد استمرت عشرين سنة وهي تقسيم الدولة العثمانية إلى دويلات صغيرة، أما المرحلة الثالثة فقد استمرت خمسين سنة وكانت لإبعاد تركيا عن الإسلام.
ثم نشأ حزب الاتحاد والترقي وكانت له علاقته باليهود والماسونية، ومن ثم استطاع إسقاط السلطان عبد الحميد وبدأ في إبعاد تركيا عن الخط الإسلامي وتغريبها بطرق عديدة أهمها العلمانية التي كانت تعني في تركيا بالتحديد اضطهاد المسلمين.
ثم بدأت تركيا الإسلامية تكشف عن وجودها، وبدأت تتحرر من أساليب التغريب، وهي اليوم على مفرق طريق اليقظة الذي يعم العالم الإسلامي كله تطلعاً إلى تحقيق أهدف كبرى، منها إنشاء الأمم المتحدة الإسلامية وإقامة السوق الإسلامية المشتركة وإيجاد الدينار الإسلامي الموحد والمعاهد الثقافية الموحدة والوحدة الإسلامية للدفاع عن العالم الإسلامي، وهناك في العالم الإسلامي كله إيمان أكيد بأنه لا تقوم للإسلام دولة إلا بتكوين الفرد المسلم الذي تربى على أساس من القرآن والسنة وهدى من السيرة. ولابد من انبثاق نظم البلاد الإسلامية وقوانينها ومعارفها واقتصادها وسياستها الخارجية من النظام الإسلامي. وحيثما ننظر من حولنا نجد أضواء الأصالة تزحف مع مطالع فجر القرن الخامس عشر. ففي اليابان يقول الدكتور شوقي فتاكي: أن هناك 30 ألف مسلم ياباني يشكلون مجتمعهم الجديد ويدعون إلى الوحدة الإسلامية والجهاد من أجل تحرير المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي. بالإضافة إلى جميع المقدسات الإسلامية وقد وحدنا القوى الإسلامية اليابانية في دعوة للتضامن مع المسلمين ونحن ندعو اليوم إلى تجديد وصقل الوحدة والتضامن للقوى الإسلامية في العالم أجمع من أجل تحقيق تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا العالم الحديث.
ومن أفريقيا نجد المجلس الإسلامي لجنوب أفريقيا يكشف عن الأخطار التي تواجه المسلمين وخاصة في شأن تربية الأطفال تربية إسلامية، وما يتطلع إليه الشباب المسلم ليكون قادراً على مواجهة التيارات المعادية للإسلام وخاصة هجمات الماركسيين والمستشرقين ودعاة المذاهب الشرقية. ويتطلعون إلى إقرار برنامج شامل للتربية الإسلامية، مقوم على أساس تثبيت قواعد العقيدة الإسلامية.
ويعلق المجلس الإسلامي أهمية كبرى على نشر الإسلام في جنوب أفريقيا وهذا دور المنظمات الإسلامية، ويرى أن جنوب أفريقيا مهيأ لانتشار الإسلام لأن هناك من المسلمين المقيمين بجنوب أفريقيا منذ ثلاثمائة سنة، وأن أول مسجد في مدينة الكاب يعود إلى عام 1790 كما يوجد بجنوب أفريقيا 150 مسجدًا.
وهكذا أينما يولي المسلم وجهه يجد اليقظة الإسلامية وهي تتدافع في قوة لتحقق هدفاً واضحاً في هذا القرن الخامس عشر هو الخروج نم التبعية الغربية سواء جاءت من الاستعمار أو الصهيونية أو الشيوعية، ووصولاً إلى الرشد الفكري وتحقيق غاية أساسية هي بناء الشخصية الإسلامية والحفاظ عليها والتضحية بكل عزيز وغال في سبيل هذا التميز الذي عرف به المسلمون بين الناس والملل.
وعندما نراجع خريطة المتغيرات نجد أن الدعوة الإسلامية تمضي في كل طريق وتقتحم كل مجال وتستعمل كل أسلوب على هذا النحو:
أولاً: نجد انتشار الإسلام بالدعوة الإسلامية في مختلف بقاع العالم حيث يتحقق ما وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدخول إلى كل دار في زاوية من زوايا الأرض.
ثانياً: انتشار دعوة التصحيح وتحرير المفاهيم والعودة إلى منهج الله في كثير من بلاد المسلمين حيث تتنامى قوة المطالبة بالعودة إلى الشريعة الإسلامية واكتشاف هذه الأقوام مدى النتائج الخطيرة التي تحققت نتيجة التبعية للمنهج الوافد سواء في مجال الفكر أو الاجتماع أو الحكم.
ثالثًا: بروز الذاتية الإسلامية في بلاد قاست طويلاً من مظالم العلمانية وسيطرة الدكتاتورية الفردية الحاكمة ونماء أجيال جديدة تكشف لها زيف هذه التيارات التي جرت فيها الأمم طويلاً.
رابعًا: بروز فريضة الجهاد كعامل حاسم في حل المشاكل ووضوح هذا العمل وقيامه بدور ضخم في تحرير كثير من الأوطان الإسلامية.(/6)
خامسًا: نماء القوة العسكرية الإسلامية في مختلف أجزاء العالم بحيث تصبح قوة واحدة عندما تلتقي القلوب على وحدة إسلامية صحيحة.(/7)
المسلمون والصراع الحضاري
عمر عبيد حسنة 11/9/1423
26/11/2001
التدافع والصراع الحضاري ، سنة من سنن الحياة الاجتماعية ، وأمر لازم لنمو الحياة وامتدادها، وتدفقها ، واستمرار التاريخ ، وابتلاءات لا بد منها ليتميز الحق من الباطل وتختبر وجهة الإنسان وصبره وكسبه ، واختياره ،قال تعالى : " كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " .
وقال : " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبِيَعٌ وصلواتٌ ومساجُد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصُرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز "
فالتدافع دليل الحياة ، والسبيل إلى ظهور الحق وانتصاره ، وتميزه ، وإلا لتساوى الحق والباطل، والتبست الأمور ولما تفاضل الناس ، ولكان مجرد الادعاء يكفي صاحبه دون تحمل أية تبعات . قال تعالى : " آلم ، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين " .
فإذا كان التدافع الحضاري وتداول الأيام بين الناس ، من سنن الحياة ليتم الابتلاء ، وتظهر الحقائق ، ويختبر الناس ، وسبيلاً إلى تفاضلهم في الكسب ، ومن ثم في الأجر والثواب ، فإن اختيار العقيدة والالتزام بها ، والتحمل والتضحية في سبيلها ، يعدّ من أعلى أنواع التفاضل والاختبار ،وأبرز ساحات التدافع والصراع الحضاري ، لذلك نرى - في كثير من الأحيان - أن مجرد الاختيار يكون سبيلاً لنقمة الآخرين ، وسبباً أساسياً في اشتعال الصراع وإلحاق الأذى ، قال تعالى : " وما نقموا منهم إلا أنه يؤمنوا بالله العزيز الحميد " . فالإيمان بالله والانعتاق من العبوديات ، الذي هو أعلى درجات الخيار وأرقاها ، هو وحده سبب نقمة الآخرين .
والذي تغيب عنه هذه الحقيقة ، أو بتعبير أدق : هذه السنة الاجتماعية سوف يقف عاجزاً عن فهم أو تفسير الكثير من القضايا والمآسي التي تحيط بالمسلمين اليوم ، وتحاصرهم من كل جانب ، سواء في ذلك العالم الإسلامي أو الأقليات المسلمة في العالم ، ذلك أن الكثير من العداوات والكيود والمؤامرات التي تمارس على المسلمين ليس لها سبب مباشر إلا أنهم مؤمنون ومغايرون في عقيدتهم .
إننا لا نستطيع أن ندرك الكثير من جوانب الصراع الحضاري الذي وصل إلى مرحلة المواجهة المباشرة اليوم ، بين عالم المسلمين بحضارته وثقافته وتاريخه ، وبين حضارة الغرب المغايرة، تلك الحضارة الغازية الغالبة المستعمرة ، التي تحاول التمكين لقيمها ومعاييرها وثقافتها كبديل في العالم الإسلامي دون أن ندرك سنن التدافع الحضاري ، ونحسن التعامل معها والإفادة منها.
والذي نريد أن نقرره هنا : أن هذه السُنة أو هذا التداول الحضاري ، قد يستغرق جيلاً أو أجيالاً حتى يستكمل دورته ، ويبلغ مداه ، ويؤدي دوره كمنبه حضاري في معاودة اليقظة والنهوض لكن ذلك لا قيمة له في عمر الزمن المديد الخالد ، إذا استطاعت الأمة إدراك أبعاده، والخلوص من الغفلة واسترداد المعاني المفقودة .
وقد يكون من المفيد الإشارة السريعة إلى أدوات ووسائل الصراع التي يمارسها الغرب في العالم الإسلامي ليمكن لثقافته وغلبته الحضارية .
ولعل من أبرز الوسائل وأشدها تأثيراً :
- إقامة ودعم الأنظمة السياسية التي تمكن للقيم الغربية دون النظر في ممارساتها وأعمالها التي تتناقض - أصلاً - مع الطروحات الغربية في الحرية ، والديمقراطية ، والمساواة، والتعددية وتداول السلطة ، بل قد يتجاوز أمر الدعم الحدود المعقولة والمقبولة ، فيتم الاتفاق مع زعامات هذه الأنظمة على شتيمة الحضارة الغربية ، وانتقاد ممارساتها حتى لا يحمل فسادها الاجتماعي واستبدادها السياسي أمام الشعوب على الغرب الداعم لها، فتسقط في عيونها قيم الحضارة الغربية .
- تخريج جيل مؤمن بالقيم الغربية ومرتهن لها ومدافع عنها ، والتمكين له في مواقع التأثير المختلفة لتشكل مرتكزات لا بد منها للإغراء بالقيم والمجتمعات الغربية من خلال استغلال المعاناة وسقوط إنسانية الإنسان التي يعيشها في بعض مناطق العالم الإسلامي.
- إشاعة صور القمع والإرهاب والاضطراب والاستبداد السياسي في العالم الإسلامي ، ومقابلته بصور الحرية والمساواة والعدالة والديمقراطية التي تتمتع بها المجتمعات في الحضارة الغربية حتى لا يكون هناك أي مجال للمقارنة والخيار .
هذا المناخ الاستبدادي - إن صح التعبير - إلى جانب أنه يغري بالإيمان بالحضارة الغربية وقيمها، يكون سبباً في هروب العقول والسواعد ، وكل الطاقات الفاعلة إلى العيش في الغرب وبذلك يكون الغرب هُوَ اليدُ نفسُها التي تعمل على طرد الطاقات والعقول في العالم الإسلامي بسبب دعمه لأنظمة القمع والاستبداد ، وهي هي التي تعمل على جذب هذه الطاقات وامتصاص قدراتها في مجتمعاتها لتحيق الغلبة والتفوق العلمي .(/1)
ولعل من أدوات الصراع أيضاً – وهذا من الفتن الكبيرة – إتاحة هوامش من الحرية محسوبة تماماً ، ومنح الفرصة للتعبير والتفكير والنشاط الإسلامي في المجتمع الغربي ، والسماح بإقامة التجمعات والندوات وعقد المؤتمرات حيث يطرح في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام ، وحتى في الساحات والشوارع ، من النقد للغرب والدعوة إلى الإسلام وبيان أحكامه ونشر تصوراته ، ما لا يمكن طرحه أحياناً في بعض مساجد العالم الإسلامي ، والتي تخضع للمنظومة الحضارية الغربية ،وذلك جزء مهم من عملية الصراع ، ومزيد من الفتنة للإنسان المسلم اليوم حيث يرى أنه يتمتع في الغرب بالحرية الإسلامية المفقودة في الكثير من بلاد العالم الإسلامي ، خاصة عندما يعجز عن الإدراك أن الذي يمنح الحرية هنا ، هو نفسه الذي يمنح الحرية هناك ، حتى يتحقق الإيمان بالقيم الغربية والانحياز لها ، واعتبارها المخلص ، دون أن يدري أن ذلك من أخطر أسلحة وأدوات الصراع الفكري والحضاري ، وأن هوامش الحرية المحسوبة والمحكومة في الغرب للإسلام والمسلمين ، هي إحدى الوسائل الفاعلة لاقتلاع البقية الباقية من الانتماء للحضارة الإسلامية ، ذلك أن أمر هذا الصراع عجيب ، ومعادلته في غاية الصعوبة، وخاصة على الذين لا يستطيعون تجاوز الصورة إلى إدراك الحقيقة ، حيث نرى المطاردين في العالم الإسلامي ، حتى من قِبَل الأنظمة المدعومة من الغرب الذي قد لا يكون الغرب بعيداً عن النصح والإيحاء بمطاردتهم ومحاصرتهم والتخويف منهم ، يستقبلهم الغرب كلاجئين سياسيين ، أصحاب قضايا وتوجهات فكرية ، لا تجد حماية لها إلا في الغرب، ولو فكر واحد منهم في التوجه إلى بعض بلاد العالم الإسلامي لأصبح البلد الذي يؤويه محلاً للهجوم عليه ، لأنه يؤوي الخارجين على الأنظمة ، ولا مانع أن يوصفوا بالإرهابيين في الشرق ، والأحرار أصحاب الرأي المحرم في الغرب ، حتى ولو كانوا من الذين يحاربون الإرهاب ، أما إذا كان اللجوء إلى الغرب ، فيكون السكون فظيعًا ، لأن القيم الغربية هي أم الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية .
ولعل من أخطر أدوات ووسائل الصراع : محاولة الغرب استنبات بعض الكتّاب والمفكرين الذين يسمون بالإسلاميين ، على التربة الإسلامية ليقوموا بدورهم في توهين القيم الإسلامية ، وهزّ الثوابت ، وممارسة عمليات النقد الذي يتحول لهدم الذات بدل بنائها ، ويلقون عليهم الأضواء ويفسحون المجال لآرائهم ومقالاتهم ، وكتاباتهم ولقاءاتهم ، والترويج لآرائهم ؛ لأن المواجهة من الخارج الإسلامي ، سوف تكون سبباً في وحدة الأمة وتماسكها وتجميع طاقاتها واستفزازها لمواجهة التحدي ، لكن المشكلة كل المشكلة في من نصبوا أنفسهم مفكرين ومنظرين للشأن الإسلامي وهم مسكونون بالحضارة الغربية ، حتى ولو كانوا يسكنون بلاد العالم الإسلامي .
والحقيقة التي لا بد من تسجيلها هنا : أن القيم الغربية قد سقطت في عالم المسلمين ، سقطت الديمقراطية والحرية والمساواة وحقوق الإنسان ، وأول من تنكر لها الغرب ؛ لأنها إنما طرحت أصلاً في بلاد العالم الإسلامي لتحقيق العمالة للحضارة الغربية ، وبمجرد أن كادت تتيح الفرص للحضور الإسلامي ، كان الغرب من أول المضحين بها ، سقطت الديمقراطية في معظم بلاد العالم الإسلامي ، وسقطت الحرية وسقطت المساواة وألغيت حقوق الإنسان في فلسطين ، وألغي الإنسان في البلقان ، والشيشان ، وأفغانستان لمجرد أن خياره الإسلام ، وتواطأ العالم الغربي كله على إلغاء خيار الإنسان في الغرب وحاول التدليس وتسمية الحروب هناك بغير اسمها لا لشيء إلا لأنهم لا يريدون السماح للأنموذج الإسلامي أن يبرز للعالم .
فهل يدرك المسلمون طبيعة الصراع ، ولا ينخدعون بالشعارات والفلسفات الغربية التي سقطت على كل المستويات ، ويحولون دون مؤامرات الغرب ، ومن ورائه اليهود في اختراق الصف الإسلامي ودفع المسلمين إلى ممارسات غير مشروعة ، حتى يتم تشويه البديل الإسلامي المطروح ، والمأمول ، بعد السقوط الحضاري الغربي لتعود دورة العمالة الثقافية من جديد .(/2)
المسلمون والواقع الدولي
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
من أهم مظاهر واقع المسلمين اليوم هو تفرقهم أحزاباً متنابذة ، ودولاً متفرقة متصارعة ، عزلت الحدود الجغرافية القلوب بعضها عن بعض ، وثارت العصبيات القومية والإقليمية لتكرِّس ما وضعه الأعداء لنا من حدود وفرقة وعداء . وربما جعلنا من هذه المآسي أفراحاً تُقام لها الزينة وتعلن لها الأعياد .
وفي الوقت نفسه نجد الأعداء يتجهون إلى اللقيا وتوحيد صفوفهم ، والاتفاق على اقتسام الغنائم ، ونسيان الأحقاد بينهم ولو مؤقتاً ، في قطاع واسع . ذلك ما نشاهده في أوربا التي تسعى جادة إلى الوحدة الاقتصادية والسياسية . وقد بدأت فعلاً الوحدة الاقتصادية الأوربية في بداية عام 1993م .
وفي الوقت نفسه تمزَّق الاتحاد السوفياتي ، وتمزّقت أوروبا الشرقية ، وأعلن عدد كبير من القوميات استقلالها ، وزال الكيان المنظم للحزب الشيوعي ومؤسساته التي حكمت قرابة سبعين عاماً . انهار هذا كله في لحظات مفاجئة للناس ، لحظات سريعة خاطفة . ولكنها في حقيقة الأمر كانت نتيجة حتمية لسنن الله الماضية في الحياة ، سنن الله التي تعمل سواء وعاها الناس أم لم يعوها . إنه قدر الله وقضاؤه وحكمته الغالبة .
لقد أقام الغرب سابقاً حلف " الناتو " ، وأقامت موسكو حلف " وارسو " ودار بين الغرب والشرق صراع طويل وسباق رهيب في التسلح ، وإصرار كل فريق على محاولة تدمير الفريق الآخر . ومع هذا العداء والصراع كان يتمّ تلاق بين حين وآخر ، وتعاون في هذا المجال أو ذاك ، وتنسيق في بعض النواحي السياسية ، دون أن يمنع هذا كله حقيقة الصراع بين العملاقين الكبيرين كما اعتاد الإعلام أن يسمِّيهما .
لقد عانى الاتحاد السوفياتي من ضائقة اقتصادية خانقة امتدت زمناً طويلاً . وكانت الولايات المتحدة نفسها تسعفه بالحبوب والقمح وبمساعدات أخرى . ولكن هذه الأزمة أخذت تزداد عنفاً مع الأيام حتى أصبحت تهدد حقيقة كيان الاتحاد السوفياتي . وسنرى كيف يصور لنا غورباتشوف هول هذه المأساة في كتابه : " البيريسترويكا والتفكير الجديد لبلادنا وللعالم أجمع " . في صفحات مقبلة .
لقد انتقل غورباتشوف من رئيس المخابرات إلى أن أصبح الرجل الأول في الاتحاد السوفياتي . وكان من الأسباب الظاهرة لتقدمه أنه تصدى لإنقاذ الاتحاد السوفيتي بنهجه الجديد الذي أعلنه في كتابه المذكور ، والذي نال تأييد اللجنة المركزية للحزب الشيوعي.
لا شك أن الضائقة الاقتصادية التي خنقت الاتحاد السوفيتي كانت من أهم أسباب تفككه ، خاصة بعد أن استمرت سنين طويلة كانت الأزمة تتزايد معها بدلاً من أن تخف . ولا شك أن طبيعة النظام الاشتراكي القائم عندهم كان من أول أسباب هذه الأزمة القاتلة . ولقد سبق أن فشل هذا النظام في أقطار أخرى ،وفى العالم العربي خاصة.
إذا كانت طبيعة النظام الاشتراكي قد ساهمت في هذه الضائقة الاقتصادية ، فإِن هذه الطبيعة لم تكن العامل الوحيد الذي سببها فقد هيأ الله أسباباً أخرى . ولعل شارل ديجول الرئيس الفرنسي السابق انتبه إلى عامل هام عبر عنه بقوله : " إن الولايات المتحدة الأمريكية تريد أن تصل بالاتحاد السوفياتي إلى الخراب والإفلاس عن طريق سباق في التسلح لا نهاية له " . ولا شك أن هذا السباق في التسلح ساهم في تحطيم الاقتصاد السوفياتي . ولكن تأثير هذا السباق لا ينحصر في الاتحاد السوفياتي وحده ، بل يمتدّ إلى الولايات المتحدة نفسها . وقد عبرّ ديجول عن هذا التأثير أيضاً بقوله " … وقد تنجح ( الولايات المتحدة الأمريكية ) في تحقيق ما تريده ، لكنها سوف ترهق نفسها بأكثر مما تستطيع تحمُّله . وقد تصل بنفسها هي الأخرى إلى حالة الإفلاس وتصل بنا جميعاً إلى حالة خطرة لأنها قد تحاول إنقاذ نفسها من ذلك المصير بابتزاز الآخرين والسطو على مواردهم . "
إن سباق التسلح أثَّر على اقتصاد البلدين وأرهقهما . وأثَّر على مناطق كثيرة أخرى في العالم . وهذا يفسر لنا حرص العملاقين الكبيرين على متابعة المفاوضات من أجل تخفيض جهود التسلح ومخزون الأسلحة المدمرة . وبالرغم من انهيار الاتحاد السوفياتي إلا أن هذه المفاوضات ما زالت مستمرة . وكلٌّ من الدولتين تعاني من تناقض واضح في حقيقة موقفها من هذه القضية . فهي تريد المضيّ في السباق حتى تتفوّق وتفرض إرادتها من ناحية ، ومن ناحية أخرى تريد وقف السباق لحماية اقتصادها .(/1)
وسبب آخر عجَّل في انهيار الاتحاد السوفياتي وساهم بدور كبير . وهذا السبب هو تورط الاتحاد السوفياتي في عدوانه الظالم على أفغانستان وتصدّي المجاهدين المؤمنين تصدياً لم يتوقعه الاتحاد السوفياتي ، ولا توقعته الدول الأخرى . فساهمت هذه الحرب في انهيار الاتحاد السوفياتي من ناحيتين أثرتا معاً في وقت واحد . الناحية الأولى أنه كان عدواناً ظالماً ، والظلم عاقبته وخيمة في الدنيا حين يجد من يتصدّى له عن يقين وإيمان ، وعاقبته وخيمة في الآخرة على كل حال . والناحية الثانية بطولة الإيمان في جهاد الأفغان حيث جمع صدق الجهاد وعدالة قضيته وجهاده فنصره الله برحمته وعونه وأذلَّ المعتدين .
ولكن كان هنالك أسباب أُخرى ساعدت على الانهيار . فجهود الدول الغربية العنيدة المستمرة كانت سبباً آخر . فقد وجَّه الغرب إذاعاته وأجهزة إعلامه بصورة مكثفة ليثير في أقطار الاتحاد السوفياتي وفي الصين العصبيات الإقليمية والقومية ، والنزاعات المذهبية ، والدعوة الصريحة الجريئة للديمقراطية . وامتدت هذه الجهود سنين طويلة يشترك فيها عدد غير قليل من دول الغرب .
وصراع أجهزة المخابرات لدى الفريقين لعب دوراً كبيراً ، وأخذت أخباره مساحة واسعة من مظاهر الصراع الدائر بينهما . ولا نشك أن هنالك أسراراً كثيرة من صراع أجهزة المخابرات مازالت مطوية .
وسبب آخر يساهم في انهيار الاتحاد السوفياتي ونجاح الإعلام الغربي هو أن عدداً من أقطار الاتحاد السوفياتي ضُمَّ إليه بعد الحرب العالمية الثانية بالقوة والسيطرة وتأييد الغرب آنذاك تحت إغراءات المساومات الممتدّة والمصالح المشتركة والمتضاربة ، على غير رضاء الشعوب ، ودون أن يقدّم الاتحاد السوفياتي لهذه الشعوب ما يقنعها بضرورة الاتحاد . فظلت تتربّص الفرصة المناسبة لانتفاضتها .
وهنالك سبب رئيس جامع لكل الأسباب ، وهو أن الكفر والإلحاد الصريح الذي كانت تنادي به الشيوعية فلسفة وفكراً ومنهجاً كان ضدّ فطرة الإنسان ، ضد حقائق الحياة ، لا تهضمه إلا قلّة من النفوس المنحرفة الضالة مهما قويت الدعاية . لذلك ظلّت الشيوعية في حقيقتها واهية في داخل الاتحاد السوفياتي ، يبتلعها الناس غُصّة بعد غُصّة .
ومع هذا الصراع بين الكتلتين ، ومع هذا التلاقي بين حين وآخر ، كان هنالك لقاء شبه دائم ضد الإسلام وأقطاره وشعوبه . لقد ورث الاتحاد السوفياتي الحقد على الإسلام من الحكم القيصري السابق كما ورث عنه أيضاً أطماعه السياسية ورغبته الملحّة في النفوذ إلى البحار والمحيطات ، وإلى اختراق أفغانستان والهند للوصول إلى جنوب شرق آسيا ، وورث أطماعاً سياسية واقتصادية وعسكرية واسعة ، لم تلغها الفكرة الشيوعية الجديدة ، حتى لو اصطدمت مع ما قد تعلنه من مبادئ .
لقد دار بين أمريكا والاتحاد السوفياتي لقاءات متعددة ومفاوضات كثيرة . وكان من أهم القضايا المعلنة الحدّ من التسلح وإيقاف التهديدات التي يخشاها كل طرف من الآخر .
لقد كان أخطر هذه اللقاءات لقاء " غورباتشوف " و " بوش " في مالطة ( 1 ) . ومهما كانت الموضوعات التي تناولاها ، فقد أُرسيت قواعد للاتفاق الدولي والتعاون في قضايا كثيرة ، أخذت نتائجها تظهر مع الأيام . لقد كان من أهم أسباب لقائهم قناعة كل طرف بضخامة القوّة التدميرية عند الطرف الآخر ، وكذلك الحرص الشديد على المصالح المادية التي جعلت نظرة كل طرف في المفاوضات نظرة مادية واحدة ، تتحدث فيها المخالب والأظافر والأنياب ، لاقتسام ثروة " العالم الثالث " كما يسمونه ، ولإِبقاء أهله في جهلهم وضعفهم وهوانهم . لم يكن هنالك فرق جوهري حقيقي يدعو للنزاع إذا اتفقوا على الضحية والغنيمة . فالديمقراطية الغربية ، شأنها شأن النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي وفي دول أوربا الشرقية ، تنشر الجنس الملوث وجرائمه وأمراضه ، وتنشر الخمور والمخدرات ، وتلهب الشهوات في الناس حتى تشغل الناس بالسعي اللاهث وراء الرزق من الصباح الباكر حتى المساء ، فلا يجدون وقتا للتفكير في الآخرة أو في الموت ، أو في حقيقة الحياة الدنيا وغايتها ، ويجرون ويلهثون ويعودون إلى بيوتهم منهكي القوى ، محطمي الأعصاب مخدري الإحساس حتى يفاجئهم الموت ولات ساعة مندم ، يخطفهم من غفوتهم القاتلة بين أحضان الشهوات و الفجور بين الجري اللاهث من أجل لقمة العيش ، الجري اللاهث الذي يجني المجرمون ثماره كلها ، ولا يلقون لأولئك إلا الفتات .
لا فرق بين الديمقراطية والاشتراكية من حيث ظُلْمِهما للناس ، وَ نشرهما للفتنة وسرقة جهود الناس وثروات الأمم والشعوب . فلا عجب إذن إذا التقت الكتلتان لتمضيا سويا في حصد ثمار جرائمهم المشتركة واقتسامها، طارحين بعرض الحائط كلَّ المواثيق والعهود والقيم والأخلاق .(/2)
يدٌعي غورباتشوف في كتابه " البيريسترويكا " أَنَّ الاتحاد السوفياتي مصرٌّ على الخط الاشتراكي.ويهاجم الغرب ويتهمه بأنه سبب مشكلاته . ولكن غورباتشوف متناقض في كلامه ومنطقه . فحين يصر على نهج " لينين " و " ماركس " ، فإن هذا يعني في الوقت نفسه الإصرار على " ديكتاتورية البروليتاريا " ، أي ديكتاتورية الطبقة العاملة . ولكننا نجده في الكتاب المذكور يدعو للديمقراطية وكأنها جزء من النهج الشيوعي .
لقد فشل (( غورباتشوف )) في تحقيق برنامجه الذي ادعاه وفشل في إنقاذ الاتحاد السوفياتي ، وبقي يعمل على وعي أو غير وعي حتّى دمّر الاتحاد السوفياتي تدميراً كاملاً ، قبل أن يعلن استقالته في 25/12/1991م ، وبعد أن تكونت مجموعة الدول المستقلة .
وفي تصريح " لغورباتشوف " نشرته الشرق الأوسط أشار إلى علاقته الوثيقة مع " البابا " في الفاتيكان ، وإلى المراسلات التي كانت تدور بينهما ، وإلى تعاونهما مع " ريغان " رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في " بولونيا " . كذلك تخلَّى " غورباتشوف " عن الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي أو تتعاون معه ، وتخلّى عن رجالها ابتداء من رومانيا وانتهاء بكوريا الشمالية وكوبا وغيرهما .
واختلف الناس في فهم حقيقة " غورباتشوف " . أهو صادق في شيوعيته مخلص للاتحاد السوفياتي ، فبذل جهده لإنقاذه ففشل ؟! أم أنه دمر الاتحاد السوفياتي عن سابق وعي وتقدير لسبب أو آخر ؟ فمهما اختلف الناس فلنا رأينا الواضح المحدّد في أنه رجل آذى الإسلام وحاربه ، وأنه من " عصابة المجرمين " في الأرض سواء أوقف في هذه الجبهة أم تلك . وكذلك فإنه يتحمل مسئوليته كبيرة في المآسي التي ذاقتها الشعوب على يد الديمقراطية الغربية التي آزرها أو الديكتاتورية الشيوعية التي رعته وربّته في أحضانها .
ومما يلفت النظر في أمر " غورباتشوف " صعوده السريع إلى مركز القيادة ثم صعوده إلى أعلاه كرئيس للاتحاد السوفياتي على صغر سنه النسبي ، وخلال فترة زمنية قصيرة ، مما لم نألفه في النظام الشيوعي وربما ندر في غيره كذلك .
ومما يلفت النظر أكثر من ذلك أنه ظهر على المسرح الدولي بأزياء مختلفة وبألوان متنافرة أحياناً . فقد مضى فترة في مقاطعته لدولة اليهود كما كان يبدو لنا . ولكنه وافق فجأة على الهجرة اليهودية الظالمة التي تناقض كل قوانين العالم وما يدعيه هو وغيره من عدالة وشرعية دولية . ثمّ دفع الهجرة هذه دفعاً لتصب أفواجهم في فلسطين ولينشط بناء المستوطنات اليهودية وسلب البيوت والأراضي وطرد السكان على مسمع العالم والنظام الدولي الجديد وبصره . ولم يكتف بذلك بل اعترف بالكيان اليهودي المعتدي الظالم ، وكأنه يذكرنا بأن الاتحاد السوفياتي كان أول دولة في العالم اعترفت بدولة اليهود . ثم مضى بعد استقالته من رئاسة الاتحاد السوفياتي وانهيار الاتحاد إلى أبعد من ذلك . فقد قام بزيارة دولة اليهود زيارة كانت أعمق من حدود المجاملات الرسمية ، فقد اعتمر قبعتهم اليهودية التي هي شعار المتدينين عندهم أثناء زيارته للمتحف . ثم ذهب أبعد من ذلك فزار "حائط البراق " الذي هو ملك المسلمين كما هي فلسطين كلها ، والذي يسميه اليهود " حائط المبكى " ، ويعتمر هناك كذلك قبّعتهم حتى كأنك تحسبه يهودياً يؤدي طقوس اليهود . ولقد نشرت جريدة الشرق الأوسط بعض صوره هذه في عدديها : 4950 ، 4951 بتاريخ 17، 18/6/1992م للسنة ( 14 ) ، ونشرت جريدة الحياة كذلك بعضها في عددها ( 10723 ) بتاريخ 18/12/1412هـ ( 19/6/1992م ) .
لقد أعطت مسيرته إيحاءات كثيرة وظنوناً واسعة . ولكننا نؤكد ثانية أنه في جميع أزيائه وألوانه ، ومواقفه وتحركاته وتنقلاته كان دائماً في جبهة معادية للإسلام . ليته حاول فقط أن يدرس الإِسلام ، وليتنا حاولنا أن ندعوه إليه بوضوح وجلاء .
لقد كان لقاء " مالطا " يمثِّل تحوّلاً كبيراً في السياسة الدولية والعلاقات الناشئة عنها . ولقد جنى العالم الإسلامي أسوأ النتائج من هذا اللقاء ، ومن سياسة غورباتشوف ، من تقدُّمه ونجاحه ومن سقوطه وأفول نجمه .
ولعله من المناسب أن نعيش مع مقتطفات من كتاب " البيريسترويكا " ، عسى أن ندرك صورة أوضح عن " غورباتشوف " والاتحاد السوفياتي والعلاقات الدولية .(/3)
يقول غورباتشوف في كتابه " البيريسترويكا " : " وثمَّة في الغرب من ودَّ لو أنه يستطيع إلصاق الصيغة التالية بنا : إن الاشتراكية ـ على حد ما يزعمون ـ تعاني أزمة عميقة وتقود المجتمع إلى مأزق . وبهذه الروح يفسرون تحليلنا النقدي للوضع الذي نشأ في البلاد بين نهاية السبعينات وبداية الثمانينات . وكما يزعمون فإن ثمة مخرجاً واحداً هو الاستعانة بالطرائق الرأسمالية لإِدارة الاقتصاد ... " . ثم يقول : " ولقطع دابر أي تقولات وتأملات من هذا النوع حول هذه المسألة ـ وما أكثر ما نسمع من مثيلاتها في الغرب ـ أريد أن أؤكد مرة أُخرى ما يلي : إن كل التغييرات التي نجربها إنما نجربها بما يتلاءم والخيار الاشتراكي ، والإِجابات على الأسئلة التي تطرحها الحياة نفسها إنما نبحث عنها في إطار الاشتراكية وحدودها لا في خارجها ، وإننا نقيس كل نجاحاتنا وأخطائنا بمعايير اشتراكية ، ومن يأمل في جنوحنا عن طريق الاشتراكية فلن يلقى سوى خيبة أمل "( 2 ) .
ويؤكد غورباتشوف هذا المعنى في أكثر من موقف في كتابه . إنه الإِصرار على النهج الاشتراكي ، والإِصرار على أنه لا يوجد في العالم إلا نهجان : الاشتراكي والرأسمالي . فاسمعه يقول : " تعالوا ننظر إلى الواقع ونأخذه بعين الاعتبار . واقع وجود عالمي الرأسمالية والاشتراكية ، ووجود عالم كبير من الدول النامية ، حيث يعيش مليارات من الناس ، ولكلٍّ مشكلاته ... " ( 3 ) .
إن العالم الإسلامي والنظام الإسلامي كقوة مؤثرة في تاريخ الإِنسان ، لا وجود لها في ميزان هؤلاء وهؤلاء . إننا مع العالم الثالث الذي لا رسالة له في الحياة ولا نهج يدعو له . إن هذا هو نتيجة الهوان الذي رضيناه لأنفسنا .
لقد نقد " غورباتشوف " الوضع القائم في الاتحاد السوفياتي ، والذي نشأ حسب تعبيره بين السبعينات والثمانينات . ويبدو أن هذا النقد لم يكن نقداً فردياً قام به هو نفسه وحده ، بقدر ما كان نقداً قامت به اللجنة المركزية وعدد من المسئولين ورجال الفكر في حركة إصلاح يقودها "غورباتشوف " .
ويبدو أن هذا النقد جاء استجابة لواقع قاس مرير كان يعاني منه الاتحاد السوفياتي . إن " غورباتشوف " يقول في سياق نقده ما نصُّه : " ولقد أدت بنا مقاربة الوضع إلى استخلاص استنتاج حازم لا يرحم . إن البلد على شفا وضع تأزّمي . وقد توصلنا إلى الاستنتاج في اجتماعات اللجنة المركزية في نيسان ( إبريل 1985م ) التي حددت نقطة الانعطاف نحو النهج الاستراتيجي الجديد ، نهج " اليريسترويكا " وأسست لمفهومها " ( 4 ) .
ويعلن غورباتشوف هذا النقد على العالم ، بكل ما فيه كشف لمشاكل الاتحاد السوفياتي في ميادينه المختلفة ، مما سنشير إليه بعد قليل .
ولكنه يُصرُّ في كتابه على أن دراساتهم وتحليلاتهم جميعهم كانت نابعة من توجيهات ومبادئ : " ف . إ . لينين ، المثال اللينيني للاشتراكية ، بالنسبة إليهم ، المصدر الذي لا ينضب للفكر الديالكتيكي المبدع والغِنَى النظري وثقب النظر السياسي ... " ( 5 ) . هذا بالنسبة لهم ولما يتصوّرون في وثنيتهم !
إنه إصرار على الفكر الإلحادي والنظرية المادية الديالكتيكية والتاريخية الديالكتيكية . إن المناداة بالديمقراطية عندهم اليوم لا تتطلب تغييراً في البيت الروسي ونظامه ، وفكره ومعتقده . أما المناداة بالإسلام ، بالتوحيد ، فإنها تتطلب تغييراً جذريَّاً داخل الإنسان وكيانه ، تغييراً يحقق في واقع الحياة نظاماً مبدعاً عبقرياً بمقدار ما يحمل التغيير الذاتي من صدق وولاء لله ، وعلم أمين بمنهاج الله ، وموهبة بشرية مؤمنة قادرة على العطاء . إنه تغيير شامل حقيقي ، ونقلة واسعة عظيمة من الفكر إلى الإيمان والتوحيد . إنه ، حين يصدق ، يكون أعظم تغيير يشهده الإنسان في حياته كلها !
" غورباتشوف " يوضح معالم أساسية في سياسة الاتحاد السوفياتي في كتابه هذا : " بيريسترويكا والتفكير الجديد لبلادنا والعالم أجمع " .
إنه ينقد المجتمع السوفياتي في ميادينه المختلفة ، ويكشف عن الأخطاء الكبيرة التي وقعت فيها مسيرة الاشتراكية . ونورد نماذج عاجلة من نقده هنا : " اصطدمنا أول ما اصطدمنا بالجمود الحاصل في النمو الاقتصادي ... " ، " والشيء نفسه حدث في بناء المجتمعات ، حيث دفن قسم هائل من الثروات الوطنية نتيجة لاستغراق العمل فترات زمنية طويلة ... " ، " ومع مرور الوقت أصبح من الصعب الإفادة من المصادر الطبيعية ... " ، ولكن كل ذلك مع الأسف ليس كل شيء . فعلى نحو هادئ وغير ملحوظ ، بدأت القيم الفكرية والأخلاقية تتقوَّض ... " ، " وأصاب الضعف القيادة الحزبية ، و انعدمت روح المبادرة في بعض العمليات الاجتماعية المهمة .. " ، " وفي بعض المستويات القيادة برزت مواقف الاستخفاف بالقانون ... " ( 6 ) .(/4)
ويحلل غورباتشوف الظروف التي نضجت فيها هذه القضية . وهو يقول إنها ليست إعلاناً طناناً ولكنها برنامج أعد بدقة ( 7 ) ، يشمل معظم نواحي الحياة عندهم والمجتمع ، ويكون محور تنشيط العامل البشري ( 8 ) ، ويُعرِّفها فيقول : " إنها تعني تخليص المجتمع بحيوية من تشويه الخلقية الاشتراكية .
وهو يراجع التاريخ ليأخذ دروساً منه . ويعتبر أن مَردَّ الأخطاء في المقام الأول هو " التدخل الفظ للقوى الإمبريالية في شئوننا الداخلية ". " وغورباتشوف " " يُعلن نهج المجاهرة " الغلاسنوست " في خطته ويرفع كل المحظورات والتحديدات التي لم تكن مبنية على أُسس مبرزة " . وينهج كذلك في إصلاحات اجتماعية مع الإصلاح الاقتصادي . فيدعو إلى محاربة " ظاهرة السكر وتعاطي الخمور " . ويدعو إلى الديمقراطية من خلال الإِطار الاشتراكي . ويدعو إلى دور جديد للنقابات ، وإلى الاستفادة من طاقة الشباب . وأغرب ما يدعو إليه هو الدور الجديد للمرأة . فهو يقول : " ولكن في غمرة مشكلاتنا اليومية الصعبة كدنا ننسى حقوق المرأة ومتطلباتها المتميزة المختلفة بدورها أُماً وربَّة أسرة ، كما كدنا ننسى وظيفتها التي لا بديل عنها مربّية للأطفال ... " ( 9 ) . ويناقش موقف الغرب من حركته هذه فيقول : " تحاول بعض وسائل الإعلام الجماهيري خصوصاً في الولايات المتحدة الأمريكية أن يصوروا البيريسترويكا على أنها اتجاه ليبرالي يجري السير فيه بضغط من الغرب . ولا يسعنا بالطبع إلا أن نقرَّ كفاءة الإعلاميين الغربيين " ( 10 ) .
وحين يُقرُّ غورباتشوف بوجود الخلافات بالخيار الاجتماعي والمعتقدات الدينية والقناعات الأيديولوجية وأُسلوب الحياة ، فإنه يدعو في الوقت نفسه إلى التفكير السياسي الجديد الذي توصل إليه مؤتمرهم السابع والعشرون حول نظرية العالم المتناقض ولكن المترابط وذي العلاقات المتبادلة المتفاعلة . كما يدعو إلى تحسين العلاقات الدولية على قاعدة التدويل الواسع ، وإلى فصل المواقف السياسية عن التعصب الأيديولوجي ( 11 ) .
ويهاجم الولايات المتحدة بصورة خاصة والبريطانيين وغيرهم من دول الغرب الذين يعتبرهم المسؤولين عن مشكلات العالم . ويضرب مثلاً بأمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا والخليج العربي ( 12 ) ، ويسوّغ تدخلهم " اللاأخلاقي " في أفغانستان بأجمل الألفاظ وأحلاها . ومع ذلك يقول : " يجب أن يُترك لكافة الشعوب حق اختيار طريقها في التطور والتصرف بمصيرها وأراضيها ومواردها البشرية والطبيعية .. " ( 12 مكرر ) .
ويبقى السؤال الواضح لماذا لا تطبق هذه المبادئ في فلسطين ، وكيف يسمح الاتحاد السوفياتي أن يُطرد شعب كامل من أرضه وموارده ، لتُسلَّم إلى أُناس يأتون من أوربا وأمريكا والاتحاد السوفياتي ، لا يرتبطون بفلسطين بأي رباط من مولد أو حقوق ، إلا ما يهبه المنطق السوفياتي والمنطق الرأسمالي والمنطق الصهيوني ، عندما يجمع هؤلاء مصلحة مادية مشتركة في مرحلة من مراحل التاريخ ، تُطوى فيها القيم والمبادئ والإيديولوجية .
إذا كانت المواقف السياسية لأي أمة تعنى في حقيقتها المواقف التي تتمثل فيها وتجتمع فيها مصالحها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية ، وإذا كانت " الأيديولوجية " هي الإطار أو الوعاء الذي يحضن ذلك كله ، فكيف يمكن فصل " الأيديولوجية " عن المواقف السياسية ؟! وماذا يبقى إذن " الأيديولوجية " من وظيفة للحياة ؟! وما هي الحاجة إليها بعد ذلك ؟! .
لقد عزلت أوروبا الدين عن مجتمعها في نظام ديمقراطي علماني واضح ، وتركت بذلك كلَّ " أيديولوجيات الدين " ! وهل يدعو الاتحاد السوفياتي اليوم إلى عزل أيديولوجياته عن الحياة وحصرها في معابدها الخاصة ، لتحنَّط أوثاناً تؤدَّى لها الطقوس ؟!
أو لا يشعر " غورباتشوف " أنه متناقض مع نفسه حين يعلن في كتابه أن جميع حلولهم لجميع مشكلاتهم تنبع من الاشتراكية وأيديولوجيتها ، وأنهم يقيسون كل نجاحاتهم وأخطائهم بمعايير اشتراكية ، ثم يدعو بعد ذلك إلى فصل المواقف السياسية عن التعصب الأيديولوجي .
الذين يتوهمون بأن غورباتشوف قد فصل التعصب الأيديولوجي عليه أن يسمع ما قاله في خطبته بمناسبة العيد السبعين للثورة البلشفية ، حين قال : " في أكتوبر 1917م انفصلنا عن العالم القديم رافضين إياه على طول الخط . ونحن ماضون صوب عالم جديد هو عالم الشيوعية " ( 14 ) .(/5)
أمام الفشل الاقتصادي الذي كاد يخنق الاتحاد السوفياتي ، أصبح الاتحاد السوفياتي بحاجة إلى فترة يعطي الجهد الأكبر للمشكلات الداخلية . ولذلك نعتقد أنَّ من أهم محاور السياسة السوفياتية الخارجية مع أمريكا هو السعي الملحُّ للوصول إلى تخفيض التسلح وإلى مستوى من التفاهم . ولذلك عقد الطرفان عدة لقاءات في " جنيف " و " ريكيافيك " حتى لقاء مالطة الأخير ، وكان من أهم الموضوعات التي يلحُّ بها الاتحاد السوفياتي هو نزع السلاح أو تقليصه ، وخاصة السلاح الموجود في أوروبا في القواعد الأمريكية . وكان منطق الاتحاد السوفياتي في ذلك يحمل درجة مقنعة قوية بالنسبة لأمريكا . فاسمعه يقول : " لا جدال في أن الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية دولتان جبارتان لهما مصالح واسعة . ولكل من بلدينا حلفاؤه وأصدقاؤه . ثم إن لنا أولوياتنا في السياسة الخارجية . ولكني لا أعتقد أنه يترتَّب على ذلك حتماً أن يكون محكوماً بالمجابهة . وسيكون منطقياً أكثر لو توصلنا إلى استنتاج آخر ، وهو وجود مسؤولية رفيعة المستوى على الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة عن مصائر العالم . إن السلاح النووي محشود بشكل رئيس فيهما . وإن عشرة بالمائة ـ بل أقول إن واحداً بالمائة ـ مما تملكه هاتان الدولتان كاف لإنزال خسارة لا تعوّض بالكرة الأرضية وبالحضارة البشرية بأسرهما " ( 14 ) .
إن سباق التسلح الرهيب الذي استغرق معظم القرن العشرين ، والذي اشتركت فيه الدولتان الكبيرتان أدى بصورة طبيعية إلى هذا الوضع الرهيب الذي يصفه غورباتشوف . وكان هذا السباق الرهيب تدفعه " أيديولوجيات " كل من البلدين ومصالحهما . والدافع الحقيقي لهذا الموقف الجديد لم يكن " أيديولوجيات " وقيم ومثل إنسانية ، مهما ادعى أي من الطرفين ، ولكن الدافع والمنطلق كان المصالح التي نبعت منها " الأيديولوجيات " وطرق حمايتها . ذلك لأنه في نفس الوقت الذي يعلن هذا أو ذاك بعض النظرات الإنسانية ، كانت جيوش كل منهما تجوب الأرض مع هدير الطائرات والدبابات والصواريخ ، فبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة " ضم الاتحاد السوفياتي لاتفيا ولتوانيا وأستونيا وأجزاء من فلندا واليابان ، وفرضت حكومات شيوعية بالحديد والنار على بولندا وتشيكوسلوفاكيا والمجر ورومانيا وبلغاريا وكوريا الشمالية ، وحاولت الاستيلاء على اليونان وتركيا وأجزاء من إيران . وخلال العقود التالية ضمّ إلى فلكه ألمانيا الشرقية وكوبا وفيتنام وكمبوديا ولاوس وأنجولا وموزامبيق وأثيوبيا واليمن وأفغانستان ونيكاراجوا ... وغيرها " ( 15 ) . أين كانت القيم الإنسانية في حرب أفغانستان التي استمرت ثلاث عشرة سنة حيث كان من أقل جرائمها " أنها دخلت قرية ، فربطت أيدي وأقدام المدنيين ، وربطت أجسامهم معاً كأعواد الحطب ، ثم أحرقتهم أحياء " ( 16 ) .
ولكن هذه الجرائم تتضاءل أمام جرائم الديمقراطية الغربية التي تركت أكوام الأشلاء والجماجم والدمار في مناطق واسعة من الأرض . أين هي من إلقاء القنابل الذرية على المدنيين في نجازاكي وهيروشيما في اليابان !
وإذا كنا عرفنا من خلال هذه المقتطفات لمحات عن شخصية غورباتشوف وسياسة الاتحاد السوفياتي في أخطر مراحل حياته ، فمن المناسب أن نعرف نوع التفكير الغربي ومستواه ، وكيف ينظر إلى الأحداث والشعوب والعالم . والولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الغربية الأولى ، وهي التي تحمل مسئولية الأهوال التي يعاني منها العالم اليوم ، والمجازر الممتدة فيه ، واللهيب الذي لا يكاد ينطفئ ، بعد أن ورث عن انكلترا قيادة العالم الغربي ومسؤولية العدوان في الأرض .(/6)
ويمكن أن نطلع على وجهة النظر الأمريكية والفكر المادي الرأسمالي الذي تحمله من خلال مقتطفات نأخذها من كتاب " نصر بلا حرب " الذي وضعه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابق ريتشارد نيكسون . وسنلمس النظرة المادية لديهم والتناقض كذلك ، كما لمسناه لدى فكر غورباتشوف والاتحاد السوفياتي . يقول نيكسون في كتابه هذا : " ليس السلم الحقيقي إنهاء المنازعات بل وسيلة للعيش معها " ( 16 ) . وهو يُبين استحالة إنهاء الخلافات مع الاتحاد السوفياتي لأنها خلافات في أسلوب التفكير و " الأيديولوجية " . ويرى أن الطريق الصحيح للتفاوض مع الروس هو متابعة تطوير الأسلحة النووية في أمريكا ، لتنافس التطوير الذي تنشط فيه روسيا . يقول : " يجب أن تكون قواتنا الاستراتيجية مناظرة لقوات موسكو من حيث قدرتها في القتال " (17) وخلافاً لما يدعي غورباتشوف ، فإن نيكسون يقول : " ... ولكن السبب الجذري للتنافس الأمريكي السوفياتي هو سبب أيديولوجي ... " ( 18 ) . وينتقد نيكسون بعض مواقف أمريكا حين كانت تهادن موسكو أو تتراخى معها كما حدث في مفاوضات " ريكيافيك " حسب ما يقول ( 19 ) . ولكنه يعود يبين في أكثر من موقف أن منطلق أمريكا يجب أن يكون الحرص على حماية مصالحها العديدة في العالم ، بعيداً عن المثل والأيديولوجيات . ويعلق نيكسون على كلام الرئيس أنور السادات حول دخول القوات إلى أفغانستان حين قال : " لقد بدأت بالفعل المعركة حول مخازن البترول " . يعلق نيكسون ويقول : " وكان هذا صحيحاً تماماً " ( 20 ) إذن تناقض نيكسون ، كما تناقض غورباتشوف ، وتظل المصالح هي المحرك الأول للخلاف واللقاء .
يدرس نيكسون السياسة الأمريكية تجاه الاتحاد السوفياتي ، وتجاه اليابان ويدعو إلى التعاون معها . ويتحدث عن العملاق الصيني الذي أخذ يستيقظ ، والذي يتوقع له نيكسون دوراً هاماً في القرن الواحد والعشرين . لذلك يدعو إلى أن تقوِّي الولايات المتحدة علاقتها مع الصين الشيوعية لأسباب عدة من بينها أن لا يقع بينها وبين الاتحاد السوفياتي تقارب . ثم يتحدث عن العالم الثالث ، العالم المتأخر . وينسى في سياق حديثه أن الدول الغربية هي أهم أسباب تخلف دول العالم الثالث بسبب احتلالها الطويل لها ، ويسبب نهب ثرواتها وإفقار شعوبها ، بالضبط كما فعل الاتحاد السوفياتي مع الدول التي تدور في فلكه . ويعتبر نيكسون أن من بركات سياسة أمريكا هو ضمان بقاء إسرائيل . إنه يعتبر أن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة ، ويعتبر من أجل ذلك أن اتفاقيات " كامب ديفيد " من أهم إنجازات الدبلوماسية الأمريكية في فترة ما بعد الحرب 1973م . ويبين مدى الدعم الذي قدمته أمريكا لإسرائيل بالسلاح والمال وغيره . إنه عن إسرائيل : " وهي الأمة الوحيدة التي يتحدَّى سكانها اليابان باعتبارهم الأفضل تعليماً . لقد بهرت إسرائيل العالم كله بكل ما أنجزته خلال أربعين عاماًَ من الحرب . وستدهش العالم بما تستطيع أن تنجزه خلال أربعين سنة من السلام " ( 21 ) . ثم يدعو إسرائيل للدخول في مفاوضات مع العرب لإحلال السلام . وينسى نيكسون أن قيام دولة اليهود في فلسطين يمثل أبشع جريمة عرفها الإنسان في تاريخه . إنه ينسى مآسي الشعب الفلسطيني والمجازر التي أقامتها إسرائيل فيه ، والتشرد الذي ألحقته برجاله ونسائه ، وأطفاله . نسي نيكسون هول هذه الجرائم الممتدة ويعتبرها إنجازات بهرت العالم . هذا هو ميزان الغرب المادي الذي يتقلب على ضوء المصالح المادية المتقلبة .
ويتحدث عن الأصولية الإسلامية ويعتبر أن هنالك خطرين ، خطر الشيوعية وخطر الأصولية الإسلامية باعتبارها الأداة الأساسية للتعبير العنيف . ويضرب مثلاً بالثورة الإيرانية ليبين اتجاهات الأصولية الإسلامية . ويقول : " إن الثوريين الشيوعيين والإسلاميين أعداء أيديولوجيون يتبنون هدفاً مشتركاً : الرغبة في الحصول على السلطة بأي وسيلة ضرورية ، بغية فرض سيطرة ديكتاتورية تقوم على مُثلهم التي لا تحتمل . ولن تحقق أي من الثورتين حياة أَفضل للشعوب في العالم الثالث . بل سيجعلون الأمور أسوأ . ولكن إحداهما أو الأخرى ستسود ما لم يضع الغرب سياسة موحّدة لمواجهة الأبعاد الاقتصادية والروحيّة على حد سواء للصراع الدائر الآن في العالم الثالث . إن رياح التغيير في العالم الثالث تكتسب قوة العاصفة . ونحن لن نستطيع إيقافها ، ولكننا نستطيع تغيير اتجاهها " ( 22 ) . إن أحد المحاور الرئيسة لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية هي الديمقراطية . إنها تريد أن تنشر الديمقراطية الخاصة بها في الأرض كلها . وتكاد تجعل تطبيقها أساساً لتقديم المساعدات أحياناً ، وأساساً لتغطية أطماعها وعدوانها ، وأساساً لتسويغ نهب ثروات الشعوب .(/7)
والسبب في ذلك أنها تريد تأمين مصالحها عن طريق " الديمقراطية " . ولو تأمنَّت مصالحها بأسلوب آخر ، فأنها ترضى ذلك الأسلوب أحياناً . يقول نيكسون : " قد لا نتفق مع السياسة الخارجية للمكسيك ، ولا مع سياستها التي تقوم على الحزب الواحد ، ولكن ينبغي لنا أن نحترم حقَّها في أن تخط مسارها المستقل ، بشرط أن لا يتعارض مسارها مع مصالحنا " ( 23 ) . إنها المصلحة !
نظرية أمريكا سهلة جداً . إنها تريد من دول العالم أن لا تعارض مصالح أمريكا . دول العالم كلها يجب أن تعتبر مصلحة أمريكا وحدها هي الأهم ، وتضعها في الاعتبار الأول .
يقول نيكسون : " وقد أقام الرئيس ريجان في سنة 1982م المؤسسة الوطنية للمنح من أجل الديمقراطية ، وذلك للمساعدة في نشر الديمقراطية في أنحاء العالم . وهي تراقب الانتخابات ، وتمول مراكز التفكير والمنظمات المدنية ومؤتمرات العمل والصحف والمجموعات النسائية والاتحادات والأحزاب السياسية الموالية للغرب في العالم الديمقراطي وغير الديمقراطي " ( 24 ) . ومع ذلك يقول : " ينبغي ألا نفرض قيمنا السياسية على الآخرين، ولكن ينبغي لنا لا نتردد أبداً في إعلانها " ( 25 ) .
حين يتحدث " غورباتشوف " في كتابه المذكور فإنه يعرض ما يحسبه النظرة الإنسانية للفكر الاشتراكي وللسياسة الروسية ، ويطوي كلية هول الجرائم التي ارتكبوها بحق الإنسان على الأرض ، ويبين من ناحية ثانية الدور الشرير للولايات المتحدة ولسائر دول الغرب ، ويكشف بعضاً من ألاعيبها وجرائمها . وحين يتحدث " نيكسون " فإنه يعرض كذلك ما يحسبه نشاطاً إنسانياً وفكراً مزخرفاً ، ويطوي جرائم أمريكا ، ولكنه يعدِّد جرائم الاتحاد السوفياتي المرعبة في الأرض ، وكلاهما لا يرى في الأرض في العالم إلاّ الشيوعية والرأسمالية . ولا يفطن أحد منهما أبداً إلى أن هنالك إسلاماً ديناً عظيماً له فكره ونهجه وأهدافه الواضحة الجليّة . فمهما يكتب هؤلاء وهؤلاء نصل إلى حقيقة هامة هي أنهم لا يعرفون الإسلام ، حتى حين يتذكرونه ويحسبون أنهم يتحدثون عنه .
إن أحسن ما في الديمقراطية مما يتغنى به دعاتها ومما يحسبونه حرية وعدلاً هو أدنى بكثير مما في الشورى وفي الإسلام ، ولكنه قد يكون أكبر مما هو في واقع المسلمين اليوم . وإن أسوأ ما في الديمقراطية هو أخطر ما يحاربه الإسلام في حياة الإنسان على الأرض ، ألا وهو العلمانية والكفر والشرك . فلماذا انبهر بعض المسلمين بالديمقراطية إذن ؟! إنه واقعنا المرّ وليس للإسلام مسؤولية في ذلك .
إن الغرب والشرق لا يعرفان حقيقة الإسلام . زعماؤهم وشعوبهم تجهل حقيقة الإسلام ، إلا من تفرَّغ لدراسته من المتخصصين المستشرقين أو الأكاديميين الجامعيين ، وهم قلة من ناحية ، ومن ناحية أخرى لم يدرسوه من أصوله بقدر ما درسوه من خلال تاريخ غير دقيق وأحداث مضطربة ، وربما خالط ذلك نفسية حاقدة تسيء التفسير وتبحث عن العورات . فإذا كان الغرب والشرق يتحملان بعض المسؤولية عن جهلهما بالإسلام ، فإن المسلمين يتحملون مسؤولية أكبر ، مسؤولية تمتد من الفرد المسلم ، إلى الجماعات والحركات الإسلامية ، إلى الشعوب المسلمة ، إلى الدول المسلمة . هؤلاء كلهم مسؤولون حين لم يشعروا أن واجبهم الأول هو إبلاغ دعوة الله بكل صفائها ونقائها إلى الناس من مصادرها الربانية ، كما نزلت وحياً على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .
لقد انصرف المسلمون عملياً عن المهمَّة الأولى للدعوة الإسلامية في الأرض ، انصرفوا عن دعوة الناس إلى الإِيمان والتوحيد وإلى حقائق الإسلام في القرآن والسنة بنقائها وصفائها ، وبأمانة وصدق . فمنهم من انصرف عن أمر الإسلام كله ، ومنهم من انصرف عن أمر الدعوة ، ومنهم من شغلته دعوته الناس إلى تكتله وحزبه ، أو إلى فكره ومذهبه ، أو إلى زعيمه ، ومنهم من شغلته الفتن والخلافات ، ومنهم بعد أن تخلى عن مهمة الدعوة الحقيقية أخذ يتأثر بالغرب أو الشرق ، ثمَّ أخذت أفكار الغرب أو الشرق تتسلل إليهم شيئاً فشيئاً .
لقد مرَّ معنا قول نيكسون عن الإسلام وتصوره له . وتقول الكاتبة " بارباراأميل " في كلمة نشرتها مجلة التايمز في عددها الصادر في 10/8/1990 : " إن الشرق الأوسط الإسلامي الماركسي النضالي من الممكن أن يكون أحد أخطر التهديدات للسلام العالمي ، وربما يتوجب علينا مواجهة النتائج الحتمية للعروبة أجمع وللإسلام أجمع .... " .(/8)
لقد امتد جهلهم بالإسلام حتى قارنوه بالماركسية . وإن مبادئهم كلها لم تسعفهم أبداً على أن يروا الحقيقة الواضحة وهي أن للمسلمين ، كما لهم ولغيرهم ، الحق في ديارهم وثرواتهم ، وأن لهم الحق أن يدافعوا عنها ويدفعوا الظلم والعدوان والاستغلال ( وما يسمونه " الاستعمار " ) . إنهم يريدون أن يحموا مصالحهم وحدهم فقط ، ومصالحهم هي استعباد الشعوب وإبقاؤها على ضعفها ، ونهب خبراتها ، من خلال زخارف كاذبة وفتن متتابعة ، وشهوات وأهواء ، وجنس وخمور ومخدّرات ، وحرية متفلتة مزعزمة ، ولا دينية ( علمانية ) معلنة ، وشرك ظاهر .
لقد امتدّ الصراع بين أمريكا والاتحاد السوفياتي إلى معظم أنحاء البسيطة حتى شمل أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وجنوب شرقها ، والشرق الأوسط . ولكنّ منطقة الشرق الأوسط تظل موضع التنافس الأكبر والصراع الأوسع والمؤامرات المتواصلة . ويقول نيكسون : " .. ولكن منطقة الشرق الأوسط تظلّ هي المنطقة الأكثر احتمالاً للانفجار في العالم كله ـ مهد الحضارة الذي يمكن أن يغدو مقبرتها " ( 26 ) .
ويرسم نيكسون في كتابه المذكور ملامح الخطة التي يوصي أن تتبع في الصراع مع موسكو ، ويشير إلى ضرورة استغلال أماني الشعوب وإلى تقديم الاغراءات .
يقول نيكسون : " إن منافستنا مع موسكو يجب أن لا تقتصر على العالم غير الشيوعي ... إننا لا نستطيع الفوز في الصراع الأمريكي السوفياتي ما لم نقم بالهجوم ولكنه سلمي .... ليس فقط في أوربا الشرقية ولكن أيضاً داخل الاتحاد السوفياتي ذاته " ( 27 ) ثم يبين نيكسون أن عليهم أن يطوروا " استراتيجية " تعتمد على أماني الشعوب الخاضعة للقهر الروسي ، وعلى إغراءات الغرب ونظمه ليساعدوا على توجيه رياح التغيير ولا يوجد شيء في هذا العالم ، حسب رأيه ، لديه مناعة ضد قوى التغيير . ويقول أيضاً إن أوروبا الشرقية اليوم ناضجة لتغيير إيجابي سلمّي . ويعتبر الإذاعة والتلفزيون والصحافة من الوسائل المساعدة في ذلك .
أما موقف هؤلاء وهؤلاء من قضايا العالم الإسلامي فأوضح من كل بيان ، وبخاصة بالنسبة لقضية فلسطين . فنيكسون يعتبر قيام دولة اليهود في فلسطين من أعظم إنجازات أمريكا . وقد صرح ذات مرة في حديث عن فلسطين بأنه يجب توفير الحماية الكاملة لدولة اليهود وإن هذه مسؤولية كل رئيس للولايات المتحدة .
وحسبك تصريح " دان كويل " ، نائب الرئيس الأمريكي ، في حديثه الذي نشرته " الحياة " حيث قال رداً على بعض الأسئلة : ( 28 )
" إن دولة إسرائيل مهمة وأنا اعتبر نفسي صهيونياً وأفترض أن عدداً كبيراً من الموجودين هنا إلى هذه الطاولة يعتبرون أنفسهم كذلك " . وقال : " يجب النظر إلى الرئيس بوش على أنه صديق قوي وداعم لإسرائيل . ولننظر إلى السجل " . أي سجل خدمات بوش لإسرائيل . ثم أخذ يعددها واحدة . وكل واحدة منها طعنة في قلب العالم الإسلامي . ثم قال : " إن إسرائيل حليف ، ولكنها أكثر من حليف ، و يمكننا الاعتماد عليه في المنطقة ... " .
ولقد تكررت مثل هذه التصريحات من مسؤولين أمريكيين . وكأنهم بتصريحاتهم هذه يحققون ما كان يخشاه الرئيس الأمريكي ينجامين فرانكلين سنة 1789م في خطابه عند وضع دستور الولايات المتحدة ، حيث قال : " هنالك خطر عظيم يهدِّد الولايات المتحدة الأمريكية وذلك الخطر العظيم هو اليهود " وقال : " ولن تمضي مئتا سنة حتى يكون مصير أحفادنا أن يعملوا في الحقول لإِطعام اليهود ، على حين يظل اليهود في البيوتات المالية يفركون أيديهم مغتبطين " ( 29 ) .
وفي الكتاب الأخير الذي أصدره نيكسون ، ونقلت جريدة الشرق الأوسط بعضاً منه مترجماً في حلقات ـ كتاب " اغتنام اللحظة " ـ كان الإصرار الواضح لنيكسون والرؤية الثابتة هي أن مصالح أمريكا الاقتصادية محور علاقاتها مع ألمانيا وأوروبا وآسيا والعالم كله ( 30 ) وعلى العالم كله أن يخدم مصلحة أمريكا ليكون جزءاً من " النظام العالمي الجديد " .
من منطق هذا النظام الجديد ، ومن منطق السياسة المادية التي عرضنا بعض ملامحها ، نجحت أمريكا برئاسة بوش في تمرير مشروعها الذي ألغى القرار رقم ( 3379 ) الذي يقرر بأن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية . وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أصدرت هذا القرار في شهر تشرين الثاني ( نوفمبر ) سنة 1975م ، بعد جهود طويلة قامت به الدول العربية تدعمها سائر الدول الإسلامية والاتحاد السوفياتي ( 31 ) .(/9)
كان الاتحاد السوفياتي أول الدول التي اعترفت بإسرائيل . ولكن سياسته تغيرت مع الأيام وقطع علاقته الديبلوماسية معها حتى عادت أخيراً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي . وفي جميع حالات الاتحاد السوفياتي ، حتى في الحالات التي كان يدعم فيها الموقف العربي ، لم يكن يتبنى الهموم العربيّة والإسلامية ، ولا النظرة العادلة الأمينة التي تنبع من قناعة ثابتة وإيمان لا يتبدل . ولكن شأنه من حيث المبدأ شأن الولايات المتحدة الأمريكية ، ترسمه المصلحة الخاصة أكثر مما ترسمه المبادئ . إلا ان مصلحة أمريكا في صورتها الجديدة في القرن العشرين ارتبطت بالصهيونية العالمية أو ربطت نفسها بها ربطاً موثقاً ، لم تُجْدِ في فكه كُلُّ المجاملات والتنازلات .
هذه ملامح سريعة عن الفكر والفلسفة والسياسة التي تقود العالم اليوم . إنها المصالح المادية الذاتية لكل دولة ، كما تراها من خلال أطماع هائجة وشهوات ثائرة ونفوس جشعة ظالمة معتدية .
على هذا الفكر المتناقض المضطرب ، وعلى هذه النفسية المريضة القلقة ، تقوم حضارة القرن العشرين ، حضارة الغرب بكل مآسيها ومجازرها ودمائها ودموعها ، وأيتامها وثكالاها ، وأشلائها وجماجمها المتناثرة في الأرض .
لقد رفعت هذه الحضارة عمائر شاهقة ، وأقامت مصانع في كثير مما يحتاجه الإنسان من مأكل ومشرب ولباس وتنقلات ، وكتابة واتصالات ، واستخراج المواد والكنوز من باطن الأرض ، وتوليد الكهرباء ، والأقمار الصناعية والتجول في الفضاء البعيد والقريب ، وتطوير الأسلحة الفتاكة الإجرامية ، حتى انتخبوا السلاح النووي والأسلحة الكيماوية . وكذلك استخلاص المواد من البترول وصناعتها كالمواد البلاستيكية والأقمشة وغيرها . ميادين واسعة من التطور العلمي الماديّ .
هذا كله قدّم تطوراً في الحياة المادية للإنسان . فتقدم الطبُّ بكل فروعه ، وتطورت الهندسة بكل فروعها ، وتطورت سائر العلوم المادية تطوراً حقيقياً انعكس أثره على واقع الإنسان المادي .
وانطلق الإنسان في آفاق السماء الدنيا ، وهبط على القمر ، وأخذ يجول هنا و هناك والآيات البيّنات جليّة أمامه ، واضحة حيثما اتجه ، فهل اعتبر الإنسان وتأمل وتدبّر ؟! (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربّك أنه على كل شيء شهيد . ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط ) . [فصلت :54،53]
سُكرت الأبصار فهي لا ترى ، وعلا القلوب الرّان فهي لا تعي ، وسُدَّت الأسماع فهي صماء !
( ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلّوا فيه يعرجون . لقالوا إنما سُكَّرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ) . [ الحجر : 15،14].
وبدلاً من أن يروا الآيات فيخشعوا وينيبوا إلى الله . أخذهم الغرور حتى حسبوا أنهم ملكوا العالم كله وأخذوا زمام أُموره بأيديهم . فاسمع لنيكسون يقول : (( ...فنحن نقبض على ناصية المستقبل بأيدينا )) (32) . لقد كذب وخسئ . فاللَّه وحده يملك الماضي والحاضر والمستقبل . ولكنها فتنة وابتلاء لينكشف غرور المستكبرين في الأرض .
فمع هذا التقدّم العلمي المادي تفتحت منافذ الشهوات وأبوابها على مصاريعها . وانفلتت الشهوة الجنسية لتلهب الحياة البشرية بأخبث الجرائم والأمراض الجنسية والنفسية . والإيدز ، أحدث الأمراض وليس آخرها ، مثل على ذلك . ورافق هذه الشهوة عريٌ فاضح في الحياة العامة ، في الميادين والشوارع والحدائق وكل مكان . وغرق الناس في هذه الشهوة ، لا يفيقون إلا على حشرجات الموت وعذاب المرض وأنات الضياع .
وانفلتت النفس دون ضابط لها مع الخمور والمخدرات ، حتى أورثت هذه كلها أمراضاً وعاهات . وارتفعت نسبة الجرائم في هذه البلاد المتطورة المتحضرة ، حتى لم تعد تأمن على نفسك في جولاتك في الشارع ، أو في الفندق ، أو في النزهة ، أو في بيتك . جرائم قتل العمد بصورة وحشية ، وجرائم الاغتصاب ، وجرائم السرقة ، ففي العام 1990م ارتفعت نسبة الجريمة في الولايات المتحدة بنسبة 10% عن العام 1989م ( 33 ) .
انطلقت المرأة في المجتمع مساوية للرجل . فرحت المرأة أول الأمر بما هيأ لها هذا الانطلاق من فتنة الاختلاط ، وفرح الرجل حين وجد المرأة رخيصة بين يديه . وتهدّمت الأسرة وتمزّقت روابطها ، وازدادت جرائم القتل ، رجل يقتل زوجته الخائنة ، أو زوجة تقتل زوجها الخائن . وزاد الأمر سوءاً حين امتدت الجريمة في السنوات الأخيرة إلى الطفل في الأسرة . الطفل الذي تضربه أمه ، أو يضربه أبوه ، ضرباً مبرحاً حتى يتشوه فينقل إلى المستشفى ، أو يُقتل تحت الضرب فيموت . أين التربية التي تحرّم الضرب في المدارس وتبيحه في قلب الأسرة ليمارسه الوالدان ، حتى يموت الطفل العاجز ؟ أين معاني الرحمة والإنسانية وحقوق الإنسان ورعاية الطفل في الحضارة الغربية ؟ لقد نشرت الصحف مؤخراً ازدياد نسبة الجرائم مع الأطفال زيادة كبيرة في عدد من البلدان وفي انكلترا خاصة .(/10)
لقد ازدادت كذلك جرائم الاغتصاب . كل يوم تنشر الصحف أنباء مروّعة عن هذه الجرائم في قلب الحضارة التي تعقد المؤتمرات لدراسة حقوق الإنسان ، الحضارة الغربية التي فقدت كُلَّ مقومات الحق الإنساني . رجل يتصدى لامرأة عائدة لمنزلها فيتعدي عليها ثم يقتلها . مجرمون يقتحمون المنازل فيتعدون على النساء ثم يذبحونهن .
جثث تكتشف هنا وهناك لفتيات أو نساء اعتدي عليهن . وامتد الاغتصاب حتى طال الفتيات الصغيرات ، يُعتدى عليهنَّ ثم يقتلن وهن ضعيفات لا يقدرن لصغرهن على الدفاع عن أنفسهنّ .
وأصبح القانون في مجتمع هذه الحضارة يُقرُّ الزِّنا والفاحشة ، فما هو معنى الاغتصاب عندئذ ؟! وأصبح القانون الفاسد يُقرُّ أكثر من ذلك ، أصبح يُقرُّ اللواط ! فماذا بقي من كرامة الإِنسان ؟! ماذا بقي له من أمن أو حرية ؟!
عزلوا دينهم عن الدولة حتى لم يعد له دور في إصلاح المجتمع أبداً . فمن يعالج هذا الفساد المستشري ، ومن يصلحه ؟! عزلوا الدين عن الحياة ، وخنقوه في الكنائس ، حتى امتد فساد المجتمع بزناه ولواطه وجرائمه إلى قلب الكنيسة ، بدلاً من أن تنقل الكنيسة بعض الصلاح إلى المجتمع . وأصبح هذا الفساد هو الذي يصوغ القوانين للناس ، فرُفعت أحكام الإعدام عن القتلة المجرمين ، وعللوا ذلك بادعاء الرحمة والنظرة الإنسانية ، وأصبحت الجرائم الكبيرة لا تنال العقوبة بقدر ما تنال التشجيع . ولم يبق للدين من دور في حياتهم إلا أن يكون رجاله مقدّمة الفساد والعدوان لجيوش الظلم والطغيان في الأرض ، وإلا أن يشاركوا بأكبر قدر ممكن في نشر الفتنة والفساد في الأرض ، حتى أصبحت بعض المراكز الدينية عندهم ، في قلب حضارتهم ، هي نفسها تقيم حفلات الخمور والرقص ، رجالاً ونساء ، فتياناً وفتيات ، وتسهل درب الفاحشة بكل وسائل الفتنة والإغراء ، حفلات يباركها رجال الدين ويغوصون في أوحالها . في هذا الجو لم تعد تقتصر الجريمة على طبقة دون طبقة . لقد أصبح عدد غير قليل من رجال السلطة والمال والقانون يتورطون بجرائم القتل والفاحشة واللواط . كم نشرت الصحف عن فضائح جنسية للوزراء في انجلترا ، ولرجال الكونغرس في أمريكا . أما في إيطاليا فقد حملت الصحف لنا قصة فتاة دخلت الانتخابات وقامت بحملتها الإعلانية بعرض مفاتن جسمها وهي عارية على الناس ( 34 ) . وبالطبع فقد نجحت في الانتخابات ، لتكون الانتخابات دليلاً ليس على فساد هذه المرأة وحدها ولكن على فساد المجتمع نفسه الذي انتخبها أيضاً . وحملت لنا الصحف نبأ اعتقال محافظ واشنطن مجرماً بتهمة تعاطي المخدرات والمتاجرة بها . وامتدت الجريمة في المجتمع الغربي امتداداً واسعاً حتى شملت الطبقات كلها، من الطبقات الدنيا إلى الطبقات العليا .
كل هذا الامتداد للجريمة والفساد يسمونه إما الديمقراطية وإما ديكتاتورية الطبقة العاملة . وقد انهارت ديكتاتورية الطبقة العاملة . وفرح الكثيرون وظنوا أن هذا دليل على موت الشيوعية . وغاب عن بال الكثيرين أن هذا التحوُّل لم يعن أن الملحدين في الأرض آمنوا وثابوا إلى رشدهم ، وعادوا إلى دين الفطرة ـالتوحيد . كلا ! إن الصراع مازال مستمراً حتى اليوم . ونعتقد أن الصرَّاع قد بلغ ذروته مع هذه اللحظات التاريخية من حياة البشرية ، بالرغم من التفاهم الظاهري بين الدولتين الكبيرتين .
إن النفوس لم تتغير ، والأطماع لم تتغير ، المبادئ لم تتغير ، والغنائم مبسوطة أمام هذه الوحوش المفترسة أمام البسمة التي تنشق عن أنياب !
لقد شهد القرن العشرون أكثر الحروب دموية في تاريخ البشرية ، وأكثر نسبة للجرائم بمختلف أنواعها في غلب الحضارة ، وأخطر شعور بالقلق والخوف عرفه الإنسان في تاريخه . وكأن هذه النسبة العالية كانت تتناسب مع ما يحققه العالم من تقدّم علميّ ومادي .
لقد وقع في القرن العشرين بحدود مئة وثلاثين حرباً ، راح ضحيتها مائة وعشرون مليون قتيل . وهذا العدد يفوق عدد من قتلوا في جميع حروب الإنسان فيما قبل 1900م .
قال ونستون تشرشل قبل أكثر من أثنين وأربعين عاماً : (( إن العصر الحجري قد يعود مرة أخرى على أجنحة العلم البرّاقة ، وإن النعم المادية التي تغمر الإنسان الآن ربما تؤدي إلى القضاء عليه تماماً )) .
هذا هو القرن العشرون ! فماذا يحمل القرن الواحد والعشرون للإنسان ؟!
إن قدر الله وقضاءه ماضيان في الحياة الدنيا . ولكن الإنسان يظلّ مسئولاً عن عمله محاسباً عليه ، سنّة من سنن اللّه الماضية وقدراً منه سبحانه وتعالى . وأمام الإنسان فرصة لكي يغير مبادئه التي أورثته هذه المهالك ، وأمامه فرصة لينطلق في رحاب الإيمان والتوحيد ، ليحوّل النعم المادية كلها إلى خير الإنسان وصلاحه ، وطهره ونجاته . أما إذا ظلت الأطماع كما هي ، والمبادئ كما هي ، فإن الصراع ماض ، والأمر بيد اللّه ، للّه الأمر من قبل ومن بعد .(/11)
من هذا الواقع يجب على المسلمين أن ينطلقوا اليوم بوعي قوي ، وإيمان راسخ وثقة باللّه كبيرة ، وهم يؤمنون بأن النصر من عند اللّه ، وأن رحمة اللّه قريبة من المحسنين ، وأن أبواب الفرج مفتحة دائماً للصادقين العاملين ، حين تتوافر فيهم الخصائص الربّانية ، والصفات الإيمانية ، كما حددها منهاج اللّه ، قرآناً وسنّة ، وحين يرتفعون إليها إيماناً وعلماً وممارسة .
وأول خطوة نعتقد أنها ضرورية في هذه الظروف العصبية هي أن تقف الحركات الإسلامية ، حركة حركة ، مع نفسها ، لتنقد هي نفسها مسيرتها السابقة ، وتحدّد الأخطاء والعثرات والانحرافات .
والخطوة الثانية هي بناء نهج جديد على أساس من القرآن والسنّة والواقع ، لا ينحصر في طنين العموميات ، وزخرفة الشعارات ، ولكن يضع التفاصيل للعمل والتطبيق ، ويضع تفاصيل الدرب إلى أهداف محددة مدروسة واضحة ، بوسائل وأساليب مدروسة واضحة .
والخطوة الثالثة هي لقاء الحركات الإسلامية على النحو الذي نعرضه في الفصل المقبل ، ليكون هذا اللقاء خطوة إلى الهدف الكبير ـ بناء الأمة المسلمة الواحدة ـ الهدف الذي أمر اللّه عباده المؤمنين بالركض إليه ، على طريق ممتد وصراط مستقيم إلى الجنة .
ولقد قدّمنا نموذجاً للنهج الذي ندعو إليه ، لنشقَّ الطريق ولتلتقي القلوب المؤمنة ، ولتنطلق على دربها الممتدّ إلى الجنة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كان هذا اللقاء خلال الأسبوع الأول من شهر كانون الأول (ديسمبر) عام 1989م .
(2) " بيريسترويكا والتفكير الجديد لبلادنا والعالم أجمع " . ( ص: 46ـ 47 ) ترجمة د. أحمد محمد شومان وإخوانه نشر دار الفارابي ـ بيروت . الطبعة 1988م .
(3) المرجع السابق . ( ص : 192 ) .
(4) المرجع السابق ( ص : 27 ) .
(5) المرجع السابق ( ص : 29 ) .
(6) المرجع السابق : ( ص : 17 ـ 28 ) .
(7) (3) ، (4) المرجع السابق ( ص : 32، 37 ، 44 ) .
(8) ( ص : 49 ) . (6) ( ص : 35 ) . (7) ( ص : 145 ) .
(9) المرجع السابق : ( ص : 166 ) .
(10) المرجع السابق ( ص : 181 ) .
(11) المرجع السابق : ( ص : 196ـ 203 ) .
(12) ، ( 12مكرر ) المرجع السابق : ( ص : 250 ) ، ( ص : 253 ) .
(13) " كتاب نصر بلا حرب " لنيكسون . ( ص:330) مركز الأهرام للترجمة والنشر ـ إعداد وتقديم المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة . الطبعة الأولى 1409هـ ـ 1988م .
(14) البيروسترويكا ( ص : 327 ) .
(15) " نصر بلا حرب " ( ص : 37 ) .
(16) نصر بلا حرب . ( ص : 39 ) .
(17) المرجع السابق . ( ص : 94 ) .
(18) المرجع السابق : ( ص : 115 ) .
(19) المرجع السابق ( ص : 84 ) .
(20) المرجع السابق . ( ص : 150 ) .
(21) نصر بلا حرب ( ص : 292 ) .
(22) المرجع السابق ( ص : 308 ) .
(23) المرجع السابق ( ص : 302 ) .
(24) المرجع السابق ( ص : 312 ) .
(25) المرجع السابق ( ص : 312 ) .
(26) نصر بلا حرب ( ص : 284 ) .
(27) نصر بلا حرب ( ص : 156 ـ 169 ) .
(28) صحيفة الحياة . العدد ( 10673 ) تاريخ 27شوال 1412هـ الموافق 29نيسان (ابريل) 1992م .
(29) مجلة الإسراء العدد ( 87 ) . ربيع الأول 1406هـ ، كانون أول ديسمبر 1985م .
(30) الشرق الأوسط . بحلقات ابتدأت في 19/12/1991م .
(31) الشرق الأوسط . العدد 4779 . الأحد 29/12/1991م .
(32) نصر بلا حرب : (ص : 335 ) .
(33) جريدة المدينة المنورة في عددها الصادر في 18/10/1411هـ .
(34) اسمها " اليوناستالر " والملقبة " تشيتبشولينا " أصلها هنغاريا . دفعتها الجماهير الإيطالية إلى مجلس النواب في انتخابات ( 1987م ) حين اختصرت برنامجها الانتخابي في عرض جسمها شبه العاري في شوارع روما ، جسدها الذي اثبت قدرة فائقة في تعبئة الجماهير لصالحها . مجلة الوطن العربي . العدد 223 ـ 749 الجمعة 28/6/1991م .(/12)
المسلمون ومسلسل التنازلات إلى أين ؟ وإلى متى ?
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
لو رجعنا إلى تاريخ قضيّة فلسطين منذ ابتداء زحف الإِنجليز إليها واحتلالها وقيام الانتداب البريطاني ، لو رجعنا إلى تلك اللحظات التي تعهّدت بريطانيا فيها بتحقيق وعد بلفور الذي صدر سنة 1917م وإلى ما قبلها بقليل ، لأدركنا أنه كان هناك خُطَّة التقت عليها قوى المجرمين في الأرض ، وما زالوا يلتقون عليها ، لتمزيق العالم الإسلامي ولتجعل من فلسطين قاعدة رئيسة للانطلاق في جميع الاتجاهات ، لمتابعة عمليات الإجرام في أرض الإسلام . ويمكن أن نعود بهذا التصوّر إلى قرون سابقة ، لنرى تتابع الخطوات على صورة منتظمة مدروسة . وليس هنا مكان تعداد ذلك ووتتبّعه ، ولكن نشير بشكل موجز سريع إلى أهمّ معالم ذلك منذ بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وتصدّي قريش له :
موقف قريش من الرسول صلى الله عليه وسلم ، غدر اليهود ونقضهم للعهود في المدينة المنورة ، معركة الأحزاب التي أحاطت بالمدينة المنورة وجمعت قوى اليهود والكفر والنفاق ، تجمّع أعداء الإسلام خارج الجزيرة العربيّة من فارس وكذلك روما ثمَّ معركة مؤتة وسائر المعارك مع الرومان والفرس ، تجمّع الحروب الصليبية تحت ادّعاء الدّين واستغلاله لتوجيه الناس إلى قتال يُؤَمِّنون به مصالح المجرمين في الأرض ، نكبة الأندلس ، الغارة الأوربية الشاملة على العالم الإسلامي ابتداءً من أوائل القرن السادس عشر ومعركة " مالاقا " تقودها البرتغال ، لتعلن هدفها الإجرامي باحتلال الهند وغيرها ، وانهيار القاهرة وغيرها من عواصم العالم الإسلامي ثم انهيار مكة . وتمتد هذه الغارة فتحتل فرنسا في القرن التاسع عشر : الجزائر وتونس والسنغال والنيجر ، وتحتل إنكلترا الهند المسلمة والملايو وعدن والسودان ومصر ، ويمدون انتدابهم إلى البحرين ومسقط والكويت . وتحتل روسيا بلاد القوقاز وطشقند وسمرقند وبخارى وأوزبكستان وخوكند ، وتحتل إيطاليا ليبيا وأرتيريا ، وهولندا تحتلّ إندونيسيا وجنوب جزيرة بورنيو ، وتحتلّ البرتغال مضيق هرمز وعدن والبحرين ثم يطردهم الإنجليز من هذه المواقع ويحتلونها هم . وتحتل بلجيكا بعض دول إِفريقيا ، وغيرها يحتل أقطاراً أخرى ، في نَهَم جشع وطمع لثروات العالم الإسلامي .
بامتداد هذه الغارة ، والعالم الإسلامي في سبات عميق ، أحاطت الدول الأوربية بالعالم الإسلامي إحاطة الحبل حول العنق . فسهل تقسيم العالم الإسلامي ، ثمَّ إِسقاط الخلافة الإسلامية ، ثمّ التسلّل الإعلامي والفكري والاقتصادي والسياسي إلى مختلف ديار المسلمين تسلّلاً ناعماً ، يلقي بعض الضجيج ضدّه بين الحين والآخر ، ثمّ سرعان ما يهدأ ويستمرّ التسلّل !
ولقد استمرّ هذا الحال زمناً غير قصير ، كان موقف المسلمين منه موقفاً حمل بعض الثورات والانتفاضات والمقاومات ، ولكنه بصورته العامة ومحصّلته النهائيّة كان يمثّل مسلسلاً أسميه " مسلسل التنازل " ، تنازل فيه بعضُ المسلمين عن حقوق الإسلام والمسلمين شيئاً فشيئاً .
لقد كان من أهم مظاهر هذا التسلّل الفكريّ الشامل وكذلك آثار مسلسل التنازل ، أن أخذ التسلَّل يلقى عدم الاعتراض وضعف المقاومة ، ثمّ يلقى القبول والرضا ، ثم يلقى الدّعم والتأييد ، ثم يلقى التبنّي ، ثم الدعوة إِليه من أشخاص انحرفوا إِليه في فتنة أخذت تمتدّ وتتسع رقعتها ، بدلاً من أن تضيق وتنحسر ، حتى أصبح للفكر الغربي والعلمانيّة ومذاهبها جنود من أبنائنا .
وخلال هذا المرحلة الطويلة لم يلتفت العالم الإسلاميّ إلى ضرورة البناء والإعداد في جميع ميادين الحياة . وكان تأثير الفكر الغربيّ العلمانيّ الذي أخذ يمتدّ ، كما ذكرنا ، تأثير المخدِّر لكثير من النفوس . فلم تسرع الأُمَّة لأخذ العلوم التطبيقية والصناعات عن العالم الغربيّ ، وإنما شُغِل الكثيرون بقضايا فلسفية : فكريّة وأدبيّة وما يسمونه بالفن من موسيقى وغناء ورقص وتمثيل ، انصرف الكثيرون إلى زيادة الاضطراب وإشعال الفتنة بالغموض الذي يلقونه والتيه الذي يمدّونه . وساعد على ذلك هجر الملايين من المسلمين لحقيقة دينهم وقرآنهم وسنة نبيِّهم ، مع امتداد الجهل باللغة العربيّة ، وغياب الملايين في جهل مظلم ، وعادات وأعراف يحسبونها من الدَّين والدَّين منها براء ، وغلبت العصبيات الجاهليّة بمختلف أنواعها .
تمزّقت الأُمَّة المسلمة دياراً وأقطاراً ، وأُقيمت الحدود بينها ، وتحوّل الفكر والأدب والجهد ليُشغَل كلُّ قطر بنفسه ، وليثور الصراع بين هذا القطر وذاك ، ثمّ يُقسَّم كلُّ قطر إلى أحزاب متصارعة أكلت الجهود والأوقات ، تحت شعارات الغرب العلماني : حرّية الرأي دون ضوابط إلا القليل ، الديمقراطيّة ، التعدّدية ، النموّ والتطور والمعاصرة . وكأنما النمو محصور فقط في التخلي عن الدين والأخذ بالعلمانيّة فكراًَ وسلوكاً ، دون الأخذ بأسباب القوة من صناعة وسلاح وعلوم تطبيقية .(/1)
من خلال ذلك استمرّ مسلسل التنازل في العالم الإسلامي : في ميدان الفكر و الأدب ، والاقتصاد ، حتى أخذ صورته الأوسع والأقسى في ميدان الصراع السياسي ، يتمثل في العدوان الإجرامي على جميع بلدان العالم الإسلامي ، وليكون العدوان الأكبر والظلم الأشد يتمثل في قضية فلسطين التي استغرقت في صورتها الحديثة أكثر من قرن . وتمثل فيها مسلسل التنازل على أوضح ما يكون .
ابتدأت قضية فلسطين بإصدار دوليّ على جعلها قاعدة يتجمَّع فيها اليهود ويقيمون فيها دولتهم ، تحميها الدول الغربيَّة كلُّها وعلى رأسها اليوم أمريكا . ولم يفلح المسلمون منذ البداية في معالجة هذه القضيّة ، وهم ممزّقون أقطاراً ودياراً ، وشيعاً وأحزاباً ، وأهواءً ومصالحَ .
خلاصة ما تمّ باسم النظام العالمي الدولي ، وهيئة الأمم المتحدة ، ومجلس الأمن ، وحقوق الإنسان ، والحريَّة والإخاء والمساواة ، والديمقراطية ، وحقوق الشعوب، والعلمانيّة ومشتقاتها ، خلاصة ما تمّ باسم هذه الشعارات والقوى التي تدعمها أن نُزعَ أصحابُ الأرض المقيمون فيها من آلاف السنين وأخرجوا منها ، وأُتيَ بأُناس لا علاقة لهم بفلسطين ، لا من الناحية التاريخية ، ولا الاجتماعية ، وهم لا يعرفونها ولا ينتسبون إليها ، جُمِعوا من روسيا وبلدان أوروبا وأمريكا والعالم العربيّ وغُرِسوا فيها . ودار الصراع الذي ما زال دائراً حتى اليوم ، والذي سيطول أمره ومداه .
كان من أبرز معالم قضية فلسطين في العصر الحديث المفاوضات لقد كانت المفاوضات أسلوباً دعا إليه الغربُ وسعى إِليه العرب ، حين كان الغربُ متمكّناً بسلاحه وجيوشه وقوته . وكان اليهود خلال ذلك يبنون قوتهم في جميع الميادين ، ويبنون علاقاتهم على أساس مصالحهم . وقامت الحركة الصهيونيّة لتمثّل الوجه العَلمانيّ في الحياة اليهودية ، عَلمانيّة قادرة على استغلال الدين وتسخيره لمصالحها . وكان الغَرب قد استقرّت العلمانية فيه نظام حياة يقّره الدستور ، علمانيّة قادرة على استغلال الدّين وتسخيره لمصالح الطبقة المسيطرة .
من خلال التحوّل الذي تمَّ في أوربا نحو العلمانيّة ، والتحوّل الذي تمّ في المجتمع اليهوديّ نحو العلمانيّة تقوده الصهيونيَّة ، من خلال هذا التحوّل الذي كان يستغل الدين ويسخّره لمصالح الطبقة المسيطرة هنا وهناك ، تمَّ لقاء العالم النصرانيّ الذي تحول إلى العلمانيَّة والعالم اليهوديّ الذي تحوّل إِلى العلمانيّة ، لقاءَ مصالح ماديّة ، لقاءً تمَّ من خلال مفاوضات وتخطيط ، لا ارتجال معه ولا عفويّة ، ولكن دراسة وتصميم قام على المصالح الدنيوية المشتركة المغلّفة بالشعارات . كلا الفريقين أصبح تفكيره ونهجه عَلمانيّا ، يضع الدّين جانباً بالنسبة لنظام حياته وحكمه ، ولكن يستغلّه ليؤمِّن مصالحه المادية الدنيوية . فجعل من الحركات التنصيرية ونشاط المستشرقين وأجهزته الأُخرى مُمِّهداً لزحف الجيوش الكاسحة المعتدية ، لتنهب ثروات هذه الأقطار أو تلك ، وتتقاسمها فيما بينها .
لقد وجدوا من خلال خبرة واسعة في مدى واسع من التاريخ أن العقبة الكبرى أمامهم وأمام أطماعهم وجشعهم وظلمهم وعدوانهم هو الإسلام كما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، الدين الحقَّ ، دين جميع الأنبياء والرسل ، الدين الذي لم يُحرَّف ولن يُحرَّف . ولقد وجدوا من خلال صراعهم الطويل مع الإسلام أنَّ هذا الدين كما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ـ قرآناً وسنّة ولغة عربيّة ـ لا يمكن التفاوض معه لإقرار ظلم في الأرض أو عدوان ، أو نهب ثروات ، أو نشر للفساد والفتنة في الأرض . لقد وجدوا لذلك أنه هو العقبة الكؤود أمامهم ، فلا بّد من إزاحة هذه العقبة بهذه الوسيلة أو تلك . لقد حاولوا سياسة العدوان الظالم ، والفتك وعمليات الإبادة . ولكنها لم تستطع أن تخمد جذوة الإيمان والتوحيد ، شعلة الحق ودين الحق ، فقامت حركات متعدّدة هنا وهناك تجاهد ضد المحتل الغاصب المجرم . وظلت هذه الحركات الجهاديّة مستمرّة لا تتوقّف في جميع أَنحاء العالم الإسلامي . ولكن المجرمين استطاعوا من خلال عدوانهم نشر الفتنة والفساد ، والخلافات والصراع ، والشهوات ، وبث الأفكار العلمانيّة بمذاهبها المختلفة . ولقد أصابوا في هذه الخطوات نجاحاً ملحوظاً ، وتكوّنت قوى مؤيدة لها في قلب العالم الإسلامي .
لقد وجدت هذه القوى أن صراعها لن يكون لصالحها إذا أرادت أن تقضي عليه . فرأت أن تغيّر اتجاه الفكر الإسلامي ، بدلاً من أن تلغيه ، ليظل يحمل شعار الإسلام ، ولكن ينشر فتنة هنا وانحرافاًُ هناك . وقد يتمّ هذا تحت شعارات معاداتهم ، من خلال خُطة مدروسة يمكن أن تحوّل جهود الخصم لصالحها ، دون أن يشعر الخصم بذلك أو بشعوره .(/2)
لقد نجحت هذه القوى العلمانيّة المتساندة ، القوى النصرانيّة الغربيّة والصهيونية ، في ذلك نجاحاً كبيراً ، حين كانت تمضي في مخطط مدروس ، وأمامها العالم الإسلاميّ لا خطة لديه إِلاَّ غضبة بعد غضبة ، وفورة بعد فورة ، وارتجال وردود فعل ، وتنافس الدنيا . وتتطور الأحداث ، ويتطور العالم العلمانيّ بعلومه وصناعته وسلاحه الفتاك ، بعيداً عن الدين إِلا بالقدر الذي يحتاجه فيه لاستغلاله وتسخيره ، ويظل العالم الإسلاميّ بعيداً عن أيّ نهج أو تخطيط ، ممزّقاً أقطاراً ، وممزّقاً أحزاباً ، وممزّقاً أهواءً بعيداً عن أيّ تطور صناعي وإعداد وبناء .
في هذه الظروف وقع الانتداب البريطانيّ على فلسطين ، وهو يحمل قراره وخطته الدولية لإِقامة كيان يهوديّ ، لم يكن يقابله خُطَّة مدروسة لإِفشال خطته ، إِلا ثورات فلسطين الممتدة منذ العشرينات من القرن السابق ، الفورات التي عُزِلت عن العالم الإسلامي الذي كان يرزح تحت الاحتلال أو الانتداب أو الوصاية . ثمّ انتهى الانتداب وقامت دولة اليهود وفشلت كلّ الجهود في مقاومتها ، الجهود التي كانت ضعيفة متناثرة ، قليلة العدة ضعيفة الإمكانات ، ولكنها قوية العزيمة والأمل . وكانت هذه تتمثل في ثورة سنة 1936م ، التي ما لبثت أن أُجهضت وتوقّفت مع قيام الحرب العالمية الثانية ، ولم تنجح الجهود الكبيرة بربط القضيّة عمليّاً بالعالم الإسلامي .
ومع سنة 1948م تناولت الدول العربيّة القضيّة ، فحدث ما حدث ، وخرج بعض أهل فلسطين من ديارهم مشرّدين لاجئين ، وتكونت قضيّة ما زالت ثائرة هي قضيّة اللاجئين ، وقامت دولة اليهود وأيدّها العالم الذي أقامهما .
كان بإمكان العرب والمسلمين الاستفادة من ضعف دولة اليهود آنذاك ، ومن وجود أهل فلسطين فيها ، للدخول في حرب حقيقية مع اليهود ، من خلال خطة محكمة مستقلّة عن ضغوط الدول الغربيّة وأمريكا . ولكن أخذت دولة اليهود تقوى وتنمو ، وانهارت المقاومة انهياراً غذّى قوة دولة اليهود .
ويبدو أن فكرة الدخول في حرب مع اليهود أخذت تتلاشى . وبقيت في أذهان بعض الفلسطنيين . إلا أن اتجاهاً جديداً برز وهو تنفيذ مقررات هيئة الأمم المتحدة والاعتراف بدولة اليهود وإقامة دولة فلسطينية . فقامت منظمة التحرير لتنفيذ ذلك أو لمحاولة تنفيذ ذلك ، كما أعلن جمال عبد الناصر في تصريحه لمجلة " ليبرني " . إلا أنّ المنظمة أطلقت أول الأمر شعار إِزالة دولة اليهود كلها وإعادة فلسطين للعرب من أولها لأخرها . وقامت بعمليات فدائيّة جريئة شدّت الجماهير إليها ، وأوحت إليهم أن هذا هو الطريق الصحيح إزالة إسرائيل . ولم يسأل أحد ما هي الخطة وما هو السبيل والإمكانات والوسائل ! وغاب الناس في ضجيج الإِعلام يُهيِّج العواطف مع كل عمليّة فدائية . ونالت تأييد الشعوب والأحزاب والحركات وغيرها .ومن أهم ما نالته من التأييد ، تأييد قطاع واسع من القوى الإسلامية وحركاتها ، التي قد سمت دعماً ماليّاً كبيراً للمنظمة ، ودعماً اجتماعياً ، ودعماً معنويّاً ، ودعماً إعلاميّاً ، انضمّ كله إلى مصادر الدعم الأخرى .
ثم قامت حركات أخرى غير منظمة التحرير . وأطلقت شعارات أشدَّ من منظمة التحرير ، ووعدت بتحرير فلسطين كلها ، كما وعدت منظمة التحرير ، وقامت عمليات فدائيّة ، تولاّها الإعلام بالضجيج ، وتأمل الناس أن هذا هو الطريق الصحيح وأنه قّرُبَ سقوط دولة اليهود . وعاش الناس في آمالهم القوية مع ازدياد العمليات الفدائيّة من هنا وهناك . وتوالت المفاجآت والهزائم .
وهنا لم يَسْأل أحد كيف ستزول إِسرائيل بهذه العمليات ،وكيف تتحقَّق الشعارات التي دوّت ، والوعود التي انطلقت . ولا أحد سأل أين الخطة وما هي الإمكانات ؟! كيف سيقف السلاح الضعيف أمام السلاح المدمِّر الشامل ، كيف سيقف هذا العدد وحده في الميدان أمام أعتى دولة في المنطقة ، تنال تأييد العالم ، وهم لا ينالون إلا الإِعلام والمال ، كيف سيقف بضعة آلاف أمام جيش منظم أرهب المنطقة كلها ؟! ولم يسأل أحد : أين الأمة المسلمة كلها ؟! أين الأمة العربيّة كلها . إنّ سنن الله الثابتة تكشف لنا أن الأُمور لن تحسم لصالح المسلمين وقضيتهم ، وهي تمضي على هذا النحو دون نهج ولا خطة !
والسؤال الذي يثور هنا : ألم تكن هذه الحركات كلها ، وأولها منظمة التحرير ، تدرك أن إمكاناتها لا تسمح بتحقيق النصر وتحقيق الشعارات المدويّة ؟! إن أبسط التفكير والحساب يكشف البون الشاسع بين الفريقين في الميدان . والسؤوال الأخر الذي يثور أيضاً : إذا كانت تدرك فلماذا نزلت الميدان بهذه الإمكانات الواهية ودون خطة ولا نهج ؟! ومن الذي أَراد لها النزول ؟! ومن الذي هيّأ لها الإمكانات الضعيفة والإغراءات القوية ؟!
ثم أخذت الشعارات تتراجع وتتبدل شيئاً فشيئاً . فمنهم من أخذ يحاول تسويغ فشله في تحقيق ما أعلنه ، ومنهم من ادّعى تأجيل الشعارات إلى المستقبل ! ومنهم من تنازل وبدّل وعاد إلى ما كان يخفيه !(/3)
وفي جميع هذه المراحل كانت تدور المفاوضات ليتم من خلالها تنازل آخر في مسلسل التنازل الطويل . حتى وقعت الأحداث الأخيرة التي انطلقت مع زيارة شارون إلى المسجد الأقصى .
ودارت المفاوضات تحت إشراف أمريكا . وهنا يثور السؤال : ماذا يريد الفلسطينيون والعرب والمسلمون من هذه المفاوضات ؟! المعلن أنهم يريدون دولة فلسطينية ! ولماذا يقاتلون اليوم ، ويسقط أعداد كلّ يوم ؟! هل يعرف المقاتلون ماذا يريدون ؟! وهل يعرفون حقيقة الدولة الفلسطينية التي يوعدون بها ؟!
يبدو أن الأمور كلها مقدّرة مسبقاً منذ عهد . وإذا كانت المفاوضات معلماً من معالم قضيّة فلسطين ، فهناك معلم آخر ، ألا وهو أنَّ ما يعلن من حلول واقتراحات من خلال المفاوضات ، لا يمثّل الحلّ الذي سيُنَفّذ على الطبيعة حقيقة . إن الذي يُعلن يهدف إلى الإشغال والتمهيد لحلٍّ مطويٍّ في الأدراج والصدور ، يعلمه المطلعون فقط ، وأما الشعوب فتظلُّ تعيش في آمالها وأحلامها ، وهي تتغنّى بأمجاد الماضي وبشريات المستقبل ، لتظلَّ في غفوتها وسهوتها ، ولتغضب وتهدأ ، حتى يفاجئها الحلّ المروّع الذي كان مطويّاً ، حين لا يعود ينفع الغضب والاتهامات والمظاهرات ، فتهدأ الحناجر في إجازة قد تكون طويلة . وسيظلّ هناك عناصر في الأمة تزيدها خدراً واتكالاً وغفوة بطرح شعارات وترديد أغنيات .
الدولة الموعودة مقرّرة منذ أيام كامب ديفيد الأولى القديمة . هناك بيَّنَ " مناحم بيغن " أن أقصى ما يمكن أن يوافقوا عليه سلطة محليّة خاضعة لدولة إسرائيل ، ليس للسلطة جيش ، ولا تدخل في السياسة الخارجيّة ، تدير الصحة والتعليم وما يشبه ذلك ، وتبقى فلسطين كلها خاضعة لإسرائيل ! سلطة رمزية على بقعة رمزيّة !
إن اللحظات الحالية والصراع الذي يدور يعني أن المسلمون تنازلوا حاليَّاً عن فلسطين ، واعترفوا باليهود دولة تحكم وتسيطر . ولقد كسبت إسرائيل من الصراع الأخير مكاسب كثيرة لقد جعلت بعض ما كان مخفياً معلناً ، وأصبح المسجد الأقصى تحكمه دولة اليهود فتمنع المصلين عن صلاتهم فيه ، تمنع من تشاء وتأذن لمن تشاء . وأصبحت دباباتها وطائراتها وصواريخها تعمل عمليات الإبادة على مشهد من العالم كله دون أي اعتراض ، وأصبحت آليّاتها تهدم المنازل وتطرد أهلها وتجرّدهم من ملكيتها وتلقي بهم في العراء . والعالم يتطلع . أصبحت تقوم بأبشع أنواع الإرهاب ، فتغتال وتقتنص من تشاء كما تشاء ، ولا من يحاسب أو يردع . جعلوا من قطاع غزّة والضفة أرضاً تحرثها الدبابات والآليات لتهدم البنية التحتيّة وتبيد الخلق ، ولتحاصر وتجوّع وتُذِلّ .
ما هي الدولة التي يقاتلون من أجلها ؟! إنَّها أرض في أحسن حالاتها لا تملك مقوِّمات الدولة لا من حيث الاقتصاد ولا القوة ولا المال ! فما هي هذه الدولة ؟! إنها خِدْعةٌ كبيرة استمرت طويلاً ، والكثيرون يحلمون بها كأنها باب النجاة !
ماذا جنينا نحن المسلمين ؟! سجَّلنا تنازلنا بأنفسنا فأغضبنا الله وما أرضينا أحداً ، وما كسبنا شيئاً ! .
إن الذين قُتِلوا من المؤمنين في فلسطين وهم يدافعون عن أرضهم وديارهم عسى أن يتقبلهم الله شهداء عنده . وأما الذين يتغنّون بالأَمجاد الماضية والآمال المرتقبة ، فكيف يلقون الله يوم الحساب يوم لا تنفع آمال وشعارات !
ــ إن أول النتائج للصراع الحالي هو أن جهرت اليهود ببعض ما كانت تخفيه أو تلمّح به . وربما تشهد الأيام المقبلة أو السنون المقبلة منها جرأة أوسع كذلك ، وكشفاً أكبر لما يخفونه . فمنذ اللحظات الأولى مع أوائل القرن والعشرين ، كانوا يتسللون إلى فلسطين يدَّعون أنهم قادمون للزيارة والعبادة ثمَّ يغادرون . ولكن تحوّل ذلك إلى إقامة ، ثم مستعمرة ثم إلى مستعمرات فمصانع فسلاح فقتال ، فتطلَّع إِلى الآفاق والتقدُّم إِليها !
إِلى أين تنتهي هذه الأحداث ؟! وما هو السلام الذي يسعون إِليه ؟! يحدّثنا نيكسون عن هذا السلام فيقول :
" ليس السلام الحقيقيّ الذي نعنيه هو إنهاء المنازعات بل هو وسيلة للعيش معها " ( 1 )
وسبب ذلك أن أمريكا وسائر الدول العلمانيّة تبني سياستها وعلاقاتها على أساس واحد فقط ، هو حماية مصالحها المادّية بعيداً عن قيم الإيديولوجيات وهذا نيكسون يعبّر التعبير الدقيق عن ذلك :
" إن منطلق أمريكا يجب أن يكون الحرص على حمايتها وحماية مصالحها بعيداً عن قيم الإيديوليجيات والمثُل ..... " ( 2 ) .
ويقول أيضاً :
" إِن مصالح أمريكا الاقتصادية هي محور علاقاتها مع ألمانيا وأوروبا وآسيا والعالم كله . وعلى العالم أن يخدم مصلحة أمريكا ليكون جزءاً من النظام العالمي الجديد ... " ( 3 )
لقد أصبح هذا مبدءاً معلناً غير مخفيّ . ولكن كثيراً من الشعوب المسحوقة ، ومعظمها مسحوقة ، ما تزال تحلم بأغنية السلام ، وتظل مشدودة إلى هذا الشعار الذي لا وجود له .(/4)
من يريد السلام ؟! إن أمريكا والدول العلمانيّة الأوربية واليهود ، كلهم لا يريدون السلام إلا كما عرّفه نيكسون التعريف الذي ذكرناه فبل قليل . والذي يقضي بأن تبقى المشكلة قائمة ، ويعتاد الناس معايشتها ، ويضل المجرمون في الأرض يجْنُون من عرق المستضعفين وذلّهم رفاهيتهم . لا أحد منهم يريد السلام الحقيقي الذي تحلم به الشعوب في غفوتها . فالسلام الحقيقي يقضي على مصالحهم الماديّة ، ويوقف مصانعهم ، ويسّد أمامهم سبل الظلم والعدوان ونهب الثروات .
فلا عجب إذا اعتبرت أمريكا قضيّة فلسطين أساساً هامّاً في كل سياستها الخارجية . فهذا نيكسون أيضاً يقول :
" لقد حققنا الكثير في منطقة الشرق الأوسط في الأربعين سنة الأخيرة . فمنذ عام 1948م ضمنّا بقاء دولة إسرائيل .... "
ويقول :
" إن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة . ومن بركات سياسة أمريكا هو ضمان بقاء إسرائيل .. "
ولقد نشرت الصحف في حينه تصريح دان كوبل نائب الرئيس بوش وقوله :
" إن دولة إسرائيل مهمة وأنا أعتبر نفسي صهيونيا ويجب أن ننظر إلى الرئيس بوش على أنه صديق قويّ داعم لإسرائيل . "
ومنذ سنة 1948م صدرت عن كثير من وزراء خارجية الدول الأوروبية وأمريكا تصريحات تدور كلها حول القرار التالي " إسرائيل وجدت لتبقى " ولو أردنا أن نجمع كل ما قبل من الدول الغربيّة العلمانية عن ضرورة حماية هذه الدولة اليهودية ودعمها، لا ستغرق الجهد والوقت والورق الكثير .
نعم ! نجابة الآن واقعاً ظالماً تفرضه القوة العاتية والدبلوماسية المخادعة ، والوهن الذي نعيشه . إِن الذين يقولون الآن لن نفرّط بشبر من فلسطين فرّطوا بها كلها ، وكلُّ مسلم محاسَبٌ ومسؤول بين يدي الله . الشعارات كانت تتغير كثيراً ، كأنّ المراد إثبات الوجود في الساحة ، في الساحة التي أفلتت من أيدينا . وكأن اليهود يحكمون ويملكون الأرض والناس . من خلال هذه الشعارات التي امتدّت عشرات السنين ، ضاعت فلسطين ، الشعارات التي كانت تخدّر أكثر مما كانت تنبّه وتحذِّر وتعدّ وتنهج النهج الجليّ ! وكأننا مع كثرة القوارع والمواعظ من الأحداث ، لم نتعظ ولم نعتبر ، وما زلنا نسير بنفس الأسلوب ، وتتكرر معنا نفس الأخطاء لتزداد المصائب والنكبات . ومازلنا في عالم الشعارات والعواطف ، نبتعد شيئاً فشيئاً ، والعدوّ يقترب من الأهداف كثيراً . أو أنه بلغها .
إن الذي يجري الآن هو النتيجة الحتميّة لما كسبت أيدينا في المراحل السابقة . إن ما يجري هو بقدر الله وقضائه ، والله حق لا يظلم ، فهو بما كسبت أيدينا والخلل فينا ، وكأنه لا يجرؤ أحد على كشف الخلل أو معالجته أو الاعتراف به ، ونظل ، نلقي اللّوم على الأعداء ، والأعداء أعداء فماذا نرجو منهم من خير .
ما زلنا نطرح أعمالاً جزئية متناثرة ، مثل مقاطعة البضائع الأمريكية . وهذا عمل جيد وواجب ، ولكن يجب أن يكون جزءاًَ من نهج متكامل وخطة متكاملة ، يرتبط كلّ عمل بالعمل قبله وبالعمل بعده . فأين هي الخطة التي تتبنّاها الأمة المتراصة ، وأين هي الأمة المتراصة ؟!
ولقد سبق أن ذكرت في أكثر من موقف وكتاب أنه إذا التقى فريقان ، فريق له نهجه وخطته المفصلة ، وفريق لا نهج له ، فإن الفريق الأول يستطيع تحويل جهود الفريق الثاني لصالحه ، ويبقى الفريق الثاني تائهاً يتخبّط ، في عمل هنا ، وعما هنا ، يحصدها أعداؤه .
أستطيع أن أجزم أن فلسطين ضاعت منذ اللحظة التي تمّ فيها أول تنازل من المسلمين . ثمّ توالت الجهود الممزّقة على غير خطة في مسلسل التنازلات ، بين خدر الشعارات وتيه التمزق والفرقة !
أيها المسلمون ّ إن أردتم النصر واسترجاع فلسطين ، فذلك له سبيل واحد لا سبيل سواه ، فابحثوا عنه واتبعوه ، ولا تضيعوا جهودكم وأوقاتكم في تيه وظلام .
وأول الأمر تحديد الأخطاء ودراستها ، والإقلاع عنها ، والتوبة الصادقة إلى الله سبحانه وتعالى ، في وقفة إِيمانيّة صادقة .
إن الخطر لم يعد على فلسطين وحدها . إن الخطر الآن يهدّد كلّ أرض العرب وكلّ دار الإسلام ، وهذا الواقع أمامك يشهد . ولعل هذه الآيات البينات تشق الطريق :
" ... وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون . " [ النور : 31 ]
" قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين " [ يوسف : 108 ]
" اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربّكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون . "
[ الأعراف : 3 ]
" وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون " [ الأنعام : 153 ]
" إن الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صّفاً كأنهم بنيان مرصوص " [ الصف : 4 ]
" ولا تكونوا كالذين تفرَّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم " [ آل عمران : 105 ]
" ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثمّ لا تنصرون " [ هود : 113 ](/5)
ولكل آية تفصيلات في الكتاب والسنة ترسم الدرب وتبيّن النهج ، صراطاً مستقيماً حتى لا يتيه ولا يضل عنه أحد ، وسبيلاً واحداً حتى لا يُخْتَلَفَ عليه !
فإما هذا ، وإما ابتلاء من الله شديد وفتنة كبيرة !
أوجه كلمتي هذه إلى كلّ مسلم ، وإلى مل داعية ، وإلى كلّ حركة إسلامية ، وإلى الأمة المسلمة في كل أرض .
والحمد لله رب العالمين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) نيكسون : نصر بلا حرب ـ ص : 39 .
( 2 ) المصدر نفسه ـ ص : 165 .
( 3 ) نيكسون اغتنام اللحظة .(/6)
المسلمون
شعر: محمود حسن إسماعيل
من هؤلاء iiالتائهونْ
أعْشى خُطا iiأبصارِهم
والليل ينفُضُ فوقَهم
ويسوقهم زُمَراً iiإلى
السَّوط يُرْقِل iiحولَها
والقيد يَخْصِفُ من iiصدو
ويسومُهُم من iiعَسْفِهِ
فإذا غفَوا .. فعلى iiموا
وإذا صحوا فعلى iiخُطاً
* * *
من هؤلاء iiالضائعون؟
أبداً!! تُكذِّبُني، iiوتر
* * *
أبداً .. وكيف؟ iiوفي
أبداً .. وكيف ودون iiسطـ
ويَبيدُ طغيانُ العُتا
ويخِرُّ بين يديه iiمِن
الفاسدون، iiالمُفسدون
الشَّاربون الدَّمعَ ممن
السائقون الخلق iiَكا
مبهورةً، iiمنهورةً
بلهاءَ، روَّعها الصَّدى
وأحالَها عدماً iiيُكبِّر
* * *
مَنْ هؤلاءِ iiالخانِعونْ
أبداً!! تُكذِّبُني، iiوتر
* * *
أنا منهُمُ .. iiلكنني
ربَضَت به الأصفادُ .. iiبل
وجُؤَارُ شرقٍ iiمبدىءٍ
أبكي عليهم .. أم iiعَلَى
إنا هجرنا الله ...
عاتٍ تروِّضُنا iiحضا
ولكلِّ من يُحيي لنا
نسجَته أخْيلَةُ iiالعصورِ
لِتُحيلَ دِينَ ii"محمدٍ"
وإذا الجِنازَةُ iiلوعةٌ
* * *
مَنْ هؤلاءِ iiالهالكونْ
أبداً!! تُكذِّبُني، iiوتر
* * *
من كان iiللإسلامِ،
فيصيحُ باللصِّ العَتيِّ ii:
ويصيحُ بالفُسَّاقِ ii:
ويصيحُ بالطَّاغينَ ii:
ويصيحُ بالباغينَ ii:
ويصيحُ بالغاوينَ ii:
وطواكُمُ حدُّ iiالمناجِلِ
ونظرتُمُ .. فإذا iiالظَّلامُ
ريحٌ مُصَرْصِرَةُ iiالزئيرِ
تَسقيكُمُ من iiويلِها
* * *
مَنْ هؤلاءِ iiالصَّاغرونْ
التائِبونَ، iiالعابدونَ، ... الخابطون على iiالتخومْ؟
رَهَجُ الزوابعِ والغيومْ ii..
من يأسِهِ قلقَ iiالنجومْ
حفرٍ مُولولةِ iiالرُّجومْ
والموتُ أنْسُرُه iiتحومْ
رِهِمُ المذَّلةَ iiوالهمومْ
ولَظَاهُ أبشعَ ما iiيسومْ
طئ كل جلادٍ iiغَشومْ
للذُّلِّ خاشعةِ iiالرُّسومْ
* * *
أفهؤلاء iiالمسلمونْ؟!
جُمني الحقائقُ والظُّنونْ ..
* * *
يمينِهُمُ كتابٌ لا iiيهونْ
ـوتِهِ وتَنْتَحِرُ القُرونْ
ةِ، ويَهلِكُ المتجبرونْ
وهجِ الضياءِ iiالغاشِمونْ
الظالمون، iiالمُظْلِمونْ
في المجازرِ iiيصرخونْ
لقُطعانِ ساجدةَ العيونْ
بالسوطِ، تجهلُ ما iiيكونْ
واجتاح قِيتَتَها الجُنونْ
للرَّدى .. لو iiتسمعونْ!
* * *
أفهؤلاءِ iiالمُسلمونْ؟!
جُمني الحقائقُ والظُّنونْ ..
* * *
نَغَمٌ بِسَمْعِهمُ شريدْ
طَحَنَته غمغمةُ iiالعبيدْ
بأنينِ أمَّتِهِ iiمُعيدْ
غلٍّ يكَبِّلني شديدْ!
هِجْرَتُنا لشيطانٍ iiمَريدْ
رُتُه لكل هوى iiمُبيدْ
الإسلامَ في كفنٍ جديدْ ii..
السُّودِ مُذْ زمنٍ iiبعيدْ
وهماً على نعشٍ iiمجيدْ
حَرَّى مشَيِّعُها iiسعيدْ
* * *
أفهؤلاءِ iiالمسلمونْ؟!
جُمني الحقائقُ والظُّنونْ ..
* * *
فليضربْ بمعولِهِ iiالفسادْ
كفاكَ مِن شِبَعٍ iiوزادْ
إيَّاكُم وأعراضَ iiالعِبادْ
أسرفتُمْ، لكُلِّ مَدىً iiنفادْ
ويحَكُمُ، لقد ذهبَ iiالرُّقادْ
وَيلَكُمُ إذا حان iiالحَصادْ
بين أذرُعِهِ الشِّدادْ
عليكُمُ حَنِقُ iiالسَّوادْ
كأختِها في يومِ ii"عادْ"
وخرابِها حُمَمَ الرَّشادْ ii..
* * *
أفهؤلاءِ iiالمسلمونْ؟!
الراكعونَ، iiالساجدونْ!!!(/1)
المسير إلى اليوم قبل الأخير
شعر: داود معلا
كبروا للقاء حان الوصول
كبروا فالزمان لا يعرف iiالصمت
كتب الله أن يكون iiقتال
فخذوهم على سواءٍ iiوسوقوهم
وقفوهم على الجدار iiأسارى
فهم المفسدون في الأرض
أيها الشاربون من فيم iiإبليس
لن تزول الدنيا بغير iiلقاء
تطلبون النجاة من قبضة الموت
تطلبون النجاة من قبضة الموت
قد علمتم من قبل كيف الصليبيون
أو نحيا بغير قبلتنا iiالأولى
لو أخذنا من الصلاة فلا
أرض حطين لم تزل ترتوي iiمنا
أين يا شام يا ربيع الأماني
أين عهد الفتوح يا شام iiأين
إن قلب القدس الجريح iiينادي
إيه بغداد والجراح جراحي
كشف الظلم وجهه iiوتولى
إننا أمة الهداية iiوالتوحيد
نحن عمرو .. وخالد .. iiوشرحبيل
حملت سيفنا الفطام فهبي
كيف صارت أظافر الطفل iiأسيافاً
كيف سالت دموع أمي iiزغاريداً
يا غراس السبعين في الوطن الغالي
إن أرض الإسراء لن تضع iiالسيف
آه يا ساحة البراق من iiالبيت
قد عشقناك مذ خلقنا iiفيا
إفتحي عينك التي سكنتها iiالشمس
افتحيها فإن بدراً iiتنادي
أمة نحن لا يغيرها iiالموت
نحن مثل الزيتون لا iiيتعرى
ترسم النصر بالشهادة iiأجيال
فاستعدي يا دارة الحق iiإنا ... قد دنا الفتح واستقام iiالسبيل
ولا باللعاب يروي iiالغليل
ونزال ... لا عاذل iiوعذول
إليها ... كما تساق iiالحمول
وسكارى من هول يوم iiيهول
والباغون فيها .. وهم دم iiمطلول
وإن العزيز فيكم ذليل
قادم بيننا .. فأين iiالبديل
ونحن السوار سيف صقيل
وأرواحكم لدينا ... iiمثول
زالوا .. وكيف زال iiالمغول
فلا مقبل ... ولا مقبول
كنا وبئس الحياة فيها iiالذليل
وهذا دم وهذا iiمسيل
يا خيولاً تغار منها iiالخيول
النصر قولي لأهلنا أم iiأقول
وينادي من العراق iiالنخيل
حيثما ملت بالنزيف iiأميل
الأمر فيه الضلال iiوالتضليل
والعود للهدى ... iiمأمول
وسعد .. وسيفه iiالمسلول
يا رياحي وأزهري يا iiحقول
وفي كفه الحجارة iiغول
وأصغي لصوتها iiالمستحيل
أطلوا على الزمان iiوقولوا
ولن ينفع الغزاة iiالعويل
وطاب السرى وطاب النزيل
حسناء يغرى بضمها iiالتقبيل
والريح .. والصدى ... والصهيل
وينادي من حولها iiجبريل
ولا ينتهي إليها iiالأفول
شجر أخضر ... وظل iiظليل
وينمو جيل ... وينبت جيل
قد قدمنا ... فلن يعيش iiالدخيل(/1)
المشاركة السياسية للمرأة والوصول الى موقع صنع القرار
في يوم المرأة العالمي..المرأة الى اين؟
أن قضية تمكين المرأة سياسيا وتعزيز مشاركتها الفعالة في العمل السياسي مازالت منقوصة بشكل ملحوظ ولم تحض باهتمام كبير على أجندة الأحزاب السياسية الحكومية أو المعارضة بشكل عام في العالم وذلك بسبب الواقع الاجتماعي السائد ورسوخ النظرة الدونية للمرأة. تعتبر مشاركة المرأة في الحياة السياسية مؤشر ومقياس على تقدم وتحضر المجتمع، ومن اجل ضمان وتعزيز تواجد المرأة في العملية السياسية في المجتمع يجب تطوير مشاركة المرأة في الأحزاب والحركات السياسية والاجتماعية المختلفة، ومنظمات المجتمع المدني التي تهتم بمختلف قضايا المجتمع او تسعى الى فتح الطريق امام مشاركة المرأة السياسية وأبراز دورها، يضاف الى ذلك وجود قوانين معاصرة تقر بالحقوق الاساسية والمشروعة للمرأة وضامنة لحرياتها ومساواتها.
المرأة وصنع القرار
تواجد المرأة في مواقع صنع القرار ظاهرة عالمية الان حيث إن نسبة تواجد النساء في البرلمانات العالمية تصل الى ما يقارب 15.2% من الأعضاء واكبر حصة هي في الدول الاسكندنافية حيث تصل إلى 39.7% أما في الولايات المتحدة فتصل إلى 17.6% وفي أسيا 15.4%، أما في الدول العربية و الإسلامية فالعدد قليل جدا بسبب تردي وضع المرأة فيها وسعي الكثير من القوى الى تهميش دور المرأة اذ تصل إلى 5.6% فقط !. أما بالنسبة للدول الأوربية فتصل نسبة مشاركة المرأة في البرلمان إلى 31 %، في مقدمة الدول الأوربية تأخذ فنلندا مكان الصدارة حيث وصلت النسبة فيها إلى 44%.
هنالك عوامل وأسباب كثيرة تعيق عملية مشاركة المرأة في العملية السياسة وعدم تواجدها بالحد المطلوب في مواقع صنع القرار ومنها :
- السياسة الرأسمالية في العالم التي تحتوي على قدر كبير من التمييز على أساس الجنس في كافة المجالات السياسية والاقتصادية، الاجتماعية....الخ
- سيادة المفاهيم البالية أو المعادية لحقوق المرأة في المجتمع وعدم تقبل المجتمع لعمل المرأة.
- عدم وعي المرأة لأهمية مشاركتها في العمل السياسي.
- سيادة التسلط ألذكوري على ادارة الدولة ومؤسساتها و سوق العمل والاقتصاد حتى في الدول الأوربية الغربية أو الدول المتقدمة واحتكار المناصب العليا من قبل الرجال.
- توظيف النساء في أعمال خدماتية تقليدية وبالتالي تدني رواتب النساء وضعف موقعهن الوظيفي والاقتصادي والذي يعتبر من العوائق الكبيرة امام تمكين المرأة كي تصبح عنصرا هاما ومؤثرا في مؤسسات صنع القرار.
- تقسيم الأدوار التقليدية بين الرجل والمرأة في الأمور الاجتماعية والأسرية، حيث تتحمل المرأة دوما العبء الأكبر في تربية الأطفال ورعاية الأسرة.
- دور الصحافة ووسائل الاعلام المختلفة و خاصة الصحافة الالكترونية سريعة الانتشار المستندة الى الفكر الذكوري، في ممارسة التشويه الفكري للمرأة وإبقائها أسيرة أفكار تساهم في الحط من قدراتها على المشاركة الفعالة في النشاطات العامة في المجتمع.
- قلة وجود منظمات نسويه ناشطة في الدفاع الحقيقي عن المرأة دون التبعية لأحزاب سياسية مناهضة لحقوق المرأة وخاصة في الدول العربية والإسلامية ودول العالم الثالث التي تكتفي بأيجاد لجان نسوية تهدف الى تمرير سياساتها وتسويق برامجها وكسب عناصر وكوادر نسائية.
- تصاعد الحركات الإسلامية الإرهابية المناهضة لحقوق المرأة على صعيد العالم، وبروز قوى الاسلام السياسي التي يشكل فرض التراجع على المراة وحرمانها من اي دور سياسي واجتماعي احد ابرز واهم مميزات برامجها السياسية وهذا بدوره يعتبر من العوائق الكبيرة امام مشاركة المرأة في العملية السياسية والوصول الى مواقع صنع القرار،حيث تتعرض الكثير من الناشطات النسويات إلى التهديد والقتل وانتهاك حقوقهن او تقديمهن الى المحاكم في الدول العربية و الإسلامية.
- ارتفاع نسبة الأحزاب اليمينية في السلطة في الدول الغربية والأوربية ومن ثم تصاعد الحركات العنصرية ضد الأجانب بشكل عام وفرض واقعا بائسا على النساء.
- تفشي ظاهرة الفقر في كثير من دول العالم وحصول المرأة على حصة الأسد من الفقر العالمي وخاصة في القارة الإفريقية والأسيوية،ومن ثم ظاهرة الاتجار بالنساء من تلك الدول الفقيرة إلى الدول الغنية و استعباد المرأة.
- ظاهرة تفشي الأمية وانخفاض المستوى التعليمي للنساء في كثير من الدول العربية ومناطق دول العالم الثالث يعرقل مساعي الارتقاء بنسب التمثيل السياسي للمرأة.
نبذة تاريخية مختصرة عن مشاركة المرأة في السلطة(/1)
لقد بدأت المطالبة بمنح حق التصويت للنساء في القرن التاسع عشر من قبل الحركات النسوية الأمريكية والبريطانية وخاصة بين الشريحة النسائية المتعلمة، وقبل ذلك بدأت الحركات النسوية بالمطالبة بقوانين وتشريعات تضمن حق الزواج وحق التملك في أواسط القرن التاسع عشر واستمرارها لأوائل القرن العشرين وسن التشريع التقدمي في الولايات المتحدة وقوانين الأمومة والعمل في أوربا الغربية.
تعتبر نيوزيلندا أول دولة سمحت للمرأة بالتصويت في العام 1893.
الثورة البلشفية في روسيا 1917 كان لها الدور الكبير في الترويج وترسيخ مساواة المرأة حيث ألغيت سيطرة الكنيسة على الزواج وحققت المساواة الكاملة في الحقوق بين الرجال والنساء، وكانت ألكسندرا كولونتاي أول امرأة في العالم تشغل منصب وزير.
قامت الولايات المتحدة بتعديل الدستور لتسمح للمرأة بالتصويت عام 1920 وهي السنة التي تم فيها منح المرأة حق التصويت في عشرة دول اخرى.
أما بالنسبة للدول الأوربية فأنها قامت بمنح حق التصويت بعد الحرب العالمية الثانية بما فيها فرنسا و اليونان وايطاليا وسويسرا.
دولة الإكوادور كانت أول بلد في الامريكا اللاتينية اعترفت بحقوق المرأة السياسية في العام (1929). وفي المكسيك حصلت المرأة على حق التصويت في العام 1953.
وفي أسيا، منغوليا كانت أول بلد حصلت فيه المرأة على حق التصويت في عام 1923، وفي اليابان و كوريا الجنوبية حصلت المرأة على حق التصويت عام 1945.
ومن المعلوم إن التصويت بحد ذاته ليس الضمان الوحيد لحصول المرأة على حقوقها السياسية، حيث هنالك بلدان كثيرة تعطي حق التصويت ولكن المرأة بعيدة بأشواط كبيرة من حق الترشيح و تقلد المناصب و الوصول الى مواقع صنع القرار.
الحركات النسوية والتقدمية على صعيد العالم واصلت نضالها لزيادة التمثيل النسائي مما أدى إلى تدخل الأمم المتحدة للمشاركة في قضية المرأة حيث عقدت عام 1975 أول مؤتمر دولي حول حقوق المرأة، ثم في السنوات 1980،1985 وعقدت الأمم المتحدة اكبر مؤتمر في عام 1995 وتناولت تقارير رسمية عن وضع المرأة والضغط على الحكومات بمعالجة المعوقات أمام مشاركة ووصول المرأة إلى المصادر السياسية والاقتصادية والتربوية، وتوازيا مع مؤتمر الأمم المتحدة شاركت حوالي 30 إلف امرأة في مؤتمر المنظمات غير الحكومية في بكين في نفس العام. لقد سميت فترة ما بين عام 1976-1985 بعقد المرأة، حيث أصبحت قضية المرأة تحتل مكانا بارزا في جدول أعمال الأمم المتحدة وركزت على إيجاد نظام اقتصادي وسياسي يحقق مشاركة اكبر للمرأة في العملية السياسية والمشاركة في عملية التنمية العالمية وتشجيع نزول المرأة الى سوق العمل. ولكن مع هذه الطفرة في تزايد مشاركة المرأة في الأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية والمدنية فأنهن ما زلن يمثلن نسبة ضئيلة في المراتب العليا والقيادية والتي تساعد في التأثير على عملية سن القوانين والتشريعات في صالح المرأة ومساواتها في المجتمع.
تضاعف عدد النساء في برلمانات الدول الغربية ما بين عام 1975 إلى عام 1995 حيث وصلت النسبة من4.7% إلى حوالي 11%، في الولايات المتحدة تصل نسبة أعضاء النساء في الكونغرس إلى 11.2% و هي ثلث النسبة في أقطار شمال أوربا. ومع تطور وتقدم الحركات النسائية انخفض عدد الأقطار التي لم تتقلد المرأة أي منصب في الوزارة من 93 دولة إلى 47 دولة. وعلى عكس تزايد نسبة المرأة في المناصب القيادية في العقد الماضي في أكثر بلدان العالم فأن تراجع النسبة في الدول الجديدة المستقلة عن الاتحاد السوفيتي والدول الأعضاء في الكتلة الشرقية كان مؤشرا سلبيا، حيث انخفضت نسبة التمثيل من 25-30% أيام الحزب الشيوعي إلى نسبة 8-18% اليوم. وفي الدول ذات (الأنظمة الشيوعية!) مثل الصين وفيتنام وكوريا الشمالية ما زالت مشاركة النساء في المجالس التشريعية تصل إلى 20% فقط. وكما هو معلوم في الدول العربية والإسلامية نسبة تمثيل المرأة تعد على أصابع اليد، أذ الى ألان ما زالت تناقش أمور السماح للمرأة قيادة السيارة مع محرم او بدونه !، وتحرم المرأة من ممارسة حقوقها السياسية في التصويت و الترشيح وتمارس عليها ضغوطات كبيرة تحد من قدراتها ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين.
من اجل تعزيز مشاركة المرأة في الحياة السياسية والوصول إلى مواقع صنع القرار يجب:
- تغيير وتطوير برامج الأحزاب السياسية بحيث تقر فيها المساواة بين الجنسين وممارسة التمييز الايجابي لصالح المرأة وتشجيع العنصر النسوي في تلك الأحزاب.(/2)
- العمل المشترك بين المنظمات النسوية والأحزاب اليسارية والديمقراطية والعمالية والمنظمات الحقوقية المدافعة عن المساواة الكاملة للمرأة لتطبيق الاتفاقيات الدولية بشان الحقوق السياسية للمرأة ومنها المادة (7) في الاتفاقية الدولية لإلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة لسنة (1979) على أن تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في الحياة السياسية.
- تركيز المنظمات النسوية على زيادة وعي المرأة بأهمية المشاركة الفعالة في الحياة السياسية والنضال الدءوب للوصول إلى مواقع صنع القرار والتوعية الشاملة للمجتمع من اجل تقديم الدعم المعنوي للمرأة، وفرض تطبيق قوانين ودساتير مدنية ومتحضرة (خاصة في الدول العربية والإسلامية).
- دعم النساء المرشحات لعضوية البرلمان او المجالس البلدية ماديا ومعنويا واعلاميا والعمل على تدريب النساء من اجل الحصول على المهارات الانتخابية والسياسية.
- التحرر الاقتصادي للمرأة له دور كبيرا في تعزيز دورها في المشاركة السياسية.
- استقلالية المنظمات النسوية من التبعية لأحزاب سياسية غير داعمة لتحرر المرأة.
- عدم انفصال قضية المرأة عن المجتمع بحيث انه أمر يخص المرأة فقط بل إصرار المنظمات النسوية والمنظمات الحقوقية والمدنية على دحض هذه الفكرة.
- المطالبة بتواجد وزارات خاصة بشؤون المرأة وقضايا المساواة تهتهم بكل ما يتعلق بشؤون المرأة في المجتمع.
- المطالبة بتوفير الدعم الكافي من قبل الحكومات لإيجاد مراكز أبحاث المساواة في المجتمع والارتقاء بوعي المرأة أجتماعيا وسياسيا وثقافيا.
بيان صالح
ناشطة نسائية - يسارية من العراق(/3)
المشاركة في الانتخابات البلدية
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ أصول الفقه /السياسة الشرعية
التاريخ ... 03/11/1425هـ
السؤال
ما رأيكم بالمشاركة في الانتخابات البلدية حيث يرى البعض أنها وافد أجنبي ولذا لا تجوز المشاركة فيها؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فيرى بعض الناس أن الانتخابات وافد أجنبي ونظام غربي، أو أنها ستكون شكلية، مما قد يدفع هؤلاء وأولئك إلى عدم تشجيعها، فضلاً عن ممارستها أو الدخول فيها، ويبدو لي أن جميع أولئك مخطئون في ذلك، ووجه ذلك أن الانتخابات هي البوابة الرئيسية لمبدأ الشورى التي أمر الله بها بقوله:"وأمرهم شورى بينهم" والآية عامة للناس كلهم، الحاكم مع الشعب، وأفراد الشعب بعضهم مع بعض، والرئيس مع مرؤسية؛ بل المرأة مع زوجها (فإن أرادا فصالاً عن تراضٍ منهما وتشاور فلا جناح عليهما) فتأدية خدمات الناس ومصالحهم اليومية أخذاً وعطاءً دفعاً أو منعاً من أوجب الواجبات الشرعية، بل إن خدمة الحيوان وتسهيل طريقه والرأفة به مسؤولية جماعية وقربة إلى الله، قال عمر بن الخطاب (والله لو أن شاة عثرت في أرض العراق لرأيت الله مسائلني عنها يوم القيامة. لماذا لم تمهد لها الطريق يا عمر) فكيف بخدمات الناس ونظافة بيئتهم!؟جاء في مسند الإمام أحمد عندما سئل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن المعروف قال: "لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تعطي صلة الحبل ولو أن تعطي شسع النعل ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي ولو أن تنحي الشيء عن طريق الناس يؤذيهم..." يا سبحان الله! هذا في الخدمات الفردية الاختيارية، فكيف بالخدمات العامة الواجبة شرعاً كتعبيد الطرق، وإنارتها وإيصال الخدمات الضرورية من ماء وكهرباء وهاتف، ووسائل نقل لفك الاختناق في المدن، وعمل حدائق ومنتزهات وميادين عامة ومراقبة الأسواق في المواد الاستهلاكية وإتلاف الفاسد منها. وهذه بعض من صلاحيات مجالس البلديات سواء باشرته البلدية بنفسها، أو اشتركت ونسقَّت مع الجهات الأخرى ذات العلاقة.
وعامة أحكام الإسلام وواجباته يتدارسها الناس ويتشاورون فيها جماعة يؤدونها مجتمعين، ورأي الجماعة خير من رأي الفرد، والشاذ عند المحدثين ما خالف الجماعة، وإن كان ثقة في نفسه. ولئن كانت الانتخابات العامة تأخرت في بلادنا فإن البداءة بانتخابات مجالس البلديات هو عين الصواب؛ لأن التدرج هو سنة الحياة، ونستفيد من تجارب من سبقنا في هذا الميدان. وأعتقد أن هذه التجربة لها أثر إيجابي كبير في نفوس المواطنين عامة فضلاً عن الناخب والمرشح. وأهم ما ينبغي أن يتحلى به المرشح:
(1) الإخلاص لله سبحانه؛ لأن الحب للغير عبادة، فكيف بمباشرتها "أحب لأخيك ما تحبه لنفسك".
(2) حسن الخلق والتفاعل مع المشاريع والمناشط الحيوية التي تخدم الناس مباشرة.
(3) من الولاء للوطن وخدمة المواطنين تقديم المصالح العامة على المصالح الشخصية، والانتماءات القبلية والمذهبية والمناطقية والعرقية.
(4) لابد أن يتحلى العضو المنتخب عند النقاش بروح الفريق لا بروح الفردية والاستعلاء، وأتمنى لتفعيل هذه المجالس البلدية المنتخبة -لتعطي دليلاً ملموسًا لعموم الشعب –أن تبادر وتباشر أول أعمالها بإنشاء مجمع أو أكثر في كل مدينة ومحافظة؛ ليكون أشبه بالمركز والنادي الدائم لسكان الحي شيبا وشباباً، تمارس فيه جميع الأنشطة الثقافية والاجتماعية والرياضية والترفيهية، وينتخب أهل الحي من بينهم مجلسًا مصغرًا يقوم بإدارتهم، وتشارك الدولة في ميزانيته المالية للسنوات الثلاث الأولى على الأقل.
إن مشاركة المواطنين -والشباب منهم خاصة- في دخول انتخابات المجالس البلدية سواء كان ناخبًا أو مرشحًا أراه أمراً متعينًا عليهم لإنجاح هذه التجربة في بلادنا، ولا يجوز أن يبقوا سلبيين مع هذه الانتخابات بعد أن تولتها الدولة ودعت إليها، وسيتبع انتخابات المجالس البلدية هذه انتخابات أخرى -بإذن الله- وأمرها موكول إلى مدى نجاح هذه التجربة أو فشلها، فيجب على كل مواطن أن يسرع إلى أخذ بطاقة (ناخب) وينظر في قوائم المرشحين، فليختر منها سبعة أسماء – إن كان في المدينة أو أربعة إن كان في محافظة من المحافظات- وليكن هؤلاء الذين يختارهم أكفأ الموجودين في القائمة وأصلحهم في نظره.
إننا لمتفائلون بنجاح هذه التجربة، وما سيتبعها من انتخابات مقبلة لا تقل عنها أهمية.
وإذا رأيت من الهلال نموه ***أيقنت أن سيصير بدرًا كاملاً
والشكر لكل عامل في هذه الانتخابات كبيرًا كان أو صغيراً أو سعى لتشجيعها والعمل على إنجاحها.
والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه.(/1)
المشاركة في الانتخابات من واجبات الفرد المسلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ?[ آل عمران : 102] ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً? [النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
ما خلق الله عز وجل الخلق إلا ليوحدوه ويفردوه بالعبادة كما قال تعالى: ? وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ?[الذاريات:56-58] ، وقد بعث الله الرسل وأنزل الكتب، وشرع الشرائع وفرض الجهاد لنحقق العبودية له وحده وتكون كلمته هي العليا: ?...حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه ...?[الأنفال:39].
أيها الإخوة المؤمنون: لقد أمرنا الله بالسعي والعمل في هذه الحياة لنعمرها بطاعته وعبادته، ونصلح أمورها وشئونها وفق منهجه وهديه، وإن الأمة العاقلة الواعية، هي التي تتخلص من الغثائية واللامبالاة وتسهم في بناء حياتها وتشارك في صنع قرارها، ويكون للفرد فيها حضوره ووجوده، فينطلق مع غيره في بناء الحياة على أسس الحق والخير والعدل ، وتتظافر على ذلك جهود الحكام والمحكومين لإقامة المجتمع الآمن المستقر الذي ينعم بالصحة والكفاية، والعدل والعلم والحرية والازدهار، وحين تصل الأمة لهذا المستوى تكون أمة مهتدية راشدة عاقلة تعيش الحياة الكريمة الحرة، وإن بلادنا منذ قيام الثورة وهي تكافح وتجاهد للخروج من أزماتها فقد قامت الثورة لتخلص الشعب من الاستبداد والطغيان، ولتتيح للأمة ممارسة حقها في اختيار حكامها وممثليها عبر الانتخابات التي تعتبر صورة من صور الاستفتاء والشورى، التي يريد الإسلام للأمة أن تقيم حياتها على أساسها، ولأهمية الشورى أفردت سورة في القرآن الكريم سميت بالشورى، بياناً لمكانتها في الإسلام وأثرها في حياة المسلمين: قال تعالى في وصف المؤمنين: ? وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ? [الشورى:38],ومن عظمة هذا الدين الذي جاء به محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ربه أنه دين شامل كامل يشمل جوانب الحياة كلها فهو دين التوحيد والوحدة، قال تعالى: ? وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ?[البينة:5] ، وقال تعالى: ? َاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ?[آل عمران:103]، وقال: ? إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ?[ الأنبياء:92].
أيها الإخوة المؤمنون: لقد فرض الله علينا أن نعبده ونطيعه في المسجد والسوق وفي المؤسسات وفي الوزارات وفي الحكم والتعليم وفي الإعلام وفي المال والاقتصاد، وفي التشريع والقضاء، وفي العلاقات والتعامل مع المسلمين وغير المسلمين في السلم والحرب وفي مختلف جوانب الحياة كل ذلك ينبغي أن يكون لله وحده لا شريك له ، يقول الله عز وجل مخاطباً نبيه - صلى الله عليه وسلم - وآمراً له بتنفيذ شريعته واتباعها: ? ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ?[ الجاثية:18].(/1)
وقال سبحانه منكراً على من يترك حكمه ويتبع أحكام الجهالة والضلالة: ? أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ?[المائدة:50]، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمامنا وقدوتنا وأسوتنا الذي فرض الله علينا الإيمان به واتباعه وجعل طاعته سبحانه مرتبطة بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال في آيات كثيرة: ?... وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ...?[الأنفال:1] ، وقال: ? قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ?[ آل عمران:31-32]، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤم المسلمين في الصلاة ويقودهم في المعارك، ويجاهد لإعلاء كلمة الله وإقامة دينه، وكان عليه الصلاة والسلام يقضي بينهم ويعلمهم ويرشدهم ويبين لهم أحكام الله في كافة شئون الحياة.
وإن مما أوجبه الله على المسلمين جميعاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم، قال الله عز وجل : ? وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ?[ آل عمران: 104] ، وقال: : ? كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ...?[ آل عمران:110] ، وليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلمة تقال باللسان فحسب ولكنه جهاد باليد واللسان والقلب كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
فعلى أمة التوحيد والإيمان والحكمة السعي والعمل من أجل اختيار الأكفاء الأمناء الأقوياء في الأماكن والمواقع التي يستطيعون من خلالها إقامة المعروف ومحاربة المنكر، وذلك من خلال ما أتيح لهم من فرص مشروعة في المؤسسات الرسمية والشعبية ، فإن هذا هو مقتضى الدين، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".
أيها المؤمنون : إن الله افترض علينا الإيمان به وبرسوله ولم يرضَ منا مجرد الإيمان بالقول فحسب بل أمرنا أن نخلص له العبادة وأن نقيم حياتنا كلها وفق مرضاته، إنه سبحانه يريد منا قلوباً خالصة مخلصة له لا مكان لغيره فيها، المال والولد والنفس وكل الدنيا وما فيها ينبغي أن تكون كلها خاضعة لله، إننا نردد في صلواتنا قول ربنا: ?قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ?[الأنعام:162-163] ، إن علينا أن نطبق هذه الآية عملياً في حياتنا ـ على المسلم الذي رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولاً أن يحرر ولاءه لله ولرسوله وللمؤمنين ، فإذا أحب فلا يحب إلا لله، وإذا أبغض فلا يبغض إلا لله وإذا أعطى فلا يعطي إلا لله، وإذا منع فلا يمنع إلا لله، وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه أبو داؤود وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان".
وفي الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار". وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "لو أن رجلاً قام يعبد الله بين الركن والمقام سبعين سنة لم يبعثه الله إلا مع من أحب".
أيها المؤمنون: إن كل فرد مسئول عن إصلاح مجتمعه والمحافظة على دينه وأخلاقه وقيمه وفضائله، قال تعالى: ?... وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ...?[المائدة:2] وكل فرد مطالب كذلك بمقاومة الباطل وإزالته من حياة المسلمين حسب القدرة والاستطاعة، إن القيام بهذه المسئولية العظيمة لهو دليل الصدق والإيمان، وهي العلامة التي تميز المؤمنين عن غيرهم، فإن من صفات المؤمنين أنهم بشهاداتهم قائمون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كما قال تعالى: ? وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ...?[التوبة:71].(/2)
أيها الإخوة المؤمنون: إننا بحاجة ماسة إلى التعاون وتظافر الجهود من أجل التخلص من المنكرات والشرور، لقد انتشرت الجرائم التي تهدد أمن المجتمع كالظلم والرشوة وشهادة الزور وضياع الحقوق وكثرة الفواحش وضياع الأمانة وتفشي الأخلاق الذميمة التي نهى الله ورسوله عنها: كالغش والكذب والغدر والخيانة، وغيرها، والسبب في ذلك يرجع إلى تقاعس الناس وسكوتهم عن الباطل، وتنازلهم عن الحق إلا ما شاء الله، ولن يرفع الله عن الأمة ما تعانيه من المصائب والأزمات ، إلا إذا غيرنا ما بأنفسنا وصدقنا مع ربنا وبذلنا ما في وسعنا من أجل القيام بواجباتنا التي افترضها الله علينا، قال الله تعالى: ?... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ...?[الرعد:11]، وبما أننا مقدمون على الانتخابات المحلية لاختيار من يمثلنا فيها، فإن من حق الجميع أن يكون مشاركاً إيجابياً وأن يختار من يريد مراقباً في ذلك ربه مؤثراً لمصلحة أمته وبلاده. قال الله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ?[ المائدة:8].
الخطبة الثانية:
العرب بكل توجهاتهم وأعني حكامهم منزعجون من وصول شارون إلى سدة الحكم في دولة بني صهيون، إذ أن هذا اليهودي الماكر يعيش على أوهام التوسع واكتساح المنطقة وطرد الفلسطينيين بل وبقية العرب من حدود إسرائيل وهذا يجعل حكام العرب في موقف مخزٍ ، فهم الذين استسلموا حين سيقوا جميعاً بالعصا نحو التفاوض وطبل الإعلام العالمي لذلك سنين عدداً.
ثم جاء هذا اليهودي ليتنصل من كل شيء وفي أحسن الأحوال إذا طمع العرب والفلسطينيون بالحل السلمي فلتبدأ المفاوضات من الصفر .. إن حكام اليهود يمشون في حكمهم على خرافات وأساطير كتبهم المحرفة، إن اليهود يعلنون بكل وضوح بأن السلام الذي يتحدثون عنه ينقسم إلى قسمين: قسم منه عابر ومؤقت يقوم على إدراك العرب لقوة إسرائيل وهذا النوع من السلام لن يدوم طويلاً، ويسميه مناحيم بيغن رئيس وزراء الدولة العبرية الهالك : سلام الأربعين، وذلك بسبب خوف العرب وارتباكهم ، والنوع الثاني من أنواع السلام عند اليهود ما يسمونه بالسلام الحقيقي ، فهو الذي سيصاحب إتمام إسرائيل وراثة أرضها بالكامل، ويسبق مجيء المسيح ليسود شعب إسرائيل المجتمع كله وحينها ستعترف الأمم كلها اعترافاً عجيباً بالحقيقة التي تقع على إسرائيل مهمة نشرها في العالم ، رسالة العدل والسلام التي يكون الجبل المقدس رمزها الظاهر. والجبل المقدس هو رمز لهيكل سليمان الذي ينبغي أن يقوم مكان الأقصى وعلى أنقاضه، وهذه بداية رائعة لرسالة العدل والسلام.
هذه هي عقيدة اليهود وهذا نهجهم الذي يسيرون عليه، وقد رأينا الشق الأول أو المرحلة الأولى من السلام المؤقت، سلام المغلوبين ، فاوضنا وتنازلنا ونفذنا وقبضنا الربح النتن منه وما زلنا نقبض في كل يوم الغرور والسراب، إن الخبيث لمن والاه غرار.
وأما السلام الثاني الذي يتحدث عنه اليهود فهو سلام خرافي، يقوم على تنبؤات حاخاماتهم وشياطينهم وإن جيل النصر الآخذ في التشكل والاستعداد قادم بإذن الله وسيواجه الأساطير اليهودية وأباطيل الصهيونية والعلمانية بالحقائق، وإذا جاء الحق فلن يصمد الباطل وحينها سيردد المسلمون قول الله عز وجل: ? وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ?[ الإسراء:81]، ? بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ?[ الأنبياء: 18]، ? قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ?[سبأ:48-49].
أيها المؤمنون إن هذا الركام الهائل من الباطل الذي يتبناه اليهود ويوهمون العالم بمساندته وحمايته سيسقط حتماً وإن طال به الزمن.
وإن من أسباب سقوطه وزواله معرفة المسلمين لدينهم وتمسكهم به وتطبيقهم لأحكامه والأخذ بأسباب النصر ووسائله من الإيمان الصادق والعمل الصالح وتوحيد الصفوف والإعداد النفسي والمادي للأمة كلها حتى تكون أمة واحدة كما أراد الله لها أن تكون : ? إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ?[الصف:4]، وعندئذ نستطيع مواجهة قوى الشر والباطل والعدوان مجتمعة تحت راية واحدة، وحينها نكون أهلاً لنصر الله ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
ـ صحيح مسلم. ج1 كتاب الإيمان. باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان. وأن الإيمان يزيد وينقص. وأن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجبان. الحديث رقم: 49(/3)