الرجل الشرير : لا عليك يا رجل نحن أخوة وأبناء حارة واحدة .
يصعد الأب إلى السيارة ويذهبا معاً ليبحثا عن الطفل ، يتجولان هنا وهناك ، ويسألان هذا وذاك ولكن لا جدوى ، لا أثر للطفل .
وبعد أن يأس الأب من العثور على طفله إذ سمع صوت ذلك الرجل الشرير يقول له : ما رأيك أن نخبر رجال الأمن ؟
الأب : إنها فكرة جيدة هيا بنا .
يصلان معاً إلى مركز الأمن ويبلغان عن فقدان الطفل .
ويعمل رجال الأمن على البحث عن الطفل فما هي إلا ساعات قليلة حتى وجدوا الطفل غارقاً بدمائه قد فارق الحياة .
الرجل الشرير يعزي بوفاة الطفل ويمشي في جنازته، ويأخذ طعام الوضيمة على مكرمته ، يساند أهل الطفل لا حباً في الخير ، ولكن أبعاداً للتهمة الفظيعة عنه ، إلا أن الله سبحانه يمهل ولا يهمل ، فما هي إلا أياماً حتى تلتف خيوط الأدلة الساطعة على عنق ذلك الرجل الشرير ، إذ كان في شهادة الشهود أن آخر عهدهم بالطفل كان ذلك اليوم الذي صحب فيه ذلك الرجل الشرير في جولة الموت ، تشتد الضغوط على الرجل الشرير وتزداد المواجهة حتى اعترف بجريمته النكراء وقيد به إلى حبل المشنقة تاركاً وراءه جريمة من أبشع الجرائم التي عرفتها البشرية ، وهكذا تنتهي أحداث هذه القصة مبينة لنا أن الكبيرة تجر أكبر منها عافانا الله سبحانه من الفواحش ما ظهر منها وما بطن .(/2)
الكتب التي كتبتها أنا عبد الله يوسف من دائرة الضوء
المسلسل ... عنوان الكتاب ... الرقم في السلسلة ... ملاحظات
1 ... وحدة الفكر الإسلامي مقدمة للوحدة الإسلامية الكبرى ... 1
2 ... الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمون ... 2
3 ... في سبيل إعادة كتابة تاريخ الإسلام ... 3
4 ... في مواجهة الفراغ الفكري والنفسي للشباب ... 4
5 ... الشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي ... 5
6 ... التغريب أخطر التحديات في وجه الإسلام ... 6
7 ... تصحيح أكبر خطأ في تاريخ الإسلام الحديث ... 7
8 ... على الفكر الإسلامي أن يتحرر من سارتر وفرويد ودوركايم ... 8
9 ... أخطاء الفلسفة المادية ... 9
10 ... نظريات وافدة كشف الفكر الإسلامي زيفها ... 10
11 ... فارغ مؤقتاً (غير موجود) ... 11
12 ... موقف الإسلام من العلم والفلسفة الغربية ... 12
13 ... تصحيح المفاهيم الإسلامية ... 13
14 ... ماذا يقرأ الشباب المسلم ... 14
15 ... محاذير وأخطاء في مواجهة إحياء التراث والترجمة ... 15
16 ... رسالة المسلم ... 16
17 ... من طفولة البشرية إلى رشد الإنسانية ... 17
18 ... قضايا الشباب المسلم ... 18
19 ... المؤامرة على الفصحى لغة القرآن ... 19
20 ... فارغ مؤقتاً ... 20
21 ... فارغ مؤقتاً ... 21
22 ... فارغ مؤقتاً ... 22
23 ... هل غير الدكتور طه حسين آراؤه في سنواته الأخيرة ... 23
24 ... فارغ مؤقتاً ... 24
25 ... الوجه الآخر لطه حسين من مذكرات السيدة سوزان – معك ... 25
26 ... فارغ مؤقتاً (شغال فيه عبد الله يوسف) ... 26
27 ... الإسلام في وجه التيارات الوافدة ... 27
28 ... مصححو المفاهيم الإسلامية الغزالي وابن تيمية وابن حزم وابن خلدون ... 28
29 ... فارغ مؤقتاً ... 29
30 ... تحديات في وجه المجتمع الإسلامي ... 30
31 ... نظرية السامية مؤامرة على الحنفية الإبراهيمية ... 31
32 ... كمال أتاتورك وإسقاط الخلافة العثمانية ... 32
33 ... الفنون والمسرح ... 33
34 ... التبشير الغربي ... 34
35 ... الانقطاع الحضاري ... 35
36 ... فارغ مؤقتاً ... 36
37 ... الخلافة الإسلامية ... 37
38 ... الفكر البشري القديم ... 38
39 ... ابتعاث الأسطورة مؤامرة جديدة تواجه الفكر الإسلامي ... 39
40 ... فارغ مؤقتاً (شغال فيه عبد يوسف) ... 40
41 ... حركة الترجمة ... 41
42 ... الفكر الإسلامي والتحديات التي تواجهه في مطلع القرن الخامس عشر الهجري ... 42
43 ... السلطان عبد الحميد صفحة ناصعة من الجهاد والإيمان والتصميم ... 43
44 ... القاديانية خروج على السنة النبوية ... 44
45 ... عقيدة الكاتب المسلم ... 45
46 ... الاستشراق ... 46
47 ... أقدم لك الإسلام ... 47
48 ... حقائق عن الغزو الفكري للإسلام ... 48
49 ... مؤامرة تحديد النسل ... 49
50 ... بناء مناهج جديد للتعليم والثقافة على قاعدة الأصالة ... 50
ملحوظة هامة: الأعداد (11-20-21-22-24-26-36-40 من "في دائرة الضوء" لم يكتبوا)، هذه الأعداد غير موجودة ماعدا العددان 26-40 موجودين والسلام عليكم.
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله يوسف الزهري(/1)
الكتمان والخصوصية في الدعوة
وعي الأمن في التربية الإسلام
[الكاتب: محمد جمال الدين محفوظ]
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان، فسلم علينا، فبعثني في حاجة، فأبطأت على أمي، فلما جاءت قالت: ما حبسك؟ - أي ما أخرك؟ - فقلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً).
وقال العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله: (إني أرى هذا الرجل - يعني؛ عمر بن الخطاب - يقدمك على الأشياخ - يعني كبار الصحابة - فاحفظ عني خمسا: لا تفشين له سرا، ولا تغتابن عنده أحدا، ولا يجربن عليك كذبا، ولا تعصين له أمرا، ولا يطلعن منك على خيانة).
وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم وهكذا كان أجدادنا الأوائل يعلّمون أولادهم المحافظة على السر، وهي من ألزم الأمور لسلامة الأمة وأمنها.
والواقع أن المدرسة الإسلامية عنيت بالأمن والمحافظة على الأسرار، أشد العناية ووضعت لهما المبادئ والأصول والأساليب، وأثبت تاريخ صدر الإسلام أن من أسباب انتصار المسلمين على أعدائهم الكثيرين أن أسرار النبي صلى الله عليه وسلم، وأسرار المسلمين كانت مصونة وبعيدة عن متناول الأعداء، في الوقت الذي كان النبي صلوات الله وسلامه عليه يطّلع على نيات أعدائه العدوانية عن طريق عيونه وأرصاده - رجال مخابراته - قبل وقت مبكر، فيعمل من جانبه على إحباط ما يبيتونه للإسلام من غدر وخيانة ودسائس.
كذلك لم يستطع المشركون وأعداء الإسلام أن يباغتوا قوات النبي صلى الله عليه وسلم في الزمان والمكان وأسلوب القتال، بينما استطاع صلوات الله وسلامه عليه أن يباغت أعداءه في معظم غزواته وسراياه.
كذلك لم يرد في تاريخ صدر الإسلام حوادث خيانة أو تخابر مع العدو إلا في حادثة حاطب بن أبي بلتعة في فتح مكة وهي حادثة واحدة واعتذر منها صاحبها.
كل ذلك من منهج الإسلام في تربية المسلمين على الأمن والمحافظة على الأسرار، ومن المبادئ المعروفة أن الأمة التي تكتم أسرارها هي الأمة التي يمكن أن تنتصر، والأمة التي لا تكتم أسرارها هي الأمة التي لا يمكن أن تنتصر، وما يقال عن الأمة يقال عن الأفراد ؛ لأن الأمة تتكون من أفراد.
واللسان الذي هو نعمة من نعم الله على عباده، يستطيعون بها التعبير عن آرائهم وتبادل المنافع مع الناس، هو وسيلة للخير والسعادة في الدنيا والآخرة إذا أحسن استعماله، كما أنه سبب قوي للشر والشقاء في الدارين إذا أسيء استعماله، فهو سلاح ذو حدين يمكن به النفع ويمكن به الضر.
والقرآن الكريم ينبئ بأن كل لفظ من الإنسان مسجل عليه، فيقول الله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} فالكلمة أمانة عظمى لها مكانتها في الإسلام، وتقدير أمرها والتدبر فيها قبل التلفظ بها مرتبط بالإيمان كما يفهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).
ويقول الله تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار }.
والمراد بالكلمة الطيبة شهادة أن لا إله إلا الله، وقيل دعوة الإسلام، وقيل: كل كلمة حسنة.. والمراد بالكلمة الخبيثة: كلمة الكفر أو الدعوة إليه أو الكذب، أو كل كلمة لا يرضاها الله تعالى.
وإفشاء الأسرار التي تعود على الأفراد والأمم بالأضرار من الكلام الذي لا يرضاه الله تعالى، وكذلك كل كلام فيه سعي بالفساد مندرج تحت الكلمة الخبيثة.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله - ما يظن أن يبلغ ما بلغته - فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن ليتكلم بالكلمة من سخط الله - ما يظن أن يبلغ ما بلغته - فيكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه).
وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به، قال: (قل ربي الله ثم استقم) قال: قلت: يا رسول الله، وأخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: (هذا).
كتمان الأسرار من الحذر والفطنة :
وينبه الإسلام إلى اليقظة والحذر كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } وكما في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (المؤمن كيِّس فَطِن) ، فاليقظة والحذر والوعي والفطنة كلها تدفع إلى كتمان الأسرار التي جعلها الله أمانة من الآمانات التي يجب على المسلمين أن يحافظوا عليها كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له).
وقال أيضا: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان).(/1)
وقال: (إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهو أمانة).
وقال: (إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة، ولا يحل لأحدهما أن يفشي على صاحبه ما يكره).
وقال: (كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع).
الصمت :
والصمت من أكبر أسباب الوقاية من إفشاء الأسرار " الوقاية خير من العلاج " والإسلام يرشد إلى الصمت ويدعو المسلمين إليه؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) ، (طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه، وأنفق الفضل من ماله).
وغير ذلك من الأحاديث التي تدعو إلى التمسك بهذه القيم الإسلامية.
دروس علمية من هدي النبي صلى الله عليه وسلم :
والدروس العلمية التي يستطيع المسلمون أن يتعلموها من النبي صلى الله عليه وسلم في مجال السرية والأمن أكثر من أن تحصى. فلقد كان من أسباب نجاح الدعوة الإسلامية أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بدأ سراً.
ولما شاهد علي رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم يصلي هو وخديجة رضي الله عنها، قال: يا محمد ما هذا؟ قال: (دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله. فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وأن تكفر باللات والعزى).. فقال علي: هذا أمر لم أسمع به من قبل اليوم، فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب - أي أباه - لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كره أن يفشي سر الدين قبل أن يستعلن أمره فقال له: (يا علي إذا لم تسلم فاكتم). فامتثل علي للأمر، حتى جاء الرسول صلى الله عليه وسلم في الصباح التالي وأعلن إسلامه وكتم ذلك عن أبيه ولم يظهره.
وقد أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله المشهور: (ليس كل ما يُعلم يقال، ولا كل ما يقال حضر أهله، ولا كل ما حضر أهله حان وقته).
وهجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة من أعظم الدروس في السرية والأمن والكتمان حتى بلغ المدينة بسلام.
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى).
ومن الأمثلة العلمية في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد تأديب بني لحيان، الذين غدروا بدعاة المسلمين - وكان هؤلاء الدعاة ستة من كبار الصحابة - أظهر أنه يريد الشام. وتحرك فعلا بقواته شمالا، فلما اطمأن إلى انتشار أخبار تحركه إلى الشمال باتجاه الشام، عاد راجعا باتجاه مكة مسرعاً في حركته حتى بلغ منازل بني لحيان.
وفي غزوة الخندق جاء نعيم بن مسعود الغطفاني - وكانت غطفان من القبائل التي انضمت إلى قريش للقضاء على المسلمين - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أنه أسلم ولا يعلم قومه، وطلب منه أن يأمره بما يشاء، فقال الرسول : (إنما أنت رجل واحد، فخذّل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة). فقام نعيم بمهمته خير قيام، ونجح في التفريق بين القوى الثلاث التي تجمعت لقتال المسلمين - قريش، والقبائل العربية ومنها قبيلته غطفان، ويهود بني قريظة - وكان مما ساعد على نجاح مهمته مراعاة الأمن والسرية.
لقد كتم النبي صلى الله عليه وسلم إسلام نعيم، وكتم نعيم إسلامه، فلم يعرف قومه ولا بنو قريظة ولا قريش عن إسلامه شيئا، فلولم يطبق الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأ السرية والأمن، ولم لم يطبقه نعيم، فهل كان بإمكان نعيم أن يقوم بهذا الدور الحاسم في تفرقة صفوف الأحزاب ونزع الثقة من نفوسهم؟
وقد ابتكر الرسول صلى الله عليه وسلم " الرسالة المكتومة " مراعاة للسِّرِّية والأمن، وحرمان أعداء المسلمين من الحصول على المعلومات التي تفيدهم عن تحركات المسلمين وأهدافهم، فقد بعث صلوات الله وسلامه عليه سَرِيَّة من المهاجرين، قوامها اثنا عشر رجلا بقيادة عبد الله بن جحش الأسدي في مهمة استطلاعية في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة، وسلمه رسالة " مكتومة " تحتوي على تفاصيل المهمة من حيث الهدف منها ومكانها وغير ذلك من التعليمات، وأمره ألا يفتحها إلا بعد أن يسير يومين.
وتعتبر غزوة فتح مكة من أروع الأمثلة التاريخية في مجال السرية والأمن والكتمان: إن أقرب المقربين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صاحبه أبو بكر الصديق، أول من أمن به كما أن عائشة بنت الصديق أبي بكر كانت أحب نسائه إليه فقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: (عائشة)، قالوا: إنما نعنى من الرجال، قال: (أبوها) ، ومع ذلك كانت عائشة لا تفشي لأبيها شيئا من سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر الصديق وابنته عائشة لا يعلمان من أسرار غزوة الفتح إلا قليلا.
ولقد احتوت غزوة الفتح على الكثير من إجراءات الأمن التي كان لها أكبر الأثر في تحقيق المفاجأة الكاملة وفتح مكة بلا قتال.
[مجلة منار الإسلام | العدد 10 | السنة 9]
...(/2)
الكذب لأخذ المال من دولة حربية
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 25/12/1424هـ
السؤال
أخ مسلم يعيش في دولة كافرة، هذه الدولة الكافرة هي في حالة حرب مع المسلمين منذ فترة، والقتل بينها وبين المسلمين واقع كل يوم تقريباً، وهذا الأخ حاصل على جنسية تلك البلاد، ويمكن لهذا الأخ الحصول على مساعدات مالية من تلك الدولة إذا قال إنه لا يعمل،علماً أنه يعمل لحسابه الخاص ولا تعرف الدولة ذلك،
قبل أن تبدأ الحرب بين الدولة الكافرة والمسلمين، كان الشيخ ابن باز -رحمه الله- قد أفتى بعدم جواز أخذ مثل هذا المبلغ؛ لأن فيه كذباً وغشاً، ولكن هل بعد أن صارت هذه الدولة الكافرة حربية تحارب المسلمين فهل يتغير الحكم أم لا؟ وإذا كان أخذه لهذا المال بالكذب على الدولة الكافرة الحربية جائزاً، هل عليه توزيع الخمس على الفقراء المسلمين(يعني هل المال يعتبر فيئاً)؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الكذب حرام لا يجوز مع المسلم أو الكافر على السواء، وهو رذيلة وفسق، فكيف إذا انضم إليه الغش والظلم، والله يقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" [المائدة:8]،
إن كانت تلك الدولة الكافرة أعلنت الحرب العسكرية على المسلمين، وقام أهل البلاد الإسلامية بالدفاع عن أنفسهم وبلادهم عسكرياً، سواء كان هذا الجهاد من المسلمين للدولة الكافرة جهاد طلب أو دفع، فما أخذه المسلم من الكافر حال القتال فهو غنيمة لا يجوز التصرف فيه إلا بعد قسمته من ولي الأمر، أما مجرد كفر الدولة وحربها للمسلمين سياسياً أو اقتصادياً ونحوه لا يجعل رعاياها حربيين؛ لأن الغنيمة لا تكون إلا في حرب (قتال) في سبيل الله مع كفار حربيين وجهاً لوجه، سواء كان الجهاد للدفع أو الطلب، ولا يعتبر هذا المال المكتسب بالكذب غنيمة ولا فيئاً، ولا يجوز أخذه، وإن أخذ لزم رده إلى صاحبه، وإن تعذر ذلك تصدق به على الفقراء والمحتاجين بنية التخلص منه لا للتقرب به إلى الله، فإن الله طيب لا يقبل من الكسب إلا ما كان طيباً، وإذا كانت الغنيمة من حرب شرعية مع الكفار فلا يؤخذ منها شيء إلا بعد قسمتها على المجاهدين وبإذن الإمام، وما أخذ قبل هذا فهو غلول قليلاً كان أو كثيراً "ما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة" [آل عمران: 161]، وحديث صاحب الشملة التي أخذت من الغنيمة قبل القسمة وقاتل حتى قتل ،وأثنى عليه الصحابة –رضي الله عنهم- خيراً، فأنكر عليهم الرسول – صلى الله عليه وسلم- قائلاً: "كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلتهب عليه ناراً أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم" قال: ففزع الناس، فجاء رجلٌ بشراكٍ، أو شراكين، فقال: يا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أصبت يوم خيبر، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "شراك أو شراكان من نار" رواه البخاري(4234)، ومسلم(115) من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-، إذا كان هذا فيمن قاتل وقتل في سبيل الله لما أخذ من الغنيمة – ولو كان له حق فيها- ولكن قبل قسمتها فكيف بما دون ذلك مما ذكر في السؤال. والله أعلم.(/1)
الكراسي الدّوارة... !
د.خالد بن سعود الحليبي
</TD
كان بين أصدقائه: بشوشاً.. مستبشراً.. لين العريكة .. هادئ البال.. ليس من السهل أن تستثيره.. باذلاً نفسه وماله عن طيب خاطر دون أن ينتظر طلباً أو... لقد كان سر سعادة أصدقائه.
كان بين أهله وأولاده: رقيق الحاشية .. نقي اللّسان .. حنون النظرات .. حبيب اللفتات .. شفوق القبلات والضمّات واللّمسات .. سؤولاً عن الحاجات، متابعاً للروحات والغدوات .. عليماً بكل المجريات.. دؤوب التخطيط والتنفيذ لكل ما يرفع شأن رعيته في بيته .. غنيّ الجلسات.. مبادراً بالمرح واللعب.. معبراً عن حبّه بأجمل الكلمات وأرقّ العبارات، بين فينة وأخرى يخرج بأسرته بين الحدائق والحقول والشواطئ والأسواق والمدن الترفيهية.. وتكون روحه أجمل من كل المناظر والأصوات والروائح العطرة .. لقد كان سر سعادة أهله وأولاده.
كان في مسجده: مطمح عيون المصلين، ومأوى قلوب البائسين، ومنتهى سؤال المستفتين، خاشع الركعات، كثير العبرات، كثير التلاوة والمراجعة، يصوم باشتياق مهما كرّر الصيام، ويقوم بحزم مهما ثقل المنام، يبحث عن الفقير ليعطيه، وعن المحزون ليفرحه، وعن ذي الحاجة ليسعى في حاجته، وعن المكروب ليفرّج كربته.. لقد كان سراً من أسرار سعادة حيّه ومرتادي مسجده.
كان في مجتمعه ذا لفتة رائعة لا تقع على أمر يمكن أن يكون له فيه دور إلا نهض إليه بروح الغزال الطليق، لا ينتظر أن يُشار إليه.. بل يسبق النداء بالعمل، حتى عُرف بين أفراد مجتمعه بمبادراته، التي تركت آثاراً لا تمّحي بإذن الله، وأصبحت إنجازاته وشماً على صدر الزمن لا يزول بحول الله وقوته، الصغير والكبير يشعر بأن هذا الإنسان قدّم له شيئاً سواء أكان ذلك من بعيد أم من قريب!! لقد كان مصدر سعادة لجميع أفراد مجتمعه.
كان ريحانة أمته ووطنه .. يقدم بإخلاص دون أن ينتظر جزاءً أو شكوراً، تنوّعت وتشكلت عطاءاته بعدد ألوان الطيف، مرة يبدو نجماً، ومرة كوكباً، ومرة مصباحاً، لكنه يتوارى حين تحين لحظات التقدير والتكريم، ويظهر في ساعات العطاء والتضحيات، بوركت خطواته، واتسعت دوائر مشاريعه، ولاحت بين سحب البذل ـ رغم كثافتها ـ شمسه. إنه لا يكلّ ولا يملّ مهما بذل، لا يسمع سوى أصوات المنادين، وتصم أذنيه كلمات الشاكرين، يا له من إنسان حلّ في قلبه وطنه الكبير، فأصبح هاجسه أن يراه سعيداً بكل فرد من أفراده.. لقد كان جديراً به أن يكون من أروع مصادر السعادة في أمته ووطنه.
كان كاتباً مجيداً، وصاحب قلم محترف، الكلمات تنمو تحت ريشة يراعته مثل ما تنمو أوراق البقل تحت شقوق الماء ؛ هكذا بعفوية وانسيابية، مؤثراً إذا خطب، ومبهراً إذا شعر، ومبدعاً إذا سجّل مقالة، ومتقناً إذا ناقش المسائل وبحثها. أصبح شامة في جبين علمه، لا يمكن أن يرتوي الطلاب من فيوض حكمته، ولا يشبع المنتدون من جماليات لغته. إذا تحدّث في أي شأن أجاد، وإن دُعي للتعليق أفاض وأضاف. يزلزل الاقتناعات البالية بلغة سهلة وروح واثقة، ويُحِلُّ محلها يقينيّاته بالدليل والبرهان، وينشئ بين هذا وذاك صلة من الودّ والمحبة، بحيث لا يفقد صديقاً، ولا يبعد قريباً، ولا يجافي حبيباً، بل يكسب كل يوم جديداً .. لقد كان حقاً سر السعادة لتلاميذه وأقرانه ومرتادي نواديه.
وكان .. وكان .. وكان .. ولكن ما الذي حدث؟
سلوا الكراسي الدوّارة: كم استدارت بالخلق والعفاف والنبل والسماحة والطمأنينة والإنجاز والعلاقات..!! لقد كانت من أكبر أسرار تعاسة الكثيرين .. فإياك أن تكون منهم! إما أن تتحمل العبء دون أن تخسر موقعاً كنت فيه مصدراً للسعادة.. فهو الباقي .. وذاك الدوار المخيف الذي لا يستقر عليه أحد (كرسي الحلاق) ـ إن لم يكن مصدراً إضافياً لإسعاد نفسك وأهل وقومك ـ فهو من الفاني الذي لا ندامة عليه! صدّقني لا ندامة عليه!
المصدر : الإسلام اليوم(/1)
الكرامة الجريحة
عبد الكريم بكار 20/8/1424
16/10/2003
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
نحن أهل كرامة جريحة، وهذا الشعور بذلك يأتينا من مصدرين:
من التاريخ أولاً؛ إذ إننا أمة ظلت صاحبة حضارة مهيمنة مدة لا تقل عن سبعة قرون، واستمرت إشعاعات عطاءاتها ثلاثة قرون إضافية، ويزيد في إحساسنا بالإهانة أننا في منتصف القرن الرابع عشر الهجري واجهنا -بوصفنا "أمة ذات منهج ورسالة"- تيارات عديدة، يرمي جميعها إلى طمس هذا المعنى، وجعل وعي الأمة ينفتح على معان وطنية وإقليمية وقومية وعلمانية ....، بوصفها بديلاً عن الانفتاح على أخص خصائصنا، وهو العبودية لله – تعالى – والاحتكام إلى الشريعة في الشؤون العامة والخاصة، وفي مواجهة هذا الاستلاب اجتهد المثقفون والغيورون في تلك المرحلة – وكانوا فيما ذهبوا إليه على صواب إلى حد بعيد – في كيفية مواجهة ذلك، وانتهوا إلى قرار بالذهاب إلى التاريخ على اعتبار أنه الذاكرة الحضارية للأمة والخزان الأساسي لأمجادها وبطولاتها. ونذكر كيف نشطت في تلك المرحلة الكتب التي تتحدث عن العبقريات وعن سير الرجال العظماء والنماذج التاريخية الفذة، والمعارك المظفرة، والإنجازات العلمية الباهرة، بالإضافة إلى بلورة شيء من حكمة التشريع وكون الإسلام لا يتناقض مع العلم... وأسدل الستار على نحو شبه تام على كل الألوان الرمادية والباهتة التي كانت جزءاً من ألوان ذلك التاريخ، كما تم الإعراض عن الحديث عن الأسباب التي أدت إلى توقف الحضارة الإسلامية عن العطاء؛ لأن الكشف عنها في تلك المرحلة كان سيؤدي إلى الإحباط، ويجعل الناس شبه مجردين من أسلحة المقاومة للتيارات التي أشرت إليها. وقد أدت تلك القراءات المبتسرة والجزئية دورها بكفاءة واقتدار في إنقاذ الذات لمسلمة والثقافة الإسلامية من هزيمة نكراء. وهكذا فقد ترسخ في وعي الأجيال الحاضرة وفي حسَّها مشاعر عميقة بالظلم الذي يلحقه بنا الآخرون اليوم، وبالهوان إذ خسرنا معظم الإنجازات التي كنا نفاخر بها في الأيام الخالية.
وأعتقد أن شيئاً من العلاج لهذا سيكون في إعادة قراءة التاريخ على نحو متوازن وبمنهجية سببية واستقصائية ذكية ومتقنة.
المصدر الثاني لإحساسنا بجرح كرامتنا؛ هو الواقع الذي نعيشه، فنحن أمة تملك أفضل منهج – على مستوى الأصول والأسس والمنطلقات الكبرى على الأقل- لإصلاح العالم، لكننا نعيش في أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية عليلة ومتخلفة عن المنهج الذي نؤمن به، وعن متوسط السائد من كثير من أوضاع عصرنا، ونحتاج إلى الكثير من الفكر والعمل والجهد حتى نتجاوز هذه الأوضاع.
المسلم اليوم يشعر أولاً أنه يعيش على هامش الحضارة، حيث إننا دخلناها من باب الاستهلاك والتمتع ليس أكثر، وينقضي عصر صناعي بعد عصر دون أن نلج أياً منها، ومعظم الدول الإسلامية مازال ما لديها من إمكانات صناعية وتقنية أقل مما كان متوفراً لدى أوروبا في القرن التاسع عشر. ويشعر من وجه آخر أنه غير قادر على حماية أرضه وحقوقه، وغير قادر على تفادي الصفعة التي يوجهها الآخرون إليه ولا على ردها، بل يشعر أحياناً أنه غير قادر على الشكوى من الألم الذي يشعر به، أو غير قادر على جعل تلك الشكوى مسموعة لتكون ذات معنى!!
وهكذا؛ فالإحساس المتضخم بالأمجاد الغابرة جعل إحساسنا بالإهانة التي نتلقاها – وهي أشكال وألوان- شديداً أو متفجراً، لكنه مبهم وغامض حيث لا تعرف الأكثرية الصامتة من هذه الأمة أي تحديدات لأسباب ما نحن فيه على نحو منطقي، فضلاً عن أن تعرف سبل الخلاص منه.
وأود هنا أن أبدي الملحوظتين التاليتين:
1-شيء أساسي أن نشعر بالإهانة والدونية؛ لأننا إذا فقدنا هذا الإحساس فإن ذلك يعني خللاً بنيوياً في رؤيتنا لأنفسنا وللواقع وللعالم من حولنا. وبعض المسلمين حصل على مواقع اجتماعية أو اقتصادية جيدة، فهو مغتبط بالتمتع بثمرات الحضارة وعقد الصفقات وحصد المزيد من المنافع. وينظر إلى الذين يشكون من سوء الأحوال نظرة استغراب، فالأمور تمضي على أحسن ما يرام، وأن يكون بينك وبين الغرب سبب أو تواصل ما، فهذا يعني انفتاح أبواب إضافية للنعيم والنجاح. هذه الفئة من المسلمين ضعُف لديها الإحساس الجماعي إلى حد التلاشي، وهي تشعر في أعماقها بالدونية، لكنها تجد دائماً ما يوجه وعيها نحو همومها ومكاسبها الشخصية. وهذه الفئة في ظل موجات اللهو والمتعة والأنانية التي تبعث بها العولمة – مرشحة للاتساع – ولا ندري كيف سيكون الحال بعد عشر سنوات من الآن ؟!
2-من المهم أن نتخذ من كرامتنا الجريحة محفزاً على المقاومة واكتساب المنعة والارتقاء والفكاك من أسر التخلف لا أن نجعل منها منهجاً للعمل. وهذه القضية لا تخلون شيء من الدقة، وتحتاج إلى شيء من التوضيح.(/1)
حين يشتعل إحساسنا بالهوان، ونستجيب في توجهاتنا واستخدام الإمكانات التي لدينا لتلك الأحاسيس والمشاعر على نحو بدائي ومتسرع ووفق رؤية جزئية ومبتسرة –؛ فإننا نكون آنذاك غير مؤهلين لمداواة الكرامة المجروحة، ولا استرجاع الحقوق المسلوبة؛ بل إن الاستجابة على هذا النحو ستجعل جروحنا تزداد تقرحاً، وتجعل حقوقنا أكثر تعرضاً للاغتصاب والنهب. ولنا فيما جرى خلال العامين الماضيين من المضايقة والتحجيم للدعوة الإسلامية والمحاربة للمؤسسات الخيرية والمطاردة للدعاة... عبرة إن كنا قادرين على الاعتبار!
وأي شيء أسوأ من أن يصبح ذكر الإسلام والمسلمين شيئاً يثير مشاعر الخوف والاشمئزاز لدى كثيرين من أبناء أمريكا وأوروبا وغيرهما؟!
إن أمريكا أحسَّت بجرج عميق في كبريائها حين تعرضت رموزها الاقتصادية والعسكرية للهجوم، وردت على ذلك الجرح الغائر في كرامتها باتخاذه منهجاً للرد، فقابلت الصفعة بصفعات في أماكن عدة من العالم، وما زالت مستمرة في ذلك إلى هذه اللحظة، فماذا جرى؟
إنها تنتقم من بعض خصومها على نحو ساحق، لكنها لن تستطيع أن تحول دون تكرار ذلك الهجوم عليها مرة أخرى؛ لأنها لم تستطع التوقف لقراءة الأسباب الجوهرية التي أدت إلى الهجوم عليها. إنها تربح معركة هنا ومعركة هناك إلا أنها تخسر جاذبيتها الحضارية من خلال عدوانها على النموذج الذي كانت تقدمه للعالم، وتخسر مع كل ذلك الانسجام الداخلي مع القيم التي تروج لها.وهذا ما علينا أن نستفيد منه على نحو جيد.
أما إذا اتخذنا من جرح الكرامة وكؤوس الإهانة حافزاً على الخلاص؛ فإن سلوكنا آنذاك سيكون مختلفاً. وأتصور أننا آنذاك سنفكر ونتصرف على النحو الآتي:
-إن حالة ارتباك الوعي التي نعاني منها ليست جديدة، ولم تتكون في مرحلة واحدة، وجرحنا الغائر لم يحدث بسبب ما فعله ويفعله بنا الغرب، وإنما بدأ الأمر قبل ذلك بقرون عدة. وحين انفرط عقد الدولة العباسية لم يكن ذلك بسبب غرب أو شرق، وإنما بسبب الانحراف عن المنهج الرباني الأقوم الذي أكرمنا الله به، وبسبب عدم القدرة على التجدد وحل المشكلات المتأسنة .
ولهذا فإن ما نلقاه اليوم من ازدراء لا يعود إلى أحوال هذا الجيل، وإنما بسبب الوضعية العامة للأمة، وهي وضعية صنعتها أخطاء وخطايا القرون.
-كما أن على أمريكا أن تسأل بصدق واهتمام : لماذا يكرهها الآخرون؟ ولماذا يكون هناك شباب في عمر الورود مستعدين للموت من أجل إلحاق الأذى بها؟. فإن علينا أيضاً أن نسأل: لماذا يجري كل هذا لنا؟ ولماذا نحن عاجزون عن الدفاع عن أنفسنا؟ ولماذا لا نساهم في توجيه الحضارة الحالية، ولا نؤثر في موازين القوى فيها؟.
إذا نحن تصرفنا ضد أعدئنا وضد أولئك الذين يوقعون الظلم علينا بعين الأسلوب الذي يستخدمونه معنا، فما الميزة التي تجعلنا أكثر أهلية لوضع أسس لحضارة جديدة ومختلفة عن الحضارة السائدة؟
إننا في حاجة إلى أن نعمل على المدى الطويل حتى نكون في وضعية لا يفكر معها أحد في إهانتنا والعدوان علينا؛ لأن ذلك سيكون بالنسبة إليه مكلفاً جداً. والأرقى من ذلك أن يحترمنا الآخرون للقيم والمنجزات التي لدينا، فينشغلون بكيفية الاقتباس والتعلم منا، بدل الانشغال بإيذائنا وظلمنا. والأرقى من هذا وذاك أن نفكر وندعو ونعمل على تحويل أعدائنا إلى أولياء يدخلون في ديننا، وينشرن مبادئنا وقيمنا. وهذا ما قام به المسلمون الأوائل حين انتهوا من مشكلة الآخر الوثني في جنوب شرق آسيا عن طريق نشر الإسلام وجذب الناس إليه. وإن الغرب على المستوى الشعبي – ينتظر منا هذا الأداء، وهو في أمس الحاجة إليه.
وأنا هنا لا أرمي إلى تمييع الأمور، ولا إلى إخماد روح المقاومة؛ لكنني أريد لأعمالنا وجهودنا أن تكون في السياق المنتج، وأن تعبر قبل ذلك عن رؤيتنا الكونية للعالم، وليس عن انفعالاتنا ومشاعرنا.
-الصراع بيننا وبين أولئك الذين يجرحون كرامتنا ليس صراعاً عسكرياً، ولا يمكن للقوة اليوم أن تحسم أية قضية على نحو نهائي .
وإن أي نصر عسكري سيكون مؤقتاً ومجوّفاً إذا لم يرتكز على تفوق حضاري. وإن شروط الاحترام ونوعية الرد المطلوب على الإهانة – لا تستمد من أدبيات حقبة تاريخية ماضية، ولا يضعها الناس بحسب أهوائهم وأمزجتهم، ولا بحسب معتقداتهم ومبادئهم، وإنما يصوغ ذلك ويحدده أولئك الذين يضعون بصماتهم على الحضارة الراهنة، مهما كانت هذه الحضارة ضالة أو ناقصة أو خاوية وهذه نقطة جوهرية.(/2)
-إن كرامتنا لم تمتهن بسبب استلاب حقوقنا أو نهب ثرواتنا فحسب؛ وإنما هناك أمور أخرى لا تقل أهمية، فالتخلف الذي يخيّم على العديد من جوانب حياتنا أوجد ندوباً ناتئة في نفس كل مسلم، حيث صار هناك ما يشبه الاعتقاد بأننا غير مؤهلين لإنتاج التقنيات المتقدمة ولا لتصميم النظم المعقدة. وإن كثيراً من العمال المسلمين في الغرب لا يجدون فرصاً لكسب أرزاقهم إلا في الأعمال الوضيعة أو الشاقة أو غير المجزية، والتي يترفع عنها كثير من أهالي تلك البلاد، وإن مسلم اليوم يشعر أن الأمة عالة على الأمم الأخرى في كل شيء حتى طباعة المصاحف وتشيد المآذن! وإن النقلة النوعية في التقنية والصناعة وحدها هي التي تجعل المسلم يشعر بأنه لا يعيش على هامش العصر، كما أنه ليس محروماً من الذكاء ولا المواهب التي يقر للآخرين بامتلاكها.
-سيظل من المهم دائماً أن ندرك أن علاقتنا بالأعداء والمنافسين والأغيار ستظل فرعاً عن الوضعية العامة التي نؤسسها في بلادنا، وإن العلاقات الدولية أشبه بسوق يعرض الناس فيه بضائعهم، ويأخذون منه على مقدار ما في جيوبهم، ولن نستطيع أن ندافع عن حقوقنا ولا أن نرسخ وجودنا على الصعيد العالمي عن طريق (الفهلوة) والإدعاء والشعارات، فهامش المناورة أمامنا ضيق جداً؛ وإن الناس يحبون أن يروا؛ فلنجعلهم يرون إذا ما كنا نريد لموقعنا العالمي أن يتحَسَّن.
-علينا أن ندرك على وجه جيد نقطة الضعف الأساسية في علاقتنا مع الآخرين؛ لأننا من غير إدراكها سنكون كمن يصرخ في واد، أو ينفخ في رماد. وأظن أن تلك النقطة لا تتجسد في نقص إمكاناتنا وقدراتنا مع أنها محدودة، وإنما في تكبيل إرادتنا؛ لأن أصحاب الإرادة المسلوبة يظلون يشعرون بالعجر والانهزام مهما كانت قوة الأوراق التي بين أيديهم.
إن تحرير الإرادة من الخوف والتبعية والاستخذاء أمام الأجنبي سيظل شرطاً جوهرياً لتحريك إمكاناتنا في الاتجاه الصحيح، وشرطاً جوهرياً لاتخاذ قرارات تاريخية ومصيرية .
والله ولي التوفيق.(/3)
الكرم العربي
شعر: الحطيئة
وطاوي ثلاثٍ عاصبِ البطنِ مُرملٍ ببيداءَ لم يعرفْ بها ساكنٌ رسما
أخي جفوةٍ فيه من الأنس وحشةٌ يرى البؤسَ فيها من شراستهِ نُعما
تَفرّدَ في شِعب عجوزاً إزاءَها ثلاثةُ أشخاصٍ تخالهمُ بَهما
حُفاةٌ عراةٌ ما اغتَذَوا خُبزَ ملّةٍ ولا عرفوا للبُرِّ، مذ خُلِفوا، طعما
رأى شبحاً وسطَ الظلام فراعهُ فلما رأى ضيفاً تصوّر واهتمّا
تروّى قليلاً ثم أحجم بُرهةً وإن هو لم يذبَحْ فتاهُ فقد همّا
فمرَّت نَحوصُ ذات جحشٍ فتيةً قد اكتنزتْ لحماً وقد طبَّقت شحماً
فيا بِشرَه أن جرَّها نحو أهله ويا بشرهم لما رأوا كِلمها يدمى
وبات أبوهم من بشاشته أباً لضيفه، والأمُّ من بشرها أمَّا
وباتوا كراماً قد قضوا حق ضيفهم وما غرموا غُرماً وقد غنموا غنما(/1)
الكسوف
د. لطف الله بن عبد العظيم خوجه 19/3/1427
17/04/2006
الظاهرة هي: الحدث المتكرر بشكل يلفت النظر.
والكسوف بهذا المقياس: ظاهرة منذ السنوات العشر الماضية، والمقبلة كذلك (= بحسب الإحصاءات الفلكية). فلا يمر عام إلا وفيه خسوف للقمر وكسوف للشمس، على الأقل لمرة واحدة.
هذه الظاهرة تسايرها ظاهرة أخرى: تعمل على إثبات العبرة والعظة بهذا الحدث. يمثلها: المشتغلون بعلوم الشريعة، والدعوة، والإصلاح.
تقابل هذه الظاهرة: ظاهرة ثالثة: تعمل على جعل الحدث نقطة استمتاع؛ لتبطل العظة والعبرة به. تمثلها: التيارات الليبرالية، والعلمانية.
فالناس أمام مثلث ينظرون وينتظرون: ظاهرة الكسوف.. والذين يعظون بها.. والذين يُمتِّعون الناس بها.
فأين الحقيقة؟. فالظاهرة حقيقة؛ فأي القولين في تفسيرها هو الحقيقة ؟.
* * *
الذين يعظون بهذا الحدث، وهذه الظاهرة: أكدوا على العلاقة بينها وبين الذنوب. وقالوا: هي علاقة ثابتة، يقينية، قطعية. ليست بظنية. دلت عليها:
- أولا: نصوص محكمة في ثبوتها، وفي دلالتها، من القرآن والسنة.
- ثانيا: قياس واستنباط شرعي صحيح.
- ثالثا: وقائع ثابتة.
- رابعا: دليل عقلي.
فكلها أشارت إلى أن هذه التغيرات سببها: فسوق بني آدم.
- أولا: النص الشرعي.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (خسفت الشمس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى المسجد، يجر إزاره، فصف الناس وراءه، ثم قام يصلي... وانجلت الشمس، ثم قام فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده.. فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة،.
ثم قال: لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء وُعِدْته، حتى لقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، حين رأيتموني تأخرت..
يا أمة محمد! والله ما من أحد أغير من الله، أن يزني عبده، أو تزني أمته.
يا أمة محمد! لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا..
وقال: وأريت النار، فلم أنظر منظرا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء.
قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن ، يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خيرا قط) رواه البخاري. بتصرف
في هذا النص أوجه متعددة، ثبت بها العظة والعبرة في الكسوف:
- فأولا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى خسوف الشمس: خرج يجر إزاره؛ وهي حالة الفزِع. فلو كانت الحادثة للمتعة لا للعبرة، فلم هذا الفزع ؟. ما عهد الفزع إلا في أمر عظيم، والعظيم هنا: علامة خوّف الله بها عباد، هي: الكسوف.
- وثانيا: صلاته عليه الصلاة والسلام. فلا يدعي أحد أنها صلاة شكر، على نعمة تمتّع بها، بل صلاة مستغفر يرجو الرحمة، ورفع العقوبة، يدل على هذا: ما جاء في خطبته من التحذير.
- وثالثا: قوله: (يخوف الله بهما عباده). فهل التخويف للمتعة أيضا، أم من الذنوب ؟.
- ورابعا: أمره الناس إذا رأوا مثل هذا: أن يفزعوا للصلاة، وفي روايات أخر: للصدقة، والتكبير، والذكر، والاستغفار.. فقد أمرهم بالفزع، والفزع يكون لأمر عظيم. وبالطاعة أمرهم، فمن فائدتها: أنها تدفع العقوبة المترتبة على الذنب، كما قال تعالى: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون".
- وخامسا: رؤيته جهنم، يحطم بعضها بعضا، فما كان ليراها للمتعة، بل للتحذير والعظة.
- وسادسا: ذكره لأنواع من الذنوب في هذا المقام: كالزنا، وكفران العشير. فهذا لا يتناسب إلا مع كون الحدث عبرة وعظة؛ فلو كان الحادث عرضا، ليس له علاقة بالذنوب، فلم ينوه بذكرها ؟.
-
* * *
ثانيا: قياس واستنباط شرعي.
لله تعالى سنن كونية وشرعية. الكونية لها أسباب وآثار؛ فالشمس، القمر، والأرض، والنجوم، والسماء أسباب، لها آثارها:
- فالشمس سبب لحصول الليل والنهار، وهذا أثرها.
- والقمر سبب لابتداء الشهر ونهايته، وهذا أثره.
- والأرض سبب القرار، والسعي، والرزق، وهذا أثرها.
- والنجوم سبب الاهتداء، وهذا أثره.
- والسماء سبب في المطر، وهذا أثرها.
والآثار ليست منحصرة فيما ذكر. وقد جعل الله تعالى سنته الشرعية؛ وهي المنزلة على عباده بالوحي: مربوطة بهذه الآثار، التي كانت عن تلك الأسباب الكونية.
- فالصلاة موقوتة بطلوع الشمس، واستوائها، وغروبها؛ أي بأجزاء الليل والنهار، قال تعالى: "أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر..".
- والحج، والعدّة موقوتة بطلوع الهلال وغيابه؛ أي بالشهر، قال تعالى: "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج"، "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا".
- والصيام عبادة موقوتة بالقمر والشمس؛ أي بالشهر وبالليل والنهار، قال تعالى: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه". "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل".
- والقبلة للبعيد تعرف بالنجوم، قال تعالى: "وعلامات وبالنجم هم يهتدون".(/1)
فهذه السنة الكونية قد ارتبطت بها السنة الشرعية، وكأن الصلة بينهما هي: المسلم؛ الذي استعمل الآثار الناجمة عن السنن الكونية ليقيم الشعائر، وبدونها لم يكن ليقدر على ذلك.
والمقصود: أن الأصل في هذه السنن: أن تسير وفق نظام ثابت، لا يتغير. فالليل والنهار، والشهر، والاتجاهات، واستقرار الأرض، ونزول الماء من السماء، وخروج الرزق من الأرض: كلها تسير بانتظام في أصل الأمر. ليتحقق بها عيش الناس، وإقامة المؤمنين عباداتهم.
غير أن بعضها قد يختل في بعض الأحيان، كالأرض قد يضطرب بعض أجزائها بفعل: بركان، أو زلزال، أو انهيار. والسماء قد تمسك ماءها عن أجزاء من الأرض. وبما أن هذه الأحوال عارضة، ليست أصلية؛ فإن العلماء يشتغلون بتفسيرها، والبحث عن عللها ؟.
وأكثرهم يفسرها بنظر جغرافي، أو فلكي بحت، دون أن ينفذ إلى أعمق من ذلك، رافضا فكرة السبب الخارج عن إطار الحدث، الذي ذكر في الأخبار الإلهية..؟!!.
أما المسلم فإنه ينظر في الحدث من كافة جوانبه: جغرافيا، وفلكيا، ويرجع إلى الخبر الإلهي، ليجد أخبارا قطعية، تحدد له الأسباب، كما في قوله تعالى: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون" ، "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير" ، "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون".
- وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إن ابتليتم بهن، ونزلن بكم، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم. ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان. ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سُلط عليهم عدو من غيرهم، فيأخذ بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم). [رواه البيهقي، والطبراني في الكبير، حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ص321، وانظر: الترغيب والترهيب 1/543]
في هذه الأخبار تنصيص صريح: أن سبب هذا الاختلال، من قلة المطر، والرزق، وظهور الفساد في البر، والبحر، والأنفس: اختلال التزام الناس بشريعة الله تعالى. وهو: ما اكتسبته أيدي الناس، من عدم إيمانهم، وعدم تقواهم، وتكذيبهم، ومنع زكاة أموالهم، ونقض العهد، والحكم بغير ما أنزل الله تعالى. فقد ذكر هذه الذنوب، وجعلها المانع من سير شيء من النظام الكوني وفق أصوله المطردة.
والمعنى: أن الالتزام الشرعي يوجب الأثر الكوني الحسن. وعدم الالتزام يوجب الأثر الكوني السيء.
لكن ما علاقة هذا بالكسوف، وقد علم أن الكسوف ليس اختلالا، ينتج به عقوبة مباشرة كالزلازل؟.
يقال: الاختلال على نوعين:
- نوع يحدث عنه عقوبة مباشرة، كالزلازل، وليس منه الكسوف.
- ونوع هو آية على عقوبة قد تأتي، وربما رفعت بسبب توبة واستغفار، والكسوف من هذا.
فالعظة بالكسوف والخسوف يكون في أمرين:
- الأول: أنه علامة وآية على عقوبة؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يخوف الله بهما عباده).
- الثاني: أنه في نفسه اختلال؛ فهو ظاهرة غير معتادة، بدليل: أنه يحدث من غير نظام مطّرد. فيحدث في شهر دون شهر، وفي سنة دون أخرى، بل في عقد دون عقود. ليس كالنهار والليل. وهذا يوجب التأمل في سبب هذه الظاهرة غير المعتادة ؟.
فالأصل عدم الكسوف، وهو طارئ. فإذا طرأ فللسائلين أن يسألوا عن السبب ؟.
هنا يجيب الشارع بوضوح: أنه الذنب. فالمسالم للشرع الإلهي، بفعل الطاعة وترك المعصية: تسالمه السنة الكونية. ومن لم يسالم، فلا يأمن من محاربة السنة الكونية له، فإنما هي خلق لله تعالى، تحت أمره.
-
* * *
ثالثا: وقائع ثابتة.
إن عمل الناس بشريعة الله تعالى ليس سببا في اتساق نظام الكون، وسلامته من الاختلال فحسب، بل هو سبب كذلك في كف شر كل ذي شر، إن استكملوا العمل بها؛ حيث إن الشرور عقوبات، فإذا انتفت أسباب العقوبات (= الذنوب)، ولا تنتفي إلا بالعمل الكامل بالشريعة: انتفت الشرور. وإليكم الأدلة:
أولا: في الصحيح أن عيسى إذا نزل في آخر الزمان، لم يقبل من الناس إلا الإسلام، فلا يبقى في الأرض إلا مسلم، وحين ينتشر الإسلام في الأرض يزول الشر. فماذا يكون حينذاك ؟.
يخبر عليه الصلاة والسلام عن هذا العهد الخالي من الشر، بخلوه من الكفر، الذي هو أصل الشر، فيقول:(/2)
- (فيقال للأض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك،. فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها، ويبارك الله في الرِسل، حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفآم من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم الفخذ من الناس) (مسلم كتاب الفتن باب ذكر الدجال). وفي أثر آخر: ( وتقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم). [مسند أحمد 2/406]
ثانيا: جاء في كتب التاريخ: أن البهائم كانت- في عهد عمر بن عبد العزيز - ترعى في مرعى واحد، لا يعدي الذئب على الغنم، ولا الأسد على البقر، ففي ليلة عدى ذئب على غنم، فقال الراعي: " إنا لله، ما أرى الرجل الصالح إلا هلك"، فنظروا فإذا هو مات في تلك الليلة. [البداية والنهاية (9/203)].
ثالثا: كان سفينة -مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- يمشي إذ عرض له أسد، فقال: " يا أبا الحارث، أنا سفينة مولى رسول الله"، فهز الأسد ذنبه، وسار معه يحرسه حتى أوصله المعسكر ثم انصرف. [سير أعلام النبلاء 3/173]
رابعا: أنكر أحد الصالحين على أحد الخلفاء وأمره بالمعروف، فأمر به فألقي بين يدي الأسد، فكان الأسد يشمه ويحجم عنه، فلما رفع سئل فقال: " لم يكن علي بأس، قد كنت أفكر في سؤر السباع واختلاف العلماء فيه: هل هو طاهر أم نجس؟". [البداية والنهاية 11/185]
فهؤلاء لما تنقوا وتطهروا، وسالموا شرع الله تعالى، واستكملوا العمل به، ولانوا لأمر ربهم: لانت لهم هذه السباع، وأحبتهم الكائنات من حولهم، فلم يجدوا منها أذى ولا شرا .
* * *
إذاً هذا الكون بحوادثه، من: نزول الأمطار الطيبة، وطلوع الشمس من المشرق، وطلوع القمر من مطلعه، وسير الهواء بانتظام، وثبات الأرض، وإخراجها بركاتها، وغير ذلك: بقاؤه على هذا النحو الجميل المنتظم المرتب، مرهون بصلاح بني آدم.
فإن صلحوا: تنعموا بها، وبنظامها، وسنتها التي جعلها الله عليها.
أما إذا فسدوا، وحاربوا ربهم، وتعالوا واستكبروا، فإن سنة الكون تختلف وتتغير وتضطرب، فإذا اضطربت سنة الكون كان في ذلك شقاء بني آدم وعذابهم، في صورة:
- زلازل تُشقق وتُصّدع، وبراكين تحرق وتذيب، وأمطار تغرق، وأعاصير تجتاح وتهلك.
- وضيق في الرزق، والعيش، وشدة المؤونة، وجور السلطان.
- وكذا خسوف وكسوف: علامات وإشارات مخوفة، منذرة بشر قد يأتي.
وإذا كثر الشر في الأرض، حتى لا يبقى من يقول: الله ، الله. أذن الله لهذه الدنيا بالزوال، ومن مظاهر وعلامات الساعة الكبرى، المؤذنة بالقيامة: اختلال نظام الكون كله. فتطلع الشمس من مغربها، من ناحية ما كانت تغرب منها، ثم يخسف القمر، وتكور الشمس..!!.
- فالأرض محفوظة بالصالحين ، فلو خلت منهم، فليس بينها وبين اختلاف سنة الكون: حجاب.
-
* * *
دليل عقلي.
وإذا كانت النصوص الشرعية تثبت، فإن الدلائل العقلية لا تنفي، فإثبات أنها عبرة ثابت حتى بالعقل:
فإن العقل يقول: إذا جرى الشيء على سنته الطبيعية المعتادة (=المطردة)، فهذا دليل: على أن كل شيء فيه منسجم ومتلائم. ويسمى هذا: أصلا؛ كطلوع الشمس وغروبها كل يوم، وبدء القمر هلالا أول الشهر، ثم اكتماله في نصفه، ثم عوده آخر الشهر. فإذا اختلفت سنته المعتادة، فتوقف، أو خالف طريقته، فهذا دليل على أن شيئا ما فيه قد تغيّر. ويسمى هذا: خلاف الأصل.
ويقال هنا: الأصل في الشمس والقمر، الذي هو سنته الذي يجري عليها: الكسوف أم عدمه ؟.
والجواب: أن سنة الشمس والقمر هو عدم الخسوف والكسوف. بدليل: أن ذلك يحدث بصورة غير منتظمة، ولا مطردة، كما يحدث الليل والنهار، أو الشهور، أو الفصول الأربعة.
ومما يدل على هذا: أن ما كان أصلا فغير ملفت، إنما الملفت ما كان خلاف الأصل. ولو كان هذا الحدث أصلا، لما وجدته ملفتا للنظر، والرصد، والتسجيل.
فإذا ثبت أن هذا الحدث خلاف الأصل، فشيء ما هو الذي أخرجه عن سنته. هكذا يقول العقل، ثم يقف، ليكمل الوحي الدور ليقول: إن الذي أخرجه عن سنته هو: ذنوب العباد.
-
* * *
الذين يُمتّعون بالحدث.
الذين يُمتّعون الناس بهذا الحدث، يفسرونه بأنه: ظاهرة، فلكية، طبيعية. تحدث بسبب مرور الأرض ما بين القمر والشمس ( = في حالة خسوف القمر)، ومرور القمر ما بين الشمس والأرض (= في حالة كسوف الشمس). لا علاقة لها بأحوال بني آدم، ولا بذنوبهم، بل هو جريان طبيعي.
ومما يدل على انتفاء العلاقة:
1- أنها تحدث في كافة الأرض، فتقع على المسلمين وغير المسلمين. ولو كانت عقوبة على الذنوب، فلم لم يستثن المسلمون ؟.
2- أن آلات الرصد قد رصدت كسوفات مقبلة إلى عقود: فهل لنا أن ندعي على أجيال لاحقة قد لا ندركها، ولن نعيش في زمانها: أنها مذنبة، وهذه العقوبات قد رصدت لها منذ الآن ؟.(/3)
ولأجل قناعتهم بانتفاء العلاقة بين هذه الظاهرة والذنوب: فإنهم جعلوا الحدث متعة، تستحق المتابعة، والملاحظة، والرصد، والترقب، وجمع الناس لها؛ ليفرحوا، ويستمتعوا، ويسجلوها كواقعة جميلة.
* * *
وهنا يقال: قولهم ظاهرة طبيعة يحتمل أمرين: مفسرة، ومعتادة.
فأما أنها مفسرة، فهذا صحيح، لكن أين المانع من الموعظة بها، كونها مفسرة ؟.
ألم يعظ الله تعالى عباده بأحداث كونية مفسرة، كالليل والنهار؟، فقال تعالى:
- {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب}.
فاختلاف الليل والنهار آية على ذهاب الأعمار، وفناء الدنيا: أليس في هذا موعظة، بشيء مفسر ؟.
وللعلم: فإن كل حوادث الكون مفسرة. علم ذلك من علمه وجهله من جهله.
وأما أنها معتادة، فهذا غير صحيح؛ فالمعتاد (=المطرد) يجري في نظام واحد، يدركه الجميع، بغير حاجة إلى تعلم، كجريان الليل والنهار، والشهور، والفصول، فإنها مدركة من جميع الناس، عالمهم وجاهلهم.
وغير المعتاد فذلك الذي يجري على نظام غير مطرد؛ لذا لا يدرك إلا بالحساب، ولا يدركه إلا المختصون.
والكسوف والخسوف لا يجري على نظام مطرد؛ لذا فعموم الناس لا يعرفون أوقاته، إنما يعرفه المختصون، فثبت بذلك أنه غير معتاد (=خارق للعادة).
وفي كل حال: فإن الله تعالى يعظ عباده بالحدث المعتاد (=المطّرد)، كما في الليل والنهار. وبالحدث غير المعتاد (=الخارق للعادة)، كما في معجزات الأنبياء.
فلو فرضنا أنه حدث معتاد، فليس في ذلك ما يمنع من الموعظة به.
وللعلم: فإن المعتاد (=المطرد)، وغير المعتاد (=الخارق للعادة) كليهما له تفسير وتعليل. علمه من علمه، وجهله من جهله. فما خلق الله شيئا إلا بسبب وعلة.
* * *
وعن قولهم: أنه لو كان موعظة فلم عمّ المسلمين ؟.
فيقال: هذا مبني على أن المسلمين لا تشملهم المواعظ والعقوبات الإلهية. وهذا خطأ في التصور؛ فإن سبب الموعظة والعقوبة هو: الذنب. وهذا لا يسلم منه المسلمون، غاية ما في الأمر: أن الكافرين جمعوا مع ذنوبهم الكفر، أما المسلمون فليس في ذنوبهم هذا الذنب الأكبر، لكن لديهم ذنوب أخر. والمواعظ والعقوبات الإلهية ليست قاصرة على ذنب الكفر، بل حتى ما دون ذلك. فقد قال تعالى عن هزيمة الصحابة رضوان الله عليهم في أحد، لما وقعوا فيه من مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم:
- "أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ".
وعن قولهم: أن من المحال رصد العقوبات قبل وقوع الذنوب ؟.
فيقال: هذا جهل بالغ بالأخبار الإلهية، التي تخبر أن الله تعالى قدر مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخسمين ألف سنة. وفيها كل ما يكون من حسنات وسيئات، وثواب وعقاب.
نعم العباد لا يرصدون، ولا يتألون على الله تعالى، لكن الله تعالى له أن يخبر بما شاء، ومما أخبر به عن طريق نبيه صلى الله عليه وسلم: أن الكسوف علامة على عقوبة، تدفع بالبر والطاعة.
فإذا علمنا عن خسوفات قادمة، حتى إلى قرن قادم، فذلك يعني أن أولئك الذين يحل بهم هذا الحدث سيقعون في العصيان والمخالفة، المستوجبة للنذارة.
وهذا مثل إخباره صلى الله عليه وسلم عن أشراط الساعة، وفيها مخالفات وعصيان، وعقوبات على ذلك.
فهذا الاعتراض قد كان يصح، لو أن الناس هم الذين فكروا، وادعوا. أما والخبر في هذا إلهي فلا مجال للاعتراض..!!.
- العظة في الكسوف.
إن الله تعالى يعظ عباده، إذا استحقوا العقوبة: بعذاب أدنى، فإن لم يتعظوا أخذهم بالعذاب الأكبر، والفرق بينهما: أن الأدنى تليه فرصة للتصحيح، والرجوع، أما الأكبر فلا فرصة بعده .!!. قال تعالى:
- "ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون".
- "وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون".
- "إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون * يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون".
والكسوف علامة على عذاب أدنى، فإذا لم تحصل الموعظة فالكبرى إذن، قال تعالى: "ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون * حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون".
وفي الكسوف والخسوف عظات، من أهمها:
أولا: أنهما علامة وتذكير بالقيامة، فقد أخبر تعالى عن القيامة، فمن أمورها: خسف القمر، وتكوير الشمس. وتكويرها يكون بذهاب نورها، وهذا ما يكون في الكسوف، قال تعالى:
- "فإذا برق البصر * وخسف القمر * وجمع الشمس والقمر * يقول الإنسان يومئذ أين المفر ".
- "إذا الشمس كورت ".
فعندما يحدث الخسوف والكسوف، فهذا علامة من علامات يوم القيامة، فالعظة والعبرة بهذا واجب، فعندما تتقدم علامة وآية من آيات القيامة، ليراها الناس قبل القيامة، فما معنى ذلك ؟.
هل يشك أحد أنها: تذكير، وتخويف ؟.
ثانيا: أنها تذكير بنعمة الله تعالى الدائمة على العباد بالشمس والقمر، فلا يخفى على أحد: أن مصالح الناس لا تتحقق إلا بوجود هذين القمرين.(/4)
فلو فرض ذهاب نور الشمس، فكم من الأحياء يموت ؟، وكم من المتع والنعم تزول ؟.
ولو فرض ذهاب نور القمر، فاسألوا العالمين بأحوال البر، والبحر، والطب، ماذا يحصل من مفسدات ؟.
والكسوف ما هو إلا ذهاب نور الشمس، والخسوف ذهاب نور القمر.. ففي هذا تذكير للناس وعظة: كيف هم إذا استمر بهم الحال هكذا، من غير ضياء ؟.
وقد امتن الله تعالى بهاتين النعمتين على عباده كثيرا، فقال تعالى: "قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون * ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون".
* * *
هناك من لا يحب العظات، وإذا وجد الناس متدبرين بها: اشتغل بصرفهم. فيقصد إلى طمس العظة:
- فيطرح فكرة الاستمتاع بالحدث، بدلا عن التخويف والتحذير به..!!.
- والإغراق في تفسيره الفلكي والجغرافي، بدلا عن تعليله بالذنب.!!.
وصدق ربنا إذ قال: "فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون".
وليس غريبا أن يفعلوا ذلك، فإنهم أسّ المشكلة.. ومن فعالهم الآثمة، بنشرهم الفواحش، والفجور، والظلم في كل مكان، وحمايتها، وحرب الفضيلة والعدل: تحدث العقوبات الإلهية، والعلامات المنذرة. وهم كما أفسدوا على الناس دينهم ودنياهم، يبتغون إفساد العظات عليهم..؟!!.
* * *
وبعد: فإن الشمس والقمر لا ينكسفان على العاصين، المخالفين للسنة الشرعية فحسب، إنما تعمّ الجميع: الطائعين والعاصين. والفزع للجميع، وهكذا بلاء المعصية وشؤمها لا تصيب الذين ظلموا خاصة، بل تعمّ: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب".
ثم بعد ذلك ينجي الله تعالى المصلحين، دون الفاسقين فيهلكون، والصالحون غير المصلحين يهلكون معهم، يبعثون على نياتهم، كما في الأثر، يقول تعالى:"فلما نسوا ما ذكروا أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون".
أما إذا اجتهد المصلحون، وصابروا، وأفلحوا في الإصلاح، فإنهم نعمة على أنفسهم وعلى غيرهم: "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون".
* * *(/5)
الكشاف عن ضلالات
حسن السقاف
سليمان بن ناصر العلوان
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأَشهد أَن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن حماية العقيدة من تحريف المبتدعين جهاد من أَعظم الجهاد ، والتصدي لهم لكشف ضلالهم وتلبيساتهم أَمر واجب على طائفة من أهل العلم والإيمان.
وقد وقفتُ على كتاب لابن الجوزي (1) اسمه: (دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه).فلما نظرتُ فيه فإذا هو مشتمل على: التحريف ، والتأويل ، والتعطيل ، والتفويض. والكتاب جملة: ظلمات بعضها فوق بعض ، وزاد الكتاب ظلمة وعمىً وضلالاً المعلق عليه المسمى: [حسن السَّقَّاف] ، فقد شحن الكتاب بتعليقاتِ مهلكة ، وآراء ساقطة ، وكشف بتعليقاته وقبلُ في سائر كتبه عن سوء معتقده وضلاله.
فلمَّا قرأتُ التعليقات على الكتاب المكتث بالبدع والضلالات ؛ رأَيتُ:أنه لا بدَّ من تبيين ضلالاته ، وأَباطيله ، وكذبه ، وافتراءاته ؛ حتى ينكشف أمره ، ويظهر زيغه وجهله. فإنه قد طال عناده ، وكثر شقاقه ، وظن أن سكوت العلماء عن تبيين أمره ؛ لضعف فيهم ، أو لعدم قدرة كشف زيغه وانحرافه ، وإظهار كذبه وافترائه. وما عَلِمَ أنهم سكتوا عنه تحقيراً لشأنه ، وإخماداً لبدعه ، وإماته لذكره. ولكن لا ضير إذا كان ذكره قد شاع ، وخبره قد طار، في: البدع ، والضلالات ، والكذب ، والافتراءات.
كما ستقف عليه أيها السُّنِّي في هذا الكشاف: الذي يكشفه ، وعشرات معه من: أهل الزيغ والعناد والإلحاد ، وبث البدع والضلالات في ثنايا كتب أهل العلم والدين ، الذين أسهروا ليلهم ، وأَظمأُوا نهارهم ؛ لنشر العقيدة الصحيحة ، وتقريبها للقاصي والداني، نصحاً للأمة وبراءَة للذمة؛ فصارت محبتهم علماً لأهل السنة ، وبغضهم علماً لأهل البدعة والفرقة.
فلِلَّهِ درهم من أقوام: عاشوا على الإسلام والسن ، فنسأل الله تعالى أن يدخلهم الجنة.
ولمَّا رأيت أن الردَّ سوف يطول لكثرة بدعه وفجوره، وكتابه قد انتشر، وكثر مروجوه ، خصوصاً في مكة-طهرها الله من أهل الشرك والبدع-: خشيت على من لا يعرف حاله أن يغتر به، خصوصاً أنه علَّق على كتاب عالمٍ مشهور ، ينطوي أمره على الكثير ممن ينظر إلى من قال لا إلى المقال. فشرعت لأُبين ترهاته باختصار ، وأدع الرد على تعليقاته وعلى كتاب ابن الجوزي رداً مفصلاً لوقت آخر إن شاء الله.
فأقول:
السَّقَّاف لم يدع لفظة شنيعة إِلا ووسم بها أَهل السنة ، ولا وصفاً قبيحاً إِلا وعابهم به ، فجعل الحق باطلاً ، والباطل حقاً ، والسنة بدعة ، والبدعة سنة ، وسبَّ علماء الإسلام ، وكفَّر هداة الأنام ، وأثنى على جهمية هذا الزمان.
ولم يكتف بما جاء به من البدع والظلمات في توحيد الأسماء والصفات ، حتى طعن في الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان كما في (ص102-103 ، تعليق رقم:18) ، و(ص236-243) .
وهذا برهان واضح على انحرافه وضلاله ، فإنه لا يطعن في أحد من أَصحاب النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- إلا ظالم باغي.
وأما معاوية بن أَبي سفيان –رضي الله عنه- فإن العلماء –رحمهم الله- اتفقوا على أَنه أَفضل ملوك هذه الأمة. ذكر ذلك شيخ الإسلام كما في "الفتاوى": (4/478) . وقد تُوفي النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم- وهو عنه راضٍ ، وهذا كافٍ في فضله وشرفه. فرضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين.
وسأَذكر –إن شاء الله تعالى- في الرد المفصَّل فضل معاوية –رضي الله عنه- ومعتقد السلف في أَصحاب النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- فإن من أصول السلف: محبة الصحابة ، والترضي عنهم ، ومدحهم ، والثناء عليهم ، وبغض من عاداهم ، أو طعن فيهم ، أَو تنقص أَحداً منهم.
قال الإمام أبو زرعة:
(إذا رأيت الرجل يتنقص أَحداً من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فاعلم أنه زنديق وذلك أَن الرسول – صلى الله عليه وسلم- عندنا حق والقرآن حق وإِنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وإِنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ، ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة) رواه الخطيب في "الكفاية" : (ص97) .
__________
(1) وقد عقد السَّقَّاف في كتابه المبتور "تناقضات الألباني" (1/9) فصلاً لبيان الأحاديث التي ضعفها الألباني في البخاري أو مسلم مع أن السَّقَّاف طعن كما هنا في حديث الجارية وطعن في عشرات الأحاديث المخرجة في الصحيحين أو أحدهما لكونها تخالف اعتقاده كما سنبينه إن شاء الله فيما يأتي.
وأما كتابه "تناقضات الألباني" فقد وقع فيه في خبط وخلط وتناقض فظيع واضطراب وكذب في النقل فلا يُغتر به وقد ثبت عندي بقراءة بعض كتب السَّقَّاف أنه عدو للسنة والتوحيد وأنه جهمي جلد ومن قرأ هذه الرسالة مع اختصارها عرف ما قلت وعرف أن أهل البدع لا يزالون يدأبون لهدم العقيدة السلفية وتجديد العقيدة الجهمية.(/1)
* وفي (ص95 ، تعليق رقم:2) :
نسب السقاف التأْويل والتفويض إلى الإمام أحمد. وهذا الإطلاق والتعميم من الكذب على أَحمد ، والكذب مجانب الإيمان.
وبراءة الإمام أَحمد من التأْويل والتفويض: أمر معلوم مشهور بين العلماء وطلبة العلم ، ولا ينكر ذلك أَو يجحده إلا مكابر أو جاهل أو مبتدع. وهو إِمام أَهل السنة والجماعة ، وأَقواله شجى في حلوق أَهل البدع.
وما نقله السَّقَّاف عن البيهقي وابن كثير من أَن الإمام أَحمد أَول قوله تعالى: {وجاء ربك} بـ:"جاء ثوابه". أجاب عنه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- في كتابه: "الاستقامة": (1/74) ، و"الفتاوى": (5/399-400) ،فليراجع.
علماً بأَن بعض العلماء طعن في هذا النقل عن أَحمد ، لأن ذلك من رواية حنبل: وهو يغلط ويهم على أَحمد. وعلى كلٍّ ، لا يتعلق بمثل هذا على تأْويل الصفات إِلا مريض القلب.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- في: "الفتاوى": (5/409) :
(وبعض الخائضين بالتأْويلات الفاسدة يتشبث بأَلفاظ تنقل عن بعض الأَئمة وتكون إمَّا غلطاً أَو محرفة) .
والسَّقَّاف لم يقف عند حدِّ الكذب والافتراء على العلماء ، بل تجاوز ذلك ، وأَخذ يفتري الكذب على النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- ، فالحديث الصحيح الذي يطعن في معتقده ويدرأ في نحره يضعفه. والحديث الضعيف الذي قد استبان ضعفه يصححه ، ويستدل به لمذهبه.
* وفي: (ص108 ، تعليق رقم:24) :
* طعن السَّقَّاف في حديث الجارية ، وقول النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم- لها: أَين الله؟ مع أن الحديث في "صحيح مسلم" : (5/20- نووي) ، من طريق حجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أَبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن الصحابي الجليل معاوية بن الحكم السلمي، وإسناده صحيح وقد تلقاه العلماء بالقبول وقابلوه بالتسليم.
والسَّقَّاف وأَتباعه ، الذين يسعون بشتى الوسائل للقضاء على العقيدة السلفية ، يطعنون على من يضعف شيئاً من "صحيح مسلم" ,1, . وها هو يضعف حديث الجارية لكونه يخالف معتقده الذي يعتقده: من نفى علو الله على خلقه ، كما عليه الجهمية المعطلة ، الذين هم أَضل من البهائم ، وعقولهم أَشبه ما تكون بعقول الأَنعام ، بل هم أَضل سبيلاً.
وتضعيفه للفظة: "أين الله؟" دليل ظاهر على أَنَّ الهوى يتجارى بهذا الرجل كما يتجارى الكلب بصاحبه.
* وفي: (ص108 ، تعليق رقم:25) :
كذب السَّقَّاف على البخاري ، وزعم أَنه أَوَّل الضحك بـ: "الرحمة" ، وهذا خطأ. وإن عزى قوله للبيهقي فإن البخاري من كبار علماء السلف ، وحاشاه من هذا التأْويل الباطل الذي لا يجهله أَصغر طالب علم.
و"الضحك": صفة من صفات الله تعالى يجب إثباتها دون تحريف أو تعطيل ، ودون تكييف ، أَو تمثيل { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }. وتأْويل "الضحك" بـ:"الرحمة" أو "الرضى" مذهب الأشاعرة. والبيهقي ينهج منهجهم كثيراً ، وعنده تساهل كثير في النقل ، فلا يسلم لما ينقله عن علماء السلف من التأْويل ، فإِنه نقلٌ مجرد ، وليس بمجوَّد.
وأَمَّا السَّقَّاف ، فإن قلت: أَشعري ، فكلامه يدل على ذلك. وإن قلت:جهمي ؛ فأقواله تشهد عليه بذلك. كل بدعة وبلاءٍ فيه. نسأَل الله السلام والعافية ، فإن القلوب بين إصبعين من أَصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
*وفي: (ص108 ، تعليق رقم:26) :
زعم السَّقَّاف أَنَّ ابن خزيمة ندم على تصنيف كتابه "التوحيد" ، وأَنه رجع عنه. وهذا من الكذب والافتراء الذي لا يروج إلا على أَتباع السَّقَّاف أَهل الأَهواء.
والسَّقَّاف يختلق الأكاذيب ، ويشكك في كتب السلف ، التي تغيظه وتحزنه ؛ لما فيها من: النور ، وكشف البدع وأهلها ، وبيان انحرافهم عن الصواب ، وبعدهم عن الكتاب والسنة.
وأَما قول السَّقَّاف إن الرازي سمى كتاب ابن خزيمة: "كتاب الشرك" فهذا لا يستغرب من أَعداء السنة ، ومّنْ هو الرازي حتى يحتج بكلامه (1) .
ومن طالع كتبه ؛ علم ما فيها من البدع ، والضلالات ، والأُمور المنكرات ، بل والشركيات الجليات ، ولكنها حسنات عند السَّقَّاف وأَعوانه.
هذا ولم يذكر لنا السَّقَّاف الشرك الذي في كتاب ابن خزيمة ؛ حتى ننظر فيه ، ونزنه بالميزان الشرعي!! وتعليقاته تدل على أَنه يقصد بالشرك: ذكر الآيات ، وسياق الأحاديث ، التي يؤخذ منها: إثبات السمع ، والبصر ، والقدم ، واليدين ، والعلو ، والاستواء، وغير ذلك لله على ما يليق بجلاله.
__________
(1) انظر:"شرح ابن عيسى على النونية": (2/188-190) لتقف على بعض ما قيل في حال الرازي.(/2)
ويا خيبة المسعى! فإن كان وصف الله تعالى بما وصف به نفسه ، أَو وصفه به رسوله –صلى الله عليه وسلم-: شركاً ، فما هو إذاً التوحيد: نفى العلو ، ووصف الله بالعدم ، { فَإنَّهَا لاَتَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }. وأهل البدع يلقون الكلام على عواهنه دون نظر لما يترتب من الإيمان ، أو الكفر ، ولكن: { وَسَيعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ }.
* وفي (ص110 ، تعليق رقم 32) :
نسب السَّقَّاف السلف إلى التجسيم ، وقد كرَّر هذه المقالة في عشرات المواضع من تعليقاته.
وهذه سجية كثير من أَهل البدع ، فـ"البهت": ديدنهم ، و"الوقيعة" في أَهل الأَثر علامتهم ، وما جرى لأَهل السنة من قِبَل أَهل البدع أَمر يطول ذكره ، فإِن أَهل البدع أَهل ظلم وبغي ، بخلاف أهل السنة: فإنهم يعدلون مع جميع الطوائف ؛ لأن العدل يحبه الله ، والله تعالى أَرسل الرسل ليقوم الناس بالقسط. فمن ترك هذا الأَصل فقد خالف هدي الرسل.
هذا وليعلم أَن وصف الله تعالى بما وصف به نفسه ، أَو وصفه به رسوله محمد –صلى الله عليه وسلم- لا يلزم منه التشبيه ولا التجسيم ؛ لأن الله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ْ} لا في أًفعاله ، ولا في صفاته. ومن ظن أَن إثبات الأسماء والصفات لله يقتضي تشبيهاً أو تجسيماً ، لم يقدر الله حق قدره ، وشبه الخالق بالمخلوق ، إذ لم يفهم من صفات الخالق إلا ما يفهم من صفات المخلوق وهذا عين التشبيه ، فما هرب منه المعطل وقع فيه.
* وفي: (ص110 ، تعليق رقم 34) :
نفي مقالة مالك المشهورة: (والكيف مجهول) ، وزعم أَنها غلط كبير ، وما أَتي إلا من جهله ، وسوء عقيدته. ثم أثبت عن مالك أَنه يقول: (والكيف غير معقول) ، ولم يذكر الفرق بين العبارتين.
ثم قال: (فتنبه) . أَقول تنبهنا ، فتبين لنا: بلادتك ، وسوء فهمك لكلام العلماء.
ثم قال السَّقَّاف: (وقد بسطت ذلك في كتابي: عقيدة أهل السنة والجماعة) . ويقصد بأَهل السنة والجماعة: الجهمية وأضرابهم ، أهل الفرقة والضلالة ، وكثير من أهل البدع خصوصاً الأشاعرة ، يسمون أَنفسهم: أهل السنة والجماعة. وقد بيَّنتُ ذلك في كتابي: "القول الرشيد في حقيقة التوحيد" .
هذا وليعلم أَن قول مالك وغيره من السلف: (والكيف غير معقول)، المراد به: نفي علم الكيفية عنَّا، لا نفي حقيقة الصفة.
والسلف يثبتون لله تعالى الصفات على ما جاء بـ"الكتاب والسنة" إثباتاً بلا تمثيل ، وتنزيهاً بلا تعطيل ، ولا يكيفون شيئاً من صفاته.
قال العلامة ابن القيم –رحمه الله تعالى-:
(وإِن كان لا سبيل لنا إلى معرفة كنهها وكيفيتها فإن الله تعالى لم يكلف عباده بذلك ولا أَراده منهم ولا جعل لهم إليه سبيلاً ، بل كثير من مخلوقاته أَو أَكثرها لم يجعل لهم سبيلاً إلى معرفة كنهه وكيفيته وهذه أَرواحهم التي هي أَدنى إِليهم من كل دان قد حجبت عنهم معرفة كنهها وكيفيتها)(1)
* وفي: (ص111 ، تعليق رقم:35) :
حفي السَّقَّاف بمقالة (قبر معروف الترياق المجرب) وهذه المقالة وإِن ذكرها من ذكرها ، ونقلها من نقلها ، فإنها خطأ ، ووسيلة من وسائل الشرك.
ومن استنجد بصاحب القبر ، أَو دعاه ، وطلب منه غفران الذنوب ، وتفريج الكروب ، فإنه: مشرك شركاً أَكبر.
والسَّقَّاف بدعُهُ متنوعة ، فإنه منحرف في جميع أَنواع التوحيد.
نسأل الله السلامة والعافية.
* وفي: (ص118 ، تعليق رقم:46) :
نفى السَّقَّاف عن الله ، وزعم أَنها تسوق إلى التجسيم ، وهذا من تجهمه وضلاله.
ولما كان حديث أبي سعيد الذي فيه: (( يكشف ربنا عن ساقه)) شوكة في حلوق أَهل البدع ، من الجهمية وأَضرابهم ، طعنوا فيه ، وزعموا أَن لفظة (( ساقه)) لم تثبت ، وقد جاءت من طرق متعددة عند الشيخين وغيرهما (2) .
إلا أَن لفظ مسلم يكشف عن ساق موافقة للفظ الآية: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } .والمراد من الآية والحديث: إثبات صفة الساق لله تعالى. ولكن لا حيلة مع أهل البدع ، فإن كل حديث يخالف أَهواءهم يطعنون فيه. ولا أَرى شيئاً ينفع معهم إلا أَن يفعل بهم مثلما فعل عمر بصبيغ لإِخراج الأَوهام الفاسدة من رؤوسهم. وأَما دعاتهم فإن السيف أَنفع شيء لهم لتطهير البلاد من أَدرانهم وأَوضارهم ، كما فعل خالد القسري في إمامهم الجعد بن درهم(3).
__________
(1) "مختصر الصواعق": (ص55)
(2) كما جزم بذلك الترمذي في (جامعه) : (5/344) ، وسأل عنه الإمام البخاري فقال: (هذا حديث حسن صحيح) .
(3) وقد بدا لي بعد ذلك أن أُفرد كتاباً في تصحيح الحديث وإثبات الصورة لله تعالى والرد على رسالة السَّقَّاف في تضعيف الحديث ونفي الصورة عن الله المطبوعة آخر كتاب (دفع شبه التشبيه) ، وقد سميت الكتاب (القول المبين في إثبات الصورة لرب العالمين) .(/3)
وقد شنَّ جمع غفير من أَهل البدع حملات على نفي صفة الساق عن الله تعالى ، منهم: الغزالي ، والصابوني ، وغيرهما من أَهل الانحراف ، ولكن لا يضرون إلا أَنفسهم. فالحق أبلج ، والباطل لجلج.
قال تعالى:
{ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ }.
* وفي: (ص122) :
وصف السَّقَّاف علماء السلف وأئمتهم بأنهم مبتدعة لردهم شعر الأَخطل النصراني ، وكأَن السَّقَّاف يظن أَنه إذا أثبت شعر الأَخطل النصراني فقد أثبت الحجة على نفي الاستواء ، والسَّقَّاف لا يبالي برد الأحاديث الصحيحة بحجج عقلية متهافتة ، ومع ذلك ينتصر لإثبات شعر ينسب للأَخطل النصراني ليثبت به حكماً عقدياً.
والله جل وعلا أَثبت استواءَه على العرش في سبعة مواضع ، وهذا الاستواء حقيقي يليق بالله جل وعلا ، ولا ينكره إلا الجهمية وأَشباههم ، وقد كفرهم خمسمائة عالم كما ذكر ذلك اللالكائي والطبراني.
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى-:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في *** عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عنهم ** بل قد حكاه قبله الطبراني
* وفي: (ص127 ، تعليق رقم:53) :
قال السَّقَّاف:
(الغريب أَن المبتدعة يقولون لا نصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه ، ثم يقولون استوى على العرش بذاته فمن أين جاءوا بلفظة ذاته هذه .. )
& أقول:
ذكر بعض السلف أَن الله استوى على العرش بذاته ؛ ليغيظوا بها المبتدعين ، ويرغموا بها أُنوف المبطلين المعطلين ، وليعلم أَهل التجهم أَن الاستواء حقيقي ، وأَن الله استوى على عرشه لا أَن ملكه استوى كما يزعم ذلك من يزعمه من أهل التعطيل الذين مدار قولهم يرجع إلى نفي وجود الله.
وبعض أَهل السنة يرى عدم إطلاق لفظة "الذات" في الاستواء لأنها لم ترد من وجه صحيح ، فتمر الأحاديث كما جاءت ، وهذا حسن. ولكن لما أنكر الجهمية استواء الله على عرشه استواءً حقيقياً ؛ اضطر بعض السلف إلى ذكر الذات ؛ ليفحموا الجهمية ، مع أَن الأَحاديث الصحيحة صريحة في ذلك ، وإن لم ترد لفظة "الذات" فيها.
* وفي: (ص112 ، تعليق رقم:40) :
طعن السَّقَّاف في شيخ الإسلام ابن تيمية.
* وفي: (ص127) :
وصف شيخَ الإسلام وتلميذه ابن القيم –عليهما رحمة الله- بالتجسيم ، وهذا بهت. وليس بأَول مرة يصدر ذلك من السَّقَّاف. ومجرد السب والشتم والطعن لا ينصر حقاً ولا يبطل باطلاً ، ولو أن المرء يجادل أَو يناظر أَكْفر عباد الله وأَشدَّهم على الرحمن عتياً ؛ لكان عليه أَن يدلي بالحجج والبراهين التي تقمع الباطل وأهله. أما مجرد السب والشتم فهو من صفات المفلسين ، الذين إذا عجزوا عن إظهار الحجة ؛ استراحوا إلى البهت والافتراء ، وهذا لا يعجز عنه أَحد وليس هو أيضاً من صفات المؤمنين ومن يريد وجه الله والدار الآخرة عليه أَن يأتي بالأَدلة القاطعة والحجج الدامغة ، التي يخضع لها كل طالب حق ويدع الكذب والافتراء وتحميل الكلام ما لا يحتمل.
ولشيخ الإسلام –رحمه الله تعالى- كلام مفيد حول هذه المسألة فليراجع للفائدة: "الفتاوى" (4/186)
* وفي: (ص131-135) :
أطال السَّقَّاف في نفي علو الله على خلقه ، مع أن علو الله على خلقه معلوم من الدين بالضرورة ، وقد فطر الله جميع الخلق عليه ، وأَقرَّ به جميع الناس: مؤمنهم ، وكافرهم ، حتى البهائم إذا أصابها ضر رفعت رؤوسها إلى السماء ، إلا الجهمية ومن وافقهم ، فإنهم لا يقرون بعلو الله على خلقه. فقد اجتالتهم الشياطين عن فطرهم ، فهم شر من اليهود والنصارى.
قال الإمام أبو عبدالله البخاري في خلق أفعال العباد (ص11) :
( نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت أَضل في كفرهم منهم وإني لأَستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم) .
* وفي: (ص141) :
كذب السَّقَّاف على ابن تيمية كعادة أسلافه ، ونسب إليه: أَنه يثبت الحركة لله.
وهذا من البهت. فشيخ الإسلام لم يثبت الحركة ، كما أَنه لم ينفها ، إنما ذكر أَقوال العلماء كما في "الفتاوى": (5/402)،و"الاستقامة":(1/70)، ورجح العلامة ابن القيم كما في: "مختصر الصواعق":(ص389) الإِمساك عن الأَمرين فلا نقول يتحرك ، وينتقل، ولا ننفي ذلك. وهذا الأظهر لعدم ورود ذلك في الكتاب والسنة.
وبما تقدم نقله عن ابن تيمية –رحمه الله تعالى- يتبين كذب السَّقَّاف ، وأنه لا يتورع عن الكذب على العلماء ، وتقويلهم ما لم يقولوا كعادة شيخه الكوثري.
وقد قال النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم-:
(( من قال في مؤمن ما ليس فيه أَسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال)) . أخرجه أبو داود وغيره ، من حديث ابن عمر ، وهو حديث صحيح.
* وفي: (ص144 ، تعليق رقم:66) :
زعم السَّقَّاف أن المراد بحديث خلق الله آدم على صورته. أي: على صورة المضروب.(/4)
وهذا تحريف وصرف للحديث عن ظاهره. والصحيح في معنى الحديث كما عليه السلف أن الله خلق آدم على صورة الرحمن كما جاء في بعض طرق الحديث عند عبدالله بن الإمام أحمد ، وابن أبي عاصم ، وغيرهما. وصحح الحديث أَحمد ، وإِسحاق بن راهويه وهما هما.
وسأَذكر –إن شاء الله- في الرد المفصل الأدلة على قوة القول بتحسين الحديث ، وأن الضمير في قوله –صلى الله عليه وسلم-: ((خلق الله آدم على صورته)) لا يعود إلا على الله ولو لم يكن في الباب سوى هذا الحديث لاتفاق أَهل القرون الثلاثة الأُول على ذلك.
وقد قال أَحمد:
(من قال إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي)
ذكر ذلك أبو يعلى في "طبقات الحنابلة": (1/309)
وقال إسحاق على الحديث المتقدم:
(لا يدعه إلا مبتدع أو ضعيف رأي)
وقال عبدالوهاب الوراق:
( من لم يقل إن الله خلق آدم على صورة الرحمن فهو جهمي)
والقول بأن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن لا يقتضي تمثيلاً ولا تشبيهاً ، بل تمر الأحاديث كما جاءت من غير تمثيل ولا تشبيه ؛ لأن الله {ليس كمثله شيءٌ وهو السميعُ البصيرُ}.
وقد قال الآجري في كتابه "الشريعة" (ص315) بعد حديث ابن عمر(( لا تقبحوا الوجه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن عزَّ وجلَّ)) : (هذه من السنن التي يجب على المسلمين الإيمان بها ، ولا يقال كيف؟ ولم؟ بل تستقبل بالتسليم والتصديق وترك النظر كما قال من تقدم من أئمة المسلمين ) .
وأما تأويل ابن خزيمة-رحمه الله تعالى- لحديث ((خلق الله آدم على صورته)) فإنه خلاف الحق ، وهو معدود من أخطائه، والله يعفو عنه ، ولا يجوز لنا التشبث بأخطاء العلماء وزلاتهم ، فإن تتبع زلات العلماء من هوادم الإسلام.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- في بيان تلبيس الجهمية(الجزء الثالث-مخطوط) :
(لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة وسياق الأحاديث كلها تدل على ذلك . . . ) .
ومن تتبع كلام أئمة السلف من أهل القرون الثلاثة الأُول علم مصداق ما قاله الشيخ من أنه لا نزاع بينهم في عود الضمير إلى الله وكلام الآجري المتقدم يدل على ما قاله الشيخ. وأما خلاف ابن خزيمة فلا يؤثر لمخالفته الحق. والله أعلم.
* وفي: (ص148 ،تعليق رقم:72) :
قال السَّقَّاف على حديث: (( رأَيتُ ربي في أحسن صورة)) :
(هذا حديث موضوع بلا شك ولا ريب) .
أقول:
وهذا الحكم على الحديث: قول على الله وعلى رسوله بلا علم ، وليس هذا بغريب من السقاف ، فقد تقدم أَنه ضعف حديث الجارية الذي فيه (( أين الله؟ )) مع أنه في (صحيح مسلم) : (5/20) ، ولا مطعن في أحد من رواته. والحديث الذي جزم السَّقَّاف أنه موضوع حديث صحيح ,1, .
ولا يضر الحديث تضعيف السَّقَّاف فإن قاعدة السَّقَّاف وذويه من أهل الأهواء معروفة: فكل حديث يخالف معتقدهم السيء ويدرأ في نحورهم ضعيف أو موضوع ،فهم يعتقدون ثم يستدلون ، وما يخالف معتقدهم يصدرون الحكم بضعفه ، بناءً على ما يعتقدونه. وهذه طريقة أهل الأهواء.
ولذلك لا أرى كبير نفعٍ في إثبات صحة حديث: ((رأيتُ ربي في أحسن صورة)) على حسب قواعد المحدثين في هذا المختصر اكتفاءً بالحكم العام على الحديث ,2, ؛ لأن السَّقَّاف يطعن في الأحاديث المتفق على صحتها إذا خالفت معتقده فكيف لا يطعن في حديث لم يخرجه الشيخان ولا أحدهما ، وتارة ينسف السَّقَّاف جميع الكتاب كما فعل في كتاب (السنة) لابن الإمام أحمد ، وكتاب (الرؤية) للدار قطني.
* وفي: (ص157 ، تعليق رقم:87) :
ذكر السَّقَّاف حديث أبي هريرة في إثبات الصورة لله تعالى المخرَّج في(الصحيحين) ، وفيه: (( فيأْتيهم في الصورة التي يعرفونها فيقول:أنا ربكم.فيقولون: أَنت ربنا ... )) .
فعلَّق عليه قائلاً –مع ذكره لبعض الاعتراضات الباطلة على الحديث-:
(فيه إثبات الصورة لله تعالى ، وذلك محال) .
& أقول:
وهذا رد للحديث بغير بيِّنة ولا برهان ، ونفي لما أثبت الرسول لربِّه.
وقد قال البربهاري: (إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار أو يرد الآثار أو يريد غير الآثار فاتهمه على الإسلام ، ولاشك أنه صاحب هوى مبتدع) (1) .
وهذا الوصف من البربهاري ينطبق تمام الانطباق على السَّقَّاف وأَمثاله من كثير من المعاصرين الذين يردون الآثار بغير حجة ولا برهان.
وقد قال إِسحاق بن راهويه: (من بلغه عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خبر يقر بصحته ثم رده بغير تقية فهو كافر) . ذكره ابن حزم في كتاب "الإحكام": (1/97) ، عن محمد بن نصر المروزي عنه.
وقال البربهاري: (ومن رد حديثاً عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقد رد الأثر كله وهو كافر بالله العظيم) (2) .
وأَقوال السلف في ذلك كثيرة. فليحذر السَّقَّاف وأَتباعه من العقوبات المترتبة عليهم بسبب ردهم للأحاديث ودفعهم لها ، لكونها تخالف عقائدهم الفاسدة.
__________
(1) شرح كتاب "السنة": (ص51)
(2) شرح كتاب "السنة": (ص43)(/5)
وإذا علم خطورة رد الأحاديث الصحيحة فليعلم أَنَّ إِثبات الصورة لله تعالى أمر متفق عليه بين سلف الأُمة وأَئمتها لصحة الأحاديث في ذلك فيجب إثبات الصورة لله تعالى إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل فإن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أفعاله ولا في صفاته قال تعالى:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } فقوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ردٌّ على المشبهة الذين يشبهون صفات الله بصفات خلقه وقوله: { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ردٌّ على المعطلة الذين ينفون عن الله ما وصف به نفسه أَو وصفه به رسوله- صلى الله عليه وسلم- بحجةٍ أوهى من بيت العنكبوت فإنهم يظنون أَنهم إذا أثبتوا لله الأسماء الحسنى والصفات العلى فقد شبهوا الخالق بالمخلوق وهذا سوء فهم وضلال بعيد ولا يظن هذا الظن إلا من لم يعرف الله وما هرب منه المعطلون وقعوا فيه فإنهم شبهوا الله بالجمادات لأنهم إذا لم يثبتوا لله أَسماءَه وصفاته فقد شبهوه بالناقصات تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً قال تعالى: {وَللهِ الأَسْمِاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
* وفي: (ص158) :
نقل السَّقَّاف عن الكوثري قولاً ملخصه نفي الصورة عن الله.
فصدق فيه قول الشاعر:
ومن جعل الغراب له دليلاً *** يمرُّ به على جيف الكلاب
وقال تعالى: { وَإِنَّهُمْ لَيصُدُّونَهُمْ عن السَّبيلِ ويحسبونَ أنَّهُمْ مُّهْتَدُونَ }
وتجهم الكوثري مشهور بين صغار طلبة العلم فضلاً عن كبارهم ، ومن جعله عمدته في تحرير المسائل فقد ساقه إلى سبيل أهل الجحيم ، ومن أَحب أهل البدع والضلال حشر معهم.
قال تعالى: { احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } أي: شبهاءهم ونظراءَهم كما ذكر ذلك غير واحد من أَهل العلم.
* وفي: (ص170،تعليق رقم:100) :
نفى السَّقَّاف صفة القدم عن الله تعالى ، مع أَن الحديث في إثبات صفة القدم لله تعالى متفق عليه من حديث أنس (1) . فأي انحراف أعظم من هذا الانحراف.
وما نقله السَّقَّاف عن ابن حبان في معنى حديث: (( حتى يضع رب العِزَّةِ فيها قدمه )) غلط وهو مردود عليه ، ولسنا نتعبد الله بأقوال الرجال ولكننا نزنها بالكتاب والسنة ، إن وافقته قبلناها واحتججنا بها ، وإلا رددناها على قائلها. فأقوال العلماء يحتج لها ولا يحتج بها.
والحديث صريح في إثبات القدم لله تعالى ، ولا يحتاج إلى تفسير السَّقَّاف الباطل حتى ولا ابن حبان الذي صرف الحديث عن ظاهره بغير حجة.
والهاء في قوله: ((قدمه)) تعود على الربِّ جلَّ وعلا ، وعلى هذا درج علماء السلف الذين تمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم. وشَرِق بهذا الحديث أهل البدع ومن اغتر بهم ؛ فنفوا عن الله صفة جاءت بها السنة بنقل العدول الثقات.
هذا وقد قال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على "صحيح ابن حبان" (1/502) على حديث إثبات صفة القدم:
( وقد ذهب طائفة إلى تأْويله ، ولم يتعقب هذه الطائفة بشيء. وصفة المعلق أن يبيِّنَ الخطأ من الصواب ، وأَن يدحض الباطل ، لا أن يشكك في معاني الأحاديث. علماً أَنه نقل قول الترمذي في معنى الحديث ، وهو الصواب ، ولكنه لم يكتف بذلك حتى أَتى بالهذيان. وله أَمثال هذا الهذيان في كثير من تعليقاته على الكتب فيجب التنبه لذلك) .
* وفي: (ص173،تعيق رقم:106) :
زعم السَّقَّاف أن السلف –الذين يسميهم أَهل البدع:مجسمة- أَخطر من المعتزلة …
وما ذاك إلا لأن السلف أثبتوا لله صفة القدم كسائر صفاته الثابتة بالكتاب والسنة ، إثباتاً بلا تمثيل ، وتنزيهاً بلا تعطيل.
* وفي: (ص178 ، تعليق رقم: 112) :
زعم السَّقَّاف: (أَن حماد بن سلمه ضعفه مشهور) .
وهكذا السَّقَّاف كعادته فيما تقدم يلقي الكلام على عواهنه ، إذا جاءه ما يخالف هواه. وحماد بن سلمه قد اشتهر كلام العلماء فيه ، وأنه ثقة في روايته عن ثابت ابناني ، صدوق في روايته عن غيره ، على الصحيح.
* وفي: (ص190) :
قال السَّقَّاف: (نحن نغمز حماد بن سلمة أَشد الغمز وخصوصاً في أحاديثه في الصفات ، وعلى ذلك أَهل العلم … ) .
& أقول:
غمزك حماد بن سلمة دليل على: قلة دينك ، وسوء عقيدتك ، وكثرة شططك ، ودليل أَيضاً على فضل حماد بن سلمة ، فإنه كان من أشد الناس على أهل البدع ، ومن ثم يبغضونه ، خصوصاً إذا روى حديثاً في الصفات يقطع قلوبهم ، ويدحض باطلهم وفجورهم.
قال أحمد بن حنبل –رحمه الله- :
(إذا رأيت الرجل يغمز حماد بن سلمة ؛ فاتهمه على الإسلام ، فإنه كان شديد على المبتدعة)(2).
__________
(1) "صحيح البخاري": (8/594،فتح) ، و"مسلم": (رقم:2848)
(2) انظر: "سير أعلام النبلاء": (7/450)(/6)
وأما قول السَّقَّاف: (وعلى ذلك أهل العلم) . فهذا كذب فقد خرَّج له البخاري تعليقاً ، وخرَّج له مسلم في "صحيحه" ، وأهل السنن ، وغيرهم. وعدم إخراج البخاري له في الأُصول لا يدل على ضعفه ، وليس كل رجل لا يخرِّج له البخاري يكون ضعيفاً.
فإن شرط البخاري في الرجال شديد. فظهر للبخاري –رحمه الله تعالى- أن حماد بن سلمة ليس على شرطه ، ومن ثم لم يخرِّج له. وهذا لا يدل على ضعفه. علماً أن البخاري عيب عليه عدم إخراج حديثه كما عاب عليه ابن حبان في مقدمة "صحيحه" (1/153) .
وحماد بن سلمة أوثق بكثير من أُناس خرج لهم البخاري في "صحيحه" . وهذا معلوم عند أهل الحديث ، ولكن السَّقَّاف شن الغارة على حماد لكونه شديداً على أهل البدع ، والسَّقَّاف من دعاتهم جملة وتفصيلاً!!
* وفي: (ص179 ، تعليق رقم: 113) :
نقل السَّقَّاف عن البخاري أَنه أَوَّل صفة "الضحك" بـ:"الرحمة".
وقد تقدم أن هذا النقل لا يصح عن البخاري ثم نقل السقاف عن النووي أن معنى الضحك من الله تعالى هو: الرضى ، والرحمة ، وإرادة الخير …
وهذا القول مردود على النووي لمخالفته للكتاب ، والسنة ، وإجماع سلف الأمة. ولا يجوز تأْويل صفة "الضحك" بـ:"الرحمة" على ذلك. والنووي ليس ممن يعتد عليه في باب الأسماء والصفات. فإنه كثير التأويل ، والموافقة للأشاعرة في تحريفهم لصفات الباري جلَّ وعلا ، يعرف ذلك من قرأ كتبه خصوصاً "شرحه لصحيح مسلم" .
* وفي: (ص184 ، تعليق رقم: 121) :
طعن السَّقَّاف في كتاب "السنة" لعبدالله بن الإمام أحمد ، وزعم أن فيه بلايا وطامات.
& أقول:
لم يذكر السَّقَّاف البلايا والطامات التي في كتاب "السنة" ، وقد تقدم طعنه أيضاً في كتاب "التوحيد" لابن خزيمة لاشتماله على إثبات الأسماء والصفات لله تعالى على ما يليق به. فالطعن الذي صبَّه السَّقَّاف على كتابه "السنة" من قبل الطعن الذي طعنه في كتاب "التوحيد". فالسَّقَّاف يطعن في كتب السلف ، ويشكك فيها كما أَنه يطعن في ذواتهم ويشكك في عقائدهم.
وقد قال النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم- :
(( من أَكل برجل مسلم ؛ أكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم ، ومن كسي ثوباً برجل مسلم ؛ فإن الله يكسوه مثله من جهنم ، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء ؛ فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة)) . حديث حسن رواه أبو داود والحاكم وغيرهما عن المستورد –رضي الله عنه- .
* وفي: (ص185) :
قال السَّقَّاف: (إن سند كتاب "السنة" المنسوب لابن أحمد مركب مفتعل كما أننا على شك من نسبة كتاب "السنة" لابن أحمد خصوصاً أن في سنده أعني الكتاب لابن أحمد مجهول .. ) .
& أقول:
في كلامه أَباطيل. فإنه حكم على سند كتاب "السنة" بأنه مركب مفتعل ، ولم يذكر دليلاً على ذلك ، وقد تلقت الأُمة كتاب عبدالله بن الإمام أحمد بالقبول ، وقابلوه بالتسليم. فالطعن فيه أو التشكيك طعن في عقيدة السلف . وما ذخر السَّقَّاف وأتباعه في ذلك . فقد شحنوا كتبهم بعيب السلف وتضليلهم . بلْه ذلك بل كفروهم وقاعدة السَّقَّاف وأتباعه تقدم الإشارة إليها: كل كتاب يفحهم يشككون في نسبته لمؤلفه ، وكل حديث يكشف زيغ عقائدهم يضعفونه.
ثم إن السَّقَّاف تناقض ، وقال:
(كما أننا على شك من نسبة كتاب السنة لابن أحمد) .
& أقول:
إذا حكمت على سنده بأنه مركب مفتعل كما تقدم . فلماذا تشك بل اقطع وتيقن بأنه موضوع عليه . ولكن أهل الباطل دائماً متناقضون مضطربون.
ثم إن قول السَّقَّاف:
(خصوصاً أن في سنده أعني الكتاب لابن أحمد مجهول) .
خطأ نحوي صوابه: "مجهولاً" بالنصب . فالسَّقَّاف يلحن في القول والفعل مع أنه في: (ص191) يطعن على الشيخ الألباني في العربية.
وكذلك في تناقضاته التي يغلب في كثير منها الكذب والافتراء والبهت ، مع كثرة لحنه فيها قولاً وفعلاً ، وصدق فيه قول القائل: "رمتني بدائها وانسلت" .
وهذا التنبيه النحوي إنما وقع عرضاً ولم أقصد تتبعه في بيان جهله في النحو ، فالأمر أعظم من ذلك ، والخلاف الذي بيننا وبينه في أُصول الدين وليس في النحو . وقد قال مالك –رحمه الله تعالى-: (تلقى الرجل وما يلحن حرفاً وعمله لحن كله) (1).
* وفي: (ص188) :
قال السَّقَّاف بعدما رد حديث الجارية نقلاً عن شيخه أَبي الفضل الغماري: (فليخجل بعد هذا من يدعو الناس إلى عقيدة: "الله في السماء" وليتب) .
& أَقول:
السَّقَّاف تمادى في الطغيان ، ولم يكتف برد النصوص الصحيحة وتحريفها ، بل تجاوز ذلك ، ولم يعرف نفسه . فأَمر من أَثبت النصوص بالتوبة.
وقد قال النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم-:
(( إذا لم تستح فاصنع ما شئت )) رواه البخاري: (10/523-فتح) من حديث أبي مسعود.
وأما قول السَّقَّاف لمن أثبت علو الله على خلقه (فليتب) .
& أقول:
__________
(1) انظر "بستان العارفين": للنووي: (ص75)(/7)
التوبة واجبة من الذنوب والمعاصي ، وأما التوبة مما أمر الله باعتقاده وفطر الخلق عليه فمنكر من القول وزور، فأمرُ من أثبت علو الله على خلقه بالتوبة من أعظم الضلال ولا يصدر ذلك ممن يؤمن بالله واليوم الآخر. إذ المؤمن يثبت العلو لله تعالى على خلقه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة ، واستقر ذلك في فطر الخلق ، وأقرت به العقول السليمة ، فلم ينكره إلا من تغيرت فطرته، وفسد عقله.
قال تعالى: { سَبِّحْ اسمَ ربِكَ الأعلى }
وقال تعالى: { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّنْ فَوْقِهِمْ }
وقال تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرَ فَوْقَ عِبَادِهِ }
فللهِ تعالى جميع أنواع العلو ، ولكن أَهل التحريف والتعطيل تلاعبوا بهذه الآيات الدالة على إثبات علو الله على خلقه ، وحرفوها ، وصرفوها عن ظاهرها الذي فطر الله عليه عباده ، حتى البهائم مفطورة على أن الله في السماء . فقبَّح الله من كانت البهائم أحسن حالاً منه ، وما أحسن ما قاله الإمام ابن خزيمة –رحمه الله- : (من لم يؤمن بأن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب ، فإن تاب وإلا ضُربت عنقه ، وطُرح على مزبلة) (1).
وقتله ليس تعزيراً ، بل لردته وخروجه عن الإسلام ، لإنكاره ما ثبت بالكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأُمة وأئمتها إجماعاً يعلمه الخاص والعام.
* وفي: (ص194) :
أنكر السَّقَّاف الجهمي نزول الرب جلا وعلا إلى السماء الدنيا وقال: ( لا يمكن أن ينزل بذاته كما تتخيل المجسمة إلى السماء الدنيا ؛ لأنَّ في ذلك حلول الخالق في المخلوق ، وهو كفر بواح. ) .
& أقول:
ثبت بالنصوص القاطعة في "الصحيحين" وغيرهما أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر نزولاً يليق بجلاله.
وزَعْمُ السَّقَّاف أن من قال ينزل بذاته أنه مجسم حلولي: قول بلا علم { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } . والسَّقَّاف لا يفهم من نزول الخالق إلى السماء الدنيا إِلا كما يفهم من نزول المخلوقات ، وهذا ظن الذين كفروا.
وقد اتفق الصحابة والتابعون وجميع علماء السلف على أَن الله تعالى ينزل إِلى السماء نزولاً حقيقياً ، ولا ينكر ذلك إلا أهل البدع من الجهمية وأَشباههم الذين اعتاضوا عن كلام الله وكلام رسوله –صلى الله عليه وسلم- بآراء الجعد بن درهم والجهم بن صفوان رؤوس التعطيل.
* وفي: (ص195 ، تعليق رقم: 130) :
أَعاد السَّقَّاف الكذب على ابن تيمية –رحمه الله تعالى- مرة أُخرى كعادته وعادة إخوانه من أهل البدع . وقوَّل الشيخ ما لم يقل من إثبات الحركة لله مما سكت النص عنها ، وتحتمل معنى صحيحاً ، وتحتمل معنى فاسداً ، والإمساك عنها أَولى.
وليست من المسائل التي يضلل فيها المخالف إلا إذا علم أَن القائل يقصد معنى فاسداً ، ولكن أَهل البدع يتشبثون بما هو أَوهى من بيت العنكبوت.
ثم إِن السَّقَّاف أَراد أَن يشفي غلته من شيخ الإسلام –رحمه الله تعالى- فأَخذ يطعن في الشيخ ورماهُ بالتجسيم ، وهذا لا يضر الشيخ –رحمه الله تعالى- شيئاً ، وقد أَحسن القائل:
فما ضر بحر الفرات يوماً *** أَن خاض بعض الكلاب فيه
* وفي: (ص205 ، تعليق رقم: 144) :
زعم السَّقَّاف أَن ضحك النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- من قول اليهودي لما قال: يا محمد ، إن الله يضع السموات على إِصبع … الحديث متفق عليه من حديث ابن مسعود.
إنكار صريح منه على اليهودي.
وهذا قول باطل وتحريف للنصوص فإن النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- لم يضحك إلا تصديقاً لقول الحبر ، كما جاء ذلك في الصحيح (2) ، ولكن لما ساءَ قصد السَّقَّاف ساء فهمه فأَخذ يلف يميناً وشمالاً لصرف الحديث عن ظاهره كما فعل أَسلافه من الجهمية المعطلة.
والسَّقَّاف لم يأْت بشيء جديد عن أسلافه في معظم تعليقاته ، ولكنه يجدد مذهب إخوانه الجهمية الذين كفرهم خمسمائة عالم من أهل الصدق والمعرفة والإيمان.
* وفي: (ص219 ، تعليق رقم: 157) :
نقل السَّقَّاف عن ابن حجر: أنه قال على قوله –صلى الله عليه وسلم- (( فإن الله قبل وجهه)) قال: (وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته) .
& أقول:
__________
(1) انظر "مختصر الصواعق المرسلة": (ص359) . وأنظر:كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" لابن القيم. فقد قرر هذه المسألة أعظم تقرير وبسط عليها بسطاً موسعاً ومن قراءته تعلم فساد عقول الجهمية وكفرهم ومخالفتهم للفطر والكتب المنزلة من عند الله.
(2) انظر:"صحيح البخاري": (8/550،الفتح)(/8)
وهذا شطط في القول من ابن حجر والسَّقَّاف ومن تابعهما ، فليس في الحديث رد على من أَثبت أَن الله على العرش بذاته ؛ لأن قوله –صلى الله عليه وسلم-: (( فإن الله قبل وجهه)) فيه إثبات قرب الله تعالى ، ولا يتنافى ذلك مع علوه فإن الله تعالى قريب في علوه ، عال في قربه . يوضح ذلك ويبينه أَن الصحابة –رضي الله عنهم- لما رفعوا أصواتهم بالذكر قال لهم النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم-: (( أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم ليس تدعون أصم ولا غائباً ، إنكم تدعون سميعاً قريباً ، وهو معكم ، والذي تدعونه أَقرب إلى أَحدكم من عنق راحلته)) .
متفق عليه من حديث أَبي موسى.
فهذا الحديث صحيح صريح أَن الله تعالى أقرب إلى أحدنا من عنق راحلته ، وهو مع ذلك فوق سمواته وهذا ظاهر ، إنما أتى من أتى بسبب سوء عقيدته.
وقد قال العلامة ابن القيم –رحمه الله تعالى-:
( فأخبر –صلى الله عليه وسلم- وهو أعلم به أنه أقرب إلى أحدهم من عنق راحلته ، وأخبر أنه فوق سمواته على عرشه ، مطلع على خلقه ، يرى أعمالهم ، ويعلم ما في بطونهم ، وهذا حق لا يناقض أحدهما الآخر) (1).
وحديث النزول يدل أيضاً على ذلك ، فإنه ينزل إلى السماء الدنيا ، مع أنه مستو على عرشه ، وهذا حق يصدق بعضه بعضاً ، ولا إشكال فيه عند مَنْ سَلمت فطرته ، ولم تتلوث بحثالة المعطلة.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية –رحمه الله تعالى- في "العقيدة الواسطية":
( وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف ولكن يصان عن الظنون الكاذبة …. إلخ) فراجعه فإنه مفيد ، وأُحيل إلى ذلك أهل الإيمان.
وإلا فأهل البدع يحرقون كتب ابن تيمية من شدة بغضهم للعقيدة السلفية ، ولكن لم ينفعهم ذلك شيئاً ، ولم يستفيدوا من التحريق ، وفشلت جميع محاولاتهم ، فعمد كثير من أهل البدع يعلقون ويحققون كتب السلف خصوصاً كتب ابن تيمية ، لا حباً له ، ولا حباً لنشر العقيدة والعلم ، ولكن كي يدسوا في ثناياها العقائد الفاسدة ، والتشكيك في علماء السلف وكتبهم.
وقد أشرت إلى ذلك في كتابيّ: "التوكيد في وجوب الاعتناء بالتوحيد" ، و"القول الرشيد في حقيقة التوحيد".
ولي أيضاً مصنف مستقل يكشف تلاعب بعض المعاصرين بكتب السلف (2) ، فعلى السلفيين: التيقظ لذلك ، وعدم الغفلة عن مخططات أهل البدع ، فخذ وصفهم من الإمام البربهاري فإنه خبير بهم ، حيث يقول:
( مثل أصحاب البدع مثل العقارب يدفنون رؤوسهم وأيديهم في التراب ويخرجون أذنابهم فإذا تمكنوا لدغوا وكذلك أهل البدع هم مختفون بين الناس فإذا تمكنوا بلغوا ما أَرادوا) (3).
* وفي: (ص245 ، تعليق رقم: 184) :
تطاول السَّقَّاف وكفَّر شيخ الإِسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى-.
وقد قال النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم-:
(( أَيما امرِئ قال لأخيه: يا كافر. فقد باء بها أحدُهما إن كان كما قال ، وإلا رجعت عليه))
متفق عليه من حديث ابن عمر.
ونشهد الله وملائكته وحملة عرشه وجميع خلقه أَن شيخ الإِسلام بريء مما رماه السَّقَّاف.
وأن السَّقَّاف مفتر كذاب ، وقد قال تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّنْ رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}.
قال أبو قلابة: هي والله لكل مفترٍ إلى يوم القيامة.
ثم إن السَّقَّاف لم يقف عند حدّ تكفير شيخ الإسلام –رحمه الله- بل تابع كذبه وافتراءَه عليه ، وزعم أنه يقول بالجسمية . وقال من ذلك قوله في: "تأسيسه": (1/101) :
( وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من سلف الأُمة وأئمتها أنه ليس بجسم وأن صفاته ليست أجساماً ولا أعراضاً! فنفي المعاني الثابتة بالشرع والعقل بنفي ألفاظ لم ينف معناها شرع ولا عقل جهل وضلال) .
ثم أتبع السَّقَّاف هذا القول بالتجهيل والتضليل.
وما نقله السَّقَّاف عن الشيخ من التأسيس يثبت بزعمه أن الشيخ يقول بالجسمية أَدلُ دليلٍ على غباوته وشدة تحريفه للكلم عن مواضعه.
فإن شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- قال في الصفحة المقابلة لما نقله السَّقَّاف عنه:
__________
(1) "مختصر الصواعق": (ص397)
(2) اسمه: "حماية السلف من تلاعب الخلف"
(3) انظر: "المنهج الأحمد": (2/37)(/9)
[الوجه السابع والسبعون] أن لفظ الجسم والعرض والمتحيز ونحو ذلك ألفاظ اصطلاحية وقد قدمنا غير مرة أن السلف والأئمة لم يتكلموا في ذلك في حق الله ، لا بنفي ولا بإثبات ، بل بدَّعُوا أهل الكلام بذلك ، وذموهم غاية الذم ، والمتكلمون بذلك من النفاة أشهر ، ولم يذم أحد من السلف أحداً بأنه مجسم ولا ذم المجسمة ، وإنما ذموا الجهمية النفاة لذلك وغيره ، وذموا أيضاً المشبهة الذين يقولون صفاته كصفات المخلوقين . ومن أَسباب ذمهم للفظ الجسم والعرض ونحو ذلك ما في هذه الألفاظ من الاشتباه ولبس الحق كما قال الإمام أحمد: يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم.
فهذا قول الشيخ واعتقاده في الجسم ، وهذا النقل عنه يكذب السَّقَّاف ومن تابعه على كذبه وافترائه ، وشيخ الإسلام –رحمه الله تعالى- صرح في جميع كتبه أن الجسم والعرض ونحوهما من الألفاظ التي لم ترد في الكتاب ولا في السنة ، لا تقابل بقول ولا برد.
وصرح أنها عبارات مجملة لا تحقق حقاً ، ولا تبطل باطلاً ، وصرح أنها من الكلام المبتدع كما في رسالته "التدمرية" المطبوعة ضمن "الفتاوى": (3/81) .
وأما ما تقدم من الكلام الذي نقله السَّقَّاف عن الشيخ موهماً الخلق أن الشيخ يثبت الجسم لله فأذكره من أوله حتى يتضح المراد ، فإن السَّقَّاف اختلسه من بيان تلبيس الجهمية (1/101) كاختلاس الشيطان من صلاة العبد.
قال الشيخ –رحمه الله تعالى-:
( ثم المتكلمون من أهل الإثبات لما ناظروا المعتزلة تنازعوا في الألفاظ الاصطلاحية ،فقال قوم: العلم ، والقدرة ، ونحوهما ، لا تكون إلا عرضاً وصفة حيث كان فعلم الله قدرته:عرض . وقالوا أيضاً: إن اليد والوجه لا تكون إلا جسماً ، فيد الله ووجهه كذلك . والموصوف بهذه الصفات لا يكون إلا جسماً . فالله تعالى جسم لا كالأجسام . قالوا: وهذا مما لا يمكن النزاع فيه إذا فهم المعنى المراد بذلك ، لكن أي محذور في ذلك ، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من سلف الأُمة وأئمتها أنه ليس بجسم وأن صفاته ليست أجساماً وأعراضاً فنفي المعاني الثابتة بالشرع والعقل بنفي ألفاظ لم ينف معناها شرع ولا عقل جهل وضلال)أهـ كلامه.
فقوله: وليس في كتاب الله … إلخ . يحتمل أن يكون من كلام الشيخ ويحتمل أن يكون تابعاً لقول المتكلمين من أهل الإثبات.
وعلى كل الاحتمالين ليس في الكلام ما يفهم منه إثبات الجسمية لله تعالى ، وإنما فيه نفي أن يكون في الكتاب والسنة أن الله ليس بجسم ، وهذا صحيح لم يرد في الكتاب ولا في السنة ، أن الله ليس بجسم ، كذلك لم يرد إثبات ذلك.
& والحاصل:
أنَّ الكلام يراد به الرد على الجهمية الذين ينفون عن الله ما وصف به نفسه من السمع والبصر والقدم والعينين واليدين وما وصفه به رسوله محمد –صلى الله عليه وسلم- بنفي ألفاظ لم يرد نفيها ولا إثباتها في الكتاب ولا في السنة كالجسم ونحوه لأنهم يتوهمون أنهم إذا أثبتوا لله الأسماء والصفات فقد أثبتوا جسماً.
ومن هذا الظن الفاسد: مرقوا من الدين ، وحرفوا الكلم عن مواضعه ، ونفوا عن الله الأسماء والصفات ، وآخر المقالة يدل على ذلك فإن فيه:
( فنفي المعاني الثابتة بالشرع والعقل بنفي ألفاظ لم ينف معناها شرع ولا عقل جهل وضلال) .
وهذا مذهب النفاة الجهمية ومن شابههم فإنهم ينفون عن الله الأسماء الحسنى والصفات الثابتة بالشرع توهماً منهم أن إثباتها يقتضي إثبات جسم الله كسائر الأجسام –تعالى الله عن قولهم- مع أن لفظ الجسم لم يرد نفيه ولا إثباته بالشرع.
& والخلاصة:
أن السَّقَّاف كذب على الشيخ ، وحرف الكلم عن مواضعه ، وبه يتبين أنه كذَّاب ساقط العدالة ، فلا يعتمد بنقله ولا بقوله.
* وفي: (ص249 ، تعليق رقم: 189) :
قال السَّقَّاف: ( وإنني أنصح طلاب العلم وأهله أن يقتنوا كتب الإمام الكوثري وخصوصاً كتاب المقالات … إلخ) .
& أقول:
هذه النصيحة من النصائح الشيطانية كما قال تعالى عن إبليس: { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ }. وإنها لنصيحة بارتكاب البدع والضلالات والانحرافات ، وسوف يندم السَّقَّاف على هذه النصيحة التي ورثها عن إبليس حين لا ينفع الندم.
قال تعالى:
{ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ، ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم }.(/10)
وكتب الكوثري التي ينصح السَّقَّاف باقتنائها مليئة بسبب علماء السلف (1) ، ونشر مذهب الجهمية أعداء الدين ، وقد أهلك الله الكوثري وورثه أقوام لا خلاق لهم يدعون لمنهجه ويشيدون بكتبه ويصفونه بأوصاف عظام فإنا لله وإنا إليه راجعون.
هذا وإني أرى من واجب طائفة من العلماء التحذير من كتب الكوثري ومن هو على شاكلته ممن انحرف عن الجادة كالغزالي ووهبي سليمان غاوجي (2) وتلميذ الكوثري الغالي فيه "أبو غدة" الذي اتخذ الثناء على الكوثري الجهمي سبيلاً ومنهجاً ، ومع أن جماعة من العلماء بينوا زيغ الكوثري وانحرافه وشدة عداوته لأهل السنة إلا أن "أبو غدة" لا يزال يبجله ويثني عليه ويصفه بالإمامة في الدين ، فالله المستعان.
وإني أيضاً أنصح طلبة العلم الذين سلكوا الجادة ، ولم يركنوا إلى أهل البدع وعلومهم بالإكثار من قراءة كتب السلف ، ونشرها بين الأنام ، والإشادة بها لتأْلفها القلوب ، كـ:كتاب "السنة" لعبدالله بن الإمام أحمد ، و"التوحيد" لابن خزيمة ، و"السنة" لابن أبي عاصم ، و"شرح اعتقاد أهل السنة" للالكائي ، و"الشريعة" للآجري ،و"السنة" للخلال ، وكتاب "الإبانة" لابن بطة ، و"الحجة في بيان المحجة" لقوّام السنة إسماعيل الأصبهاني ، و"نقض الدارمي على بشر المريسي" ، وكتاب "النزول" للدارقطني" ، وكذلك كتاب "الصفات" وكتاب "شرح السنة" للبربهاري ، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، وكتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، وسائر أئمة الدعوة النجدية –رحم الله الجميع ، وغفر لنا ولهم-.
* وفي: (ص250 ، تعليق رقم: 190) :
نفى السَّقَّاف الصوت عن الله ، وطعن في حديث أبي سعيد المخرَّج في "صحيح البخاري" (13/453-الفتح) الذي فيه إثبات الصوت لله تعالى ، وزعم أنه من تصرُّف الرواة ، وأنه خبر آحاد.
وهذه دعوى لا تسمن ولا تغني من جوع ، فإن الحديث لا مطعن فيه . قال البخاري –رحمه الله تعالى- في "صحيحه" حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- قال:قال النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم-: ((يقول الله تعالى: يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار)) (3).
فهذا الحديث صحيح صريح في إثبات الصوت لله ، وليس لأحد من الرواة تصرُّف فيه ، ولكن السَّقَّاف كعادته: ما يخالف من الأحاديث بدعه وضلاله يطعن فيه ، إمَّا بالتضعيف أو بالتشكيك في صحته أو غير ذلك.
ثم لو سلمنا للسَّقَّاف أن هذا الحديث تصرف فيه بعض الرواة فالأحاديث كثيرة جداً في إثبات الصوت لله وفي القرآن أيضاً آيات تثبت الصوت لله تعالى.
قال تعالى:
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ، إذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالوادِي الْمُقَدَّسِ طُوَى }.
وقال تعالى:
{ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ }.
فهذه الآيات تدل على أن الله تعالى ينادي ، والنداء لا يكون إلا بصوت . قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- كما في "الفتاوى": (6/531) :
(والنداء في لغة العرب هو صوت رفيع لا يطلق النداء على ما ليس بصوت لا حقيقة ولا مجاز)
وقال عبدالله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة": (1/280) :
__________
(1) للشيخ بكر أبو زيد رسالة اسمها: "براءَة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة" كشف فيها الجهمي الكوثري وبين زيغه وانحرافه وشتمه لعلماء السلف كما أنه فضح تلميذه الذي يعظمه ويبجله فراجعها لتقف على حال هذين الرجلين.
(2) لوهبي غاوجي كتاب اسمه: "كلمة علمية هادية في البدعة وأحكامها" سهل أمر عبادة القبور وأرشدهم بعدما عدّ فعلهم بدعة ليس غير إلى أن يسألوا الله تعالى بصلاح الولي كما في ص60 وفي نفس الصفحة جعل الأخذ بنصوص الصفات وإمرارها كما جاءت مع اعتقاد ما دلت عليه من المعاني بدعة مذمومة ، وجعل جميع آيات الصفات في كتاب واحد كما فعل ابن خزيمة وغيره من السلف بدعة. وقال: (إنما جمعها المشبهة والمبتدعة) كما في ص61 ، وفي ص70 أثنى على الداعية إلى الشرك والبدع "محمد بن علوي المالكي" ووصفه بأنه صالح تقي محدث فقيه داع إلى الله على بصيرة وخادم للسنة … وبالجملة فكتاب "وهبي غاوجي" مكتث بالبدع والضلالات وهو كغيره من الكتب التي ابتلينا بها في هذا الزمان التي تدعو إلى مذهب الخلف ونسف مذهب السلف. هذا وليعلم أصحاب المكتبات الذين يبيعون مثل هذا الكتاب وهم يعلمون ما فيه أنهم مأزورون غير مأجورين ولهم حظ وافر من الإثم لإعانتهم على نشر العقائد الفاسدة في هذه البلاد وقد قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعانوا على الإثم والعدوان} والذي يبيع مثل كتاب الغاوجي أو كتب الكوثري ممن يعين على الإثم والعدوان فليستيقظ السني من غفلته ولا يفتح المجال لأهل البدع يبثون بدعهم وعقائدهم الفاسدة في عقر داره.
(3) 13/453-الفتح)(/11)
( سألت أبي –رحمه الله- عن قوم يقولون: لما كلم الله عز وجل موسى لم يتكلم بصوت . فقال أبي: بلى إن ربك عزَّ وجلَّ تكلم بصوت هذه الأحاديث نرويها كما جاءت) .
وقال عبدالله أيضاً:
( قال أبي –رحمه الله- حديث ابن مسعود –رضي الله عنه-: ((إذا تكلم الله عزَّ وجلَّ سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان)) قال أبي: وهذا الجهمية تنكره) .
وأما قول السَّقَّاف عن حديث أبي سعيد بأنه خبر آحاد فسيأتي-إن شاء الله- الكلام على هذه المسألة، وبيان بدعية التفريق في قبول الآحاد في المسائل الفقهية ومسائل العقيدة ، فالكل شرع يجب قبوله، ولا يعلم عن أحد من الصحابة أنه فرَّق هذا التفريق، فمن رد خبر الآحاد في العقائد فقد خالف هدي الصحابة ، واتبع غير سبيل المؤمنين.
* وفي: (ص250-251) :
ضعَّف السَّقَّاف حديث عبدالله بن أُنيس قال: سمعت النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم- يقول:
(( يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان))
.وأعلَّ السَّقَّاف هذا الحديث بضعف عبدالله بن محمد بن عقيل ، والقاسم بن عبدالواحد ، وادعى أنَّ ابن عقيل ضعيف جداً ، وأن القاسم قال عنه في "الجرح والتعديل": لا يحتج به.
وعلى كلامه ظلام نزيله فنقول:
الحديث رواه الإمام أحمد –رحمه الله تعالى- في "مسنده" (3/495) وغيره من طريق همام بن يحيى عن القاسم بن عبدالواحد المكي عن عبدالله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبدالله عن عبدالله بن أُنيس ... الحديث.
وسنده حسن فإن عبدالله بن محمد بن عقيل ليس كما زعم السَّقَّاف بأنه ضعيف جداً فإن هذا القول صادر عن عداوته لما يتضمنه الحديث لا عن معرفة بالحديث ورجاله . وقد احتج بابن عقيل جمع من أهل العلم منهم: أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن إبراهيم ، والحميدي ، نقل ذلك عنهم الترمذي في "جامعه" (1/9) .
وقال البخاري-رحمه الله تعالى-: (هو مقارب الحديث) .وهذا من البخاري تعديل لابن عقيل ، فإن كلمة "مقارب الحديث" يراد بها التعديل كما نص على ذلك غير واحدٍ من أهل الحديث.
وقال الترمذي –رحمه الله تعالى- في ابن عقيل: (هو صدوق ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه) والكلام الذي قيل فبه لا ينزل من حديثه عن مرتبة الحسن على الصحيح عندي بشرط أن لا يخالف ، فإن خالف طرح حديثه . والحديث الذي نتكلم عليه لم يخالف فيه بل شواهده كثيرة في الكتاب والسنة.
وأمَّا القاسم بن عبدالواحد فإنه صدوق(1) وثقه ابن حبان،وقال عنه ابن أبي حاتم في"الجرح والتعديل" : (7/114) : سألت أبي عنه فقال: يكتب حديثه. فقلت: يحتج بحديثه. قال: يحتج بحديث سفيان وشعبة. أ.هـ كلامه.
ومن يعلم خطأ السَّقَّاف بقوله: (وفي الجرح والتعديل ما معناه: لا يحتج بحديثه) . فإن أبا حاتم لم يقل ذلك ولا يفهم من كلامه ما يدل على ذلك.
وأيضاً السَّقَّاف كذب على الذهبي فقال: القاسم بن عبدالواحد صاحب مناكير كما في ترجمته في "الميزان".
* وفي "الميزان" (3/375) ، قال الذهبي:
وُثق. ثم نقل قول أبي حاتم المتقدم ثم قال: ومن مناكيره فساق حديثاً ليس له علاقة في موضوعنا.
ثم ليعلم أن قول السَّقَّاف عن القاسم (صاحب مناكير) لا تقتضي هذه اللفظة تضعيفاً ؛ لأنه يراد تارة بهذه العبارة صاحب مفاريد (2) ولكن السَّقَّاف لا يفقه شيئاً من ذلك فظن أنها تقتضي تضعيفاً.
& والحاصل:
أن حديث عبدالله بن أُنيس حديث حسن وأن السَّقَّاف جانب الصواب في تضعيفه ، وأخطأ على أبي حاتم وكذب على الذهبي. والكذاب ساقط العدالة . وقد قال النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم-:
((وإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار)) ، كما جاء ذلك في الحديث المخرَّج في "صحيح مسلم": (رقم:2607) من حديث عبدالله بن مسعود.
* وفي: (ص264 ، تعليق رقم: 202) :
زعم السَّقَّاف أن حديث:(( إن الله قال من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب..)) فيه كلام ثم في(ص265) قال: والخلاصة أنَّ حديث((من عادى لي ولياً)) صحيح إلا أن لفظ "التردد" الذي فيه لا يثبت...
& أقول:
الحديث ثابت ولا مطعن فيه . قال البخاري –رحمه الله تعالى- في "صحيحه" (11/340-الفتح) :حدثني محمد بن عثمان بن كرامة حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن بلال حدثني شريك بن عبدالله بن أبي نمر عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: إن الله قال: (( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأُعطينه ولئن استعاذ بي لأُعيذنه. وما ترددت عن شيءٍ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته)) .
__________
(1) روى عنه جمع من الثقات ووثقه ابن حبان وقال أبو حاتم: يكتب حديثه . فمثله حسن الحديث.
(2) انظر:"هدي الساري" لابن حجر: (ص437)(/12)
وهذا الحديث احتج به البخاري –رحمه الله تعالى- في "صحيحه" ، والكلام الذي قيل في خالد بن مخلد لا يضر هذا الحديث لأنه من شيوخ البخاري الذين لقيهم وأخذ عنهم وعرف أحوالهم وميَّز أحاديثهم وقد روى هذا الحديث عنه بواسطة محمد بن عثمان وهو ثقة.
وأيّ رجل احتج به البخاري في "صحيحه" في الأُصول فقد جاوز القنطرة فلا اعتداد بطعن من طعن فيه داخل الصحيح ، وأمَّا خارج الصحيح فقد يكون من احتج به البخاري ومسلم ضعيفاً.
وقول السَّقَّاف: (وشريك فيه مقال) .
& أقول:
كثير من الرواة لا يسلم من مقال ، ولكن الشأْن هل يصيره هذا المقال ضعيفاً أم لا؟ ولو أن كل رجل فيه مقال يكون ضعيفاً لما سلم لنا إلا شيء قليل من الرجال . وشريك بن عبدالله بن أبي نمر تابعي خرج له الشيخان وغيرهما ، وتخريج الشيخين له ممَّا يقوي أمره لأنهما قد اشترطا الصحة . وقد قال ابن معين والنسائي في شريك: (ليس به بأْس) . ووثقه ابن سعد ، وقال ابن عدي: (إذا روى عن ثقة فلا بأْس بروايته) (1).
والراوي عنه في هذا الحديث سليمان بن بلال من رجال الستة ، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما.
وبه تعلم أن شريك بن عبدالله يحتج بحديثه ، وقد طعن بعض العلماء في ألفاظ انفرد بها شريك ، ولكن هذا لا يدل على ضعفه ، إلا إذا خالف الثقات ، فهنا يطرح تفرده ؛ لأنه يخطئ . أما إذا روى حديثاً لم يخالف فيه فقبوله متعين ، والقدح فيه تحم بغير دليل.
& والحاصل:
أن الحديث صحيح لا علة فيه ، وتصحيح السَّقَّاف لحديث ((من عادى لي ولياً)) ، وتضعيف لفظ: (( التردد)) قول صادر عن فساد عقيدة ، وسوء فهم ؛ لأنه لما لم يفهم معنى التردد ضعفه ، وإلا فتصحيح أوله وتضعيف آخره بغير دليل: ظاهر البطلان . ومنه يعلم ما قلنا في سبب تضعيف السَّقَّاف للفظ ((التردد)) .
هذا وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- عن معنى: ((تردد الله)) ؛ فأجاب –رحمه الله تعالى- كما في "الفتاوى": (18/129-130) :
( هذا حديث شريف قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة ، وهو أشرف حديث رُوي في صفة الأولياء ، وقد ردَّ هذا الكلام طائفة ، وقالوا: إن الله لا يوصف بالتردد ، وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأُمور ، والله أعلم بالعواقب ، وربما قال بعضهم: إن الله يعامل معاملة المتردد . والتحقيق: أن كلام رسوله حق ، وليس أحد أعلم بالله من رسوله ، ولا أنصح للأُمة منه ، ولا أفصح ولا أحسن بياناً منه ، فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس وأجهلهم وأسوئهم أدباً ، بل يجب تأْديبه وتعزيره ، ويجب أن يصان كلام الرسول –صلى الله عليه وسلم- عن الظنون الباطلة ، والاعتقادات الفاسدة . ولكن المتردد منا وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأُمور لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منَّا ، فإن الله ليس كمثله شيء: لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله . ثم هذا باطل فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب ، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد ، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة ، ويكرهه لما فيه من المفسدة ، لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه كما قيل:
الشيب كره وكره أن أُفارقه *** فاعجب لشيء على البغضاء محبوب
وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه . بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب ، وفي "الصحيح": ((حفت النار بالشهوات ، وحفت الجنة بالمكاره)) وقال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } الآية.
ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث فإنه قال: ((لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه)) ، فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوباً للحق ، محباً له يتقرب إليه أولاً بالفرائض وهو يحبها . ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ، ويحب فاعلها ، فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق ، فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين بقصد اتفاق الإرادة بحيث يحب ما يحبه محبوبه ، ويكره ما يكرهه محبوبه ، والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه فلزم من هذا أن يكره الموت ليزداد من محاب محبوبه. والله سبحانه وتعالى قد قضى بالموت فكل ما قضى به فهو يرده، ولا بدَّ منه ، فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه ، وهو مع ذلك كاره لمساءَة عبده، وهي المساءَة التي تحصل له بالموت ، فصار الموت مراداً للحق من وجه ، مكروهاً له من وجه ، وهذا حقيقة التردد ، وهو أن يكون الشيء الواحد مراداً من وجه مكروهاً من وجه.
وإن كان لابدَّ من ترجيح أحد الجانبين كما ترجح إرادة الموت ، لكن مع وجود كراهة مساءَة عبده . وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ، ويكره مساءته ، كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته) .
* وفي: (ص274) ، آخر الكتاب:
__________
(1) انظر:"الكامل" (4/1321)(/13)
قال السَّقَّاف: (نسأل الله تعالى أن نكون بهذا التعليق قد فرجنا عن أهل العلم وطلابه كربة الحيرة في هذه الأحاديث المتعلقة بمسألة الصفات ونسأله أن يفرج عنا كرب يوم القيامة ... ) .
& أقول:
السَّقَّاف يريد أن يموه على الخلق بهذا الدعاء ويتلاعب بعقولهم . ويظنهم همجاً رعاعاً كأتباعه الذين أضلهم بتحريفه للنصوص ، وكذبه في النقول ، وجعلهم في شك وحيرة واضطراب ، ولم يهدهم سبيل الرشاد.
وصادم في تعليقاته المنقول . وكابر العقول.
ومن كان هذا سبيله ومنهجه ، فهو على خطر عظيم.
وقوله: (ونسأله أن يفرج عنا كربة يوم القيامة) .
& أقول:
تُبْ إلى ربك من تحريف النصوص ، والكذب ، والفجور ، مصادمة المنقول والمعقول ، وكن من دعاة الحق ، واعمل صالحاً لتحظى بالفوز يوم النشور.
فإن مَنْ لقى الله بالبدع ، والفجور ، والتحريف للمنقول والمعقول ، ونبذِ الكتاب والسنة وراء الظهور ، وتسفيه خيار الأُمة ، ورميهم بالابتداع والفجور ، كيف يريد أن يفرج الله عنه كربة يوم النشور ، ويزيل عنه وحشة القبور.
وقد خلق الله الجنة ، وخلق لها أهلاً . وخلق النار ، وخلق لها أهلاً . فكلٌّ ميسرٌ لما خلق له.
قال تعالى:
{ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى ، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ، وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}
والأعمال بالخواتيم ، وصالح الأعمال سبب من أسباب حسن الخاتمة.
وفي "الصحيحين" وغيرهما من حديث الأعمش قال: سمعت زيد بن وهب عن عبدالله بن مسعود –رضي الله عنه- ، قال: حدثنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق ... الحديث وفيه:
(( فواللهِ الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) .
وكل عبد يُبعث على ما مات عليه كما جاء ذلك في "صحيح مسلم": (رقم:2878) من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم-.
فنسأل الله تعالى أن يتوفَّانا على الإسلام والسنة.
" فصل "
وبهذا الكشاف المُختصر عن ضلالات حسن السَّقَّاف من خلال تعليقه على كتاب ابن الجوزي: " دفع شبه التشبيه بأكفِّ التنزيه" يتبين انحراف السَّقَّاف بما يلي:
طعنه في الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان مع أن العلماء اتفقوا على أنه أفضل ملوك هذه الأُمة.
رَدُّهُ النصوص الصحيحة الصريحة إذا كانت تخالف مذهبه مذهب الجهمية.
شتمه علماء السلف ورميه إياهم بالتشبيه والتجسيم.
تكفيره شيخ الإسلام ابن تيمية تكفيراً صريحاً.
تشكيكه في كُتب أئمة السلف في العقيدة.
إنكاره علو الله على خلقه واستواءه على عرشه.
تحريفه النصوص وتخضيعه إياها للمعتقدات الردية والمذاهب البدعية.
كذبه في النقل لترويج باطله وهذا شعار المُفلس من العلمِ النافع.
ثناؤه على الكوثري وتعظيمه إياه مع أنه رأْس من رؤوس الجهمية المعطلة في هذا العصر.
ذكرُهُ مقالة من قال: (قبر معروف الترياق المجرَّب) على سبيل الاستحسان.وهذه رائحة من روائح الوثنية.
أمره من أثبت العلو لله على خلقه بالتوبة مع أن علو الله على خلقه معلوم من دين الإسلام بالضرورة وتكفير العلماء لمن أنكر شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة مشهور.
رده خبر الآحاد في العقائد كما في(ص 250) واضطرب في هذه المسألة كما في(ص 45) آخرها.
* وفي (ص 28)
قال: (خبر الآحاد مقبول عندنا معمول به في جميع الأبواب إلا في باب أصول العقائد .. ) .
& أقول:
وأدلة حجية خبر الآحاد من الكتاب والسنة كثيرة جدّاً ، وهي أدلة عامة في الأحكام والعقائد ولم يعلم عن أحد من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- وهم هم في العلم والدين فرق بين الأحكام والعقائد.
وفي "الصحيحين" وغيرهما عن البراء أن النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- كان أَوَّل ما قدم المدينة نزل على أجداده أو قال أخواله من الأنصار وأنه صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وأنه صلى أول صلاة صلاَّها صلاة العصر . وصلى معه قومٌ فخرج رجل ممن صلى معه فمرَّ على أهل مسجدٍ وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قبل مكة فداروا – كما هم قبل البيت ... )) (1).
فلو كان خبر الآحاد غير مقبول لما عملوا بقوله ، واستداروا مع أنهم كانوا على أمر مقطوع به.
أترى هؤلاء الصحابة الأخيار جهلوا حكم خبر الواحد وقبلوه في المسائل الفقهية دون المسائل العقدية؟
أم أنهم علموا من نبيهم أنه يجب قبول خبره إذا كان عدلاً وأنه لا فرق بين الأحكام والعقائد في ذلك بل التفريق بين الأحكام بدعة في الدين.
__________
(1) البخاري: (1/95-الفتح) ، ومسلم: (5/9-10-نووي)(/14)
فكل من بلغه شيء عن نبيه صح مخرجه آحاداً أو غيره لم يسعه رده سواء كان في الأحكام أو العقائد فالكل شرع يجب قبوله والإذعان والانقياد له.
فمن رد خبر الآحاد الثابت عن النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- في الأحكام أو العقائد فقد اتبع غير سبيل المؤمنين قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً }.
والعجب أن السَّقَّاف (1) وأتباعه من أهل التحريف يردون خبر الآحاد في العقائد مع عدالة الرواة وثقتهم وضبطهم وأمانتهم ويستدلون على نفي استواء الله على عرشه الذي أثبته في كتابه بشعر ينسب للأخطل النصراني ولم يرد دليل يدل على صحته لا لفظاً ولا معنى ويحيلون تفسير الاستواء على شعره ، ويجادلون عليه مثبتين له فخالفوا بذلك أهل التفسير واللغة وجميع الأُمة ، ومتى كان شعر أخطل نصراني لو صح حجة على كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم- ، ولكن هذا جزاءُ من أعرض عن كلام الله ، وكلام رسوله –صلى الله عليه وسلم- واعتاض عنهما بآراء اليونان وزبالة الأذهان.
هذا وليعلم أن الشعر المنسوب للأخطل هو:
قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ولا دم مهراق
ليس فيه حجة إن صحت نسبته للأخطل على تفسير الاستواء بالاستيلاء ونحو ذلك لأنه:
أولاً: محرف . صوابه:
بشر قد استولى على العراق *** ...........
وأهل اللغة الذين لهم المرجع فيها لا يعرفون استوى بمعنى استولى.
ثانياً: لو ثبت عد تحريفه وصحت نسبته للأخطل فيبطله أن المعنى يكون قد استولى بشر على العراق وهذه صفة ملوك الدنيا لوجود المنازع لهم في ملكهم فيستولون على الملك بعد الغلبة والقهر لمن ينازعهم . وتنزيل صفة استواء ملوك الدنيا على استواء الله على عرشه تشبيه للمخلوق بالخالق وهو الذي يزعم المعطل أنه يفر منه فحرف الكلم عن مواضعه ونفى عن الله الأسماء والصفات وسلبه صفات الكمال وشبهه بالجمادات.
فإذا علم فساد قول من نفى استواء الله على عرشه استواءً حقيقياً لم يبق أمام المعطلة إلا إثبات استواء الله على عرشه استواءً حقيقياً دون تفسير للاستواء بالاستيلاء وغيره من التحريفات لأن الله جل وعلا ليس له شريك حتى يستولي على العرش بعد غلبته لشريكه قال تعالى: { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}. وروى الخطيب (5/284) في "تاريخه" من طريق داود بن علي قال: كنا عند أعرابي فأتاه رجل فقال: يا أبا عبدالله ما معنى قول الله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } قال: هو على عرشه كما أخبر . فقال الرجل: ليس كذاك هو يا أبا عبدالله ، إنما معنى قوله استوى:استولى. فقال الأعرابي: اسكت ما يدريك ما هذا العرب لا تقول لرجل استولى على الشيء حتى يكون له فيه مضاد فأيُّهما غلب قيل استولى عليه والله لا مضاد له هو وعلى عرشه كما أخبر والاستيلاء بعد المغالبة.
قال النابغة:
إلا لمثلك أو من أنت سابقه *** سبق الجواد إذا استولى على الأمد
وقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- هذه المسألة بسطاً لا يدع شكاً في انحراف في فسر الاستواء بالاستيلاء ونحوه فراجعه في "الفتاوى": (5/144-... ) .
وهذا آخر ما أردت كشفه عن ضلالات حسن السَّقَّاف.
وأسأل الله تعالى أن يجعل عملنا صالحاً ولوجهه خالصاً ولا يجعل لأحد منه شيئاً . وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا من لدنه رحمه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وقد تم الفراغ منه في شوال 5/10/1413هـ.
على يد الفقير إلى الله
سليمان بن ناصر العلوان
القصيم – بريدة
وقد قام بنقله ونشره على هذه الشبكة أبو عمر المنهجي عفا الله عنه
وتم الفراغ من النقل 1/1/1425هـ
__________
(1) كما في (ص121-122)(/15)
الكفاءة في النكاح
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ فقه الأسرة/ النكاح/الكفاءة في النكاح
التاريخ ... 26/10/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
ما قولكم علماءنا الأفاضل في رجل زوج ابنته لرجل آخر، ليس من طينته، أي أنه عبد، وإن لم يكن مملوكًا، واحتج أهله عليه بأن هذا الأمر لا يجب أن يكون؛ لأن ذلك يعتبر خلطًا في الأنساب، ونحن لا نريد اختلاطًا بأقوام آخرين ليسوا من نفس فئتنا، ليس تكبرًا ولكنهم جبلوا على هذا الأمر منذ صغرهم ومن أباهم، وللتوضيح أكثر فإن الرجل أسود والفتاة بيضاء. أفيدونا أفادكم الله وزاد علمكم سعة بحوله وقوته.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الكفاءة في التقوى والدين هي الأصل، لقول الله تعالى: (...إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...)[الحجرات: من الآية13]. وقوله: (...وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[البقرة: من الآية221]. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ". أخرجه الترمذي (1084) وابن ماجه (1967). أما اشتراط الكفاءة في النسب، فقد قال بها الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله- في رواية عنه أخذًا بحديث: "النَّاسُ أَكْفَاءٌ قَبيلةٌ بقبيلةٍ وعربيٌّ لِعَربيٍّ ومَوْلًى إلَّا حَائِكٌ أو حَجَّامٌ". أخرجه ابن حبان في المجروحين 2/ 124والبيهقي 7/134 وابن الجوزي في العلل (1019). قال أبو حاتم، كما في العلل لابنه 1/412: كذب لا أصل له. فالكفاءة عنده شرط لزوم لا صحة، بمعنى أنه لو عقد النكاح دون مراعاة الكفاءة في النسب صح النكاح أي عقده صحيح، ولكن لا يلزم منه الدوام، فقد يفرق القاضي بين الزوجين إذا لم يكن أحدهما كفئًا للآخر، إذا كان سيترتب على هذا العقد نزاع يسبب قطيعة الرحم والصلة بين الأقارب، والأئمة الثلاثة لا يشترطون الكفاءة في النسب شرطًا في النكاح، بل الإمام أحمد سئل عن الحديث: "الناس أكفاء..". أتقول به وأنت تضعفه؟ قال: (إنما ضعَّفه أهل الحديث ونعمل به على طريقة الفقهاء). والخلاصة: إذا كان سيترتب على الزواج من هذا الرجل مفسدة وقطيعة للرحم فلا يجوز؛ لأن الإسلام جاء برعاية المصالح وتكملتها، وبمنع المفاسد وتقليلها، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. والله أعلم.(/1)
الكُرَّار هم أصحاب القرار!
بموازين القسط والعدل، قامت السموات والأرض، فما يحيد عنها بعد ذلك إلا كل فتَّان ذي ضلالة، أو خوَّان ذي غرض، أو امرؤ ذو هوى استحكم في قلبه مرض، فليس يعبأ بعد ذلك إن هو تاجر بالذمة والضمير لقاء أرب رخيص وغرض.
من هنا فهؤلاء الذين صنعوا من دمائهم قناديل لأمتهم تنور لهم المسالك، وتهديها سبلها إذا ما اكتنفتها الظلمات الحوالك، وتربأ بها أن تنزلق في مساخط توردها موارد المهالك، هؤلاء ينبغي أن تقتفى آثارهم، وتتبع خطواتهم، ويسمع صدى لصيحاتهم.
أليس من سل سيفه يروم السمو، لا يبغي الفساد في الأرض ولا العلو، إنما هدفوا نحورهم للعدو، نصرة لمبادئ امتثلوها، وحقوقاً مسلوبة همُّوا أن ينتزعوها، وأرضاً مغصوبة عزموا على أن يحرروها، ومقدسات مدنَّسة تقاسموا أن يطهروها، أليسوا حقيقين بأن يكونوا أهل حل وعقد؟، وجديرين بأن يكونوا أهل تقييم ونقد؟، لا سيما إذا ما حمي الوطيس، وجد الجد، بالتالي فكل ما من شأنه أن يقدم بين أيديهم، أو من صنع القرار يستثنيهم فهو رد.
فأيُّما جماعة مجاهدة هذا ديدنها، وهذه مقاصدها، وتلكم وجهتها، كافأها العزيز الغفار بأن أسند إليها القرار، بعد أن حباها بملكات، وحفها بنفحات، وخصها بفتوحات، تمكنها من حل المعضلات، والخروج بمواقف نيِّرات، في خضم الفتن والأزمات، حيث قال جل شأنه: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين (69) (العنكبوت)، قال ابن زيد: "قوله جاهدوا فينا: أي قاتلوا فينا" (تفسير الطبري:21-15).
لذا قال سفيان بن عيينة: "إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور، فإن الله تعالى يقول: لنهدينهم سبلنا (تفسير القرطبي: 13-242)، ذلك أن لأهل الجهاد من الهداية والكشف ما ليس لأهل المجاهدة، ممن هم في جهاد الهوى والشيطان، لأنه لا يوفق في جهاد العدو الظاهر إلا من هو لعدوه الباطن قاهر، من هنا يكون المولى عزَّ وجل "قد علق الهداية بالجهاد، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل منه" (ابن القيم: الفوائد-59).
وقد فطن السلف الصالح رضوان الله عليهم لهذه الأمور، فها هم جهابذة علمائهم يحيلون على أهل الثغور، ما أشكل عليهم من مسائل ونزل بساحتهم من معضلات الأمور، وحسبك في هذا قول ابن المبارك والأوزاعي: "إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما عليه أهل الثغر يعني أهل الجهاد فإن الله تعالى يقول: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا (العنكبوت:69)، (ابن القيم مدارج السالكين 1-510).
قال السعدي: "هذا كله يدل على أن أولى الناس بموافقة الصواب أهل الجهاد" (تفسير السعدي 636).
فإذا كان ذلك كذلك توجب المسير إليهم، للوقوف على وجهات نظرهم، لنتلقفها منهم، فيكون عليها التجمع والتلاق، إذا ما عجت الساحة بالجدل والشقاق، وخيَّمت على الأمة بوادر انشقاق... أما أصحاب الهوى وأهل الأهواء فلا انجراف وراء آرائهم ولا انسياق، إذ لا يعقل أن يستمع إلى الفرَّار، في حين يصيب الآذان وقر إذا ما تكلم الكُرار! إن ما يصوغون بدمائهم القرار، وهم مرابطون على خطوط النار، يحرسون شرف الدار، ينشدون بذا مرضاة الواحد القهار، لهم آمنُ على مصالح الأمة، وأقدر على محو الثلمة، وأصدق في كشف الغمة، ممن يهرولون لاصطناع كيانات هزيلة، في ظلال قوى دخيلة، يأتمرون بأمرها وينتهون بنهيها.
وبعد: فإذا كانت المواقف البهية ثمرة ناجمة عن دماء زكية، يجود بها بررة، فأي عدالة تسوغ أن يهيمن على القرار رويبضات فجرة، في حين يجرد منه مَنْ مهروا دماءهم لعز أمتهم، وباعوا لله أنفسهم، لتحرير أولى قبلتهم ومسرى نبيهم ص؟! فإن لم يكن بذل النفس مخولاً لتبوؤ مقعد اتخاذ القرار والإدلاء بالرأي، وحجة دامغة تلجم من يريد أن يستأثر به من أهل الزيغ والغي والبغي... فبأي حديث بعده يؤمنون؟ وبأي حجة بعدها يحاجّون؟!.
وأخيراً أجبته
يا ولدي لا تعجز، فأنت ابن الإسلام وابن العروبة والسؤدد،، فلو خذلناك نحن، فتذكر أعمامك وأخوالك أبابكر والفاروق عمر وخالداً وعمر بن عبد العزيز وأسد الله حمزة، ، وتذكر أخاك أسامة قائداً لجيش المسلمين وهو في الخامسة عشرة، وعمير بن أبي وقاص الذي كان يتخفى وسط الجنود لصغر سنه حتى لا يرجعه النبي عن الجهاد. ثم اجتر يا ولدي صور النصر من بدر والخندق ومؤتة وتبوك وحطين، وتذكر أيضاً صلاح الدين،، وإن كنا لا نصلح لك اليوم قدوة فيكفيك أن رسول الله ص لك قدوة،، تذكره يا ولدي وأحبه وعش على نهجه واتبع سنته ولا تترك منها واحدة حتى تحبه أكثر مني ومن أمك،، بل من نفسك،، فمهما طال الغيم فلابد للشمس أن تشرق،، ومهما غبروا لك الصورة فامسح عنها غبار الحقد والجهل حتى تلمع أو تظهر.(/1)
يا ولدي: الخنساء هي أمك، وسمية وأسماء وأم الدحداح وأم حرام خالاتك. وتذكر يا ولدي أن آباءك وأجدادك لم يكونوا طلاب موت أو حرب ودمار، ولكنهم كانوا يجيدون صناعة الحياة فركبوا الدنيا مطية، فابن عفان كان أغنى أغنياء عصره،، وابن عوف كان أمهر تجار عصره،، وابن سينا، وابن رشد، وابن حيان،، هؤلاء عرفوا من أين تؤتى الدنيا فأقنعوا العالم كيف يفخر بهم رغم أنفه.
يا ولدي: لا تحنِ الرأس أبداً، فنسائم حرب أكتوبر مازالت ترفرف في الأجواء، وأبطالها مازالوا أحياء، فقط قالوها الله أكبر فانكسرت الأسطورة. قالوها شعاراً اختاروه،،،، فماذا لو قالوها منهجاً ارتضوه !
يا ولدي: عندك كل الحق أن تضجر وأن تحزن، لكن لا تنس يا ولدي أنك ابن الإسلام فلا تعجز، ،تشبث به ولا تركع، اذهب يا ولدي للعمرة وزر مسجد نبيك، وأظهر لساكنه حبك، وامش في مدينته وتجول، فما أحلى يا ولدي أن تشم عبير بدر والخندق وتزور السلف الصالح، ودع عينيك تدمعان،،، اجلس في الروضة واسترجع.. هنا سجد عمر، وهنا ركع خالد وهنا بكى أبو بكر وتنهد، وهذا مسجد الإجابة، فيه دعا النبي على الأحزاب، وزر أحداً واحضنه بقلبك لا تتردد، فهناك ينام حمزة أسد الله وبجواره أنس بن النضر وعبدالله بن حرام وابن عمير مصعب.
في حضن أحد قد ناموا بعد أن ضحوا بالروح والمال وبكل الدنيا بلا تردد،، والمسك يفوح منهم بعد سنوات طوال،،، ويسيل الدم دافئاً من عروقهم كأنه العنبر..
وأُحد من خلفهم صامد لا يتزحزح، محبوب، إذا رأيته رغم كل ما حدث فيه وما حوله، وعليهم يا ولدي يشهد.
اذهب يا ولدي واستنشق عبير السؤدد. قل أنا ابن الإسلام دين الله الأمجد،، فهنا وقف علي ابن عم النبي محمد،، وهذا بئر عثمان، وهذا مكان الخندق، ،وهذا باب أبي بكر، وذاك بقيع الغرقد،، استنشق يا ولدي عبير الماضي واستلهم منه العز والسؤدد،، وتأكد يا ولدي أن الإسلام سيعود يوماً، فهذا وعد الله الواحد الأوحد .. وسترفرف رايات النصر مهما أرغى غاصب أو أزبد.
د.عادل شلبي(/2)
الكِبر مانع الجنة
خالد روشة/إسلام أون لاين
الكبر تقدير زائف للذات، مصحوب باحتقار الناس والترفع عليهم، والأشياء التي يكون بها الكبر كثيرة، غير أنها ليست السبب في تكبر أصحابها، فهي من نعم الله، تكون في أيدي البعض سببا للكبر، وفي أيدي آخرين مدعاة للتواضع.
وتظهر سمات الكبر في سلوكيات مرضاه؛ إذ يحاول المتكبر أن يتعالى بكلامه وحركاته وسكناته؛ ليضع نفسه في مكانة أعلى من الآخرين.
وقد يحاول المتكبر أن يخفي تلك الصفة الذميمة إذا انكشف بعض حاله، ولكنه لا يستطع تماما؛ فإذا بصفاته تنكشف شيئا فشيئا في زلفات اللسان ومختلف المواقف.
وقسم العلماء الكبر إلى باطن وظاهر. فالباطن: خلق في النفس، والظاهر: أعمال تصدر عن الجوارح، والأصل هو الخلق الذي في النفس، وهو الرضا إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه؛ وبه ينفصل الكبر عن العجب؛ فإن العجب لا يستدعي غير المعجب.
ويؤدي الكبر إلى كثير من الانحرافات مثل: رفض الحق، وازدراء الآخرين، وسوء الظن بهم، والكذب في مدح النفس، وذكرها بما فيها وما ليس فيها، وسرعة الغضب والانتقام، وحب السيطرة، والافتخار، والرياء، والمن، ورد النصيحة، كما يخفي الكبر حيلا دفاعية؛ كإسقاط الأخطاء على الآخرين، وتبرير التصرفات وتصويبها على كل حال.
ذروة الكبر
ما من خلق ذميم إلا وصاحب الكبر مضطر إليه ليحفظ عزه، وما من خلق حميد إلا ويتنازل عنه ليحفظ كبره، فلا يترك له هذا الكبر خلقا من أخلاق أهل الجنة إلا جرده، ولا غرابة أن يخبرنا -صلى الله عليه وسلم- بأنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر.
إن شر أنواع الكبر ما يمنع استفادة العلم، وقبول الحق، والانقياد له. فقد تحصل المعرفة للمتكبر؛ ولكن لا تطاوعه نفسه على الانقياد للحق. قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} (النمل: 14).
ومن أنواع الكبر الدعاوى والمفاخر وتزكية النفس والتباهي بالنسب؛ فيحتقر من له نسب شريف من ليس له ذلك النسب؛ وإن كان أرفع منه عملاً. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يقول الرجل للرجل: أنا أكرم منك وليس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوى".
ومن السوء التكبر بالمال والولد: {أنا أكثر منك مالاً وولداً}، {أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال}، والتكبر بالجمال والقوة وكثرة الأتباع ونحو ذلك: {ليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي} {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي}. فكل ما يمكن أن يعتقد كمالاً -وإن لم يكن كمالاً في نفسه- أمكن أن يتكبر به؛ حتى إن الفاسق ليفتخر بكثرة شربه للخمر – مثلا- لظنه أن ذلك كمالاً.
رؤية الإسلام
قال الله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (الأعراف: 146)، وقال سبحانه: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} (غافر: 35)، وقال: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} (النحل: 23).
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه حبة خردل من كبر" (أخرجه مسلم). وقال أيضا: "يقول الله تعالى: "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما ألقيته في جهنم ولا أبالي" (أخرجه مسلم عن أبي هريرة). وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر" (رواه البخاري).
وذكر سفيان بن عيينة: "من كانت معصيته في شهوة فارجوا له التوبة فإن آدم _عليه السلام_ عصى مشتهيا فغفر له، ومن كانت معصيته في كبر فاخشوا عليه اللعنة، فإن إبليس عصى مستكبرا فلعن".
ويستعذب العبد المؤمن طاعة الله، وترتاح لعبادته نفسه؛ إذا علم نفسه الخضوع والذل لله تعالى. قال عز وجل في كتابه: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}، ووصف الصالحين من عباده، فقال: {فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ". وقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُون}.
الرسول القدوة
قال تعالى عن أهمية خلق التواضع في بناء شخصية المؤمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} (الفرقان: 63) وأمر رسوله بأن يكون قدوة لهم، وراحما بهم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر: 88).
وقد امتثل رسول الله لهذا الأمر القرآني، وجعل من التواضع رداءً لم يخلعه عنه حتى في ذروة تملك المسلمين لزمام الجزيرة العربية، فقد كان مثالا يحتذى به في التواضع. وقد وصفته أقرب الناس إليه السيدة عائشة رضي الله عنها بأنه كان يتخلق بالقرآن.(/1)
فها هو الحبيب يخبرنا عن نفسه: "لا آكل متكئا"، وكانت مشيته كأنما ينحدر من صبب، وكان يجلس حيث انتهى به المجلس، ويخاطب أتباعه: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا: عبدا لله ورسوله".
ولما أراد أحدهم أن يحدثه أخذته هيبة فارتعد، فقال له صلى الله عليه وسلم: "هون عليك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة".
وسار على نهجه الصحابة رضوان الله عليهم، عندما رأوا بأم عينهم أعظم الرجال يتواضع ولا يتعالى على عباد الله بما أتاه الله؛ فودع الصديق جيش أسامة رضي الله عنهما، ويسير أبو بكر على قدميه؛ بينما يركب أسامة فرسه. فيقول أسامة لتركب أو لأنزل. فيقول الصديق: "ما لي لا أغبر قدمي ساعة في سبيل الله".
لماذا يتكبر الإنسان؟
قد يكون الكبر ناتجاً عن شعور بالنقص أو شعور بالكمال، فهو في كلتا الحالتين ناتج عن إدراك خادع للذات، فإذا توافرت في يد الشخص الأدوات التي يعبر بها عن هذا الشعور الخادع ظهر الكبر في سلوكه.
والإنسان محب لنفسه بالأصالة ساع إلى تجميل ذاته وتزينها. وتكمن مشكلة المتكبر في أنه يرى نفسه شيء كبير للغاية، وقد يعلم عن نفسه النقص في جانب من الجوانب لكنه يعتز بذلك النقص إعزازا ينسيه مساوئه.
والمتكبر مصطلح مع نفسه في مواطن الفخار، ولكنه متصارع مع نفسه ومختل في توازنه، لذلك فأكثر المتكبرين سريعو الغضب لأنفسهم، لا يطيقون المكوث في مكان لا يعبرون عن أنفسهم فيه، كما أن كثيرا من المتكبرين على علاقة سيئة بالمحيطين بهم.
ولا شك أن التمييز بين الشعور الباطن والتصرفات الظاهرة سيوجهنا عند المعالجة حتى نعرف ماذا نعالج؟ فالذي يعالج هو ذلك الشعور الناشئ عن أفكار واعتقادات خاطئة، فإذا تعدلت الأفكار تغيرت طريقة التصرف تبعاً لها.
سبل العلاج
ويبدأ علاج الكبر أولا بالوعي بهذا الخلق، وضرورة تعديله، وقدم القرآن العلاج لهذا المرض الخبيث: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (غافر: 56). فإذا تغيرت نظرته للمرض، وأصبحت موازينه في الحكم عليه هي موازين الإسلام، اجتهد للتخلص منه بخطوات العلاج العملي والعملي.
فالعلاج العلمي هو الاستفادة من القرآن والسنة، وأن يعدل أفكاره عن نفسه، ليكون نظرة صحيحة عن الذات: "الضعيف الفقير الذليل الذي ما يلبث عمره أن ينتهي في أية لحظة وما يلبث أن يمرض بأصغر وأقل فيروس أو بكتيريا، وما يلبث أن ينقطع جهده بأقل مجهود أو عمل". يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر:15).
ونصح الغزالي المريض بالكبر: "أن يعنف نفسه، ويعرف ربه تعالى، ويكفيه ذلك في إزالة الكبر؛ فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة، علم أنه أذل من كل ذليل، وأقل من كل قليل، وأنه لا يليق به إلا التواضع".
وفشلت جميع الأدوية البعيدة عن الإيمان في علاج الكبر؛ لأنه ينمو في بيئة الأثرة وحب الذات، وأما العلاج الإيماني فهو النافع فيه إذ يأمر الإيمان بالحرص على مصلحة الآخرين والتواضع لهم وخفض الجناح قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر: 88).
إن الموازين الإسلامية القائمة على التفاضل بالتقوى والعمل الصالح هي التي تمنع التكبر بالمال والنسب والعلم والجمال والقوة وغيرها؛ فيدخل علاج الكبر في منظومة متكاملة لتربية الشخص على التعامل بموازين الإسلام في الحياة.
ومن علاج الكبر مقاومة مظاهره السلوكية بالمواظبة على أخلاق التواضع، والاطلاع على سير المتواضعين والتأسي بهم، وصحبة أهل التواضع والفقراء ومجالسة المساكين، وتصنع التواضع، وكسر شوكة النفس كلما كبرت.(/2)
الكِفاح المستمرّ
د. عبد الكريم بكار 7/6/1426
13/07/2005
خلق الله تعالى الدنيا داراً للابتلاء، فوفّر فيها كل شروط: الأغنياء والفقراء، والأذكياء والبلهاء، والشرفاء والوضعاء، والأقوياء والضعفاء.. كل واحد من هؤلاء مقيم في وضعيّة اختبار بما آتاه الله من مكنة وبما سلبه من نعمة.
إن على كل واحد منا أن يعمل أفضل ما يمكن عمله في إطار وضعيّته العامة والإمكانات والأدوات التي بين يديه. كما أن عليه أن يتمتع بروح الممانعة والتأبّي على كل ما يصرفه عن وجهته وهدفه. ليس في هذه الدنيا منطقة آمنة نلقي فيها مراسينا، ونركن إلى ما بلغناه من تقوى وورع وتماسك خلقيّ ونفسيّ، إننا جميعاً واقفون على أرض متأرجحة وفي منطقة تجاذب بين الصحيح والخاطئ والخيِّر والشرير. وإن أيّ تراخٍ أو ترهل في الحاسة الأخلاقيّة يمكن أن يقذف بأحدنا في محيط الضياع أو الانحراف. إن كل ساعة تمرّ علينا تشكل تحدّياً جديداً. علينا أن نواجهه ومن أجل مواجهته، فإننا نحتاج من الله -جل وعلا- أمرين: الهداية والمعونة.
وإن سورة الفاتحة التي يُطلب من المسلم أن يقرأها في كل ركعة تشتمل على المعنيين:(إياك نعبد وإياك نستعين)، (اهدنا الصراط المستقيم)، ولم يلمح هذا المعنى المفسرون الذين قالوا المعنى: ثبّتنا على الصراط المستقيم. إن الاستقامة على أمر الله تحتاج إلى نوع من الكفاح المستمر والمجاهدة الدائمة، ولا سيما أننا نعيش في ظروف صعبة وحرجة؛ إذ المغريات الكثيرة بالميل ذات اليمين وذات الشمال. إن المجتمعات الإسلامية باتت متخمة بأولئك الذين يقدمون نماذج سيئة للأجيال الجديدة ، والأكثر إثارة للأسى أن ما يمكن فعله اليوم من أمور منكرة وشرّيرة دون التعرّض للعقوبة آخذ في التنوّع والاتّساع ، وكثرت المعاذير المختلفة: كل الناس يفعلون هذا.. نحن مضطرون لأن نعطي ضمائرنا إجازة بسبب الضغوط.. لو كان هذا العمل سيئاً ما فعله فلان، أو لما سكت عليه فلان، أو ما سمحت به الحكومة..!!
هناك إلى جانب هذا فيض من الرسائل التي تتدفق من كل اتجاه. ومضمون تلك الرسائل واحد، وهو أننا نستحق أكثر مما نلنا ، وأن هناك وسائل سريعة للحصول على ما نريد. وليس من حقك أن تبحث عن مشروعيّة تلك الوسائل، فالبحث فيها صار قيداً على الانطلاقة الكبرى التي على كل واحد منا أن ينهض لها!
واضح جداً أن ضمائرنا تتعرض لترويض عنيف كي تخفّف من حساسيتها تجاه الطرق غير المشروعة للنجاح والثراء.
إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بلزوم الاستقامة حين قال جل وعلا :( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود:118]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-:"ما نزل على رسول الله آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية"، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: أسرع إليك الشيب:"شيّبتني هود وأخواتها".
وهذا منه –صلى الله عليه وسلم- شعور وإعلام بجوهريّة الاستقامة في حياة المسلم، وكونها أساس الأصالة في الشخصيّة الإسلاميّة.
وقد أثبتت الخبرات العالمية المتراكمة أن الاستقامة هي الشيء الأفضل في العمل، وفي العلاقات الاجتماعيّة، وفي العلاقات الدوليّة، والشيء الأفضل في ضبط المجتمع والسيطرة على الجريمة... ولم لا تكون كذلك وهي في معناها العميق تعني ملازمة الحق والاعتراف به والبناء عليه . هناك أشخاص لا يُحصَوْن عدداً يملكون الكثير من مقوّمات التقدم والنجاح والتفوق، لكن منعهم الانحراف والالتواء من التواصل مع أعماقهم، في عمق الإنسان المسلم طيبة وسكينة وتحفّز نحو الخير، لكن عدم الاستقامة لدى كثيرين منا يحول دون الاستفادة من ذلك وتوظيفه في الحصول على تقدم شخصي واجتماعي واضح، إن المعاصي حين تصبح جزءاً من السلوك اليومي للمرء تشكّل اتجاهه العام على نحو يحول بينه وبين تقديره لذاته وثقته بنفسه. كما أنه يفقد المصداقية أو كثيراً منها في نظر الآخرين، وهذه الأمور كافية لإطفاء جذوة التألّق الروحي والاجتماعي في آن واحد.
إن الاستقامة في دلالتها على أصالة الذات، شيء لا يقبل التجزئة؛ إذ لا يُقبل من المرء أن يكون مستقيماً إلا قليلاً أو أن يكون صادقاً في معظم الأحيان، أو أن يكون عفيفاً أمام المال القليل دون المال الكثير.. إن الاستقامة - بوصفها الطابع العام للشخصية - شيء شديد الحساسية؛ فهي إما أن تكون وإما ألاّ تكون، وجهادنا اليومي ينبغي أن يصب على صيانتها أولاً وعلى تعميقها ثانياً.
ولا أجد حرجاً في القول: إننا حتى نكون مستقيمين فعلاً نحتاج إلى أن نكون أكثر تأملاً وأكثر نشاطاً وأكثر تضحية مما نحن على استعداد لتقديمه اليوم.(/1)
وهذا يعني أن التقدّم على طريق الاستقامة يتطلب نوعاً من التطوير الشامل للذات. وهذا التطوير حتى يصبح حقيقة يحتاج إلى العزيمة، والإصرار على السير في طريق التغيير. إن السلوك الممتاز يتشكل من مجموعة غير كبيرة من العادات الممتازة. وإن المرء إذا عقد العزم على أن يتخلى في كل سنة عن عادة أو عادتين من عاداته السيئة. وإذا فعل ذلك فإنه لن يمضي عليه أكثر من خمس سنوات حتى يجد نفسه وقد تحوّل من زمرة الأشخاص العاديين إلى فئة الأشخاص الجيدين أو الممتازين.
وإني لآمل أن ننظر إلى ضعف الاستقامة على أنه يشكل التربة التي تنبت فيها جذور معظم مشكلاتنا النفسيّة والاجتماعيّة. وإذا تأمّلنا في الكثير من الصعاب التي نواجهها في الحياة لوجدنا أنها تعود إلى الأخطاء الشخصية المتكررة؛ إذ إن الانحراف سيلحق الأذى بصاحبه في نهاية المطاف بصورة من الصور. إنه طريق يؤدي إلى ممرٍّ خلفي ضيق ومظلم، وذلك الممرّ سيفضي في النهاية إلى ممرٍّ مسدود، ولكن قد نحتاج إلى وقت أطول حتى ندرك ذلك.
بالاستقامة نحرّر أنفسنا من هيمنة الرغبات غير المشروعة، ونحرّر إرادتنا من ربقة العبودية ومن أوهام التفوق المكذوب. بالاستقامة نتخلّص من القلق والاضطراب الداخلي، ونحصل على الانسجام الذاتي من خلال اطمئناننا واعتقادنا بأننا نفعل ما ينبغي علينا أن نفعله.
إن الاستقامة توفّر لصاحبها قدراً هائلاً من الشعور بالسعادة والقوة، وإن النظام اللغوي سيظلّ قاصراً عن التعبير عن ذلك.
في عالم كثير التغيّر والتحوّل يكون احتفاظنا بجوهر يستعصي على التغيير شيئاً يعادل بقاء نجم في مداره وقلباً على نظام حركته.
هل يكون ما خططناه صرخة في واد أو نقطة تحوّل من حقل الأشواك إلى حقول الورود؟
ليس عندي جواب، الجواب عند القارئ.(/2)
اللآلئ الحسان في حفظ القرآن ... ... ... الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وبعد... لاشك أن كل مسلم يود حفظ كتاب الله العظيم القرآن الكريم لم يعلم ما في ذلك من خير عظيم في الدنيا والآخرة.
الطريقة المثلى لحفظ كتاب الله - عز وجل - تختلف بحسب حال الشخص وطاقته ووقته وظروفه وسنه ونحو ذلك.
لكن يمكن اعتبار التالي قواعد عامة لحفظ القرآن الكريم واستظهاره ونسأل الله الكريم أن ينفع بها والله المستعان وعليه التكلان.
1- إخلاص النية لله - عز وجل - والتعرف على فضل أهله وحملته.
2- العزم وطلب المعالي وتحديد الهدف وهو إتمام حفظ كتاب الله - عز وجل - كاملا.
3- وضع خطة مناسبة للحفظ اليومي (كما وكيفا) بحيث لا يترك بحال من الأحوال. لذلك يجب وضع حد أدنى للكم (ورد يومي من الآيات) يناسب الشخص.
4- تحديد الوقت والمكان المناسب وتثبيت ذلك قدر الإمكان.
5- تحديد طبعة معينة للمصحف حسنة الخط والوقوف والابتداء واقتصار الحفظ منها.
6- الشروع في الحفظ وترك التسويف حتى لو شق في البداية، فالحفظ كاللياقة البدنية تزيد وتتحسن بالتدريب والمداومة.
7- تصحيح القدر المحفوظ على شيخ متقن صحيح العقيدة حسن الخلق مجاز من شيوخ عصره ثم القراءة عليه غيبا بقراءة مجودة صحيحة، والاستعانة بأشرطة القرآن الكريم. وترك الانشغال بتكلف التجويد والتغني، فالقراءة سنة متبعة يأخذ الآخر عن الأول..(فاقرؤوه كما علمتموه)..كما قال زيد بن ثابت - رضي الله عنه -.
8- فهم الآيات وتدبرها وذلك بالاستعانة بتفسير وجيز كيلا تنشغل بغير الحفظ.
9- القراءة بصوت مرتفع مسموع لتشغل أكثر من حاسة. والتدرج في حفظ آية ثم التي تليها ثم ربطها وتكرارها، وهكذا فيما يليهما. وملاك ذلك حضور القلب والحرص على الطهارة ومراعاة آداب التلاوة.
10- تلاوة المحفوظ غيبا على غير الشيخ كالأهل والأصحاب، وفي هذا فوائد منها إشاعة الجو الإيماني في المنزل وغيره، واستغلال الوقت فيما ينفع القارئ والسامع.
11- مراجعة المحفوظ وتمييز الآيات المتشابهات، واقتناص كل الفرص لذلك خاصة في الصلوات المكتوبة والنوافل وقيام الليل، وكذلك بين الآذان والإقامة.
12- العمل بهذا القرآن العظيم وذلك باتباع أوامره واجتناب نواهيه، فهذا العلم نور تطفئه الخطايا.. نسأل الله العافية.
13- الإستعانة بحلقات التحفيظ كوسيلة مساعدة.
14- عرض القرآن كاملا من أوله إلى آخره على شيخ مجاز متقن فطن لبيب لماح للأخطاء يحسن إيصال المعلومة، يجيرك للقراءة والإقراء. وليست العبرة بعلو السند (الإجازة) بقدر ما هي بصحة وجودة القراءة.
15- استغلال حداثة السن وأوائل العمر، والحرص في الكبر وعدم تضييع الأجر.
16- للطعام أثر في الحفظ فينبغي تقليله وتقنينه واجتناب (التخمة) وقد قيل قديما: (االبطنة تذهب الفطنة).
17- لا تنشغل بالتخطيط للحفظ عن الحفظ نفسه، ولا تتنقل في طرق الحفظ من طرقة إلى أخرى (كالحفظ بالكتابة أو الأجهزة الحديثة وغيرها)بل اجعل لك طريقة ثابتة تناسبك كيلا يضيع عليك الوقت بهذا التنقل.
18- الحذر من العجب فهو سبب للهلاك، كما في الحديث (ثلاث مهلكات..وذكر منها إعجاب المرء بنفسه) نسأل الله السلامة.
19- اجتنب الكسل والخمول واستعذ منه، كما في الحديث (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل..).
20.- الإستعانة بالدعاء وتحري مواطن الإجابة.
مشاري العفاسي ... ...(/1)
اللؤلؤة المكنونة
عادل بن عبد الله العبد الجبار
بداية العقد
أختي الكريمة …. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
( اللؤلؤة ى المكنونة )
كلمة أهمسها في أذنك ، كلمة أبعثها إلى فؤادك ، كلمة أزفها إلى روحك الغالية .
إليك …… يا جوهرة مضيئة .
إليك …… يا درة مصونة .
إليك …… يا لؤلؤة مكنونة .
إليك أهدي كلماتي المفعمة بنور الإخوة ورحيق المحبة تحاكي صندوقاً رُصَّ باللاليء المكنونة ألقي عبر شواطيء الحياة يطوف قلمي أعماقه بمجدافه المتواضع .
هذه خواطر صادقة ، ونصائح غالية ، يسَّر الله لي كتابتها والتعليق عليها قمت بجمعها عبر اللقاءات الدعوية في المدارس ودور تحفيظ القرآن الكريم كان ثمرتها هذا الكتاب المتوج باسم :
( اللؤلؤة المكنونة )
عادل العبدالجبار
الرياض : ص . ب : 56 – الرمز البريدي : 11392
اللؤلؤة الأولى
لماذا اللؤلؤة المكنونة ؟
إن الفتاة في هذه السن تسعى في إضلالها أيادي ماكرة ، وعيون حاسدة ، وأنفس شريرة تريد إنزالها من علياء كرامتها وإخراجها من لب سعادتها . فكم ساء وأقض مضاجع الأعداء ما تتمتع به في ظل الإسلام من حصانة وكرامة ، فسلطوا الأضواء عليها ونصبوا الشباك ، ورموها بنبلهم وسهامهم عبر العناوين المشوقة والفضائيات الساحرة ، وآخر صيحات الموضة لتحمل العشرات من الفتيات أهدافاً لا تعود عليهن إلا بخيبة الأمل إن تحققت .
قال تعالى : ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) (البقرة:120) .
أختاه …
هذا ما دفعني للكتابة لهذه المرحلة الحرجة من حياة الفتاة بأسلوب خالِ من العنف والتجريح أساسه الصراحة والعفوية دعوة للفتاة بأن تحافظ على أعز ما تملك من الكرامة والعفاف فاقرأي يا رعاك الله … أوراقي المتواضعة تجيبي نفسك بنفسك .
لماذا اللؤلؤة المكنونة .
اللؤلؤة الثانية
جمانة لا كالجمان
تأملي أختي الكريمة … نظرة العالم للفتاة !!
إنها نظرات تختلف من بلد لآخر ، نراها ونسمعها ونقرأوها عبر وسائل الإعلام عبر الصورة واللقاء المباشر والتقرير ، فما بين انتهاك للحرية ودعوة للمساواة بالرجل . فنحن بين دولتين :-
أولاهما : بريطانيا العظمى :
التي لا تغيب عنها الشمس لكثرة مستعمراتها تعتلي عرشها ( امرأة ) انظري حال فتياتها كم يعشن الجرائم في ظل الأمراض النفسية والاجتماعية الدليل على وجود آثار وخيمة على نشأة الفتاة في تلك البلاد .
ثانيها : أمريكا :
التي يعلو إحدى بناياتها الشاهقة ( نصب الحرية ورمز التحرر ) انظري حال الفتاة كم بلغ من انحطاط وامتهان وذلك عبر الأغاني الساقطة ، والأفلام الآثمة ، والسهرات الفاضحة ، والقصص الداعرة ، والملابس الخالعة ، والعبارات المثيرة ، والحركات الفاجرة ، المسموعة والمقروءة والمشاهدة على الشواطئ والمنتزهات وفي الأسواق والطرقات .
اللؤلؤة المكنونة …
( جمانة فريدة ) في عصر أصبحت فيه الرذيلة عالمية رائحة لها نجومها ومؤسساتها وإعلامها ( فتاة الغرب ) بجمالها .. وأزيائها .. وحريتها .. وتعاملها .. وانفتاحها تدعو ( الجمانة ) إلى اللحاق بها . ما نهاية الاستجابة لها ؟ إلا الفضيحة والعار فلا يليق بالجمانة إلا العلو والرفعة في أعناق الجميلات من الفتيات .
أختي المصونة …
هل أجمل من تلك اللأليء المضيئة التي لا مثيل لها تزين عنق الفتاة بجواهر متماثلة قد انفردت الفتاة المسلمة بإيمانها وجمالها بطهرها ونقائها فاستحقت اسم ( الجمانة ) فكل حضارة من الحضارات هي عقد للجمان قد تميزت الفتاة المسلمة عن غيرها مع تماثلها مع بنات جنسها غي أنوثتها ..
قال تعالى : ( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (آل عمران:139) .
اللؤلؤة الثالثة
سحر المراهقة
الصفحات البيضاء الجميلة هي قلوب فتياتنا والحق كله أنا نخاف عليهن من كل شيء كيف لا ! وهن أصحاب القلوب الغضة التي أينما وجهت سارت ولو كان إلى حتفها فما أكثر ما تبكي الفتاة وتشتكي ويزداد الأمر شدة إذا ما قوبل هذا البكاء وهذه الدموع الغالية بالاستنكار واللامبالاة .
( سحر المراهقة ) … دوامة الأسئلة الملحة التي تؤرق الفتاة وتقلق حياتها ، فهموم متراكمة ، ومشاعر شفافة ، ونظرات مثالية ، وكمال زائف … وهي من تحمل الابتسامة الجميلة ، والكلمة الطيبة ، والعاطفة الدافئة ، والتفهم القاصر ، والتقدير الوافر ، والحب الحقيقي الصادق الذي فرض عليها الاتسام بالرقة وحدة الانفعال ولو كان غير مقصود ربما كانت المشاعر الهمشة وقلة الخبرة وضعف التحمل الدافع الأقوى لتقع في القابلية الشديدة للإيحاء إرضاء لمزاجها يظهر جلياً بجذب الأنظار لها بارتداء الملابس والإكسسورات على طريقة مميزة تحمل لغة فريدة في نقدها وتصديها للأخطاء .(/1)
( سحر المراهقة ) … للفتاة … لا يعني الراحة والعبث والنوم المتواصل وإعطاء ( أحلام اليقظة ) النصب الوافر من التفكير فالحرية المطلقة في هذه الفترة وسحرها هو الشر والدمار لحياتها حين تقضي على العمر وهي تعيش قمة المراهقة وسحرها تخرج للسوق وحدها لتبهر بجمالها العيون الشاردة ، وتفتن بدلالها القلوب الحائرة لتسقط فريسة سهلة لشاب معاكس يخطط لوأد عفتها وقتل شرفها أو تعيش مع سماعة الهاتف الساعات الطويلة تفشي سرها لغيرها ، أو تسقط ضحية الإعجاب والحب الزائف فتتأثر لأي حركة ولو كانت غير مقصودة … أو تقضي جل وقتها تتنقل ( بالريموت ) من قناة لقناة عبر الفضائيات أو تتابع المجلة الماجنة من عدد لآخر لتلامس حياتها الجو المظلم بهمومها وأفكارها فلا ترى لها موجهاً ولا مرشداً قد تباينت حياتها عن حياة أقرب الناس لها فعاشت السحر في أسوأ تأثيره بينما كان علاجه بيدها ! كيف ؟؟ متى ما خالطت الصحبة الصالحة وكسرت الحواجز الوهمية بينهما وبين والديها وأخواتها قد ملكتهم بسرعة الاستجابة لتبديل الخطأ ، والتقدير الوافر للنصح والإرشاد وحينها ينفك سحر المراهقة وإلى الأبد بتقوية الوازع الديني .. وفي الحديث من السبعة !
.. شاب نشأ في طاعة الله .. تدخل الفتاة تبعاً .
اللؤلؤة الرابعة
رقة أمي ورحمة أبي
أختي العزيزة … بين طيات الأسطر لمسة حانية أودعها سمعك وأهديها نفسك – إنها ( الوالدان ) مضت أيامهما ، وانقضى شبابهما لأجلك ينتظران منك قلباً رقيقاً وبراً رفيقاً .
تذكري … ( والدتك ) حين تعودين من مدرستك تبعد جاهدة صراخ الصغار وأصوات معاركهم لتسعدي بالراحة في عالم حبها لك ودلالها .
تذكري … ( والدك ) كم يلبي طلباتك الشخصية والمدرسية ويؤثرها على نفسه دون تبرم ولا ملل .
قال تعالى : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) (الاسراء:23).
تأملي الآية الكريمة .. وصية الله للفتاة بأن تبر ولا تعق وتحسن ولا تنسى وتكرم ولا تهن رحمة بدموع الآباء ورقة الأمهات .
اللؤلؤة المكنونة …
البدر في كبد السماء ، والدرة في قلب المحارة السوداء هي لوالديها السرور إذا ساءت الأيام والفرح يبدد الأشجان والأحزان فهي بارة بوالديها ، مطيعة لهما ، محسنة إليهما ، كلمات منها لوالديها هي من الشهد وأطيب من الحلوى وربما كلمة غير مقصودة أورثت ألماً أرق مضجعهما وأقلق راحتها ، وحينها لن نستورد بر أمهاتنا من عادات غربية عنا بل في ديننا القدوة الحسنة في ظل الحياة السعيدة .
وإليك نماذج فريدة ومواقف جميلة :
كهمس العابد رأى عقرباً فلحقها ليقتلها فلدغته فسئل : لمه ؟ فقال : خفت منها على أمي .
سعيد بن عامر قال : بات أخي يصلي وبت أغمز رجل أمي وما أحب أن ليلتي بليلته .
رأى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما رجلاً ينظف أمه من بولها وبرازها فقال : له الرجل أتراني أديتها حقها فقال : لا …
أنت تزيله وترجو موتها … وهي تزيله وترجو حياتك
أنت تزيله كرهاً … وهي تزيله فرحاً
ولكنك محسن والله يثيب الكثير على القليل
اللؤلؤة الخامسة
عفواً
ربما تصاب الفتاة عند بلوغها بصدمة تؤثر في نفسها وذلك حين تتوالى عليها الأسئلة الملحة ولا مجيب الذي يبعث المرارة والأسى في نفسها … من المسؤول عن تساؤلاتها ؟ ومن يجيب عما في خاطرها ؟
سؤال صعب … أصعب منه الغموض في إجابته وحينها نفقد الإبداع والمصارحة في حلولنا فنحن نملك ما لا يملكه غيرنا في إيضاح أحكام المرأة برؤية أبعد وأعمق وأشمل .
أختي العزيزة … لا تفزعي وتخافي إذا رأيتي ( الدم ) في ملابسك الداخلية لأول مرة فهو أمر طبيعي يصيب الفتاة في هذا السن ويسمى الحيض وفي الحديث : ( إن هذا الأمر كتبه الله على بنات آدم ) رواه الإمام مسلم .
وصايا شرعية :
إن الحيض يكون شهرياً لمدة 4 إلى 7 أيام في غالب النساء لا تطالب الفتاة أثناء الدورة بصلاة ولا صيام وتقضي الصوم فقط .
قالت عائشة رضي الله عنها : ( كنا نؤمر بقضاء الصيام ولا نؤمر بقضاء الصلاة ) كذلك لا تمس المصحف الشريف مع جواز قراءته عن ظهر قلب أو بقفازين حين التلاوة ، كما يجب الاغتسال من الحيض والإنزال .
( البلوغ ) للؤلؤة المكنونة :
يعني الالتزام بالحجاب الشرعي فتبتعد عن مخالطة الرجال دون المحارم فلا تصافحهم ولا تجلس معهم .
قال تعالى : ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ …) (النور:31)
وحينئذ تستوعب الفتاة صدمات مرحلة البلوغ وتتجاوز آلامها بأية كريمة أو حديث شريف أو أثر مبارك .
اللؤلؤة السادسة
قليل من الشورى(/2)
أختك الكبرى … شقيقتك ، مستودع ذكرياتك ، شريكة صباك ، هي الكبرى الجميلة والناصحة الذكية حين ترينها اجلسي إليها واستشعري بأن الدنيا بين يديك وأنك أغنى الناس بها وأوفر حظاً إذا ما نصحتك وأعطتك جملة من التوجيهات الذهنية فربما جلست إلى عشرات وعشرات من أمثالها لكن كفى بالروابط الأخوية الطريق إلى الراحة والتفهم العميق .
أختك الكبرى … بين يديها همومك فهي أغنى الناس فيما تريين من الحياة ، إنها مدرسة تستحق الشكر والثناء فهي وقود الأمل لك ما كانت مستقيمة ناصحة فهي أفضل من الصديقة لأن الصداقة سلعة غالية قل وفاؤها فلا مجال لصداقة زائفة تظهر سرك وتكشف أوراقك وحينها تنتهي حياتك .
أختك الكبرى … لئن تزوجت وغدت ملكة في بيتها تدير مملكتها فليس معناه عدم الشورى معها بل إلى المزيد في ظل واحة تأخذين منه معين مائة وصفائه فيفيض عليك عبير السعادة والهناء …
أختك الكبرى … السد المنيع لحمايتك والسراج المنير لأسئلتك قد استجابت لك وكأنها أنت ولا شيء يفرق بينكما .
اللؤلؤة السابعة
حتى لا أكره أخي !!!
قالت وبكل حرقة وألم .. ( أحب أخي ولكن تفضيل والدي له يجعلني أكرهه ).
( واقع محزن ) محبة العائلة للابن دون البنت في تفضيله والسماع لحديثه وتلبية طلبه أكثر منها في ظل مشاعر قاتلة طفت على سطح العائلة وحقها الاختفاء ، ما لها الفتاة وهي مكسورة الجناح لأن تحمل مشاعر حاقدة تعبر عنها بالكره والقلق . يشارك ذلك تسلط الأخ على أخواته بهذا التفضيل فيسأل عن الخصوصيات بطريقة خاطئة وحينئذ لا يطاق يفرض نفسه وسيطرته بالأوامر والصراخ والمنع من أقل الحقوق .
أختي الكريمة …
سامحي وانسي هذه العادات ، فكثير هن الفتيات اللاتي مررنا بتجارب قاسية من هذا التفضيل انتهت بلا شيء ولم تنقطع العلاقات الأخوية .
اللؤلؤة المكنونة …
تعرف كيف تتعامل مع هذا التفضيل فتوقفه متى رأت أنه زاد عن حده في نفسها الزاكية فتتجاهل ذلك وتعطي أخاها الحب والتقدير وتتلمس دورها القادم في مملكتها الغالية مع أولادها فلا تكرر الخطأ بعد أن ذاقت مرارته .
اللؤلؤة المكنونة …
هي الحكيمة تتعامل مع أخيها بمهارة فائقة ، وابتسامة جميلة ووجه مشرق طبق ، وقلب كبير ، وعاطفة دافئة ، وتفهم عميق ، وتقدير وافر ، وحب صادق ، وإيثار حقيقي لأخيها رمز حياتها ومنبر عزها مع إيمانها ( بأن الفتاة ) محبوبة ومقدرة شرعاً فهؤلاء الأنبياء آباء لبنات وخير مثال يسطر ويكتب معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لبناته اللاتي كن نجوماً ساطعة في حياة الفتاة …
اللؤلؤة الثامنة
من أي الأقسام أنت ؟
الفتاة والصلاة أقسام …
* مهملة وتاركة لها بالكلية … فهذه أخلت بركن من أركان الإسلام قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) .
* تصلي أحياناً … الواجب المواظبة عليها في أوقاتها قال تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء:103) .
* تؤخر حتى خروج الوقت … لنوم أو تهاون وهذا حرام لقوله تعالى : ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ) (مريم:59)
قال ابن مسعود : ( لم يتركوها بالكلية بل يؤخروها عن وقتها ) .
* تجمعها لغير حاجة … وهذا ملاحظ عند بعض الفتيات وهذا أمر لا يجوز إلا لعذر .
* محافظة عليها … مع أول دخول الوقت فهذه الملتزمة المستقيمة .
… ففي أي قسم تضعين نفسك ؟؟؟
اللؤلؤة المكنونة …
بالصلاة ينبض قلبها فلا يفتر لسانها عن ذكرها إلا حال عذرها سرى حب الصلاة في دمها إذا سمعت المؤذن طارت إليها أشواقها وإذا انشغلت عنها فلا تملك إلا دموعها ترسلها ساخنة من عقوبة تأخيرها .
فهي في هذه الحياة لله وبالله وإلى الله وعلى الله ولا حول لها ولا قوة إلا بالله كانت الصلاة الصلة بينها وبين ربها .
الصلاة إذا تم فعلها على الوجه الشرعي بأركانها وواجباتها وسننها ، وأتم ذلك بخشوع وتدبر فهي إذن منورة للقلب ، مبيضة للوجه ، منشطة للجوارح ، جالبة للرزق ، رافعة للظلم ، قامعة للشهوة ، حافظة للنعمة ، منزلة للرحمة ، كاشفة للغمة ، تكفر السيئة ، تزيد الحسنة ، ترفع الدرجة ، تدفع الفتنة ، تعين على البر والتقوى ، تعالج النفس من الحسد والهلع … وأعظم من ذلك استجابة لأمر الله ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم في مرض موته حين قال : ( الصلاة … الصلاة … ) .
اللؤلؤة التاسعة
( صديقتك )
من تجالسين ؟ أخبرك من أنت ؟ حقيقة جميلة أجمل منها تطبيقها فالفتاة في هذا السن تحدد الصديقة والصاحبة سواء كانت صالحة أم سيئة ونحن بين مثالين :
صديقتك السيئة :
التي تستفيد منك ولا تستفيدين منها ، ولا تحب إلا نفسها فهي أنانية في تصرفها ، فاقدة الاتزان في سلوكها ، ضعيفة في تفكيرها ، معجبة برأيها ، سيء خلقها ، ردئية معاملتها ، بذىء لسانها ، شؤم على نفسها ، نكبة على مجتمعها ، بلية على أمتها ، تخدش الكرامة أفعالها ، إلى هاوية تجر من حولها … أما …(/3)
صديقتك الصالحة :
فهي فخورة بدينها ، مغتبطة بإيمانها ، تؤدي فرائضها وتصوم شهرها ، مهذبة أخلاقها ، لين جانبها ، رحيب صدرها ، كريمة نفسها ، طيب قلبها ، لا تقلد الكافرة بل تبغضها ، فريدة في تواضعها ، تحب الخير لأخواتها ومن حولها .
( رزان ) .
فتاة في الثانوية – قمة التحصيل والاجتهاد – أحبها المعلمات والزميلات تعرفت على صديقة سيئة فرضت بينها لقاءات متعددة كان الهاتف أقواها كانت النتيجة هدية مغلفة مسمومة إنه ( فيلم ) دمر حياتها وشوش عقلها وأنهك جسدها قد بدت يديها المتعرقة المرتعشة من أسئلتها الحزينة . قد علا الشحوب على وجهها والهالات الصوداء تفتك بأجفانها فلا تكاد ترى إلا …
( ريحانة ذابلة )
( رزان ) ..
بدأت هناك بالصديقة والطعم الهدية وانتهت الصداقة بالندم والحزن الطويلة .
قال تعالى : ( يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً . لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً) (الفرقان: 28- 29) .
اللؤلؤة العاشرة
يريدك المجتمع طبيبة ولكن ؟!
يسعدنا وبكل سرور اليوم الذي تزاول فيه الفتاة ( معنة الطب ) بكل حب ووفاء تخفف الآهات والأنات عن كل مريض يعاني ويتألم تحمل هم إزالة الحزن والكآبة وهي واسعة الصدر ، ماجدة الخلق ، سالمة النية وفي الأثر … ( أن عائشة كانت عالمة بالطب ) 2/8 سير أعلام النبلاء .
أختي الطبيبة …
دعينا نتشارك سوياً في مهنتك الشريفة من أنت ؟ وماذا يريد منك المجتمع ؟ وما لا يريد ؟
بداية .. لا نريدك طبيبة تحمل نفساً مريضة تهدر كرامتها في طرقات المستشفى وممراته ، قد ألفت مخاطبة الرجال والاحتكاك بهم ، بحجاب مهذب ، وضحكات تدوي ، وزينة واضحة ، ونقاب فاضح ، ويدين مكشوفتين ، ربما أمضت وقتاً ليس بالقصير مع ( مريض ) أو ( طبيب ) بخلوة محرمة تحت مهنة – طبيبة أسنان – أو ممرضة وكأنه لم يوجد إلا هي لهذا العمل …
تأملي … هذه الطبيبة المبتذلة التي تمارس هذه التصرفات الخاطئة التي لم تفعلها لكونها ( طبيبة ) كلا بل هو أمر ترتب عليه فلا مجال لربط التحلل الأخلاقي والديني بعمل الطب …
نريدك ( الطبيبة ) الملتزمة بأخلاقها وحجابها حين تشعر بأن عملها وجمالها برئ لم يؤذ أحداً ، ولم يسبب حسرة ولا شهوة ، فلم تلتهم لحمها الأنظار ، ولم تلك عرضها الأفواه تعالج المواقف الجارجة في المستشفى بحكمة بالغة قد لبت حاجة مجتمعها لمهنة الطب بطاقم نسائي متكامل يغني عن دخول الرجل في تمريض النساء .
أختي الطبيبة :
لو دعيت للحضور إلى المستشفى على وجه السرعة أو كلفت بمناوبة مسائية فما أنت فاعلة ؟ أتذهبين ؟ أم تفضلين العيش بلا زواج ؟ وإلى متى ؟ نحن لا نريدك طبيبة على حساب نفسك وأسرتك كما لا نريد حرمان مجتمعنا من هذه المهنة الشريفة .
هل تفهم الزوج أو الوالد أو الأخ مشكلة حرمان الأبناء من الأم الطبيبة ؟!
انتصاف العقد
حركة تحرير المرأة
حركة تحرير المرأة حركة علمانية نشأت في أوربا ثم تم تصديرها للعالم الإسلامي عن طريق تركيا ومصر ، ثم انتشرت في أرجاء البلاد العربية والإسلامية تهدف لقطع صلة المرأة بالآداب الإسلامية ، والحكام الشرعية الخاصة بها كالحجاب والطلاق والتعدد والميراث لتواكب المرأة الغربية في كل شيء ، فألف كتاب ( المرأة في الشرق ) و ( تحرير المرأة ) و ( والمرأة الجديدة ) دعوة للسفور والتبرج ونبذ الدين … ومع هذا التخطيط المنظم عاد الكثير من النساء في العالم العربي والإسلامي إلى التمسك بشرع الله بعد أن اعتررن مدة من الزمن بسراب هذه الحركة وزيفها . فهل تقد … ( اللؤلؤة المكنونة ) .. ما يراد بها من الأعداء الذين يريدون ابتذالها .. ونزع حيائها .. وتهييجها .. على شرع الله بواسطة وسائلهم المرئية والمسموعة والمقروءة من خلال الجمعيات والاتحادات النسائية الداعية لإخراج ( اللؤلؤة ) من محارتها صمام أمانها .
اللؤلؤة الحادية عشر
الإعجاب !!!
المحبة …
اسم مميز في عالم الفتيات سببها رقة المعاملة وغزارة العاطفة .
فالفتاة …
في الابتدائي المتفوقة # وفي المتوسطة المثالية # وفي الثانوية المجدة أو المشاغبة # وفي الجامعة المعجبة المحبة . ما لنا نراها حزينة داهمتها الحياة بهمومها ؟ قد بخلت بالبسمة عن نفسها فضلاً عن غيرها . لحب زائف مؤقت ( الحب ) ما أقدسها كلمة ، وما أعذبها نغماً ، وما أروعها عالماً ترتع في أرجائه قلوب المحبين . إنه شعور فياض من فتاة لأخرى تعلقت بها فأنست لسماع صوتها والجلوس إليها وإن طال الوقت ، تفرح لحضورها ، وتحزن لغيابها فتغار عليها من كل شيء حتى من نفسها فلها تقدم الهدية وتكتب الرسالة وتنظم القصيدة . وترسلها عبر الوسيطة التي ربما سببت الندم فيما بعد فالإعجاب بزميلة أو معلمة لا يعني المطاردة لها والتصفات الخاطئة ولو كانت غير مقصودة لأجلها .
الإعجاب …(/4)
هو تعبير عن حقيقة شخصية الفتاة واهتمامها فهي تبحث عمن يجانسها ويشاركها ربما كانت ملاحة الظاهر وخفة الدم وحسن المعاملة وغزارة العاطفة والفراغ سبب مباشر لذلك …
( فالأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ) قال ابن القيم : ( وكل حركة في العالم العلوي والسفلي فأصلها المحبة ) فالحب نبع لا يجف مدى الحياة يزيد صفاء وعذوبة ما كان لله وفي الله أما الحزن بفراق الحبيب من البشر فهو الفتنة والعشق الذي قال عنه ابن القيم ( هذا داء أعيى الأطباء دواؤه وعز عليهم شفاؤه وهو الداء العضال والسم القتال ) .
قال تعالى : ( وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) (الحديد:14) .
إذن بمعاهدة النفس والانشغال بطاعة الله ستتلاشى المحبة فهي عرضية ومؤقتة فرابطة الحب تبقى فترة وستنتهي عاجلاً أم آجلاً .
ويبقى الحب الحقيقي في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ) (البقرة:165) .
اللؤلؤة الثانية عشرة
تقول عيناك !!!
بكلمتين ضاعت الفتاة … بخطوتين أسودت الحياة
فتاة في ريعان شبابها … تعيش مع أهلها في بيت أبيها … تخرج للسوق وحدها .. وتدخل على الباعة بمفردها .. بإهمال من أسرتها فمع التردد عل السوق نشأت بينها وبين أحد الباعة علاقة وصداقة فأخذت رقم هاتفه ولم تلبث حتى قويت الصداقة وصارا ينتظران الفرصة المناسبة ، لتتغيب الأسرة في زيارة الأقارب وتتخلف الفتاة لوحدها لتتصل على وجه السرعة بصديقها ليأتي فتقع الجريمة .
وفجأة : تحمل الفتاة سفاحاً فتخفيه عن أهلها بطرق وأساليب شيطانية ليتفقا على إجهاضه وقتله فتخرجا تحت جناح الظلام لتضعه في العراء ويقوم المجرم بقتله لتختلط دماؤه بدماء أمه من جراء إجهاضه ويكشف الله الجريمة على يد رجال الأمن ليخرج الصباح وتبزغ الشمس وتستيقظ الأسرة على مصيبة تحتار لها العقول ، وتشيب لهولها الرؤوس ، وتنوء بحملها الجبال الراسيات .
أختي الكريمة : تأملي عينيك في هذه القصة من نظرات خمس …
النظرة الأولى : النظرة الحانية : إلى الأم الحنون وهي تبحث عن بنتها في كل ناحية من بيتها فلا تجدها لتبحث الأسرة كلها في كل مكان لتجدها لدى رجال الأمن غارقة في ذل عارها .
النظرة الثانية : النظرة الشاردة : لهول الحادثة ونهايتها فبأي وجه تقابل الفتاة أسرتها وبأي عذر تتوجه به إلى أبيها وهو مطأطئ الرأس، مسود الوجه ، يتمنى الموت فلا يجده وقد ذبحته بغير سكين.
النظرة الثالثة : النظرة الحادة : في بشاعة الجريمة ليقدما إلى المحاكمة فيقتل المجرم وتسجن الفتاة إلى حين فما حصل منهما يستحقان عليه العقاب كيف لا !! والمجتمع كله يمقت جرمهما .
النظرة الرابعة : النظرة الصادقة : لكونها بكراً لم تتزوج فيا لهول الصدمة ويا لعظم المصيبة ماذا فعلت بها الطرق المحرمة والسبل الممنوعة ؟! .
النظرة الخامسة : النظرة التائبة : في غلق أبواب الشر عنك لتحفظي شرفك وشرف أهلك فكم من فتاة تورطت فسلبت منها عفتها وأهدرت كرامتها ! .
فالذنوب جراحات ورب جرح أصاب مقتل والسعيدة من وعظت بغيرها والشقية من وعظت بنفسها . قال تعالى : ( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور:31) .
وقال تعالى: ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63) .
اللؤلؤة الثالثة عشرة
هكذا يصنع الفراغ !!!
أخي المباركة … ما أمانيك ؟ ما أهدافك ؟ ما مشاعرك ؟ ما غاياتك ؟ ما طموحاتك ؟ ما آمانيك ؟ هل لك هدف في حياتك ؟ لترفعي بنفسك وتسمي بأخلاقك وتزهي بإيمانك وتشرفي بعفافك أم أنت من اللاتي لا هدف لهن إلا قتل الوقت ؟! .
( الفراغ ) … هو الداء القتال للفكر والعقل . فكم من الطاقات يهدرها ومن الأفكار يبلدها .
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ … ) كم من فتاة طيبة انقلبت سيئة كان السبب في ذلك الفراغ الذي حرك الشهوات من مكانها ودفع الخطرات إلى خطوات وعمل فظلت الفتاة أسيرة في يد عدوها يسوقها إلى الهزيمة والخسارة كيفما شاء .
أختي قارئة أوراقي : إلى متى الفتاة ، الشهوة تسوقها ، والشيطان يقودها ، والأغنية تنسيها والصورة تؤجج شهوتها ، وتشغل غرائزها ، قد قبلت لنفسها الأبية أن تفكر في تفاصيل …
فيلم خليع رقيع لا يليق … أخذ من وقتها وتفكيرها الأمر الكثير سهل ذلك عنفوان الشباب وقوة الحيوية .
اللؤلؤة المكنونة :
مثال واضح لملء الفراغ ( بالخير ) من دعوة وعمل صالح يقربها من الله ، فشتان بين فتاتين :
فتاة قدوتها الصحابيات
و فتاة قدوتها الأوربيات
فتاة حجابها ستر وحشمة
و فتاة حجابها زينة وقنة
فتاة تبكي لأحوال المسلمات
و فتاة تبكي لأن بطل الفيلم مات
فتاة توزع المطويات النافعة في تسوقها
و فتاة توزع على الشباب رقم هاتفها
فتاة تقتني الكتاب والأشرطة النافعة(/5)
و فتاة تقتني الفيلم والمجلات الخالعة
فتاة تحيي الليل بالصلوات
و فتاة تحيي الليل بالمعاكسات
قال تعالى : ( فَأَمَّا مَنْ طَغَى. وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى . وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات:37-41) .
اللؤلؤة الرابعة عشر
حجابك !
عفواً .. ( جروح في جبين الحجاب الإسلامي ) متى ؟ وكيف كان ذلك ؟ حصل ذلك يوم أن …
• تهاونت الفتاة وحملت عباءتها على ساعديها أو كتفها لأنها تعيق الحركة .
• يوم أن لبست الفتاة غطاء شفافاً أو نقاباً لعدم رؤية الطريق .
• يوم أن ارتدت الفتاة آخر موديلات العباءة لجمال المنظر وأصول الشياكة.
• يوم أن وضعت الفتاة التنور الضيقة بفتحة على أحد الجانبين يتصيد عورتها شباب فارغون .
• يوم أن طرزت عباءتها القصيرة بخيوط سوداء في أطرافها تحمل أول حرف من اسمها ( M ) وباللغة الإنجليزية بلون ذهبي حباً في كل جديد .
• يوم أن تفننت الفتاة في نقابها على أشكال مختلفة .
• يوم أن شاركت الفتاة في لبس ( التريكو ) تقليداً للفضائيات .
• يوم أن قلدت الفتاة بلبس ( البنطلون ) و ( الجينز ) و ( الاسترتش )و ( الميني جيب والميكروجيب ) قد حدد جسمها جهلاً بالحلال والحرام .
• يوم أن خرجت الفتاة بثوب قصير أظهر قدميها على كعب له صوت مسموع تساير رفقتها السيئة .
• يوم أن ألحت الفتاة في لبس ( الكاب ) بحجة رقة العباءة وشفافيتها .
• يوم أن أظهرت الفتاة يديها دون لبس القفازين فتنة للباعة وهي الخاسرة .
أختي المباركة … جروح في جبين الحجاب تحاكي رجلاً نزع أسفل حذائه واكتفى بأعلاه كيف يتقي الأشواك والأوساخ ؟
جروح ربما حققت الهدف الغربي في مخططاته ومؤمراته لتخرج الفتاة المسلمة .. سافرة الوجه .. ناشرة الشعر .. كاشفة الساق .. متمايلة المشية .. متزنة متعطرة .. تلفت الأنظار وتثير الفتنة قد استجابت وبكل سهولة لتقسيط الحجاب لتعيش التبذل الممقوت وتصيد الأعين الخائنة ..
قارئتي الكريمة .. كم هو جميل .. هذه المستقيمة وقد أحسنت لبس حجابها أن يكون فضفاضاً قد زينته بلبس الجوارب والقفازين فأكن لها الجميع الاحترام والتقدير والإكبار والإجلال . قد صمدت أمام الهجمات الشرسة لنزع الحجاب كالطود الشامخ تحفظ كيان المجتمع من الإنهيار والإنحراف لا تقبل النقاش أو المساومة على ( الحجاب ) فخر الفتاة وعنوان الطهر والنقاء .
تأملي يا رعاك الله … مثالين ثم احكمي:
( فتاة ) تخرج للسوق واضعة عباءتها على كتفها قد لفت طرحتها المطرزة على رأسها ، قد شكتها بالدبابيس فبدا شكل جسمها بنقاب تعلوه نظارة ذات لون زاهي وغطار فريد تفاخر من حولها في أجمل موديل تقع فريسة سهلة ( لشاب ماكر ) ألح عليها أن يراها بعد مقدمات وهدايا ، فكان ذلك ليذبحها في عفتها بسكين الغدر والخيانة لتعيش ذات الثمانية عشر ربيعاً ذل الحياة بسبب حجاب الموديل .
( فتاة ) تدعوها صديقتها إلى حجاب الموضة ، فتمانع وتعارض بشدة فتصفها بالرجعية فلا تبالي فيكون الحوار بينها وصديقتها لماذا ؟ ولأي شيء ؟ وما السبب ؟ وما الدافع . تساؤلات تدور في ذهن صديقتها . فأجابتها اللؤلؤة المكنونة : في البخاري أن ابن عباس قال لعطاء بن أبي رباح : ( ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ فقلت بلى ، قال : هذه المرأة السوداء . أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أصرع ، وإني أتكشف ، فادع الله تعالى لي . قال : ( إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك ) . فقالت : بل أصبر فادع الله لي أن لا أتكشف فدعا لها .
قالت الملتزمة لصديقتها … هذه امرأة سوداء لكن بيضاء المبدأ ، بيضاء القلب تثبر على المرض وإن كان صرعاً يتخبطها لكنها لا تستطيع الصبر على خدش الحياء وجرح العفاف وإن كان ذلك خارج عن إرادتها وهو التكشف .
سوداء … تستحق وبكل جدارة أن تكون من أهل الجنة – مثالان – كان الحجاب الإسلامي على نفوس الصالحات أبرد من الثلج وألذ من العسل فالحجاب كالصدفة لا يحجب اللؤلؤة المكنونة فوراء الحجاب السمو والاستقرار .
اللؤلؤة المكنونة : بحجابها صفعت دعاة التحرر ، بتمسكها والتزامها قد عضت على حيائها وعفافها بالنواجذ فهي القلعة الشامخة أمام طوفان التبرج وبهرجته .
بيد العفاف أصون عز حجابي
وبعصمتي أعلو على أترابي ..
اللؤلؤة الخامسة عشر
زينتك !!
أختي الفاضلة … تأملي … الفتاة حين تجلس مجلساً أو تحضر مناسبة كم تحمل نفساً لها حساسية شفافة ترى النظرات ترمقها عن قرب وبعد فترصد أعين بنات جنسها ما يقولون في ملابسها وزينتها استجابة لدعوة : ( كن جميلاً ترى الوجود جميلاً ) والمقولة الشائعة ( كل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس ) ولهذا نؤمن بحاجة الفتاة للزينة منذ صغرها فهو إرضاء لأنوثتها الذي تراه أفخر الزياء وأحدثها .(/6)
( نحن قوم لا نخطئ أبداً ) شعار نرفعه بل نغلفه بتمويهات وتصرفات وادعاءات لا حقيقة لها … لماذا السكوت على مشاهد خاطئة في زينة الفتاة سهل حبها للتجمل التمادي في انتشارها .
( أصول الإتيكيت ) جمال زائف يفرض حياة قسرية وأثماناً باهظة دعت الفتاة لأن تخرج بعيون كحلية وخدود وردية وشفاه ياقوتية وثغور لؤلؤية ولباس قشيب قد ذبحت حياءها وأنوثتها .
قارئة أوراقي … ( أصول الإتيكيت ) فقاعات كاذبة وشرارات نارية تحرق مشاعر الفتاة وفطرتها وتعاليمها المضيئة . قد خسرت أكبر بند في فاتورة جمالها الحقيقي . ولن ننتظر ذلك اليوم الذي تصفعنا به الفتاة بأسئلة حزينة من جراء السكوت على الأخطاء .
نعم .. ( لم تخلق الفتاة على هامش الحياة ولكن كذلك لم تخلق لمخاطبة الرجال والعمل معهم بأجمل زينة .
( فابيان ) .. عارضة الأزياء الفرنسية الشابة البالغة من العمر ثمانية وعشرين سنة بعد إسلامها وفرارها من جحيم عالم الأزياء والفراء ودنيا الموضات قالت : إن بيوت الأزياء جعلت مني مجرد ( صنم متحرك ) مهمته العبث بالقلوب والعقول ، عشت أتجول في العالم عارضة لأحدث خطوط الموضة لم أشعر بجنال الأزياء لامتهان النظرات لي واحترامها لما أرتديه كم كنت سافلة محرومة .
تأملي أختي الكريمة .. حديثها واعترافها وهي من هي في عالم الأزياء والموضات ما همومها ؟ وفيم أحزانها ؟ ودموعها الغالية من أجل ماذا ذرفتها ؟ أسلمت فكانت ذات أجنحة حلقت بها إلى أجواء السعادة والحياة الهنيئة . بعد أن عاشت حبيسة الهموم والغموم .
بعد هذا .. حال الفتاة في زينتها عند الأجانب عبر الأسواق والمنتزهات يجعل أثر الدمع على ورقي ظاهراً أبكانا وكسر قلوبنا مشاهد مخيفة لم تبق جارحة إلا وعبرت عن حزنها كان اعتراف ( فابيان ) أحدها . كيف لا .. والمثل الأعلى للفتاة عبر المجلات والفضائيات هن ما بين الأعمدة المخصصة والمقابلات المطولة اللاتي بعن أعراضهن بثمن بخس ويصفونهن ( بالنجوم ) قد حملن دعايات مجانية لبيوت الأزياء العالمية وكتالوجاتها تحت اسم الأناقة والشياكة .
إليك يا رعاك الله … نماذج عجلى لتمادي الفتاة في زينتها حتى خرج عن المطلب الشرعي :
* العطورات : الخطوة على طريق الأناقة وجمال الأنوثة والخيال نتيجة تأجيج الشهوة وبث الفتنة عند الأجانب .
* الكوافيرات : حماقة أعيت من يداويها .
* المكياجات : دعوة لقتل أشد المناطق رقة وحساسية في عالم جمال الفتاة .
* المسكرة : للعين ورموشها تلهث خلف الموضة . للشعر ربما سببت المسخرة !!
* أحمر الشفاه : الروج .. زينة لكن في نظاق التجمل المشروع .
* تخفيف الوزن : ظاهرة أوجدتها الحياة الزائفة .
* الكريمات : لحفظ البشرة وترطيبها وتغذيتها وتبيضها يكون ظاهراً لكن ما حال البشرة باطناً .
* حجاب الموضة والنقاب الواسع : أصبح أحد أنواع الزينة فهو حجاب يحتاج إلى حجاب .
* الباروكة : وصل للشعر نُهي عنه وتقليد للكفار .
* العدسات الملونة : عين خائنة تدعو عيناً مسعورة لخطفها .
* ارتياد مشاغل الخياطة : ضرورة لها ضوابط شرعية .
* إظهار الحلي : أمام الباعة ما الغاية منه بلغة العقل والحوار الهادئ ؟! .
* تكحيل العينين وإظهارهما مع جزء من الخدين : تعني نفساً ناقصة تعوضه بجمال رائع فاتن لكن في الحقيقة زائف .
* المناكير : طوفان جارف إلى الموضة والتقليد الزائف ، الأولى تركه ويجب إزالته عند الوضوء .
* إطالة الأظافر : ظاهرة مؤسفة شغلت الكثيرات كم يدعو شكلها إلى التقزز والاستهجان .
* قص الشعر : علامة استفهام ؟؟؟ إذا كان للتخفيف والتجمل على طريقة حسنة ( فالجواز ) وإذا كان قص السعر تقليد للكافرات فحكمه ( التحريم ) .
* لبس الكعب : موضة مميزة في عالم الفتاة أقل أحواله الكراهة .
* لبس الثوب الأبيض : إن كان في بلد من سيما الرجال وشعارهم فهو محرم.
* استخدام الجوال : ضرورة تقدر بقدرها .
لعن الله جلّ وعلا .. ( سبعاً ) في الزينة :
1) الواشمة : وهي من تغرز الإبر في الجلد وتنثر ما يشبه النيل أو الكحل ليميل لونه إلى الزرقة .
2) المستوشمة : وهي الطالبة لما سبق من الوشم للعينين والشفاة واليد الواحدة .
3) النامصة : وهي وهي التي تفعل النمص وهو إزالة شعر الوجه والحاجبين لغيرها ترقيقاً أو كلياً .
4) المتنمصة : وهي من تنتف الشعر في وجهها بنفسها أو تطلب من غيرها أن تفعل لها ذلك . ( لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن ، المغيرات خلق الله ) متفق عليه .
5) المتفلجة : وهي التي تباعد بين أسنانها ليجملها .
6) الواصلة : وهي التي تصل شعر رأسها بشعر آخر مستعار .
7) المستوصلة : وهي من تطلب ما سبق من الوصل . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله الواصلة والمستوصلة ) متفق عليه .(/7)
فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا .. ) رواه مسلم .
وبعد هذه المشاهد .. أختي الكريمة .. بما تتفاخرين عن بقية بنات جنسك ؟ بجمالك ؟!! فهناك أجمل … بمالك ؟!! فهناك أغنى .. بحسبك ؟!! فهناك أشرف .
إذن بماذا .. باستقامتك وطهرك وكرامتك وعفافك في زمان فقده نساء الغرب والشرق ، وكم يسعى دعاة التبرج إلى ما يثير مشاعرك ويشغل فكرك بشراك خبيثة ومصائد مسومة تفتك بعفتك وتخدش حياءك وتدنس عرضك .
يا رعاك الله .. حاولي تقريب الخطوط الطبيعية لوجهك ليتلاءم مع مظهر جمالك وأنوثتك في ظل إيمانك وسمو أدبك وأخلاقك ..
فلا يعجبنا منظر الفتاة بعد إزالة المساحيق قد بدا وجهها كوجه مريض شاحب مشوب بالحمرة والإرهاق .
اللؤلؤة المكنونة :
قوية بإسلامها ، أميرة على زينتها ، تختار ما أجازه الشرع لم يقف الالتزام مانعاً أمام الأناقة والشياكة والتناسق في ظل مملكة تتقلب في أرجائها تحت المحارم ، تعيش جمالها وأدبها ووقارها في ظلها فلا تقبل أن تكون عارضة الفتن للأعين الخائنة كالطعام المكشوف يتهاوى عليه ذباب البشر في الأسواق والمنتزهات . فهي تملك قلباً يخفق رقابة الله والخوف منه فأصبحت لمجتمعها قرة العين وبلسم الروح تراها .. في أي مناسبة أو مجلس نسائي أو عائلي في أجمل زينة قد التزمت بالأوامر وتركت النواهي فما أن تخرج من مجلسها أو مناسبتها إلا والحجاب قد غطى زينتها وجمالها كالصدفة لا يحجب اللؤلؤة بل يحميها .
اللؤلؤة المكنونة :
تحب أن تكون حياتها جميلة قد مزجت بين المعرفة والثقة والموضوعية في زينتها وتجملها ؛ فما أجمل لغاتها الراقية وتفاهمها الأكيد حين تتحدث وتتعامل مع الزينة والتجمل حديث وتعامل يجعل نفسها نفساً عالية رائعة قد افتقرت إلى الشرف أشد افتقار منها إلى الحياة …
اللؤلؤة السادسة عشر
سماعة الهاتف
رن الهاتف للمرة الأولى .. رفعت الفتاة السماعة بيد مرتعشة وجبين متعرق وقلب خافق خائف إنه صوت رجل غريب يحاورها بكلام جميل تحت أماني وردية ووعود نرجسية أضفت علاقة حميمة بينهما قد استولى كذبه على عقلها وقلبها . أغلق وأغلقت السماعة بعد أن تم التعارف لتعيش غارقة في أحلام اليقظة .
رن الهاتف مرات عديدة تجرأت من خلالها أن تحادثه وحين سمع صوتها وأنها المتصلة أيقن أنها وقعت في الفخ فطالبها بالرؤية فردت وبكت براءة .. كيف ؟ وأخاف ؟ ويمكن ؟ وأهلي إجابات ساذجة وكأنه الأمل الوحيد في حياتها ، أغلقت السماعة وهي في غاية الارتباك لهذا الطلب هل تحققه أم تمانع وما زال صوته يدوي في آذانها بوعده إنه لقاء رؤية وفقط . فكرت كثيراً .. واستشارات صديقتها السيئة كان نتاجها التنازل له بصورة مع رسالة جميلة وصلت إليه فبادر بالاتصال شاكراً هديتها ..
رن الهاتف فدق قلبها لرنينه .. من ؟ فتى أحلامها قد تغير صوته ونبرة حديثه معها .. يهددها بأن تخرج معه إلا فالفضيحة بهذه الصورة … آهات من صدرها كيف أعطته الطعم الذي اصطادها به طالبها بالخروج تحت ضغط فوافقت المسكينة فقتل عفتها ودنس عرضها ولطخ سمعتها ووقارها وبعد ذلك أعادها إلى منزلها لا تصدق ما حصل !!!! .
رفعت سماعة الهاتف لتكلمه فيما حصل فأخذ يتململ من حديثها نظر باعتبارها وردة شم عبيرها وتركها ذابلة حين أشهر خنجر الذل والعار وغرسه في قلبها ومشاعرها ، طال الحديث معه بعبارات حزينة تذكره بوعوده الهاتفية وأنه فتى أحلامها وهي شريكة حياته وأم أولاده القادمة فأجابها ضاحكاً .. من تكلمني تكلم غيري وتخرج معه ومن العار الاقتران بك عبر هذا الوسيلة وبعد ان حصل ما حصل .. أغلق السماعة وللأبد – تركها .. بعد أن أخذ أعز ما تملك باكية حسيرة يضحك منها بعد أن ضحك عليها قد ندمت أشد الندم يوم أن كلمته وسمعت منه وتمنت أنها لم ترفع يدها سماعة الهاتف ليبقى العار تحمله وحدها بعد أن اشتركا في لذة الثواني لينسى هو وتظل هي تتجرع ألم اللذة المحرمة فخطوة الألف ميل تبدا بخطوة واحدة وبعدها خطوات وخطوات يصعب التراجع عنها .
اللؤلؤة المكنونة :
تعرف ما وراء سماعة الهاتف وراءها دعوة للخيانة والسقوط في المستنقعات الوبيئة ، تعرف أنه يمدح جمالها فإذا نال منها قال : ( عاهرة ) يصفها بملكة الجمال فغذا حال الحول قال : ( قبيحة ) كم من فتاة عبر سماعة الهاتف بقيت حبيسة الدار حاملة العار لا تقبل خاطباً .
سماعة الهاتف : تحمل قائمة من الخسائر في ظل الندم والدموع والضياع لأجل شاب تتسلى معه كان الثمن شرفها فسماعة الهاتف بداية عابثة ونهاية مؤلمة .
قال تعالى :(/8)
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (النور:21)
اللؤلؤة السابعة عشر
ارتياد المطاعم
أختي الكريمة .. لماذا ارتياد المطاعم ؟ علامة استفهام نقتطع بها الإجابة نعبئ مساحات الورق بما هو جميل وعميق .. تأملي حال الفتيات في هذه المطاعم من ارتفاع أصواتهن بالضحك والحديث الذي ربما سبب التكشف للعمال والخدم وحينها تعود ( دوامة الأسئلة التحذيرية ) عن حجابهن وزينتهن .. كيف ؟ ومن المستفيد من خروج الفتاة مع صديقاتها ؟ وإلى أين ؟ ومتى العودة ؟ وهل ستتأخر ؟ والمصيبة إن خرجت مع من يقتل عفتها باسم ( الحب والتعرف عن قرب ) ..
ارتياد المطاعم عادة أخذت من الكفار لها ضوابط شرعية متى توفرت كان جائزاً وقد كرهت عائشة رضي الله عنها للفتاة الخروج للمساجد وفي الحديث ( وبيوتهن خير لهن ) بل حتى الصلاة في بيتها أفضل من المسجد ... لمه ؟ حماية لها من التبذل والفتنة والمتأمل لعذر من ترتاد المطاعم ... هو الملل والسآمة والفراغ القتل ... فإلى من احتجت بذلك هذا المثال :
حفصة بين سيرين الفقيهة الأنصارية – العالمة العابدة . حفظت القرآن الكريم وهي بنت 12 سنة وعاشت 70 سنة . قال مهدي بن ميمون : ( مكثت في بيتها 30 سنة لا تخرج إلا لحاجة . قد وجدت سعادة قلبها وقرة عينها .. وطمأنينة فؤادها في بيتها المتواضع فلا يتسرب إليها الملل أو تطرقها السآمة وغيرها كثير من فتياتنا المسلمات . اللألئ المكنونة .
أختاه .. كم مرة تخرجين من بيتك شهرياً أو سنوياً ؟ عفواً ( يومياً ) وإلى أين ؟ إلى التسوق مرة وللزيارة والتنزه ثانية وثالثة ومرات بعد مرات بدون مناسبة فهل هذا يليق ؟
من فضلك ...
ارتياد المطاعم هوس في السعر والتكاليف فكم الأثمان الباهظة تدفع لأجل وجبة ربما أشبعت أكثر من جائع .
قال تعالى :
( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى)(الأحزاب: 33)
اللؤلؤة الثامنة عشرة
همسة في أذنك
( أروى ) فتاة تخرج للسوق مشمرة عباءتها عن ساعديها من فوق بنطلون يظهر واضحاً عند مشيتها قد لبست على وجهها غطاء شفافاً يفوح العطر ويتحرك معها تدخل أكثر المحلات وتتحدث مع الباعة بصوت متكسر لمناسبة وبدون مناسبة .
أختي الكريمة ...
ما شعورك تجاه هذا المثال الذي يتكرر في أسواقنا ؟! ما رأيك في همسة أهمس بها في أذنك بحوار هادئ منطقي بعيد عن المجاملة قريب من المصارحة نستعرض من خلاله الدرماتيكية في الصة حين يقع الوالد ( أروى ) ذي الخمسين سنة حادث أليم يسبب شللاً رباعياً يقعد لمدة طويلة في المستشفى . ذهبت لزيارة والدها للمرة الأولى والدموع لا تجف عن حذبها ، دخلت عليه فابصرت أباها في حالة سيئة آلمت نفسها ، وحزنت لشكواه ، ودمعت عينها لآهاته وأناته وهو من ( والدها الكريم الحنون وكفى ) قبلت رأسه ودعت له بالصحة والعافية ... وقفت ( أروى ) مع نفسها تفكر في حال إخوانها الصبية الصغار ينتظرون عودة أبيهم ليقضي حوائجهم ، ويخفف لوعتهم ، ويشبع جوعتهم ، قد تعلقت قلوبهم وقلبها به ، فهموم وأحزان ، وذل وخضوع للناس تتذكر زيارة والدها .. فتلمح في الأفق ( المستشفيات ) كم تعج بالمرضى من كل نوع وحالة ..
فكم من شاب وشابة في أعمار الزهور ومقتبل الحياة أصبحوا معاقين مهمومين .
يا من عافاك الله .. وقفت ( أروى ) تقارن بين حياتين ( قبل وبعد ) كم كانت غارقة في الماديات وآخر الموضات .
( حادث والدها ) أعادها إلى أن تعيش الحياة السعيدة في ظل الصلة بالله عز وجل فلا سفور ولا تبرج بعد اليوم بل حجاب وحشمة وإقبال على الله تعالى ..
أختي المتسوقة :
يا من ابتعدت عن طاعة الله عز وجل .. هذه الدنيا كم فيها من عين باكية وقلب حزين ، كم فيها من الضعفاء والمساكين والمعدين قلوبهم تشتغل ودموعهم تسيل فهذه تشكو علة وسقماً وأخرى هماً وقلقاً ..
عزيزة ذلت ، وصحيحة مرضت ، وجميلة مسحورة ، ومحدة معيونة . تلك هي الدنيا .. تضحك وتبكي ، وتجمع وتشتت ، شدة ورخاء وسراء وضراء .
فاحمدي الله على نعمة الصحة والعافية ..
اللؤلؤة المكنونة :
ما أجملها في تسوقها ترتدي عباءتها قد علا محيا وجهها خمارها الساتر ، كانت مع أخواتها المسلمات يداً واحداً يوصي بعضهن بعضاً بالكلمة الصادقة ، والنصيحة المؤثرة ، والشريط المفيد ، والكتيب الهادف ، والهدية المغلقة ..
قال تعالى :
( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )(التوبة: 71) .
اللؤلؤة التاسعة عشر
أسطر متناثرة
السائق ضرورة فرضت نفسها لضعف الرجل في تحمل المسئولية فلا مجال لمعاملة خاصة معه من طول الحديث حيناً والضحك معه أحياناً أخرى .
المجلات الماجنة دعوة للسفور تحت ( الحب العصري ) .(/9)
أشهر من يملك بيوت الأزياء وينتج كتالوجاتها ( اليهود ) .
الاختلاط يهذب الغريزة ويكبح جماح الشهوة هذه دعوى كاذبة والعالم الغربي شرب من الخطيئة بسببها حتى الثمالة .
حجاب المسلمة : يستورد من ( فرنسا ) فمتى عرفت الحجاب وهي منبع الروائح النتنة والخلاعة .
قبل أن تكسبي قلوب الناس اكسبي قلبك أولاً .
لكل فتاة ( هواية ) كالرسم وجمع الطوابع فهنيئاً لمن كانت هوايتها جمع الحسنات والحذر من السيئات .
تأملي تغريد العصافير يبشؤ بعضها بإطلالة الصباح المشرق .. تطير .. وتحط .. وتغرد .. تبتعد .. وتقترب كوني مثلها وابحثي عن مواطن السعادة الحقيقية في طاعة الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .
الخادمة .. قدمت من بلاد بعيدة تاركة زوجها وأبناءها فلذات أكبادها كي تخدمك أنت وأهلك تنظف وتغسل وتطبخ وتتعب فيلوح في ذاكرتها أولادها فتفرح وتحزن وقد تنحدر دموعها شوقاً لهم تمضي قرابة السنتين بعيدة عن أهلها لأجل دارهم معدودة تأخذها نهاية كل شهر فتدفعها لأولادها هناك ليفرحوا مقابل حزنها ويسعدوا مقابل تعبها وينعموا مقابل ألمها ويصحوا مقابل مرضها ويضحكوا مقابل دموعها همسة في أذنك ..
احمدي الله إذا لم تكون مثلها وكوني بها رحيمة وعليها مشفقة وقدمي لها الكتب النافعة لها في دينها .
هل غاية طموحات الفتاة ونهاية اهتماماتها ( الرياضة ) ومتابعة أخبارها بكل حماس وفاعلية !!!
أكبر عيب يوجه للرجل أن يقال له : ( امرأة ) فما بال الفتاة المسترجلة تدعوا الآخرين إلى عيبها .
يمتدح الفتى بالشجاعة والكرم بينما تمتدح الفتاة بالحياء والعفة ..
اللؤلؤة العشرون
النهاية
الدنيا بسماتها الجميلة ، وأرضها الشاسعة ، ضمت الموتى كما حملت الأحياء .
تأملي .. أشجارها كيف تنقص أوراقها خريفاً لتعود ربيعاً تصمد أمام البرد والصيف هذه الشجرة ( أنت ) تمضي عليك الأزمنة والسنوات منذ ولادتك وحتى قراءة هذه الكلمات ..
أما تأملت .. هذه المرأة التي احدودب ظهرها ، وابيض شعرها ، وتثاقلت خطاها ، وخارت قواها .. وسقط حاجباها ، وتناثرت أسنانها تقوم وتقعد وتصلي وتصوم وتأكل وتشرب وتقضي حاجتها ( بصعوبة ) ..
هذه المرأة .. ألم تكن شابة مثلك عاشت حياة الشباب وأنها طويلة قاهرة ولما كبرت سنها وضعت بنيتها وتنوعت أسقامها تبكي على أوراق من حياتها سقطت يزداد بكاؤها أكثر إذا ما داهمها المرض وتكاثرت عليها الأوجاع .
كيف بك .. إذا سقطت آخر ورقة وأنت على فراش الموت معلنة نهايتك وانقضاء أيامك من هذه الدنيا . قد أخذت إلى ( المحمة ) مكان تغسيل الموتى تخلع المغسلة ثوبها أو تقصه لتغسلك بعد أن كنت تغسلين نفسك بنفسك تقبلين يمنة ويسرة وأنت جسد بلا روح فتكفنين وتحملين للصلاة قم إلى القبر أول منازل الآخرة فإما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار .
أختاه ..
أين أهلك ؟ أين صديقك ؟ أين خروجك للأسواق ؟ أين الفاسقين ؟ أين المساحيق ؟ أين السهرات ؟ أين العكوف على الفضائيات ؟ أين المجلات ؟ أين آخر الموضات والموديلات ؟ أين الدنيا بأسرها ؟ أين الدنيا وأهلها ؟
قال تعالى :
( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران:185) .
اكتمال العقد
اللؤلؤة المكنونة :
هنا اكتمل العقد بنا فأشكر لك الدقائق الثمينة من وقتك لقراءة الكتاب وتصفحه – جعل الله ذلك في موازين حسنات الجميع .
أختي العزيزة ..
الفتاة .. قطرة من قطرات دمائنا ، الفتاة .. نبضة من نبضات قلوبنا .. الفتاة صفحة من صفحات حياتنا .. كتب لهن الكتاب وسطرت صفحاتها وأوراقه .. دعينا نتشارك سوياً بفكرة جديدة أو تعقيب أو نقد هادف حول محتويات الكتيب .
حفاظاً على تلك القلوب الجميلة من لألئنا المكنونة ...
المؤلف / عادل العبدالجبار
1422هـ(/10)
اللعبة المفترى عليها
إن الحمدَ للهِ، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، ومن سيّئاتِ أَعمالِنا، من يهده اللهُ فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هاديَ له.
وأَشهدُ أن لا إِله إِلا الله، وأَشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسولُه، أَمّا بعد:
كرة القدم، وما أَدراك ما كرةُ القدم ؟ إِنّها الهوسُ المتسلّطُ على عقولِ الأَجيالِ في العصرِ الحديثِ. من أَجلها تقامُ المعاركُ، وتنشبُ الحروبُ، وتموتُ الضحايا، ولأجلِها تُطَلَّقُ الزوجاتُ، وتُقَطَّعُ أَواصرُ القُرباتِ، ويطعنُ الأَخُ بالسكينِ أَخاه... !!
ويومَ تقامَ مباراةٌ بين فريقين لامعين، فكأنَّ الحربَ الضروسَ قد أُعلنت، ورفعت لها الراياتُ، وانبرت لها الإذاعاتُ، وهُيّئت لها الشاشاتُ،وأَعدَّ المشجعونَ لها الأحجارَ، والسكاكين، والطبولَ، والمزاميرَ، والأَناشيدَ الجماعيّةَّ،والهتافاتِ القويّة !
وما أَن تنجليَ المعركةُ الحاميةُ عن هزيمةِ أَحدِ الفريقين، حتّى ينتقلَ ميدانُ المعركةِ من ساحةِ الملعبِ، ليكونَ ميدانُها في البيوتِ، والمدارسِ، والدواوين، ومكاتبِ الموظفين، والمقاهي، وعلى المصاطب والمنتديات، وتسفرُ المعركةُ أخيرًا عن سقوطِ ضحايا من الجانبين.وما أَن تهدأَ حدتُها، وتنجلي غمرتها، حتّى تبدأ َمعركةٌ أُخرى بمباراةٍ ثانية..وهلمّ جرّا. وإِذا رفعت صوت العقل لتناقشَ أَحدَ هؤلاءِ المصابين بالهوسِ الكروي، قال لك بملءِ شدقيه: (إِنّني رياضي) !!
فإن من المصائب التي أصابت أمة الإسلام، مصيبة الافتتان بكرة القدم، أخذوها عن غيرهم، من غير ضوابط، ولا عرض على ميزان الشرع، ولا نظر إلى المصلحة والمفسدة، فتأثروا بها منذ زمن، رُبِّيَ عليها الصغير، وهرم عليها الكبير، ومات من أجلها الكثير، ورُصد لها مليارات الدولارات، ووسائل إعلام، وجامعات وطائرات، ومعسكرات وفضائيات واتحادات، وحافلات وسيارات ومدربين، وغير ذلك من الوسائل. وأصبح هذا قاسما مشتركا بين بعض الدول الإسلامية مع غيرهم، وللأسف فإن المسلمين في أشد الحاجة لتحسين اقتصاد بلدانهم، فضلاً عن جهلهم بدين الله، تجد المسلم يحفظ الأندية واللاعبين ووقت المباريات، ولا يحسن قراءةَ الفاتحةِ، وخير شاهد واقعُ بعضِ المسلمين اليوم.
* أهمية هذه اللعبة
تعتبرُ كرة القدم أوسعَ وأَفضلَ رياضةٍ شعبيّةٍ في العالم، وقد بدأَ انتشارُها بعد الحربِ العالميّة الثانية، ومنذُ ذلك الوقت أَصبحت هذه اللعبةُ ظاهرةً اجتماعيّةً، كما أَصبحَ أَبطالُها من أَلمعِ (نجومِ) !! المجتمع، وأَكثرِهم شهرةً ودخلاً.
وتحظى هذه اللعبةُ في جميع بلاد العالم ـ هذه الأَيام ـ بمزيدٍ من العناية والاهتمام بحيث لا تزاحمها القضايا المصيريّة !! وأَصبحت ـ مع ما في الساحةِ العالميّة من أَحداث جسام ـ قصةَ خداعِ الجماهير خداعًا كاملاً على جميعِ المستويات، فنرى تفاعلَهم مع المبارياتِ على وجهٍ أَشدَّ وأَكثر من تفاعِلهم مع مصير بعضِ الشعوبِ الإسلاميّةِ في سائرِ القارات، ويزيدُ هذا التفاعلَ عنايةُ الجرائدِ والمجلات، وبثُّ المباريات على (الشاشات)، ونشرُ ما يخصُّ (الأَندية) و(الأَبطال) !! من أَخبار وحكايات تجذبِ النَّاسِ.
وساعدَ على ذلك الفراغُ ونسيان الغايةَ التي خُلقوا من أَجلِها، والهدفَ الّذي ينبغي أَن يعملوا لتحقيقه: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}
ومن العجيب أن هذه اللعبةُ لا يمارسها ـ فعليٌّا ـ إِلا القليلون، ولكن الكثيرين يتابعونها على وجهٍ مشين.
* لمحة عن تاريخ كرة القدم
يقالُ إنَّ منشأَ هذه اللعبِةِ هو بلادُ الصين، إِذ أنَّ ثمة رياضةً تشبهُ كرةَ القدمِ تحملُ اسمَ: (تسو ـ تشو) في القرنين الرابعِ والثالثِ قبل الميلاد، وفي إِيطاليا كانوا يلعبونَ كرةَ القدمِ تحت اسمِ (كالسيو) سنة 1410، وكانت أُولى الإشارات الواضحة لممارسةِ هذه اللعبةِ في إِنجلترا على إِثرِ موتِ حارسِ مرمًى مفاجئ بتاريخ 23 شباط 1585.
وفي عام 1863 تأسست في بريطانيا (جمعيّة كرة القدم البريطانيّة) وظلَّ الإنجليزُ زهاءَ 70 عامًا حتّى سنة 1930 سادةَ هذه اللعبةِ، يتغلبونَ على الفرقِ الأَقلّ خبرةً منهم، وبعد ذلك بدأت فرقُ أَميركا اللاتينيّة تظهرُ تفوقَها على الفرق البريطانيّة وغيرها.
واليوم هناكَ أكثرُ من 130 دولة أَعضاء في الاتحادِ العالمي لفرق كرةِ القدم، وتجري في معظمِ المدنِ الأُوروبيّة مراهناتٌ أُسبوعيّة لنتائجِ مبارياتِ فرقِ كرةِ القدمِ باسم (تو تو)، تذهبُ إِيراداتها الضخمةُ لصالحِ المتراهنين الفائزين والمؤسساتِ الرياضيّة.(/1)
وتأسسَ الاتحادُ العالمي لكرةِ القدمِ في باريس 21 أَيَّار 1904، وبرعايته وإِشرافِه أُنشئت في 13يولية 1930 مبارياتُ كأسِ العالمِ لكرةِ القدمِ، وذلك في (مونتفيديو) بالأورجواي، وهنالك بطولاتٌ أُخرى تقامُ مثل بطولةِ (الكأس الأوروبيّة) الّتي تضاهي بطولةَ (كأس العالمِ)، وأُنشئت هذه البطولةُ سنة 1958، وتجري هاتان البطولتان كل أَربعِ سنواتٍ مرّةً.
** مشروعيّة ممارسة (كرة القدم) وفوائدها
هذه كرة القدمِ ــ اللعبة المفترى عليها. وأَمّا الوجهُ الحقيقي لهذه اللعبةِ، فإِنّنا ــ إذا فهمنا مقاصدَ الإِسلامِ ومنهجَه في بناءِ المجتمعاتِ ــ نجدُ كرةَ القدمِ من الأَلعابِ الّتي يزكيها الإِسلامُ وتزكيها تعاليمُه؛ فهي مدرسة تعلّمُ دروسًا في التجميعِ لا في التشتيتِ، وفي الوحدةِ لا في التفرّقِ، وفي الودِّ لا في التباغضِ والعداوةِ. اللعبةُ الّتي تؤكدُ أَنَّ الأَهدافَ لا يمكنُ أَن تحققَ إِلاّ بالروحِ الجماعيّةِ، وأنَّ الفردَ بنفسِه كثيرٌ بإِخوانِه.
ممارسةٌ (كرةِ القدم) من الأُمورِ المشروعةِ، إِذ لا نعرفُ دليلاً يحرِّمها، والأَصلُ في الأشياء الإباحة ُ، بل لا يبعدُ أن تكونَ من المستحبّاتِ، إذا مارسها المسلمُ ليتقوَّى بدنُه، ويتخذَها وسيلةً لتكسبَه قوةً ونشاطًا وحيويةً، وقد رغّبَ الشرعُ في تعاطيِ الأَسباب المقوّيِة للبدنِ، لأَجلِ الجهادِ، وقد ثبتَ عن رسولِ صلى الله عليه وسلم قولُه:(المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأَحبُّ إِلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ، وفي كلِّ خيرٌ) (3) رواه مسلم رقم (2664)
قال شيخُ الإِسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى: (... ولعبُ الكرةِ إِذا كانَ قصدُ صاحبِة المنفعةَ للخيلِ والرجالِ؛ بحيثُ يستعانُ بها على الكرِّ والفرِّ، والدخولِ والخروجِ ونحوهِ في الجهادِ، وغرضُه الاستعانةُ على الجهادِ الّذي أَمر الله به ورسولُه صلى الله عليه وسلم ـ فهو حسن، وإنْْْْْْْْ كانَ في ذلك مضرةٌ بالخيلِ و الرّجالِ، فإنّه ينهى عنه).
فإن اقترنت معها المحذوراتُ والمفاسدُ والأَضرارُ فيكونُ حكمُها حكمَ هذه القرائنِ، فقد يصلُ حكمُها إِلى درجةِ التحريمِ في حقِّ بعضِ (المهووسين) و (المتعصبين).
ونسألُ هذا الذي يرفعُ رايةَ التعصبِ الأَعمى، ولا يفهمُ من الرياضةِ إِلاّ اسمها، أّسألُه هذا السؤالَ: هل يستطيعُ اللاعبُ الأَنانيّ أَن يحققَ هدفاً وحده مهما كانت كفاءته؟ كلاّ؛ لأَنَّ الكرةَ ستتعثرُ على قدمِه، وسيستولي عليها الفريقُ الآخرُ. والفريقُ الّذي يحققُ الأَهدافَ النظيفةَ هو الفريقُ الّذي يلتزمُ بروحِ الجماعة. هل وعينا الدرسَ من مدرسةِ الكرةِ الّتي نتعصبُ لها؟
هل يعلمُ الحكّامُ والمشجِّعون المسلمونُ أنَّ روحَ التفرقةِ، والأَثَرةِ، والاستبدادِ بالرأي، تقودُ في النهايةِ إِلى الهزيمةِ المنكرةِ على مسرحِ البطولةِ في كلِّ الميادين؟
للأَسفِ، نحنُ لم نعِ الدرسَ، قلبنا الغايةَ إِلى وسيلةٍ، والوسيلةَ إِلى غايةٍ، وآمنّا بالشكلِ وكفرنا بالمضمونِ، واعتنينا بالمظهرِ وأَلقينا الجوهرَ وراءَ ظهورِنا.
* ما معنى أَن أَشجعَ نادياً وأَتعصبَ له؟
معنى ذلك أنّني ضحلُ التفكير، ضيقُ الأُفقِ، أَنانيّ الطبعِ، مستبدٌّ برأيي، لا أَفهمُ شيئاً عن الروحِ الرياضيّةِ، ولا أَجدُ من أَنواعِ الرياضةِ إِلاّ التصفيقَ الأَرعنَ، والهتافَ المحمومَ.
إِنّنا لا نحجرُ عليكَ في أن تنتميَ إِلى نادٍ وتشجعه. نحن معك ولكن هنالك فرقٌ كبيرٌ بين التشجيعِ والتعصبِ، ولغةِ الحجارةِ والطوبِ، ولغة الروحِ الرياضيّة الّتي تعلمُنا أنَّ نبتسمَ عند الهزيمة ونتواضعَ عند النصر،وتعلمُنا أنَّ الأَيامَ دولٌ.
فيومٌ علينا ويومٌ لنا ويومٌ نُساءُ ويومٌ نُسرُّ
إنَّ رسولِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ َِِِِ الله صلى الله عليه وسلم يضعُ لنا المثلَ الأََعلى في الروحِ الرياضية، فعن أَنسِ بن مالكِ ـ رضي الله عنه ـ قالَ: كانت العَضباءُ (ناقةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم) لا تُسْبَقُ، فجاء أَعرابيٌّ على قَعودِ لَهُ فَسَابَقَها فَسَبَقها، وكأنَّ ذلكَ شقَّ على أَصحابِ النبيّ. ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتهزُ الفرصةَ، ليعلمَهم الروحَ الرياضيةَ، ويعطيَهم درسًا في أنَّ الجلوسَ على القمةِ في الدنيا لا يدومُ لأَحدِ، فقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ:(إِنَّ حقَّا على اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ أَلاّ يرفعَ شيئاً من الدُنْيا إلاّ وَضَعَهُ).
أنسألُ الله لناوللمتعصبين العفوَ والعافيةَ، والشفاءَ من كلِّ داء.
*أضرار لعبة كرة القدم
المتأمّلُ في مبارياتِ (كرةِ القدمِ) في أَنحاءِ العالمِ، يجدُ فيها مجموعةً من السلبياتِ والظواهرِ السيئةِ، يمكن إجمالُها بالآتي:(/2)
أَولاً: إنَّ كرةَ القدمِ أَصبحت وسيلةً لتفريِق الأُمّةِ، وإِشاعةِ العداوةِ والبغضاءِ بين أَفرادِها؛ حيثُ أَوجدت التعصبَ المقيتَ للفرقِ الرياضيّةِ المختلفةِ، فهذا يشجعُ فريقاً، وذاكَ يشجَّع فريقًا آخرَ، بل إنَّ أَهلَ البيتِ الواحد ينقسمونَ على أنفسِهم، هذا يتبعُ فريقًا، وذاكَ يتبعُ فريقًا آخرَ، ولم يقف الأَمرُ عند حدِّ التشجيعِ، بل تعداهُ إِلى سخريةِ أَتباعِ الفريقِ المنتصرِ من أَتباعِ المنهزمين، وفي نهايةِ المطافِ يكونُ هناكَ الشجارُ والعراكُ الّذي يدور بين مشجعي الفريقين، وسقوطُ الجرحى والقتلى بالمئاتِ، من ضحايا كرة القدم !!
وقد اضطرَّ منظمو المباراةِ النهائيّةِ لكأسِ العالمِ بين (البرازيل) و (الأورجواي) الّتي أُقيمت في 16 يولية 1950 على ملعب (ماراكانا) البلديِّ في مدينةِ (رويودي جانيرو) في (البرازيل) ـ إِلى صنعِ حفرةٍ عرضها (13) متراً، وعمقها أكثر من متر ونصف، لتصون اللاعبين من الجمهور.
ثانياً: الأصلُ في حَضِّ الإسلامِ على الرياضةِ، هو أن يباشرَها المسلمُ بنفسِه أو مع غيرِه، لتحصلَ له القوّةُ المطلوبةُ، أمّا كرةُ القدمِ الآنَ، فإنَّ أَهمَّ عنصرٍ مقصودٍ فيها هم المشاهدون المشجعونَ، الّذين يصلُ عددُهم إلى مئاتِ الألوفِ وأَكثر، ولا يستفيدونَ من كرةِ القدمِ شيئاً، فكانَ أَكبر عددٍ من المشاهدين لتتبع مباراةِ رياضيّة واحدةٍ حوالي (1500) مليون مشاهد حضروا المباراة النهائية لكأس العالمِ في كرة ِالقدم ِسنة (1982).
وفي سنةِ (1950) ، وخلال مباريات كأس العالمِ، وفي المباراة الّتي جرت بين البرازيل والأورجواي في ملعبِ (ماراكانا) في البرازيل حضرَ هذه المباراة (205000) متفرّج، بينهم (199854) ببطاقات مدفوعة.
فماذا استفادت هذه الأَعدادُ من حضورِ المباريات؟! وكم خسرت مجتمعاتُهم من هدرٍ للأَوقاتِ والطاقاتِ؟! فضلاً عن الشرورِ الّتي تصيبُ بعضَهم، وقد تصلُ إِلى المماتِ، إِثْرَ نوباتِ القلبِ أَو الانتحاراتِ !.
أمّا ما يعتادُه كثيرٌ من المشاهدين من بذاءةِ الأَلسنِ ووقاحةِ العباراتِ، والتخاطبِ بالفحشِ، ورديءِ الكلامِ، وقذفٍ ولعنٍ لبعضِهم وللحكَّام، فهذا ممّا يُعَدَّ من الحرام.
والشواهدُ على ذلك من المباريات الشهيرة لا تعدُّ ولا تحصى. وهذا ليسَ أَمرًا خاصَّا بالمشاهدين، وإِنَّما قد يتعدّاهُ إِلى اللاعبيِن، فمثلاً: في مباراةِ الكأسِ بين فريقين من فرق الأَندية التي تلعب في (انجلترا) والّت جرت في 3 ديسمبر 1969 سجلَ حَكمُ المباراةِ جزاءً على (22) لاعبًا، بما فيهم ذلك الذي انتهى به المطافُ إِلى المستشفى.
وفي 23 مايو 1973، في مباراةِ قمَّة الكأسِ بين فريقين من الفرق الاِنجليزيَّة، أَخرج الحَكمُ فريقا َبكامله من الملعب بالإضافة إلى بعض المسؤولين من حلبه اللعب. وحصلَ جميعُ أَفرادِ فريقٍ في (بريطانيا) الأحدَ عشرَ لاعباً مع لاعبي الاحتياطِ على إنذارات في 2 فبراير 1975 قبل بداية المباراة، إِذ َلم يرتح الحَكم لما كانَ يهتف به المشجعون من عباراتٍ وأَناشيدَ.
ثالثاً: إنَّ في اللعبِ بالكرةِ ضررًا على اللاعبين في بعضِ الأََحايين، فربّما سقطَ أحدُهم فتخلّعت أَعضاوهُ، وربما انكسرت رجلُ أحدِهم، أو يدُه، أو بعضُ أضلاعِه، وربّما حصلَ فيه شجاجٌ في وجهه، أو رأسِه، وربّما سقطَ أَحدُهم فغشي عليه ساعة أَو أَكثر أَو أَقل، بل ربّما آلَ الأَمرُ ببعضِهم إِلى الهلاكِ كما قد ذكرَ عن غيرِ واحدٍ من اللاعبين بها، وما كان هذا شأنه، فاللعبُ به لا يجوزُ. وربّما تعاطى بعضُهم (المخدرات) أو (المنشطاتِ) ليحسِّنَ أَداءَِه، وقد شاعَ وذاعَ عن بعضِ الكفارِ في الآونةِ الأخيرةِ، ممن هو علمٌ من أَعلامِ هذه اللعبةِ، وكادَ بعضُ المهووسين أن (يتيم) به.
رابعًا: إنَّ في لعبِ (كرةِ القدم) صدًّا للمتفرّجين، الذين تصلُ أَعدادُهم إِلى مئاتِ الأُلوفِ، عن ذكرِ الله، وعن الصلاةِ، وهذا أَمرٌ معروفٌ عندَ النَّاسِ عامّتهم وخاصّتِهم. وتعاطي ما يصدُّ عن ذكرِ الله، وعن الصلاّةِ حرامٌ.
قال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) البقرة، الآية152
وقال تعالى:(وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)لأحزاب، الآية 35 ؛ وقال صلى الله عليه وسلم:(مَثَلُ الذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالذِي لا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتْ)(متفق عليه).
وهذه المفسدة وحدها تكفي، ومن أُبتليَ بهذا فليتق ربه، قال عليه الصلاة والسلام:(مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَّجْلِسٍ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيْفَةِ حِمَارٍ وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً) أبو داود 4/264، وأحمد 2/389، وانظر صحيح الجامع)، ومثال على ذلك (فهل المتفرج على الكرة يهلل ويسبح، أم أنه غافلٌ، ينتقل بنظره وقلبه في جنبات الملعب؟(/3)
وكم سمعنا عن أُناسٍ مّمن يتابعونَ مبارياتِ كأسِ العالمِ، أَنَّهم يستيقظونَ في النصفِ الأَخيرِ من الليلِ؛ ليشاهدوا المباريات على شاشة (التلفاز)، وتفوتهم صلاةُ الفجرِ؟! وكم من المصلين فاتتهم الصلاةُ في الجماعاتِ، بسببِ جلوسِهم أَمامَ (الشاشات)؟!
وهذا معلوم للعام والخاص. ولو نظرنا لقارات العالم من حيث الزمن لوجدنا اختلافاً كثيراً، مثلاً ما بين المشرق والمغرب أكثر من ثمان ساعات تقريباً. لو كان مكان لعب الكرة في أمريكا، ووقتها عند غروب الشمس، والمشاهد عبر الفضائيات في البحرين أو اليمن، فما الوقت عندهم أي البحرين واليمن، إنه وقت متأخر، وهذا سبب رئيسي لتضييع صلاة الفجر. والنبي أرشدنا إلى فضل صلاة الفجر والعصر، فقال عليه الصلاة والسلام:(من صلى البردين دخل الجنة)( البخاري 574 ومسلم 635). (البردان) الصبح والعصر.
وقال:(من صلى الصبح فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله من ذمته في شيء فيدركه فيكبه في نارجهنم)( مسلم 1050).
وعن عبد الله ابن مسعود t قال قال رسول الله:(لا سمر إِلا لِمُصلِّ أو مسافر)(أحمد 40233). وروي مالك في الموطأ (أَنَّ عمر بن الخطاب فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح، فغدا عمر بن الخطاب إلى السوق – ومسكن سليمان بين السوق والمسجد النَّبوي – فمرّ على الشِّفاء أم سليمان، فقال لها: لم أر سليمان في الصبح! فقالت: إنَّه بات يصلي فغلبته عيناه، فقال عمر: لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إليَّ من أن أقوم ليلة) (مالك 270). وهذا سهر على طاعة الله، فما بالكم بمن يسهر على غير طاعة؟
قال الإمام الشاطبي رحمه الله:(كره مالك إحياء الليل كله، وقال: لعله يصبح مغلوباً، وفي رسول الله إسوة حسنة، ثم قال:(لا بأس به ما لم يضر بصلاة الصبح). والمقصود من إحياء الليل، أي من الطاعات، والقربات لله تعالى.
أضف إلى ذلك عدم الخشوع في الصلاة. وهذا يحدث عندما تكون الكرة منقولة على التلفاز، وتكون في وقتٍ من أوقات الصلاة. ماذا يكون موقفه، هل يذهب إلى المسجد أم يبقى يتفرج على الكرة؟ الجواب: إذا بقي سوف يحرم نفسه من الصلاة مع جماعة المسلمين، وإذا ذهب سوف يكون قلبه متعلق بالكرة، إلا من رحم الله، فالنصيحة تركها، وهناك كثير من الناس يتهاون بصلاة الجماعة، بسبب هذا الداء الخطير. نسأل الله العافية تجده لا يأتي بمعقبات الصلاة، وعندما يسمع الإمام سلّم يطير طيراناً إلى التلفاز، ويأتي الصلاة التي تليها بنفس الحال، فيتهاون بأمر صلاة الجماعة حتى يترك الجماعة. وإلى الله المشتكى. والأَدهى من ذلك كلِّه ما يقعُ فيه أولئكَ الذين يسافرونَ من قطرٍ إِلى قطرٍ، أو ينتقلونَ من مدينةٍ إِلى أُخرى، لحضورِ (مباراة)، وقد تكونُ في وقتِ (صلاةِ الجمعة). حيث مئاتِ الأُلوفِ، يجتمعونَ في وقتِ صلاةِ الجمعةِ في المدرجاتِ، ويناديهم منادي السّماءِ، ولكن ! أنّى لهم أَن يستجيبوا له، وقد تعطلت عقولُهم، وماتت أَحاسيسُهم، مقابل ماذا؟! مقابل التعصبِ المقيتِ للفرقِ الرياضيِة المختلفةِ).
** من أَحاديثَ في الترهيبِ من ترك صلاةِ الجمعةِ:
ـ عن أبن عباسٍ رضي الله عنهما قال: (من تركَ الجمعةَ ثلاثَ جمعٍ متوالياتٍ، فقد نبذَ الإِسلام وراءَ ظهره) أَخرجه أبو يعلى موقوفاً بإسنادٍ صحيح، (التلخيص الحبير) (2/53)
ـ وعن أَبي الجعد الضَّمْري _ وكانت له صحبة رضي الله عنه _ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (من تركَ ثلاثَ جمعٍ تهاوناً بها طبع َ اللهُ على قلبِه) أَخرجه الترمذيُّ في (الجامع) رقم (500)، وأَبو داود في (السنن) رقم (1052)، والنسائي في (المجتبى) (3/88)،وأَحمد في (المسند) (3/424،425)، وابن ماجه في (السنن) رقم (1125)، وهو صحيح.
ومعنى (تهاونًا بها) أَي: لقلّةِ الاهتمامِ بأَمرِها، لأنَّ الاستخفافَ بفرائضِ اللهِ تعالى كفرًً.
_ والعياذُ باللهِ _ إِذ الطبعُ: الختمُ، فتكون قلوبُهم ذات جفاءٍ، لا يَصلُ إِليها شيءٌ من الخير.
وظاهرُ الحديث والأَثرِ السابقين: أنَّ من تَرَكَ ثلاثَ جمعِ تهاونًا _ أَي بلا عذر _ يطبعُ على قلبِه، ويكونُ من الغافلين والمنافقين، ولو كانَ التركُ متفرقاً، وبه قال بعضُهم، حتّى لو تركَ كلَّ سنةٍ جمعةٍ، لطبعَ على قلبِه بعد الثالثة.
ويحتملُ أن يكونَ المرادُ ثلاثَ جمعٍ متواليات. ويؤيدُه أَثرُ ابنِ عباسٍ السابق.
واعتبارُ الثّلاث إِمهالٌ من اللهِ _ تعالى _ للعبدِ، ورحمةٌ به، لعلّه يتوبُ من ذنبِه، ويثوبُ إِلى رشدِه، ويؤدّي الجمعةَ، ولا يتركها بلا عذرٍ.
وأَفادَ الحديثُ: أنَّ مَن وَجَبَت عليه الجمعةُ، وتركَها لغيرٍٍٍٍ عُذرٍٍ، فهو آثمٌ إِثمًا كبيرًا، يستحقٌّ مرتكبُه العذابَ الأَليمَ.(/4)
وذهبُ بعضُ أَهلِ العلمِ _ مالكٌ وأَحمدُ والشافعيُّ في الجديدِ _ أنَّ مَنْ لَزمتهم الجمعةُ، ولا عذرَ لهم في التخلّفِ عنها _ كمشاهدي (الكرةِ) ولاعبيها وقتَ الجمعةِ هذه الأَيامِ _ فلا تصحُّ لهم صلاةُ الظهرِ قبلَ صلاةِ الإِمامِ، ويلزمُهم السعيِ إِن ظنّوا أنهم يدركونها، لأنّها المفروضةُ عليهم، فإِن أَدركوها مع الإِمامِ صلّوها، وإِن فاتتهم فعليهم الظهرُ،وإِنْ ظنّوا أنّهم لا يدركونها، انتظروا حتّى يتيقنوا أنَّ الإِمامَ قد صلّى ثمَّ يصلّونَ الظهرَ.
ودليلُ ذلك ما قالَه عبد اللهِ بن مسعودٍ: (من فاتته الركعتانِ، فليصلِّ أَربعًا) (16) أَخرجه ابن أَبي شيبة في (المصنّف) (1/126)، والطبرانيّ في (الكبير)، وهو حسن، كما في (المجمع) (2/192)، وله شواهد.
ويطلبُ ممن وجبت عليه الجمعةُ _ وتركها لغيرِ عذر _ أن يصلى الظهر، ويتصدّقَ بدينارٍ، فإِن لم يجد فبنصفِ دينارٍ. عن سمرةَ بن جندبٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَن تَركَ الجمعةَ متعمداً، فلتصدّق بدينارٍ، فإن لم يجد فبنصفِ دينارٍ).
قالَ بعضُهم: الأمرُ هنا للاستحبابِ، لأَنَّ الجمعةَ لها بدلٌ، وهو الظهرُ.
والظاهرُ أنَّ الأمرَ هنا للوجوبِ، كما هو الأَصلُ فيه، وكونُ الجمعةِ لها بدلٌ، لايدلُّ على صرفِه عن الوجوبِ، لاحتمال أَن يكونَ وجوبُ الكفارةِ ـ مع صلاةِ الظهر ـ عقاباً له عن تخلّفِه عن الجمعةِ بلا عذر.
وما أَجدر هؤلاءِ المضيعين لهذه الشعيرةِ من شعائرِ اللهِ بالضربِ و الزجر، ورحمَ الله ابن الأخوةِ فإنّه قال في حقِّ تاركِ صلاةِ الجمعة: (فمن شُغلَ عنها بتثميرِ مكسبهِ، أَو لها عنها بالإقبالِ على لهوِه ولعبهِ، فحدّه بالآلةِ العُمريّةِ، الّتي تضع ُمن قدرِه وتذيقُه وَبالَ أَمرِه، ولا يمنعك من ذي شيبةٍ شيبتُه، ولا من ذي هيئةٍ هيئتُه، فإنّما هلكَ الّذين قبلكم أنّهم كانوا إِذا سَرَقَ فيهم الشريفُ تركوه، وإِذا سرقَ فيهم الضعيفُ أَقاموا عليه الحدّ).
خامسًا: إنَّ مسابقاتِ كرةِ القدمِ أَصبحت معاولَ هدّامة، استخدمها أَعداءُ الأمّةِ الإِسلاميّة، وشجعوا عليها للقضاءِ على معاني العِزَّةِ والكرامةِ في الأُمّةِ،
حيث بددت الأُمّةُ _ لأَجلِ الرياضياتِ المختلفةِ ومنها كرةُ القدمِ_ أَموالاً طائلةٌ، وأَضاعت أَوقاتًا طويلةً، لو استغلتها الأُمّةُ في الأَعمالِ لنافعة، والصناعاتِ المفيدةِ، لأَصبحت الأُمّةُ في مقامِ الدولِ المتقدمةِ في المجالاتِ المختلفةِ.
ينبغي أن تحسبَ هذه الأَوقات وفق العلاقة التالية:
(الوقت الضائع = مدَّة المباراة × عدد المشاهدين)، فتظهرُ لك الساعاتُ المهدورةُ من وقت الأُمّةِ، وهذه الساعاتُ ــ في حياةِ المسلمين ــ هي ساعات تأَخرهم، وتقهقرهم، وتأخر نصرِ الله عنهم، إِذ هو قريب منهم، ولكنّهم يبعدونَ عنه بمقدار ما يمكنهم القرب منه في هذه المدةِ. وهنالك أَمثلة مذهلة ـ على مستوى الأَفرادِ والفرق ـ فيها هدر طويل للوقت، وإِليك بعض الأَمثلة:
قامَ فريقانِ من خمسةِ لاعبين ـ دون احتياط ـ من فريق باللعبِ طيلة 63 ساعة و 21 دقيقة من 15ـ18 مايو 1980 في (بريطانيا) وذلك في العراءِ.أَما في القاعةِ فقد قامَ فريقان من خمسةِ لاعبين ـ دون احتياط ـ باللعبِ طيلةَ مائة ساعة وخمس دقائق من 4 إِلى 8 أبريل 1980 في بريطانيا أَيضاً.
قام لاعب عمره (20) سنة بتنطيطِ كرةِ قدم لمدّة عشر ساعات دون توقف في قاعةِ الرياضة (السويد) وذلك في 8 مايو 1980، وقد سيطر على الكرة برأسه وقدميه وساقيه ونططها 8.357 مرّة دون أن تسقط على الأَرض. أَمّا مجريٌّ من مواليد (1957) فقد قام بتلعيب الكرة برأسه طيلة ساعتين وسبع دقائق وأَربعين ثانية (18600) ضربة رأس وذلك في (الولايات المتحدة) في 31 مايو 1980.
وهنا نقف قليلاً لنرى كيف كان حال السلف مع أوقاتهم: كان أحدهم يقول: ما أعلم أني ضيّعت ساعةً من عمري في لهو أو لعب).
وقال بعض الحكماء: كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، وكيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته.
وكتب الأوزاعيُّ إلى أخٍ له: أما بعد، فقد أُحيط بك من كل جانب، واعلم أنه يسار بك في كل يوم وليلة، فاحذرِ الله، والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به، والسلام. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: (يا ابن آدم إنما أنت أيام، كلما ذهب يومك ذهب بعضُك)(4).
قال الخليل بن أحمد: الوقت ثلاثة أقسام:
(وقت مضى عنك فلن يعود، ووقت أنت فيه فانظر كيف يخرج عنك، ووقت أنت منتظره وقد لاتبلغ إليه).
قال الشاعر:
تمر بنا الأيام تترى وإنما نساق إلى الآجال والعين تنظر
فلا عائدٌ ذاك الشباب الذي مضى ولازائل هذا المشيبُ المكدَّر
وفي الحديث: عن أبي برزة الأسلمي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله:(لاتزول قدماً عبد يوم القيامة حتَّى يسأل عن: عمره فيم أفناه، وعن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه) الترميذي 2417؛ وصححه(/5)
* بالإضافةِ إِلى أنّها شغلت الأُمةَ الإِسلاميّةَ عن التفكيرِ في جهادِ أَعدائها، وقضاياها المصيريّة الكبرى. وممّا يؤكّدُ ذلك ما جاءَ في البروتوكول الثالثَ عَشَر من (بروتوكولاتِ حكماءِ صهيون): (ولكي تبقى الجماهيرُ في ضلالٍ، لا تدري ما وراءها، وما أَمامها، ولا ما يُرادُ بها، فإِنّنا سنعملُ على زيادةِ صرفِ أَذهانِها، بإِنشاءِ وسائلِ المباهجِ والمسلياتِ والأَلعابِ، وضروبِ أَشكالِ الرياضة، واللهو، وما به الغذاءُ لملذّاتِها وشهواتِها، والإِكثارِ من القصورِ المزوّقِة، والمباني المزركشةِ، ثمَّّ نجعلُ الصحفَ تدعو إِلى مبارياتٍ فنيّة ورياضيّة.
(بروتوكولات حكماء صهيون) (1/ 258).
والناظرُ فيما تنشرُ المجلاّتُ والجرائدُ يجدُ أَرقامًا مذهلةً، من أُجورٍ تدفعُ لقاء انتقالِ لاعبٍ من فريقٍ إلى آخرَ، قد تصلُ إِلى عشراتِ الملايين، فضلاً عن الأًموالِ الّتي تنفقُ على المدربين، وعلى الملاعبِ والدعاية، وكذا ما ينفقه كثير من المتفرّجين.
سادسًا: التهاون بعقيدة الولاء والبراء
تجد المشجع المسلم يحب فريقاً غير مسلم، لما عنده مهارات اللعب، ويتجاهل ما عنده من كفر، تجده يفرح إذا فازوا، ويحزن إذا خسروا، ويحب فيهم، ويبغض فيهم، وربما يعادي فريقاً مسلماً أو لاعباً مسلماً أو يوالي نصرانياً، أو هندوسياً، لأنه صاحب مهارات، ولقد رأينا على أبواب المتاجر من يعلَّق شعائر الأندية، وفي السيارات يعلق صور اللاعبين، وفي البيوت، وعلى الملابس، ويتشبه بهم في أحوالهم، فيلبس مثل لباسهم، ويلفظ بكلامهم، ويتشبه بهم في أغلب أحوالهم، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَآءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُم خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ ِمنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ)الممتحنة، 1
وفي الحديث (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ) أبوداود 3512
والشباب يتفرج بحماسٍ شديد، وعندما يخسر من يشجعونه يقومون بالسب والشتم، والشِّجار مع مشجعي الفريق الثاني، وهذا بسبب كرة القدم، التي انعقد عليها الولاء والبراء عند هؤلاء، مما يثير الفتنة بين المسلمين.
* إقامة المظاهرات وأعمال العنف
وهذا يحدث أحياناً عندما ينهزم فريق يقومُ أنصارهُ بالخروج إلى الشوراع، وحرق المتاجر والسيارات، وتخريب المؤسسات العامة، والممتلكات الخاصة، وتعم الفوضى، وينعدم الأمن. ثامنا: في لعبِ (كرة القدم) كشفٌ للعوراتِ، إَذ فيها كشفُ الأَفخاذ، ونظر الناس إَِليها، ونظر بعضهم فخذَ بعضٍ، وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ الفخذَ من العورةِ، وستر العورةِ واجبٌ، إلاّ من الزوجات والإِماءِ، لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:
(احفظ عورتَك، إِلاّ من زوجتِك، أو ما ملكت يمينُك حسن، انظر (الإرواء) رقم (1810). والأَدلةُ على أنَّ الفخذَ من العورةِ كثيرة، منها:
* ما أَخرجه مالك وأَحمدُ وأَبو داود والترمذي وابن حبان والحاكمُ عن جرهد الأَسلميّ ـ رضي الله عنه ـ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ به وهو كاشفٌ عن فخذِه، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
(غطِّ فَخذَك؛ فإنَّها من العورةِ) أَخرجه البخاري في (صحيحه) (1/478) تعليقًا، ووصله أَحمد في (المسند)• وما أَخرجه أَبو داود وغيره عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكشف فخذَك، ولا تنظر إلى فخذِ حَيًّ ولا ميتٍ) أَخرجه أَبو داود في (السنن) رقم (3140) و(4015)، وأَحمد في (المسند) (1/ 146) والحديث صحيح.
فالنظرُ إِلى عورةِ الآخرين حرامٌ، وهذا هو السائدُ في المبارياتِ؛ إِذ لا توجدُ مباراةٌ إِلاّ وتظهرُ فيها الفخذُ، ولا تحدّث عن العوراتِ في (الرياضات النسائيّة)!! ومنها (كرة القدم)، وقد تظهرُ (الحسناواتُ) على (شاشات التلفاز) كدعايةٍ للجهةِ الّتي تغطي نفقاتِ (البثّ).
سابعاً: أصبحت مسابقاتِ كرةِ القدمِ، وسيلةً لقلبِ الموازين؛ حيثُ أصبحَ البطلُ في هذا الزمانِ لاعبَ الكرةِ، لا المجاهد المدافع عن كرامةِ الأُمةِ وعزّتها، بالإضافةِ إِلى بذلِ الأموالِ الضخمةِ للاعبين، والإسلامُ لا يقرُّ قلبَ الموازينٍِ.
ومن العجبِ أن اللعبَ بـ (الكرةِ) قد جُعَل في زمننا من الفنون !! التي تدرّس في المدارسِ، ويعتني بتعلّمه وتعليمِه أعظم ممّا يعتنى بتعلّيمِ القرآن ِ، والعلمِ النافعِ، وتعليمهما.(/6)
وهذا دليلٌ على اشتدادِ غربةِ الإِسلامِ في هذا الزمانِ، ونقصِ العلمِ فيه، وظهورِ الجهلِ بما بعثَ اللهُ به رسولَه محمّداً صلى الله عليه وسلم، حتّى عادَ المعروفُ عند الأَكثرين منكرًا، والمنكرُ معروفاً، والسنةُ بدعةً، والبدعةُ سنةً، وهذا من مصداق ما أَخرجه الشيخان عن أَنس مرفوعًا: (إنَّ من أَشراطِ الساعةِ أن يرفعَ العلمُ، ويظهرَ الجهلُ) أَخرجه البخاريّ في (الصحيح) رقم (80،81،5231،7808،5577)، ومسلم في (الصحيح) رقم (2671).
واللعبُ بالكرةِ والعنايةُ بها من ظهورِ الجهلِ بلا شكٍّ عند مَنْ عقلَ عن اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم، وما أَشبه المفتونين المهووسين بالكرةِ بالّذين قال اللهُ تعالى فيهم: {وذرِ الّذين اتخذوا دينَهم لعبًا ولهوًا وغرّتهم الحياةُ الدنيا} الأَنعام: 70.
وقد قال شيخُ الإِسلامِ ابن تيميّة: (إنَّ العلومَ المفضولةَ إِذا زاحمت العلومَ الفاضلةَ، وأَضعفتها فإِنّها تحرّم).
فإِذا كانَ الأَمرُ هكذا في العلومِ الفاضلةِ، فكيفَ باللعبِ بالكرةِ إَذا زاحمَ العلومَ الفاضلةَ وأَضعفها، كما هو الواقعُ في زماننا، مع أَنَّ اللعبَ بالكرةِ ليس بعلمٍ؛ إِنّما هو لهوٌ ومرح !!
ثامنًا: دخولُ المراهناتِ وانتشارها على مباريات كرةِ القدمِ في كلِّ أَقطارِالعالم، وكلُّ قطرٍ فيه فرق، يلعبُ بعضُها مع البعضِ الآخر، أُسبوعيًّا أو شهريًّا حسب الاتفاق.
وعمل المراهنِ في ذلك يقتصرُ على تعبئةِ بطاقة بأَسماءِ الفرقِ الرياضيةِ، الّتي يتوقعُ فوزَها في المبارياتِ المقررةِ، فإنْ فازت الفرقُ الّتي توقعها ربحَ المبلغَ المستحقّ، وإِلاّ؛ فإنّه يخسرُ المبلغَ المراهن به.
وفي بريطانيا حوالي أَربعين في المائة من الرّجالِ، يراهنونَ بشكل منتظم ـ مرّة في الشهرِ ـ على كرةِ القدم، وفي السويد حوالي اثنين وخمسين في المئة يراهنون على كرةِ القدم، وفي أَمريكا راهنَ حوالي ثلاثةٍ وستين مليون شخص على كرةِ القدمِ عام 1968.
وهكذا تكونُ المقامرةُ قد دخلت كرةَ القدمِ، وجعلتها رياضةً حرامًا، بعد أَن كانت جائزةً مستحبّةً. أمَّا البلادُ الإِسلاميَّةُ،فلم تدخلها أنظمةُ المراهناتِ على كرةِ القدمِ وغيرها من الأَلعابِ، لكن بدأَت بعض الأَصواتِ في مصر، تطالبُ بإِدخالِ نظامِ المراهناتِ على كرةِ القدمِ،كحلٍّ لظاهرةِ الإِفلاسِ الماديّ للأًنديةِ الرياضيَّةِ،ولكن هذه الأَصوات لم تلقَ أدنى قبولٍ من العاملين في الأوساط الرياضيَّةِ، ومن علماءِ النَّفسِ والاجتماع،حيث اعتبروها من المقامرةِ الّتي تدمّرُ الأَخلاقَ والسلوكَ، وتتنافى مع العقيدةِ الإِسلاميّة، وهي السببُ الرئيس لأَبشعِ أَعمالِ الشغبِ في الملاعبِ، الّتي تؤدي بدوِرها إِلى سقوطِ مئاتِ المتفرّجين والمتراهنين قتلى وجرحى، كما هو حالُ الدولِ الّتي تأخذُ بنظام المتراهناتِ.
وعلّقَ علماءُ الاجتماعِ الغربيّون على ظاهرةِ مراهناتِ كرةِ القدمِ، وما تؤدي إِليه من أَحداثِ شغبٍ وعنفٍ في الملاعبِ، بأنّها تعبيرٌ عن فراغٍ حادٍّ، يعيشُه الإِنسانُ، بعد أَن طغت المادّةُ عليه، وجعلت قيمةَ الكسبِ هي القيمةَ الأَساسيّةَ في حياتِه، يجبُ أن تتحققَ بأَيِّ ثمنٍ، وأَضافوا أنَّ المبدأَ الأَخلاقيَّ الأساسيَّ الَّذي بنيت عليه الرياضةُ ـ وهو تشجيعُ الفائزِ وتمنّي الحظّ السعيد للمهزومِ في مباراةٍ قادمةِ ـ قد انتهى أساسًا من القاموسِ الرياضي، ليحلَّ محلّه تبادل الشتائمِ، وقذف الطوب والكراسي، وضربُ حكّامِ المبارياتِ وحاملي الراياتِ.
أمّا خبراءُ التربية الرياضيِة البريطانيّون، فقد طالبوا ـ أَكثر من مَرّةٍ ـ بضرورةِ العدولِ عن نظامِ المراهناتِ، وإِلغائه، حتّى يمكنَ القضاءُ على أَحداثِ الشغبِ، الَّتي أَصبحت سِمَةً ظاهرةً في الملاعبِ البريطانيّة، ولم تعد مباراةٌ واحدةٌ تمرُّ دون مصابٍ .
تاسعا: ترك إنكار المنكر
هل المتفرج الذي يذهب للملاعب، يذهب لإنكار المنكر، من كشف للعورات، وسبٌ للدين، وترك للصلاة، أم لا؟
الجواب: لا، كيف يكون الإنسان منكرٌا للمنكر، وهو قاعدٌ بجسده وفكره في عين المنكر، وقلبه متعلق بالمنكر، وهذا لا يسلم منه القاعد على التلفاز أيضاً، فإنه يعتاد النظر إلى المنكر وهيهات أن ينكر، والله تعالى يقول: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرآئيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ~كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)( المائدة، الآية 78- 79).
وفي الحديث، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكر فليغيَّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)رواه مسلم 49
عاشرا: تعطيل مصالح المسلمين(/7)
هذه المفسدة تحدث أحياناً بترك الموظف وظيفته، ويذهب للتفرج، ويترك معاملات الناس متروكة، وبهذا يكون قد وقع في عدة محاذير، منها ترك الأمانة... إلخ، وتعطيل مصالح الأمة، والله تعالى يقول:(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) النساء، الآية 58
حادي عشر: الاختلاط بالنساء
وهذا يحدث في مدرجات الملاعب، حيث يختلط الرجال بالنساء، وهذا يؤدي إلى مفاسد كبرى، ومن المعلوم أن فتنة الاختلاط فتنة عظيمة لا يسلم من ضررها من وقع فيها، وفتنة النساء أول فتنة وقعت في بني إسرائيل، كما جاء في الحديث الصحيح:(فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)( مسلم 4925).
* بذلُ العوض في مسابقات (كرة القدم)
لا يشرعُ بذلُ العِوضِ على مسابقاتِ (كرةِ القدم) من الجانبين، بمعنى:أنَّ من غلبَ يأخذُ من الآخرِ شيئاً معلومًا. فهذا ضربٌ من ضروبِ القمارِ.
جاءَ في (المهذّب) ما نصّه: (وأمّا كرةُ الصولجانِ، ومداحاةِ الأَحجارِ، ورفعها من الأَرض، والمشابكةُ، والسباحةُ، واللعبُ بالخاتمِ، والوقوفُ على رجلٍ واحدةٍ، وغيرُ ذلك من اللعبِ الَّذي لا يستعانُ به على الحربِ، فلا تجوزُ المسابقةُ عليها بعوضٍ، لأنّه لا يُعدُّ للحربِ، فكانَ أَخذُ العوضِ فيه من أَكلِ المالِ بالباطلِ)(1/421) وانظر (تكملة المجموع) (15/ 142).
وذكرَ ابن وهبٍ بإِسنادِه أنَّ عبد اللهِ بن عمرَ مرَّ بغلمانٍ يلعبونَ بالكجّة ـ وهي حفر فيها حصىً يلعبون بها ـ قال: فسدَّها ابن عمر، ونهاهم عنها.
وذكر الهرويُّ في باب (الكاف مع الجيم) في حديث ابن عباس:(.. في كلِّ شيءٍ قمار،حتّى في لعبِ الصبيانِ بالكجّة) قال ابن الأعرابيِّ: هو أَن يأَخذَ الصبيُّ خرقةً، فيدوِّرها كأنّها كرةٌ، ثمَّ يتقامرون بها. وكجّ: إِذا لعبَ بالكجّةِ(تفسير القرطبي) (8/340).
ومنه يعلمُ خطأُ كثيرٍ مّمن يلعبونَ على عوضٍ بالصورةِ التالية:
يدفعُ كلُّ واحدٍ من أَعضاءِ الفريقين مبلغًا متساوياً، ويشترونَ (كأسًا) أو (ميداليات)، ويعطى ذلك للفريقِ الفائزِ، وهذا أَمرٌ غيرُ مشروعٍ، وفيه مقامرة ! على الرغم من قيام بعض (الجماعات) به ! واعتباره من نشاطاتِ (دور القرآن)
أَمَّا إِذا قُدِّمَ العوضُ من فريقٍ ثالثٍ، فجعلَه للغالبِ أو الفائزِ، أَو قال أَحدهما للآخرِ: إِنْ غلبتني فتغنم، وإِنْ غلبتُك فلا تغرم،فهذه الصورُ كلّها مشروعةٌ كما بسطه الإمام ابن القيم، في كتابه الفذّ (الفروسيّة) (ص325).
* فتاوى أهل العلم في كرة القدم
حكم الدخول إلى الملاعب لحضور المباريات
السؤال: ما هو الحكم في الدخول إلى ملعب كرة القدم لمشاهدة إحدى المباريات؟.
الجواب: الدخول في الملعب لمشاهدة مباريات لكرة القدم إن كان لا يترتب عليه ترك واجب كالصلاة، و ليس فيه رؤية عورة، ولا يترتب عليه شحناء وعداوة، فلا شيء فيه، والأفضل ترك ذلك لأنه لهو، والغالب أن حضوره يجر إلى تفويت واجب وفعل محرم. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.فتاوى إسلامية، اللجنة الدائمة، (4/432)
*حكم ممارسة الرياضة بسروال قصير لا يستر:
السؤال: ما حكم ممارسة الرياضة بالسراويل القصيرة، وما حكم مشاهدة من يعمل ذلك؟
الجواب: ممارسة الرياضة جائزة إذا لم تله عن شيء واجب؛ فإن ألهت عن شيء واجب فإنها تكون حراماً، وإن كانت ديدن الإنسان بحيث تكون غالب وقته فإنها مضيعة للوقت، وأقل أحوالها في هذه الحالة الكراهة. أما إذا كان الممارس للرياضة ليس عليه إلا سروال قصير يبدو منه فخده أو أكثر فإنه لا يجوز، فان الصحيح أنه يجب على الشباب ستر أفخاذهم، وأنه لا يجوز مشاهدة اللاعبين وهم بهذه الحالة من الكشف عن أفخاذهم فتاوي إسلامية، ابن عثيمين (4/431).
الخاتمة
لا ينبغي أن تُتخذَ (كرةَ القدمِ) وسيلةً للدعوةِ إِلى اللهِ تعالى، كشأنِ من يجيزُ الكذبَ وهجرَ المسلمين، وإِيذاءهم لمصلحةِ الدعوةِ ـ زعموا ـ !!؛ لأنَّ الدين إِن لم يقم بالجَدِّ، فمن الاستحالةِ بمكانٍ أَن يقومَ باللعبِ!
قال تعالى:{خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ (البقرة:63). بل، وهل خلقنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ من أجلِ الرياضةِ واللعبِ؟! أَم إِنَّه خلقنا عبثاً وباطلاً؟ سبحانه. وقد تقدَّمَ أَضرارُ لعبة كرة القدم وشرورُها، وأَنّها سلبت الأمّة أَموالها وطاقتها، وفرقتها شيعًا وأَحزابًا، فكلُّ نادٍ وكلُّ لاعبٍ له مؤيدوهُ ومناصروه ومحبوه وشانئوه، وصدقَ اللهُ العظيمُ) فإنّها لا تعمى الأَبصار ولكن تعمى القلوبُ الّتي في الصدورِ الحج:46
قال الله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)( سورةالأنعام، الآية 153)(/8)
وقوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً)( الإسراء، الآية 9)
وقال صلى الله عليه وسلم: (تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرِيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ)( مالك 1395)، وقال الإمام أحمد رحمه الله: أصول السنة عندنا:(التمسك بما كان أصحاب رسول الله ، والإقتداء بهم.....)
قال الإمام محمد بن حسين الآجري رحمه الله تعالى، قد ذكرت هذا الباب في (كتاب الفتن) في أحاديث كثيرة. وقد ذكرت هنا طرفاً منها، ليكون المؤمن العاقل يحتاط لدينه، فإن الفتن على وجوه كثيرة، قد مضت منها فتن عظيمة، نجا منها أقوام، وهلك فيها أقوام باتباعهم الهوى، وإيثارهم للدنيا، فمن أراد الله به خيراً فتح له باب الدعاء، والتجأ إلى مولاه الكريم، وخاف على دينه، وحفظ لسانه وعرف زمانه، ولزم المحجة الواضحة -السواد الأعظم-، ولم يتلوّن في دينه، وعبد ربه تعالى، فترك الخوض في الفتنة، فإن الفتنة يفتضح عندها خلق كثير، ألم تسمع إلى قول النَّبي r، وهو محذر أمته الفتن؟ قال: (يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً، ويصبح كافراً!! مسلم في الإيمان.
قال الشاعر:
تريد النجاة ولم تسلك مسالكها فإن السفينة لا تجري على اليابس
فعلينا التمسك بكتاب ربنا، وسنة نبينا r، والإقتداء بسلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، وترك التشبه بالكفار، وعدم الاغترار بالمدنية الزائفة.
والفضل لله وحده لا شريك له، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(/9)
اللقيط تعريفه، وحكم أخذه،والإشهاد عليه،
وشروط الملتقط
المقدمة :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الفقهاء – رحمهم الله تعالى _ وضعوا أحكاما خاصة للقيط ، وفي هذا البحث المتواضع سأذكر بعض هذه الأحكام، وهي : التعريف ، وحكم أخذه، وحكم الإشهاد عليه ، وشروط الملتقط، سائلا المولى _ عز وجل- التوفيق والسداد، والإخلاص في القول والعمل .
أولا: التعريف للقيط:
1- التعريف في شروح الأحاديث:
هو من طرح صغيرا لأول ما يولد، ويقال له لقيط: إذا أخذ، ومنبوذ: ما دام مطروح(1).
وقيل: هو طفل يوجد ملقي على الطريق لا يعرف أبواه(2).
2- التعريف في كتب الفقه:
· الفقه الحنفي:
- المبسوط : اللقيط لغة: اسم لشيء موجود، فعيل بمعنى مفعول كالقتيل والجريح بمعنى المقتول والمجروح، وفي الشريعة: اسم لحي مولود طرحه أهله خوفا من العيلة أو فرارا من تهمة الريبة(3).
- اللباب شرح الكتاب :اللقيط لغة : ما يلقط أي يرفع من الأرض ثم غلب على الصبي المنبوذ باعتبار مآله لأنه يلقط، وشرعا : مولود طرحه أهله خوفا من العيلة وفرارا من التهمة(4).
- بدائع الصنائع :في اللغة : فهو فعيل من اللفظ وهو الملقوط وهو الملقي ، وأما في العرف فنقول : هو اسم للطفل المفقود و هو الملقى أو الطفل المأخوذ والمرفوع عادة فكان تسميته لقيطا باسم العاقبة لأن يلقط عادة أي يؤخذ و يرفع، وتسمية الشيء باسم عاقبته أمر شائع في اللغة قال الله تعالى جل شأنه : ? إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً ? [ يوسف:36] ، وقال الله تعالى جل شأنه : ?إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ? (الزمر:30 ) سمى العنب خمرا والحي الذي يحتمل الموت ميتا باسم العاقبة كذا هذ(5).
الفقه المالكي:
واللقيط : هو الصبي الصغير غير البالغ(6).
الفقه الشافعي:
- مغني المحتاج: فعيل بمعنى مفعول كجريح وقتيل ويسمى ملقوطا باعتبار أنه يلقط ومنبوذا باعتبار أنه ينبذ إذا ألقي في الطريق ونحوه ويسمى دعيا أيضا، والأصل فيه قوله تعالى: ? وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى? [المائدة:2]، وقوله تعالى: ?وَافْعَلُوا الْخَيْرَ? [الحج: 77 )(7).
فاللقيط: هو صغير منبوذ في شارع أو مسجد أو نحو ذلك لا كافل له معلوم ولو مميزا لحاجته إلى التعهد، وإن أفهم التعبير بالمنبوذ اختصاصه بغير المميز فإن المنبوذ هو الذي ينبذ دون التمييز ونبذه في الغالب إما لكونه من فاحشة خوفا من العار أو للعجز عن مؤنته، وخرج بالصبي البالغ لاستغنائه عن الحفظ، ويعتبر المجنون كالصبي وإنما ذكروا الصبي لأنه الغالب (8).
-كفاية الأخيار: اللقيط :كل صبي ضائع لا كافل له ولا فرق بين المميز وغيره، وفي المميز احتمال للإمام ، والمعتمد الأول لاحتياجه إلى التعهد، ويقال له: دعي ومنبوذ، فقولنا : كل صبي خرج به البالغ لأنه مستغن عن الحضانة والتعهد فلا معنى لأخذه وقولنا ضائع المراد به المنبوذ(9).
الفقه الحنبلي:
- المغني : وهو الطفل المنبوذ، واللقيط بمعنى الملقوط(10).
- زاد المستقنع : وهو طفل لا يعرف نسبه ولا رقه نبذ أو ضل(11).
- الروض المربع : لغة: بمعنى ملقوط ، واصطلاحا : طفل لا يعرف نسبه ولا رقه نبذ أي طرح في شارع أو غيره أو ضل(12).
- منار السبيل: وهو طفل يوجد لا يعرف نسبه ولا رقه نبذ في شارع أو غيره أو ضل الطريق ما بين ولادته إلى سن التمييز فقط - على الصحيح -(13).
- الإقناع : وهو طفل لا يعرف نسبه ولا رقه نبذ أو ضل إلى سن التمييز، وقيل: والمميز إلى البلوغ وعليه الأكثر(14).
- الإنصاف : وهو الطفل المنبوذ ،قال الحارثي : تعريف اللقيط بالمنبوذ يحتاج إلى إضمار لتضاد ما بين اللقط والنبذ ...لأن الطفل قد يكون ضائعا لا منبوذا، ومنهم : من عرفه بأنه الضائع وفيه ما فيه، وقوله الطفل يعني : في الواقع في الغالب وإلا فهو لقيط إلى سن التمييز فقط على الصحيح من المذهب، وقيل : والمميز أيضا إلى البلوغ قال في الفائق : وهو المشهور،قال الزركشي : هذا المذهب قال في التلخيص : والمختار عند أصحابنا : أن المميز يكون لقيط(15).
التعريف المختار:
اللقيط: هو طفل حديث الولادة نبذه أهله ، أو صغير ضائع، سواء كان ذكرا أو أنثى .
مسألة: عمر اللقيط:
من التعاريف السابقة للقيط يتضح أن عمر اللقيط عند أصحاب المذاهب كالتالي:
- عند الحنفية: أن النبذ يكون بعد الولادة، وذلك لعلة: الفقر، أو تهمة الزنا.
- عند المالكية: أنه الصغير إلى وقت البلوغ .
- عند الشافعية: أن النبذ يكون للصغير سواء كان مميزا أو غير مميز، قال الرملي : يجوز التقاط الصبي المميز لأن فيه حفظا له (16).
- عند الحنابلة: أنه الطفل إلى سن التمييز ، وقيل إلى البلوغ، وهو الصحيح عندهم حتى أنهم قالوا: إذا التقط رجل وامرأة معا من له أكثر من سبع سنين : أقرع بينهما ولم يخير بخلاف الأبوين(17).(/1)
والذي يظهر – والله أعلم – : أن اللقيط يكون عمره ما بين ولادته إلى البلوغ .
مسألة : الفرق بين اللقيط واللقطة:
يفارق اللقيط اللقطة من حيث: التعريف ، الاختصاص ، حكم الرفع ، الإشهاد، فالتعريف قد تقدم، وأما الاختصاص: فاللقيط: اختص بالآدمي، واللقطة: بالمال، وأما حكم الرفع: فاللقطة لا يجب التقاطها بخلاف اللقيط، وأما الإشهاد: فينبغي الإشهاد على اللقيط بخلاف اللقطة(18).
ثانيا: حكم رفع اللقيط:
قال أبو نصر محمد بن محمد بن سلام: ترك اللقطة أفضل في قول أصحابنا من رفعه، ورفع اللقيط أفضل من تركه(19).
- عند الحنفية : أن التقاطه أمر مندوب، وذلك:
· لما في إحرازه من إحياء النفس فإنه على شرف الهلاك وإحياء الحي بدفع سبب الهلاك عنه، قال تعالى :? وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ? [المائدة:32] .
· ولما في تركه من ترك الترحم على الصغار قال - صلى الله عليه وسلم- :" من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا"(20).
· وفي رفعه إظهار الشفقة وهذا من أفضل الأعمال بعد الإيمان، والدليل ما روي عن الحسن البصري :" أن رجلا التقط لقيطا فأتى به عليا - رضي الله تعالى عنه – فقال: هو حر ولأن أكون وليت من أمره مثل الذي وليت منه أحب إلى من كذا وكذا " فقد استحب علي - رضي الله عنه - مع جلالة قدره أن يكون هو الملتقط له فدل على أن رفعه أفضل من تركه.
- فإن قيل ؟ ما معنى هذا الكلام وكان متمكنا- أي الإمام علي- من أخذه بولاية الإمامة !
والجواب أن إحياءه كان في التقاطه حين كان على شرف الهلاك ولا يحصل ذلك بالأخذ منه بعد ما ظهر له حافظ ومتعهد فلهذا استحب ذلك مع أنه لا ينبغي للإمام أن يأخذه من الملتقط إلا بسبب يوجب ذلك لأن يده سبقت إليه فهو أحق به باعتبار يده(21).
فقد رغب الإمام علي – رضي الله عنه- في الالتقاط و بالغ في الترغيب فيه حيث فضله على جملة من أعمال الخير على المبالغة في الندب إليه و لأنه نفس لا حافظ لها بل هي في مضيعة فكان التقاطها إحياء لها معنى ، فالالتقاط مندوب إلا إذا غلب على ظنه ضياعه إن لم يلتقطه فواجب(22).
- عند الجمهور(23) :أن التقاطه فرض على الكفاية، فإذا قام به واحد سقط فرضه عن الباقين ، وان لم يقم به أحد أثموا جميعا ، هذا مع علمهم به ،وان لم يعلم به إلا واحد لزمه أخذه .
- في المدونة الكبرى: أن التقاطه من فروض الكفايات (24).
- في مغني المحتاج : وأخذه فرض كفاية:
· لقوله تعالى : ? وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ? [المائدة:32]، إذ بإحيائها يسقط الحرج عن الناس فإحياؤهم بالنجاة من العذاب.
· ولأنه آدمي محترم فوجب حفظه كالمضطر إلى طعام غيره بل أولى لأن البالغ العاقل ربما احتال لنفسه فلو لم يعلم بالمنبوذ إلا واحد لزمه أخذه فلو لم يلتقطه حتى علم به غيره فهل يجب عليهما كما لو علما معا أو على الأول فقط أبدى ابن الرفعة فيه احتمالين قال السبكي والذي يجب القطع به أنه يجب عليهم(25).
- في متن أبي شجاع: وإذا وجد لقيط بقارعة الطريق فأخذه وتربيته وكفالته واجبة على الكفاية(26).
- في كفاية الأخيار: فأخذ اللقيط فرض كفاية لقوله تعالى : ? وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى? [المائدة:2]، ولأنه آدمي له حرمة فوجب حفظه بالتربية وإصلاح حاله كالمضطر وهذا أولى، لأن البالغ ربما احتال لنفسه، فإن التقط من هو أهل للحضانة سقط الإثم وإلا أثم وعصى كل من علم به من أهل تلك الناحية بإضاعة نفس محترمة(27).
وفي كتب المذهب الحنبلي: أن التقاطه فرض كفاية، لقول الله تعالى : ? وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى? [المائدة:2]، ولأن فيه إحياء نفسه فكان واجبا كإطعامه إذا اضطر وإنجائه من الغرق، ووجوبه على الكفاية إذا قام به واحد سقط عن الباقين فإن تركه الجماعة أثموا كلهم إذا علموا فتركوه مع إمكان أخذه(28).
ثالثا: الإشهاد على اللقيط:
ينبغي للملتقط أن يشهد على التقاطه، وأن يعلن عن ذلك بكل وسيلة ممكنة ، والسبب:
· أن يصل خبره إلى أهله إن كان قد ضاع منهم، لان القصد حفظ النسب .
· الخوف من أن يسترقه، لان الأصل الحرية .
· استحقاق الإنفاق عليه من مال اللقيط، أومن بيت المال، وعدم ضمانه بدون خلاف.
ولقد اختلف الفقهاء في حكم الإشهاد على اللقيط إلى قولين :
القول الأول: قول للحنابلة- وهو عند الأكثر- ، وقول للمالكية :أنه مسنون ومستحب .
- في الروض المربع : ويسن الإشهاد عليه(29).
- في الإقناع : ويستحب للملتقط الإشهاد عليه وعلى ما معه(30).
- في شرح منتهى الإرادات :وكذا لقيط يسن لمن وجده إن يشهد على وجدانه لئلا يسترقه(31).
- في الكافي في فقه ابن حنبل : وفي الإشهاد عليه وجهان :
أحدهما : لا يجب كما لا يجب في اللقطة.
والثاني : يجب لأن القصد به حفظ النسب والحرية فوجب كالإشهاد في النكاح(32).(/2)
- في الشرح الكبير : وهل يجب الإشهاد عليه ؟ فيه وجهان : أحدهما : لا يجب كما لا يجب الإشهاد في اللقطة، والثاني : يجب لأن القصد بالإشهاد حفظ النسب والحرية فاختص بوجوب الشهادة كالنكاح وفارق اللقطة فإن المقصود منها حفظ المال فلم يجب الإشهاد فيها كالبيع(33).
- في المدونة الكبرى: وفي وجوب الإشهاد عليه خيفة الاسترقاق خلاف، والخلاف فيه مبني على الاختلاف في الإشهاد على اللقطة(34) .
- في عمدة القاري: يجوز الالتقاط وإن لم يشهد(35).
القول الثاني: الشافعية وقول للمالكية وقول للحنابلة: أن الإشهاد واجب لأنه يحفظ به النسب، ولخشية الاسترقاق(36).
- في المهذب: و يجب الإشهاد على اللقيط لأنه يحفظ به النسب فوجب الإشهاد عليه كالنكاح(37).
- في مغني المحتاج: ويجب الإشهاد عليه أي التقاطه في الأصح وإن كان ظاهر العدالة خوفا من أن يسترقه، والثاني لا يجب اعتمادا على الأمانة كاللقطة، وأجاب الأول بأن الغرض منها: المال والإشهاد في التصرف المالي مستحب، ومن اللقيط: حريته ونسبه فوجب الإشهاد كما في النكاح، وبأن اللقطة يشيع أمرها بالتعريف ولا تعريف في اللقيط، ويجب الإشهاد أيضا على ما معه تبعا له، وقيد الماوردي وجوب الإشهاد عليه وعلى ما معه بالملتقط بنفسه أما من سلمه الحاكم له فالإشهاد مستحب له فقط قال شيخنا وهو ظاهر(38).
- في كفاية الأخيار:أن عليه أن يأتي باللقيط إلى الإمام، ولو لم يكن حاكم فليشهد فإذا أنفق بلا إشهاد ضمن لتركه الاحتياط، وقيل: لا يضمن فإن أشهد لم يضمن على الأصح(39).
وتقدم كلام المالكية والحنابلة في القول بوجوب الإشهاد على اللقيط، والذي يظهر - والله أعلم- : هو القول الثاني القائل بالوجوب، وذلك: لحفظ النسب ، ولخشية الاسترقاق، مع ضرورة الإعلان عنه حتى يسمع أهله به إن كان قد ضاع منهم .
رابعا: شروط الملتقط:
1- مسلم(40) :
فلا ولاية لكافر على مسلم ، فإن كان الملتقط كافرا واللقيط محكوم بإسلامه فينزع من الكافر ويسلم إلى يد مسلم حافظ أمين، فلا يلتقط الكافر الصبي المسلم لأن الالتقاط ولاية، فللكافر أن يلتقط الطفل الكافر لأن الكفار بعضهم أولياء بعض ، وأما المسلم فله التقاط الطفل المحكوم بكفره لأنه من أهل الولاية عليه.
2- مكلف(41) :
أي بالغا عاقلا: فلا يصح التقاط الصبي والمجنون، وغير المكلف لا يلي أمر نفسه فغيره أولى.
3- حرا (42):
فلا يلتقط العبد لأن الالتقاط ولاية، فإن التقط انتزع منه إلا أن يأذن السيد له أو يقره الحاكم في يده .
4- عدلا أمين(43):
فليس للفاسق الالتقاط، فلو التقط انتزع من يده لأنه لا يؤمن أن يسترقه، فالفاسق لا يقر في يده، أما مستور الحال فيقر في يده ، وحكمه حكم العدل الأمين ، ولأن الأصل العدالة، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- :" المسلمون عدول بعضهم على بعض" (44) ، لكن لو أراد السفر به : فهل يقر بيده ؟ فيه وجهان(45).
5- رشيد(46) :
فالمبذر المحجور عليه لا يقر في يده.
مسألة: في بقية الشروط: ولا يشترط في الالتقاط الذكورة بلا خلاف، ولا الغني على الصحيح لأنه لا يلزمه نفقته، نعم يجب عليه رعايته بما يحفظه(47).
تأكيد هذه الشروط عند أصحاب المذاهب:
- في المدونة الكبرى :والملتقط : هو كل حر عدل رشيد وليس العبد والمكاتب بملتقط وينزع من يد الفاسق والمبذر(48).
- في المذهب الحنبلي : فإن كان الملتقط أمينا حرا مسلما أقر في يده لحديث عمر -رضي الله عنه- ولأنه لا بد له من كافل والملتقط أحق للسبق(49)، وأولى الناس بحضانته : واجده الأمين(50)، والأحق بحضانته واجده لما تقدم عن عمر ولسبقه إليه فكان أولى به إن كان حرا مكلفا رشيدا لأن منافع القن مستحقة لسيده فلا يذهبها في غير نفعه إلا بإذنه وكذا السفيه أمينا عدلا ولو ظاهرا كولاية النكاح(51)، وأولى الناس بحضانته وحفظ ماله واجده أن كان أمينا مكلفا رشيدا حرا عدلا ولو ظاهر(52)، وحضانته لواجده الأمين لأن عمر أقر اللقيط في يد أبي جميلة حين قال له عريفه : إنه رجل صالح(53)، ولا يقر بيد صبي ومجنون وسفيه وفاسق ولا بيد رقيق بلا إذن سيده، وليس له التقاطه بغير إذن سيده إلا أن يجد من يلتقطه لأنه تخليص له من الهلكة، فإن إذن له سيده فهو نائبه والمدبر وأم الولد والمعلق عتقه والمكاتب ومن بعضه حر كالقن(54) ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به "(55)، قال في الفائق : وتشترط العدالة في أصح الروايتين، وجزم باشتراط الأمانة في الملتقط في الهداية والمذهب والمستوعب والخلاصة، وقطع في الوجيز و المحرر : أنه لا يقرر بيد فاسق(56) .
مسألة: الملتقط أحق من غيره بإمساك اللقيط :
الملتقط الذي توفرت فيه الشروط أحق من غيره بإمساك اللقيط، فليس لغيره الحق في انتزاعه من يده(/3)
لأنه كان سببا في إحيائه بالتقاطه حين كان على شرف الهلاك، فلا ينبغي للإمام أو غيره أن يأخذه من الملتقط إلا بسبب يوجب ذلك، ولأنه مباح والمباح يكون لمن سبقت يده إليه(57)، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به" (58).
إعداد وجمع: يونس عبد الرب فاضل الطلول
(1) فتح الباري لابن حجر ( جزء 1 - صفحة 192 ).
(2) عون المعبود ( جزء 8 - صفحة 82 ) .
(3) انظر:المبسوط ( جزء 6 - صفحة 146 ) .
(4)انظر:اللباب في شرح الكتاب جزء 2 - صفحة 55 ) .
(5)انظر:بدائع الصنائع ( جزء 5 - صفحة 290 ) .
(6)انظر:المدونة الكبرى ( جزء 4 - صفحة 263 ) ، بداية المجتهد ( جزء 1 - صفحة 1117 ) .
(7)انظر مغني المحتاج ( جزء 2 - صفحة 417 ) .
(8)انظر: مغني المحتاج (2/417) .
(9) انظر: كفاية الأخيار ( جزء 1 - صفحة 431 ) .
(10)انظر: المغني ( جزء 6 - صفحة 403 ) وانظر: الكافي في فقه الإمام أحمد ابن حنبل (2/203)،
وانظر: العدة شرح العمدة ( جزء 1 - صفحة 259 ) .
(11) زاد المستقنع ( جزء 1 - صفحة 450 ) .
(12) الروض المربع ( جزء 1 - صفحة 450 ) .
(13) منار السبيل ( جزء 1 - صفحة 325 ) .
(14) الإقناع ( جزء 2 - صفحة 405 ) .
(15)انظر: الإنصاف ( جزء 6 - صفحة 432 ) بتصرف .
(16) نهاية المحتاج (5/8445) .
(17)الإنصاف ( جزء 6 - صفحة 432 ) .
(18) المدونة الكبرى ( جزء 4 - صفحة 263 )، اللباب في شرح الكتاب ( جزء 2 - صفحة 57 )، مغني المحتاج ( جزء 2 - صفحة 417 )، المغني ( جزء 6 - صفحة 403 )، المهذب ( جزء 2 - صفحة 303 ) .
(19)عمدة القاري ( جزء 2 - صفحة 111 ) .
(20) أخرجه أبو داود ج2ص703، برقم 4943، وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته ج1 ص 1149، برقم 11486.
(21)انظر: المبسوط ( جزء 6 - صفحة 146 ) .
(22)انظر: بدائع الصنائع ( جزء 5 - صفحة 291 )، الهداية (4/417)، الدر المختار(4/274) .
(23)انظر: المدونة الكبرى ( جزء 4 - صفحة 263 )، مغني المحتاج ( جزء 2 - صفحة 417 )، متن أبي شجاع ( جزء 1 - صفحة 192 )، اللباب في شرح الكتاب ( جزء 2 - صفحة 57 )، كفاية الأخيار ( جزء 1 - صفحة 431 ) ، المغني ( جزء 6 - صفحة 403 ) ، الكافي في فقه ابن حنبل (2/203)، زاد المستقنع (1/450) ، الروض المربع (1/450)، منار السبيل (1/325)، الإقناع (2/405).
(24) المدونة الكبرى ( جزء 4 - صفحة 263 ).
(25) مغني المحتاج ( جزء 2 - صفحة 417 ).
(26) متن أبي شجاع ( جزء 1 - صفحة 192 ).
(27) كفاية الأخيار ( جزء 1 - صفحة 431 ).
(28)انظر: المغني ( جزء 6 - صفحة 403 ) ، الكافي في فقه ابن حنبل(2/203)، زاد المستقنع (1/450) ، الروض المربع (1/450)، منار السبيل (1/325)، الإقناع (2/405) .
(29) الروض المربع (1/450) .
(30) الإقناع ( جزء 2 - صفحة 405 ).
(31) شرح منتهى الإرادات ( جزء 2 - صفحة 383 ).
(32) الكافي في فقه ابن حنبل ( جزء 2 - صفحة 203 ).
(33) الشرح الكبير ( جزء 6 - صفحة 407 ).
(34) المدونة الكبرى ( جزء 4 - صفحة 263 ).
(35) عمدة القاري ( جزء 13 - صفحة 237 ).
(36) المهذب ( جزء 2 -صفحة 303)، مغني المحتاج (2/417)، كفاية الأخيار (جزء 1- صفحة 431)، المدونة الكبرى (جزء 4 - صفحة 263)، الكافي في فقه ابن حنبل (جزء 2 - صفحة 203)، الشرح الكبير (جزء 6-صفحة 407).
(37) المهذب ( جزء 2 - صفحة 303 )بتصرف .
(38) مغني المحتاج (2/417) .
(39) كفاية الأخيار ( جزء 1 - صفحة 431 ) .
(40)انظر: كفاية الأخيار ( جزء 1 - صفحة 431 )، المدونة الكبرى ( جزء 4 - صفحة 263 )، الإقناع ( جزء 2 - صفحة 405 ) .
(41) انظر: منار السبيل ( 1/235)، كفاية الأخيار ( جزء 1 - صفحة 431 )، الإقناع ( جزء 2 - صفحة 405 ) .
(42)انظر:كفاية الأخيار( جزء 1 - صفحة 431 )، المدونة الكبرى ( جزء 4 - صفحة 263 )، الإقناع ( جزء 2 - صفحة 405 ) .
(43)انظر: كفاية الأخيار ( جزء 1 - صفحة 431 )، الإقناع ( جزء 2 - صفحة 405 )، المدونة الكبرى ( جزء 4 - صفحة 263 )، الكافي في فقه ابن حنبل ( جزء 2 - صفحة 203 )، الإنصاف ( جزء 6 - صفحة 438 ).
(44) انظر: المغني (5/688) ، مغني المحتاج (2/418) .
(45) الإنصاف ( جزء 6 - صفحة 438 ) .
(46)انظر: كفاية الأخيار ( جزء 1 - صفحة 431 )، المدونة الكبرى ( جزء 4 - صفحة 263 )، منار السبيل ( 1/235) .
(47) كفاية الأخيار ( جزء 1 - صفحة 431 )، المدونة الكبرى ( جزء 4 - صفحة 263 ) .
(48) المدونة الكبرى ( جزء 4 - صفحة 263 ) .
(49) الكافي في فقه ابن حنبل ( جزء 2 - صفحة 203 ) .
(50)الإنصاف ( جزء 6 - صفحة 438 ) .
(51)انظر: الشرح الكبير ( جزء 6 - صفحة 407 )، منار السبيل ( 1/235) .
(52) الإقناع ( جزء 2 - صفحة 405 ) .
(53) الروض المربع ( جزء 1 - صفحة 450 ) .
(54)انظر: الإقناع ( جزء 2 - صفحة 405 )، الإنصاف ( جزء 6 - صفحة 439 ) .(/4)
(55) أخرجه أبو داود ج 2 ص 194، برقم 3071، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف أبي داود ج1ص310 برقم 672.
(56)الإنصاف ( جزء 6 - صفحة 438 )
(57) انظر: المفصل في أحكام المرأة، للدكتور/ عبد الكريم زيدان- حفظه الله - ( 9/420 ) .
(58) تقدم تخريجه .(/5)
الله أكبر.. غلبت الروم!
16/02/1424
أ.د ناصر بن سليمان العمر -المشرف العام على موقع المسلم
*إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
• (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون).
• ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء، والله لايحب الظالمين، وليمحص الله الذين آمنوا، ويمحق الكافرين).
• ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين).
مآتم الظلم تتلوهن أعياد
إياك أن تجزعي إياك بغداد
أم استبد بأهليك الطغاة أذى
وراح يمتحن الأحرار جلاد؟!
ماكان للظلم أن يمحو عقيدتنا
ولن يروق لنا كفرٌ وإلحادُ
نهاية الظلم يابغداد واحدة
الله، والحق، والتاريخ أشهاد
أيها الأحبة:
عن ماذا أتحدَّث ؟
ليست العبرة أن نسرد التاريخ، ولكن العبرة أن نستفيد من التاريخ، وأن نستفيد من الأحداث، وأن تتربَّى الأمة من أحداثها.
هذه الأحداث التي جرت، وسقوط بغداد، فيها عبر وفيها دروس، أوجزها بمايلي:
فأقول : مقتصراً على أهمِّ الدروس والعبر:
أولاً: السؤال الكبير :
هل فعلاً انتصرت أمريكا وحلفاؤها ؟
الناس يتحدثون عن هذا الانتصار،ولكنني أقول لكم:
نعم، حققت أمريكا بعض المكاسب، لكنها لم تنتصر.
تحقيق المكاسب شيء، والانتصار شيء آخر.
بل إنني جلست أتأمل في الهزائم والخسائر والنكبات التي حققتها أمريكا من خلال هذه الحملة الظالمة الباغية الطاغية على العراق، وما تتوعد به من حملات آتية، فوجدتُ أن خسائرها وأن هزائمها تتفوق أضعافاً مضاعفة على ما بدا لنا من بعض الانتصارات والمكاسب السريعة.
هذه مسألة آمل ألاَّ تستغرقنا اللحظة الحاضرة فيما نشاهده، عن الحقيقة الكبرى التي كنت أتحدث بها منذ فترة طويلة، ولا أزال، وسأظل – بإذن الله – حتى نرى الأمر عياناً بياناً وهو : سقوط هذا الصنم . سقوط هذه الدولة الظالمة الباغية الطاغية: أمريكا، ومن معها.
أمريكا نعم دخلت بغداد، ودخلت العراق.
نعم.. حصلت على بعض المكاسب..
وعندما أتحدث عن أمريكا فغيرها تبع لها، ولكنها خسرت خسائر جمَّة أذكر بعضها على سبيل الإشارة لاعلى سبيل الحصر، فالمقام لايتسع لذلك.
1. أمريكا سقطت أخلاقياً.. وما أحدثته في هذه الحرب مما تهون عنده جرائم وردت في التاريخ .. يبين أن أمريكا لم تلتزم بأي ميثاق بشري ولاغيره من مواثيق الحروب التي نزلت في الكتب السماوية أوحتى التي أقرَّتها بعض القوانين البشرية، بل حتى ما أقرَّته أمريكا نفسها من قوانين لم تلتزم بها في هذه الحرب، فهي سقطت أخلاقياً.
واطمئنوا، إذا سقطت أخلاقياً فستسقط من أرض الواقع – بإذن الله – .
2. أمريكا سقطت – كما قلت أكثر من مرة – دولياً .. لتحديها دول العالم، ونُشرت احصائية – أشرت إليها في الدرس الماضي – مذهلة لبعض الدول الصديقة لأمريكا حيث وصلت شعبيتها في بعض تلك الدول إلى 25%، بل إلى 12%، وهي في نزول وانهيار – والحمدلله – بسبب حملتها الظالمة الجائرة، وتحديها العالم أجمع.
وهذا مكسب ضخم .. ماكان يتوقع أحد أن يتحقق في هذه الفترة الوجيزة القصيرة من عمر التاريخ !
شعبية أمريكا خلال سنة فقط انهارت أكثر من 50%..
والأيام القادمة .. والشهور القادمة .. والسنوات القادمة – بإذن الله – تحمل مزيداً من العداء والكُره والبُغض لأمريكا..
وقلت لكم أكثر من مرة . إذا أراد الله سقوط دولة، أسقطها من قلوب الناس قبل أن تسقط من أرض الواقع، فكما سقطت روسيا الشيوعية من قلوب الناس،حتى من المؤيدين لها، ثم سقطت من أرض الواقع، هاهي أمريكا تسقط من قلوب الناس حتى من كان يؤيدها قبل سنتين فقط، ويدافع عنها، وهذا مؤذن بسقوطها – بإذن الله – من أرض الواقع.
3. كانت أمريكا قبل سنة فقط تتهم المسلمين بالإرهاب، وليس الغريب أو العجيب أن تتهم أمريكا المسلمين بالإرهاب، فهذا ديدنها، وإنما المشكل أن الكثير صدَّق هذه الدعوى، وهذه الحملة، حتى إن بعض المسلمين، وبعض المحسوبين على الإسلام، ومن يتكلم بلغتنا، بل من بني جلدتنا صدَّق هذه المقولة فأصبح في كتاباته يكتب عن الإرهاب الذي تتحدث عنه أمريكا، وهو لايعلم أو يعلم أنها تقصده هو، فضلاً عن غيره، وماهي إلا شهور فينكشف للعالم أن أكبر دولة إرهابية في العالم هي : أمريكا .(/1)
أمريكا هي حاضنة الإرهاب، وداعمة الإرهاب، سواء في فلسطين وفي أقطار عدة من العالم.. وبالمناسبة ليس هذا جديداً، ولكنه لم ينكشف إلا أخيراً، وإلا قبل ثلاثين سنة وأمريكا تحمي الإرهاب في مواطن عدة من أنحاء العالم.. الإرهاب الحقيقي، سواء إرهاب اليهود أو المنظمات الإرهابية الحقيقية، كانت أمريكا هي التي تدعمها، وكانت أمريكا هي التي تمدَّها..
لم ينكشف هذا للعالم، وماكان يعرفه إلا خواص الناس والساسة، والمتخصصين فإذا هو ينكشف للعالم أنه لاأحد يجاري أمريكا في إرهابها..
وماحدث في بغداد، وفي العراق، وما تتوعد به الآن دليل على ذلك.
بعد دخول بغداد.. سئل وزير الدفاع الأمريكي :
أين أسلحة الدمار الشامل ؟
انظروا لهذه الإجابة الخبيثة التي تدل على ما تخفي صدورهم، وما نطقت به ألسنتهم، وما تخفي صدورهم أكبر.. قال:
إن أسلحة الدمار الشامل يبدو أنها هُرِّبت إلى سوريا..!! وهو أراد أن يكسب شيئين:
1- أن يقول للناس: نحن ما كذبنا أن في العراق أسلحة دمار شامل، لكن هرَّبها إلى سوريا.
2- وحتى تكون ذريعة لمواجهة سوريا التي بدأت لها التهديدات الآن، وإذا دخلوا سوريا – وأسأل الله أن لا يحقق أمنيته – سيقول: هُرِّبت إلى البلد الفلاني، وهكذا دواليك..
والمعركة قائمة الآن.. اليوم ذكرت الصحف أن أحد كبار المسئولين في أمريكا انضم – قالت انضم – لعدد من المسئولين الأمريكان الذين يهددون عدداً من دول المنطقة، وخاصة بعد ما رأوه من انتصار – والله المستعان –.
إذن هذا.. بيَّن من أصبح الإرهابي ؟هذا مكسب: أن يعرف العالم أن أمريكا هي داعمة الإرهاب، وداعية الإرهاب.
4. أيضاً.. أمريكا دخلت بغداد.. ولكنها دخلت معركة لن تنتهي – بإذن الله – إلا بهزيمتها الساحقة.. دخلت في حروب ومواجهات لن تنتهي، بل ما حدث في العراق، وفي بغداد، ليس إلا أول المعركة، وهذا قلته لكم قبل ثلاثة أسابيع بل إنني قلت بعد بدء ضرب بغداد بساعات بموقع: (الإسلام اليوم) قلت: لم تبدأ المعركة بعد.. أي أن المعركة في بدايتها، والمعركة طويلة، وطويلة وطويلة..
وأبشروا وأسأل الله أن تكون قصيرة، وستكون بهزيمة أمريكا وحلفائها – بإذن الله –.
إذن هي لن تنعم بالأمن.. لن تنعم بالراحة.. لن تنعم بالهدوء.. لن تستقر لا في داخلها، ولا في خارجها.. لن تستقر مصالحها في الخارج، ولا في الداخل، وهذا لاشك هزيمة لأمريكا بدل أن كانت من أكثر دول العالم أمناً مع وقوع الجرائم، لكن كانت الجرائم فردية، الآن دخلت في مواجهات أكبر من ذلك..
5. وأخيراً.. انكشفت أمريكا على حقيقتها، وسقطت شعارات العدالة والحرية، والديمقراطية التي طالما تغنَّت بها أمريكا، وصدَّقها المغفلون من أبناء المسلمين، فضلاً عن غيرهم من العالم.
وأعطيكم مثلاً واحداً برهاناً على ذلك:
أليست الحملة اسمها: (حملة حُرِّية العراق).
ثمَّ.. سقطت بغداد.. ما الذي حدث في العراق ؟ انتهى النظام – كما أعلن الرئيس الأمريكي نفسه – بدأ النهب والسلب والقتل والاقتتال بين أبناء العراق من المسلمين وغيرهم.. وعندما أقول: (أبناء العراق) لا يعني أنهم كلهم من المسلمين..
أين الحُرِّية التي جاءت بها أمريكا ؟ جاءت الفوضى، وجاء الدمار، وجاء الإخلال بالأمن، وجاءت السرقات.. هذه هي حُرِّية العراق، كما تفهمها أمريكا..
باختصار.. هذه بعض الهزائم الضخمة بعيدة المدى التي حققتها أمريكا في هذه الحملة، فمن المنتصر ؟
هل انتصرت ؟ قد تكون انتصرت في بادي الأمر، أو حققت بعض المكاسب، ولكنها في الحقيقة لم تنتصر، ولن تنتصر – بإذن الله – .
هذا درس عظيم.. حتى لا نعيش اليأس والقنوط والتشاؤم والاستسلام، كما يروِّج له البعض من بعض الكُتَّاب الذين يقولون: هذه أمريكا، وهذا جزاء من يواجهها، فهم يهيئون لمرحلة قادمة من أجل الاستسلام لهذا العدو الغاشم.
ثانياً: الدرس الثاني، وهو درس عظيم:
سقوط الشعارات الوثنية من قومية وبعثية وغيرها بشكل لم يكن يتصوره أكثر الناس.
وهذه الشعارات – أيها الإخوة – سبق أن ذكرت لكم في محاضرة.. في كتاب: (رؤية استراتيجية في القضية الفلسطينية) قبل سنتين، وقلت:
إنه تحقق في فلسطين انتصارات ضخمة، ومن أعظم هذه الانتصارات:
سقوط الشعارات العلمانية والبعثية والقومية وغيرها في فلسطين، ولم يبق إلا راية الإسلام، هي التي تواجه اليهود في فلسطين.
هذا مكسب ضخم، الآن المعركة متعددة بين اليهود وبين المسلمين في داخل فلسطين ومن يرفع راية الجهاد، وسقطت جميع تلك الشعارات التي قبل ثلاثين سنة تقول: سنلقي إسرائيل في البحر.
هذا السقوط مكسب ضخم..
الآن أيضاً: سقوط ركن من أركان الظلم، وهو الحكم البعثي في العراق.. لا شك أنه مكسب، وسقوط هذا الشعار: شعار القومية أو شعار البعثية،كل الشعارات الوثنية ستتساقط بإذن الله.
وهنا – أيها الإخوة – آمل أن ترعوني أسماعكم لحقيقة تنمو وتكبر يوماً بعد يوم، أقول لكم – واثقاً بوعد الله وبنصره – .(/2)
إن الإسلام قادم، وإن النصر قادم، وإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
الذي يرقب المسيرة منذ ثلاثين سنة أو أربعين سنة، يلحظ هذا الأمر: تتهاوى عروش ضخمة عدوة لله ولرسوله، وترتفع رايات قوية تنصر دين الله – جل وعلا.
- هوت الشيوعية، وهي عقبة كؤود أمام المسلمين.
- هوت المنظمات التي كانت في داخل المسلمين: القومية، الناصرية، البعثية، العلمانية، كثير.. هوت الآن.. ومن لم يهوِ منها يتهاوى.. وهذا أيضاً انتصار ضخم للمسلمين، والآن تتهاوى أمريكا.. وهذا انتصار ضخم للمسلمين.
في النهاية: المسلمون يرتفعون، ويعودون إلى ربهم، ويدركون فعلاً كيف يكون لهم المستقبل – بإذن الله – وأعداؤهم يتهاوون واحداً تلو الآخر.
لو أحصينا – خلال ثلاثين سنة – ما سقط من أعداء لأمة الإسلام ولهذا الدين فإذا هي أعداد ضخمة – كما أشرت لكم – سواء خارج بلاد المسلمين أو في داخلها. وهذا يجب أن لا نغفل عنه، وهو مكسب لا بد أن تمر به الأمة حتى تحقق النصر.. (ولكنكم تستعجلون).
إذن: سقوط البعثية، سقوط القوميات، سقوط الشعارات التي أقضَّت الأمة، وأزعجت الأمة زمناً طويلاً.. ثلاثين أو أربعين سنة.. هذا انتصار للأمة، لا يقدَّر بثمن، ولكن لا تزال الأمة أمامها طريق طويل من أجل أن تعيد مجدها وعزّها – بإذن الله.
ثالثاً: أيضاً من هذه الدروس:
قارن بعملية يسيرة: بين مواجهة المسلمين لأعدائهم، في أفغانستان عندما واجهوا روسيا، أو في فلسطين وهم الآن يواجهون اليهود، أو في الشيشان وهم يواجهون أيضاً الروس، أو في كشمير وهم يواجهون الهند مع قلة عددهم وعدتهم، وثباتهم إلى الآن، ويزدادون ثباتاً بعد ثبات – والحمد لله – .
بينما دولة ضخمة كالعراق، بأسلحتها وأموالها ونظامها وأرضها تهوي في ثلاثة أسابيع. يعطينا حقيقة لامجال فيها :
أن الذي يقف أمام مد الطغيان والكفر هو الإسلام.
وأن جميع الشعارات مهما كانت قوتها لاتستطيع أن تقف مع من هو أقوى منها، أما إذا كان الإسلام هو المقابل فإنه يثبت ثبوتاً يبهر أعداءه قبل أصدقائه.
وهنا أعطيكم قاعدة :
أن سنن الله . الكونية إذا تدافعت غلب الأقوى، أما إذا انضمَّت السنة الشرعية فإنه في هذه الحالة تكون القوة والغلبة للسنة الشرعية : ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) ( ولما برزوا لجالوت وجنوده) وهم قلة ضعفة، عددهم محدود، ودعوا الله: ( ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) ( فهزموهم بإذن الله، وقتل داود جالوت) سبحان الله .. ( قال أصحاب موسى إنا لمدركون، قال: كلا، إن معي ربي سيهدين).
إذن . ثبات المسلمين في أفغانستان حتى سقطت روسيا، وليس فقط حتى خرجت من أفغانستان،وثبات المسلمين الآن على قلتهم وضعفهم في فلسطين، واليهود يعانون معاناة وهزيمة ورعباً في داخل فلسطين – زادهم الله رعباً وذلاً –، وفي الشيشان .. عدد سكان الشيشان كله رجاله ونساؤه، كباره وصغاره .. المجاهدون وغير المجاهدين، كلهم قرابة مليون، والجيش الروسي مليون، الجيش الروسي المدجج بالسلاح مليون، وثابتون منذ قرابة عشر سنوات وفي كشمير يواجهون دولة طاغية ظالمة باغية، تملك سلاحاً نووياً وأسلحة فتاكة، وثابتون منذ سنوات عدة – والحمد لله – .
فأبشروا بالخير.. أليس هذا من الانتصار ؟
لامكان لليأس .. لامكان للتشاؤم.. ولكن مرة أخرى أقول :
إن الطريق طويل، ويحتاج إلى صبر وتحمُّل وبُعد نظر وعدم استعجال.
رابعاً / من هذه الدروس التي نقف معها :
هو ما أشرتُ إليه عندما قلت :
لن يقف أمام اليهود والنصارى وغيرهم من ملل الكفر إلا المجاهدون الصادقون، وهذا يتطلَّب استعداداً مبكراً، واستثماراً لكل الفرص، مع عدم الاستعجال أو اليأس أو القنوط.
وهذا حديثنا مع سورة يوسف – إن شاء الله – بعد الآذان. حيث سأبيِّن أن جميع مقوِّمات النصر، والتي تحقَّق بها انتصار يوسف موجودة في سورة يوسف وسيرته – عليه السلام – فإذا أخذنا بها حصل لنا العز والتمكين، كما حصل ليوسف.
خامساً: من الدروس :
ظهر الرافضة على حقيقتهم،فما أن تمكنوا، واطمأنوا إلى تمكن أمريكا، فإذا هم يعيثون في الأرض فساداً .. وإذا هم يبدأون في قتل إخواننا أهل السنة، وهذا ماكان يخشاه إخواننا من قبل الحرب، أما المقاومة التي حدثت في أول دخول القوات الأمريكية فلها عوامل وأسباب ليس هذا مكان بيانها، وتفاصيل أدعها لحينها،أما الحقائق فقد ظهرت الآن .. وهذا يظهر قوة العلاقة بين أمريكا والرافضة، منذ سنوات ونحن نقول هذا الكلام.
ومن أبرز مظاهر ذلك : أن الذين رحَّبُوا بالقوات الأمريكية عندما دخلت بغداد أغلبهم من الرافضة، ما أقول كلهم من الرافضة، أغلبهم من الرافضة.
وهذا ليس كلامي أنا، وإنما كلام وسائل الإعلام الغربية…
القنوات الفضائية ووسائل الإعلام الغربية ذكرت : أن الذين رحَّبُوا بأمريكا أكثرهم من الرافضة.. وليس هذا غريباً عليهم.(/3)
ثم الآن أكثر الزعماء الذين برزوا – لاأريد ذكر أسماءهم – كلهم من الرافضة، وأثبتوا عمالتهم لأمريكا ومساعدتهم لأمريكا قبل دخولها.. واقرأوا الصحف تجدون هذه الحقيقة .. كأحمد الجلبي وغيره، وحزام التميمي .. وتميم بريئة منه.. هذه حقائق.. قوة العلاقة بين أمريكا والرافضة قديمة.. وتذكرون في هذا المكان قلت لكم قبل ستة أشهر تقريباً أو خمسة أشهر قلت :
إن (70%) في دراسة استطلاعية أجريت في إيران، تطالب بتوثيق العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية .. حقائق.. أرقام.. فأين دعاة التقريب ؟ أين دعاة التسامح ؟ أين الذين يقولون – مع كل أسف – لاداعي لإثارة الفروق المذهبية ؟
من قال : إن خلافنا مع الرافضة هو فروق مذهبية ؟!
نعم .. لاداعي لإثارة الفروق المذهبية بين الأحناف والشافعية والمالكية والحنابلة .. نعم.. لايجوز هذا الأمر .. وهذا يخدم العدو.
أما الرافضة نحن نختلف وإياهم في الأصول لافي الفروع.
والحقيقة: أننا لانلتقي وإياهم أبداً في الطريق.
لانخدع بما يقال، فهم من أكثر الناس كذباً على مر التاريخ..
اليهود على كذبهم، لم يصلوا في الكذب كما وصل إليه الرافضة، لماذا ؟
لأن الكذب عند الرافضة جزء من عقيدتهم أدخلوه باسم التقية، فهم يخدعون الناس، ويكذبون على الناس، ولكن عندما تظهر الحقائق يظهرون على حقيقتهم.
فأقول لهؤلاء المخدوعين من أبناء جلدتا:
رويدكم، إياكم أن تخدعوا، وإن كنتم منخدعين فلا تخدعوا غيركم من أبناء الأمة .
نعم .. أنا أقول: قد تقتضي المصلحة الشرعية والسياسة الشرعية أن نتقي شرهم كما نتقي شر غيرهم، وهذا يُحدَّد في مكانه وزمانه وأسلوبه ضمن الأطر الشرعية، وأصول الشرع تقضي بأن المفسدة الكبرى قد تدفع بالصغرى.
أما أن نقول : إنه ليس بيننا وبينهم فروق فهذا باطل وخداع !! .. بل إنني أدعو هنا إلى دعوة الرافضة للإسلام الصحيح،وقد حقَّقت هذه الدعوة نجاحاً ضخماً – والحمدلله – في عدد من مناطق المملكة، وفي غيرها.. أن يدعوا إلى الإسلام، والالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة، وهذا أمر قصَّرنا فيه كثيراً فاستغله الأعداء.
وموقفي من الرافضة قد بيَّنته في مذكرة قدمتها لهيئة كبار العلماء قبل قرابة عشر سنوات بعنوان : الرافضة في بلاد التوحيد – كفانا الله شرَّهم – .
هذه حقيقة ظهرت مع الأحداث، لابد أن نكون على يقظة وتنبه لها.
سادساً: من الدروس العجيبة :
نهاية الظالمين ..
وهي سنة كونية، طال الزمن أوقصر، فإن لهم موعداً لايستأخرون عنه ساعة ولايستقدمون.
فهذا ظالم سقط، وهذا مؤذن بإذن الله بسقوط من هو أعظم منه ظلماً وهي أمريكا ومن معها، واليهود ومن معهم، وكل من حالفهم أو أيدهم، فهذه نهاية الظالمين.. درس عظيم من دروس سقوط بغداد (( إن ربك لبالمرصاد))، (( فلا تحسبنَّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون)) (( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)).
سابعاً: من الدروس أيها الأحبة:
عدم الاستعجال . والثقة بوعد الله، والأخذ بالأسباب المؤدية إلى ذلك .
ومن أسباب تأخر النصر :
أن الأمَّة ليست أهلاً له الآن – والعلم عند الله – .
وواقعها العام والخاص يشهد بذلك، وإلا فوعد الله لايتخلف أبداً، ولكن تتخلف أسبابه، وتوجد موانعه، فإذا توافرت الأسباب، وزالت الموانع تحقَّق النصر بإذن الله (وعدالله، لايخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لايعلمون).
فلا تستعجلوا.. أبشروا بالخير وأمِّلوا واثبتوا واصبروا وصابروا، وسترون – بإذن الله – أويرى أبناؤكم ما يسرُّهم ويسر هذه الأمة .
المهم .. أن نأخذ بأسباب النصر، وأن لانقف متفرجين .. ( يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ماقاتلوا إلا قليلاً ) .
مما أظهرته الأحداث وتأثرت له كثيراً :
الحاجة إلى إصلاح الأمة في عامتها وخاصتها.
ففي الوقت الذي كان الطغاة البغاة يدخلون بغداد ويستبيحون هذه الدولة المسلمة بشعبها المسلم،فإذا مباراة تقام في الوقت نفسه يحضرها أكثر من (50) ألف متفرج!!!
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم..!!
والله يا أحبتي .. إنها لمأساة .. حتى في هذه اللحظات ؟! أكثر من (50) ألف، غصَّت بهم المدرجات، يصيحون ويصفِّرون ويشجِّعون..!!
يشجِّعون ماذا ؟ وقوَّات الصليب تجتاح بغداد!
ألا نستحي من الله ؟ ألا نخاف من الله ؟ ما أحلم الله علينا! ما أحلم الله!
فيا أحبتي الكرام .. لانتساهل في هذه المسائل..
الأمة بحاجة إلى إصلاح في داخلها من أفرادها ومن عامتها وخاصتها، كلٌ منايبدأ في بيته..
كثيراً مانسمع النقد للدول وللمؤسسات.. لكن مامدى تطبيق الإسلام على بيوتنا وعلى أنفسنا ؟ كل منكم ينظر إلى بيته الآن، بل إلى نفسه:
مامقدار قيامه بأمر الله – جل وعلا – في صلاته، في عبادته، في إنابته، في أخذه بالحق، في ماله، في أكله، في شربه، في تربية أبنائه..
بل إن البعض بسبب هذه الأزمة أدخلوا آلات اللهو والدشوش إلى بيوتهم باسم متابعة الأخبار، فأدخلوا بلاء ً عظيماً إلى بيوتهم.(/4)
الاستراحات .. المقاهي مليئة بالشباب.. ماذا يفعلون في تلك المقاهي والاستراحات ؟
الأسواق مليئة بما مايغضب الله – جلََّ وعلا – وهذه تكون من أسباب العقوبة – أيها الأخوة – .
( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً ) 000.
هذه سنة كونية، إذا أردا الله إهلاك قرية، إهلاك أمة، إهلاك بلد تسلَّط المفسدون السفهاء، فعبثوا فيها وأفسدوا فحق عليها القول .. حق عليها العذاب، فيدمِّرها الله تدميراً .
الناس الآن لايستمعون إلى المواعظ، لوجاء أحد يعظهم لملَّوا، ولذلك فإني أقول لكم : أول مانبدأ بالوعظ في أنفسنا، وفي بيوتنا، وأن نقيم حِلَق الذكر في بيوتنا، ومع أهلنا وعشيرتنا،وفي مساجدنا، هذا العدد الذي يستمع إلى هذه الكلمة أمامي الآن،هذا العدد الطيِّب الخيِّر، لو أنهم بثَّوا وانتشروا في مناطق عدة، وذكَّروا ووعظوا لأحيوا الأمة، وإلا فإنني أخشى من عقوبة، ونحن نتفرج الآن على العقوبات تحل بالبلاد القريبة منا.
أفنأمن ونطمئن ؟
هل بيننا وبين الله عهد وميثاق أن يمنع عنا العقوبة إلا بالالتزام بدينه ؟
فإذا تخلينا عن دينه، وعن عقيدتنا فأخشى أن يحلَّ بنا ماحلَّ بغيرنا !
فعودوا إلى الله .. توبوا إلى الله .. واقع مؤلم.. الأحوال لم تتغير.. لم يعد الناس إلى الله – جل وعلا –، ولذلك صدقت كلمة الإمام/ محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله – عندما قال هذه الكلمة العجيبة الرائعة :
إن مشركي زماننا أشد شركاً من الأولين.
لأن الأولين إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، أما مشركوا زماننا فلا يعودون إلى الله، لافي السرَّاء ولافي الضرَّاء.
هذا درس عظيم من هذه الدروس: المبادرة .. المبادرة، قبل حلول العقوبة.
ثامناً: أيضاً من هذه الدروس:
سذاجة الشعوب وبساطتها.
شعوب ساذجة بسيطة، سواء المعجبون بصدام، أو المعجبون المرحِّبون بأمريكا.
كم ضاعت الأمة وهي تصفِّق للطغاة.
عشرون سنة أو ثلاثون سنة تصفِّق لصدَّام، وقبل صدَّام كانت تصفِّق لآخرين هووا وذهبوا، والآن يسقط صنم، فيرحبون بأمريكا ببساطة وسذاجة عجيبة جداً .
إذن هذا يحتاج إلى إصلاح الأمة، وإلى بث الوعي فيها أكثر من أي وقت مضى.
تاسعاً: من هذه الدروس:
إن الأمة – في هذه الأحداث – ثبت أن فيها أخياراَ وصلحاء، وعلماء ومجاهدين، ورجال من المجاهدين الذين أثبتت الأحداث صدقهم وضربوا لنا، وفتحوا صفحات مشرقة بإيمانهم وحسن ظنهم بربهم، ذكَّرونا بعهد السلف – رضوان الله عليهم – من الرجال والنساء.
الأمة فيها أخيار، الأمة فيها خير، فيها صلاح، في الوقت الذي أقول وبغداد تسقط وكان أكثر من (50) ألف يتفرَّجون على مباراة، مع ذلك لدينا من الأخيار والشباب الصالحين والعلماء رجالاً ونساء مايسر – والحمد الله – .
الآن عدد النساء اللاَّتي أقول إنهن من العالمات، لاأستطيع أن أقول إنهن بالمئات أبالغ، ولكنهن بالعشرات – والحمد لله – .
أما الداعيات والخيِّرات فهن بالمئات، إن لم يكن أكثر من ذلك.
منطقة الرياض فقط فيها (200) دار نساء، فيهن أكثر من (40) ألف امرأة، مجموع المنتمين لجماعة تحفيظ القرآن – كما سألت قبل يومين – في الرياض فقط، والقرى المحيطة،أكثر من مائة ألف فرد، يحملون القرآن، ويحفظون القرآن، ويقبلون على القرآن .. هذا فقط في الجماعات الخيرية، دون مدارس تحفيظ القرآن، ودون عدد من المدارس التي لاعلاقة لها بدور التحفيظ … غير أولئك الذين في داخل بيوتهم، أو في الجامعات .. هذا في مدينة الرياض فقط…
الخير موجود .. ثبت في هذه الأحداث أن هناك رجالاً يتألَّمون ويتحسَّرون على واقع أمَّتهم، من أكثر مايأتينا من الرسائل هي الدعوة للجهاد، وطلب الجهاد، والاستعداد للبذل بالمال والنفس والأهل.
الأمة فيها خير كثير، ولكنها تحتاج إلى جمع هذه الجهود وترتيب هذه الجهود، حتى لاتذهب هباء.
عاشراً: من الدروس العجيبة :
أن الجيوش والأمم إذا رُبيَّت على خدمة الأفراد وطاعتهم هُزِمت في لحظات،أما إذا رُبِّيت على طاعة الله – جل وعلا – انتصرت، وعاشت بين الأمم .
الأمة بُلِيت في عصورها المتأخرة بعدد من الدول التي تربِّي أفرادها على حب الأفراد والطاعة للأفراد، الطاعة العمياء من دون الله – جل وعلا – .
ومن آخر الأمثلة في ذلك :
ماحدث في العراق، فلما هوى الصنم استسلم الجميع.
وقد انتبه لهذا أبو بكر – رضي الله عنه – ، وانتبهوا للمقارنة :
لما توفِّي – صلى الله عليه وسلم – وكان الموقف الذي وقفه بعض الصحابة من هول الصدمة والمفاجأة، حتى قال بعضهم، كما قال عمر : إن محمداً– صلى الله عليه وسلم – لم يمت، قام أبو بكر فقال قولته – التي تعتبر من أقوى مواطن الثبات – :
( من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات،ومن كان يعبد الله فإن الله حي لايموت).
هذا في حق محمد – صلى الله عليه وسلم – فكيف بتعبيد الناس للطواغيت وللأصنام..(/5)
إذا تهاوى الصنم تهاوى الجميع، أما إذا عُبِّدت الأمة لله،في حبها في بغضها في كل شأنها ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لاشريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).
إذا عُبِّدت لله كانت النتائج الباهرة، ولذلك قلت لكم : انظروا سرعة السقوط في بغداد، والثبات الذي ثبته المجاهدون في فلسطين وفي أفغانستان وفي الشيشان وفي كشمير، وفي غيرها، زادهم الله ثباتاً وعزاً ونصراً .
لانهم هناك عُبِّدوا لله، لم يُعبَّدوا لمنظمة ولالفرد، حتى لوكان صالحاً..
وأذكر لكم قصة حدثت معي شخصياً أيام جهاد أفغانستان :
كنت في زيارة إلى هناك من أجل مساعدة إخواننا في أفغانستان، عندما كانت منظماتهم تعمل في باكستان، فسألت (سيَّاف) سؤالاً لاتزال إجابته ترن في أذني، قلت له : إن مما لاحظته أن بعض زعماء المجاهدين الأفغان يرفعون صورهم في معسكراتهم، والأفراد التابعين لهم، وأنت أراك لاترفع أي صورة لك .
قال : إن جهادنا لله – جل وعلا –، ونحن نجاهد في سبيل الله، فإذا رفعت صورتي سيتحوَّل جهادي من أن يكون لله ليكون دفاعاً عن هذه الصورة، فأنا لاأريد أن أرفعها حتى تبقى نيتي لله – جل وعلا – وصدق !
مجرد رفع صورة قد يحوِّل الولاء فيكون للأفراد بدلاً من أن يكون لله.
ولذلك لمَّا دخل المجاهدون كابل بدأت العصبية الشخصية والفردية التي دمَّرت أفغانستان – كما تعلمون – .
هذا يتعصَّب لهذا الزعيم، وهذا يتعصَّب لهذا الزعيم، وهذا يتعصَّب لهذه القبيلة، ولهذه الطائفة حتى حلَّ بأفغانستان مالايخفى عليكم.
فلذلك علينا أن نعبِّد الناس لله، ولا نعبِّدهم لأحد من البشر كائناً من كان، فإذا كان أبو بكر – رضي الله عنه – يقول في حق محمد – صلى الله عليه وسلم – :
(من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبدالله فإن الله حي لايموت)
فكيف يعبَّد الناس لأمثال هؤلاء !
وهذه نتيجة مؤلمة رأينا حقيقتها في بغداد، وقبل ذلك في دول أخرى .
الحادي عشر: أيضاً من هذه الدروس:
نحن عاطفيون
العاطفة مهمة وجميلة وجيدة، لكن يجب أن تخضع للعقل، والعقل يجب أن يخضع للشرع.
لاحظوا: بدأ سقوط بغداد بعد العصر!
بعض الإخوان كان يقنت في كل يوم العشاء، أوقف القنوت في صلاة العشاء!! سبحان الله .. حتى العشاء ماقنت ! قال : خلاص انتهى الأمر!
والأسئلة ! لاأحصي ماجاءني من أسئلة : هل نقنت أو نوقف القنوت ؟
الآن حاجة المسلمين للقنوت أكثر من حاجتنا من قبل، لأن العدو الذي جاءنا أعظم ظلماً وطغياناً وكبراً من الظالم الأول.
ومأساة العراق التي كنا نقنت من أجلها، الآن تتحوَّل إلى مأساة العراق، ومأساة المسلمين أجمعين.
التهديدات الآن على قدم وساق، اقرأوا وسائل الإعلام.. تهديدات لدول تهديدات لشعوب .. تهديدات لأنظمة..
وهكذا يفعل المنتصر إذا كان ظالماً طاغياً باغياً، لايفكِّر في السنن الكونية، فأقول: العاطفة جميلة وجيدة، لكن يجب أن تحكم بالقواعد الشرعية، والضوابط الشرعية.
الثاني عشر: من تلك الدروس التي رأيناها:
قوة الإعلام
والحرب خدعة – كما قال النبي صلى الله عليه وسلم – .
أستطيع أن أقول : إن الإعلام هو الذي أدار المعركة أكثر من السلاح !
والغرب متفوِّقون – قاتلهم الله – في هذا الأمر.
وإعلام بعض الدول العربية هو الذي أحدث الهزيمة في نفوس المسلمين، لأنهم كانوا يعطون أرقاماً خادعة، فلما انكشفت الحقيقة كانت صدمة عنيفة!
ولذلك قلت لبعض المسلمين ولبعض المجاهدين في بعض الدول :
لو أنفقتم 50% على الإعلام،و50% على الاستعداد للجهاد من سلاح وغيره، لكان صواباً، وماذاك إلا لأهمية الإعلام اليوم، والدعم أوالرعب الذي يبثه، فلا نقلل من شأن الإعلام، لأنه هو الذي يؤثِّر في الناس الآن.
ووقفتان أخيرتان .. من الدروس التي آمل أن لاتؤاخذوني إذا ذكرتها، وأنا والله محب لكم، ومحب للسامعين،وللجميع،وصريح معكم :
الحماس غير المنضبط، والاستغراق في اللحظة الحاضرة !
كنا نقول للشباب : اهدأوا، والوضع لايسمح بالذهاب إلى العراق !
أنا على يقين كما أنكم أمامي، أنه لن يحل مشكلة الأمة إلا الجهاد في سبيل الله، وهو الجهاد الحقيقي،وهو مقاتلة أعداء الله.. ولكن.. أن يؤتى للجهاد قبل أوانه تحدث المصيبة !
فقلت للإخوة : ادعموا إخوانكم في العراق.. بالنسبة لإخواننا في العراق يدعمون بالمال، وبكل مانستطيع، وهم قد هُجم عليهم، والدفاع ليس له شروط، جهاد الدفع ليس له شروط، لكن بالنسبة للذها ب إلى هناك فلم تكن هناك راية، لم يكن هناك ميدان، وإلى اليوم.. اسمعوا الأخبار ماالذي يحدث في بغداد ؟ الذين ذهبوا أسأل الله أن يعظم أجورهم وأن يجزيهم على قدر نياتهم، بل أعظم من نياتهم، واسأل الله لمن قتل منهم أن يكون شهيداً في سبيل الله، لأنه سأل الله الشهادة، بل سعى إليها. لكن هذا شيء،والاندفاع في غير موضعه شيء آخر!
وقلت لكم: المعركة طويلة، فنحتاج للحماس، لكننا نحتاج للحماس المنضبط بالضوابط الشرعية.(/6)
العاطفة وحدها لاتكفي .
ودراسة الآيات والأحاديث التي وردت تبين هذا الجانب، وقصة خالد في مؤتة، ادرسوها، ماذا فعل، وماذا قال له الرسول – صلى الله عليه وسلم – .
فيجب التوازن في هذه المسألة، نعم هناك مخذِّلون، مثبِّطون، لايرون الجهاد أبداً.
هؤلاء لهم شأن آخر، لاعلاقة لنا بهم.
وآخرون مندفعون متحمِّسون قد يضعون الشيء في غير موضعه، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
فهذا من الدروس، وتكرر هذا الدرس في العام الماضي عندما قلناه في أفغانستان، وحدث ماكنا نخشاه،وهاهو يتكرر اليوم في العراق.
ماأحوجنا إلى أن نتعلم، وأن نستفيد من الدروس،ونسأل الله الصدق والإخلاص ( من سأل الله الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه)
لكن يكون بصدق، أن يكون متهيِّئاً .
في مقابلة مع قناة المجد – يوم الثلاثاء الماضي – سئلت عن العمليات الاستشهادية، وقلت : إنها هي السلاح المباشر الذي يُخيف الأعداء إذا استخدم في موطنه.
ودعوتُ الإخوة في فلسطين وفي العراق وفي الشيشان أن يطوِّروا هذا السلاح فهو الذي يهز الأعداء. وإذا كانوا أكثر منا عدَّة وعدداً فنحن أقوى منهم إيماناً، وحبنا للشهادة أكثر من حبهم للحياة فهذه حقيقة. وقد ذكرت ضوابطاً لموضوع العمليات الإستشهادية ليس هذا مكان بيانها لكنها ليست مطلقة. وهي مسألة خلافية بين العلماء ولكنني من خلال بحثي للمسألة ترجح لدي القول بجواز ومشروعية العمليات الإستشهادية ولكن بضوابط حتى لايستعجل الناس وأن لاتنقل إلى بلاد المسلمين ولكن في مواطن القتال كما أشرت في فلسطين في العراق الآن وهو بلد محتل في الشيشان في كشمير المحتلة، كلها من أقوى الأسلحة وأنجح الأسلحة وهي شهادة في سبيل الله، نرجو لصاحبها أن يكون شهيداً بإذن الله. لكن مرة أخرى أقول يحتاج الأمر إلى ضوابط وعدم استعجال وبعد نظر….
وأخيراً… في هذه الأحداث ظهرت حكمة الله جل وعلا وأنَّ الله حكيم عليم وما أحوجنا إلى تأمُّل هذه الحكمة وبعد النظر للإفادة من الأحداث فالله سبحانه وتعالى حكم عدل ولايظلم ربك أحداً. ومقياس ذلك في قوله تعالى ((أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنا هذا قل هو من عند أنفسكم)) هذه لأهل أحد … أقول ما أصابنا من عند أنفسنا (( وما أصابكم من مصيبة فما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير)) ((ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ماترك على ظهرها من دابة)) فما أحوجنا إلى دراسة هذا الحدث والإفادة منه وبعد النظر والتأمل حتى لانؤخذ على حين غرة ..
أقراء ايضا:
كيف مكَّن ليوسف في الأرض؟
--------------------------------------------------------------------------------
* نشر ه>ا المقال في الإسلام اليوم بتاريخ 16/2/1424 وأصله من محاضرة ألقيت في 11/2/1424(/7)
الله سبحانه وتعالى كما عرفنا بنفسه ...
...
08-12-2004
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ورسولاً إلى الناس أجمعين سيد الأولين والآخرين محمد بن عبدالله ورسوله الأمين.
وبعد،،
فإن البشر لا يستطيعون بأنفسهم معرفة خالقهم ورازقهم، وإلههم الذي لا إله إلا هو سبحانه وذلك لاحتجابه عنهم بعظمته وكبريائه وعلوه على خلقه، لا تدركه أبصارهم، ولا تسمعه آذانهم إلا لمن شاء الله منهم وهم أفراد قليلون من رسله وأنبيائه.
ولما كانت حاجة البشر إلى معرفة خالقهم ورازقهم وإلههم وربهم الذي لا إله إلا هو، ولا رب لهم سواه أعظم من حاجتهم إلى الهواء الذي يتنفسونه، والماء الذي يشربونه، والطعام الذي يأكلونه فإن معرفة الرب والإيمان به، وطاعته هي غاية وجودهم، وسبب إنشائهم وخلقهم، وعليها يتوقف سعادتهم وشقاوتهم، فمن آمن فقد فاز ونجا، ومن كفر فقد خسر وهلك.
و لما كان سبب ضلال البشر ناشئاً عن الجهل بالله أو العناد والمكابرة بعد العلم به.
ولما كان الجاهلون بالله إما جاهلون لا يعلمون، وإما جاهلون ويظنون أنهم يعلمون وإما جاهلون قد نسبوا لله صفات ليست من صفاته وتخيلوا ربهم وإلههم على غير ما هو عليه، وقالوا على الله بلا علم، ونسبوا له الولد وهم يظنون أنهم ينزهونه، وشتموه وهم يظنون أنهم يسبحونه.
ولما كان من أصناف الجهل بالله العلم بجانب من صفاته والجهل بجانب آخر مما ينتج عنه اختلال في الفهم والعلم وانجراف في العمل والسلوك..
من أجل هذا كله -ولحكم أخرى- أحببت أن أجمع هذا المختصر الوافي إن شاء الله في بيان صفة الرب كما عرفنا هو بنفسه سبحانه عن طريق وحيه إلى رسله غير متقول على الله -بحول الله وقوته-، ولا مسند قولاً إلا إلى كتابه وسنة رسوله الثابتة الصحيحة عنه، وأرجو أن يجمع هذا المختصر الوافي المعاني الإجمالية لصفات الله سبحانه وتعالى، ليعرف المؤمن ربه على الحقيقة، ويتخذ السبيل إليه : {ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين}.
1- الله خالق كل شيء:
أول ما يجب على العباد معرفته أن الله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء فكل ما يرونه ولا يرونه من المخلوقات هي من خلق إله واحد لا إله إلا هو، لم يشاركه أحد في خلق ذرة منها، ولم يساعده أحد في إبداع هذا الخلق وإظهاره {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيها من شرك، وما له منهم من ظهير} أي أنه سبحانه ليس له معين من خلقه أعانه في خلق ذرة في السموات والأرض. قال تعالى: {الله خالق كل شيء وهو السميع العليم}..
وسواء كان هذا الخلق من الذي يراه العباد على هيئته ولا دخل لهم في وجوده كالأرض التي يعيشون عليها، والشمس والقمر والنجوم والكون الفسيح الذي يعيشون فيه، والذي لا تشكل الأرض وما عليها منه إلا كمثقال حبة رمل واحدة وأقل من ذلك في صحراء مترامية الأطراف، أو كان هذا الخلق مما يصنعه البشر بأيديهم كمساكنهم وآلاتهم وأدواتهم ومركباتهم فإنها من خلق الله أيضاً، مادتها، وصانعها، وفكرتها. قال تعالى: {والله خلقكم وما تعلمون}. فالله سبحانه وتعالى هو خالق الصانع وصنعته، فهو الذي خلق عقله وسمعه وبصره ويده ورجله، وهو الذي ألهمه العلم بما يصنع، وعلمه ما يعمل وهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
فأفعال المخلوقات وإن نسبت إليهم لأنهم هم فاعلوها فإنها من خلق الله إيجاداً وتقديراً وإلهاماً وتيسيراً، وإقداراً وتعليماً.
2. الله مالك كل شيء:
وكما أن الله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء فهو مالك كل شيء، فالملك كله عاليه وسافله مشارقه ومغاربه كله ملك لله {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير}.
وقال تعالى: {له مقاليد السموات والأرض} والمقاليد هي المفاتيح، فهو مالك خزائن السموات والأرض وما فيها.
والله سبحانه وتعالى يملك ما في السموات والأرض ذاتاً لأنه هو خالقها ومنشئها، ومخرجها من العدم ومبدعها، ويملك ما في السموات والأرض تصريفاً فما من حركة أو سكون في المخلوقات إلا وهي بمشيئته وأمره، ولا تملك ذرة واحدة في الكون لنفسها نفعاً ولا ضراً ولا مساراً ولا سكوناً.. بل الله مالك ذلك كله.
وكل مخلوق جعل الله له مشيئة وإرادة واختياراً فإنما مشيئته وإرادته، واختياره وفق اختيار الله ومشيئته، فلا يشاء أحد لنفسه أو لغيره شيئاً إلا إذا شاء الله، ولا ينال أحد لنفسه أو غيره خيراً إلا بإذنه، ولا يدفع عن نفسه أو غيره ضراً إلا بإذنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن..
قال تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل، وترزق من تشاء بغير حساب}.(/1)
فالله سبحانه وتعالى هو المالك والملك على الحقيقة يملك خلقه ذاتاً وتصريفاً ولا يملك مخلوق لنفسه ولا لغيره نفعاً أو ضراً، حركة أو سكوناً، إلا بإذنه ومشيئته.
3- الله سبحانه وتعالى قد أحاط بكل شيء علماً:
وكل شيء خلقه الله سبحانه وتعالى فقد خلقه بعلمه، ولا يعزب عنه من خلقه سبحانه صغير ولا كبير في كل لحظة وآن، فمخلوقات الله سبحانه وتعالى جميعها بدءاً من الذرة الصغيرة وما دونها، ونهاية بالمجرة الكبيرة وما فوقها، من السموات والعرش والكرسي، وما شاء الله أن يكون كل هذه المخلوقات مخلوقة موجودة بعلم الله، ولا يخرج صغير ولا كبير منها عن علمه في أية لحظة من لحظات وجوده، ولا يقع تصريف وعمل أو تغيير وتبديل في المخلوق إلا بعلم الله سبحانه وتعالى فلا تسقط قطرة ماء من السماء إلا بعلمه، ولا تسقط ورقة من شجرة إلا بعلمه، ولا ينتقل كائن من حال إلى حال أثناء تطوره نطفة فعلقة فمضغة إلا بعلمه {وما من دابة في الأرض إلا على الله ورقها ويعلم مستقرها ومستودعها} أين تضع بيضها وأين تخفي صغارها، وأين تخزن قوتها. كل غله وحشرة فما فوقها، الله سبحانه وتعالى عالم كل لحظة بما هي عليه، وما تصنعه، وقد أحاط علمه بجميع مخلوقاته فلا يعزب عنه سبحانه وتعالى صغير أو كبير منه.
قال تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين* وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعلمون}..
الله سبحانه وتعالى مقدر مقادير خلقه:
ما من شيء خلقه الله سبحانه وتعالى إلا وقد علمه قبل أن يخلقه، وقدر عمله ومساره، ومآله وكتب كل ذلك. قال تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}، وقال تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} والكتاب هنا هو كتاب الأعمال.
وقال تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}.
والكتاب هنا هو كتاب المقادير وهو اللوح المحفوظ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أول ما خلق الله القلم فقال له أكتب. قال: ما أكتب. قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة].
وقال صلى الله عليه وسلم: [يا غلام احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام وطويت الصحف] ومعنى جفت الأقلام وطويت الصحف أي انتهى الرب سبحانه وتعالى من كتابة مقادير خلقه، وذلك قبل أن يخلقهم سبحانه وتعالى بخمسمائة عام.
لا يستطيع مخلوق أن يعلم سعة علم الله:
علم الله سبحانه وتعالى قد وسع المخلوقات كلها، ما وجد منها وما لم يوجد، ووسع علمه سبحانه ما لم يمكن وجوده، ولو وجد كيف يكون وجوده. قال تعالى فيما لم يقدر وجوده، لو وجد كيف يكون. قال تعالى: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً} وقال تعالى في أهل النار لو خرجوا منها وردوا مرة ثانية إلى الدنيا كيف سيكون حالهم: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون}.
والرب سبحانه وتعالى الذي علم خلقه كله قبل أن يوجدهم، وعلم ما يصدر من كل ذرة من مخلوقاته، وكيف يكون مصيرها ومآلها، وعلم ما لا يكون من مخلوقاته، ولو كان كيف يكون.
هذا الرب سبحانه وتعالى لا يستطيع أحد أن يقدر علمه، وقد ضرب لنا سبحانه وتعالى مثلاً لسعة علمه، فقال سبحانه: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله إن الله عزيز حكيم}.
أي لو تحولت جميع أشجار الأرض فصنع خشبها كله أقلاماً وتحولت البحار كلها المحيطة بها مداداً، وجلس كاتبون يكتبون علم الله بهذه الأقلام، وبهذا المداد لنفذ المداد كله، ولم تنفذ كلمات الله سبحانه وتعالى.
وجميع ما علمته الملائكة والجن والإنس من علم الله لا يقع إلا كما تقع القطرة من المحيط. قال تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} وقال: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء}، وقال الخضر لموسى عليهما السلام: [يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر].
وإن من خلق الله سبحانه وتعالى ما لا تسعه عقولنا، ولا تستطيع الإحاطة به على النحو الذي هو عليه، فسعة الكون لا تسعه عقولنا، والعرش لا يقدر قدره إلا الله، وهو مخلوق وملك واحد من ملائكة الله تخفق الطير خمسمائة عام ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه، فكيف بالملك نفسه!!(/2)
ورأى نبينا صلى الله عليه وسلم جبريل وقد سد الأفق وله ستمائة جناح!! ورأى النبي صلى الله عليه وسلم شجرة المنتهى يغشاها ما يغشاها من أنوار. قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: [لا أدري ما هي]!!
ومع تقدم علومنا الدنيوية فلم نكتشف حقيقة الذرة بعد، ولا ماهية الضوء، ولا الأسرار الكامنة في تركيب جسم الإنسان بل الإنسان ما زال عند أهل العلم به من الأطباء والحكماء!! "الكائن المجهول"..
فالأسرار التي لا تعلم من خلقه وتركيبه ونفسه أكثر كثيراً من الأمور المعلومة منه، والأسئلة التي لا جواب عليها حول خلق الإنسان نفسه أكثر كثيراً من الأسئلة التي وجدنا لها الجواب!! ومن الأسئلة التي لا جواب عليها: لماذا يحتفظ جسم الإنسان بهذه الدرجة الموحدة من الحرارة، ولماذا كان في هذه الدرجة ولم يكن أعلى منها أو أقل منها وما الذي يحفظ هذا التوازن الحراري فيه، ولما يسارع الجسم البشري يدرء خطر المرض عنه، وما الذي ينظم جميع أجهزة درء الخطر، فيأمر بارتفاع الحرارة، وتوجيه الجنود المدافعة للجراثيم الغازية، وما الذي ينظم عملية الدفاع والهجوم، وسحب الاحتياطي، وتقديمه إلى أماكن الخطر، وإزالة الجرحى، وتنظيف موقع المعركة، وما الذي يجعل جميع أجهزة الجسم تقوم بوظائفها التي تقوم بها وهي وظائف معقدة جداً من البناء والهدم والتغذية، والتخلص من الفضلات، وتنظيم أخلاط الجسم هذا، وفي جسم الإنسان نحو ستة مليارات من هذه الخلايا وهي جميعها تتجدد على مدى ستة أشهر تجدداً كاملاً.
من الذي يدير هذه العملية الكبرى المعقدة التي تحتاج إلى كل كمبيوترات الأرض لتنظيمها في جسم بشري واحد!!
سبحان من جلت قدرته عن الوصف، ومن أحاط علماً بكل شيء، ومن لا يسع العباد علماً به ولا بمخلوقاته. قال جل وعلا: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً}.
الله رب العالمين:
الله سبحانه وتعالى هو رب العالمين، عالم الملائكة، وعالم الإنس وعالم الجن، والطير والوحش، والسموات والأرض فكل ما سوى الله من الموجودات من عوالم فالله ربها جميعها إذ هو سبحانه وتعالى موجودها من العدم، ومبدعها على غير مثال سابق {بديع السموات والأرض} وهو المالك لكل ما في السموات والأرض، والمتصرف في كل ما في السموات والأرض والسيد لكل ما في السموات والأرض، وكل هذا من معاني ربوبيته سبحانه وتعالى، فالرب هو السيد والمالك والمربي ،وكل هذه الصفات هي من صفات الله سبحانه وتعالى.. فليس لكل العالمين مالك يملكهم إلا هو الذي خلقهم وذرأهم وبرأهم، وليس للعالمين من سيد يطيعون أمره طوعاً وكرهاً إلا هو سبحانه وتعالى فجميع خلقه مسلمون له طوعاً أو كرهاً، ولا خروج لأحد منهم عن إرادته ومشيئته وأمره الذي أمضاه فيهم وقدره لهم، فالله هو رب جبريل وإسرافيل وميكائيل، ورب محمد ورب إبراهيم، ورب جميع الرسل والأنبياء، وهو رب الملائكة جميعاً، ورب الإنس والجن جميعاً، ومن جحد ربوبية الله من الخلق، فهو جاحد كاذب لا يضر إلا نفسه، ولا يخرج بجحده هذا عن ربوبيته لله سبحانه وتعالى لأن الله هو الذي أوجده وهو الذي يقيمه ويحييه ويميته ويمرضه، ويشفيه إن شاء، ويعاقبه إذا أراد، ويرحمه إذا شاء، فالأمر كله له، والتصرف في الخلق كله له، وليس لأحد معه شركة في هذه الربوبية.
الله سبحانه وتعالى إله العالمين:
لما كان سبحانه وتعالى هو رب العالمين، وخالق الخلق أجمعين والمتصرف في الخلائق كلها، والعوالم جميعها، ولا ينازعه في هذا الأمر غيره، فليست له صاحبة ولا ولد وليس له ند، ولا شبيه، ولا نظير، ولا كفء، بل جميع خلقه تحت قهره وأمره، ورهن تصرفه وحكمه، لا يملك أحد منهم لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه، لما كان ذلك كان الله هو إله العالمين الذي لا إله لهم غيره، فهو الرب الذي تألهه كل مخلوقاته من هداهم إلى نوره وأعلمهم طريق عبادته، فهؤلاء يقدسون الله ويعبدونه ويعظمونه، ويألهونه، ويحبونه، ويخافونه، ويخشونه، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، فالملائكة كلهم أجمعون على هذه الحال من مخافته، وخشيته، ومحبته، وطاعته، وعبادته، وتسبيحه وتقديسه: {يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون}، {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} {والذين عند ربك لا يستكبرون عبادته وله يسجدون}.(/3)
والرسل والأنبياء والمؤمنون من الإنس والجن يخافون ربهم ويحبونه ويعبدونه، ويتقون عذابه، ويسارعون في الخيرات ويدعونه رغباً ورهباً، ويجاهدون في سبيله، ويخلصون دينهم له، ويقدسون ربهم، ويسبحونه، ويوقنون أنهم هو سبحانه وتعالى إلههم وربهم ليس لهم إله دونه ولا رب لهم سواه، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء لهم. وقد أثنى الله عليهم فقال: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم* ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين* وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين* وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضلنا على العالمين* ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم* ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون}.
وقال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون* كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله* وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير* لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت* ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا* ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا* ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به* واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}.
وقال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة أجراً عظيماً}.
وقال تعالى: {وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين}.
وقال تعالى: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين وأمرت لأن أكون من المسلمين* قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم* قل الله أعبد مخلصاً له ديني}.
وقال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}.
وقال تعالى: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن اتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون}.
وقال تعالى: {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون}.
فالرسل جميعاً عابدون له خائفون منه مسبحون بحمده راجون رحمته، خائفون من عذابه، قد جعلوا حياتهم كلها له، وأسلموا له في الصغير والكبير، وكذلك سائر أهل الإيمان من الإنس والجن، هذا دينهم وعملهم ومنهجهم، لا إله لهم يعبدونه إلا الله، الذي أوقفوا حياتهم كلها له {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}.
وأما من أنكر هذه الألوهية من كفار الإنس والجن فإنما جحدها جحداً، وعمى عنها عماية، وكفر بها كفراً، ولا يضر بهذا الجحود والكفر والعمي إلا نفسه، وسواء اتخذ له إلها من دون الله يعطيه ما يعطي الإله من الحب والطاعة والخوف والخشية والإنابة والعبادة، أو لم يعرف له إلهاً ولا رباً ولا خالقاً فعبد هواه وشهوته، وعاش في هذه الدنيا يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام ثم تكون النار مثوى له، فهو كالأنعام بل أحط قدراً. قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}.
وقال تعالى: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم}.
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق(/4)
الله.. أو الطاغوت
أ. د. عماد الدين خليل 25/6/1426
31/07/2005
(1)
في القرآن الكريم دعوة صريحة لرفض طاعة أولي الأمر، وذلك عندما يكون أولو الأمر سادة وأمراء ورؤساء ، في خلاف مع الله ورسوله !! وفيه تنديد وتحقير وسخرية بأولئك الذين يمارسونها ، وتوعدهم بأشد العقاب .
وليس كما يقول الخبثاء من أصحاب السلطة والمصلحة، ويردّد السذّج من المغفّلين والمستعبدين من أن على المؤمن إطاعة أولي الأمر وإن خالف أمر الله ، لأن ذلك من أمره !!
وكيف يناقض القرآن الكريم نفسه (وحاشاه) .. ويدعو إلى تنفيذ أمر الطاغوت والتزام تشريعه وقوانينه ونظمه إذا كان الطاغوت يستهدف أساساً تدمير كلمة الله في الأرض، وانتزاع حاكميّته، وتعبيد الناس له من دون خالق الناس؟!
من يرضى أن ينساق وراء هذا الفهم السخيف إلا أن يكون ساذجاً أو خبيثاً؟
إن كتاب الله سبحانه يقولها صريحة واضحة لا لبس فيها ولا غموض (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(1) ويقولها واضحة صريحة لا لبس فيها ولا غموض (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله ُ)(2)(وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(3) .. فكيف يعقل أن يدعو في الوقت نفسه، وباتجاه نقيض تماماً، إلى طاعة أولي الأمر حتى لو كانوا ممن لم يحكم بما أنزل الله، وممن يفتنون الناس عن دينهم، وممن يمارسون الظلم بقسر الناس على الخضوع لمناهجهم وتشريعاتهم على حساب دين الله وتشريعه؟!
إن طاعة أولي الأمر بهذا المعنى تتمخّض بالضرورة عن سعي مضاد، أو ثورة مضادّة بالتعبير الحديث، تستهدف تدمير دين الله في الأرض والتمكين لنظم الطاغوت.. وذلك أمر مردود من أساسه، لا يقبل مناقشة أو لجاجاً، وذلك أمر مرفوض ..
(2)
هاهو القرآن الكريم يندد في عشرات المواضع بهذه العلاقة المرذولة بين السادة الذين يحكمون بما لم ينزل الله، وبين العبيد الأتباع ممن ينساقون لتنفيذ كلماتهم وأهوائهم وظنونهم.. لا يندد بهم فحسب، ولكنه يسخر منهم ويحقرهم.. ويعرض ـ على طريقته المؤثرة ـ مشاهد حية شاخصة مما سيشهد يوم الحساب من (حواريات) (كاريكاتيرية) بين أولئك وهؤلاء.. بين الطواغيت والأرباب الذين يعبدون الناس لحسابهم وبين العبيد الذين يختارون أن يعملوا لصالح الطواغيت والأرباب، متنازلين عن حريتهم التي منحهم الله إياها، مستهينين بكرامتهم التي فضّلهم الله بها على العالمين ..
وبقدر ما يرفض القرآن الطغيان والاستعباد، فإنه يرفض بنفس القوة والعنف التذلل والهوان.. فلولا هذا ما كان ذاك.. والطاغوت الذي لا يجد من يعبده، ويسبح بحمده، ويلتزم أوامره، وينفذ منهجه وتشريعه .. يموت قهراً !!.. أو على الأقل يحمل عصاه ويرحل؛ لأنه لا يجد الأرضية الملائمة لأن (يكون)!! ومرة أخرى .. (واتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً...)!!
(3)
لنرحل في كتاب الله، ولنقف قليلاً نعاين هذا المشهد أو ذاك مما سيشهده يوم الحساب وكأنه واقع اللحظة، حيث يلغي العرض القرآني ـ على طريقته الفذة ـ حاجز الزمن، ويقفنا وجهاً لوجه إزاء يوم الحساب ..
المشاهد كثيرة .. لأنه ما من تجربة كررت نفسها عبر تاريخ البشرية كتجربة استعباد الناس للطاغوت وتعبيدهم لأهوائهم وظنونهم، والذهاب بهم بعيداً عن شرع الله العادل ومنهجه المحرر ودينه المستقيم .. ما من (لعبة) أعادت نفسها بألف ثوب وثوب كلعبة فراعنة العالم، وهم يقسرون الناس على أن يسجدوا لهم من دون الله، وأن يفعلوا وينفذوا ما يرونه هم .. لا ما يريده الله ولا ما يراه الناس أنفسهم .. إنها مأساة التاريخ البشري وملهاته في الوقت نفسه..
المشاهد كثيرة .. ولن يتسع المجال لتمليها جميعاً .. فلنكتف ببعض منها .. نماذج فحسب لما يريد القرآن أن يقوله في نهاية كل مشهد بلسان الحال أم بلسان المقال .. رفضاً لطاعة أولي الأمر، حين يحكمون بغير شرع الله ، ويعادون منهجه ، ودعوة لفك الارتباط المخزي معهم، ونداء للسعي صوب مصير أكثر حرية وإضاءة وانسجاماً مع كرامة الإنسان ومكانته في العالم ..
(4)
(وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنْ النَّارِ*قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ)(4).
فهل ثمة ما يدعو إلى رفض الطاعة، وينفّر منها، أكثر من هذا الموقف المخزي الذي تنكشف فيه الأوراق ويتبدى فيه عجز المستكبرين على حقيقته ومداه؟(/1)
إنهم لن يستطيعوا أن يحجبوا عن أتباعهم ولو شرارة واحدة من نار .. ولن تغني عن الضعفاء تبعيّتهم الطويلة للمستكبرين ـ يومها ـ لن يغني عنهم استعبادهم أنفسهم لشهوة الطاغوت وتجبره .. إن الله قد حكم بين العباد .. ولن يكون أشد الطغاة طغياناً، إزاء هذا الحكم، سوى أداة هينة لينة يفعل الله فيها ما يريد .. ولن تجدي آلاف السنين من التذلل والتبعيّة والتمسح .. لمن؟ لأناس لا يملكون إزاء حكم الله أي شيء.. ولا حماية أتباعهم من لفحة من نار..
وإذا كان الأمر كذلك ، فلِمَ كانت أيام الاستعباد والتذلل الطويلة في الحياة الدنيا؟ لِمَ كانت سني القهر والخوف والتبعيّة؟ أفما كان التحرّر ورفع الرأس بما يليق بكرامة الإنسان أليق وأجدى؟
ونمضي إلى صورة أخرى (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ)(5).
فها هنا يسرع الطواغيت فيأخذون المبادرة قبل أن يسألهم الأتباع شيئاً فلا يقدرون عليه.. يسرعون فيعلنون براءتهم من الأتباع، فإن العذاب الذي يرونه واقعاً بهم ليقطع الأسباب!!
فما يكون جواب الأتباع ـ حماية لماء الوجه ـ إلا أن يعلنوا رغبتهم في العودة ثانية إلى الحياة الدنيا لكي يردوها في وجه الطاغوت، ويعلنوا تبرؤهم منهم!! ويقيناً أنهم ليسوا بفاعلين حتما لو استُجيبت أمنيتهم وعادوا إلى هناك .. فالنفوس التي تنحني للظلم يلويها الظلم، ولن يكون بمقدور ألف عودة إلى الحياة الدنيا أن تعيدها إلى سويّتها.. وتلك هي مأساة الاستعباد .. إنها تقتل الإنسان .. تقطع آخر خيط في قدرته على التشبث بالرفض والمقاومة حماية لحريته وكرامته ..
ومهما يكن من أمر فإنه لا الطواغيت ولا الأتباع بقادرين على فعل شيء، وإنما هي أعمالهم تظهر أمامهم حسرات، في ساحة النار التي لن يخرجوا منها بحال ..
في سورة (سبأ) نلتقي بمشهد آخر حيث يدور هذا الحوار (... يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) فيردّ الذين استكبروا: (أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ) ويجيب الذين استضعفوا: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(6) .
فهاهم جميعاً، التابعون والمتبوعون، وبعد أن وقعوا في قبضة العدل الإلهي، ورأوا العذاب الذي لن ينجو منه تابع ولا متبوع.. هاهم يمارسون ما يمكن تسميته (بالتعليق) .. يتخذ كل طرف من الطرف الآخر مشجباً يسعى إلى وضع خطيئته عليه لكي ينجو بجلده .. ولن ينجو أحد .. فالمعادلة القرآنية واضحة لا تقبل نقضاً ولا تبديلاً: إن الخضوع للطاغوت الذي يحكم بما لم ينزل الله (جريمة) يُعاقب عليها صاحبها تماماً كما يُعاقب الطاغوت الذي يقسر الناس على التعبد له من دون الله سواء بسواء .. ولن يجدي النقاش.
ويتكشف عبث لعبة تعليق المسؤولية هذه أمام الحقيقة النهائية التي يمنحها القرآن، وفق طرائقه الفنية، لقارئيه .. فبينما يغرق المخدوعون في مناقشات طويلة معتقدين أن بمقدور أحد الطرفين أن يوقع بالآخر.. ينظر الإنسان ـ من الخارج ـ فيعرف مقدماً عدم جدوى هذه المحاولات .. لقد قُضِي الأمر وليس ثمة بعد اليوم من معذر.. وكما أن الطغيان أمر مرفوض ومعاقب عليه، فإن التبعيّة والمذلة أمران مرفوضان ـ أيضاً ـ ومعاقب عليهما.. ومن ثم يعقب القرآن الكريم متحدثاً عن الطرفين (..وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(7).(/2)
ولم يقل كتاب الله: إن الأغلال كانت من نصيب الطواغيت فحسب، بل جعل الطرف الآخر ـ كذلك ـ يرسف في قيودها .. الطرف المستعبد، المستضعف .. لماذا؟ لأن تعبّدهم وتذلّلهم كان عملاً ممقوتاً ومرفوضاًَ، وكان لابد من أن ينالوا جزاءهم على العمل الممقوت والمرفوض.. إنهم كانوا ـ كما قال أسيادهم ـ يحملون الاستعداد الدائم لممارسة الجريمة .. جريمة الطاعة لمن لم يحكم بما أنزل الله ..
وفي سورة الأعراف ، حيث يدّارك الطواغيت والمستضعفون من أتباعهم في النار، نسمع هذا الدعاء الحار من المستضعفين وهم يشيرون بأيديهم إلى الطواغيت (رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ) ويكون الجواب الصارم جزاء مضاعفا بحجم الجرم الذي مارسه الطرفان معا : التابع والمتبوع )قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ(8) ويستمر الحوار في جو من اليأس الخانق فتقول أولاهم لأخراهم (فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ)(9).
إن تبعيّتهم نفسها ترمى بوجوههم من الأسياد فما كان لهم عليهم فيها من فضل!! لقد استسلم الضعفاء وأيقنوا وقوع العذاب بهم، لكنهم يريدونه مضاعفاً لأسيادهم معتقدين أن جرمهم أكبر.. ولكن كتاب الله يضع الموازين القسط فيضاعف العذاب للطرفين.. لماذا؟ لأن التذلل للطغيان، وأتباعه، هو بحجم الطغيان نفسه.. سواء بسواء..
وفي سورة الأحزاب يتكرر دعاء المستضعفين، ويتردّد نداؤهم مرة أخرى: أن ينال أسيادهم ضعفين من العذاب وأن تحل بهم لعنة أكبر، معتقدين أن هؤلاء الأسياد يقفون وراء ضلالهم في الحياة الدنيا، وما درَوْا أنهم هم، التابعون، صنعوا مأساتهم بأيديهم.. يتردد النداء، ولكن القرآن هنا لا يجيبهم بشيء؛ لأن تركهم هكذا دون جواب أبلغ من أي جواب (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا)(10) .. لكأنه بعدم رده عليهم يريد أن يقول لهم موبخا مبكّتاً: ولِمَ أطعتموهم..؟
وثمة في سورة إبراهيم هذا الحوار المؤثر بين الطرفين (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ).(11)
إن الأتباع هاهنا يسلكون طريقا آخر، إنهم يتجرّعون غضبهم على أربابهم، ويكبتونه في نفوسهم، ويتقمصون موقف المتوسل علّ طواغيتهم الذين قادوهم في الدنيا يواصلون قيادتهم في الأخرى، ويقدرون تبعيّة أذنابهم حق قدرها، فيسعون للتخفيف من العذاب الواقع بهم.. ولكن هؤلاء الأرباب يعرفون النتيجة سلفاً، وإذا كانوا في الحياة الدنيا قد قادوهم إلى البوار، فإنهم هاهنا غير قادرين على شيء، فبأي وجه يسعون للتخفيف عنهم؟
إن الطرفين يقعان في دائرة الجزاء، وسواء عليهم أجزعوا أم صبروا فما ثم من محيص!!
(5)
ويتخذ القرآن الكريم من فرعون مصر رمزاً للطاغوت في كل زمان ومكان.. أي فرعون؟ إن القرآن لا يسميه.. إنه يطرحه رمزاً مجرداً عن اللحم والدم والشخصية.. إنه طاغوت وكفى.. والحق أن طواغيت العالم كله يتشابهون، ليس ثمة تميز واضح بين أحدهم والآخر، إنهم (نوعياً) سواء، ولكنهم قد يختلفون بالكمية .. بحجم الطغيان ودرجته وقسوته وعنفه.. ولكنهم يبقون متشابهين كالأرقام الصّماء .. نفس الشهوة الجارفة للحكم والسلطان.. نفس الرغبة العاتية في الاستعلاء والامتلاء.. نفس الدافع الرهيب لإذلال الآخرين واستعبادهم.. نفس الهوى الجارف لتدمير شخصيات المتفوقين وتفكيكها وسحقها.. نفس التشنج والجنون إزاء أي اعتراض أو رد أو مناقشة أو مجابهة.. ومن أجل ذلك من أجل أن الطواغيت كلهم فرعون، ومن أجل أن فرعون هو كل واحد من هؤلاء الطواغيت.. فإن القرآن الكريم لا يسميه!!
وبدلاً من ذلك يريد أن يتخذه وسيلة إيضاح، مجرد أداة، لدعوته الصارمة الجازمة إلى رفض الطاعة.. رفض العبودية والتذلل والذوبان في كيان المستكبرين.. وكما كان فرعون ـ تاريخياً ـ أداة بيد قدر الله، ضُربت بمصيره الأمثال، فإنه ـ موضوعياً ـ كذلك أداة يعتمدها القرآن لتصوير موقف الطاغوت والتحذير منه في الوقت نفسه، وهو يسلّط الأضواء عليه من كل زاوية لكي يكشفه على مداه، فيقف فرعون أمام الله والناس والتاريخ عارياً مكشوف الفكر والهوى والأهداف..
وفي مواضع كثيرة من كتاب الله تتوالى ضربات الفرشاة لكي تستكمل ـ بالكلمة ـ صورة هذا الكائن المقيت الذي جاء الإسلام لكي يستأصله من العالم ولكي يلحقه بفصيلة الديناصور المنقرضة.. ترى هل سيقدر على ذلك يوماً؟!(/3)
لنلقي أسماعنا إلى بعض هذه الضربات .. ثم نمضي إلى زوايا أخرى في الموضوع الذي بين أيدينا، فإن الحديث عن فرعون يطول..
(فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)(12) .
(وَإِنِّي لاظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا)(13) .
(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى)(14) .
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(15)(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ ويستحيي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ)(16) .
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ)(17) فماذا كانت النتيجة؟
(فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ* وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ* وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ)(18) .
(وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ* فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)(19).. ومرة أخرى ماذا كانت النتيجة؟ (فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا للآخرين )(20).. فالعبرة في النهاية، كما يقول المثل المعروف.
(6)
والطاغوت الذي هو في النهاية (فبركة) بشرية متشابهة.. وعجينة واحدة .. قد يتغير جلده.. رداؤه الخارجي.. ملامح وجهه وديكوراته .. قد يميل إلى هذا الجانب أو ذاك.. وقد يهد هنا أو هناك.. وقد يهوى تنفيذ نزعته الطاغية بهذه الصيغة أو تلك.. قد يكون الطاغوت ملكاً أو أميراً أو رئيساً أو سلطاناً.. وقد يكون أباً أو جداً أو جيلاً من الناس.. وقد يكون غنياً أو مترفاً كثير العشيرة والأولاد.. وقد يكون مسرفاً أو مشعوذاً أو كاذباً أو ماكراً أو دجّالاً.. وقد يكون فاسقاً أو فاجراً أو كفاراً.. وقد يكون مجرماً أو شيطاناً مريداً.. وقد يكون ـ حتى ـ كاهناً أو راهباً أو رجل دين في نهاية المطاف!!
والقرآن الكريم يلاحق هذه الأنماط المختلفة من الطواغيت.. يلاحقها جميعاً ويدعو بصرامته الحاسمة إلى رفض طاعتها جميعاً!!
ورغم أن الله يعرف حق اليقين كيف يصدر هؤلاء جميعاً عن نبع واحد هو شهوة السلطان والتألّه على الناس، واستعبادهم، وصرفهم عن التوجه إلى خالقهم جل وعلا.. ويعرف، حق اليقين، المستنفع الواحد الذي تصب فيه هذه الشهوات على اختلاف أنماطها، فإنه يسعى إلى عرضها بأشكالها وصيغها المختلفة كي لا يندّ أحد منها على المؤمنين الجادين، وكي تكون كلها في دائرة الضوء، فلا يخفى منها نمط فيطعن من مكمنه ظهور المؤمنين، أو يلوح بإغراء غير مكشوف الأهداف للسذّج من الناس.. يدعوهم إلى طاعته..
إن القرآن الكريم يعرض علينا، في حشود من آياته البينات طوابير الطاغوت، وكأننا نشهد مهرجاناً أو عرضاً جماعياً.. تسير فيه أصناف المستكبرين، مصعّرة الخدود، ممطوطة القامات، منتفخة الأوداج .. يعرضها علينا جميعا ويدعونا إلى رفض طاعتها مهما تنوعت السمات واختلفت الملامح وتلوّنت الأردية ..
فلنقف قليلاً على طرف من الطريق لنشهد، في ختام رحلتنا هذه، جانباً من مهرجان الأرباب والطواغيت، ونسمع، عند مرور كل وجبة منهم، نداء القرآن الأبدي برفض الطاعة، بلسان الحال أو بلسان المقال.. والتشبّث بالحرية التي تليق بمكانة الإنسان: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)(21) .(/4)
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ)(22).
(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ)(23).
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ)(24).
(اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ)(25).
(وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(26).
(قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا)(27).
(وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ)(28).
(وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)(29).
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وأطيعون * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ)(30).
(تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ)(31).
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ)(32).
(قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ* اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(33).
(7)
ولن نختم رحلتنا هذه قبل أن نسمع معاً إلى هذا النداء التحريري العام الذي يعلنه القرآن الكريم بمواجهة الطاغوت على مدار التاريخ .. (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(34).
وقبل أن نطّلع معاً على مصير أولئك الذين رفضوا الذهاب مع نداء القرآن وتخلّوْا عن حريتهم، وساقهم الضعف والخنوع إلى الخضوع للطغيان والاستسلام لمقدراته: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا)(35).
________________________________________
(1) المائدة 44 .
(2) البقرة 193 .
(3) الأنفال 25 .
(4) غافر 47ـ48 .
(5) البقرة 166ـ167 .
(6) سبأ 31ـ33 .
(7) سبأ 33 .
(8) الأحزاب 67ـ68 .
(9) إبراهيم 21 .
(10) الأحزاب 67ـ68 .
(11) إبراهيم 21 .
(12) هود 97 .
(13) الإسراء 102 .
(14) طه 79 .
(15) التحريم 11 .
(16) القصص 4ـ6 .
(17) القصص 38ـ39 .
(18) القصص 40ـ42 .
(19) الزخرف 51ـ52 ، 54 .
(20) الزخرف 55ـ56 .
(21) الأنعام 123 .
(22) البقرة 165 .
(23) الحج 3ـ4 .
(24) البقرة 170 .
(25) الأعراف 3 .
(26) الأنعام 150 .
(27) نوح 21 .
(28) هود 59ـ60 .
(29) الأنعام 126 .
(30) الشعراء 150ـ152.
(31) الشعراء 97ـ99.
(32) المائدة 77 .
(33) التوبة 30ـ31 .
(34) آل عمران 64 .
(35) النساء 97 .(/5)
اللهم إني أسألك التوفيق
د. محمد عمر دولة*
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسولِ الله الأمين، وعلى آلِه وصَحبِه أجمعين. وبعد، فإنَّ التوفيقَ مِن أعْظمِ النِّعَم التي يَمُنُّ الله بها على عِبادِه. فهو عنوانُ سعادةِ العبد، كما قال القرطبي رحمه الله: "إنَّ العبدَ لا ينالُ مِن السعادةِ عطاءً أفضلَ من التوفيق".[1]
فمِن أعظمِ النِّعَمِ: الهِدايةُ إلى الخير، وهي لا تتأتَّى لأحدٍ إلا بتوفيقِ الله عزَّ وجلَّ، وذلك هو الطريقُ المستقيمُ الذي يتضرَّعُ كلُّ واحدٍ منّا إلى الله أن يَهْدِيه إياه، كلما قال: (اهْدِنا الصراطَ المستقِيم) أي "ألْهِمْنا الطريقَ الهادي، وإلْهامُه إياه ذلك: هو توفيقُه له... ومعناه نظيرُ معنى قولِه: (إياك نستعين) في أنه مَسألةُ العبدِ ربَّه التوفيقَ للثباتِ على العملِ بطاعتِه وإصابةِ الحقِّ والصوابِ فيما أمرَه به ونَهاه عنه فيما يَستَقبلُ مِن عُمُرِه".[2]
فلولا توفيقُ الله؛ لم يتيسَّرْ لأحَدٍ إتيانُ الطاعات، والمسابقةُ إلى الخيرات؛ وقد قال الله عزَّ وجَلَّ: (واسْألُوا الله مِن فَضْلِه) أي "سَلُوهُ التوفيقَ لِلعَملِ بما يُرْضِيه. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سَلُوا ربَّكم حتى الشبع؛ فإنه إنْ لم يُيَسِّرْهُ الله عزَّ وجَلَّ لم يَتَيَسَّرْ، وقال سفيانُ بن عُيَينة: لم يَأمُرْ بالسؤالِ إلا لِيُعْطي".[3]
فلا هِدايةَ لأحدٍ؛ إلا بِفَضْلِ الله وعَوْنِه وتَوفِيقِه. ورَحِمَ الله الفَخْرَ الرازي حيث قال: "لَمَّا رأيْنا الأكْثَرِين غَرِقُوا في بَحْرِ الضَّلالات؛ عَلِمْنا أنَّ الوُصُولَ إلى الحقِّ ليس إلا بِهدايةِ اللهِ تعالى؛ ومِمَّا يُقوِّي ذلك أنَّ كُلَّ الملائكةِ والأنبياءِ أطْبَقُوا على ذلك، أما الملائكةُ فقالوا: )سُبْحانَك لا عِلْمَ لنا إلا ما علَّمْتَنا إنك أنتَ العَلِيمُ الحكيم(،[4] وقال آدمُ عليه السلام: )وإنْ لم تَغفِرْ لنا وتَرْحَمْنا لَنكونَنَّ من الخاسِرِين)،[5] وقال إبراهيم عليه السلام: (لئنْ لم يَهْدِني ربِّي لأكُونَنَّ مِن القومِ الضالِّين)،[6] وقال يوسف عليه السلام: (توفَّنِي مُسلِماً وألْحِقْني بالصالِحِين)،[7] وقال موسى عليه السلام: (ربِّ اشْرَحْ لي صَدري)[8] الآيات، وقال محمد عليه السلام: (ربَّنا لا تُزِغْ قلوبَنا بعد إذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لنا مِن لَدُنْكَ رَحمةً إنك أنتَ الوهَّاب)[9]".[10]
وهل حَسَدَنا اليهودُ والنصارى؛ إلا على نِعْمةِ التوفيقِ، كما قال الطبري في تفسيرِ قولِ الله عزَّ وجَلَّ: (وَدَّ كثيرٌ مِن أهلِ الكتابِ لو يَرُدُّونَكم من بعدِ إيمانِكم كُفارا):[11] "يعني حَسَدَكم أهلُ الكتابِ على ما أعْطاكم الله مِن التوفيقِ، ووَهَبَ لكم مِن الرشادِ لِدِينِه والإيمانِ برسولِه، وخصَّكم به من أنْ جَعلَ رَسُولَه إليكم رجلا مِنكم رءوفا بكم رَحيماً ولم يَجْعَلْه منهم فتكونوا لهم تَبَعاً".[12]
ولو تأمَّلْنا ألوانَ النِّعَمِ؛ لَوَجَدْنا توفيقَ الله لنا مِن أعظمِ الرحماتِ؛ لاشتمالِه على الهدايةِ إلى الخيرِ والعِصمةِ من الشر، كما قال أهلُ العلمِ في تفسيرِ قولِ الله عزَّ وجل: (وهو اللطيفُ الخبير)[13] أي: الرفيقُ بعبادِه، يقال: لطفَ فُلانٌ بفلانٍ يلطُف: أي رفق به... واللطفُ مِن الله تعالى: التوفيقُ والعِصمة... وقال الجنيد: اللطيفُ: مَن نَوَّرَ قلبَك بالهدى، وربَّى جسمَك بالغِذا، وجعلَ لك الولاية في البلوى، ويحرسُك وأنتَ في لَظًى، ويُدخِلُك جنةَ المأوى".[14]
ولأهميةِ التوفيقِ وضَرُورتِه كان مِن حكمةِ الله أن جعلَ العبدَ يلهجُ بالدعاء لِتَحْصِيلِه في كل ركعةٍ من الصلاة؛ فيتوجه إلى الله قائلاً: (اهْدِنا الصِّراطَ المستقيم)، قال البغوي رحمه الله: "هذا الدعاءُ مِن المؤمِنين مع كَوْنِهم على الهدايةِ بِمَعنَى التثبيتِ وبِمَعنى طَلَبِ مَزيدِ الهدايةِ؛ لأنَّ الألْطافَ والهداياتِ مِن الله تعالى لا تَتَناهَى... وقوله: (صِراطَ الذين أنعَمتَ عليهم) أي مَنَنْتَ عليهم بالهدايةِ والتوفيق، قال عكرمة: مَنَنْتَ عليهم بالثباتِ على الإيمانِ والاستقامةِ، وهم الأنبِياءُ عليهم السلام، وقيل: هم كلُّ مَنْ ثَبَّتَهُ اللهُ على الإيمانِ مِن النبيِّين والمؤمِنين الذين ذَكَرَهم الله تعالى في قولِهِ: (فأولئك مع الذين أنعَمَ الله عليهم مِن النبِيِّين)[15]".[16](/1)
ولكمالِ علمِ النبي صلى الله عليه وسلم بنعمة التوفيقِ؛ كان صلى الله عليه وسلم يدعو ربَّه: (اللهم يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنا على دِينِك)؛ ذلك أنَّ القُلوبَ لا تثبُتُ إلا بتوفيقِ الله عز وجل الذي يَحُولُ بين المرءِ وقلبِه، وقد روى البخاري في كتاب التوحيد، باب (مُقَلِّب القُلُوب، وقول الله تعالى: ونُقَلِّبُ أفئدتَهم وأبْصارَهم) عن عبد الله بن عمر قال: (أكثرُ ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يَحْلِفُ: لا ومُقَلِّبِ القُلُوب).[17] وروى أنس رضي الله عنه قال: (كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُكثِرُ أن يقولَ: يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قلبِي على دِينِك! فقلت: يا رسولَ الله آمَنا بك وبما جئتَ به؛ فهل تخافُ علينا؟ قال: نعم؛ إنَّ القلوبَ بين إصبعين مِن أصابعِ الله يُقلِّبها كيف يشاء).[18] وقد سأل شهر بن حوشب أمَّ سلمة رضي الله عنها: (يا أمَّ المؤمنين ما كان أكثرُ دُعاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثرُ دعائه: يا مُقَلِّبَ القُلوبِ ثَبِّتْ قلبِي على دِينِك! قالت: قلتُ: يا رسولَ الله ما أكثرَ دعاءَك: يا مُقَلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلبِي على دِينِك! قال: يا أمَّ سَلمةَ إنه ليس آدمِيٌّ إلا وقَلبُه بين إصبعين مِن أصابعِ الله؛ فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ).[19]
وقد ذكر الذهبي في ترجمة الإمام الثقة القدوة العابد عبد الله بن زيدان[20] أنَّ الحافظ محمد بن أحمد بن حماد قال عنه: "كان ثقةً حُجةً كثيرَ الصمتِ، وكان أكثرُ كلامِه منذ يقعد إلى أن يقوم: (يا مُقلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلبِي على طاعتِك)؛ لم تر عيني مثله"![21] وروى ابن سعد قال: "كان الحسنُ البصري إذا فَرَغَ مِن حديثِه، فأراد أن يقومَ قال: اللهم طَهِّرْ قُلوبَنا مِن الشِّركِ والكِبْرِ والنفاقِ والرياءِ والسُّمْعةِ والرِّيبةِ والشَّكِّ في دِينِك؛ يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنا على دِينِك، واجْعلْ دِينَنا الإسلامَ القيِّم".[22]
وروى ابن الجوزي أنَّ الشبلي "كان ينوح يوماً، ويقول: مَكَرَ بك في إحسانِه؛ فتناسَيتَ! وأمْهَلَك في غيِّك؛ فتمادَيت! وأسْقَطَك مِن عَينِه؛ فما دَرَيتَ ولا بالَيت! وقال: ليت شعري؛ ما اسمي عندك غداً يا عَلامَ الغُيُوب؟ وما أنتَ صانِعٌ في ذُنوبِي يا غَفَّارَ الذُّنُوب؟ وبِمَ تَختِمُ عَملِي يا مُقلِّبَ القُلُوب؟!"[23]
----------
[1] الجامع لأحكام القرآن 10/309.
[2] جامع البيان للطبري 1/72.
[3] الجامع لأحكام القرآن 5/165.
[4] البقرة 32.
[5] الأعراف 23.
[6] الأنعام 77.
[7] يوسف 101.
[8] طه 25.
[9] آل عمران 8.
[10] التفسير الكبير1/277.
[11] البقرة 109.
[12] جامع البيان 1/488.
[13] الأنعام 103.
[14] الجامع لأحكام القرآن 7/57.
[15] النساء 69.
[16] معالم التنزيل 1/54.
[17] صحيح البخاري 6/2691، حديث 6956.
[18] الجامع الكبير للترمذي 4/448، حديث2140. ورواه أحمد 3/112، حديث 12128.
[19] الجامع الكبير للترمذي 5/538، حديث 3522.
[20] توفِّيَ سنة ثلاث عشرة وثلاث مئة.
[21] سير أعلام النبلاء للذهبي 14/437.
[22] الطبقات الكبرى لابن سعد 7/176، دار صادر، بيروت.
[23] صفة الصفوة 2/458. دار النمعرفة بيروت، ط2.(/2)
اللهيب المطهر
محمد المجذوب
لقد لامني غسانُ لمّا iiرآنيا
يقول: علامَ الضعف يغشاك كلما
وأنت الذي لقنتَنا الصبرَ حكمةً
ولستُ بفضل الله ممن إذا iiجرى
ولكنني أعصي جفوني، وفي iiالحشا
أذلك رجعُ السنّ وافاك iiمبكراً
... فقلت: رويداً يا بنيّ iiفإنني
هو الحبُّ يا غسان يستبدل iiالنهى
وليس "جميل" لا وربِّ iiبثينةٍ
ولا ابن ذريحٍ إذ يفارق iiرشده
سبى قبليَ العشاقَ جيدٌ iiومقلةٌ
وما أنا بالباغي على الحب iiمُتعة
ولكنّ في حبي لهيباً iiمطهراً
لئن هام غيري بالجمال iiفإنما
ورُبَّ حديثٍ من حبيبٍ iiمغررٍ
تراءت له أحلامه من iiخلاله
فكيف تراني أملك الوعي iiلحظة
وفي كل حرفٍ ثَمَّ للقلب iiنفحةٌ
وأوشكُ فيها أن أرى الله جهرةً
فتسبح روحي منه في كل iiعالمٍ
فلا قيدَ من خوفٍ وفقرٍ ورغبةٍ
كهاربُ لو مسَّتْ حشا الطودِ راسخاً
* * ii*
أقلَّ عليَّ اللومَ، غسانُ، iiإنني
فلم يبك من ضعف أبوك، iiوإنما ... أغالبُ أجفاني على الدمع iiجاريا
سمعتَ كتاب الله، أو كنتَ iiتاليا
يخرُّ لديها الخطبُ خزيانَ iiواهيا
على السمع ذكرُ الله أعرض iiجافيا
مراجلُ دمعٍ قد بلغن iiالتراقيا
أم السقم، أم أشياءُ لم أدر ما iiهيا
أُعيذك أن تشتطّ في الحكم iiباغيا
جنوناً، ويستخذي له الدمعُ iiعاصيا
بأوجدَ مني لو تعرَّفْتَ شانيا
بليلى أشدّ اليوم منّي iiتفانيا
فجنوا وما ليموا، فكيف iiملاميا
وأخجل أن يلقاني الله iiلاهيا
وجدت به من كل داء iiشفائيا
بمصدر أسرار الجمال iiهُياميا
ألمَّ بصبٍّ فاستطير iiتصابيا
فكان هو الدنيا، وكان iiالأمانيا
إذا رجَّعَ التالون تلك iiالمثانيا!
أكاد بها أنسى وجودي iiوذاتيا
يُطلُ برحماه عليَّ iiمناجيا
أرى كل شيءٍ فيه – حاشاه – iiفانيا
ولا ستر إلا النور يغشى iiالمآقيا
لخرَّ لها من خشية الله iiجاثيا
* * ii*
سعيدٌ بهذا الدمع يُفني كيانيا
حنيناً لمن يعنو له الكون iiباكيا(/1)
اللون الاخضر ... بين العلم والإيمان !!!
ما أكثر ما يرد لفظ الخضرة في آيات القرآن الكريم والتي تصف حال أهل الجنة أو ما يحيط بهم من النعيم في جو رفيع من البهجة و المتعة و الاطمئنان النفسي .
فنجد في سورة الرحمن : (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) (الرحمن:76) و قال تعالى :(عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً) (الانسان:21) . . (مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ) (الرحمن:54) ......
*** يقول أحد علماء النفس و هو أردتشام : " إن تأثير اللون في الإنسان بعيد الغور و قد أجريت تجارب متعددة بينت أن اللون يؤثر في إقدامنا و إحجامنا ويشعر بالحرارة أو البرودة ،وبالسرور أو الكآبة ، بل يؤثر في شخصية الرجل وفي نظرته إلى الحياة .
ويسبب تأثير اللون في أعماق النفس الإنسانية فقد أصبحت المستشفيات تستدعي الاخصاصيين لاقتراح لون الجدران الذي يساعد أكثر في شفاء المرضى و كذلك الملابس ذات الألوان المناسبة و قد بينت التجارب أن اللون الأصفر يبعث النشاط في الجهاز العصبي ، أما اللون الأرجواني فيدعو إلى الاستقرار واللون الأزرق يشعر الإنسان بالبرودة عكس الحمر الذي يشعره بالدفء ووصل العلماء إلى أن اللون الذي يبعث السرور والبهجة وحب الحياة هو اللون الأخضر .
لذلك أصبح اللون المفضل في غرف العمليات الجراحية لثياب الجراحين والممرضات .
//ومن الطريف أن نذكر هنا تلك التجربة التي تمت في لندن على جسر ( بلاك فرايار) الذي يعرف بجسر الانتحار لأن اغلب حوادث الانتحار تتم من فوقه حيث تم تغيير لونه الأغبر القاتم إلى اللون الأخضر الجميل مما سبب انخفاض حوادث الانتحار بشكل ملحوظ .
واللون الأخضر يريح البصر ذلك لأن الساحة البصرية له أصغر من الساحات البصرية لباقي الألوان كما أن طول موجته وسطي فليست بالطويلة كاللون الأحمر و ليست بالقصيرة كالأزرق . المرجع : مع الطب في القرآن الكريم تأليف الدكتور عبد الحميد دياب الدكتور أحمد قرقوز مؤسسة علوم القرآن دمشق. تغير اللون مع شدة الحرارة
// العين ومجالها المحدود ? فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون ? 38/69 الحاقة . هناك أشياء كثيرة لا يبصرها الإنسان وإن كانت أمامه ، ذلك لأن إبصار الإنسان محصور بمجال محدد للألوان فهو لا يرى بعد طرفي المجال بعينيه، وطرفي المجال محدود بالبنفسجي والأحمر. فلإنسان لا يرى اللون فوق البنفسجي ولا تحت الأحمر وما يتلو هذين اللونين من ألوان.
//"ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون" ، فهناك ألوان مرئية وأخرى غير مرئية في شبكية العين عشر طبقات ، في أخراها مئة وأربعون مليون مستقبل للضوء ، ما بين مخروط وعصية ، ويخرج من العين إلى الدماغ عصب بصري ، يحوي خمسمئة ألف ليف عصبي ، ولو درجنا اللون الأخضر ، مثلاًً ، ثمانمئة ألف درجة ، لاستطاعت العين السليمة ، أن تميز بين درجتين ، أليست هذه معجزة !(/1)
الليبرالية نشأتها وتطورها ومجالاتها(1/2)
عبد الرحيم بن صمايل السلمي 24/8/1423
30/10/2002
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد :
فإن موضوع "الليبرالية" له أهمية كبيرة في الدراسات الفلسفية والواقعية من جهتين :
الأولى : الغموض الذي يحيط بالمصطلح في نفسه وعدم تصور الكثير لدلالته ومفهومه .
الثانية : تأثر كثير من أبناء المسلمين به , وكثرة الكلام حوله بعلم وبدون علم في أحيان كثيرة .
وقد كان جيل النهضة – كما يسمونه – ممن شارك في دعوة المسلمين إليه ونصحهم به, وصوَّر أن نهضة الغرب وقوة حضارته المادية كانت بسبب اعتناق هذا المذهب الفلسفي , فكثر المطبلون له من كافة أطياف المجتمع .
وما هذه المعاناة التي نعاني منها في البلاد الإسلامية مثل القوانين الوضعيَّة , والفساد الأخلاقي , وانتشار الإلحاد , وترويج مذاهب الكافرين إلا إفرازا لهذا المذهب الفاسد .
وربما تميَّز هذا المذهب عن غيره في قربه من التطبيق العملي , وكونه سيال يحمل مذاهب متعددة مع بقائه على وصفه كمذهب فكري
وبعد سقوط الشيوعية كآيديولوجية كانت تهدد الفكر الليبرالي الغربي اغتر الغربيون كثيرا بمبدأ ( الليبرالية ) وصاروا يبشرون به في كل محفل ويزعمون أنه هو خيار الإنسانية الوحيد فوظفوا طاقاتهم الفكرية والإعلامية بدعم سياسي واقتصادي رهيب لنقل هذا النور !! الى الإنسانية كلها .
ولعل أبرز نتاج فكري يدل على الغرور الكبير بهذا المبدأ عند الغربيين كتاب (نهاية التاريخ ) لمؤلفه فرانسيس فوكوياما وهو أمريكي الجنسية ياباني الأصل , وقد ظهر فيه بوضوح مدى الغرور الكبير بهذا المنهج ( الليبرالية ) حيث اعتبرها فوكوياما نهاية التاريخ الإنساني وليس الأمريكي فحسب .
ولقد أستغل الغربيون الليبراليون الإمكانيات الكبيرة المتاحة لديهم لنقل هذا المذهب إلى أقصى الدنيا وصناعة الحياة الإنسانية على أسسه ومبادئه عن طريق القوة السياسية والإقتصادية وتوظيف وسائل الإتصالات التي تمكنهم من مخاطبة كل الناس وفي كل الأرض .
ولعل من أبرز نتائج الليبرالية في مجال الإقتصاد (العولمة ) وما تحمله من مضامين فكرية وقيم أخلاقية وأنماط حضارية وهي تحمل الرغبة الغربية في السيطرة في كل اتجاه : الحربي والسياسي والقيمي والحضاري والإقتصادي .
فضلا عما تحمله من الدمار للإنسانية في معاشها الدنيوي وقد ظهرت آثار الرأسمالية في الحياة الغربية قبل مرحلة العولمة التي هي تعميم للرأسمالية على العالم كله .
مما جعل البعض يعتبر القرن الحادي والعشرين هو قرن المفكر الشيوعي (كارل ماركس ) لما يرى من تكدس الثروة بيد طبقة من الناس وانتشار الفقر والعوز في الناس و أخذ الأموال من البشر بأي طريق ، والتفنن في احتكار السلع الضرورية وتجويع البشر وإذلالهم باسم الحرية الإقتصادية .
لقد أصبح من الواضح الجلي تأثير العالم الغربي في الحياة الإنسانية في كافة المجالات , ونحن المسلمين جزء من هذا العالم الذي يتلقى التأثير من الغرب في كل وقت , بل ربما نكون نحن معنيين بهذا التأثير أكثر من غيرنا لأننا – مع ضعفننا وهواننا على الناس – أمة منافسة في قوة الدين الذي نحمله وهذا ما جعل هنتجتون في مقاله (صراع الحضارات ) ير شح المسلمين للصراع في المرحلة الحالية والقادمة كبديل للشيوعية بعد سقوطها أكثر من الجنس الأصفر ( الصين واليابان ودول شرق وجنوب آسيا ) لأن الدين الذي يحمله المسلمون فيه من عوامل البقاء والقدرة على الصراع وإمكان التفوق والصعود مرة أخرى ما يلاحظه أي مراقب في الحركة التاريخية والمسيرة الواقعية له.
والدعوة الإسلامية إذا استطاعت أن تواجه المشكلات الداخلية فيها - مثل التفرق والفوضوية و مخالفة الهدي النبوي وغيرها – فان أكبر ما يواجهها هو التيار الليبرالي في البلاد الإسلامية .
ولهذا كان من الضروري دراسة الفكر الليبرالي ومعرفة حقيقته وأبعاده لمعرفة كيفية التعامل معه وإدارة المعركة معه بنجاح , فكانت هذه الدراسة المختصرة التي تؤدي جزءا من المطلوب , وأتمنى من الأخوة القراء التواصل معي فيما يفيد في خروج البحث في صورته القادمة ولكل من أهدى لي ملاحظة أو تصحيح أو فائدة أو توثيق الشكر والدعاء بالأجر والثواب .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .
كتبه/ عبد الرحيم بن صمايل السلمي
المبحث الأول : مفهوم الليبرالية .
من الصعوبة بمكان تحديد تعريف دقيق لليبرالية , وذلك بسبب تعدد جوانبها ,وتطورها من جيل إلى جيل .
يقول الأستاذ وضاح نصر :
"تبدو بلورة تعريف واضح ودقيق لمفهوم الليبرالية أمراً صعباً وربما عديم الجدوى . وفي حال تحديد الليبرالية نجد أن هذا التحديد لا ينطبق على عدد من الفلاسفة والمفكرين الذين سيموا بسمة الليبرالية(1)(/1)
وقد قررت موسوعة لالاند الفلسفية الالتباس الحاصل في مفهوم الليبرالية ؛ فجاء فيها "نرى من خلال التعريفات السابقة مدى التباس هذا اللفظ . ومما يزيد في الالتباس استعماله الطارئ المتداول في أيامنا للدلّ على الأحزاب أو النزعات السياسيَّة" . (2)
وفي الموسوعة العربية العالمية "وتعتبر الليبرالية مصطلحاً غامضاً لأن معناها وتأكيداتها تبدَّلت بصورة ملحوظة بمرور السنين" (3)
وقال الدكتور يوسف القرضاوي :"وأمثال هذه المصطلحات التي تدل على مفاهيم عقائدية ليس لها مدلول واحد محدد عند الأوربيين . لهذا تفسر في بلد بما لاتفسر به في بلد آخر, وتفهم عند فيلسوف بما لاتفهم به عند غيره , وتطبق في مرحلة بما لاتطبق به في أخرى .
ومن هنا كان اختلاف التعريفات لهذه المفاهيم , وكانت الصعوبة في وضع تعريف منطقي جامع مانع يحدد مدلولها بدقة . حتى اشتقاق كلمة "ليبرالي" نفسها اختلفوا فيه :هل هي مأخوذة من (ليبرتي) التي معناها الحرية كما هو مشهور أم هي مأخوذة من أصل أسباني ؟" (4)
ولكن لليبرالية جوهر أساسي يتفق عليه جميع الليبراليين في كافة العصور مع اختلاف توجهاتهم وكيفية تطبيقها كوسيلة من وسائل الإصلاح والإنتاج .
هذا الجوهر هو " أن الليبرالية تعتبر الحرية المبدأ والمنتهى , الباعث والهدف , الأصل والنتيجة في حياة الإنسان , وهي المنظومة الفكرية الوحيدة التي لا تطمع في شيء سوى وصف النشاط البشري الحر وشرح أوجهه والتعليق عليه" (5)
يقول الأستاذ وضاح نصر :
"وإذا كان لليبرالية من جوهر فهو التركيز على أهمية الفرد وضرورة تحرره من كل نوع من أنواع السيطرة والاستبداد , فالليبرالي يصبو على نحو خاص إلى التحرر من التسلط بنوعيه : تسلط الدولة (الاستبداد السياسي) , وتسلط الجماعة (الاستبداد الاجتماعي) , لذلك نجد الجذور التاريخيَّة لليبرالية في الحركات التي جعلت الفرد غاية بذاته , معارضة في كثير من الأحيان التقاليد والأعراف والسلطة رافضة جعل إرادة الفرد مجرد امتداد لإرادة الجماعة" (6)
وأهم ما يميز الأدبيات الليبرالية الكلاسيكية المعاصرة هو اهتمامها المفرط بمبدأ الحرية , حيث يفترض الفكر الليبرالي أن الحرية هي الغاية الأولى والرئيسيَّة التي يتطلع لها الفرد بطبيعته.
وأنه لا يوجد إجابة مطلقة للسؤال الفلسفي المشهور : ما هي الحياة المثلى للإنسان ؟ لأن لكل فرد الحق والحرية في اختيار أسلوب الحياة الذي يناسبه .(7)
إذن : مبدأ الحرية وتحقيق الفرد لذاته تمثل نقطة انطلاق في الفكر الليبرالي بكل أطيافه , وفي كل المجالات المختلفة .
وقد ورد في موسوعة لالاند أن "هذا الاسم (الليبرالية) عينه يدل خاصة على العقائد التي تعتبر ازدياد الحرية الفردية من مثلها , والعقائد التي ترى أن الحد من دور الدولة هو بمنزلة وسيلة أساسية لهذه الحرية" (8)
والأساس الفلسفي الذي ينطلق منه الفكر الليبرالي هو المذهب الفردي الذي يرى أن الحرية الفردية هدفاً وغاية ينبغي تحقيقها. وقد عُرِّفت الليبرالية مجموعة تعريفات بحسب المجال التي تعرَّف من خلاله. (9)
يقول منير البعلبكي :"والليبرالية تعارض المؤسسات السياسية والدينية التي تحد من الحرية الفردية ... وتطالب بحقه في حرية التعبير وتكافؤ الفرص والثقافة الواسعة". (10)
وفي المؤسسة العربية أن الليبرالية :"فلسفة اقتصادية وسياسية تؤكد على الحرية والمساواة وإتاحة الفرص" (11)
وهذا التعريف ليس تعريفاً دقيقاً لمذهب فلسفي تغيَّر مفهومه مع السنين بسبب التقلبات الفكرية والسياسية والاجتماعية .
والحقيقة أن التعريف الدقيق لهذا المصطلح هو تعريفه بحسب المجال الذي يعرف من خلاله, نعرفها على النحو التالي : ليبرالية السياسة , وليبرالية الاقتصاد , وليبرالية الأخلاق ... وهكذا . وهذا ما قامت به موسوعة لالاند الفلسفيّة .
وسيأتي تعريف كل نوع على حدة في مبحث مجالات الليبرالية .
وإذا تتبعنا مراحل الليبرالية التي مرت بها نجد أنها على النحو التالي :(12)
(1) مرحلة التكوين , والمفهوم الأساسي في هذه المرحلة هو مفهوم ذات الإنسان باعتباره الفاعل صاحب الاختيار والمبادرة .
(2) مرحلة الاكتمال , ومفهومها الأساسي هو مفهوم الفرد العاقل المالك لحياته وبدنه وذهنه وعمله , وعلى أساس هذا المفهوم شيد علم الاقتصاد العقلي المخالف للاقتصاد الإقطاعي المتفكك , وشيد علم السياسة العقلية المبني على نظرية العقد , والمخالف لسياسة الاستبداد المترهل المنخور .
(3) مرحلة الاستقلال , ومفهومها الأساسي هو مفهوم المبادرة الخلاّقة من المحافظة على الحقوق الموروثة , والاعتماد على التطور البطيء , وهو تطور من العقل الخيالي إلى الملك الواقعي .
(4) مرحلة التقوقع , ومفهومها الأساسي هو مفهوم المغايرة والاعتراض وترك مسايرة الآراء الغالبة , لأن الخلاف والاعتراض يبعد عن التقليد ويولد الإبداع .(/2)
ليس الغرض من بيان مراحل الليبرالية تاريخ تطور الفكر الليبرالي بل تحديد منظومة الأفكار المختلفة التي يتبين من خلالها خطأ إعطاء تعريف واحد لهذه الفلسفة صاحبة المفاهيم المتعددة .
ويلاحظ (رانزولي) أن هذه الكلمة تستعمل في إنكلترا خصوصاً بالمعنى الاقتصادي , بينما تكاد تستعمل دائماً في إيطاليا بالمعنى السياسي الديني . (13)
ويحاول طوكفيل – أحد أقطاب الليبرالية في القرن التاسع عشر – أن يحدد معنى الحرية فيقول :"إن معنى الحرية الصحيح هو أن كل إنسان نفترض فيه أنه خلق عاقلاً يستطيع حسن التصرف , يملك حقاً لايقبل التفويت في أن يعيش مستقلاً عن الآخرين في كل ما يتعلق بذاته وأن ينظم كما يشاء حياته الشخصية" (14)ونظراً لكون الحرية مفهوماً عاماً يوصل إلى التعارض والتنازع بين الحريات المتناقضة فإن هيمون يتمنى أن توضع الليبرالية في مقابل النظرية الانفلاتية , وهذا تغيير لمفهوم الحرية (الانفلات)"وعندئذ يمكن أن تكون الأولى (الليبرالية)معتبرة بوصفها النظرية الأخلاقية والسياسية التي تتوق إلى حرية الفرد أيما توق , وتحدّ في الوقت نفسه من المطالبة أو الحصول على هذه الحريات عندما تغدو إباحيات مضرة بالآخر (بمعنى إعلان الحقوق) في المقابل يمكن للنظرية الانفلاتية أن تكون صورة للفردية التي لاتعترف بأي حد مألوف وقانوني للحرية الفردية فهي وحدها الحكم على حقوق الفرد وفقاً لقوته" (15)
ويقابل الليبرالية مجموعة من المصطلحات المناقضة لمفهوم الحرية بالمعنى الليبرالي مثل الاستبدادية (autocrtisme)(16) , والحكومة الأوتوقراطية هي الحكومة الفردية المطلقة المستبدة , و autocratic) ) أي حاكم استبدادي .(17)
خلاصة :
الليبرالية لها مفاهيم متعددة بحسب ما تضاف إليه , ويجمعها الاهتمام المفرط بالحرية , وتحقيق الفرد لذاته , واعتبار الحرية هدفاً وغاية في ذاتها .
فالليبرالية هي "نظرية الحرية" , وهي نظرية ذات أطياف متعددة وجوانب مختلفة , وبمقادير متفاوتة .
والحرية – كما يلا حظ الباحث المدقق – مفهوم عام يمكن أن يعني به الحرية المطلقة دون معنى محددا , وقد يريد به البعض معنا محددا معينا.
ولكن المفهوم الفلسفي لهذا المذهب الفكري هو الحرية المطلقة التي لا تحدها الحدود ولا تمنعها السدود الا ما كان فيها تجاوز لحريات الآخرين على قاعدة ( تنتهي حريتك حيث تبدأ حريات الآخرين ) .
ومن أستعمل هذا المصطلح لغير هذا المفهوم الشمولي فهو غير مصيب في استعمال المصطلح في غير مجاله وكان الأولى به البحث عن لفظ يناسب معناه غير هذا المصطلح .
وهذا يكشف مدى تردد الليبراليين العرب بين مفهوم المصطلح الفلسفي وبين انتسابهم للأسلام المناقض له من الجذور والأصول .
المبحث الثاني : الليبرالية عند جون ستوارت مل (18) .
يعتبر (ملْ) من أبرز المفكرين الغربيين الذين نظّروا للفلسفة الليبرالية من خلال كتابه (في الحرية – on librty) (19) – والذي أصبح المصدر الأساسي لفكر الليبراليين العرب من أمثال أحمد لطفي السيد , وطه حسين , وحسين هيكل . (20)
أخذ (مل)موضوع الليبرالية من الجهة التطبيقية والاجتماعية ولم يناقشها من الناحية الفلسفية المجردة فيقول :"لا يتناول هذا المقال ما يسمى حرية الإرادة , وهي التي تتعارض مع ما يدعى خطأ بفلسفة الضرورة , ولكنه بحث في الحرية المدنية الاجتماعية". (21)
وقد تحدث (مل) عن حركة الفكر وقال عن المعتقدات الدينية :"ولاأقول أن الاعتقاد بصدق العقيدة مدعاة للعصمة , بل إن ماأقوله إن ادعاء العصمة معناه إجبار الغير على قبول ما نراه في العقيدة دون أن نسمع رأيه فيها , ولا أستطيع أن أدعي العصمة حتى وإن كانت لحماية أعز معتقداتي".
ويقيد مل الحرية حتى لاتصبح انفلاتية متناقضة فيقول :"كلما تعين ضرر واقع أو محتمل, إما للفرد وإما للعموم ينزع الفعل الذي يتسبب في الضرر من حيّز الحرية ليلحق بحيّز الأخلاق أو بحيّز القانون".
ويقول :"إن ما يخص الفرد وحده هو من حقوقه , ومايخص المجتمع فهو حق للمجتمع".
ويرى مل أن الدولة لابد أن يكون لها حَدّ معين تقف عنده لينمو رصيد الحرية عند الأفراد سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي أو غيره وأنه بدون ذلك سيتحول الأمر إلى استبداد حتى لو كان هناك حرية في مجال معين أو انتخاب تشريعي. (22)
يقول مل :
"إذا كانت الطرق والسكك والبنوك ودور التأمين والشركات بالمساهمة والجامعات والجمعيات الخيرية كلها تابعة لإدارة الحكومة , وإذا أصبحت – زيادة على ماسبق – البلديات والجماعات المحلية مع مايترتب عنها اليوم من مسؤوليات , أقساماً متفرعة عن الإرادة المركزية, إذا كانت الحكومة هي التي تعيّن موظفي تلك المصالح وتكافؤهم بحيث يعود أملهم في تحسين معاشهم معقوداً عليها , إذا حصل كل هذا , حينئذ تصبح الحرية اسماً بلا مسمى , رغم المحافظة على حرية الصحافة وعلى انتخاب المجلس التشريعي بالاقتراع العام".(/3)
ورغم أن الديمقراطية من إفرازات الليبرالية إلا أن (مل) ينتقد الديمقراطية لأنه يعتبرها هيمنة للأكثرية على حرية الأقلية ولو كان فرداً واحداً.
يقول ملْ:
"إن مشكلة الحرية تُطرح بإلحاح داخل الدولة الديمقراطية.. بقدر ما تزداد الحكومة ديمقراطية بقدر ما ينقص ضمان الحرية الفردية".
ويقول عن إنجلترا :"ليست هذه البلاد وطناً لحرية الفكر".
وتوضيح ذلك :
أن من مقومات الليبرالية المهمة ضرورة الاعتراض والمغايرة لينمو بذلك الفكر الحر أما إذا كانت الأمور مسلمة لا تحتمل النقد يجمد الفكر ويضمحل الابتكار.
يقول :"عندما نقبل أن تكون المبادئ مسلمات لاتحتمل النقد , وأن تكون المسائل الكبرى التي تهم البشر موضحة بدون نقاش محدد , حينذاك يضمر النشاط الفكري الذي طبع الفترات الذهبية من تاريخ الإنسان".
ويعتبر ذلك من أبرز صور الاستبداد لأن مخالفة الجمهور وحيوية النقاش وبلورة الشخصية الفردية هي أساس التطور والتقدم والتحديث , ومن لم يكن كذلك فلا تاريخ له بالمعنى الحقيقي .
يقول (مل):
"إن القسم الأكبر من الإنسانية لا يملك تاريخاً بالمعنى الحقيقي لأنه يئن تحت وطأة الاستبداد".
الدين في كتاب ستوارت ملْ (23)
يرى ملْ أن المجتمع الديني غير ليبرالي لأنه مجتمع في نظامه للحكم فردي استبدادي , ونظامه الاجتماعي العام مؤسس (24)على الإجماع في الرأي وعلى تحريم النقد والنقاش المفتوح.
وهو ينتقد كل دين أو مجتمع متشدد في قوانينه الأخلاقية والدينية أي التي يضعها فوق النقاش . بما في ذلك المجتمع اليوناني في زمن نهضة العلوم , والإصلاح الديني (البروتستانت) والمجتمع الإنجليزي والأمريكي .
ويصرح ملْ بنقد الدين في اعتراضه على تحريم تجارة الخمر ,فيقول :"إن التحريم يمس حرية الفرد لأنه يفترض الفرد لا يعرف مصلحته"
وكذلك تحريم أكل لحم الخنزير , فيقول :"إن للمسلمين الحق في تجنبهم لحم الخنزير لأنهم يعافونه , لكنهم عندما يحتقرون غيرهم ممن لا يعافه ويأكله , فإنهم يمسون بحرية ذلك الغير".
وهو يعارض فكرة الحسبة لأنه يعتبر ذلك وضعاً للنفس في موضع الإله , يقول :"إن الناس عندما ينهون غيرهم عن المنكر يعتقدون أن الله لا يكره فقط من يعصي أوامره , بل سيعاقب أيضاً من لم ينتقم في الحال من ذلك العاصي".ومن الطريف أن ستوارت ملْ يعود إلى الاعتراف بأهمية الحسبة ويناقض نفسه لمّا طرح الأسئلة التالية : هل يجوز السماح ببيع السم أو التبغ أو الخمر ؟ هل يسمح للمرء أن يبيع نفسه لغيره ؟ هل يجب إجبار المرء على التعلم ؟ هل يجب تحديد النسل ؟ ولنقارن الآن بين قول ملْ الآتي وبين إنكاره مفهوم الحسبة بأنه اتهام للإنسان أنه لا يعرف مصلحته يقول :"في كل قضية من القضايا السابقة إن عدم تدخل الدولة قد يؤدي إلى أن يضر المرء نفسه بنفسه : أن يبقى جاهلاً أو أن يبذر ماله أو أن يسمم أقرباءه أو أن يبيع نفسه , ولكن إذا تدخلت الدولة ومنعت بعض الأنشطة , فسيكون المنع بالنسبة للرجل العاقل تجنياً على حقه في التصرف الحر".
ويقول :" إذا كانت الدولة مسؤولة على تغذية الفقراء فلها الحق أن تحد النسل , أما إذا تركت الناس ينجبون كما شاؤوا فليس عليها أن تعيل الفقراء" (25)
وهنا يناقض ملْ نفسه في عدة قضايا :
- في تدخل الدولة للمصلحة لأنه ليس كل إنسان يعرف مصلحة نفسه .
- في إبطال قاعدة أن الإنسان يعرف مصلحته ولا يحتاج إلى وصاية .
- في إنكار مبدأ الحسبة وتقييد الحريات المطلقة.
(1) الموسوعة الفلسفية العربية (المجلد الثاني – القسم الثاني – ص / 1155).
(2) موسوعة لالاند الفلسفية 2/725.
(3) الموسوعة العربية العالمية 21/247.
(4) الحلول المستوردة ص / 50 - 51
(5) مفهوم الحرية – عبد الله العروي – ص/ 39.
(6) الموسوعة الفلسفية العربية (المجلد الثاني - القسم الثاني –1155).
(7) مقال في صحيفة الأهرام العدد (132) إبريل 1998م : الليبرالية : نظرة نقدية – دينا سماته – ص / 47 .
(8) موسوعة لالاند الفلسفية 2/726 .
(9) انظر سلسلة تراث الإنسانية 4 / 473- 474 .
(10) موسوعة المورد العربية 2 / 1050 .
(11) الموسوعة العربية العالمية 21 / 247 .
(12) انظر مفهوم الحرية – عبدالله العروي – ص / 39 –40 (بتصرف) .
(13) انظر موسوعة لالاند الفلسفية 2 / 726 .
(14) الحالة الاجتماعية والسياسية في فرنسا سنة 1836م ( ضمن المؤلفات الكاملة )2 / 62 .
(15) موسوعة لالاند الفلسفية 2 / 726 – 727 .
(16) المصدر السابق 2 / 726 .
(17) انظر : المورد – للبعلبكي – ص /75
(18) انظر النصوص المنقولة عن جون ستوارت مل : كتابه في الحرية ضمن سلسلة تراث الإنسانية (الجزء الرابع) .
(19) قسم ستوارت مل كتابه في الحرية إلى خمسة فصول , أولها في فكرة الحرية , والثاني : حرية الفكر والمناقشة , والثالث : الفردية كعنصر من عناصر الحياة الطيبة , والرابع : حدود سلطة المجتمع على الفرد , والخامس : تطبيقات .(/4)
(20) انظر مفهوم الحرية – عبدالله العروي – ص / 42 .
(21) المصدر السابق ص / 42 .
(22) سيأتي تفصيل رأي الليبراليين في الدولة والاقتصاد في مبحث مجالات الليبرالية .
(23) النقول المنقولة عن كتاب (في الحرية)مأخوذة من مفهوم الحرية – للعروي – ص / 46 وقد صور العروي أن كلام (ملْ) هو نقد للإسلام .ويبدو أنه استنتاج من المؤلف , وأن ملْ لم ينص على نقد الإسلام باسمه بل بالآراء التي توحي بذلك (هذا ما أراه) .
(24) مفهوم الحرية – عبدالله العروي – ص / 46 .
(25) حول الاقتصاد السياسي (عن مفهوم الحرية ص 531 )
الليبرالية نشأتها وتطورها ومجالاتها(2/2)
عبد الرحيم صمايل السلمي 1/5/1424
01/07/2003
المبحث الثالث : نشأة الليبرالية وتطورها
نشأة الليبرالية وجذورها
نشأت الليبرالية في التغيرات الاجتماعية التي عصفت بأوربا منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي، وطبيعة التغير الاجتماعي والفكري يأتي بشكل متدرج بطيء.
وهي لم " تتبلور كنظرية في السياسة والاقتصاد والاجتماع على يد مفكر واحد، بل أسهم عدة مفكرين في إعطائها شكلها الأساسي وطابعها المميز.
فالليبرالية ليست اللوكية ( نسبة إلى جون لوك 1632 – 1704 )، أو الروسووية ( نسبة إلى جان جاك روسو 1712-1778 ) أو الملّية ( نسبة إلى جون ستوارت ملْ 1806-1873 )، وإن كان كل واحد من هؤلاء أسهم إسهاماً بارزاً أو فعالاً في إعطائها كثيراً من ملامحها وخصائصها"(1)
وقد حاول البعض تحديد بداية لبعض مجالاتها ففي موسوعة لا لاند الفلسفية "الليبرالي ( أول استعمال للفظة ) هو الحزب الأسباني الذي أراد نحو 1810م أن يدخل في أسبانيا من الطراز الإنكليزي.)(2)
ويذكر الأستاذ وضاح نصر: " أن الليبرالية في الفكر السياسي الغربي الحديث نشأت وتطورت في القرن السابع عشر، وذلك على الرغم من أن لفظتي ليبرالي وليبرالية لم تكونا متداولتين قبل القرن التاسع عشر.(3)
قال منير البعلبكي :" الليبرالية(liberalism)فلسفة سياسية ظهرت في أوربا في أوائل القرن التاسع، ثم اتخذت منذ ذلك الحين أشكالاً مختلفة في أزمنة وأماكن مختلفة(4)
والظاهر من تاريخ الليبرالية أنها كانت رد فعل لتسلط الكنيسة والإقطاع في العصور الوسطي بأوربا ، مما أدى إلى انتفاضة الشعوب ، وثورة الجماهير ، وبخاصة الطبقة الوسطي.والمناداة بالحرية والإخاء والمساواة، وقد ظهر ذلك في الثورة الفرنسية. وقد تبين فيما بعد أن هناك قوى شيطانية خفية حولت أهداف الثورة وغايتها(5).
وبهذا يتضح لنا أن الليبرالية في صورتها المعاصرة نشأت مع النهضة الأوربية ثم تطورت في عصور مختلفة إلى يومنا هذا.
ويرد بعض الباحثين جذور الليبرالية إلى ديمقراطيّ أثينا في القرن الخامس قبل المسيح، والرواقين في المراحل الأولى من المسيحية، ثم حرك الإصلاح البروتستانتية(6).
وقد ذكر البعلبكي أن في حركة الإصلا الديني توجهاً ليبرالياً فقال: " كما يطلق لفظ الليبرالية كذلك على حركة في البروتستانتية المعاصرة تؤكد على الحرية العقلية (7).
يقول الدكتور علي بن عبد الرزاق الزبيدي: " ومن الصعب تحديد تاريخ معين لنشأة الليبرالية فجذورها تمتد عميقة في التاريخ(8).
ويعتبر جون لوك من أوائل الفلاسفة الليبراليين وفلسفة تتعلق بالليبرالية السياسية.
تطور الليبرالية :
أخذت الليبرالية أطواراً متعددة بحسب الزمان والمكان وتغيرت مفاهيمها في أطوارها المختلفة ، وهي تتفق في كل أطوارها على التأكيد على الحرية وإعطاء الفرد حريته وعدم التدخل فيها.
ويمكن أن نشير إلى طورين مهمين فيها:
أولاً : الليبرالية الكلاسيكية :
يعتبر جوك لوك ( 1704م ) أبرز فلاسفة الليبرالية الكلاسيكية، ونظريته تتعلق بالليبرالية السياسية، وتنطلق نظريته من فكرة العقد الاجتماعي في تصوره لوجود الدولة، وهذا في حد ذاته هدم لنظرية الحق الإلهي التي تتزعمها الكنيسة.
وقد تميز لوك عن غيره من فلاسفة العقد الاجتماعي بأن السلطة أو الحكومة مقيدة بقبول الأفراد لها ولذلك يمكن بسحب السلطة الثقة فيها(9).
وهذه الليبرالية الإنكليزية هي التي شاعت في البلاد العربية أثناء عملية النقل الأعمى لما عند الأوربيين باسم الحضارة ومسايرة الركب في جيل النهضة كما يحلو لهم تسميته.
يقول القرضاوي : " وهي التي يمكن أن يحددها بعضهم بـ" ليبرالية ألوكز" وهي التي أوضحها جوك لوك وطورها الاقتصاديون الكلاسيكيون ، وهي ليبرالية ترتكز على مفهوم التحرر من تدخل الدولة في تصرفات الأفراد،سواء كان هذا في السلوك الشخصي للفردأم في حقوقه الطبيعية أم في نشاطه الاقتصادي آخذاً بمبدأ دعه يعمل"(10).
وقد أبرز آدم سميث (1790م) الليبرالية الاقتصادية وهي الحرية المطلقة في المال دون تقييد أو تدخل من الدولة.(/5)
وقد تكونت الديمقراطية والرأسماليّة من خلال هذه الليبرالية، فهي روح المذهبين وأساس تكوينها، وهي مستوحاة من شعار الثورة الفرنسية " دعه يعمل " وهذه في الحرية الاقتصادية " دعه يمر " في الحرية السياسية. وسيأتي التفصيل في مجالات الليبرالية.
ثانياً : الليبرالية المعاصرة :
" تعرضت الليبرالية في القرن العشرين لتغيّر ذي دلالة في توكيداتها. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر، بدأ العديد من الليبراليين يفكرون في شروط حرية انتهاز الفرص أكثر من التفكير في شروط من هذا القيد أو ذاك. وانتهوا إلى أن دور الحكومة ضروري على الأقل من أجل توفير الشروط التي يمكن فيها للأفراد أن يحققوا قدراتهم بوصفهم بشراً.
ويحبذ الليبراليون اليوم التنظيم النشط من قبل الحكومة للاقتصاد من أجل صالح المنفعة العامة. وفي الواقع، فإنهم يؤيدون برامج الحكومة لتوفير ضمان اقتصادي، وللتخفف من معاناة الإنسان.
وهذه البرامج تتضمن : التأمين ضد البطالة ، قوانين الحد الأدنى من الأجور ، ومعاشات كبار السن ، والتأمين الصحي.
ويؤمن الليبراليون المعاصرون بإعطاء الأهمية الأولى لحرية الفرد ، غير أنهم يتمسكون بأن على الحكومة أن تزيل بشكل فعال العقبات التي تواجه التمتع بتلك الحرية.
واليوم يطلق على أولئك الذي يؤيدون الأفكار الليبرالية القديمة : المحافظون(11).
ونلاحظ أن أبرز نقطة في التمايز بين الطورين السابقين هو في مدى تخل الدولة في تنظيم الحريات ، ففي الليبرالية الكلايسيكية لا تتدخل الدولة في الحريات بل الواجب عليها حمايتها ليحقق الفرد حريته الخاصة بالطريقة التي يريد دون وصاية عليه ، أما في الليبرالية المعاصرة فقد تغير ذلك وطلبوا تدخل الدولة لتنظيم الحريات وإزالة العقبات التي تكون سبباً في عدم التمتع بتلك الحريات.
وهذه نقطة جوهرية تؤكد لنا أن الليبرالية اختلفت من عصر إلى عصر ، ومن فيلسوف إلى آخر ، ومن بلدٍ إلى بلدٍ ، وهذا يجعل مفهومها غامضاً كما تقدم.
وقد تعرف الليبرالية تطورات أخرى في المستقبل ، ولعل أبرز ما يتوقع في الليبرالية هو التطور نحو العولمة التي هي طور ليبرالي خطير وسيأتي الإشارة إليه في المبحث الرابع.
المبحث الرابع : مجالات الليبرالية
تعددت مجالات الليبرالية بحسب النشاط الإنساني . وذلك أن الليبرالية مفهوم شمولي يتعلق بإدارة الإنسان وحريته في تحقيق هذه الإرادة فكل نشاط بشري يمكن أن تكون الليبرالية داخلة فيه من هذه الزاوية ، وبهذا الاعتبار.
" إن خصوصية الليبرالي عامة أنه يرى في الحرية أصل الإنسانية الحقّة وباعثة التاريخ. وخير دواء لكل نقص أو تعثر أو انكسار "(12)
وأبرز هذه المجالات شهرة : المجال السياسي ، والمجال الاقتصادي.
أولاً : ليبرالاية السياسة
في موسوعة لالاند الفلسفية: " الليبرالية: مذهب سياسي يرى أن من المستحسن أن تزاد إلى أبعد حد ممكن استقلالية السلطة التشريعية والسلطة القضائية بالنسبة إلى السلطة الإجرائية التنفيذية ، وأن يعطى للمواطنين أكبر قد من الضمانات في مواجهة تعسف الحكم".(13)
ويقول منير البعلبكي : " الليبرالية liberalism فلسفة سياسية ظهرت في أوربا في أوائل القرن التاسع عشر.. تعارض المؤسسات السياسية والدينية. التي تحد من الحرية الفردية ، وتنادي بأن الإنسان كائن خيّر عقلاني ، وتطالب بحقه في التعبير وتكافؤ الفرص والثقافة الواسعة(14).
وتعتبر الديمقراطية من النظم الليبرالية التي تسعى لإعطاء الفرد حقوقه وهي نوع من التطبيق العلمي للفكر الليبرالي. يقول الدكتور حازم البيلاوي : " فنقطة البدء في الفكر الليبرالي هي ليس فقط أنها تدعو للديمقراطية بمعنى المشاركة في الحكم ، ولكن نقطة البدء هو أنه فكر فردي يرى أن المجتمع لا يعدو أن يكون مجموعة من الأفراد التي يسعى كل فرد فيها إلى تحقيق ذاته وأهدافه الخاصة(15).
وقد أعطت الديمقراطية كنظام سياسي جملة من الحريات السياسية مثل : حرية الترشيح ، وحرية التفكير والتعبير ، وحرية الاجتماع ، وحرية الاحتجاج ، كما أعطت جملة من الضمانات المانعة من الاعتداء على الأفراد وحرياتهم مثل : ضمان الاتهام ، وضمان التحقيق ، وضما التنفيذ، وضمان الدفاع".(16)
"وقد أدّت الثورات الليبرالية إلى قيام حكومات عديدة تستند إلى دستور قائم على موافقة المحكومين.وقد وضعت مثل هذه الحكومات الدستورية العديد من لوائح الحقوق التي أعلنت حقوق الأفراد في مجالات الرأي والصحافة والاجتماع والدين.كذلك حاولت لوائح الحقوق أن توفر ضمانات ضد سوء استعمال السلطة من قبل الشرطة والمحاكم"(17).
ومع ذلك فإن الليبرالية تطالب من الدول الديمقراطية مزيداً من الحريات تطالب بالتخفف من السلطة على الأفراد ليحصل بذلك الفرد على حريته.
ويرى سبنسر أن وظائف الدولة يجب أن تحصر في الشرطة والعدل والدفاع العسكري بمواجهة الأجنبي(18).(/6)
ويظهر من ذلك المطالبة بغياب الدولة إلا فيما يتعلق بالحماية العامة للمجتمع ، وهذا هو رأي الليبراليين الكلاسيكيين. وقد انقرض هذا الرأي في الليبرالية المعاصرة التي جنحت إلى اعتبار الحرية الفردية هدفاً ولو بتدخل الدولة . بينما كان المذهب الأساسي عند الكلاسيكيين المطالبة بغياب الدولة مهما تكن نتائجه على الفرد(19).
وقد اختلف الليبراليون الكلاسيكيون مع الديمقراطيين في من يملك حق التشريع العام ، فالديمقراطيون يرون أن الأكثرية هي التي تقرر وتشرع وتمسك بزمام السلطة. أما الليبراليون فقد اهتموا بحماية الفرد من الأذى، وأن هذا هو مهمة القانون بدل التشديد على حق الآخرين بسبب الأكثرية ، وهذه من نقاط التصادم بينهم"(20).
ولكن الليبرالية اختلفت في الواقع المعاصر عمّا كانت عليه سابقاً.
ويمكن أن نطلق على التوجه الجديد ( الليبرالية الجديدة ) وبرروا ذلك بأنه نتيجة لعدم مسايرة الليبرالية التقليدية للتطور الذي شهده العالم كان ذلك هو السبب في ولادة ليبرالية جديدة تتلاءم وظروف المجتمع الجديد ، وهي ليبرالية ما بعد الحرب العالمية الثانية(21).
والفرق بينهما فيما يتعلق بالسياسة هو :
أن دور الدولة في ظل النظرة الجديدة يجب أن يكون أكبر ، فلها مهمة أساسية هي تحديد الإطار القانوني للمؤسسات التي يدور فيها النشاط الاقتصادي ، وقد حدد منظرو الليبرالية الجديدة دور الدولة الذي يجب أن تقوم به بما يلي :-
1-أن تعمل كل جهدها ضد التضخم والانكماش.
2-أن تحد بشكل معتدل من سلطة الاحتكار وبشكل تتابعي.
3-أن تؤمم فقط الاحتكارات التي لا يمكن للقطاع الخاص.
4-أن تتحمل كافة الخدمات العامة.
5-أن تعطي الفرص والموارد بالتساوي.
6-أن تطبق التخطيط التأثيري من أجل التقليل من المخاطر التي قد تحدث.
7-أن تطبق التخطيط المركزي عندما يقتضي أن يكون هناك عمل تغير بنائي.
8-أن تتدخل عندما يكون هناك خلل في ميكانيكية السوق(22).
ثانياً : ليبرالية الاقتصاد
الليبرالية الاقتصادية: " مذهب اقتصادي يرى أن الدولة لا ينبغي لها أن تتولى وظائف صناعية ، ولا وظائف تجارية ، وأنها لا يحقّ لها التدخل في العلاقات الاقتصادية التي تقوم بين الأفراد والطبقات أو الأمم. بهذا المعنى يقال غالباً ليبرالية اقتصادية"(23).
ويلاحظ أن هذا التعريف واقع على الليبرالية الكلاسيكية قبل التحول الكبير الذي تم في الليبرالية الجديدة على نحو ما سيأتي.
ويقول البعلبكي " ويطلق لفظ الليبرالية أيضاً على سياسة اقتصادية نشأت في القرن التاسع عشر متأثرة بآراء آدم سميث بخاصة ، وأكدت على حرية التجارة وحرية المنافسة ، وعارضت تدخل الدولة في الاقتصاد"(24).
والليبرالية الاقتصادية وثيقة الصلة بالليبرالية السياسية ، ويعتقد الليبراليون أن الحكومة التي تحكم بالحد الأدنى يكون حكمها هو الأفضل.. ويرون أن الاقتصاد ينظم نفسه بنفسه إذا ما ترك يعمل بمفرده حراً ، ويرون أن تنظيمات الحكومة ليست ضرورية(25).
وأبرز النظم الاقتصادية الليبرالية هو نظام " الرأسمالية " التي رتّب أفكاره عالم الاقتصاد الاسكتلندي آدم سميث في كتابه ( ثروة الأمم ).
ويدخل في الحرية التي يطالب بها الليبراليون حرية حركة المال والتجارة ، وحرية العمل وحرية التعاقد ، وحرية ممارسة أي مهنة أو نشاط اقتصادي آخذاً من الشعار الشهير للثورة الفرنسية " دعه يعمل دعه يمر."
والذي يحكم قواعد اللعبة الاقتصادية وقيمها هو سوق العرض والطلب دون أي تقييد حكومي أو نقابة عمالية. فللعامل الحرية في العمل أو الترك كما لصاحب رأس المال الحرية المطلقة في توظيف العدد الذي يريد بالأجرة التي يريد(26).
ولكن سبق أن ذكرنا أن المفهوم الليبرالي تغير وبرزت الليبرالية الجديدة عل السطح بعد الحرب العالمية الثانية بسبب الأزمات الاقتصادية الخانقة والكساد وذلك لتمركز رأس المال وظهور الاحتكارات الصناعية الضخمة ، وانهيار قاعدة الصرف بالذهب وأزمة الثورات العمالية في ألمانيا مما جعل الحكومات تتدخل لإنعاش الاقتصاد فتغيرت الأيديولوجية الليبرالية إلى القول بأهمية تدخل الحكومة لتنظيم السوق(27).
وقد فصّل صاحب كتاب " الليبرالية المتوحشة " كيفية تدخل الدولة لإنعاش الاقتصاد وإصلاح السوق ، وبهذه المرحلة تغيب شمس الليبرالية الكلاسيكية حيث أبطل الواقع فكرة إصلاح السوق لنفسه لتبرز إلى السطح الليبرالية الجديدة بقوة.
وقد أطيل النفس في مراحل الاقتصاد الليبرالي في الكتاب سابق الذكر، ونقد فكر الليبرالية الجديدة واقعياً ببيان انحدار الازدهار الاقتصادي الذي حققته الرأسمالية بعد الحرب الكونية الثانية ، فبدأت معدلات النمو الاقتصادي في التراجع وارتفعت معدلات البطالة والطاقة المعطلة ، وانخفضت معدلات نمو الإنتاجية(28).(/7)
ولعل أبرز تطور جديد في الليبرالية المعاصرة هو " ليبرالية العولمة " ومن دلالتها الفكرية : العودة إلى الليبرالية الكلاسيكية كمفهوم ، وذلك أن من أبرز معالم العولمة : التخفيف من التدخل الحكومي في انتقال المال عبر الحدود والأسوار السياسية ، وذلك لتحقيق أعلى الأرباح ، فقد طبّقت الفلسفة الليبرالية عملياً عن طريق الشاويش السياسي الذي يحمي هذه الفكرة القديمة في الضمير الغربي.
لقد أصبح الاقتصاد وسيلة سياسية للسيطرة ، ونقل الثقافات الحضارية بين الأمم ، ولهذا فالأقوى اقتصادياً هو الأقوى سياسياًّ ولهذا اقتنعت الدول الغربية بهذه الفلسفة مع مشاهدتها لآثار الرأسمالية على الشعوب الفقيرة ، ومن خلال اللعبة الاقتصادية يمكن أن تسقط دول ، وتضعف أخرى.
وجذر العولمة الفكري هو انتفاء سيادة الدول على حدودها ومواطنيها فضلاً عن عدم سيطرتها عل النظام الاقتصادي الحر الذي كان يطالب به الليبراليون الكلاسيكيون.
يقول رئيس المصرف المركزي الألماني هناس تيتمار في فبراير من عام 1996م أمام المنتدى الاقتاصادي في دفوس " إن غالبية السياسيين لا يزالون غير مدركين أنهم قد صاروا الآن يخضعون لرقابة أسواق المال ، لا ، بل إنهم صاروا يخضعون لسيطرتها وهيمنتها"(29)وسوف يكون قادة العالم في المرحلة القادمة ( العولمة ) هم أرباب المال ، وسدنة المؤسسات الاقتصادية الكبرى.
والعولمة مبنية على نظرية اقتصادية ينصح بها عدد من الخبراء والاستشاريين الاقتصاديين. ويقدمونها دون ملل للمسئولين عن إدارة دفة السياسة الاقتصادية على أنها أفضل نهج وهي (الليبرالية الجديدة new liberalisms) وشعار هذه النظرية (ما يفرزه السوق صالح ، أما تدخل الدولة فهو طالح )(30).
وهذا صريح في إعادة ترميم الليبرالية الكلاسيكية والارتداد إليها بعد التغير الذي حصل بعد الحرب العالمية
الثانية.
(1) الموسوعة الفلسفية العربية ( الجزء الثاني – القسم الثاني – ص / 1155)
(2) موسوعة لا لاند الفلسفية 2/726.
(3) الموسوعة الفلسفية العربية ( الجزء الثاني – القسم الثاني ص 1156)
(4) موسوعة المورد العربية 2/1050.
(5) أنظر : الموسوعة الفلسفية العربية
(6) انظر : الموسوعة الفلسفية العربية ( الجزء الثاني – القسم الثاني ص 1156
(7) موسوعة المورد العربية 4/1050.
(8) مقال : في الدول الليبرالية – مجلة المؤرخ العربي العدد 35، ص / 71.
(9) أنظر العلمانية – سفر الحوالي – ص /214 ، وانظر تفصيل نظرية لوك في ذلك : الموسوعة الفلسفية ( الجزء الثاني – القسم الثاني ص /1156-1157.
(10) الحلول المستوردة ص 51.
(11) الموسوعة العربية العالمية 21/248.
(12) مفهوم الحرية – العروي –ص /511.
(13) موسوعة لا لاند الفلسفية 2/725.
(14) موسوعة المورد العربية 4/1050.
(15) مجلة آفاق الإسلام – عدد 4-عام 1994م.
(16) انظر تفصيل ذلك في : مذاهب فكرية معاصرة – للأستاذ محمد قطب – ( الديمقراطية).
(17) الموسوعة العربية العالمية 21/248.
(18) الموسوعة العربية العالمية 21/248.
(19) انظر : موسوعة لا لاند الفلسفية 2/726.
(20) الموسوعة الفلسفية العربية ( الجزء الثاني – القسم الثاني – ص /1160).
(21) مقال : في الدولة الليبرالية – مجلة المؤرخ العربي – عدد 35- ص/73.
(22) أنظر مقال : في الدولة الليبرالية – مجلة المؤرخ العربي – عدد 35-ص/73.
(23) موسوعة لا لاند الفلسفية 2/726.
(24) موسوعة المورد العربية 2/1050.
(25) أنظر الموسوعة العربية العالمية 21/248
(26) أنظر الليبرالية المتوحشة ص/41.
(27) أنظر المصدر السابق ص/47-51.
(28) أنظر : المصدر السابق.
(29) أنظر في العلاقة بين الليبرالية والعولمة : كتاب " فخ العولمة " ومنه أخذت النصوص السابقة.
(30) أنظر في العلاقة بين الليبرالية والعولمة : كتاب " فخ العولمة" ومنه أخذت النصوص السابقة(/8)
الليبراليون .. غربة الدين والوطن
د . محمد بن سعود البشر 13/4/1427
11/05/2006
الليبراليون المسْخ على فريقين: إما مولع برموز الفجور الفكري، والعهر الأخلاقي في الخارج .. وإما عميل يتردّد على الأجنبي في الداخل، وكلاهما مُفرط في الدين .. خائن للوطن..
كنت أحسن الظن في بعض المثقفين الذي يتشرفون بأن يصنفهم المجتمع ضمن (التيار الليبرالي)، فإن غابت الغيرة على الدين في لقاءاتهم ومنتدياتهم فإن الغيرة على الوطن حاضرة في أطروحاتهم الفكرية، ورؤاهم الثقافية، ومشاعرهم الوجدانية.
حسن الظن هذا نسفَتْهُ بعض مواقف هؤلاء في غير مناسبة ثقافية أو لقاء فكري.
في جمع ثقافي، قال أحدهم:
ندعو (محمود درويش) ليأتي إلينا .. هو علم، وله جماهير، وسيأتي إلينا جمع غفير من داخل بلادنا وخارجها .. واستطرد مادحاً حتى قلنا ليته (سكت).
صوت عاقل يجيب:
كيف تدعون من يسبّ الله، والرسول، ويشتمكم، ويسب بلادكم، بلاد الحرمين وقبلة المسلمين ..؟! إن لم تكن بكم غيرة على الدين، فلتكن غيرة على وطنكم .. إني لأعجب منكم أيها الليبراليون السعوديون: كيف أكون أكثر غيرة منكم على بلادكم ..؟!
آخر يتفاعل:
لقد وجهتم إليه الدعوة للحضور .. فرفض .. فلماذا التملّق والتميّع ..؟! ولماذا تصرّون على دعوة من يسب الله والرسول والمؤمنين، ويستهزئ بنا وبوطننا؟! لا أظن أن هناك (شريفاً) يرضى أن يُسبّ أبوه في داره؟!
هذان فريقان ليبراليان متطرفان .. وبينهما فئة متميّعة، لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً .. يتقلّّبون كما الليل والنهار .. يبيعون آخرتهم وانتماءاتهم بعرض من الدنيا، يخالفون ما عليه إجماع الأمة، فإن أُعطوا من الدنيا رضوا، وإذا لم يُعطَوْا منها تحدثوا وكتبوا، وناقشوا، وخالفوا ليدخلوا في دائرة المؤلفة قلوبهم ..!!
الليبرالية في الغرب: علمانية التوجة، وطنية الإنتماء ..
والليبرالية في بلادنا تجمع غربتين: غربة الدين وغربة الوطن ..
وهذا هو (المسْخ الحقيقي) ..
ليست هذه حماسة جيّاشة .. أو تصعيد في الظن أو اجتهاد خاطئ .. بل إن أسماءهم .. وأشخاصهم .. وهيئاتهم حاضرة في الذهن، تذكّرني بقوله تعالى: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ..).(/1)
الليبراليون الجدد في حِقبة ما تحت الحداثة!
د.مسفر بن علي القحطاني * 30/11/1425
11/01/2005
الليبرالية والحداثة من أعقد المصطلحات على التعريف والضبط المنطقي، ولكنها عند التناول والاستعمال تتشكّل وحدة معرفية يتضح منها المقصود العام عند الإطلاق. فالليبرالية -بشكل عام- كلمة مترجمة من الإنجليزية يقصد بها الحرية المطلقة في الميدانَيْن: الاقتصادي والسياسي، ثم انسحب ذلك على الميادين الأخرى: الفكرية والاجتماعية والدينية. (1)
أما مصطلح الحداثة فالاختلاف في تحديد مفهومه مازال قائماً ومعقداً عند الكثير من مفكري الغرب المعاصرين.
فالحداثة بتعبير ( بيتربروكر) كان بناءً على ما قامت أركانه بعد وقوع الحدث نفسه، فاستخدام اللفظ وشيوعه كان حديثاً ومحصوراً بالحقل الأدبي، فأصبحت تطلق على التجديد كأداة للإبداع الأدبي والرؤى المبتكرة ثم انسحبت أيضاً لتشمل المجالات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها, فالحداثة وعي جديد، وهي شرطٌ تمكن الغرب من تحقيقه وإنجازه وأحياناً تفاعل ضده من أجل تقويضه وإلغائه. (2)
وقد عبَّر عنها الدكتور الغذامي بـ"التجديد الواعي" بمعنى تحديث النسق الذهني ليكوّن وعياً شاملاً للتاريخ وللواقع. (3)
والناظر في واقع الفكر الليبرالي الذي تَبَنّى الحداثة بجميع إشكالها قد حقق انتشاراً واسعاً في العالم كله خلال العقود الماضية، واخترق المعسكر الشيوعي، وضرب معوله في جدار برلين ليعلن السقوط الكلي للفكر الاشتراكي في الغرب.
أما عالمنا العربي فنتيجة للامتداد الفكري والسياسي مع الغرب فقد تبنت منه الكثير من مجتمعاتنا العربية الليبرالية الرأسمالية والسياسة الديمقراطية على غرار بقية فريق الشمال الأبيض، ولم تكن هناك قناعة تامة بهذا الانتماء الفكري لليبرالية عند كثير من أبناء تلك الشعوب بعكس القليل من النخب المثقفة فيها.
وتمت من أجل ذلك محاولات كثيرة لمسخ الهوية الدينية والقومية وإرغام تلك المجتمعات بتبني ثقافة الحداثة على النمط الغربي وتسيسها بالفكر الديمقراطي مما أنتج مع تراكمات الزمن وتسلط المستعمر أشكالاً متطرفة من الأصولية القومية إلى الليبرالية المتطرفة إلى العنف الإسلامي مما كلّف الأمة المزيد من المعانات والويلات الطويلة والمؤلمة جرّاء ذلك الانفصام النكد لشخصية الأمة وموروثها الديني، والذي مازلنا نعاني من إفرازاته السلبية إلى وقتنا المعاصر.
ومع أن استيعاب نخبنا المثقفة للفكر الحداثي كان بطيئاً ومتأخراً, فإنها لم تكد تضع أقدامها على درجته حتى أضحى العالم الغربي ينقد فكره الليبرالي ويودع حداثته التقليدية وينسلخ منها إلى ما أصطلح عليه فلسفياً بـ"ما بعد الحداثة"..
وعوداً إلى عنوان المقال الذي أخصّ فيه الليبراليين العرب الجدد، كتيار حديث ظهر مع بداية عقد التسعينيات الميلادية كتوجه جديد برز على الساحة السياسية والاقتصادية والفكرية متزامناً مع أزمات المنطقة والتدخل الأجنبي في شؤونها، فقد أخذ بعد ذلك أهميةً قصوى في الدوائر السياسية الغربية خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سمبتبر2001م.
إن النشأة الفكرية لهذا التيار تكوّنت أثناء السجال الأيديولوجي بين فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة، بينما يصف برهان غليون الحالة المعاصرة لمجتمعاتنا العربية وسياساتها الحداثية بأنها أشبه إلى كونها مجتمعات (ما تحت الحداثة) لا ( ما بعد الحداثة) يقول في هذا الصدد: "إن ما تحت الحداثة لا تعنى الخروج من الحداثة، ولكن فقط الانحطاط في هذه الحداثه. فكما تدفع أزمة الحداثة المجتمعات النامية أو المهمشة إلى نكوص لأفراد نحو قيم وتقاليد وأنماط من التفكير وأساليب من العمل تكاد تكون ما قبل حداثية، أي سابقة على الثورات الأساسية التي شكلّت قيم الحداثة، تدفع الأزمة ذاتها الأفراد في المجتمعات التي لا تزال أمامها آفاقاً مفتوحة إلى التطلع إلى تحقيق حريات وحقوق ومتعات تجاوز ما أتاحته حتى الآن قيم الحداثة الكلاسيكية." (4)
إن هذه الحالة الرثّة من الحداثة كما يقول غليون تعود بنا إلى استخدام أدوات تفكير القرون الوسطى من أجل تنظيم مجتمع حديث أو يعيش على الأقل في العصر الحديث.(5)
فالأصوات بدأت تعلو بشكل كبير في نقد الحداثة الغربية وتهميش ذلك الإله الذي قُدِّس في كثير من مجتمعات العالم. بعد أن اشتعلت جذوة النقد من كبار فلاسفة الغرب ,أمثال: الفيلسوف الفرنسي ( ليونار) في كتابه الشهير ( الظرف ما بعد الحداثي ) حيث قدم نقداً عنيفاً لمشروع الحداثة الغربي. غير أن الفيلسوف الألماني ( هابرماس) ذهب إلى أبعد من ذلك بزعمه أن الحداثة نفسها لم يكتمل مشروعها بعد. وعزّز هذا النقد للحداثة الغربية وأجنحتها السياسية والعسكرية ما كتبة (جاك دريدا) و( وميشيل فوكو) وغيرهما في بيان مهازل الديمقراطية وتناقضاتها الكثيرة.(/1)
يلخصّ الدكتور عبدالوهاب المسيري فلسفة (ما بعد الحداثة) بأنها تجرُّدٌ من العقلانية المادية؛ فلا تعرف البطولة ولا تعرف المأساة ولا الملهاة، فلسفة تدرك حتمية التفكيك الكامل والسيولة الشاملة، إذ يتم التوصل إلى أن كل شيء نسبي مادي، وأن الفلسفة الإنسانية وهم، وأن الاستنارة المضيئة حلم وعبث، وأن الواقع في حالة سيولة حركية مثل المادة الأولى، وأن ليس ثمّة ذات إنسانية متماسكة ثابتة، ولا موضع طبيعي مادي ثابت ومتماسك، فهذه كلها مجرد تقاليد لغوية وعادات فكرية وصور مجازية وحتى إن وجُدت الذات ووجد الموضوع فلن يتفاعلا، إذ لا توجد لغة للتواصل أو التفاعل. فالنسق الفلسفي الغربي العلماني يمر في مرحلة عجز كبير في الإجابة عن الأسئلة المصيرية الباعثة على القلق الإنساني بعد إجهاده عبر مسيرة تطوره الحضاري. (6)
إن الليبراليين العرب الجدد أمام هذا الجدل الواسع في مفاهيم الحداثة والليبرالية لم يحصل لهم تغيّرٌ يُذكر في جدوى القيم الفلسفية لنهضتهم الإصلاحية لأن غلبة الشعارات الدعائية على (7) مجمل أطروحاتهم لا يعنيهم مصداقيتها في أرض الواقع أو السعي لتحقيقها في المستقبل مادامت القبلة والوجهة والمصلحة غربية المصدر والمآل.(8)
ومع كل هذا الإخلاص والتفاني لليبرالية والحداثة الغربية -حتى ما أصبح منها بالياً ومتهالكاً- وقعت الكثير من الصور والحالات المتناقضة والمتباينة لأولئك الليبراليين أمام محك الأحداث الكبرى التي تمرّ بها المنطقة العربية, والمتأمل لدورهم في المرحلة القادمة يجد أن هناك خطوطاً مشتركة تقوم عليها سياستهم المقبلة، لخصّها د.شاكر النابلسي في خمسٍ وعشرين قاعدة كما جاء في مقال له بعنوان: "من هم الليبراليون العرب الجدد؟ وما خطابهم؟" (9). وقد بيّن أن هذا الجيل الجديد من الليبراليين هم امتداد لأفكار التنوير الذين جاؤوا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وأبناء الفكر الليبرالي الذين جاؤوا في النصف الثاني من القرن العشرين. ثم وضع مبادئ هذا الجيل التنويري بما أسماه "مسودة أولى لمانفستو الليبراليين الجدد".
ومن خلال التأمل في هذه المبادئ الخمسة والعشرين وتحليلها نجد أن أغلبها مرتكز على موقف عدائي من الدين والتراث والتاريخ الماضي للأمة! فمن المبدأ الأول حتى الحادي عشر ومن الخامس عشر حتى التاسع عشر تركزت مبادئ تلك العريضة على الدعوة إلى محاربة الإرهاب الديني والقومي والمطالبة بإصرار لإصلاح التعليم الديني الظلامي, والتأكيد على إخضاع المقدس والتراث للنقد العقلي والعلمي وعدم الاستعانة مطلقاً بالمواقف الدينية التي جاءت في الكتاب المقدس تجاه الآخرين، واعتبار الأحكام الشرعية خاصة بزمانها ومكانها وأن الفكر الديني حجر عثرة أمام الفكر الحرّ وتطوره, والتأكيد على نبذ الولاء للماضي أو الانغلاق عليه وأنه السبب الحقيقي لضعفنا وانحطاطنا، كما ينبغي الاحتكام إلى القوانين المعاصرة لا إلى التخيلات الماضوية أو الأساطير الظلامية!.
كما نصت المبادئ الأخرى ( الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر) على ضرورة سيادة العقل وطرح الأسئلة على كافة المستويات كما طرحها تنويريو القرن الماضي، وتبني الحداثة العربية تبنياً كاملاً باعتبارها هي التي تقود إلى الحرية.
أما بقية المبادئ الأخرى من (العشرين حتى الخامس والعشرين) فقد ركزّت على قضايا السياسة والمجتمع وذلك بالتأكيد على عدم الحرج من الاستعانة بالقوى الخارجية لدحر الديكتاتوريات العاتية واستئصال جرثومة الاستبداد وتطبيق الديمقراطية العربية، كما لا يمنع أن يأتي الإصلاح من الخارج ولو على ظهر دبابة بريطانية أو بارجة أمريكية أو غواصة فرنسية مع تأكيدهم بأن يأتي بالطرق الدبلوماسية!.
كما ذكرت المسودة ضرورة التطبيع السياسي والثقافي مع الأعداء, ولا حلّ للصراع العربي مع الآخرين إلا بالمفاوضات السلمية مع التأكيد على الوقوف إلى جانب العولمة وتأييدها, كما ختم البيان الليبرالي بالمطالبة بمساواة المرأة مع الرجل مساواة تامة في الحقوق والواجبات والعمل والتعليم والإرث والشهادة (10).. وبعد هذا العرض لمقالة الدكتور شاكر النابلسي أجد التوافق الكبير بين أطروحات ومقالات رموز هذا التيار وما جاء في عريضة المبادئ الليبرالية التي سطرّها الدكتور النابلسي.(/2)
ولعل التسارع في أحداث الشرق الأوسط بعد الحادي عشر من سبتمبر جعلت الكثير من الدوائر السياسية والفكرية الغربية تعتمد على هذا التيار وتعبئه للهجوم على المعتقد الديني والثوابت الشرعية لشعوب المنطقة بحجة محاربة الإرهاب ومحاولة الإصلاح الديمقراطي للأنظمة والحكومات العربية. وفي هذه الأثناء أصدر الليبراليون العرب الجدد (البيان الأممي ضد الإرهاب) والذي أعدّه نخبة من الليبراليين العرب هم: العفيف الأخضر وجواد هاشم وشاكر النابلسي، وفيه حث للأمم المتحدة لتفعيل قرار مجلس الأمن رقم (1566) حول التدابير العملية للقضاء على الإرهاب وذلك بضرورة الإسراع في إنشاء محكمة دولية تختص بمحاكمة الإرهابيين من أفراد وجماعات وتنظيمات بما في ذلك الأفراد الذي يشجعون على الإرهاب بإصدار الفتاوى باسم الدين.(11)
إن التناقضات والمغالطات وقصور المصداقية التي حفل بها هذا البيان جعلته ممجوجاً مرفوضاً حتى عند الأجيال الليبرالية العتيقة فضلاً عن النقد الكبير الذي كتبه الكثير من المثقفين العرب حول هذا البيان. (12)
في حين يعّدهم البعض (حصان طروادة) لتنفيذ سياسة الشرق الأوسط الكبير الذي يروج له وزير الخارجية الأمريكي ( كولن باول) والتي طرحها في 12ديسمبر 2002م بعنوان : "مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط : بناء الأمل لسنوات قادمة " والذي يتقاطع بشكل كبير مع مطالبات ومبادرات الليبراليين الجدد كتشجيع الديمقراطية الغربية في المنطقة وتوسيع الفرص الاقتصادية وإصلاح النظم التعليمية وغيرها.
ومع أهمية تنفيذ هذا المشروع من خلال الاجتماعات الرسمية والمنتديات العالمية كالذي حصل في المغرب مؤخراً بما سمي "منتدى المستقبل للإصلاح العربي" في 10 ديسمبر 2004م؛ فإن التخوف كبير من هذا المشروع الذي سيلغي خصوصية المنطقة قومياً ودينياً ويترك أهم قضايا المنطقة والمتمثلة في الصراع العربي الإسرائيلي من غير حل مع الاهتمام المتزايد بأمن إسرائيل وحماية حدودها الإقليمية.
هذه الإشكاليات التاريخية والدينية والمعرفية التي يسعى الليبراليون الجدد وحلفاؤهم لتحقيقها واختراق شعوب المنطقة بها بغض النظر عن التداعيات الخطيرة للاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان وإفرازاته الاقتصادية والسياسية. سوف يؤدي إلى نتائج عكسية ويحمّل المنطقة المزيد من الانفجار والتشظي المحموم بين طوائف المجتمع وترسيخ هوة الكراهية والصدام بين حضارات الأمم والشعوب. في حين أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تخفي توجهها الديني المسيحي البروتستانتي المتشدد الذي ساهم في حشد تأييد ولايات (حزام الإنجيل) المتدينة، بل ولا يخفي بوش الابن أثناء حملته الانتخابية أن يعين مساعداً له هو (ديفيد بارتون) ليتجول في مئات الكنائس ويقول فيها :" إن فصل الدين عن الدولة هو مجرد خرافة" (13)
إن الليبراليين العرب الجدد والذين يدّعون أنهم يشكلون تياراً جماهيرياً صامتاً لا يستطيع أحد أن يقبل بذلك الادعاء إلا من خلال أدلة تثبت هذا الوجود، فالحالة الفريدة التي تَشكّل فكرهم عليها جاءت متأخرة وما استأسدت هذه الأصوات النشاز التي ظلّت في جحورها كامنة عقوداً من الزمن إلا مع قوة المحتل الأمريكي وسياسته التعسفية في المنطقة التي جاءت في أحرج زمن مرّ على الأمة.
ولم يعبأ هذا التيار بكل الظروف المحيطة؛ بل انتهز كل فرصة سنحت له للانتقام من كل التيارات الأخرى وكل الخصوم التقليديين ومع هبوب رياح التغيير في المنطقة تمكنّت أكثر من بعض المواقع الإعلامية والمنابر الفكرية لتصادر ما بقي لها من شعارات التسامح والحرية والدعوة إلى الإنسانية، واستبدلتها بتأكيد خيار القوة والسلاح ومن أجل الإصلاح، والاستعداء على كل دولة حاضنة للإرهاب -بمفهوم المحافظين الجدد- والقضاء على منابعه الفكرية بتغيير كل ماله علاقة بالتعليم الديني، والدعوة الدائمة للقضاء الحتمي على الحركات الإسلامية المعاصرة كونها منبع كل شر وعنف وإرهاب!! لقد رفعت الحداثة الليبرالية قاعدة التخلف أمام جماهير الأمة: (إما الاندماج في الآخر أو التحلل الذاتي والذوبان).
إن هذا الطرح لم يوجد له مثيل إلا في الفاشية الديكتاتورية التي ظهرت كثورة ضد الحداثة وقيم التنوير لكن نراها تذبح الآن بأيدي الليبراليين المتحررين من خلال معايير متضاربة ومصالح شخصية براجماتية وسياسة ميكافيلية، لتحقيق أهدافهم وتصفية حساباتهم مع خصومهم، بل ربما لا أجد نقداً ألبسوه الإسلاميين إلا وتقمصوه بكل عنف ونفعية. لقد أفتى الليبراليون بتحريم السياسة على علماء الدين ودعاته وجنّدوا لذلك النصوص والفتاوى !، وأدلجوا مواقفهم الحزبية من أجل دحض آراء خصومهم الإسلاميين ولم يعتبروا حينها أي مبدأ للحوار معهم أو إعمال للعقل في الحكم عليهم وهم من يدعي الحوار و العقلنة ليلاً ونهاراً!.(/3)
إن ما نطالعه اليوم من مقالات وخطابات لذلك التيار الجديد لهو سعي لإجهاض مؤشرات العافية وركائز الإجماع الوطني على كثير من المبادئ والقيم الحضارية، طفت هذه الأطروحات المؤدلجة غرباً على سطح خطابنا الإعلامي من خارج صفنا الوطني في مرحلة الجزر والانحسار مما يستلزم التحسب لعمق جبهة المواجهة واتساع أفق الغارة التي تستهدف الوطن والأمة كونهم من أبنائنا (المارينز)!.
إن ما يجري في الغرب من مراجعات فكرية ونقد منهجي لفلسفة الحضارة الراهنة، ينبغي أن تحفزّ أهل العقل والمعرفة من رموز التيار الليبرالي القديم والحديث إلى البحث في مرفأ النقد والمراجعة لحقيقة الأزمة المعاصرة، فعصور التبعية والتقليد الأعمى والسير في ركب الغرب من غير تجريد وتفكيك ليس شأن النخب المثقفة الواعية. بل الذي ينُتْظَر من هذه النخب أن يتجردوا من مصالحهم الشخصية بنقد الذات وفق معطيات الحاضر واستشرافات المستقبل، فبناء أي نهضة حضارية لا يستلزم تدمير كل الأبنية الماضية وسحقها للزوال، ولو كانت حضارات أمم وشعوب عريقة كما يفعل بعض الليبراليين الجدد, وهذا ما يؤكد للمتابع أن هؤلاء ليسوا سوى ظواهر صوتية في فلاة الوهم والتخيلات..
________________________________________
* رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
[1]-انظر:المورد , لمنير البعلبكي مصطلح (liberalism ) ص 525, دار العلم للملايين – بيروت1970م.
[2] - أنظر: صدى الحداثة , لرضوان زيادة ص 32، المركز الثقافي العربي – الطبعة الأولى 2003م.
[3] - أنظر: حكاية الحداثة , د.عبدا لله الغذامي ص 38، المركز الثقافي العربي – الطبعة الثانية 2004م.
[4] - العرب وتحولات العالم، برهان غليون، ص 97، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2003م.
[5] - المرجع السابق ص 95.
[6] - انظر : الحداثة وما بعد الحداثة. د.عبدالوهاب المسيري ود.فتحي التريكي، دار الفكر، سلسلة حوارت لقرن جديد، دمشق.2003م.
[7] - انظر : ملف الاهزم الاستراتيجي، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية العدد 119-نوفمبر 2004م. مقال 0 الليبراليون الجدد في المنطقة العربية) هاني نسيرة.
[8] - جريدة السياسة الكويتية 22 يونيو 2004م.
[9] - هذا الوصف الذي نقلته عن تلك المبادئ هي جزء من النصوص الواردة في مسودة الليبراليين الجدد وليس تعبيراً اختلقته من عندي، وهذا المقال قد نشر بالتزامن مع صحيفة (السياسية) الكويتية و ( المدى) العراقية و( الأحداث) المغربية ونشر في موقع ( إيلاف ) تاريخ 22 يونيو 2004م.
[10] - انظر : نص البيان في موقع ( إيلاف ) يوم الأحد 24 أكتوبر 2004م.
[11] - انظر : مقال ( البيان الفضيحة ) محمد أل الشيخ، جريدة الجزيرة 17/9/1425هـ، وردّ كتبه مهند الصلاحات نشر في صحيفة شرق وغرب الإلكترونية في 20 نوفمبر 2004م، ومقال : " لا صوت يعلو فوق صوت الأمركة" باسل ديوب أخبار الشرق 8 تشرين الثاني 2004م.
[12]- انظر: كتاب(أمركة..لا عولمة)بروتوكولات كولن باول لإصلاح وتهذيب العرب , لمجموعة من المؤلفين , دارجهاد, القاهرة2003م.
[13] - جريدة الشرق الأوسط 31 أكتوبر 2004م.(/4)
الليبراليون الجدد.. في حِقبة ما ( تحت ) الحداثة!
د.مسفر بن علي القحطاني * 30/11/1425
11/01/2005
الليبرالية والحداثة من أعقد المصطلحات على التعريف والضبط المنطقي، ولكنها عند التناول والاستعمال تتشكّل وحدة معرفية يتضح منها المقصود العام عند الإطلاق. فالليبرالية -بشكل عام- كلمة مترجمة من الإنجليزية يقصد بها الحرية المطلقة في الميدانَيْن: الاقتصادي والسياسي، ثم انسحب ذلك على الميادين الأخرى: الفكرية والاجتماعية والدينية. (1)
أما مصطلح الحداثة فالاختلاف في تحديد مفهومه مازال قائماً ومعقداً عند الكثير من مفكري الغرب المعاصرين.
فالحداثة بتعبير ( بيتربروكر) كان بناءً على ما قامت أركانه بعد وقوع الحدث نفسه، فاستخدام اللفظ وشيوعه كان حديثاً ومحصوراً بالحقل الأدبي، فأصبحت تطلق على التجديد كأداة للإبداع الأدبي والرؤى المبتكرة ثم انسحبت أيضاً لتشمل المجالات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها, فالحداثة وعي جديد، وهي شرطٌ تمكن الغرب من تحقيقه وإنجازه وأحياناً تفاعل ضده من أجل تقويضه وإلغائه. (2)
وقد عبَّر عنها الدكتور الغذامي بـ"التجديد الواعي" بمعنى تحديث النسق الذهني ليكوّن وعياً شاملاً للتاريخ وللواقع. (3)
والناظر في واقع الفكر الليبرالي الذي تَبَنّى الحداثة بجميع إشكالها قد حقق انتشاراً واسعاً في العالم كله خلال العقود الماضية، واخترق المعسكر الشيوعي، وضرب معوله في جدار برلين ليعلن السقوط الكلي للفكر الاشتراكي في الغرب.
أما عالمنا العربي فنتيجة للامتداد الفكري والسياسي مع الغرب فقد تبنت منه الكثير من مجتمعاتنا العربية الليبرالية الرأسمالية والسياسة الديمقراطية على غرار بقية فريق الشمال الأبيض، ولم تكن هناك قناعة تامة بهذا الانتماء الفكري لليبرالية عند كثير من أبناء تلك الشعوب بعكس القليل من النخب المثقفة فيها.
وتمت من أجل ذلك محاولات كثيرة لمسخ الهوية الدينية والقومية وإرغام تلك المجتمعات بتبني ثقافة الحداثة على النمط الغربي وتسيسها بالفكر الديمقراطي مما أنتج مع تراكمات الزمن وتسلط المستعمر أشكالاً متطرفة من الأصولية القومية إلى الليبرالية المتطرفة إلى العنف الإسلامي مما كلّف الأمة المزيد من المعانات والويلات الطويلة والمؤلمة جرّاء ذلك الانفصام النكد لشخصية الأمة وموروثها الديني، والذي مازلنا نعاني من إفرازاته السلبية إلى وقتنا المعاصر.
ومع أن استيعاب نخبنا المثقفة للفكر الحداثي كان بطيئاً ومتأخراً, فإنها لم تكد تضع أقدامها على درجته حتى أضحى العالم الغربي ينقد فكره الليبرالي ويودع حداثته التقليدية وينسلخ منها إلى ما أصطلح عليه فلسفياً بـ"ما بعد الحداثة"..
وعوداً إلى عنوان المقال الذي أخصّ فيه الليبراليين العرب الجدد، كتيار حديث ظهر مع بداية عقد التسعينيات الميلادية كتوجه جديد برز على الساحة السياسية والاقتصادية والفكرية متزامناً مع أزمات المنطقة والتدخل الأجنبي في شؤونها، فقد أخذ بعد ذلك أهميةً قصوى في الدوائر السياسية الغربية خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سمبتبر2001م.
إن النشأة الفكرية لهذا التيار تكوّنت أثناء السجال الأيديولوجي بين فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة، بينما يصف برهان غليون الحالة المعاصرة لمجتمعاتنا العربية وسياساتها الحداثية بأنها أشبه إلى كونها مجتمعات (ما تحت الحداثة) لا ( ما بعد الحداثة) يقول في هذا الصدد: "إن ما تحت الحداثة لا تعنى الخروج من الحداثة، ولكن فقط الانحطاط في هذه الحداثه. فكما تدفع أزمة الحداثة المجتمعات النامية أو المهمشة إلى نكوص لأفراد نحو قيم وتقاليد وأنماط من التفكير وأساليب من العمل تكاد تكون ما قبل حداثية، أي سابقة على الثورات الأساسية التي شكلّت قيم الحداثة، تدفع الأزمة ذاتها الأفراد في المجتمعات التي لا تزال أمامها آفاقاً مفتوحة إلى التطلع إلى تحقيق حريات وحقوق ومتعات تجاوز ما أتاحته حتى الآن قيم الحداثة الكلاسيكية." (4)
إن هذه الحالة الرثّة من الحداثة كما يقول غليون تعود بنا إلى استخدام أدوات تفكير القرون الوسطى من أجل تنظيم مجتمع حديث أو يعيش على الأقل في العصر الحديث.(5)
فالأصوات بدأت تعلو بشكل كبير في نقد الحداثة الغربية وتهميش ذلك الإله الذي قُدِّس في كثير من مجتمعات العالم. بعد أن اشتعلت جذوة النقد من كبار فلاسفة الغرب ,أمثال: الفيلسوف الفرنسي ( ليونار) في كتابه الشهير ( الظرف ما بعد الحداثي ) حيث قدم نقداً عنيفاً لمشروع الحداثة الغربي. غير أن الفيلسوف الألماني ( هابرماس) ذهب إلى أبعد من ذلك بزعمه أن الحداثة نفسها لم يكتمل مشروعها بعد. وعزّز هذا النقد للحداثة الغربية وأجنحتها السياسية والعسكرية ما كتبة (جاك دريدا) و( وميشيل فوكو) وغيرهما في بيان مهازل الديمقراطية وتناقضاتها الكثيرة.(/1)
يلخصّ الدكتور عبدالوهاب المسيري فلسفة (ما بعد الحداثة) بأنها تجرُّدٌ من العقلانية المادية؛ فلا تعرف البطولة ولا تعرف المأساة ولا الملهاة، فلسفة تدرك حتمية التفكيك الكامل والسيولة الشاملة، إذ يتم التوصل إلى أن كل شيء نسبي مادي، وأن الفلسفة الإنسانية وهم، وأن الاستنارة المضيئة حلم وعبث، وأن الواقع في حالة سيولة حركية مثل المادة الأولى، وأن ليس ثمّة ذات إنسانية متماسكة ثابتة، ولا موضع طبيعي مادي ثابت ومتماسك، فهذه كلها مجرد تقاليد لغوية وعادات فكرية وصور مجازية وحتى إن وجُدت الذات ووجد الموضوع فلن يتفاعلا، إذ لا توجد لغة للتواصل أو التفاعل. فالنسق الفلسفي الغربي العلماني يمر في مرحلة عجز كبير في الإجابة عن الأسئلة المصيرية الباعثة على القلق الإنساني بعد إجهاده عبر مسيرة تطوره الحضاري. (6)
إن الليبراليين العرب الجدد أمام هذا الجدل الواسع في مفاهيم الحداثة والليبرالية لم يحصل لهم تغيّرٌ يُذكر في جدوى القيم الفلسفية لنهضتهم الإصلاحية لأن غلبة الشعارات الدعائية على (7) مجمل أطروحاتهم لا يعنيهم مصداقيتها في أرض الواقع أو السعي لتحقيقها في المستقبل مادامت القبلة والوجهة والمصلحة غربية المصدر والمآل.(8)
ومع كل هذا الإخلاص والتفاني لليبرالية والحداثة الغربية -حتى ما أصبح منها بالياً ومتهالكاً- وقعت الكثير من الصور والحالات المتناقضة والمتباينة لأولئك الليبراليين أمام محك الأحداث الكبرى التي تمرّ بها المنطقة العربية, والمتأمل لدورهم في المرحلة القادمة يجد أن هناك خطوطاً مشتركة تقوم عليها سياستهم المقبلة، لخصّها د.شاكر النابلسي في خمسٍ وعشرين قاعدة كما جاء في مقال له بعنوان: "من هم الليبراليون العرب الجدد؟ وما خطابهم؟" (9). وقد بيّن أن هذا الجيل الجديد من الليبراليين هم امتداد لأفكار التنوير الذين جاؤوا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وأبناء الفكر الليبرالي الذين جاؤوا في النصف الثاني من القرن العشرين. ثم وضع مبادئ هذا الجيل التنويري بما أسماه "مسودة أولى لمانفستو الليبراليين الجدد".
ومن خلال التأمل في هذه المبادئ الخمسة والعشرين وتحليلها نجد أن أغلبها مرتكز على موقف عدائي من الدين والتراث والتاريخ الماضي للأمة! فمن المبدأ الأول حتى الحادي عشر ومن الخامس عشر حتى التاسع عشر تركزت مبادئ تلك العريضة على الدعوة إلى محاربة الإرهاب الديني والقومي والمطالبة بإصرار لإصلاح التعليم الديني الظلامي, والتأكيد على إخضاع المقدس والتراث للنقد العقلي والعلمي وعدم الاستعانة مطلقاً بالمواقف الدينية التي جاءت في الكتاب المقدس تجاه الآخرين، واعتبار الأحكام الشرعية خاصة بزمانها ومكانها وأن الفكر الديني حجر عثرة أمام الفكر الحرّ وتطوره, والتأكيد على نبذ الولاء للماضي أو الانغلاق عليه وأنه السبب الحقيقي لضعفنا وانحطاطنا، كما ينبغي الاحتكام إلى القوانين المعاصرة لا إلى التخيلات الماضوية أو الأساطير الظلامية!.
كما نصت المبادئ الأخرى ( الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر) على ضرورة سيادة العقل وطرح الأسئلة على كافة المستويات كما طرحها تنويريو القرن الماضي، وتبني الحداثة العربية تبنياً كاملاً باعتبارها هي التي تقود إلى الحرية.
أما بقية المبادئ الأخرى من (العشرين حتى الخامس والعشرين) فقد ركزّت على قضايا السياسة والمجتمع وذلك بالتأكيد على عدم الحرج من الاستعانة بالقوى الخارجية لدحر الديكتاتوريات العاتية واستئصال جرثومة الاستبداد وتطبيق الديمقراطية العربية، كما لا يمنع أن يأتي الإصلاح من الخارج ولو على ظهر دبابة بريطانية أو بارجة أمريكية أو غواصة فرنسية مع تأكيدهم بأن يأتي بالطرق الدبلوماسية!.
كما ذكرت المسودة ضرورة التطبيع السياسي والثقافي مع الأعداء, ولا حلّ للصراع العربي مع الآخرين إلا بالمفاوضات السلمية مع التأكيد على الوقوف إلى جانب العولمة وتأييدها, كما ختم البيان الليبرالي بالمطالبة بمساواة المرأة مع الرجل مساواة تامة في الحقوق والواجبات والعمل والتعليم والإرث والشهادة (10).. وبعد هذا العرض لمقالة الدكتور شاكر النابلسي أجد التوافق الكبير بين أطروحات ومقالات رموز هذا التيار وما جاء في عريضة المبادئ الليبرالية التي سطرّها الدكتور النابلسي.(/2)
ولعل التسارع في أحداث الشرق الأوسط بعد الحادي عشر من سبتمبر جعلت الكثير من الدوائر السياسية والفكرية الغربية تعتمد على هذا التيار وتعبئه للهجوم على المعتقد الديني والثوابت الشرعية لشعوب المنطقة بحجة محاربة الإرهاب ومحاولة الإصلاح الديمقراطي للأنظمة والحكومات العربية. وفي هذه الأثناء أصدر الليبراليون العرب الجدد (البيان الأممي ضد الإرهاب) والذي أعدّه نخبة من الليبراليين العرب هم: العفيف الأخضر وجواد هاشم وشاكر النابلسي، وفيه حث للأمم المتحدة لتفعيل قرار مجلس الأمن رقم (1566) حول التدابير العملية للقضاء على الإرهاب وذلك بضرورة الإسراع في إنشاء محكمة دولية تختص بمحاكمة الإرهابيين من أفراد وجماعات وتنظيمات بما في ذلك الأفراد الذي يشجعون على الإرهاب بإصدار الفتاوى باسم الدين.(11)
إن التناقضات والمغالطات وقصور المصداقية التي حفل بها هذا البيان جعلته ممجوجاً مرفوضاً حتى عند الأجيال الليبرالية العتيقة فضلاً عن النقد الكبير الذي كتبه الكثير من المثقفين العرب حول هذا البيان. (12)
في حين يعّدهم البعض (حصان طروادة) لتنفيذ سياسة الشرق الأوسط الكبير الذي يروج له وزير الخارجية الأمريكي ( كولن باول) والتي طرحها في 12ديسمبر 2002م بعنوان : "مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط : بناء الأمل لسنوات قادمة " والذي يتقاطع بشكل كبير مع مطالبات ومبادرات الليبراليين الجدد كتشجيع الديمقراطية الغربية في المنطقة وتوسيع الفرص الاقتصادية وإصلاح النظم التعليمية وغيرها.
ومع أهمية تنفيذ هذا المشروع من خلال الاجتماعات الرسمية والمنتديات العالمية كالذي حصل في المغرب مؤخراً بما سمي "منتدى المستقبل للإصلاح العربي" في 10 ديسمبر 2004م؛ فإن التخوف كبير من هذا المشروع الذي سيلغي خصوصية المنطقة قومياً ودينياً ويترك أهم قضايا المنطقة والمتمثلة في الصراع العربي الإسرائيلي من غير حل مع الاهتمام المتزايد بأمن إسرائيل وحماية حدودها الإقليمية.
هذه الإشكاليات التاريخية والدينية والمعرفية التي يسعى الليبراليون الجدد وحلفاؤهم لتحقيقها واختراق شعوب المنطقة بها بغض النظر عن التداعيات الخطيرة للاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان وإفرازاته الاقتصادية والسياسية. سوف يؤدي إلى نتائج عكسية ويحمّل المنطقة المزيد من الانفجار والتشظي المحموم بين طوائف المجتمع وترسيخ هوة الكراهية والصدام بين حضارات الأمم والشعوب. في حين أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تخفي توجهها الديني المسيحي البروتستانتي المتشدد الذي ساهم في حشد تأييد ولايات (حزام الإنجيل) المتدينة، بل ولا يخفي بوش الابن أثناء حملته الانتخابية أن يعين مساعداً له هو (ديفيد بارتون) ليتجول في مئات الكنائس ويقول فيها :" إن فصل الدين عن الدولة هو مجرد خرافة" (13)
إن الليبراليين العرب الجدد والذين يدّعون أنهم يشكلون تياراً جماهيرياً صامتاً لا يستطيع أحد أن يقبل بذلك الادعاء إلا من خلال أدلة تثبت هذا الوجود، فالحالة الفريدة التي تَشكّل فكرهم عليها جاءت متأخرة وما استأسدت هذه الأصوات النشاز التي ظلّت في جحورها كامنة عقوداً من الزمن إلا مع قوة المحتل الأمريكي وسياسته التعسفية في المنطقة التي جاءت في أحرج زمن مرّ على الأمة.
ولم يعبأ هذا التيار بكل الظروف المحيطة؛ بل انتهز كل فرصة سنحت له للانتقام من كل التيارات الأخرى وكل الخصوم التقليديين ومع هبوب رياح التغيير في المنطقة تمكنّت أكثر من بعض المواقع الإعلامية والمنابر الفكرية لتصادر ما بقي لها من شعارات التسامح والحرية والدعوة إلى الإنسانية، واستبدلتها بتأكيد خيار القوة والسلاح ومن أجل الإصلاح، والاستعداء على كل دولة حاضنة للإرهاب -بمفهوم المحافظين الجدد- والقضاء على منابعه الفكرية بتغيير كل ماله علاقة بالتعليم الديني، والدعوة الدائمة للقضاء الحتمي على الحركات الإسلامية المعاصرة كونها منبع كل شر وعنف وإرهاب!! لقد رفعت الحداثة الليبرالية قاعدة التخلف أمام جماهير الأمة: (إما الاندماج في الآخر أو التحلل الذاتي والذوبان).
إن هذا الطرح لم يوجد له مثيل إلا في الفاشية الديكتاتورية التي ظهرت كثورة ضد الحداثة وقيم التنوير لكن نراها تذبح الآن بأيدي الليبراليين المتحررين من خلال معايير متضاربة ومصالح شخصية براجماتية وسياسة ميكافيلية، لتحقيق أهدافهم وتصفية حساباتهم مع خصومهم، بل ربما لا أجد نقداً ألبسوه الإسلاميين إلا وتقمصوه بكل عنف ونفعية. لقد أفتى الليبراليون بتحريم السياسة على علماء الدين ودعاته وجنّدوا لذلك النصوص والفتاوى !، وأدلجوا مواقفهم الحزبية من أجل دحض آراء خصومهم الإسلاميين ولم يعتبروا حينها أي مبدأ للحوار معهم أو إعمال للعقل في الحكم عليهم وهم من يدعي الحوار و العقلنة ليلاً ونهاراً!.(/3)
إن ما نطالعه اليوم من مقالات وخطابات لذلك التيار الجديد لهو سعي لإجهاض مؤشرات العافية وركائز الإجماع الوطني على كثير من المبادئ والقيم الحضارية، طفت هذه الأطروحات المؤدلجة غرباً على سطح خطابنا الإعلامي من خارج صفنا الوطني في مرحلة الجزر والانحسار مما يستلزم التحسب لعمق جبهة المواجهة واتساع أفق الغارة التي تستهدف الوطن والأمة كونهم من أبنائنا (المارينز)!.
إن ما يجري في الغرب من مراجعات فكرية ونقد منهجي لفلسفة الحضارة الراهنة، ينبغي أن تحفزّ أهل العقل والمعرفة من رموز التيار الليبرالي القديم والحديث إلى البحث في مرفأ النقد والمراجعة لحقيقة الأزمة المعاصرة، فعصور التبعية والتقليد الأعمى والسير في ركب الغرب من غير تجريد وتفكيك ليس شأن النخب المثقفة الواعية. بل الذي ينُتْظَر من هذه النخب أن يتجردوا من مصالحهم الشخصية بنقد الذات وفق معطيات الحاضر واستشرافات المستقبل، فبناء أي نهضة حضارية لا يستلزم تدمير كل الأبنية الماضية وسحقها للزوال، ولو كانت حضارات أمم وشعوب عريقة كما يفعل بعض الليبراليين الجدد, وهذا ما يؤكد للمتابع أن هؤلاء ليسوا سوى ظواهر صوتية في فلاة الوهم والتخيلات..
________________________________________
* رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
[1]-انظر:المورد , لمنير البعلبكي مصطلح (liberalism ) ص 525, دار العلم للملايين – بيروت1970م.
[2] - أنظر: صدى الحداثة , لرضوان زيادة ص 32، المركز الثقافي العربي – الطبعة الأولى 2003م.
[3] - أنظر: حكاية الحداثة , د.عبدا لله الغذامي ص 38، المركز الثقافي العربي – الطبعة الثانية 2004م.
[4] - العرب وتحولات العالم، برهان غليون، ص 97، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2003م.
[5] - المرجع السابق ص 95.
[6] - انظر : الحداثة وما بعد الحداثة. د.عبدالوهاب المسيري ود.فتحي التريكي، دار الفكر، سلسلة حوارت لقرن جديد، دمشق.2003م.
[7] - انظر : ملف الاهزم الاستراتيجي، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية العدد 119-نوفمبر 2004م. مقال 0 الليبراليون الجدد في المنطقة العربية) هاني نسيرة.
[8] - جريدة السياسة الكويتية 22 يونيو 2004م.
[9] - هذا الوصف الذي نقلته عن تلك المبادئ هي جزء من النصوص الواردة في مسودة الليبراليين الجدد وليس تعبيراً اختلقته من عندي، وهذا المقال قد نشر بالتزامن مع صحيفة (السياسية) الكويتية و ( المدى) العراقية و( الأحداث) المغربية ونشر في موقع ( إيلاف ) تاريخ 22 يونيو 2004م.
[10] - انظر : نص البيان في موقع ( إيلاف ) يوم الأحد 24 أكتوبر 2004م.
[11] - انظر : مقال ( البيان الفضيحة ) محمد أل الشيخ، جريدة الجزيرة 17/9/1425هـ، وردّ كتبه مهند الصلاحات نشر في صحيفة شرق وغرب الإلكترونية في 20 نوفمبر 2004م، ومقال : " لا صوت يعلو فوق صوت الأمركة" باسل ديوب أخبار الشرق 8 تشرين الثاني 2004م.
[12]- انظر: كتاب(أمركة..لا عولمة)بروتوكولات كولن باول لإصلاح وتهذيب العرب , لمجموعة من المؤلفين , دارجهاد, القاهرة2003م.
[13] - جريدة الشرق الأوسط 31 أكتوبر 2004م.(/4)
الليبراليون السعوديون وتكريس المكارثية
28-6-2005
بقلم حسن بن فهد
"...كان الليبراليون السعوديون في الماضي ما بين ثوريين واشتراكيين وقوميين ناصريين يساريين وسجن عدد كبير منهم بتهمة المناوئة للدولة ومنهم من شارك في خلايا كان الهدف منها القضاء على النظام الحاكم ..."
أصدرت أمس وزارة الداخلية قائمة جديدة تضم 36 مطلوبا بعد قوائم سابقة تم الانتهاء من أغلب أفرادها ومع نزول هذه القائمة أخذت قوائم وطوابير الليبراليين تمارس الاصطياد في الماء العكر وتتحول إلى مبدأ المكارثية في التعامل مع خصومهم.
بداية لا بد من وقفة استنكار صادقة ضد هذه الأعمال المنافية للشريعة والعقل التي يقوم بها المفجرون في المملكة وأحسب أن هذا الأمر أصبح إجماعا مفروغا منه لدى جميع العلماء والحركات الإسلامية في العالم الإسلامي أجمعه ويكفي هذا دليلا على شناعته وفساده.
وأرجو من الله العلي القدير أن يمن على البلاد بصلاح الحال واستقرار الأمن وأن يأخذ بيد هؤلاء للصواب ويكفي شرهم وضررهم ويلهمهم رشدهم ويهديهم صراطا مستقيما.
خيانة النخب والمثقفين لا تعدلها خيانة وأخطاؤهم المتعمدة ليس فوقها جريمة وانحرافهم في التهجم والتطاول ضد خصومهم جناية لا يماثلها جناية على الإطلاق لأن صاحبها فقد الشرف والنزاهة في الخصومة.
في منتصف الخمسينات الميلادية من القرن الماضي كان للسيناتور الأمريكي المشهور جوزيف مكارثي سطوة خطيرة على السياسة الأمريكية وهذه السطوة انبثق عنها فكرة المكارثية عبر لجنة متابعة النشاطات ضد أمريكا وهي المطاردة والاتهام لكل من وجد لديه شبهة تحرر أو توجه يساري أو استقلالية في إبداء الرأي وتمت محاكمة هؤلاء بتهمة الانتماء إلى الحزب الشيوعي الذي كان ولا يزال محظورا في الولايات المتحدة الأمريكية وكان لدى مكارثي أسماء كتاب وصحفيين ومفكرين وضعهم في القائمة السوداء.
وباسم الحرب على الشيوعية تم اعتقال الآلاف من المفكرين والأحرار من الكتاب والصحفيين حتى إن الكاتب المعروف توماس مان والحائز على جائزة نوبل تعرض لعمليات مضايقة واضطهاد بسبب تصنيف المكارثيين له بأنه يحمل فكرا متعاطفا مع الشيوعيين ومن هؤلاء من تمت إحالته إلى كراسي الإعدام و تصفيته جسديا.
كانت هذه الفترة فترة سيئة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية وصارت المكارثية فكرة خبيثة تحارب من قبل جميع التوجهات الحرة النزيهة لما فيها من الظلم الفادح والتنكيل بالظنون ودون وجود ما يدل على ذلك.
اليوم تعود المكارثية وبصورة شبيهة للماضي لكن بأبطال جدد.
بعد أحداث التفجيرات الإرهابية في المملكة توجهت الجهود من قبل القطاع الأمني وأهل العلم والدعوة إلى محاربة هذه الأفعال والوقوف في وجهها وكانت طلائع هذا التوجه هو القضاء على عدد كبير من الأعمال وملاحقة المتهمين بارتكابها إضافة إلى قيام العلماء بدور حيوي ومباشر في التصدي للشبهات وتزييفها وقاموا بحركات تصحيح ومراجعة قوبلت بارتياح عارم في أوساط المجتمع.
هذا الأمر لم يرض الليبراليين السعوديين ولا إخوانهم من دعاة التنوير فقاموا بمهاجمة أهل العلم والدعاة إلى الله ووصفوهم بالفكر الصحوي الثوري وأنهم سبب رئيسي لهذه التفجيرات وأن الذين يفجرون هم من تلاميذهم وأصحابهم وبينهم تواطؤ واتفاق : أن يفجر هؤلاء وأولئك يدينون ويستنكرون ويشجبون وفي خضم هذه التهم أخذوا ينادون بضرورة سجن وإيقاف من لم ينكر بمثل ما يريدون هم أو تكلم بطريقة لا تروقهم ولا ترضيهم.
وأصبح الاستنكار والتنديد مرفوضا إلا إذا كان كما يريده الليبراليون والتنويريون وهو استنكار مخلوط بالشتم والقذف والتطاول على أصول الدين وقيم الشريعة النبيلة وأيضا لا بد من مزج هذا الاستنكار بالبراءة من العلماء والدعاة والقبول بالليبراليين وغيرهم من الفرق الزائغة عن الصراط المستقيم.
تجد هذه الاتهامات مبثوثة في كتابات العديد من الصحفيين والإعلاميين ومن يوصفون بالمفكرين السعوديين من أمثال عبدالرحمن الراشد وتركي الحمد وعبدالله بن بخيت وخالد الغنامي وجمال خاشقجي وحمود السالمي وعبدالله بن بجاد وحسن المالكي وعادل الطريفي وحمزة المزيني وعبد الله أبو السمح بل لا تكاد تجد صحيفة أو قناة أو إذاعة إلا وفيها يوميا مقال أو تعليق يؤكد ما أشرت إليه.
وأخذ هؤلاء يستدلون على زعمهم بأشرطة وأبحاث قديمة فيها كلام مجمل ومحتمل وينزلون تلك الاحتمالات على الواقع والحاضر ويؤكدون بهذا على أن الصحويين — كما يحلو لهم تسميتهم — هم من دعاة الإرهاب ويشكلون بأفكارهم وماضيهم نواة للعمل المسلح في داخل البلاد.(/1)
هذا التعامل المكارثي العقيم يؤكد إفلاس الليبراليين والتنويريين لأنهم خرجوا من مقابلة الحجة بالحجة والرأي بالرأي إلى توزيع التهم واجترار الماضي وممارسة الإسقاط لأخطائهم وجرائمهم على أهل العلم المعاصرين واستعداء الدولة على العلماء والدعاة واستغلال الظرف الذي تمر به البلاد لتنفيذ أجندة خاصة بهم كانوا يتربصون زمنا طويلا ويتحينون الفرصة المناسبة للعمل عليها.
أكثر هؤلاء الليبراليين والتنويريين كانوا في الماضي من دعاة الثورة والتوجهات اليسارية المنحرفة أو كانوا تكفيريين ومنهم من سجن في قضايا التنظيمات المسلحة والأحزاب المحظورة ومع ذلك فلا يتكلمون عن ماضيهم أو يشيرون إليه بينما يقبلون توبة من وافقهم في الفكر ولكنهم عندما يأتون إلى مخالفيهم من أهل العلم والدعوة فإنهم يصفونهم بالتطرف ولا يقبلون منهم قولا ولا رأيا إلا بعد أن يعلنوا تراجعهم عن أفكارهم وعلى رأس ما يطلبونه منهم هو القبول بالليبراليين والتنويريين فإن لم يفعلوا فهم من دعاة الإرهاب والمغذيين له.
حتى التنويريين لم يكونوا أحسن حظا من أولئك ومن يتتبع سيرتهم يجد لديهم الانحرافات العلمية والفكرية والسلوكية الخطيرة فمنهم من ساهم في تفجير المنشآت الحكومية ومنهم من قام بتهريب الأسلحة ومنهم من كان في تنظيمات وخلايا سرية إلى غير ذلك من الموبقات.
لماذا يتطلب من المجتمع قبول الليبراليين وتراجعاتهم ولا يقبل بأهل العلم وتراجعاتهم فيما لو أخطئوا ؟.
كان الليبراليون السعوديون في الماضي ما بين ثوريين واشتراكيين وقوميين ناصريين يساريين وسجن عدد كبير منهم بتهمة المناوئة للدولة ومنهم من شارك في خلايا كان الهدف منها القضاء على النظام الحاكم والكثير من هذه التوجهات كانت تعادي الدولة لأن الدولة تحكم بالشريعة ومع ذلك وبعد سجنهم وتغيير أفكارهم عادوا وكأن شيئا لم يكن ودخلوا في الحياة اليومية دون أي مضايقة أو دعوة إلى محاسبتهم على الماضي بل إن منهم من تم تعيينه في مناصب قيادية مما يدل على طي صفحة الماضي ونسيان الأفكار السالفة.
مثلا كان الدكتور تركي الحمد ثوريا يساريا ثم بعثيا ثم قوميا وسجن في شبابه لفترة من الزمن كما ذكر ذلك بنفسه في جريدة البلاد بتاريخ 16/7/1421 هـ ومع ما كان يؤمن به من تلك المبادئ الثورية الهدامة إلا أنه صور ماضيه وماضي رفاقه على أنهم مجموعة من المخمورين الباحثين عن الجنس والمتعة كما في رواياته وهذا الماضي الكئيب للدكتور تركي الحمد تم غض الطرف عنه وتجاهله وأعيد للواجهة مرة أخرى على أنه مفكر معتدل له آراءه وأفكاره التي يجب أن تحترم.
والشيعة أيضا كانوا يحملون توجهات مناوئة للدولة فكثير منهم انخرط في نشاط الثورة الإسلامية والعمل على تصديرها إلى الخارج لاسيما في دول الخليج ومنهم من أنشأ خلايا لتنظيم حزب الله الشيعي في المنطقة الشرقية ومنهم من شارك فعليا في حركات ثورة وعصيان مدني ومنهم من شارك في الاعتداء على الحجاج الآمنين ومنهم من خرج للخارج وأصبح معارضا يتكلم بلسان الداعي للخروج على الدولة واستقر في إيران أو العراق أو لبنان وصدر بحق الكثير من هؤلاء أحكام غيابية ثم تم تخفيفها إلى أن صدر لهم عفو ملكي خاص في عام 1412 هـ واستفاد منه عدد كبير من الشيعة.
ومع هذا الماضي الثوري المتمرد والبائس للشيعة إلا أن الليبراليين يدعون إلى ضرورة احتواء الشيعة ودمجهم في المجتمع والقبول بهم كأقلية محترمة لها حقوقها الكاملة التامة وعدم التمييز بينها وبين السنة وأقبل الليبراليون على مفكري الشيعة وأظهروا لهم الحفاوة والتكريم مع أن ماضي هؤلاء المفكرين كان ثوريا خالصا كما هو الحال مع الدكتور حسن الصفار فقد كان الصفار من دعاة الثورة ضد المملكة وممن يحملون توجهات مناوئة للدولة وله كتب معروفة للمتابعين يدعو فيها للخروج على حكام البلاد وهذه الكتب ممنوعة من التداول في الداخل.
ويمتلك الصفار أيضا موقع " شبكة راصد الإخبارية " وهو موقع شيعي يعتني بالشيعة وأخبارهم وأطروحاتهم إضافة إلى حمله لتوجهات معارضة وبصراحة للدولة كما أن الصفار مرتبط ارتباطا وثيقا بالمعارض الشيعي توفيق السيف في لندن والآخر علي الأحمد في واشنطن ويقال أن بينهم تنسيقا فيما يطرحونه ويتبنونه من مواقف وآراء ومع ذلك نجد من الليبراليين الاحتفاء والتكريم للدكتور الصفار ويعتبرونه رمزا فكريا ووطنيا يستحق التقدير مع ماضيه الثوري وحاضره المريب.(/2)
ويدعوا الليبراليون أيضا إلى القبول التام لمن يسمون بالتنويريين السعوديين وهؤلاء فئة صغيرة السن خرجت فجأة ولأكثرهم ماض تكفيري وسبق أن سجن في قضايا التفجير وتهريب الأسلحة وحصل لهم تغير مريب في فترات مجهولة كان أغلبها داخل أقبية السجون وبعد أن تخلوا عن أفكارهم السالفة تم توظيفهم في الجرائد والمجلات والقنوات الفضائية ويدفع لهم رواتب باهظة ويمنحون صفحات مفتوحة للكتابة ويمنحون أيضا ألقابا فخرية مناسبة مثل : باحث في الجماعات الإسلامية أو خبير في الشئون الإسلامية.
وللإنصاف فإن من يسمون بالتنويريين السعوديين منقسمون على أنفسهم وبينهم تنافر شديد في المواقف والآراء فمنهم المعتدل ومنهم المتطرف وهم فيما بينهم شديدو التجاذب والتباين وعندما خرج منصور النقيدان وصدح بآرائه الضالة انقسم كثير من التنويريين على أنفسهم بين راض عما طرحه النقيدان ومثرب عليه ولهؤلاء التنويريين جلسات واجتماعات دورية يحضرها نخب مختارة يتم فيها التباحث في قضايا الفكر ومستجدات الآراء كما أن لديهم مراكز بحث مدعومة من قبل بعض الجهات ولهم أيضا نفوذ في المجلات الإسلامية في إدارتها والإشراف على تحريرها وإعداد خططها اللازمة وهذا ما يفسر التغير الكبير الحاصل في بعض هذه المجلات فهم يقومون بالإعداد لأجندتهم ولكن دون ظهور أسماءهم في العلن مما يتيح لهم هامشا أعلى لبث أفكارهم دون أن ينكشف للناس أسماؤهم وبهذا يضفون عليها شرعية زائدة.
هذا القبول الكامل من الليبراليين لأنفسهم وأصحابهم ممن كانوا يوما على طريقة ثورية مناوئة للدولة وأيضا قبولهم التام للشيعة ودعوتهم إلى ضرورة دمجهم في المجتمع ومنحهم الحقوق الوطنية كاملة والغض عن ماضيهم ثم الحديث عن التنويريين واعتبارهم جزءا من الواقع بل وجعلهم رأسا في الصحافة والإعلام وغفران سيئات الماضي الموبقة كل هذه الأمور يقابلها رفض تام وإقصاء لمن يسمونهم بالصحويين فلا يملكون منابر يدافعون فيها عن أنفسهم بل وتوجه ضدهم التهم ويطالب خصومهم بضرورة سجنهم ومحاكمتهم ومنهم من طلب من الولايات المتحدة الأمريكية أن تقوم بسجنهم ومقاضاتهم.
ولفظة الصحويين تم توسيعها لتشمل أيضا هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للإفتاء كما وقع ذلك في مقالة لناهد باشطح وصفت فيه أحد فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء بأنها إرهاب نفسي وفعلت مثل فعلتها ليلى الأحدب حين وصفت فتوى أخرى لأحد أعضاء اللجنة الدائمة للإفتاء بأنه إرهاب فكري.
الأحداث الأخيرة كشفت حقيقة مهمة وهي أن الذين سعوا إلى إطفاء الفتنة واحتواء الأزمة كانوا من أهل العلم والدعوة فهم الذين قدموا المراجعات العلمية ودعوا إلى ضرورة كشف الشبه عن العقول المنحرفة وأعلنوا عن إنشاء حملات للتوعية والتبصير ومنهم من دخل إلى السجون وناقش أولئك الشباب ومنهم من قام بدور الوسيط في تسليم المطلوبين لأنفسهم واستصدروا من الدولة عفوا لمن يسلم نفسه وجميع هذه الجهود قابلها جهود أخرى من الليبراليين والتنويريين تمثلت في الهجوم على الإسلام وقيمه وتعاليمه وتوزيع التهم والتفرغ للشتم والقذف والدعوة إلى الاعتقال والتصفية.
الشفافية لدى الدعاة وأهل العلم وتفرغهم لمواجهة هذه الأحداث المروعة هو ما جعلهم مقبولين لدى الناس يثقون فيهم ويقبلون كلامهم ويرتضون حكمهم وهو أيضا ما جعل الدولة والمسئولين يثقون فيهم وفي آرائهم ويرتضونهم موجهين ومرشدين للشباب في السجون ودور الرعاية بينما لم نجد من الليبراليين ومن مشى على طريقتهم إلا انتهاز هذه الأحداث لبث القطيعة بين المسلم وبين تعاليم دينه أو تشكيكه في مناهج الدراسة ومناهج أئمة الدعوة النجدية وهذا الأمر هو ما يزيد النار اشتعالا ولا يطفئ شيئا من نار الفتنة.
وحتى الدعوات المناوئة للدولة التي أصدرها بعض المعارضين في الخارج لم يتصد لها إلا أهل العلم فقاموا بإصدار بيانات تدعو الناس إلى الالتزام بمنهج الكتاب والسنة في التعامل مع الواقع وقضايا السياسة ومعرفة حقوق الراعي والرعية دون جنوح أو بغي وكتب الشيخ سفر الحوالي — شفاه الله — بيانا مؤثرا كان له دور فاعل في ضبط الناس والرد على أولئك الداعين لإثارة الفتنة ولم نجد من الليبراليين أي أشارة أو دعم لتلك المواقف الشجاعة من العلماء مع أن لدى الليبراليين المنابر الإعلامية ولديهم مقدرات لا توجد لدى الآخرين إلا أنهم لم يصنعوا شيئا لمواجهة تلك الفتنة.(/3)
وفي أحداث العراق كان العلماء صريحين في تقييم وضعها فأيدوا المقاومة الموجهة ضد الجيوش الغازية المحتلة وفي نفس الوقت طلبوا من العراقيين أن يمارسوا اللعبة السياسية ما وجدوا لذلك فائدة وأما بالنسبة للمقاتلين من الخارج ولاسيما من المملكة فقد أعلنوا وبصراحة أنهم ضد خروج المقاتلين للعراق وهذا المنهج عرف عنهم من قديم وهو ما ظلوا يمارسونه في الأحداث الأخيرة وكان لدعواتهم تأثير واضح على تهدئة الأوضاع ووقف خروج الشباب للعراق وأما الليبراليون فقد وقفوا في صف الولايات المتحدة ضد المقاومة وشنعوا على المجاهدين تشنيعا عظيما وأصبحت جريدة الشرق الأوسط وقناة العربية من الأدوات التي يستخدمها الأمريكيون في حربهم ضد المقاومة.
وقامت أكثر الجرائد بمهاجمة بيان الـ 26 عالما وتفرغوا فترة من الزمن للطعن فيهم والتشنيع عليهم مع أن بيانهم كان واضحا صريحا ولا يتحمل أي دعوة لخروج الشباب من المملكة أو غيرها إلى العراق للقتال وتزعمت جريدة الوطن تلك الحملة حتى إنها في أحد أعدادها وفي صفحتها الأولى قامت بمهاجمة الشيخ سلمان العودة ونسجت قصة من الخيال زعمت فيها أن الشيخ يؤيد ذهاب الشباب للعراق ومع أن تلك الفترة كانت فترة عصيبة على المسلمين في العراق لاسيما في أحداث الفلوجة إلا أننا لم نجد من أولئك الكتاب أي تعاطف من المسلمين في العراق وكأن ما يحدث في العراق يحدث في دولة نائية في أقصى أطراف الأرض في الوقت الذي كتب فيه أمثال عبدالله بن بخيت مقالة عن سروال السنة ! وكتب حمود السالمي عن هزيمة المنتخب وعزا تلك الهزيمة للفكر الصحوي ! وكتب خالد الغنامي عن التحليل والنقد السينمائي !.
حينما نتحدث عن انتهازية الليبراليين أو مكارثيتهم فإننا نتحدث عن أمر معروف ويكاد يكون صورة نمطية لليبراليين في المملكة ولعل الكثيرين يتذكرون الدكتور تركي الحمد عندما خرج في إذاعة البي بي سي وأعلن فيها أن المناهج السعودية فيها ما يغذي الإرهاب ويدعو للكراهية ومثل لذلك بالجهاد وغيره وهذا الأمر وجدناه لاحقا في تقرير أمريكي معد خصيصا لمجلس الشيوخ فيه تقرير عن المناهج السعودية يذكر حرفيا ما ورد في كلام الدكتور تركي الحمد.
والدكتور الحمد لا يكاد يترك مناسبة إلا ويتهم من يسميهم بالإسلامويين بالانتهازية !! مع أن الانتهازية صفة واضحة في الحمد فلا تكاد تمر مناسبة إلا ويستغلها في الهجوم على المجتمع وعلى ثقافته التي يرى هو أنها يجب أن تكون ثقافة مرنة غير جامدة أو ثابتة ولو أننا حاكمنا أحدا على ماضيه لكان الدكتور الحمد أول من يجب أن يلغى من قائمة المؤثرين لما له من ماض ثوري.
وأصبحت القنوات الفضائية مسرحا للكثير من الليبراليين السعوديين يهاجمون فيه الدعوة النجدية ومناهج التعليم ومراكز الهيئة والمراكز الصيفية وغيرها من الجهات الخيرية.
ووصل الأمر مداه حينما قام مجموعة من هؤلاء الليبراليين بعقد اجتماعات بحضور ديبلوماسي أمريكي تمخض عنه توقيع عريضة فيها مطالب كثيرة تقوم على أسس إصلاحية ليبرالية وعمموا هذه الوثيقة وجمعوا لها تواقيع الناس ومن قرأ تلك العريضة وجد فيها الكثير من المخالف للشريعة ومن أراد الاطلاع عليها فلينظر في لائحة الاتهام الموجهة ضد الدميني ورفيقيه.
والأيام كفيلة بتسجيل ممارسات سلبية سلوكية كانت أو فكرية أشد من سابقتها لهؤلاء الليبراليين ونحن نترقب المزيد منها ما داموا يسيرون على نفس الطريق وتدعمهم أمريكا من الخلف.(/4)
(3)
المؤامرة على الفُصْحى لغة القرآن
(1)
المؤامرة على الفصحى موجهة أساساً إلى القرآن والإسلام
ما تزال المؤامرة على اللغة العربية الفصحى مستمرة لم تتوقف .. لها خيوطها المرتبطة بالاستعمار والاستشراق والتبشير والتغريب .. ثم تضاعفت الدعوة إليها وتنوعت مرتبطة بالصهيونية والماركسية .. وهي مؤامرة تلبس في بعض حلقاتها ومراحلها ثوب البحث العلمي، وتحاول أن تدعي أنها تستهدف الخير والتقدم .. والصورة المعروضة اليوم تخدع الكثيرين. وربما تجد لها من بعض الشباب الذي لم يلم إلماماً كافيا بخطوات المؤامرة، استجابة ساذجة.
وقد كانت المؤامرة على اللغة العربية أساساً تستهدف الدعوة إلى العامية، أو كتابة العربية بالحروف اللاتينية، وأخذت في بعض الأوقات الدعوة إلى معارضة مفاهيم النحو أو نطق الكلمات، وجرت في خلال السنوات الطويلة الممتدة منذ حمل لواءها المبشر الإنجليزي وليم ويلكوكس في مراحل متعددة وانتقلت من مصر إلى المغرب إلى الشام ولبنان، واستطاعت أن تجد لها دعاة ممن يكتبون بالعربية خلفوا أولئك الأجانب الذين حملوا اللواء أول الأمر ..
والذين ينظرون اليوم في مشروع العربية الأساسية الذي تقدمت به بعض الهيئات الأجنبية في حزيران-يونيو 1973 في مؤتمر برمانا، ومنذ أن ارتفعت صيحة الدكتور عمر فروخ بالكشف عنه وإذاعته واهتمام الجهات المختصة به حتى أصدرت إحدى الهيئات الإسلامية وهي: مجمع البحوث بالأزهر تحذيرها الخطير بتوقيع الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر -أقول إن الذين ينظرون في هذا المشروع اليوم يجدونه مرتبطاً كل الارتباط بما أعلنه اللورد دوفرين في تقريره الذي وضعه عام 1882 بعد الاحتلال البريطاني لمصر حين دعا إلى معارضة اللغة الفصحى، لغة القرآن، وتشجيع لهجة مصر العامية واعتبارها حجر الزاوية في بناء منهج الثقافة والتعليم والتربية في مصر .. وحين قال في تقريره بالحرف الواحد "إن أمل التقدم ضعيف في مصر طالما أن العامة تتعلم اللغة الفصحى العربية -لغة القرآن- كما هي في الوقت الحاضر" ..
ثم لم يلبث المبشر وليم ويلكوكس الذي كان يعمل مهندساً في الحملة الاستعمارية على مصر أن دعا في خطابه المشهور عام 1883 بنادي الأزبكية إلى نشر اللغة العامية والتأليف بها. وقد أطلق على خطبته اسماً خطيراً هو: "لماذا لا توجد قوة الاختراع عند المصريين ..!"، وكانت إجابته بالطبع: "إن السر ذلك هو اللغة العربية الفصحى، وإن سبيل إيجاد قوة الاختراع هو اتخاذ العامية بديلاً ..!".
وتوالت المحاولات الماكرة اللئيمة التي كانت تستهدف أمراً واحداً هو عزل المسلمين عن بيان القرآن وعن أسلوبه وشق وحدة اللسان والكلمة بإعلاء العاميات في مختلف أنحاء البلاد الإسلامية حتى تنمو تلك العاميات وتصبح لغات منفصلة، وعندئذ يصبح القرآن (تراثاً) يترجم ويقرأ عن طريق القواميس. وهم يعضون تجربة اللغة اللاتينية بالنسبة للإنجيل في أوربا كصورة نموذجية للمحاولة، ويجهلون مدى الفارق البعيد بين اللغتين، وينسون أن الإنجيل لم ينزل باللغة أصلاً؛ وإنما ترجم إليها ..
2- ولما عجزت خطة العامية، قدمت خطة الكتابة بالحروف اللاتينية. واضطلعت المحافل اللغة الرسمية في تقديم عشرات من المشروعات: كان أخطرها مشروع عبد العزيز فهمي باشا الذي قوبل بالسخط والنكير من جميع حماة اللغة العربية والذائدين عنها، وإن كان أتباع التغريب من أمثال لطفي السيد وطه حسين عجزوا عن أن يعلنوا رأياً صريحاً قاطعاً. ذلك أن لطفي السيد نفسه كان من أوائل المصريين الذين حملوا لواء الدعوة إلى العامية بعد أن مهد لها: (ويلكوكس – ويلمور – دنلوب).
3- ثم كانت هناك حطة ثالثة هي: (اللغة الوسطى) وتلك دعوة حمل لواءها فريد أبو حديد وتوفيق الحكيم وأمين الخولي. وهي محاولة ماكرة لفصل اللغة العربية الفصحى عن لغة الكلام ولغة الكتابة بإعلاء اللهجات واعتماد اللغة الصحفية لغة أساسية. فلا هي عامية ولا هي فصحى؛ ولكنها تنزل درجة عن الفصحى لتنفصل عن بيان القرآن وتكون مقدمة لمرحلة أخرى تصل بها إلى العامية.
4- وجاءت بعد ذلك محاولة خطيرة تولاها وتصدى لها الدكتور طه حسين، هي: تبديل الخط العربي وقواعد النحو باسم (تطوير اللغة) تحت اسم تهذيب أو تيسير أو إصلاح أو تجديد، وهي أسماء لبقة مرنة تخفي وراءها هدفاً خطيراً هو –كما عبر عنه الدكتور محمد محمد حسين: "التحلل من القوانين والأصول التي صانت اللغة خلال خمسة عشر قرناً أو يزيد) وهي القوانين التي ضمنت لنا القدرة على مطالعة تراث المسلمين والعرب خلال أربعة عشر قرناً.(/1)
فإذا ما تحققت هذه الخطة التي تسمى بالتطوير أو التهذيب وتحللنا من هذه الأصول والقوانين والقواعد التي صانت اللغة هذه القرون، كانت النتيجة هي تحقيق الهدف. في تبلبل الألسنة بين المصري والشامي والمغربي وما بين الإيطالي والأسباني .. وتصبح قراءة القرآن والتراث العربي والإسلامي متعذرة على غير المتخصصين من دارس الآثار ومفسري الطلاسم .. وعندئذٍ تصبح وحدة العرب مقدمة لوحدة المسلمين عمل باطل ..!.
يقول الدكتور محمد محمد حسين: "ليس الخطر في الدعوة إلى العامية، ولا في الدعوة إلى الحروف اللاتينية ولا إلى إبطال النحو وقواعد الإعراب أو إسقاطها؛ وإنما الخطر في هؤلاء العتاة الذين يعرفون كيف يخدعون الصيد بإخفاء الشراك .. إن الخطر الحقيقي هو في الدعوات التي يتولاها خبثاً الهدامون مِمَن يخفون أغراضهم الخطيرة ويضعونها في أحب الصور إلى الناس ولا يطمعون في كسب عاجل، ولا يطلبون انقلاباً كاملاً سريعاً .. إن الخطر الحقيقي هو قبول (مبدأ التطوير) نفسه؛ لأن التسليم به والأخذ فيه لا ينتهي إلى حد معين أو مدى معروف يقف عنده المتطورون، ولا ريب أن التزحزح عن الحق كالتفريط في العرض.
5- كانت هناك ولا تزال خطة أخرى (وهذه الخطط كلها تعمل داخل المؤسسات) مؤسسات اللغة والتعليم. تلك هي بدعة إصلاح اللغة .. وقد ظن الكثير من البسطاء أن المسألة يراد بها سهولة الأداء، فالمصطلح خادع وماكر وسيء النية أيضاً .. وقد كشف هذه المؤامرة الدكتور علي العناني حين قال: "إن الإصلاح في الألفاظ والتراكيب والأساليب لا يكون إلا بتغيير قواعد أبنية اللغة وهي (الصرف) وتحوير ضوابط إعرابها والأحوال العارضة على الألفاظ باختلاف الوضع في الجملة وهو (النحو) وتبديل الموضع اللفظي في المفرد والمركب من حيث الحقيقة والمجاز والاستعارة والكناية وهو (البيان) وبتغيير وإهمال ضوابط الفصاحة والبلاغة وهي (المعاني)، ومعنى إصلاح قواعد الصرف انتقالاً من الصعب إلى السهل إنما يعني أن نهدم علم الصرف من أساسه وننسخه نسخاً تاماً لتعدد قواعده وتنوع ضوابطه، وبعد أن يتم الهدم يبني المصلحون على أنقاضه صرفاً جديداً محدود القواعد، قليل التنويع، خفيفاً على العقل والفكر، سهلاً على الذهن والفهم .. وكذلك الأمر في إصلاح قواعد النحو، وإصلاح علوم البلاغة.
وبهذا يكون معنى الإصلاح في اللغة نسخ العقلية العربية وما فيها من ثقافة نظرية وعملية. ذلك أن الإصلاح هو التغيير، والتغيير يعني الإزالة والوضع.
ويقول الدكتور العناني أن تغيير قواعد اللغة العربية صرفاً ونحواً بالوضع فقط، أو بالوضع والإزالة معناه إحداث لغة جديدة بقواعد جديدة. وهذه اللغة العربية الجديدة إن صح اتصالها بالعربية الحالية المدونة اتصال اللهجة بالأم، فإنه تعبد عنها شيئاً فشيئاً حتى تختفي معالم الصلات بينهما، أو تكاد وعندئذ تكون اللغة العربية الحالية من اللغات الميتة ..
ونقول أن هذا ما يحلم به سعيد عقل، وأنيس فريحة، ولويس عوض .. وما كان يتمناه سلامة موسى، والخوري مارون غصن وطه حسين ولطفي السيد .. ومعنى هذا أن يصبح كل تراث العربية البالغ عشرات الآلاف من الكتب في مختلف مجالات الشريعة الإسلامية والأدب، والحضارة والفكر والفن عبارة عن توابيت في دار الآثار والمتاحف .. ويقول الدكتور علي العناني: "إن قواعد اللغة العربية وُضِعت طبقاً لنصوص القرآن والحديث والمسموع من العرب، فالتغيير في هذه القواعد هجر للقرآن والحديث.
كذلك فإن الدين الإسلامي وهو عقيدة وشريعة قد استنبطت أحكامه فيما يختص بالعقيدة والتشريع في العبادات والمعاملات من الكتاب والسنة وعمل الرسول والقياس والاجتهاد. وكل هذه الأركان والينابيع لا يمكن أن يستنبط منها حكم إلا بواسطة مبادئ خاصة وقوانين معروفة بعلم الأصول. وأساس هذه المبادئ والقوانين الراسخ أو دعائم علم الأصول إنما هي فهم لغة العرب: لغة القرآن والرسول بما وضع لها من القواعد الصرفية والنحوية وضوابط علوم البلاغة، وإذا أصلحت هذه الضوابط وتلك القواعد بالإزالة والوضع انهدم أساس علم الأصول وتداعت دعائمه، وإذا انهدم الأساس وتداعت الدعائم انهدم أيضاً ما يرتكز عليها، وهو هذا العلم .. وإذا وصل هذا العلم الأساسي في استنباط أحكام العقيدة ومسائل الشريعة إلى التداعي، تداعت معه أيضاً طريقة الاستنباط وفهم ما استنبط ودون بالفعل، وضاعت العقيدة واحتجبت الشريعة وعدنا إلى الجاهلية الأولى.(/2)
6- هذه هي خلفية الصورة البراقة التي نراها اليوم يحملها مجموعة من أعداء الإسلام واللغة العربية ويدافعون عنها وينقلونها من ثوب إلى ثوب، ومن أسلوب إلى أسلوب، كلما انكشف لهم جانب أعادوا تشكيله في صورة أخرى، وهم الآن على أبواب التعليم، وهي خطوة خطيرة إذا سمح بها وأعين عليها. ومن هنا نجد عبارة شخ الأزهر واضحة في معارضة المشروع حين يقول: "إن هذا المشروع واضح الهدف في هدم معالم اللغة العربية، وتبعاً لذلك البعد بها وبأهلها عن القرآن الكريم. ثم ما ينتج عن ذلك من مساس بالإسلام وأصوله كما هي مصونة في كتاب الله وسنة رسوله الكريم، ذلك إلى إيجاد الهوة الواسعة بين ما تئول إليه اللغة (لا قدر الله) وما احتوته من تراث في صورتها السليمة يمتد عبر أربعة عشر قرناً في نحو أربعة عشر إقليماً ..
ولذلك فإن مجمع البحوث الإسلامية يرى في هذا المشروع خطراً داهماً على اللغة العربية والعلوم الإسلامية، من شأنه أن يقطع صلة المسلم بالقرآن الكريم والسنة النبوية والتراث الفقهي الذي يعتمد فيما يعتمد عليه على دلالة المفهوم والمنطوق وأساليب القصر، والتقديم والتأخير وما إلى ذلك مما لا يتحقق في لغة أساسها العامية. بل إنه يقطع صلة المسلم بالتراث العلمي الإسلامي بصفة شاملة.
ومَن يطالع تقرير الدكتور عمر فروخ يحس بالخطر الكامن واضحاً في عبارات صريحة، يقول: "وفي أثناء الجلسات الرسمية للمؤتمر، وفي الفترات المتعددة بين الجلسات جرت بحوث واقتراحات وملاحظات جعلتني = خيفة شديدة من المشروع .. إن كل ما دار في مؤتمر برمانا كان يولد فيّ شعوراً بأن الغاية الأولى والأخيرة من المؤتمر كان الاهتمام باللغة العامية .. لقد حضر هذا المؤتمر عدد قليل من اللبنانيين ونفر من العرب غير اللبنانيين (وكثرة) من الأجانب لفتت نظري أن جلهم من الرهبان اليسوعيين ..
ونحن نقول إنها حلقة جديدة من حلقات المؤامرة أخش أنم تقف منها المجامع العربية موقع الصمت أو التردد؛ حيث نرى بعض رجالها يؤمنون بما يؤمن بها المستشرقون ويدافعون عنه، وخاصة في محاولة تطبيق علم اللغات الحديث على اللغة العربية، وهو علم قامت نظرياته ومستخلصاته على أساس دراسة واسعة للغات الأوربية. وهذه اللغات لها تاريخ وتحديات وطرق. أما تاريخها فإنها مشتقة من اللغة اللاتينية ولغات أخرى. وقد كانت في أول أمرها لهجات عامية ثم استقلت بنفسها تحت تأثير عوامل كثيرة .. أما التحديات فإن ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة القومية الأوربية جعل الموقف جد مختلف بينها وبين العربية .. أما الطريق فهو أن اللغة العربية ارتبطت بكتاب منزل أعطاها وحماها وجعلها ليست لغة العرب وحدهم؛ وإنما لغة الثقافة الإسلامية بعامة .. ومن هنا فإن محاولة القول الذي تردد كثيراً على ألسنة طه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد، وما يزال يتردد على ألسنة بعض من يتولون أمر اللغة، بأن اللغة العربية لغتنا ونحن أصحابها، ولنا حق التصرف فيها، هو قول باطل وغير صحيح ومردود؛ ويرده واقع التاريخ ومنطق البحث العلمي .. وربما كان قولاً صحيحاً بالنسبة للغات الأوربية، أما بالنسبة للغة العربية فإنه أمر جد مختلف؛ ذلك أن اللغة العربية منذ أن نزل التنزيل بها فقد أعطاها أبعاداً تختلف وواقعاً خاصاً ..
فاللغة العربية منذ ارتبطت بالقرآن الكريم أصبحت ليست لغة أمة هي العرب فحسب؛ بل هي لغة فكر وعقيدة ودين وثقافة للمسلمين جميعاً الذين يبلغ تعدادهم أكثر من 700 مليون.
ومن هنا فإن ارتباطها بالقرآن هو وحده الذي حماها من أن تتحول لهجاتها إلى لغات مستقلة، وأن يقرأ تراثها بقاموس .. وسيظل الترابط بين المسلمين ولغة الضاد الفصحى لغة القرآن قائماً إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها ..
وبعد: فإن مؤامرة مشروع العربية العامية يجب أن يشجب بقوة من جميع الهيئات الإسلامية وفي مقدمتها رابطة العالم الإسلامي التي تمثل اليوم مكان الأمم لمختلف المنظمات الإسلامية. وهي ما هي غيرة وقوة وإيماناً.
(2)
الفصحى: لغة القرآن
لغة ألف مليون: هم المسلمون
وليس مائة مليون هم العرب وحدهم !
ما تزال قوى التغريب والغزو الثقافي تطارد اللغة العربية الفصحى مطاردة شديدة: وفي مؤتمر المستشرقين الأخير دارت مناقشات وأبحاث كثيرة حول ما يسمونه اللغة العربية الحديثة وحول اللهجات العامية التي يسمونها لغات.
وهناك اتجاه في بعض الجامعات التي يشرف على الدراسات الإسلامية والعربية فيها يهود صهيونيون يرمي إلى المبالغة في أهمية اللهجات العامية والعناية بدراستها باعتبارها اللغة المستعملة، وهناك دراسات عن اللهجات المصرية والتونسية والمغربية.(/3)
ويواجه الأساتذة العرب هذه الحركة بحركة مضادة معادية لهذا الاتجاه يقررون فيها ضرورة التمسك باللغة الفصحى لغة القرآن ويكشفون فساد هذا المنهج التعريبي الذي تحمل لواءه اليهودية العالمية لحساب الصهيونية وإسرائيل، ونحن نعرف أن الهدف هو القرآن والإسلام والقضاء على الوحدة الفكرية الجامعة تحت لواء الإسلام في لغة الأمم.
وفي هذا نذكر ذلك النذير الذي أصدره الأستاذ مصطفى صادق الرافعي منذ خمسين عاماً حين قال:
"إن العربية لغة دين قائم على أصل خالد هو القرآن الكريم، وقد أجمع الأولون والآخرون على إعجازه بفصاحته، إلا مَن لا حفل له به مِن زنديق يتجاهل أو جاهل يتزندق، ثم إن فصاحة القرآن يجب أن تبقى مفهومة ولا يدنو الفهم منها إلا بالمران والمداولة ودرس الأساليب الفصحى والاحتذاء بها وأحكام اللغة والبصر في حقائقها وفنون بلاغتها والحرص على سلامة الذوق بها، وكل هذا يجعل الترخص في هذه اللغة وأساليبها ضرباً من الفساد، والحال الخاصة في فصاحة هذه اللغة ليست في ألفاظها ولكن في تركيب ألفاظها".
ويعني هذا الذي يقوله الأستاذ الرافعي رحمه الله أن اللغة العربية ارتبطت بالقرآن فأصبحت لغة أمة: ولغة فكر وثقافة ولغة عبادة للمسلمين جميعاً الذين يبلغ تعدادهم ألف مليون، وليست لغة مائة مليون هم العرب وحدهم، ولقد حماها ارتباطها بالقرآن مِن أن تتحول لهجاتها إلى لغات مستقلة وحال بينها وبين أن يُقرأ تراثها بقاموس كما يُقرأ تراث اللغات الأوربية. وسيظل الترابط بين المسلمين وبين لغة الضاد قائماً مادام القرآن الكريم وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
إن اللغات الأوربية حين انسحبت من اللغة اللاتينية إلى اللهجات القومية فأصبحت لغات خاصة انقطعت عن تراثها القديم، وقد أصبح من شأن هذه اللغة أن تتطور وتتطور وهي في كل فترة تنتقل من اللغة المكتوبة إلى لغة الكلام التي تصبح بدورها لغة كتابة، ومن ثم فإن أوربا لا تستطيع أن تقرأ شكسبير أو ملتون أو غيرهما من أعلام الأدب إلا بواسطة القاموس، وليس بين اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية وبين هذا التراث أكثر من أربعمائة عام، بينما يقرأ العرب والمسلمون اليوم امرؤ القيس وبينهم وبينه أكثر من ألف وخمسمائة عام كأنما ألقى شعره في نفس اليوم، ولو أن إنساناً عربياً من الجاهلية بعث اليوم لاستطاع أن يتحدث إلينا ونتحدث إليه ويفهم منا ونفهم منه.
عن القول الباطل الذي يردده هؤلاء التغريبيون من قولهم أن اللغة العربية هي لغتنا ونحن أصحابها ولنا حق التصرف فيها هو قول غير صحيح يرده واقع التاريخ ويدحضه منطق البحث العلمي.
وقد يكون صحيحاً بالنسبة لعلم اللغات الذي استمد مقوماته من دراسة اللغات الأوربية وأقام نظرياته على أساس واقعها وهو إذ يصح بالنسبة لكل اللغات فإنه لا يصح بالنسبة للغة العربية التي احتضنها القرآن فنزل بها ومن ثم فقد أعطاها "أبعاداً خالدة" تختلف اختلافاً واسعاً عن اللغات وقد تتباين ويتعارض معها، ذلك أن اللغات الأوربية ترجمت كتابها المقدس إلى لغاتها الجديدة، وكانت موجة القوميات الأوربية عاملاً على أن تقيم من لهجاتها لغات خاصة منفصلة عن اللغة الأم، كما انفصلت سياسياً عن النظام السياسي الغربي الذي كان قائماً ومتصلاً بالكنيسة الغربية الواحدة، وهذا أمر يختلف في اللغة العربية تماماً؛ فإن المسلمين لم يترجموا قرآنهم وما يزال يقرؤه الهندي والفارسي والتركي والبربري وغيرهم من الأجناس واللغات بنفس اللغة العربية التي نزل بها، ولذلك فهو قد أقام للغة العربية كياناً خاصاً حماها من التحول إلى العاميات، ومن ثم فإن علم اللغات الحديث الذي تجري محاولة تطبيقه على اللغة العربية هو علم قاصر قامت مستخلصاته على أساس دراسة اللغات الأوربية وظروفها، كما ذكرت ولكنه لم يدرس ظروف اللغة العربية.
ولقد اعتقد المسلمون على مدى القرون، وهو الحق: أن لغتهم جزء من حقيقة الإسلام؛ لأنها كانت ترجماناً لوحي الله ولغة لكاتبه ومعجزة رسوله ولساناً لدعوته، ثم هذبها النبي الكريم بحديثه ونشرها الدين بانتشارها وخلدها القرآن بخلوده، فالقرآن لا يسمى قرآناً إلا بها والصلاة لا تكون صلاة إلا بها، وأن "الأرجانون" لأي فكر أو "منهج بحث" لأي فكر إنما يستند إلى خصائص اللغة ولذلك فإن منهج البحث العلمي العربي إنما يستند إلى خصائص اللغة العربية ولا يستطيع أن يستند إلى خصائص لغة أخرى، فلكل لغة منهجها الفكري القائم على معانيها ومضامينها، وكما هاجم المسلمون المنهج الأرسطي وقالوا أنه مستند إلى خصائص اللغة اليونانية التي تخالف اللغة العربية فكذلك الأمر بالنسبة للمنهج الغربي الوافد (ماركسياً أو ليبرالياً أو فرويدياً أو وجودياً)؛ ذلك لأن الفكر الإسلامي منهج البحث الخاص به ومنهج المعرفة الذي يمثله والمستمد من اللغة العربية أصلاً ومن التوحيد الخالص.(/4)
ولا ريب أن محاولة فصل اللغة العربية الفصحى عن لغة الكلام بإعلاء اللهجات أو بخلق ما يسمونه لغة وسطى أو لغة الصحافة، كل هذا له خطره وله أبعاده ومخاطره.
إن النظرة اليسيرة قد ترى في ذلك شيئاً مقبولاً، ولكن النظرة العميقة تكشف عن محاذير عميقة أبرزها: الانفصال عن مستوى البيان القرآني؛ ذلك أنه من الضروري أن تظل اللغة العربية متصلة ببيان القرآن ومرتبطة به، فإذا بعدت عنه كان من أخطار ذلك أن تنفصل أو تنعزل عن مستوى البيان القرآني. فإذا مر زمن طال أو قصر انقطعت الصلة بين البيان والأداء العربي وبين القرآن.
واللغة العربية: لغة غنية خصبة عملاقة، يقول الخليل بن أحمد في كتاب العين: "إن عدد أبنية كلام العرب 12 مليون و305 ألف و412 كلمة"، ويقول الحسن الزبيدي أن ما يستعمل من ألفاظ اللغة العربية هو 5620 لفظاً فقط. وعندما نزل بها القرآن أزاحت السريانية والكلدانية والنبطية والآرامية واليونانية والقبطية عن مكانها في مصر والشام وأفريقيا وأدالت منها قبل أن ينقضي قرن واحد، فلما بلغت القرن الثالث تحولت الصلوات في الكنائس إليها، ثم كتبت بها اللغات التركية والفارسية والأوردية والأفغانية والكردية والمغولية والسودانية والأبجية والساحلية. كما كتب بها لغة أهل الملايو وقد حدث هذا منذ أكثر من ألف عام.
ثم دخلت إلى اللغات الأوربية كالفرنسية والألمانية والإنجليزية، وفي اللغة الإنجليزية وحدها أكثر من ألف كلمة عربية. ومن الناحية العلمية فهي تفوق أضخم اللغات ثروة وأصواتاً ومقاطع؛ إذ بها 28 حرفاً غير مكررة. بينما في اللغة الإنجليزية 26 حرفاً ومنها مكرر، كذلك فإن اللغة العربية ثراء في الأسماء فيها 400 اسم للأسد و300 للسيف و255 للناقة و170 للماء و70 للمطر؛ لكل واحد منها استعماله الخاص في حالة معينة.
ولقد عرف رجل من أشد خصوم الإسلام قدر اللغة العربية فكتب عنها في كتابه اللغات السامية، ذلك هو أرنست رينان فقال:
"من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب حل سره: انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ ذي بدء، فبدأت فجأة في غاية الكمال، سلسلة أي سلاسة، غنية أي غنى، كاملة؛ بحيث لم يدخل عليها منذ يومنا هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة محكمة ولم يمضِ على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم بالعربية ليفهمها النصارى، ومن أغرب المدهشات أن نبتت تلك اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمة من الرحل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها، وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم أُعلنت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغير يذكر حتى أنه لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة، ولا تكاد تعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى، ولا نعلم شيئاً عن هذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدريج وبقيت حافظة لكيانها خالصة من كل شائبة".
هذا وقد أثبت الأستاذ كامل كيلاني أنه ما من فن أو علم أو معنى في شعر أو نثر يتحدث في أدب من الآداب إلا وله ضريب في اللغة العربية، وقد جمع 18 صورة من هذه المقابلات، بينما وجد أن هناك 25 صورة من الأدب العربي لا ضريب لها في الآداب الغربية.
وقد شغلت كلمة (الوفاء) في اللغة العربية من لسان العرب صفحات 278، 279، 280، 281 من جزئه العشرين، بينما لا توجد هذه الكلمة في بعض اللغات كلية.
ولقد كتب جول فيرن الروائي المشهور قصة خيالية عن قوم شقوا أعماق الأرض طريقاً إلى جوفها فلما خرجوا سجلوا أسماءهم باللغة العربية، فلما سُئِل عن ذلك قال: لأنها لغة المستقبل.
ولذلك فمن الخطر فصل اللغة العربية عَن مستوى بيان القرآن، وذلك هو هدف التغريب الذي يعرفه جيداً جميع المستشرقين.
يقول بول كراوس: "لا لغة عربية بدون قرآن".
ويقول سيديو: أن "اللغة العربية حافظت على وجودها وصفاتها بفضل القرآن".
ومن ثم فإن كل هذه المحاولات لإفساد جوهرها هي بمثابة هجوم على الإسلام يتخفى وراء عبارات كاذبة مضللة.
(3)
وكانت مجلة البيان الكويتية قد اقترحت أن يطلق عام 1397 عام اللغة العربية الفصحى لغة القرآن، ومن الحق أن اللغة العربية في أشد الحاجة إلى هذه النصرة والتجمع والمؤازرة في هذه المرحلة التي يمر بها العالم الإسلامي والوطن العربي بالذات؛ حيث تتجمع قوى كبيرة للتآمر عليه وقد ارتفعت الأصوات: أصوات دعاة اليقظة الإسلامية بالتحذير من تلك الأخطار التي توجه إلى اللغة العربية الفصحى ..
فإن العدو عندما عجز عن مواجهة القرآن الكريم لجأ إلى مهاجمته عن طريق اللغة في مجال البيان، ولجأ إلى التشكيك فيه عن طريق السنة في مجال الفقه. وعلى شباب المسلمين المثقف أن يحذر مما يوجه الآن إلى اللغة والسنة من مؤامرات وتحديات ..(/5)
ولقد صدرت في السنوات الأخيرة مؤلفات ودراسات تكشف عن هذه المحاذير، في مقدمتها "الزحف على لغة القرآن" للأستاذ الجليل أحمد عبد الغفور عطار، و"العامية" للدكتورة نفوسة، وصدر لكاتب هذه السطور: "اللغة العربية بين حماتها وخصومها"، ومنذ وقت قريب عُقد في الخرطوم مؤتمر بحث تطوير دراسة اللغة العربية، قرر توحيد مناهج إعداد معلمي اللغة العربية والعمل على تأكيد قرار معلمي أفريقيا الخاص باعتبار اللغة العربية إحدى ثلاث لغات أفريقيا أساسية يدرسها كل أفريقي مع لغته الأصلية، كما أوصى بالإسراع في تعريب التعليم الجامعي.
والواقع أن مجامع اللغة التي قدمت عدداً أوفر من المصطلحات قد أصبحت اليوم محتواة بمجموعة من خصوم اللغة العربية الذين استطاعوا السيطرة عن طريق ما أسموه دراسات علم اللغة والأصوات وهم الذين يحملون لواء الدعوة إلى تشجيع العاميات واللهجات ويفسحون أمامها الطريق لتدخل القواميس ولتسطير على منهجية البيان العربي الأصيل الذي فرضه القرآن الكريم والذي يلتزم أهل العربية بالاتصال به والاستمرار في مستواه ..
والمؤامرة معروفة ومدخلها: تطوير اللغة، والقول بوضع اللغة في خدمة العصر، وهذه كلها عبارات لم تعد تخدع أحداً، ومعروف هدفها وهو الفصل بين العرب وبين لغة القرآن التي جمعتهم إلى محاولة الوصول باللهجات العامية في كل قطر إلى لغة تمزق الوحدة الفكرية والسياسية الجامعة بين العرب أنفسهم وبين العرب والمسلمين. ولقد قاومت اللغة العربية الفصحى محاولات مستمرة لم تتوقف وصمدت صموداً عنيداً أمام جميع التحديات الاستعمارية في المغرب العربي وفي سوريا وفي مصر، وفي كل مكان حيث حاول النفوذ الأجنبي ضربها ضرباً مزدوجاً باللغات الأجنبية وبإعلاء اللهجات العامية .. قاومت اللغة العربية كل المحاولات من إدماج وإزالة وإبادة؛ لأنها مدينة لقاموسها الجوهري ولنظام بناء الكلمات وتركيب العبارات والنحو والصرف، ومن هنا كانت دعوتنا إلى نقل العلوم والتكنولوجيا من أفق اللغات الأجنبية إلى أفق اللغة العربية، فنحن لا نطالب بأن ينقل الفكر؛ وإنما نطالب بأن ينقل العلم إلى أفق اللغة العربية لا أن ينتقل العرب والمسلمون إلى أفق اللغات الأجنبية. ولقد واجهت اللغة العربية الفصحى في العصر الحديث مقاومة ضخمة في كل مكان: فقد حيل بينها وبين نومها الطبيعي وامتدادها مع انتشار الإسلام إلى آفاق العالم وخاصة في أفريقيا، وتشير التقارير إلى أن اللغة العربية خارج الوطن العربي هي أكثر اللغات الوطنية انتشاراً في أفريقيا المعاصرة، وهناك دول تعتبر العربية فيها أكثر اللغات الوطنية انتشاراً. في موريتانيا وتشاد ومالطة، فانتشار العربية في موريتانيا لا يقل عن انتشارها في المملكة المغربية، فاللهجات البربرية المختلفة هي وسيلة التعامل المحلية عند حوالي ثلث سكان موريتانيا، ولكن نصف أبناء البربرية في موريتانيا يستطيعون التعامل في أمور الحياة باللغة العربية وفي المناطق الممتدة من السنغال ومالي إلى تشاد فإن العربية مستخدمة هناك في مناطق كثيرة كلغة أُم أو كلغة تداول، بل إن العربية هي أكثر اللغات استخداماً في المنطقة الممتدة من تمبكتوا (مالي) إلى كانم وواداي إلى غرب السودان.(/6)
ويقول التقرير أن أهم تجمع بشري يتعامل بالعربية في هذه المنطقة يوجد في تشاد؛ حيث يعيش فيها حوالي مليون و800 ألف مِمَن يستخدمون اللغة العربية كلغة أُم. والعربية بهذا هي أكثر اللغات الوطنية انتشاراً في تشاد؛ فأبناء اللغات الأخرى يكونون 40 في المائة فقط من سكان تشاد، وهناك منطقة لم يرتبط تعريبها بالإسلام وهي جزيرة مالطة: المنطقة الوحيدة التي تخلو من المسلمين ولغة الحديث فيها إحدى اللهجات العربية، أما في موريتانيا وتشاد ومالطة فإن العربية قاصرة على أمور الحياة اليومية البسيطة، ولكن العربية بعيدة عن هذه المناطق في المجالات الثقافية واللغة السياسية، وعلى العكس من ذلك نجد الموقف اللغوي في الصومال حيث تسود في أمور الحياة اليومية البسيطة الواحدة لغة واحدة هي اللغة الصومالية، ولكن أبناءها يتوسلون بالعربية في أمور الثقافة الجادة والتعليم، ويهتم الصوماليون اهتماماً كبيراً بتعليم اللغة العربية ويحسن كثير منهم التعامل بها فتصبح بمثابة اللغة الأم الثانية .. وقدر ارتبط تعليم العربية في الصومال بحفظ القرآن الكريم وبالثقافة الدينية عموماً، غير أنه في ظل الحكم الماركسي الحالي يعاني السكان والعربية من مشاكل كثيرة ليس أقلها قفل المعاهد الإسلامية ومنع الخطابة باللغة العربية .. إنها محنة نعتقد أنها سوق تزول عن شعب الصومال .. وهناك دول، يشكل أبناء العربية فيها أغلبية سكانية ولكنهم يكونون أقليات لغوية هي (مالي والنيجر وإيران وأريتريا وأربكستان وأفغانستان)، وقد لاحظ الرحالة الغربيون أن العربية منتشرة من شمال السنغال ومنطقة النيجر إلى تمبكتو، ثم من بورنو إلى دارفور في السودان .. والمنطقة التي ينقطع فيها استخدام العربية هي المنطقة من بورنو إلى تمبكتو. كما أشار التقرير إلى أن أكبر تجمع بشري يستخدم العربية في دولة مالي والمناطق المتاخمة لها هم (ذووحسان)، وقد تُعرف لهجتهم العربية باسم (الحسانية)، وهم الذين يُسميهم ابن خلدون (عرب المعقل)، وأغلب الظن أنهم دخلوا هذه المنطقة قبيل دخول الهلالية إلى المغرب. كما توجد أقليات عربية اللغة في عدد من الدول الأسيوية، وفي مناطق أخرى من إيران تعيش جماعات تتعامل باللغة العربية في حياتها الخاصة ويقدر عدد هؤلاء بنصف مليون ..
أما في تركيا فتعيش جماعات عربية في منطقة ماردين ويقدر عدد أبناء العربية في تركيا بحوالي رب مليون نسمة، وهناك عدة جزر لغوية صغيرة في أفغانستان وأزبكستان ..
ويقدر الباحثون أن اللغة العربية الآن هي لغة حوالي مائة وخمسة عشر مليوناً من العرب (1970)، أما الجماعات غير العربية فهي لا تزيد عن خمسة ملايين نسمة، وقد لوحظ ازدياد انتشار العربية في الأجيال الصاعدة مع انتشار التعليم ويصدق هذا على جنوب السودان رغم البطء الشديد في نشر التعليم هناك، وأكبر جماعات بشرية غير عربية في البلاد العربية هي جماعات الأكراد (مليون) والبربر (4 ملايين) والنوبيون والمهرة وأبناء لغات جنوب السودان. وفي أقصى جنوب جزيرة العرب تجد في مناطق من جمهورية اليمن الشعبية عدداً من المتحدثين بلغة سامية قديمة هي لغة المهرية، ويعتبر النوبيون أهم تجمع بشري غير العربي في مصر (ربع مليون).
ولا ريب أن هذه الإحصائيات تعطي صورة النمو المتجدد للغة العربية في العالم الإسلامي بالرغم من كل محاولات حصر اللغة الفصحى وحجبها وتغليب اللهجات العامية واللغات الأجنبية عليها، وبالرغم من محاولات تغيير أبجديات اللغات في الملايو وبعض البلاد الأفريقية ..
ولقد كان المرحوم مصطفى صادق الرافعي من أوائل المجاهدين في الدفاع عن اللغة الفصحى، حتى وصف بأنه (حارس لغة القرآن)، يقول:
"قد أدهشتني الكلمة التي جرت على قلم يوسف حنا من اعتقادي أني المختار لحراسة لغة القرآن، فأنا لم أقل له هذا ولم أعتقدها مطلقاً، ومن أجل ذلك أثّرت فيّ هذه الكلمة تأثيراً عظيماً وأعددتها أنباء من الغيب واعتقدتها والظاهر أنها كذلك" ..
والحق أن كتاب الرافعي (إعجاز القرآن) كان بمثابة القنبلة الخطيرة التي ألقاها الرافعي في جو ظن خصوم الإسلام والعربية أنهم قادرون فيه على الهدم دون أن يتلفت إليهم أحد ..
ولكن اليقظة الإسلامية كانت تنطلق دائماً مكتسحة كل هذا الركام الذي شيده الأعداء. وفي هذا المجال يذكر رجل آخر من المجاهدين في سبيل اللغة العربية هو أحمد السكندري:
كان الدكتور منصور فهمي يقول كلما واجهتهم في المجتمع اللغوي مشكلة:
"انتظروا السكندري، أرجئوا المسألة فعند السكندري علم ما أشكل علينا ولديه حل ما استعصى علينا"، فلما مات السكندري قال منصور فهمي: "الآن يموت حلال المشكلات والمرتجي في اللغة للمستعصيات". وكان السكندري يقول: "لا يجوز التعريب إلا إذا تحقق العجز في نقل أسماء ومصطلحات الفنون والصناعات وأنواع النبات والحيوان والجماد".(/7)
وهو واحد من مؤسسي المجمع ومن أكثر المتحدثين فيه، وقد كان عضواً في لجنة الرياضيات والعلوم الطبيعية والكيميائية وعلوم الحياة والطب، بل لقد كان عضواً في سبع لجان من أحد عشر لجنة، وهو من ذلك الرعيل الأول لدار العلوم: الخضري والمهدي وحفني ناصف -أولئك الذين كانت لم مواقف حاسمة إزاء المؤتمرات التي وجهت إلى اللغة في مطالع العصر ..
ومنذ بدأت فكرة التجمع لحماية اللغة والنظر في أمرها كان السكندري في المقدمة وهو قد شاهد توفيق البكري وحمزة فتح الله والشيخ الشنقيطي وحفني ناصف عندما احتجوا لأول مرة ووضعوا عشرات من الكلمات، ثم جاء بعدهم نادي دار العلوم فوضع مئات الكلمات وشارك هو في هذه اللجنة ..
والسكندري: أزهري درعمي معاً: شغف باللغة وتخصص فيها وكان من أصحاب العزائم، كان مؤمناً بمبدأ لا يتزعزع: أن اللغة تكونت من عناصر تمت للأبدية والخلود، فعنده أن عناصر هذه اللغة تنسحب إلى ماضٍ لا أول له، وفي طاقتها أن تمد إلى مستقبل لا آخر له، فاللغة عنده ماضيها وحاضرها ومستقبلها وحدة قوية متماسكة تتسع لكل المصطلحات. وكان يُعَد من المتشددين في القديم. وقد جعل المجمع بالغ الحرص على توفير المظان القديمة، شديد العناية بممارسة ما احتوته من مدخور العربية وكنوزها. ولم تكن معاركه داخل المجمع وحده؛ ولكنه كان معاركاً في كل مجال من أجل اللغة. وعندما كان أحمد زكي باشا شيخ العروبة يكتب كان يتحاماه كثيرون، ولكن شيخ العروبة أراد أن يكتب عن اللغة ويتعرض لكلمات: "على الحركرك، ويا الله)، فكتب رأيه، ثم سأل أصدقائه وطالب السكندري بالذات أن يدلي برأيه في الكلمتين ..
وقال السكندري: "ظن الباشا أن صمت مثلي إنما هو علم يكتمه ولا والله ليس إلا قلة الاعتداد بما خطر على بالي والاستهانة بما سنح لي في تخريج هذا الحرف (على الحركرك)، واللهُ يقول (ولا تقف ما ليس لك به علم)، فأما إذا أحرجني الباشا مرتين ولم يرضَ لي غير إحدى خصلتين: الفتيا ولو بغير مضع، أو استحقاق الإلجام بلجام من نار، فإني أستغفر الله وأقول ما لم أتعود قوله:
خطر ببالي أن (على الحركرك) محرف من نقطتين فصيحتين هما: حرَج الحرَج قلبت الجيم فيهما كافاً لتقاربهما في المخارج، الحرَج بفتح الراء معناه أضيق الضيق، فإذا أضيف إلى مثله كما يقول فلان في ضيق الضيق كانت المبالغة أشد، إذ هو بمنزلة أن يقال: أضيق ضيق الضيق، وهو ما تريده العامة وهو نظير قولهم (شفت فيه ويل الويل ومر المر). ويحتمل أن يكون محرفاً عن الحرَج الحرَج، فإذا كان يعجب الباشا مثل هذا التخريج فذاك، وإلا فإنني أعتقد أن إجابتي إنما هي على حرج الحرج، وأربأ بنفسي أن أكون في رأيه مستأهل الإلجام بلجام من نار والعياذ بالله" ..
وبعد فمن الحق للغة العربية أن تفرد لها عاماً يشترك فيه المجاهدون دونها، ولعل الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار أن يقدم وجهة نظره في هذه الدعوة المطروحة الآن على بساط البحث في عدد من البلاد العربية ..
(3)
لماذا دراسة اللهجات العامية والاهتمام بها ؟!
ما تزال اللغة العربية تدافع عن كيانها الذي يرهق الاستشراق والتغريب والذي تخطط له الماركسية في كل مكان تحل فيه، كما يخطط له الاستعمار والصهيونية بوصفها لغة القرآن التي تجمع العرب إلى وحدة الأمة والجماعة وتربط المسلمين إلى وحدة الفكر والثقافة، ولقد ترددتْ في المرحلة الأخيرة ظاهرة تبدو كأنها دفاع عن الفصحى ولكنها تُخفي في أعماقها حربها وخصومتها، تلك هي ظاهرة دراسة اللهجات العامية، ترى ذلك واضحاً اليوم في عديد من مجامع اللغة ومعاهد الدراسة العالية.
وقد حاول بعض الباحثين أن يدعي أن الغاية من دراسة اللهجات هو الكشف عن أنجع الوسائل المؤدية إلى جعل لغة الضاد (موحَدة وموحِدة) في جميع البلاد العربية، أي أن تكون أكبر أداة لتوحيد الشعوب الإسلامية في أمة واحدة.
ولكن المتعمق للأمور يرى أن ذلك وَهْم من الأوهام، وأن التجربة لم تحققه؛ بل حققت عكسه، وأن بعض المعاهد التي استقدمت أمثال أنيس فريحة وغيره لم تزد أن أعطت دعاة العامية سلاحاً ضد الفصحى بالإضافة إلى أسلحتهم المشرعة اليوم في مجال المسرح والإذاعة والكاريكاتير ..(/8)
يقول الأمير مصطفى الشهابي: "إن اللهجات العربية العامية تعد بالعشرات بل بالمئات وكلها اليوم لا ضابط لها من نطاق أو صرف أو نحو أو اشتقاق أو تحديد لمعنى الألفاظ؛ فهي كلام العامة يستعمل في الأغراض المعاشية وفي علاقات الناس بعضهم ببعض .. وهذا الكلام وقتي لا يثبت على مرور الأيام، وموضعي لا يتجول من قطر عربي إلى قطر عربي آخر .. ومعناه أن اللهجات العامية لا يمكن أن تكون لغات علم وأدب وثقافة وليس في مقدورها أن تعيش طويلاً وأن يعم بعضها أو كلها، الأقطار العربية كافة، وكل ما يكتب بلهجة عامية يظل محصوراً في قطره وقلما يفهمه غير أبناء ذلك القطر أو غير طائفة من أبناء ذلك القطر، فإذا تدارسنا حقائق هذه اللهجات ووضعنا لكل منها قواعد رجراجة، فماذا تكون مغبة هذا العمل .. إن أخشى ما نخشاه أن يستهوي هذا الموضوع عقول بعض هؤلاء الطلاب فيعكفوا على معالجة تنظيم الكتابة والتأليف باللهجات المختلفة وعلى طبع هذه الرطانات ونشرها فتكون النتيجة تشويشاً وضرراً يباعِد بعض الأقطار العربية عَن بعض، بدلاً من أن يتوحد بلغتها، أي تكون النتيجة مخالفة تماماً المخالفة لِمَا يتوقع من تدريس اللهجات العامية في خدمة الفصحى".
أما القول بأن تدريس هذه اللهجات يفضي إلى معرفة مشكلات الفصحى وإلى مداواة أدوائها فهو قول ضعيف في نظرنا؛ فأدوات الفصحى معروفة تحتاج إلى مَن يعالجها بإخلاص ونشاط وصبر ومثابرة وأهمها وضع المصطلحات العلمية أو تحقيقها وتبسيط قواعد الكتابة والإعراب والصرف والنحو وتبسيط الكثير من تعليلات القواعد الصرفية والنحوية.
وجميع هذه الأمور الشائكة يعرفها علماؤنا الأثبات ولا علاقة لها باللهجات العامة وقواعد تدريسها. ومن الطبيعي القول بأن هذا التبسيط لم يمس جوهر الفصحى وسلامتها وأنها ستظل صعبة في نظر بعض الناس ولا مجال للبحث عن بعض الآراء التي تذهب إلى جعل التبسيط تشويهاً للفصحى. المطلوب هو رد العامي إلى الفصيح، كما فعل الشيخ أحمد رضا العاملي وعلماء أثبات وفقهاء باللغة مِمَن يعرفون كيف يُفيدون الفصحى مِن دراساتهم وكيف يقربون العامية منها وكيف يمنعون طغيان العامية عليها. إن قضية الفصحى والعامية لا تُحَل بدراسة اللهجات العامية وتدريسها للطلاب؛ بل تُحَل بتيسير قواعد الفصحى مع الاحتفاظ بسلامتها، وعلى الأخص نشر التعليم في سواد الشعوب العربية، ومنها فرض التعليم بالفصحى على المعلمين وعلى التلاميذ في جميع المدارس، ومنع طبع رسائل بالعامية أو التكلم بها في المدارس والمسارح ومحطات الإذاعة ودوائر الحكومات.
(4)
الفصحى في لغات أوربا
يقول (والت تايلور) في رسالته عن الألفاظ العربية في اللغة الإنجليزية أنه في الفترة ما بعد 1450 ميلادية كان الداخل إلى اللغة الإنجليزية من الألفاظ العربية بمعدل 83 في المائة، وذلك بعد أن اتسعت آفاق التجارة وأسباب المواصلات بين الشرق والغرب، وقد كان للجزيرة الأندلسية أعظم أثر فيما قدمته العربية للغات الأوربية، فالسيادة العربية التي بقيت في تلك الجزيرة بضعة قرون قد طعمت لغتها الأسبانية والبرتغالية بعدد كبير من الألفاظ.
والذي يفتح كتاب دوزي عن الألفاظ في اللغة الأسبانية يجد فيه نحو ألف وخمسمائة كلمة من أصل عربي بعضها يرجع إلى عهود العرب الأولى في الأندلس.
كذلك فقد دخلت إلى أوربا ولغاتها مصطلحات كثيرة عن طريقة جزيرة صقلية وعن طريق الحروب الصليبية.
وقد قسم أنيس المقدسي هذه الألفاظ العربية إلى عدة أنواع:
أولاً: أعلام أشخاص وأمكنة وألقاب خاصة.
ثانياً: ألفاظ ومصطلحات مستحدثة.
ثالثاً: مصطلحات علمية وخصوصاً الفلكية منها كأسماء النجوم (إبرة العقرب) و(الشعري) و(رأس الثعبان).
رابعاً: ألفاظ عربية تبنتها اللغة الإنجليزية أمثال منبر وكنيسة وسراط وفردوس وسكر ومسك وفندق.
وقد اندغمت هذه المصطلحات والألفاظ في اللغة الإنجليزية حتى لم تعد أصولها العربية واضحة.
ومجال القول في هذا الموضوع ذو سعة، وقد تناوله عشرات الباحثين الأجانب:
1- والتر تايلور: ما اكتسبت الإنجليزية من العربية.
2- الأب لامنسي: علاقة العربية بالفرنسية.
3- دوزي: علاقة العربية بالأسبانية والبرتغالية.
4- قاموس أكسفورد.
5- قاموس وبستر.
6- معجم الألفاظ الفلكية: أمين المعلوف.
7- معجم ألفاظ النبات: للدكتور أحمد عيسى.
8- معجم الألفاظ الزراعية: للأمير مصطفى الشهابي.
9- معجم العلوم الطبيعية والطبية: للدكتور محمد شرف.
10- معجم الألفاظ الداخلة في اللغة العربية: للقس الفيسي.
أنور الجندي(/9)
(3)
المؤامرة على الفُصْحى لغة القرآن
(1)
المؤامرة على الفصحى موجهة أساساً إلى القرآن والإسلام
ما تزال المؤامرة على اللغة العربية الفصحى مستمرة لم تتوقف .. لها خيوطها المرتبطة بالاستعمار والاستشراق والتبشير والتغريب .. ثم تضاعفت الدعوة إليها وتنوعت مرتبطة بالصهيونية والماركسية .. وهي مؤامرة تلبس في بعض حلقاتها ومراحلها ثوب البحث العلمي، وتحاول أن تدعي أنها تستهدف الخير والتقدم .. والصورة المعروضة اليوم تخدع الكثيرين. وربما تجد لها من بعض الشباب الذي لم يلم إلماماً كافيا بخطوات المؤامرة، استجابة ساذجة.
وقد كانت المؤامرة على اللغة العربية أساساً تستهدف الدعوة إلى العامية، أو كتابة العربية بالحروف اللاتينية، وأخذت في بعض الأوقات الدعوة إلى معارضة مفاهيم النحو أو نطق الكلمات، وجرت في خلال السنوات الطويلة الممتدة منذ حمل لواءها المبشر الإنجليزي وليم ويلكوكس في مراحل متعددة وانتقلت من مصر إلى المغرب إلى الشام ولبنان، واستطاعت أن تجد لها دعاة ممن يكتبون بالعربية خلفوا أولئك الأجانب الذين حملوا اللواء أول الأمر ..
والذين ينظرون اليوم في مشروع العربية الأساسية الذي تقدمت به بعض الهيئات الأجنبية في حزيران-يونيو 1973 في مؤتمر برمانا، ومنذ أن ارتفعت صيحة الدكتور عمر فروخ بالكشف عنه وإذاعته واهتمام الجهات المختصة به حتى أصدرت إحدى الهيئات الإسلامية وهي: مجمع البحوث بالأزهر تحذيرها الخطير بتوقيع الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر -أقول إن الذين ينظرون في هذا المشروع اليوم يجدونه مرتبطاً كل الارتباط بما أعلنه اللورد دوفرين في تقريره الذي وضعه عام 1882 بعد الاحتلال البريطاني لمصر حين دعا إلى معارضة اللغة الفصحى، لغة القرآن، وتشجيع لهجة مصر العامية واعتبارها حجر الزاوية في بناء منهج الثقافة والتعليم والتربية في مصر .. وحين قال في تقريره بالحرف الواحد "إن أمل التقدم ضعيف في مصر طالما أن العامة تتعلم اللغة الفصحى العربية -لغة القرآن- كما هي في الوقت الحاضر" ..
ثم لم يلبث المبشر وليم ويلكوكس الذي كان يعمل مهندساً في الحملة الاستعمارية على مصر أن دعا في خطابه المشهور عام 1883 بنادي الأزبكية إلى نشر اللغة العامية والتأليف بها. وقد أطلق على خطبته اسماً خطيراً هو: "لماذا لا توجد قوة الاختراع عند المصريين ..!"، وكانت إجابته بالطبع: "إن السر ذلك هو اللغة العربية الفصحى، وإن سبيل إيجاد قوة الاختراع هو اتخاذ العامية بديلاً ..!".
وتوالت المحاولات الماكرة اللئيمة التي كانت تستهدف أمراً واحداً هو عزل المسلمين عن بيان القرآن وعن أسلوبه وشق وحدة اللسان والكلمة بإعلاء العاميات في مختلف أنحاء البلاد الإسلامية حتى تنمو تلك العاميات وتصبح لغات منفصلة، وعندئذ يصبح القرآن (تراثاً) يترجم ويقرأ عن طريق القواميس. وهم يعضون تجربة اللغة اللاتينية بالنسبة للإنجيل في أوربا كصورة نموذجية للمحاولة، ويجهلون مدى الفارق البعيد بين اللغتين، وينسون أن الإنجيل لم ينزل باللغة أصلاً؛ وإنما ترجم إليها ..
2- ولما عجزت خطة العامية، قدمت خطة الكتابة بالحروف اللاتينية. واضطلعت المحافل اللغة الرسمية في تقديم عشرات من المشروعات: كان أخطرها مشروع عبد العزيز فهمي باشا الذي قوبل بالسخط والنكير من جميع حماة اللغة العربية والذائدين عنها، وإن كان أتباع التغريب من أمثال لطفي السيد وطه حسين عجزوا عن أن يعلنوا رأياً صريحاً قاطعاً. ذلك أن لطفي السيد نفسه كان من أوائل المصريين الذين حملوا لواء الدعوة إلى العامية بعد أن مهد لها: (ويلكوكس – ويلمور – دنلوب).
3- ثم كانت هناك حطة ثالثة هي: (اللغة الوسطى) وتلك دعوة حمل لواءها فريد أبو حديد وتوفيق الحكيم وأمين الخولي. وهي محاولة ماكرة لفصل اللغة العربية الفصحى عن لغة الكلام ولغة الكتابة بإعلاء اللهجات واعتماد اللغة الصحفية لغة أساسية. فلا هي عامية ولا هي فصحى؛ ولكنها تنزل درجة عن الفصحى لتنفصل عن بيان القرآن وتكون مقدمة لمرحلة أخرى تصل بها إلى العامية.
4- وجاءت بعد ذلك محاولة خطيرة تولاها وتصدى لها الدكتور طه حسين، هي: تبديل الخط العربي وقواعد النحو باسم (تطوير اللغة) تحت اسم تهذيب أو تيسير أو إصلاح أو تجديد، وهي أسماء لبقة مرنة تخفي وراءها هدفاً خطيراً هو –كما عبر عنه الدكتور محمد محمد حسين: "التحلل من القوانين والأصول التي صانت اللغة خلال خمسة عشر قرناً أو يزيد) وهي القوانين التي ضمنت لنا القدرة على مطالعة تراث المسلمين والعرب خلال أربعة عشر قرناً.(/1)
فإذا ما تحققت هذه الخطة التي تسمى بالتطوير أو التهذيب وتحللنا من هذه الأصول والقوانين والقواعد التي صانت اللغة هذه القرون، كانت النتيجة هي تحقيق الهدف. في تبلبل الألسنة بين المصري والشامي والمغربي وما بين الإيطالي والأسباني .. وتصبح قراءة القرآن والتراث العربي والإسلامي متعذرة على غير المتخصصين من دارس الآثار ومفسري الطلاسم .. وعندئذٍ تصبح وحدة العرب مقدمة لوحدة المسلمين عمل باطل ..!.
يقول الدكتور محمد محمد حسين: "ليس الخطر في الدعوة إلى العامية، ولا في الدعوة إلى الحروف اللاتينية ولا إلى إبطال النحو وقواعد الإعراب أو إسقاطها؛ وإنما الخطر في هؤلاء العتاة الذين يعرفون كيف يخدعون الصيد بإخفاء الشراك .. إن الخطر الحقيقي هو في الدعوات التي يتولاها خبثاً الهدامون مِمَن يخفون أغراضهم الخطيرة ويضعونها في أحب الصور إلى الناس ولا يطمعون في كسب عاجل، ولا يطلبون انقلاباً كاملاً سريعاً .. إن الخطر الحقيقي هو قبول (مبدأ التطوير) نفسه؛ لأن التسليم به والأخذ فيه لا ينتهي إلى حد معين أو مدى معروف يقف عنده المتطورون، ولا ريب أن التزحزح عن الحق كالتفريط في العرض.
5- كانت هناك ولا تزال خطة أخرى (وهذه الخطط كلها تعمل داخل المؤسسات) مؤسسات اللغة والتعليم. تلك هي بدعة إصلاح اللغة .. وقد ظن الكثير من البسطاء أن المسألة يراد بها سهولة الأداء، فالمصطلح خادع وماكر وسيء النية أيضاً .. وقد كشف هذه المؤامرة الدكتور علي العناني حين قال: "إن الإصلاح في الألفاظ والتراكيب والأساليب لا يكون إلا بتغيير قواعد أبنية اللغة وهي (الصرف) وتحوير ضوابط إعرابها والأحوال العارضة على الألفاظ باختلاف الوضع في الجملة وهو (النحو) وتبديل الموضع اللفظي في المفرد والمركب من حيث الحقيقة والمجاز والاستعارة والكناية وهو (البيان) وبتغيير وإهمال ضوابط الفصاحة والبلاغة وهي (المعاني)، ومعنى إصلاح قواعد الصرف انتقالاً من الصعب إلى السهل إنما يعني أن نهدم علم الصرف من أساسه وننسخه نسخاً تاماً لتعدد قواعده وتنوع ضوابطه، وبعد أن يتم الهدم يبني المصلحون على أنقاضه صرفاً جديداً محدود القواعد، قليل التنويع، خفيفاً على العقل والفكر، سهلاً على الذهن والفهم .. وكذلك الأمر في إصلاح قواعد النحو، وإصلاح علوم البلاغة.
وبهذا يكون معنى الإصلاح في اللغة نسخ العقلية العربية وما فيها من ثقافة نظرية وعملية. ذلك أن الإصلاح هو التغيير، والتغيير يعني الإزالة والوضع.
ويقول الدكتور العناني أن تغيير قواعد اللغة العربية صرفاً ونحواً بالوضع فقط، أو بالوضع والإزالة معناه إحداث لغة جديدة بقواعد جديدة. وهذه اللغة العربية الجديدة إن صح اتصالها بالعربية الحالية المدونة اتصال اللهجة بالأم، فإنه تعبد عنها شيئاً فشيئاً حتى تختفي معالم الصلات بينهما، أو تكاد وعندئذ تكون اللغة العربية الحالية من اللغات الميتة ..
ونقول أن هذا ما يحلم به سعيد عقل، وأنيس فريحة، ولويس عوض .. وما كان يتمناه سلامة موسى، والخوري مارون غصن وطه حسين ولطفي السيد .. ومعنى هذا أن يصبح كل تراث العربية البالغ عشرات الآلاف من الكتب في مختلف مجالات الشريعة الإسلامية والأدب، والحضارة والفكر والفن عبارة عن توابيت في دار الآثار والمتاحف .. ويقول الدكتور علي العناني: "إن قواعد اللغة العربية وُضِعت طبقاً لنصوص القرآن والحديث والمسموع من العرب، فالتغيير في هذه القواعد هجر للقرآن والحديث.
كذلك فإن الدين الإسلامي وهو عقيدة وشريعة قد استنبطت أحكامه فيما يختص بالعقيدة والتشريع في العبادات والمعاملات من الكتاب والسنة وعمل الرسول والقياس والاجتهاد. وكل هذه الأركان والينابيع لا يمكن أن يستنبط منها حكم إلا بواسطة مبادئ خاصة وقوانين معروفة بعلم الأصول. وأساس هذه المبادئ والقوانين الراسخ أو دعائم علم الأصول إنما هي فهم لغة العرب: لغة القرآن والرسول بما وضع لها من القواعد الصرفية والنحوية وضوابط علوم البلاغة، وإذا أصلحت هذه الضوابط وتلك القواعد بالإزالة والوضع انهدم أساس علم الأصول وتداعت دعائمه، وإذا انهدم الأساس وتداعت الدعائم انهدم أيضاً ما يرتكز عليها، وهو هذا العلم .. وإذا وصل هذا العلم الأساسي في استنباط أحكام العقيدة ومسائل الشريعة إلى التداعي، تداعت معه أيضاً طريقة الاستنباط وفهم ما استنبط ودون بالفعل، وضاعت العقيدة واحتجبت الشريعة وعدنا إلى الجاهلية الأولى.(/2)
6- هذه هي خلفية الصورة البراقة التي نراها اليوم يحملها مجموعة من أعداء الإسلام واللغة العربية ويدافعون عنها وينقلونها من ثوب إلى ثوب، ومن أسلوب إلى أسلوب، كلما انكشف لهم جانب أعادوا تشكيله في صورة أخرى، وهم الآن على أبواب التعليم، وهي خطوة خطيرة إذا سمح بها وأعين عليها. ومن هنا نجد عبارة شخ الأزهر واضحة في معارضة المشروع حين يقول: "إن هذا المشروع واضح الهدف في هدم معالم اللغة العربية، وتبعاً لذلك البعد بها وبأهلها عن القرآن الكريم. ثم ما ينتج عن ذلك من مساس بالإسلام وأصوله كما هي مصونة في كتاب الله وسنة رسوله الكريم، ذلك إلى إيجاد الهوة الواسعة بين ما تئول إليه اللغة (لا قدر الله) وما احتوته من تراث في صورتها السليمة يمتد عبر أربعة عشر قرناً في نحو أربعة عشر إقليماً ..
ولذلك فإن مجمع البحوث الإسلامية يرى في هذا المشروع خطراً داهماً على اللغة العربية والعلوم الإسلامية، من شأنه أن يقطع صلة المسلم بالقرآن الكريم والسنة النبوية والتراث الفقهي الذي يعتمد فيما يعتمد عليه على دلالة المفهوم والمنطوق وأساليب القصر، والتقديم والتأخير وما إلى ذلك مما لا يتحقق في لغة أساسها العامية. بل إنه يقطع صلة المسلم بالتراث العلمي الإسلامي بصفة شاملة.
ومَن يطالع تقرير الدكتور عمر فروخ يحس بالخطر الكامن واضحاً في عبارات صريحة، يقول: "وفي أثناء الجلسات الرسمية للمؤتمر، وفي الفترات المتعددة بين الجلسات جرت بحوث واقتراحات وملاحظات جعلتني = خيفة شديدة من المشروع .. إن كل ما دار في مؤتمر برمانا كان يولد فيّ شعوراً بأن الغاية الأولى والأخيرة من المؤتمر كان الاهتمام باللغة العامية .. لقد حضر هذا المؤتمر عدد قليل من اللبنانيين ونفر من العرب غير اللبنانيين (وكثرة) من الأجانب لفتت نظري أن جلهم من الرهبان اليسوعيين ..
ونحن نقول إنها حلقة جديدة من حلقات المؤامرة أخش أنم تقف منها المجامع العربية موقع الصمت أو التردد؛ حيث نرى بعض رجالها يؤمنون بما يؤمن بها المستشرقون ويدافعون عنه، وخاصة في محاولة تطبيق علم اللغات الحديث على اللغة العربية، وهو علم قامت نظرياته ومستخلصاته على أساس دراسة واسعة للغات الأوربية. وهذه اللغات لها تاريخ وتحديات وطرق. أما تاريخها فإنها مشتقة من اللغة اللاتينية ولغات أخرى. وقد كانت في أول أمرها لهجات عامية ثم استقلت بنفسها تحت تأثير عوامل كثيرة .. أما التحديات فإن ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة القومية الأوربية جعل الموقف جد مختلف بينها وبين العربية .. أما الطريق فهو أن اللغة العربية ارتبطت بكتاب منزل أعطاها وحماها وجعلها ليست لغة العرب وحدهم؛ وإنما لغة الثقافة الإسلامية بعامة .. ومن هنا فإن محاولة القول الذي تردد كثيراً على ألسنة طه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد، وما يزال يتردد على ألسنة بعض من يتولون أمر اللغة، بأن اللغة العربية لغتنا ونحن أصحابها، ولنا حق التصرف فيها، هو قول باطل وغير صحيح ومردود؛ ويرده واقع التاريخ ومنطق البحث العلمي .. وربما كان قولاً صحيحاً بالنسبة للغات الأوربية، أما بالنسبة للغة العربية فإنه أمر جد مختلف؛ ذلك أن اللغة العربية منذ أن نزل التنزيل بها فقد أعطاها أبعاداً تختلف وواقعاً خاصاً ..
فاللغة العربية منذ ارتبطت بالقرآن الكريم أصبحت ليست لغة أمة هي العرب فحسب؛ بل هي لغة فكر وعقيدة ودين وثقافة للمسلمين جميعاً الذين يبلغ تعدادهم أكثر من 700 مليون.
ومن هنا فإن ارتباطها بالقرآن هو وحده الذي حماها من أن تتحول لهجاتها إلى لغات مستقلة، وأن يقرأ تراثها بقاموس .. وسيظل الترابط بين المسلمين ولغة الضاد الفصحى لغة القرآن قائماً إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها ..
وبعد: فإن مؤامرة مشروع العربية العامية يجب أن يشجب بقوة من جميع الهيئات الإسلامية وفي مقدمتها رابطة العالم الإسلامي التي تمثل اليوم مكان الأمم لمختلف المنظمات الإسلامية. وهي ما هي غيرة وقوة وإيماناً.
(2)
الفصحى: لغة القرآن
لغة ألف مليون: هم المسلمون
وليس مائة مليون هم العرب وحدهم !
ما تزال قوى التغريب والغزو الثقافي تطارد اللغة العربية الفصحى مطاردة شديدة: وفي مؤتمر المستشرقين الأخير دارت مناقشات وأبحاث كثيرة حول ما يسمونه اللغة العربية الحديثة وحول اللهجات العامية التي يسمونها لغات.
وهناك اتجاه في بعض الجامعات التي يشرف على الدراسات الإسلامية والعربية فيها يهود صهيونيون يرمي إلى المبالغة في أهمية اللهجات العامية والعناية بدراستها باعتبارها اللغة المستعملة، وهناك دراسات عن اللهجات المصرية والتونسية والمغربية.(/3)
ويواجه الأساتذة العرب هذه الحركة بحركة مضادة معادية لهذا الاتجاه يقررون فيها ضرورة التمسك باللغة الفصحى لغة القرآن ويكشفون فساد هذا المنهج التعريبي الذي تحمل لواءه اليهودية العالمية لحساب الصهيونية وإسرائيل، ونحن نعرف أن الهدف هو القرآن والإسلام والقضاء على الوحدة الفكرية الجامعة تحت لواء الإسلام في لغة الأمم.
وفي هذا نذكر ذلك النذير الذي أصدره الأستاذ مصطفى صادق الرافعي منذ خمسين عاماً حين قال:
"إن العربية لغة دين قائم على أصل خالد هو القرآن الكريم، وقد أجمع الأولون والآخرون على إعجازه بفصاحته، إلا مَن لا حفل له به مِن زنديق يتجاهل أو جاهل يتزندق، ثم إن فصاحة القرآن يجب أن تبقى مفهومة ولا يدنو الفهم منها إلا بالمران والمداولة ودرس الأساليب الفصحى والاحتذاء بها وأحكام اللغة والبصر في حقائقها وفنون بلاغتها والحرص على سلامة الذوق بها، وكل هذا يجعل الترخص في هذه اللغة وأساليبها ضرباً من الفساد، والحال الخاصة في فصاحة هذه اللغة ليست في ألفاظها ولكن في تركيب ألفاظها".
ويعني هذا الذي يقوله الأستاذ الرافعي رحمه الله أن اللغة العربية ارتبطت بالقرآن فأصبحت لغة أمة: ولغة فكر وثقافة ولغة عبادة للمسلمين جميعاً الذين يبلغ تعدادهم ألف مليون، وليست لغة مائة مليون هم العرب وحدهم، ولقد حماها ارتباطها بالقرآن مِن أن تتحول لهجاتها إلى لغات مستقلة وحال بينها وبين أن يُقرأ تراثها بقاموس كما يُقرأ تراث اللغات الأوربية. وسيظل الترابط بين المسلمين وبين لغة الضاد قائماً مادام القرآن الكريم وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
إن اللغات الأوربية حين انسحبت من اللغة اللاتينية إلى اللهجات القومية فأصبحت لغات خاصة انقطعت عن تراثها القديم، وقد أصبح من شأن هذه اللغة أن تتطور وتتطور وهي في كل فترة تنتقل من اللغة المكتوبة إلى لغة الكلام التي تصبح بدورها لغة كتابة، ومن ثم فإن أوربا لا تستطيع أن تقرأ شكسبير أو ملتون أو غيرهما من أعلام الأدب إلا بواسطة القاموس، وليس بين اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية وبين هذا التراث أكثر من أربعمائة عام، بينما يقرأ العرب والمسلمون اليوم امرؤ القيس وبينهم وبينه أكثر من ألف وخمسمائة عام كأنما ألقى شعره في نفس اليوم، ولو أن إنساناً عربياً من الجاهلية بعث اليوم لاستطاع أن يتحدث إلينا ونتحدث إليه ويفهم منا ونفهم منه.
عن القول الباطل الذي يردده هؤلاء التغريبيون من قولهم أن اللغة العربية هي لغتنا ونحن أصحابها ولنا حق التصرف فيها هو قول غير صحيح يرده واقع التاريخ ويدحضه منطق البحث العلمي.
وقد يكون صحيحاً بالنسبة لعلم اللغات الذي استمد مقوماته من دراسة اللغات الأوربية وأقام نظرياته على أساس واقعها وهو إذ يصح بالنسبة لكل اللغات فإنه لا يصح بالنسبة للغة العربية التي احتضنها القرآن فنزل بها ومن ثم فقد أعطاها "أبعاداً خالدة" تختلف اختلافاً واسعاً عن اللغات وقد تتباين ويتعارض معها، ذلك أن اللغات الأوربية ترجمت كتابها المقدس إلى لغاتها الجديدة، وكانت موجة القوميات الأوربية عاملاً على أن تقيم من لهجاتها لغات خاصة منفصلة عن اللغة الأم، كما انفصلت سياسياً عن النظام السياسي الغربي الذي كان قائماً ومتصلاً بالكنيسة الغربية الواحدة، وهذا أمر يختلف في اللغة العربية تماماً؛ فإن المسلمين لم يترجموا قرآنهم وما يزال يقرؤه الهندي والفارسي والتركي والبربري وغيرهم من الأجناس واللغات بنفس اللغة العربية التي نزل بها، ولذلك فهو قد أقام للغة العربية كياناً خاصاً حماها من التحول إلى العاميات، ومن ثم فإن علم اللغات الحديث الذي تجري محاولة تطبيقه على اللغة العربية هو علم قاصر قامت مستخلصاته على أساس دراسة اللغات الأوربية وظروفها، كما ذكرت ولكنه لم يدرس ظروف اللغة العربية.
ولقد اعتقد المسلمون على مدى القرون، وهو الحق: أن لغتهم جزء من حقيقة الإسلام؛ لأنها كانت ترجماناً لوحي الله ولغة لكاتبه ومعجزة رسوله ولساناً لدعوته، ثم هذبها النبي الكريم بحديثه ونشرها الدين بانتشارها وخلدها القرآن بخلوده، فالقرآن لا يسمى قرآناً إلا بها والصلاة لا تكون صلاة إلا بها، وأن "الأرجانون" لأي فكر أو "منهج بحث" لأي فكر إنما يستند إلى خصائص اللغة ولذلك فإن منهج البحث العلمي العربي إنما يستند إلى خصائص اللغة العربية ولا يستطيع أن يستند إلى خصائص لغة أخرى، فلكل لغة منهجها الفكري القائم على معانيها ومضامينها، وكما هاجم المسلمون المنهج الأرسطي وقالوا أنه مستند إلى خصائص اللغة اليونانية التي تخالف اللغة العربية فكذلك الأمر بالنسبة للمنهج الغربي الوافد (ماركسياً أو ليبرالياً أو فرويدياً أو وجودياً)؛ ذلك لأن الفكر الإسلامي منهج البحث الخاص به ومنهج المعرفة الذي يمثله والمستمد من اللغة العربية أصلاً ومن التوحيد الخالص.(/4)
ولا ريب أن محاولة فصل اللغة العربية الفصحى عن لغة الكلام بإعلاء اللهجات أو بخلق ما يسمونه لغة وسطى أو لغة الصحافة، كل هذا له خطره وله أبعاده ومخاطره.
إن النظرة اليسيرة قد ترى في ذلك شيئاً مقبولاً، ولكن النظرة العميقة تكشف عن محاذير عميقة أبرزها: الانفصال عن مستوى البيان القرآني؛ ذلك أنه من الضروري أن تظل اللغة العربية متصلة ببيان القرآن ومرتبطة به، فإذا بعدت عنه كان من أخطار ذلك أن تنفصل أو تنعزل عن مستوى البيان القرآني. فإذا مر زمن طال أو قصر انقطعت الصلة بين البيان والأداء العربي وبين القرآن.
واللغة العربية: لغة غنية خصبة عملاقة، يقول الخليل بن أحمد في كتاب العين: "إن عدد أبنية كلام العرب 12 مليون و305 ألف و412 كلمة"، ويقول الحسن الزبيدي أن ما يستعمل من ألفاظ اللغة العربية هو 5620 لفظاً فقط. وعندما نزل بها القرآن أزاحت السريانية والكلدانية والنبطية والآرامية واليونانية والقبطية عن مكانها في مصر والشام وأفريقيا وأدالت منها قبل أن ينقضي قرن واحد، فلما بلغت القرن الثالث تحولت الصلوات في الكنائس إليها، ثم كتبت بها اللغات التركية والفارسية والأوردية والأفغانية والكردية والمغولية والسودانية والأبجية والساحلية. كما كتب بها لغة أهل الملايو وقد حدث هذا منذ أكثر من ألف عام.
ثم دخلت إلى اللغات الأوربية كالفرنسية والألمانية والإنجليزية، وفي اللغة الإنجليزية وحدها أكثر من ألف كلمة عربية. ومن الناحية العلمية فهي تفوق أضخم اللغات ثروة وأصواتاً ومقاطع؛ إذ بها 28 حرفاً غير مكررة. بينما في اللغة الإنجليزية 26 حرفاً ومنها مكرر، كذلك فإن اللغة العربية ثراء في الأسماء فيها 400 اسم للأسد و300 للسيف و255 للناقة و170 للماء و70 للمطر؛ لكل واحد منها استعماله الخاص في حالة معينة.
ولقد عرف رجل من أشد خصوم الإسلام قدر اللغة العربية فكتب عنها في كتابه اللغات السامية، ذلك هو أرنست رينان فقال:
"من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب حل سره: انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ ذي بدء، فبدأت فجأة في غاية الكمال، سلسلة أي سلاسة، غنية أي غنى، كاملة؛ بحيث لم يدخل عليها منذ يومنا هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة محكمة ولم يمضِ على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم بالعربية ليفهمها النصارى، ومن أغرب المدهشات أن نبتت تلك اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمة من الرحل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها، وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم أُعلنت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغير يذكر حتى أنه لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة، ولا تكاد تعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى، ولا نعلم شيئاً عن هذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدريج وبقيت حافظة لكيانها خالصة من كل شائبة".
هذا وقد أثبت الأستاذ كامل كيلاني أنه ما من فن أو علم أو معنى في شعر أو نثر يتحدث في أدب من الآداب إلا وله ضريب في اللغة العربية، وقد جمع 18 صورة من هذه المقابلات، بينما وجد أن هناك 25 صورة من الأدب العربي لا ضريب لها في الآداب الغربية.
وقد شغلت كلمة (الوفاء) في اللغة العربية من لسان العرب صفحات 278، 279، 280، 281 من جزئه العشرين، بينما لا توجد هذه الكلمة في بعض اللغات كلية.
ولقد كتب جول فيرن الروائي المشهور قصة خيالية عن قوم شقوا أعماق الأرض طريقاً إلى جوفها فلما خرجوا سجلوا أسماءهم باللغة العربية، فلما سُئِل عن ذلك قال: لأنها لغة المستقبل.
ولذلك فمن الخطر فصل اللغة العربية عَن مستوى بيان القرآن، وذلك هو هدف التغريب الذي يعرفه جيداً جميع المستشرقين.
يقول بول كراوس: "لا لغة عربية بدون قرآن".
ويقول سيديو: أن "اللغة العربية حافظت على وجودها وصفاتها بفضل القرآن".
ومن ثم فإن كل هذه المحاولات لإفساد جوهرها هي بمثابة هجوم على الإسلام يتخفى وراء عبارات كاذبة مضللة.
(3)
وكانت مجلة البيان الكويتية قد اقترحت أن يطلق عام 1397 عام اللغة العربية الفصحى لغة القرآن، ومن الحق أن اللغة العربية في أشد الحاجة إلى هذه النصرة والتجمع والمؤازرة في هذه المرحلة التي يمر بها العالم الإسلامي والوطن العربي بالذات؛ حيث تتجمع قوى كبيرة للتآمر عليه وقد ارتفعت الأصوات: أصوات دعاة اليقظة الإسلامية بالتحذير من تلك الأخطار التي توجه إلى اللغة العربية الفصحى ..
فإن العدو عندما عجز عن مواجهة القرآن الكريم لجأ إلى مهاجمته عن طريق اللغة في مجال البيان، ولجأ إلى التشكيك فيه عن طريق السنة في مجال الفقه. وعلى شباب المسلمين المثقف أن يحذر مما يوجه الآن إلى اللغة والسنة من مؤامرات وتحديات ..(/5)
ولقد صدرت في السنوات الأخيرة مؤلفات ودراسات تكشف عن هذه المحاذير، في مقدمتها "الزحف على لغة القرآن" للأستاذ الجليل أحمد عبد الغفور عطار، و"العامية" للدكتورة نفوسة، وصدر لكاتب هذه السطور: "اللغة العربية بين حماتها وخصومها"، ومنذ وقت قريب عُقد في الخرطوم مؤتمر بحث تطوير دراسة اللغة العربية، قرر توحيد مناهج إعداد معلمي اللغة العربية والعمل على تأكيد قرار معلمي أفريقيا الخاص باعتبار اللغة العربية إحدى ثلاث لغات أفريقيا أساسية يدرسها كل أفريقي مع لغته الأصلية، كما أوصى بالإسراع في تعريب التعليم الجامعي.
والواقع أن مجامع اللغة التي قدمت عدداً أوفر من المصطلحات قد أصبحت اليوم محتواة بمجموعة من خصوم اللغة العربية الذين استطاعوا السيطرة عن طريق ما أسموه دراسات علم اللغة والأصوات وهم الذين يحملون لواء الدعوة إلى تشجيع العاميات واللهجات ويفسحون أمامها الطريق لتدخل القواميس ولتسطير على منهجية البيان العربي الأصيل الذي فرضه القرآن الكريم والذي يلتزم أهل العربية بالاتصال به والاستمرار في مستواه ..
والمؤامرة معروفة ومدخلها: تطوير اللغة، والقول بوضع اللغة في خدمة العصر، وهذه كلها عبارات لم تعد تخدع أحداً، ومعروف هدفها وهو الفصل بين العرب وبين لغة القرآن التي جمعتهم إلى محاولة الوصول باللهجات العامية في كل قطر إلى لغة تمزق الوحدة الفكرية والسياسية الجامعة بين العرب أنفسهم وبين العرب والمسلمين. ولقد قاومت اللغة العربية الفصحى محاولات مستمرة لم تتوقف وصمدت صموداً عنيداً أمام جميع التحديات الاستعمارية في المغرب العربي وفي سوريا وفي مصر، وفي كل مكان حيث حاول النفوذ الأجنبي ضربها ضرباً مزدوجاً باللغات الأجنبية وبإعلاء اللهجات العامية .. قاومت اللغة العربية كل المحاولات من إدماج وإزالة وإبادة؛ لأنها مدينة لقاموسها الجوهري ولنظام بناء الكلمات وتركيب العبارات والنحو والصرف، ومن هنا كانت دعوتنا إلى نقل العلوم والتكنولوجيا من أفق اللغات الأجنبية إلى أفق اللغة العربية، فنحن لا نطالب بأن ينقل الفكر؛ وإنما نطالب بأن ينقل العلم إلى أفق اللغة العربية لا أن ينتقل العرب والمسلمون إلى أفق اللغات الأجنبية. ولقد واجهت اللغة العربية الفصحى في العصر الحديث مقاومة ضخمة في كل مكان: فقد حيل بينها وبين نومها الطبيعي وامتدادها مع انتشار الإسلام إلى آفاق العالم وخاصة في أفريقيا، وتشير التقارير إلى أن اللغة العربية خارج الوطن العربي هي أكثر اللغات الوطنية انتشاراً في أفريقيا المعاصرة، وهناك دول تعتبر العربية فيها أكثر اللغات الوطنية انتشاراً. في موريتانيا وتشاد ومالطة، فانتشار العربية في موريتانيا لا يقل عن انتشارها في المملكة المغربية، فاللهجات البربرية المختلفة هي وسيلة التعامل المحلية عند حوالي ثلث سكان موريتانيا، ولكن نصف أبناء البربرية في موريتانيا يستطيعون التعامل في أمور الحياة باللغة العربية وفي المناطق الممتدة من السنغال ومالي إلى تشاد فإن العربية مستخدمة هناك في مناطق كثيرة كلغة أُم أو كلغة تداول، بل إن العربية هي أكثر اللغات استخداماً في المنطقة الممتدة من تمبكتوا (مالي) إلى كانم وواداي إلى غرب السودان.(/6)
ويقول التقرير أن أهم تجمع بشري يتعامل بالعربية في هذه المنطقة يوجد في تشاد؛ حيث يعيش فيها حوالي مليون و800 ألف مِمَن يستخدمون اللغة العربية كلغة أُم. والعربية بهذا هي أكثر اللغات الوطنية انتشاراً في تشاد؛ فأبناء اللغات الأخرى يكونون 40 في المائة فقط من سكان تشاد، وهناك منطقة لم يرتبط تعريبها بالإسلام وهي جزيرة مالطة: المنطقة الوحيدة التي تخلو من المسلمين ولغة الحديث فيها إحدى اللهجات العربية، أما في موريتانيا وتشاد ومالطة فإن العربية قاصرة على أمور الحياة اليومية البسيطة، ولكن العربية بعيدة عن هذه المناطق في المجالات الثقافية واللغة السياسية، وعلى العكس من ذلك نجد الموقف اللغوي في الصومال حيث تسود في أمور الحياة اليومية البسيطة الواحدة لغة واحدة هي اللغة الصومالية، ولكن أبناءها يتوسلون بالعربية في أمور الثقافة الجادة والتعليم، ويهتم الصوماليون اهتماماً كبيراً بتعليم اللغة العربية ويحسن كثير منهم التعامل بها فتصبح بمثابة اللغة الأم الثانية .. وقدر ارتبط تعليم العربية في الصومال بحفظ القرآن الكريم وبالثقافة الدينية عموماً، غير أنه في ظل الحكم الماركسي الحالي يعاني السكان والعربية من مشاكل كثيرة ليس أقلها قفل المعاهد الإسلامية ومنع الخطابة باللغة العربية .. إنها محنة نعتقد أنها سوق تزول عن شعب الصومال .. وهناك دول، يشكل أبناء العربية فيها أغلبية سكانية ولكنهم يكونون أقليات لغوية هي (مالي والنيجر وإيران وأريتريا وأربكستان وأفغانستان)، وقد لاحظ الرحالة الغربيون أن العربية منتشرة من شمال السنغال ومنطقة النيجر إلى تمبكتو، ثم من بورنو إلى دارفور في السودان .. والمنطقة التي ينقطع فيها استخدام العربية هي المنطقة من بورنو إلى تمبكتو. كما أشار التقرير إلى أن أكبر تجمع بشري يستخدم العربية في دولة مالي والمناطق المتاخمة لها هم (ذووحسان)، وقد تُعرف لهجتهم العربية باسم (الحسانية)، وهم الذين يُسميهم ابن خلدون (عرب المعقل)، وأغلب الظن أنهم دخلوا هذه المنطقة قبيل دخول الهلالية إلى المغرب. كما توجد أقليات عربية اللغة في عدد من الدول الأسيوية، وفي مناطق أخرى من إيران تعيش جماعات تتعامل باللغة العربية في حياتها الخاصة ويقدر عدد هؤلاء بنصف مليون ..
أما في تركيا فتعيش جماعات عربية في منطقة ماردين ويقدر عدد أبناء العربية في تركيا بحوالي رب مليون نسمة، وهناك عدة جزر لغوية صغيرة في أفغانستان وأزبكستان ..
ويقدر الباحثون أن اللغة العربية الآن هي لغة حوالي مائة وخمسة عشر مليوناً من العرب (1970)، أما الجماعات غير العربية فهي لا تزيد عن خمسة ملايين نسمة، وقد لوحظ ازدياد انتشار العربية في الأجيال الصاعدة مع انتشار التعليم ويصدق هذا على جنوب السودان رغم البطء الشديد في نشر التعليم هناك، وأكبر جماعات بشرية غير عربية في البلاد العربية هي جماعات الأكراد (مليون) والبربر (4 ملايين) والنوبيون والمهرة وأبناء لغات جنوب السودان. وفي أقصى جنوب جزيرة العرب تجد في مناطق من جمهورية اليمن الشعبية عدداً من المتحدثين بلغة سامية قديمة هي لغة المهرية، ويعتبر النوبيون أهم تجمع بشري غير العربي في مصر (ربع مليون).
ولا ريب أن هذه الإحصائيات تعطي صورة النمو المتجدد للغة العربية في العالم الإسلامي بالرغم من كل محاولات حصر اللغة الفصحى وحجبها وتغليب اللهجات العامية واللغات الأجنبية عليها، وبالرغم من محاولات تغيير أبجديات اللغات في الملايو وبعض البلاد الأفريقية ..
ولقد كان المرحوم مصطفى صادق الرافعي من أوائل المجاهدين في الدفاع عن اللغة الفصحى، حتى وصف بأنه (حارس لغة القرآن)، يقول:
"قد أدهشتني الكلمة التي جرت على قلم يوسف حنا من اعتقادي أني المختار لحراسة لغة القرآن، فأنا لم أقل له هذا ولم أعتقدها مطلقاً، ومن أجل ذلك أثّرت فيّ هذه الكلمة تأثيراً عظيماً وأعددتها أنباء من الغيب واعتقدتها والظاهر أنها كذلك" ..
والحق أن كتاب الرافعي (إعجاز القرآن) كان بمثابة القنبلة الخطيرة التي ألقاها الرافعي في جو ظن خصوم الإسلام والعربية أنهم قادرون فيه على الهدم دون أن يتلفت إليهم أحد ..
ولكن اليقظة الإسلامية كانت تنطلق دائماً مكتسحة كل هذا الركام الذي شيده الأعداء. وفي هذا المجال يذكر رجل آخر من المجاهدين في سبيل اللغة العربية هو أحمد السكندري:
كان الدكتور منصور فهمي يقول كلما واجهتهم في المجتمع اللغوي مشكلة:
"انتظروا السكندري، أرجئوا المسألة فعند السكندري علم ما أشكل علينا ولديه حل ما استعصى علينا"، فلما مات السكندري قال منصور فهمي: "الآن يموت حلال المشكلات والمرتجي في اللغة للمستعصيات". وكان السكندري يقول: "لا يجوز التعريب إلا إذا تحقق العجز في نقل أسماء ومصطلحات الفنون والصناعات وأنواع النبات والحيوان والجماد".(/7)
وهو واحد من مؤسسي المجمع ومن أكثر المتحدثين فيه، وقد كان عضواً في لجنة الرياضيات والعلوم الطبيعية والكيميائية وعلوم الحياة والطب، بل لقد كان عضواً في سبع لجان من أحد عشر لجنة، وهو من ذلك الرعيل الأول لدار العلوم: الخضري والمهدي وحفني ناصف -أولئك الذين كانت لم مواقف حاسمة إزاء المؤتمرات التي وجهت إلى اللغة في مطالع العصر ..
ومنذ بدأت فكرة التجمع لحماية اللغة والنظر في أمرها كان السكندري في المقدمة وهو قد شاهد توفيق البكري وحمزة فتح الله والشيخ الشنقيطي وحفني ناصف عندما احتجوا لأول مرة ووضعوا عشرات من الكلمات، ثم جاء بعدهم نادي دار العلوم فوضع مئات الكلمات وشارك هو في هذه اللجنة ..
والسكندري: أزهري درعمي معاً: شغف باللغة وتخصص فيها وكان من أصحاب العزائم، كان مؤمناً بمبدأ لا يتزعزع: أن اللغة تكونت من عناصر تمت للأبدية والخلود، فعنده أن عناصر هذه اللغة تنسحب إلى ماضٍ لا أول له، وفي طاقتها أن تمد إلى مستقبل لا آخر له، فاللغة عنده ماضيها وحاضرها ومستقبلها وحدة قوية متماسكة تتسع لكل المصطلحات. وكان يُعَد من المتشددين في القديم. وقد جعل المجمع بالغ الحرص على توفير المظان القديمة، شديد العناية بممارسة ما احتوته من مدخور العربية وكنوزها. ولم تكن معاركه داخل المجمع وحده؛ ولكنه كان معاركاً في كل مجال من أجل اللغة. وعندما كان أحمد زكي باشا شيخ العروبة يكتب كان يتحاماه كثيرون، ولكن شيخ العروبة أراد أن يكتب عن اللغة ويتعرض لكلمات: "على الحركرك، ويا الله)، فكتب رأيه، ثم سأل أصدقائه وطالب السكندري بالذات أن يدلي برأيه في الكلمتين ..
وقال السكندري: "ظن الباشا أن صمت مثلي إنما هو علم يكتمه ولا والله ليس إلا قلة الاعتداد بما خطر على بالي والاستهانة بما سنح لي في تخريج هذا الحرف (على الحركرك)، واللهُ يقول (ولا تقف ما ليس لك به علم)، فأما إذا أحرجني الباشا مرتين ولم يرضَ لي غير إحدى خصلتين: الفتيا ولو بغير مضع، أو استحقاق الإلجام بلجام من نار، فإني أستغفر الله وأقول ما لم أتعود قوله:
خطر ببالي أن (على الحركرك) محرف من نقطتين فصيحتين هما: حرَج الحرَج قلبت الجيم فيهما كافاً لتقاربهما في المخارج، الحرَج بفتح الراء معناه أضيق الضيق، فإذا أضيف إلى مثله كما يقول فلان في ضيق الضيق كانت المبالغة أشد، إذ هو بمنزلة أن يقال: أضيق ضيق الضيق، وهو ما تريده العامة وهو نظير قولهم (شفت فيه ويل الويل ومر المر). ويحتمل أن يكون محرفاً عن الحرَج الحرَج، فإذا كان يعجب الباشا مثل هذا التخريج فذاك، وإلا فإنني أعتقد أن إجابتي إنما هي على حرج الحرج، وأربأ بنفسي أن أكون في رأيه مستأهل الإلجام بلجام من نار والعياذ بالله" ..
وبعد فمن الحق للغة العربية أن تفرد لها عاماً يشترك فيه المجاهدون دونها، ولعل الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار أن يقدم وجهة نظره في هذه الدعوة المطروحة الآن على بساط البحث في عدد من البلاد العربية ..
(3)
لماذا دراسة اللهجات العامية والاهتمام بها ؟!
ما تزال اللغة العربية تدافع عن كيانها الذي يرهق الاستشراق والتغريب والذي تخطط له الماركسية في كل مكان تحل فيه، كما يخطط له الاستعمار والصهيونية بوصفها لغة القرآن التي تجمع العرب إلى وحدة الأمة والجماعة وتربط المسلمين إلى وحدة الفكر والثقافة، ولقد ترددتْ في المرحلة الأخيرة ظاهرة تبدو كأنها دفاع عن الفصحى ولكنها تُخفي في أعماقها حربها وخصومتها، تلك هي ظاهرة دراسة اللهجات العامية، ترى ذلك واضحاً اليوم في عديد من مجامع اللغة ومعاهد الدراسة العالية.
وقد حاول بعض الباحثين أن يدعي أن الغاية من دراسة اللهجات هو الكشف عن أنجع الوسائل المؤدية إلى جعل لغة الضاد (موحَدة وموحِدة) في جميع البلاد العربية، أي أن تكون أكبر أداة لتوحيد الشعوب الإسلامية في أمة واحدة.
ولكن المتعمق للأمور يرى أن ذلك وَهْم من الأوهام، وأن التجربة لم تحققه؛ بل حققت عكسه، وأن بعض المعاهد التي استقدمت أمثال أنيس فريحة وغيره لم تزد أن أعطت دعاة العامية سلاحاً ضد الفصحى بالإضافة إلى أسلحتهم المشرعة اليوم في مجال المسرح والإذاعة والكاريكاتير ..(/8)
يقول الأمير مصطفى الشهابي: "إن اللهجات العربية العامية تعد بالعشرات بل بالمئات وكلها اليوم لا ضابط لها من نطاق أو صرف أو نحو أو اشتقاق أو تحديد لمعنى الألفاظ؛ فهي كلام العامة يستعمل في الأغراض المعاشية وفي علاقات الناس بعضهم ببعض .. وهذا الكلام وقتي لا يثبت على مرور الأيام، وموضعي لا يتجول من قطر عربي إلى قطر عربي آخر .. ومعناه أن اللهجات العامية لا يمكن أن تكون لغات علم وأدب وثقافة وليس في مقدورها أن تعيش طويلاً وأن يعم بعضها أو كلها، الأقطار العربية كافة، وكل ما يكتب بلهجة عامية يظل محصوراً في قطره وقلما يفهمه غير أبناء ذلك القطر أو غير طائفة من أبناء ذلك القطر، فإذا تدارسنا حقائق هذه اللهجات ووضعنا لكل منها قواعد رجراجة، فماذا تكون مغبة هذا العمل .. إن أخشى ما نخشاه أن يستهوي هذا الموضوع عقول بعض هؤلاء الطلاب فيعكفوا على معالجة تنظيم الكتابة والتأليف باللهجات المختلفة وعلى طبع هذه الرطانات ونشرها فتكون النتيجة تشويشاً وضرراً يباعِد بعض الأقطار العربية عَن بعض، بدلاً من أن يتوحد بلغتها، أي تكون النتيجة مخالفة تماماً المخالفة لِمَا يتوقع من تدريس اللهجات العامية في خدمة الفصحى".
أما القول بأن تدريس هذه اللهجات يفضي إلى معرفة مشكلات الفصحى وإلى مداواة أدوائها فهو قول ضعيف في نظرنا؛ فأدوات الفصحى معروفة تحتاج إلى مَن يعالجها بإخلاص ونشاط وصبر ومثابرة وأهمها وضع المصطلحات العلمية أو تحقيقها وتبسيط قواعد الكتابة والإعراب والصرف والنحو وتبسيط الكثير من تعليلات القواعد الصرفية والنحوية.
وجميع هذه الأمور الشائكة يعرفها علماؤنا الأثبات ولا علاقة لها باللهجات العامة وقواعد تدريسها. ومن الطبيعي القول بأن هذا التبسيط لم يمس جوهر الفصحى وسلامتها وأنها ستظل صعبة في نظر بعض الناس ولا مجال للبحث عن بعض الآراء التي تذهب إلى جعل التبسيط تشويهاً للفصحى. المطلوب هو رد العامي إلى الفصيح، كما فعل الشيخ أحمد رضا العاملي وعلماء أثبات وفقهاء باللغة مِمَن يعرفون كيف يُفيدون الفصحى مِن دراساتهم وكيف يقربون العامية منها وكيف يمنعون طغيان العامية عليها. إن قضية الفصحى والعامية لا تُحَل بدراسة اللهجات العامية وتدريسها للطلاب؛ بل تُحَل بتيسير قواعد الفصحى مع الاحتفاظ بسلامتها، وعلى الأخص نشر التعليم في سواد الشعوب العربية، ومنها فرض التعليم بالفصحى على المعلمين وعلى التلاميذ في جميع المدارس، ومنع طبع رسائل بالعامية أو التكلم بها في المدارس والمسارح ومحطات الإذاعة ودوائر الحكومات.
(4)
الفصحى في لغات أوربا
يقول (والت تايلور) في رسالته عن الألفاظ العربية في اللغة الإنجليزية أنه في الفترة ما بعد 1450 ميلادية كان الداخل إلى اللغة الإنجليزية من الألفاظ العربية بمعدل 83 في المائة، وذلك بعد أن اتسعت آفاق التجارة وأسباب المواصلات بين الشرق والغرب، وقد كان للجزيرة الأندلسية أعظم أثر فيما قدمته العربية للغات الأوربية، فالسيادة العربية التي بقيت في تلك الجزيرة بضعة قرون قد طعمت لغتها الأسبانية والبرتغالية بعدد كبير من الألفاظ.
والذي يفتح كتاب دوزي عن الألفاظ في اللغة الأسبانية يجد فيه نحو ألف وخمسمائة كلمة من أصل عربي بعضها يرجع إلى عهود العرب الأولى في الأندلس.
كذلك فقد دخلت إلى أوربا ولغاتها مصطلحات كثيرة عن طريقة جزيرة صقلية وعن طريق الحروب الصليبية.
وقد قسم أنيس المقدسي هذه الألفاظ العربية إلى عدة أنواع:
أولاً: أعلام أشخاص وأمكنة وألقاب خاصة.
ثانياً: ألفاظ ومصطلحات مستحدثة.
ثالثاً: مصطلحات علمية وخصوصاً الفلكية منها كأسماء النجوم (إبرة العقرب) و(الشعري) و(رأس الثعبان).
رابعاً: ألفاظ عربية تبنتها اللغة الإنجليزية أمثال منبر وكنيسة وسراط وفردوس وسكر ومسك وفندق.
وقد اندغمت هذه المصطلحات والألفاظ في اللغة الإنجليزية حتى لم تعد أصولها العربية واضحة.
ومجال القول في هذا الموضوع ذو سعة، وقد تناوله عشرات الباحثين الأجانب:
1- والتر تايلور: ما اكتسبت الإنجليزية من العربية.
2- الأب لامنسي: علاقة العربية بالفرنسية.
3- دوزي: علاقة العربية بالأسبانية والبرتغالية.
4- قاموس أكسفورد.
5- قاموس وبستر.
6- معجم الألفاظ الفلكية: أمين المعلوف.
7- معجم ألفاظ النبات: للدكتور أحمد عيسى.
8- معجم الألفاظ الزراعية: للأمير مصطفى الشهابي.
9- معجم العلوم الطبيعية والطبية: للدكتور محمد شرف.
10- معجم الألفاظ الداخلة في اللغة العربية: للقس الفيسي.
أنور الجندي(/9)
المؤذن رواية .. الحلقة 1) ...
القاص: عمر مناصرية
الذين يقتربون منه، يحسون بذلك الوهج الذي يخرج من تحت قميصه الأبيض الخفيف كدفء خالص احتفظ به وقتا طويلا، حتى يصل إليهم في هذه اللحظة، ويريهم إياه، كأب حقيقي رغم أنه لم يبلغ بعد الثلاثين.. كان منحنيا إلى الأمام ليضع أحماله الصغيرة التي لا تمثل إلا متاعا قليلا، وقد أحاط به الرجال والشيوخ والأطفال في ترحيب كبير، وسمع بعضهم في الخلف ينادي: - لقد وصل.. لقد وصل!
كان وجهه وهو يرفعه أمامهم أبيض ناصعا، تغزوه من حين إلى حين حمرة خفيفة، سرعان ما تختفي. وكانت عيناه جليلتين، مثل عيني شيخ بلغ الحكمة، بينما بشرته لينة، تكاد لفرط نظارتها أن تخفي من الوجه كل المعالم.
دنا الجميع منه مرحبين، الشيوخ الذين يرتدون البرانس البيضاء رغم أن الوقت صيف، والأطفال الذين ارتدوا قمصانا ممزقة وعلى وجوههم أوساخ، والرجال وحتى الخرفان.. وراحوا يصافحونه باحترام، وقد حرص الرجال أن يحولوا بينه وبين الأطفال، ولكنه سرعان ما أخرج حلوى لذيذة وراح يوزعها عليهم، ممتنا شاكرا، فيفر الأطفال إلى ذويهم وقد ازدادوا فرحا على فرح. ثم إنه التفت إلى الجميع، وقال:
- وكيف حالكم في هذه الأرض..
ناظرا حوله إلى مساحات عارية، تقطعها خضرة قليلة وأشجار لا تكاد تظهر، بينما اصطفت بيوتات الطين أمام الشمس، كأنها تنتظر منها شيئا لايقدر بثمن . وأجابوه بأصوات متداخلة:
- بخير.. الحمد لله.
ثم أفسحوا له طريقا كأنما يدعونه.. فقد كان في نهايتها شجرة تين قديمة، وتحتها حصير يبدو من لونه أنه جديد، فقال:
- تفضلوا.. أنتم أهل الديار.
ولكنهم لم يسيروا حتى رأوه يسير، محفوفا بهم وبالشيوخ الذين رأوا أنهم الأولى به.. كان قده طويلا عنهم كفاية ليراهم جميعا حوله، خاصة عنقه الذي يظهر جليا، فيبدو أنه لم يستوي على ذلك القدر إلا ليؤذن.. سار إلى الحصير، ثم قدمه شيخ من الشيوخ له لحية بيضاء ليجلس إلى جذع الشجرة، فلما أبى ذلك، قال له:
- تفضل يا شيخ.. تفضل..
ثم راح يقسم عليه أن يجلس حيث أمره، حتى أذعن له وجلس راضيا.. وسرعان ما أحاطوا به، ثم جاء فتى يضع على رأسه قلنسوة بصحن تمر وإناء لبن. ووضعه أمامه، وهو ينظر إليه بعينين نهمتين. وقال له شيخ آخر:
- تفضل.. تفضل.. كل..
فرفع يديه معا، وقال:
- لن آكل حتى تأكلوا معي..
فنظر أولئك الشيوخ إلى بعضهم كأنما يستغربون منه مثل هذا الكلام. كان يبدو لهم مهيبا، ولكن ها هو يسقط ما بنوه عنه في أذهانهم كل هذه الأعوام ، حتى إن كلامه بيدو مثل كلامهم، ورغم ذلك لم يستسلموا له ، فأردف:
- لا تستغربوا.. إنما أنا رجل مثلكم..
فنظروا إلى بعضهم ثانية. ثم أقسم عليه رجل أن يأكل.. فتناول ثلاث تمرات أو أربع وشربة لبن ووضع الإناء، وهم ينظرون إليه. ثم قال:
- الحمد لله.. جزاكم الله خيرا..
فاستغربوا مرة أخرى.. فقال آخر:
- كل يا شيخ.. تفضل..
فقال: - الحمد لله..
وراحوا يتهامسون:
- إنه لم يأكل شيئا.. لا بد أن التمر لم يعجبه.. واللبن، لا بد أنه فاسد.
وسرعان ما قام رجل ونادى الفتى الذي أحضر الطعام، فلما حضر الفتى، صرخ الرجل فيه:
- من أين جئت بهذا..؟
تردد الفتى وهو ينظر إلى المؤذن، ثم قال:
- من بيت عمي صالح..
كان الشيخ الصالح بينهم، فلذلك راح يتمايل ذات اليمين وذات الشمال ليتوارى عن القوم. ولكن المؤذن قال:
- لا بأس، إنه طيب، واللبن كذلك. ولكن هذه عوائدي، لا آكل إلا قليلا..
نظر إليه الشيخ الصالح شاكرا، فصمت القوم. وطال صمتهم، حتى قال رجل:
- قرب وقت الظهر.
فقال المؤذن:
- ليس بعد.. بقي وقت يسير..
كان يعرف وقت الصلاة إذا حضرت بلا واسطة، يعرفه حدسا، أو إحساسا قويا ينبئه، إحساس راح ينمو مع الزمن حتى استوى على ذلك القدر، وفي السابق لم يكن قويا إلى هذا الحد، ولكنه ذات عام، راح يسمعه، كحديث أو شيء من هذا القبيل، يوقظه من حياة الناس من حوله، ويريه وقت الصلاة، ولذلك، لما حضر الوقت، قام دون إذن، وراح يسير إلى مكان عاري بين المنازل، وأولئك القوم يتبعونه، حتى إذا توقف إلى صخرة، نزع حذاءيه واعتلاها وراح يؤذن.. وسرعان ما حجب صوته أعينهم، فرفعوا بلا شعور إليه رؤوسهم، ولفهم إحساسه الهائل.فغروا أفواههم لما لم يكونوا قد سمعوه من قبل وأحسوا بأنفسهم يحلقون . ولما استيقظوا بعد مدة لم يجرءوا على الحراك حتى دعاهم إلى الصلاة .. كان قد نزل واتجه إلى مساحة واسعة، وصلي ركعتين.. فذهبوا وتوضئوا، ثم جاءوا وراحوا يصلون، ونظر خلفه، فوجد الفتى الذي أحضر له تمرا قد اندس عنوة في الصف الأول، فقال له:
- أقم الصلاة.
ولكن الفتى لم يعرف ما يقول. شعر بالخجل، فاستأذن منه شيخ ليقيم الصلاة فأذن له. فلما كبر ساد القرية صمت كبير.. سكت كل شيء، سكت النباح والثغاء وأصوات الأطفال.. فلما سلم، التفت إليهم وراح يسبح.. ثم قام إلى الحصير حيث كان، وجلس، فجاء نفس الشيوخ والرجال، واستأذنوا منه ليتركوه يأخذ قليلولة. قال واحد منهم:(/1)
- نتركك ترتاح يا شيخ ..
أذن لهم وبقي وحيدا هناك، يطل عليه بين الحين والآخر أطفال وفتيان.. ثم حضر إليه الفتى، وقال:
- ألا تذهب إلى الغرفة أيها المؤذن. لقد أعدها لك عمي الصالح للقيلولة.
فقال له:
- ما اسمك؟
تردد الفتى لحظة، كان رقيق العود، طويل القد ، وعيناه عميقتين ،ثم أجاب:
- لحسن..
- إذن يا لحسن.. سأبقى هنا حتى المساء، وعندها سآتي إلى الغرفة..
فانصرف الفتى تاركا إياه، وعند العصر أذن أيضا، فأفاق السكان من القيلولة، وجاءوا للصلاة. ولما انتهت راح يعظهم ويعلمهم. فلما صلى بهم صلاة المغرب دعوه لعشاء أعده شيخ يدعى لمبارك.. أكل قليلا وراح يحدثهم عن أسفاره... حدثهم عن سفره بالقطار منذ ثلاثة أيام ومكوثه في مدينة يوما واحدا وركوبه حافلة تمر على طريق تبعد عن القرية نصف يوم.. ثم كف عن الحديث فجأة، وخرج كأنما لا يعرفهم حقا. اعتلى الصخرة وراح يؤذن..
كان صوته يخترق الظلام، مبتعدا حينا ومقبلا حينا آخر، وقد أحسوا أن الدور القصيرة التي يسكنونها قد استطالت كلها فجأة، ليحوز كل منها أكبر قدر من صوته.. حل هدوء في تلك الليلة. حل كما لم يحل في القرية مطلقا. فلما أنها الآذان، جلسوا جميعا وقد كانوا واقفين، وراحوا يسبحون أو يصلون.. كانت الساحة الضيقة قد فرشت فبل العصر بسرعة، وكانت النسوة قد تنافسن في إخراج حنابلهن وزرابيهن التي تفنن في نسجها، وكانت كل واحدة تتمنى حقا أن تكون زربيتها هي من سيقف عليها المؤذن للصلاة
المؤذن (الحلقة 2)
بقلم: عمر مناصرية
صلى العشاء بهم ثم دعوه إلى غرفة، وأحضر له الفتى مصباحا ودخل به وهو يتقدمه.. وقال والناس ينصرفون:
- تفضل يا شيخ.. تفضل.. هذه غرفتك.
فقال بمرح:
- لليلة واحدة فقط..
فنكس الشاب رأسه، وقال بهمس:
- ليلة واحدة؟!
فأجابه، ولم يكن يتوقع أن يجيبه:
- نعم.. سأرحل عند الفجر.
فقال الفتى ، وهو حريص أن ينظر من نافذة ضيقة ليرى إن كان الشيوخ قد انصرفوا:
- هل ستؤذن للفجر؟
- بالطبع يا فتى .. سأؤذن. لذلك حضرت إلى هنا..
تفاجأ الفتى لتلك الكلمة وأحس نحوه بشيء غامض، ثم قال:
- هل لي.. بطلب؟
كان منكس الرأس، غير قادر على رفعه، فقال المؤذن:
- نعم.. لا تخجل.. قل.
- هل لي بالبقاء معك هنا.. في هذه الغرفة..
ثم استدرك:
- أريد أن تعلمني.. تعلمني.. الإقامة..
ثم استدرك مرة أخرى:
- أعني إقامة الصلاة.
كان يتحدث بصوت خافت خجل . فتقدم المؤذن منه وربت على كتفه، ثم أجابه:
- ألم تحفظها بعد..
- بلى، ولكنني أريد أن أقولها بطريقة جميلة، كطريقتك أنت..
فربت عليه مرة أخرى، وقال:
- حسنا.. هيا لنبدأ إذن..
وراح يلقنه الإقامة بلا إبطاء ويعيدها عليه مرارا حتى حفظها عنه..لم يعرف الفتى أنه واضح إلى هذا الحد وصريح أيضا، كأنه ليس بالذي يرتاد صوته الآفاق.كأنه يتواضع عمدا ليخفي بداخله شيئا أعظم. ثم طلب منه أن يؤدي ذلك فراح يتلعثم ويتعثر، ولما رأى المؤذن إصراره، قال:
- ألا تتعلم الآذان أيضا؟
تعجب الفتى منه، فذلك ما لم يكن يجرؤ على التفكير فيه.. والآن يطلب منه أن يتعلمه.. قال بحيرة:
- هل أستطيع..؟
فأجابه فورا :
- تستطيع.. كل واحد يستطيع ، ولكن القلة فقط هم من يحسن ذلك..
وراح يعلمه الآذان، وبين الحين والآخر، يطلب منه أن يعيده عليه، أو يعطيه نصيحة لتحسين صوته، أو رفعه.. أو خفضه، ثم قال:
- هذه الأمور تتعلمها مع الزمن، إنها تنمو بالخبرة. أما ما يهم، فهو أن لك صوتا..أعني إحساسا. ما يهم في كل شيء هو الإحساس الذي تتركه في الآخرين ...أفهمت؟!
فأجاب الفتى غير مصدق، ناسيا كل ما تعلمه:
- حقا؟َ!
- نعم.. صوتك له إحساس، وقد اكتشفت ذلك فيك..
ازداد الفتى حيرة، ثم قال:
- أحقا.. أحقا ما تقول؟
لم يستوعب بعد ذلك، ولكنه راح يستمر في ترديد الآذان، مقلدا المؤذن في حركات صوته..في إيماءاته ونظره الطويل إلى السماء . استمر على ذلك حتى منتصف الليل، ثم قال المؤذن:
- هل تحس بشيء؟!
فقال الفتى :- نعم . أحس كأنني .. كأنني ..كبرت.
- لا بأس ، ذلك ما يحدث فعلا ..
ثم أضاف :
- يجب أن ننام الآن .
ناما قليلا ، ثم لما اقترب الفجر أفاق المؤذن وأيقظ الفتى وقال له وهو لم يفتح بعد عينيه بشكل كامل :
- أعد نفسك.. لقد قرب الفجر .
لم يفهم الفتى شيئا ، فالتفت المؤذن إليه وهو يهم بالخروج لقضاء حاجة وأضاف :
- سأختبرك .
خاف الفتى كثيرا، وانتفض من فراشه، ثم قفز إلى الزاوية وجعل ينظر حواليه . ولما دخل المؤذن صب إناء ماء وخرج ليتوضأ .. ثم عاد وطلب منه أن يتوضأ هو أيضا ، قائلا :
- أعد نفسك .
ثم أخذه إلى الصخرة، وقال:
- اصعد..
فقال الفتى:
- أنا..؟!
- نعم.. أنت..
كان يبدو له ذلك غريبا، ولكن المؤذن أكد له:
- اصعد ولا تضيع وقتك.. لقد حان موعد الآذان..
صعد الفتى على الصخرة، ثم نظر إلى المنازل المظلمة، ثم جعل ينظر إلي المؤذن خائفا، فقال:
- الآن.. ابدأ..(/2)
فانطلق صوت الفتى عاليا، يرتج ويتعثر. ولكن المؤذن أومأ له بجدية أن يستمر، فاستمر، ثم بعد حين جعل يستقر على لحن، ثم أصبح لينا، والمؤذن يومئ له بالاستمرار وينظر بين الحين والآخر إلى المنازل.. ولما أنهى الفتى آذانه ونزل من الصخرة بسرعة، كان قد استيقظ ثلاثة رجال لا غير، فقال المؤذن بفرح :
- نجحت.. أنظر..
نظر الفتى إلى الثلاثة الذين جعلوا يقتربون، ثم قال:
- أهذا هو الاختبار؟!
فقال:
- نعم.. لقد استطعت أن توقظ ثلاثة منهم، وأنا لهذا أجيزك.. للأذان..
دنا الثلاثة منهما، وقال واحد منهم:
- من المؤذن يا شيخ؟
فأشار إلى الفتى، فتعجبوا له.. وقال آخر منهم:
- خيل إلي أنك أنت من أذن.
فقال المؤذن:
- يجب أن يكون لقريتكم مؤذن..
فأومئوا بصمت أن نعم.. ثم مضوا يتوضئون.. وعند الأذان الثاني قال المؤذن للفتى:
- راقبني..
ثم ارتقى الصخرة وراح يؤذن، وأولئك السكان يخرجون من بيوتهم واحدا إثر آخر، يستيقظون على غير وعي منهم ويأتون إليه مذعنين ، حتى الأطفال جاءوا إليه.. تعجب الفتى من ذلك، وظن أنه في أول الطريق، وعند الصلاة، قال له:
- أقم الصلاة.
فراح يقيمها على نحو فريد، حتى أن الناس لم يتعرفوا عليه، وكانوا يتساءلون:
- من الفتى..؟ أهو من القرية..؟ من هو..؟!
ولكنهم كفوا عن ذلك لما سمعوا التكبير، فراحوا يصلون الصبح.
كانت قراءة المؤذن مثل آذانه.. قراءة بترتيل بسيط ولكنه يشد الآذان ، فلما انتهت الصلاة عاد الناس يتساءلون عن الذي أقام الصلاة، فوقف المؤذن وطلب من الفتى أن ينهض، ولما رأوه تعجبوا له.. وقال:
- ليؤذن لكم لصلاتكم، وليؤمكم الشيخ مبارك، فهو أحفظكم لكتاب الله..
وقبل الشروق ودعهم.. اصطحبوه إلى تلة وودعوه.. ثم انصرفوا جميعا عائدين ، إلا الفتى ، فقد لبث ينظر إليه وهو يهبط التلة هادئا، تتقدمه عصاه وعلى ظهره متاع وطعام حرص الناس على أن يأخذه منهم هدية.. هبط سفلا، ثم سار على أرض مستوية، ثم اختفى.
المؤذن (الحلقة 3)
بقلم: عمر مناصرية
عاد الفتى إلى القرية، وجلس إلى جدار دافنا رأسه بين ركبتيه.. أصغى لأصوات القرية التي استيقظت وشعر بالحزن.. ثم لما اقترب وقت الظهيرة مسح دموعه.دخل الغرفة التي نام فيها بالأمس مع المؤذن فلم يصدق نفسه. بدا له ذلك خرافة أو شيئا بعيدا، فجعل يردد الآذان بهمس كأنما ليتأكد.
استغرب، ثم خرج وسار إلى الصخرة بخطوات واثقة. نظر إلى السماء الصافية ثم إلى ظله، ولما تأكد له أن الوقت هو الظهر، نزع نعليه وارتقى الصخرة وراح يؤذن مثلما علمه المؤذن.. فخرج الناس إليه وراحوا ينظرون. وجاء شيخ رافعا طرفا برنسه قليلا عن الأرض، ودخل المصلى وجلس على حصيره. فلما أنهى الفتى آذانه ونزل من الصخرة، دنا من الشيخ وقاما يصليان.. وجاء أناس إليهما واصطفوا صفوفا قصيرة، وجعلوا يصلون التحية صامتين ساكنين ووجوههم تقطر ماء.. وأقام الفتى الصلاة، ثم كبر الشيخ وراحوا يصلون..
لم يكونوا قد فعلوا ذلك من قبل، فهم بالكاد يجتمعون، ولكن المؤذن لما حضر واستطاعوا أن يروه، بث فيهم حياة.. ثم مضى..
جعلوا يقيمون الصلاة كل يوم، واقترحوا أن يبنوا حول الساحة جدرانا، وفي الشتاء شيدوا سقفا اتقاء للمطر، فتحول ذلك مسجدا صغيرا، جعل يبث الحياة في القرية. أما الفتى فقد تحسن أداؤه، وأصبح قادرا على أن يوقظ أناساكثرا من النوم. وبنى بنفسه درجا يصل إلى سقف المسجد، راح يصعد إليه ويؤذن. وشعر أن له هدفا جديدا يعيش لأجله. وأن نداءه عما قريب، سيصل أسماع المؤذن، وعندئذ سيرد عليه..
* * *
سار بنفس الخطوات السريعة.. الطرق المتشعبة يحفظها عن ظهر قلب.. من أين جاء؟من أين انطلق كسهم وراح يخترق كل شيء، ولماذا يفعل ذلك..؟
سار طويلا كعادته.. دخل قرية صغيرة وأذن، ومكث ليلة هناك، ثم أذن للفجر وانصرف..
في كل قرية كان يتوقف، يؤذن ويعلم الناس الوضوء والصلاة ويرحل. والذين لا يعرفونه، كان يدخل إليهم بفرحة، يضع أغراضه جانبا وينتظر وقت الصلاة، فإذا أذن فيهم استجابوا بسرعة، وجاءوا للصلاة. أحيانا كان يدخل قرى لا تعلم شيئا.. قرى تفشى فيها الجهل وضرب أطنابه، ولكنه رغم ذلك، كان يؤذن، ويلبث فيها يومين أو ثلاثا يعلمهم..
كان الناس يعيشون تحت احتلال الفرنسيين، وكانوا بالكاد يعرفون شيئا من دينهم أو لغتهم، ولذلك كان يؤذن، يتنقل بين القرى والمدن ويؤذن، وكلما فعل ذلك أحس كأن الناس على وشك أن يتذكروا..وصوته المدهش كان يساعده، وإذا أطلقه اخترق الحجب بسرعة ومزق الأغطية عن العقول وشقها بقوة.. حفر فيها كالمطر وتغلغل إلى الجذور. ولذلك كان الناس يندهشون.. يتفاجأون وتصير أذهانهم صافية، وكل منهم يعجب لشيء فيه. بعضهم تأسره نبرته الرقيقة الدافئة، وبعضهم يأسره النداء واستطالاته، والبعض يحبه كله..(/3)
سار بذلك دون لأي.. سار شرقا وغربا وشمالا وجنوبا وحيث ظن أن العالم ينتهي هناك.. لم يعتره تعب أو نصب، وكلما أذن أحس أن صوته حيث انتهى يدعوه، فيحزم متاعه ويسير بلهفة خلفه، فإذا انتهى إلى قرية أو بلدة أو مدينة صغيرة لم تنبت بعد بشكل كامل، أحس به وجعل يبحث عنه في عيون الناس من حوله. ويا للدهشة، كان يعثر عليه، خليطا من الحكايات عنه وعن صوته. حكايات لم يكن يصدق أنها ستخرج من تلك الأفواه وتخلده، أو يعثر عليه في عيون طفل صغير أو فتى يعلمه ويتركه بصمة هناك.. سار بذلك أعواما، حتى أصبح الناس يتوقعون وصوله إليهم. وأحيانا تسري أخبار عنه أنه في مكان بعينه، وغدا سيحل في مكان آخر، وهكذا..
ذات ليلة نزل مكانا خاليا، وكان الليل قد أظلم، فتغطى ببرنسه كعادته ونظر إلى النجوم.. كان النعاس يدب إليه فنام بسرعة. وعند الفجر أستيقظ. نهض ونظر إلى نفس النجوم ثم توضأ بما عنده من ماء وقام إلى صخرة وراح يؤذن.. فلما أنهى آذانه وتحضر للصلاة وهم بأن يكبر، أحس بشيء كالعصي على ظهره، فالتفت. كان رجال بخوذات لم يتبين وجوههم واقفين وراءه.. التفت إليهم ثم كبر، ولم يكد يفعل ذلك، حتى تلقى ضربة قاسية أسفل ظهره، فسقط إلى الأرض، ثم جعلوا يسحبونه من يديه. ولما انبلج الصبح رأى وجوههم. كانوا جنودا فرنسيين، ولكنه لم يتوقع وجودهم في هذه المنطقة. سحبوه بعنف، ولما صعدوا به تلة، رأى حشودا كثيرة وشاحنات وخيام وحركة كثيفة. لقد سبق لهم وأن اقتادوه ذات مرة قبل أعوام، ولكنه لم ير مثل هذه الحشود.. اقتادوه إلى خيمة عسكرية اللون تقوم في وسط المعسكر ، ثم دفعوا به إلى الداخل. كان ضابط شاب يجلس وراء مكتب، فلما رآه لم يهتم بأمره، بل جعل يحدق في خارطة أمامه. وبعد مدة نهض، ثم صرخ بغضب :
- ما الأمر؟
فقال واحد من أولئك الجنود:
- سيدي.. لقد وجدناه قريبا من المعسكر.
فدنا منه بحذر .. وقال :
- ماذا كنت تفعل عندنا ؟ !
بدا للمؤذن سؤالا جريئا، فأجابه :
- كنت أصلي.
- تصلي ؟!
ثم عاد إلى مكتبه بنفس الهدوء، وجلس، ثم رفع رجليه معا ووضعهما على المكتب، وقال :
- كنت تتجسس علينا إذن ؟!
لم يفهم المؤذن شيئا، فصمت، حتى قال الضابط :
- اسمع.. قل لنا من أرسلك وأين هم الآن ؟ وسنطلق سراحك لتعود إلى صلاتك !
ثم راح يقهقه بصوت عال.. وفجأة صمت مرة واحدة. نهض عن مكتبه وتقدم نحوه بسرعة حتى كاد يلتصق به،وجعل يحدق في عينيه ويقول بصرامة :
- أين هم ؟ هيا..
قال المؤذن :
- لا أعرف.
- لا تعرف... لا تعرف ؟! وأنتم تقتلون و تفرون ليلا كالخفافيش...جبناء.
كانت الثورة قد بدأت قبل أشهر، وكان المؤذن قد سمع بأولئك الذين جعل الضابط الصغير الحجم يسبهم، ولكنه لم يلتقيهم.. لا بد أنهم في مكان قريب من هنا.
جعل يحلق بخياله بعيدا، حتى قال الضابط :
- لن تتكلم.. حسنا. ستتكلم في العالم الآخر.. رغم أنني لا أؤمن به.
وعاد يقهقه ثانية، والجنود الذين خلفه التزموا بالصمت، متهيئين متحفزين، وفجأة استدار وتناول عصا دقيقة من على مكتبه ورفعها عاليا ثم هوى بها على جبينه فشجه، وصرخ :
- هيا.. خذوه.
سقط المؤذن من أثر الضربة على ركبتيه، ولم يفق إلا بعد أن سحبوه خارجا. جروه من يديه معا حتى وصلوا به إلى وادي صخري قريب وهناك أوقفوه.. جعلوا يبتعدون عنه شيئا فشيئا.كانوا أربعة، وواحدا منهم أخرج مسدسه من جيبه وراح يسدده إليه، مبتسما بمكر ولا خوف في عينيه.. ابتعد أكثر، وجعل ينظر إلى زملائه ويتكلم خليطا من الشتم والسب، وقد افرج ما بين ساقيه وأمسك المسدس بقوة، ثم فتحه. وإذ ذاك انطلق شرر قوي، ولم يعد المؤذن يعي شيئا. خيل إليه أنه يهوي إلى قعر، وأن يديه صارتا خفيفتين وهما تحاولان التشبث بالهواء. أحس بنفسه يرتطم بشيء مؤلم، ثم أحاط به الظلام....
المؤذن (الحلقة 4)
بقلم: عمر مناصرية
إذا كان قد مات فتلك نهاية كل حي، أما إذا كان في عمره بقية فسرعان ما سيثور.كذلك خيل إليه أنه يتكلم ، قبل أن يستطيع فتح عينيه على ظلام ويحاول النهوض ، فلما أن كاد يفعل ذلك ، باغته ألم حاد في كتفه ، فسقط على فراشه ، وقد ظن أنه في منزل ، وأن أنفاس أطفال نائمين جعلت تحيط به وتؤنسه . ألقى برأسه على وسادة وراح يتنفس بصعوبة ، ثم حاول النهوض مرة أخرى حتى استطاع الجلوس....
كان الهدوء مخيما ، وعلى جانب رأى فتحة تسرب منها ضوء خافت مثل ضوء النجوم ، فقام نحوها .. سار على رجلين عييتين ، وتعثر بأجساد ملقاة لم يزل يضنها أجساد أطفال، ولكنه لم يسقط حتى صار في الخارج . تنسم هواء باردا ونظر بعيدا في السماء . ثم جعل ينظر حواليه ، فعثر على صخرة عالية ، ارتقاها وراح يؤذن .(/4)
كم مضى عليه دون آذان ؟ لا يدري .. كل ما يعرفه هوأن أولئك الأطفال النائمين في الداخل سيخرجون عما قريب ويأتون للصلاة . جعل يؤذن بصوت ضعيف خامد ، فلما أنهى الآذان جعل يرقب شيئا ما سيحدث . وفجأة سمع همهمات وأنات ، ثم حركات خفيفة وأجسادا تخيلها تنفض عن نفسها غبارا ثقيلا وتستيقظ . ووقف بلا حراك . نظر قدما إلى الفتحة التي خرج منها قبل قليل فرأى جسدان منهكان يخرجان ، ثم ثلاثة أجساد ثم أربعة ، وكلما انتظر ازداد عدد الذين يخرجون ...كان يعتقدهم إلى ذلك الحين أطفالا ، حتى لما صلى بهم ولبث يسبح على أصابع يديه متأملا أفقا بعيدا ، تخيلهم كذلك. وتخيل نفسه في مكان بعيد حيث الأرض اقتربت من السماء . ولكنه تفاجأ لما التفت إليهم . كانت وجوههم وجوه رجال منهكين ، أعينهم ضعيفة وأجسادهم انحنت إلى الأرض من التعب . بدا له أنه في المكان الخطأ ، وباغتته الأسئلة ... هل لا يزال في بلده بين أناسه وأشيائه. أم أنه في مكان آخر لا يوجد إلا في الخيال ...؟ فكر بهم قليلا ، ثم بدا له ذلك غير مهم ، فهو مثلهم ..منهك وتائه ويكاد لفرط الإعياء أن يسقط .. ولما انبلج الضياء كاملا وصار قادرا على أن يراهم واضحين ، اقترب منه رجل طويل القامة ، يرتدي بزة عسكرية ، وجلس إليه ، ثم قال بعد أن صافحه :
- مرحبا بك بيننا .
فرد بضعف :
- مرحبا .
فطأطأ الرجل إليه رأسه مرة أخرى ، وقال :
- حمدا لله على سلامتك .. لقد استيقظت أخيرا .
وهنا فقط تذكر المؤذن ما حدث له . كان قد سقط في ذلك الوادي بعد أن أطلقوا عليه النار . ولكنه لم يع كل شيء بعد . وأضاف الرجل :
- أنت في الجبل !
نعم كان جبلا ، وهو يراه حوله وأمامه وخلفه ، ولكنه إلى الآن لا يدرك كل شيء ، فقال الرجل :
- هؤلاء مجاهدون !
وهنا بالضبط فهم كل شيء ، ولكن الرجل لم يتركه يستوعب ذلك ، وأضاف بنبرة عسكرية واضحة :
- لقد بدأت الثورة قبل أشهر !
ردد المؤذن :
- الثورة ..
ردد ذلك في أعماقه أولا ، ثم راح يهمس به كأنما ليروي ضمأ بعيدا ، وعاد ينظر إلى أولئك الرجال على نحو جديد . لا بد أنه لم يخطئ المكان أبدا ، ففي ذهنه دائما كان اسم كذلك الاسم . الثورة . لا بد أنه يحلم ! قام فجأة وراح يصافحهم رغم ضعفه ، مبتسما ممتنا .بدا له أن حرارة غريبة جعلت تسري بينه وبينهم . حرارة غريبة رغم أن الطقس برد . ولما عاد إلى الكهف ثانية ، ألفى جرحى كثيرين يئنون ، وطبيب يقوم على علاجهم . ثم جاء شاب إليه وقال :
- إن القائد يدعوك .
فخرج معه إلى مغارة على الجانب الآخر من الكهف ، ودخل فألفى مكتبا صغيرا ووراءه نفس الرجل ، فقام لما رآه ، ثم خرج من وراء المكتب وهو يقول :
- أعرفك بنفسي .. أنا مصطفى ، قائد المنطقة ..
كان صارم العينين ، وينبعث من بشرته لون شبه ناعم رغم سمرته ، راح المؤذن يتأمله ، ولم يوقظه إلا سؤاله :
- وأنت ؟
لم يدر بماذا يجيب . تردد طويلا ، حتى قال القائد :
- اسمك فقط !
شعر بنفسه محاصرا ، وفجأة حزم أمره وقال :
- أنا المؤذن .. هكذا أكنى !
فقال :
- لا بأس .. تعرف أننا في حرب ، ويجب عليك أن تتعلم القتال .. سأضمك إلى الشباب الجدد الذين التحقوا بالثورة مؤخرا بمجرد أن تشفى من جروحك .
فقال المؤذن :
- نعم .. أكون معكم .
-إذن عد الآن إلى الكهف .. الطاهر سيعرفك بالموقع .
كان الطاهر هو الشاب الذي أحضره إليه ، وكان واقفا عند مدخل المغارة طوال الوقت ، يرقب مساحة طويلة من القمم والخضرة الداكنة . عادا إلى الكهف ، ثم تركه وخرج .
لبث بين الجرحى أسبوعين كاملين ، وكان خلالهما يؤذن ويصلي بهم، حتى ألفوه.حدثوه كيف عثروا عليه على مساحة ضيقة من الرمل بين صخور لو سقط عليها لمات من فوره ، وحدثوه عن المعركة التي نشبت في ذلك الحين بينهم وبين القافلة الفرنسية التي كانت معسكرة هناك . ولما شفي جاء الطاهر وأخذه إلى موقع لم يره قبل ذلك وأعطاه بندقية صيد وقال :
- أمسك !
لم يكن في ذهنه أنه سيصل إلى ذلك الحد ، ولكنه تعلم بسرعة ، وأصاب هدفه الأول بعد ساعات قليلة ، ولما سمع صوت الطلق عن قريب ، بدا له أن سمعه قبل هذا بوقت طويل !
* * *(/5)
قضى تلك السنين في الجبال، يؤذن فوق القمم وتحت المطر أو الشمس وأحيانا في الكهوف، يؤذن للجنود ويصلي بهم، وإذا مروا بقرية أذن فيها أيضا.. كان يأخذ نصيبه من الجراح إذا ما دخل معركة. ولكنه سرعان ما يسترد قوته ويعود إلي صوته ليطلقه . ولما ذاع صيته في الثورة . أصبح قائده يوفده إلى مناطق في الوطن، يؤذن ويشحذ همم الجنود، فعاد إلى سابق عهده، وأصبح يتنقل من ثورة إلى ثورة ومن معركة إلى أخرى. يتنقل من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.. وإذا دخلوا معركة كان هو من يعطي أمر القتال، فصوته قوي شديد، وإذا ما أطلقه، هبوا خلفه كالوحوش، يمزقون الغزاة وينشبون فيهم أنيابهم.. وفي وسط المعركة كان ينادي بصوت كالصاعقة، فيرتجف الأعداء ويولون الأدبار.. واكتشف أن صوته لم يكن للأذان فحسب، فهو أيضا يصلح للقتال، وكثيرا ما كان يستعمله..
ذات عام أوفدوه إلى العاصمة، فدخل شوارعها الضيقة واكتشف الناس فيها. اتجه مباشرة إلى مركز سري ، وقدم نفسه أمام شاب مرح العينين، فقال له الشاب:
- ولكن كيف ستؤذن في مثل هذه المدينة..
حقا. لم يسبق له أن أذن في مدينة مكتظة كهذه، فشكل له ذلك معضلة، ثم قال الشاب:
إذا أذنت فسيكتشفنا الأعداء.. فما العمل..
المؤذن (الحلقة 5)
بقلم: عمر مناصرية
ذات عام أوفدوه إلى العاصمة، فدخل شوارعها الضيقة واكتشف الناس فيها. اتجه مباشرة إلى مركز سري ، وقدم نفسه أمام شاب مرح العينين، فقال له الشاب:
- ولكن كيف ستؤذن في مثل هذه المدينة..
حقا. لم يسبق له أن أذن في مدينة مكتظة كهذه، فشكل له ذلك معضلة، ثم قال الشاب:
- إذا أذنت فسيكتشفنا الأعداء.. فما العمل..
فقال:
- في المساجد.. ألا توجد هنا مساجد؟
-بلى.. توجد..
لم ينتظر كثيرا. خرج إلى مسجد قريب ودخله، وعند الظهر سمعوه يؤذن..
لم يعتد الناس ذلك الصوت ولا تلك الرنة، فتجمعوا في المسجد، ثم سرت الأخبار أنه موفد من القيادة، فجعل كلما سمعه الناس في مسجد إلا وغص بالمصلين، وهكذا راح يؤذن، متنقلا من مسجد إلى مسجد، دون أن يتمكنوا من القبض عليه..
أحيانا كان لا يستطيع دخول مسجد لأنهم يطوقونه، فيدلونه على أخر، فيتنقل إليه مهما كان بعيدا ويؤذن..
لبث في العاصمة عاما كاملا يؤذن، مختفيا عن الأنظار ولا يعرفه إلا أئمة المساجد وأفراد قليلين. وكان الفرنسيون ينصبون له كمائن في المساجد دون جدوى.. كان أحيانا يمر أمامهم وينظر إليهم وهم لا يعرفونه، فإذا انطلق الآذان قريبا منهم، طاشت ألبابهم وهبوا إلى الداخل بغضب..ولكنهم لا يعثرون عليه أيضا ، فصوته كان يتردد في كل الأنحاء ، محيطا بالأسماع من كل جانب ، فلا يعرفون في أي مسجد هو .ولذلك يغضبون ، ويطلقون النار على المآذن المحيطة بطيش .
أحس بالواجب، في كل شارع أو مسجد يدخله كان يدرك معنى ما يقوم به، فالناس يتشبثون به، ويقضون أوقاتا طويلة في انتظاره.. لو أمكنه أن يؤذن بأعلى من ذلك الصوت لشق الجدران والأسوار، ولزلزل الأرض بقوة.. تمنى ذلك حقا، تمناه وهو ينظر إلى عيون أولئك الفتيان والرجال وهم يلحقون بالعدو في كل يوم خسائر.. وتمناه وهو يسير في الشوارع الضيقة، متأملا وجوه أهل البلد.. تمناه في سره وعلنه، وتمناه وهو يؤذن.
لعام كامل ظل يؤذن. دخل معظم المساجد في المدينة، ودخل المسجد الكبير أيضا. دخله في آخر يوم قبل أن يرحل، وكانت الحراسة مضروبة عليه، ولكن أصحابه أدخلوه إليه. قتلوا الحراس فجرا وفتحوا الباب، فدخل.. صعد المئذنة ونظر إلى المدينة، ثم استجمع صوته.. وانتظر حتى أحس به يعظم، ثم أطلقه، وظل يؤذن. وبسرعة غادروا ولم يتركوا خلفهم إلا تلك الجثث..
بعدها أوفدوه إلى الجنوب، فجعل يؤذن أيضا بلا هوادة، وجاءه نبأ الاستقلال وهو هناك..فقد كان جالسا على صخرة يرقب شفقا أحمر بعد أن أذن وصلى المغرب ، فلما شرد في أفكار مبهمة، اقترب منه صديق له تعرف عليه حديثا وقال:
- مبروك..
ظنه يمزح معه، ولكنه أردف:
- مبروك.. لقد بدأ وقف إطلاق النار.
كان الخبر إلى ذلك الحين سرا، ولكنه راح ينتشر مع الوقت، وعمت الأفراح كل مكان، وكان يسمع في مختلف القرى المجاورة زغاريدا، ورجالا يأتون إليهم في وضح النهار، حاملين الطعام والماء والحلوى. وسرعان ما أعلن الاستقلال، فاختلطت الفرحة بالدموع، وأحس أن دوره قد انتهى، فاستأذن ذات فجر من قائد المنطقة وسار كعهده.. توقف عند قرية وأذن، ثم أكمل طريقه..
كانت دموعه تنهمر وهو يتنقل من منطقة إلى منطقة، وأحس أنه الآن حر، وأن قيودا ما عادت تكبله. تخيل تلك المساحات الشاسعة كلها ملكه، وأنه سيمضي فيها حيث يشاء دون أن يوقفه جندي أو خوف.. عاد من أبعد نقطة في الصحراء، وصعد بلا تعب حتى دنا من التل..
* * *
لقد حل في تلك الخيام مساء، وكان الليل قد أظلم، فلم يستطع أن يتبين طريقه إلا على أهازيج ارتفعت فجأة، فقاد خطوه نحوها..(/6)
رأى من بعيد نيرانا، فلما اقترب أكثر توقفت الأهازيج، ثم ارتقى تلة صغيرة لم يشعر بها إلا وهو يصعدها، وجعل ينظر إلى النيران التي جعلت تنطفئ.. هبط بحذر، ثم سمع بكاء في مكان قريب.. تخيله بكاء طفل من الأطفال، ولكنه لما هبط أكثر، سمع نشيجا مثل نشيج النساء.. توقف فجأة، ونادى:
- من هناك؟
ولما لم يسمع جوابا، نادى ثانية:
- من الباكي؟
ولم يتلق جوابا أيضا، فأخذ يحاول النظر على ضوء نجوم خافتة، وتخيل أنه يرى جسدا أسودا لما أصبح النشيج له واضحا. فقال:
- من؟!
انقطع البكاء لحظات ثم عاد، فاقترب وقال:
- من هناك؟
فتوقف البكاء مرة أخرى، ودنا أكثر، فسمع صوتا يقول:
- لا تقترب..
كان صوت امرأة، فابتعد، وقال:
- عذرا، ولكن من أنت؟
فكف البكاء، وقال الصوت:
- لا شأن لك.. ابتعد.
فقال:
- أريد الدخول إلى الخيام.. هل هي آمنة؟
فأجابه الصوت:
- امض حيث شئت.. لا شأن لي بك.
أحس أنه غير قادر على المساعدة، فقال:
- لم البكاء..؟! لقد حصلنا على استقلالنا..
- لا شأن لي بكم.. ابتعد..
فابتعد. حمل أمتعته ودخل الخيام، وكان القوم نياما فسار بين خيامهم، ثم اختار مكانا وجلس إليه، وبعد ساعة رأى امرأة قادمة ملفوفة في السواد، ثم دخلت خيمة من تلك الخيام وقد غطت وجهها وأسرعت، ظن أنها من كان يبكي، ثم أسند رأسه إلى حقيبته العسكرية وغفا قليلا، فلما أحس بدنو الفجر، نهض وتوضأ من ماء من قربة، ثم تقدم إلى وسط الخيام وراح يؤذن..
أحس بالخيام ترتجف، وبرجال يركضون إليه حاملين في أيديهم مصابيح ويقتربون على أنوارها إليه. فلما وقفوا أمامه، كان قد أنهى آذانه، وراح يقول:
- لا تخافوا..لا تخافوا.
فقال واحد منهم:
- من أنت؟
- رجل..
لم يبدو عليهم أنهم يفهمون شيئا، فقال:
- دخلت خيامكم ولم أسمع فيها آذانا، فأذنت..
ثم جاء آخرون، وجاء شيخ كبير السن، فلما اقترب منه، قال ملتفتا إلى الجموع:
- إذا سمعتم الآذان فاستعدوا للصلاة.. هيا..
فعادوا وتوضئوا وجاءوا إليه، صلوا خلفه، ثم انصرفوا عنه حتى طلع الصبح..
أحس كأن القوم ينبذونه، فهم خشنون فوق الحد وطباعهم غليظة.. بدوا له كصخور صلبة، إلا ذلك الشيخ فقد كان لينا بعض الشيء، ولما طلع الضياء ونظر إليه، قال له الشيخ:
- لو تركتك لأشبعوك ضربا..
فاستغرب المؤذن ذلك، وقال:
-يضربونني؟
- أجل. يضربونك..
لماذا ؟
- إنهم لا يحبون الغرباء..
- لست غريبا..
فقال الشيخ وهو ينهض عنه:
- كذلك أنت..
ثم عاد إلى خيمته، فلبث وحيدا. ولما اقترب الظهر خرج إلى التلة التي صعدها أمس وأذن، فخرجوا ينظرون إليه، وكان يقصد بذلك، أن من كان يريد الصلاة فليخرج إليه.. لم يخرج إلا الشيخ وثلاثة فتيان، فصلى بهم، وفي الغد خرج الشيخ وحده، وفي اليوم الرابع، خرج مع ابنته، وكانت تنظر إليه..
ولما انتهت الصلاة، قال الشيخ:
- هذه ابنتي، وهي لا تكف عن البكاء..
فسأله المؤذن:
- لماذا؟
- فقدت أمها قبل أيام.
ثم طأطأ الشيخ رأسه، وقال له ما حفر بداخله هوة عميقة. قال بصوت خفيض :
-أتتزوجها؟!
تفاجأ المؤذن.. فهو لم يظن أبدا أن يكون هؤلاء القوم أصهاره..بل لم يظن أنه سيتزوج أبدا . ولكنه نظر إلى عمره الذي يربو على الثلاثين وقال:
- لا اعرف..ثم إنني لا أملك مهرا .
فقام الشيخ بإعياء وهو يقول:
- أعقد قرانكما الآن بما عندك حتى لو كان فرنكا، هيا..
فقال مترددا وهو ينظر إلى الفتاة:
- وهل هي راضية..
فأجابه:
- نعم.. هيا..
دخل الشيخ الخيام وخلفه المؤذن والفتاة، ودخل إلى خيام بعينها فخرج شيوخ في مثل سنه لولا أن عيونهم حادة فوق اللزوم. واجتمعوا في خيمة، فقال الشيخ:
- اشهدوا يا قوم أني زوجت ابنتي صليحة لهذا الرجل.
وأشار إلى المؤذن، فجعل أولئك الشيوخ ينظرون إليه بغضب، ثم قاموا عنه إلا اثنين بدا من أصدقائه، فشهدا له.. وإذ ذاك، قال الشيخ:
- خذ زوجتك وارحل.. هذا المكان لا يليق بكما..
خرجا بعد يومين، سلكا ما تبقى من رمل، وبعد يومين دخلا هضابا، فحطا متاعهما قرب غابة واستراحا من السفر.. وعندئذ نظر إليها بإمعان.. بدت له ناضجة رغم أنها صغيرة السن، وبدت له أجمل مما رآها أول مرة.. وقال:
- هل أنت راضية بي؟
فلم تجبه. أشاحت عنه حياء، وراحت تنظر إلى هضاب خضراء.. فقال:
- ألست راضية؟
فأجابت هذه المرة.. أجابت بصوت خجل، أضاف إليها جمالا لا يضاهى.. قالت:
- راضية..
ثم صمتت، فقام يريد أن يعد طعاما، ولكنها سبقته إلى ذلك، دون أن تقول له شيئا.. أكلا ثم سارا، وقضيا أسبوعا يرحلان.
* * *
لو لم ير ذلك قد حدث أمام عينيه لما صدقه، فقد أحس أن تلك اليد التي بدأت تخطط لكل شيء في حياته منذ أمد لا يعرفه، هي نفسها التي خططت لزواجه، فقدماه لم تقوداه إلى هناك إلا لذلك الغرض..(/7)
تفاجأ . وأحس بمعنى جديد في حياته، وأنه لم يكن متروكا هباء كقشة في الريح، إنما كل شيء حدث كان له معنى في ذاته.. ولذلك تغيرت نظرته إلى الأمور. أصبح كثير التأمل، ينظر إلى الأشياء لا كما تبدو عليه، ولكن كما يجب أ ن ينظر هو إليها. نمت في ذهنه أفكار ونبتت كالفطر، وصار كثير الصمت..
فكر في كل شيء.. فكر في صوته الذي لم يدر كيف اكتسبه، وفكر في حدسه.. فكر في نفسه لما كان صغيرا، وفكر فيها لما صار شابا.. فبدا له ذلك غريبا حقا.. صار ينظر إلى نفسه ككائن جديد هبط للتو من مكان من السماء واستقر في جسده ثم استيقظ وراح ينظر فيما حوله.. أحس بغرابته واختلافه وجعل ينظر إلى الناس على ذلك النحو.
لبث أسيرا لهذه النظرة أشهرا، حتى غدا ناضجا، مثل أنه أزاح عن نفسه كيانا واستبدله بآخر. فصار يرى الأشياء على نحو مختلف.. كان يدخل المدن والبلدات ويؤذن، ولكن بلا حماس أو تسرع، يؤذن بحكمة، وصوته ازداد نقاوة وأصبح يحيط بالأسماع من كل جانب..
استغرب لذلك التحول، وظن أن الزواج هو سببه، ولكنه تذكر أن ذلك بدأ أثناء الحرب، ثم راح يكبر شيئا فشيئا حتى طغى على حياته.. لم يخف ولم يجزع وبات في أمان من نفسه.. في أحيان كثيرة كان يرى تأثير ذلك على الناس ، فهم لا يزدادون إلا احتراما له. شعر بذلك.. أحسه. وبدا له أكبر شيء يحققه.. في كل مسجد يصل إليه، كان الناس ينظرون إليه، يحيونه ويقتربون منه أكثر ويدعونه للمكوث معهم أبد الدهر..
ذات عام عاد إلى العاصمة وأذن في مسجد صغير، فلما أنهى ،رأى الناس يجتمعون، ويهمسون:
- إنه هو.. المؤذن.لقد عاد .
- إنه هو..
- لقد رأيته قبل أعوام..
تهامسوا قبل الصلاة وبعد الصلاة وانصرفوا. وكان إمام المسجد شيخا كبير السن اسمه أحمد . شيخ ذائع الصيت وعالما مشهورا يعرفه ، فقد التقيا أثناء الثورة مرات عديدة، فدعاه إلى منزله .. وقال:
- ها نحن نلتقي مرة أخرى .
ثم أضاف بمرح :
- ولكن في غير تلك الأجواء ...
فابتسم المؤذن، وقال:
- نعم . كانت تلك أجواء ..
وراحا يتحدثان ويضحكان وهما يسيران في شوارع شبه خالية، ولما دخلوا المنزل ووقفوا في الرواق جميعا، هو والشيخ وزوجته، قال الشيخ أحمد :
- تفضلوا ..مرحبا ..مرحبا..
شعر المؤذن بالإحراج، وطأطأ رأسه، فابتسم الشيخ أحمد، وقال:
- هيا.. هيا.. تفضلوا..لم الحياء .
دخلوا إلى صالة، فجاءت عجوز وسلمت عليهم، ثم اصطحبت صليحة معها إلى الداخل.. وقال الشيخ:
- لا زلت تهيمن على الأسماع ..أليس كذلك ؟
فابتسم المؤذن وصمت حياء ، فأضاف الشيخ :
- أنا أقول إنك لم تدوخهم كما فعلت مع الفرنسيين .
وراح يضحك . كان عليه وقار رغم ذلك ، وفي عينيه صرامة ذكرته بصرامة مصطفى قائده، فقال المؤذن:
- سأفعل.
فعادا يضحكان ، ثم قال الشيخ وهو لا يزال على فرحه:
- حسنا.. حسنا..
ثم تركه ودخل إلى غرفة، فلبث المؤذن وحيدا ينظر إلى المكان البسيط الذي تزينه أشياء من طبيعة البلد.. ثم دخل الشيخ مرة أخرى وبين يديه صينية قهوة، وهو يقول:
- عذرا.
وصب القهوة بنفسه وجعل يضيف إليها سكرا ويذيبه، ثم قدم له فنجانه، وقال:
- تفضل..
لم يكن المؤذن يتناول القهوة، ولكنه أمسك الفنجان وتناول منه جرعة، ثم وضعه، وقال:
- وكيف هي حال البلد يا شيخ..
فأجاب بسرعة:
- بخير يا ولدي.. الحمد لله الذي أعاد لنا حريتنا بعد سنين طويلة..
فقال:
- الحمد لله.. الحمد لله.. لقد من الله علينا.
فقال الشيخ:
- حدثني أنت عن رحلاتك؟! كيف وجدت الناس؟
- إنهم طيبون يا شيخ .
فقال الشيخ :
- لم تقل لي حتى الآن ..أخبرني حكايتك ؟
نظر إليه المؤذن، ولم يعرف كيف يبدأ حديثه، حتى هو لا يعرف كيف ألفى نفسه يرتحل من مكان إلى مكان. حاول أن يتذكر ولكن ذاكرته لم تسعفه.. لربما كان ذلك في وقت سابق من حياته، حيث لم يكن قد ولد بعد؟ وربما رأى وهو بعد صغير حلما في يقظته، فراح يسافر به، عله يتحقق يوما. ولكنه لا يذكر شيئا محددا، وكل ما هنالك، ذكريات متقطعة، خليط من أشياء كثيرة وصور لأشخاص وأحداث، ولم يفلح حتى ذلك الوقت في جمعا في فكرة واحدة.
لبث المؤذن صامتا، حتى قال الشيخ:
- ما بك؟
فأجاب:
- لا .. لا شيء..
فقال له الشيخ أحمد ما أرقه بعد ذلك. دنا منه ووضع يده على فخذه وقال :
- اسمع .. لماذا لا تبق هنا في المدينة وتؤذن.لقد رأيت بنفسك كيف أعجب الناس بصوتك؟
المؤذن (الحلقة 6)
بقلم: عمر مناصرية
فقال له الشيخ أحمد ما أرقه بعد ذلك. دنا منه ووضع يده على فخذه وقال :
- اسمع .. لماذا لا تبق هنا في المدينة وتؤذن.لقد رأيت بنفسك كيف أعجب الناس بصوتك؟
كان قد دنا منه كثيرا ينتظر إجابة. نظر المؤذن إلى أعوامه الطويلة، ثم فكر ، وقال:
- لا أعرف يا شيخ..هذا أمر لم أتوقعه.
فقال الشيخ ، وقد دنا منه أكثر من ذي قبل :
- يجب أن تعرف.. إنك ستجتذب الناس فصوتك مميز، كما أن به إحساسا.. ولك أجر إن فعلت ذلك..(/8)
أحس المؤذن بالإرهاق، فهو لم يذق طعم الراحة حتى ذلك الوقت، ولذلك جعل يفكر مطولا، ثم قال:
- لا أعرف.. حقا .
فقال الشيخ:
- أتركك تفكر..هيا معي . غرفتك من هنا.
قاده إلى غرفة جانبية مفروشة ثم تركه قائلا :
- استرح أولا ثم فكر بهدوء..
تركه وخرج .فلبث المؤذن ينظر إلى تلك الغرفة وقد عاد إليه إحساسه بالغربة. وفي المساء استدعى زوجته، وقال لها مباشرة:
- إن الشيخ يدعونا للبقاء في المدينة.. فماذا ترين..؟
لم تجبه. نظرت إليه لثواني، ثم قالت:
- الأمر لك.. أنا أكون حيث أنت.
فأنشأ يفكر. نظر إليها مليا، وقام يذرع أرض الغرفة.. فأن يكون قد قضى هذه السنين كلها ليصل إلى هذه المدينة، فذلك ما لا يستسيغه. ولكن ذلك لم يبدو له مشكلة، فالمدن والأمكنة متشابهة، وهو لا بد مستقر في إحداها، إنما المشكلة في أهدافه، إن كان قد حققها فلا بأس. أما إن كانت ما تزال بعيدة المنال ، فلا بد أن يشمر عن ساعديه ويفر من هذه المدينة فورا.. فكر في الاستقلال والحرية وإذا ما كانا هدفاه، ثم فكر في أناس البلد، أولئك الذين بالكاد تعلموا شيئا من الحضارة، وأولئك الذين لم يزالوا في قعر الجهل.. فكر طويلا.. كانت زوجته قد تركته لما طال به التفكير، وبعد ثلاثة أيام حزم أمره.. فقد اقترب الشيخ منه ذات فجر وهو في المسجد وقال:
- .. ماذا قلت؟ هل فكرت ؟
كان مطأطئا رأسه، ثم رفعه وقال:
- أهلا بالشيخ.
فكرر الشيخ عليه سؤاله بنفس الدفء الذي عهده منه:
- ماذا قلت؟ هل ستبقى؟
فقال:
- أظن أنني سأغادر يا شيخ.. لقد قضيت سنوات مرتحلا، فليس من الممكن أن أعود إلى المكوث بسهولة.
نظر إليه الشيخ وهو يبتسم، كأنه كان يعرف بما سيجيبه به. ثم أضاف المؤذن:
- آسف يا شيخ. لقد دخلت الكثير من المناطق وأذنت بها، ولكن هناك مناطق كثيرة لم أصلها. وهذا حلمي.. ألا أترك مكانا في البلد إلا وأذنت فيه..
فقال الشيخ:
- يا له من هدف نبيل..
ثم أردف:
- إذن، فامضي إليه.. والله سيكون في عونك.
ثم تركه، ودخل مقصورته، ولم يخرج منها إلا لما أشرقت الشمس..
كان المؤذن يجمع أغراضه ويعد العدة للرحيل، وزوجه تساعده.. بدت عليه السعادة، وبدا له أنه يولد من جديد..
الفصل الثالث
كان واقفا على مئذنة يؤذن وينظر بعيدا حيث تبدأ منازل طين قديمة، وكانت زوجته قد دخلت المسجد وجلست في آخره..
كان المسجد شبه خرب، نوافذه مكسورة وبابه قديم، وقد علت أفرشته الغبار.. والمئذنة كذلك، حتى خاف عليها من السقوط، ولكنه بمجرد أن أنهى الأذان، ورأى طيور بعيدة آتية، عاد إليه الهدوء..
نزل بحذر، فقالت زوجته وهي تشير إلى المسجد:
- إنه يحتاج إلى تنظيف..
فقال: - نفعل ذلك بعد الصلاة.
لم يأت أحد إليه، سوى أربعة شيوخ مضعضعي الأجسام، منحنو الظهور، وعيونهم تنظر إلى الأرض أكثر من نظرها إلى الأمام.. دخلوا وأخرجوا حجرا أملس أزرق اللون من فتحة في الجدار وراحوا يتيممون عليه جميعا، ثم راحوا يصلون صلاة مشوشة..
لما انتهت الصلاة، نظروا إليه، وقال له واحد منهم:
- من أنت يا ولدي؟
فالتفت المؤذن إليه وقال:
- أنا عابر سبيل..
فأجابه آخر بصوت ضعيف:
- كلنا عابرو سبيل يا ولدي.
ثم قاموا عنه ولم يسألوه..
لبث يؤذن ثلاثة أيام دون أن يأتي للصلاة أحد من أهل القرية سوى أولئك الأربعة.. وفي اليوم الرابع جاء ثلاثة منهم فقط، فلما سأل عنه، قالوا له إنه مات..
تعجب . كان عليهم أن يخبروه ليصلى عليه في المسجد، فاتجه إلى القرية التي لا تبعد إلا قليلا وألفاهم يجهزون الميت للدفن.. نظر إليهم . كان الرجال متسخي الثياب ووجوههم مسودة وهم ينظرون إليه، وقد أحاط به أطفال بائسون..
قال لهم:- دعونا نصلي عليه في المسجد.
فلما رفضوا اقتراحه، قال:
- أتودون أن يكون مصيركم كمصيره.. أكرموا ميتته.. على الأقل..
وعندئذ استجابوا له..كان قد قضى وقتا طويلا في مفاوضتهم، وقد حانت صلاة العصر، فصعد المئذنة وراح يؤذن ، وهم ينظرون إليه جميعا كأنهم ينظرون إلى شيء مبهم غريب عنهم .ورغم ذلك دخلوا المسجد ، وأخرجوا أحجارا ملساء من فتحات وجعلوا يتيممون ويصلون .ثم صلوا على الميت وأخذوه للدفن في مقبرة .
أذن لخمسة أيام هناك، وفي كل يوم لا يخرج إليه إلا قليل منهم، وفي اليوم السادس نفذ منه طعامه، وكانت زوجته تعجن له في كل يوم رغيفا يأكله، فلما نفذ منها الدقيق القليل الذي احتفظوا به.. سألته أن يذهب إلى القرية ليأتيها منه..
ذهب صباحا، وكان القوم نياما غير قلة منهم خرجوا لرعي أغنامهم في أرض قاحلة.. سأل عن حانوت، فلم يجيبوه، وظل يسأل هناك، ثم علم أن لا دكان في القرية ، وأن الناس لا يقتاتون إلا على الشعير أو القمح واللبن.. فلما حضرت الصلاة وشعر بذلك.. اتجه إلى بئر قرب المسجد لا يستسقون منها وأحضر دلوا ، وعاد إليهم وراح يطلب منهم أن يتبعوه إلى المسجد .(/9)
في أول الأمر لم يستجب له أحد، فلما راح يسألهم عن السبب أخبره رجل قصير القامة أن المسجد مسكون ..لقد شك في الأمر أول مرة ، فقال:
- هذه من خرافات الاستعمار.. تركها لكم كي تهجروا مساجد الله، ولكني أعلمكم شيئا إذا فعلتموه فلن يضركم شيء.. توضئوا مثل ما أتوضأ واذهبوا إلى المسجد تطردوا منه كل شر .
وضع الدلو أمامهم وجعل يتوضأ وهم ينظرون ، ثم أمرهم بالذهاب إلى المسجد فاستجابوا له. وفي كل يوم كان يفعل ذلك معهم ، حتى رأى شبابا يأتون إليه..
كانت زوجته قد نظفت المسجد وعدلت فرشه، ورمم هو حيطانه، فلما رأوه على ذلك النحو اطمأنوا وصاروا يأتون إليه للصلاة.. في أيام قليلة رأى وجوههم تتغير وأعينهم تتحول و بشراتهم تبيض.. رأى ذلك حقيقة، وكلما أذن وأحس بالأقدام كالدبيب تأتي إليه، شعر بالاطمئنان وازداد ثقة..
وذات جمعة، أمرهم بالاغتسال والتبكير إلى المسجد، فلما حضروا وأذن قام فيهم خطيبا.. ارتدى برنوسه الأبيض وارتقى منبرا صنعه من كرسي قديم وأمسك بعصاه وقام يخطب، قال بلغتهم التي يعرفونها:
- أيها الناس، لا تظنوا أنكم قد خلقتم عبثا، وأنكم لا تحاسبون، إنما أنتم بشر قد كرمكم ربكم واصطفاكم على خلقه، وهو رؤوف بكم.. غيروا من حالكم، واستغفروه، ينزل عليكم من السماء ماء، وينبت لكم به زرعا، ويرزقكم..
وفي ذلك المساء نزل مطر وارتوت الأرض وخرج السكان يستبشرون، فلما أذن العشاء جاءوا إليه، وعليهم فرحة غامرة..
أحس بعد ذلك بنداء السفر، فترك خلفه رجلا توسم فيه خيرا وأوصاه، وارتحل.
المؤذن (الحلقة 7)
بقلم: عمر مناصرية
كان في ذهنه أنه في مكان آخر لا يمت إلى بلده بصلة. مكان في أقاصي الخيال، حيث الذين رآهم شيء آخر، كائنات أخرى لم يسبق له أن رآها. فلما سافر وارتحل وراح يؤذن عائدا إلى سابق عهده، أخذت أحاسيسه تعاوده، فجعل يتذكر السبل القديمة والقرى والوجوه والجبال والأودية، وزوجه معه تسنده صابرة.. لا تمتعض ولا تشتكي.. وفي عينيها، كان يرى نفس البريق الذي ألم به.. يدخل القرى معه ويخرج. ينير له الطريق ليلا وتحت المطر، وفي البرد يلفه بالدفء..
سافر إلى أمكنة مختلفة، وسار إلى أبعد نقطة في البلد شرقا ، ثم نزل هناك في أرض خلاء كما يحب. ووقف بلا حراك ..كانت ريح تهب به وتسحب منه طرفا برنسه كأنها تدعوه للمضي .. فصمد وقال لزوجته:
- إنها من هنا ؟
بالكاد أدركت ما الذي يعنيه، فأضاف:
- الكعبة .. إنها من هنا .
كان قد ابتعد عن القرية التي تركها خلفه كثيرا، وكانت الشمس على وشك الغروب.. شمس حمراء اللون تغرق خلف كثبان.. فالتفت إلى زوجته، وقال:
- إنني أشم رائحتها الآن.. كم هي خالدة!
ثم قال في شبه حماس:
- وأستطيع السير إليها مغمض العينين!
لم يخطئ يوما أبدا. لا في معرفة وقت الصلاة ولا في تحديد القبلة. ولما وصل إلى تلك النقطة شمها بحدسه.. فتوقف، وربما رآها واضحة أمامه فاستجاب. وقف ينظر شرقا والشمس تغيب ببطء، فقالت زوجته:
- هل تفكر في الحج؟
لم يلتفت إليها، لبث واقفا. وبعد صمت قال:
- لقد بناها إبراهيم وابنه إسماعيل، والمكان له مغزى عظيم.
ثم أضاف :
- وذلك لا يمكن تعليمه للناس، إنه شيء أبعد من العلم.. شيء من إحساس أو رؤيا..
شم ذلك بعمق، وربما في تلك اللحظة بالذات، فهم مغزى الدين، ليس كما يفهمه السذج من الناس أو العباد والصوفية، إنما كما يفهمه ذوو البصائر.
لبث هناك حتى الفجر، ولما أحس بوقت الصلاة. نادى بأعلى صوته.. ثم قفل عائدا..
كان قريبا جدا، ولو شاء لفعل، ولكنه آثر الرجوع، مفكرا أنه سيذهب إلى الحج يوما.. استشعر الثقة، ثم اتجه جنوبا ثم غربا، كطائر مهاجر يعرف مسبقا وجهته.. ثم اتجه شرقا إلى العاصمة.. اتجه إلى كل مكان. طاف البلد طولا وعرضا. الناس يعرفونه ويفهمونه، يدخل قرية فيهبون إليه واضحين هذه المرة، أعينهم واثقة وفي قلوبهم أمل بعد سنين طويلة من الجهل.. وفي كل مكان كان يشاهد شبابا صغار السن في المساجد والجوامع يتعلمون.. شباب بريئين مختلفي الأذهان ، بشراتهم لينة وفي عيونهم قوة ، يوحون له بالبلوغ.. في كل مسجد تقريبا كان يرى ذلك.. ولما يدخل ويعرفونه، يحيطون جميعا به، فيجالسهم ويوصيهم ويمضي..
عادت إليه ثقته. ما كان يعمل لأجله طوال سنين أصبح واضحا أمامه، يمشي ويحيا ويخطو أول خطواته.. كان يفكر إن كان هو من تسبب في ذلك .. إن كان هو من أثر فيهم إلى ذلك الحد ؟ أم أن آخرين لا يعرفهم ولم يلقهم كان لهم شرف ذلك؟
ولكنه لا يصل إلى جواب.. رغم أنهم كانوا يعرفونه ويحبونه ويتعلمون منه الأذان ويقتربون منه أكثر.. فكر أنه واحد من كثير، ولا يمكن أن يكون له الفضل وحده .. ولكنه كان يفكر أيضا، إن حصل له ذلك الشرف حقا، فذلك يكفيه..
ذات عام دخل مسجدا في العاصمة. وكان فيه شباب كثر يتعلمون وأطفال صغار السن. اقترب من طفل ومسح عليه، وقال:
- ما تحفظ..؟
- فأجابه الصغير:
- أحفظ خمسة أحزاب..
- خمسة أحزاب..كلها ..؟
- نعم..(/10)
فرفع المؤذن رأسه إلى السماء وسأله:
- فماذا تريد أن تكون..أعني في المستقبل إن شاء الله ؟
فأجابه الصغير، بثقة:
- أريد أن أصبح مثلك!
فتعجب المؤذن، كان قد بلغ من عمره خمسين عاما أو أكثر، وغزت وجهه تجاعيد دقيقة، فقال:
- أو تعرفني؟!
- أجل..
فقال على سبيل المزاح:
- فمن أنا؟!
- المؤذن!
نظر إليه بحيرة ثم بخوف.. حقا. إنه يعرفه، فقال بتردد:
- وكيف عرفتني؟!
ولكن الطفل لم يجبه. راح ينظر إليه، ثم اشتغل بلوحه.
اقترب منه بهدوء ثم جلس إليه ، وسأله:
-كيف عرفت ذلك؟! قل لي يا صغيري كيف عرفت؟
لم يجبه. نظر إليه، ثم أهمله.. ابتعد إلى نافذة وجلس أمامها وراح يقرأ، فتوقف المؤذن ولبث ذاهلا. بدا له ذلك شيئا لا يصدق.. ولو كان الطفل أكبر لأعذره، فلربما يكون حينئذ قد رآه.. ولكنه كان صغيرا جدا، ولا يبلغ حتى ست سنوات.. كما أنه لم يدخل العاصمة منذ أعوام، ولم يكن هذا الطفل قد ولد بعد..! وإذ ذاك شعر بخوف شديد.. وقال في شبه ذهول: - لقد شمني..!
ولم يفق إلا على يد تحط على كتفه، فلما قام والتفت، ألفى شابا طويل القامة ينظر إليه ويبتسم.. حاول أن يحييه، ولكن عيناه بدتا له مألوفتين.. حاول أن يتذكر، فقال الشاب:
- أهلا بشيخي!
فقال المؤذن:
- أهلا.. كيف حالكم..؟!
فقال:
- أولا تذكرني يا شيخ؟!
استغرب.. لم يحدث أن أحس بذلك في أي مكان، فوقف مترددا، ناظرا إلى الشاب نظرا مريبا، حتى قال الشاب:
- أنظر جيدا..
وراح يبتسم وهو واقف أمامه ينظر، لا يكاد يستطيع تذكرا.
كان يظن أن ذاكرته قوية دائما، ولكن هاهو يكتشفها على حقيقتها، فقال:
- عذرا.. ولكنني لا أتذكرك يا بني ؟!
فقال الشاب بحماس:
- أنا المؤذن!
تعجب أكثر، وبسرعة تذكر.. نظر إلى عيني الشاب، وهتف:
- لحسن!
ثم عانقه . أمسكه من يده ومضى به إلى زاوية، وراح يقول:
- كبرت يا ولد.. ما الذي جاء بك إلى هذا المكان..؟ هه.. قل لي..
فشعر الشاب بالحرج، فلما جلسا قال له وهو يطأطأ رأسه:
- أتيت إلى العاصمة قبل عشرة أعوام.. بعد الاستقلال مباشرة..
فقال المؤذن باستغراب، وقد جلس متصالب الرجلين، ولحسن جالس أمامه:
- وكيف تركت قريتك..
فقال لحسن:
-لم تعد موجودة.. لقد دمرت في الحرب..
طأطأ المؤذن رأسه، وقال:
- آسف..
ثم سأله :
- هل نجا منها أحد؟
- القلة فقط يا شيخ..لقد قاتلوا ببسالة .
ثم خيم عليهما صمت، ولم يقطعه إلا ذلك الصبي الذي رآه المؤذن أول مرة. اقترب، وقال:
- شيخي.. لقد حفظت.
فابتسم لحسن، والتفت إلى المؤذن، وقال:
- أقدم لك علي.. إنه ظاهرة، يحفظ في كل يوم ربعا..
فهتف المؤذن:
- حقا..؟! َاقترب..
فاقترب الصبي، وراح يستعرض ما حفظه.. فلما أنهى ذلك، قال لحسن:
- نادي أصحابك.. أحضرهم جميعا..
فقال المؤذن:
- هل حدثتهم عني..؟
فقال لحسن، مستغربا:
- لا.. لم أحدثهم عنك أبدا..
فازداد المؤذن استغرابا. ظن أنه عثر على السر في معرفة الصبي له، ولكنه لم يزدد إلا حيرة. ولما حضر إليه تلاميذه، جعل ذلك الصبي ينظر إليه بعينيه اللتين لا تشبهان أي عينين. راح ينظر بإمعان، ولحسن يقول:
- أقدم لكم شيخي الذي علمني.. إنه المؤذن..
فجعل الشباب والأطفال يسألونه وهو يوصيهم، ولكن ذهنه كان لصيقا بذلك الطفل، ولم يستطع أن يزيحه أبدا.. ثم قال لحسن:
- اليوم سيؤذن لكم بنفسه.. ماذا قلتم..؟
فجعلوا يهتفون.. إلا ذلك الصبي، فقد جلس هادئا، يرنو إليه معظم الوقت..
أذن لهم ثلاثة أيام.. وكان كلما لبث فيهم ازداد حيرة، فهم غير ما شاهده في كل البلد.. شباب وأطفال يحملون أسرارا وعلى وجوههم ضياء.. بريق قديم ..أشعره بالدنو ، فجعل يتذكر طفولته فيهم ويزداد تشبثا بذلك الصبي، حتى أنه أخذه للنوم معه طوال اليومين التاليين.. بدا له شيئا مختلفا. شيئا ليس بوسعه فهمه.وبصعوبة تركوه يرحل، تشبثوا به إلى أقصى حد.. ولكنه لما أصر، طلبوا منه وعدا بزيارتهم في العام القادم.. فرضخ.
* * *
لم يتأثر بشيء في حياته تأثره بذلك الصبي، فجعل يتساءل طوال رحلته كيف تعرف عليه..؟ كيف قال له إنه المؤذن دون أن يكون قد رآه أو سمع عنه ..!
زاده ذلك ثقة وحيرة، وراح يدخل المساجد والقرى والبلدات على نحو مختلف ، باحثا فيها عن أطفال وشباب ينمون كالفراخ.. ينمون كجيل جديد. فكر أن عمله طوال السنين الماضية لم يذهب هباء ، حياته في العراء والبرد والجوع والبؤس.. كل ذلك لم يذهب هباء ..
وجعل يحس بالثقة تعاوده كلما دخل مسجدا أو جامعا فيجده عامرا.. أناس جدد.. شباب صغار السن وأطفال.. شيوخ ونساء كلهم أفاقوا فجأة، كأن أعينهم كانت مغمضة أو معصوبة، فإذا هم في لحظة يبصرون.. ينظرون إلى بعضهم بعضا ويتعانقون، ويعودون إلى الطريق بعد أن كانوا قد تاهوا عنها كثيرا..(/11)
في لحظة انقلب كل شيء رأسا على عقب.. أصبح صوته يصل مناطق بعيدة، وأصبحت المساجد تمتلئ عن آخرها بالناس.. وفي كل منها كان له أصدقاء أو تلاميذ . فإذا مر بهم رحبوا به ، وأعدوا له العدة ليؤذن.. رأى الناس يستيقظون، يخرجون من تحت التراب ويمسحون عن وجوههم البؤس .
عاد إليه اطمئنانه، لولا أن زوجته أصبحت كثيرة الحزن. شيء ما راح يؤرقها ويكبر فيها ولا تقدر على البوح به. فأحزنه ذلك، وأحس بالخوف!كانت تتفاداه كثيرا و لا تجرؤ على مواجهته، فدنا منها ذات ليلة وهم بسؤالها...
كانت جالسة إلى جدار، منكفئة على نفسها، في غرفة تبعد عن المسجد الذي نزلا فيه قليلا. ولما أنهى آذان العشاء وصلى دخل عليها..
طأطأت رأسها لما رأته، فدخل وألقى السلام، فردت بصوت لم يتغير كثيرا رغم السنين، فقال:
- كيف الحال يا صليحة؟
وجلس على حشوة، فقالت:
- بخير..
قالت ذلك بصوت أعلى قليلا من السابق، فاستطاع أن يعرف نبرة اليأس التي زاحمته..صمت لحظات، ثم سألها:
- هل حدث أمر..؟
لم يكن يعلم إن كان عليه أن يسألها عن مشكلتها حتى ذلك الحين، وقد سألها على سبيل العادة. فردت بسرعة:
- لا.. لا شيء.
وتناول كتابا ليقرأ فيه، ثم سمع نشيجا. فالتفت إليها فرآها تبكي.. وأغلق الكتاب. وضعه جانبا ودنا منها، وقال:
- صليحة.. ما بك؟
ولكنها لم تجبه.. بل نهضت، وراحت تعد الفراش للنوم . فعاد إلى جلوسه وكتابه، وقبل أن يأويا إلى الفراش، سألها أيضا فلم تجبه.. ظن أن بها مرضا أو سوءا، ولكنها بدت له كعهدها، غير ذلك الحزن الذي استعمر وجهها وعينيها فغدتا ذابلتين.. سألها مرة أخرى قبل النوم فأشاحت عنه وأعطته ظهرها. وقبل أن يغفو، سمعها تنشج..
كان في اعتقاده أنه حزن عابر، وظن أن الأيام التالية ستمحوه، ولكنه كان مخطئا، وفي كل يوم كانت تزداد شحوبا، حتى شق ذلك عليه، ولم يعد يطيق صبرا..
قال لها ذات ليلة:
- صليحة أخبريني.. ما بك..؟
قال ذلك بنبرة واثقة صارمة، وعرفت أنه لم يعد يطيق احتمالا، فأجهشت بالبكاء بقوة، وارتمت عليه لحظات، ولما أفاقت أمسكها من رأسها بيديه، وقال:
- ما بك..؟
المؤذن (الحلقة 8)
بقلم: عمر مناصرية
وهي مطأطئة رأسها إلى الأرض.. فكرر ذلك، وفيما هو يسألها بلا توقف، سمعها تردد ببكاء :
-إنني عاقر.. عاقر.. عاقر.
فتركها باستسلام.. نظر إلى نفسه أولا، ثم راح يتذكر عمره.. شريطا طويلا من الحياة. ثم تذكر أنه بلا أولاد.. حقا؟! إنه لم يصر أبا بعد.. ثم راح يتساءل بينه وبين نفسه كم مضى عليه وهو على تلك الحال.
وأجاب: - عشرون عاما في أحسن الأحوال.. نعم. عشرون عاما.. وفجأة تذكر، وعاد إلى رشده، فراح يضحك ضحكا متقطعا.. وقال:
- هذه مشكلتك؟!
فرفعت رأسها إليه والدموع تملأ وجهها بالكامل، فأضاف:
- لا تخافي..إن كانت هذه مشكلتك فهي من قضاء الله.. وليس لنا فيها حيلة .
فتعجبت منه، وقالت بصوت ضعيف ينم عن الإرهاق :
- ألست قلقا من هذا الأمر؟!
مسحت دموعها، فراح يبتسم ويقول:
- وما فكرت فيه طوال زواجنا..
ثم صمت قليلا ليرى وقع ذلك عليها، وأضاف:
- وقد يكون العيب مني وليس منك..
فأجابت:
- لا.. أنا العاقر وليس أنت؟
فقال:
- وقد يكون منا نحن الاثنين.
فابتسمت لحظة، ثم عاد إليها وجومها بسرعة، فقال:
- لا تحزني.. غدا يجعل الله لنا مخرجا.. وماذا لو ذهبنا معا.. هكذا بلا أولاد.. وحيدين.. كائنين أحبا بعضهما حبا شديدا، ومضيا.. ماذا في ذلك..؟
ظن أن ذلك سيسري عنها قليلا، ولكن البكاء عاودها بشكل فضيع، فراحت تبكي بكاء حارا أليما، فآوى إلى الفراش وتركها تبكي . ولما استيقظ مرة، وجدها لا تزال تبكي، فعاود النوم.. ثم استيقظ لصلاة الفجر، فألفاها مستلقية، وجهها إلى الجدار وتنبعث منها تنهدات متقطعة، تكاد تمزق كبدها..
خرج وأذن بصوت رخيم حائر.ثم صلى خلف الإمام . وجلس يتحدث إليه وقتا، ثم استأذن منه، وقال:
- اعذرني يا شيخ .. علي أن أخرج..
خرج إلى البلدة الصغيرة التي أخذ الصباح يزحف نحوها وئيدا. وراح يفكر في حزن زوجته، لولا أن شيئا استرعى انتباهه.. شيئا غريبا لم يصادفه من قبل.. شباب ورجال يسيرون جماعات جماعات وفي أيديهم عصي وقضبان يكسرون بها كل شيء . ثم سرعان ما انظم إليهم آخرون وجعلوا يصرخون بسقوط الدولة ويعيثون في البلدة فسادا . فاجأه الأمر ، فلو أنه لم ير ذلك حقا لما صدقه . وعند الظهر تعاضمت الجموع وجعلت تهتف بشعارات جديدة لم يسمع بها من قبل .وفي اليوم التالي عادوا أيضا وأحرقوا بنايات ومؤسسات . حاول ثنيهم ، ولكنهم كانوا غاضبين ، يقطر من أعناقهم عرق وفي عيونهم هياج لم يجد سبيلا لكبحه .وفي المساء جاءت قوات أمن وفرقتهم .وظن أنهم لن يعودوا لذلك ثانية ، فلما رآهم في اليوم الثالث تعجب ، فعاد إلى زوجته وأمرها بالاستعداد للرحيل..(/12)
خرج من البلدة، وظن أنه تركهم خلف ظهره، ولكنه في البلدة التالية أيضا ألفى نفس الوجوه..شباب ورجال يحرقون ويكسرون ولا شيء يقف في وجوههم . أرقه الأمر ولم يستطع فهمه. لأسبوع ظلوا يفعلون ذلك وهو عاجز عن الفهم . حتى إذا انتهى ذلك ، ظن أن الأمر سيعود إلى سابق عهده . ولكنه لم يعد أبدا كما كان .
* * *
فجأة تغير كل شيء ، وبسرعة ظهرت أحزاب كثيرة كلها تتحدث عن السياسة والفساد. البعض منها يجاهر بالكفر، والبعض الآخر بالإسلام.. في رمشة عين تكون كل شيء حوله.. كأنه دخل عالما جديدا عليه، فأصبح فيه كالتائه.. ولولا أنه يرى ذلك صباحا ومساء وفي كل منطقة، لظن بنفسه سوءا..
كان مخطئا حقا، وكان عليه أن يحسب لذلك حسابا.. أن يراه قبل حصوله ويتمثله، ولكنه فاجأه فلم يعد قادرا على التصرف.. أحيانا كان يلوم نفسه وأحيانا أخرى كان يخلق أعذارا.. ثم أصبح يرى ذلك أمرا يجب التعامل معه، ولكن المشكلة أن الدين أصبح كل من هب ودب يتحدث فيه، حتى الشباب الذين درسوا في أمكنة مجهولة أصبحوا يفتون ويكفِّرون.. وفي لحظة تغير كل شيء ، ولم يعد قادرا على التصرف..
كان يرى ذلك وهو صامت، يمر عليه كأنه لا يسمعه، فقد ظمرت إرادته ولم يعد قادرا على المواجهة .وعلى حين غرة ألمت به فكرة رهيبة ، حاصرت ذهنه وبددته . قامت أمامه كمارد وأغلقت عليه سبيله ..فكر أن حياته كلها ارتبطت بالمساجد ، يدخل إليها ويؤذن غير آبه لظروف الحياة من حوله . ولما رأى الأحزاب كالنمل حوله عاد إلى نفسه. حقا ! إنه كان نائما. فلم يكلف نفسه عناء البحث عن أسباب خارج المسجد، بل كان قلبه معلقا به .. يؤذن ويعظ الناس ويخرج. أما ما كان وراء ذلك فقد غض الطرف عنه . بدا له ذلك خطأ فادحا ارتكبه، فراح يعنف نفسه وأنه سبب كل تلك المشاكل. فلو أنه نظر مليا أمامه ، لو رفع قليلا رأسه ونظر إلى الناس لأمكنه أن يفعل شيئا يحول دون ذلك . لم يعرف بعد ذلك ما حدث ، فقد أحاطت به ظروف جديدة ألفى نفسه فيها كالغريق . نمت الأحزاب بسرعة واكتسحت المساجد والساحات والمقاهي وكل شيء... أصبح الناس لا يتحدثون إلا في السياسة، يجاهرون بشتم النظام وسبه . فجأة انقلب كل شيء رأسا على عقب . أصبح لكل حزب أنصار يتناوشون ، يتجادلون، ينضمون مسيرا ت حاشدة ويعلقون شعارات .
لم يكن يريد لبلده أن يتيه في تلك الأودية ، فما كان يعمل لأجله سنين طويلة بدا للحظة أنه غير مهم البتة. بدا شيئا تافها وصغيرا حتى شك في قدرته .
في لحظة ظهر أشخاص جدد يتحدثون ، يقودون الناس حيث شاءوا ويشعلون الحماس.. حتى الأطفال فعلوا ذلك . أما هو ، من كان يتحرق شوقا إلى فعل شيء ، فقد بدا غريبا ولا أحد يلتفت إليه .. ماذا دهاهم ، هؤلاء الذين نبتوا على غفلة منه ؟ أتراهم أولئك الأطفال الصغار الذين أحبهم كبروا فجأة واستطالت لحاهم ؟ أهم أنفسهم من يقود الناس في الشوارع ويركنهم في الساحات أياما طويلة ؟ أم أنهم آخرين هبطوا من كوكب وسحروا أعين الناس ؟ ولماذا لا يستطيع فعل شيء ؟ لماذا بح صوته فجأة وصار ضئيلا ؟ ولماذا يقف هؤلاء الصغار في طريقه ويسحبون منه مكبر الصوت كلما دخل مسجدا ، قائلين أنه مبتدع؟ لماذا ؟
أرقته الشكوك حتى كاد يسقط ، فقرر السفر إلى الشيخ أحمد عله يعثر عنده على جواب . دخل عليه فألفاه مريضا خائر القوى على فراش بال ، فدنا بحذر وقال كأنه يطلب نجدة :
- يا شيخ .. ما هذا الذي يحدث ؟
كان الشيخ قد بلغ من الكبر عتيا وأرهقه المرض . وبالكاد استطاع أن يمد له يده لينهظه ، فلما اتكأ على وسادته ورآه ، قال بصوت ضعيف لا يكاد يسمع :
- أتركهم وشأنهم .. اعمل ما أنت عامل لأجله.. هذه حماسة .
فقال المؤذن :
- ولكن البلد كلها معهم .. أحق هو ؟
وعندئذ كح الشيخ بصعوبة ، وبدا صدره الضعيف سينشق من المرض ، فقال بصوت أكثر ضعفا من السابق . رفع سبابته وقال :
- هذه حماسة ...
ثم لم يعد يجيب على أسئلته ، فقد استلقى على فراشه وراح ينظر إلى السقف . وبعد ثلاثة أيام لفظ أنفاسه ، فشيعه وغادر ليس يدري هذه المرة إلى أين. بكى لأجله ، وود لو يلحق به . أليس يكاد يبلغ السبعين من عمره ؟ أليس قريبا إذن من الموت ؟
استغفر الله ثم مضى تائها ، لا يكاد يعثر على مسجد يؤذن فيه ..أصبح كالغريب في المساجد التي كان يدخلها كالفاتح، أصبح آخرون يقومون عليها ويمنعونه من الآذان.. دخل ذات مرة مسجدا في بلدة وقضى ثلاثة أيام يحاول أن يؤذن، وكلما دنا من تلك الغرفة التي يخبئون فيها مكبر الصوت أمروه بالخروج.. اضطر مرارا لشرح عمله وهويته، ولكنهم منعوه، وقدموا عليه شابا صغيرا، راح يؤذن آذانا غريبا.
فنهرهم، وذهب إليهم في اليوم الرابع، وقال:
- إن هذا افتراء واضح.. إنكم تدمرون الناس من حولكم.
فقال رجل وقف بقربة:
- ومن تعد نفسك؟
- لا يهم.. ولكن الأمر ليس بهذه الطريقة...
فراح آخر يضحك منه، ثم قدم إليه الشاب الصغير، وقال:(/13)
- إن صوته أندى من صوتك.كما أنك الآن عجوز، يكفيك أن تنتظر الموت .
حاول أن يشرح الأمر لهم، ولكن آذانهم كانت صماء.. قضى أسبوعا يدخل المسجد ويخرج، ثم رحل حزينا. في كل مكان يذهب إليه يجد فيه مؤذنين.. شباب ورجال يعيقونه أو يختلقون أعذارا . ولما يصل إلى مكبر الصوت أحيانا وعلى غفلة منهم يسرعون لانتزاعه منه.. ولكنه في أحيان أخرى، كان يؤذن. في قرى بعيدة لم تصلها السياسة، أو في مدن هادئة.. وذات مرة خاطبه إمام في مسجد، وقال له:
- إذا أردت أن تؤذن.. فانخرط في الحزب..
لم يدر أي حزب يقصد، ولكنه غضب. شعر بالإهانة، فعنفه وهم أن يغادر لولا أن الإمام فاجأه قائلا :
- لماذا لا تدعو إلى تطبيق الشريعة ، ذلك أفضل من الآذان ، فهو ليس إلا سنة .
ضاعف ذلك من إحساسه بالذنب ، ولكنه لم يرد عليه .راح يغادر البلدات مع زوجته مهزوما.. تاركا خلفه احتقانا وفوضى، وكان الزمن قد قسا عليه كثيرا، فعاد يقضي لياليه في العراء أو في محطات الحافلات، أو في أماكن لا تصلح للنوم.. أصبحت حاله سيئة، وعاد الجوع يحاصره..
أحزنه ذلك، ولكنه لم يستسلم . واصل سيره. تذكر الأيام الخوالي والمحن، فسار ثانية، بادئا من جديد.. تخيل ما بناه ينهار فجأة، فشمر على ساعديه وعاد يبنيه، فكان يدخل البلدات من جديد ويؤذن، ضاربا عرض الحائط بكل شيء.. كان يصعد المآذن وينادي بصوته، فيغضب الناس منه ويمقتونه، وأحيانا كان يتلقى كلاما عنيفا . ولما راح يقول في آذانه: الفتنة أشد من القتل قبل أن يقول التكبيرتين الأخيرتين، عنفه الناس ورأوا فيه مجنونا، وضربوه ضربا مبرحا.. ثم طردوه..
لقد حدث ذلك في مدينة، وكانت مسيرة على وشك الانطلاق.. مسيرة حاشدة ستجوب المدينة طولا وعرضا.وكانت ستنطلق بعد صلاة الجمعة، فصعد المئذنة على غفلة منهم وراح يؤذن بذلك، مرددا تلك الجملة التي أضافها في ذلك الحين، ثلاث مرات كاملة.. ولما نزل هجم عليه شباب أقوياء وأشبعوه ضربا. وتحدث الإمام في الخطبة عنه، ناعتا إياه بالمبتدع.. حمل جراحه في ذلك المساء، وخرج من المدينة، وكانت زوجته تسنده من ذراعه.. حملته بعيدا عن المدينة. ولما وصلا واديا، استلقى على فراشه ونام بسرعة..
* * *
لم تتوقع صليحة أن يحدث له ذلك. لقد كانت تتخيل دوما أن سوءا ما سيصبه، ولكنها لم تظن أن يأتيه من ذلك الجانب.. أحست بالحزن وراحت تبكي.. لبثت تبكي حتى الصباح.. ولما استيقظ وعلى وجهه كدمات. حاول النهوض فلم يستطع. لبث في فراشه البارد.. وسمعها تبكي على مسافة منه، فنادى بصوت خافت:
- صليحة..
فجاءت تمسح دموعها من عينيها. ووقفت أمامه، فقال:
- لماذا تبكين؟
فأجابت بلا إبطاء :
- من حظنا التعس..
فقال:- استغفر الله.. ماذا تقولين يا امرأة؟!
فقالت:
- أقول الحقيقة التي تداري عنها دائما.. فها أنت.. أنظر إلى نفسك.. ألست جريحا، لا معين ولا صديق..
فعاد واتكأ على وسادته، وقال وهو ينظر إلى السماء..
- معيني الله..
قالها بهدوء وصمت، فجاءته من الجهة الأخرى وقالت:
- لم يكن لك منزل قط.. لم يكن لك دار ولا متاع.. أفنيت عمرك في الارتحال مؤذنا في الناس.. والآن..
التقطت أنفاسها، وقالت بزفرة:
- والآن ها أنت.. لقد ضربوك.. هل تصدق؟
فقال بنفس الهدوء:- أصدق!
لبثت تفرغ شحنة من الغضب واليأس، وهو مصغ مشيح، ينظر إلى الأفق حزينا.. كان قد صلى الفجر مستلقيا لما لم يستطع النهوض ، ثم غفا واستيقظ على نشيج.. أصغى إليها طويلا، ولما أشرقت الشمس، اتكأ إلى جذع الشجرة، وقال:
- اسمعي ياصليحة.. حسبنا الله.. الناس يتغيرون.. اليوم ترينهم على هذه الحال، وغدا على حال آخر، وكذلك الأحداث..
ثم قال لها، وهي تنظر إلى الشمس واقفة، وتخط على الأرض بعصا خطوطا:
- إذا لم تكن لنا دار، فقد كان لنا منزل في كل مكان ذهبنا إليه، وحبا في كل قلب أوانا إليه.. أليس كذلك؟
ولما رآها لا تجيب، أضاف:
- لا تخشي شيئا.. ما هذه إلا حماسة سرعان ما تزول، أما ما ينفع الناس فيمكث..
وسمعها تقول: - معك حق..
ولكنه لم يحس بصدقها.. كانت تبتعد شيئا فشيئا وتحجب أشعة الشمس عنه.. فلبث النهار بطوله مستلقيا، ولما جاء المساء استعاد بعض قوته فقام وأذن للمغرب وصليا هناك.. وكان الطعام على وشك النفاذ، فلم يأكلا إلا خبزا يابسا.. وأذن للعشاء أيضا، ثم سمع قدمان تقتربان، وصوتا ينادي:
- هاي.. من هناك؟!
ولما اقترب رآه المؤذن فناداه. كان شيخا مارا في تلك المنطقة، فلما صلى معه، قال:
- كنت على وشك أن أتيه، حتى سمعت الصوت..
وراح يضحك ضحكا قرويا واضحا، والمؤذن يبتسم.. وأضاف الشيخ:
- حقا.. كنت مارا وأفكر إلى أين أذهب في هذا الليل.
وضحك، فنظر المؤذن إلى زوجته وابتسم.. ولكنها لم ترد عليه، فقال الشيخ:
- ثم سمعت صوتك.. تخيلت أنني سمعته منذ مدة طويلة.. هل كنت تؤذن؟
- نعم..
كان يرتدي برنسا، وقد بدا وجهه على لهب النار الصغيرة ذا تجاعيد كثيرة، وعيناه بلهاوتان، يحرك النار في كل حين ولا ينتبه إلا لحديثه.. قال:(/14)
- البرد شديد هنا.. أليس معكم حطب..
فنادى المؤذن زوجته، فأحضرت أعوادا وقذفتها في النار وعادت إلى المتاع.. نظر الشيخ إليها، وقال:
- ماذا تفعلان هنا..؟!
كان سؤالا بريئا.. ثم راح يضحك، وفي فترة أخرج كسرة وراح يأكلها، ناسيا أن يعرض على المؤذن بعضا منها، ثم انتبه إلى ذلك، فمد له قطعة وسأله إن كان يريد الأكل دون أن يقول شيئا..
مد له قطعة، فأومأ له المؤذن أنه لا يريد أن يأكل.. فلما أنهى طعامه، استلقى على الأرض، وفورا نام..
المؤذن (الحلقة 9)
بقلم: عمر مناصرية
استمر يؤذن، غير آبه بالظروف. فلقد كان يعلم أن تلك حماسة سرعان ما تزول. حماسة شباب وكهول وشيوخ لا يعلمون، ولذلك استمر يؤذن. حتى لما كان صوته يرفض في أمكنة كثيرة، كان يتحين الفرص ليؤذن، فلربما يقع في أذن طفل صغير وبعد عشرة أقوام أو عشرين يتذكره، ولربما يحمله عصفور مهاجر إلى بقاع بعيدة.. فيقع فيها فينفع..
راح يؤذن، ويدخل المدن والبلدات، فيجدها مهتاجة بالتجمعات والتظاهرات والمناوشات، فيصعد المنصات ويحاول جاهدا تصحيح الأخطاء وينادي أن تلك فتنة لا ينبغي الجري وراءها أبدا.. فيهملونه أو يزيحونه، وأحيانا تقوده زوجته مرهقا ومريضا وتمضي به، ولكنه لا يلبث أن يعود، ناظرا إليهم بحب شديد..
لم يدر أي نار كانت تتأجج فيه، ولكنه كلما طردوه عاد من جديد وفي عينيه بريق وقوة رغم سنه، فراح يحضر كل التجمعات .تجمعات الأحزاب جميعا، غير مكترث إذا كانوا إسلاميين أو علمانيين.. ينصحهم بالرشد.. فإذا أصغوا إليه اطمأن، وإن أهملوه أو تركوه، عاد إليهم من جديد ونصح !
في كل مكان كان يفعل ذلك، وبين عينيه خوف مجهول راح يسابقه ليمنعه، حتى إذا وقع.. جثا على ركبتيه، وأحس حوله صمتا رهيبا.. وأحس بالوهن..
لقد وقع ما كان يحذره، وأحس بكل شيء ينسل من بين أصابعه كرمل بعد أن كان يعتقد أنه يقبض عليه.. وسمع ذلك أولا طلق نار في المدن، ثم احتقانا ثم عنفا رهيبا.. وبعدها رأى جثثا ملقية على قارعات الطريق. جثثا كثيرة سقط أمامها مغشيا عليه.. ولبث أياما بين الحياة والموت..
لم يكن يعتقد أن ذلك سيقع بين أبناء بلده، أولئك الذين قاتلوا بالأمس مستعمرا شرسا، والتحموا بقوة.. لم يعتقد أن ذلك سيحدث، رغم أنه كان يحسه، فلما أصبح يراه ماثلا أمامه، عاوده الانهيار، ولم يدر ماذا سيفعل..
أحس بطلق النار يحيط به من كل جانب، وبجثث ملقية حوله عمدا لتقتله. أحس بالبغض والمقت، وجعل كلما حاصره ذلك، وضع رأسه بين يديه وفر إلى العراء..
ود لو يفر إلى مكان بعيد يقطعه عن كل ذلك.. مكان ليس فيه أحد، فكان كلما حاصره بغضه، ركض بعيدا عن متاعه وقضى على ذلك سائر اليوم.. وفي المساء يعود مرهقا تائها.. وفجأة راح يبحث في طول البلد وعرضه عن أمكنة ليس فيها قتل أو جثث، ولكنه لم يجدها أبدا..
كان قد مضى على بدأ العنف، عام واحد، فلم يجد مكانا يذهب إليه، فخطرت بباله فكرة.. راح ينفذها فورا..
سلك طريقا نحو الشرق، ثم اخترق قرى وبلدات، ونزل في وادي لبعض الوقت، لم يستطع البقاء في القرى والبلدات، لأنه أصبح يمقتها كثيرا..
نزل بوادي في تلك الليلة، وكان اشتباك عنيف بقربه، فجعل يطل عليهم وهم يتقاتلون طوال الليل. ولم يكف عن البكاء، فصعد صخرة، وراح يؤذن ، ولكن صوته كان ضعيفا. ولأول مرة خانه.
كان قد بلغ من عمره سبعين عاما، فلم يستطع أن يوصله إليهم. وعند الفجر، لما كف القتال، أذن وصلى، وسار إلى ذلك المكان.. ألفاه موتا، وفي كل خطوة يخطوها جثث غير كاملة، أعضاء مفصولة، عيون مفتوحة، الجنود والمسلحين، كلهم تشاركوا في الموت.. بعضهم بلحى، وبعضهم ذقونهم حليقة، تراموا هناك، وعلى الورد لطخ دماء.. بكى هناك كثيرا وشعر بالحزن.. ثم حمل أمتعته مع زوجه وغادرا الوادي. ولما انتهوا مساء إلى قرية عرفها، دخلها بلا إبطاء، فقالت زوجته:
- هل ستدخلها؟
لم تعتد دخوله القرى منذ بدء العنف، ولكنه لم يجبها.. مضى إلى القرية، فلما دخلها مضى إلى منزل بعينه.. ثم ناداها:
- صليحة ..
كانت تلحق به، فلما اقتربت، قال:
- ناوليني الكيس..
وأخرج منه مفتاحا، ثم فتح به الباب..
استغربت، وقالت:
- هذا منزلك..؟
فأجابها بابتسامة ميتة تعلوه :
- نعم..
فتح الباب فاقتحمته الظلمة، ولكنه دخل.. كان البرد شديدا في الداخل رغم أن الوقت هو الربيع.. وفتح بابا آخر يؤدي إلى ساحة فانجلى المكان.. وراح يفتح الغرف والنوافذ وهي تتبعه.. ناظرة إليها كشيء طال انتظاره.. ثم قالت:
- إنه منزل جميل..
كان كذلك، وفي وسطه فناء مفتوح على السماء ، وبه رواق على جانب، تطل عليه غرفتين، فلما فتحت إحداهما، عثرت فيها على كتب، فنادته:
- هذه مكتبة..؟!
فأجابها من غرفة أخرى:
- نعم.. هي لجدي..
فراحت تناديه كلما عثرت على شيء جديد عليها. ثم دخلت المطبخ وعثرت فيه على أواني علاها الغبار، فخرجت والحماس ظاهر عليها، وقالت:
- إنه بحاجة إلى تنظيف..
فقال:
- لا بأس..
فقالت: -لم تخبرني أن لك منزلا..(/15)
- هنا نشأت.. قضيت سبع سنوات، ثم سافرت مع جدي..
ثم أراها بئرا، وقال:
- هذه أيضا بحاجة إلى ترميم..
أحست بالهدوء، وقضت المساء كله تنظف الغرف والساحة، وتدخل وتخرج، مهتمة مفعمة، وفي الليل قالت له:
- أكنت تأتي إلى هنا؟
فأجابها:- أتيت مرتين، وهذه الثالثة..
لم تصدق ذلك.. كانا جالسين على فراشه، وضوء شمعة ونار يبرزان ملامحهما قليلا، فقال:
- أهل القرية لديهم كهرباء..
ثم نهض وأطل على نافذة ثم عاد. فقالت:
- المهم المنزل..
أصغى إليها، كان بعض الهدوء قد عاد إليه، وشعر نحوها بالألفة. بدت له جزءا منه، ثم قال بصوت ندي رغم عمره الطويل:
- هل فتحت ذلك الصندوق..؟
فأجابت:
- نعم.. إن فيه قندورة وأشياء تخص النساء..
فقال:- نعم..
ثم صمت.. فكر أن ذلك ليس بالمهم الآن، فها هو عجوز قابع. ولكنه لما نظر إليها ورأى أنها لا تزال تحتفظ ببعض الشباب. عاد إليه الأنس وابتسم.. وسألها فجأة:
- كم بلغت من العمر..؟
صمتت لحظة، وقالت:
- تخطيت الأربعين..
ثم ابتسمت، وأضافت:
- غدا أكمل تنظيف البيت..وأنت تستريح .
كانت تعرف أنه لن يفعل ذلك، ورغم أنه مرهق ومتعب، إلا أنه يأبى إلا أن يفعل شيئا.. وبالفعل، ففي الغد استيقظ فجرا وخرج وأذن ، فجاء إليه السكان وصلوا خلفه، معتقدين أنه رجل غريب، ولكنهم رغم ذلك لم يشكو به، ولما طلع النهار وعرفوه، لم يصدقوا أنفسهم.. اقتربوا منه وراحوا يعانقونه ويتأملونه.. اقترب منه بعضهم وجعل يقول:
- مضى وقت طويل..
كانوا كما عرفهم دائما.. أناس طيبون، لم يغير فيهم الزمن شيئا.. يتحدثون بنفس الحديث ولا يكثرون الأسئلة.. ينظرون جميعا ولا يسترقون النظر، كلامهم هادئ، وبشراتهم واضحة. لم يرتحلوا عن قريتهم، ولم يخشوا شيئا، وإذا جاء أحد ليبتزهم طردوه.. الشباب والكهول وبقية من شيوخ يرتدون البرانس والقشاشيب، التفوا حوله بعد الفجر في المسجد.. ولبثوا يتحدثون..
أحس المؤذن في نفسه الأمان واطمأن ، وجعل ينظر إليهم يحب.. هؤلاء هم من كان يبحث عنهم طوال الوقت.. ولما أذن، خرجوا جميعا بلا إبطاء..
في فترة أحس بالثقة. ولبث في المسجد حتى بعد الشروق.. ثم مضى إلى زوجه وأمرها أن تذهب إلى البئر لإحضار الماء.. كان يريد منها أن تتعرف على النسوة في ذلك المكان، فلما عادت أبهرها ما رأته.. قالت:
- لا أصدق.. إنهم أناس طيبون.. أهؤلاء من بلدنا..؟
لم تصدق ذلك.. كانت النساء مدهشات، وبمجرد أن هبطت البئر أحطن بها ورحبن بها كثيرا.. لم تصدق نفسها، وقالت:
- لن أخرج من هنا أبدا..
فطأطأ رأسه ثم خرج.. و في الليل أراها شيئا لم تصدقه.. كانا يتحدثان عن حياتهما الجديدة، وفجأة انتزعت سواريها الذهبيين، وقالت:
- خذ.. بعهما واشتري طعاما..
فأمسكهما بين يديه.. ونظر إليهما على ضوء المصباح ( كان أحدهم قد أوصل له خيطا من منزله ومنحه مصباحا)، ثم تذكر، وقال:
- انتظري.. هناك ما هو لك..
ثم فتح فتحة في جدار، وأخرج صندوقا، فلما فتحته، وأخرجت ما فيه لم تصدق عينيها.. وقالت:
- لمن هذا ؟
فقال: - لك..
لم تصدق بعد. قالت:
- مستحيل!
فقال:
- إنها لأمي.. يرحمها الله.. وهي زينتها..
فقالت:
- لن آخذها إذن..
قال:
- ولكنها تركتها لك..
- لي؟! أنا ..؟
- أجل..
- كيف؟
- تركتها لزواجي.. والآن فقط تذكرت..لقد تأخرت كثيرا.
أخذت تنظر إليها غير مصدقة، وتتأملها طويلا، ثم قالت:
- إن هذا كثير.. أساور وخواتم وأقراط وجبين..
ثم أضافت:
- من الذهب..؟!
فقال:
- إنه نصيبك..
لم تصدق رغم ذلك، وقضت الليل ساهرة تتأملها، فقد كانت من النوع القديم الذي لم يعد موجودا الآن، فتأثرت بذلك أيما تأثر، ولكنها قبل النوم تذكرت أولئك النسوة في البئر، وأحست بأنها محظوظة.. وأن تلك السنين الطويلة من التعب لم تذهب سدى!
ظلا هناك. هو يؤذن ويصلي بالناس ، وهي تقوم بأعمال المنزل وتزور النسوة في القرية أحيانا فتنبهر بهن..
* * *
لبث في القرية أشهرا، محاطا بالشيوخ والرجال، شاعرا بأنه في مكانه حيث يجب أن يكون. ولكن ذلك لم يدم كثيرا، فسرعان ما ناداه الرحيل، صوتا كصوته هو، يخرج منه ويناديه، آذانا أو أشبه شيء به. أحس بأنه تخلى عن رسالته رغم أنه بلغ من عمره عتيا، وأحس بأن عليه أن يعود.. كانت الفتنة تؤرقه، وكان يسمع بالقتل في كل حين، وبأعمال لا تمت إلى الدين بصلة.. شعر بالحاجة إلى دور آخر يقوم به. وشعر بالظمأ، فحزم أمتعته ذات ليلة، ورأته صليحة فراحت تنهره. وقالت:
- ما بك؟ إلى أين..؟
ولم يكن يجيبها أبدا، بل يحزم أغراضه، متنقلا من غرفة إلى غرفة وهي تتبعه. قالت:
- أبعد هذا التعب تريد العودة والرحيل؟ وأنا.. أنظر إلى البلد.. إنه يشتعل. إلى أين؟
ولكن كلمة لم تخرج من فيه، حتى أنهى جمع أغراضه، ووقف أمامها متعبا، فقالت:
المؤذن (الحلقة 10)
بقلم: عمر مناصرية
- لقد بلغت الكبر.. أترك غيرك يقوم بهذا الأمر..
ثم أضافت:
- ومن يرضى أن يقوم به.. إن الفتنة كبيرة.. ولا أحد يستطيع أن يفعل شيئا..(/16)
ظل صامدا، فانزوت إلى ركن وجلست، وراحت تقول:
- أبعد أن ظننت أننا وجدنا مكانا نقضي فيه ما تبقى لنا من عمر، وصار لي منزل كغيري من النساء.. تريد أن ترحل.
فدنا منها بإعياء.. ووضع يده على كتفها، وقال:
- صليحة.. يجب أن أفعل هذا.. أحس بأن حياتي كلها.. ما مضى من عمري كله، يريد أن يقوم به.. أفلا تعقلين؟!
لم تجبه. لبثت مستقبلة جدارا ثم راحت تنشج، فقال:
- في بلدي لا بد أن يكون سلام..
وعند الفجر أمسكت بيديه وترجته، قالت:
- أرجوك.. ارحم شيبتك وشيبتي..
وراحت تبكي وهو يزيح يديها عن ذارعه بضعف، ثم فتح الباب فتركته.. وسمعته يؤذن في المسجد. فلما كف عن الآذان سقطت على الأرض .. راحت تفكر .. لقد ظهر لها كل ذلك أملا جديدا. برقا بعيدا بين الغيوم، وهاهو يختفي فجأة.. أحست خطواته تمضي. أصغت إليها طويلا، ثم غفت قليلا. ولما أفاقت كانت أشعة شمس قد اخترقت شقوق النافذة وسقطت على عينيها.. أفاقت مذعورة.. ثم هبت هابطة الوادي تركض بلا لأي حتى اختفت في الشمس.. لحقت به ثم راحت تناديه فلم يسمع.. استمرت تركض حتى وصلت إليه، فالتفت. كانت واقفة خلفه تلهث. التفت إليها، ثم ابتسم، قال:
- إنه شيء لا سبيل لك بمقاومته.
لبثت تلهث، ثم قال:
- هيا بنا..
فقالت:
- لا أستطيع تركك .
ابتسم ابتسامة مشرعة أنبأتها مرارا أنه لم يكن في السبعين من عمره أبدا. وسارا معا تحت الشمس.. وسرعان ما استعادت عادتها في المشي وراحا يسيران، لا يلتفتان إلى شيء وعليهما صرامة.. لم ينظرا خلفهما أبدا، وإنما راحا يسيران.. غادرا المنطقة ودخلا قرى وبلدات. راح يؤذن بنفس الصوت الذي لم يعتريه أبدا ضعف، وكلما أنهى آذانه، نادى بصوت خارق:- كفوا عن القتل وضعوا أسلحتكم.. ثلاث مرات في الناس. وجعل ذلك ملازما لآذانه، يقوله في أي مكان، في البلدة أو المدينة أو حتى لوحده.. فيصغي إليه الناس ويحسون به.
بعضهم استهجن ذلك ورآه بدعة ليس إلا، ولكنه كان يؤمن بأن الدين جاء لصالح الحب وليس للقتل. وراح يؤذن مناديا بوضع الأسلحة والعودة إلى جادة الصواب.. سافر غير آبه بشيء ، متنقلا ليلا ونهارا، صيفا وشتاء..
يدخل مناطق فيها غل وقتال ويؤذن، فيستجيب الناس ويأتون إليه .. رغم الخوف كان يفعل ذلك. يسير بخطو ضعيف ولكن صوته ازداد حنانا، يخرج بسلاسة ويرقى في السماء.. أذن طويلا، أحس بأن حياته كلها صارت جميلة.
ذات ليلة دخل غابة فيها قتال، فراح يؤذن بلا وقت، بصوت لين رحيم لم يعرف كيف حتى انبلج كالفجر من فيه، فلما راح ينادي به أن ضعوا الأسلحة، خرس الرصاص وعاد الهدوء.. وقف في الظلام، ثم راحت أشباح تخرج إليه مستسلمة، قاذفة بالأسلحة بين يديه.. ثم رآهم. كانوا شبابا صغار السن رآهم على ضوء القمر وهم يبكون. وضعوا الأسلحة وراحوا يتعانقون، ثم عانقوه وهبطوا من الغابة..
منذ تلك اللحظة، لم يسمع باشتباك أو قتال إلا ودخله
مؤذنا بين المتقاتلين بترك السلاح، وذات مرة ردوا عليه بسيل من نار فكادوا يصيبونه، ولكنه لم يجزع أو ييأس، بل استمر يؤذن.. حاولت زوجته رده إلى القرية لضعفه، ولكنه لم يكن ينظر إليها أبدا، بل ينظر إلى شيء بعيد عنها كثيرا.. لقد تحول كله. صار كائنا آخر لا سبيل لوقفه.. دخل كل اشتباك وراح يؤذن..
بدا له أنه في عالم آخر لا يعرفه. عالم من الأضغان استفحل فليس بمقدور أحد أن يوقفه.. لم يكن يرد عليه إلا بالرصاص. وأحيانا يصاب.. وذات مرة دخل تلك الغابة وفوقه سيل من مطر وهو مع زوجته ممسكة به من ذراعه تسنده في مشيته أكثر مما تحتمي به.. راحا يسيران بصمت تحت المطر. كان الرصاص في كل الجهات، ثم أطلا على القتال.. فازدادت أصوات الرصاص قوة، وازدادت الصرخات و الآهات.. أطلا عليهم وهم يتقاتلون بالرشاشات وبكل سلاح، زعقاتهم تملأ السماء.. دهشا لكل ذلك الحقد.. إذ ذاك أصغى لصوته. فأوقف زوجته في مكان وسار هو إليهم.. أحس بصوته يتصاعد.. مخترقا إياه من الجذور.. عاد إلى الطفولة.. دخل بين جثث ورؤوس وأشباح سوداء حوله تتقاتل.. دخل بخطو دقيق ثابت، ثم أحس أنه لم يعد باستطاعته كبح جماحه.. فتفجر بشدة وانطلق عاليا في تلك الأنحاء ، دويا رهيبا.. دويا أكبر من الرشاشات والمدافع والزعقات.. صوت لم يصدق كيف خرج منه وانطلق إلى السماء.. فخرست الفوهات جميعا وصارت ذليلة.. ذابت بين الأيدي وسقطت.خمدت الأجساد وترهلت.. وسار بينها يؤذن ...كصوت نازل من السماء مع المطر. كصاعقة. نادى بأعلى صوته.. اخرجوا حقدكم.. ضعوا أسلحتكم.
رأى أيدي تقفل على الآذان وأخرى تضغط على الرؤوس.. رآهم يئنون متعبين. ثم وقفوا تاركين الأسلحة وساروا.. عادوا من حيث جاءوا.. كف القتال وكف المطر.. وكان يسمع أخر قطرات تنزل.. لا أصوات لا صرخات، لا بنادق أو رشاشات. هدوء عارم يحيط به وبرد شديد في داخله.. أحنى جسده، ورأى شابا ضعيفا يمر به رافعا رأسه قدما كأنه ينظر إلى شيء هائل أمامه..(/17)
ثم جاءت زوجته. أمسكت به وأنهضته.. غادرا المكان.. هبطا أودية ورأيا القتلى منتشرين في كل مكان.. قتلى مضرجين بالدماء. وبعيدا، لما دنا الفجر، انسل ضياء صغير وراح يرتفع.. غادرا المكان تحت المطر الذي عاد فجأة. ثم دخلا قرية، وهناك نام ثلاثة أيام كاملة!
وغادرا القرية..فاجأه الأمر إذ أحس بتلك الرغبة كقوة قاهرة تتفجر في كل خلاياه. تتصاعد بسرعة. تخترق العروق حتى ليخاف من أن تتمزق، وإذا بالصوت يتفجر، دويا خارقا. أقوى من طلق النيران. ويحل الصمت على المكان، يصير خاويا إلا منه وترحل الفوهات و يفر كل شيء.
بدا له ذلك غريبا لشيخ مثله، وحتى لو لم يكن شيخا وكان في سائر قواه لفاجأه الأمر. لم يتوقع أن ذلك الجسد الصغير يخترن كل تلك الطاقة. وفجأة فهم أن تلك الطاقة هي من حمله كل هذه السنين، وأنه خلق ليؤذن!
أذن أشهرا بذلك الصوت، ثم عاد رحيما كما كان . أوقف كثيرا من المعارك، توالت عليه المفاجآت. صار الناس يتحدثون عن الصوت الحنون الذي يسيل الدموع وعن الصوت المدوي الذي يخرس البنادق.الصوت الذي يخرج من الصخور والأوراق والشقوق، أو يتنزل من السماء أو يخرج من الأرض ويحيل القلوب تقطر رحمة. توالت عليه المفاجآت. حملت زوجته في الطريق. برز حملها واضحا للعيان. تفاجأ. اغرورقت عيناه بالدموع.. أبعد هذا العمر يصير أبا على حين غفلة من الدهر؟ لم يعرف أيفرح أم يحزن، أيسعده ولادة ابن له، أم يحزنه موت كثير من أبناء شعبه.. لم يعرف. ترك زوجته في قرية، ولكنها لحقت به.. سارت خلفه. سارا بضعف، لم يعد يقوى على المشي.. أذن لفترات قصيرة.. صار العنف على أشده.. الأحقاد تصاعدت، وفي كل يوم كان يرى جثثا. أذن، وذات ليلة وجد نفسه في اشتباك، لم يعرف حتى كيف اصطدمت به البنادق والأقدام.. كانت زوجته معه ممسكة ببطنها الذي تعدى حمله الثمانية أشهر.. أحاطت به الأقدام. بدأ القتال.. هم بالآذان.. وأطلق صوتا ضعيفا واهنا، ثم لم يعد قادرا. خر جاثيا على ركبتيه.. أمسكت به زوجته.. كان الظلام مخيما.. كان برد شديد.. أمسكت به.. حاولت سحبه إلى منطقة آمنة. بدأ القتال واختلط الموت بالموت.. صرخات وأنات وآهات ،لم يعد يصغي لشيء عدا الموت، ضمها إليه.. قال لها كأنه يوصيها : - حافظي عليه.. حافظي عليه.. اركضي.. اركضي..
لم تركض.. لم تذهب إلى أي مكان. سقط هو أولا بطلقات وهي كانت تضعه صارخة مولولة، جاءها المخاض فلم تستطع له دفعا. أغمض عينيه على صرخاتها وصرخاته.. ولم يسلم روحه إلا لما تأكد من ولادته، كأن له قدرة أخيرة مكنته من الصمود.. وقبل ذلك أفاق فجأة فسلمته إياه.. كان القتال قد كف، وكان الضياء قد عاد.. رآه لأول مرة.. رآه صغيرا كما كان يتمنى أبدا، ثم أفاض دماءه.. رفع سبابته، تشهد وأسلم روحه...
* * *
استيقظت بعد مدة.. استيقظت على ضياء. كان هو ميتا ، ملقى في دمائه. وضعت مولودها جانبا وراحت تحفر له قبرا لتواريه .وقضت على ذلك سائر اليوم .وفي المساء حملته ودخلت به قرية . أرضعته لها امرأة طيبة آوتها في منزلها . وبعد شهر استعدت للرحيل ، استيقظت قبل الفجر وحملته بين ذراعيها وانطلقت ، وفي الطريق توقفت ، ثم فكرت كيف تسميه. انطلقت ثانية ثم توقفت لما أشرقت شمس ، وقالت :
- علي ..
انتهت(/18)
المؤمن مرآة أخيه(*)
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
عن أبي هريرة _رضي الله عنه( قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "المؤمن مرآة أخيه"(1) هذا الحديث حسنه بعض أهل العلم، وقد اشتمل على معان حسنة.
وفيه جملة بليغة من الذي قال: "بعثت جوامع الكلم"(2)، قال أبوموسى: "وكان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه"(3).
فالعبارة الواحدة منه _عليه الصلاة والسلام_ تحتاج منا إلى كتابات كثيرة ومقالات عديدة ثم لا نستوفي بذلك ما فيها من حكم وعبر فحديث: "يا أبا عمير ما فعل النغير؟"(4) من العلماء من صنف فيه كابن القاص الذي انتزع منه ستين فائدة، وزاد عليها بعضهم!
وهذه العبارة الجامعة منه _صلى الله عليه وسلم_: "المؤمن مرآة أخيه"، فيها ضوابط النصيحة في ثوب المثال.
وذلك لأن المثل أوقع في النفس من الكلام المجرد وأبقى في الذهن ولذا كثر في القرآن، وهذه العبارة منه _صلى الله عليه وسلم_ يسميها البلاغيون بالتشبيه البليغ، وهو ما حذف منه الأداة ووجه الشبه كما في هذا الحديث، والمراد أن المسلم يعمل عمل المرآة لصاحبها، فماذا تعمل المرآة وكيف تعمل؟
المرآة تكشف الأدران البدنية التي تلحق بنا وكذا المسلم يكشف لأخيه ما به من عيوب وأدران معنوية وذلك من خلال المناصحه.
والمرآة تكشف الأدران الحسية بلطف، فليس لها عصا غليظة تشير بها إلي موضع الدرن في الجسد، وكذا المسلم يبين لأخيه العيوب بأسلوب حسن وكلام لطيف لأنه يرى أن عليه إصلاحه.
والمرآة لا تكشف العيوب لغير حاملها فلا تكشف الأدران لغير حاملهاكذا المسلم لا يفضح أخاه، بل يناصحه في السر ومما ينسب للإمام الشافعي قوله:
تعمدني بنصحك في انفرادٍ ... ...
وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع ... ...
من التوبيخ لا أرضى استماعه
والمرآة لا تذهب بعد أن تكشف الأدران بل تبقي معينة علي إزالتها، وكذا المسلم يبقي معين لك علي إزالة ما أنت فيه من الأخطاء والعيوب، ولا ينتقد نقداً سلبياً هداماً لأجل النقد فحسب.
ثم إن المرآة لا تحدث بصورتك غيرك، ولا تعرضها لسواك في غيبتك، فلا تفشي سرك عند الآخرين، وكذلك ينبغي أن يكون الأخ المسلم.
بل إن المرآة لا تحفظ الصورة التي نكون عليها سابقا، فإذا أتى أحد بعدُ لا يرى من وقف أمامها حال كونه متسخاً، أو حال إزالته الأوساخ عن جسده، وكذا المسلم فإنه ينسي ما بأخيه من العيوب بمجرد أن تزول عنه، وتبقى صورة أخيه خالية من العيوب في ذهنه، فضلاً عن أن يبث ما رأى من عيب.
وبقدر ما تكون المرآة نقية يكون كشفها للعيوب أوضح وشفافيتها في ذلك أكثر، وكذا المسلم بقدر ما تكون نفسه أنقى وقلبه لله أتقي يكون شعوره بالعيب والخطاء أكثر، ولذا فإن على المسلم أن يصحب تقيا عارفا يعرفه عيوب نفسه، وقد قال عمر _رضي الله عنه_: "رحم الله عبداً أهدى إلي عيوبي".
وأخيراً كثير من الناس يعرضون أنفسهم علي المرآة كلما مر عليه وقت أو تغير لهم حال كالنوم مثلاً، فكذا ينبغي للعاقل أن يطلب النصيحة من أهل الصلاح والتقي كل ما مر عليه زمان، أو طرأ عليه طارئ، وليجعل أهل الخير والعقل مرآته.
والله المسؤول أن يصلح أحوالنا، وأحوال المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
______________
(*) من إعداد المكتب العلمي لفضيلة الشيخ ناصر العمر بإشرافه.
(1) أرجه ابن وهب في الجامع، والبيهقي في الشعب 6/113/7645 والبخاري في الأدب المفرد 239وغيرهم وله شواهد تنظر الصحيحة للألباني رقم (926) 2/596.
(2) متفق عليه من حديث أبي هريرة؛ البخاري 3/1087 (2815)، ومسلم 1/371 (523).
(3) صحيح مسلم 3/1585 (2001).
(4) متفق عليه من حديث أنس؛ البخاري 5/2291 (5850)، ومسلم 3/1692 (2150).(/1)
الماضي والحاضر والمستقبل
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكون النبوة فيكم ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضاً فتكون ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت.
622م - إقامة الدولة الإسلامية في المدينة
630م - فتح مكة
638م - فتح بيت المقدس
639م - فتح مصر
640م - فتح بلاد فارس
711م - فتح الأندلس
712م - فتح السند
732م - معركة بلاط الشهداء في وسط فرنسا
1060م - فتح صقلية
1099م - سقوط بيت المقدس على يد الصليبيين
1187م - تحرير بيت المقدس على يد صلاح الدين
1258م - تدمير بغداد على يد المغول
1260م - هزيمة التتار في عين جالوت
1453م - فتح القسطنطينية
1492م - سقوط الأندلس
1529م - حصار فيينا
1543م - فتح جنوب فرنسا
1625م - بدء البعثات التبشيرية إلى بلاد الشام، وبث الأفكار القومية والوطنية
1711م - هزيمة روسيا في معركة بروث
1798م - نابليون يحتل مصر
1806م - هجوم بريطانيا وروسيا على دولة الخلافة
1820م - إقامة مركز تبشيري بريطاني في بيروت
1827م - وصول أول بعثة أمريكية إلى بيروت
1830م - فرنسا تحتل الجزائر
1834م - البعثات التبشيرية تركز أفكار القومية في جميع بلاد الشام
1839م - بريطانيا تحتل عدن
1839م - بريطانيا وأميركا تؤسسان الكنيسة البوتستنتية في سوريا
1857م - بريطانيا تحتل دلهي منهية حكم الخلافة في الهند
1878م - معاهدة برلين لتقسيم العالم الإسلامي
1881م - فرنسا تحتل تونس
1882م - بريطانيا تحتل جنوب العراق
1914م - بريطانيا تحتل العراق
1916م - معاهدة سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا لتقسيم العالم الإسلامي وتمرد الشريف حسين وآل سعود ضد دولة الخلافة بدعم من بريطانيا
1917م - بريطانيا تحتل بغداد والقدس
1924م - هدم الخلافة على يد المجرم كمال أتاتورك، منهياً 1300 عاماً من الحكم الإسلامي
نتيجة لاستعمار الكفار للمسلمين، نتج الآتي:
1921م - صُنعت إيران تحت شعار الاستقلال
1921م - صُنعت السعودية تحت شعار الاستقلال
1924م - صُنعت مصر تحت شعار الاستقلال
1932م - صُنعت العراق تحت شعار الاستقلال
1945م - صُنعت الاردن تحت شعار الاستقلال
1947م - صُنعت الباكستان تحت شعار الاستقلال
1948م - أوجدت (إسرائيل) ليسخرها الغرب لمصالحه
1949م - صُنعت أندونيسيا تحت شعار الاستقلال
1956م - صُنعت المغرب تحت شعار الاستقلال
1960م - صُنعت نيجيريا تحت شعار الاستقلال
1960م - ضلّل جمال عبد الناصر الأمة بدعوته للقومية العربية
1962م - صُنعت الجزائر تحت شعار الاستقلال
1967م - احتل اليهود المسجد الاقصى
1991م - أميركا تضرب العراق بوحشية
11/9/2001م - ضرب نيويورك وواشنطن قبل ذلك وبعده، والمسلمون يتعرضون للذبح في فلسطين، والبلقان، والقوقاز، وكشمير، وأفغانستان، والعراق.....
2001م - أميركا تحتل أفغانستان بوحشية
2003م - أميركا تحتل العراق بوحشية
.......م - إقامة الخلافة الراشدة الثانية إن شاء الله قرآن كريم(/1)
المال المأخوذ تعويضاً من التأمين
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/التعويضات المالية
التاريخ ... 20/6/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله باختصار سؤالي حول التأمين على السيارات، رجل دهسته سيارة فمات بسبب ذلك، ثم بعد ذلك رفعوا دعوى إلى المحكمة، وكلفوا محامياً لمتابعة القضية، ثم بعد ذلك حكمت المحكمة لهم بقدر من المال -وأقصد هنا الورثة-سؤالي هو هل يجوز أخذ ذلك المال وتقسيمه على وفق ما هو معلوم في الإرث؟ أم أنه مال حرام يجوز وضعه في طرق الخير فقط؟ وجزاكم الله كل خير والسلام عليكم.
الجواب
يجوز للورثة أخذ هذا المال واقتسامه، ولأنه ناتج عن التأمين لا يمنع من حله إذا لم يزد المال الذي حكمت به المحكمة عن مقدار الدية الشرعية، وهذا فيما يخص ورثة الميت، أما قائد السيارة الذي تسبب في وفاة الرجل فلا يجوز له الأخذ من الشركة أكثر مما دفع لها من أقساط شهرية أو سنوية، والله أعلم.(/1)
المال الموروث من التأمين
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ فقه الأسرة/المواريث
التاريخ ... 4/1/1425هـ
السؤال
الشركة التي أعمل فيها تؤمن على حياة الموظفين في شركة تأمين تقليدية غير إسلامية، فعند وفاة الموظف تدفع شركة التأمين مبلغاً كبيراً من المال، وهذا المبلغ إذا كانت الوفاة بسبب حادث يضاعف لورثة الموظف المتوفى, السؤال: هل يحل هذا المال لورثة المتوفى؟ أفيدونا -جزاكم الله خيراً-.
الجواب
التأمين على الحياة حرام، لا يجوز؛ لما فيه من الضرر والجهالة، وما فيه من الربا فهو أكل لأموال الناس بالباطل، والله يقول: " يا أيها الذين آمنوا َلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" [البقرة:188]، فالمؤمن يدفع أموالاً هي الأقساط الشهرية، ولا يدري كم ستعوضه الشركة مقابلها، ثم إنه قد يدفع قسطاً أو قسطين فقط فتعوضه شركة التأمين. أي تدفعها لورثته أموالاً أكثر مما دفع، وقد يكون العكس فيسدد الأقساط كلها فينتهي العقد ويموت فلا تعوضه الشركة شيئاً، فأكل المال بالباطل محقق في عقد التأمين ولكل من الطرفين فقد يكون من قبل الشركة أو من قبل المؤمن، فننصح بعدم الدخول في عقد التأمين، وخاصة ما يسمى بالتأمين على الحياة، وما ذكر في السؤال نقول: يجوز لورثة المؤمن على حياته أن يأخذوا من التأمين قدر ما دفع مورثهم لا غير، وما زاد فلا يحل لهم أكله، وننصح بأخذ الزائد من الشركة والتصدق به على نية التخلص منه لا غير، لأن بقاءه في صندوق الشركة تقوية لها وإعانة لها على الباطل وهو حرام، والله يقول: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" [المائدة:2] وفق الله الجميع إلى كل خير.(/1)
المال والرواتب والمواقف
" سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير "
أراد هرتزل بأن ينتزع قرار وموقف يغطي ديون الدولة العثمانية ويغدق المال على الدولة وجندها ورواتب موظفيها وما يملىء خزينتها.
فكان الرد ولسان الحال من عظيم الدولة العلية العثمانية أن لا المال ولا الخزينة يمكن أن تحدث ميلاً عن قرار سياديّ ، السيادة فيه للحكم الشرعيّ لما قال " انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع ، فأني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين ...
فهي ليست ملك يميني ... بل ملك الأمة الإسلامية ...لقد جاهد شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه ... فليحتفظ اليهود بملايينهم ...وإذا مزقت دولة الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن ...أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من دولة الخلافة ..إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة . " ففي هذا الزمن لما يكون المال والرواتب الحافز والموجه لانتزاع سوء المواقف , يلزم الوقوف وإعادة النظر بكل تلك الاتجاهات والسياسات والمواقف
أهل فلسطين الكرام
1- إن أرض فلسطين أرادها الله أن تكون أرض إسلامية خالصة ملك لكل المسلمين فمسلموا الهند والسند وباكستان واليمن ولبنان وفلسطين مسئولون عن فلسطين كل فلسطين مسؤولية تحرير وتطهير .
2- انه لايجوز ولا بحال القبول والرضى والاطمئنان و السكوت على كل ما يعطى للكيان اليهودي الغاصب أي حق وشرعية على فلسطين أو أي جزء من ترابها المقدس الغالي .
3- إن فلسطين لا تمتلك مخزون نفطي أو غاز طبيعي أو فحم حجري فمن يكون في السلطة يرِده المال المسلط على رقاب الناس ومواقفهم ، فان أجاب بنعم لليهود والإنجليز والأمريكان فنعم الموظف ويكرم وبطل سلام ، ومن يجيب بلا فتجوع وتظاهر وتألم ، والأيام سجال ودُول.
4- انه عليكم أهل الخير والبركة يا أهل فلسطين أن تشدوا العزم بعدم تمكين الكفار المستعمرين أصحاب المشاريع الخطرة على ارض الإسلام والمقدسات من تحقيق مآربهم ، فلا تدعوهم يحرفون نبيل توجهكم ، بل نحو العزة والنصر والتمكين تحركوا واعملوا ولا تقبلوا ما دون الخلافة وبيعة الإمام.
" إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ "(/1)
المال وطريقة الحياة - رؤية مشتركة
مفكرة الإسلام : إن مسألة المال والحقوق المالية من المسائل الهامة ، التي إن لم يتم الاتفاق عليها بين الزوجين دب الخلاف في تلك الأسرة حيث إن المال عصب الحياة ، وعليه تقوم أمر الناس وتتحقق مطالبهم وغالبًا ما تنشأ المشاكل في هذا الموضوع من:
* النفقة وحدودها.
* إسراف الزوجة.
* الذمة المالية للزوجة.
فإذا أراد الزوجان أن يعيشا حياتهما بدون مشكلات مؤثرة ، فعليهما من البداية أن يتفقا على أسلوب الحياة ويضعا النقاط فوق الحروف في طريقة العيش ، وما هي الأولويات التي يسعون إليها ، وإذا كانت المرأة تعمل وتتكسب ، فهل سوف تشارك في المعيشة بمالها التي تتكسبه ، وفترة غيابها عن البيت أثناء عملها ، وإن شاركت فهل ستشارك بمالها كله أم بجزء معين ..إلخ
وعلى الزوج أن يوضح لزوجته مستواه المادي ، وما يقدر عليه من طلبات حتى لا تُصدم المرأة حين تفاجأ بأنها سوف تعيش في حدود معينة قد تكون لم تتعود عليها.
كما أنه على الزوج أن يعرف مستوى زوجته الخدمي ، بمعنى هل هي تحسن صناعة الطعام وغيره من أنواع الحلوى ، وهل صحتها تساعدها على القيام بأعباء المنزل كاملة أم سوف تحتاج لمن يساعدها.
وعلى الزوجين أن يتفقا على بعض الأمور التي تعينهم على الحياة اليومية المشتركة مثل:
العادات: كيفية تناول الطعام ، الملابس ، عادات النوم ، والاستيقاظ ، النظافة.
المال: كيف نصرفه ، من يشتري الحاجات ، كيف نقتصد ، مصروف كل واحد.
المواعيد: وقت الطعام ، العودة في المساء ، وقت النوم ، والاستيقاظ ، وقت الفراغ.
عزيزي القارئ:
ولكي تتضح الرؤية في أوجه الاتفاق بين الزوجين في موضوعنا هنا لا بد أن نستفيض في شرح عدة نقاط أساسية وهي:
1ـ القوامة لمن؟
2ـ مال المرأة وعملها.
3ـ خدمة المرأة لزوجها.
4ـ أمور تدبير المنزل.
[1] القوامة لمن؟
وهذه النقطة لا تحتاج منا إلى رؤية مشتركة بين الزوجين ، فلدى شرعنا الحنيف الرؤية الواضحة ، ونحن هنا نصحح الرؤى الفاسدة تجاه هذه القضية.
إن الحياة الزوجية أشبه بالسفينة ولكل سفينة ربان وقائد ، وقائد هذه السفينة الزوجية هو الرجل يقول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34].
إذن فالقوامة تكليف من الله تعالى وليست تشريفًا للرجل .. لماذا ؟
لينفق على الأسرة ويحسن رعايتها ، والقوامة ليست تسلطًا ولكنها مسؤولية تتكامل بها أنشودة الأسرة التي تحب أن تعيش في سعادة يرضى الله عنها ، وتشارك في قيام المجتمع معافى من أمراض التحلل والضياع.
وكون الرجل أجدر بالقيادة ليس معناه أنه أفضل ؟ فتفضيل الرجال على النساء بمحض الذكورة تعصب لا معنى له ولا سند ، وكذلك رد الفعل بإبراز أفضلية المرأة أمر مضحك ، والندية جزء من منظومة الصراع ، والتحدي والمنافسة ، وهي معاني وأجواء كفيلة بتدمير أية أسرة.
وقد يظن قوم أن في تنازل الرجل عن قوامته لزوجته إسعادٌ لها ، وهذا ظن خاطئ ذلك لأن المرأة بفطرتها تحب أن تأوي إلى ركن تلجأ إليه ، حتى وإن تحدثت بعض النساء أمام صويحباتها بفخر أن زوجها يطيعها ولا يعصي لها أمرًا ، مما يوحي بضعف قوامته عليها ، فإنها في داخل نفسها تشعر بضعف وخلل في بنية الأسرة ، وعلى العكس منها تلك المرأة التي تظهر الشكوى من زوجها ذي الشخصية القوية ، والقوامة التامة فإنها وإن باحت بذلك فإنها تشعر براحة توائم فطرتها ، وسعادة تناسب ما جُبلت عليه ، وأرى من أجل استقرار الحياة الزوجية أن تطالب المرأة زوجها بالقيام بقوامته على الأسرة كما تطالبه بالنفقة.
[2] مال المرأة وعملها
إن الزوجة العاملة تواجه مشاكل كثيرة بسبب عملها خارج البيت ، وتتباين المفاهيم بين الأزواج وزوجاتهم حول استقلالية المرأة براتبها وحجم الصرف منه على نفسها وبيتها وربما توفر الخلافات بهذا الشأن ظلالاً يخيم على جو الود والتفاهم بين الزوجين بعض الوقت حتى نزول أسباب وجود بقناعة أحد الطرفين.
ولا شك أنه من الضروري أن يتم تفاهم الزوج مع زوجته حول راتبها بطريقة عادلة تتفق مع ظروف الحياة وعرف المجتمع وتحقق رضا الطرفين.
فالراتب هو حق من حقوق الزوجة والنفقة كاملة على الزوج في حالة وجودها في بيتها بدون عمل ، ولكن مع خروج الزوجة للعمل ، فإن الزوج يتأثر بغياب زوجته عن البيت أثناء عملها الذي ينعكس على تعاملها معه ومستوى توفير الخدمة له ، وأيضًا ينعكس على تربية أولادها.
إن الأصل في إدارة شئون الأسرة سواء في الاقتصاديات أو غير ذلك إنما يقوم على الثقة والفضل يقول تعالى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] , وفي إطار هذه الثقة وهذا الفضل يتم الاتفاق بين الزوجين والتفاهم(/1)
فمثلاً يتفقا على قدر معين من المشاركة ، ويترك بعد ذلك جزء للمرأة تتصرف فيه كما تشاء ، وهذا بالطبع ليس إلزامًا ولكنه يكون عن تراضٍ منها , وإن كانت غير ملزمة شرعًا بذلك وفي حالة يسر الرجل فالأولى له ترك مال الزوجة للزوجة فهذا أفضل لقوامته عليها وأسكن لنفسها.
ولتعلم المرأة أن خروجها للعمل لا بد وأن يصاحبه تقصير في حق الزوج ، وعلى المرأة أن تعوضه بالمشاركة في المنزل وأن أفضل النفقة والقربة إلى الله عز وجل هي نفقة الرجل على زوجته وعياله وكذلك الحال بالنسبة للمرأة ، لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [[دينار أنفقته في سبيل الله ، ودينار أنفقته على أهلك ، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك]] , هذا بالنسبة للرجل.
أما عن المرأة فلا ننسى موقف السيدة خديجة رضي الله عنها من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد بعثته حيث يقول عنها: [[ وواستني بمالها ]].
[3] خدمة المرأة لزوجها
والرؤية المشتركة هنا هو اتفاق الزوجين على القيام بالخدمة ، وهل الزوجة هي التي تقوم بها أم الخادمة؛ لأنها قد تكون موضع اختلاف بين الزوجين.
وما نراه أن خدمة المرأة لزوجها من الأمور الهامة والضرورية في الحياة الزوجية ، وبدونها لا تستقيم المعيشة ، ولذلك فقد قال أغلب أهل العلم بوجوب خدمة المرأة زوجها يقول ابن تيمية في الفتاوى:
[ تجب الخدمة بالمعروف ، وهذا هو الصواب ، فعليها أن تخدمه الخدمة المعروفة من مثلها لمثله ، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال ، فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية ، وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة ] , وعلى الزوج ألا يكلف زوجته بما لا تطيق وإلا فعليه أن يعينها بنفسه أو بتوفير خادم.
[4] تدبير أمور المنزل
وهي أمور مشتركة يقوم بها الزوجان ، ولكني أخص بالذكر هنا الزوجة ، فالزوجة المسلمة مقتصدة غير مسرفة ، لا تتباهى بمال زوجها إن كان غنيًا ولا تشكو من قلته إن كان فقيرًا ، تعرف متى تنفق ، مدبرة غير مسرفة ، راضية بقسمة الله لها في كل شيء، قنوعة بما رزقها الله تعالى , فالمرأة في بيت زوجها أمينة على ماله وعياله كما جاء في الحديث الصحيح: [[والمرأة راعية في بيتها زوجها ومسؤولة عن رعيتها]].
[5] وللاستغفار أسرار
على الزوجين أن يتفقا على هذه الرؤية الشرعية وهي الاستغفار ، فإنه أحد أسباب زيادة الرزق كما قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً [10] يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح:10ـ11].(/2)
المبشرات في الأزمات ...
امتثال أمر الله تعالى بقوله : (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) سورة التوبة آيه 112
وقوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) سورة الشرح الآية 5
المبشرات :
من القرآن الكريم :
1. في سورة الصف آيه 8 يقول الله تعالى : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ )
وفي سورة التوبة آيه 8 يقول الله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ )
وفي سور الفتح آية 28 يقول الله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا )
2. قال تعالى : (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) سورة آل عمران آيه 55
3. أن الله تعالى مع المؤمنين بنصره قال تعالى : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ) سورة الأنفال آيه 19
وقال تعالى : (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) سورة آل عمران آيه 139
4. قال تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) سورة الأنعام آيه 11
5. انتقام الله من القرى التي آذت عباده قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) سورة الروم آية 47
6. قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ) سورة المجادلة آيه 5
7. قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) سورة الأنعام آية 165
من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم :
8. حدثنا أبو كامل الجحدري وأبو معن زيد بن يزيد الرقاشي واللفظ لأبي معن قالا حدثنا خالد بن الحارث حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن الأسود بن العلاء عن أبي سلمة عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى فقلت يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون }
أن ذلك تاما قال إنه سيكون من ذلك ما شاء الله ثم يبعث الله ريحا طيبة فتوفى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم و حدثناه محمد بن المثنى حدثنا أبو بكر وهو الحنفي حدثنا عبد الحميد بن جعفر بهذا الإسناد نحوه (صحيح مسلم )
9. حدثنا أبو المغيرة قال حدثنا صفوان بن سليم قال حدثني سليم بن عامر عن تميم الداري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر
وكان تميم الداري يقول قد عرفت ذلك في أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ولقد أصاب من كان منهم كافرا الذل والصغار والجزية (مسند أحمد)
10. حدثنا أبو الربيع العتكي وقتيبة بن سعيد كلاهما عن حماد بن زيد واللفظ لقتيبة حدثنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا(/1)
و حدثني زهير بن حرب وإسحق بن إبراهيم ومحمد بن المثنى وابن بشار قال إسحق أخبرنا و قال الآخرون حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها وأعطاني الكنزين الأحمر والأبيض ثم ذكر نحو حديث أيوب عن أبي قلابة (صحيح مسلم )
11. حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا يحيى بن أيوب حدثني أبو قبيل قال
كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاصي وسئل أي المدينتين تفتح أولا القسطنطينية أو رومية فدعا عبد الله بصندوق له حلق قال فأخرج منه كتابا قال فقال عبد الله بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولا قسطنطينية أو رومية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مدينة هرقل تفتح أولا يعني قسطنطينية .
(مسند أحمد)
12. حدثنا سليمان بن داود الطيالسي حدثني داود بن إبراهيم الواسطي حدثني حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال كنا قعودا في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان بشير رجلا يكف حديثه فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء فقال حذيفة أنا أحفظ خطبته فجلس أبو ثعلبة فقال حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت
قال حبيب فلما قام عمر بن عبد العزيز وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه فقلت له إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين يعني عمر بعد الملك العاض والجبرية فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز فسر به وأعجبه. (مسند أحمد)
13. حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا بيان وإسماعيل قالا سمعنا قيسا يقول سمعت خبابا يقول أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلت يا رسول الله ألا تدعو الله فقعد وهو محمر وجهه فقال لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله
زاد بيان والذئب على غنمه . (صحيح البخاري)
14. حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة أنه أخبره أن عمرو بن عوف الأنصاري وهو حليف لبني عامر بن لؤي وكان شهد بدرا أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافت صلاة الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما صلى بهم الفجر انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم وقال أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء قالوا أجل يا رسول الله قال فأبشروا وأملوا ما يسركم فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم . (صحيح البخاري)
15. ظهور مجددين في كل قرن ، حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني سعيد بن أبي أيوب عن شراحيل بن يزيد المعافري عن أبي علقمة عن أبي هريرة فيما أعلم
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها
قال أبو داود رواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني لم يجز به شراحيل.( سنن أبي داؤد)
16. بقاء الطائفة المنصورة ، حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا قتادة عن مطرف عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى وينزل عيسى ابن مريم عليه السلام . ( مسند أحمد )
17. أحاديث خروج المهدي
18. بقاء الخيرية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن يحيى حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أو آخره
حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت وحميد ويونس عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مثل أمتي فذكره . ( مسند أحمد )(/2)
19. نزول عيسى عليه السلام ، حدثنا محمد بن سابق حدثنا إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج الدجال في خفقة من الدين وإدبار من العلم فله أربعون ليلة يسيحها في الأرض اليوم منها كالسنة واليوم منها كالشهر واليوم منها كالجمعة ثم سائر أيامه كأيامكم هذه وله حمار يركبه عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعا فيقول للناس أنا ربكم وهو أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر ك ف ر مهجاة يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب يرد كل ماء ومنهل إلا المدينة ومكة حرمهما الله عليه وقامت الملائكة بأبوابها ومعه جبال من خبز والناس في جهد إلا من تبعه ومعه نهران أنا أعلم بهما منه نهر يقول الجنة ونهر يقول النار فمن أدخل الذي يسميه الجنة فهو النار ومن أدخل الذي يسميه النار فهو الجنة قال ويبعث الله معه شياطين تكلم الناس ومعه فتنة عظيمة يأمر السماء فتمطر فيما يرى الناس ويقتل نفسا ثم يحييها فيما يرى الناس لا يسلط على غيرها من الناس ويقول أيها الناس هل يفعل مثل هذا إلا الرب عز وجل قال فيفر المسلمون إلى جبل الدخان بالشام فيأتيهم فيحاصرهم فيشتد حصارهم ويجهدهم جهدا شديدا ثم ينزل عيسى ابن مريم فينادي من السحر فيقول يا أيها الناس ما يمنعكم أن تخرجوا إلى الكذاب الخبيث فيقولون هذا رجل جني فينطلقون فإذا هم بعيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فتقام الصلاة فيقال له تقدم يا روح الله فيقول ليتقدم إمامكم فليصل بكم فإذا صلى صلاة الصبح خرجوا إليه قال فحين يرى الكذاب ينماث كما ينماث الملح في الماء فيمشي إليه فيقتله حتى إن الشجرة والحجر ينادي يا روح الله هذا يهودي فلا يترك ممن كان يتبعه أحدا إلا قتله . ( مسند أحمد )
مبشرات عامة :
20. الانتصار على اليهود .
21. أن دين الإسلام دين الفطرة .
22. إفلاس المبادئ الأرضية وظهور زيفها .
23. انهيار حضارة الغرب ( نفسية ومعنوية وأخلاقية ) .
وصايا :
1. الدعاء بنصر الإسلام وعز المسلمين .
2. بذل الجهد بالدعوة إلى الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
3. إصلاح كل فرد منا نفسه .
4. تحقيق عقيدة الولاء و البراء .
5. الصبر على فتن هذا الزمان والقبض على الدين .
6. تحقيق التقوى وإصلاح ذات البين .
7. الحذر من فتنة الدنيا.
والله أعلم .(/3)
المتاجرة بالآلام في وسائل الإعلام
د. نهى قاطرجي
لم يعد الإنسان المكتئب أو الحزين أو الذي يشعر في نفسه برغبة شديدة في البكاء، يستحي من دموعه أن تنهمر أمام الناس بعد اليوم، فقد باتت هذه الفرصة متيسرة ومتاحة لكل راغب بل أًصبح البكاء اليوم منظماً وجماعياً ومحدداً بأوقات معينة، يجتمع لأجله كل أفراد العائلة ... ولسان حالهم يقول : اليوم بعد صلاة العشاء، نجتمع على جولة بكاء ... وعلى اعتبار أن هذا الموضوع يتم في الغالب بعد صلاة العشاء....
ما أقوله ليس من قبيل المزاح، أو الاستهزاء، بل هذه هي حقيقة ما جرى في بعض ليالي شهر رمضان الماضي وما يجري أيضاً في أيامنا هذه، حيث تقوم بعض المحطات التلفازية، وتحت ستار مساعدة الناس في الأعياد، بتوظيف الدموع وظيفة مزدوجة ... وظيفة النقل الحي والمباشر لدموع الآخرين ومآسيهم وأحزانهم من جهة، ووظيفة تأجيج مشاعر الحزن والألم عند المشاهدين من جهة أخرى ...
إن هذه السياسة التي وضعتها بعض المحطات في إطار ما يسمى بالتلفزيون الواقعي Real Tv والذي يقوم ببث نقل حي ومباشر (بدون روتوش) لأحداث واقعية تثير الأشجان في النفوس أكثر مما يثيره مشاهدة فيلم عربي مصري قديم، تستدعي منّا وقفة تأمل أمام هذا الواقع المؤلم الذي بات فيه الفقر والجوع، ومن أجل زيادة عدد المشاهدين، أو من أجل استقطاب المزيد من المعلنين، أو من أجل ابراز التفوق على المتنافسين، باباً للاستغلال الإعلامي...
قد يتفكر البعض ويقول: ما الضرر من وراء إدخال البهجة والفرح على قلوب الناس؟ وما الضرر من السعي إلى التقريب بين الناس والمسؤول؟ وما الضرر من إبراز حقيقة الواقع المر الذي يعيشه كثير من الناس؟
أليس في إثارة هذا الموضوع تشجيع للناس على فعل الخير؟
إن الإجابة عن هذه التساؤلات توضح الأسباب التي دفعتنا لإثارة هذا الموضوع، والتي تهدف بالدرجة الأولى إلى احترام الإنسان، كائناً ما كان وضعه الاجتماعي، ومن هذه الأسباب ، ما يلي:
1- خطورة موضوع الفقر بحد ذاته، حيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعى المسلمين إلى الاستعاذة منه، حتى أنه ساوى بينه وبين الكفر في بعض الأحاديث كما في قوله عليه الصلاة والسلام : " كاد الفقر أن يكون كفراً " .
فلا يجوز أن يستهان بهذا الموضوع واعتباره حالة فردية، بينما الموضوع أكبر من ذلك بكثير، فقد شهدت السنوات الأخيرة ونتيجة للسياسات الرأسمالية، وانتشار العولمة المتوحشة، تزايداً كبيراً للفروقات الطبقية بين الناس، إن كان من ناحية غياب الطبقة الوسطى أو كان من ناحية أزدياد الفجوة بين الفقراء والأغنياء، ليس في لبنان وحده، بل وفي العالم بأسره، وأكبر دليل على ذلك الإحصاءات العديدة التي تؤكد أن نسبة الفقر في لبنان تجاوزت الـ35% بينما هناك في العالم اليوم 20% في المئة من الأغنياء في مقابل 80% من الفقراء، كما تشير أيضاً إلى تزايد كبير لعدد الفقراء في العالم والذي تجاوز الثلث من إجمالي سكان العالم البالغ عددهم 6 مليارات نسمة .
ومن هنا فإن ايجاد الحلول الجذرية لمشكلة الفقر، والذي يشكل بنداً من أهم البنود المدرجة على جدول أعمال ندوات ومؤتمرات الأمم المتحدة، لا يمكن أن يكون عبر برنامج تجاري تلفزيوني، يصور الناس وهم يبكون فرحاً لحصولهم على كنبة أو جهاز تلفزيون أو قالب حلوى ... ولكن يكون عبر برامج انمائية عامة تقوم بها الدولة وتتضمن تأمين المساعدات الطبية المجانية... والدائمة، فتؤمن للعجوز شيخوخة كريمة، وللمريض دخولاً كريماً إلى المستشفيات، وعناية طبية متساوية بينه وبين غيره من الناس ... كما تؤمن في الوقت نفسه فرص عمل للشباب تحميهم من نار الهجرة والبطالة والجريمة والانحراف...
كما أن ايجاد حل عجائبي لأحد الفقراء، أو جمعه بأحد المسؤولين ليستمع إلى شكواه، لا يمكن أن يكون حلاً لمشكلة ألوف من البشر والعائلات الذين لا يعلم بحالهم سوى الله عز وجل، والذين لا يملكون حتى مسؤولين يبثونهم شكواهم ...فمن لمثل هؤلاء المساكين في مثل هذه الحالة ؟ ومن لكل هؤلاء الذين يسكنون في بيوت الأعشاش وبيوت التنك وبيوت السلم ؟ ومن لكل هؤلاء الذين لا يحملون ذنباً إلا كونهم يحملون الجنسية الفلسطينية؟ إذ إن هؤلاء بتمسكهم يجنسيتهم حكم عليهم بالفقر، وسدت في وجوههم أبواب الرزق، وحرموا من العلم والطبابة والسفر والهجرة ... بل وحتى منعوا من بناء سقف يقيهم حر الشمس ومطر الشتاء...
لذاك فإن الدعوة في هذه المناسبة مجانية لكل مصور يحب أن يصور عينات حيّة مما ورد، إلى زيارة قصيرة على الأقدام لبعض تلك الأحياء، التي لا يسمح فيها بدخول السيارات، تماماً كالمحميات الطبيعية التي تحرم دخول الآليات، وشتان بين تلك المحميات الطبيعية وبين المخيمات الفلسطينية ... ويا ليت المسؤولين يتذكرون قول عمر بن الخطاب، رحمه الله عز وجل، الذي قال :" لو عثرت شاة على شاطئ دجلة لكان عمر مسؤولاً عن ذلك لعدم تعبيده الطريق" .(/1)
2- تشويه صورة الفقير والتشديد على إبراز ذله وهوانه وشدة حاجته... حيث تحرص كاميرات التصوير على عدم السماح لأية دمعة بالسقوط إلى الأرض دون التقاطها وتصويرها بالصورة البطيئة كي يساعد هذا المشهد على تأجيج مشاعر المشاهد من جهة، واعطاء المحسنين ( المعلنين) حقهم في الوقت المخصص للإعلان من جهة أخرى، وهكذا ينتهي البرنامج وقد أصبح هذا الفقير المستور أشهر انسان في البلد بل وفي العالم، يحسده قرناؤه ويفتخر بانتصاراته ... وهذا الأمر حرمه الإسلام عندما حرم التشهير بالناس، وجعل أفضل الثواب على صدقة السر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال : ( صدقة السر تطفئ غضب الرب) .
ولا يقتصر هذا التشويه لصورة الفقير على أظهار ذله وهوانه بل الأمر يتعداه إلى تمرير للفكر الرأسمالي حول الفقير والذي يظهره بمظهر الانسان الغبي، المنبوذ بين الناس، والمسؤول عن فقره، وصدق الشاعر بوصفه للفقير بقوله:
يمشي الفقير وكل شيء ضده والناس تغلق دونه أبوابها
وتراه مبغوضاً وليس بمذنب ويرى العداوة ولايرى أسبابها
بينما الإسلام يحترم الفقر والفقراء، ويرفع من مكانتهم، بل ويفضل الفقراء على الأغنياء، قال عليه السلاة والسلام : ( فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم )، وقال أيضاً: ( يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام ) .
إضافة إلى أن الفقير في الإسلام انسان صاحب حق على الدولة وعلى المجتمع، وهناك اختلاف كبير بين الحق والإحسان، ففيما يترك الإحسان لمشاعر وأحاسيس الأغنياء تجاه الفقراء، يأتي الحق كواجب وفرض يقتطع من أموال الأغنياء لتأمين حاجة الفقير والمعوز والمسكين، قال الله تعالى: ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم به وصل عليهم " التوبة ) 103. هذا وقد وضع الإسلام مقاييس للفقر ، ذكرها ابن حزم في كتابه " المحلى" ، فقال" أن يقام للفقراء " بما يأكلون من الغوث الذي لا بد منه، ومن اللبس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يسكنهم من المطر، والصيف والشتاء وعيون المارة "
من هنا إننا لا نستغرب دعوة بعض الصحابة الفقير، إلى الدفاع عن هذا الحق، والمطالبة به حتى ولو اضطر إلى استخدام القوة، فقد روي عن ابا ذر رضي الله عنه قوله : " عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه " .
3- التجارة بدموع الناس، وهذا هو الأهم في الموضوع فالمحطات التلفازية بعرضها لمثل هذه البرامج، والتي تحاول من خلاله تبييض صفحتها، والادعاء بالاهتمام بمصالح الناس، والظهور بمظهر الإله او النبي أو الملك، لا تسلك هذا المسلك عند عرضها للبرامج الأخرى، فالمحطة التي تركز في الجانب الإصلاحي على الفقر وتتغافل عن الجانب التربوي والاخلاقي، فتسمح ( وفي اطار البرامج الواقعية أيضاً) بعرض مشاهد الاختلاط والإباحية وتخصص لها مساحات أوسع وأشمل من برامجها، لا يمكن أن يكون هدفها اصلاح المجتمع ومساعدة الناس، وإنما هدفها الأول هو تحقيق الربح المادي وإضافة مزيد من النجاحات في اطار التنافس بين المحطات العديدة...
نقطة أخيرة من المفيد الاشارة إليها، وهي تلك التي تتعلق بأضرار تلك البرامج على الفقير والمشاهد وعلى المحطات أنفسها، إذ يفقد الفقير الذي حققت جميع أمانيه في لحظة واحدة، الحافز على العمل من أجل تحسين الغد، أما المشاهد فإنه ولكثره متابعته مثل تلك البرامج يصل إلى مرحلة، يفقد فيها الإحساس والتفاعل مع دموع ومعاناة الآخرين، أما المحطات فخسارتها الكبرى هي عندما تفقد قدرتها على جذب دموع المشاهدين، فماذا ستفعل عندئذ؟ وما هي الوسيلة التي ستتبتكر لهذا الغرض؟(/2)
المتاجرة في العراق حاليًّا
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/مسائل متفرقة
التاريخ ... 06/11/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق، وفي ظل هذه الحكومة المنصَّبَة من قبل الاحتلال، هل يجوز للتاجر المسلم أن يتاجر بأمواله في العراق بما يخدم الشعب العراقي دون التعامل مع المحتل أو نفعه؟ وهل يجوز له تصدير البضائع إلى هناك للمتاجرة بها وبيعها على العراقيين؟ وإذا كان لابد له من التعامل مع المحتل أو مع الحكومة الانتقالية الحالية ببعض المعاملات الرسمية التي تفسح له المجال للمتاجرة هناك، فهل عليه إثم في ذلك؟ أرجو التفضل بالرد بالتفصيل مع التكرم بذكر المحذورات التي ينبغي تجنبها في حال الجواز، وذكر الأحوال التي يجوز فيها التعامل إن كان الحكم هو الحرمة. وجزاكم الله خيرًا.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
نعم، يجوز التعامل بالتجارة مع الشعب العراقي، بل لك الأجر إذا وفرت له السلع الضرورية التي يحتاجها، وتعاملك مع الحكومة الانتقالية الحالية جائز أيضًا ما دامت السلع التي تتاجر بها مباحة، وإجراء المعاملات الرسمية معها جائز أيضًا؛ لأنك لا تتعامل معها إلا بحلال، ولأنها هي التي تملك إدخال البضائع التجارية إلى الشعب العراقي، وتعاملك معها من أجل إيصال البضائع إلى الشعب العراقي، فهي بمثابة الوسيلة إلى المباح، والقاعدة الشرعية تقول: (الوسيلة لها حكم الغاية). فوسيلة المباح مباحة، أما التعامل مع الكافر المحتل المستعمر للبلاد فلا يجوز، والعلماء نصوا على عدم جواز بيع السلاح أو الطعام ونحوه للعدو، أو زمن الفتنة، ووسيلة الحرام حرام. والله أعلم.(/1)
المتساقطون على طريق الدعوة..كيف؟ ولماذا؟
يتناول الدرس الأسباب التي يتراجع بسببها بعض الدعاة عن طريق الدعوة، سواء كانت أسبابا تتعلق بالحركة الإسلامية ذاتها أو تتعلق بالفرد، أو الأسباب والضغوظ الخارجية، وصنوف الناس أمام المحن .
أسباب التساقء:
أولاً : أسباب تتعلق بالحركة :
1- ضعف الجانب التربوي : فالجانب التربوي قد يأخذ من الحركة حيزًا محدودًا في حين تطغى الجوانب الأخرى الإدارية، والتنظيمية، والسياسية على كل شيء، ويبرز ذلك بشكل واضح في حياة القادة والإداريين، والذين يتولون الشئون السياسية والاجتماعية؛ مما يجعلهم مقطوعي الصلة بالتربية نظريًا وعمليًا، وبالتالي يجعل علاقاتهم، واجتماعاتهم، وممارساتهم جافة خالية من طلاوة الربانية.
والمسئول قد يظن أنه بلغ سنام الأمر من غير أن يحس بالخواء النفسي والروحي، وهو إن لم يفطن لذلك، فإنه ساقط لا محالة؛ فالإيمان كما هو معروف يزيد وينقص؛ بدليل قوله تعالى:} لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ[4] { [سورة الفتح] وقوله:} وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى[76] { [سورة مريم] وقوله:} وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِيمَانًا[31] { [سورة المدثر ] وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول:'ن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم' اه الحاكم والطبراني . فتعهد الأفراد بالتربية ـ جنودًا وقياديين ـ يجب أن يكون شغل الحركة. بل إن الظروف السيئة التي تمر بالدعوة أحيانًا تفرض المزيد من الاهتمام التربوي؛ لأن احتياج الناس إلى الرعاية والتذكير إنما يكون أكبر في الظروف الاستثنائية.. والحركة التي تضعف قدرتها التربوية عن متابعة أفرادها بما يحتاجون من تعهد وتربية؛ ستصاب بنيتها بقدر ضعفها، ولهذا:
يجب أن تكون المناهج التربوية دائمًا موضع دراسة وتعديل بما يتوافق مع الاحتياجات والظروف.
يجب أن لا يتوقف النشاط التربوي بسبب ظرف طارئ، أو لحساب جانب من جوانب العمل.
يجب أن تطال أفراد الحركة المتابعة التربوية بشكل، أو بآخر.
يجب أن يكون ارتباط الفرد بالحركة قائمًا على أساس من ارتباطه بالله وبالإسلام، وإن الحركة والتنظيم إنما هي وسيلة لا غاية.. وهي وسيلة لتحقيق أمر الله، وليست وسيلة لتحقيق مصالح أفرادها: }فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[110]{ [سورة الكهف].
جاء رجل إلى عبادة بن الصامت، فقال: أنبئني عما أسألك عنه: أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويصوم يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويتصدق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويحج يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد؟ فقال عبادة:' ليس له شيء؛ إن الله تعالى يقول: أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله لا حاجة لي فيه' .
2- عدم وضع الفرد في المكان المناسب:وهذه المشكلة تؤدي باستمرار إلى فشل العمل وخسارة العاملين..ولهذا يجب على الحركة أن:
تحدد طبيعة المرحلة التي تمر بها.
تعرض ما تحتاجه هذه المرحلة من قدرات وطاقات.
تعرف ما يحتاجه كل موقع من مواقع العمل.
تعرف قدرات أفرادها، وميولهم، ومواهبهم حتى تختار لكل فرد ما يناسبه مع قدراته وميوله.
تحدد خطواتها وفقًا للقدرات التي تجمعت عندها.
تتوفر الطاقات للحركة قبل المباشرة بالمرحلة ودخولها.
3- عدم توظيف كافة الأفراد في العمل: حيث يتراكم العمل بيد فئة محدودة، في حين تبقى الفئة الأكبر من غير عمل، ومع الأيام، وتقلب القلوب والعقول، وشعور الفرد بعدم الإنتاج بسبب ضعف ارتباطه العضوي بالحركة؛ تنكفئ في أعماقه البواعث والدوافع الرسالية والجهادية إلى أن يختفي عن المسرح.
4- عدم متابعة الأفراد: فالأفراد كسائر الناس تمر بهم ظروف صعبة، فإن وُجد من يعينهم على مواجهتها ومعالجتها؛ تجاوزوها بسلام، وإن حصل عكس ذلك، فإنهم سيصابون حتمًا بخيبة أمل، ثم بإحباطات نفسية؛ تقذفهم خارج إطار الحركة؛ بل خارج إطار الإسلام..وحتى تتمكن الحركة من متابعة أفرادها؛ يتعين عليها تحقيق التوازن بين التجميع العددي، وبين تهيئة الأجهزة القيادية والبدائل بحيث تبقى الإمكانات القيادية ـ في كل الظروف ـ قادرة على استيعاب القاعدة. إن العلاقة التي يفرضها الإسلام على الجسم الإسلامي تصنع من انصهارها الفكري، والروحي، والجسمي أشبه بالجسد الواحد الذي يصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:'مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى' رواه البخاري ومسلم وأحمد .والمتابعة يمكن أن تقوم في الحركة من جانبين اثنين:
جانب التنظيم نفسه من خلال الأجهزة، وجانب الأخوة من خلال الأفراد.(/1)
5- عدم حسم الأمور بسرعة:فالسرعة في حسم الأمور من شانها أن تغني الحركات، وتجنبها العديد من الخضات الداخلية.ولدى البحث عن أسباب عدم الحسم في الحركات يمكن الوصول إلى النتائج التالية:
قد يكون ذلك عائدًا لطبيعة العناصر القيادية.
قد يكون ذلك عائدًا للروتين التنظيمي الذي يفترض مرور كل قضية عبر الأجهزة التنظيمية.
وقد يكون ذلك عائدًا لاتساع القاعدة، وضمور القيادة، وعدم تمكنها من تغطية احتياجات العمل المختلفة.
6- الصراعات الداخلية: وتعتبر من أخطر ما يصيب الحركات من أمراض؛ فهي:
تسمم الأجواء وتكهربها.
تفسد علائق الأفراد.
تورث الجدل والمراء، وتوقف العمل والبناء .
توهن الدعوة وتغري بها من حولها.
وأسباب نشأة الصراعات الداخلية كثيرة:
فقد يكون بسبب ضعف القيادة، وعدم تمكنها من ضبط الأمور.
وقد تكون بسبب أيادٍ خفية، وقوى خارجية تعمد إلى إثارة الفتنة.
وقد تكون بسبب التنافس على المواقع، وبخاصة الحركية والسياسية.
وقد تكون بسبب اختلاف الطباع والتوجهات التي أفرزها تناقض النشأة التربوية والبيئية.
وقد تكون بسبب عدم التزام سياسة الحركة وقواعدها وأصولها، وعدم الانصياع لقرارات أجهزتها وبروز الشخصانية، والتصرفات الفردية.
وقد تكون بسبب القعود عن العمل والإنتاج، الذي من شأنه أن يشغل العاملين بدعوتهم.
وفي تاريخ الدعوة، ومنذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت ظواهر هذا المرض العضال تبدو وتختفي، ومن هذه الظواهر:ماذكر محمد بن إسحاق بن يسار، وغيره: أن رجلاً من اليهود مرّ بملإ من الأوس والخزرج، فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة؛ فبعث رجلاً معه، وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم بعاث، وتلك الحروب, ففعل.. فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم، وغضب بعضهم على بعض، وتشاوروا ونادوا بشعارهم- أي: شعار الجاهلية: يا للأوس، ويا للخزرج- وطلبوا أسلحتهم وتواعدوا إلى الحرّة. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدرك أنها فتنة يهودية، فخرج لتوّه دونما تأخر أو تأجيل، حتى جاءهم في حيِّهم فقال:'يا معشر المسلمين.. اللهَ اللهَ.. أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله تعالى للإسلام وأكرمكم به، وقطع عنكم به أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف بين قلوبكم؟'.
ولقد فعلت مبادرة الرسول صلى الله عليه وسلم فعلها في نفوس الأوس والخزرج، ولم يكن منهم إلا أن تباكوا وتعانقوا، وعادوا أشد مما كانوا..ولقد نزل في هذا الحادث قوله تعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ[100]{ [سورة آل عمران] .
7- عدم أهلية القيادة: ومن الأسباب المباشرة لتساقط الأفراد: ضعف القيادة عمومًا، وعدم قدرتها على الإمساك بالصفّ والمحافظة عليه،وضعف القيادة قد يكون ناجمًا عن عدة أسباب وعوامل:
فقد يكون الضعف في الإمكانات الفكرية عمومًا؛ بحيث لا تتمكن القيادة من تغطية هذا الجانب، أو قد تكون قادرة في جانب فكري، وعاجزة في الجوانب الأخرى.
وقد يكون الضعف في الإمكانات التنظيمية؛ بحيث تكون العناصر القيادية غير متمتعة بالمواهب والقدرات التي تمكنها من ضبط التنظيم.
ثانيا:أسباب تتعلق بالفرد:
إن مسئولية الحركة عن تساقط الأفراد على طريق الدعوة لا يعفي هؤلاء الأفراد كذلك من المسئولية، فلنستعرض بعضًا من الأسباب الخاصة بالأفراد:
1- طبيعة غير انضباطية: فهنالك أشخاص قد يجتذبون إلى الحركة في ظرف من الظروف، ثم يتبين أنهم غير قادرين على التكيّف وفق سياسة الحركة، وعلى السمع والطاعة لها. إن من هؤلاء من لايطيق القيود التنظيمية؛ فعندما يشعر بوطأتها يعمل على التفلّت، والتخلص منها..ومن هؤلاء من يرفض الذوبان في البنية الجماعية، ويحرص على أن يحافظ على شخصيته، وعندما يشعر بما يعرّض شخصيته للذوبان يولي الأدبار. ويكفي أن ننقل هنا دليلاً من كتاب الله تعالى، وآخر من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ تأكيدًا على رفض الإسلام لهذا المنطق:
فمن كتاب الله تعالى:} لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[22]{ [سورة المجادلة](/2)
ومن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا' رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي وابن ماجه والنسائي وأحمد.
2- الخوف على النفس والرزق: فالشيطان يدخل من هذا الباب على المؤمنين، والدعاة يخوفهم، يعدهم، ويمنيهم } يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا[120]{ [سورة النساء]
} إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[175]{ [سورة آل عمران].
والقرآن الكريم حفل بكثير من الآيات التي تشير تلميحًا وتصريحًا إلى هذا الداء، قال تعالى:} سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا[11] { [سورة الفتح] وقال تعالى:} قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[6]وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ[7]قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[8] {[سورة الجمعة] وقال تعالى:} وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ[10]وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ[11]{ [سورة العنكبوت] وقال تعالى:} الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[168]{ [سورة آل عمران].
3- التطرف والغلوّ:فالذين يحمّلون أنفسهم فوق ماتطيق، ولا يقبلون التوسط في شيء؛ معرّضون بشكل، أو بآخر لانتكاسات نفسية وإيمانية.. ومثل هؤلاء كمثل من يريد أن يقطع صحراء طويلة بسرعة؛ فيهلك دابته، ولا يبلغ ضالته.. وصدق رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث يقول:'هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلَاثًا' رواه مسلم وأبوداود وأحمد . ويقول:'...إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ' رواه النسائي وابن ماجه وأحمد.
4- التساهل والترخص: فالذين يتساهلون في امتثالهم أمر الله؛ سيجدون أنفسهم مندفعين من تساهل صغير إلى تساهل كبير.. إلى أن يستحوذ الشيطان عليهم وعلى أعمالهم، وصدق من قال:
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
وهذه شواهد من شرع الله:
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:' يَا عَائِشَةُ إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّ لَهَا مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ طَالِبًا' رواه ابن ماجه والدارمي وأحمد.
وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:' إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ الشَّعَرِ إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُوبِقَاتِ- يَعْنِي: بِذَلِكَ الْمُهْلِكَاتِ-' رواه البخاري وأحمد .(/3)
و عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:' إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا فَأَجَّجُوا نَارًا وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا' رواه أحمد.
5- الغرور وحب الظهور: إن على العاملين في الحقل الإسلامي أن يدركوا أن دعوة الإسلام لا يصلح لها، ويثبت عليها من كان مختالاً فخورًا؛ فالداعية بحاجة لأن يجلس مع الناس، ويتواضع للناس ويخدم الناس.. هكذا كان الداعية الأول صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لايأكل متكئًا، ويقول:'آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد'رواه أبو يعلى. وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ:' هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ' رواه ابن ماجه . وعلى هذا الخلق سار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فعن زاذان عن علي رضي الله عنه : 'أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو والٍ يُرشد الضالّ، ويعين الضعيف، ويمر بالبياع والبقال؛ فيفتح عليه القرآن' }تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[83]{ [سورة القصص] .
6- الغيرة من الآخرين: بسبب الغيرة أحيانًا يرفض المحدودون أن يلتزموا حدودهم، فيعمدون إلى التسلق بشكل، أو بآخر فيجهدون أنفسهم بدون طائل، وقد يصاب بعضهم بصدمات نفسية تلقي بهم خارج الصفّ أن تدفعهم إلى الانتقام لأنفسهم ممن يعتبرونهم سببًا في فشلهم، والقرآن الكريم يشير إلى داء الغيرة والحسد في مواقع كثيرة، منها:
قوله تعالى:} أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا[54]{ [سورة النساء] .والرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من الغيرة والحسد في أحاديث كثيرة منها:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُه،ُ التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِم،َ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ'رواه البخاري ومسلم وأحمد .
7- فتنة السلاح: وأخطر ظواهر التطرف على الإطلاق ما اتصل منها باستعمال القوة؛ فإنها تصبح آنذاك جائحة لا يقتصر ضررها على الأفراد، وإنما قد يأتي على الحركة كلها ؛بسبب عدم التقيد بالضوابط والسياسات الشرعية في حال استعمال القوة.
أهم الإشكالات التي تتصل بمفهوم استعمال القوة:
عدم وضوح الغاية من امتلاك القوة.
عدم التقيد بشروط استعمال القوة،وأبرزها:
استفراغ الجهد بالوسائل الأخرى.
إناطة استخدام القوة لرفع المنكر بعد وقوعه بالإمام وجماعة المسلمين.
ألا يفضي إلى مفسدة أو فتنة أكبر منه.
ألا يخرج عن السياسة الشرعية في هذا الأمر.
أن يكون وفق الأوليات.
أن يكون إعدادا سليما متقنا.
الحذر من الاستدراج والاستجابة لردات الفعل.
عدم جواز تعريض المسلمين للإبادة في حال عدم تكافؤ القوى.
ثالثًا: أسباب خارجية ضاغطة:
وهذه الأسباب كثيرة ومتعددة، وسنجملها فيما يلي:
1- ضغط المحن: إن المحنة في حياة الدعوة هي المحك الأقوى، فكم من أناس اختفوا عن مسرح العمل الإسلامي بعد تعرضهم لمحنة أو إيذاء . ولقد أكد القرآن الكريم على حتمية المحنة في حياة المؤمنين فقال تعالى:} الم[1]أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[2]وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[3]{ [سورة العنكبوت] وقال:} وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ[31]{ [سورة محمد] .
وبيّن صنوف الناس أمام المحنة:(/4)
فمنهم الصابر المحتسب }الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[173]{ [سورة آل عمران]} وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا[22]مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[23]{ [سورة الأحزاب]
ومنهم المنهزم الذي لا يلبث أن يسقط ويختفي من حلبة الصراع }وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ[10]وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ[11] {[سورة العنكبوت] ثم يقرر القرآن الكريم أمرًا لا مناص منه؛ حيث يقول:} لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ[186]{ [سورة آل عمران] .
2- ضغط الأهل والأقربين: من الضغوط التي يواجهها العاملون في الحقل الإسلامي ما يتصل منها بالأهل والأقربين، وقلّ أن ينجو من ضغط الأهل أحد، فالقاعدة: أن الأهل يحدوهم الخوف على أبنائهم من أن يصيبهم ما أصاب الدعاة، وبعضهم الآخر: تأخذه العزة بالإثم ويكبر عليه أن يسبقه صغير بالهدى .ولقد حذر القرآن من الإذعان لضغوط الأهل وحضّ على الثبات، فقال تعالى:} قُلْ إِنْ كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[24]{ [سورة التوبة] .
3- ضغط البيئة: قد ينشأ المسلم في بيئة محافظة، ثم ينقل بسبب الدراسة، أو العمل إلى بيئة أخرى، عوامل الشر فيها أكثر، وهنا يبدأ الصراع عنيفًا: فإما صمود أو سقوط. إن العوامل التي تؤدي إلى انهزام الفرد أمام ضغط البيئة كثيرة:
فقد يكون تكوينه في الأساس غير صحيح: كأن تكون عنده إشكالات في العقيدة، أو انحراف خفي في السلوك.
وقد يكون التزامه في بيئة التزام؛ خجلًا وتقليداً ومحاكاة، وليس التزام قناعة وإيمان.
وقد يكون السبب إعراضه في بيئته الثانية عن محيط الدعوة والدعاة، وإقباله على بيئة الجاهلية وعُشراء السوء.
4- ضغط حركات الضرار: ففي كل قطر تبرز بين الحين والآخر فرق تحمل اسم الإسلام تخرب عقول الشباب؛ فلا تجتذبهم للعمل معها ولا هي تتركهم حيث هم يعملون.
الأستاذ/ فتحي يكن(/5)
المتشائمون بالأيام والأشهر والأشخاص
د. علي بن عبد العزيز الشبل
{إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين} [التوبة: 36].
كما في آية سورة براءة، وهذه الأشهر هي الأشهر القمرية، المقدرة بسير القمر، لا بسير وطلوع الشمس، بدءا من المحرم إلى ذي الحجة، كذا أجمع عليه المسلمون جيلا بعد جيل. اقتفاء لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه هذا وإن من العقائد الجاهلية، والعوائد الفاسدة البدعية، والظنون الكاذبة، اعتقاد الشؤم بزمان كيوم أو شهر أو سنة، أو اعتقاد الشؤم والتطير ببعض الناس كالأعمى والأبرص والأعور أو بعض المخلوقات كالغراب والبوم من الطيور، أو العقرب والفار من الزواحف، أو الهواء والبرد والحر ونحو ذلك.
ومن الناس من يتعلق قلبه بالتشاؤم من يوم الجمعة، لأنه يتلوه يوم السبت وفيه العمل والدراسة، أو يتشاءم من يوم السبت كون أول أيام الوظائف في الأسبوع.
وهذا كله مخالف للعقيدة الإسلامية، باعتقاد التطير والتشاؤم من الأزمان أو بعضها أو من المخلوقات.
ولقد كان من عوائد الجاهلية الأولى التطير واعتقاد الشؤم والنحوس بشهر صفر بعد شهر الله المحرم فيحرم، وكان لهم في شهر صفر فعلان محذوران، يقدحان في إيمانهم بالله وبقضائه وقدره، والتوكل عليه:
1- أولهما: أنهم كانوا يؤخرون وينسؤون شهر الله المحرم إلى شهر صفر ليحلوا شهر الله المحرم ويذهبوا عنه حرمته على الشهور، فيقعوا في ظلم أنفسهم، وظلم غيرهم، وظلم ربهم، وهو ما عابه الله عليهم بقوله - تعالى -من سورة التوبة: {إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين} [التوبة: 37].
2- والمحذور الثاني من فعل الجاهلية، أنهم كانوا يتشاءمون من شهر صفر وأنه شهر مشؤوم، فكانوا يمنعون السفر فيه، أو الحرب فيه، وأن من سافر فيه لقي حتفه أو ما يضره. وقد أبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر). فقال أعرابي: يا رسول الله: فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيخالطها البعير الأجرب فيجربها؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: فمن أعدى الأول؟
والتشاؤم بشهر صفر أو بيوم الجمعة أو يوم السبت أو غيره من الأوقات أو بالمخلوقات أو بالطيور كله من جنس الطيرة والتطير التي نهى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعدها شركا، كما في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل) رواه أهل السنة إلا النسائي، وروى الإمام أحمد وغيره عن أن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك)، قال: وكفارة ذلك أن يقول أحدهم: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك.
أو يقول كما جاء في حديث عروة بن عامر - رضي الله عنه - قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أحسنها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك) رواه أبو داود والبيهقي والبغوي، وغيرهم وصححه الشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيره.
وما هذا العلاج والدواء بهذين الدعائين الجامعين منه - صلى الله عليه وسلم - إلا لعلاج ما قد يطرأ على الخاطر من أمر التطير والتشاؤم، فيدافع بالاعتقاد الحق في الله وقدره، وتبرك الحول والقوة بغيره - سبحانه -، والواقع أن الذنوب أعظم شؤم وأعظم خطرا ويجب على المسلم أن يحفظ دينه وقلبه وعقيدته من هذه القوادح والخوارم التي تخرم إيمانه وتوحيده الله، كما ويجب عليه أن يصحح قصده وتعلقه بربه من شوائب الجهل والعوائد الفاسدة، ويتواصى بذلك مع أهله وإخوانه المسلمين، دعوة ونصحا ومجاهدة لما يرد من هذه البدع والمخالفات وفق الله المسلمين لذلك، وأعاننا وإياهم على حسن عبادته وكمال التعلق به، وحذرنا من ضد ذلك مما يقدح في مقاصدنا وأقوالنا وأفعالنا به، وهو - سبحانه - ولي التوفيق.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليم.
http://www.aldaawah.com المصدر:(/1)
المتشابه اللفظي في القرآن
بقلم / طريق القرآن
تعريفه
الفرق بين المتشابه اللفظي وغيره من المتشابه
التعريف لغةَ بالمحكم والمتشابه
التعريف اصطلاحاً بالمحكم والمتشابه
تقسيم المتشابه
المصنفات في المتشابه
________________________________________
تعريفه:
عرفه الزركش في البرهان فقال: هو إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة ويكثر في إيراد القصص والأنباء.
ومراده في التعريف بالقصة الواحدة: اللفظ القرآني المعيَّن يرد بصور متشابهة. ومعنى التشابه فيها الاختلاف بين ألفاظها بالزيادة والنقص أو الإبدال أو التقديم والتأخير وهذا كله مما يشكل على القارئ الحافظ فيحتاج معه إلى المراجعة ومزيد الضبط، ولهذا يسمى القراءُ هذا النوع المُشكِل .
- وهناك أيضاً [المكرَّر] وهو ما تكرر فيه لفظ بعينه دون اختلاف في عدة مواضع من القرآن كتكرير قوله تعالى : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}… (الرحمن:13) وهذا هو التكرار اللفظي من غير اختلاف .
- ومن المكرر ما تكرر فيه المعنى مع اختلاف في الألفاظ بفروق يسيرة متشابهة وهو عين المتشابه اللفظي.
- أما ما تكرر فيه المعنى دون الألفاظ - كتكرار قصص الأنبياء عليهم السلام بأساليب مختلفة وألفاظ متباينة - فهو خارج عن حد المتشابه اللفظي.
أعلى الصفحة
________________________________________
الفرق بين المتشابه اللفظي وغيره من المتشابه:
المتشابه هو علم من علوم القرآن يقابله المحكم من القرآن ولبيان الأمر نذكر تعريف كل من المحكم والمتشابه حتى يتضح الفرق بينهما، ثم الفرق بين المتشابه عموماً والمتشابه اللفظي خصوصاً:
أعلى الصفحة
________________________________________
التعريف لغةَ بالمحكم والمتشابه:
• فالمحكم من الإحكام وهو في اللغة بمعنى الإتقان والمنع.
• والمتشابه في اللغة من التشابه أي المتماثل والمتشابهات هي المشكلات ومن ثَمَّ فإن المتشابه في اللغة يدل على المشاركة والمماثلة والمشاكلة المؤدية إلى الالتباس غالباً.
- وعليه فالقرآن كله محكم باعتبار أنه متقن في نظمه وأسلوبه مانع من دخول غيره فيه ودليل ذلك قوله تعالى: { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}…(هود: من الآية1) .
- وكله متشابه باعتبار أنه متماثل في فصاحته وبلاغته وحلاوته، ودليل ذلك قوله تعالى { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِها} … (الزمر: من الآية23) .
- وبعضه محكم وبعضه متشابه باعتبار أن بعضه أحكام نصية لا تحتمل إلا وجهاً واحداً ولا يختلط الأمر في فهمها على أحد، وبعضه أحكام تحتمل أكثر من وجه لحكمة سامية وهى التي يقع فيها الاشتباه ويتأتى في فهمها الاختلاط والالتباس ودليل ذلك قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}…(آل عمران: من الآية7) .
فهذا تعريف هو تعريف المحكم والمتشابه لغة أما في الاصطلاح فقد وقع خلاف بين العلماء في المراد بالمحكم والمتشابه.
أعلى الصفحة
________________________________________
التعريف اصطلاحاً بالمحكم والمتشابه:
- قيل المحكم هو الواضح الدلالة الظاهر الذي لا يحتمل النسخ.
أما المتشابه فهو الخفي الذي لا يدرك معناه عقلاً ولا نقلاً وهو ما استأثر الله تعالى بعلمه كقيام الساعة والحروف المقطعة في أوائل السور و قد عز الألوسي هذا الرأي إلى الحنفية
من الفقهاء.
- وقيل إن المحكم ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل .
أما المتشابه فهو ما استأثر الله تعالى بعلمه كقيام الساعة وخروج الدجال والحروف المقطعة في أوائل السور ينسب هذا القول إلى أهل السنة فهو المختار عندهم.
- ومنهم من قال إن المحكم ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً من التأويل .
والمتشابه ما احتمل أوجهاً ويعزى هذا الرأي إلى ابن عباس ويجرى عليه أكثر الأصوليين.
- ومنهم من قال إن المحكم ما كانت دلالته راجحة وهو النص والظاهر.
وأما المتشابه فما كانت دلالته غير راجحة وهو المحمل والمؤول والمشكل ويعزى هذا القول إلى الرازى واختاره كثير من المحققين.
فهذه بعض الفروق بين المحكم والمتشابه ولهذا الحديث تفصيل أخر ليس هذا محله.
وظاهر أن المتشابه اللفظي هو ما كان في أحرف اللفظ دون حقائق معناه وهذا هو الفرق بينه وبين المتشابه على الإجمال والذي ورد ذكره في قوله تعالى :{ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} … (آل عمران: من الآية7)، وهو الذي وقع فيه الخلاف هل هو مما استأثر الله بعلمه فلا يخوض فيه أحد أم هو مما احتمل معانٍ عدة ولا يخوض فيه 'لا الراسخون في العلم ؟!!
وقد ذكر ابن المثاوى (توفي:336 هجرياً) في كتابه متشابه القرآن العظيم أن المتشابه كائن في أشياء:
1. فمنها متشابه أعراب القرآن.
2. ومنها متشابه غريب حروف القرآن ومعانيه.
3. ومنها متشابه تأويل القرآن وهو الذي يقابل المحكم.(/1)
4. ويدخل فيه أيضاً متشابه ناسخ القرآن ومنسوخه وتقديمه وتأخيره وخصوصه وعمومه.
5. ومنها متشابه خطوط المصاحف الأُوَل وحروف كتبت في بعضها على خلاف ما كتبت في البعض الأحر.
أعلى الصفحة
________________________________________
تقسيم المتشابه:
وقد قُسِّم المتشابه تقسيمات مختلفة
فقسمه ابن الجوزي في كتابه [المدهش] إلى فصول:
- أولها: فصل في الحروف المبدلات
وعنى به تشابه اللفظين بأبدال كلمة بكلمة، وَمثَّل له بأمثلة كثيرة إلا أنه لم يقصد الحصر وذلك نحو قوله تعالى: { فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات} … (البقرة: من الآية29) وقال تعالى في حم فصلت { فَقَضَاهُنَّ } … (فصلت: من الآية12).
- ثانيها: فصل في الحروف الزوائد والنواقص
كما في قوله تعالى في البقرة { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ}… (البقرة: من الآية23) وفي يونس: { بِسُورَةٍ مِثْلِهِ } … (يونس: من الآية38) .
- ثالثها: في المقدم والمؤخر
كما في قوله تعالى في البقرة: { وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ }… (البقرة: من الآية58) وفي الأعراف { وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} … (لأعراف: من الآية161) .
وقسمه الزركش في كتابه [البرهان في أصول القرآن] إلى عدة فصول.
الفصل الأول: المتشابه باعتبار الإفراد، وهو على أقسام:
- الأول: أن يكون في موضع على نظم وفي آخر على عكسه وهو يشبه رَدَّ العَجُز على الصدر، نحو: { وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} … (البقرة: من الآية62) و{ وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى} … (الحج: من الآية17).
- الثاني: بالزيادة والنقصان.
- الثالث: بالتقديم والتأخير وهو قريب من الأول ومنه تقديم اللهو على اللعب واللعب على اللهو .
- الرابع: بالتعريف والتنكير كقوله في البقرة { بِغَيْرِ الْحَقّ}… (البقرة: من الآية61) وفي آل عمران{ بِغَيْرِ حَقّ} … (آل عمران: من الآية21)
- الخامس: بالجمع ولأفراد كقوله في البقرة { إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً }… (البقرة: من الآية80) وفي آل عمران { مَعْدُودَاتٍ } … (آل عمران: من الآية24).
- السادس: إبدال حرف بحرف غيره كما في البقرة { وَكُلا مِنْهَا} …(البقرة: من الآية35) بالواو وفي الأعراف { فَكُلا} … (الأعراف: من الآية19) بالفاء.
- السابع: إبدال كلمة بأخرى كقوله في البقرة { مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}… (البقرة: من الآية170) وفي لقمان { وَجَدْنَا } … (لقمان: من الآية21) .
- الثامن: الإدغام وتركه نحو { وَمَنْ يُشَاقِقِ} … (لأنفال: من الآية13) و{ يُشَاقِّ } … (الحشر: من الآية4) و{ يَتَضَرَّعُونَ}… (الأنعام: من الآية42) و{ يَضَّرَّعُونَ} … (لأعراف: من الآية94).
الفصل الثاني: ما جاء على حرفين
ويأتي في هذا الفصل بألفاظ وردت مرتين في القرآن نحو { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} … (البقرة: من الآية219)، ويأتي له بأمثلة كثيرة.
ثم يعقد فصولاً بعد ذلك لما جاء على ثلاثة أحرف وعلى أربعة وخمسة وستة وسبعة وثمانية وتسعة وعشرة أحرف وعلى عشرين حرفاً وعلى ثلاثة وعشرين حرفاً وهو آخرها ويأتي في كل نوع بما ورد في القرآن .
وقد تبعه في ذلك السيوطي ولخص كلامه في النوع الثالث والستين من كتابه [الأتقان في علوم القرآن] .
أعلى الصفحة
________________________________________
المصنفات في المتشابه:
1. من أول من أفرد المتشابه بالتصنيف الكسائي علي بن حمزة [توفي سنة:189 هجرياً] وذلك في رسالته المتشابه في القرآن.
2. وألف ابن المنادي أبو الحسين أحمد بن جعفر [ولد: سنة 256 وتوفي: سنة 336 هجرياً] كتابه [متشابه القرآن العظيم] وقد طبع بتحقيق الشيخ "عبد الله الغنيمان" سنة 1408 هجرياً ضمن مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
3. ونظم الإمام السخاوي [توفي سنة:634 هجرياً] متشابهات القرآن بأرجوزة سماها [هداية المرتاب وغاية الحفاظ والطلاب في تبين متشابه الكتاب] وهو من أشهر ما صنف في ذلك وهو مطبوع متداول .
4. ونظم الإمام عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي المعروف بأبي شامة [توفي سنة:665 هجرياً] وهو تلميذ السخاوي منظومة على غرار هداية المرتاب ذكر فيها ما أغفله السخاوي من المتشابه سماها: [تتمة البيان لنا أشكل من متشابه القرآن]
5. ونظم الشيخ محمد بن مصطفى الحضري الدمياطي المصري [توفي سنة:1287 هجرياً] منظومة نحا فيها نحو السخاوي ورتبها على حروف المعجم والتزم فيها قافية واحدة قال في أولها :
نحوت به نحو السخاوي وغالباً أزيد زيادات يدينُ لها الحِجا
وقد طبعت بمصر سنة 1321 هجرياً.(/2)
المتفقان المفترقان ..1
'إن من ميزات العلاقة الصحية بين الزوجين أن يكونا قريبين وفي ذات الوقت مختلفين'.
كيف تفسر هذه العبارة الغامضة؟
مفكرة الإسلام : عزيزي القارئ لقد سمعتُ أزواجًا وزوجات يقولون إن الرجل بحر غامض والمرأة لغز كبير .. ونحن هنا بصدد تفسير هذا اللغز الكبير والبحر الغامض.
والموضوع بمنتهى البساطة بعيدًا عن الألغاز أن هناك فروقًا هامة بين الرجل والمرأة وأن فهم طبيعة هذه الفروق بين الجنسين من شأنه أن يغير حياتهم ويزيد من قدرتهم على التعايش الزوجي، ويجنبهم الكثير من المشكلات والصعوبات والتي يمكن أن يؤدي عدم فهمها إلى تفكيك هذه العلاقة الزوجية المقدسة.
وقد تستطيع المحبة وحدها حفظ الزواج لبعض الوقت، وإن كان زواجًا فيه الكثير من الخلافات والمشكلات، وإنما لا بد مع الحب من الفهم العميق والصحيح للفروق بين الرجل والمرأة، ومعرفة الطريقة الأنسب للتعامل مع الجنس الآخر.
إن دراسة الفروق بين الجنسين تكون لدينا فهمًا عميقًا عن الآخر، وهذا الفهم العميق يولد المحبة والمودة والاحترام أيضًا، وهذا الفهم سيولد نوعين من الاقتراحات والبدائل لحل كثير من المشكلات على ضوء هذا الفهم.
ونحن هنا نصل إلى عدة حقائق هي:
1ـ هناك فروقًا كبيرة بين الرجل والمرأة سواء جسدية أو انفعالية أو عاطفية ويتضح هذا بنص القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران:36].
2ـ دراسة هذه الفروق تولد نوعًا من الفهم العميق لصفات الشريك الآخر.
3ـ الحب وحده لا يكفي للتفاهم ولكن مع الحب تعلم كيف نفهم الطرف الآخر من خلال دراسة الفروق بين الزوجين.
4ـ هذا الفهم للطرف الآخر يولد أيضًا المحبة والمودة والاحترام ويساعد على وجود البدائل والحلول لحل كثير من المشكلات التي تواجه الزوجين في حياتها.
تقبلني كما أنا:
هذه زوجة تطلب من زوجها وتقول: ' زوجي العزيز تقبلني كما أنا ' وتبين في شكواها إنها لا تتعامل مع زوجها بحرية بل تشعر بقيوده عليها فمثلاً هي مرحة وتحب الضحك وهو عكس ذلك .. وتقول الزوجة: أشعر بالتصنع معه، وأحذر من الخطأ الذي يراه هو خطأ وفي الحقيقة ليس خطأ كالخروج مع الأهل وحب المرح والضحك وكثرة الصديقات والمعارف. [انتهت شكواها].
ونحن نقول:
إن الرجال والنساء يختلفون عن بعضهم في طريقة الحوار والكلام، والتفكير والشعور والإدراك وردود الأفعال، والاستجابات، والحب والاحتياجات، وطريقة التقدير والتعبير عن الحب.
والنتيجة طبيعية لجهل هذه الفروق هو أن ينشأ التوتر والصراعات بين الزوجين والمهم أن يعرف الزوجان، أن هذا الزواج يجمع بين فردين لكل منهما شخصين وأفكاره وميوله وذوقه وعواطفه واحتياجاته وما يحب وما يكره.
إنه من الممكن للحب أن يدوم بين الزوجين إذا عرف كل منهما واحترم هذه الفروق التي تميز كل من الجنسين وتعامل معها بما يوافقها.
هل هذه الفروق أمر سلبي ؟
إن هذه الفروق والاختلافات بين الزوجين ليست بالضرورة أمرًا سلبيًا فللفروق عادة جانب إيجابي حسن، والاختلافات عادة أمر طبيعي في الحياة إن أحسنا التعامل معها إن المطلوب من الزوجين أن يبدأ كل منهما بتعلم بعض المهارات والخبرات الجديدة، وبدلاً من الهروب من الفروق والاختلافات يمكنها الاقتراب منها للتعامل معها بثقة وقدرة وحكمة، كما أنه يمكن لهذه الفروق أن تقوى العلاقة الزوجية إذا أحسن الزوجان التعامل معها.
اختلاف صفات الرجل عن المرأة لمصلحة كليهما:
إن وجود اختلاف في صفات الرجل والمرأة معناه تحقيق التكامل بينهما، ولكي يعيش كل من الرجل والمرأة في انسجام وتناغم تام لا بد أن يكون لدى كل منهما الصفات السيكولوجية [النفسية] المختلفة.
فمثلاً الرجل العصبي الحاد المزاج لا يمكنه أن يتعايش مع امرأة عصبية حادة المزاح، والرجل البخيل عليه ألا يتزوج بامرأة بخيله، والرجل المنطوي لا يتزوج من امرأة منطوية وهكذا ومن هنا جاءت الصفات المميزة للرجولة عن الصفات المميزة للأنوثة.
فنجد من الصفات المميزة للرجولة مثلاً: الجسدية مثل قوة العضلات وخشونتها، الخلقية مثل الشهامة، القوة في الحق، الشجاعة في موضع الشجاعة، النخوة ...الخ.
ونجد من الصفات المميزة للأنوثة مثلاً: الدفء، النعومة، الحساسية، الحنان، التضحية، التفاني في خدمة أولادها، والحرص على تماسك الأسرة وترابطها، حب المديح وغير من الصفات.
إذن هما قريبان ومفترقان:
وخلاصة القول أن نعرف أن الزوجين السعيدين هما القريبان والمفترقان في آن واحد أي أنهما مرتبطان ببعضهما إلا أن بينهما من الفروق ما يميز أحدهما عن الآخر.
وكلما كان الواحد منهما أكثر حرية وقدرة على تقبل الفروق والتكيف معها، كان بالتالي أقدر على التعامل والعيش مع اختلاف وجهات النظر، وهذا من شأنه أن يزيد من متانة العلاقة بينهما.
ومن العسير محاولة تغيير الشريك الآخر، والأسهل منه وربما الأفضل أن ندرك أن الفروق أمر حسن بحد ذاته إذا أحسنا التعامل معها.(/1)
وتذكر عزيزي القارئ أن:
1ـ من ميزات العلاقة الصحية بين الزوجين أن يكونا قريبين وفي ذات الوقت مختلفين.
2ـ أن الزوجين السعيدين هما المتفقان المفترقان في آن واحد أي أنهما مرتبطان ببعضهما إلا أن بينهما من الفروق ما يميز أحدهما عن الآخر وكلاهما يحترم هذه الفروق ويقدرها.
والآن نفترق على أن نتفق أننا سنلتقي في المقال التالي وهو:
ملامح الفروق بين الزوجين
مفكرة الإسلام : وإذا سأل سائل ألا يكفي الحب فقط للتفاهم بين الزوجين واستمرار الحياة بينهما؟
نقول لهذا السائل كلا لا يكفي الحب وحده للتفاهم بين الزوجين.
تبدأ المشكلات بين الزوجين في الظهور عندما ينسى الرجل أو تنسى المرأة أن كل منهما مختلف عن الآخر وأن لكل منهما طبيعة خاصة به جبله الله عليها ؟ فيتوقع من الآخر فعل أو رد فعل معين يتناسب مع طبيعته هو، ثم يكون الفعل غير ما توقع لاختلاف الطبيعة، فالرجل يريد من المرأة أن تطلب ما يود هو الحصول عليه، وتتوقع المرأة منه أن يشعر بما تشعر هي به تمامًا.
ويبدو أن الرجل بشكل عام يقدر موضوع ' الاستقلالية ' بينما تقدر المرأة جانب 'المودة' ولذلك نجد الزوجة تفكر ' لو كان يحبني لما غادر المنزل دون أن يسلم علي '.
بينما يفكر الزوج 'هل تريد هي أن تسيطر علي ؟ ولماذا علي أن أفعل دومًا ما تطلبه مني'.
إن كلا منهما يفترض خطأً أنه إن كان الآخر يحبه فسوف يتصرف بنفس الطريقة التي يتصرف فيها هو عندما يعبر عن حبه وتقديره، وهذا الافتراض الخاطئ سيكون عند صاحبه وسيلة إلى تجميع خيبات الأمل المتكررة، وسيضع الحواجز الكثيرة بين الزوجين.
وتختلف التوقعات عند الاثنين بسبب الآتي:
1ـ اختلاف الشخصيتين.
2ـ اختلاف تجارب الحياة.
3ـ اختلاف النشأة واختلاف الأسرتين.
4ـ اختلاف طريقة التربية والتدريب كذكر أو أنثى.
5ـ اختلاف ما يحمله كل منهما من تأثير الإعلام ومفاهيم المجتمع الثقافية وغيرها.
ولذلك كان من الواجب على كل طرف منهما التعرف على معالم الفروق بينه وبين الآخر لتلافي كثير من المشكلات ولخلق جو من الحوار المثمر والفهم المتبادل بين الطرفين يثمر عن حياة هادئة وسعيدة.
وإليك عزيز القارئ ملامح الفروق بين الرجل والمرأة.
ملامح الفروق والاختلافات بين الرجل والمرأة:
وهذه الملامح قد ذكرها د/ مأمون مبيض في كتابه التفاهم في الحياة الزوجية تذكرها هنا مختصرة:
1ـ اختلاف القيم والنظرة إلى الأمور:
فالرجل يخطئ عندما يبادر إلى تقديم الحلول العلمية للمشكلات، ولا يرى أهمية لشعور المرأة بالانزعاج أو الألم، وهذا ما يزعج المرأة من حيث لا يدري.
والمرأة تبادر إلى تقديم البضائع والتوجيهات للرجل، وهذا ما يزعجه كثيرًا من حيث لا تدري وإننا من خلال فهم اختلاف قيم الجنسين ونظرتهما للأمور سنفهم لماذا يخطئ كل من الرجل والمرأة في تعاملهما مع بعضهما من حيث لا يدريان ؟ وسيعيننا هذا على تصحيح تصرفاتنا مع الشريك الآخر.
2ـ اختلاف الوسائل في التعامل مع المشاكل:
فالرجل عندما يواجه مشكلة ما، فإنه يميل بطبعه إلى الانعزال بنفسه والتفكير بهدوء في مخرج من هذه المشكلة التي تواجهه، بينما تميل المرأة إلى الرغبة في الجلوس مع الآخرين والحديث فيما يشغل بالها، والمرأة كلما كانت المشكلة كبيرة شغلت بالها كثيرًا وكانت في حاجة إلى الكلام كثيرًا والعكس من ذلك الرجل.
3ـ اختلاف المحفزات والدوافع للعمل والعطاء:
فالرجل يقدم ويعمل ويعطي ما عنده عندما يشعر أن هناك من يحتاج إليه، بينما تميل المرأة للعمل والتقديم والعطاء عندما تشعر أن هناك من يرعاها.
4ـ لغتان مختلفتان:
فكل من الرجل والمرأة يتكلم لغة خاصة به، وقد لا يفهم كل منهما الطرف الآخر مما يسبب سوء الترجمة والفهم بينهما.
5ـ القرب من الطرف الآخر:
فعندما يقترب الرجل من المرأة يشعر بالحاجة الملحة للابتعاد لبعض الوقت، ليعاود الاقتراب من جديد، مما يشعره باستقلاليته المتجددة، بينما تميل المرأة في علاقتها ومشاعرها إلى الصعود والهبوط كموج البحر، وفهم هذه الفروق يساعد المرأة على التعامل الأمثل مع الأوقات التي يميل فيها الرجل لبعض الابتعاد، ويعين الرجل على التعامل الأفضل مع المرأة عندما تتغير فجأة طبيعة مشاعرها تجاهه، وكيف يقدم لها ما تحتاجه في هذه الأوقات.
6ـ اختلاف الحاجات العاطفية:
فالرجل يحتاج إلى الحب الذي يحمل معه الثقة به وقبوله كما هو، والحب الذي يعبر عن تقدير جهوده وما يقدمه بينما تحتاج المرأة إلى الحب الذي يحمل معه رعايتها وأنه يستمع إليها، وأن مشاعرها تفهم وتقدر وتحترم.
7ـ اختلاف الجدال:
فالرجل يتصرف وكأنه دومًا على حق مما يشعر المرأة بعدم صحة مشاعرها وعواطفها، أما المرأة فإنها بدلاً من أن تعبر عن عدم موافقتها على أمر ما يقوم به الرجل، فإنها تشعره بأنه غير مقبول لها كليًا ؟ مما يدفعه لأخذ الموقف الدفاعي.
8ـ الاختلاف في طريقة حساب الأعمال:(/2)
حيث تقوم المرأة باعتبار وتقدير كل العطايا وما يقدمه الرجل بنفس الدرجة بغض النظر عن حجم هذا العمل، بينما يميل الرجل إلى التركيز على عمل واحد كبير أو تضحية عظيمة ويهمل الأعمال الأخرى الصغيرة.
وأخيرًا نقول إن بداية حل أي مشكلة هي تفهم دوافع الطرف الآخر ' ما حملك على هذا ؟ '
وفهم طبيعة وجبلة الطرف الآخر يعين على التفاهم معه.(/3)
المتمتع عليه سعي واحد لحجه وعمرته
أ.د. سعود بن عبد الله الفنيسان 8/12/1426
08/01/2006
لقد فرض الله الحج مرة في العمر وحج رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حجته الوحيدة –حجة الوداع- سنة عشر من الهجرة، وحج معه فئام من الناس رجالاً ونساءً يزيد عددهم عن مائة ألف نفس، وقد روى عدد منهم وصف حجته بين مكثر ومقل، مع تفاوت في الضبط نتيجة اختلافهم في درجة الحفظ والفقه، غير أن كل راوٍ منهم أخبر عما سمع أو رأى من أفعال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأقواله في الحج، وربما وقع بين الروايات بعض الخلاف والتباين، ولعل من دواعي وقوع الاختلاف والتباين في نقل حجة النبي –صلى الله عليه وسلم- كما وقعت بالفعل –علاوة على ما سبق- أنه لم يكن للرسول –صلى الله عليه وسلم- وسيلة لتبليغ هذا الجم الغفير كوسائل اليوم الحديثة، ليس له غير صوته وتبليغ المبلغ عنه بالصوت أيضاً –إن وُجد-، ولهذا قال –صلى الله عليه وسلم-: "رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فرب مبلغ أوعى من سامع". وقال في الحج: "خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا".
ومن أجل ما ذُكر وغيره وقع الاختلاف في بعض مناسك الحج بين الصحابة أنفسهم ثم اتسع الخلاف فيما بعدهم.
ومن هذه المناسك المختلف فيها: "حكم السعي بين الصفا والمروة".
اختلف علماء المذاهب في حكمه تبعاً لاختلاف الصحابة فيه، ووجه ذلك أن السعي بين الصفا والمروة جاء في القرآن بلفظ "الطواف" في قوله تعالى: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم".
فذهب الشافعية إلى أنه ركن لا يتم الحج إلا به، وبه قالت عائشة أم المؤمنين –رضي الله عنها- وهو مشهور مذهب الحنابلة.
وعند أبي حنيفة والرواية الثانية لأحمد أنه واجب يجبر عند تركه أو نسيانه بدم.
وروي عن ابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن الزبير وأنس بن مالك وعطاء وابن سيرين أنه تطوع (سنة)، وعن الإمام أحمد في رواية ثالثة: ليس بركن ولا دم في تركه.
ووجه هذا القول أن رفع الجناح في الطواف بهما يدل على أن السعي مباح لا غير.
وإذا كان قد اختلف في حكم السعي بين الصفا والمروة من حيث الأصل فالاختلاف في فرع منه أيضاً وهو أن المتمتع هل عليه سعيان أم سعي واحد؟
اختلف في هذه المسالة على قولين:
القول الأول: المتمتع عليه طوافان وسعيان. روُي ذلك عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وسفيان الثوري والأوزاعي، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ورواية لأحمد، مستدلين بحديث عائشة –رضي الله عنها- في الصحيحين: (.... فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى).
والقول الثاني: على المتمتع سعي واحد وطواف واحد. نص عليه أحمد في رواية ابنه عبد الله وأحد القولين للشافعي، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية لحديث جابر –رضي الله عنه- المتفق عليه: (...لم يطف النبي –صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً).وحديثه عند أحمد في المسند بعد أن أمر الذين أهلوا بالعمرة أو الحج ممن لم يسق الهدي أن يحلوا ثم أهلوا بالحج يوم التروية، قال جابر –رضي الله عنه-: (وكان طوافهم بالبيت وسعيهم بين الصفا والمروة لحجهم وعمرتهم طوافاً واحداً).
ومن أدلة أن المتمتع إنما عليه سعي واحد لحجه وعمرته ما يلي:
أولاً: رواية جابر –رضي الله عنه- في حديثه المتفق عليه في وصف حجة النبي –صلى الله عليه وسلم-: "لم يطف النبي –صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً طوافه الأول ... فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا طوافنا الأول بين الصفا والمروة).
ومعلوم أن كل من ساق الهدي لم يحل وبقي قارناً ومن لم يكن معه هدي حل من عمرته أو حجه فجملة (لم يطف النبي ولا أصحابه) وفيها النفي الجازم لكل المتمتعين والقارنين، وجملة (وكفانا طوافنا الأول..) نص على السعي الواحد للمتمتع لا سيما وأن جابر بن عبد الله وجميع أمهات المؤمنين –رضي الله عنهم-لم يكن معهم هدي فحلوا.
ثانياً: رواية عبد الله بن أحمد في مناسكه عن ابن عباس –رضي الله عنهما- أنه قال: (القارن والمفرد والمتمتع يجزئه طواف بالبيت وسعي بين الصفا والمروة). ووجه الاستدلال منه ظاهر.
ثالثاً: قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: المتمتع كم يسعى بين الصفا والمروة؟ قال: إن طاف طوافين فهو أعجب إلي، وإن طاف طوافاً واحداً فلا بأس؛ لحديث جابر.
ونقل المروذي عنه: قال أبو عبد الله: إن شاء المتمتع طاف طوافاً واحداً. ذكر في مسائل ابنه عبد الله.(/1)
وعلق أحمد بن تيمية في كتابه (شرح العمدة) قائلاً: ( وهذا هو الصواب بلا شك لحديث جابر المذكور، وكذلك عامة الأحاديث فيها أن أصحاب رسول الله إنما طافوا بين الصفا والمروة الطواف (السعي) الأول، ومن قال من أصحابنا: إن رسول الله كان متمتعاً لا قارناً. فهذا لازم له لأن الأحاديث الصحيحة لم تختلف أن النبي لم يسع بين الصفا والمروة إلا مرة واحدة وأنه لما طاف طواف الإفاضة لم يسع بعده، وهذا بيّن من حديث ابن عمر وابن عباس.
فإن احتج بحديث عائشة السابق الذي فهم منه البعض أن على المتمتع سعيين ومثله ما روي عن ابن عباس في استحباب الطوافين.
قلنا: لعل جابراً أخبر عن بعض المتمتعين وعائشة أخبرت عما فعله من تصرفه على أن أحاديث جابر وأصحابه واضحة لا احتمال فيها. وإذا كان الصحابة اقتصروا على طواف واحد فلا معنى لاستحباب الزيادة عليهم) أ.هـ.
رابعاً: أحاديث جابر وأصحابه واضحة لا احتمال فيها بخلاف حديث عائشة فهو يحتمل أن يراد به القارنين أو المتمتعين، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال.
خامساً: المتمتع هو حاج –جامع بين النسكين- من حين أحرم بالعمرة وإن تحلل منها بدليل حديث سراقه بن مالك عند أبي داود والدارمي: "إن الله أدخل عليكم في حجكم عمرة". وهذا بخلاف العمرة المفردة فيجزئ المتمتع ذلك السعي عن حجه وعمرته.
سادساً: قيل إن الجملة محل الإشكال في حديث عائشة ليست من كلامها وإنما هي مدرجة من كلام ابن الشهاب الزهري أحد رواة الحديث عن عائشة قاله: ابن تيمية في مجموع الفتاوى وشرح العمدة.
سابعاً: يمكن أن تحمل جملة: (... حلوا ثم طافوا الطواف الآخر) في حديث عائشة على الطواف بالبيت الذي هو طواف الإفاضة يوم العيد أو بعده ولا تعود إلى السعي بين الصفا والمروة.
ثامناً: القول بالسعي الواحد للمتمتع هو الذي ينبغي أن يُفتى به اليوم لتخفيف الزحام في المسجد والمسعى، وتيسيراً للناس، وما دام الأمر محل اجتهاد بين العلماء منذ عهد الصحابة إلى اليوم فلا ينبغي التثريب أو التحريم أو المنع من الأخذ بالأيسر.
ثم إذا كان الصحابة مختلفين في مسألة ما فمن أخذ بأحد الرأيين فهو مقتدٍ ومتأس بصحابي فلا حرج عليه، كما قرره العلماء في مسألة "لا إنكار في مسائل الاجتهاد".
تاسعاً: الاستدلال بحديث جابر: (خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا). لا يصلح في موضع الخلاف حيث هو يعم كل مناسك الحج من الواجبات والأركان والسنن.
فالخلاف إنما هو في السعي الثاني للمتمتع على القول بأنه ركن أو واجب لا غير.
عاشراً: فتبين مما سبق أن القول بأن المتمتع عليه سعي واحد فقط لحجته وعمرته كالقارن هو الصواب إن شاء الله لظهور أدلة القائلين به ودقة مسلكهم. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.(/2)
المجاز العقلي و ألوانه في القرآن
بقلم : د / مسرت جمال
الأستاذة المساعدة بقسم اللغة العربية
جامعة بشاور، باكستان
أنه عند علماء البلاغة الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه الضرب من التأويل إفادة للخلاف لا بوساطة وضع كقولك أنبت الربيع البقل ، وهزم الأمير الجند ، فالحكم في أنبت الربيع البقل بكون الإنبات فعلاً للربيع مكانه الأصلي عند العقل كونه فعلاً لله عز وجل، وفي هزم الأمير الجند بكون هزم الجند فعلاً للأمير، مكانه الأصلي عند العقلاء كونه فعلاً لعسكر الأمير، ويسمى عقليًا لعدم رجوعه إلى الوضع ، ولاعتداء حكمه عن مكانه الأصلي.(1)
فالمجاز العقلي هو ما أُسنِدَ فيه الفعل أو شبهه إلى غير صاحبه ، الذي هو ملابس له، وله ملابسات كثيرة وهي :
(1) الزمانية : هي أن يُسنَد إلى الزمان ماحقه أن يُسَنَد إلى ما يقع فيه، نحو: ليلة مقمرة: فالليلة لاتقمر، وإنما هو زمان إقمار القمر .
(2) المكانية: هي أن يُسنَدَ إلى المكان ما حقه أن يُسْنَد إلى ما يقع فيه ، نحو : فاض النهر ، أي ماءه – فالنهر لايفيض ، وإنما هو مكان الماء الذي يفيض.
(3) الفاعلية : هي أن يُسنَد الفعل المبنى للمفعول إلى الفاعل، نحو: "حجابًا مستورًا" اى ساترًا . فالحجاب فاعل الستر، ولايوصف المستور وإنما يوصف بالساتر.
(4) المفعولية : هي أن يُسنَد الفعل المبني للفاعل إلى المفعول، نحو: "خُلق من ماء دافق". فالماء مفعول في المعنى، ولا يوصف بالدافق، إنما يوصف بالمدفوق.
(5) السبية : هي أن يضاف الفعل إلى سببه لا إلى فاعله، نحو: بنى سليمان الهيكل . فسليمان لم يبن الهيكل بيديه ، إنما كان سببًا لبناءه .
(6) المصدرية : هي أن يضاف الفعل إلى المصدر ما حقه أن يُسنَد إلى فاعله، نحو: جدّ جدّك. فالجد لم يجد بنفسه، وإنما مصدر لصاحبه.(4)
ألوان جمال المجاز العقلي
المجاز العقلي كسائر الأساليب القرآنية لايخلو من الجمال والروعة ، وهذا الجمال يرجع إلى اللفظ والمعنى. فأما ما يرجع إلى اللفظ فهو الإيجاز الأنيق، وخفة لفظه على اللسان واستقامة الوزن، القافية والسجع .
وأما مايرجع إلى المعنى فهو المبالغة البديعة، والدقة الرائعة . فلو نقول أن جمال المجاز العقلي من أربعة وجوه(5) فلا نكون مخطئين :
(1) المبالغة البديعة والدقة الرائعة : كما نراها في قول الشاعر(6):
مَلَكْنَا فكانَ العفوُ منا سَجِيّةً
فلمَّا مَلَكْتُم سَالَ بالدم أبطح
الشاعر يفتخر بأن قومه قدروا ولكنهم عفوا وصفحوا، بينما المخاطبون حينما قدروا أسرفوا في سفك الدماء حتى سال الدم بالأبطح(7)، لكن المجاز صور كثرة الدم حتى غمر المكان وطفح من كل جوانبه، وكأن المكان نفسه وبما فيه يسيل، مبالغة في كثرة الدم وغمر المكان به .
(2) الإيجاز الأنيق : وذلك أن المجاز العقلي يعرض المعنى في أقل ما يمكن من اللفظ ، فمثلاً إذا قلنا:
"فتح عمروبن العاص مصر"
لاشك إننا نجد فارقا في قوة العبارة وإيجازها عن قولنا:
"فتح جشُ المسلمين مصر بقيادة عمروبن العاص"
(3) الخفة السهولة : وذلك أن اللفظ الدال على سبيل المجاز قد يكون أخف على اللسان من الحقيقة، أما لخفة مفرداته، أو لحسن تركيبه فيعدل إلى المجاز، مثل قول الشاعر(8):
دَعِ المكارِمَ ، لاتَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا
واقْعُد فَإنَّكَ أنتَ الطاعِمُ الكاسي
فهناك نسبة الطاعم إلى "أنت" نسبة مجازية، وكذلك نسبة الكاسي إليه، حيث أن مراد الشاعر هو أنه المطعوم والمكسي لكن عدل عنه إلى الطاعم والكاسي، إلى جانب لطائف اُخرى فيها: لخفة كلمة الطاعم والكاسي في مقابلة كلمة المطعوم والمكسي، وذلك لأن كلمة "طاعم" و "كاسي" ذات أربعة أحرف حينما كلمة "مطعوم" و "مكسي" ذات خمسة حروف، ومن المعلوم أن الكلمة الخماسية بالنسبة إلى الرباعية ثقيلة على اللسان كما أن الرباعية ثقيلة بالنسبة إلى الثلاثية، وهذا هو الوجه بأن الأبنية الخماسية(9) والرباعية قليلة في اللغة العربية .
(4) القافية أو السجعة : وربما تطلبت القافية أو السجعة المجاز، فيلجأ إليه لاحكام صنعته ؛ فإن للمجاز العقلي أثرًا كبيرًا في توسعة اللغة، وتغيير صورة العبارة بحيث تعين الاديب على آداء معانيه بصورة مختلفة حسبما تقتضيه الجملة ويتطلبه الوزن والقافية في بعض الأحيان(10). ومن ثم قال عبدالقاهر:
"هو كنز من كنوز البلاغة، ومادة الشاعر المفلق، والكاتب البليغ في الإبداع والاحسان والاتساع في طرق البيان... وإنه يدق ويلطف حتى يمتنع مثله إلاَّ الشاعر المفلق والكاتب البليغ(11).
وخير مثال لاستقامة وزن القافية بالمجاز العقلي هو ما قال العبدى(12):
أشاب الصغير وأفنى الكبيرَ كرالغداة ومرالعشي
وملتنا أننا المسلمون على دين صديقنا والنبي
حيث أن بإبدال نسبة أشاب وأفنى إلى الفاعل الحقيقي، وهو خالق الزمان يتحقق الاضطراب والخلل في الوزن والقافية كليهما .(/1)
ومن روعة المجاز العقلي، ورشاقته هي كونه في بعض الأحايين ذريعة التحايل على دفع التهمة، والتملص من الجريمة. فيُسنَد الفعل إلى سببه: كماقالوا:
"فلان قتله جهله"، وكأنما يريدون ان يبرئوا قاتله من جريمة قتله.
ولعل ذلك يذكرنا بقصة سيدنا عمار بن ياسر رضي الله عنه – يوم صفين . فلما قُتِل اضطرب أهل الشام لعلمهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم – "عمار تقتله الفئة الباغية" فقال لهم معاوية – رضي الله تعالى عنه– .
"إنما قتله من أخرجه". فقد وجه معاوية –رضي الله تعالى عنه – في المجاز دفعًا للتهمة عن جماعة(13).
وإليك لمشاهدة هذه الروعة والجمال في المجاز العقلي في الأمثلة التالية من الآيات القرآنية:
(1) "وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُه زَادَتْهُمْ إِيْمَانًا"(14)
إن إسناد فعل "زادت" إلى "الآيات"، لايصح على سبيل الحقيقة؛ لأن الآيات ليست بنفسها مما تزيد إيمان المؤمن ، بل إن المؤمن بنفسه يزيد في إيمانه بسبب الآيات، فكأنها ذريعة في ازدياد إيمان المؤمن. فعلاقة الآيات بالزيادة هي علاقة سبب .
وسر جمال هذه العلاقة هو المبالغة في مدخلية السبب في حصول الفعل حتى صار كأنه الفاعل الحقيقي، وهو سوّغ المجاز وحسّنه. ومع ذلك أن الموسيقى الذي يوجد في التعبير على سبيل المجاز العقلي في هذه الآية لايوجد في التعبير على سبيل الحقيقة في تلك الآية . أي
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُه زَادتْهُمْ إيمانًا"
لانه يفقد في صورة التعبير الحقيقي ذلك الانسجام الذي تملكه الآية. وهذه هو الوجه حيث وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تحت هذه العلاقة . مثلاً:
"إنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِيْ الأرْضِ، وَجَعَلَ أهْلَهَا شِيَعًا، يَّسْضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْي نِسَآءَهُمْ"(15).
في هذه الآية يخبرنا الله سبحانه عن فرعون وأنه كان يذبح أبناء بني اسرائيل، في قوله: "يذبح ابناءهم". ويستبقي نساءهم . فالفعل "يذبح" و "يستحي" أسنِدَ إلى غير فاعله الحقيقي، لان فرعون لم يكن يذبح بنفسه، ولا يستحي بنفسه، بل كان يأمر بذلك جنوده واتباعه، وبما انه كان سببًا في ذلك لكونه آمرًا به، فقد صح إسناد الفعل إليه على سبيل المجاز لما بين الفاعل – الحقيقي والمجازي – من علاقة وتشابه في تعلق الفعل بهما، فتعلقه بالفاعل الحقيقي من حيث صدوره منه، وبالفاعل المجازي من حيث أنه السبب فيه(16).
ويا أيها القارئ والناظر هل تجد جمالاً في بيان:
"يذبح أتباع فرعون أبناء بني إسرائيل"؟ لا، وكلا! لان هذا حقيقة، والحقيقة أقل جمالاً من المجاز هنا. ومن هذا القبيل قوله تعالى :
"وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنُ لِيْ صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ"(17)
وقوله عزوجل: "فَأَوْقِدْ لِيْ يَا هَامَانُ عَلَى الطِّيْنِ، فَاجْعَلْ لِيْ صَرْحًا".(18)
ففي الآيتين أسنِدَ الامرُ في "أوقد" و"اجعل" و"ابن" إلى ضمير هامان مع أن هذه الأفعال من صنع العمال، وإنما أُسنِدت إلى هامان لأنه السبب، فالعلاقة في تلك الأساليب هي السببية.
ولوقيل: ياهامان مربالبناء لي، ومربان يوقد لي ياهامان على الطين، ومربان يبنى لي صرح، لاصبح نغم الآيتين مضطربًا، وتذهب تلك الموسيقية والمبالغة اللتان توجدانِ في الأسلوب المجازي القرآني.
(2) "لاَعَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِاللهِ إلاَّ مَنْ رَحِمَ"(19)
أسنِد "عاصم" وهو وصف مشبه بالفعل – اسم فاعل – إلى ضمير اسم المفعول لعلاقة المفعولية، بدليل قوله تعالى: "إلا من رحم" اي لا معصوم إلا من رحمه الله .
ومثله قوله تعالى :
"اِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ"(20).
"وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا"(21)
"وَإذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ"(22)
و"خُلِقَ مِنْ مَّآءٍ دَافِقٍ"(23) وغيرها .
وفي كل واحدة من هذه الآيات أسنِد اسم فاعل "واقعة"، "آمنا"، "خاسرة"، "دافق" – إلى ضمير اسم المفعول لعلاقة المفعولية .
وسرالجمال في هذه العلاقة المفعولية هو المبالغة البديعية ونغماتها الرائعة بخلاف إتيان صيغ المفعول – موقوعة ، مأمونا ، مخسورة ، مدفوق – اذ لايوجد فيه جرس الموسيقي ولايوجد الأثر البديع، مع أن فيه يوجد ثقلاً وعِبأً في هذه المواضع. وللالفاظ دور كبير في تكوين الفني في الكلام ، حتى قال بعضهم(24):
"ان اللفظ في ذاته كالموسيقي يخلب الأذن، ويلذ الشعور، وإن لم يترجم، أما المعنى فكالكهرباء إذا لم يكن لفظه جيد التوصيل انقطع تياره فلا يعرب ولا يطرب(25).
(3) "وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِيْنَ لاَيُؤْمِنُوْنَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مِّسْتُورًا"(26)
أسنِد "مستورًا" إلى ضمير "الحجاب"، والحجاب لايكون مستورًا. انما يكون ساترًا. فاستعمل اسم المفعول مكان اسم الفاعل، فقد أسنِد اسم المفعول إلى ضمير الحجاب إلى غير ما حقه أن يُسنَد إليه لعلاقة الفاعلية ومنه قوله تعالى :(/2)
"جَنَّاتُ عَدْنٍ نِالَّتِيْ وَعَدَ الرَّحْمانُ عِبَادَه بِالغَيْبِ إِنَّه كَانَ وَعْدُه مَاْتِيًّا"(27).
فقد أُسنِد اسم المفعول "مآتيًّا" إلى ضمير الوعد مجازًا عقليًا وعلاقته الفاعلية .
وسرالحسن هنا أولاً خفة المجاز باللسان في إتيان كلمة "مستورًا" و "مآتيًا" حيث أن في كلمة "ساتر" رنين الحركات من الأوسط إلى الأدنى ومن الأدنى إلى الأوسط أقل تدريجًا بخلاف كلمة "مستورًا" فيها من الأوسط إلى الأعلى ومن الأعلى إلى الأوسط. وفي "الساتر" انحدار وفي "المستور" ارتفاع. وهذه الرنة أعلى من تلك الرنة وانظر في كلمة "مآتيًا" تَجِدُ رخوة بخلاف "آتٍ" لأن فيها ثقلاً وشدة .
وثانيًا، في الإتيان بالعلاقة المفعولية يحصل السجع والقافية فيما بينها وبين الكلام السابق واللاحق. ارجع الى النص اي: "مآتيها": قبلها "غَيًّا"(28). "شَيْئًا"(29). وبعدها "عَشِيًّا"(30) و"نَسْيًا"(31). وهكذا : "حِجَابًا مَسْتُورًا": قبلها "حَلِيْمًا غَفُوْرًا"(32) وبعدها "نُفُورًا"(33)، و"رَجُلاً مَسْحُوْرًا"(34).
يا أيها الناظر والسامع أليس نغم "مَسْتُورًا" و "مآتيا" اجمل من "ساترًا" و"آتيًا" بلى.
(4) "عزم الامر"(35)
أُسنِد الفعل "عزم" الى المصدر "الامر". والامر ليس هو الفاعل الحقيقي، لأن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى هو الذي يصدر الامر منه، فيُقَال في الحقيقة:
"عزم الله الامر" . ولكن "عزم الامر" .
تجوز في الإسناد، فحُذِف الفاعل الأصلي وأُسْنِد الفعل إلى مصدره، للمشابهة بين الفاعل – الحقيقي والمجازي – في تعلق الفعل بهما، فتعلقه بالفاعل الحقيقي من حيث صدوره منه، وتعلقه بالفاعل المجازي – وهو الصدر – من حيث أنه جزء مفهومه – وهو مصدر – وهذه هي علاقته المصدرية.
ومن هذه الملابسة قد وردت آيات أخرى في القرآن المجيد أيضًا ، منها:
"وَجَآءَتْهُ البُشْراى"(36) و "بِدَمٍ كَذِبٍ"(37) و"مَكَرُوا مَكْرًا"(38) و"لاَيُغْنِيْ عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ"(39).
ولذة الجمال في جعل المصدر فاعلاً هي تصور المصدر بصورة متحركة تشعر وتفعل الأمور بإرادتها وفكرتها، حيث أن في الآيات المذكورة "كلمات الامر" و"البشرى" و"كذب" و"مكرًا" و"كيد" لاتستطيع ان تؤدى المعاملات في الحقيقة واذا جوزت عن الحقيقة وخلعت بالمجاز العقلي فأصبحت هذه المصادر غير متحركة مثل التماثيل والصور ذات إرادة وشعور يعني الانسان. وهذه غاية حسن إذا لبس اللفظ لباس الصورة والشكلة حتى يمشي ذلك اللفظ مشى الإنسان في جميع ميادين الحياة .
(5) "فَكَيْفَ تَتَّقُوْنَ إنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيْبًا"(40)
انظر، قد أُسنِد الفعل "يجعل" الى ضمير "يومًا" مجازًا عقليًا، مع أن حق الفعل أن يسند إلى الفاعل الحقيقي – الله – ولكنه أُسْنِد إلى ضمير الظرف للمشابهة بين الفاعل – الحقيقي والمجازي – في تعلق الفعل بهما ، فتعلقه بالفاعل الحقيقي من حيث صدوره منه، وتعلقه بالظرف من حيث وقوعه فيه، وهذه العلاقة الزمانية .
وسرالجمال فيه، هو المبالغة في شدة هول ذلك اليوم، وذلك بأن اليوم قد بلغ في هوله إلى حد يصبح فيه صغار السن مثل كبار السن، ففي الظاهر ينسب المفكر ذلك إلى اليوم والحاصل أن ذلك في الحقيقة من فعل الله تعالى. هل هذه المبالغة الحسنة الدالة بالاختصار على هذه المعاني الجميلة تحصل من الأسلوب الحقيقي؟ لا.
وكما سرالروعة فيه، هو النغم الحاصلة من إتيان "يومًا" بين "كفرتهم" و"يجعل". وذلك أنه لو كان :
"فكيف تتقون إن كفرتم الله يجعل الولدان شيبًا"، والذي هو التعبير الحقيقي، لما تحصل تلك اللذة التي تنشأ من الظرف، لأن كلمة "الله" لا تفيد ما يفيد لفظ "يومًا" بين فعلين "كفرتهم" و"يجعل" من الموسيقى . واللفظ مع الكلمات السابقة واللاحقة عنه، مقام وحال لايكون ذلك مع الكلمات الأخرى، وذلك المقام والحال كمايقتضى – أن تكون الكلمة بكذا وكذا من صفات كونها معرفة ونكرة ومتقدمة، ومتأخرة، وما إلى ذلك من الصفات، كذلك يقتضى في بعض الأحيان أن تكون الكلمة ذات صوت حسن. وهكذا هي الحال لكلمة "يومًا" لأن بها يُقيم ذلك النظم الذي يُوجَد في نونين آخرين "ولدان" و"شيبًا". وأما كلمة "الله" فليس بإتيانها بقاء ذلك النظم وحسن الصوت .
ومنه: "كَمْ أَهْلَكْنَا القُرُوْنَ"(41)
أقل ألفاظاً من قول:
"كم اهلكنا اهل القرون"
مع ذلك، أن في الأول مبالغة ليست في الثاني إذ جعل الله القرون نفسها هالكة .
ومنه: "وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا، وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَاهَا"(42)
أُسْنِدَ الفعل "جلى" و"يغشى" إلى ضمير الليل والنهار مجازًا عقليًا. وتعلق الفعل بالظرف من حيث وقوعه فيه، هي علاقة الزمانية. وتحت هذه الملابسة.
"فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِيْنَ"(43) وَ"النَّهَارَ مُبْصِرًا"(44) و"وَاللَّيْلِ إذَا سَجاى"(45) و"عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيْطٍ"(46) وغيرها .(/3)
وهذه غاية قصوى لجمال النص القرآني من أن الزمان يعمل عملاً مثل الإنسان . وقد ذكرنا أن المعنى غير محسوس إذا جعل محسوسًا فهو يؤثر على الذهن والقلب أثرًا عظيمًا؛ لأن عقل الانسان يدرك الأشكال والصور في لمح البصر بخلاف اللفظ والمعنى إذ كل واحد منهما يحتاج إلى الفكر والتدبر، ولاشك أن الإنسان عجول .
وبالإضافة إلى ذلك أن نغم القافية يتضمن الحسن في بطنه ويترشح من كلماتها . ويجعل القارئ والناظر أن يدغدغ .
ما رأيك أيها الناظر والسامع في هذا الأثر الأنيق ؟
(6) "وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا"(47)
أُسْنِدَ الفعل "اخرجت" إلى الأرض – مكان – مجازًا عقليًا، وكان حقه أن يسند إلى الفاعل الحقيقي – هو الله تعالى – ولكنه أُسْنِد إلى الأرض ، للمشابهة بين الفاعل – الحقيقي والمجازي – في تعلق الفعل بهما ، فتعلقه بالفاعل الحقيقي من حيث صدوره منه ، وتعلقه بالفاعل المجازي من حيث وقوعه فيه ، وهذه هي علاقته المكانية .
ومنه قوله تعالى :
"وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِيْ مِنْ تَحْتِهِمْ"(48)
أُسْنِد فعل الجريان إلى الأنهار – والنهر اسم المكان الذي يجري فيه الماء – إنما يجري الماء لا المكان ، لكنه موضع للجريان صح إسناد الفعل إليه مجازًا لعلاقة المكانية .
وروعة المجاز تأتي من أن المياه لكثرة فيضانها وشدة جريانها ترى كأن محلها يجري ، وكأن الجرى قد تجاوز الماء إلى مكانه(49). ولذلك نجد هذا الوصف دائمًا لجنات الله التي أُعِدَّتْ للمتقين من هذا الوجه الجمالى ، وكقوله تعالى :
"وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِيْ مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ"(50).
ولو قِيْلَ: "واخرج الله من الأرض اثقالها". و"جعل الله تعالى جرى الأنهار جارية من تحتهم".
و"وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات يجري الله من تحتها الأنهار".
فيفسد نظم العبارة أولاً، ويذهب ذلك الموسيقى الذي يُوجَد في المجاز ثانيًا، ويصبح الكلام حقيقة، والحقيقة في هذه المقامات المذكورة لا يحصل بها الجمال المعنوي. وأن جمال الألفاظ بدون جمال المعنى لايكون جمالاً كاملاً بل يكون جسمًا بلا روح. ومن ثم إذ سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصًا للكلام وهجنة له، كما يعرض إلى بعض الأجسام من العرج والشلل والعور وما أشبه ذلك، من غير أن تذهب الروح يكون عيبًا للجسم. وإن اختل المعنى كله وفسد ، بقي اللفظ ميتًا لا فائدة فيه ، لأن اللفظ جسم وروحه المعنى(51).
وطبق هذه الملابسة :
"وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا"(52).
تفيد القافية والسجع منه، وتنشأ الموسيقى بذكر النونين بفصل الأرض، وتفجير الأرض بالعيون تشعر بأن كل مكان في الأرض فُجِّرَ عينًا، وهذا طبعًا على سبيل المبالغة ورنين الجرس، وهو لايُوجَد في التعبير الحقيقي .
قد بينت عدة أمثلة لملابسة المجاز العقلي حسب حسيّ وذوقى . وإحساسات الإنسان وأذواقهم مختلفة في أخذ اللذة والشعور. فلذا اكتفيت بهذه الأمثلة وتركت الباقية من الأمثلة إلى نفس القارئ والسامع أن يغوص في أمواج بحر المجاز العقلي ويجمع اللألى النادرة ويملأ ذيله ويروى عطشه طبق ذوقه وطبيعته .
* * *
الهوامش والمراجع
(1) مفتاح العلوم ، ص: 184-186.
(2) من أساليب البيان ، ص: 161.
(3) مختصر المعاني ، ص: 58.
(4) من أساليب البيان ، ص : 162-163.
(5) أسرار البيان : ص : 116.
(6) البيان : د. عبد القدوس صالح وزميله: ص: 136.
(7) وهو المكان الواسع فيه دقائق الحصى .
(8) الحطيئة، جرول بن أوس بن مالك العبسى (45هـ = 665م) أبو ملكية: شاعر مخضرم . أدرك الجاهلية والاسلام. كان هجاء عنيفًا، لم يكد يسلم من لسانه أحد. وهجا أمه، واباه ونفسه. له ديوان شعر . ط . انظر: الاعلام ج:2ظ ء: 118، والبلاغة الواضحة: ء:115.
(9) مجموع مهمات المتون يشتمل على ستة وستين متنافى مختلف الفنون والعلوم: ص:99، 499.
(10) أسرار البيان : ص: 115، 116.
(11) الدلائل : ص : 214.
(12) العبدي: شاعر أموي مشهور، من قبيلة عبد القيس، كان خبيث اللسان، وقد ادعن أنه طلب إليه أن يحكم بين جرير والفرزدق، أشرف بيتًا، وأن جريرًا أجود شعرًا، فلم يرض هذا الحكم جريرًا، وهجا الصلتان، فرد هذا عليه ردًا شديدًا. أسرار البيان : ص: 110، 11.
(13) البيان: د. عبد القدوس صالح وزميله: ص: 136.
(14) الأنفال : 2.
(15) القصص : 8.
(16) المعاني في ضوء أساليب القرآن: د. عبد الفتاح لاشين ص:152.
(17) الغافر: 36.
(1) القصص: 38.
(2) هود: 43.
(3) الواقعة :1.
(4) إبراهيم : 35.
(5) النازعات : 12.
(6) الطارق : 6.
(7) الزيات، (1302-1388هـ = 1885-1968م) احمد بن حسن الزيات: وُلِدَ بقرية كفرد ميرة القديم، في طلخا، وتُوُفِّىَ بالقاهرة. وأول ما علت شهرته كتاب: "تاريخ الأدب العربي" ومن آثاره "دفاع عن البلاغة" أدب الزيات في "العراق" وغيره . انظر للتفصيل: الاعلام: ج:1، ء:114.
(8) دفاع عن البلاغة، أحمد حسن زيات: ص:28.(/4)
(9) الإسراء: 45.
(10) مريم : 61.
(11) الإسراء : 43.
(12) الإسراء : 44.
(13) الإسراء: 46.
(14) الإسراء : 47.
(15) مريم : 60.
(16) مريم : 62.
(17) مريم : 63.
(18) محمد : 21.
(19) هود: 74.
(20) يوسف : 18.
(21) النمل : 50.
(22) الطور : 46.
(23) المزمل : 17.
(24) الإسراء 17.
(25) الشمس : 3 ، 4.
(26) الصافات : 177.
(27) يونس : 67.
(28) الضحى : 2.
(29) هود : 84.
(30) الزلزلة : 2.
(31) الأنعام : 6.
(32) المعاني في ضوء أساليب القرآن : ص : 149.
(33) التوبة : 72.
(34) المعاني : ص: 51.
(35) القمر: 12.
* * *(/5)
المجتمع الذي يتعلم
إبراهيم غرايبة 28/5/1424
28/07/2003
ستكون منظومة التعليم أكثر المجالات عرضة لإعادة الصياغة والترتيب في مرحلة المعلوماتية، وبدأت بالفعل مؤسسات التعليم ومضامينه ومجالاته ووسائله تأخذ صيغاً جديدة مختلفة إلى حد كبير عن الأنظمة التي ألفها الناس.
إن التغيير الكبير الذي يجري في الموارد والتقنية والمعارف يجعل ما يتعلمه الإنسان ويتدرب عليه عديم النفع -أو قليلة النفع- بعد فترة وجيزة، فالمهندس أو الطبيب أو المدير، وغيرهم يواجهون تحديات كبيرة في عملهم تجعلهم بدون التعليم المستمر والمتابعة الدؤوبة لتخصصاتهم ومجالاتهم يخرجون من دائرة عملهم وتخصصهم.
فالتعليم المستمر "مدى الحياة" أصبح مطلباً ضرورياً يجب أن تلتفت إليه الدول والمؤسسات، ولم يعد التعليم الإلزامي في المدارس كافياً لتأهيل المجتمعات وتنميتها.
ويعد التدريب اليوم من أكثر القطاعات نمواً وانتشاراً، ولكن الدورات التدريبية وما تقوم به المؤسسات المختلفة في هذا المجال لم يعد كافياً لتلبية الاحتياجات الكثيرة الناشئة للعمل والحياة، فالتعليم المستمر والتدريب أصبح على درجة من الإلحاح والأهمية تستدعي أن تقوم به مدارس وجامعات ووزارات ومؤسسات منتشرة في المدن والقرى، لأنه لم يعد يستهدف قطاعاً نخبوياً من الناس، وإنما يحتاجه الناس جميعهم بمختلف أعمارهم وأعمالهم ومستواهم التعليمي والإداري.
الإنترنت بتحولها إلى جزء من بيوت الناس وحياتهم وعلاقتها بكل الأنشطة والمؤسسات تعيد ترتيب كثير من أنظمة الإدارة والعمل، ومنها التعليم..
باتجاه الحكومات والدول لتخفيف الإنفاق، وبسبب التحديات التعليمية الناشئة التي تستدعي إنفاقاً وإعداداً، فسيكون بمقدور المجتمعات والدول باستخدام الانترنت أن تفعّل "التعليم المنزلي" وتجعله رسمياً ومعتمداً، وتخفيف الحاجة للمباني التعليمية، وتقليل عدد المتعلمين، وتغيير أنظمة الامتحانات، وأن يشمل التعليم جميع مراحل العمر، تستقبل المدارس والمؤسسات التعليمية كل الناس وليس فقط الأطفال والتلاميذ.
وأهمية التعليم للمجتمعات والدول في تحقيق تنمية اقتصادية وعلمية وثقافية..، ويتوقع منه في ضوء المتغيرات المتسارعة أن يعيد تشكيل وبناء قوة عمل مؤهلة، وتتكيف مع التقنيات الجديدة المنتشرة، وتشارك فيها أيضاً. وإذا كانت مخرجات التعليم مختلفة عن الوجهة الجديدة للعمل والموارد والاقتصاد؛ فإن التعليم يكون عبئاً زائداً على الأعباء الكثيرة المتراكمة على الأفراد والمجتمعات.
وقد يحدث دون انتباه أن تنحرف مؤسسات التعليم برغم الإنفاق الهائل عليها والتفرغ التام لها من قبل أكثر من ثلث المجتمعات عن أهدافها البسيطة التي أنشئت من أجلها، وهي أن نتعلم كيف نعرف؟، وكيف نعمل؟، وكيف نكون؟، وكيف نعيش معاً؟.
كانت المجتمعات تعلم أبناءها بتلقائية ودون تكاليف تذكر كيف يكونون صالحين ومفيدين لأنفسهم ومجتمعاتهم، فالبيئة المحيطة بالطفل كانت تمده بالثقافة والهوية والعادات والتقاليد ووسائل العمل والرزق، فيتعلم حرفة أو مهنة، ويتعلم كيف يبني بيته بنفسه، ويحقق جميع أو معظم احتياجاته بنفسه أو ضمن منظومة المجتمع المحيط به، ورغم أن المؤسسات التعليمية قد أنشئت لتطوير هذه المهارات وتفعيلها؛ فإنها في المحصلة قضت على معظمها، وربما جميعها؛ فالشاب يتخرج من المدرسة أو الجامعة وهو "كَلُّ على مولاه، أينما يوجهه لا يأت بخير" وحتى في التطبيقات التي تبدو مقبولة للناس، مثل كثير من الوظائف والأعمال التي في الحكومات والمؤسسات، أو فلسفة الحصول على المال لتوفير الاحتياجات الأساسية بدلاً من تحقيقها بالجهد الذاتي وتعلم صناعتها تلقائياً لجميع الناس، مثل البناء، والتغذية، وبعض اللباس، والمهارات الأساسية في البيت كالصيانة، والديكور..؛ فإنها (تطبيقات العمل والتعليم الحالية) تمثل استنزافاً وتدميراً وبطالة وابتعاداً عن الإنتاج الحقيقي.
"المجتمع الذي يتعلم" فكرة تبنتها اليونسكو عام 1976، لكنها لم تعد اليوم ترفاً أو تطوعاً وإنما أكثر ضرورة من التعليم الابتدائي، فالتعليم ليس نظاماً فرعياً في المجتمع، ولم تعد يمكن تقسيم الحياة إلى فترة تعليم وفترة عيش وعمل. ولم يعد التعليم مقصوراً على المدارس والجامعات، وإنما يمكن أن تقوم به جميع المؤسسات الخدماتية والاقتصادية والاجتماعية والمعلوماتية. وتتيح شبكات الاتصال والإعلام إمكانية التعليم والتأهيل بسهولة وتكلفة قليلة (نسبياً).
وربما تكون المشكلة الأساسية في التعليم المستقبلي هي القدرة على تحديد الاحتياجات والمهارات الناشئة التي يجب أن تتزود بها المجتمعات. إذ يبدو أن معظم الأفراد والمؤسسات غير مدركين لهذه الاحتياجات ولا يلاحظون الإمكانات والفرص التي تتيحها المعلوماتية والشبكية المهيمنة بتسارع وهدوء على كل مناحي الحياة والاقتصاد.(/1)
والمهن التعليمية أصبحت أيضاً موضع إعادة نظر، والمعلم الذي لا يقدم أفضل مما أو غير ما تقدمه برامج الكمبيوتر وأقراص المعلومات(C-D- Rum) وشبكات المعلومات والاتصال سيتحول إلى ديناصور… والواقع أن كثيراً من المهن والمؤسسات متجهة إلى الانقراض أو التغيير الجذري، فكما أبدلت "الثورة الصناعية" معظم مهن ووسائل الحياة السابقة لها؛ فإن المعلوماتية تغير كل -أو معظم- الوسائل الحالية، ومعها أيضاً مهن ومؤسسات وأنظمة اقتصادية وتعليمية واجتماعية.
ولم يعد الحديث عن هذه التغييرات المتسارعة ترفاً فكرياً، أو خيالاً علمياً، ولكنها تحديات نشأت بالفعل، وقد يكون قد فات جزء كبير من الوقت والجهد والتفكير للتعامل معها، وهي -للأسف الشديد- لا تنتظرنا حتى ندركها أو نقتنع بضرورة التعامل معه(/2)
المجلات الخليعة ومخاطرها
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء
الحمد لله وحدة، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فقد أصيب المسلمون في هذا العصر بمحن عظيمة، وأحاطت بهم الفتن من كل جانب ووقع كثير من المسلمين فيها، وظهرت المنكرات، واستعلن الناس بالمعاصي بلا خوف ولا حياء، وسبب ذلك كله: التهاون بدين الله وعدم تعظيم حدوده وشريعته وغفلة كثير من المصلحين عن القيام بشرع الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنه لا خلاص للمسلمين ولا نجاة لهم من هذه المصائب والفتن إلا بالتوبة الصادقة إلى الله تعالى وتعظيم أوامره ونواهيه، والأخذ على أيدي السفهاء وأطرهم على الحق أطرا.
وإن من أعظم الفتن التي ظهرت في عصرنا هذا ما يقوم به تجار الفساد وسماسرة الرذيلة ومحبو إشاعة الفاحشة في المؤمنين: من إصدار مجلات خبيثة تحاد الله ورسوله في أمره ونهيه فتحمل بين صفحاتها أنواعا من الصور العارية والوجوه الفاتنة المثيرة للشهوات، الجالبة للفساد، وقد ثبت بالاستقراء أن هذه المجلات مشتملة على أساليب عديدة في الدعاية إلى الفسوق والفجور وإثارة الشهوات وتفريغها فيما حرمه الله ورسوله ومن ذلك أن فيها:
1- الصور الفاتنة على أغلفة تلك المجلات وفي باطنها.
2- النساء في كامل زينتهن يحملن الفتنة ويغرين بها.
3- الأقوال الساقطة الماجنة، والكلمات المنظومة والمنثورة البعيدة عن الحياء والفضيلة، الهادمة للأخلاق المفسدة للأمة.
4- القصص الغرامية المخزية، وأخبار الممثلين والممثلات والراقصين والراقصات من الفاسقين والفاسقات.
5- في هذه المجلات الدعوة الصريحة إلى التبرج والسفور واختلاط الجنسين وتمزيق الحجاب.
6- عرض الألبسة الفاتنة الكاسية العارية على نساء المؤمنين لأغرائهن بالعري والخلاعة والتشبه بالبغايا والفاجرات.
7- في هذه المجلات العناق والضم والقبلات بين الرجال والنساء.
8- في هذه المجلات المقالات الملتهبة التي تثير موات الغريزة الجنسية في نفوس الشباب والشابات فتدفعهم بقوة ليسلكوا طريق الغواية والانحراف والوقوع في الفواحش والآثام والعشق والغرام.
فكم شغف بهذه المجلات السامة من شباب وشابات فهلكوا بسببها وخرجوا عن حدود الفطرة والدين.
ولقد غيرت هذه المجلات في أذهان كثير من الناس كثيرا من أحكام الشريعة ومبادىء الفطرة السليمة بسبب ما تبثه من مقالات ومطارحات. واستمرأ كثير من الناس المعاصي والفواحش وتعدي حدود الله بسبب الركون إلى هذه المجلات واستيلائها على عقولهم وأفكارهم.
والحاصل: أن هذه المجلات قوامها التجارة بجسد المرأة التي أسعفها الشيطان بجميع أسباب الإغراء ووسائل الفتنة للوصول إلى: نشر الإباحية، وهتك الحرمات، وإفساد نساء المؤمنين، وتحويل المجتمعات الإسلامية إلى قطعان بهيمية لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا، ولا تقيم لشرع الله المطهر وزنا ولا ترفع به رأسا، كما هو الحال في كثير من المجتمعات، بل وصل الأمر ببعضها إلى التمتع بالجنسين عن طريق العري الكامل فيما يسمونه (مدن العراة) عياذا بالله من انتكاس الفطرة والوقوع فيما حرمه الله ورسوله.
هذا وإنه بناء على ما تقدم ذكره من واقع هذه المجلات ومعرفة آثارها وأهدافها السيئة وكثرة ما يرد إلى اللجنة من تذمر الغيورين من العلماء وطلبة العلم وعامة المسلمين من انتشار عرض هذه المجلات في المكتبات والبقالات والأسواق التجارية فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ترى ما يلي:
أولا: يحرم إصدار مثل هذه المجلات الهابطة سواء كانت مجلات عامة، أو خاصة بالأزياء النسائية، ومن فعل ذلك فله نصيب من قول الله تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة . الآية.
ثانيا: يحرم العمل في هذه المجلات على أي وجه كان سواء كان العمل في إدارتها أو تحريرها أو طباعتها أو توزيعها، لأن ذلك من الإعانة على الإثم والباطل والفساد والله جل وعلا يقول: ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب .
ثالثا: تحرم الدعاية لهذه المجلات وترويجها بأية وسيلة؛ لأن ذلك من الدلالة على الشر والدعوة إليه؛ وقد ثبت عن النبي إنه قال: { من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا } أخرجه مسلم في صحيحه.
رابعا: يحرم بيع هذه المجلات، والكسب الحاصل من ورائها كمسب حرام، ومن وقع في شيء من ذلك وجب عليه التوبة إلى الله تعالى والتخلص من هذا الكسب الخبيث.
خامسا: يحرم على المسلم شراء هذه المجلات واقتناؤها لما فيها من الفتنة والمنكرات، كما أن في شرائها تقوية لنفوذ أصحاب هذه المجلات ورفعا لرصيدهم المالي وتشجيعا لهم على الإنتاج والترويج. وعلى المسلم أيضا أن يحذر من تمكين أهل بيته ذكورا وإناثا من هذه المجلات حفظا لهم من الفتنة والافتتان بها وليعلم المسلم أنه راع ومسئول عن رعيته يوم القيامة.(/1)
سادسا: على المسلم أن يغض بصره عن النظر في تلك المجلات الفاسدة طاعة لله ولرسوله وبعدا عن الفتنة ومواقعها وعلى الإنسان ألا يدعي العصمة لنفسه ففد أخبر النبي أن الشيطان يجري من ابن ادم مجرى الدم. وقال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: كم نظرة ألقت في قلب صاحبها البلاء! فمن تعلق بما في تلك المجلات من صور وغيرها أفسدت عليه قلبه وحياته وصرفته إلى ما لا ينفعه في دنياه وآخرته؛ لأن صلاح القلب وحياته إنما هو في التعلق بالله جل جلاله وعبادته وحلاوة مناجاته والإخلاص له وامتلاؤه بحبه سبحانه.
سابعا: يجب على من ولاه الله على أي من بلاد الإسلام أن ينصح للمسلمين وأن يجنبهم الفساد وأهله ويباعدهم عن كل ما يضرهم في دينهم ودنياهم ومن ذلك منع هذه المجلات المفسدة من النشر والتوزيع وكف شرها عنهم وهذا من نصر الله ودينه، ومن أسباب الفلاح والنجاح والتمكين في الأرض كما قال الله سبحانه: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور .
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس – عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل شيخ
عضو – عبدالله بن عبدالرحمن الغديان
عضو – بكر بن عبدالله أبو زيد
عضو – صالح بن فوزان الفوزان(/2)
المحاكم الشرعية في مواجهة التهديد الخارجي
الصومال/ عبد الرحمن يوسف *
القتال الذي اندلع مؤخراً في العاصمة مقديشو بين اتحاد المحاكم الشرعية وتحالف ما يُسمى (إعادة إرساء السلام ومحاربة الإرهاب) لم يكن متوقعاً في رأي الكثير من المراقبين للشأن الصومالي، كما فاجأ الولايات المتحدة وحلفاءها في المنطقة، والحكومة الانتقالية الصومالية، وخاصة بعد سيطرة المحاكم الشرعية على العاصمة مقديشو وبعض المدن الأخرى .
قصة "التحالف" وهزيمته
في يوم 18-2-2006م أُعلن عن ميلاد تحالف جديد تحت اسم (تحالف إرساء السلام ومحاربة الإرهاب) بدعم كبير من الولايات المتحدة الأمريكية، ومن دول إفريقية مجاورة للصومال وخاصة أثيوبيا . وكان الهدف الأساسي من وراء إنشاء هذا التحالف الجديد هو القضاء على ما يُسمّى الخلايا النائمة التابعة للقاعدة، وإفشال الحكومة الانتقالية، مقابل حصولهم على الدعم المادي الأمريكي، والعتاد الحربي الإثيوبي، بالإضافة إلى حصولهم على بطاقة الأصدقاء المخلصين لأمريكا. وفي حال نجاح المشروع الجديد فإن العضوية ستُفتح لكل من يرغب الانضمام إلى الكيان الجديد.
ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن؛ إذ اندلعت المواجهات الدامية في نفس اليوم الذي أُعلن فيه عن تشكيل التحالف بين القوات التابعة للمحاكم الشرعية، والمليشيات الموالية لأمراء الحرب ( قادة التحالف الجديد ) فانقلبت موازين القوى منذ الوهلة الأولى لصالح المحاكم الشرعية.
وذلك للأسباب التالية:-
• اعتماد أمريكا على أمراء الحرب الفاسدين المتهمين بارتكاب مجازر بشرية في حق شعبهم ، الذي عانى وما زال يعاني من ويلات الحروب الأهلية، طيلة السنوات الخمس عشرة الماضية. ولاغرو فقد انقلب السحر على الساحر فجأة، وذلك عندما انحاز الشعب الصومالي بجميع فئاته إلى جانب المحاكم الإسلامية.
• استهدف ما يُسمّى تحالف (إرساء السلام ومحاربة الإرهاب) أعز شيء وأغلاه لدى الشعب الصومالي ، وهو الإسلام ومبادئه السامية؛ إذ شنوا هجوماً عشوائياً على المدارس والمعاهد الإسلامية، بحسب زعمهم أنها تلقن الأطفال مفاهيم ومبادئ إرهابية تحرضهم على كراهية الولايات المتحدة الأمريكية.
• تزامنت تلك الأحداث المأساوية مع كارثة "الجفاف" التي ألحقت خسائر مادية وبشرية في صفوف الأهالي المتضررين؛ ففي الوقت الذي كان الشعب يتوقع من أمراء الحرب تقديم المساعدات العاجلة لهؤلاء البائسين، أعلن التحالف الحرب على الشعب، وبالتالي فإن فرص نجاحه وتمرير برامجه -المسمومة أصلاً- لم تحظ بأي ترحيب من القوى المستنيرة للشعب.
• قدمت المحاكم الشرعية بالتعاون مع لجنة الإغاثة العاجلة الصومالية مساعدات إنسانية إلى الأهالي المتضررين جراء الجفاف والقحط، كما ساهمت في إرساء قواعد الأمن والاستقرار في أجزاء واسعة من العاصمة الصومالية.
وسائل الإعلام المحلية لعبت دوراً حاسماً في هذه القضية؛ إذ كشفت أهداف التحالف الجديد، وعلاقته بأمريكا، كما أجرت حوارات ساخنة مع قادة التحالف المغرورين الذين أخفقوا في إيصال رسائلهم السياسية، والأمنية إلى الشعب الذي سئم من تصريحاتهم .
كما لعبت السياسة الحكيمة التي انتهجتها قيادة المحاكم الشرعية دوراً هاماً وحاسماً لصالح الشعب الصومالي، ونخص بالذكر فضلية الشيخ/شريف حسن شيخ أحمد، بحكمته وأسلوب تعامله مع وسائل الإعلام؛ إذ كان يؤكد بين الحين والآخر استعداده لوقف إطلاق النار واللجوء إلى الحوار بدل القوة العسكرية، في حين كانت قذائف مدافع التحالف تتساقط على بيوت المواطنين العزل في العاصمة مقديشو . هذا إضافة لسياسة المحاكم الشرعية المتوازنة، واستخدامها مفردات لغوية جديدة لم تكن معروفة لدى المواطن الصومالي ، وهي مفردات تدعو إلى احترام الإنسان الصومالي، والحفاظ على ضروراته الأساسية، بوضع حد للممارسات البشعة التي تمارسها المليشيات العملية الموالية لأمريكا.
الحماقة الأمريكية
إذا رجعنا إلى الوراء قليلاً، فإن المعطيات العسكرية والأمنية في الصومال منذ تدخل واشنطن في الشأن الصومالي عام 1992م تحت غطاء الأمم المتحدة، تؤكد الحماقة الأمريكية تجاه تعاملها مع قضايا العالم الإسلامي بصفة عامة، والقضية الصومالية على وجه الخصوص.
وتتجلّى الحماقة الأمريكية هذه المرة في تورّطها في الحرب الدائرة في العاصمة مقديشو بإيحاء من إثيوبيا، العدو اللدود للصومال، ولأن الدولتين تتقاسمان الأدوار بصورة دقيقة؛ إذ قدمت واشنطن الدعم المادي لأمراء الحرب في حين قدمت أديس أبابا الآلة الحربية بأنواعها المختلفة، فالقيادة الأمريكية المخفقة لم تستوعب حتى الآن الدروس المرة في كل من العراق وأفغانستان.
وعلى الرغم من أن أمريكا لم يلحقها خسائر بشرية جديدة في الصومال، إلاّ أن عملاءها الصوماليين قد تم سحقهم بفضل الله، ثم بفضل المجاهدين الأبطال الصوماليين.
هل تستفيد أمريكا من أخطائها السابقة؟(/1)
وفي اعتقاد الكثيرين فإن أمريكا تلقّت صفعة قوية على أيدي قوات المحاكم الشرعية في الصومال؛ حيث مُني تحالف ما يُسمّى (إرساء السلام ومحاربة الإرهاب) بهزيمة نكراء، وأُخرجوا لأول مرة من العاصمة الصومالية ففزعت قيادة البنتاجون، والبيت الأبيض ، في حين فرح المسلمون وكل من يعارض الهيمنة الأمريكية بما تحقق من نتائج إيجابية على ميدان المعركة لصالح الشعب الصومالي الصابر.
ويلوح في الأفق في الوقت الراهن، مواقف أمريكية متباينة ومتناقضة، فمرة تعرب واشنطن عن قلقها العميق تجاه التطورات المتسارعة في الصومال، ومرة أخرى تعلن عن دور قريب قد تلعبه في الصومال لإعادة بناء المؤسسات الحكومية المنهارة، وتقديم الدعم المطلوب للحكومة الانتقالية الحالية، وذلك لسبب واحد وهو سحب البساط من تحت أقدام التيارات الإسلامية في الصومال، وفي سبيل تحقيق ذلك بدأت تغازل الحكومة الضعيفة الصومالية، بشرط أن تتعهد بالقضاء على المحاكم الشرعية، مما يعني أن الساحة الصومالية مرشحة إلى مزيد من الانفجارات الدامية.
الرؤية الأمريكية تجاه التطورات الأخيرة في مقديشو لم تتضح معالمها حتى الآن، وبالتالي فإن الاجتماع الدولي الذي سيُعقد في نيويورك بخصوص التطورات الجديدة، تحت رعاية أمريكية، قد يتوصل إلى رؤية أمريكية جديدة، مدعومة من دول أوروبية، وإفريقية، تدور في فلكها.
ولكن كل هذه اللقاءات في اعتقادي مضيعة للوقت، ولن يُكتب لها النجاح إلاّ إذا قرّر المشاركون في الاجتماع القادم الأمور التالية:
• الانحياز التام إلى خيار الشعب الصومالي.
• أن تقدم الولايات المتحدة اعتذارها العلني إلى الشعب الصومالي، وأسفها عن الدعم اللوجستي الذي قدّمته إلى أمراء الحرب الموالين لها.
• أن تقدم الولايات المتحدة تعويضات مادية إلى المتضرّرين جراء الحرب الأخيرة التي اندلعت تحت شعار الصفقة الأمريكية.
• سحب قواتها المتواجدة في المياه الصومالية، ومنطقة القرن الإفريقي بصفة عامة؛ لأنها قوات توجد حالة من عدم الاستقرار والفوضى في المنطقة .
• الاعتراف الرسمي بالحكومة الانتقالية الصومالية، ووقف اتصالاتها مع أمراء الحرب المهزومين، عسكرياً وأمنياً.
المحاكم الشرعية والشكوك الأمريكية
كان الرد الأولي الذي صدر من الجهات المعنية بالصومال قوياً بعد سيطرة المحاكم الشرعية على العاصمة، وتباينت الآراء والتحليلات، والتكهنات حول القرارات الإستراتيجية والأمنية التي ستتخذها قيادة المحاكم الشرعية بعد هذا الانتصار، ومن بينها إعلان دولة إسلامية في الصومال. وقد ركزت مختلف وسائل الإعلام العالمية على هذه النقطة، وقد غفل هؤلاء أن الشعب الصومالي مسلم 100% كما أنه اختار الشريعة الإسلامية حكماً ونظاماً بدعمه المحاك الشرعية.
ولا يخفى على أحد أن الهدف الأساس الذي أُنشئت المحاكم الشرعية من أجله هو إعادة الأمن والاستقرار في العاصمة الصومالية، وبالتالي فإن نفوذها ازداد شيئاً فشيئاً بعد ذلك منذ 2004م، حتى اقتنع الشعب أن المخرج الوحيد لإنقاذ الشعب من أمراء الحرب هو الرجوع إلى الله أولاً، ثم الوقوف مع المحاكم الشرعية.
وفور إعلان سيطرة المحاكم الشرعية على العاصمة، أرسل رئيس اتحاد المحاكم الشرعية خطابات إلى عدة جهات من بينها: مصر السودان واليمن وكينيا والولايات المتحدة الأمريكية، والجامعة العربية، والاتحاد الإفريقي، والأمم المتحدة. يعبر فيها عن أن المحاكم الشرعية تُعدّ بمثابة ثورة شعبية هدفها الأول والأخير هو إعادة الأمن والاستقرار في العاصمة ، التي كانت ملجأ ومأوى لأمراء الحرب، وعصابات الإجرام، منذ انهيار الحكومة المركزية عام 1991م على أيدي أمراء الحرب. واستعدادها للمساهمة في إنجاح المصالحة الوطنية، والوصول إلى الوفاق الوطني.
ردود الأفعال المتباينة
تباينت ردود الأفعال المحلية والإقليمية والدولية حيال المتغيرات المتسارعة في العاصمة الصومالية. فقد رحب المجتمع الصومالي بدون استثناء بالهزيمة العسكرية التي لحقت بأمراء الحرب؛ ودخل الشعب الصومالي في مرحلة جديدة، استعاد فيها عافيته ورشده. أمّا إقليمياً، فإن كينيا رحّبت بالتطورات الأخيرة، وذهبت إلى أبعد من ذلك؛ إذ قررت عدم استقبال الفارين من أمراء الحرب من الصومال، كما طردت عن أرضها، واحداً من أعضاء (تحالف إرساء السلام ومحاربة الإرهاب) بعد أن علمت بوصوله إلى نيروبي هرباً من مقديشو.
أما الجامعة العربية فأكدت على أن أمراء الحرب هم الإرهابيون الحقيقيون ويجب القضاء عليهم . وفي هذا السياق فإن الولايات المتحدة الأمريكية عبّرت عن قلقها حيال التطورات الأخيرة في الصومال، وخوفها من انتشار وتنامي القوى الإسلامية، وإمكانية تهديد مصالحها في القرن الإفريقي، وهو ما نفاه رئيس اتحاد المحاكم الإسلامية.
---------------------
* كاتب وباحث مقيم في الصومال(/2)
المحتل.. المختل !
الكاتب: الشيخ د.سلمان بن فهد العودة
قصة البريئة المغتصبة " عبير " جمدت الدموع في المآقي ، فالأمر ليس مصيبة عابرة ولكنه إعلان دائم بالنواح على مصير أمة تم اغتصابها وآية النهاية لهذه الأمة أن تعجز عن الفعل الصحيح ، فإما ألا تفعل شيئاً أو تفعل الخطأ، وقد عصم الله أتباع محمد صلى الله عليه وسلم من الاجتماع على الخطأ، سواء كان توقفاً عن العمل أو كان فعلاً لما لا تقتضيه الشريعة .
وإذا وصلت الأمة إلى قاع الفشل والخيبة، فهذا مؤذن بإذن الله ببداية جديدة.
لا أقول هذا تعزية لنفوس آلمتها الجراح ولكني أقرؤه سنة إلهية وناموساً جارياً وأرى مبادئه في الأرواح المؤمنة التي التهبت مشاعرها ، والعقول الحية التي تتفتح للحياة وتتطلع للإبداع ، والألسنة الصادقة التي تتلو أعذب المواعيد ، وإن كان صخب الباطل يحاول إفسادها أو تأجيلها ، بيد أن قوارع الوعد الرباني تزجره (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ)(الأنبياء: من الآية18) (جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ)(سبأ: من الآية49) إنها السنن ..!
ونحن وإن كنا نشهد في مجريات الأحداث المتعلقة بالاستحواذ الأمريكي على العالم الإسلامي ، والتحالف العقدي بين الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني .. نشهد بوادر وعد الله بكشف زيفهم ومخادعاتهم ، وتعرية شعاراتهم بحرب الإرهاب ، ونشر الحرية والديمقراطية والعدالة من خلال ما نطقت به ألسنتهم وأجهزة تصويرهم وهو لا يعدو أن يكون قمة الجبل الجليدي لسلسة من جرائم العنف والسطو والاغتصاب والسرقة وإهانة المقدسات والإطاحة بالقيم والأخلاق الإنسانية .. وما خفي أعظم .. والتاريخ لا يرحم .. وسيأتي اليوم الذي يحاكم فيه زعماء الإجرام في هذه الحلبة ويدافعون ، وأقول: " إن شاء الله " تحقيقاً لا تعليقاً ، فهو آت لا محالة في هذه الدنيا ، أما محاكم الآخرة فشيء مختلف (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الانبياء:47) وإن ميوعة القضاء الأمريكي أمام أحداث جسام كهذه الجرائم البشعة المتكررة في العراق والتي لم تحاكمها الإدارة وإنما حاكمتها أجهزة الإعلام الحرة الموفقة التي فضحتها وغطتها وأحرجت تجار الحرب الأمريكيين في تسترهم وصمتهم ..إن هذه الميوعة في مواجهة جرائم موثقة في العراق و غوانتانامو وأفغانستان .. يقابلها قهر وإسراف في محاكمة مسلمين بتهم ملفقة أو زائفة أو ضعيفة كما حدث للكثير من الطلبة السعوديين الذين حوكموا ويحاكمون هذه الأيام بغير عدالة ، ومنهم أخونا الأستاذ حميدان التركي -فك الله أسره- والمسلمون قالوا ولازالوا : على الاحتلال الغاشم أن يرحل بغير انتظار ، وإلا فليتحمل المزيد من الخسائر والفضائح ، وقالوا ولازالوا : القصة لا تتعلق برحيل المحتل فحسب ،بل بانكماش القبضة الأمريكية وتراجعها وانكفائها لصالح قوى جديدة ...!
وها هنا موطن العبرة ...
فما هذه القوى الجديدة التي سنشهد حضورها ؟
يتحدث العالم عن " التصين " كظاهرة اقتصادية أولاً و سياسية ثانياً ، وهو حديث له اعتباره ، فالمسلمون مطالبون بتنويع العلاقة والانفتاح الجاد مع هذه القوى المؤثرة وفق مصالحهم الخاصة ، فليس مطلوباً منا أن نتواصل مع الصين حتى نعوق تحالفها مع إيران؛ لأن هذا ما تريده أمريكا ، بل نتواصل معها لننتفع بقدراتها التصنيعية والاقتصادية والعسكرية .
وروسيا التي بدأت تحاول استعادة دورها العالمي ومكانتها في الشرق الإسلامي على وجه الخصوص، وقد تخلت عن شيوعيتها الحمراء وتوسعها .. لم لا نستثمر ظرفها العالمي لصالحنا ولصالحها أيضاً ؟ إن استفراد الأمريكان بالدور العالمي كان وبالاً على العالم ، وعلى المسلمين خاصة ، وهو لم يكن استفراداً تاماً ، بقدر ما كان تهيئة وتحضيراً لبروز قوى جديدة تحفظ التوازن وهذه سنة الله (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ )(البقرة: من الآية251) (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً)(الحج: من الآية40)
وعلينا معشر المسلمين أن نستعد لمرحلة قادمة من التدافع بين قوى عالمية، وأن نحفظ للأمريكان مواقفهم من قضايانا العادلة، وعلى رأسها القضية الأم "فلسطين" والانحياز السافر للإرهاب الإسرائيلي ضد الحق الإسلامي ..
يجب أن تكون هذه إحدى المحددات الأساسية للسياسة الإسلامية القادمة ..(/1)
و لا مناص لنا من ضرورة السعي الدائم في بناء الذات .. فليس صدفة أن نكون دائماً في موقع المظلوم المعتدى عليه (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ )(هود: من الآية101)، لن يكون العالم الإسلامي معذوراً أمام محكمة التاريخ ، ثم أمام محكمة الآخرة حين يظل متخلفا .. لا يملك إلا البكاء والعويل والصياح على حالات اغتصاب للأرض وانتهاك للعرض وسرقة مفضوحة للثروات باسم أنظمة التجارة العالمية ..
لن يكون المسلمون معذورين؛ لأنهم يملكون أن يكونوا أفضل مما هم بكثير فلديهم الثروات الضخمة والعقول المبدعة والتجربة التاريخية ، وكل شيء يمكن أن يباع ويشترى، الأسلحة ، والأسرار العلمية ، والخبرات البشرية ، بل والمواقف ..
فهل نردد مع المتشائمين :
لَقَد أَسمَعت لَو نادَيت حَياً وَلَكن لا حَياةَ لِمَن تُنادي
وَلَو نار نفخت بِها أَضاءَت وَلَكن أَنتَ تَنفخ في رَماد!
أم نلتقط خيط التفاؤل من لجة اليأس ونحدو :
سنصدع هذا الليل يوما ونلتقي مع الفجر يمحو كلّ داجٍ وغاسق
ونمضي على الأيام عزما مسدّدا ونبلغ ما نرجوه رغم العوائق
فيعلو بنا حق علونا بفضله على باطل رغم الظواهر زاهق
ونصنع بالإسلام دنيا كريمة وننشر نور الله في كل شارق
إن صرخات المعذبين في فلسطين وأنين المقهورين في العراق هي دمدمة العقاب الرباني على الفاعلين المجرمين ، ولن ينجو من هذا العقاب من يقدرون ويسمعون ثم يسكتون وكأن الأمر لا يعنيهم .. أو كأنهم لا يقدرون أن يصنعوا شيئاً ،لسنا نطلب المحال ، ولا ننتظر المفاجآت بغير سياقها ، بل نطلب الممكن المقدور عليه ، وهو تكليف رباني (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(التغابن: من الآية16)، (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)(البقرة: من الآية286).
نطلب تدخلاً عربياً جريئاً في العراق وفي فلسطين وإن سخطت الإدارة الأمريكية والإدارة الإسرائيلية فهما في حالة احتلال ، واختلال ، ومصيرهم بإذن الله إلى زوال وإن كانوا لا يفقهون الأمثال (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ).(/2)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ـ أما بعد …
أيها الأحبة في الله ….
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذه أو ليلة السبت الموافق الحادي عشر من الشهر السادس للعام السادس عشر بعد الأربعمائة والألف وموضوع هذا اللقاء بعنوان المحرومون وعفواً أيها الأحبة، وأعتذر أيضاً للأخوات فلا نجزع من كلمة محروم بالرغم من قسوتها فالكثير منّا يشعر بالحرمان وينال الإنسان من الحرمان بقدر بعده عن طاعة الله وسأوجه خطابي إلى المحرومين وسأنادي المحرومين كثيراً ، فلا نجزع فقد يكون المحروم أنا وقد تكون أنت وقد يكون فلاناً أو فلانة وقد نكون جميعاً ، فالحرمان يتفاوت من شخص لآخر ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص فقد تحرم الراحة والسعادة وقد تحرم لذة السجود والركوع وقد تحرم قراءة القرآن أو تدبر آياته وقد تحرم كثرة الذكر والاستغفار وقد تحرم لذة الخشوع والبكاء من خشية الله وقد تحرم بر الوالدين والأنس بهما وقد تحرم لذة الأخوة في الله وقد تحرم السعادة الزوجية وقد تحرم أكل الحلال ولذته وقد تحرم التوبة والندم على ما فات وقد تحرم حسن الخاتمة .
فيا أخي الحبيب … ويا أختي الغالية قد نحرم هذه الأمور كلها وقد نحرم الكثير منها وقد نحرم القليل. والسعيد من جمعها ووفق إليها وقليل ما هم فإن كنت منهم فاذكر نعمة الله عليك واشكره واعلم أن من تمام شكره النصح والتوجيه للمسلمين فلا تحرم نفسك أجر التبليغ فالدال على الخير كفاعله ، إذن فقد يصيبك من الحرمان ولو القليل ، فاحتمل خطابي واحتمل مناداتي لك بيا أيها المحروم فإنما قصدت بها الشفقة والرحمة والحب والنصح وأعوذ بالله أن أكون من الشامخين فأنا أول المحرومين . أسأل الله ـ عز وجل ـ أن يحيينا حياة طيبة وأن يتوب علينا توبة صادقة .
كثير ممن ظاهرهم الصلاح محرومون فهم لم يذوقوا حلاوة الإيمان ولا حقيقة الهداية والاستقامة فليست الاستقامة أشكالاً ومظاهر بل هي أعمال وسرائر وأنتم أنتم أيضاً يا أصحاب المناصب وأهل المال والتجارة ويا كل مهندس وطبيب وكاتب أقول لكم جميعاً أحسنتم يوم ساهمتم وعملتم ونجحتم ولا شك أنكم جميعاً من صناع الحياة ومن أصحاب الأيادي البيضاء لكن ما هو رصيدكم من السعادة والراحة وانشراح الصدر ؛ ما حقيقة الصلة بينكم وبين الله ، ما هو نصيبكم من حلاوة الإيمان ولذة السجود والمناجاة ولذة الدمعة من خشية الله ـ عز وجل ـ إذن فقد يكون لكم نصيب من الحرمان فاسمعوا يا رعاكم الله هذه الكلمات ، وإذا كان هذا هو واقع بعض الصالحين والجادين العاملين فكيف بحال الغافلين اللاهين؟ فمن الناس ، من كسب الدنيا والآخرة نسأل الله ـ عز وجل ـ أن نكون منهم ـ ومنهم من كسب الدنيا وضيع الآخرة ومنهم من ضيع الدنيا والآخرة ـ، هؤلاء هم المحرومون حقا يحدثني أحدهم أنه لم يركع لله ركعة ولم يشعر بلذة الصيام يوماً من الأيام وأنه لا يعرف عن رمضان سوى السهر والمعاكسات والنوم بالنهار ، ويهمس لي آخر عن أحواله وأحوال أصحابه وجلساتهم في الليل وما يدور فيه من الخنا والفساد والضياع ، وقال آخر إنه يجلس الساعات بل الليالي ينتقل من قناة إلى قناة لقضاء الفراغ وقتل الوقت كما يقول عن نفسه والحق أنني أبحث عن الشهوة وتلبية رغبات النفس الأمّارة فإذا انتهت شعرت بندم وضيق وهم لا يعلمه إلا الله ، ولا أدري إلى متى سأظل على هذه الحال من قتل العمر وتضييع الأيام يقول أضعت نفسي ورجولتي وإيماني ووظيفتي وباختصار إنني أعيش في دوامة التعاسة والشقاء ، وإن كنت في الظاهر في سعادة وهناء إلى آخر ما قال..(/1)
قلت في نفسي صدق الله يوم أن قال: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً) ويصارحني آخر ودمعته تسيل على خده فيقول : إنكم مسئولون عنا أمام الله أدركوا الشباب ؛مخدرات، أفلام، معاكسات ، سهر وغنى ولواط وزنا ثم يجهش بالبكاء هذه حاله والله العظيم ثم يجهش بالبكاء ويضع وجهه بين يديه و هو يقول لقد فكرت بالانتحار عدداً من المرات وكتب أحدهم إلي رسالة طويلة قال في مقدمتها: قضية الشباب قضية كبيرة ومهملة وللأسف ، مهملة من الجميع ، إلا ما شاء الله فلا أدري من أين أبدأ في مشاكلهم المعاصرة هل أبدأ بتضييعهم لأوقاتهم أو لأموالهم أو لأنفسهم أو لأمتهم ثم عدد بعض أسرار الشباب إلى أن قال هذا فيض من غيض مما يدور في أوساط الشباب من الفساد والإفساد فضلاً عن حلق اللحى وسماع الغناء وإسبال الثياب وتبادل الأشرطة والأفلام المدمرة وشرب الدخان ولعب الورق وتبادل أرقام الهواتف وسباب ولعان وغيبة ونميمة وكذب ناهيك عن ترك الصلاة وإني لمقامي هذا ـ والكلام ما زال له ـ وإني لمقامي هذا بعد إذ نجاني الله من شبكة أعداء الإسلام التي ينصبونها لأبناء هذه الأمة وليس الخبر كالمعاينة أقول هذا واقع الشباب فاذهبوا وشاهدوا العجائب إلى آخر رسالته .
وحدثتني بعض الأخوات فتبين لي العجب من الضياع والحرمان الذي تعيشه بعض بنات المسلمين وللأسف تقول إحداهن وقد كانت غافلة عابدة بالهاتف: أنا أعيش في محنة كبيرة شديدة لا يعلمها إلا الله فأنام وأصحو وأنا أبكي وقلبي يكاد يتقطع أحس أن الدنيا ضيقة أبكي في كل وقت وأخاف أن يكون هذا الإحساس بضيق الدنيا قنوطاً أو يأساً من رحمة الله وأنا لا أريد ذلك ـ تقول ـ فأنا أريد أن أحقق صدق توبتي بالصبر والثقة بالله والتوكل عليه والاستعانة به والثقة بأنه سينجيني من تلك المعصية ويغفر لي ويعوضني خيراً ، وحتى لحظة كتابتي هذه الكلمات أبكي من شدة ما أجد من ألم وتعب وضيق لأن كل شيء يذكرني بالماضي ولا أجد الراحة والاطمئنان إلا في الصلاة والدعاء وتلاوة القرآن ، وهذه من الصعوبات التي تواجهني في هذه الفترة وأسأله تعالى أن يغفر ذنوبي فقد فرطت في جنب الله وتهاونت في المعصية.. إلى أن قالت: كنت أقول في نفسي أمعقول أن يوجد من يتوب ويرجع إلى الله بسبب محاضرة واحدة أو شريط واحد أو موقف بسيط ؟ فالحمد لله وأسأله ألا يزيغ قلبي بعد إذ هداني.
وقد هداها الله بسبب حضورها لمحاضرة لإحدى الأخوات بكلياتها إلى آخر قصتها من رسالة لطيفة بعنوان: دموع ساخنة من فتاة عائدة. فأهدي هذا الموضوع المحرومون أهديه إلى المحرومين من نعمة الإيمان الفاقدين حلاوته وأُنسه وطعمه أهديه إلى المحرومين من لذة الدمعة والبكاء خشية وخوفا من الله أهديه إلى المحرومين من لذة السجود ومناجاة علام الغيوب، إلى المحرومين من لذة قراءة القرآن وتدبر آياته وتذوق معانيه إلى المحرمين من لذة الأخوة والحب في الله ، إلى المحرمين من بركة الرزق وأكل اللقمة الحلال إلى المحرومين من بركة العمر وضياعه في الشهوات واللذات ، إلى المحرومين من انشراح الصدر وطمأنينته وسعادته إلى المحرومين من بر الوالدين والأنس بهما ، والجلوس إليهما وجماع ذلك كله أقول أهدي هذا الموضوع إلى المحرومين من الاستقامة والطاعة والالتزام إلى أولئك الذين أصابهم اليأس والشكوك واستبد بهم الأسى والشقاء واجتاحهم القلق والظلام ونزلت بهم الهموم والغموم إلى الذين حرموا زاد الإيمان ونور الإسلام إلى البائسين ولو عاشوا في الرغد والنعيم ، إلى الذين حرموا نعمة الإيمان لقد فقدتم كل شيء وإن وجدتم المال والجاه إلى الذين حرموا لذة الاطمئنان وبرد الراحة لقد فقدتم كل شيء وإن ملكتم الدنيا بأسرها إلى الذين حرموا السعادة والأنس وأضاعوا الطريق ، إلى أولئك جميعاً أقول اسألوا التائبين يوم ذاقوا طعم الإيمان يوم اعترفوا بالحقيقة والله والله ثم والله ما رأيت تائباً إلا وقالها ولا نادماً إلا وأعلنها صرخات مدوية وزفرات مذنب وآهات نادم اختصروها بكلمات قالوا نشعر بالسعادة لحظات وقت الشهوة فقط وعند الوقوع بالمعصية واللذة وبعدها قلق وحيرة وفزع واضطراب وضياع وظلام وشكوك وظنون وبكاء وشكوى عُقد وأمراض نفسية ، وصدق الله ـ عز وجل ـ يوم قال: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى) ، إذن فهو في أمان من الضلال والشقاء متى بالهداية بالاستقامة باتباع هدى الله.
والشقاء ثمرة الضلال ولو كان صاحبه غارقاً في متاع الدنيا بأسرها ، فما من متاع حرام ، إلا وله غصة تعقبه وضيق يتبعه ولذلك قال الله عز وجل ، بعد هذه الآية مباشرة (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً) ، أي في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره بل صدره ضيق حرج لضلاله وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك فلا يزال في ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة انتهى كلامه رحمه الله .(/2)
فإلى المحرومين ، لماذا أعرضتم عن ذكر الله لماذا حرمتم أنفسكم سماع المواعظ ومجالس الذكر ، تدعون فلا تأتون ، وتنصحون فلا تسمعون تغفلون أو تتغافلون بل ربما تسخرون وتهزءون ولكن اسمعوا النتيجة اسمع للنهاية المرة اسمعي للنهاية التي لابد منها قال الحق ـ عز وجل ـ (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً) هذا في الدنيا أما في الآخرة ، (ونحشره يوم القيامة أعمى قال ربي لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فننسيها وكذلك اليوم تنسى) فنسيتها أعرضت عنها أغفلتها تناسيتها إذن فالجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان ، وكذلك اليوم تنسى ، (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم) (نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون).
أيها المحرومون لماذا نسيتم لقاء ربكم ، لماذا هذا الإعراض العجيب ؟ إنكم حرمتم أنفسكم فحرمتم السعادة والراحة والاستقرار النفسي لماذا نسيتم وتناسيتم ما قدمت أيديكم ، لماذا أغفلتم ولماذا غفلنا عن المعاصي والذنوب ، اسمع لقول الحق ـ عز وجل ـ (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسى ما قدمت يداه) ونسي ما قدمت يداه، أين النفس اللوامة ؟ أين استشعار الذنب ، أين فطرة الخير ، أين القلب اللين الرقيق ، أين الدمعة الحارة ؟ اسمعوا واعوا ، (إنا أنذرناكم عذاباً قريباً يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً) ، يقسم بعض التائبين كما أسلفت أنه ما ركع لله ركعة وما سجد لله سجدة فأي حرمان بعد هذا الحرمان؟!.
عفوك اللهم عنا خير شيء نتمنى
رب إنا قد جهلنا في الذي قد كان منا
وخطينا وخطلنا ولهونا وأسأنا
... ... ... إن يكن ربي خطأنا ما أسأنا بك ظناً
فأنلنا الختم بالحسنى وإنعاماً ومَنّا
أيها المحرمون لا راحة للقلب ولا استقرار إلا في رحاب الله إلا في الهداية إلا في الاستقامة والالتزام بأوامر الله يتصور بعض المحرومين والمحرومات أن الراحة والسعادة في المال والمنصب والسفر إلى الخارج ، ذكرت جريدة الشرق الأوسط بتاريخ الحادي والعشرين من الشهر الرابع للعام الخامس عشر بعد الأربعمائة والألف نقلاً عن مذكرات زوجة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش قالت إنها حاولت الانتحار أكثر من مرة وقادت السيارة إلى الهاوية تطلب الموت وحاولت أن تختنق للتخلص من همومها وغمومها.
ويذكر التاريخ لنا أن [علي بن المأمون العباسي] ابن الخليفة كان يسكن قصراً فخماً وعنده الدنيا مبذولة ميسرة فأطل ذات يوم من شرفة القصر فرأى عاملاً يكدح طيلة النهار فإذا أضحى النهار توضأ وصلى ركعتين على شاطئ دجلة فإذا اقترب الغروب ذهب إلى أهله فدعاه يوماً من الأيام فسأله فأخبره أن له زوجة وأختين وأما يكدح لهن وأنه لا قوت له ولا دخل إلا ما يكتسبه من السوق وأنه يصوم كل يوم ويفطر مع الغروب على ما يحصل قال ابن الخليفة ، فهل تشكو من شيء ، قال العامل : لا والحمد لله رب العالمين فترك ابن الخليفة القصر وترك الإمرة وهام على وجهه ووجد ميتاً بعد سنوات عديدة وكان يعمل في الخشب جهة خراسان.
فيا سبحان الله من الإمارة إلى النجارة لأنه وجد السعادة في عمله هذا ولم يجدها في القصر.
إن من المحرومين من قال الله عنهم : (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً) ، فأي حرمان بعد إضاعة الصلاة ، أقسم لي شاب أنه لم يسجد لله سجدة ، إلا مجاملة أو حياء فأقول أيها المرحوم إنه الكفر والضلال "إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" كما روى الترمذي والنسائي وأحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي "إن بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" كما عند مسلم في صحيحه.
مسكين أنت أيها المحروم يوم أن قطعت الصلة بينك وبين الله إنها مفتاح الكنز الذي يفيض سعادة وطمأنينة إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود إنها زاد الطريق ومدد الروح وجلاء القلوب إن ركعتين بوضوء وخشوع وخضوع كفيلتان أن تنهي كل هذا الهم والغم والكدر والإحباط.(/3)
إن من أسباب السعادة ، أو إن من أسباب سعادة المؤمنين ما أخبر الله عنه بقوله (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً) وقوله : (أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) ، من أجمل لحظات الدنيا وأسعدها يوم أن يسجد العبد لمولاه يدعوه ويناجيه يخافه ويخشاه قيام وسجود وبكاء وخشوع فيتنور القلب وينشرح الصدر وتشرق الوجوه قال عز وجل: (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) ، أما المحروم فظلام في القلب وسواد في الوجه وقلق في النفس هذا في الدنيا ، وفي الآخر ة يقول الله عنهم (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون) ، حرموا من السجود في الآخرة لأنهم كانوا يدعون له في الدنيا فيتشاغلون ويتكبرون ويسخرون أي فلاح وأي رجاء و أي عيش لمن انقطعت صلته بالله ، أو قطع ما بينه وبين وليه ومولاه الذي لا غنى عنه طرفة عين فلا تعلم نفس ما في هذا الانقطاع من أنواع الآلام وأنواع العذاب ، مسكين أيها المحروم كيف تريد التوفيق والفلاح والسعادة والنجاح وأنت لا تصلي وأنت قد قطعت ما بينك وبين الله اسمع لقوله ـ عز وجل ـ (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين)، اسمع لقول الحق ـ عز وجل ـ (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) سجود المحراب واستغفار الأسحار ودموع المناجاة سيما يحتكرها المؤمنون ولئن توهم المحروم جناته في الدينار والنساء والقصر المنيف فإن جنة المؤمن في محرابه إن من المحرومين من إذا ذكر بالصلاة سخر واستهزأ وفي هؤلاء يقول الحق عز وجل (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً) ويقول (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون) أي في الدنيا (وإذا مروا بهم يتغامزون) ولكن السعيد من يضحك في النهاية ولذلك قال الله (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون) إن المتهاون في الصلاة حرم خيراً كثيراً فقد قال ـ صلى الله عليه وآله سلم ـ "من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له برهانا ولا نورا ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وهامان وفرعون وأبي من خلف" والحديث أخرجه أحمد والدارمي وقال الهيثمي في المجمع رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد ثقات وقال المنذري إسناده جيد قلت فيه رجل لم يوثقه إلا ابن حبان ، أيها المحروم حرمت نفسك أجمل لحظات الدنيا لحظات السجود وتمريغ الجبين للرب المعبود حرمت نفسك أعظم اللذات لذة المناجاة لذة التذلل والخضوع.
إنك تملك أغلى شيء في هذا الوجود تملك كنزاً من كنوز الدنيا الصلوات الخمس الثلث الأخير من الليل ساعات الاستجابة اسأل المصلين الصادقين اسألهم ماذا وجدوا اسألهم ولا تتردد فسيجيبونك بنفوس مطمئنة بنفوس راضية بنفوس ذاقت حلاوة الدنيا وأجمل ما فيها سيقولون أكثر الناس هموماً وغموماً وكداراً المتهاونون المضيعون للصلاة ولكن أبشر أيها الأخ الحبيب فإن الله عز وجل يقول : (إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً).
المحرومون من التوبة التائب أعتق نفسه من أسر الهوى وأطلق قلبه من سجن المعصية التائب يجد للطاعة حلاوة وللعبادة راحة وللإيمان طعماً وللإقبال لذة التائب يجد في قلبه حرقة وفي وجهه أسى وفي دمعه أسرار التائب منكسر القلب غزير الدمعة رقيق المشاعر التائب صادق العبارة فهو بين خوف وأمن وقلق وسكينة
اليوم ميلاد جديد وما مضى
... ... موت بليت به بليل داج
أنا قد سريت إلى الهداية عارجاً
... يا حسن ذا الإسراء والمعراج
أيها المحروم تب إلى الله ذق طعم التوبة ، ذق حلاوة الدمعة اعتصر القلب وتألم لتسيل دمعة على الخد تطفئ نيران المعاصي والذنوب اخل بنفسك اعترف بذنبك ادع ربك وقل "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ". ابْك على خطيئتك جرب لذة المناجاة اعترف بالذل والعبودية لله تب إلى الله بصدق قل ناج ربك اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم جرب مثل هذه الكلمات جربها كما كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرددها .(/4)
أيها المحروم . "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسولاً " كما عند مسلم في صحيحه ، اسمع لملك الملوك، اسمع لملك الملوك وهو يناديك أنت اسمع لجبار الأرض والسموات وهو يخاطبك أنت وأنت من أنت اسمع للغفور الودود للرحيم الرحمن وهو يقول (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) ويقول سبحانه في الحديث القدسي "يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم" كما عند مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر ويقول الله في حديث قدسي آخر "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة" ، كما عند الترمذي من حديث أنس وهو صحيح.
إذن فيا أيها المحروم ما هو عذرك ، وأنت تسمع هذه النداءات من رب الأرض والسموات إن أسعد لحظات الدنيا يوم أن تقف خاضعاً ذليلاً خائفاً باكياً مستغفراً تائباً فكلمات التائبين صادقة ودموعهم حارة وهمومهم قوية ذاقوا حلاوة الإيمان بعد مرارة الحرمان ووجدوا برد اليقين بعد نار الحيرة وعاشوا حياة الأمن بعد مسيرة القلق والاضطراب فلماذا تحرم نفسك هذا الخير وهذه اللذة والسعادة فإن أذنبت فتب ، وإن أسأت فاستغفر وإن أخطأت فأصلح فالرحمة واسعة والباب مفتوح.
قال [ ابن القيم] في الفوائد: ويحك لا تحقر نفسك فالتائب حبيب والمنكسر صحيح إقرارك بالإفلاس عين الغنى تنكيس رأسك بالندم هو الرفعة اعترافك بالخطأ نفس الإصابة …. انتهي كلامه رحمه الله.
إذن العبودية لله عزة ورفعة ولغيره ذل مهانة . أيها الحبيب أيتها الغالية إننا نفرح بتوبتك ونسر لرجوعك إلى الله وليس لنا من الأمر شيء
عين تسر إذا رأتك وأختك
تبكي لطول تبعد وفراق
فاحفظ لواحدة دوام سرورها
... ... وعد التي أبكيتها بتلاقي
عدنا للرجوع إلى الله ، عدنا بتوبة صادقة ونحن معك بكل ما تريد ، نسر ونفرح نمدك بأموالنا وأيدينا ودعائنا وليس لنا من الأمر شيء ، إنما هو لنفسك .
ومن المحرومين ، من حرم لذة قراءة القرآن وتدبر آياته والبكاء من خشية الله ، عن [عطاء] قال : دخلت أنا و[عبد بن عمير] على عائشة رضي الله تعالى عنها فقال عبد الله بن عمير حدثينا لأعجب شيء رأيتيه من رسول صلى الله عليه وسلم فبكت وقالت قام ليلة من الليالي فقال "يا عائشة ذريني أتعبد لربي قالت : قلت والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك قالت قام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بلّ حجره ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلّ الأرض وجاء بلال يؤذن للصلاة فلما رآه يبكي قال يا رسول الله .. تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـأفلا أكون عبداً شكوراً ، لقد نزلت علىّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها (إن في خلق السموات والأرض.....)" آخر الآيات من سورة آل عمران . رواه أبو الشيخ ابن حيان في أخلاق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ، وإسناده جيد وابن حبان في صحيحه وصححه الألباني.
إذن فمن المحرومين من لم يقرأ القرآن وربما قرأه في رمضان بدون تدبر ولا خشوع اسأل نفسك أيها المحب كم آية تقرأ في اليوم بل كم مرة تقرأ في الأسبوع كم مرة دمعت عيناك وأنت تقرأ القرآن؟(/5)
إن من الناس من لم تدمع عينه مرة واحدة عند سماع أو قراءة آيات القرآن وربما دمعت مراراً ومدراراً عند سماع كلمات الغناء في الحب والغرام والهجر والحرام والعياذ بالله . مساكين الذين ظنوا الحياة كأساً ونغمة ووترا مساكين الذين جعلوا وقتهم لهوا ولعبا وغرورا مساكين الذين حسبوا السعادة أكلا وشربا ولذة.. ليل المحرومين غناء وبكاء، وليل الصالحين بكاء ودعاء ليل المحرمين مجون وخنوع وليل الصالحين ذكر ودموع أيها المحروم من لذة البكاء اعلم أنه متى أقحطت العين من البكاء من خشية الله فاعلم أن قحطها من قسوة القلب وأبعد القلوب من الله القلب القاسي والعياذ بالله فقل يا أيها المحروم قل لنفسك قل لها وآسفا واحسرتاه كيف ينقضي الزمان وينفذ العمر والقلب محجوب محروم ما شم رائحة القرآن دخل الدنيا وخرج وما ذاق أطيب ما فيها بل عاش فيها عيش البهائم وانتقل منها انتقال المفاليس فكانت حياته عجزاً وكسلاً وموته غبناً وكمداً ألم تسمع أيها المحروم ، ألم تسمعي أيتها المحرومة ، لقول النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ "والقرآن حجة لك أو عليك" فأيهما تختار وأيهما تختارين لك أو عليك قال أحد الصالحين أحسست بغم لا يعلمه إلا الله وبهم مخيم فأخذت المصحف وبقيت أتلو فزال عني والله فجأة هذا الهم وأبدلني الله سروراً وحبوراً مكان ذلك الكدر فيا أيها الأخ الحبيب ويا أيتها المسلمة إن هذا القرآن رحمة وهو هدى ونور وشفاء لما في الصدور كما وصفه الله ـ سبحانه وتعالى ـ فاسمع أيها المحروم من قراءة القرآن إن قراءة القرآن بتدبر وتمعن من أعظم أسباب السعادة ومن أعظم أسباب انشراح الصدر في الدنيا والآخرة.
ومن المحرومين من حرم لذة الأخوة في الله حرم الرفقة الصالحة التي تذكره الخير وتعينه عليه إن الجليس الصالح لا تسمع منه إلا كلاماً طيباً أو دعاء صالحاً أو دفاعا عن عرضه فيا أيها المحروم من الأخوة في الله إنك بأمس الحاجة إلى دعوة صالحة وإلى كلمة طيبة إنك بأمس الحاجة إلى من تبث له أشجانك وأحزانك إنك بأمس الحاجة إلى صادق أمين وناصح مخلص إنك بأمس الحاجة إلى أخ يتصف بالرجولة والشهامة أتراك تجد هذه الصفات في صديق الجلسات والضحكات والرحلات والمنكرات . أيها المحب أعد النظر في صداقاتك استعرض أصدقائك واحداً بعد الآخر اسأل نفسك ما نوع الرابط بينكما أهي المصالح الدنيوية أو الشهوات الشيطانية أم هي الأخوة الإسلامية كل أخوة لغير الله هباء وفي النهاية هم أعداء لا شك مر بك قول الحق – عز وجل ـ (الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) ، أيها المحروم من لذة الأخوة في الله راجع صداقاتك قبل أن تقول يوم القيامة (يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً ، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً) ، راجع أحباءك وخلانك فإنك ستحشر معهم يوم القيامة فقد قال حبيبك ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ "المرء مع من أحب" فمن أي الفريقين أحباؤك ، من أي الفريقين أحبابك.
قرينك في الدنيا وفي الحشر بعدها فأنت قرين لي بكل مكان
فإن كنت في دار الشقاء فإنني
وأنت جميعاً في شقاء وهوان
أيها المحروم كم كسبت من صفات ذميمة ، وكم خسرت من صفات حميدة ، بسبب أصحابك تقول لماذا أقول لك لأن الطبع سراق وقل لي من تصاحب أقل لك من أنت والنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول "الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"
أبل الرجال إذا أردت إخاءهم
وتوسمن أمورهم وتفقد
فإذا وجدت أخ الأمانة والتقى
فبه اليدين قرير عين فاسجد
إن للأخوة في الله حلاوة عجيبة ولذة غريبة لا يشعر بها إلا من وجدها، وفي الصحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ، وذكر منها وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله" وفي الأثر المشهور لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا، وذكر منها ومجالسة اخوة ينتقون أطايب الكلام كما ينتقون أطايب الثمر.
ومن الناس من حرم أكل الحلال ومن ثم حرم إجابة الدعاء ففي صحيح مسلم حديث أبي هريرة قال، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم) وقال (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له"!!.
كم من الناس حرموا لذة الأكلة الحلال وحرموا بركة المال وحرموا صلاح العيال بسبب أكل الحرام من ربا وغش وخداع وسرقة وحلف كاذب.(/6)
مسكين أنت أيها المحروم ربما أنك تركع وتسجد وترفع يدك بالدعاء فأنى يستجاب لك ، أيها الأخوة أخشى أن نكون من المحرومين ونحن لا نشعر فنحن نرفع أيدينا في الدعاء ونلح على الله فيه وربما سالت الدمعات على الخدين انظر لحال المصلين ، انظر لحال المصلين ودعاء القنوت في رمضان فربما لا نرى أثرا لدعائنا وبكائنا "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " وقال تعالى : (وما أصابكم من مصيبة فبما كسب أيديكم ويعفو عن كثير) لنراقب أموالنا ولنحرص على أكلنا وشربنا ولبسنا وربما دخلنا من إهمالنا في أعمالنا ووظائفنا فيا أيها المحروم إن لأكل الحلال أثراً عجيباً على القلب وراحته وسعادته إن لأكل الحلال أثراً كبيراً على صلاح الأولاد وبرهم بآبائهم بل إن لأكل الحلال أثراً كبيراً على سعة الرزق ونماء المال فكم من المحرومين بسبب المعاصي والذنوب، ففي المسند من حديث [ثوبان] قال ، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ " إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه " والحديث أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة- وابن حبان والحاكم وصححه فكم من المحرمين بسبب المعاصي والذنوب وانتبه أيها المحب فليس كثرة المال دليلاً على بركته ليس كثرة المال عند بعض الناس دليلاً على بركته بل قد يكون شقاء على صاحبه وكم سمعنا عن من ملك المال والقصور يعيش في تعاسة وهموم وقد قال ـ صلى الله عليه و آله وسلم ـ "إذا رأيت الله ـ عز وجل ـ يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ثم تلا قوله عز وجل (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) "، والحديث أخرجه أحمد والطبري وابن أبي الدنيا في كتاب الشكر وقال الألباني في المشكاة إسناده جيد واسمع لابن القيم رحمه الله وهو يقول عن أثر الذنوب والمعاصي ومن عقوباتها أي المعاصي والذنوب أنها تمحق بركة العمر وبركة الرزق وبركة العلم وبركة العمل وبركة الطاعة وبالجملة تمحق بركة الدين والدنيا فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله وما محقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق قال الله تعالى (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ) وقال تعالى ( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيانهم ماء غدقاً ) فإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ...انتهى كلامه رحمه الله ومن الناس من حرم كثرة ذكر الله تهليلاً وتسبيحاً وتحميداً وتهليلاً فلسانه يابس من ذكر الله رطب ببذيء الكلام والسباب واللعان والعياذ بالله إذا أردت أن تعرف شدة الحرمان والخسارة للغافل عن ذكر الله فاسمع لهذه الآيات فاسمع لهذه الأحاديث والربح العظيم فيها فعن أبي هريرة – رضى الله عنه "أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضل من أ موال يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون فقال : ـ صلى الله عليه وآله و سلم ـ : ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم ، قالوا بلى يا رسول الله قال : تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين "قال أبو صالح الراوي عن أبى هريرة لما سئل عن كيفية ذكرهن قال يقول . سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون منهن كلهن ثلاثاً وثلاثين متفق عليه ، وزاد مسلم في روايته "فرجع فقراء المهاجرين إلى ر سول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" وأهل الدثور هم أهل المال الكثير عنه أبي عن أبي هريرة عن رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال "من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثا وثلاثين وكبّر الله ثلاثا وثلاثين وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر "والحديث أخرجه مسلم في صحيحه وعن [سعد بن أبي وقاص] رضى الله عنه قال كنا عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال "أيعجز أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة فسأله سأل من جلسائه كيف يكسب ألف حسنة قال يسبح مائة تسبيحه فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة" والحديث أخرجه مسلم في صحيحه والأحاديث في مثل هذه الفضائل كثيرة جداً ومستفيضة أسألك بالله أليس محروماً من ترك مثل هذه الأذكار فمن منا لا يرغب أن تغفر خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر ومن منا لا يرغب أن يكسب ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة ولكن بعض الناس لم يسمع لهذه الأحاديث قط فضلاً على أن يحرص على فضلها أليس هذا من الحرمان ؟(/7)
إنها كلمات قصيرة في أوقات يسيرة مقابل فضائل كثيرة وهى سلاح للمؤمن تحفظه من شياطين الإنس والجن وهى اطمئنان للقلب وانشراح للصدر والله ـ عز وجل ـ يقول ( والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً ) ولكن سبق المفردون وتأخر وخسر المحرومون والمفردون هم الذاكرون الله كثيراً والذاكرات كما أخبر ـ صلى الله عليه و آله وسلم ـ عند مسلم في صحيحه . فيا أيها المحروم من ذكر الله احرص على هذه الأذكار لعلها أن تمحو عنك السيئات وإياك إياك وبذاءة اللسان والسب واللعان فتزيد الطين بلّة ومن الناس من حرم السعادة الزوجية والعيشة الهنية فهو لا يجد السكن النفسي يعيش في قلق واضطراب وشجار وخصام كم شكا هؤلاء لنا كم شكوا حياتهم مع أزواجهم وفي بيوتهم يعيشوا بدون مودة ولا رحمة وبدون لذة ولا متعة بينه وبين زوجه وحشة فلماذا كل هذا ؟ قال بعض السلف – اسمع يرعاك الله – قال بعض السلف إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي . أيها الزوجان ربما تحرمان السعاة الزوجية والراحة النفسية بسبب المعاصي والذنوب منكما أو من أحدكما انظرا إلى البيت وما فيه من وسائل فساد تغضب رب العباد أنظرا إلى حرصكما على الفرائض والطاعات والاهتمام بها والصلاة في أوقاتها قفا مع بعضكما وستجدان أن السبب معصية الله لا شك قال الله تعالى ( وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) إنه ما من مشكلة ، تقع بين الزوجين إلا بمعصية أو ذنب فكم في البيوت من المحرومين بسبب معصية رب العالمين وأقف هنا فقد سبق الحديث عن هذا الموضوع بدرسين بعنوان السحر الحلال فمن أراد أن يرجع لهما ومن الناس من حرم بر الوالدين والأنس بهما والجلوس معهما وقضاء حوائجهما حرم المسكين من فضل عبادة قرنت بتوحيد الله ـ عز وجل ـ فقد ثنى بهما فقال ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القرب واليتامى والمساكين) ويدل هذا على فضلهما وعظم القيام بهما اسمع يا من حرمت برهما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ "الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه " ، والحديث في الترمذي وقال حسن صحيح ويروي عن [عبد الله بن المبارك] أنه بكى لما ماتت أمه فقيل له فقال إني لأعلم أن الموت حق ولكن كان لي بابان بالجنة مفتوحان ، كان لي بابان في الجنة مفتوحان فأغلق أحدهما والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول" رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة" كما في مسلم، وقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم" من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه" والحديث متفق عليه فأي فضل حرمه بعض الناس بغفلته عن بر والديه ومن برهما ميتين الدعاء لهما وزيارة صديقهما وإنفاذ وعدهما إن قصص العقوق التي نسمعها لينفطر لها الفؤاد أسى وتذوب النفس لها حسرة أيها المحروم برهما إن العقوق من الكبائر فلا يدخل الجنة عاق ويحرم التوفيق في الدنيا وربما عجلت له العقوبة وربما ابتلى بأولاده ،الجزاء من جنس العمل أبو هريرة كان لا يخرج ولا يدخل حتى يسلم على أمه وكان يحملها وينزلها فقد كانت كبيرة مكفوفة و[ابن الحنفية] يغسل رأس أمه و وينشطها ويقبلها ويقبضها وكان [على بن الحسين] من أبر الناس بأمه وكان لا يأكل معها فسئل فقال ، أخاف أن تسبق عينها إلى شئ من الطعام وأنا لا أعلم به فآكله فأكون قد عققتها ، وطلبت [أم مسعر] ماء في ليلة فجاء بالماء فوجدها نائمة فوقف بالماء عند رأسها حتى أصبح، وسئل [عمر بن ذر] عن بر ولده به فقال : ما مشى معي نهاراً قط إلا كان خلفي ولا ليلاً إلا كان أمامي ولا رقى على سطح أنا تحته فنستغفر الله حالنا مع آبائنا ونعوذ بالله من الحرمان ، إليك أيها السامع هذه العناوين السريعة أنقلها لك من رسالة صغيرة بعنوان أبناء يعذبون آباءهم قصص واقعية ،ابن يتهرب من المستشفى حتى لا يتسلم والده ، وآخر يتخلص من أمه يرميها بجوار القمامة ، وآخر يأتي بأبيه الذي بلغ الثمانين إلى دار النقاهة ويقول : خذوا أبي عندكم وإذا أردتم شيئاً اتصلوا على ، وآخر يبخل على أمه بمائة ريال ثمناً لخاتم أعجبها بل أخذ الخاتم من يدها ورماه على طاولة البائع ، وابنة تطرد والدتها من منزلها وأخرى غضبت بعد أن علمت أن والدتها ستعيش معها . هذه عناوين قصص واقعية وتفاصيلها تدمي القلوب وتقرح الأكباد فإنا لله وإنا إليه راجعون ، نعوذ بالله من حال هؤلاء محرومون ومعذبون في الدنيا والآخرة اللهم اغفر لنا ولوالدينا ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وأجزهم عنا خير الجزاء اللهم أعنا على برهما اللهم أعنا على برهما اللهم ارفع درجتهم وأسكنهم الفردوس الأعلى برحمتك يا ارحم الراحمين .(/8)
ومن المحرومين من حرم حسن الخاتمة نسأل الله ـ عز وجل ـ حسنها عجيب أمرك أيها المحروم إنك تعلم أن الموت حق وأنه نهاية الجميع ومع ذلك تصر على حالك تصر على حالك وأنت تسمع هذه الكلمات مراراً وتكراراً ، أيها الأخ ويا أيتها الأخت ليس العيب أن نخطأ ولكن العيب الاستمرار على الخطأ أيهما تريد أن تموت على خير أو على شر أقول هذا لأننا نرى ونسمع نهاية بعض المحرومين نسأل الله حسن الخاتمة . قال ابن القيم في الجواب الكافي ثم أمر أخوف من ذلك وأدهى وأمر وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله تعالى فربما تعذر عليه النطق بالشهادة كما شاهد الناس كثيراً من المحتضرين ممن أصابهم ذلك ثم ذكر رحمه الله صوراً لبعضهم منها قيل لبعضهم قل لا إله إلا الله فجعل يهذي بالغناء ويقول كانت ……وقيل الآخر فقال كلما أردت أن أقولها فلساني يمسك عنها إلى آخر الصور التي ذكرها رحمه الله تعالى ـ إلى قوله وسبحان الله كما شاهد الناس من هذا عبراً والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم ونحن اليوم نشاهد ونسمع ونقرأ صوراً كثيرةً لسوء الخاتمة ومنها أن رجلاً ذهب إلى أحد البلاد المعروفة بالفساد وهناك في شقته شرب الخمر ـ أعزكم الله ـ قارورة ثم الثانية ثم الثالثة هكذا حتى شعر بالغثيان فذهب إلى دورة المياه ـ أعزكم الله ـ ليتقيىء أتدري أيها المحب ماذا حدث له ؟ مات في دورة المياه ورأسه في المرحاض – أعزكم الله ومنها أن شاباً كان لا يعرف من الإسلام إلا اسمه وكان لا يصلي أضاع طريق الهداية عندما نزلت به سكرات الموت قيل له : قل لا إله إلا الله يا لها من لحظات حرجة كربات وشدائد وأهوال أتدرون ماذا قال؟ أخذ يردد أنه كافر بها نسأل الله حسن الخاتمة ومنها أن شاباً حصل له حادث على إحدى الطرق السريعة فتوقف بعض المارة لإسعافه فوجدوه يحتضر والموسيقى الغربية تنبعث بقوة من مسجل السيارة فأطفئوه وقالوا للشاب قل لا إله إلا الله فأخذ يسب الدين فأخذ يسب الدين ويقول لا أريد أن أصلي لا أريد أن أصوم ومات على ذلك والعياذ بالله يقول أحد العاملين في مراقبة الطرق السريعة فجأة سمعنا صوت ارتطام قوي فإذا سيارة مرتطمة بسيارة أخرى حادث لا يكاد يوصف شخصان في السيارة في حالة خطيرة أخرجناهما ووضعناهما ممددين أسرعنا لإخراج صاحب السيارة الثانية فوجدناه قد فارق الحياة عدنا للشخصين فإذا هما في حال الاحتضار هب زميلي يلقنهما الشهادة ولكن ألسنتهم ارتفعت بالغناء أرهبني الموقف وكان زميلي على عكسي يعرف أحوال الموت أخذ يعيد عليهما الشهادة وهما يستمران في الغناء لا فائدة بدأ صوت الغناء يخفت شيئاً فشيئاً سكت الأول وتبعه الثاني فقد الحياة لا حراك يقول لم أر في حياتي موقفاً كهذا حملناهما في السيارة قال زميلي إن الإنسان يختم له إما بخير أو شر بحسب ظاهره وباطنه قال فخفت من الموت واتعظت من الحادثة وصليت ذلك اليوم صلاة خاشعة قال وبعد مدة حصل حادث عجيب شخص يسير بسيارته سيراً عادياً وتعطلت وتعطلت سيارته في أحد الأنفاق المؤدية إلى المدينة ترجل من سيارته لإصلاح العطل في أحد العجلات جاءت سيارة مسرعة فارتطمت به من الخلف سقط مصاباً بإصابات بالغة فحملناه معنا في السيارة وقمنا بالاتصال بالمستشفى لاستقباله وسرنا شاب في متقبل العمر متدين يبدو ذلك من مظهره ، عندما حملناه سمعناه يهمهم فلم نميز ما يقول ولكن عندما وضعناه في السيارة وسرنا سمعنا صوتاً مميزاً إنه يقرأ القرآن وبصوت فلم نميز ما نادي سبحان الله لا تقول هذا مصاب الدم قد غطى ثيابه وتكسرت عظامه بل هو على ما يبدو على مشارف الموت استمر يقرأ بصوت جميل يرتل القرآن فجأة سكت التفت إلى الخلف فإذا به رافع إصبع السبابة يتشهد ثم انحنى رأسه ، قفزت إلى الخلف لمست يده قلبه أنفاسه لا شئ فارق الحياة نظرت إليه طويلاً سقطت دمعة من عيني أخبرت زميلي أنه قد مات انطلق زميلي في البكاء أما أنا فقد شهقت شهقة وأصبحت دموعي لا تقف أصبح منظرنا داخل السيارة مؤثراً وصلنا إلى المستشفى وأخبرنا كل من قابلنا عن قصة الشاب الكثير تأثروا ذرفت دموعهم أحدهم بعد ما سمع قصته ذهب وقبّل جبينه الجميع أصروا على الجلوس حتى يصلي عليه اتصل أحد الموظفين بمنزل المتوفى كان المتحدث أخوه قال عنه أنه يذهب كل أثنين لزيارة جدته الوحيدة بالقرية كان يتفقد الأرامل الأيتام والمساكين كانت تلك القرية تعرفه فهو يحضر لهم الكتب والأشرطة وكان يذهب وسيارته مملوءة بالأرز والسكر لتوزيعها على المحتاجين حتى حلوى الأطفال كان لا ينساها وكان يرد على من يثنيه عن السفر ويذكر له طول الطريق كان يرد عليه بقوله إنني أستفيد من طول الطريق بحفظ القرآن ومراجعته وسماع الأشرطة النافعة وإنني احتسب إلى الله كل خطوة أخطوها يقول ذلك العامل في مراقبة الطريق كنت أعيش مرحلة متلاطمة الأمواج تتقاذفني الحيرة في كل اتجاه لفترة فراغي وقلة معارفي وكنت بعيد عن الله فلما(/9)
صلينا على الشاب ودفناه واستقبل أول أيام الآخرة استقبلت أول أيام الدنيا تبت إلى الله عسى أن يعفو عما سلف وأن يثبتني على طاعته وأن يختم لي بخير انتهت القصة بتصرف من رسالة لطيفة بعنوان الزمن القادم ، قلت صدق ابن القيم رحمه الله بقوله وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبراً أي من سوء الخاتمة والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم أقول كيف يوفق لحسن الخاتمة من حرم نفسه الاستقامة والطاعة لله فقلبه بعيد عن الله غافل عنه عبد لشهوته وهواه اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها وتب علينا أنك أنت التواب الرحيم وهذا موقف آخر قال أبو عبد الله لا أعرف كيف أروي قصتي التي عشتها منذ فترة والتي غيرت مجرى حياتي كلها والحقيقة أنني لم أقرر الكشف عنها إلا من خلال إحساسي بالمسئولية تجاه الله ـ عز وجل ـ ولتحذير بعض الشباب الذي يعصي ربه وبعض الفتيات اللاتي يسعين وراء وهم زائف اسمه الحب يقول كنا ثلاثة من الأصدقاء يجمع بيننا الطيش والعبث كلا بل أربعة فقد كان الشيطان رابعنا فكنا نذهب لاصطياد الفتيات الساذجات بالكلام المعسول ونستدرجهن إلى المزارع البعيدة وهناك يفاجئن بأننا قد تحولنا إلى ذئاب لا ترحم لا نرحم توسلاتهن بعد أن ماتت قلوبنا ومات فينا الإحساس هكذا كانت أيامنا وليالينا في المزارع وفي المخيمات وفي السيارات وعلى الشاطئ إلى أن جاء اليوم الذي لن أنساه ذهبنا كالمعتاد إلى المزرعة كان كل شئ جاهز الفريسة لكل واحد منا الشراب الملعون شئ واحد نسيناه هو الطعام وبعد قليل ذهب أحدنا لشراء طعام العشاء بسيارته كانت الساعة الثالثة تقريباً عندما انطلق ومرت الساعات دون أن يعود وفي العاشرة شعرت بالقلق عليه فانطلقت بسياراتي أبحث عنه وفي الطريق شاهدت بعض ألسنة النار تندلع على جانبي الطريق وعندما وصلت فوجئت بأنها سيارة صديقي والنار تلتهمها وهى مقلوبة على أحد جانبيها يقول أسرعت كالمجنون أحاول إخراجه من السيارة المشتعلة وذهلت عندما وجدت نصف جسده وقد تفحم تماماً لكنه كان لا يزال على قيد الحياة فنقلته إلى الأرض وبعد دقائق فتح عينيه وأخذ يهذي النار النار فقررت أن أحمله بسيارتي وأسرع به إلى المستشفى لكنه قال لي بصوت باك لا فائدة لن أصل فخنقتني الدموع وأنا أرى صديقي يموت أمامي وفوجئت به يصرخ ماذا أقول له ، ماذا أقول له ، فنظرت إليه بدهشة وسألته من هو ، قال بصوت كأنه قادم من بعيد الله أحسست بالرعب يجتاح جسدي ومشاعري وفجأة أطلق صديقي صرخة مدوية ولفظ آخر أنفاسه ومضت الأيام لكن صورة صديقي الراحل وهو يصرخ والنار تلتهمه ماذا أقول له، ماذا أقول له ، وجدت نفسي أتساءل وأنا ماذا سأقول له، وليتساءل كل محروم ماذا سيقول لله ، يقول ففاضت عيناي واعترتني رعشة غريبة وفي نفس اللحظة سمعت المؤذن لصلاة الفجر ينادي الله أكبر الله أكبر حي على الصلاة أحسست أنه نداء خاص بي يدعوني لأسدل الستار على فترة مظلمة من حياتي يدعوني إلى طريق النور والهداية فاغتسلت وتوضأت وطهرت جسدي من الرذيلة التي غرقت فيها لسنوات وأديت الصلاة ومن يومها لم يفتني فرض ، لقد أصبحت إنساناً آخر فسبحان مغير الأحوال انتهت من رسالة لطيفة بعنوان :للشباب فقط ،إذن فلعل كثيراً من المحرومين يتساءلون أين الطريق وما هو العلاج؟ أين الطريق ؟ وما هو العلاج؟ وأقول العلاج ما قال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لـ[سفيان بن عبد الله الثقفي] لما قال له سفيان يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحداً غيرك فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ "قل آمنت بالله ثم استقم " قيا أيها المحروم ويا أيتها المحرومة لنقل كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ آمنا بالله ثم لنستقم على طاعة الله لنؤدي ما طلب الله ـ عز وجل ـ منا لزوم الصراط المستقيم من غير ميل عنه يمنة ولا يسرة يظن البعض يظن البعض السامعين لهذا الكلام أن الاستقامة أنها نفل فمن أرادها كان مستقيما ومن لم يرد فلا بأس عليه وهذا مفهوم خاطئ فإن كل مسلم مطالب بالاستقامة كل مسلم مطالب بالاستقامة قال تعالى (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ) ، وثمرات الاستقامة ثمرات عظيمة تدفع سامعها إلى الالتزام بشرع الله ومجاهدة النفس يقول الحق ـ عز وجل ـ (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) ويقول عز وجل ( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيانهم ماءً غدقاً لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعداً) فكم كم من المحرومين المعذبين كم من المحرومات المعذبات من شبابنا ورجالنا وإخواننا وأخواتنا نسأل الله ـ عز وجل ـ لهم الهداية لقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في شظف حتى استقاموا على الطريقة ففتحت لهم الأرض التي يغدقون فيها الماء وتتدفق فيها الأرزاق ثم حادوا عن الطريق فاستلبت منهم الخيرات استلاباً والله يقول (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم(/10)
بركات من السماء والأرض ) ، وكل ما سبق أيها الأخ الحبيب، كل ما سبق أيها الأخ الحبيب من صور الحرمان إنما هو بسبب البعد عن الاستقامة وينال الإنسان من الحرمان بقدر بعده عن طاعة الله ، أخي الحبيب أيتها الأخت الغالية قف مع نفسك لحظات بعيداً عن الدنيا بذهبها ومناصبها وقصورها اجلس مع نفسك بعيداً عن الأصحاب والأولاد وأخل بنفسك واسألها لماذا أعيش وماذا أريد ، وما هي النهاية ؟ من أين أتيت؟ وأين سأذهب ؟ ولكن إياك إياك أن تكون كذلك البائس المحروم الشاعر النصراني الذي يقول:
جئت لا أعلم من أين ولكن أتيت
ولقد أبصرت قدامى طريقاً فمضيت
وسأبقي سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت ؟ كيف أبصرت طريقي لست أدري
إلى آخر تلك الطلاسم والأسئلة التي يثيرها في قصيدته حيرة وتردد ذهول يشعر به المحرومون من نعمة الإيمان أما نحن المسلمون المؤمنون لا تقلقنا هذه الأسئلة ولله الحمد والمنة ، فإننا نجد في ديننا الإجابات المفصلة عليها إننا نجد في قرآننا وفي أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام الكلام الشافي الصادق عنها إن قرآننا علمنا أننا نعيش لغاية وهدف ، (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) فهل أنت تعيش لهدف ؟ هل أنت تعيش لهدف أيها الأخ الحبيب وعلمنا أن كل شئ في حياتنا إنما هو لله (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له ) ، فهل كل شئ في حياتك لله فلا نعمل إلا ما يرضي الله ولا نتكلم إلا بما يرضي الله ، فلا نرضي إلا الله ولو سخط الناس كلهم فنحن نردد كل لحظة لا إله إلا الله، ونعلم أن من عاش عليها صادقاً مخلصاً عاش عزيزا سعيداً وأن من مات عليها صادقاً مخلصاً مات شهيداً في جنة عرضها السموات والأرض إذا فاسمع واعلم أيها المحروم :إن من يعيش لهدف ومبدأ يتحرك ويعمل ويركع ويسجد ويذهب ويجئ ويحرص على وقته ولا يجعل دقيقة للفراغ فإن الفراغ قاتل والعطالة بطالة وأكثر الناس هموماً وغمومًا العاطلون الفارغون إنك يوم تفرغ يدخل عليك الهم والغم والوساوس والهواجس وتصبح ميداناً لألاعيب الشياطين أيها الأخ، أيتها الأخت اجعل الهم هماً واحداً هم الآخرة هم لقاء الله ـ عز وجل ـ هم الوقوف بين يديه (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) اجعل عملك خالصاً لوجه الله احرص على رضا الله لا تنتظر شكراً من أحد.(/11)
أيها الأخ ويا أيتها الأخت ماذا قدمت لنفسك ؟ وماذا قدمتي لنفسك ؟ والله تعالى يقول (وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين) إن من ركب ظهر التفريط والتواني نزل به بدار العسرة والندامة إذا فأول العلاج التفكير الجاد في طريق الاستقامة والالتزام فكن صاحب هدف وكن صاحب مبدأ لتشعر بقيمة الحياة واجعل همك دائماً رضا الله وحده لا رضا غيره وطاعة الله لا طاعة غيره ومن العلاج أيضاً أو من أسباب الاستقامة إرادة الله الهداية للعبد قال تعالى : (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء) وبعض الجهال والجاهلات يقولون ماذا أفعل إذا لم يرد الله هدايتي وأقول هذه شبهة وحيدة نفسية ومدخل شيطاني لدى كثير من المحرومين والإجابة على هذا نقول لابد من فعل الأسباب فاطلب الهداية واسع لفعل أسبابها وجاهد النفس وسترى بمشيئة الله النتائج وهكذا بكل أمر تريده لابد من فعل الأسباب أتراك أيها المحروم إذا طلبت النجاح في الامتحان تدرس وتقرأ وتحفظ وتسهر لو قلنا لك مثلاً لا تدرس ولا تقرأ ولا تسهر وإن كان الله أراد نجاحك فستنجح أتوافق على هذا ؟ أتوافقين على هذا ؟ بالطبع لا ، إذن لابد من فعل الأسباب من ترك جلساء السوء وترك وسائل الفساد والحرص على مجالس الصالحين وكثرة الذكر والإلحاح بالدعاء أن يفتح الله على قلبك وأن يثبتك على طريق الحق فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يكثر في سجوده من قوله " اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" فكيف بي وبك وبمن شابهنا من ضعاف الإيمان ادع الله بصدق ادع الله بصدق وبإلحاح أن يرزقك طريق الاستقامة وها أنت تدعو في اليوم أكثر من سبعة عشر مرة إن كنت ممن يحافظ على الصلوات المفروضة تقول (اهدنا الصراط المستقيم ) لكن وللأسف بدون حضور قلب بدون تدبر للمعنى فاصدق مع الله في طلب الهداية جاهد النفس جاهد النفس فإن الله ـ عز وجل ـ يقول (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) إذن فقبل مرحلة الهداية لابد من مرحلة المجاهدة وحبس النفس عن شهواتها تذكر حلاوة الصلة بينك وبين الله يهن عليك مر المجاهدة اعلم أن شراب الهوى حلو ولكنه يورث الشرك فاطلب الهداية من الله بصدق واحرص على فعل أسبابها لعلك أن تشعر بالسعادة والراحة في الدنيا والآخرة وأسباب الهداية كثيرة لعلي ألخصها لك في النقاط التالية لتحرص على فعلها فكن صاحب هدف وعش لمبدأ واعلم لماذا خلقت ثانياً اعلم أن إرادة الله فوق كل شئ لكنها في علم الغيب فما عليك إلا أن تحرص على الخير وفعل الأسباب للوصول إليه مع التنبه لحيل النفس ومداخل الشيطان ثالثاً الإلحاح الشديد في الدعاء وكثرة ذكر الله رابعا : الحرص على مصاحبة الصالحين ونبذ أهل الفسق والفجور فإنهم لا يهدءون حتى تكون مثلهم وصدق من قال ودت الزانية أن النساء كلهم زواني.(/12)
خامساً : مجاهدة النفس ومحاسبتها وهل أنت مستعد للموت أم لا . سادساً : اتبع السيئة الحسنة تمحها وكلما وقعت بذنب أو معصية أكثر من فعل الخيرات تصدق أطعم المساكين ، صل ركعتين ، أحسن إلى الوالدين ، احرص على كل خير فإن الله ـ عز وجل يقول( إن الحسنات يذهبن السيئات) والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : "واتبع السيئة الحسنة تمحها " سابعاً : تب كلما وقعت بذنب أو معصية وإياك إياك والملل من التوبة إياك إياك والملل من التوبة ولو تبت من الذنب الواحد ألف مرة أحذر من ضعف النفس وحيل الشيطان فربما يحدثك أنك منافق أو أنك مخادع لله بكثرة توبتك والمهم أن تكون صادقاً في التوبة والندم والإقلاع وكلما رجعت للذنب بضعف النفس ارجع للتوبة قال الإمام النووي باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة ،وأنصحك بقراءة كتاب التوبة في صحيح مسلم لترى الأحاديث في عظم رحمة الله وفرحته بتوبة عبده وهو غني عني وعنك وعن العالمين جميعاً ولكن إياك إياك والاغترار بسعة رحمة الله إياك والاغترار بسعة رحمة الله مع الإصرار على المعاصي واعلم أن الله شديد العذاب كما أنه غفور رحيم فالخلاصة؛ أكثر من الاستغفار والتوبة واعلم أن خير البشر حبيبنا وقدوتنا ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ صح عنه أنه كان يستغفر الله في اليوم سبعين مرة وفي رواية مائة مرة فكيف بي وبك أيها الحبيب على كثرة ذنوبنا وضعف نفوسنا فيا أيها المحب فيا أيها الأخوة أيتها الأخوات لنكثر من التوبة مهما تكرر الذنب لنكثر من التوبة مهما تكرر الذنب ففي الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة أن الله ـ عز وجل ـ قال لذلك الرجل الذي تكرر منه الذنب فكرر التوبة قال الله له "علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي غفرت لعبدي غفرت لعبدي فليعمل ما شاء "والحديث متفق عليه وعن [عقبة بن عامر] "أن رجلاً أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال يا رسول أحدنا يذنب قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكتب عليه قال : ثم يستغفر منه ويتوب قال :ويغفر له ويتاب عليه ، قال : فيعود فيذنب قال : يكتب عليه . قال : ثم يستغفر منه ويتوب . قال : يغفر له ويتاب عليه ، قال : فيعود فيذنب قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يكتب عليه ولا يمل الله حتى تملوا "، أخرجه الحاكم وقال هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وأخرجه الطبراني في الكبير وقال في المجمع إسناده حسن . فيا أخي الكريم إياك وإهمال التوبة مهما كانت معاصيك والمهم أن تكون جاداً في التوبة صادقاً فيها فاغلق الباب اغلق أبواب الشيطان وسد المنافذ وافعل الأسباب وستجد أثر ذلك على قلبك حفظك الله ورعاك من كل سوء وأعانك ووفقك للتوبة النصوح . أيها الأخ الحبيب ويا أيتها الأخت الغالية لست بعيدة وإنك قريب جداً إن السعادة والراحة في الاستقامة وأنت قريب منها المهم أن يكون عندك العزم والهم الصادق، قال ابن القيم في الفوائد اخرج بالعزم من هذا الفناء الضيق المحشو بالآفات إلى ذلك الفناء الرحب الذي فيه مالا عين رأت فهناك لا يتعذر مطلوب ولا يفقد محبوب انتهى كلامه- فيا أيها المحب ارجع إلى فطرتك وإلي الخير في نفسك ستجد أنك قريب من الهداية والهداية قريبة منك ؛
فإذا استقام على الهداية ركبنا
يخضر فوق هضابها الأقدام وترف أغصان السعادة فوقنا
وتزول من أصقاعنا الأسقام إن الدنيا بأموالها ومناصبها وقصورها لا تستأهل قطرة دمع منك حتى ولا هما أو زفرة من زفراتك فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً " كما عند الترمذي والله ـ عز وجل ـ يقول ( وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب ) فيا أيها المحب إن نفسك غالية وربما اليوم أو غداً أو بعد غد قالوا مات فلان والموت حق ولكن شتان بين من مات على صلاح وهداية 39582*1وبين من مات على فسق وغواية فإياك والغفلة وطول الأمل والاغترار بالصحة ؛
فكم من صحيح مات من غير علة
وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر
ربما تضحك وتسعد وتنام مسروراً وقد لا تصبح
يا راقد الليل مسروراً بأوله
إن الحوادث قد يطرقن أسحاراً .
فيا أيها الأخ ويا أيتها الأخت بادرا إلى الفضائل وسارعا إلى الصفات الحميدة والأفعال الجميلة و كل ذلك بالإيمان الصادق بالله ـ عز وجل ـ نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يتوب علينا جميعاً ، وأن يغفر لنا جميعاً وأن يجعلنا من الصادقين الصالحين المصلحين، اللهم تب علينا توبة صادقة نصوحةً اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين سبحانك اللهم وبحمدك نستغفرك ونتوب إليك نشهد أن لا إله إلا أنت .
وصلى الله علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .(/13)
المحنة المنحة
-1 18/10/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلو الناس أيهم أحسن عملاً، والصلاة والسلام على خير صابر على البلاء، وخير مبلغ عن ربه، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فالمرء مبتلىً ما عاش، فالخير الذي يصيبه بلاء ليُنظر أيشكر أم يكفر، والضر الذي يلحق به بلاء ليُنظر أيصبر أم يضجر، والله _تعالى_ يقول: "وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" (الأنبياء: من الآية35). والمؤمن هو الذي يخرج من البلاء رابحاً فائزاً، وكما في الحديث إن أصابته نعماء فشكر فكان خيراً، وإن أصابته ضراء فصبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن. وأنبياء الله _تعالى_ هم أعظم الناس إيماناً، وأكثرهم عرضة للبلاء، ومنهم كان يوسف _عليه السلام_ تعرض لمحن عديدة كان من أشدها محنة المراودة التي انتهت به لمحنة ثانية؛ محنة السجن، ففي قوله _تعالى_: "وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ" (يوسف: من الآية32) تقول امرأة العزيز للنساء: إنها راودته، وقالت: فاستعصم، أي: طلب العصمة من الله _جل وعلا_، وهي وقفة تربوية بابها احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله.
وما أحوجنا إلى الاستعصام بالله في الشدائد "أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ" (النمل:62) إذا أصبت يا أخا الإسلام بشدة فالجأ إلى الكريم، وقل: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" (الفاتحة:5). الجأ إلى الله _جل وعلا_ كما لجأ إليه الأنبياء، ولجأ إليه الصالحون.
ثم قالت: "وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ" (يوسف: من الآية32). وهنا لطيفة ذكرها بعض المفسرين، وهي أن امرأة العزيز قالت في موضوع السجن، قالت: "لَيُسْجَنَنَّ"، لكن في الثانية قالت: ليكونا، ما قالت ليكونن. لماذا؟ ما الفرق؟ قال العلماء: إن السجن القرار بيدها أو بيد زوجها، تستطيع أن تأخذه كما حدث، وضعوه في السجن.
أما الصغار فهو قضية معنوية لا تستطيع هي أن تجعله صاغرا أو غيرها، ولذلك جاءت على استحياء، وليكوناً مخففة، وتحقق السجن؛ لأنها تملك القرار، وزوجها يملك القرار، لكن هل تحقق الصغار؟ كلا وحاشا.
فمنذ دخول يوسف _عليه السلام_ السجن وإلى يوم الناس هذا يذكر الكل سجنه في مناقبه، فكان سجنه سبب علو له وفخار ومجد، بل أصبح يواسى به الناس.
وهذا يدلك على أن السجن إذا لم يكن لأمر يخل بالشرع، إذا لم يكن بسبب ارتكاب معصية ومحرم، فلن يكون صاحبه من الصاغرين، فقد يسجن المصلحون، وقد يسجن من يخدم أمته، ولكن لايناله الصغار، فصاحب القرار يملك أن يسجنه لكنه لا يملك أن يجعله من الصاغرين، وكم من سجن كان سبباً لعلو صاحبه.
إذا ذكر الإمام أحمد _رحمه الله_ تذكرنا سجنه وثباته فيه، فكان شرفاً له وعزة وقوة.
وإذا ذكرنا شيخ الإسلام ابن تيمية تذكرنا سجنه ثلاث مرات، بل تذكرنا موتته في سجنه وهو يقرأ "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ" (القمر:54، 55)، ولذلك قال: "ما ينقم مني أعدائي، أنا جنتي وبستاني في صدري،أنا سجني خلوة".
وهذا المعنى يغيب عن بعض النفوس فتتنازل وتتساهل وعندها يكون السجن صغاراً، وكذلك إذا كان السجن بسبب ارتكاب معصية أو محرم.
أما إذا كان بسبب التزامه بدين الله واستمساكه بحبله فهو شرف وعز وفخر للشخص في حياته وبعد مماته، وها نحن نرى مصداق ذلك في حياتنا، نراه مع من يسجن من العلماء ومن الدعاة ومن المصلحين، شرف وعز لهم في الدنيا في السجن وبعد خروجهم من السجن، وهو _بإذن الله_ أجر ورفعة في الآخرة.
وعوداً على بدء لقد اجتمع هؤلاء النسوة وقرروا قرارهم الذي أحدثه الفراغ فسوله الشيطان وأمضاه ضعف التربية، ولو اشتغلن بطاعة الله والتزمن منهجه، لابتعدن عن مثل هذه الفواحش الممقوتة، ولكنها حال البشرية يوم تنبذ منهج الله، وتسبح بحمد الجبابرة.
ولما كان الأمر كذلك قال يوسف _عليه السلام_: "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ" (يوسف:33)، وكما فَرَّ في السابق من امرأة العزيز واستبق الباب، ها هو الآن يفر إلى ربه، باختياره السجن، لقد التجأ إلى الله _جل وعلا_ وتضرع بين يديه، وقال: "رَبِّ" تسمع في هذه الكلمة أثر الأسى والاستعطاف وطلب الرحمة، ممن رباه بالنعم وامتن عليه بجزيل المنن "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ"(يوسف: من الآية33). أي: أمِل إليهن.(/1)
وقد قال بعض المفسرين _رحمهم الله_ ما حاصله أن يوسف قد أخطأ هنا، عندما قال: "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ" ولو أنه قال: "رب إن عافيتك أوسع لي" لم يقع له السجن، وهذا القول خطأ بين، فيوسف لم يطلب السجن ولم يتمنّه، بل إن قوله: "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ" متعلق بخيارين وضعا أمامه، فإذا لم يكن إلا السجن أو فعل الفاحشة فالسجن أحب إليّ، وأفعل التفضيل هنا لايقتضي حب المفضل، وإلاّ للزم القول بأن الفاحشة كانت حبيبة إليه غير أن السجن أحب، بل غايته أن السجن أفضل وأقرب إلى النفس من الوقوع في الفاحشة، وتلك منزلة رفيعة لايصل إليها كل إنسان، وهذا معنى بليغ ودقيق غفل عنه البعض.
وهنا أنبه إلى أن الأصل أن يفر المرء بنفسه من الفتن، فالمؤمن لايطلب البلاء، وقد قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا" وهذا ما صنعه يوسف _عليه السلام_، فيوسف لم يطلب السجن ولكن المرأة وضعته في حصار إما أن يستجيب لها أو يسجن هكذا، قالت: "وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ" (يوسف: من الآية32) فقال: "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ".
وهذا أمر معروف ومشاهد فقد تجد إنساناً يقول لآخر إما أن تفعل هذا أو أضربك، فيقول الضرب أحب إلي، ولا يعني هذا أنه يحب الضرب.
فالذين قالوا: إن يوسف لما قال: "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ" ابتلاه الله؛ لأنه طلب السجن أخطؤوا وأساؤوا فهم الآية، ولم يتأملوا سياقهاالدال على أن يوسف _عليه السلام_ لا يريد السجن، فرحم الله أولئك المفسرين.
ومن جملة التجاء يوسف لربه دعاؤه بقوله: "وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ" (يوسف: من الآية33) فأكرمه الله واستجاب دعوته فأنقذه من كيدهن، وقال: "فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (يوسف:34).
حقاً "إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" وما أحوجنا إلى الإيمان بأسماء الله وصفاته، فكلما ازداد إيمان العبد ومعرفته بأسماء الله وصفاته ازدد لجوءاً إليه، وهذا يوسف _عليه السلام_ عرف وعلم وآمن بأن الله سميع عليم، فاستحضر ذلك والتجأ إليه فأنقذه الله _جل وعلا_.
وهكذا من أثبت أسماء الله وصفاته كما أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله _صلى الله عليه وسلم_ وعلم معانيها وما تدل عليه ومايلزم من ذلك، لم يغتر كما اغتر الجاهل بالله.
والخلاصة هي أن السجن كان منحة ليوسف _عليه السلام_ أولاً؛ لأنه خلصه من بلاء المراودة والفتنة، وثانياً؛ لأنه فتح له باباً عظيماً من أبواب الدعوة، ثم مُكِّن له في الأرض، وصدق الله _جل وعلا_: "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ" (البقرة: من الآية216)، "فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً" (النساء: من الآية19). قال _صلى الله عليه وسلم_: «جبت لأمر المؤمن إن أمره كله خير له، وليس ذلك لأحد إلاّ للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له»، فالحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المحنة المنحة-2 29/10/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: فمازلنا في وقفاتنا مع سورة يوسف _عليه السلام_، ونقف اليوم مع الأمر الجائر بالسجن، والصادر من إمرأة العزيز ابتداء، قال الله _تعالى_: "ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ" (يوسف:35)، وهنا يرد سؤال: لماذا سجنوه بعد ظهور براءته؟ ألم يرو الآيات؟! ألم يشهد شاهد من أهلها؟ بلى ولكنه سجن لأمور كلها باطلة، ومنها:
أولاً: من هذه الأسباب قوة سيطرة النساء وقوة مكرهن وتأثيرهن على الرجال، وخاصة على من يملك القرار؛ فالمرأة هنا هي التي أصدرت القرار، وما كان من زوجها وهو عزيز مصر إلا أن ينفذ، ولك أن تتساءل من هو العزيز هنا؟ ومن هو الرئيس؟
الزوج أصبح أمام المرأة كالجندي يُصدَر إليه الأمر فينفذ!(/2)
وسبب آخر ذكره بعض المفسرين، وهو أنّه سجن من أجل انقطاع الخبر، قالوا: لعل سجنه يقطع الخبر وينهي القضية، ولا شك أن هذا أسلوب خاطئ في التعامل مع مثل هذه الأحداث، وهو ضرب من الطغيان والاستكبار، يؤكد هذا قوله _تعالى_: " لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ"، والحين هو الوقت المطلق وغير المقيد بزمن، قال بعض المفسرين: إذا أعوز السجان الدليل على تهمة المسجون سجنه سجناً مطلقاً يخضع لإرادته وهواه؛ أما إن كانت هناك تهمة حقيقية أو جريمة فعلية فسوف يُحال المتهم إلى المحاكمة وتفرض له عقوبة مقدرة، ولكن عندما لا تكن هنالك تهمة حقيقية يسجن بها هذا المتهم ولا يستطيع أن يثبتها أمام المحاكم وأمام القضاة يعتقل المظلوم اعتقالاً تحفظياً بغير توجيه تهمة ويطول أمد سجنه بغير قيد غير هوى السجان واستكباره وطغيانه.
وهكذا يفعل الذين لا يخافون الله _جل وعلا_ في كل عصر وفي كل مصر وفي كل حين.
وانظروا إلى سجن عدد من الدعاة والمصلحين على مر التاريخ ابتداءً من سجن يوسف _عليه السلام_ ومَن بعده يُسجن أحدهم سجناً مطلقاً لا يُحال فيه إلى محكمة ولا ينظر في قضيته قاض، اللهم إلاّ إن لفقت لائحة اتهام تدينه، فهنا يحال إلى القضاء لينال الجزاء على الجرم الملفق.
ولا يعد أسلوب التلفيق هذا تطويراً في أسلوب الحبس التعسفي الذي علمته امرأة العزيز ظلمة أهل العصر، بل هو أسلوب قديم مورس من قبل امرأة العزيز، وحكى الله _عز وجل_ ذلك في قصة يوسف على لسان إخوته، فقال الله _تعالى_: "إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ" (يوسف: من الآية77).
لقد لفقت تهمة السرقة من قبل ليوسف _عليه السلام_ وحوكم محاكمة صورية كما هو الحال اليوم في كثير من بلاد العالم، ثم اعتقل إلى غير أجل، ومع ذلك صبر إلى أن كتب الله له الظهور والظفر.
لقد أصبح هذا السجن الذي ذكره الله _جل وعلا_ في سورة يوسف، مدرسة تؤخذ منها الأحكام والدروس والعبر، وسأتناول في موضوع السجن الوقفات التالية:
أولاً: إن السجن محنة وبلاء فلا يتمناه أحد، فالسجن بلاء ومحنة ولكن الله _جل وعلا_ قد يجعله منحة لمن صدق معه فلا يرى فيه المسجون غضاضة، بل يراه خير مما دعي له، كما قال يوسف _عليه السلام_: "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ" (يوسف: من الآية33)، ثم تكون هذه المحنة شرفاً لصاحبه مادام سببها أمراً مشروعاً شريفاً، فإذا سُجن الإنسان بسبب الدعوة أو الأمر بالمعروف أو بسبب ثباته على مبدئه وعقيدته وعرضه فهو شرف له وهو عِزّ.
ومن أبيات الحكمة السائرة قول الأول:
يهون علينا أن تصاب جسومنا
وتسلم أعراض لنا وعقول
هنا رسالة أرجو أن يدركها وأن يعيها من أخاطبه، إن من أشد الناس حزناً أولئك الذين يذهبون في غير مذهبهم
فكيف إذا كان السجن لأجل سلامة الدين.
وبالمقابل هنا رسالة أرجو أن يدركها وأن يعيها من أخاطبه، إن من أشد الناس حزناً أولئك الذين يذهبون في غير مذهبهم، ويضيعون في غير قضيتهم، فلا تسأل عما يعانيه المسجون إذا سُجن بسبب لم يكن مقتنعاً به!
ولست أعني بذلك أولئك الذين يسجنون بسبب بعض المعاصي والآثام والجرائم فهذه أمرها واضح، وإنما أتحدث عن بعض الطيبين الذين قد يرتكبون أعمالاً لم يحرروها شرعاً فيتعجلون في اقتراف هذه الأعمال فإذا دخلوا السجن وخلوا بأنفسهم بدؤوا يلومونها، وبدؤوا يراجعون مواقفهم، وبدأت المحاكمة العسيرة الحقيقية، وهذه أشد على المسجون من السجن نفسه.
بخلاف الذي يسجن وهو مطمئن على صحة موقفه، وسلامة جانبه، فهو يحتسب كل ثانية أجراً، فيجد فنفسه داخل السجن قوة وثباتاً وسعادة لا يجدها في حياته أبداً.
وقد سمعت بأذني أكثر من واحد يُقسم بالله، وقد سُجن سنوات أنه يعيش لحظات من أسعد لحظات حياته أيام هذا السجن .
بل سمعت أحدَ كبار الدعاة الذي ثبت في السجن سنوات طويلة أكثر من ثمان سنوات سمعته بعد صلاة الفجر وهو في سجنه يقول: والله لا أتصور أنه يوجد على ظهر الأرض مَن هو أسعد مني! مع أنه في سجن، بعيداً عن أولاده عدة سنوات.. لماذا؟
بل سمعتُه بعد أن خرج من السجن بساعة أو بأقل من ساعة يقسم بالله، وقد بات في السجن أكثر من ثلاثة آلاف ليلة أنه ما بات ليلة واحدة وهو حزين! فما السر في ذلك؟
الجواب باختصار: إنه الاطمئنان على قوة موقفه، وشرف مقصده، وسلامة جانبه، وعليه:
فذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
على النقيض تماماً من أولئك المتعجلين المتسرعين الذين لا يفكرون في صنائعهم ولا يقفون مع أنفسهم إلاّ في حبس انفرادي.(/3)
ولهذا أقول: علينا أن نحرر مواقفنا قبل أن نقدم عليها، وبخاصة كلما عظم الخطب، فإن بقيت وسلمت فالحمد لله، وإن ابتليت فاطمئن "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ" (إبراهيم:27) "إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ" (غافر:51، 52).
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يرزقنا السداد في القول والعمل، يا حي ياقيوم برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا لأنفسنا طرفة عين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المحنة المنحة-3 6/11/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، ثم أما بعد:
فما زلنا نستلهم من سجن يوسف _عليه السلام_ العظات والعبر، ولعله يحسن هنا سرد طرف من فوائد السجن، وبخاصة لأهل الخير والصلاح، الذين خاطب الله _عزوجل_ إمامهم _صلى الله عليه وسلم_، فقال: "أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ" (الأنعام: من الآية90)، ولعل من جملة أولئك نبي الله يوسف، الذي انفرد عن جملة الأنبياء بنقل أخبار سجنه وأحواله في القرآن الكريم.
ولعل في سرد هذه المنح الإلهية المنبثقة من قلب المحنة تكون عزاء للمضطهدين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وتنبيه للغافلين منهم إلى ما هو فيه من خير، وتبصر بنعمة الله عليهم وهم في قيدهم.
إنه لاينبغي للداعية الصادق المخلص أن يأسى أويحزن على ما أصابه طالما كان سجنه ظلماً وجوراً، فما الذي يريده المصلح بدعوته غير رفعة درجاته وتعظيم حسناته، وهذا ما يناله في حال سجنه ظلماً وعدواناً، يرفع الله درجته ويعلي منزلته، ويكون سجنه خلوة وميداناً للعبادة والعلم ومراجعة النفس، وميداناً للتربية ومعرفة الناس في الرخاء والشدة.
لقد رأيت أناساً يقولون: لم نكن أصحاب قيام ليل، فلما دخلوا السجن توجهوا لقيام الليل فاستقام أمرهم عليه حتى بعد خروجهم منه.
وسمعت بعض من دخل السجن يقسم بالله أنه لم يكن يصوم إلا رمضان وبعض الأيام الفضائل كالست من شوال ويوم عرفة وعاشوراء، ولكنه في السجن دأب على الصوم الحثيث، حتى إن بعضهم كان يصوم طول السنة إلا خمسة أيام عيد الفطر والأضحى وثلاثة أيام التشريق، فناقشه بعض طلاب العلم خوفاً من أن يقع في صيام الدهر، فبدأ بعدها يفطر أياماً ويصوم أياماً، و"من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بين وجهه وبين النار سبعين خريفاً" _أو كما قال صلى الله عليه وسلم_.
لقد رأيت أناساً دخلوا السجن لا يحفظون ثلاثة أجزاء من القرآن، فخرجوا وهم يحفظون القرآن.
السجن فرصة للخلوة، فرصة لتعويد النفس المواظبة على الأوراد والأذكار.
سمعت من درس العلم الشرعي أكثر من ستة عشر عاماً وقد سجن بضع سنوات يقول: إنه استفاد في خمس سنوات ما لم يستفده في دراسته الجامعية والدراسات العليا خلال الستة عشر عاماً لماذا؟
لأن نفوسهم منشرحة، مليئة بالغبطة، فدفعهم الفراغ إلى استثمار الأوقات والدقائق، يحفظون المتون، يقرأ بعضهم على بعض، يرشد بعضهم بعضاً.
وكذلك كما أن السجن فرصة لمعرفة العلوم فهو أيضاً فرصة لمعرفة الناس، فالناس في الرخاء لا تعرف صدق ودهم، لكن في الشدائد:
جزى الله الشدائد عني كل خير عرفت بها عدوي من صديقي
الشدائد تكشف معادن الرجال، وهذا باب واسع لا يعرفه إلا من جرّبه ومارسه، كم من إنسان كنت تتصور أنه سيقف معك حين الشدة، وعندما تحل بك المحنة إذا هو أول من يتخلّى عنك، فلا يكاد يقرؤك حتى السلام ولايبعث به إليك، بينما تجد آخرين لم تكن تعرفهم تبلغهم محنتك أو سجنك فإذا هم يسارعون إليك، يقفون مع أهلك مواقف مشرفة، مع أنه لم يكن بينهم وبينك كبير ود ظاهر، فضلاً عن قرابة أو علاقة قبل ذلك.
فاختبار الرجال ومعرفتهم باب عظيم السجن أحد ميادينه.
والشاهد هنا أن السجن قد يكون باباً لخيرات كثيرة، ومن أعظمها مراجعة النفس، فالإنسان في السجن يراجع نفسه، وينظر في مسيرته، ويتأمل طريقه، فينشد الكمال إن كان مصيباً، ويسد الخلل إن كان مقصراً، ويرجع إلى الصواب إن كان مخطئاً.
فالإنسان في السجن يراجع نفسه، وينظر في مسيرته، ويتأمل طريقه، فينشد الكمال إن كان مصيباً، ويسد الخلل إن كان مقصراً، ويرجع إلى الصواب إن كان مخطئاً(/4)
كما أن على الداعية أو المصلح أن يكون مصلحاً في سجنه ليتم له الفضل، وليكتب له أجر ما حبس عنه من دعوة وإصلاحا مضاعفاً، فيوسف _عليه السلام_ باشرة الدعوة إلى الله داخل حبسه، واهتم بأمر التوحيد وقد ذكر الله _تعالى_ قصته مع صاحبي السجن، فقال حكاية عنه: "يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ" (يوسف:39)، "مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ" (يوسف: من الآية40)، ثم بدأ يقرر عقيدة التوحيد، فالدعوة إلى الله وأخص الدعوة إلى التوحيد هي من جملة ما استفاده يوسف _عليه السلام_ في سجنه، كما أن الإحسان إلى السجناء باب من أبواب الخير ولجه يوسف _عليه السلام_، فعندما طلب منه الفتيان تعبير الرؤيا قالا له: "إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ" (يوسف: من الآية36)، هكذا يكون اقتناص الفرص، حتى السجن يحوله الداعية الحريص لمنبر من منابر الدعوة بسلوكة قبل كلامه، وبعلمه وحرصه على تبليغ دعوة الله.
وكلمة إنا نراك من المحسنين دليل على أنها سيرة مطردة عُرف بها يوسف وليست أمراً عابراً، فالإحسان إلى السجناء والوقوف معهم وتفقد شؤونهم له أثره العظيم على السجان وعلى المسجون وعلى أهلهم وأقاربهم.
ومن أبوب الخير التي ييسرها السجن، صِدْق الالتجاء إلى الله، وهذا معنى ملاحظ في قصة سجن يوسف _عليه السلام_، ومن أبواب الخير التي يفتحها السجن الاعتراف للرب _تبارك وتعالى_ بنعمه، وملاحظة ما لم يكن يلحظه الكثيرون حال النعيم والخلطة.
وأخيراً من أبواب الخير التي يفتحها السجن تعويد المرء وتربيته على الصبر، وقد قال الله _تعالى_: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب"، ولهذا صبر يوسف _عليه السلام_ صبراً عجيباً كانت عاقبته حميدة في الدارين، وقد صرح بذلك آخر المطاف، فقال لإخوانه: "إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" (يوسف: من الآية90).
أسأل الله أن يكتب لنا ولكم من فيض فضله العميم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/5)
المحنة في حياة الدعوة والداعية
يتناول الدرس المحنة لكونها من الظواهر الملازمة للحركة الإسلامية قديمًا وحديثًا؛ وذكر أن المحنة تربية وتمحيص، وعرض صور من محن الأولين من الأنبياء والصالحين، ثم ذكر كيف نواجه المحن المعاصرة.
تكاد تكون المحنة من الظواهر الملازمة للحركة الإسلامية قديمًا وحديثًا؛ فالإسلام دعوة على مظاهر الحياة الجاهلية في كل صورها وأشكالها .. وهذه الخاصة التي يمتاز بها الإسلام، جعلت الحركة الإسلامية أكثر تعرضًا للمحن، وبالتالي جعلت المحنة لديها ذات مفهوم خاص لا يشاركها فيه سواها من الحركات الحزبية والسياسية .
* المحنة تربية وتمحيص: فالمحنة من أهم عوامل التكوين والاختيار في الإسلام .. وقد لا يكون للتكوين النظري قيمة ما لم تشترك فيه عوامل الشدة والبلاء. والإيمان نفسه بحاجة إلى المحنة؛ لسبر غوره وإدراك مداه، فالإيمان القوي الراسخ هو الذي يصمد في ساعة العسرة . أما الإيمان السقيم العليل فسرعان ما تكشفه المحن وتصدعه، وصدق الله تعالى حيث يقول:} وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ[10]وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ[11] { “سورة العنكبوت” .
* صور من محن الأولين :
قضت سنة الله .. أن يكون الحق في صراع أبدي مع الباطل:} وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا[19] { “سورة الجن” ... } يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ[8] {“سورة الصف” . ومنذ ولد الخير ووجد الشر، والصراع عنيف ومخيف بينهما، والحقيقة التي تتكرر باستمرار هي أن الحق دائمًا في انتصار، وأن الباطل دائمًا في انتحار :} وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ[171]إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ[172]وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ[173] {“سورة الصافات”.
*المحنة في حياة إبراهيم عليه السلام : لم تكن المحنة التي تعرض لها خليل الرحمن إلا إحدى حلقات الصراع، الممتدة عبر القرون .. والتي تؤكد على الزمن غلبة أهل الحق وهزيمة أهل الباطل.
نشأ إبراهيم عليه السلام في مجتمع جاهلي، وأبت الفطرة السليمة مجاراة التيار، والانسياق مع الرأي العام، وصمم إبراهيم صلى الله عليه وسلم على التصدي للجاهلية.
وتبدأ المحنة في حياة هذا الفرد.. فرد يمتطي صهوة الحق وحيدًا .. ويعلن على الملأ إيمانه بالله وكفره بما يعبدون من دونه .. } قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ[75]أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ[76]فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ[77] {“سورة الشعراء”.
ويجدر بالداعية أن يقف هنا مليًا، يستشعر عظمة الإيمان الذي اعتمر به قلب إبراهيم .. إنه وحيد ليس وراءه جماعة ولا أنصار، ومنبوذ حتى من ذوي القرابة والوالدين .
وتشتد المحنة على إبراهيم، ويلقى في النار .. والرسول الممتحن يصغي إلى نداء الله، وهو في حمأة اللهب المستعر:} يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ[69]وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ[70]وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ[71] {“سورة الأنبياء”.
وتمضي قصة المحنة التي تعرض لها أبو الأنبياء ترسم لأهل الحق صورًا شتى من صور الرجولة والبطولة.
*المحنة في حياة موسى عليه السلام : وحياة موسى عليه السلام لم تكن غير سلسلة من المآسي والآلام، بل إن المحنة رافقت موسى رضيعًا تتقاذفه الأمواج، وشبت معه فتى يانعًا هاربًا من بطش فرعون .. وزاد حياته محنة على محنة تعرضه لنقمة فرعون من جهة، ولإيذاء قومه وسفههم من جهة أخرى.. ويمضي موسى في طريقه حاملاً كل التبعات .. وفي فترة من فترات الضعف البشري يُحس موسى بالوجل والخوف يختلجان في صدره وهو في قلب المعركة .. ولكن السماء سرعان ما تتداركه بالمدد:} فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى[67]قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى[68]وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى[69] {“سورة طه” ويخرج موسى من هذه التجارب أصلب عودًا وأشد صمودًا.(/1)
*المحنة في حياة عيسى عليه السلام : مما لا ريب فيه أن عيسى عليه السلام كان يتمتع بطاقة ضخمة من الصبر والاحتمال .. ومما زاد في قسوة الظروف التي أحاطت به وبنشأته، أنه واجه في ماضي مولده ألوان الشكوك .. كما واجه في حاضر دعوته ضروب العنت والتمرد .. ويكفي لكي نقدر مدى ما وصل إليه العنف والتمرد أن نعرف أن المعجزات التي بلغت على يدي عيسى حدًا كبيرًا لم يكن لها ذلك الأثر المنتظر في استمالة النفوس وتأليف القلوب.. ولكن عيسى عليه السلام .. كان يؤمن بأنه رسول .. وأن عليه البلاغ المبين. وكان طيب النفس حليمًا .
حاول اليهود أن يخفقوا من أثر دعوته وأن يخفوا عن الناس أمره .. ولما أعيت الحيلة أهل الباطل .. ائتمروا به ليقتلوه .. أما عيسى روح الله .. فقد كانت عين الله تحرسه وترعاه .. فلما همّ القوم بما دفعهم إليه حقدهم الأسود..
وقع تحت أيديهم رجل شديد الشبه به، فقتلوه وهم يحسبون أنهم قتلوا عيسى:} وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا[157]بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا[158] {“سورة النساء”.
* محنة الإسلام في عهد النبوة :
كان الإسلام ثورة على الجاهلية من أول يوم .. ثورة استهدفت نسف القواعد التي قام عليها المجتمع الجاهلي، فليس من طبيعة الإسلام أن يهادن الأوضاع الخربة، أو يعمد إلى ترميمها وإصلاحها، وإنما يعتمد سياسة الهدم والبناء .. هدم الجاهلية بكل مرافقها، وبناء الحياة الإسلامية بجميع مقتضياتها. وإذا كانت هذه طبيعة الدعوة التي نهض بها النبي صلى الله عليه وسلم، فبديهي أن تستأسد قوى الجاهلية وتستميت في الدفاع عن كيانها المهدد بالنسف والدمار.
*حرب الأعصاب : تفنن أهل الجاهلية في حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وابتكروا كل جديد لضرب الإسلام، وحشدوا كل قواهم لعرقلة المسيرة القرآنية، فعمدوا أولاً: إلى أسلوب نفسي خسيس يستهدف تدمير أعصاب الرسول صلى الله عليه وسلم، والقضاء على روحه المعنوية العالية، وشنوا لذلك حملات عنيفة من السخرية والاستهزاء عرض لها القرآن الكريم في أكثر من موضع:} وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا[90]أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا[91]أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا[92]أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ...[93] {“سورة الإسراء”.
وعندما فشلت هذه الأساليب الرخيصة عمد المشركون إلى اختلاق الشائعات والتهم على رسول الله، وبثوها في كل الأوساط؛ ليضعفوا الثقة به وليصدوا عن سبيل الله:} وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ[46] {“سورة إبراهيم”. وكانت المحنة على ضراوتها وقسوتها لا تزيده صلى الله عليه وسلم إلا صلابة وتصميمًا ..
*تعرض وإيذاء ومحاولات اغتيال : ولما يئسوا من الحرب النفسية، وحرب الأعصاب، وحرب الشائعات .. لجأوا إلى الحرب الحسية ينالون بها من دعاة الإسلام..(/2)
ويجتمع سادة قريش يومًا في [الحجر] ويذكرون محمدًا وتحديه السافر لمقدساتهم .. فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ سَفَّهَ أَحْلَامَنَا وَشَتَمَ آبَاءَنَا وَعَابَ دِينَنَا وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ لَهُ أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ - فيجيبهم نبي الهدى بكل ثقة واعتزاز- فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” نَعَمْ أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ”رواه أحمد. يقولها بكل صراحة ويعلنها بملء فيه .. لقد أصابه منهم في ذلك اليوم ما أصابه .. وأدركهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقد كادوا يجهزون عليه .. فانبرى يدافع عنه ويقول:'أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ'.. ولما أوقع في أيدي المشركين، وأعجزتهم الحيلة تداعوا إلى مؤتمر عقدوه في دار الندوة. ولما وضعوا خطتهم، وحزبوا أمرهم؛ كشف الله مكرهم ورد كيدهم:} وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[30] {“سورة الأنفال”.
* المحنة في حياة الصحابة : وفي عهد النبوة تعرض دعاة الإسلام لأبشع صنوف الإيذاء والتعذيب، ولم تقتصر المحنة على نفر دون نفر أو طبقة دون أخرى، بل لقد بلغت الجميع: النساء والرجال، الصغار والكبار، العبيد والأحرار.
*محنة بلال: كان أمية بن خلف يخرج بلالاً إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يتهدده قائلاً: إنك ستظل هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، أو تعبد اللات والعزى، وكان بلال رضي الله عنه يردد:'أَحَدٌ أَحَدٌ'.
*محنة آل ياسر : وكان بنو مخزوم يخرجون 'آل ياسر' جميعًا يعذبونهم برمضاء مكة.
أما ياسر- الأب- فلم يقو على تحمل العذاب لكبر سنه؛ فمات لتوه، وأما سمية – الأم- فقد أغلظت القول لأبي جهل فطعنها عدو الله بحربة في أحشائها، فكانت أول شهيدة في الإسلام .. } وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[169]فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[170]يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ[171] {“سورة آل عمران”.
*نموذج من شهداء الإسلام في عصر النبوة : لكم شهدت أيام الإسلام في عصر النبوة من أبطال صناديد، شرفوا التاريخ، ويكفي أن نختار منهم:خبيب بن عدي؛ لندرك أي أثر كان للعقيدة في نفوس هؤلاء: اعتقل خبيب وكان في طريقه من المدينة إلى عضل والقارة؛ ليقوم بمهام الدعوة التي كلفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساقه المجرمون إلى مكة وباعوه لحجر بن أبي إهاب التميمي ليقتله بأبيه الذي قتل في غزوة بدر الكبرى.
وفي اليوم المحدد لقتله أخرجه المشركون إلى التنعيم ليصلبوه، فقال لهم:' إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا ' قالوا: دونك فاركع .. فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم، فقال:' أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعًا من الموت لاستكثرت من الصلاة'. وعندما رُفع خبيب على الخشبة قال له المشركون: ارجع عن الإسلام نخلي سبيلك. فقال:' لا والله ما أحب أن أرجع عن الإسلام وأن لي ما في الأرض جميعًا.. إن قتلي في الله لقليل .. اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، اللهم إنه ليس هاهنا أحد يبلغ رسولك عني السلام، فبلغه أنت السلام'.. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت بين صحبه في المدينة، فأخذته غيبة ثم قال:”هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُنِي مِنْ خُبَيْبٍ الَسَلَامَ” رواه الطبراني في معجمه الكبير-بنحوه-.
واقترب من خبيب أربعون رجلاً من المشركين، بأيديهم الرماح، وقالوا: هذا الذي قتل آباءكم في بدر. فقال خبيب:' اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك .. فأبلغه الغداة ما يُصنع بنا'.
وعندما أخذت الرماح تمزق جسده، استدار إلى الكعبة وقال:' الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته التي ارتضى لنفسه ونبيه وللمؤمنين'.. واستمر أعداء الله يمزقون جسد خبيب برماحهم وهو لايفتر يردد:'لا إله إلا الله محمد رسول الله' حتى لفظ نفسه الأخير، وفاضت روحه الزكية الطاهرة إلى الملأ الأعلى .(/3)
* المحنة في عصر التابعين : ويأتي عصر التابعين .. ويطالعنا التاريخ بألوان شتى من محن الإسلام .. ففي هذه المرحلة تتكاتف لهدم الإسلام معاول الأبناء والأعداء، ففي عام 75 هـ يتولى الحجاج بن يوسف الحكم في العراق. ويشهد هذا البلد الإسلامي في عهده أيامًا سوداء . ومن سنة الله في خلقه أنه يهيء للطغاة رجالاً لا يهابون الطغيان .. يصنعهم على عينه . ويهبهم الجرأة فيه، وكان سعيد بن جبير أحد هؤلاء الذين خلصوا من حظ أنفسهم..
وعندما صمم الحجاج على قتله والخلاص منه أرسل جنودًا بطلبه فجاءوا به، وأدخلوه عليه، ثم ذبحوه على النطع ـ رحمه الله ـ، وعاش الحجاج بعده خمس عشرة ليلة ثم مات .
* المحنة بين الأمس واليوم :
هكذا تبدت معالم الصراع بين الحق والباطل على مدار التاريخ، إنها صورة واحدة ذات أشكال متعددة .. تتغير فيها الأزمان، والأشخاص وتبقى الحقيقة هي هي .. إنه استعلاء الإيمان في كل زمان .. واعتزاز الحق في كل عصر.
*أصحاب العقيدة يدفعون الثمن : وتشتد المحنة في حياة الدعوة .. وتئول قيادة الأمة إلى حكام طغاة، يسومون المؤمنين سوء العذاب .. وحق على دعوة الإسلام أن تدفع الثمن . وتدفعه بسخاء: دماء وضحايا وشهداء .
* كيف نواجه المحن ؟
إن الحركة الإسلامية إذ تواجه اليوم ما تواجه من تحديات وضغوط ينبغي أن:
* تنطلق على هدي: فلا تتحكم في سيرها الانفعالات، أو تميد بها العواطف والطفرات.
* مدعوة لمواجهة هذه الحرب السافرة على الإسلام وأهله: بالصياغة الحسنة لشبابها ورجالها، وبالإعداد الكامل، ثم بالتخطيط الواعي لكل خطوة من خطاها .
*أن تغرس في نفوس عناصرها ودعاتها روح البذل والتضحية، وتستأصل من نفوسهم عوامل الضعف والخوف والانهزام .
*إن الحركة الإسلامية مدعوة: لتضع في تقديرها وحسابها في مجالات التربية والتكوين ثقل المسئولية، وضخامة التبعة التي تنتظرها وتنتظر أفرادها؛ فتسلك بهم كل ما من شأنه أن يعدهم لحياة المجاهدة والمرابطة والكفاح .. وتنأى عما يخلد بهم إلى الأرض ويعودهم حياة الدعة والخنوع .
من 'مشكلات الدعوة والداعية' للأستاذ/ فتحي يكن(/4)
المخالطة
لقد استدار الزمان ؛ وإذا بالصالحين ذهبوا الأول فالأول , فَقَلَّ للزمانِ خيره , وتكدر صفوه , وتعسَّر بِرُّه.
عَنْ مِرْدَاسٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ , وَيَبْقَى حُفَالَةٌ ( 1) كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ , أَوْ التَّمْرِ لَا يُبَالِيهِمْ اللَّهُ بَالَةً.( 2)
فكيف بمن هذا حاله ! وأنت ترى العهود مَرِجت والأمانات خفت , والدين قد رق , فأصبح الحليم سفيها , والسفيه حليما , وأصبح المهزار أنيسا , والتقيُّ عييّا .
استمع لهذا الحديث.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً ؛ تَبْقَى حُثَالَةٌ مِنْ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ ، وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَقَالُوا : وَكَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ , وَتَذَرُونَ مَا تُنْكِرُونَ , وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ , وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ .(3 )
مخالطة من حاد عن طريق الله .
إحذر مخالطةَ عُبَّادِ النفس , ومن تلبس بفسق , أو اتَّبَع هواه ؛ فإن مجاورة هؤلاء جَرَب لازم , لا يبتعد ولا يسكن عن صاحبه , فقلبه حاد عن طريق مولاه , وجوارحه كَلَّت في رضى نفسه وهواه , إن تكلم تكلم بمعصية , وإن تحرك تحرك في معصية , فهذا الصنف من الناس لا حياة فيه , فهو لا يعرف ربه , ولا يعبده بأمره ونهيه , بل هو واقف مع شهواته ولذاته , ولو كان فيها سخط ربه وغضبه , فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته وحظه , أرضى ربه أم أسخطه . فهو متعبد لغير الله - حبا , وخوفا , ورجاء , ورضا , وسخطا , وتعظيما , وذلا , إن أحب _أحب لهواه , وإن أبغض أبغض لهواه , وإن أعطى أعطى لهواه , وإن منع منع لهواه , فهواه آ ثر عنده وأحب إليه من رضا مولاه , فالهوى إمامه والشهوة قائده , والجهل سائقه , والغفلة مركبه , فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور , وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور , يُنَادى إلى الله وإلى الدار الآخرة من مكان بعيد , ولا يستجيب للناصح , ويتبع كل شيطان مريد , الدنيا تسخطه وترضيه والهوى يصمه عما سوى الباطل ويعميه , فهو في الدنيا كما قيل في ليلى :
عَدُوٌ لِمَنْ عَادَتْ وَسِلْمٌ لأهْلِهَا وَمَنْ قَرَّبَتْ لَيْلَى أَحَبَّ وَأَقْرَبا
فمخالطة صاحب هذا القلب سِقم , ومعاشرته سُم , ومجالسته هلاك .
قال تعالى :{ وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)} (4 )
عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ , كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ , فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ , وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ , وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً , وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ , وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً .(5 )
فالحذر كل الحذر من مخالطة هؤلاء , وإياك وحجة إبليس ! أن تخالطهم من أجل الدعوة , وتوصيل الحق إليهم ! أو مصلحة تغلفها بصبغة شرعية , فإن هذا ليس من هدي السلف رضي الله عنهم , فإن الأول دعوا إلى الله عز وجل مع وقوفهم على جانب واحد , لا يحيدون عنه قيد أنملة , الكتاب والسنة ! دون تقديم أي تنازل , وإن كان في الأمر عسر وصعوبة , إلا أنهم سَحَبُوا الناس إليهم , وأوقفوهم معهم في معسكرهم على الكتاب والسنة , بخلاف من كَثُر من دعاةِ هذا الزمان , يدخلون إلى معسكر العصاة , ويهتدون بهديهم , ويتزينون بزيهم , ويتلبسون بخصالهم وفعالهم , بحجة دعوتهم إليهم ! فحتى لو نجحت هذه الدعوة فإن نقطة الالتقاءِ بعيدة , وخاصة إذا كان الداعي فقير العلم , حديث العهد بالالتزام ! وذلك لسهولة رجوعه إلى ما كان عليه من قبل , بخلاف من توطَّن المعصية , فإن انتقاله عنها عسير , ومفارقته لما ألف أصعب , فيظل المنتقل إليه , الطالب دعوته , على الحالة التي هو عليها من المخالطة والألف لما هو عليه , حتى يكونا سواءً في التفريط والمعصية , إلا من رحم الله .
وربما يقول قائل لا غنى لي عن الناس , ولا غنى للناس عني , وربما يكون هذا صحيحاً إذا عرف العبد الداء و الدواء , وفرق بين المنحة من المحنة , والعطية من الرزية , والحمل من الذئب , والظباء من الثعالب.
الداء والدواء .
ومخالطة الناس قد تكون داءً , وقد تكون دواءً , ويجب على العبد أن يفرق بين الداء والدواء.(/1)
فالدواء كمخالطة الناس في الجمع والجماعات , ومجالس العلم ومالا بد منه , والمخالطة التي هي داء مما لا يعود على العبد بمنفعةٍ إلا التمتع بضياع الوقت , وقضائه بما لا يعود على العبد من نفع . والمخالطة التي هي كالدواء لا يؤخذ منها إلا بقدر محدود وعند الضرورة . فإنه إن زاد عن حده تحول إلى داء .
فإن كثرة المخالطة بلية عظيمة , ورزية جسيمة , فإن العبد يعيش في ستر الله ؛ فكم من ذنوب هي لك أخفاها , وكم من عيوب لك عن العباد قد غطاها , فإذا ما كثرت مخالطتك , وسهل الانبساط بينك وبين العباد , ظهرت هذه الذنوب وعُلمت هذه العيوب , فإن جاراك الناس , واستأنسوا بك ؛ فعند الفتن والشدائد لا يظهرون إلا العيب , فإذا هم قد ستروا النعمة , وأظهروا النقمة.
فالأخذ بالاحتياط وطلب السلامة أولى , وكلما قلت المخالطة قلت عنك مواد الشِّكَاية , فلن تُسْتبطأ في حقٍ , كعيادة مريضٍ , أو شهود جنازةٍ , أو حضور عُرسٍ , أو وليمةٍ ونحوها.
فالناس إذا فقدوك عذروك , وإذا وجدوك عَذَلُوك واستقصروك ؛ وقد يكون لك بعض الأعذار لا يقبلها منك هؤلاء.
فكلما ابتعدت عن المخالطةِ كنت في أمانٍ من مساويهم , وعن محاوراتهم , إلا ما يكفي فضل مؤنة ضرورية لهم أو لك .
فربما رفعوا لك قولا , أو فعلا , حال غفلةٍ ، أو عدم انتباه فشنَّعوا عليك ؛ أو سمعوا منك كلاما تأوَّلُوه عليك لم تدركه عقولهم.
هذا إن جاريتهم ! فكيف لو كنت قوّاماً , وقّافاً بالحق ! فإذا هم قد بغضوك , وهجروك , وكنت مضغة على ألسنتهم .
فكم من قلوب قد امتلأت من دخان أنفاس بني آدم حتى اسودت , وأوجب لها تشتتا وتفرقا وهمَّاً وغماً, وكم من مجالسٍ أضاعت مصلحةً وأوقعت مفسدةً , وكم جلبت الخُلطة من نقمة , ودفعت من نعمة , وأنزلت من محنة , وعطلت من مِنْحةٍ , وأوصلت من رزية وأوقعت في بلية ! وهل آفة الناس إلا الناس.
لقد أوشك أبوطالب أن ينطق بالإسلام لولا جلساء السوء .
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ , وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ : يَا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ : يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ : هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ , وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ) الْآيَةَ. (6 )
وقد أحسن من قال:
يا مَنْ يُريدُ بِزَعْمِهِ iiالإِخْمَالا
إِنْ كان حَقّاً فاسْتَعِدَّ iiخِصالا
تَرْكُ التَّذاكُرِ والمَجَالِسِ iiكُلِّها
واجْعَلْ خُروجَكَ لِلصلاةِ خَيَالا
بَلْ كُنْ بِهَا حَيّاً كَأَنَّكَ مَيِّتٌ
لا يَرْتَجي مِنْهُ القَريبُ iiوِصَالا
وَأْنَسْ بِرَبِّكَ واعْلَمَنَّ iiبِأَنَّهُ
عَوْنُ المُريدِ يُسَدِّدُ iiالأخْلالا
يُعْطي وَيُثْني بِالْعَطَاءِ iiتَفَضُّلاً
بَعْدَ الثَّوابِ وَيَبْسُطُ iiالآمَالا
مَنْ ذَا يُرِيدُ مَعَ الوَدودِ iiمُؤْانِسا
مَنْ ذَا يُريدُ لِغَيْره iiأَشْغالا
مَنْ ذَا يَلَذُّ بِغَيْرِ ذِكْرِ مَليكِهِ
مَنْ ذَا يُريدُ لِغَيْرِهِ iiأَعْمَالا
لا تَقْنَعَنَّ مِنَ الحياةِ iiبِغَيْره
وابذُل قِوَاك وقَطِّعِ iiالأَوْصالا
فَلَئِنْ بَلَغْتَ لأَنْتَ أَكْرَمُ مَنْ iiبها
وَلَئِنْ هَلَكْتَ فَما ظُلِمْتَ iiخِلَالا
مَنْ ذَاقَ كَأْسَ الخَوْفِ ضَاقَ بِذَرْعِهِ
حتى يَنَالَ مُرَادَه إِنْ نَالا
حَاشَا مُؤَمِّل سَيِّدي مِنْ iiخَيْبَةٍ
جَلَّ الجَوادُ بِفِعْلِهِ iiوَتَعالى
حظك من المخالطة :-
وهذا لا يمنع من أخذ حظ النفس من مجالسة الصالحين , ومن تستدعي الضرورة من مجالستهم ,كرحم يراد صلته , أو منفعة لا تتم إلا بالمخالطة , مع التحرز من ضياع الوقت وذهابه سدى .
وقد أهدى ابن الجوزي رحمه الله نصيحة لمن هذا حاله فقال رحمه الله(7 ):
أعوذ بالله من صُحْبَةِ البطّالين , لقد رأيت خلقا كثيراً يجرون معي فيما اعتاده الناس من كثرة الزيارة , ويسمون ذلك التردد خدمة , ويطلبون الجلوس ويجرون فيه أحاديث الناس ومالا يعني , وما يتخلله من غِيبة.(/2)
وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس , وربما طلبه المزور , وتشوق إليه , واستوحش من الوحدة ؛ وخصوصا في أيام التهاني والأعياد , فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض ولا يقتصرون على الهناء والسلام ؛ بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان , فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء , والواجب انتهاؤه بفعل الخير ؛ كرهت ذلك وبقيت معهم بين أمرين ! إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف , وإن تقبلته منهم ضاع الزمان , فصرت أدافع اللقاء جهدي ؛ فإذا غلب قصَّرت في الكلام لأتعجل الفراق , ثم أعددت أعمالا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان فارغا .
فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكَاغَد (8 ) وبري الأقلام , وحزم الدفاتر , فإن هذه الأشياء لا بد منها , ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب , فأرصدتها لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي , نسأل الله عز وجل أن يعرفنا شرف أوقات العمر , وأن يوفقنا لاغتنامه , ولقد شاهدت خلقا كثيرا لا يعرفون معنى الحياة , فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله فهو يقعد في السوق أكثر النهار ينظر إلى الناس , وكم تمر به من آفة ومنكر , ومنهم من يخلو بلعب الشطرنج , ومنهم من يقطع الزمان بكثرة الحديث عن السلاطين , والغلاء والرُخْصِ إلى غير ذلك .
فعلمت أن الله تعالى لم يُطْلِعْ على شَرَفِ العُمرِ ومعرفة أدوار العافية إلا من وفقه وألهمه اغتنام ذلك{ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)}( 9) أهـ
قال الإمام الماوردي رحمه الله(10 )
ومن الناس من يرى متاركة الإخوان إذا نفروا أصلح ، واطراحهم إذا فسدوا أولى ، كأعضاء الجسد إذا فسدت كان قطعها أسلم . فإن شح بها سرت إلى نفسه , وكالثوب إذا خلق كان اطراحه بالجديد له أجمل.
وقد قال بعض الحكماء : رغبتك فيمن يزهد فيك ذل نفس , وزهدك فيمن يرغب فيك صغر همة.
وقد قال بزرجمهر : من تغير عليك في مودته فدعه حيث كان قبل معرفته.
وقال نصر بن أحمد الخبزارازي:
صِلْ مَنْ دَنَا وَتَنَاسَ مَنْ بَعُدا
لا تُكْرِهَنَّ عَلَى الهوى iiأَحَدا
قَدْ أَكْثَرَتْ حواءُ إِذْ iiوَلَدَتْ
فَإِذَا جَفَا وَلَدٌ فَخُذْ وَلَدَا
فهذا مذهبٌ في من قل وفاؤه , وضعف إخاؤه , وساءت طريقته , وضاقت خلائقه , ولم يكن فيه فضل الاحتمال ، ولا صبر على الإدلال ,فقابَل على الجفوة , وعاقَب على الهفوة , وطرَح سالف الحقوق , وقابَل العقوق بالعقوق , فلا بالفضل أخذ , ولا إلى العفو أخلد. وقد علم أن نفسه قد تطغى عليه فترديه , وأن جسمه قد يسقم عليه فيؤلمه ويؤذيه , وهما أخصّ به وأحنى عليه من صديق قد تميز بذاته , وانفصل بأدواته فيريد من غيره لنفسه ! هذا عين المحال ومحض الجهل , مع أن من لم يحتمل بقي فردا وانقلب الصديق فصار عدواً.
وعداوة من كان صديقا أعظم من عداوة من لم يزل عدوا.
قال الحميدي المحدِّث:
لِقَاءُ النَّاسِ لَيْسَ يُفِيدُ iiشَيْئاً
سِوى الإِكْثَارِ مِنْ قِيلٍ iiوَقَالِ
فَأَقْلِلْ مِنْ لِقَاءِ النَّاسِ iiإِلَّا
لِكَسْبِ الْعِلْمِ أَوْ إِصْلاحِ حَالِ
ابحث عن هذا !
قال بعض السلف: إن أردت صديقا فابحث فيه عن هذه الصفات: أن يكون كثير الحياء , قليل الأذى , كثير الصلاح , صدوق اللسان , قليل الكلام ,كثير العمل , قليل الزلل , قليل الفضول , برا وصولا , وقورا , صبورا , شكورا , رضيا حليما , رفيقا عفيفا شفيقا , لا لعانا , ولا نماما , ولا مغتابا , ولا عجولا , ولا حقودا , ولا بخيلا , ولا حسودا , بشاشا , هشاشا , يحب في الله , ويبغض في الله , ويرضى في الله , ويغضب في الله.
[من كتاب "مكدرات القلوب" لفضيلة الشيخ /صلاح عبد الموجود]
________________________________________
( 1) حُفَالَةٌ :الرديء من كل شيء .
( 2) البخاري(7023)
(3 ) صحيح : أبو داود (4342) ابن ماجة (3957) أحمد(7023) الحاكم "المستدرك"(2/172) البيهقي "السنن الكبرى"(6/95)
( 4) [سورة الكهف 18/28]
( 5) البخاري(5534) مسلم(2628)
( 6) البخاري(1360)مسلم(24) الآية : {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)} [سورة التوبة 9/113]
(7 ) "صيد الخاطر(273)"
( 8) الكَاغَد:القرطاس
(9 ) [سورة فصلت 41/35]
( 10) "أدب الدنيا والدين ص346"(/3)
المخالفات الشرعية في بطاقتي الخير والتيسير الائتمانية
إعداد :خالد بن إبراهيم الدعيجي 11/9/1424
05/11/2003
مقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: ففي ظل تنامي السوق المالية، وتطور شبكة الاتصالات الدولية، أدى ذلك إلى تنافس المصارف التجارية بجلب أكبر عدد من العملاء؛ لتوفير قدر أعلى من الربح: فقامت بتقديم خدمات مصرفية، وتسهيلات لعملائها،فأنشأت في ساحة التعامل المصرفي مجموعة من :" عقود الائتمان" منها:
1-بيع المرابحة للآمر بالشراء.
2-بيع الأجل.
3-الاستصناع.
4-بطاقات الائتمان.
وأوسع هذه العقود انتشاراً هي بطاقات الائتمان، إذ يصدرها نحو:"200" مائتي بنك في العالم في أكثر من "163" دولة، مستخدمة في أكثر من (12000000) محل تجاري في العالم، وللسحب والتمويل فيما يقرب من :"500000" مؤسسة مالية، وجهاز صرف إلكتروني، من خلال شبكات الصرف الدولية(1).
وهذه البطاقات نشأت وتطورت في دول لا تحكم شرع الله في معاملاتها، وكانت في بنوك قائمة على الربا غير مراعية الشرعية الإسلامية، فداخل بعضها من الأوصاف، والشروط، ما يعلم قطعاً بحرمة بعضها، وبالتالي تلقفها المسلمون على ما فيها من مخالفات شرعية، وأعظمها القرض بفائدة المجمع على تحريمه.(2)
ولكن بتوفيق من الله، قامت جهود مخلصة في هيئات شرعية لدى البنوك الإسلامية، بتنقيح وتهذيب هذا النوع من البطاقات، حتى صيرتها بطاقات إسلامية .
وتتالت الهيئات الشرعية في البنوك بدراسة هذا النوع من البطاقات، ومحاولة أسلمتها، وتأصيلها، وتخريجها على ضوابط المعاملات وقواعدها، وذلك إما بإضافة شروط أو إلغائها، أو بتركيبها بعقدين أو أكثر حتى لا تقع فيما حرمه الله من الربا.
ومن ذلك ما قامت به الهيئتان الشرعيتان لدى البنكين الأهلي والسعودي الأمريكي، فقد قامتا بإصدار قرار بشرعية بطاقتي الخير والتيسير الائتمانيتين التابعتين للبنكين، وأنهما متوافقتان مع الشريعة الإسلامية.
ولكن بعد التأمل في كيفية عمل هاتين البطاقتين، تبين للباحث أنهما تتضمنان مخالفات لا تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية؛ لأسباب سوف أذكرها خلال البحث.
وهذه الورقات :هي بيان لبعض المخالفات الشرعية التي تضمنتها بطاقتا الخير والتيسير الائتمانية، ينتظم عقدها في مبحثين:
المبحث الأول: تصوير عمل البطاقتين.
المبحث الثاني: المخالفات الشرعية في عمل البطاقتين.
علماً أني لن أتطرق في هذا البحث إلى بعض المسائل وهي :
1-التورق المصرفي.
2-البيع الفضولي.
3- التوكيل بالبيع والشراء، أي أن يتولى الوكيل طرفي العقد .
للأسباب التالية:
1-إن العمل الآن على جواز هذه المعاملات، وإن كان يوجد فيها خلاف قوي.
2-لعدم إطالة البحث، والخروج به عن مقصوده .
3-إن مسألة التورق المصرفي مثلاً من المسائل الشائكة، ولهذا سوف تُبحث في الدورة القادمة لمجمع الفقه التابع لرابطة العالم الإسلامي، فمن الأولى عدم الاستعجال في بحثها؛ لأنه سيصدر فيها قرار من المجمع الفقهي.
وأخيراً:
فقد بذلت في هذا البحث جهدي وهو جهد المقل، فما أصبت فيه فمن الله تعالى وله الحمد والثناء، وما أخطأت فيه فمن نفسي وأستغفر الله.
وإني لأتوجه بالدعاء إلى الله قيوم السموات والأرض أن يأخذ بأيدينا إلى سواء السبيل، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وان يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على خاتم رسله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المبحث الأول: تصوير عمل البطاقتين
قال الفقهاء: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقبل أن نبدأ بالحكم على البطاقتين لابد من تصوير عملهما، ومن ثم بيان حكمهما.
أولاً: تصوير عمل بطاقة تيسير الأهلي:
جاء في شروط وأحكام بطاقة تيسير الأهلي:
( ميعاد الاستحقاق:تستحق كافة الالتزامات المترتبة على حامل البطاقة نتيجة إصدار البطاقة أو استعمالها في تاريخ إصدار البنك لكشف الحساب، وبحيث يقوم حامل البطاقة بسداد قيمة الرصيد (كاملاً أو يلتزم بسداد الحد الأدنى الواجب دفعه 5% من كامل المبلغ المستحق أو مبلغ 250 ريالاً أيهما أكثر) إلى البنك خلال 20 يوماً من تاريخ إصدار كشف الحساب وبالتالي تنشيط حد التيسير للمبلغ المتبقي.
وفي حالة عدم تسديد المبلغ كاملاً أو الحد الأدنى على الأقل يقوم البنك ببيع سلعة معينة يملكها البنك قيمتها تقارب المديونية ويبيعها على العميل بيعاً فضولياً ويقسط الثمن على 24قسطاً، وفي حالة عدم اعتراض العميل بعد إبلاغه بهذا التصرف خلال عشرين يوماً من تاريخ الكشف اللاحق يعتبر هذا إجازة منه بذلك.) أ.هـ
التوضيح:(/1)
مما لا يخفى أن هدف البطاقة الائتمانية هو إقراض حاملها، وذلك إما بالسحب الفوري من مكائن الصرف، أو من خلال ضمانه لدى التجار، حيث إن البنك يدفع عنه مستحقاته لدى التجار ومن ثم يطالبه فيما بعد بالسداد، وغالباً تحدد المدة بشهر أو تزيد قليلاً.
فإذا شغلت ذمة حامل البطاقة بالدين نتيجة استعمالها إما بالقرض أو الشراء، فإن مصدر البطاقة( البنك الأهلي) يتيح له السداد من خلال طريقين:
الطريق الأول: إما بالتسديد النقدي لكامل المبلغ.
الطريق الثاني: إذا لم يسدد كامل المبلغ، وحل الأجل، يقوم المصرف بعملية التورق، وذلك ببيع سلعة معينة يمتلكها البنك … الخ. كما هو مبين سابقاً.
ولتوضيح الصورة أكثر، جاء في التعريفات في نفس الاتفاقية ما يلي:
التيسير: هو صيغة تمويل معتمدة من هيئة الرقابة الشرعية تتيح الحصول على النقد على سبيل التورق.
حد التيسير الائتماني: هو مبلغ التمويل الشخصي الائتماني المعتمد من البنك الأهلي التجاري(البنك) لحامل البطاقة بناء على طلبه ليكون الطريقة الثانية (بجانب التسديد النقدي) لسداد حساب البطاقة الائتمانية الذي ينتج عن استخدام البطاقة من قبل حاملها "حامل البطاقة".
استعمالات حد التيسير الائتماني: يستخدم حد التيسير الائتماني لسداد حساب البطاقة الائتمانية فقط ويتم استخدامه لهذا الغرض بتفويض من حامل البطاقة.
استخدام حد التيسير الائتماني: هو أمر حامل البطاقة البنك بشراء سلعة/سلع وإعادة بيعها لتسديد جزء أو كل دين البطاقة الائتمانية وبالتالي سداد ثمن تلك السلع على 24 قسطاً شهرياً.
ثانياً: تصوير عمل بطاقة الخير التابعة للبنك السعودي الأمريكي
جاء في اتفاقية بطاقة الخير الائتمانية، الذي يصدرها البنك السعودي الأمريكي:
( في حالة عدم دفع كامل المديونية المطلوبة من عضو البطاقة فسوف يقوم سامبا بوقف البطاقة وفي حالة استمرار عدم الدفع يقوم سامبا بإلغاء البطاقة ولن يتم إصدار بطاقة بديلة إلا بعد سداد كامل المبلغ مع أن سامبا يتيح لعضو البطاقة فرصة لسداد المديونية عن طريق دخوله مع سامبا في عملية تورق تجنباً لإلغاء البطاقة.)
وجاء في نفس الاتفاقية:
( في حالة رغبة العميل في تغطية مديونية البطاقة عن طريق التورق تكون مدة البيع بالتقسيط 15 شهراً بمعدل ربح 16.30% على كامل المدة، وإذا كان المبلغ المتبقي على العميل أقل من خمسمائة ريال فلن يلبي البنك طلبه لتنفيذ عملية التورق.)
وجاء في الاتفاقية:
( نموذج وكالة)
أوكل السادة/ مكتب عبد العزيز القاسم للاستشارات الشرعية والنظامية في شراء سلع من إدارة الائتمان الشخصي لدى البنك السعودي الأمريكي (سامبا) بالتقسيط بغرض تنفيذ عمليات التورق في حال وجود رصيد مدين على بطاقة الخير الائتمانية في يوم الاستحقاق أو بعده من كل شهر وذلك حسب سجلات البنك.
كما أنني أوكل إدارة الائتمان الشخصي لدى سامبا ببيع السلع التي اشتريتها وذلك لطرف آخر حسب السعر السائد وقت البيع مع حق توكيل إدارة الائتمان الشخصي لدى سامبا لطرف آخر لإتمام عملية الوكالة واستخدام المبالغ المتحصلة لتسوية الرصيد المدين على بطاقة الخير الائتمانية. ويعتبر هذا التوكيل غير قابل للنقض طالما كانت اتفاقية بطاقة الخير الائتمانية سارية المفعول.)
وجاء في نشرة تعريفية لبطاقة الخير ما يلي:
(بطاقة الخير هي البطاقة الائتمانية الجديدة، الأولى والوحيدة المجازة من هيئة الرقابة الشرعية لدى سامبا والتي تستخدم في أي مكان حول العالم.
تتم عبر تنفيذ عملية التورق والتي من خلالها يقوم العميل بشراء سلع مملوكة من قبل البنك "معادن" بالأجل بسعر معين ويفوض البنك ببيع هذه السلع "معادن" حسب سعر السوق إلى طرف ثالث.
المبلغ الناتج من عملية بيع السلع"معادن" سوف يتم استخدامه لتسوية الرصيد القائم على بطاقة الخير الائتمانية في يوم الاستحقاق من كل شهر.)
وجاء فيها:
(متى يكون العميل مؤهلاً لتنفيذ عملية التورق؟
يجب على العميل على الأقل أن يقوم بتسديد الحد الأدنى المستحق على بطاقته في يوم تاريخ الاستحقاق، في حال عدم قيام العميل بسداد أي مبلغ فلن يتم تنفيذ عملية تورق. ويجب أن يكون المبلغ المتبقي بعد سداد الحد الأدنى يساوي خمسمائة ريال سعودي أو أكثر.)
التوضيح:
من الشروط المتفق عليها بين البنك المصدر وحامل البطاقة: أنه متى حل وقت السداد ولم يسدد حامل البطاقة فإنه تجرى عملية تورق بسلع مملوكة للبنك، ومن ثم يسدد الدين المستحق على البطاقة، وينشأ دين آخر على حامل البطاقة بسبب عملية التورق ولكن يقوم بتسديده خلال (15) عشر شهراً.
أوجه الشبه والاختلاف بين بطاقتي الخير والتيسير:
أما وجه الشبه:(/2)
فإن كل من البطاقتين تتيح لحاملهما سداد الدين -الذي أستحق بسبب استعمالهما – عن طريق إجراء عملية تورق، وذلك ببيع سلع مملوكة للبنكين على حامل البطاقة، ومن ثم يتولى البنكان بيع هذه السلع لمصلحة العميل على طرف ثالث، وتؤخذ القيمة ويسدد بها الدين الأول، وينشأ بعد ذلك دين جديد على حامل البطاقة يسدده خلال مدة معينة.
أما أوجه الاختلاف فكما يلي:
أولاً: تختلفان في عملية إجراء التورق:
ففي بطاقة التيسير عن طريق البيع الفضولي، حيث يتولى البنك إجراء عمليتي الشراء لحامل البطاقة والبيع لطرف ثالث لأجل مصلحة حامل البطاقة، ويعتبر التصرف نافذاً خلال عشرين يوماً إذا لم يعترض حامل البطاقة
أما بطاقة الخير فعن طريق التوكيل لطرف ثالث بشراء السلع، ومن ثم توكيل إدارة الائتمان الشخصي ـ وهو تابع للبنك الأمريكي ـ ببيعها لطرف آخر.
ثانياً: معدل الربح في بيع التورق
ففي بطاقة الخير : معدل الربح 16.15% وهو أكثر بكثير من معدلات الربح العالمية في بيع الأجل والمرابحة، بل إنه يشبه إلى حد ما معدلات الفائدة على بطاقات الائتمان الربوية العالمية، حيث أنها تحتسب أكثر فائدة ربا على مستعمليها مقارنة بمعدلات الفوائد الربوية الأخرى.
أما بطاقة الخير فلم يذكر بشأن معدلات الربح شيئاً.
ثالثاً: مدة الأجل في سداد عملية التورق.
ففي بطاقة التيسير (24) شهراً، أما في بطاقة الخير (15) شهراً.
المبحث الثاني: المخالفات الشرعية لعمل البطاقتين
من خلال الوصف السابق لعمل البطاقتين، يتضح للباحث أن فيهما مخالفات شرعية جلية، يمكن إيضاحها كالتالي:
المخالفة الأولى: أنهما من قلب الدين المجمع على تحريمه.
فسداد الدين في هاتين البطاقتين يتم عن طريق قلب الدين.
وقلب الدين: هو زيادة الدين في ذمة المدين بأي طريق كان.
قال شيخ الإسلام:" وأما إذا حل الدين وكان الغريم معسرا : لم يجز بإجماع المسلمين أن يقلب بالقلب لا بمعاملة ولا غيرها ; بل يجب إنظاره وإن كان موسرا كان عليه الوفاء فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره ولا مع إعساره"(3).
وجاء في مطالب أولى النهى شرح غاية المنتهى (4):( وحرم قلب دين ) مؤجل على معسر لأجل ( آخر اتفاقا ) قال الشيخ تقي الدين : ويحرم على صاحب الدين أن يمتنع من إنظار المعسر حتى يقلب عليه الدين , ومتى قال رب الدين : إما أن تقلب الدين , وإما أن تقوم معي إلى عند الحاكم , وخاف أن يحبسه الحاكم ; لعدم ثبوت إعساره عنده , وهو معسر , فقلب على هذا الوجه , كانت هذه المعاملة حراما غير لازمة باتفاق المسلمين , فإن الغريم مكره عليها بغير حق , ومن نسب جواز القلب على المعسر بحيلة من الحيل إلى مذهب بعض الأئمة فقد أخطأ في ذلك وغلط.
وقال الشيخ السعدي – رحمه الله - : " أعظم أنواع الربا قلب الدين على المدينين، سواء فعل ذلك صريحاً أو تحيلاً؛ فإنه لا يخفى على رب العالمين، فمن حل دينه على غريمه، ألزم بالوفاء، إن كان من المقتدرين، ووجب على صاحب الحق إنظاره إن كان من المعسرين"(5).
وقد اصطلح الحنابلة على تسمية هذه المعاملة بقلب الدين، بينما المالكية يسمونها : فسخ الدين بالدين.
قال الإمام القيرواني:" ولا يجوز فسخ دين في دين، مثل أن يكون شيء في ذمته، فتفسخه في شيء آخر لا تتعجله" (6) وقال: " وكان فسخ الدين أشد في الحرمة؛ لأنه من ربا الجاهلية"(7).
بل عده المالكية من أشد صور بيع الكالئ بالكالئ الذي هو محرم بالإجماع(8).
وقلب الدين له طريقان:
الطريقة الأولى:قلب الدين صراحة، وذلك بقول الدائن للمدين: إما أن تقضي وإما أن تربي، ويقول المدين: أنظرني أزدك. وهذا هو ربا الجاهلية.
الطريقة الثانية: قلب الدين بالحيلة، وهذا ما يتفنن به أكلة الربا، فيعمدون إلى معاملات ظاهرها الصحة؛ لأجل قلب الدين على المدين، ولهذه الطريقة عدة صور:
1-منها: أن يكون في ذمة شخص لآخر دراهم مؤجلة فيحل أجلها وليس عنده ما يوفيه، فيقول له صاحب الدين: أدينك فتوفيني فيدينه فيوفيه، وهذا من الربا بل هو مما قال الله فيه : :(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون ) [آل عمران:130] وهذه الصورة من أعمال الجاهلية حيث كان يقول أحدهم للمدين إذا حل الدين : إما أن توفي وإما أن تربي. إلا أنهم في الجاهلية يضيفون الربا إلى الدين صراحة من غير عمل حيلة وهؤلاء يضيفون الربا إلى الدين بالحيلة(9).
2-ومنها: أن يكون لشخص على آخر دين فإذا حل قال له: إما أن توفي دينك أو تذهب لفلان يدينك وتوفيني ويكون بين الدائن الأول والثاني اتفاق مسبق في أن كل واحد منهما يدين غريم صاحبه ليوفيه ثم يعيد الدين عليه مرة أخرى ليوفي الدائن الجديد.أو يقول: اذهب إلى فلان لتستقرض منه ويكون بين الدائن الأول والمقرض اتفاق أو شبه اتفاق على أن يقرض المدين. فإذا أوفى الدائن الأول قلب عليه الدين ثم أوفى المقرض ما أقترض منه، وهذه حيلة لقلب الدين بطريق ثلاثية(10).(/3)
3-ومنها: إذا حل الدين على المدين مثلاً(مائة ) ولا وفاء عنده، وأراد أن يدينه أيضاً مائة، جعل فائدة المائة الجديدة مضاعفة، فإن كانت فائدة المائة الأولى 2%، جعل فائدة المائة الثانية 4%، مراعاة للمائة الحالة، والمدين يلتزم بذلك لاضطراره(11).
4- ومنها: أن يكون للرجل دين على آخر، فيحل أجل الدين، وليس عند المدين ما يوفي به دينه، فيحتال الدائن ويعطي المدين المعسر نقوداً على أنها رأس مال سلم، لمبيع موصوف مؤجل في الذمة، ثم إن الدائن يستوفي بهذه النقود عن دينه السابق (12).وجاء في الدرر السنية: ومنها – أي المعاملات الربوية - : قلب الدين على المعسر، إذا حل الدين على الغريم، ولم يقدر على الوفاء أحضر طالب الدين دراهم، وأسلمها إليه في طعام في ذمته، ثم أوفاه بها في مجلس العقد، ويسمون هذا تصحيحاً، وهو فاسد ليس بصحيح، فإنه لم يسلم إليه دراهم، وإنما قلب عليه الدين الذي في ذمته، لما عجز عن استيفائه؛ والمعسر لا يجوز قلب الدين عليه(13).
وقد حرر هذه المسألة الموفق رحمه الله وقال : إذا كان له في ذمة رجل دينار، فجعله سلماً في طعام إلى أجل، لم يصح. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم، منهم مالك، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي. وعن ابن عمر أنه قال: لا يصلح ذلك. وذلك لأن المسلم فيه دين، فإذا جعل الثمن ديناً كان بيع دين بدين، ولا يصح ذلك بالإجماع(14).
5-ومنها: من له دين على شخص قد حل أجله فطالبه به فوجده معسرا بجميعه , ووجد عنده سلعة لا تفي به فأخذها منه في جميع الدين , ثم باعها له بأكثر من الدين , فهذا لا يجوز أيضا ; لأن السلعة التي خرجت من اليد وعادت إليها تعد لغوا , وكأنه فسخ ما في ذمة المدين في أكثر منه ابتداء فهو ربا الجاهلية(15).
6-ومنها: ما جاء في الموطأ : ( قال مالك في الرجل يكون له على الرجل مائة دينار إلى أجل فإذا حلت قال له الذي عليه الدين بعني سلعة يكون ثمنها مائة دينار نقدا بمائة وخمسين إلى أجل قال مالك هذا بيع لا يصلح , ولم يزل أهل العلم ينهون عنه قال مالك , وإنما كره ذلك ; لأنه إنما يعطيه ثمن ما باعه بعينه , ويؤخر عنه المائة الأولى إلى الأجل الذي ذكر له آخر مرة , ويزداد عليه خمسين دينارا في تأخيره عنه فهذا مكروه , ولا يصلح , وهو أيضا يشبه حديث زيد بن أسلم في بيع أهل الجاهلية أنهم كانوا إذا حلت ديونهم قال للذي عليه الدين إما أن تقضي , وإما أن تربي فإن قضى أخذوا , وإلا زادوهم في حقوقهم وزادوهم في الأجل ) . أهـ. قال الباجي : وهذا على ما قال ; لأن من كان له على رجل مائة دينار إلى أجل فاشترى منه عند الأجل سلعة تساوي مائة دينار بمائة وخمسين فقضاه دينه الأول , وإنما قضاه ثمن سلعته , وزاد خمسين دينارا في دينه لتأخيره به عن أجله فهذا يشبه ما تضمنه حديث زيد بن أسلم من بيوع الجاهلية في زيادتهم في الديون عند انقضاء أجلها ليؤخروا بها , ويدخله أيضا بيع وسلف ; لأنه إنما ابتاع منه هذه السلعة بمائة معجلة وخمسين مؤجلة ليؤخره بالمائة التي حلت له عليه , ووجوه الفساد في هذا كثيرة جدا(16).
7-ومنها : ما جاء في فتاوى شيخ الإسلام : " وسئل عن رجل له مع رجل معاملة فتأخر له معه دراهم فطالبه وهو معسر فاشترى له بضاعة من صاحب دكان وباعها له بزيادة مائة درهم حتى صبر عليه . فهل تصح هذه المعاملة ؟ فأجاب : لا تجوز هذه المعاملة ; بل إن كان الغريم معسرا فله أن ينتظره . وأما المعاملة التي يزاد فيها الدين والأجل فهي معاملة ربوية وإن أدخلا بينهما صاحب الحانوت . والواجب أن صاحب الدين لا يطالب إلا برأس ماله لا يطالب بالزيادة التي لم يقبضها "(17).
فإذا تقرر أن ما يجري عمله في بطاقتي الخير والتيسير إنما هو من قلب الدين المجمع على تحريمه، فإن من تعامل بها فإنه سيقع لازماً بمخالفتين عظيمتين،:
أحدهما: الوقوع في ربا الجاهلية.
الثاني: التحايل على الربا.
وإليك إيضاح ذلك .
المخالفة الثانية :أنهما داخلتان في ربا الجاهلية" إما أن تقضي وإما أن تربي".
إن أسوأ أنواع الربا وأشدها تحريماً هو ربا الجاهلية الذي يزيد فيه الدين لأجل تأخير الوفاء، فإذا حل الأجل قال الدائن:أتقضي أم تربي؟ ويقول المدين: أنظرني أزدك. وهذا هو الذي نزل فيه قوله تعال :يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون ) [ آل عمران:130].(18) وقوله جل شأنه: ( أضعافاً مضاعفة ) بيان لما يؤول إليه حال الربا من تضاعف الدين في ذمة المدين وما يترتب عليه من الظلم الفادح وأكل المال بغير حق. والأمة مجمعة على تحريم هذا النوع من الربا تحريماً قطعياً لا يتطرق إليه أدنى شك.
وجه الشبه بين ربا الجاهلية و عمل البطاقتين:(/4)
أن ما يحدث في بطاقتي الائتمان المشار إليهما هو من هذا الباب، فالبنك المصدر للبطاقة يخير العميل بين وفاء دينه الذي حل أجله وبين تأخير الوفاء مع زيادة الدين في ذمته من خلال التورق، ثم إذا حل أجل الدين الجديد تكرر الأمر مرة أخرى، فينمو الدين ويتضاعف في ذمة المدين، وهذا عين ربا الجاهلية. ولا يؤثر في هذه الحقيقة كونها تتم من خلال سلع أو بضائع غير مقصودة لأي من الطرفين؛ فإن العبرة بالحقائق والمعاني لا بالصور والمباني. والله شرع البيع والشراء لتحقيق مصلحة الطرفين، لا للاحتيال به على الربا.
ويؤيد ذلك ما ورد عن الإمام مالك:( قال مالك في الرجل يكون له على الرجل مائة دينار إلى أجل فإذا حلت قال له الذي عليه الدين بعني سلعة يكون ثمنها مائة دينار نقدا بمائة وخمسين إلى أجل قال مالك هذا بيع لا يصلح , ولم يزل أهل العلم ينهون عنه قال مالك , وإنما كُره ذلك ; لأنه إنما يعطيه ثمن ما باعه بعينه , ويؤخر عنه المائة الأولى إلى الأجل الذي ذكر له آخر مرة , ويزداد عليه خمسين دينارا في تأخيره عنه فهذا مكروه , ولا يصلح , وهو أيضا يشبه حديث زيد بن أسلم في بيع أهل الجاهلية أنهم كانوا إذا حلت ديونهم قال للذي عليه الدين إما أن تقضي , وإما أن تربي فإن قضى أخذوا , وإلا زادوهم في حقوقهم وزادوهم في الأجل ) . أهـ.
فالإمام مالك -رحمه الله – جعل هذه المعاملة التي فيها قلب للدين شبيهة بربا الجاهلية إما أن تقضي وإما أن تربي، و أما قول الإمام مالك " وإنما كُره ذلك" ليس المراد به الكراهة التي يحدها الأصوليون : ما نهي عنه نهياً غير جازم، أو ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، بل المراد بالكراهة عند السلف التحريم، خلافاً للمتأخرين فإنهم اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرم(19).
المخالفة الثالثة: أن فيهما تحايلاً على الربا.
من خلال ما سبق، تبين للباحث أن عمل البطاقتين ما هو إلا تحايل على الربا، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الاحتيال على ما حرمه الله تعالى بقوله:" لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل"(20).
وقال صلى الله عليه وسلم:"قاتل الله اليهود،حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها"(21).
وحقيقة الحيلة المحرمة أنها توسل بعمل مشروع لتحقيق غاية محرمة، فالبيع مشروع لكن التوسل به الزيادة الدين في ذمة المدين مقابل تأخير الوفاء توسل لغاية ونتيجة محرمة، فيكون البيع في هذه الحالة حيلة محرمة
قال الموفق:" ثبت من مذهب أحمد أن الحيل كلها باطلة" (22)، وقال:" الحيل كلها محرمة، غير جائزة في شيء من الدين، وهو أن يظهر عقداً مباحاً يريد به محرماً، مخادعة وتوسلاً إلى فعل ما حرم الله"(23).
وقال ابن القيم رحمه الله :" النبي صلى الله عليه وسلم قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم وهما قوله : { إنما الأعمال بالنيات , وإنما لكل امرئ ما نوى } فبين في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية , ولهذا لا يكون عمل إلا بنية , ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال , وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا , ولا يعصمه من ذلك صورة البيع …وإذا نوى بالفعل التحيل على ما حرمه الله ورسوله كان له ما نواه ; فإنه قصد المحرم وفعل مقدوره في تحصيله , ولا فرق في التحيل على المحرم بين الفعل الموضوع له وبين الفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له , لا في عقل ولا في شرع ; ولهذا لو نهى الطبيب المريض عما يؤذيه وحماه منه فتحيل على تناوله عد متناولا لنفس ما نهى عنه , ولهذا مسخ الله اليهود قردة لما تحيلوا على فعل ما حرمه الله , ولم يعصمهم من عقوبته إظهار الفعل المباح لما توسلوا به إلى ارتكاب محارمه , ولهذا عاقب أصحاب الجنة بأن حرمهم ثمارها لما توسلوا بجذاذها مصبحين إلى إسقاط نصيب المساكين , ولهذا لعن اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم الله عليهم أكله , ولم يعصمهم التوسل إلى ذلك بصورة البيع . وأيضا فإن اليهود لم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها فإنها بعد الإذابة يفارقها الاسم وتنتقل إلى اسم الودك , فلما تحيلوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك .
قال الخطابي : في هذا في الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوسل إلى المحرم ; فإنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه .(/5)
إذا تبين هذا فمعلوم أنه لو كان التحريم معلقا بمجرد اللفظ وبظاهر من القول دون مراعاة المقصود للشيء المحرم ومعناه وكيفيته لم يستحقوا اللعنة لوجهين : أحدهما : أن الشحم خرج بجمله عن أن يكون شحما , وصار ودكا , كما يخرج الربا بالاحتيال فيه عن لفظ الربا إلى أن يصير بيعا عند من يستحل ذلك ; فإن من أراد أن يبيع مائة بمائة وعشرين إلى أجل فأعطى سلعة بالثمن المؤجل ثم اشتراها بالثمن الحال , ولا غرض لواحد منهما في السلعة بوجه ما , وإنما هي كما قال فقيه الأمة دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة ; فلا فرق بين ذلك وبين مائة بمائة وعشرين درهما بلا حيلة ألبتة , لا في شرع ولا في عقل ولا عرف , بل المفسدة التي لأجلها حرم الربا بعينها قائمة مع الاحتيال أو أزيد منها , فإنها تضاعفت بالاحتيال لم تذهب ولم تنقص ; فمن المستحيل على شريعة أحكم الحاكمين أن يحرم ما فيه مفسدة ويلعن فاعله ويؤذنه بحرب منه ورسوله ويوعده أشد الوعيد ثم يبيح التحيل على حصول ذلك بعينه سواء مع قيام تلك المفسدة وزيادتها بتعب الاحتيال في معصية ومخادعة الله ورسوله . هذا لا يأتي به شرع ; فإن الربا على الأرض أسهل وأقل مفسدة من الربا بسلم طويل صعب التراقي يترابى المترابيان على رأسه، فيا لله العجب , أي مفسدة من مفاسد الربا زالت بهذا الاحتيال والخداع ؟ فهل صار هذا الذنب العظيم عند الله هو من أكبر الكبائر حسنة وطاعة بالخداع والاحتيال ؟ ويا لله , كيف قلب الخداع والاحتيال حقيقته من الخبيث إلى الطيب ومن المفسدة إلى المصلحة وجعله محبوبا للرب تعالى بعد أن كان مسخوطا له ؟ ولئن كان هذا الاحتيال يبلغ هذا المبلغ فإنه عند الله ورسوله بمكان ومنزلة عظيمة وإنه من أقوى دعائم الدين وأوثق عراه وأجل أصوله .
ويا لله العجب , أي فرق بين بيع مائة بمائة وعشرين درهما صريحا وبين إدخال سلعة لم تقصد أصلا بل دخولها كخروجها ؟ ولهذا لا يسأل العاقد عن جنسها ولا صفتها ولا قيمتها ولا عيب فيها ولا يبالي بذلك ألبتة حتى لو كانت خرقة مقطعة أو أذن شاة أو عودا من حطب أدخلوه محللا للربا , ولما تفطن المحتالون أن هذه السلعة لا اعتبار بها في نفس الأمر , وأنها ليست مقصودة بوجه , وأن دخولها كخروجها – تهاونوا بها , ولم يبالوا بكونها مما يتمول عادة أو لا يتمول , ولم يبال بعضهم بكونها مملوكة للبائع أو غير مملوكة , بل لم يبال بعضهم بكونها مما يباع أو مما لا يباع كالمسجد والمنارة والقلعة , وكل هذا وقع من أرباب الحيل , وهذا لما علموا أن المشتري لا غرض له في السلعة فقالوا : أي سلعة اتفق حضورها حصل بهذا التحليل."(24)
المخالفة الرابعة: أنهما داخلتان في حديث " نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع".
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع،ولا ربح ما لم يضمن،ولا بيع ما ليس عندك"(25)
قال ابن القيم – رحمه الله - :" وأما السلف والبيع: فلأنه إذا أقرضه مائة إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة: فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك."(26)
ووجه الشبه بين هذا التفسير للحديث وعمل البطاقتين:
أن العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها: هي علاقة مقرض يتمثل في مصدر البطاقة، ومقترض هو حامل البطاقة.
فحامل البطاقة إما أن يشتري سلعاً ومن ثم يقوم البنك بالسداد، ويكون هذا المبلغ ديناً في ذمة حامل البطاقة، أو أنه يسحب مبلغاً نقدياً من مكائن الصرف، وفي كلا الحالتين تكون ذمة حامل البطاقة مشغولة للبنك المصدر لها، ويحدد له يوماً يقوم بسداد الدين فيه.
وعند الرجوع إلى اتفاقية عمل البطاقتين نجد أن البنك السعودي الأمريكي وضع من ضمن الاتفاقية أنه متى حل سداد الدين ولم يسدد حامل البطاقة فإنه سوف يجري عملية تورق بالوكالة.
وأما البنك الأهلي فقد قرر في الاتفاقية أنه متى حل الدين فإنه سيجري عملية التورق من خلال التصرف الفضولي.
وفي كلا الحالتين: نجد أن البنكين اشترطا في عملية الإقراض أنه متى حل موعد سداد الدين ولم يسدد حامل البطاقة فإنه تجرى عملية التورق، فهنا اجتمع في هذه المعاملة سلف وبيع.
المخالفة الخامسة: أنهما داخلتان في حديث " نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة".
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة. وفي لفظ " من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا"(27).
قال الإمام الخطابي – رحمه الله - في بيان معنى الحديث:" كأن يسلفه ديناراً في قفيزين إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالبر، قال له: بعني القفيز الذي لك علي بقفيزين إلى شهر. فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول فصار بيعتين في بيعة فيردان إلى أوكسهما وهو الأصل، فإن تبايعا المبيع الثاني قبل أن يتناقضا الأول كانا مرتبين" معالم السنن (2/104)(/6)
وتوضيح ذلك: أن المراد به قلب الدين على المعسر في صورة بيع الدين المؤجل على المدين إلى أجل آخر بزيادة عليه.
ووجه الشبه بين هذا التفسير وعمل البطاقتين كالتالي:
ففي عمل البطاقتين لما حل الأجل وكان صاحب البطاقة مديناً للبنك بريالات، وليس عنده ما يوفيه، فكأنه باع هذا الدين بدين آخر إلى أجل مع زيادة، ولكن أدخلا بينهما سلعة عن طريق التورق. فاجتمع في المعاملة بيعان، فإما أن يأخذان بالبيع الأول وهو الدين الأقل، وإما أن يتمان البيع الثاني، فيقعان في النهي وهو الربا.
وهذا التفسير للحديث لا يمنع التفسير المشهور عن شيخ الإسلام وابن القيم بأن المراد بالحديث بيع العينة، من وجهين:
الأول: أن في كلا الصورتين تحايل على الربا.
الثاني: إن من القواعد المقررة عند أهل العلم: أنه إذا احتمل اللفظ أكثر من معنى وليس بينهما تعارض فإنه يحمل عليهما.
فكل معاملتين ظاهرهما الصحة وباطنهما التحايل على أكل الربا فهما داخلتان في النهي الذي في الحديث، فيشمل الحديث بيع العينة وقلب الدين وغيرها من المعاملات.
وأخيراً:
هذه بعض المخالفات على هاتين البطاقتين، وأحسب أن هذا البحث ما هو إلا بداية لبحوث أخرى من العلماء وطلاب العلم المهتمين بهذه المعاملات، وإني أدعو الباحثين إلى تجلية هذا الأمر وزيادة بحثه، حتى يكون الناس على بصيرة من أمرهم.
فوالله لو ترك هذا الأمر ومر مرور الكرام فلن يكون ربا في البنوك، وسينتهي الربا إلى غير رجعة بالتحايل عليه، وسيصعب رد الناس عنه إذا انغمسوا فيه.
ونحن بأمس الحاجة إلى الرجوع إلى الله، والتوبة إليه، فالأمة تعيش في عصر تكالب عليها أعداء الله من كل جانب، والنصر لا يأتي إلا من عند الله، وكيف ندعو الله النصر؛ ونحن نحاربه بأكل الربا .
كما أدعو القائمين على الهيئات الشرعية الذين أجازوا مثل هذه المعاملات أن يبينوا لنا مسلك إباحتهم لهذه المعاملة بالأدلة الصريحة الصحيحة، حتى تظهر للعيان حجج الطرفين ومسلك كل فريق.
وإني لأتوجه بالدعاء إلى الله قيوم السموات والأرض أن يأخذ بأيدينا إلى سواء السبيل، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وان يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على خاتم رسله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
________________________________________
(1) بطاقات الائتمان، للشيخ بكر أبو زيد ص 11
(2)انظر: الإجماع لابن المنذر ص 95، المغني (6/436) ط هجر.
(3) مجموع الفتاوى (29/419)
(4) (3/62)
(5) الفتاوى السعدية (ص 353).
(6) الفواكه الدواني 2/101.
(7) المصدر السابق.
(8)انظر: شرح حدود ابن عرفه ص253، الفواكه الدواني 2/101.
(9)رسالة المداينة للشيخ محمد العثيمين رحمه الله (ص 14-15).
(10)الفتاوى السعدية (ص 350)، رسالة المداينة (ص 15-16).
(11)الفتاوى السعدية (ص 352).
(12) نيل المآرب في تهذيب عمدة الطالب، للشيخ عبد الله البسام (3/86).
(13) الدرر السنية في الأجوبة الحنبلية (6/117). وهي فتوى لأبناء الشيخ محمد وهم:حسين وإبراهيم وعبدالله وعلي.
(14) المغني (6/410)، الإنصاف (4/34).
(15) الفواكه الدواني (2/102).
(16) المنتقى شرح الموطأ (5/66)6
(17)مجموع فتاوى شيخ الإسلام (29/439)
(18) تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل القرآن ) (7/204).
(19) إعلام الموقعين (2/75-81).
(20) رواه ابن بطة في إبطال الحيل، وقواه شيخ الإسلام في بيان الدليل ص55، ط المكتب الإسلامي.
(21) رواه البخاري في كتاب: البيوع، باب: بيع الميتة والأصنام ( الحديث رقم 2236)، وأخرجه في كتاب التفسير، باب :" وعلى
الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما" (الحديث رقم 4633)، وأخرجه أيضاً في كتاب
المغازي، باب:51، (الحديث رقم 4296)، ورواه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، (الحديث رقم 4024).
(22) المغني (6/116).
(23) المغني (6/154).
(24) إعلام الموقعين 4/522-527).
(25) أخرجه أبو داود في كتاب: البيوع، باب: في الرجل يبيع ما ليس عنده، (الحديث رقم 3504)، والترمذي في كتاب: البيع
باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك، (الحديث رقم 1234)، والنسائي في كتاب:البيوع، باب :شرطان في بيع، ( الحديث
رقم (4644)، وأحمد في المسند (حديث رقم 6633). والحديث صححه ابن تيمية في الفتاوى الكبرى 6/177، وحسنه الألباني في إرواء الغليل 5/146-148.
(26) التعليق عل سنن أبي داود، (عون المعبود 9/402).
(27) أخرجه الترمذي في كتاب :البيوع ، باب ما جاء في النهي عن بيعتين في بيعة، (الحديث رقم 1231)،والنسائي في كتاب :البيوع
باب: بيعتين في بيعة،(الحديث رقم 4646)، وأحمد في المسند (حديث رقم 9795)، وحسنه الألباني إرواء الغليل (5/149.(/7)
المخبر ... وجريمة الغراب
شعر: داود معلا
يرتعش الباب وجوف الليل يشتد
على الأبواب
وفي السرير يرقد الغلام ..
ويقرع الباب وصوت مثل صوت البوم
والغراب
يشتد قرع الباب ..
لا تفتحي يا جدتي ..
لكنني ..فتحت ...
نظرت في الأحداق
نظرت في عيونهم ..
شيئاً من البصاق
ووقفت تنظر من بعيد
أصابع النفاق .. تقدم الصلاة للعبيد
***
وهكذا يرتفع الستار
وتبدأ القصة من جديد
***
لم يجدوا شيئاً سوى هذا الكتاب
وغادروا مثل الكلاب ..
.. هذا الكتاب ... ؟
يكفي بأنه طريقنا .. للحرب والسلام
وأنه الأمان والإيمان
وأنت يكفيك بأن الخزي فيك
فأنت في كل يد تلوثت شريك
***
لو كنت يوماً حفنة من طين ، من تراب
وجئت يوماً تسأل الأيام
عن مدارها .. وتسأل السحاب
عن موكب النصر إذا طاف به
وعانق التراب
واهتزت الأرض من الفرحة
بالنصر على أيلول
ولبست ثيابها الحقول
فربما تروي لك الحقول عن خصابها
وكيف مات البوم مغشياً على ترابها
وانتحر الغراب
***
ويسقط الرعب على الجدار
يسأل عن مشانق
منصوبة ... ونار
وأنت تبدو من خلال الرعب
كالسعال
تبدو بلا قلب بلا وجه
بلا انفعال
تسألك النساء والأطفال
يسألك السؤال
من أنت ...؟
يا محملقاً ... في الليل والنهار
من أنت يا ... يا بائع الأسرار ..
من أنت من تكون
حنجرة مليئة ... بالشك والظنون
لو كنت يوماً حفنة
من طين .. من تراب
تسير في شوارع الماضي .. بلا ركاب
تحمل فوق رأسك الكبير
جثة هابيل ..
وتمشي .. تائهاً في الغاب
تبحث عن غراب ..
عن قاتل يريك كيف يلتقي التراب
بالتراب
***
ماذا ترى لو خانك الزمان
ما وأنت هارب
تبحث في الأيام عن مكان
فلست في ترابنا الطهور
ترابنا من نور
ترابنا من نار ... من معدن الماس
من المحار..
وأنت من هناك ..
من موطن الدمار
من بلد الأقزام والصغار
من بلد اليضرب فيه الناس بالنعال
وتطرد الرجال من بلادها
وتحرم النساء من أولادها
ويسحق الأطفال
وأنت ما تزال
تمضغ ما قيل ... وما يقال
وفي بلاد الكفر والضلال
ترفل في ثيابها الكلاب
يا بوم ... يا غراب
***
إن لنا ... نواة
عريقة ... قوية الحياة
تكبر ألف مرة في اليوم
تسقى بماء الصوم
والصلاة
وهكذا ... ينتشر الضياء
ويعتلي مكانه ... السواك
وأنت ... أنت لم تزل هناك
مسمراً .. مقيداً ..
برعشة الموت .. بلا حراك
وفجأة .. تدور عيناك إلى اليمين
وإلى الشمال
وترتمي ... كربطة من قنب
أصابها الهزال
وتنتهي ممداً .. تحت التراب
جيفة .
كومة عظم .. في الثرى
سخيفة ...(/1)
المختصر الصحيح
عن الموت والقبر والحشر
جمع وترتيب
عبد الكريم محمد نجيب
رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبيه الأمين, وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن سار على نهجهم واقتدى بهديهم إلى يوم الدين وبعد:
فإن الموت حقيقة لا ينكرها مؤمن ولا كافر, وحتى تُنال العبرة منه لا بد من الإحاطة بحقيقته وبما يسبقه وبما يتبعه أو بقدر كاف من ذلك.
وكنت فيما مضى أشهد مجالس العزاء وأسمع أسئلة وأجوبةً لا أرتاح لبعضها لعدم التأكد من صحتها, ممّا جعلني أشعر بالحاجة للوقوف على الصحيح والاقتصار عليه ونبذ ما سواه من أخبار الموت والحياة البرزخيّة والحشر واليوم الآخر حتى وقفت على كتبٍ عديدة في هذا الباب، من أشهرها كتاب «التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة» للإمام القرطبي -رحمه الله- وهو من أجود ما كتب في الموضوع إلا أن مؤلفه لم يخرج الأحاديث والآثار الواردة فيه وتوسع في بعض أبوابه، وبالتالي فإن القارئ غير المتخصص لا يتمكّن من الإفادة الكاملة من الكتاب المذكور.
كما اطلعت على كتاب «الروح» للإمام ابن قيم الجوزية -رحمه الله- فوجدته مثل سابقه يحوي عدداً كبيراً من الأحاديث غير المخرجة إضافة إلى أن كلاً من الكتابين كبير الحجم مما يجعل همم الكثيرين من أهل زماننا تقصر عن مطالعته ، و اطلعت على غيرهما مما تناول الموضوع فوجدت في معظمها التهاون في اختيار الصحيح من الأخبار في كل باب .
ولأهمية الموضوع عقدت العزم على الكتابة فيه مع ثقتي بأن أهل العلم -وما أكثرهم ولله الحمد- قد كتبوا وسيكتبون وبتوسع فيه .
وأما اليوم الآخر فهو يوم ينصف الله فيه المظلوم من الظالم، فهو يوم العدل والجزاء وقد دل عليه النقل من القرآن والسنة والإيمان به ركن من أركان الإيمان،كما دل عليه العقل لأن تكرار ما هو موجود ممكن ففي هذه الدنيا مظالم لا يعاقب الظالم فيها على ظلمه وإنما جعل الله يوم القيامة لذلك قال تعالى: { فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم } [محمد: 18]، وقال تعالى: { ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون } [يس: 51]، النفخة هي النفخة الثانية نفخة البعث. ولقد تحدث العلماء عن أشراط الساعة وعن البعث بالتفصيل وأطالوا في ذلك فذكروا كل ما وصلهم من أحاديث وروايات وآراء ما صح منها وما لم يصح0 وإذا كان خاصة الناس يتمكنون من تمييز الحديث الصحيح من الضعيف فإن ذلك ليس بوسع العامة, من أجل ذلك كتبت هذا البحث واقتصرت على الاستشهاد ببعض آيات الكتاب المبين وببعض ما صح عن رسول الله (.
والغاية من تقديم هذا الجهد المتواضع للمكتبة الإسلاميّة بعد التماس رضوان الله تعالى والتقرّب إليه بما أحتسبه عنده ، تنبيه القارئ إلى ما ينبغي على كلّ مسلم القيام به من الإعداد والاستعداد للرحيل بالعلم النافع والعمل الصالح قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
وقد اختصرت في ذلك ما وسعني الاختصار ليصبح البحث سهل التناول من قبل العامة أما الخاصة فيمكنهم الرجوع إلى ما كتبه السلف والخلف من المطولات،واكتفيت بذكر بعض أحاديث الصحيحين وبعض ما صح عند بقية علماء الحديث لأن كل ما في الصحيحين صحيح،لكنه ليس كل الصحيح. وإذا رأى هذا البحث النور وأعانني الله فسوف أكتب حول الجنة والنار وما فيهما من نعيم في الجنة وعذاب في النار لأنفع نفسي قبل غيري،فهو حسبي ونعم الوكيل وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
( ( ( ( ( (
عبد الكريم محمد نجيب
حلب 1/1/2002
[ 1 ]
النهي عن تمني الموت والدعاء به لضر نزل في المال والجسد
1- عن أنس بن مالك ( قال: قال رسول الله (: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به, فإن كان لا بد متمنياً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي, وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي» أخرجه البخاري ومسلم.
2- عن أبي هريرة ( قال: قال رسول الله (: «لا يتمنين أحدكم الموت, إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً, وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب» أخرجه البخاري. ويستعتب: يرجع عن الإساءة ويتوب.
3- وعنه قال: قال رسول الله (: «لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدعُ به من قبل أن يأتيه, إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله, وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراًً» أخرجه مسلم.
( ( ( ( ( (
[ 2 ]
جواز تمني الموت والدعاء به خوف ذهاب الدين
قال الله عز وجل مخبراً عن يوسف (: { توفني مسلماً وألحقني بالصالحين } [يوسف: 101]، أي إذا جاء أجلي توفني مسلماً, أي تمنى الوفاة على الإسلام.
وقال تعالى مخبراً عن مريم: { يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً } [مريم: 23]، وقد تمنت الموت لسببين:
الأول: لأنها خافت أن يُظن بها السوء في دينها وتُعير فيفتنها ذلك.
الثاني: لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والزور والنسبة إلى الزنا وذلك مهلك لهم.(/1)
4- عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال: «لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه» أخرجه البخاري ومسلم.
5- عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله (: «اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين،وإذا أردت في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون» أخرجه مالك والترمذي.
( ( ( ( ( (
[ 3 ]
ذكر الموت وفضله والاستعداد له
6- عن أبي هريرة ( قال: قال رسول الله (: «أكثروا ذكر هادم اللذات»، يعني الموت. أخرجه النسائي وأحمد وابن ماجه والترمذي. وعن أبي سعيد الخدري ( قال: دخل رسول الله ( مصلاه فرأى ناساً يكثرون فقال: « أما أنكم لو أكثرتم من ذكر هادم اللذات لشغلكم عما أرى فأكثروا ذكر هادم اللذات»، أي لو أكثروا من ذكر الموت لشغلهم ذلك عن الكلام الكثير الذي لا فائدة منه.
7- عن أبي قتادة ( قال: مُرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بجنازة فقال: «مستريح ومستراح منه»، قالوا يا رسول الله: ما المستريح والمستراح منه؟ فقال: «العبد المؤمن يستريح من تعب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله, والفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب»، أخرجه البخاري ومسلم.
قال الدقاق: من أكثر من ذكر الموت أُكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة, وقناعة القلب, ونشاط العبادة, ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة, وترك الرضى بالكفاف, والتكاسل في العبادة.
8- عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: كنت جالساً مع رسول الله ( فجاء رجل من الأنصار, فسلم على النبي ( فقال: يا رسول الله, أي المؤمنين أفضل؟ قال: «أحسنهم خلقاً» قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم للموت ذكراً وأحسنهم لما بعده استعداداً أولئك الأكياس»، أخرجه ابن ماجه ومالك.
وقال السدي في قوله تعالى: { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } [الملك: 2]، أي أكثركم للموت ذكراً واستعداداً وخوفاً وحذراً.
( ( ( ( ( (
[ 4 ]
ما يذكر بالموت والآخرة ويزهد في الدنيا
9- عن أبي هريرة ( قال: زار النبي ( قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: «استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يؤذن لي،واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي،فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» أخرجه مسلم.
وجواز زيارة الرجال للقبور متفق عليه, مختلف فيه للنساء, أما الشابات فحرام عليهن الخروج, وأما القواعد «العجائز» فمباح لهن, وجائز لجميع النساء إذا انفردن بالخروج عن الرجال, وأما الموضع أو الوقت الذي يخشى فيه الفتنة من اجتماع الرجال والنساء فلا يجوز ولا يحل, فبينا الرجل يخرج ليعتبر فيقع بصره على امرأة فيفتتن, وبالعكس فيرجع كل واحد من الرجال والنساء مأزوراً لا مأجوراً، والله أعلم.
من علاج القلوب القاسية:
1- الإقلاع عما هي عليه وحضور مجالس العلم والوعظ.
2- الإكثار من ذكر الموت(هادم اللذات ومفرق الجماعات وميتم البنين والبنات).
3- مشاهدة المحتضرين وسكراتهم ونزعاتهم وصورتهم بعد مماتهم.
10- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ( قال: «ليس الخبر كالمعاينة»، أخرجه ابن حبان وأحمد والبزار والطبراني والحاكم. أي أن معاينة ومشاهدة المحتضرين وزيارة القبور ومعاينة الدفن بعد تغسيل وتكفين الميت والصلاة عليه كل ذلك أبلغ وأنفع للاعتبار من سماع الأخبار دون المشاهدة.
( ( ( ( ( (
[ 5 ]
ما يقال عند زيارة القبور، وجواز البكاء عندها
11- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: كيف أقول إذا دخلت المقابر؟ قال: «قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين, ويرحم الله المستقدمين منا والمتأخرين, وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» وزاد في رواية: «أسأل الله لنا ولكم العافية» أخرجه مسلم.
12- وفي الصحيحين أنه ( مرّ بامرأة تبكي عند قبر لها فقال لها: «اتقي الله واصبري» أخرجه البخاري ومسلم. ويظهر أن هذه المرأة كانت جزعة فخشي ( عليها من النياحة وهي محرمة. أما البكاء فجائز لبكائه ( لما زار قبر أمه، وحين مات ابنه إبراهيم والبكاء على الميت عند قبره حزناً عليه أو رحمة له مما بين يديه جائز كما أبيح البكاء حين موته.قال الإمام البخاري رحمه الله: يعذب الميت ببعض بكاء أهله «بالنياحة» إذا كان النوح من سنته لقول الله تعالى: { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } [لتحريم: 6]، وقال النبي (: «كلكم راع ومسؤول عن رعيته»أخرجه البخاري ومسلم،فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت عائشة رضي الله عنها: { ولا تزر وازرة وزر أخرى } [الأنعام:164 ]، أي يعذب الميت بالنياحة عليه إن أوصى بذلك قبل موته أو كان من عادة أهله وأقاربه أو غيرهم النياحة ولم ينههم عنها قبل موته أما بكاء الحزن على الميت أو الرحمة به مما سيلاقيه فمباح.
( ( ( ( ( (
[ 6 ]
المؤمن يموت بعرق الجبين
13- عن بريدة ( أن النبي ( قال: «المؤمن يموت بعرق الجبين» أخرجه الترمذي وابن ماجه.(/2)
14- وفي حديث ابن مسعود (: «موت المؤمن بعرق الجبين،تبقى عليه البقية من الذنوب فيجازف بها عند الموت»، أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول. وقيل يعرق جبينه حياء من الله سبحانه لما اقترف من ذنوب.
( ( ( ( ( (
[ 7 ]
سكرات الموت
وصف الله سبحانه وتعالى شدة الموت في أربع آيات هي:
الأولى: قوله الحق: { وجاءت سكرة الموت بالحق } [ق: 19]
والثانية: قوله الحق: { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت } [الأنعام: 93]
والثالثة: قوله الحق: { فلولا إذا بلغت الحلقوم } [الواقعة: 83]
والرابعة: قوله تعالى: { كلا إذا بلغت التراقي } [القيامة: 26]
15- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء, فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: «لا إله إلا الله إن للموت سكرات» ثم نصب يديه فجعل يقول: «في الرفيق الأعلى» حتى قبض ومالت يده. أخرجه البخاري.
16- وعنها قالت: ما أغبط أحداً بهون موت, بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أخرجه الترمذي.
17- وعنها قالت: مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنه لبين حاقنتي(1) وذاقنتي(2)، فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجه البخاري.
أيها الناس: قد آن للنائم أن يستيقظ من نومه, وحان للغافل أن يتنبه من غفلته قبل هجوم الموت بمرارة كؤوسه, وقبل سكون حركاته, وخمود أنفاسه, ورحلته إلى قبره, ومقامه بين أرماسه.
- قال العلماء رحمة الله عليهم: إذا كان الموت قد أصاب ويصيب الأنبياء والمرسلين والأولياء والمتقين فما لنا عن ذكره مشغولون؟! وعن الاستعداد له متخلفون؟! { قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون }
[ص: 67-68] وما جرى على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين له فائدتان:
إحداهما: ... أن يعرف الخلق مقدار ألم الموت وأنه خفي خلا الشهيد فلا ألم لموته.
الثانية: ... ابتلاء الأنبياء والصالحين تكميل لفضائلهم ورفع لدرجاتهم وليس نقصاً في حقهم ولا عذاباً.
18- قال رسول الله (: «إن أشد الناس بلاءً في الدنيا الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل»، أخرجه البخاري وغيره.
( ( ( ( ( (
[ 8 ]
الموت كفارة لكل مسلم
19- إنما كان الموت كفارة بسبب ما يلقاه الميت في مرضه من الآلام والأوجاع وقد قال (: «ما من مسلم يصيبه أذى, من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها» أخرجه البخاري ومسلم.
20- عن عبيد بن خالد السلمي ( عن النبي (: «موت الفجأة أخذة أسف للكافر» أخرجه أبو داود. وعن عائشة رضي الله عنها: «إنه راحة للمؤمن وأخذة أسف للكافر» أخرجه الترمذي.
( ( ( ( ( (
[ 9 ]
حسن الظن بالله
21- عن جابر بن عبد الله ( قال: سمعت رسول الله ( يقول قبل وفاته بثلاثة أيام: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» أخرجه البخاري ومسلم.
22- عن أنس بن مالك ( أن النبي ( دخل على شاب وهو في الموت فقال: «كيف تجدك؟» فقال: أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي, فقال رسول الله (: «لا يجتمعان في قلب عبد مؤمن في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف» أخرجه ابن ماجه والترمذي.
23- عن وائلة بن الأسقع ( أن رسول الله ( قال: يقول الله في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء» أخرجه أحمد.
وعلى العبد أن يجمع بين الخوف والرجاء ويكون الخوف أغلب في حال الصحة والرجاء أغلب في حال المرض وهو أن الله يرحمه ويتجاوز عنه ويغفر له وينبغي لجلسائه أن يذكروه بذلك.
( ( ( ( ( (
[ 10 ]
تلقين المحتضر لا إله إلا الله
24- عن أبي سعيد الخدري ( قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» أخرجه مسلم وأصحاب السنن.
25- قال رسول الله (: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» أخرجه أبو داود وأحمد والحاكم. وفي رواية: «حرمه الله على النار».
وتلقين الشهادة للمحتضر سنة مأثورة فإن قالها ختم له بالسعادة،ولا يكثر من التلقين والإلحاح عليه إن قالها أو فهم ذلك عنه إن كان لا يستطيع الكلام والعبرة للقلب وتكون النجاة به وأما حركة اللسان وحده دون أن تكون ترجمة عما في القلب فلا فائدة فيها ولا عبرة عندها.
( ( ( ( ( (
[ 11 ]
من حضر المحتضر فليتكلم بخير، وليدع له إن مات
26- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله (: «إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون»، قالت: فلما مات أبو سلمة أتيت النبي ( فقلت يا رسول الله: إن أبا سلمة قد مات فقال: «قولي: اللهم اغفر لي وله واعقبني منه عقبى حسنة»، قالت فقلت: فأعقبني الله من هو خير منه: رسول الله (، أخرجه مسلم وأحمد وأصحاب السنن.
__________
(1) الحاقنة: المطمئن بين الترقوة والحلق.
(2) والذاقنة: نقرة الذقن.وقال الخطابي: الذاقنة: ما تناله الذقن من الصدر.(/3)
27- وعنها قالت: دخل رسول الله ( على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» فضج ناس من أهله, فقال: «لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون»، ثم قال: «اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين, واخلفه في عقبه في الغابرين, واغفر لنا وله يا رب العالمين, وافسح له في قبره, ونور له فيه»، أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود.
ويستحب حضور الصالحين وأهل الخير حين موت الميت ليذكروه, ويدعوا له ولمن يخلفه ويقولوا خيراً فيجتمع دعاؤهم وتأمين الملائكة فينتفع بذلك الميت ومن يصاب به ومن يخلفه.
( ( ( ( ( (
[ 12 ]
سوء الخاتمة،والعمل بالخواتيم
28- عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال: «إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار, وإن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له بعمل أهل الجنة» أخرجه مسلم.
29- عن سهل بن سعد (، عن النبي ( قال: «إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة, ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار, وإنما الأعمال بالخواتيم»، أخرجه البخاري ومسلم.
واعلم أن سوء الخاتمة- أعاذنا الله منها-لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه, وإنما تكون لمن كان له فساد في العقل, أو إصرار على الكبائر, وإقدام على العظائم, فينزل به الموت قبل التوبة.
30- عن سالم عن عبد الله قال: كان كثيراً ما كان النبي ( يحلف: «لا ومقلب القلوب» أخرجه البخاري.
31- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي ( يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك» فقلت: يا رسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء فهل تخشى؟ قال: «وما يؤمنني يا عائشة، وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الجبار إذا أراد أن يقلب قلب عبده قلبه» .
فعلينا إخلاص العمل لله والبعد عن الرياء والتوكل على الله ليثبت قلوبنا على طاعته فهو حسبنا ونعم الوكيل.
( ( ( ( ( (
[ 13 ]
رسل ملك الموت قبل الوفاة
32- عن أبي هريرة ( عن النبي ( قال: «أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة» أخرجه البخاري. أي لم يبق عذر لمن بلغ الستين من العمر. قال تعالى: { وجاءكم النذير } [فاطر: 37]، قيل: النذير هو القرآن،وقيل: الرسل إلى الناس, وقيل: هو الشيب عند كمال الأربعين, قال تعالى: { وبلغ أربعين سنة قال ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك } [الأحقاف: 15].
33- وفي الآثار النبوية: «من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة» أخرجه الترمذي.
فمن استمع إلى مواعظ ورثة الأنبياء «العلماء» وظهر الشيب في رأسه ووجهه وبلغ أربعين سنة ولم يتب ويستعد للدار الآخرة بالعمل الصالح فلا يلومن إلا نفسه إذا فاجأه الموت ولم يمهله ولم يقبل له عذر على ما فرط في جنب الله.
( ( ( ( ( (
[ 14 ]
التوبة وشروطها
قال الله تعالى: { ثم يتوبون من قريب } [النساء: 17]، أي قبل معاينة ملك الموت. وقال تعالى: { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } [النساء:18]، أي لا تقبل التوبة بعد الغرغرة ومشاهدة المحتضر لملك الموت. وقال تعالى: { وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } [النور:31].
وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً } [التحريم: 8].
تفيد الآيتان أن التوبة فرض على المؤمنين, ولها شروط أربعة: الندم في القلب, وترك المعصية في الحال, والعزم على أن لا يعود إلى مثلها, وأن يكون ذلك حياء من الله تعالى وخوفاً منه لا من غيره.ويجب الاعتراف بالذنب وكثرة الاستغفار الذي يحل عقد الإصرار ويثبت معناه في الجنان لا التلفظ باللسان فقط فأما من قال بلسانه: أستغفر الله وقلبه مصر على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار وصغيرته لاحقة بالكبائر.
روي عن الحسن البصري أنه قال: استغفارنا يحتاج إلى استغفار. هذا قوله في زمانه فكيف في زماننا هذا الذي يُرى فيه الإنسان مكباً على الظلم حريصاً عليه لا يقلع عنه،والسبحة في يده زاعماً أنه يستغفر من ذنبه وذلك استهزاء منه واستخفاف, فهو ممن اتخذ آيات الله هزواً، وفي التنزيل: { ولا تتخذوا آيات الله هزواً } [البقرة: 231].(/4)
والتوبة النصوح هي رد المظالم واستحلال الخصوم أي الاعتذار منهم وطلب المسامحة وإدمان الطاعات. والذنوب التي يتاب منها إما حق لله، وإما حق لغيره .فحق الله تعالى يكفي للتوبة منه الترك،وبعضها الترك مع القضاء ،كالصلاة والصوم ومنها الترك مع الكفارة كالحنث في الأيمان. وأما حقوق العباد فلا بد من إيصالها إلى مستحقيها فإن لم يوجدوا تصدق عنهم وإن كان الذي عليه الحق معسراً فعفو الله مأمول وفضله مبذول.أما إرضاء الخصوم فيكون برد عليهم ما غصبهم من مال، أو خانهم أو غلهم أو اغتابهم أو خرق أعراضهم،أو شتمهم،أو سبهم فيرضيهم بما استطاع ويتحللهم من ذلك أي يطلب منهم أن يسامحوه فإن انقرضوا ولهم عنده مال دفعه إلى الورثة فإن لم يعرف الورثة تصدق به عنهم واستغفر لهم بعد موتهم.
روي عن علي بن أبي طالب ( أنه رأى رجلاً قد فرغ من صلاته وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك سريعاً فقال له:يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين وتوبتك تحتاج إلى توبة, قال يا أمير المؤمنين: وما التوبة؟
قال: اسم يقع على ستة معان:
على الماضي من الذنوب: الندامة.
وتضييع الفرائض: الإعادة, ورد المظالم إلى أهلها.
وإدئاب النفس في الطاعة كما أدأبتها في المعصية.
وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية.
وأن تزين نفسك في طاعة الله كما زينتها في معصيته.
والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
وينبغي تغيير حال المعصية بحال الطاعة، وذلك بتغيير اللباس باستبدال ما عليه من حرام بالحلال, وإن كانت ثياب كبر وخيلاء استبدلها بأطمار متوسطة, وتغيير المجلس: بترك مجالس اللهو واللعب واستبدالها بمجالس العلماء والذكر والفقراء والصالحين،وتغيير الطعام بأكل الحلال وترك ما فيه شبهة فضلاً عن ترك الحرام وتغيير النفقة بترك الحرام وكسب الحلال وتغيير الزينة بترك التزين في الأثاث والبناء واللباس والطعام والشراب وتغيير الفراش بالقيام بالليل عوض ما كان يشغله بالبطالة والغفلة والمعصية كما قال تعالى: { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } [السجدة: 16]. وتغيير الخلق بأن ينقلب خلقه من الشدة إلى اللين ومن الضيق إلى السعة ومن الشكاسة إلى السماحة وتوسيع القلب بالإنفاق ثقة بالقيام على كل حال وتوسيع الكف بالسخاء والإيثار بالعطاء, وهكذا يبدل كل ما كان عليه كشرب الخمر بكسر الإناء سقي اللبن والعسل والزنا بكفالة الأرملة واليتيمة وتجهيزهما ويكون مع ذلك نادماً على ما سلف منه ومتحسراً على ما ضيع من عمره فإذا كملت التوبة بالخصال التي ذكرنا والشروط التي بينا تقبلها الله بكرمه كما قال تعالى: { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى } [طه: 82]، والأصل في التوبة الأحاديث الآتية:
34- حديث أبي هريرة ( في الرجل الذي قتل مائة نفس ثم سأل: هل له من توبة؟ فقال له العالم: ومن يحول بينك وبينها انطلق إلى أرض بني فلان فإن بها ناساً صالحين يعبدون الله, فاعبد الله معهم, ولا تعد إلى أرضك فإنها أرض سوء، أخرجه مسلم وأحمد.
35- قال مغفل لابن مسعود رضي الله عنه: أسمعت رسول الله ( يقول: «إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله عز وجل تاب الله عليه؟» فقال: نعم سمعته يقول: «الندم توبة» أخرجه ابن ماجه وأحمد.
36- عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله ( يقول: «إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه» أخرجه البخاري ومسلم.
37- عن أبي هريرة ( قال: قال رسول الله (: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» أخرجه مسلم وأحمد وأصحاب السنن الأربعة.
قال تعالى: { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } [النساء: 31].
دلت هذه الآية والحديث الذي قبلها على أن الذنوب كبائر وصغائر وأن الصغائر كاللمسة والنظرة نكفر باجتناب الكبائر مع إقامة الفرائض وذلك بوعده الصدق وقوله الحق, لا أنه يجب عليه ذلك. والكبائر هي الذنوب التي ورد الوعيد على مرتكبها باللعن أو الغضب أو النار في القرآن والسنة أو في أحدهما،وما عدا الكبائر فالذنوب صغائر ولا بد لتكفير الكبائر من التوبة منها والإقلاع عنها.
( ( ( ( ( (
[ 15 ]
لا تخرج روح العبد حتى يبشر ويصعد بها(/5)
38- عن أبي هريرة (، عن النبي ( قال: «تحضر الملائكة فإذا كان الرجل صالحاً قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان, فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج, ثم يعرج بها إلى السماء فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان بن فلان فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب, ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان, فلا يزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله تعالى, [أي فيها أمر الله وحكمه أي يذهب بها إلى عليين] فإذا كان الرجل السوء قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث, اخرجي ذميمة وأبشري بجحيم وغساق وآخر من شكله أزواج, فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج, ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث, ارجعي ذميمة فإنها لا تفتح لك أبواب السماء, فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر» أخرجه ابن ماجه وأحمد.
39- عن عبادة بن الصامت (، عن النبي ( قال: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه, ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» فقالت عائشة - أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت, فقال: «ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان من الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه» أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه.
( ( ( ( ( (
[ 16 ]
تلاقي الأرواح في السماء،والسؤال عن أهل الأرض
40- عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال الحديث وفيه: «فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحاً من أحدكم بغائبه يقدم عليه فيسألونه: ما فعل فلان؟ ما فعلت فلانة؟ فيقولون: دعوه فإنه كان في غم الدنيا فإذا قال: أو ما أتاكم؟ قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية» أخرجه النسائي. وفي الحديث أن الأموات يجهلون أحوال الأحياء ولا يدرون ما عملهم ولا متى أجلهم، أخرجه النسائي.
41- قال (: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف, وما تناكر منها اختلف» أخرجه البخاري ومسلم. قيل هذا التلاقي، وقيل:تلاقي أرواح النيام والموتى،وقيل غير هذا والله أعلم.
( ( ( ( ( (
[ 17 ]
نسبة الخلق والتصوير والوفاة للملك نسبة مجازية
قال تعالى: { الله يتوفى الأنفس حين موتها } [الزمر: 42].
وقال تعالى: { وهو الذي أحياكم ثم يميتكم } [الحج: 66].
وقال تعالى: { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } [الأعراف: 11].
وقال تعالى: { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } [السجدة: 11].
وقال تعالى: { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة } [الأنفال:50].
وقال تعالى: { توفته رسلنا } [الأنعام: 61].
42- عن ابن مسعود ( قال: حدثنا رسول الله ( وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم بكون مضغة مثل ذلك, ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح» أخرجه البخاري ومسلم.
43- عن حذيفة بن أ سيد الغفاري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله ( يقول: «إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وشعرها وجلدها ولحمها وعظامها, ثم يقول: أي رب أذكر أم أنثى؟ وذكر الحديث»، أخرجه مسلم...ونسبة الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية, وقد تم التشكيل والتصوير بقدرة الله تعالى وخلقه واختراعه إذ لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين وهكذا القول في الحديث: «ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح»، أي أن النفخ فيه سبب يخلق الله فيه الروح والحياة, وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة فإنه بإحداث الله تعالى لا بغيره.
( ( ( ( ( (
[ 18 ]
تحسين الكفن والإسراع بالجنازة وكلامها
44- عن جابر بن عبد الله (، عن النبي ( قال: «إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه إن استطاع» أخرجه مسلم.
45- عن أبي سعيد الخدري (: كان النبي ( يقول: «إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم, فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني, وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين تذهبون بها يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعه لصعق» أخرجه البخاري. وصعق: أي مات.
46- عن أبي هريرة (، عن النبي ( قال: «أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه, وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» أخرجه البخاري ومسلم.
والإسراع قيل معناه: الإسراع بحملها إلى قبرها في المشي وقيل: تجهيزها بعد موتها لئلا تتغير, والأول أظهر.
( ( ( ( ( (
[ 19 ]
هل ينتفع الموتى بشيء من سعي الأحياء أم لا؟
ينتفع الموتى بسعي الأحياء بأمرين مجمع عليهما بين أهل السنة من الفقهاء وأهل الحديث والتفسير:
أحدهما: ... ما تسبب إليه الميت في حياته.
الثاني: ... دعاء المسلمين واستغفارهم له والصدقة والصوم والحج مع التفصيل في الصوم والحج.(/6)
واختلفوا في قراءة القرآن والذكر. فجمهور السلف ومذهب أحمد وبعض أصحاب أبي حنيفة: الوصول. والمشهور من مذهب الشافعي ومالك: عدم الوصول.ولكل من الفريقين أدلته ولا مجال لذكرها هنا0
ونختم هذا الموضوع بأقوال أهل العلم بالصوم والحج عن الميت:
قال ابن عباس (: يصام عن الميت في النذر, ويُطعم عنه في قضاء رمضان, وهذا مذهب الإمام أحمد بن حنبل.
قال أبو ثور وداود بن علي: يصام عنه في النذر والقضاء.
قال الأوزاعي وسفيان الثوري في إحدى الروايتين عنه: يُطعم عنه وليه, فإن لم يجد صام عنه.
قال الحسن: إذا كان عليه صيام شهر فصام عنه ثلاثون رجلاً يوماً واحداً جاز.
والحج: عند الجمهور يصل ثواب العمل نفسه وعند بعض الحنفية يصل ثواب الإنفاق. وأدلة وصول ثواب الصدقة والصوم والحج كثيرة نكتفي بذكر دليل لكل عبادة تجنباً للإطالة في الأحاديث الثلاثة الآتية :
47- عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً أتى النبي ( فقال يا رسول الله: إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: «نعم» أخرجه البخاري ومسلم.
48- وعنها أن رسول الله ( قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» أخرجه البخاري ومسلم.
49- عن ابن عباس ( أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي ( فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: «حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله, فالله أحق بالقضاء» أخرجه البخاري.
( ( ( ( ( (
[ 20 ]
يدفن العبد في الأرض التي خلق منها
50- عن مطر بن عكامش ( قال: قال رسول الله (: «إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة»أو قال: «بها حاجة» أخرجه الترمذي.
قال العلماء رحمة الله عليهم: والفائدة أن يتنبه الإنسان ويتيقظ للموت والاستعداد له بحسن الطاعة والخروج عن المظلمة, وقضاء الدين, وإتيان الوصية بما له أو عليه في الحضر, فضلاً عن أوان الخروج عن وطنه إلى سفر, فإنه لا يدري أين كتبت منيته من بقاع الأرض.
( ( ( ( ( (
[ 21 ]
كل عبد يذر عليه من تراب حفرته
51- عن أبي هريرة (, قال: قال رسول الله (: «ما من مولود إلا وقد ذر عليه من تراب حفرته» أخرجه أبو نعيم في الحلية، أي أن نطفة الإنسان تعجن بتراب البقعة التي سيدفن فيها.
( ( ( ( ( (
[ 22 ]
ما يتبع الميت إلى قبره وما يبقى معه وهول المطلع
52- عن أنس بن مالك ( قال: قال رسول الله (: «يتبع الميت ثلاث, فيرجع اثنان ويبقى واحد: يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله» أخرجه البخاري ومسلم.
53- عن جابر بن عبد الله ( قال: قال رسول الله (: «لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد, وإن من السعادة أن يطول عمر العبد حتى يرزقه الله الإنابة» أخرجه أحمد والبزار.
قال أبو الدرداء (: «أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث: أضحكني مؤمل دنيا والموت يطلبه, وغافل ليس بمغفول عنه, وضاحك بملء فيه لا يدري أأرضى الله أم أسخطه؟ وأبكاني فراق الأحبة محمد ( وحزبه, وأحزنني هول المُطلع عند غمرات الموت, والوقوف بين يدي الله تعالى يوم تبدو السريرة علانية ثم لا يدري إلى الجنة أم إلى النار».
قال أنس بن مالك (: «ألا أحدثكم بيومين وليلتين لم تسمع الخلائق بمثلهن: أول يوم يجيئك البشير من الله تعالى إما برضاه وإما بسخطه, ويوم تعرض فيه على ربك آخذاً كتابك إما بيمينك وإما بشمالك, وليلة تستأنف فيها المبيت في القبر لم تبت فيه ليلة قط, وليلة تمخض صبيحتها يوم القيامة». وهول المطلع: عندما يطلع المحتضر على مقعده من الجنة أو النار وذلك عندما يرى ملك الموت.
( ( ( ( ( (
[ 23 ]
القبر أول منازل الآخرة
54- عن هانئ بن عثمان قال: كان عثمان ( إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فقيل له: تذكر الجنة والنار ولا تبكي, وتبكي من هذا؟ قال: إن رسول الله ( قال: «إن القبر أول منازل الآخرة: فإن نجا منه أحد فما بعده أيسر منه, وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه» أخرجه ابن ماجه.
55- عن جابر بن عبد الله ( قال: نهى رسول الله ( أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه» أخرجه مسلم
56- وعنه أيضاً: نهى رسول الله ( أن تجصص القبور, وأن يكتب عليها, وأن يبنى عليها, وأن توطأ» أخرجه الترمذي.
يكره تجصيص القبر لأن ذلك من المباهاة وزينة الحياة الدنيا والقبور منازل الآخرة, وليس بموضع للمباهاة, وإنما يزين الميت في قبره عمله
57- عن أبي الهياج الأسدي ( قال: قال لي علي بن أبي طالب (: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله (؟ «أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته, ولا قبراً مشرفاً إلا سويته» أخرجه مسلم.
قال العلماء: يسنم القبر ليعرف كي يحترم, ويمنع من الارتفاع الكثير الذي كانت تفعله الجاهلية, فإنها كانت تعلي عليها, وتبني فوقها تفخيماً لها وتعظيماً.(/7)
وقال أحد الصالحين: أيها الناس إني لكم ناصح, وعليكم شفيق, فاعملوا في ظلمة الليل لظلمة القبر, وصوموا في الحر قبل يوم النشور, وحجوا تحط عنكم عظائم الأمور, وتصدقوا مخافة يوم عسير.
( ( ( ( ( (
[ 24 ]
اختيار مكان الدفن وفضله في المدينة المنورة
58- عن أبي هريرة ( قال: أُرسل ملك الموت إلى موسى عليه الصلاة والسلام, فلما جاء صكه ففقأ عينه, فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت, قال: فرد الله إليه عينه وقال: ارجع إليه وقل له: يضع يده على متن جلد ثور, فله بما غطت يده بكل شعرة سنة, قال: أي رب, ثم مه؟ قال: ثم الموت, قال: فالآن, فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر, فقال رسول الله (: «لو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر» أخرجه البخاري ومسلم.
59- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ( قال: «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها, فإني أشفع لمن مات بها» أخرجه الترمذي.
قال العلماء رحمة الله عليهم: الأماكن لا تقدس أحداً ولا تطهره, وإنما الذي يقدسه من وضر الذنوب ودنسها التوبة النصوح مع الأعمال الصالحة.
أما لماذا أقدم موسى عليه الصلاة والسلام على ضرب ملك الموت فالجواب: «أخبر نبينا ( أن الله تعالى لا يقبض روح موسى عليه الصلاة والسلام حتى يخيره» أخرجه البخاري وغيره...فلما جاءه ملك الموت بدون تخيير لطمه بدليل: لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت, اختار الموت واستسلم, والله بغيبه أعلم وأحكم.
( ( ( ( ( (
[ 25 ]
ضغط القبر على صاحبه وإن كان صالحاً
60- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله ( قال في سعد بن معاذ: «هذا الذي تحرك له عرش الرحمن وفتحت له أبواب السماء, وشهده سبعون ألفاً من الملائكة لقد ضُم ضمة ثم فرج عنه» أخرجه النسائي.
61- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله (: «إن للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ» أخرجه أحمد.
والقبر إما لحد أو شق واللحد: هو أن يحفر للميت في جانب القبر, إن كانت الأرض صلبة وهو أفضل من الشق لأنه الذي اختاره الله لنبيه (.
62- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله (, بعثوا إلى أبي عبيدة وكان يضرح كضريح أهل مكة, وبعثوا إلى أبي طلحة وكان هو الذي يحفر لأهل المدينة وكان يلحد, فبعثوا إليهما رسولين, قالوا: اللهم خر لرسولك, فوجدا أبا طلحة فجيء به, ولم يوجد أبو عبيدة فلُحد لرسول الله (، أخرجه ابن ماجة.
63- وعنه قال: قال رسول الله (: «اللحد لنا والشق لغيرنا» أخرجه ابن ماجه والترمذي.
( ( ( ( ( (
[ 26 ]
الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه
قال الإمام البخاري رحمه الله: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته لقول الله تعالى: { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } [التحريم:6 ]، وقال النبي (: «كلكم راع ومسؤول عن رعيته» فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت عائشة رضي الله عنها: لا تزر وازرة وزر أخرى. وهو كقوله : { وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شئ } [فاطر : 18] ومعنى من سنته: أي من عادته كأن يوصي بالبكاء عليه، أو يعلم بأن أهله سيبكون عليه ولا ينهاهم0
( ( ( ( ( (
[ 27 ]
الوقوف عند القبر بعد الدفن،والدعاء للميت بالتثبيت
64- عن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت, الحديث: وفيه: «فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً, ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها, حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي عز وجل» أخرجه مسلم. وقد أوصى ( بأن لا تصحبه نائحة ولا نار، لأنهما من عمل الجاهلية ولنهي النبي (.
قال العلماء: ومن ذلك: الضجيج بذكر الله سبحانه وتعالى أو بغير ذلك حول الجنائز, والبناء على القبور, والاجتماع في الجبانات والمساجد والبيوت للقراءة وغيرها لأجل الموتى, وكذلك الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام والمبيت عندهم, كل ذلك من أمر الجاهلية ونحو منه الطعام الذي يصنعه أهل الميت اليوم في يوم السابع أو الثالث . وعلى الرجل أن يمنع أهله من فعل شيء من ذلك لقوله تعالى: { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } قال العلماء معناه: أدبوهم وعلموهم.
وقد أصبحت هذه الأمور عند الناس كالسنة لا يتركونها ومن حاول رد الناس إلى السنة وترك ما خالفها سخطوا عليه لأنه خالفهم ونهاهم عما اعتادوا عليه فالله يحسن تعويضه كما في الحديث الآتي:
65- عن ابن أبي موسى قال: أغمي على أبي موسى وأقبلت امرأته تصيح برنة,قال ثم أفاق,قال: ألم تعلمي - وكان يحدثها - أن رسول الله ( قال: «أنا بريء ممن حلق وسلق وخرق» أخرجه مسلم.
( ( ( ( ( (
[ 28 ]
سؤال الملكين للميت(/8)
66- عن أنس بن مالك ( قال: قال رسول الله (: «إن العبد إذا وضع في قبره, وتولى عنه أصحابه, إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد (؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله, فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله تعالى به مقعداً من الجنة فيراهما جميعاً»، قال قتادة: وذُكر لنا أنه يفسح له في قبره أربعون ذراعاً, قال مسلم سبعون ذراعاً, ويملأ عليه خضراً إلى يوم يبعثون, ثم رجع إلى حديث أنس قال: أما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري, كنت أقول ما يقول الناس, فيقال: لا دريت ولا تليت, ويضرب بمطارق من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين»أخرجه البخاري. معنى ولا تليت (الأصل ولا تلوت) أي: لم تدر، ولم تتل القرآن.
67- عن أبي هريرة ( عن النبي ( قال: «إن الميت يصير إلى القبر فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا مشغوف, ثم يقال له: فيم كنت؟ فيقول: كنت في الإسلام! فيقال: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمد رسول الله, جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه. فيقال له: هل رأيت الله؟ فيقول: لا, ما ينبغي لأحد أن يرى الله! فيفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً, فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله, ثم يفرج له فرجة قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها, فيقال له: هذا مقعدك.ويقال له: على اليقين كنت, وعليه مت, وعليه تبعث إن شاء الله تعالى. ويُجلس الرجل السوء في قبره فزعاً مرعوباً فيقال له: فيم كنت؟ فيقول: لا أدري, فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولاً فقلته, فيفرج له فرجة قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيه. فيقال له: انظر إلى ما صرفه الله عنك, ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً, فيقال: هذا مقعدك، على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله تعالى» أخرجه ابن ماجه.
( ( ( ( ( (
[ 29 ]
حديث البراء المشهور عن أحوال الموتى(/9)
68- عن البراء بن عازب ( قال: خرجنا مع النبي ( في جنازة رجل من الأنصار, فانتهينا إلى القبر ولما يلحد, فجلس رسول الله ( مستقبل القبلة, وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت في الأرض، فجعل ينظر إلى السماء وينظر إلى الأرض وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثاً، فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ثلاثاً»، ثم قال: «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه, كأن وجوههم الشمس ومعهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة, حتى يجلسوا منه مد البصر, ثم يجيء ملك الموت ( حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة - وفي رواية المطمئنة - اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان, قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء, فيأخذها - وفي رواية: حتى إذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء, وفتحت له أبواب السماء, ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يعرج بروحه من قبلهم - فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن, وفي ذلك الحنوط - فذلك قوله تعالى: { توفته رسلنا وهم لا يفرطون } [الانعام :61] ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض, قال: فيصعدون بها فلا يمرون - يعني - بها على ملك من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا, حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح لهم فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي به إلى السماء السابعة, فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين, { وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون } [المطففون :19]فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فيرد إلى الأرض وتعاد روحه في جسده، قال: فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه مدبرين فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه ويجلسانه فيقولان له من ربك؟ فيقول: ربي الله, فيقولان له ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام, فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله (, فيقولان له: وما أعلمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت, فينتهره فيقول: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن, فذلك حين يقول الله عز وجل: { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا } [إبراهيم :27]فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد (. فينادي مناد في السماء, أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة, وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة, قال: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره, قال: ويأتيه - وفي رواية: يمثل له - رجل حسن الوجه حسن الثياب, طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك أبشر برضوان من الله, وجنات فيها نعيم مقيم هذا يومك الذي كنت توعده, فيقول له: وأنت فبشرك الله بخير, من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير, فيقول: أنا عملك الصالح, فو الله ما علمتك إلا كنت سريعاً في إطاعة الله, بطيئاً في معصية الله, فجزاك الله خيراً ثم يفتح له باب من الجنة وباب من النار فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله, أبدلك الله به هذا! فإذا رأى ما في الجنة قال: رب عجل قيام الساعة, كيما أرجع إلى أهلي ومالي, فيقال له: اسكن.
قال: وإن العبد الكافر - وفي رواية الفاجر - إذا كان في انقطاع من الدنيا, وإقبال من الآخرة, نزل إليه من السماء ملائكة غلاظ شداد, سود الوجوه, معهم المسوح من النار, فيجلسون منه مد البصر, ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه, فيقول: أيتها النفس الخبيثة, اخرجي إلى سخط من الله وغضب, قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود - الكثير الشعب - من الصوف المبلول فتقطع معها العروق والعصب, فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء, وتغلق أبواب السماء, ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن لا تعرج روحه من قبلهم»,فيأخذها, فإذا أخذها, لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح, ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض, فيصعدون بها, فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا, حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له, ثم قرأ رسول الله (: { لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط }(/10)
[الأعراف: 40]فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين, في الأرض السفلى, ثم يقال: أعيدوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم, ومنها أخرجهم تارة أخرى - فتطرح روحه من السماء طرحاً حتى تقع في جسده ثم قرأ: { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } [الحج: 31] فتعاد روحه في جسده قال: فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه.
ويأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه ويجلسانه فيقولان له من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري, فيقولان له ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري, فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه, فيقال: محمد! فيقول: هاه هاه لا أدري, سمعت الناس يقولون ذاك! فيقال: لا دريت ولا تلوت, فينادي مناد من السماء أن كذب, فأفرشوا له من النار وافتحوا له باباً إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها, ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه - وفي رواية: ويمثل له - رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك, هذا يومك الذي كنت توعد, فيقول: وأنت فبشرك الله بالشر, من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر, فيقول: أنا عملك الخبيث. فو الله ما علمت إلا كنت بطيئاً عن طاعة الله, سريعاً إلى معصية الله, فجزاك الله شراً ثم يقيض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة لو ضرب بها جبلاً كان تراباً, فيضربه ضربة حتى يصير بها تراباً ثم يعيده الله كما كان, فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين ثم يفتح له باب من النار ويمهد من فرش النار فيقول رب لا تقم الساعة». تم الحديث بطوله أخرجه أبو داود والحاكم والطيالسي والآجري وأحمد والسياق له.
( ( ( ( ( (
[ 30 ]
من أسباب عذاب القبر
69- عن أبي هريرة ( عن النبي ( قال: « أكثر عذاب القبر من البول» -أخرجه ابن أبي شيبة-
70- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي ( على قبرين فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير وإنه لكبير ،أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنزه من بوله» أخرجه البخاري ومسلم.
( ( ( ( ( (
[ 31 ]
الاستعاذة من عذاب القبر ومن عذاب النار
71- عن أبي هريرة ( قال: كان رسول الله ( يدعو: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر،ومن عذاب النار،ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال» أخرجه البخاري.
72- عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله ( وعندي امرأة من اليهود وهي تقول: إنكم تفتنون في القبور, فارتاع رسول الله ( وقال: «إنما يفتن يهود»، قالت عائشة فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله (: «هل شعرت أنه أوحي إلي: أنكم تفتنون في القبور؟ قالت عائشة فسمعت رسول الله ( يستعيذ من عذاب القبر» أخرجه النسائي.
( ( ( ( ( (
[ 32 ]
ما ينجي من فتنة القبر وعذابه
تكون النجاة لخمسة وهم: المرابط, والشهيد, والذي يقرأ سورة الملك كل ليلة,والذي يموت بمرض البطن كالإسهال ونحوه, والذي يموت يوم أو ليلة الجمعة.
73- روى مسلم عن سلمان قال: قال رسول الله (: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن من الفتن» أخرجه مسلم.
والرباط : الملازمة في سبيل الله لثغر من ثغور المسلمين، فأما سكان الثغور المقيمون دائماً بأهلهم الذين يعمرون ويكتسبون هناك، فهم وإن كانوا حماةً فليسوا بمرابطين.
74- عن المقداد بن معد يكرب ( قال: قال رسول الله (: «للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة،ويرى مقعده من الجنة،ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر،ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها،ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ويشفع في سبعين من أقاربه» أخرجه الترمذي وابن ماجه.
وهذا الشهيد هو من توافرت فيه شروط شهداء أُحد، وهي:
أ- ... أن يموت في قتال الكفار تحت راية قائد مسلم لإعلاء كلمة الله.
ب- ... ألا يرتثّ: أي أن يموت متأثراً بجراحه فلا يتكلم ولا يعي ما حوله.
ج- ... أن لا تحصل ورثته على عوض مالي.
75- عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي (: «من قرأ سورة الملك كل ليلة جاءت تجادل عن صاحبها» وروي أنها المجادلة تجادل عن صاحبها يعني قارئها في القبر, وروي أن من قرأها كل ليلة لم يضره الفتان0» أخرجه الترمذي.
76- قال رسول الله (: «من يقتله بطنه لم يعذب في قبره» المبطون: هو الذي يموت بالإسهال ونحوه، أخرجه النسائي.
77- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (: «من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقاه الله فتنة القبر» أخرجه الترمذي.
( ( ( ( ( (
[ 33 ]
الميت يُعرض عليه مقعده بالغداة والعشي(/11)
78- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ( قال: «إن أحدكم إذا مات عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي وإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة،وإن كان من أهل النار فمن أهل النار،يُقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» أخرجه البخاري ومسلم.
( ( ( ( ( (
[ 34 ]
من هم الشهداء؟ سوى الشهيد في سبيل الله؟
(أنواع الشهداء)
1- المبطون، 2- المطعون، 3- الغريق، 4- صاحب الهدم،
5-الحريق، 6- صاحب ذات الجنب، 7- المرأة تموت بجُمع أو بجِمع، وهي التي تموت من الولادة وولدها في بطنها أو التي تموت بكراً لم يمسها الرجال أو التي تموت قبل أن تحيض وتطمث، 8- من قتل دون ماله، 9- من قتل دون دمه، 10- من قتل دون دينه، 11- من قتل دون أهله، 12- من قتل دون مظلمةٍ.
79- عن أنس بن مالك رضي الله قال: قال رسول الله (: «من طلب الشهادة صادقاً أُعطيها ،وإن لم تصبه» أخرجه مسلم.
80- عن سهل بن حنيف ( أن النبي ( قال: «من سأل الله
الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء،وإن مات على فراشه» أخرجه مسلم.
( ( ( ( ( (
[ 35 ]
الإنسان يبلى إلا عجب الذنب
81- عن أبي هريرة ( قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: « ليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عظم واحد وهو عجب الذنب، منه خلق ومنه يركب» أخرجه مسلم وابن ماجه.
82- وعنه أن رسول الله ( قال: «كل ابن آدم يأكله التراب،إلا عجب الذنب، منه خلق ومنه يركب» أخرجه مسلم وابن ماجه.
( ( ( ( ( (
[ 36 ]
أجساد الأنبياء والشهداء لا تبلى، وهم أحياء
83- عن أوس بن أوس ( قال : قال رسول الله ( : «إن أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه قبض، وفيه النفخة وفيه الصعقة. فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي» قالوا:
يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يقولون: بليت، فقال: «إن الله عز وجل حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» أخرجه أبو داود وابن ماجه.
وإن معاوية ( لما أجرى العين التي استنبطها بالمدينة في وسط المقبرة وأمر الناس بتحويل موتاهم في أيام خلافته، وذلك بعد أُحد بنحو خمسين سنة فوُجدوا على حالهم حتى أن الكلّ رأوا المسحاة وقد أصابت قدم حمزة ( فسال منه الدم وأن جابر بن عبد الله أخرج أباه عبد الله بن حرام كأنما دُفن بالأمس وهذا أشهر في الشهداء من أن يحتاج فيه إلى إكثار. –خبر صحيح-
( ( ( ( ( (
[ 37 ]
الموتى يسمعون
84- ثبت عن النبي ( : «أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه» أخرجه البخاري.
85- وقد علّم النبي ( أمته أن يقولوا: «سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية» أخرجه مسلم والنسائي.
( ( ( ( ( (
[ 38 ]
عذاب القبر هو عذاب البرزخ
عذاب القبر ينال من هو مستحق له ومما ينبغي أن يُعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه،سواء أقبر أم لم يقبر فلو أكلته السباع أو أحرق حتى صار رماداً نسف في الهواء أوصُلب أو غرق في البحر وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى القبور.
( ( ( ( ( (
[ 39 ]
رؤيا للنبي (:(/12)
86- عن سمرة بن جندب ( قال: كان النبي ( إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال: «من رأى منكم الليلة رؤيا؟» قال: فإن رأى أحد رؤيا قصها، فيقول: ما شاء الله فسألنا يوماً فقال: «هل رأى أحد منكم رؤيا؟» قلنا: لا، قال: «لكني رأيت الليلة رجلين أتياني ،فأخذا بيدي، وأخرجاني إلى الأرض المقدسة، فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كلوب يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك ويلتئم شدقه هذا، فيعود فيصنع مثله، قلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه ورجل قائم على رأسه بصخرة أو فهر فيشدخ بها رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر فانطلق إليه ليأخذه، فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه وعاد رأسه كما هو فعاد إليه فضربه، قلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا إلى نقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يوقد تحته نار فإذا فيه رجال ونساء عراة، فيأتيهم اللهب من تحتهم فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا يخرجون، فإذا خمدت رجعوا، فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى وسط النهر، رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فردّه حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى أتينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة وفي أصلها شيخ وصبيان، وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها، فصعدا بي الشجرة وأدخلاني داراً لم أر قط أحسن منها، فيها شيوخ وشباب ونساء وصبيان، ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة, فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل, فيها شيوخ وشباب، قلت: طوفتماني الليلة فأخبراني عما رأيت، قالا: نعم، الذي رأيت يشق شدقه فكذاب يحدث بالكذبة فتُحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة، والذي رأيته يشدخ رأسه فرجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به بالنهار يُفعل به إلى يوم القيامة، وأما الذين رأيتهم في النقب فهم الزناة والذي رأيته في النهر فآكل الربا، وأما الشيخ الذي في أصل الشجرة فإبراهيم والصبيان حوله فأولاد الناس، والذي يوقد النار فمالك خازن النار والدار الأولى دار عامة المؤمنين، وأما هذه الدار فدار الشهداء وأنا جبريل وهذا ميكائيل فارفع رأسك فرفعت رأسي فإذا قصر مثل السحابة، قالا: ذلك منزلك، قلت دعاني أدخل منزلي ،قالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله فلو استكملته أتيت منزلك» أخرجه البخاري.
وهذا نص في عذاب القبر أو البرزخ لأن رؤيا الأنبياء وحي، والدليل على ذلك أن إبراهيم ( جاءه الأمر بالذبح في المنام فشرع في التنفيذ.
87- عن أنس بن مالك ( قال: قال رسول الله (: «لما عُرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم.فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» أخرجه أبو داود.
( ( ( ( ( (
[ 40 ]
الأرواح منعمة ومعذبة
الأرواح قسمان : منعمة ومعذبة، فالمنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها والأرواح المعذبة فهي في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي.
( ( ( ( ( (
[ 41 ]
للأنفس أربع دور
الدار الأولى: بطن الأم حيث الحصر والضيق والغم والظلمات الثلاث.
والثانية: التي نشأت فيها وألفتها واكتسبت فيها الخير والشر وهي أوسع من الأولى.
والثالثة: دار البرزخ«القبر» وهي أوسع من الثانية.
والرابعة: دار القرار وهي الجنة، أو النار فلا دار بعدها.
لقي عمر بن الخطاب علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فقال له: يا أبا الحسن، ربما شهدت - حضرت - وغبنا وشهدنا - حضرنا - وغبت، ثلاث أسألك عنهن:
الأولى: الرجل يحب الرجل ولم ير منه خيراً، والرجل يبغض الرجل ولم ير منه شراً، فقال علي: نعم سمعت رسول الله ( يقول: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف،وما تناكر منها اختلف» أخرجه البخاري.
أي تلتقي أرواح الموتى القدامى بروح الميت الجديد، قال عمر: هذه واحدة.
الثانية: الرجل يحدث الحديث إذ نسيه فبينا هو وما نسيه إذ ذكره. فقال علي: نعم بينما القلب يتحدث إذ تجللته سحابة فنسي وإذ تجلت عنه فيذكر. قال عمر: اثنتان.
الثالثة: الرجل يرى الرؤيا فمنها ما يصدق ومنها ما يكذب، فقال علي: نعم.ينام العبد فيُعرج بروحه إلى السماء فالذي لا يستيقظ دون السماء فتلك الرؤيا التي تصدق والذي يستيقظ دون السماء فهي التي تكذب فقال عمر: ثلاث كنت في طلبهن، فالحمد لله أصبتهن قبل الموت.
فالمرض،والموت،وسؤال الملكين للميت في القبر،وضغطة القبر والنعيم أو العذاب في البرزخ،وأسباب هذا العذاب كل ذلك - عندما يعرفه الحي - عليه أن يستعد بزيادة العمل الصالح والابتعاد عن العمل السيئ ليكون علمه شاهداً له لا عليه.
( ( ( ( ( (
[ 42 ]
أشراط الساعة(/13)
فأما وقتها فلا يعلمه إلا الله.قال تعالى: { قال إنما علمها عند ربي } [الأعراف: 187].
88- وفي حديث جبريل الطويل، وفيه قال: أخبرني عن الساعة, قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» قال فأخبرني عن أماراتها؟ قال: «أن تلد الأمة ربتها, وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان»، وفي رواية: «إذا رأيت المرأة تلد ربها فذاك من أشراطها, وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها» أخرجه مسلم...
قال قتادة: صم عن استماع الحق, بكم عن التكلم به, عمي عن الإبصار له... وأن تلد الأمة ربتها وفي رواية ربها: أي سيدتها أو سيدها, قال وكيع: هو أن تلد العجم العرب، وقيل: هو أن يبيع السادات أمهات الأولاد فربما اشترى المستولدة ولدها وهو لا يشعر فيكون ربها أي سيدها لأن السيد إذا جامع أمته فحملت وولدت فلا يجوز له بعد ذلك بيعها ولكن قد يبيعها بسبب غلبة الجهل. وقيل: المراد كثرة عقوق الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد لأمته، ويشهد لهذا حديث أبي هريرة (: المرأة مكان الأمة، وقوله عليه الصلاة والسلام: «حتى يكون الولد غيظاً» وقيل: تسبى المرأة المسلمة كما حدث في الأندلس وهي حبلى أو ولدها صغير, فيفرق بينهما فيكبر الولد فربما يجتمعان ويتزوجها ولا يعرف أحدهما الآخر. ويدل على ذلك قوله إذا ولدت الأمة بعلها, وهذا هو المطابق للأشراط مع قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تقوم الساعة حتى تكون الروم أكثر أهل الأرض»، فهذه أربعة أقوال كلها مطابقة لما حصل ويحصل في الواقع. وهي أربع أمارات على قيام الساعة أيضاً:
كثرة فتوح المسلمين واتساع رقعتهم فيكثر التسري فيكون ولد الأمة من سيدها بمنزلة سيدها لشرفه.
بيع أمهات الأولاد بسبب الجهل.
كثرة عقوق الأولاد.
استيلاء الكفار على بعض بلاد المسلمين وهذه الأمارة عكس الأولى من الأمارات الأربع.
-قال العلماء رحمهم الله تعالى: الحكمة في تقديم الأشراط ودلالة الناس عليها تنبيههم من رقدتهم وحثهم على الاحتياط لأنفسهم بالتوبة والإنابة كي لا يباغتوا بالحؤول بينهم وبين تدارك ما فاتهم .وتقسم الأشراط إلى كبرى وصغرى.
أما الكبرى مثل: خروج الدجال ونزول عيسى ( وقتله الدجال، وخروج يأجوج ومأجوج ودابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها.
وأما الصغرى مثل: قبض العلم، وغلبة الجهل واستيلاء أهله، وبيع الحكم وظهور المعازف واستفاضة شرب الخمور،واكتفاء النساء بالنساء والرجال بالرجال، وإطالة البنيان، وزخرفة المساجد، وإمرة الصبيان ولعن آخر هذه الأمة أولها، وكثرة الهرج - أي القتل - وغيرها كثير.
وبذكر أشراط الساعة تتحقق معجزة النبي ( وصدقه بكل ما أخبر به.
( ( ( ( ( (
[ 43 ]
بعثت أنا والساعة كهاتين
89- عن أنس بن مالك ( قال: قال رسول الله ( : « بعثت أنا والساعة كهاتين وضم السبابة والوسطى» أخرجه مسلم.
ومعنى الحديث: أنا النبي الأخير فلا يليني نبي آخر وإنما تليني القيامة كما تلي السبابة الوسطى وليس بينهما إصبع أخرى.
( ( ( ( ( (
[ 44 ]
أمور تكون بين يدي الساعة
90- عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال: «لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان عظيمتان يكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كثيرون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله وحتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج، وحتى يكثر فيكم المال فيفيض ،وحتى يهم رب المال من يقبض صدقته وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه: لا أرب لي فيه، وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس أجمعون فذلك حين: { لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً } [الأنعام: 158]، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» أخرجه البخاري.
أما الفئتان العظيمتان: فما جرى بين معاوية وعلي رضي الله عنهما بصفين، والدجال: هو الكذاب.ومعنى يقبض العلم: أي يقبض العمل به فلا يبقى إلا رسمه.
ومعنى يتقارب الزمان: أي يفسد الناس بسرعة فما كان يحصل في سنة مثلاً أصبح يحصل في شهر. واللقحة: الناقة الغزيرة اللبن. ومعنى يليط: يصلح...وأكلته: أي لقمته, والهرج: القتل.
91- وعن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى» أخرجه البخاري ومسلم.
92- عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال: «لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض وحتى يخرج الرجل زكاة ماله فلا يجد أحداً يقبلها منه وحتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً» أخرجه مسلم.
- ومروجاً وأنهاراً: بحفر الآبار وغرس الأشجار وبناء الديار.والله أعلم.(/14)
93- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله ( يقول: «إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعاً ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» أخرجه البخاري ومسلم.
94- عن حذيفة بن اليمان ( قال: حدثنا رسول الله ( حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا: «أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال - يعني وسط قلوب الرجال - ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة»، ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبراً وليس فيه شيء ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً ،حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان. ولقد أتى علي زمان ما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلماً ليردنه علي دينه ولئن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنه علي ساعيه، فأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلاناً وفلاناً» أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه وغيرهم.
الوكت: الأثر اليسير. المجل: ارتفاع في باطن اليد بسبب العمل بالفأس ونحوه يحتوي على ماء ثم يصلب ويبقى عقداً. ونفط: أي ارتفع جلدها وانتفخ. منتبراً: مرتفعاً والمقصود خلو القلوب من الأمانة كما يخلو المجل المنتبر عن شيء يحويه. ولقد أتى علي زمان: يعني كانت الأمانة موجودة ثم قلت. وساعيه: يعني رئيسه.والمقصود بقوله: فما كنت أبايع إلا فلاناً وفلاناً أي لقلة الأمانة.
( ( ( ( ( (
[ 45 ]
أول ما يرفع من الناس الخشوع والفرائض
[علم المواريث]
95- عن زياد بن لبيد ( قال: ذكر النبي ( شيئاً قال: «ذلك عند أوان ذهاب العلم» قلت يا رسول الله: كيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: «ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء منهما» أخرجه ابن ماجة.
وعن ابن مسعود (: ليس حفظ القرآن بحفظ الحروف ولكن إقامة حدوده.
عن عبادة بن الصامت ( قال: أول علم يرفع من الناس الخشوع، يوشك أن يدخل الرجل مسجد جماعة فلا يرى فيه رجلاً خاشعاً.
وعن شداد بن أوس ( قال: أول ما يرفع من العلم الخشوع حتى لا ترى رجلاً خاشعاً.
( ( ( ( ( (
[ 46 ]
دروس الإسلام،وذهاب القرآن
96- عن حذيفة بن اليمان ( قال: قال رسول الله (: «يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة ويسرى بكتاب الله في ليلة فلا يبقى منه في الأرض آية وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها»، قال له صلة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة فأعرض عنه حذيفة ثم ردها عليه ثلاثاً كل ذلك يعرض عنه حذيفة ثم أقبل عليه حذيفة فقال: يا صلة تنجيهم من النار ثلاثاً، أخرجه ابن ماجة، ويكون هذا بعد موت عيسى (.
( ( ( ( ( (
[ 47 ]
ذكر بعض ما جاء عن الدجال
97- عن أبي الدرداء ( أن رسول الله ( قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال»، وفي رواية: «من آخر سورة الكهف» أخرجه مسلم.
98- عن حذيفة بن اليمان ( قال: قال رسول الله (: «الدجال أعور العين اليسرى جفال الشعر معه جنة ونار فناره جنة وجنته نار»، وعنه قال: قال رسول الله (: «لأنا أعلم بما مع الدجال منه معه نهران يجريان أحدهما رأي العين ماء أبيض والآخر رأي العين نار تأجج، فإما أدركه أحد فليأت النهر الذي يراه ناراً وليغمض وليطأطىء رأسه فيشرب فإنه ماء بارد وأن الدجال ممسوخ العين عليها ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب» أخرجه مسلم.
99- عن أنس بن مالك ( قال: قال رسول الله (: «ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة» أخرجه البخاري ومسلم، وروي أيضاً: بيت المقدس وجبل الطور.
100- عن عمران بن حصين ( قال: سمعت رسول الله ( يقول: «ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال»، وفي رواية: امرؤ بدل خلق» أخرجه مسلم، والحديث يدل على عظم خلقته.
101- عن حذيفة بن اليمان ( قال: كنا عند رسول الله ( فذكر الدجال فقال: «لفتنة من بعضكم أخوف عندي من فتنة الدجال ليس من فتنة صغيرة ولا كبيرة إلا تضع لفتنة الدجال فمن نجا من فتنة ما قبلها فقد نجا منها والله لا يضر مسلماً مكتوب بين عينيه كافر» حديث صحيح أخرجه البزار.
( ( ( ( ( (
[ 48 ]
نزول عيسى عليه الصلاة والسلام(/15)
102- عن أبي هريرة ( قال: قال رسول الله (: «لينزلن ابن مريم حكماً عدلاً فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وليتركن القلاص فلا يسعى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون الناس إلى المال فلا يقبله أحد» أخرجه مسلم.
103- وعنه قال: قال رسول الله (: «كيف أنتم إذا نزل عيسى بن مريم فيكم وإمامكم منكم؟ وفي رواية: «فأمكم منكم»، قال ابن أبي ذئب: تدري ما إمامكم منكم؟ قلت: تخبرني؟ قال: فأمكم بكتاب ربكم عز وجل وسنة نبيكم وعنه عن النبي ( قال: «والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بنفج من الروحاء حاجاً أو معتمراً أو ليثنينهما» أخرجه ابن ماجة.
104- وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام» أخرجه مسلم.
( ( ( ( ( (
[ 49 ]
خروج يأجوج ومأجوج
105- عن أبي هريرة ( قال: قال رسول الله ( : «إن يأجوج ومأجوج يحفران كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً, فيعيده الله أشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال: ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله فيرجعون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس فينشفون الماء ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون سهامهم في السماء فيرجع إليها الدم الذي أحفظ، فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله نغفاً في أقفائهم فيقتلهم»، قال رسول الله (: «والذي نفسي بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكراً من كثرة ما تأكل من لحومهم» أخرجه ابن ماجه، ومعنى تشكر شكراً: تمتلئ ملئاً والنغف: نوع من الدواب.
( ( ( ( ( (
[ 50 ]
خروج الدابة، ومن أين تخرج
قال تعالى: { وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم } [النمل: 82]، أي وجب الوعيد عليهم لتماديهم في العصيان والعقوق والطغيان وإعراضهم عن آيات الله وتماديهم في المعاصي وهي دابة تعقل وتنطق ليعلموا أنها آية من قبل الله لأن الدابة في العادة لا تتكلم ولا تعقل0
قال ابن عمر وابن عمرو رضي الله عنهما: تخرج الدابة من جبل الصفا بمكة ينصدع فتخرج منه لا يفوتها أحد فتسم المؤمن فينير وجهه وتكتب بين عينيه: مؤمن, وتسم الكافر فيسود وجهه وتكتب بين عينيه: كافر.وهذه الدابة تكلم الناس وتناظرهم وتقول من جملة كلامها: ألا لعنة الله على الظالمين, وخروجها حين ينقطع الخير, ولا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر, ولا يبقى منيب ولا تائب.
( ( ( ( ( (
[ 51 ]
طلوع الشمس من مغربها
106- عن أبي هريرة ( قال: قال رسول الله (: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها, والدجال, ودابة الأرض» أخرجه مسلم.
107- عن صفوان بن عسال المرادي ( قال: سمعت رسول الله ( يقول: «إن بالمغرب باباً مفتوحاً للتوبة مسيرته سبعين سنة لا يغلق حنى تطلع الشمس من نحوه» أخرجه الترمذي.
وأول الآيات: الخسوفات، ثم الدجال، ثم نزول عيسى (، ثم خروج يأجوج ومأجوج، ثم خروج الدابة، ثم طلوع الشمس من مغربها.
108- عن حذيفة بن اليمان ( قال: كنا جلوساً في المدينة في ظل حائط وكان رسول الله ( في غرفة فأشرف علينا وقال: « ما يجلسكم؟ فقلنا: نتحدث.فقال في ماذا؟ فقلنا: عن الساعة. فقال: «إنكم لا ترون الساعة حتى تروا قبلها عشر آيات: أولها طلوع الشمس من مغربها, ثم الدخان,ثم الدجال, ثم الدابة، ثم ثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وخروج عيسى، وخروج يأجوج ومأجوج ويكون آخر ذلك ناراً تخرج من اليمن من حفرة عدن لا تدع أحداً خلفها إلا تسوقه إلى المحشر» حديث صحيح أخرجه القتبي في عيون الأخبار، وأخرجه مسلم بمعناه، وفي رواية حذيفة هذه وروايته عند مسلم، وحديث أنس عند البخاري، وحديث ابن عمرو عند مسلم جاءت هذه الآيات: { الأشراط } مجموعة غير مرتبة وليس الأمر كذلك بل كما ذكرنا: الخسوف فالدجال فنزول عيسى فيأجوج ومأجوج فخروج الدابة فطلوع الشمس من مغربها.
( ( ( ( ( (
[ 52 ]
لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله
109- عن أنس بن مالك ( قال: قال رسول الله (: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله» أخرجه مسلم، وفي رواية أخرى: «لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله الله».
والمعنى: إذا أراد الله زوال الدنيا قبض أرواح المؤمنين فيزول التوحيد من الأرض وينقطع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا أحد يقول لغيره: اتق الله.
( ( ( ( ( (
[ 53 ]
على من تقوم الساعة؟(/16)
110- عن عقبة بن عامر ( قال: سمعت رسول الله ( يقول: « لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك» فقال عبد الله بن عمرو: أجل: «ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك، مسها كمس الحرير لا تترك نفساً في قلبها مثقال حبة من إيمان إلا قبضتها، ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة» أخرجه مسلم
وفي حديث عبد الله بن مسعود:«لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس, من لا يعرف معروفاً, ولا ينكر منكراً, يتهارجون كما تتهارج الحمر» حديث صحيح.
قال الأصمعي: يتهارجون يقول: يتسافدون يقال: بات فلان يهرجها والهرج في غير هذا: الاختلاط والقتل، وهنا الزنى العلني كالحمر.
فائدة: يمكث الدجال في الأرض أربعين يوماً: يوم كسنة, ويوم كشهر, ويوم كجمعة, وسائر أيامه كأيامكم.
أما عيسى ( فيمكث في الأرض بعد نزوله سبع سنين.
111- عن معاوية ( قال: سمعت رسول الله ( يقول: « إن من أشراط الساعة أن يقل العلم, ويظهر الجهل, ويظهر الزنا, وتكثر النساء, ويقل الرجال, حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد» أخرجه البخاري، وأخرجه مسلم من حديث أنس.
112- عن أبي موسى الأشعري (، عن النبي ( قال: «ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل بالصدقة من الذهب لا يجد أحداً يأخذها منه, قال: ويُرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلذن به من قلة الرجال وكثرة النساء» أخرجه مسلم، لأن الرجال يقتلون في الحروب وتبقى نساؤهم أرامل فيقبلن على الرجل الواحد في قضاء حوائجهن ومصالح أمورهن من بيع وشراء وأخذ وعطاء ويكون معنى يلذن: يستترن ويتحرزن من الملاذ الذي هو السترة لا من اللذة.
وهذا القول أرجح من القول الآخر وهو: إن لقلة الرجال وغلبة الشبق على النساء يتبع الرجل الواحد أربعون امرأة كل واحدة تقول: انكحني انكحني.
113- قال رسول الله (: «لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر, وذراعاً بذراع, حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه»، قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: «فمن» أخرجه البخاري، يعني فمن غيرهم. أي من الأشراط ظهور الفساد بين المسلمين.
تحدثنا فيما مضى عن أشراط الساعة والآن نتحدث - بعون الله - عن البعث والنشور.
( ( ( ( ( (
[ 54 ]
انقراض الخلق،وذكر النفخ والصعق
114- عن أبي هريرة ( قال: قال رسول الله (: «ما بين النفختين أربعون» قالوا: يا أبا هريرة أربعين يوماً؟ قال: أبيت قالوا: أربعين شهراً قال: أبيت, قالوا: أربعين عاماً؟ قال: أبيت, ثم ينزل الله تعالى من السماء ماءً فينبتون كما ينبت البقل قال: «ليس من الإنسان شيء إلا يبلى, إلا عظماً واحداً»، وفي رواية: «لا تأكله الأرض أبداً» وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة» أخرجه مسلم، وقول أبي هريرة : أبيت فيه تأويلان: الأول: كان عنده علم من ذلك، والثاني: لم يكن عنده علم من ذلك, والأول أظهر ولم يبينه لأنه لم تُرهق لذلك حاجة لأنه ليس من البينات والهدى الذي أُمر بتبليغه.
قال تعالى: { ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله } [الزمر: 68] أي إلا الشهداء أو الملائكة أو الأنبياء أو حملة العرش أو جبريل أو ميكائيل أو ملك الموت. فأما صعق الأنبياء فالأظهر أنه: غشية, وأما صعق غير الأنبياء فهو موت. وأما قول النبي ( لا تفضلوني على يونس بن متى: فإن يونس بن متى ( ألقي في البحر فالتقمه الحوت, وصار في قعر البحر في ظلمات ثلاث ونادى: { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } ، ولم يكن محمد ( حين جلس على الرفرف الأخضر وارتُقي به صُعداً حتى انتُهي به إلى موضع يسمع فيه صريف الأقلام ناجاه ربه بما ناجاه به وأوحى إليه ما أوحى بأقرب إلى الله من يونس ( في ظلمة البحر.
( ( ( ( ( (
[ 55 ]
يفنى العباد ويبقى الملك لله وحده
115- عن أبي هريرة ( قال: قال رسول الله (: «يقبض الله الأرض يوم القيامة, ويطوي السماء بيمينه, ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض» أخرجه البخاري ومسلم.
116- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله (: «يطوي الله السماء يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى, ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله, ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟» أخرجه مسلم.
( ( ( ( ( (
[ 56 ]
النفخ الثاني للبعث في الصور
قال تعالى: { ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون } [يس: 51] هي النفخة الثانية، وهي نفخة البعث وروي عن مجاهد أنه قال: للكافرين هجعة قبل يوم القيامة يجدون فيها طعم النوم فإذا صيح يا أهل القبور قاموا مذعورين عجلين ينظرون ما يراد بهم لقوله تعالى: { ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } ، وقد أخبر الله عز وجل عن الكفار أنهم يقولون: { يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا } [يس: 52]، وعدد النفخات: نفختان, نفخة الفزع والصعق،ونفخة البعث وبين النفختين: أربعون سنة.(/17)
117- عن عبد الرحمن بن أبي عمرو ( قال: «ما من صباح إلا وملكان يقولان: يا طالب الخير أقبل, ويا طالب الشر أقصر, وملكان موكلان يقولان: اللهم أعط منفقاً خلفاً, وأعط ممسكاً تلفاً» أخرجه البخاري مختصراً وأحمد.
( ( ( ( ( (
[ 57 ]
يبعث كل عبد على ما مات عليه
118- عن جابر بن عبد الله ( قال: سمعت رسول الله ( يقول: «يبعث كل عبد على ما مات عليه» أخرجه مسلم.
119- عن عبد بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله ( يقول: « إذا أراد الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم, ثم بعثوا على نياتهم» أخرجه البخاري ومسلم، ولفظ البخاري عنه قال: قال رسول الله (: «إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم».
120- عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله (: «النياحة على الميت من أمر الجاهلية, وإن النائحة إذا لم تتب قبل أن تموت فإنها تبعث يوم القيامة عليها سرابيل من قطران, ثم يُعلى عليها بدرع من لهب النار» أخرجه ابن ماجه.
( ( ( ( ( (
[ 58 ]
أين يكون الناس؟
{ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات }
121- عن ثوبان ( مولى رسول الله ( قال: كنت قائماً عند رسول الله ( فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد وذكر الحديث وفيه: فقال اليهودي فأين يكون الناس { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات } ؟ فقال رسول الله (: «هم في الظلمة دون الجسر» أخرجه مسلم.
122- عن عائشة (ا قالت: سئل رسول الله ( عن قوله تعالى: { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات } فأين يكون الناس يومئذ؟ قال: «على الصراط» أخرجه مسلم.
أي أن الأرض والسموات تبدل وتزال ويخلق الله أرضاً أخرى يكون عليها الناس بعد كونهم على الجسر وهو الصراط.
( ( ( ( ( (
[ 59 ]
أمور تكون قبل الساعة
لما نبأ النبي ( بذكر الزلزلة التي تكون عند النفخة الأولى ذكر ما يكون في ذلك اليوم من الأهوال العظام ومن فزعها ما لا تطيق حمله النفوس، وهو قوله لآدم: { ابعث بعث النار } في يوم يشيب فيه الوليد, وتضع الحوامل, وتذهل المراضع, والزلزلة من أشراط الساعة وهي في الدنيا وقوله تعالى: { ترونها } للزلزلة أو للقيامة وقوله تعالى: { وترى الناس سكارى } أي من العذاب والخوف { وما هم بسكارى } من الشراب، وقد طلب إبليس النظرة والإمهال إلى يوم البعث والحساب أي طلب أن لا يموت لأن يوم البعث لا موت بعده فقد أنظره الله إلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم. وكان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين فأبى الله ذلك عليه. وقال تعالى: { إذا زلزلت الأرض زلزالها } هذه الزلزلة تكون بعد إحياء الناس وبعثهم من قبورهم لأنه لا يراد بها إلا إذعان الناس والتهويل عليهم.
( ( ( ( ( (
[ 60 ]
الحشر ومعناه الجمع
123- عن أبي هريرة ( عن النبي ( قال: «يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين وراهبين, واثنان على بعير, وثلاثة على بعير وتحشر بقيتهم النار تبيت معهم حيث باتوا, وتقيل معهم حيث قالوا, وتصبح معهم حيث أصبحوا, وتمسي معهم حيث أمسوا» أخرجه البخاري ومسلم.
- قوله على ثلاث طرائق يحتمل: الأبرار والمخلطون والكفار، فالأبرار يؤتون بالنجائب, والمخلطون يشتركون في البعير, والكفار تحشرهم النار, فاعمل هدانا الله وإياك ليكون لك بعير خالص من الشركة.
124- عن أنس بن مالك ( أن رجلاً قال يا رسول الله: الذين يحشرون على وجوههم, أيحشر الكافر على وجهه؟ قال رسول الله (: «أليس الذي أمشاه على الرجلين قادراً أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟» قال قتادة حين بلغه: بلى وعزة ربنا. أخرجه البخاري ومسلم.
125- عن سهل بن سعد ( قال: قال رسول الله (: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيه علم لأحد» أخرجه مسلم.
126- عن أبي ذر ( قال: «إن الصادق المصدوق حدثني أن الناس يحشرون ثلاثة أفواج, فوجاً راكبين طاعمين كاسين, وفوجاً تسحبهم الملائكة على وجوههم, ويحشر الناس فوجاً يمشون ويسعون, يلقي الله الآفة على الظهر فلا تبقى حتى إن الرجل لتكون له الحديقة يعطيها بذات القتب لا يقدر عليها» أخرجه النسائي.
( ( ( ( ( (
[ 61 ]
أحوال الناس بعد البعث وكيف يحشرون
إذا بعث الكفار للحشر فلهم خمسة أحوال:
حال البعث من القبور: يكون الكفار بحواس وجوارح كاملة.
السوق إلى موضع الحساب: يكونون بحواس وجوارح كاملة.
حالة المحاسبة: يكونون بحواس وجوارح كاملة.
السوق إلى جهنم: تسلب أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم.(/18)
الإقامة في النار: وهذه الحالة تنقسم إلى بدو ومآل، فبدوها: أنهم يقطعون المسافة بين موقف الحساب وشفير جهنم عمياً وبكماً وصماً إذلالاً لهم تمييزاً عن غيرهم، ومآل حالهم: ترد الحواس إليهم ليشاهدوا النار وما أعد الله لهم فيها من العذاب ويروا ملائكة العذاب وكل ما كانوا به مكذبين, فيستقرون في النار ناطقين سامعين مبصرين. وينادى: يا أهل النار: خلود فلا موت وتسلب في ذلك الوقت أسماعهم, وقد تسلب الأبصار والكلام, لكن سلب السمع يقين: لأن الله تعالى يقول: { لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون } [الأنبياء: 100] ولكل حالة آية أو أكثر تدل عليها ولم نذكرها طلباً للاقتصار.
( ( ( ( ( (
[ 62 ]
يحشر الناس حفاة عراة غرلاً
127- عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قام فينا رسول الله ( بموعظة فقال: « أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين, ألا وإن أول الناس يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه الصلاة والسلام, ألا وإنه يؤتى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب أصحابي فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك, فأقول كما قال العبد الصالح: { وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم } إلى قوله: { العزيز الحكيم } [المائدة: 117-118] قال: فيقال: إنهم لم يزالوا مدبرين مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم» أخرجه البخاري ومسلم.
128- عن معاوية بن حيدة (، عن النبي ( في حديث ذكره قال: وأشار بيده إلى الشام فقال: «ههنا إلى ههنا تحشرون ركباناً ومشاةً وتجرون على وجوهكم يوم القيامة, على أفواهكم الفدام, توفون سبعين أمة, أنتم خيرهم على الله وأكرمهم على الله, وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه».
وفي رواية أخرى ذكرها ابن أبي شيبة: «وإن أول ما يتكلم من الإنسان فخذه وكفه» أخرجه البخاري والترمذي...
معاني الكلمات: غرلاً: غير مختونين. النقى: الدقيق الحواري. عفراء: بيضاء تضرب إلى الحمرة قليلاً. الفدام: مصفاة الكوز أو الإبريق أي منعوا الكلام حتى تتكلم أفخاذهم تشبيهاً بالفدام على الإبريق.
( ( ( ( ( (
[ 63 ]
لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه
129- عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله ( يقول: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً» قلت: يا رسول الله, الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلي بعض؟ قال: يا عائشة, الأمر أشد من أن ينظر بعضهم لبعض» أخرجه مسلم.
130- عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي ( قال: «تحشرون حفاة عراة غرلاً»، فقالت امرأة: أيبصر بعضنا أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: «يافلانة لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» أخرجه الترمذي.
( ( ( ( ( (
[ 64 ]
يوم القيامة في سور التكوير، والانفطار، والانشقاق
- من أسماء يوم القيامة: يوم العرض
131- عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله ( : «من حوسب يوم القيامة عُذب»، قالت فقلت يا رسول الله أليس قد قال الله: { فسوف يحاسب حساباً يسيراً } »؟ [الانشقاق: 8]، فقال: «ليس ذلك الحساب إنما ذلك العرض من نوقش الحساب يوم القيامة عذب» أخرجه البخاري ومسلم.
- ومن أسماء يوم القيامة: يوم الحساب
يروى عن علي بن أبي طالب ( أنه سئل عن محاسبة الله للخلق فقال: «كما يرزقهم في غداة واحدة كذلك يحاسبهم في ساعة واحدة».
132- عن أبي هريرة ( قال: سأل الناس رسول الله ( هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله (: «هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة؟»، قالوا: لا، قال: «فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر وليس في سحابة»، قالوا: لا، قال: «فو الذي نفس محمد بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما»، قال: «فيلقى العبد فيقول: أي عبدي قل: ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وترتع؟ فيقول: بلى, فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا, فيقول: إني أنساك كما نسيتني, ثم يلقى الثاني فيقول له: ويقول هو مثل ذلك بعينه ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك, وصليت, وتصدقت, وصمت, ويثني بخير ما استطاع, قال: فيقول: ههنا إذاً ثم يقول: الآن نبعث شاهداً عليك فيقول في نفسه من ذا الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه, ويقال لفخذه: انطقي فتنطق فخذه, ولحمه, وعظامه, بعمله وذلك ليعذر في نفسه, وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه, وقد قال الله تعالى: { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } [الإسراء: 14] أي: حاسباً, فعيلاً بمعنى فاعل» أخرجه مسلم.
- ومن أسماء يوم القيامة: يوم السؤال
133- عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي ( قال: «ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع ومسؤول عن رعيته, والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم, والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسؤولة عنه, والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه, ألا فكلكم راع ومسؤول عن رعيته» أخرجه البخاري ومسلم.(/19)
- ومن أسماء يوم القيامة: يوم القضاء وهو أيضاً يوم الحكم والفصل
134- عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد» أخرجه مسلم.
( ( ( ( ( (
[ 65 ]
من أهوال يوم القيامة
135- عن المقداد بن الأسود ( قال: سمعت النبي ( يقول: «تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل»، قال سليم بن عامر ما أدري ما يعني بالميل: أمسافة الأرض أو الميل الذي تكحل به العين قال: «فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق, فمنهم من يكون إلى كعبيه, ومنهم من يكون إلى ركبتيه, ومنهم من يكون إلى حقويه, ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً» قال: وأشار رسول الله ( بيده إلى فيه.أخرجه مسلم والترمذي وزاد قوله: تكحل به العين فتصهرهم الشمس.
136- عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال: «إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعاً وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو آذانهم» أخرجه البخاري ومسلم.
137- عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي (: «يوم يقوم الناس لرب العالمين» قال: «يوم يقوم أحدهم في رشحه إلى نصف أذنيه» أخرجه البخاري والترمذي.
( ( ( ( ( (
[ 66 ]
ما ينجي من أهوال يوم القيامة
138- عن أبي هريرة ( قال: قال رسول الله (: «من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» أخرجه مسلم. وقد ينجي منها كلها ما جاء في الحديث الآتي:
139-عن عبد الله بن مسعود ( قال: قال رسول الله (: «حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسراً فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر, قال: قال الله عز وجل: أنا أحق بذلك منك, تجاوزوا عن عبدي» أخرجه مسلم.
140- عن أبي قتادة ( أنه طلب غريماً له فتوارى عنه, ثم وجده فقال: إني معسر, قال: آلله؟ فقال: آلله, قال: فإني سمعت رسول الله ( يقول: «من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه» أخرجه مسلم.
141- عن أبي هريرة (، عن النبي ( قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل, وشاب نشأ في عبادة الله, ورجل قلبه معلق بالمساجد, ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه, ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله, ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه, ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه»، أخرجه البخاري ومسلم، معنى في ظله: أي في ظل عرشه...جاء هكذا مفسراً في الحديث.
142- عن حذيفة ( عن النبي ( أن رجلاً مات فدخل الجنة, فقيل له: ما كنت تعمل؟ فقال: «أما ذكروا ما ذكر, فقال: إني كنت أبايع الناس, فكنت أنظر المعسر وأتجاوز في السكة أو في النقد فغفر له» فقال له أبو مسعود (: وأنا سمعته من رسول الله (» أخرجه البخاري ومسلم.
143- عن كعب بن عمرو ( أنه سمع رسول الله ( يقول: «من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله» أخرجه مسلم.
( ( ( ( ( (
[ 67 ]
الشفاعة العامة لأهل المحشر(/20)
144- عن أبي هريرة ( قال: أتي النبي ( يوماً بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة فقال: «أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون بم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم, فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبونا أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه, وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه, ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته, نفسي نفسي, اذهبوا إلى غيري, اذهبوا إلى نوح, فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح, أنت أول الرسل إلى الأرض وسماك الله عبداً شكوراً, اشفع لنا إلى ربك, ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله, وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي: نفسي نفسي, اذهبوا إلى إبراهيم, فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله, وذكر كذباته, نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري, اذهبوا إلى موسى, فيأتون موسى فيقولون: يا موسى, أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبتكليمه على الناس اشفع لنا إلى ربك, ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها, نفسي نفسي اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى, أنت رسول الله وكلمت الناس في المهد وكلمة منه ألقاها إلى مريم وروح منه, فاشفع لنا إلى ربك, ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله, ولم يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنباً، نفسي نفسي, اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد ( فيأتون فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء, وغفر الله لك ما تقدم وما تأخر, اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي, ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد غيري من قبلي ثم قال: يا محمد, ارفع رأسك, وسل تعطه واشفع تشفع, فأرفع رأسي فأقول: يا رب أمتي أمتي, فيقال يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب, والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى»، وفي البخاري: «كما بين مكة وحمير» أخرجه البخاري ومسلم.
( ( ( ( ( (
[ 68 ]
الشفاعة العامة لأهل الموقف هي المقام المحمود
145- عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: «إن الناس يصيرون يوم القيامة جثياً كل أمة تتبع نبيها تقول: يا فلان,اشفع,يا فلان,اشفع,حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي ( فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود» أخرجه البخاري.
146- عن أبي سعيد الخدري ( قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر،وما من نبي يومئذ آدم وما سواه إلا تحت لوائي ,وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر قال: فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم فيقولون: أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك فيقول: أنا أذنبت ذنباً فأهبطت به إلى الأرض ائتوا نوحاً فيقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا ولكن اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقول: إني كذبت ثلاث كذبات,ثم قال رسول الله (: ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله ولكن ائتوا موسى فيأتون موسى فيقول: إني قد قتلت نفساً ولكن ائتوا عيسى فيقول: إني عُبدت من دون الله ولكن ائتوا محمداً ( فيأتوني فأنطلق معهم»، قال ابن جدعان قال أنس: فكأني أنظر إلى رسول الله ( قال: «فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها فيقال: من هذا؟ فيقال محمد فيفتحون لي ويرحبون فيقولون: مرحباً،فأخر ساجداً لله فيلهمني من الثناء والحمد فيقال لي ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع وقل يسمع لقولك وهو المقام المحمود الذي قال الله فيه: { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } [الإسراء: 79]»، قال سفيان: ليس عن أنس إلا هذه الكلمة: فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها... أخرجه الترمذي.
فيفزع الناس ثلاث فزعات: ذلك والله أعلم عندما تزفر النار ثلاث زفرات.
أقوال في المقام المحمود:
الأول: أنه الشفاعة العامة للناس يوم القيامة كما تقدم.(/21)
الثاني: إخراجه طائفة من النار.
شفاعات نبينا ( يوم القيامة:
الأولى: وهي العامة لأهل الموقف ليعجل حسابهم ويراحوا من الهول.
الثانية: إدخال قوم الجنة بغير حساب.
الثالثة: في جماعة من أمته استوجبوا النار بذنوبهم حتى لا يدخلوها.
الرابعة: فيمن دخل النار من المذنبين من أمته حتى يخرجوا منها.
الخامسة: في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها.
السادسة: شفاعته ( لعمه أبي طالب للتخفيف عنه.
( ( ( ( ( (
[ 69 ]
أسعد الناس بشفاعة النبي (
147- عن أبي هريرة ( قال: قلت يا رسول الله, من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث, أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة: من قال لا إله إلا الله خالصاً من قبل نفسه» أخرجه البخاري.
( ( ( ( ( (
[ 70 ]
العرض وتطاير الصحف ومن نوقش الحساب عُذب
حديث عائشة في البخاري وقد تقدم برقم: 131
148- روي عن رسول الله (: «أن الناس يُعرضون ثلاث عرضات يوم القيامة, فأما عرضتان: فجدال ومعاذير, وأما العرضة الثالثة: فتطاير الصحف, فالجدال لأهل الأهواء يجادلون لأنهم لا يعرفون ربهم فيظنون أنهم إذا جادلوه نجوا وقامت حجتهم والمعاذير لله تعالى يعتذر الكريم إلى آدم وإلى أنبيائه ويقيم حجته عندهم على الأعداء, ثم يبعثهم إلى النار, فإنه يجب أن يكون عذره عند أنبيائه وأوليائه ظاهراً حتى لا تأخذهم الحيرة»، ولذلك قيل عن رسول الله (: «لا أحد أحب إليه المدح من الله تعالى، ولا أحد أحب إليه العذر من الله, والعرضة الثالثة للمؤمنين وهو العرض الأكبر يخلو بهم فيعاتبهم في تلك الخلوات من يريد أن يعاتبهم حتى يذوق وبال الحياء ويرفض عرقاً بين يديه ويفيض العرق منهم على أقدامهم من شدة الحياء, ثم يغفر لهم ويرضى عنهم» حديث صحيح، أخرجه ا لترمذي الحكيم في الأصل السادس والثمانين.
فتخيل نفسك وأنت بين يدي ربك وفي يدك صحيفتك مخبرة بعملك لا تغادر بلية كتمتها ولا مخبأة أسررتها وأنت تقرأ ما فيها بلسان كليل منكسر والأهوال محدقة بك من بين يديك ومن خلفك فكم من بلية كنت نسيتها تذكرتها الآن وكم من سيئة أخفيتها ظهرت الآن وكم من عمل ظننت أنه سلم لك وخلص قد رُد عليك في ذلك الموقف وأُحبط وكان أملك فيه عظيماً فيا حسرة قلبك ويا أسفك على ما فرطت فيه من طاعة ربك. فأكثر من الطاعة لتعطى كتابك بيمينك فتكون من الفائزين وابتعد عن المعاصي حتى لا تعطى كتابك بشمالك فتكون من الخاسرين.
- ما يسأل عنه العبد وكيفية السؤال؟
قال تعالى: { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } [الزلزلة 7- 8].
149- عن أبي برزة الأسلمي ( قال: قال رسول الله (: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن جسده فيم أبلاه؟ وعن علمه ما عمل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟» أخرجه الترمذي.
150- عن معاذ بن جبل ( قال: قال رسول الله (: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟» أخرجه الترمذي.
151- عن ابن عمر (ما قال: سمعت رسول الله ( يقول في النجوى: «يدنى المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه - أي يستره من الخلائق - فيقرره بذنوبه, فيقول هل تعرف؟ فيقول: رب أعرف, قال فيقول: إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم, قال: فيعطى صحيفة حسناته, وأما الكفار والمنافقون, فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله» أخرجه البخاري، وقال في آخره: { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين } [هود: 18].
152- عن أبي ذر ( قال: قال رسول الله (: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وتخبأ كبارها, فيقال له: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا ثلاث مرات, قال: وهو يقر ليس ينكر قال: وهو مشفق من الكبائر أن تجيىء قال: فإذا أراد الله به خيراً قال: أعطوه مكان كل سيئة حسنة, فيقول حين طمع: يا رب إن لي ذنوباً ما رأيتها ههنا, قال: فلقد رأيت رسول الله ( ضحك حتى بدت نواجذه, ثم تلا: { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } أخرجه مسلم.
153- عن ابن مسعود ( أنه قال: «ما ستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر عليه في الآخرة» وهذا مأخوذ من حديث النجوى, ومن قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستره يوم القيامة»أخرجه مسلم.
154- عن أبي هريرة (: «من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة» أخرجه مسلم، وروي: «من ستر على مسلم عورته, ستر الله عورته يوم القيامة».
( ( ( ( ( (
[ 71 ]
الله تعالى يكلم العبد ليس بينه وبينه ترجمان(/22)
155- عن عدي بن حاتم ( قال: قال رسول الله (: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم, وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة»، وزاد في رواية: «ولو بكلمة طيبة» أخرجه البخاري والترمذي.
فالعاقل من استعد لذلك اليوم فتزود بالعمل الصالح حيث لا ينفع درهم ولا دينار فمن ثقلت موازينه بالحسنات فهو في عيشة راضية ومن خفت موازينه فأمه هاوية.
( ( ( ( ( (
[ 72 ]
القصاص يوم القيامة بين الناس
156- عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» أخرجه مسلم.
157- وعنه أن رسول الله ( قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم, وإن كان له عمل صالح أخذه منه بقدر مظلمته, وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه» أخرجه البخاري.
158- وعنه أن رسول الله ( قال: «أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع, قال: إن المفلس من أمتي, من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة, ويأتي قد شتم هذا, وقذف هذا, وأكل مال هذا, وسفك دم هذا, وضرب هذا, فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته, فإن فنيت حسناته قبل انقضاء ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» أخرجه مسلم.
159- عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله (: «من مات وعليه دينار أو درهم قضى من حسناته, ليس ثَم دينار ولا درهم, من ترك ديناً أو ضياعاً فعلى الله ورسوله» أخرجه ابن ماجه.
فما أشد فرح بعض الناس اليوم بالمضمضة بأعراض المسلمين وأخذ أموالهم, وما أشد حسرتهم غداً عندما يأخذ حسناتهم الخصوم عندما يقف الظالم والمظلوم على بساط العدل والعاقل من عمل الصالحات كما قال عمر بن الخطاب (: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا, وحساب النفس يكون بالتوبة وتدارك التقصير في فرائض الله وبرد الحقوق إلى أهلها أو التحلل «المسامحة» منهم.
( ( ( ( ( (
[ 73 ]
أول من يحاسب أمة محمد (
160- عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي ( قال: «نحن آخر الأمم وأول من يحاسب يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون الأولون» أخرجه ابن ماجه وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما: «فتفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمضي غراً محجلين من آثار الوضوء فتقول الأمم: كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها» أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده بمعناه.
( ( ( ( ( (
[ 74 ]
أول ما يحاسب عليه من الأعمال، وما يقضى فيه
161- عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله (: « أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء» أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي.
162- وعنه أن رسول الله ( قال: «أول ما يحاسب عليه العبد: الصلاة وأول ما يقضى بين الناس: الدماء» أخرجه النسائي.
163- عن علي بن أبي طالب ( أنه قال: «أنا أول من يجثو يوم القيامة بين يدي الرحمن للخصومة» أخرجه البخاري, يريد قصته في مبارزته هو وصاحباه الثلاثة من كفار قريش في غزوة بدر. قال أبو ذر: وفيهم نزلت: { هذان خصمان اختصموا في ربهم } [الحج: 19].
164- عن حذيفة ( أنه رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده, فلما قضى صلاته قال له حذيفة: ما صليت ولو مت مت على غير سنة محمد (» أخرجه البخاري.
- على المسلم المحافظة على الفروض من إتمام ركوع وسجود وحضور قلب فإن غفل عن شيء من ذلك اجتهد في نفله ولا يتساهل فيه ومن لا يحسن صلاة الفرض فلن يحسن النفل لتهاون الناس فيه ونقره كنقر الديك وإذا كانت الصلاة بهذه الصفة دخل صاحبها في معنى قوله تعالى: { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة } والتضييع للصلاة هو عدم مراعاة حدودها من وقت وطهارة وتمام ركوع وسجود ونحو ذلك وهو مع ذلك يصليها, ولا يمتنع من القيام بها في وقتها وغير وقتها, وأما من تركها أصلاً فهو كافر.
( ( ( ( ( (
[ 75 ]
شهادة أعضاء الكافر والمنافق عليهما
165- عن أنس بن مالك ( قال: كنا عند رسول الله (، فضحك، فقال: «هل تدرون مما أضحك»؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: «من مخاطبة العبد ربه, يقول: يا رب, ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني قال: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً, قال: فيختم على فيه فيقال لأركانه: انطقي فتنطق بأعماله, قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام قال فيقول: بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل» أخرجه مسلم.
166- وعنه أن النبي ( قال: «يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً كنت تفتدي به؟ فيقول: نعم, فيقال له قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك» أخرجه البخاري ومسلم، وفي رواية مسلم: بدل «قد كنت»: «كذبت قد سئلت ما هو أيسر من ذلك».(/23)
أول ما يتكلم من الإنسان فخذه يحتمل وجهين:
الأول: زيادة في الفضيحة والخزي لأنه كان في الدنيا يجاهر بالفواحش.
الثاني: لمن جحد ما في كتابه فاستحق من الله الفضح والإخزاء.
والناس يوم القيامة ثلاث فرق:
فرقة لا يحاسبون أصلاً وهي من المؤمنين.
فرقة تحاسب حساباً يسيراً وهي من المؤمنين.
فرقة تحاسب حساباً عسيراً يكون منها مسلم وكافر.
والقيامة مواطن: فموطن يكون فيه سؤال وكلام وموطن لا يكون فيه ذلك. قال تعالى: { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون } [الحجر: 92]، وقال تعالى: { ولا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } [الرحمن: 39].
( ( ( ( ( (
[ 76 ]
شهادة الأرض بما عمل عليها وشهادة المال على صاحبه
167- عن أبي سعيد الخدري (، عن النبي ( أنه قال: «إن هذا المال خضر حلو, ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل- أو كما قال رسول الله ( - وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شهيداً يوم القيامة» أخرجه مسلم.
168- قال رسول الله (: «لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا مدر إلا شهد له يوم القيامة» أخرجه مالك وابن ماجه.
فكر أيها المسلم بأنك مشهود عليك في فعلك ومقالك وأعظم الشهود هو الله سبحانه الذي لا تخفى عليه خافية.
( ( ( ( ( (
[ 77 ]
سؤال الله للأنبياء وشهادة هذه الأمة لهم بالتبليغ
169- عن أبي سعيد الخدري ( قال: قال رسول الله ( قال: «يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل ويجيء النبي ومعه الرجلان ويجيء النبي ومعه الثلاثة, وأكثر من ذلك فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم فيدعى قومه فيقال: هل بلغكم؟ فيقولون لا فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فتدعى أمة محمد ( فيقال: هل بلغ هذا؟ فيقولون: نعم. فيقول: وما علمكم بذلك؟ فيقولون أخبرنا نبينا ( بذلك أن الرسل قد بلغوا فصدقناه, قال: فذلك قوله: { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } » أخرجه ابن ماجه.
( ( ( ( ( (
[ 78 ]
عقوبة منع الزكاة والغلول والغدر
170- عن أبي هريرة ( قال: قام فينا رسول الله ذات يوم فذكر الغلول وعظم أمره، ثم قال: «لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله, أغثني فأقول: لا أملك لك شيئاًً قد أبلغتك, لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة, يقول يا رسول الله, أغثني فأقول: لا أملك لك شيئاًً قد أبلغتك, لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول: يا رسول الله أغثني, فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح, يقول يا رسول الله: أغثني, فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك, لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول: يا رسول الله أغثني, فأقول: لا أملك لك من الله شيئاًً قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله, أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك» أخرجه البخاري ومسلم.
هذا عن الغلول وهو أخذ المجاهد من الغنيمة قبل قسمتها فهو وإن كان له سهم منها فلا يجوز له أن يأخذ سوى الحصة المخصصة له بعد القسمة كما لا يجوز للموظف ولا لغيره الأخذ من مال الدولة سوى ما خصص له من راتب ونحوه كما لا يجوز استخدام سيارات الدولة – أثناء أو بعد الدوام- للأغراض الخاصة.
171- عن ابن عمر ( قال: قال رسول الله ( : «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء فيقال: هذه غدرة فلان ابن فلان» أخرجه البخاري ومسلم.
172- عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( : «ما من صاحب ذهب ولافضة لايؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار قيل
يا رسول الله فالإبل ؟ قال: «ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ومن حقها حلبها يوم ورودها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر، أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلاً واحداً ، تطؤه بأخفافها ، وتعضه بأفواهها ، كلما مر عليه أولاها ،رد عليه أخراها ،في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ،حتى يقضى بين العباد ، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ....الخ » أخرجه مسلم.
أي أن الله سبحانه يجمع الفضيحة مع العذاب لكل من مانع الزكاة والغال والغادر.أجارنا الله وجميع المسلمين من هذه الذنوب ومن غيرها وأعاننا على طاعته إنه سميع مجيب.
( ( ( ( ( (
[ 79 ]
حوض النبي ((/24)
172- عن أنس بن مالك ( قال: بينا رسول الله ( ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسماً فقلنا: ما أضحك يا رسول الله؟ قال: «نزلت علي آنفاً سورة فقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر, فصل لربك وانحر, إن شانئك هو الأبتر } ، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم, قال: فإنه نهر وعدنيه ربي, عليه خير كثير, وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم, فيختلج العبد فأقول: يا رب, إنه من أمتي فيقال: ما تدري ما أحدث بعدك» أخرجه مسلم.
173- عن أبي ذر ( قال: قلت يا رسول الله، ما آنية الحوض؟ قال: «والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها في الليلة المظلمة المصحية، آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ، آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة من شرب منه لم يظمأ، عرضه مثل طوله، ما بين عمان إلى أيلة، ماؤه أشد بياضا من الثلج وأحلى من العسل» أخرجه مسلم.
174- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله (: «حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤه أبيض من الورِق، وريحه أطيب من المسك، كيزانه كنجوم السماء، من ورد فشرب منه لم يظمأ بعده أبداً» أخرجه البخاري.
يشخب: يسيل. الورق: الفضة. والصحيح أن للنبي ( حوضين: أحدهما في الموقف قبل الصراط والآخر في الجنة وكلاهما يسمى كوثراً.
175- عن أنس ( عن النبي ( قال: «ليردن عليَ ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني فأقول: أصحابي، فيقال لي: لا تدري ما أحدثوا بعدك» أخرجه البخاري.
قال العلماء رحمة الله عليهم أجمعين كل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبعدين عنه.
176- عن ا بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ( : «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج» أخرجه الترمذي.
177- عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله (: «إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم, وسيؤخذ ناس دوني فأقول: يا رب مني ومن أمتي فيقال: أما شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم» أخرجه مسلم.
- أيها القارئ الكريم: ينبغي أن لا يخطر ببالك أو يذهب بك الوهم إلى أن الحوض يكون على وجه هذه الأرض وإنما يكون وجوده في الأرض المبدلة على مساميه هذه الأقطار أو في المواضع التي تكون بدلاً من هذه المواضع في هذه الأرض وهي أرض بيضاء كالفضة لم يسفك فيها دم, ولم يُظلم على ظهرها أحد قط.
( ( ( ( ( (
[ 80 ]
ما جاء في الميزان وأنه حق
قال تعالى: { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً } [الأنبياء: 47].
وقال تعالى: { ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } [الأعراف: 9], [المؤمنون: 103]، الآية في الأعراف والمؤمنين.
قال العلماء: إذا انقضى الحساب جاء بعده الحساب لإظهار مقادير الأعمال ليكون الجزاء بحسبها، والمعنيون بقوله تعالى: خفت موازينه هم الكفار.
178- عن أبي هريرة (، عن النبي ( قال: «إنه ليأتي الرجل
العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة واقرؤوا إن شئتم: { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } [الكهف: 105]» أخرجه البخاري.
ومعنى الحديث: لا ثواب لهم ولا حسنة لهم توزن، وقيل: أي لا قدر لهم عندنا والله أعلم. وفي الحديث من الفقه: ذم السمن لمن تكلفه بل تحريم كثرة الأكل الزائد على قدر الكفاية المبتغى به الترفه والسمن.
179- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله (: «إن الله يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق - وعند ابن ماجه: يصاح برجل من أمتي - يوم القيامة, فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً, أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لايارب, فيقول: أفلك عذر؟ فقال: لا يا رب, فيقول: بل إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله, فيقول: احضر وزنك فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم. قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة فلا يثقل مع اسم الله شيء» أخرجه الترمذي.(/25)
وتوزن أعمال الكافر فيوضع كفره وسيئاته في كفة وتوضع في الكفة الأخرى ما له من صلة الرحم ومواسات الناس وعتق المملوك ونحو ذلك مما لو كانت من المسلم لكانت قربة وطاعة فترجح كفة الكفر ويجزى بأعمال البر فيخفف عنه بدليل حديث أبي طالب فإنه قيل له: يا رسول الله! إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل تفعل ذلك؟ فقال: «نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» [وهذه شفاعة خاصة من النبي ( لعمه أبي طالب] وسئل ( عن عبد الله بن جدعان، وقيل له: إنه كان يقري الضيف ويصل الرحم ويعين في النوائب, فهل ينفعه ذلك؟ فقال: «لا لأنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين»أي لا يدخل الجنة ولا يتنعم بها والله أعلم. وسأله عدي بن حاتم عن أبيه مثل ذلك فقال: «إن أباك طلب أمراً فأدركه» يعني الذكر فهو أيضاً لا يدخل الجنة ولا يتنعم بها والله أعلم. فدل أن الخيرات من الكافر ليست بخيرات, وأن وجودها وعدمها بمنزلة واحدة سواء ومع ذلك توزن لصاحبها والكفار مسؤولون عن الإيمان والبعث وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومحاسبون ومجزيون على الإخلال بها بدليل أنه يقال للمشركين: { ما سلككم في سقر؟ قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين } [المدثر: 42-47]، والذي يوزن: صحف الأعمال فتوضع صحف الحسنات في كفة وصحف السيئات في كفة.
قال العلماء: الناس في الآخرة ثلاث طبقات: متقون لا كبائر لهم, ومخلطون وهم الذين ارتكبوا الفواحش والكبائر, وكفار. فالمتقون تثقل موازينهم, والمخلطون فإما أن تثقل موازينهم فيدخلون الجنة وإما أن تخف فيدخلون النار ثم يخرجون بالشفاعة وأما إذا تساوت حسناتهم وسيئاتهم فيكونون من أهل الأعراف. وأما الكفار فكفة الحسنات فارغة وكفة السيئات مليئة فيأمر الله تعالى بهم إلى النار، وتوزن أعمال المؤمن التقي لإظهار فضله والكافر لخزيه وذله والمخلط السيئ بالصالح فإن دخل النار فيخرج بالشفاعة.
وقال سفيان الثوري: إنك إن تلقى الله عز وجل بسبعين ذنباً بينك وبينه أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد، لأن الله غني كريم, وابن آدم فقير مسكين محتاج في ذلك اليوم إلى حسنة يدفع بها سيئة إن كانت عليه حتى ترجح ميزانه فيكثر خيره وثوابه.
والميزان حق ولا يكون في حق كل أحد بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: فيقال يا محمد! أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه. وقوله تعالى: { يعرف المجرمون بسيماهم } الآية - وإنما يكون لمن بقي من أهل المحشر ممن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً من المؤمنين وقد يكون للكافرين. والجن مثل الإنس يحاسبون وتوزن أعمالهم كما يحاسب الإنس وتوزن أعمالهم سواء بسواء.
180- عن عائشة رضي الله عنها، أن رجلاً قعد بين يدي النبي ( فقال: يا رسول الله! إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم؟ قال: «يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم, فإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك, وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل»، قال: فتنحى الرجل فجعل يبكي ويهتف, فقال رسول الله (: أما تقرأ كتاب الله تعالى: { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً } [الأنبياء : 47 ]، فقال الرجل: والله يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئاً خيراً من مفارقتهم, أشهدك أنهم أحرار كلهم، أخرجه الترمذي وأحمد.
ومن تساوت حسناته وسيئاته أصبح من أهل الأعراف وهو سور بين الجنة والنار وعن ابن مسعود هم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة.
( ( ( ( ( (
[ 81 ]
يوم القيامة تتبع كل أمة ما كانت تعبد
181- عن أبي هريرة ( أن ناساً قالوا لرسول الله (: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله (: «هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله, قال: هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا قال: فإنكم ترونه كذلك, يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه, فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس, ويتبع من كان يعبد القمر القمر, ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت, وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها, فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم, فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا, فإذا جاء ربنا عرفناه, فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون, فيقول: أنا ربكم, فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه، ويضرب الصراط بين ظهري جهنم, فأكون أنا وأمتي أول من يجوز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل, ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم, وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان, هل رأيتم السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول الله, قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تخطف الناس بأعمالهم ، فمنهم الموبق بعمله ومنهم المجازى حتى ينجى» أخرجه مسلم.(/26)
- فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون: هذا امتحان للمنافقين أما المؤمنون فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئاً مرتين أو ثلاثا لأنهم عرفوا الله سبحانه في الدنيا وأنه منزه عن صفات هذه الصور لأن صفاتها صفات المخلوقين, ومعنى هل تضارون: لا يحجب بعضكم بعضاً ولا يضره ولا يزاحمه ولا يجادله كما يفعل عند رؤية الأهلة, بل كالحال عند رؤية الشمس والقمر ليلة تمامه.
فيتبعونه :أي فيتبعون أمره أو ملائكته ورسله الذين يسوقونهم إلى الجنة والله أعلم .
- والسعدان :نبات كثير الشوك ، الموبق :المهلك ، الدعوى :الدعاء.
( ( ( ( ( (
[ 82 ]
المرور على الصراط
182- عن أبي هريرة (: فيأتون محمداً ( فيؤذن لهم وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً فيمر أولهم كالبرق الخاطف قال: قلت: بأبي أنت وأمي وأي شيء كمر البرق؟ قال: «ألم ترى إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمر الريح, ثم كمر الطير وشد الرجال تجري بهم أعمالهم ونبيكم ( قائم على الصراط يقول: يا رب سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل ولا يستطيع السير إلا زحفاً» قال: وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت بأخذه, فمخدوش ناج, ومكردس في النار, والذي نفس محمد بيده, إن قعر جهنم لسبعون خريفاً» أخرجه مسلم.
183- عن حفصة رضي الله عنها، أن رسول الله ( قال: «لا يدخل النار أحد من أهل بدر والحديبية»، قالت: فقلت: يا رسول الله وأين قول الله عز وجل: { وإن منكم إلا واردها } [مريم:71]، فقال رسول الله (: { ثم ننجي الذين اتقوا } [مريم : 72] أخرجه مسلم من حديث أم مبشر قالت: سمعت رسول الله ( عند حفصة, الحديث.
184- عن أبي هريرة ( قال: قال رسول الله (: «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم» أخرجه البخاري ومسلم، أما معنى الورود: فهو المرور على الصراط, وقيل: الدخول, وقيل: النظر إليها في القبر, وقيل: الإشراف والاطلاع عليها والقرب منها عند الحساب، والذي يجمع الأقوال السابقة أن يقال: من وردها ولم تؤذه بلهبها وحرها فقد أُبعد عنها ونُجي منها, نجانا الله منها بفضله وكرمه وجعلنا ممن وردها سالماً وخرج منها غانماً.
( ( ( ( ( (
[ 83 ]
الصراط الثاني وهو قنطرة بين الجنة والنار
إن في الآخرة صراطين: أحدهما مجاز لأهل المحشر كلهم ثقيلهم وخفيفهم إلا من دخل الجنة بغير حساب أو من يلتقطه عنق النار فإذا خلص من خلص من هذا الصراط الأكبر الذي ذكرناه ولا يخلص إلا المؤمنون الذين علم الله منهم أن القصاص لا يستنفذ حسناتهم حبسوا على صراط آخر خاص لهم ولا يرجع إلى النار من هؤلاء أحد إن شاء الله لأنهم قد عبروا الصراط الأول المضروب على متن جهنم الذي يُسقط فيها من أوبقه ذنبه وأربى جرمه على الحسنات بالقصاص.
185- عن أبي سعيد الخدري ( قال: قال رسول الله (: «يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيُقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أُذن لهم في دخول الجنة, والذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان له في الدنيا» أخرجه البخاري.
( ( ( ( ( (
[ 84 ]
من دخل النار من الموحدين يحترق ويموت ثم يخرج بالشفاعة
186- عن أبي سعيد الخدري ( قال: قال رسول الله (: «أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناساً أصابتهم النار بذنوبهم أو قال: بخطاياهم فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحماً أُذن لهم في الشفاعة فيجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحِبة تكون في حميل السيل» أخرجه مسلم.
أي أن العصاة يموتون بعد أن يحترقوا ويصبحوا فحماً أما الكفار فهم لا يموتون لأن الله تعالى قال عنهم: { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب } [النساء: 56], وضبائر ضبائر: أي جماعات جماعات, وبثوا: أي فُرقوا, والحِبة: بذر البقول, وحميل السيل: ما احتمله من غثاء وطين.
( ( ( ( ( (
[ 85 ]
من هدي القرآن والسنة
قال عز وجل: { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } [الحج: 1-2]، وقال تعالى: { ولا يسأل حميم حميماً, يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى } [المعارج: 10-18]، وقال تعالى:
{ فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } [عبس: 33-37].(/27)
187- عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( حين أنزل الله عز وجل: { وأنذر عشيرتك الأقربين } ، قال: «يا معشر قريش أو كلمة نحوها: اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف: لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب: لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفية عمة رسول الله: لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد: سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً» أخرجه البخاري.
فكر أيها المسلم وفكري أيتها المسلمة في الأمر العظيم وهو قيام الساعة وإنه لعظيم حقاً حين تذهل الأم عن رضيعها وتسقط الحامل حملها وتكون عقول الناس خاوية وكل ذلك من الخوف والذي ينجي من ذلك: طاعة الله عز وجل وترك معاصيه. وحين لا يسأل الصديق عن صديقه ويبصر القريب قريبه ويود المذنب لو يفدي نفسه من عذاب يوم القيامة بأولاده وبزوجته وبأخيه وبعشيرته وبجميع من في الأرض, كلا, إنها النار التي تنزع اللحم عن العظم وتدعو المعرض البخيل لتصليه في حرها والذي ينجي من ذلك: طاعة الله وترك معاصيه.و إذا قامت الساعة وصخت الآذان فعندها يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وزوجته وأولاده ولكل واحد مما ذكر شأن يغنيه عن غيره ويجعله خائفاً من النار والذي ينجي من هذه الأهوال هو طاعة الله والبعد عن معاصيه
وإذا كان النبي ( لا يغني عن أقاربه شيئاً فلا يغني عن عمه ولا عن عمته ولا حتى عن ابنته أفلا يدل ذلك على أن ليس للإنسان إلا عمله الصالح وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
إن الله شديد العقاب وإنه غفور رحيم فبترك الذنوب بعد رحمة الله ننجو من عقابه
وبفعل الطاعات بعد عفو الله نحظى بمغفرته.ونعيش بين الرجاء والخوف ففي حال الصحة نقدم الخوف فنبتعد عن الذنوب والمعاصي وفي حال المرض نقدم الرجاء ونحسن الظن بالله لأنه تعالى قال في الحديث القدسي: «أنا عند حسن ظن عبدي بي»، وقال تعالى: { واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون } وقال تعالى: { واتقوا يوماً تُرجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } [البقرة: 48, 281]، وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } [التحريم : 6]، وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم } [الحجرات: 1]، وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا فإن الله غفور رحيم } [التغابن: 14]، وقال تعالى: { إنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم } [الآية السابقة من سورة الأنفال ورقمها: 28].
188- عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله (: «ما ادعُ بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» أخرجه البخاري ومسلم.
189- عن أبي سعيد الخدري ( أن رسول الله ( قام خطيباً وكان فيما قال: «إن الدنيا خضرة حلوة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون.ألا فاتقوا النار واتقوا النساء.فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» أخرجه مسلم.
190- عن كعب بن عياض ( قال: سمعت رسول الله ( يقول: «إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال» أخرجه الترمذي.
لقد أمرت آية سورة التحريم بالوقاية من النار للنفس والأهل من الزوج والأولاد.
ونهت آية سورة الحجرات عن التقدم على الكتاب والسنة فما أمر الله به في القرآن نفعله وما نهى عنه نتركه وكذلك ما أمر به النبي ( نفعله وما نهى عنه نتركه.
أما آيات سورتي التغابن والأنفال فقد نبهت وحذرت من الأموال والأزواج والأولاد.
وأما الأحاديث فقد نبهت وحذرت من فتنة النساء ومن فتنة المال، فإذا اعتبرنا واتعظنا بما سبق عن الموت وأهواله وشدائده وعن القبر ونعيمه أو عذابه فلنحاسب أنفسنا قبل أن نُحاسب.
هل نفعل ما أمرنا الله به وماأمر رسوله وننتهي عما نهى الله ورسوله لنقي أنفسنا من النار؟ وهل نقي الزوجة من النار بأمرها بالواجبات كالصلاة والحجاب ونهيها عن المحرمات كترك الصلاة والتبرج وهل الزوجة ترفض طاعة زوجها في معصية الله كأن يكون لا يصلي أو كان يدخن ولابد من بيان جواز كشف وجه المرأة بشروط ثلاثة عند القائلين من العلماء بالجواز وهذه الشروط:
الأول: ... عدم تعرضها للفتنة أي عدم تعرض الرجال لها بالكلام ونحوه.
الثاني: ... أن يكون الوجه كما خلقه الله تعالى أي بدون زينة على الإطلاق.
الثالث: ... ألا تكون بارعة الجمال حتى لاتعرّض الرجال للفتنة.(/28)
والقول الآخر للعلماء هو وجوب تغطية المرأة لوجهها ولكل فريق أدلته وليس مكان ذكرها هنا وفي كل قضية يكون للعلماء فيها قولان ينبغي الأخذ بالأحوط ففي تغطية أو عدم تغطية وجه المرأة يكون الأفضل التغطية إذا توافرت الشروط السابقة والأوجب إذا لم تتوافر بكاملها. أما الاختلاط كالسهرات الجماعية بين الرجال والنساء والتي لا تخلو من كشف للوجه ومزاح وضحك فلا تجوز وهي حرام وأما الدخان فتطبق عليه وعلى غيره القاعدة الفقهية: «ما زاد ضرره عن نفعه فهو حرام».
وهل الوالدان يحضّان الأولاد على الطاعات للنجاح في امتحان القبر كما يحضانهم على الدراسة للنجاح في امتحانات الدنيا؟؟؟؟
فالولد فتنة«امتحان» لوالديه فإن ربياه وعوداه على الطاعات كانا شركاءه في الأجر، وإن تركاه يرتع في المعاصي كانا شركاءه في الوزر.
والمرأة العاصية لله عدوة لزوجها لأنها تشركه في وزرها والزوج العاصي لله عدو لزوجته لأنه يشركها في وزره، والمال فتنة لصاحبه فالفوز والربح في كسبه بالحلال وإنفاقه في الحلال والهلاك والخسران في كسبه بالحرام وإنفاقه في الحرام.
والولد العاصي لله كتارك الصلاة كالعدو لوالديه يخاصمهما يوم القيامة لإهمالهما في توجيهه وكما يسبب العدو ضرراً لعدوه يسبب الولد العاصي ضرراً لوالديه بزيادة سيئاتهما.
والمرأة بوجه عام فتنة للرجل فإن كانت علاقته بها بالحلال فاز ونجا وإن كانت بالحرام خاب وخسر.
( ( ( ( ( (
[ 86 ]
الفرق بيننا وبين السلف
الفرق بيننا وبين السلف الصالح في الإيمان: نقص في إيماننا وزيادة في إيمانهم، كانوا إذا تحدثوا عن الجنة آمنوا بها كأنهم يرونها رأي العين فجدّوا في طلبها بما استطاعوا من صدقة وصوم وتطوع وصلاة في الليل والناس نيام إلى غير ذلك من النوافل فضلاً عن الواجبات، أما نحن فنتحدث عن الجنة كأي موضوع دون أن نتأثر أو يتغير في سلوكنا شيء نحو الأفضل فنبقى نصلي في بيوتنا بالرغم من أن صلاة الجماعة في المسجد إن لم تكن واجبة فهي أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة وصلاة الجماعة في المسجد أفضل من صلاة الجماعة في البيت لأنه كلما زاد عدد المصلين زاد الأجر وعدد الجماعة في المسجد أكثر من عددهم في البيت.
وإن تحدثوا عن النار آمنوا بها كأنهم يرونها رأي العين فتركوا صغائر الذنوب فضلاً عن كبائرها أما نحن فنتحدث عن النار فنضحك بدلاً من البكاء وكأننا نتحدث عن موقد للتدفئة وربما انتقلنا من ارتكاب الصغائر إلى ارتكاب الكبائر كالغيبة والنميمة إن لم يكن أكبر.
إذاً الفرق بيننا وبينهم هو: نقص إيماننا وزيادة إيمانهم، ومن العلاج المفيد لزيادة الإيمان - بعد توفيق الله - الإكثار من ذكر ما نحن بصدده وهو الموت.
وفي مناقشة بين علي بن أبي طالب ( وبين بعض المشركين قال لهم: نأكل كما تأكلون ونشرب كما تشربون ونتزوج كما تتزوجون فإن كانت حياة بعد الموت وحساب وجزاء فنحن الرابحون وأنتم الخاسرون وإن لم تكن حياة ولا حساب ولا جزاء فنحن وأنتم سواء، ففكر السامعون وآمن أكثرهم ونحن - ولله الحمد مؤمنون - وإن كان في إيماننا ضعف فلو أكثرنا من ذكر هادم اللذات الموت فلعل الله المنان ذا الجود والإكرام يتفضل علينا بزيادة إيماننا فهو نعم المسؤول ونعم المجيب.
وعلينا بزيادة تلاوة القرآن بتمهل وإمعان فذلك مما يساعد على زيادة الإيمان وليكن ما نتلوه كل يوم لا يقل عن جزء واحد وذلك بعد صلاة الفجر وقبل بدء العمل أو في أي وقت من اليوم. ويجب أن تكون التلاوة في الصلاة أو خارجها بتمهل وترتيل0فمن أراد الخشوع في الصلاة فليقرأ بتجويد وترتيل والتمهل في القراءة يساعد على الترتيل ومما يساعد على الخشوع أيضاً تنويع القراءة بحيث يقرأ في كل ركعة من سورة وإن كان ما يحفظه قليلاً فيكفيه أن يقرأ بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من الصلاة الثلاثية والرباعية وفي ركعتي الفجر يكفيه أن يقرأ آية طويلة أو ثلاث آيات قصار0ولا يداوم القراءة من سورة واحدة أو من سور محددة فإن ذلك لا يساعد على الخشوع.
( ( ( ( ( (
[ 87 ]
الخاتمة
بدأت بحمد الله وأختم بحمده سبحانه فهو وحده المستحق للحمد على نعمه التي لاتُحصى وأجلها نعمة الإيمان وأرجوه تعالى أن يجعلني ممن وصفهم بقوله: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون } [الأنفال: 2].
إن مشاهدة المحتضرين وإغماض عيونهم فور موتهم ومشاهدة القبر وكيفية دفن الميت فيه ومن قبل تغسيله وتكفينه والصلاة عليه كل ذلك إذا لم يؤثر فينا فما الذي يؤثر؟؟؟ وكذلك معرفة أمارات الساعة وما يجري بعد البعث والنشور من تطاير الصحف ووزن الأعمال والمرور على الصراط ففي ذلك ذكرى لمن يتذكر ويتعظ.
وفي الحديث: «ليس الخبر كالمعاينة» الذي مر برقم -10- تنبيه لذلك.(/29)
ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم لما نزل قوله تعالى: { ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } [المائدة: 90-91].
قالوا : انتهينا يا رب انتهينا وأراقوا دنان الخمر في أزقة المدينة.
وهل يكفي أن نعلم أن هول المطلع شديد ثم لا نتأثر ولا يتحول سلوكنا نحو الأفضل ؟ ألا نكون عندئذ من الغافلين؟؟!! والعياذ بالله.
عندما نُحتضر- وليس ذلك ببعيد - ونرى مقعدنا من الجنة أو النار،ونشاهد ملك الموت وملائكة الرحمة أو العذاب لا فائدة عندئذ من الرؤية والمشاهدة فقد انتهى الامتحان وصدرت النتائج كما عندما يحين موعد الحساب والمرور على الصراط يظهر الفرق بين من قدم لنفسه ومن لم يقدم ولا ينفع الندم.
أما الآن فعلينا اغتنام الحياة قبل الموت ،والصحة قبل المرض، والغنى قبل الفقر،والشباب قبل الهرم،والفراغ قبل الشغل،للتزوّد بالأعمال الصالحة والبعد عن الأعمال السيئة.
روي عن الشيخ عز الدين القسّام رحمه الله أنه كان يحثّ ويشجع المجاهدين الفلسطينين لقتال اليهود وقد شعر المجاهدون أن الشيخ سيخرج للجهاد فقالوا له: نكفيك عن الجهاد للحاجة إليك للتوجيه قال: إني لأستحي من الله أن أدعو إلى الجهاد ولا أجاهد،ثم خرج وقاتل حتى استُشهد،وعلينا أن نستحي من الله بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه وبذلك نكون قد اعتبرنا بالموت وما بعده وبالبعث وما بعده.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين
( ( ( ( ( (
- الفهرس -
الرقم ... الموضوع ... ... ... ... ... ... الصفحة
المقدمة ... 3
[ 1 ] النهي عن تمني الموت والدعاء به لضر نزل في المال والجسد ... 7
[ 2 ] جواز تمني الموت والدعاء به خوف ذهاب الدين ... 8
[ 3 ] ذكر الموت وفضله والاستعداد له ... 9
[ 4 ] ما يذكر بالموت والآخرة ويزهد في الدنيا ... 10
[ 5 ] ما يقال عند زيارة القبور وجواز البكاء عندها ... 11
[ 6 ] المؤمن يموت بعرق الجبين ... 12
[ 7 ] سكرات الموت ... 13
[ 8 ] الموت كفارة لكل مسلم ... 15
[ 9 ] حسن الظن بالله ... 15
[ 10 ] تلقين المحتضر لا إله إلا الله ... 16
[ 11 ] من حضر المحتضر فليتكلم بخير ويدعو له إن مات ... 17
[ 12 ] سوء الخاتمة والعمل بالخواتيم ... 18
[ 13 ] رسل ملك الموت قبل الوفاة ... 19
[ 14 ] التوبة وشروطها ... 20
[ 15 ] لا تخرج روح العبد حتى يبشر ويصعد بها ... 24
[ 16 ] تلاقي الأرواح في السماء والسؤال عن أهل الأرض ... 26
[ 17 ] نسبة الخلق والتصوير والوفاة للملك نسبة مجازية ... 26
[ 18 ] تحسين الكفن والإسراع بالجنازة وكلامها ... 28
الرقم ... الموضوع ... ... ... ... ... ... الصفحة
[ 19 ] هل ينتفع الموتى بشيء من سعي الأحياء أم لا؟ ... 29
[ 20 ] يدفن العبد في الأرض التي خلق منها ... 30
[ 21 ] كل عبد يذر عليه من تراب حفرته ... 31
[ 22 ] ما يتبع الميت إلى قبره وما يبقى معه وهول المطلع ... 31
[ 23 ] القبر أول منازل الآخرة ... 32
[ 24 ] اختيار مكان الدفن وفضله في المدينة المنورة ... 34
[ 25 ] ضغط القبر على صاحبه وإن كان صالحاً ... 35
[ 26 ] الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه ... 36
[ 27 ] الوقوف عند القبر بعد الدفن والدعاء للميت بالتثبيت ... 37
[ 28 ] سؤال الملكين للميت ... 38
[ 29 ] حديث البراء المشهور عن أحوال الموتى ... 40
[ 30 ] من أسباب عذاب القبر ... 44
[ 31 ] الاستعاذة من عذاب القبر ومن عذاب النار ... 45
[ 32 ] ما ينجي من فتنة القبر وعذابه ... 45
[ 33 ] الميت يُعرض عليه مقعده بالغداة والعشي ... 47
[ 34 ] من هم الشهداء؟ سوى الشهيد في سبيل الله؟ ... 48
[ 35 ] الإنسان يبلى إلا عجب الذنب ... 49
[ 36 ] أجساد الأنبياء والشهداء لا تبلى وهم أحياء ... 49
[ 37 ] الموتى يسمعون ... 50
[ 38 ] عذاب القبر هو عذاب البرزخ ... 50
[ 39 ] رؤيا للنبي (: ... 51
الرقم ... الموضوع ... ... ... ... ... ... الصفحة
[ 40 ] الأرواح منعمة ومعذبة ... 53
[ 41 ] للأنفس أربع دور ... 54
[ 42 ] أشراط الساعة ... 55
[ 43 ] بعثت أنا والساعة كهاتين ... 57
[ 44 ] أمور تكون بين يدي الساعة ... 58
[ 45 ] أول ما يرفع من الناس الخشوع والفرائض [علم المواريث] ... 61
[ 46 ] دروس الإسلام وذهاب القرآن ... 62
[ 47 ] ذكر بعض ما جاء عن الدجال ... 62
[ 48 ] نزول عيسى عليه الصلاة والسلام ... 64
[ 49 ] خروج يأجوج ومأجوج ... 65
[ 50 ] خروج الدابة ومن أين تخرج ... 65
[ 51 ] طلوع الشمس من مغربها ... 66
[ 52 ] لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله ... 68
[ 53 ] على من تقوم الساعة؟ ... 68
[ 54 ] انقراض الخلق وذكر النفخ والصعق ... 70
[ 55 ] يفنى العباد ويبقى الملك لله وحده ... 71(/30)
[ 56 ] النفخ الثاني للبعث في الصور ... 72
[ 57 ] يبعث كل عبد على ما مات عليه ... 73
[ 58 ] أين يكون الناس؟ { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات } ... 74
[ 59 ] أمور تكون قبل الساعة ... 74
[ 60 ] الحشر ومعناه الجمع ... 75
الرقم ... الموضوع ... ... ... ... ... ... الصفحة
[ 61 ] أحوال الناس بعد البعث وكيف يحشرون ... 77
[ 62 ] يحشر الناس حفاة عراة غرلاً ... 78
[ 63 ] لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ... 79
[ 64 ] يوم القيامة في سور التكوير والانفطار والانشقاق ... 80
[ 65 ] من أهوال يوم القيامة ... 82
[ 66 ] ما ينجي من أهوال يوم القيامة ... 83
[ 67 ] الشفاعة العامة لأهل المحشر ... 84
[ 68 ] الشفاعة العامة لأهل الموقف هي المقام المحمود ... 87
[ 69 ] أسعد الناس بشفاعة النبي ( ... 89
[ 70 ] العرض وتطاير الصحف ومن نوقش الحساب عُذب ... 89
[ 71 ] الله تعالى يكلم العبد ليس بينه وبينه ترجمان ... 92
[ 72 ] القصاص يوم القيامة بين الناس ... 93
[ 73 ] أول من يحاسب أمة محمد ( ... 94
[ 74 ] أول ما يحاسب عليه من الأعمال وما يقضى فيه ... 95
[ 75 ] شهادة أعضاء الكافر والمنافق عليهما ... 96
[ 76 ] شهادة الأرض بما عمل عليها وشهادة المال على صاحبه ... 97
[ 77 ] سؤال الله للأنبياء وشهادة هذه الأمة لهم بالتبليغ ... 98
[ 78 ] عقوبة منع الزكاة والغلول والغدر ... 99
[ 79 ] حوض النبي ( ... 101
[ 80 ] ما جاء في الميزان وأنه حق ... 103
[ 81 ] يوم القيامة تتبع كل أمة ما كانت تعبد ... 107
الرقم ... الموضوع ... ... ... ... ... ... الصفحة
[ 82 ] المرور على الصراط ... 108
[ 83 ] الصراط الثاني وهو قنطرة بين الجنة والنار ... 110
[ 84 ] من دخل النار من الموحدين يحترق ويموت ثم يخرج بالشفاعة ... 110
[ 85 ] من هدي القرآن والسنة ... 111
[ 86 ] الفرق بيننا وبين السلف ... 117
[ 87 ] الخاتمة ... 119
الفهرس ... 121
( ( ( ( ( ((/31)
المختصر في حكم الأعياد المحدثة
الفصل الأول: بيان الحكم الشرعي في الأعياد المحدثة:
المسألة الأولى: حصر الأعياد في المشروع فقط:
تواترت النصوص الشرعية على حصر الأعياد الزمانية في الإسلام في عيدين حوليين هما الفطر والأضحى، لا ثالث لهما سوى العيد الأسبوعي يوم الجمعة، وأن ما سوى ذلك من الأعياد إنما هو محدث، سواء كان أسبوعياً أم حولياً أم قرنياً أم غير ذلك.
والأصل في هذا حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر))([1]).
فحصر النبي صلى الله عليه وسلم أعياد الإسلام في هذين اليومين ونهى عن غيرهما، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما)) يقتضي ترك الجمع بينهما، لا سيما وقوله: ((خيراً منهما)) يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية. وأيضاً فقوله لهم: ((إن الله قد أبدلكم)) لما سألهم عن اليومين فأجابوه بأنهما يومان كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية دليل على أنه نهاهم عنهما اعتياضاً بيومي الإسلام؛ إذ لو لم يقصد النهي لم يكن ذكر هذا الإبدال مناسباً، إذ أصل شرع اليومين الإسلاميين كانوا يعلمونه ولم يكونوا ليتركوه لأجل يومي الجاهلية"([2]).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقولت الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا))([3]).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فالدلالة من وجوه:
أحدها: قوله: ((إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا)) فإن هذا يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم كما أن الله سبحانه لما قال: {وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا} [البقرة:148] وقال: { لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48] أوجب ذلك اختصاص كل قوم بوجهتهم وبشرعتهم وذلك أن اللام تورث الاختصاص.
الثاني: قوله: ((وهذا عيدنا)) فإنه يقتضي حصر عيدنا في هذا فليس لنا عيد سواه..."([4]).
وثمة أدلةٌ أخرى أيضاً غير هذه تدلّ على النهي عن إحداث عيد آخر سوى العيد الذي شرعه الله تعالى لهذه الأمة.
وحسب المسلم من ذلك الحديث المشهور: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))، وفي لفظ: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))([5]).
فهو أصل في رد كل المحدثات في الدين ومنها الأعياد الزمانية والمكانية.
وبيان ذلك: أن الأعياد بأنواعها هي من شعائر الدين حتى الأعياد المدنية فيشملها هذا الحديث، بخلاف العادات الأخرى المخترعة كالصناعات ونحوها فإنها لا تدخل في النهي بل الأصل فيها الإباحة، والله تعالى أعلم.
المسألة الثانية: النهي عن التشبه بالكفار في أعيادهم:
وتواترت الأدلة الشرعية أيضاً على النهي عن مشابهة الكفار في شيء من أمور دينهم، ومنها أعيادهم.
والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصر، منها ما هو في النهي عن مطلق التشبه بهم، ومنها ما يختص بأمور معينة، ومنها ما ورد في خصوص الأعياد.
القسم الأول: النهي عن مطلق التشبه بهم:
1- قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18].
أخبر الحق سبحانه أنه جعل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على شريعة شرعها له وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته. وأهواؤهم هي ما يهوونه وما عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك فهم يهوونه، وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه، ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين لهم في بعض أمورهم، ويسَرّون به، ويودّون أن لو بذلوا عظيماً ليحصل ذلك([6]).
2- وقال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ} [آل عمران:105].
نهى سبحانه عن مشابهة اليهود والنصارى الذين تفرقوا واختلفوا فصاروا أحزاباً وشيعاً، فجنس مخالفتهم وترك مشابهتهم أمر مشروع، وكلما بعد الرجل عن مشابهتهم فيما لم يشرع لنا كان أبعد عن الوقوع في نفس المشابهة المنهي عنها وهذه مصلحة جليلة([7]).
3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم))([8]).
قال شيخ الإسلام: "وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم"([9]).(/1)
4- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لتتبعنَّ سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم))، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!))([10]).
ونحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كفارس والروم؟ فقال: ((ومن الناس إلا أولئك؟!))([11]).
قال ابن بطال: "أعلم صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وأن الدين إنما يبقى قائماً عند خاصة من الناس"([12]).
وقال شيخ الإسلام: "وهذا كله خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك والذم لمن يفعله، كما كان يخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات، فعلم أن مشابهتها اليهود والنصارى وفارس والروم مما ذمه الله ورسوله وهو المطلوب"([13]).
القسم الثاني: النهي عن مشابهتهم في أمور مخصوصة:
أما النهي عن مشابهتهم في أمور مخصوصة والأمر بمخالفتهم فقد تواترت الأدلة على معناه ومن ذلك:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم))([14]).
2- عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: ((خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب، وأوفوا اللحى))([15]).
3- عن شداد بن أوس رضي الله عنه مرفوعا: ((خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم))([16]).
القسم الثالث: النهي عن التشبه بهم في أعيادهم:
وفيما يلي خلاصة ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: "إذا تقرر هذا الأصل في مشابهتهم فنقول: موافقتهم في أعيادهم لا تجوز من طريقين:
الطريق الأول العام: هو ما تقدَّم من أن هذا موافقةٌ لأهل الكتاب فيما ليس في ديننا ولا عادةِ سلفنا، فيكون فيه مفسدةُ موافقتهم، وفي تركه مصلحةُ مخالفتِهم، حتى لو كان موافقتهم في ذلك أمراً اتفاقياً ليس مأخوذاً عنهم لكان المشروع لنا مخالفتُهم لما في مخالفتهم من المصلحة كما تقدمت الإشارة إليه، فمن وافقهم فوَّت على نفسه هذه المصلحةَ وإن لم يكن قد أتى بمفسدة، فكيف إذا جمعهما؟!
ومن جهة أنه من البدع المحدثة، وهذه الطريق لا ريب أنها تدل على كراهة التشبه بهم في ذلك، فإن أقلَّ أحوال التشبّه بهم أن يكون مكروهاً، وكذلك أقلّ أحوال البدع أن تكون مكروهة، ويدلّ كثير منها على تحريم التشبه بهم في العيد، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم))، فإن موجبَ هذا تحريمُ التشبه بهم مطلقاً، وكذلك قوله: ((خالفوا المشركين)) ونحو ذلك، ومثل ما ذكرنا من دلالة الكتاب والسنة على تحريم سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأعيادهم من سبيلهم إلى غير ذلك من الدلائل.
وأما الطريق الثاني الخاص في نفس أعياد الكفار: فالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار.
أما الكتاب: فمما تأوله غير واحد من التابعين وغيرهم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً} [الفرقان:72]، فروى أبو بكر الخلال في الجامع بإسناده عن محمد بن سيرين في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قال: (هو الشعانين([17]))، وكذلك ذكر عن مجاهد قال: (هو أعياد المشركين)، وكذلك عن الربيع بن أنس قال: (أعياد المشركين). وإذا كان الله قد مدح ترك شهودها الذي هو مجرد الحضور برؤية أو سماع، فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك من العمل الذي هو عمل الزور لا مجرد شهوده؟! ثم مجرَّد هذه الآية فيها الحمد لهؤلاء والثناء عليهم، وذلك وحده يفيد الترغيب في ترك شهود أعيادهم وغيرها من الزور، ويقتضي الندب إلى ترك حضورها، وقد يفيد كراهة حضورها لتسمية الله لها زوراً.
فأما تحريم شهودها من هذه الآية ففيه نظر، ودلالتها على تحريم فعلها أوجه، لأن الله تعالى سماها زوراً، وقد ذم من يقول الزور، وإن لم يضر غيره لقوله في المتظاهرين: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة:2].
فسواء كانت الآية دالة على تحريم ذلك أو على كراهته أو استحباب تركه حصل أصل المقصود، إذ من المقصود بيان استحباب ترك موافقتهم أيضاً، فإن بعض الناس قد يظن استحباب فعل ما فيه موافقة لهم لما فيه من التوسيع على العيال أو من إقرار الناس على اكتسابهم ومصالح دنياهم، فإذا علم استحباب ترك ذلك كان أول المقصود.(/2)
وأما السنة: فروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا:كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)) رواه أبو داود بهذا اللفظ([18])، فوجه الدلالة أن العيدين الجاهليين لم يقرَّهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة بل قال: ((إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين))، والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدَل منه، إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه، ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما.
الحديث الثاني حديث ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟)) قالوا: لا، قال: ((فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟)) قالوا: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم))([19])، هذا الإسناد على شرط الصحيحين، فوجه الدلالة أن هذا الناذر كان قد نذر أن يذبح نعماً، إما إبلاً وإما غنماً، وإما كانت قضيتين([20])، بمكان سماه فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل كان بها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟)) قال: لا… الحديث، وفيه قال: ((لا وفاء لنذر في معصية))، وهذا يدل على أن الذبح بمكان عيدهم ومحل أوثانهم معصية لله.
يوضح ذلك أن العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد، إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك.
فالعيد يجمع أموراً: منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة، ومنها اجتماع فيه، ومنها أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات، وقد يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقاً، وكل من هذه الأمور قد يسمَّى عيداً، فالزمان كقوله صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة: ((إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيداً))([21])، والاجتماع والأعمال كقول ابن عباس رضي الله عنهما: شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم([22])، والمكان كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا قبري عيداً))([23]). وقد يكون لفظ العيد اسماً لمجموع اليوم والعمل فيه، وهو الغالب كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعهما ـ يا أبا بكر ـ فإن لكل قوم عيداً، وإن هذا عيدنا)).
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل بها عيد من أعيادهم؟)) يريد اجتماعاً معتاداً من اجتماعاتهم التي كانت عيداً، فلما قال: لا قال له: ((أوف بنذرك))، وهذا يقتضي أن كون البقعة مكاناً لعيدهم مانعٌ من الذبح بها وإن نذر، كما أن كونها موضعَ أوثانهم كذلك، وإلا لما انتظم الكلام ولا حسن الاستفصال.
ومعلوم أن ذلك إنما هو لتعظيم البقعة التي يعظمونها بالتعييد فيها، أو لمشاركتهم في التعييد فيها، أو لإحياء شعار عيدهم فيها ونحو ذلك، إذ ليس إلا مكان الفعل أو نفس الفعل أو زمانه. وإذا كان تخصيص بقعة عيدهم محذوراً فكيف نفس عيدهم؟!
وهذا نهي شديد عن أن يفعل شيء من أعياد الجاهلية على أي وجه كان. وأعياد الكتابيين التي تتخذ ديناً وعبادة أعظم تحريماً من عيد يتَّخذ لهواً ولعباً، لأن التعبّد بما يسخطه الله ويكرهه أعظم من اقتضاء الشهوات بما حرَّمه.
ومما ورد في السنة أيضاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً، والنصارى بعد غد)) متفق عليه([24]).
وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة عيداً في غير موضع، ونهى عن إفراده بالصوم لما فيه من معنى العيد. ثم إنه في هذا الحديث ذكر أن الجمعة لنا كما أن السبت لليهود والأحد للنصارى، واللام تقتضي الاختصاص، فإذا نحن شاركناهم في عيدهم يوم السبت أو عيد يوم الأحد خالفنا هذا الحديث.
وإذا كان هذا في العيد الأسبوعي فكذلك في العيد الحولي([25]) إذ لا فرق.
وأما الإجماع والآثار فمن وجوه:
أحدها: ما قدمت التنبيه عليه من أن اليهود والنصارى والمجوس ما زالوا في أمصار المسلمين بالجزية يفعلون أعيادهم التي لهم، والمقتضي لبعض ما يفعلونه قائم في كثير من النفوس، ثم لم يكن على عقد السابقين من المسلمين من يشركهم في شيء من ذلك، فلولا قيام المانع في نفوس الأمة كراهة ونهياً عن ذلك وإلا لوقع ذلك كثيراً، إذ الفعل مع وجود مقتضيه وعدم منافيه واقع لا محالة، والمقتضي واقع فعلم وجود المانع، والمانع هنا هو الدين، فعلم أن الدين دين الإسلام هو المانع من الموافقة وهو المطلوب.(/3)
الثاني: أنه قد تقدم في شروط عمر رضي الله عنه التي اتفقت عليها الصحابة وسائر الفقهاء بعدهم أن أهل الذمة من أهل الكتاب لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام، فإذا كان المسلمون قد اتفقوا على منعهم من إظهارها فكيف يسوغ للمسلمين فعلها؟! أوَليس فعل المسلم لها أشدَّ من فعل الكافر لها مظهراً لها؟!
الثالث: روى البيهقي في باب كراهة الدخول على أهل الذمة في كنائسهم والتشبه بهم بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لا تعلَّموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم)([26])، وروى بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (من بنى ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة)([27]).
فهذا عمر رضي الله عنه نهى عن تعلم لسانهم وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم، فكيف بفعل بعض أفعالهم أو فعل ما هو من مقتضيات دينهم؟! أليست موافقتُهم في العمل أعظمَ من الموافقة في اللغة؟! أوَليس عمل بعض أعمال عيدهم أعظمَ من مجرد الدخول عليهم في عيدهم؟! وإذا كان السخط ينزل عليهم يومَ عيدهم بسبب عملهم فمن يشركهم في العمل أو بعضه أليس قد تعرض لعقوبة ذلك؟!
وأما عبد الله بن عمرو فصرح أنه من بنى ببلادهم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم، وهذا يقتضي أنه جعله كافراً بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور، أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار، وإن كان الأول ظاهرَ لفظه، فتكون المشاركة في بعض ذلك معصية"([28]).
ثم نقل شيخ الإسلام نصوصاً عن الإمام أحمد رحمه الله في المنع من شهود أعياد النصارى واليهود، ومثله عن القاضي أبي يعلى وأبي الحسن الآمدي والخلال.
ثم قال: "وأما الاعتبار في مسألة العيد فمن وجوه:
أحدها: أن الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله سبحانه: {لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:67]، كالقبلة والصلاة والصيام، فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر، بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به الشرائع ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره، ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه، وأما مبدؤها فأقل أحواله أن يكون معصية، وإلى هذا الاختصاص أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إن لكل قوم عيداً وإن هذا عيدنا))، وهذا أقبح من مشاركتهم في لبس الزنار([29]) ونحوه من علاماتهم، لأن تلك علامة وضعية ليست من الدين، وإنما الغرض بها مجرد التمييز بين المسلم والكافر، وأما العيد وتوابعه فإنه من الدين الملعون هو وأهله، فالموافقة فيه موافقة فيما يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه.
الوجه الثاني: أن ما يفعلونه في أعيادهم معصية لله لأنه إما محدث مبتدع وإما منسوخ، وأحسن أحواله ولا حسن فيه أن يكون بمنزلة صلاة المسلم إلى بيت المقدس. هذا إذا كان المفعول مما يتديَّن به، وأما ما يتبع ذلك من التوسع في العادات من الطعام واللباس واللعب والراحة فهو تابع لذلك العيد الديني.
الوجه الثالث: أنه إذا سوّغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل الكثير، ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس وتناسوا أصله، حتى يصير عادة للناس بل عيداً حتى يضاهى بعيد الله، بل قد يزاد عليه حتى يكاد أن يفضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر"([30]).
فقد تبين أن أعياد المسلمين محصورة فيما شرعه الله تعالى لهم، وأن لكل أمة منسكاً وعيداً مختصاً بهم هو من شعائر ملتهم، وأن الله عز وجل نهى المسلمين عن التشبه بالكافرين في أعيادهم وفي كل ما يختصون به من أمور دينهم وشعائرهم، وأن هذا مما تواترت به النصوص والأدلة الشرعية وأجمع عليه سلف هذه الأمة من زمن الصحابة رضي الله عنهم، إذ لم يؤثر عن واحد منهم أنه احتفل بعيد من الأعياد سوى أعياد المسلمين، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، فهم كانوا أحرص على الخير ممن جاء بعدهم، وكذا التابعون لهم لم يحدثوا احتفالاً بذكرى يوم معين لا إسلامي ولا جاهلي ولا غيره، مع وجود المقتضي لذلك وهو كثرة المناسبات وأيام الفرح والسرور، وانتفاء الموانع لإقامة الأعياد والاحتفالات بذكرى الأيام الإسلامية سوى مانع واحد وهو أن ذلك إحداث في دين الله ومعصية مكروهة كراهة تحريم.(/4)
ومضى على ذلك أتباع التابعين وأئمة المسلمين مستنين بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم مقتدين بآثار سلفهم، هذا وهم يرون سائر الأمم المحيطة بهم من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وغيرهم يحتفلون بأيام خاصة، منها ما توارثوه ممن سبقهم، ومنها ما أحدثوه هم من أعياد ومواسم بحسب ما تجدد لهم من أمور وأحداث دينية ودنيوية، فلم يلتفت المسلمون إلى ذلك، ولم يقل أحد منهم: إنَّا أحق بالاحتفال بالأيام والمناسبات الإسلامية التي نصر الله فيها الحق وأهله ودحر الباطل وأهله كيوم بدر مثلاً أو الخندق أو الفتح أو القادسية أو اليرموك أو غيرها، مع أن منها ما امتن الله به على المؤمنين في كتابه كما في سور الأنفال والتوبة والأحزاب والفتح وغيرها. ولم يحتفلوا كذلك بذكرى فتوح البلدان المشهورة كفتح مصر والشام والعراق وما وراء النهر مع قوة الداعي إلى ذلك، ولا اجترأ الخلفاء والملوك والأمراء أن يحتفلوا بأيام المسلمين أو أيامهم الخاصة بهم، وإنما حدث ذلك حين تولى العبيديون الذين سموا أنفسهم بالفاطميين.
بدعة الاحتفال بالمولد النبوي:
لعل أول من يعزى إليه إحداث الأعياد والاحتفالات عامة والموالد خاصة هم العبيديون، قال المقريزي: "كان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم، وهي موسم رأس السنة، وموسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولد الحسن، ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وليلة نصفه، وليلة أول شعبان، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وموسم فتح الخليج، ويوم النوروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس، وأيام الركوبات"([31]). وذكر بعض ما يفعل في تلك الاحتفالات والأعياد خاصة الموالد الستة.
وذكر الشيخ محمد بخيث المطيعي ـ مفتي الديار المصرية سابقاً ـ أن أولَ من أحدث تلك الاحتفالات بالموالد الستة ـ أي: مولد النبي صلى الله عليه وسلم ومولد علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم ومولد الخليفة الحاضر ـ هو المعز لدين الله وذلك في سنة 362هـ، وأن هذه الاحتفالات بقيت إلى أن أبطلها الأفضل بن أمير الجيوش بعد ذلك.
وكذا قال الشيخ علي محفوظ([32]) والأستاذ علي فكري([33]) وغيرهم ذكروا أن العبيديين هم أول من أحدث هذه الأعياد والاحتفالات.
من العبيديون؟
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقد كانت مدة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسراً، فصاروا كأمس الذاهب كأن لم يغنوا فيها.
وكان أول من ملك منهم المهدي، وكان من سلمية حداداً، وكان يهودياً فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبيد الله، وادعى أنه شريف علوي فاطمي، وقال عن نفسه: إنه المهدي، وقد راج لهذا الدعي الكذاب ما افتراه في تلك البلاد، ووازره جماعة من الجهلة وصارت له دولة وصولة، ثم تمكن إلى أن بنى مدينة سماها المهدية نسبة إليه، وصار ملكاً مطاعاً يظهر الرفض وينطوي على الكفر المحض.
ثم كان من بعده ابنه القائم محمد، ثم ابنه المنصور إسماعيل، ثم ابنه المعز معد وهو أول من دخل ديار مصر منهم وبنيت له القاهرة المعزية والقصران، ثم ابنه العزيز نزار، ثم ابنه الحاكم منصور، ثم ابنه الطاهر علي، ثم ابنه المستنصر معد، ثم ابنه المستعلي أحمد، ثم ابنه الآمر منصور، ثم ابن عمه الحافظ عبد المجيد، ثم ابنه الظافر إسماعيل، ثم الفائز عيسى، ثم ابن عمه العاضد عبد الله وهو آخرهم، فجملتهم أربعة عشر ملكاً، ومدتهم مائتان ونيف وثمانون سنة.
وقد كان الفاطميون من أغنى الخلفاء وأكثرهم مالاً، وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات، وكثر أهل الفساد وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية"([34]).
سلطان إربل وإحياء الموالد:
وكان بالموصل رجل من الزهاد هو الشيخ عمر بن محمد الملا، وكانت له زاوية يقصد فيها، وله في كل سنة دعوة في شهر المولد يحضر فيها عنده الملوك والأمراء والعلماء والوزراء ويحتفل بذلك([35]).
قال أبو شامة في معرض كلامه عن الاحتفال بالمولد النبوي: "وكان أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين، وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيره رحمهم الله تعالى"([36]).(/5)
وصاحب إربل هذا هو المظفر أبو سعيد كوكبري بن زيد الدين علي بن تبكتكين سلطان إربل المتوفى سنة 630هـ، وهو أشهر من بالغ في الاحتفال بالمولد النبوي بعد العبيديين، فكان يعمل لذلك احتفالاً هائلاً كما ذكر ابن كثير في تاريخه وقال: "قال السبط: حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى. قال: وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية، فيخلع عليهم ويطلق لهم ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم... ـ إلى أن قال: ـ وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار"([37]).
وقال الشيخ علي محفوظ: "وأول من أحدث المولد النبوي بمدينة إربل الملك المظفر أبو سعيد في القرن السابع، وقد استمر العمل بالموالد إلى يومنا هذا، وتوسع الناس فيها، وابتدعوا بكل ما تهواه أنفسهم وتوحيه إليهم شياطين الإنس والجن، ولا نزاع في أنها من البدع، إنما النزاع في حسنها وقبحها"([38]).
فتبين مما سبق أن الاحتفال بالموالد ونحوها هو من ابتداع العبيديين، ثم تابعهم عليها غيرهم من الزهاد والملوك وقلدهم في ذلك العوام، وقد علمت أن هذا كله مخالف لدلالات النصوص الشرعية ولعمل سلف هذه الأمة في القرون المفضلة.
ويدخل في ذلك كل الاحتفالات والأعياد المحدثة سواء كانت متعلقة بمناسبات دينية كذكرى المولد النبوي أو الإسراء والمعراج أو الهجرة أو الغزوات والفتوحات، أم تعلقت بغيرها من المناسبات كالأعياد الوطنية ونحوها، فكلها داخل في النهي، ويعظم خطرها ونكارتها إذا عرف أنها مأخوذة من أعياد الكفار، كأعياد اليوبيل بأنواعه: الفضي والذهبي والماسي([39]).
المسألة الثالثة: من شبه المخالفين:
ومن شبه المخالفين في هذه الأعياد ما يلي:
الشبهة الأولى: إن هذه ليست أعياداً وإنما هي احتفالات أو مناسبات وذكريات فقط، بخلاف الأعياد التي يشرع فيها ذكر معين وصلاة معينة ونحو ذلك.
والجواب: إن هذا الذي ذكرتموه من الاحتفالات أو الذكريات المتكررة في الأعوام أو الشهور أو غير ذلك هو معنى العيد، إذ العيد ـ كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله ـ هو اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائد إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو نحو ذلك.
وقال: "فالعيد يجمع أموراً: منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة، ومنها اجتماع فيه، ومنها أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات"([40]).
فيقال للمحتفلين بالمولد النبوي والإسراء والمعراج ونحو ذلك: ألستم تجتمعون في كل عام لهذا الغرض وتحتفلون به وتعملون لذلك برنامجاً خاصاً وتقيمون لذلك عادة ولائم خاصة بهذه المناسبة؟! ويقال للمحتفلين بالأعياد المدنية أو الوطنية أو اليوبيل: ألستم تفعلون نحو ذلك؟! فهذا هو العيد سواء سميتموه به أو بغيره فالعبرة بالحقائق والمسميات، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها))([41]).
تنبيه: هناك فرق بين هذا الاحتفال الذي يعود ويتكرر وبين أن تحدث نعمة للمرء فيفرح لها ويصنع وليمة يدعو لها الناس فإن هذا ليس عيداً، بل هو من المباحات ما لم يشتمل على شيء من الأمور التي تخرجه إلى المكروه أو المحرم. ولو قدر أن هذا الشخص أعاد الاحتفال بمناسبة تلك النعمة أعواماً أخرى فإن هذا يصيره عيداً ويدخله في حكم المحدثات من الأعياد والاحتفالات.
وليس ذلك مختصاً بالنعم بل حتى الذي يفعله بعض الناس من الاحتفال بذكرى الأحزان، فيجتمعون لذلك بمناسبة مرور عام أو أكثر، كما يفعل هذا بعض المسلمين في فلسطين أو غيرها في تظاهراتهم بمناسبة ذكرى الاحتلال فهو داخل في مسمى العيد([42]) وفيه تشبه بالكفار وإن لم يصحبه فرح وولائم ونحو ذلك مما يفعل في الأعياد عادة.
الشبهة الثانية: إن هذه الاحتفالات بمناسبة ولادة ذلك المعظم من نبي أو صالح أو ملك أو غيرهم أو بمناسبة إنشاء كلية أو مصنع أو غيره لا يقصد فيها التشبه، بل هي من العادات التي الأصل فيها الحل.
والجواب من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه الاحتفالات المذكورة وما شابهها مأخوذة من الكفار إما من الكتابيين أو من غيرهم كما يعلم بالاستقراء، فالاحتفال بالمناسبات الدينية أصله مأخوذ من النصارى واليهود فقد أحدثوا من ذلك الشيء الكثير فمن أعياد النصارى المشهورة: عيد مولد المسيح ورأس السنة الميلادية والمائدة إحياءً لذكرى المائدة المنزلة من السماء([43])، والجامع لهذه الأعياد هو الذكرى بمناسبة دينية.
واليوبيل عيد مأخوذ من اليهود، وهو عيد نزول الوصايا العشر على موسى عليه السلام فوق جبل سيناء([44]).
ومثل ذلك الأعياد المدنية فهي من سنن اليهود والنصارى، ومنها عيد الثورة وعيد العمال وعيد الأم وعيد البنوك وعيد المرأة ويوم الشجرة وأسبوع النظافة ويوم الصحة العالمية ويوم الطفل… الخ([45]).(/6)
وإن قدر أن هناك عيداً أحدثه المسلمون، لم يسبقهم إلى إحداثه الكفار، فإن هذا لا ينفي التشبه بهم لأن إحداث الأعياد إحياءً لذكرى معينة فرحاً بها أو حزناً عليها هو من سنن اليهود والنصارى، يدلك على ذلك ما رواه البخاري ومسلم أن يهودياً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا نزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيداً! قال: فأي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً} [المائدة:3]([46]).
الوجه الثاني: أن التشبه بهم لا يشترط فيه أن يقصد إلى الفعل من أجل أنهم فعلوه، بل يكفي أن يكون هذا الأمر مما اختصوا به وهو مأخوذ عنهم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والتشبه يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه، وهو نادر، ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذاً عن ذلك الغير. فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضاً ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه ففي كون هذا تشبهاً نظر، لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه، ولما فيه من المخالفة كما أمر بصبغ اللحى وإحفاء الشوارب مع أن قوله صلى الله عليه وسلم: ((غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود)) دليل على أن التشبه بهم يحصل بغير قصد منا ولا فعل، بل بمجرد ترك تغيير ما خلق فينا، وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية الاتفاقية"([47]).
الوجه الثالث: أنه لو قدر أن هذا الاحتفال ليس فيه تشبه بهم ولا هو ذريعة إليه فإن قصد مخالفتهم مطلوب مرغب فيه والأدلة على ذلك كثيرة.
منها: الأمر بمخالفتهم في صيام عاشوراء بأن يضاف إليه التاسع كما صح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما([48]).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فتدبر هذا، يوم عاشوراء يوم فاضل يكفر سنة ماضية، صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه ورغب فيه، ثم لما قيل له قبيل وفاته: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى!! أمر بمخالفتهم بضم يوم آخر إليه، وعزم على ذلك"([49]).
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا المشركين)) و((خالفوا اليهود والنصارى)) في مسائل عدة، كتغيير الشيب، ولباس النعال في الصلاة وإعفاء اللحى وحف الشوارب واتخاذ القصة من الشعر وحلق القفا وتعجيل الفطور وغير ذلك من العادات والعبادات، فهذا يدل على أن مخالفتهم مطلوبة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "قد بالغ صلى الله عليه وسلم في أمر أمته بمخالفتهم في كثير من المباحات وصفات الطاعات لئلا يكون ذلك ذريعة إلى موافقتهم في غير ذلك من أمورهم، ولتكون المخالفة في ذلك حاجزاً ومانعاً عن سائر أمورهم، فإنه كلما كثرت المخالفة بينك وبين أصحاب الجحيم كان أبعد عن أعمال أهل الجحيم"([50]).
وقال: "إن نفس المخالفة لهم في الهدي الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنور قلبه"([51]).
وقال: "فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة، والمشاركة في الهدي الظاهر توجب مناسبة وائتلافاً وإن بعد المكان والزمان، وهذا أمر محسوس. فمشابهتهم في أعيادهم ولو بالقليل هو سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي هي ملعونة"([52]).
وقال: "حتى لو كان موافقتهم في ذلك أمراً اتفاقياً ليس مأخوذاً عنهم لكان المشروع لنا مخالفتهم لما في مخالفتهم من المصلحة كما تقدمت الإشارة إليه، فمن وافقهم فوت علىنفسه هذه المصلحة وإن لم يكن أتى بمفسدة فكيف إذا جمعهما؟!"([53]).
المسألة الرابعة: الأعياد المكانية:
ولا تختص الأعياد بالزمان بل تشمل المكان أيضاً، وقد دل على ذلك الحديث المتقدم في الرجل الذي نذر أن ينحر إبلاً بمكان اسمه: بوانة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل كان فيها عيد من أعيادهم؟)) وهذا صريح في أن العيد يطلق على المكان أيضاً.
وقد كان للجاهلية أعياد مكانية مشهورة يحجون إليها ويعظمونها وينتابونها في أيام معلومة ومنها: اللات لأهل الطائف، والعزى لأهل مكة، ومناة لأهل المدينة، وذو الخلصة لأهل اليمن، فكانوا يشدون إليها الرحال ويقيمون عندها أعيادهم([54]).
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تجعلوا قبري عيداً)) الحديث([55]).
قال شيخ الإسلام: "والعيد إذا جعل اسماً للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة عنده أو لغير العبادة كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة جعلها الله عيداً مثابة للناس يجتمعون فيها وينتابونها للدعاء والذكر والنسك. وكان للمشركين أمكنة ينتابونها للاجتماع عندها، فلما جاء الإسلام محا الله ذلك كله، وهذا النوع من الأمكنة يدخل فيه قبور الأنبياء والصالحين وسائر القبور"([56]).(/7)
وقول شيخ الإسلام رحمه الله في تعريف العيد المكاني: "هو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة عنده أو لغير العبادة" يشمل كل الأعياد المكانية التي يتخذها الناس، إما بقصد العبادة، كالذين يحجون للقبور ويقصدونها للطواف بها أو الذبح أو النذر لها أو للدعاء والصلاة عندها أو للتبرك بترابها كما يفعله كثير من الجهال في زماننا هذا في حجهم للقبر النبوي أو لمشهد الحسين أو الشافعي أو البدوي أو غيرها من المشاهد، وإما بقصد اللهو واللعب ونحو ذلك كالمهرجانات الوطنية التي تقام في بعض الأماكن وينتابها الناس بقصد البقعة إما لأن بعض الرؤساء والمعظمين ولدوا فيها أو ماتوا فيها أو كانت لهم فيها حادثة ما، فتتخذ عيداً من أجل ذلك مضاهاة للأعياد المكانية المشروعة كالكعبة والمشاعر([57]).
([1]) أخرجه أحمد (12006)، وأبو داود في كتاب الصلاة (1134)، والنسائي في كتاب العيدين (1556)، والضياء في المختارة (1911)، قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم (1/432): "إسناده على شرط مسلم"، وصححه الحافظ في الفتح (2/442).
([2]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/434).
([3]) أخرجه البخاري (2/455)، ومسلم (892).
([4]) اقتضاء الصراط المستقيم (446-447).
([5]) أخرجه البخاري (5/301)، ومسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها، واللفظ الثاني لمسلم.
([6]) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/85).
([7]) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/88).
([8]) أخرجه أحمد (2/50)، وأبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031)، وعبد بن حميد (1/267)، والبيهقي في الشعب (2/75)، قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (25/331): "هذا حديث جيد"، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): "سنده صحيح"، وحسن إسناده ابن حجر كما في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104).
([9]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/237).
([10]) رواه البخاري (13/300)، ومسلم (2669).
([11]) رواه البخاري (7319).
([12]) انظر: فتح الباري (13/301).
([13]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/147).
([14]) رواه البخاري (6/496)، ومسلم (2103).
([15]) رواه البخاري (10/351)، ومسلم (259) واللفظ له.
([16]) رواه أبو داود (652)، والحاكم (1/260) وصححه.
([17]) الشعانين: عيد من أعياد النصارى.
([18]) أخرجه أحمد (12006)، وأبو داود في كتاب الصلاة (1134)، والنسائي في كتاب العيدين (1556)، والضياء في المختارة (1911)، قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم (1/432): "إسناده على شرط مسلم"، وصححه الحافظ في الفتح (2/442).
([19]) رواه أبو داود (3313).
([20]) ذكر شيخ الإسلام أحاديث أخرى في نفس المعنى فيها اختلاف في بعض الألفاظ عن هذا الحديث.
([21]) رواه ابن ماجه (1098) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وأشار البوصيري في الزوائد (1/208) إلى ضعف بعض رواته. وحسن إسناده المنذري في الترغيب (1/498)، وسكت عليه الحافظ في الفتح (2/387)، وله شاهد من حديث أبي هريرة، انظر: صحيح الجامع (2258).
([22]) رواه البخاري (2/453)، ومسلم (884).
([23]) أخرجه أحمد (2/367)، وأبو داود: كتاب المناسك، باب زيارة القبور (2042)، ابن أبي شيبة في المصنف (2/150)، وأبو يعلى في مسنده (1/361)، وصححه الضياء في المختارة (2/49)، وقال الهيثمي في المجمع: "فيه حفص بن إبراهيم الجعفري، ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً، وبقية رجاله ثقات"، وقال الألباني في تحذير المساجد (ص95): "وسنده مسلسل بأهل البيت رضي الله عنهم، إلا أن أحدهم ـ وهو علي بن عمر ـ مستور كما قال الحافظ في التقريب"، وانظر: صحيح أبي داود (1796) وأحكام الجنائز (ص213).
([24]) رواه البخاري (2/354)، ومسلم (855).
([25]) وكذا في عيد القرن أو نصفه أو ربعه، كما لا يخفى.
([26]) السنن الكبرى (9/234).
([27]) السنن الكبرى (9/234).
([28]) اقتضاء الصراط المستقيم.
([29]) الزنار: ما يلبسه الذمي يشده على وسطه (لسان العرب4/330). وهو من علاماتهم المميزة لهم عن المسلمين كما هو الحال في "رباط العنق" المعروف في زماننا هذا والذي قلدهم فيه المسلمون مع ظهور شكل الصليب فيه والله المستعان.
([30]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/425-474). وهذا هو الحال في سائر الأعياد المحدثة والاحتفالات المبتدعة، حيث صارت عادة لكثير من المسلمين مع أن أصلها مأخوذ من الكافرين.
([31]) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (1/490).
([32]) الإبداع في مضار الابتداع (ص251).
([33]) المحاضرات الفكرية. المحاضرة العاشرة (ص84).
([34]) البداية والنهاية (12/267) باختصار.
([35]) ذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية (12/263) في حوادث عام 566هـ.
([36]) الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص13).
([37]) البداية والنهاية (13/136-137).
([38]) الإبداع في مضار الابتداع (ص251).(/8)
([39]) كتب فضيلة الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله في تفصيل بدعة اليوبيل كتاباً ماتعاً وسمه بـ "عيد اليوبيل بدعة في الإسلام" ذكر فيه أن اليوبيل هو من أعياد اليهود الخاصة بهم فكان تحريمه من جهتين: التشبه والابتداع، وضمنه بحوثاً لبعض الكتاب في هذا الموضوع وفتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
([40]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/441-442).
([41]) رواه النسائي (8/312) وغيره.
([42]) للنصارى أعياد مشابهة منها "جمعة الصلبوت" التي يزعمون كذبا أن المسيح عليه السلام صلب فيها، ونحو ذلك أيضاً ما يفعله الرافضة يوم عاشوراء حزناً على قتل الحسين رضي الله عنه.
([43]) انظر "عيد اليوبيل" للشيخ بكر أبو زيد (ص13).
([44]) عيد اليوبيل (ص31).
([45]) عيد اليوبيل (ص 18، 19).
([46]) انظر: جامع الأصول (2/113).
([47]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/238).
([48]) رواه مسلم (1133).
([49]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/249).
([50]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/445).
([51]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/488).
([52]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/171) باختصار.
([53]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/425).
([54]) اقتضاء الصراط المستقيم (2/643) و "عيد اليوبيل بدعة في الإسلام" (ص10).
([55]) رواه أحمد (2/367) وأبو داود (2/534) بإسناد جيد وله شواهد أخرى بلفظ (لا تتخذوا قبري عيداً).
([56]) اقتضاء الصراط المستقيم (2/660).
([57]) وقد أفاض شيخ الإسلام في شرح ذلك وتفصيله في كتابه الاقتضاء (2/642) وما بعدها، وتبعه على ذلك ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/149-152) فليرجع إليهما من شاء.
الفصل الثاني: كشف شبهات المخالفين في الأعياد المحدثة.
وحيث إن المخالفين قد عارضوا ذلك بشبهات وحجج سوى ما تقدم زعموا أنها تدل على إباحة أو استحباب تلك الأعياد والاحتفالات أو بعضها فقد خصصت القسم الثاني من هذا الكتاب في كشف شبهاتهم والرد على حججهم وأدلتهم.
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(/9)
المخدرات أخطارها ، عوامل انتشارها ، وموقف الإسلام منها
بقلم : الدكتور / أحمد عبد الرحمن الشريف
لقد كرم الله الإنسان وفضله على كثير من المخلوقات ، وأمده بنِعَمْ كثيرة لا تحصيها البصائر ولا الأبصار ولا تحيط بها العقول ولا الأفهام ومهما أعمل الإنسان عقله وأجهد فكره كي يحصي نِعَمْ الله عليه فلن يستطيع إلى ذلك سبيلا .
قال تعالى : ( وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( النحل : 18 ) ومن أعظم تلك النِعَمْ التي أنعم الله بها على الإنسان وفضَّله بها على الحيوان نِعمَة العقل تلك النِعمَة الغالية التي لا تعدلها نعمة أخرى .
لأن العقل قوام الإنسان ، وميزان الشخص ، وزينه المرء ، وبالعقل عرف الإنسان ربه ووقف على أسرار الكون ، وبالعقل أصبح الإنسان عالماً يدرك حقائق الأمور ، ويعلم ما لم يكن يعلم ، وبالعقل يميز الإنسان بين الخير والشر ، والصالح والطالح ، والنافع والضار .
ولقد رفع الإسلام من شأن العقل فجعله مناط الثواب والعقاب فعلي وجوده يكلف الإنسان ويحاسب ويثاب أو يعاقب وإذا زال عقله سقط عنه التكليف ودعا الإسلام الإنسان إلى إعمال عقله في التفكير والتدبير ، والنظر والتأمل في آيات الله في الأنفس والآفاق .
قال الله عز وجل : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) ( آل عمران : 190 - 191 ) .
وقال عز وجل : (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ) ( الذاريات : 21 ) .
ولقد وردت كلمة : عقل ونعقل وتعقلون ويعقلون ويعقل في القرآن الكريم حوالي تسع وأربعين مرة .
قال تعالى : ( أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( البقرة : 75 ) .
وقال تعالى ( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ )( الملك : 10 ) .
و قال تعالى : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) ( البقرة : 44 ) .
وقال تعالى : ( وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ( البقرة : 164 ) .
و قال تعالى : ( أوَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ ) ( العنكبوت : 43 ) .
فهذا الورد الكثير المتعدد يبرهن على مدى إهتمام القرآن الكريم بالعقل .
وهذا يتطلب من المسلم أن يحافظ على عقله وأن لا يتناول من الأشياء ما يفسده ويخل بالتفكير .
ولقد أمرنا الإسلام بحفظ العقل وصيانته ووقايته وأمرنا بتكريم تلك النعمة وهي نعمة العقل ، ونهانا أن نتناول أي شيء يضر بالعقل أو يفسد التفكير ، أو يؤدي إلى شلل المخ وحذرنا كل التحذير من تعاطي تلك المواد السامة كالحشيش والهروين والأفيون والكوكايين وسائر المخدرات ، لأنها تدخل على العقل فتفسده وعلى التفكير فتعطله فهي من المسكرات التي حرمتها الشريعة ولم تاذن بتعاطيها.
قالت أم سلمة رضي الله عنها " نهي رسول الله عن كل مسكر ومفتر " رواه أحمد وأبو داود وقال شيخ الإسلام ابن تيمية " أن الحشيشة حرام يجلد صاحبها كما يجلد شارب الخمر وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج ، وأنها تصد عن ذكر الله و عن الصلاة وهى داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر والمسكر لفظاً و معنى " السياسة الشرعية ص 116 .
والمادة المخدرة هي كل مادة خام أو مستحضرة تحتوي على عناصر منبهة أو مسكنة من شأنها إذا استخدمت في غير الأغراض الطبية والصناعية أن تؤدي إلى حالة من التعود أو الإدمان عليها مما يضر بالفرد والمجتمع جسيماً ، واجتماعيا ،ً ونفسياً .
وهذا كما تري شامل لجميع أنواع المخدرات الموجودة والتي قد توجد بطريقة الاكتشاف أوالتصنيع وهي قسمان :
( 1 ) مخدرات طبيعية وهي عبارة عن نباتات وأعشاب مثل القات ، والأفيون والحشيش .
( 2 ) مخدرات مصنوعة وهي عبارة عن مستخلصات بطريقة كيماوية ومنها الكحول والكوكايين والمورفين . الخمر وسائر المسكرات والمخدرات للدكتور حجر بن أحمد ص 147 ، 148 .
وإذا كانت المخدرات لها أضرارها على العقل فإن لها أضراها على صحة الإنسان والصحة نعمة من نِعَمْ الله علينا ، وقد بَيَّنَ صلوات الله وسلامه عليه أن الإنسان إذا عافاه الله في بدنه كان ذلك من الأسباب التي تجعله يشعر أن الدنيا قد حيزت له .(/1)
قال صلى الله عليه وسلم "من أصبح معافى فى بدنه ، آمنا فى سربه عنده قوت يومه فكأنما قد حيزت له الدنيا بحذافيرها " رواه الترمذى وابن ماجه.
وهناك قاعدة عامة فى شريعة الإسلام وهى " أنه لا يحل للمسلم أن يتناول من الأطمعة و الأشربة شيئاً يقتله بسرعة أو ببطء كالسم بأنواعه ، أو يضره ويؤذيه ، لأن المسلم ليس ملك نفسه ، وإنما هو ملك دينه وأمته ، وحياته وصحته وعقله ،وماله وغير ذلك من نِعَمْ الله وديعة لايحل له التفريط فيها .
قال تعالى : ( وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ") ( النساء : 29 ) .
وقال تعالى : (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) ( البقرة : 195 ) .
وقال صلوات الله عليه وسلامه " لاضرر وضرار " رواه أحمد و ابن ما جه.
ونهي صلوات الله عليه وسلامه عن إضاعة المال .
- ولقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أضرار المخدرات الصحية .
فالمسرفون في تعاطي المخدرات ولمدة طويلة تتدهور صحتهم ويصابون بالهزل والضعف العام وصفرة الوجه ، وتقل لديهم القدرة على مقاومة الأمراض كما تتلف أسنانهم ويتعرضون للأصابة بالأمراض الصدرية وأهمها السل والربو ، ويصابون بقرحة الحلق المزمنة .
- وهناك علاقة بين المخدرات والجرائم فإدمان المخدرات يؤدى إلى وقوع الجرائم فمتعاطي المخدرات إذا نفذ ما معه من مال فإن إدمانه على تعاطي المخدرات يحمله على السرقة ويحوله الإدمان إلى إنسان سريع التهيج شكاك ، خائف جبان وهذا الخوف والجبن يدفعه إلى الهجوم والعدوان ومن ثم تقع الجرائم وتكثر الاعتداءات .
وكثيراً ما نسمع بكارثة من جراء مدمني المخدرات : من سيارة اصطدمت بسيارة أخرى فتهشمت السيارة وقُضِيَ على الراكبين ، أو سيارة هوت إلى قاع بحر فغرقت الأسرة كلها ، أو سيارة اصدمت بجدار أو عمود ، أو شخص قتل شخصاً أو قتل أسرة وهو لا يدري ماذا فعل لأن المخدر الذي تناوله أفسد عقله وشل تفكيره .
- إدمان المخدرات له أضرار اقتصادية ذلك لأن إدمان المخدرات يضعف طاقة المدمن ويقلل من كفاءته الإنتاجية وقد يعطله كلية عن الإنتاج وهذا يؤثر بلا شك على إنتاج الدولة ومن ثم يضعفها اقتصادياً .
كما أن الأدمان يحمل الدولة على إنفاق المبالغ الكثيرة لمكافحة المخدرات فتضع هذه الأموال دون فائدة رغم حاجتها إلى هذه الأموال في الإنفاق على المشروعات العمرانية والصناعية .
والأموال التي ينفقها مدمن المخدرات تبذير وقد نهي القرآن عن التبذير ، ووصف المبذرين بأنهم إخوان الشياطين قال تعالى : ( وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ) ( الإسراء : 26-27 ) .
ويرجع انتشار المخدرات إلى العوامل الآتية :
أولاً : الاستعمار .
( فعندما إحتلت بريطانيا الهند ابتدأت شركة الهند التجارية الشرقية وهي أول شركة استعمرت الهند بزرع الشاي والأفيون في مزارعها وتصديرهما إلى العالم ، ولما كان من سياسة بريطانيا إضعاف الشعوب العربية والإسلامية وافقارهما حتى لا تناهض الاستعمار والإحتلال أخذت تزرع الحشيش والآفيون في فلسطين وأخذت تصدر هذين الداءين الفتاكين إلى العالم العربي وخاصة مصر ، ولم تستطيع أي حكومة عربية محلية أن تمنع دخول المخدرات إلى بلادها بطريقة حاسمة بسبب تدخل المندوب السامي البريطاني ، وبعد خروج بريطانيا من فلسطين حلت إسرائيل محلها في زراعة هذين الوبائين ، وتصديرهما إلى البلدان العربية لاسيما لتحطيم الأمة العربية صحياً ومعنوياً ، وهدم اقتصادها ، ورفع الاقتصاد الإسرائيلي حتى قيل إن دخل إسرائيل من تهريب المخدرات إلى البلاد العربية 46 مليوناً من الجنيهات ) من كتاب المسكرات بين الشرائع السماوية والقوانين الوضعية نقلاً عن كتاب الخمر والقوانين الوضعية نقلاً عن كتاب الخمر وسائر المسكرات والمخدرات للشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي والدكتور حجر بن أحمد ص 152 .
ثانيا : انصراف الآباء عن متابعة أبنائهم ، وتفقد أحوالهم ، والجلوس معهم ، ومشاركتهم مشاكلهم .
فمهما كانت مشاغل الأب كثيرة فلا بد أن يُفرغ نفسه تفرغاً جزئياُ لأبنائه ، وأن يجعل من نفسه رقيباً عليهم ، ولا أعني بالرقابة هنا بالرقابة التي تنفرهم منه ، وتجعل الفجوة بينه وبينهم واسعة ، وإنما أعني الرقابة التي يكون الهدف منها : التقرب إليهم ، والتعرف على سلوكهم ، ومعرفة كيف يقضون أوقات فراغهم ومن يصادقون ، والأماكن التي يترددون عليها .
هذا هو واجب الآباء نحو أبنائهم ، أما ما يفعله بعض الآباء في هذه الأيام من انشغالهم انشغالاً كلياً عن أبنائهم ، ، وأنصرافهم عن متابعتهم ، وتفقد أحوالهم - فهذا ولاريب - سيجر عليهم خسراناً لا يعدله خسران ، حيث ينحرف أبناؤهم وينغمسون في هذه العادة السيئة وهي إدمان المخدرات ، كما أنهم سيعرضون أنفسهم لعقاب الله لأن الأب راعٍ ومسؤول عن رعيته .(/2)
ثالثا : سوء التربية وضعف الوازع الدينى ، والفراغ الذي يُعَانِي منه كثير من شبابنا وهذا كله يدفعهم إلى إدمان المخدرات
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
فعلى المسلم أن يشغل نفسه بالنافع المفيد وأن يستثمر وقته وينمي فكره ، ويصون عقله ، ويحمي عقيدته ، ويأتي ذلك بأن يتزود بالثقافة الإسلامية من منابعها الأصلية حتى يسلح نفسه ضد التيارات الإلحادية التي يُصَدِرهَا الغرب إلينا بهدف تشويه صورة الإسلام ، وزعزعة مكانته في نفوس أنبائه .
رابعاً : سوء اختيار الأصدقاء ذلك لأن الإنسان إذا اختار صديقه أو أصدقاءه من مدمني المخدرات فلاشك أنه سيكون لتلك الصحبة أثر سيئ في سلوكه حيث يغرونه بإدمان المخدرات ويهونون عليه الأمر حتى يستجيب لهم ويصبح أسيراً لهذا الإدمان ولهذا حثنا الإسلام على اختيار الصحبة الصالحة .
فقال صلى الله عليه وسلم : " لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي " رواه أبو داود و الترمذي
وقال صلى الله عليه وسلم " مَثَل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما تجد منه ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً منتنة " متفق عليه .
والإسلام يحثنا على أن نكون أقوياء أصحاء ، لأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، ولا تأتي هذه القوة - التي أرادها الإسلام - مع أدمان المخدرات لأن مدمني المخدرات يجنون من وراء التدخين ضعفاً وهزالاً ومرضاً وهذا ما لا يرضاه الإسلام لأبنائه .(/3)
المخدرات العقدية مع ابن شيخ الطريقة الخزنوية
المخدرات العقائدية
الدكتور محمد معشوق الخزنوي*
الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحابه ومن والاه وبعد:
المخدرات بمفهومها العام، وأفقها العريض، وإسقاطاتها الشاملة تضم وتتضمن في مفهومها وحكمها كل ما من شأنه تعطيل فكر الإنسان، وستر عقله، وطمر بصيرته.
وبمناسبة الحديث عنها لابد من ألفت الأنظار إلى المخدرات المعنوية التي يدفن الإنسان نفسه بين جوانحها، ويدمن الإنسان عليها؛ من عادات وأعراف، وتقاليد وأفكار، وعقائد وطقوس، وشعائر ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تعتمد على أي استدلال عقلي أو نقلي، وليس لها من أثار إلا الضرر والإضرار، ولا تسخر إلا لحجب المعلومات عن الفكر بغية تجفيف منابع المعرفة لديه ليسهل اصطياده؛ عبر تنومه مغناطيسياً، أو غسله دماغياً؛ تماماً كما يفعلوه الصيادون مع الكروان، حيث تقول الأسطورة: أنهم إذا قالوا للكروان: "أطرق كرى، أطرق كرى، إن النعام في القرى، أغاثكم في أرضنا ما استنثرى، ما استنفرى" حينئذ ألتصق الطائر بالأرض مصدقاً حتى يتناوله الصيادون بأيدهم.
هذه هي الغاية من المخدرات المعنوية لتنام ويسهل اصطيادك، إنها السموم المتوارثة التي يرثها الجيل اللاحق عن الجيل السابق دون تبصر أو تفحص، ودون تحليل علمي، أو محاكمة عقلية، أو استدلال شرعي، حيث تعطل هذه السموم المتوارثة قوى الإنسان، وتشل تفكيره، وتمنعه من الانتفاع بعقله، وتجعله دمية يتلاعب بها ذوي المصالح، وتحوله إلى كرة يركلها اللاعبون الكبار بأقدامهم في الملاعب الدينية أو الدنيوية على حد سواء، فلا فرق أيها الأخوة بين أن تعطى جرعة من مخدر محسوس من المخدرات أو المسكرات، وبين أن تعطى جرعة من مخدر معنوي من توجه مسموم، أو إرشاد مغلوط، أو تربية مقلوبة، فالنوعان ينومانك، ويمنعانك من أداء واجبك، ويعطلان فكرك، ويستولى بهما على إرادتك، ويفتح بهما المجال لعدوك أياً كان هذا العدو، سواء كان عدو دينك، أو عدو عقيدتك، وسواء كان عدو شعبك أو عدو أرضك وعرضك، عدو وحدتك أو عدو قوتك واقتصادك، عدو ماضيك أو عدو حاضرك ومستقبلك، عدو علمك أو عدو علمك وتبصرك، عدو ثقافتك أو عدو أخلاقك وسلوكك، هذا العدو الذي لا يهمه ألا أن تنام لتخلي له الساحة، وتفرغ له الميدان، العدو الذي يضرب بيده على ظهرك مربتاً ولسان حاله يقول:
ناموا ولا تستيقظوا ** ما فاز ألا النُّوَمُ
نعم إن المخدرات المعنوية، والسموم الفكرية؛ هي كالسموم المادية والمخدرات المحسوسة في كونهما يعطلان العقل، ويمنعان من التحليل الصحيح وإدراك الأمور، وترجيح الحق والصواب على الخطأ والباطل، بل هذه المعنوية أشد من تلك المحسوسة، لأن من يتعاطى المخدرات المحسوسة يشعر بأنه مريض، وأن عليه أن يتعافى يوماً، ويؤنبه ضميره، ويشعر بين الحين والآخر أنه مجرم مذنب عاص، وأن عليه يوماً أن يتوب ويقلع، وهذا يعني أن أية فرصة في حياته هي مرشحة للإقلاع عن هذه المخدرات المادية والمحسوسة، وهي وإن أثرت فربما تؤثر على شخص أو جيل من المجتمع أو أكثر ولكن في النهاية ستزول أسباب الإدمان، وتخرق صفوف التجار الذين لا يعملون إلا في الظلام، إضافة إلى أن تجار المخدرات المعنوية لا يعملون كتجار المخدرات المادية في الظلام، إنه يعملون جهراً، تجار المخدرات المعنوية يعملون جهراً وعلى مرأى ومسمع من المجتمع والناس، يبيعون بضاعتهم جهاراً، وربما سلطت عليهم الأضواء ليكون هم سادةً في مجتمعاتهم، وقادة في أحيائهم، وليكونوا أسوة لغيرهم، وكذلك فإن المخدرات المعنوية تؤثر على عشرات الأجيال والأمم لأن قوتها في ذاتها، واستمراريتها في داخلها، ودوامها في تركيبتها، حيث لا يرى المدمن عليها نفسه إلا معافى، وفي قمة الاستقامة والشرف والطاعة، وهو على استعداد أن يضحي بكل غال ورخيص من أجل استمرار هذه المخدرات المعنوية لأنه يراها إرث الآباء والأجداد الذي ينبغي له أن يحافظ عليه، ويوصل نفعه إلى أحفاده كما انتفع به أجداده، وانتفع هو بها فيما بعد، ولذلك لو شعر هذا الرجل في يوم ما بضرر هذه المخدرات المعنوية فهو لا يستطيع أن يترفع عن تعاطيها، أو أن يترك الإدمان عليها لأنها تراث الأجداد، لذا تراه كالنعامة يدفن رأسه في الرمال خشية من الحقيقة، لأنه يرى أية محاكمة لهذه المخدرات المعنوية هي محاكمة لآبائه وأجداده الذين ورث عنهم هذا المخدر أو ذاك، وكم من جيل - أيها الأخوة -؛ وكم من مجتمعات، كم من أمم لا زالت مخدرة بفعل السموم التي زرعت بذرتها الأولى جدهم الأول، ولازالت الأجيال من بعد تسقيها وتتعهدها حتى صار إخطبوط يخنق أنفاس هذا الجيل، أو كابوساً يقبع على صدر ذلك الجيل أو هذا.(/1)
وإذا كان البحث في المخدرات المعنوية يحتاج إلى حلقات كثيرة ومتعددة فهذا لا يعفينا من مسؤوليتنا، ولا يمنعنا من البحث في الأهم منها، والأقرب منها إلى واقعنا، فتعالوا لنقف أيها الأخوة مع المخدرات في مجال العقيدة:
أيها الأخوة: نحن نرى أن الله - عز وجل - أعطى الإنسان العقل والإدراك والتميز، ومكنه عبر حواسه الخمسة من المقارنة بين الأشياء، وتلقي المعلومات؛ ليتمكن من الخروج بنتيجة صحيحة في علاقته مع الله والآخرة، عبر محاكمة عقلية صحيحة سليمة صافية بعيدة كل البعد عن كل مؤثر أو تراث للأباء والأجداد، ولا شك أن هذه الفرصة الذهبية لو منحت وهيأت لأي إنسان فإنه سيهتدي إلى العقيدة الصحيحة التي تنجيه في الدنيا والآخرة، لأنه سيعلم بالتأكيد وفطرته السليمة ستملي عليه أن الله - سبحانه وتعالى - هو خالق كل شيء، وعلى كل شيء قدير، وأن الله هو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وسيعلم أيضاً أن الله وحده هو وحده الذي يرفع إليه الحوائج، وهو وحده الذي يدعى ويستغاث به ويستعان، وهو الذي يعبد وينسك له، وأن الذين من دون الله لا يملكون من قطمير، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا حياة ولا نشوراً، وأن مقاليد الأمور بيد الله لم يوكلها إلى غيره، لا إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل، ولا إلى ولي صالح، وليس بالإمكان إلا ما قدر الله له أن يكون، ولو أن الإنس والجن على رجل واحد لينفعوه لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وعلى العكس فلو اجتمعوا على رجل واحد ليضروه لم ضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، رفعت الأقلام، وجفت الصحف، ولكن مع هذا آلا ترون أن ثمة عباداً لله مخدرين - وسبحان الله عما يشركون - لازالوا يرون ويعتقدون أن الله ثالث ثلاثة، أو أن لله زوجة، أو أن لله ولداً، أو أن الله حل في أحد، أو تجسد في أحد، أو اتحد بأحد، آلا تجدون ثمة عباداً لله مخدرين حتى من بين الذين يدعون الإسلام، وحتى في مجتمعاتكم، آلا تجدون أن هناك مخدرين لازالوا يرون ويعتقدون أن غير الله يعطي ويمنع، أو يوصل ويقطع، أو يفرق ويجمع، أو يضر وينفع - سبحان ربي عما يشركون وتعالى، وعما يقوله المخدرون -.(/2)
وأكثر من هذا نحن نجد في هذا العصر عصر العلم والتكنولوجيا والوعي العلمي لازلنا نجد أناساً يعكفون على أصنام من حجر، أو شجر، أو بشر، ولازلنا نرى آخرين يعبدون ويقدسون النار أو البقر، أو يسجدون للشمس أو القمر؛ مع أن الكثير منهم علماء في مجالات محددة من مجالات الحياة وعلوم العصر، ومع ذلك تجدون أن أذان قلوبهم مغلقة، وأعين بصائرهم مطموسة، وساحة أفقهم مقفلة، صم بكم عمي فهم لا يبصرون، ولا يعقلون، ولا يرجعون، بل ربما تجدوا أن كل واحد من هؤلاء المخدرين يستغل العلم - وأقصد بالعلم معلوماته هو لا العلم المجرد الذي لا يؤدي إلا للحق - من أجل إقرار عقيدته الباطلة التي ورثها عن أبويه، ذلك لأنه مازال متأثراً بالتربية الأولى التي تلقاها على يد أبويه، ولازال مخدراً بالجرعة الأولى التي حقن بها من قبل مربيه أو مجتمعه أو كهان دينه الذين على أعتابهم تتكسر أمواج كل الحقائق مرتدة من حيث أتت، وصدق رسول الله - صلوات الله عليه وسلامه -: (كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، ولهذا فإن الشريحة المخدرة من البشر حين لا تتمكن من التلاعب بالمفاهيم العلمية، ولا تسعفها حيلها لتتلاعب بأذهان الناس؛ لا ترى بداً من الالتجاء إلى الآباء والأجداد، لتنام مخدرة في أحضانهم، باحثة عن السلامة في ظلهم، معتصمة بعظام أجدادهم التي رمت، قائلين: ((إنا وجدنا آباءنا على أمة وإن على آثارهم مهتدون))، ((وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا آو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون))، ((وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون))، الله أكبر إنه السكر والخدر، يأتيهم الحق فيدعونه لا لشيء سوى أنه مخالف لما كان عليه آباءهم وأجدادهم ((وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم (لا كل شيء إلا الاستغناء عن تراث الآباء والأجداد ولذلك قالوا) إنا بما أرسلتم به كافرون))، ألم أقل لكم أنه السكر والخدر يأتيهم الحق فيدعونه ويرفضونه لا لشيء سوى أنه مخالف لما كان عليه آباءهم وأجدادهم، أولو كان آباؤهم لا يعقلون، فبالله عليك أليس هؤلاء مخدرين، معطلة عقولهم، على قلوبهم أقفالها، بلى والله، ولذلك تعال معي لتتأكد أن هؤلاء ذوي قلوب مخدرة، فهم يوم جاءهم الحق وجاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعوة التوحيد، ونهاهم عن عبادة الأصنام الذين كانوا عليها عاكفين تقليداً لآبائهم وأجدادهم قالوا: ((اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم))، أليس هؤلاء أقواماً مخدرين، يقولون: إن كانت دعوة محمد حقاً فأمطر علينا حجارة، لمَ لمْ يقولوا: إن كانت دعوة محمد حقاً فاهدنا إليها، اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، لكن يوم تكون مخدراً ترفض كل ما لم يكن عليه أبوك أو جدك، ستقول أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، وهكذا لما جاء الإسلام ووجد القوم نائمين في ظلال قبور أجدادهم، يفعلون ما يفعلون؛ دون تبصر أو روية، أو استعمال عقل أو إشغال فكر؛ اعتبرهم الإسلام مرضى، فلم يعنفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعاملهم بالكره والقسوة، بل حاول إيقاظهم من سباتهم برفق، وتنبيههم من غفلتهم بلين، وتخليص عقولهم من جرعات المخدر التي حقنها الأجداد في رؤوسهم، وغسلوا بها أدمغتهم، فدعاهم الإسلام ليتفكروا ويتأملوا، ويتدبروا ويسألوا أنفسهم، ويراجعوا حساباتهم؛ هل ما اعتبروه عقيدة لهم هل تصلح حقاً أن تكون عقيدة، وهل ما اعتبروه عادات أو تقاليد أو خطوط حمراء لا يمكن مجاوزتها هي حقاً كذلك، وهل عبادتهم للحجر، وتقديسهم للشجر، وتألههم للبشر؛ يرضى عنه العقل السليم، والفكر السديد، لقد حث الإسلام على أن يجيب المشركون المخدرون على هذه الأسئلة بروية، ومن خلال إعمال الفكر والحجة، والمنطق والتأمل، والتدبر والإدراك الحسي؛ بعيداً عن تجربة الآباء ومؤثراتهم، وتراث الأجداد وعاداتهم، وتعال أخي المؤمن لتسمع معي وترى هذا المشهد الذي اعتبره الإسلام نموذجاً حث المسلمين على أن يقتدوا به، إنها صورة إبراهيم: ((قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه)) الآيات التي تصور المشهد تقول: ((واتلُ عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم(/3)
يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم))، وقد دعانا ربنا لأن نجعله أسوة لنا إلا استغفاره لأبيه يوم بيّن عذره فقال: ((ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم)) ماذا فعل إبراهيم - عليه السلام - قال لأبيه وقومه وخاطبهم بالحكمة، ووضعهم أمام محاكمات عقلية، قال وهو يعلم لكنه يريد الجواب منهم، يريد أن يلزمهم الحجة: ما تعبدون؟ قالوا: نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين!! حينئذ سألهم وهو يتضمن مبرر عبادتهم: هل يسمعونكم إذ تدعون، أو ينفعونكم أو يضرون؟ ما هي مبررات عبادتكم لهذه الأصنام وهي حجارة أو أخشاب لا تسمعكم يوم تدعونها، ولا تضركم أو تنفعكم، بل هي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً، ويوم لم يملكوا جواباً لإبراهيم على وفق هذه المحاكمة العقلية التي جعلتهم في موقف حرج لم يجدوا لهم مجالاً إلا أن يعتصموا ويتمسكوا - كما يفعله اليوم بعض من المسلمين - لم يجدوا لهم مجالاً إلا أن يتمسكوا بعظام أجدادهم التي رمت فقالوا: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون!! فهل تظن أن آباءنا مخطئين، أليس هم أعلم منا، وكأن الآباء والأجداد معصومين، قالوا: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، وبعد أن ناقشهم وجادلهم إبراهيم بالتي هي أحسن وهم لا يزدادون إلا تمسكاً بأصنامهم وعظام أجدادهم حينئذ لم يجد سيدنا إبراهيم مجالاً إلا أن يظهر موقفه فقال: ((أفرأيتم ما تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين))، ثم بين لهم لما استثنى رب العالمين من معبوداتهم لأنه هو الذي خلقني فهو يهدين، والذي يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين، ثم بدأ يدعو: رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين، واجعل لي لسان صدق في الآخرين، واجعلني من ورثة جنة النعيم، واغفر لأبي إنه كان من الضالين، ولم يقف سيدنا إبراهيم موقفهم فقال: أنا أيضاً سأتبع أبي، إنما دعا لأبيه حتى يهديه الله ((واغفر لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)).
أدعوك أخي المسلم يا من طالبك الله بأن تتخذ من إبراهيم أسوة، هل تستطيع أن تقول لأمتك أو لمجتمعك أو لحيك أو لأسرتك أو لقومك أو لأبويك هل بإمكانك أن تقول مثل ما قال إبراهيم بعد أن جادلهم، وبعدما ألزمهم الحجة فاستمروا على عنادهم، وتمسكوا بعظمائهم وآبائهم وأجدادهم وساداتهم وكبرائهم، هل تستطيع أن تقول: ((أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين))، إن كنت تستطيع أن تمارس هذا الدور فأنت عاقل صاح مدرك، واشكر الله على أنك على قدم الموحدين من الأنبياء والصديقين، والشهداء والصالحين، وأرجو الله أن تكون معهم يوم الدين، وإن لم تستطع أن تقول كما قال إبراهيم فأنت مخدر كقومك، وأنت مأخوذ، والعرب يقولون: [المأخوذ ما يسمع صياح]، إنه مثل عربي يوم كانت القبائل تغزو بعضها بعضاً، ويأتي النذير ليخبر القوم بأن العدو مصبحهم فمن صدق النذير رحل في الليل، ومن يقول: أن النذير يكذب يمكث في مكانه، فلا تشرق الشمس إلا والقوم فوقهم غازين، ولذلك تقول العرب: إن من كتب الله له أن يأخذ، ويتلف ماله، وتنهب ثروته؛ لا يسمع الصياح، إنه يسمع لكنه لا يدرك، مخدر لا يستوعب، ولذلك لا يستجيب النداء.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(/4)
المخدرات ماذا تعرف عنها ؟ - ثانيا: أنواع وأقسام
عزيزي القارئ:
مفكرة الإسلام : إنه من المهم للغاية أن نتعرف على أنواع المواد المخدرة وتقاسيمها حيث أن هذا له كبير أثر في تحديد نتائج التعاطي لهذا المخدر أو ذاك وبالتبعية تحديد كيفية التعامل الأمثل معه والعلاج المناسب له.
أنواع المخدرات:
توجد عدة تصنيفات مختلفة للمخدرات وتختلف هذه التصنيفات باختلاف معايير التقسيم ومن أشهر هذه المعايير: الأصل، التأثير ، خصائص الإدمان، اللون، الأصل والصلابة والنظام الدولي للرقابة'.
أولا: تبعا لأصل المادة التي حضرت منها وتنقسم إلى :
[1] المخدرات الطبيعية: لقد عرف الإنسان المواد المخدرة ذات الأصل النباتي منذ أمد بعيد وحتى الآن لم نسمع عن ظهور مواد مخدرة من أصل حيواني ، وبالدراسات العلمية ثبت أن المواد الفعالة تتركز في جزء أو أجزاء من النبات المخدر فمثلاً:
أ- في نبات خشخاش الأفيون تتركز المواد الفعالة في الثمر غير الناضجة.
ب- في نبات القنب تتركز المواد الفعالة في الأوراق وفي القمم الزهرية.
ج- في نبات القات تتركز المواد الفعالة في الأوراق.
د- في نبات الكوكا تتركز المواد الفعالة في الأوراق.
هـ- أما في جوزة الطيب فإن المادة الفعالة تتركز في البذور.
ويمكن استخلاص المواد الفعالة من الأجزاء النباتية الخاصة بكل مخدر ، بمذيبات عضوية، وبعد تركيز المواد المستخلصة يمكن تهريبها بسهولة لتصنيعها وإعدادها للاتجار غير المشروع ومثال ذلك زيت الحشيش وخام الأفيون والمورفين والكوكايين وفي هذه العملية لا يحدث للمادة المخدرة المستخلصة أي تفاعلات كيميائية أي أن المخدر يحتفظ بخصائصه الكيميائية والطبيعية.
[2] المخدرات نصف التخليقية [ نصف مشيدة ]: وهي مواد حضرت من تفاعل كيميائي بسيط مع مواد مستخلصة من النباتات المخدرة والتي تكون المادة الناتجة من التفاعل ذات تأثير أقوى فعالية من المادة الأصلية ومثال ذلك الهيروين الذي ينتج من تفاعل مادة المورفين المستخلصة من نبات الأفيون مع المادة الكيميائية 'استيل كلوريد' أو 'اندريد حامض الخليك ' مورفين + استيل كلوريد = هيروين'.
[3] المخدرات التخليقية [ مشيدة ]: وهي مواد تنتج من تفاعلات كيميائية معقدة بين المركبات الكيميائية المختلفة ويتم ذلك بمعامل شركات الأدوية أو بمعامل مراكز البحوث وليست من أصل نباتي.
ثانياً / تبعاً لتأثيرها على النشاط العقلي للشخص المتعاطي وحالته النفسية كالآتي :
1- مهبطات 2- منشطات 3- مهلوسات
ولقد وجد أن تأثير الحشيش على النشاط العقلي يتغير تبعاً لكمية الجرعة المتعاطاه فمثلاً يكون الحشيش مهبطاً عند تعاطي الجرعة صغيرة ، ومهلوساً إذا ما استعمل بكميات كبيرة ، ولذا رؤى وضع الحشيش في مرتبة مستقلة وأصبح التقسيم في صورته الجديدة كالآتي:
1- مهبطات 2- منشطات 3- مهلوسات 4- الحشيش
ثالثاً : تبعاً لأصل المادة وتأثيرها على النشاط العقلي للشخص المتعاطي:
أي بإدماج التقسيمين الأول والثاني وبذلك يمكن القول أن المواد المخدرة يمكن تقسيمها إلى :
أ- مهبطات : 1- طبيعية . 2- نصف تخليقية . 3- تخليقية .
ب- منشطات : 1- طبيعية . 2- تخليقية .
ج- مهلوسات : 1- طبيعية 2- نصف تخليقية . 3- تخليقية.
د- الحشيش .
تصنيف آخر للمخدرات
أولاً: بحسب تأثيرها
1- المسكرات: مثل الكحول والكلوروفورم والبنزين.
2- مسببات النشوة: مثل الأفيون ومشتقاته.
3- المهلوسات: مثل الميسكالين وفطر الأمانيت والبلاذون والقنب الهندي.
4- المنومات: وتتمثل في الكلورال والباريبورات والسلفونال وبرموميد البوتاسيوم.
ثانياً: بحسب طريقة الإنتاج :
1- مخدرات تنتج من نباتات طبيعية مباشرة: مثل الحشيش والقات والأفيون ونبات القنب.
2- مخدرات مصنعة: وتستخرج من المخدر الطبيعي بعد أن تتعرض لعمليات كيمياوية تحولها إلى صورة أخرى: مثل المورفين والهيروين والكوكايين.
3- مخدرات مركبة: وتصنع من عناصر كيماوية ومركبات أخرى ولها التأثير نفسه: مثل بقية المواد المخدرة المسكنة والمنومة والمهلوسة.
ثالثاً: بحسب الإدمان النفسي والعضوي:
1- المواد التي تسبب اعتماداً نفسياً وعضويا: مثل الأفيون ومشتقاته كالمورفين والكوكايين والهيروين.
2- المواد التي تسبب اعتمادا نفسيا فقط: مثل الحشيش والقات وعقاقير الهلوسة.
رابعاً: بحسب اللون:
1- المخدرات البيضاء: مثل الكوكايين والهيروين.
2- المخدرات السوداء: مثل الأفيون ومشتقاته والحشيش.
خامساً: تصنيف منظمة الصحة العالمية:
1- مجموعة العقاقير المنبهة: مثل الكافيين والنيكوتين والكوكايين، والأمفيتامينات مثل البنزدرين وركسي ومئثدرين.
2- مجموعة العقاقير المهدئة: وتشمل المخدرات مثل المورفين والهيروين والأفيون، ومجموعة الباربيتيورات وبعض المركبات الصناعية مثل الميثاون وتضم هذه المجموعة كذلك الكحول.(/1)
3- مجموعة العقاقير المثيرة للخيالات [المغيبات]: ويأتي على رأسها القنب الهندي الذي يستخرج منه الحشيش، والماريغوانا.
سادساً: بحسب التركيب الكيميائي :
وهناك تصنيف آخر تتبعه منظمة الصحة العالمية يعتمد على التركيب الكيميائي للعقار وليس على تأثيره، ويضم هذا التصنيف ثماني مجموعات هي:
1- الأفيونات.
2- الحشيش.
3- الكوكا.
4- المثيرات للخيالات.
5- الأمفيتامينات.
6- البابيورات.
7- القات.
8- الفولانيل.[1]
وتنقسم المخدرات طبقا لمعيار خصائص الإدمان إلى المجموعات التالية:
1- مجموعة الحشيش: وتشمل مستحضرات نبات كنابيس ساتيفا.
2- مجموعة مركبات الأفيون: وتشمل الأفيون والمورفين والهيروين، وكذلك العقاقير المصنعة كيمائيا ذات التأثير المشابه لتأثير المورفين مثل الميثادون.
3- مجموعة الكوكائين: وتشمل الكوكائين وأوراق نبات الكوكا.
4- مجموعة القات: وتشمل مستحضرات نبات كاتا ايديوليس.
5- مجموعة الامفيتامينات: مثل امفيتامين وديكسامفيتامين وميثامفيتامين.
6- مجموعة الباربيتيورات: مثل الباربيتورات وبعض العقاقير الأخرى ذات التأثير المسكن مثل المثاكوالون.
7- مجموعة المواد المسببة للهلوسة: مثل أل [ ل . س . د ] والميسكالين.
---------------
[1] المصادر: Addiction Research Foundationمشكلة تعاطي المخدرات بين الشباب، د. علاء الكفافي.موسوعة مقاتل، موضوعات اجتماعية ونفسية، مواجهة مشكلة المخدرات بين الواقع والمستقبل(/2)
المداراة لا المداهنة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد
فإنَّ من أقوى الأسباب والوسائل التي تساعدُ على تأصيل المفاهيم وإيضاحها، هو التحديد والتحرير، للمصطلحات التي تستخدم وتطلق على مفهومٍ معين، أو موقف محدد، كما أنَّ تحديد الألفاظ والمواضع يساعدُ أيضًا على الفصل في الأمور، وعدم اختلاط بعضها ببعض.
وإنَّ من المصطلحات التي تحتاجُ إلى إيضاحٍ وتحديدٍ وتحرير، هو هذا الموضوع الذي نحن بصدده، ألا وهو تحديد مفهوم المداراة، والمداهنة، والفرق بينهما، وما ينشأ عن كلٍ منهما من مواقف.
ولقد اخترتُ هذا الموضوع وذلك لخطورةِ الخلط بين هذين الأمرين، وما ينشأُ عن ذلك من مواقف عمليةٍ خاطئة، خاصة في هذا العصر الذي من سماته التناقض والاضطراب، وفي مثل هذه الأجواءِ يتعرض المسلم لكثيرٍ من المواقف، التي تفرضُ عليه المداراة، وقد يقع في المداهنةِ وهو يحسبِ أنها مداراة.
وقد يحصلُ العكس في هذه القضية، حيثُ يوجدُ من يرفض أي أسلوبٍ للمداراة، والتي قد تكون واجبةً في بعض المواقف، ظانًّا أنها مداهنة، ومعلومٌ ما ينشأ من هذا الخلط من مفاسد أو تفويت مصالح.
من أجل ذلك كله وقع الاختيار على هذا الموضوع.
أسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما فيه، وأن يفقهنا في ديننا، وأن يؤتنا الحكمة بفضله ورحمته، (( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً )) .
تعريف المداراة :
بوَّب البخاري- رحمه الله تعالى- في المداراة بابًا كاملاً، في كتاب الأدب وأسماهُ ( باب المداراة مع الناس ).
وذكر الحافظ ابن حجرٍ- رحمه الله تعالى- : (( أنَّ أصلها الهمز لأنَّهُ من المدافعةِ والمراد به الدفع برفق )) [1] .
وذكر صاحبُ القاموس المحيط، في معنى درأه : أي جعلهُ درءًا، ودرأه أي دفعه وتدا رأوا: أي تدافعوا في الخصومة.
أما المداهنة:
فقد ذكر الحافظُ ابن حجر- رحمه الله تعالى- أنَّ المداهنة من الدهانِ، وهو الذي يظهرُ على الشيءِ ويسترُ باطنه ) [2].
وذكرَ صاحب القاموس المحيط : أنَّها إظهار خلاف ما يضمر.
وبهذا التعريف يتبينُ خطرَ المداهنة، وما تُؤدي إلى ضياعِ الدين كله أو بعضه، وأنَّ في المداراةِ مندوحة عن المداهنة.
وأزيد هذا الأمر إيضاحًا ببعض الآيات من كتاب الله عز وجل، وبعض الأحاديثِ التي حذرت من المداهنة، وأذنت في المداراةِ مع ذكرِ أقوالِ المفسرين والمحدثين حولها.
الأدلة الناهية عن المداهنة
يقول الله عز وجل: (( فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ )) ( القلم:8، 9 ) .
ولعلماء التفسير أقوالٌ مختلفة في معنى المداهنة، يجمعها معنى واحد كما سيتضحُ ذلك من عرضِ أقوالهم، وأنَّ الاختلاف هُنا اختلافُ تنوعٍ لا اختلاف تضاد.
نقل القرطبي- رحمه الله- في تفسيره عن ابن عباس- رضي الله عنهما- وعطية والضحاك والسد ي في قوله تعالى : (( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ )) ، ودُّوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم.
وعن ابن عباس أيضًا: ودُّوا لو ترخص لهم فيرخصون لك.
وقال الفراء والكلبي: لو تلين لهم فيلينون لك.
والإدهان : التلين لمن لا ينبغي له التليين، قاله الفراء .
وقال مجاهد : المعنى ودُّوا لو ركنت إليهم، وتركت الحق فيمالئونك، إلى أن قال. وقال الحسن: (( ودُّوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونكَ في دينهم... إلخ.
ثم قال القرطبي قلت : كُلَّها إن شاءَ الله صحيحة على مقتضى اللغةِ والمعنى، فإنَّ الإدهان : اللينُ والمصانعة، وقيل مُجاملة العدو ممايلته ) [3] أهـ.
ويعلق سيد قطب- رحمه الله تعالى- حول هذه الآية فيقول: ((... فهو المساومة إذن، والاعتقاد في منتصفِ الطريق، كما يفعلون في التجارة، وفرقٌ بين الاعتقادِ والتجارة كبير، فصاحبُ العقيدة لا يتخلى عن شيءٍ منها، لأنَّ الصغير منها كالكبير، بل ليس في العقيدة صغير وكبير، إنَّها حقيقةٌ واحدةٌ متكاملة الأجزاء، لا يطيعُ فيها صحابها أحدًا، ولا يتخلى عن شيءٍ أبدًا، وما كان يمكنُ أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصفِ الطريق، ولا أن يلتقيا في أي طريق )) [4] .
يقول الله عز وجل: (( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً)) (الإنسان:24) ، ويقول الله عز وجل : (( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً )) (الإسراء:75.)
من الآيات السابقةِ يتبينُ أنَّ المداهنةَ مُحرمةٌ بجميع صورها، لأنَّ محصلةَ أعمال المداهنة هو النقص في الدين والنيل منه.(/1)
والحاصلُ أنَّ أيِّ عملٍ تتعارضُ فيه المصالح والمفاسد، فإنَّ ما كان محصلتهُ ثلم الدين أو أهله فإنَّه محرمٌ ولا يجوزُ الإقدامُ عليه، بل تجبُ فيه المداراة.
وما كان محصلتهُ الإبقاء على الدين والمحافظةِ عليه، فإنَّهُ جائزٌ فعله، بل واجبٌ في بعض الأحيان، كما توضحُ ذلك الأدلة التالية:
1- يقول الله عز وجل : (( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ )) (الأنعام: 108 ) .
ففي هذه الآية الكريمة نهيٌ للمؤمنين من أن يسبُّوا المشركين وآلهتهم، ومعلومٌ جوازُ سبِ آلهة المشركين استقلالاً، ولكن لمَّا كان يترتبُ على ذلك سبٌّ الله عز وجل وتعالى علوًّا كبيرًا، لذلك نهي المؤمنون عن هذا العمل، وذلك من بابِ المداراة، والتي محصلتها المحافظة على الدين ولو في المآل.
والأدلةُ على جوازِ المداراة أو استحبابها أو وجوبها أحيانًا ما يلي:
2- يقول الله عز وجل في وصف المؤمنين من أهل الكتاب، ويمدحهم بذلك قوله تعالى : (( وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ )) (القصص: 54) .
ذكر القرطبي في قوله تعالى : (( وَيَدْرَأُونَ )) أي ( يدفعون، درأتُ إذا دفعتُ، والدرءُ الدفع. وفي الحديث (( أدرءوا الحدود بالشبهات )) [5]. قيل : يدفعون بالاحتمالِ والكلامِ الحسن الأذى . وقيل : يدفعون بالتوبة والاستغفار الذنوب.
وعلى الأولِ فهو وصفٌ لمكارمِ الأخلاق، أي من قالَ لهم سُوءًا لا ينوه وقابلوه من القول الحسن بما يدفعه، وهي في صدر الإسلام، وهي مما نسختُها آيةُ السيف، وبقي حُكمها فيما دُون الكُفرِ، تتعاطاهُ أمةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة.
ومنه قوله- عليه الصلاة والسلام- لمعاذ ? : (( وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن )) [6] ، ومن الخلق الحسن دفعُ المكروهِ والأذى، والصبر على الجفا، بالإعراض عنهُ ولين الحديث) [7] أ هـ.
والدليل من السنة: ما بوَّبَ له البخاري بقوله »باب المداراة مع الناس« حيث قال:
- ويذكرُ عن أبي الدرداء : (( إنا لنُكشرُ في وجوهِ أقوامٍ وإن قلوبنا لتلعنهم )).
- وعن عائشة- رضي الله عنها- أنه استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال: (( ائذنوا له فبئس ابن العشيرة ـ أو بئس أخو العشيرة )) فلما دخل ألانَ له الكلام، فقلت له : يا رسول الله قلتَ ما قلت ثمَّ ألنت له في القول ؛ فقال : (( أي عائشة : إنَّ شرَّ الناسِ منزلةً عند الله من تركه - أو ودَعه - الناس اتقاء فحشه )) [8] .
وعلق الحافظ ابن حجر- رحمه الله تعالى- على هذين الحديثين بقوله ( مختصرًا ).
( قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفضُ الجناحِ للناسِ، ولينُ الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة.
وظن بعضهم أنَّ المداراة هي المداهنة فغلط، لأنَّ المداراة مندوبٌ إليها والمداهنة محرمة، والفرقُ: أنَّ المداهنة من الدهان، وهو الذي يظهرُ على الشيءِ ويستر باطنه.
وفسرها العلماء بأنها مُعاشرةُ الفاسقِ، وإظهارُ الرضا بما هو فيه، من غير إنكارٍ عليه.
والمداراةُ هي الرفقُ بالجاهل في التعلم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطفِ القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك )[9] .
وعلقَ على حديث عائشة- رضي الله عنها- في باب »لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحشًا ولا متفحشًا«.
وقال القرطبي : في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق، أو الفحش، ونحو ذلك من الجور في الحكم، والدعاء إلى البدعة، مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم، مالم يؤدِّ ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى.
ثم قال تبعًا لعياض : والفرق بين المداراةِ والمداهنةِ: أنَّ المداراةَ بذلُ الدنيا لصلاحِ الدنيا، أو الدينِ أو هما معًا، وهي مُباحةٌ وربما استحبت؛ والمداهنةُ ترك الدين لصلاح الدنيا،. أهـ[10].
ومزيدًا للفائدة حول هذا الموضوع، ننقل مقتطفات مما ذكره الإمام أبو حاتم البستي في كتابه، روضة العقلاءِ ونزهة الفضلاء في »ذكر استعمال لزوم المداراة وترك المداهنة مع الناس«، حيثُ قال : أنبأنا محمد ابن قتيبة اللخمي بعسقلان، وعمر بن سعيد بن سنان الطائي بمنبج ـ قالا : حدثنا ابن واضحٍ، حدثنا يوسف بن أسباط، حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((مداراة الناس صدقة )) .
قال أبو حاتم : الواجبُ على العاقلِ أن يلزم المداراة مع من دفع إليه في العشرة، من غير مفارقة.
إذ المداراةُ من المداري صدقة له، والمداهنةُ من المداهنِ تكونُ خطيئة عليه.(/2)
وقال : الواجبُ على العاقلِ أن يُداري الناس مداراة الرجل السابح في الماءِ الجاري، ومن ذهب إلى عشرةِ الناس من حيث هو كَدَّر على نفسه عيشه، ولم تصفِ له مودته، لأنَّ وداد الناس لا يُستجلبُ إلاَّ بمساعدتهم على ما هُم عليه، إلاَّ أن يكون مأثمًا، فإذا كانت حالةُ معصيةٍ فلا سمع ولا طاعة.
وروى بسنده عن المدائني قال: قال معاوية ? : (( لو أن بيني وبين الناس شعرةً ما تقطعت ))؛ قيل : وكيف ؟ قال : (( لأنهم إن مدوها خليتها وإن خلَّو مددتها )).
وكذلك روى بإسنادهِ أن أبا الدرداء ? قال لأم الدرداء : (( إذا غضبتُ فرضيني، وإذا غضبت رضيتك، فإذا لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق ))[11] أهـ.
ويقول الإمام ابن القيم- رحمه الله تعالى- في الفرق بين المداراة والمداهنة، وخطورة الخلط بينهما : (( وكذلك المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما : أنَّ المداري يتلطفُ بصاحبه حتى يستخرج منه الحق، أو يرده عن الباطل، والمداهنُ يتلطفُ به ليقره على الباطل، ويتركه على هواه، فالمداراةُ لأهل الإيمان، والمداهنةُ لأهل النفاق، وقد ضُرب لذلك مَثَلٌ مُطابق، وهو حالُ رجلٍ به قرحة قد آلمته، فجاءهُ الطبيب المداوي الرفيق، فتعرف عليه، ثم أخذ في تليينها حتى إذا نضجت، أخذ في بطها برفقٍ وسهولة، حتى أخرج ما فيها، ثم وضع على مكانها من الدواءِ والمراهم ما يمنعُ فساده، ويقطعُ مادته، ثم تابع عليها بالمراهم التي تنبت اللحم، ثم يذرُ عليها بعد نبات اللحم ما يُنشفُ رُطوبتها، ثم يَشُدُّ عليها الرباط، ولم يزل يُتابعُ ذلك حتى صلحت.
والمداهنُ قال لصاحبها : لا بأسَ عليك منها، وهذه لا شيءَ فاسترها عن العيوب([12]) بخرقة، ثم ألهاهُ عنها، فلا تزالُ مادتها تقوى وتستحكمُ حتى عظُمَ فسادها[13]. أهـ.
من هذا البيان الشافي يتبين لنا حقيقة المداراة والمداهنة، وأنهما ضدانِ لا يجتمعان؛ إذ أن المداراةِ صفةُ مدح، وهي لأهلِ الإيمان، بينما المداهنةُ صفةُ ذمٍ، وهي لأهلِ النفاق.
الخلاصة :
مما سبق يتبينُ لنا ذلك الفرق الواضح بين المداهنة والمداراة، وأنَّهُ لا يجوزُ لنا بحالٍ من الأحوال أن نخلطَ بين هذين المفهومين حتى لا نثلمَ ديننا بحجةِ المداراة، أو أن نُقدم على أمورٍ يعقبها مفاسد على هذا الدين، خوفًا من أنَّ إحجامنا عنها يوقُعنا في المداهنة، وما أجمل التفريق السابق الذي نُقل عن الحافظ ابن حجر في كتاب الفتح، وذلك في
كتاب الأدب، في باب مداراة الناس- حيث أجدني مضطرًا لإعادتهِ مع بعض التصرف.
فالمداهنة : أن يتنازلَ المرءُ عن شيءٍ من دينهِ ليحافظ بذلك على دنياهُ أو عرضه.
والمداراة : أن يتنازلَ المرءُ عن شيءٍ من دنياهُ أو عرضه، ليحافظ بذلك على دينهِ أو دنياه، أو هما معًا.
وأخيرًا : نستطيع القول بأنَّ حقيقة المُداراة أو المداهنة مبنيٌ على قاعدةٍ شرعيةٍ عظيمة، ألا وهي »قاعدة سد الذرائع«، فما كان ذريعةً لثلمِ الدين أو أهله بصفةٍ خاصة أو عامة، فهو مداهنة، وما كان ذريعةً لحفظِ الدين وأهله بصفةٍ خاصةٍ أو عامة، فهو مُداراة، ومن أوضحِ الأمثلةِ للمداراةِ تلك القصة المشهورة عن حذافة السهمي ?، حيثُ دَفع القتلُ عن أسارى المسلمين بتقبيلهِ رأس ـ النصراني الكافر ـ ملك الروم.
وختامًا : أنصحُ نفسي وإخواني من الدعاة أفرادًا وجماعات، أن يُولوا هذا الموضوع أهميةً كبيرة، وأن يصنفُ المسلمُ أقوالهُ وأعمالهُ على ضوءِ هذه القاعدة الشرعية العظيمة، حتى لا نقعُ في المداهنة، المعلوم حرمتها، ظناً منا أنها مُداراة أو نُجازفُ في أمورٍ تعودُ بالمفسدةِ على هذا الدين أو أهله، ظنًّا منَّا أنَّ الإحجام عنها مُداهنة فنكونُ
كالمستجيرِ من الرمضاءِ بالنار.
والأمثلةُ في هذين الجانبين المتقابلين كثيرةً وكثيرة، وليس هذا محلُ ذكرها، ولا هو قصدي من هذه المقالة، بل أردتُ الذكرى والتنبيه على ضرورةِ تحديد هذين المفهومين، وإزالةِ ما اشتبك بينهما، حتى يتضحَ كلُّ مفهومٍ عن الآخر، وأنهما شيئانِ متقابلان، ولفظان متغايران لا مترادفان.
أسألُ الله عز وجل أن يبصرنا بديننا، وأن يُلهمنا رُشدنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________________
[1] فتح الباري: 10 / 545.
[2] فتح الباري: 10 / 545 .
[3] تفسير القرطبي 18 / 230 .
[4] في ظلال القرآن: 6 / 3658 .
[5] ذكره الترمذي بلفظ: (ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم) (1424).
[6]الترمذي (1987) ، وقال: حديث حسن.
[7] تفسير القرطبي: 13 / 298 .
[8]فتح الباري: 10 / 544 (دار الريان) .
[9] فتح الباري: 10 / 545 (دار الريان).
[10] فتح الباري: 10 / 469 (باختصار) (دار الريان ).
[11] روضة العقلاء: ص70 دار الكتب العلمية.
[12] (العيوب) كذا بالأصل ، ولعل الصواب هو: ( العيون ).
[13] الروح ص: 231.(/3)
المدارس النظامية في دولة السلاجقة
د. علي الصلابي ـ الشبكة
المدارس النظامية في عهد السلاجقة
أولاً : نشأتها :
أختلف المؤرخون وأهل العلم حول بداية نشأة المدرسة الإسلامية، فمنهم من قال أنها ظهرت في عهد نظام الملك الذي أنشأ المدرسة النظامية سنة 459ه ومنهم من قال إنها كانت قد ظهرت قبل ذلك بكثير، ولكن بالرجوع إلى المصادر والكتب المتخصصة نجد أن المدرسة في أول ظهور لها كان في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجري وهذه المدرسة هي مدرسة الإمام أبي حفص الفقيه البخاري 150ه - 270ه " ويبدو من نسبتها إلى مؤسسها أنها قد أسست أثناء حياته، وأبو حفص البخاري من الفقهاء الذي تزعموا الحركة الفكرية في مدينة بخاري، ثم نشطت حركة إنشاء المدارس في بلاد المشرق بعد هذا التاريخ، فقد تم إنشاء مدرسة بنيسابور منُذ بداية القرن الرابع الهجري [1] أنشأها الإمام أبو حاتم محمد بن حبان التميمي الشافعي (270 – 354ه). وقد كانت المدارس التي أسست في ذلك الوقت مدارس أحادية المذهب تفردت بتدريس مذهب واحد، ذلك لأن التنافس المذهبي الذي كانت تعيشه بغداد حاضرة الخلافة قد امتد إلى بلاد ما وراء النهر [2]، ومن الجدير بالذكر أن المدارس كانت قد ظهرت في دمشق قبل ظهورها في بغداد، فقد تم إنشاء أول مدرسة فيها عام 391ه وهذه المدرسة هي المدرسة الصادرية المنسوبة إلى منشئها، صادر عبد الله، وتبعه بعد ذلك مقرئ دمشق " رشأ بن نضيف " حيث قام بتأسيس المدرسة الرشائية في حدود الأربعمائة، وإلى هذه المدارس خرج الطلبة من الحلق التي كانت تعقد في المسجد إلى مكان يختص بتلقي علم معين فيوقف عليهم وعلى شيوخهم المال وتوفر لهم أسباب التعليم [3]، وفيما يلي ذكر لبعض المدارس التي أنشئت قبل المدرسة النظامية وهي حسب التسلسل الزمني لظهورها وهي أيضاً على سبيل المثال لا الحصر :
1- مدرسة الإمام أبي حفص الفقيه البخاري (150ه - 217ه).
2- مدرسة ابن حيان، في بداية القرن الرابع الهجري وفي حوالي سنة 305ه شيد أبو حاتم ابن حيان البستي داراً في بلده بست وجعل فيها خزانة كتب وبيوتاً للطلبة.
3- مدرسة أبي الوليد، قبل سنة (349ه) هجري أنشئت مدرسة أبي الوليد حسان بن أحمد النيسابوري الشافعي ت 349) ويذكر أنه كان كثير الملازمة لها.
4- مدرسة محمد بن عبد الله بن حماد ت (388ه) الذي وصفه السبكي بأنه كان إلى أن خرج من دار الدنيا وهو ملازم لمسجد ومدرسته.
5- المدرسة الصادرية التي أنشئها الأمير شجاع الدولة صادر بن عبد الله سنة 391ه في مدينة دمشق.
6- المدرسة البيهقية بنسيابور والتي أنشئت قبل أن يولد نظام الملك وقد ولد سنة 408ه، فتكون هذه المدرسة أنشئت قبل هذا التاريخ.
7- مدرسة أبي بكر البستي (ت429ه) والتي بناها لأهل العلم بنيسابور على باب داره ووقف جملة من ماله عليها وكان هذا الرجل من كبار المدرسين والناظرين بنيسابور.(/1)
8- مدرسة الإمام أبي حنيفة والتي أنشئت بجوار مشهد أبي حنيفة وأسسها أبو سعد ابن المستوفي حيث تم افتتاحها قبل افتتاح المدرسة النظامية بخمسة شهور[4]. وقد ذكر بعض المؤرخين أن الغزنويين اهتموا بالمدارس من خلال بعض أمراءهم، كالنصر بن سبكتكين – حينما كان والياً على نيسابور وسماها السعدية [5]وجاء نظام الملك فوجد أمامه هذه النماذج العديدة من المدارس، ورأى الفاطميين قد سبقوه إلى تشييد الأزهر، والاعتماد عليه في دعوتهم ودراسة مذهبهم فكانت هذه مصادر إيحاء وتحفز للقيام بإنشاء مجموعة من المدارس وليست مدرسة واحدة لتشارك المجاهدين في حربهم ضد المبتدعين بنفس السلاح [6]، لقد تسربت الباطنية في سوريا وفارس والعراق وأخذت بفضل إغراء الدعاة وإثارتهم فطاف – ناصر خسرو – ومن بعده – حسن الصّباح – يدعوان للمذهب الباطني الإسماعيلي الشيعي الرافضي، وقام إبراهيم ينال – ثم البساسيري في الموصل وبغداد بثورتين عنيفتين كادت تقضيان على الخلفاء السلاجقة جميعاً، وكان لدار الحكمة والأزهر اللذين أسسهما الفاطميون في القرن العاشر الهجري بالقاهرة الفضل الأكبر في بث مبادئ التشيع الإسماعيلي ونشر الحكم الفاطمي [7]، ولم يكن إيقاف حركة الباطنية هذه فضلاً عن القضاء عليها بالأمر الهيّن، جذورها قد تغلغلت في جسم البلد الإسلامي الكبير بحيث لم يبق عضو منه سليماً وبخاصة إقليم خراسان فإنه كان موطن المغذَّين لها بالآراء الفلسفية والبراهين المنطقية إن لم يكن من المؤسسين لها، .. وقد اتخذ هؤلاء وتسيلتهم الإقناع والحجة عن طريق الحوار والمناقشة [8]، لقد بدأ التفكير الفعلي في إنشاء هذه المدارس النظامية للوقوف أمام المد الشيعي الإمامي والإسماعيلي الباطني عقب اعتلاء السلطان ألب أرسلان عرش السلاجقة في عام 455ه، فقد استوزر هذا السلطان رجلاً قديراً وسنياً متحمساً هو الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، الملقب بنظام الملك، فرأى هذا الوزير أن الاقتصار على مقاومة الشيعة الإمامية والإسماعيلية الباطنية سياسياً لن يكتب له النجاح إلا إذا وازى هذه المقاومة السياسية مقاومة فكرية، ذلك أن الشيعة ! إمامية كانوا أو إسماعيلية نشطوا في هذه الفترة وما قبلها إلى الدعوة لمذهبهم بوسائل فكرية متعددة، وهذا النشاط الفكري ما كان ينجح في مقاومته إلا نشاط سني مماثل يتصدى له بالحجة والبرهان، خاصة وأن السلاجقة ورثوا في فارس والعراق نفوذ بني بويه الشيعيين، وهؤلاء لم يألوا جهداً في تشجيع الإمامية على نشر فكرهم، كما غضوا الطرف عن نشاط دعاة الإسماعيلية في فارس والعراق وترتب على ذلك كله تزايد نفوذ الشيعة فيهما، خاصة بعد أن لجأ الشيعة إلى إنشاء مؤسسات تعليمية تتولى الترويج لعقائدهم، وتعمل على نشرها، فقد أنشاء أبو علي بن سِوّار الكاتب أحد رجال عضد الدولة ت 372ه دار كتب في مدينة البصرة وأخرى في مدينة رام هرمز : وجعل فيها إجراء على من قصدهما، ولزم القراءة والنسخ وكان في الأولى منهما شيخ يدرس عليه علم الكلام على مذهب المعتزلة[9]، كما أسس أبو نصر : سابور بن أرد شير : وزير بهاء الدولة ت 416ه داراً للعمل في الكرخ فيعام 383ه، ووقف فيها كتب كثيرة، ذكر ابن الأثير أنها بلغت عشرة آلاف وأربعمائة مجلد في أصناف العلوم، وأسند النظر في أمرها ورعايتها إلى رجلين من العلويين يعاونهما أحد القضاة [10]، وبعد وفاة سابور آلت مراعاة هذه الدار إلى الشريف الرضى نقيب الطالبيين [11] كذلك اتخذ الشريف الرضي ت 406ه الشاعر الإمامي المشهور دار اسماها دار العلم، وفتحها لطلاب العلم، وعين لهم جميع ما يحتاجون إليه [12]. ويدل مجرد اسم هذه المؤسسات على الفرق بينهما وبين دور الكتب القديمة، فكانت دار الكتب تسمى قديماً خزانة الحكمة، وهي خزانة كتب ليس غير، أمام المؤسسات الجديدة فتسمى دور العلم، وخزانة الكتب جزء منها[13]. وهذا يشير إلى هذه الدور الجديدة كانت لها وظيفة تعليمية أيضاً [14]، وإلى جانب دور العلم هذه كان كثير من أئمة الشيعة الإمامية يقومون بالدعوة إلى مذهبهم ونشر عقائدهم في بيوتهم الخاصة، أو في مشاهدهم وأعنى بها المساجد التي دفن فيها أئمتهم – على حد قولهم – لئن بعضها لا يثبت والتي عرفت عندهم بالعتبات المقدسة [15]: فقد كان الشيخ المفيد محمد بن محمد النعمان، شيخ الإمامية المتوفي في عام 413ه يعقد : مجلس نظر بدار يحضره كافة العلماء وكانت له منزلة عند أمراء الأطراف يميلهم إلى مذهبه [16] وأما أبو جعفر الطوسي محمد بن الحسن فقيه الإمامية ت 460ه، فقد فر إلى النجف بعد أن هو جمت داره في بغداد، ونهبت محتوياتها في عام 448ه في حملة الضغط التي تعرض لها الشيعة في بغداد عقب دخول السلاجقة إليها وتمكن الطوسي في مقره الجديد من مواصلة نشاطه العلمي والتعليمي فألف مجموعة من الكتب في الفقه والحديث على مذهب الإمامية احتلت مكاناً بارزاً في الدراسات الشيعية الإمامية، كالتهذيب والاستبصار، وهما من(/2)
الكتب الأربعة المعول عليها عندهم والتي تحفل بالروايات الضعيفة والموضوعية والتي لا وزن لها في الميزان العلمي الصحيح، كما أملى الطوسي – في مشهد النجف – على طلبته كثيراً من الدروس جمعها في كتاب سماه الأمالي [17]. هذه بعض الجهود التي قام بها الإمامية للترويج لمذاهبهم والدعاية له، أما الإسماعيلية، فكانوا أساتذة هذا الميدان ولهم القدم الراسخة فيه إذ حازوا قصب السبق في إنشاء المؤسسات التعليمية، وتوجيهها وجهة مذهبية .[18]
بدأ الفاطميون نشاطهم في هذا المجال – منُذ قيام دولتهم في الشمال الإفريقي – وكان عهدهم الذهبي بإنشاء الجامع الأزهر عام 359ه وجعلوا منه مؤسسة تعليمية تعني بنشر مذهبهم في عام 378ه عندما ما سأل : الوزير يعقوب بن كلس الخليفة العزيز في صلة رزق جماعة من الفقهاء : فأطلق لهم ما يكفي كل واحد منهم، وأمر لهم بشراء دار وبنائها فبنيت بجانب الجامع الأزهر، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع : وتحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلى العصر، وكان لهم من مال الوزير صلة في كل سنة ثم أنشأ الحاكم بأمر الله دار العلم " دار الحكمة " للغرض ذاته في عام 395ه وحملت الكتب إليها من خزائن القصور، ومن خزائن مقر الدولة الفاطمية وأجرى الأرزاق على من رسم له بالجلوس فيها، والخدمة لها من فقيه وغيره، وحضرها الناس على طبقاتهم فمنهم من يحضر لقراءة الكتب ومنهم من يحضر للنسخ، ومنهم من يحضر للتعلم وجعل فيها ما يحتاج الناس إليه من الحبر والأقلام والورق والمحابر [19]، هذا بالإضافة إلى البرامج التعليمية التي كانت تعد بعناية خاصة في عاصمة الخلاقة الفاطمية لإعداد الدعاة، وتثقيفهم ثقافة مذهبية واسعة قبل إرسالهم إلى البلاد الإسلامية لنشر المذهب الإسماعيلي، وكان لذلك أثره في رواج هذا المذهب في بعض مناطق الشرق الإسلامي نتيجة لهذه الجهود المنظمة المستمرة في نشر هذه الدعوة [20]، لذلك كله فكر نظام الملك في أن يقاوم النفوذ الشيعي بنفس الأسلوب الذي ينتشر به، ومعنى ذلك أنه رأى أن يقرن المقاومة السياسية للشيعة بمقاومة فكرية أيضاً [21]، وتربية الأمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعقيدة أهل السنة والجماعة المستمدة من الوحي الإلهي. ومن هنا كان تفكيره في إنشاء المدارس النظامية التي نسبت إليه، لأنه الذي جد في إنشائها وخطط لها، وأوقف عليها الأوقاف الواسعة، واختار لها الأكفاء من الأساتذة فكان من الطبيعي أن تنسب إليه من دون السلاجقة [22] لقد كان النظام شافعياً سنياً حريصاً على الإسلام الصحيح وقد عاصرت نظام الملك آراء وأفكار متباينة مختلفة كانت منتشرة في العالم الإسلامي كالمعتزلة والباطينة وبقايا القرامطة وغيرهم من أصحاب الملل والنحل وكان نظام الملك يرمي بدرجة كبيرة إلى توجيه الرعية وجهة تخدم مصلحة الدولة وتبعث على الاستقرار والسكنية والأمن، لذا كان هم نظام الملك التأكيد على مواضع الدراسة على إفهام الناس عامة ومنتسبي النظامية خاصة أصول الدين الصحيحة، ولما كان نظام الملك شافعياً، كان يرى أن يدرس الفقه والأصول المستمدة من أفكار وأراء الشافعية وكان من شروط النظامية أن يكون المدرس من الشافعية أصلاً وفرعاً [23].
إن من الأخطار العظيمة التي تواجه الأمة اليوم المد الباطني في أنحاء المعمورة وقد استهدف عقيدة الأمة وكتاب ربها وسنة نبيها وتاريخها وعظمائها، والكثير من رموز الأمة الإسلامية في عالم السياسة والفكر والعلم والتاريخ والثقافة في حالة استرخاء، وفتور، والبراكين المدمرة تجري من تحتهم، فهلا نستلهم الدرس، ونستخرج العبرة، ونعمل بالسنن والقوانين الإلهية في الدعوة إلى الإسلام الصحيح الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون من حكامنا، مثل ألب أرسلان في غيرته، ومن وزرائنا كنظام الملك في همته، ومن علمائنا كالجويني والغزالي، وابن عقيل والبغوي وغيرهم في دفاعهم عن الكتاب والسنة والصحابة، وقضايا الفكر، ونوظف الوسائل الحديثة في بث عقائد الإسلام الصحيحة وتاريخه الموثق وفكره البديع من خلال الفضائيات والانترنت والمطابع والجرائد والمجلات والكتب والندوات والمؤتمرات والمناهج والمدارسة والجامعات ووسائل الدعوة بأنواعها، نريد بذلك وجه الله وأجره ومثوبته ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
[1] الإدارة التربوية في المدارس في العصر العباسي ص 94.
[2] المدرسة مع التركيز على النظاميات للسامرائي ص 336 – 337.
[3] نظم التعليم عند المسلمين، عارف عبد الغني ص 89 الإدارة التربوية في المدارس في العصر العباسي ص 95.
[4] التعليم الإسلامي بين الأصالة والتجديد ص 351.
[5] نظام الملك ص 365.
[6] المصدر نفسه ص 365.
[7] نظام الملك ص 353.
[8] المصدر نفسه ص 353 ، 354.
[9] تاريخ التربية عند الإمامية، عبد الله فياض ص 87 – 89.
[10] المنتظم (8/205) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع (1/330).(/3)
[11] التاريخ السياسي والفكري د. عبد المجيد أبو الفتوح ص 177.
[12] تاريخ التربيةالإسلامية ص 139 د. أحمد شلبي.
[13] التاريخ السياسي والفكري د. عبد المجيد ص 177.
[14] المصدر نفسه ص 177.
[15] المنتظم (8/11) التاريخ السياسي والفكري ص 178.
[16] المصدر نفسه.
[17] تاريخ التربية عند الإمامية ص 275 – 276.
[18] التاريخ السياسي والفكري ، عبد المجيد ص 178.
[19] خطط المقريزي (2/272) التاريخ السياسي والفكري عبد المجيد ص 178.
[20] التاريخ السياسي والفكري ص 179.
[21] المصدر نفسه ص 179.
[22] المصدر نفسه ص 179.
[23] بحوث في تاريخ الحضارة الإسلامية ص 105.
الأهداف التعليمية للمدارس النظامية ... ... ...
د. علي الصلابي
الأهداف التعليمية للمدارس الإسلامية وخصوصاً النظامية
إن من أبرز الأهداف التي عملت المدارس على تحقيقها في بداية ظهورها :
1- تحقيق العبودية الخالصة لله تعالى، وذلك بأن يكون العبد يعبد رب واحد. وأن تستقيم وتنتظم حياة البشر ضمن هذه الغاية، ولا يتوصل إلى المعرفة الحقة والعبودية الخالصة لله إلا بوجود دوائر تعمل على تحقيق هذه الغاية، ولذلك كانت المدرسة التي عملت وسعت لتحقق وتوضح هذا الهدف في نفوس طلابها قال تعالى : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " (الذاريات، الآية : 56).
2- الأداء الأمثل للتكاليف الشرعية المختلفة، وذلك لأن معالم الشريعة لا تكون واضحة ولا تعرف أحكام الدين إلا عن طريق التعليم الإسلامي القويم، والتعليم الصحيح هو الطريق الأمثل للوصول إلى مراد الشارع سبحانه وتعالى إذ يقول في كتابه الكريم : " ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين " (النحل، 89). إذ إن العبادات كافة التي شرعت ما كانت إلا لعبادة الله سبحانه وتعالى التي يترتب عليها الهداية والرحمة.
3- ويترتب على الهدف السابق هدف آخر هو إعداد الإنسان الصالح بنفسه المصلح لغيره، ولذلك اعتبر هذا الهدف مهماً من وجهة نظر التعليم الإسلامي، فالتعليم الإسلامي يعد الفرد لكي يكون آمراً بالمعروف معيناً عليه وعلى فعله، وناهياً عن المنكر داعياً إلى تركه بعد أن يكون هو نفسه قد امتثل هذا الأمر أو النهي [1].
4- توفير جو علمي، تهدف المدرسة الإسلامية إلى توفر جوا علمياً يساعد الأساتذة والمعلمين على أن يفكروا ويؤلفوا ويبتكروا، فيضيفوا كل جديد إلى العلوم المختلفة بصفة مستمرة.
5- العمل على توسيع الأفق الفكري لدى الطلاب، فالمدرسة لا تكتفي بتنمية الخبرات، بل تعمل على أن تكسب الطالب الخبرات الجديدة الناتجة عن تجارب الأمم السابقة والمعاصرة الوقت وهذا ما يسمى عند علماء التربية الإسلامية " نقل التراث " [2]، وهذا يكون من خلال إطلاع الطلبة على التراث الحضاري والفكري لدى الأمة مما يؤدي إلى توسيع الأفق لديهم نتيجة لإطلاعهم على تلك الخبرات [3].
6- إعداد الكوادر الفنية، تهدف المدرسة من وراء تعليمها للطلبة إلى إعداد الكوادر الفنية المؤهلة لممارسة الأعمال المختلفة سواء في الجهاز الحكومي أو في غيره، وخصوصاً أن الوظائف قد تشعبت وكثرت وتضخمت، ولذلك قامت المدرسة بتخريج الأفراد الذين عملوا على تحمل مسؤولياتهم في تلك الوظائف [4] فهذه الأهداف للمدارس الإسلامية تشترك فيها المدارس النظامية بالإضافة إلى :
- نشر الفكر السني ليواجه تحديات الفكر الشيعي ويعمل على تقليص نفوذه.
- إيجاد طائفة من المعلمين السنيين المؤهلين لتدريس المذهب السني ونشره في الأقاليم المختلفة.
- خلق طائفة من الموظفين السنيين ليشاركوا في تسيير مؤسسات الدولة ؟ وإدارة دواوينها، وبخاصة في مجال القضاء والإدارة [5].
[1] الإدارة التربوية للمدارس في العصر العباسي ص 109.
[2] أصول التربية الإسلامية وأساليبها للنحلاوي ص 135.
[3] الإدارة التربوية للمدارس ص 110.
[4] الإدارة التربوية في المدارس في العصر العباسي ص 111.
[5] التاريخ السياسي والفكري ص 179. ... ... ... وسائل نظام الملك في تحقيق أهداف المدارس
2006-06-11
د. علي الصلابي
ثالثاً : وسائل النظام في تحقيق الأهداف وحله للمشاكل :
أبدى نظام الملك اهتماماً كبيراً بوسائل تحقيق أهداف المدارس النظامية؛ فاختار الموقع الجغرافي الذي يمكن أن تثمر فيهن والمدرسين الممتازين، وأظهر ذكاء ملحوظاً في تحديد المنهج العلمي الذي ستسير عليه، ثم بذل أقصى جهوده لتوفير الإمكانات المادية التي تعين هذه المدارس على العطاء الفكري السخي[1].(/4)
1- الأماكن : فمن ناحية الأماكن التي أنشئت النظاميات فيها يقول السبكي عن نظام الملك : إنه بنى مدرسة ببغداد ومدرسة ببلخ، ومدرسة بنيسابور، ومدرسة بهراة، ومدرسة بأصبهان، ومدرسة بالبصرة، ومدرسة بمرو، ومدرسة بآمل طبرستان ومدرسة بالموصل [2]. هذه إذن هي أمهات المدارس النظامية التي أنشئت في المشرق الإسلامي ويتضح من توزيعها الجغرافي أن معظمها أنشئ إما في بعض المدن التي تحتل مركز القيادة والتوجيه الفكري، كبغداد وأصفهان، حيث كانت الأولى : عاصمة للخلافة العباسية السنية، ويتركز فيها عدد كبير من المفكرين السنيين أيضاً. والثانية : كانت عاصمة للسلطنة السلجوقية في عهد ألب أرسلان وملكشاه ( عصر نظام الملك ) وإما في بعض المناطق التي كانت مركزاً لتجمع شيعي في تلك الفترة كالبصرة ونيسابور، وطبرستان، وخوزستان، والجزيرة الفراتية[3]. إن هذا التوزيع الجغرافي يشير بوضوح إلى أن وضع المدارس النظامية في الأماكن السابقة لم يأت اعتباطاً، وإنما كان أمراً مقصوداً ومدروساً حتى تقوم بدورها في محاربة الفكر الشيعي في هذه المناطق، وتفتح الطريق أمام غلبة المذهب السني.
2- اختيار الأساتذة والعلماء : وإلى جانب الاختيار المدروس لأماكن المدارس النظامية فإنه تم اختيار أساتذتها بعناية تامة بحيث كانوا أعلام عصرهم في علوم الشريعة، ويشير العماد الأصفهاني إلى دقة نظام الملك في هذه الناحية فيقول عنه وكان بابه مجمع الفضلاء، وملجأ العلماء، وكان نافذا بصيراً ينقب عن أحوال كل منهم، فمن تفرس فيه صلاحية الولاية ولاه .. ومن رأى الانتفاع بعلمه أغناه، ورتب له ما يكفيه حتى ينقطع إلى إفادة العلم ونشره وتدريسه، وربما سيره إلى إقليم خال من العلم ليحلَّي به عاطله، ويحي به حقه، ويميت به باطلة [4]. وفي كثير من الأحيان كان نظام الملك لا يعين الواحد منهم إلا بعد أن يستمع إليه ويثق في كفاءته حدث ذلك مع الإمام الغزالي الذي كان يتفقه على إمام الحرمين في نظامية نيسابور، فلما مات إستاذه في
عام 478ه قصد مجلس نظام الملك، وكان : مجمع أهل العلم وملاذهم، فناظر الأئمة العلماء في مجلسه، وقهر الخصوم، وظهر كلامه عليهم واعترفوا بفضله وتولاه الصاحب " نظام الملك " بالتعظيم والتبجيل وولاه تدريس مدرسته ببغداد [5]. وفعل مثل ذلك مع أبي بكر محمد بن ثابت الخُجندي ت 496ه الذي سمعه نظام الملك وهو يعظ بمرو، فأعجب به : وعرف محله من الفقه والعلم، فحمله إلى أصبهان وعينه مدرساً بمدرستها فنال جاها عريضاً [6]. كما استدعى الشريف العلوي الدبوسي ت 483ه، ليدرس بنظامية بغداد، لأنه كان بارعاً في الفقه والجدل [7]. وفي بعض الأحيان كان نظام الملك يكتشف الأستاذ أولاً فيبني له مدرسة باسمه حدث هذا مع الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ت 476ه الذي بنى له نظامية بغداد، ومع إمام الحرمين الذي بنى له نظامية نيسابور وكان نظام الملك يحوط هؤلاء العلماء برعايته، ويمدهم بتأييده، حتى احتلوا منزلة عليا في البلاد التي حلوا بها، وصار لبعضهم وجاهة في بلاط السلطان كأبي إسحاق الشيرازي الذي اختاره الخليفة المقتدي في عام 475ه، ليحمل شكواه من عميد العراق أبي الفتح بن أبي الليث إلى السلطان ملكشاه ووزيره نظام الملك، فأكرماه وأجيب إلى جميع ما التمسه، وجرى بينه وبين إمام الحرمين مدرس نظامية نيسابور مناظرة، بحضرة نظام الملك، ولما عاد أبو إسحاق إلى بغداد أهين العميد، ورفعت يده على جميع ما يتعلق بالخليفة [8].(/5)
3- تحديد منهج الدراسة : كما عنى نظام الملك باختيار الأساتذة الأكفاء لمدارسه، فإنه حّدد منهج الدراسة التي ستسير عليه هذه المدارس، ويتضح هذا المنهج مما ورد في وثيقة وقفية نظامية ببغداد من أنها : وقف على أصحاب الشافعي أصلاً وفرعاً وكذلك شرط في المدرس الذي يكون بها والواعظ الذي يعظ بها، ومتولي الكتب [9]. وينقل الأستاذ سعيد نفيسي عن المفروخي، مؤلف كتاب محاسن أصفهان قوله : إن نظام الملك أمر بإبتناء مدرسة تجاور جامع أصفهان للفقهاء الشافعية : فأبتنيت كأحسن مارئي هيأة وهيكلاً وصنعة وعملاً ومحلاً ومنزلاً [10]، ومّما لا شك فيه بأن تراث الإمام الشافعي في الفقه والأصول والعقائد وسيرته الذاتية كان لها أثر على تلك المدارس، وليس في الفقه فقط المتعلق بالأحكام الشرعية العملية، وقد اعتاد بعض الباحثين بالقول بأن معظم الشافعية في هذه الفترة – يتبعون في أصول مذهب الإمام الأشعري، كما أن أبا الحسن الأشعري في مجال الاعتقاد مّر بأطوار واستقر في آخر حياته على مذهب السلف، والأشاعرة من أهل السنة والجماعة، ولذلك سنبين بإذن الله تعالى شيء من سيرة الإمام الشافعي وأبي الحسن الأشعري اللذين على تراثهما العلمي قامت المدارس النظامية والتي كانت تخرج العلماء الذين يتبنون عقيدة الدولة السلجوقية، كان اهتمام المدارس النظامية قد انصرف إلى التركيز على مادتين أساسيتين هما : الفقه على المذهب الشافعي، وأصول العقيدة على مذهب الأشعري وإلى جانب ذلك كانت تدرس بعض المواد كالحديث، والنحو وعلمي اللغة والأدب، ويشير ابن الجوزي إلى وقفية نظام الملك الخاصة بمدرسة بغداد نصت على أن يكون في المدرسة نحوي يدرس العربية [11]، وقام بتدريس الأدب في نظامية بغداد أبو زكريا التبريزي، شارح ديوان الحماسة ت 502ه ثم خلفه في التدريس العالم اللغوي المشهور أبو منصور الجواليقي ت 540ه، كانت المدرسة الأشعرية السنية مؤهلة لمواجهة الشيعة فكرياً، وهم الذين تسلحوا بدارسة الفلسفات المختلفة واستخدموا الجدل في الدفاع عن عقائدهم، وأخذوا عن المعتزلة معظم أصولهم فأصبحت تشكل لبنات هامة في منهجهم الكلامي، لقد كانت من الفئات القادرة على الجهاد الدعوي في هذا الميدان الفكري وهم الذين استوعبوا تراث أبي الحسن الأشعري ولذلك نقول : إن نظام الملك وفق تماماً في اختيار المنهج الملائم لتحقيق الهدف الذي سعى إليه[12]. ويأتي تفصيل ذلك في محله بإذن الله.
4- توفير الإمكانات المادية : لم يبخل نظام الملك بتوفير الإمكانات المادية التي تعين هذه المدارس على النهوض برسالتها على أكمل وجه، ولذ نراه ينفق عليها بسخاء ويخصص لها الأوقاف الواسعة، فيذكر ابن الجوزي أن نظام الملك وقف على مدرسته ببغداد ضياعاً وأملاكاً، وسوقاً بنيت على بابها وأنه فرض لكل مدرس وعامل بها قسط من الوقف، وأجرى للمتفقهة (الطلاب) أربعة أرطال خبز يومياً لكل واحد منهم [13]، أما مدرسة أصفهان فقدرت نفقاتها وقيمة أوقافها بعشرة آلاف دينار، وكان للمدرسة النظامية وفي نيسابور أوقاف عظيمة [14]، وقد اهتم نظام الملك بتوفير السكن للطلاب داخل هذه المدارس، ويفهم من بعض الروايات التاريخية : أن كل طالب كانت له غرفة خاصة به، إذ روي أن واحداً من طلابها ويدعى يعقوب الخطاط توفي في عام 547ه وكانت له غرفة في النظامية، فحضر متولي التركات، وختم على غرفته في المدرسة [15]، وكما حرص نظام الملك على توفير الحياة المعيشية الكريمة لطلاب مدارسه، فإنه حرص أيضاً على تهيئة المناخ العلمي الذي يساعدهم على الدراسة والبحث فاهتم اهتماماً كبيراً بتوفير المراجع العلمية داخل هذه المدارس، فكان في كل مدرسة مكتبة عامرة يتولى أمرها قْوام على شؤونها وأشار ابن الجوزي إلى أن وقفية نظامية بغداد نصت على أن يكون متولي الكتب بها أيضاً شافعياً، كما أشارت إلى أن نظام الملك وقف على هذه المدرسة كثيراً من الكتب [16]، وكان نظام الملك يتفقد هذه المدارس وخاصة نظامية بغداد، ففي المحرم من عام 480ه زاد هذه المدرسة وجلس في خزانة كتبها، وقرأ بها كتباً، ثم شارك في التدريس، فقرأ الفقهاء عليه شيئاً من الحديث الشريف، وأملى عليهم بعضاً منه [17]، وكان من الطبيعي أن تؤدي هذه الجهود التي بذلها نظام الملك في تشييد هذه المدارس وتيسير سبل العلم فيها، وتوفير الحياة الكريمة بداخلها أن تروج سوق العلم بها، فأقبل عليها طلاب العلم والجاه حتى بلغ عددهم في نظامية بغداد سنة 488ه ثلاثمائة طالب كانوا يتفقهون على الإمام الغزالي [18]، أما نظامية نيسابور فكان يقعد بين يدي إمام الحرمين : كل يوم نحو من ثلاثمائة رجل من الأئمة ومن الطلبة [19].(/6)
5- تطلع الأساتذة إلى التدريس بالنظامية : ولم يكن الإقبال على هذه المدارس مقصوراً على الطلاب فقط، بل شمل أيضاً الأساتذة الذين تطلعوا إلى التدريس بها حتى وصل الأمر بعضهم إلى أن يضحي في سبيل هذه الغاية بالتخلي عن مذهبه في عصر كان التعصب المذهبي سمة من سماته البارزة، ومن هؤلاء : أبو الفتح أحمد بن علي بن تركان المعروف بابن الحمامي ت 518ه كان حنبلياً، فانتقل إلى مذهب الشافعي، وتفقه إلى المذهب الشافعي وتفقه على أبي بكر الشاشي والغزالي، فجعله أصحاب الشافعي مدرساً، بالنظامية [20]، ويبدو أن انتقال الحنابلة إلى مذهب الشافعي في هذه الفترة كان أمراً كثير الحدوث بدرجة أزعجت أحد أئمتهم وهو أبو الوفاء بن عقيل ت 513ه حيث ينقل عنه أبو الفرج بن الجوزي قوله : إن أكثر أعمال الناس لا يقع إلا للناس إلا من عصم الله. أي أن معظم الناس لا يبتغون بأعمالهم وجه الله : وإنما يحاولون التقرب بها إلى ذوي النفوذ والجاه طمعاً في متاع الدنيا، وقد ضرب أبو الوفاء المثل على ذلك بما حدث عندما جاءت دولة نظام الملك، وعظم شأن الأشعرية والشافعية، فوجد كثيراً من أصحاب المذاهب انتقلوا عن مذاهبهم، وتوثقوا بمذهب الأشعري والشافعي طمعاً في العز والجرايات [21].
6- حله للمشاكل : كان النظام حريصاً على أن تؤدي المدارس التي بناها رسالتها المنوطة بها فعندما أرسل إليه ابو الحسن محمد بن علي الواسطي الفقيه الشافعي أبياتاً من الشعر يستحثه على المسارعة للقضاء على الفتن التي حدثت بين الحنابلة والأشاعرة قام نظام الملك وقضى على الفتنة .
وكانت سياسة نظام الملك تجنب الانحياز إلى جانب دون الآخر من عقائد أهل السنة وكان يعمل على شد أزر رجال الدين لا العمل على إدخال الخلاف والشقاق في صفوفهم وأعلن استحالة تغيير أي شيء من عقائد أصحاب مذهب سني [22] وقال بأنه لا يمكن تغيير المذاهب ولا نقل أهلها عنها وصّرح بأن الغالب على تلك الناحية مذهب أحمد وبأن محله معروف عند الأئمة وقدره معلوم عند السنة [23]، وسُرَّ الحنابلة بهذا التوجه الحكيم [24]. وأول صراع وخلاف حاد بين الحنابلة والأشاعرة كان في عهد نظام الملك وتعرف هذه المحنة بفتنة ابن القشيري [25].
[1] المصدر نفسه ص 179.
[2] طبقات الشافعية ص 180.
[3] التاريخ السياسي والفكري ص 180.
[4] تاريخ آل سلجوق ص 56 ، 57.
[5] طبقات الشافعية (4/103).
[6] الكامل في التاريخ نقلاً عن التاريخ السياسي والفكري ص 181.
[7] المنتظم (9/27 ، 50) التاريخ السياسي والفكري ص 181.
[8] طبقات الشافعية( 03/91 – 92).
[9] المنتظم (9/66).
[10] التاريخ السياسي والفكري ص 183.
[11] المنتظم (9/66).
[12] المصدر نفسه ص 185.
[13] المنتظم (8/247 ، 256 ) التاريخ السياسي والفكري ص 185.
[14] التاريخ السياسي والفكري ص 185.
[15] المنتظم (10/146).
[16] المنتظم (9/66) التاريخ السياسي والفكري ص 186.
[17] المنتظم (9/36) الكامل نقلاً عن التاريخ السياسي والفكري ص 189.
[18] التاريخ السياسي والفكري ص 186.
[19] طبقات الشافعية (3/252).
[20] المنتظم (9/251).
[21] المنتظم (9/93).
[22] شرح اللُّمع لأبي إسحاق الشيرازي (1/42).
[23] المصدر نفسه (1/41).
[24] المصدر نفسه (1/41).
[25] ابن الحنبلي وكتابه الرسالة الواضحة ص 50.
تنظيم هيئة التدريس
خامساً ::(/7)
وفق الله تعالى النظام توفيقاً قّل نظيره في التاريخ السياسي والعلمي والديني، فقد عاشت مدارسه أمداً طويلاً وعلى الخصوص نظامية بغداد التي طاولت الزمن زهاء أربعة قرون، إذ كان آخر من عرفنا ممن درس فيها صاحب القاموس الفيروز آبادي المتوفي 817ه حيث زالت في نهاية القرن التاسع الهجري[1]. وأدت رسالتها من تخريج العلماء على المذهب السني الشافعي وزودت الجهاز الحكومي بالموظفين ردحاً من الزمن وبخاصة دوائر القضاء والحسبة والاستفتاء وهي أهم وظائف الدولة في ذلك العصر، وانتشر هؤلاء في العالم الإسلامي حتى اخترقوا حدود الباطنية [2]في مصر وبلغوا الشمال الإفريقي ودعموا الوجود السني بها لقد تخرج من هذه المدارس جيل تحقق على يديه معظم الأهداف التي رسمها نظام الملك فوجدنا كثيراً من الذين تخرجوا فيها يرحلون إلى أقاليم أخرى ليقوموا بتدريس الفقه الشافعي والحديث الشريف، وينشروا عقيدة أهل السنة في الأمصار التي انتقلوا إليها أو يتولوا مجالس القضاء والفتيا، أو يتولو بعض الوظائف الإدارية الهامة في دواوين الدولة، وينقل السبكي عن أبي إسحاق الشيرازي – أول مدرس بنظامية بغداد بقوله : خرجت إلى خراسان فما بلغت بلدة ولا قرية إلا وكان قاضيها أو مفتيها أو خطيبها تلميذي أو من أصحابي [3] وقد ساهمت هذا المدارس في إعادة دور منهج السنة في حياة الأمة بقوة، وكان من أبرز آثارها أيضاً تقلص نفوذ الفكر الشيعي وخاصة بعد أن خرجت المؤلفات المناهضة له من هذا المدارس وكان الإمام الغزالي على قمة المفكرين الذين شنوا حرباً شعواء على الشيعة وخاصة الباطنية الإسماعيلية فقد ألف كتباً عدة، أشهرها فضائح الباطنية الذي كلف بتأليفه عام 487ه من قبل الخليفة المستظهر [4]، وسيأتي الحديث عن مؤلفاته عند الحديث عن ترجمته بإذن الله. هذا وقد نجحت المدارس التظامية في نشر مذهب الإمام الشافعي وقوى عوده، ودخل مناطق جديدة وبدأ يشق له طريقاً في العراق وفي المشرق الإسلامي بعد أن كانت السيادة في هذه الأقاليم – عدا بغداد – من أتباعه [5] وقد صارت النظاميات مدعاة لبناء المدارس ومثاراً للتنافس بقدر ما أصبحت نموذجاً يقتديه مؤسسو المعاهد منُذ بداية تشييدها إلى ما بعد ذلك بعصور طويلة [6]، وقد مهدت المدارس النظامية بتراثها ورجالها وعلمائها السبيل ويسرته أمام نور الدين زنكي والأيوبيين كي يكملوا المسيرة التي من أجلها أنشئت النظاميات، وتتمثل في العمل على سيادة الإسلام الصحيح، وخاصة في المناطق التي كانت موطناً لنفوذ الشيعة [7]، في تلك المرحلة كالشام ومصر وغيرها.
لقد كانت المدارس من خير ما اهتدى إليه العقل البشري للتفرغ للعلم وفق معطيات ذلك العصر، وكانت ' النظاميات' من أفضل الوسائل لنشره وتعميمه وتحقيق الأهداف التي رسمها نظام الملك من سيادة الكتاب والسنة وعقيدة أهل السنة والجماعة على الدولة والأمة الإسلامية ودحر المد الشيعي الباطني الرافضي الذي كانت الدولة الفاطمية بمصر تدعمه.
[1] المصدر نفسه ص 401.
[2] المصدر نفسه ص 401.
[3] طبقات الشافعية (3/89) التاريخ السياسي والفكري ص 190.
[4] التاريخ السياسي والفكري ص 194.
[5] المصدر نفسه ص 199.
[6] نظام الملك ص 401.
[7] التاريخ السياسي والفكري ص 203. ... ... ... أثر المدارس النظامية في العالم الإسلامي
د. علي الصلابي
رابعاً : تنظيم الهيئة التدريسية :
تعد الهيئة التدريسية على درجة كبيرة من الأهمية في أي مدرسة كانت، وذلك لأن نجاح أي مدرسة مقرون بنجاح المدرسين فيها وأدائهم لمهماتهم على أفضل وجه [1] وإليك بعض الأمور المتعلقة بتنظيم الهيئة التدريسية وهي :
1- تعيين الأساتذة وفصلهم : كان اختيار الأساتذة للتعليم في النظاميات يجري وفق تقاليد تشبه أرقى الجامعات الحديثة، فقد كان 'النظام' يختبر معلوماتهم خلال المناظرات التي كان يعقدها في المناسبات المختلفة، ويلقى عليهم أسئلة كان قد فكّر وأعدّها، فإذا لمس في أحدهم علماً وذكاء وجهّه إلى المسلك الذي يريده، فالذين يكونون أهلاً للتعليم عيّنهم أساتذة في الحال وأسّس لهم مدرسة ومكتبة أو يوفدهم إلى ولاية سكانها جهلاء [2]، وإذا صدر الأمر بالتعيين سار المدرس إلى الجهة التي اختبر لها، فإذا كان إلى بغداد مثلاً توجه إلى دار الخلافة عند وصوله حيث يوافق على التعيين، ثم يخلع عليه طرحة زرقاء وأهبة سوداء [3]، ويحتفل به في المدرسة حين يقدم لأول مرة ويحضر درسه كبار رجال الدولة والأساتذة والشعراء وحين ينتهي من درسه تلقى الخطب والقصائد في الترحيب به والثناء عليه [4]. وإذا ما أريد فصل مدرس لسبب ما استدعى من قبل ممثل ' نظام الملك ' وغالباً ما كان أحد أولاده، وينزع منه كسوته [5].(/8)
2- مراتب التدريس : وقد جرى العرف أنه إذا تم تعيين من تتوافر فيه شرائط القدم والشهرة أن يبقى في منصبه طوال حياته فإذا دنت منه الوفاة فغالباً ما يوصي بمن يخلفه من كبار أبنائه أو المتفوقين من طلابه، إلا في مدارس ' النظام ' فقد خرجت على المتعارف هذا لأسباب سياسية بعد أن خضعت هذه المدارس لحكمها وإرادة مؤسسها، وقد يتناوب مدرسان على كرسي واحد خلافاً للمألوف.
أ- المدرس : كان هذا اللفظ لا يطلق إلاّ على المختص بتدريس الفقه وإلقاء الدروس لا يقصد بها في العادة سوى مواضيع الفقه فإذا بلغ المدرس مرحلة عالية من الشهرة في الإطلاع والتأليف صار أستاذاً وأصبح له كرسي المادة دون منازع فيه.
ب- النائب : وهو المكلف بالقيام في تدريس الموضوع نيابة عن المدرس إذا كان مشغولاً بعمل إداري أو قضائي أو لمرض أو سدّ الشاغر في فترة لا يوجد فيها مدرس[6].
ج- المعيد : يختار المدرس من بين طلبته معيدين لدروسه وقد يكتفي بواحد حسب حاجته، ومهمته أن يلقي الدرس على الطلبة وأن يساعدهم في فهمه لذلك فهو يحتاج إلى لباقة وإطلاع لذا كان من هؤلاء المعيدين مدرسون في مكان آخر [7].
3- مرتبة الصدر : وصاحب هذه المرتبة له الصدارة المطلقة في المدرسة، ويشغلها من كان يطلق عليه لفظ الصدر، والظاهر أن الصدر هو إمام العصر في الفقه أو الحديث أو التفسير، أو في أي علم من العلوم، أو هو من أكبر الأئمة في عصره، وأكثرهم تمكناً من مادته العلمية، وعليه يتخرج الكثير من نوابغ المدرسين، وإليه يذهب الملوك والأمراء والوزراء والفضلاء لسماعه والإفادة منه، وليس من الضروري أن يكون في كل مدرسة صدر فأولئك قلة، ومن حسن حظ المدرسة وكمال شهرتها أن يتصدر للتدريس بها أحدهم[8].
4- مراتب المتعلمين : لعلى أولى درجات الدارس أن يطلق عليه اسم تلميذ أو طالب ثمّ بعد أن يصل المرحلة العالية في المعرفة يقال له : مثقف ثم فقيه؛ فإذا أكمل دراسة منهجه وبقي ملازماً لأستاذه ليستكمل علومه يسمى بالصاحب، وقد يعتمد عليه أستاذه فيعينه معيداً لدروسه، وناسخاً لمؤلفاته تحت إشرافه [9].
5- الكتاب المدرسي : كان التأليف من الاعتبارات التي تراعي عند اختيار أساتذة النظامية، وكانت الدرجات العلمية التي تمنح لهم أو يعّينون بها أو ينتقلون بموجبها إنما تعتمد على هذا الأساس في الغالب، وكان الكتاب المدرسي الذي يضم مجموعة محاضرات الأستاذ سرعان ما ينتشر فلم يمله على طلبته ويسمعون عنه حتى يستنسخونه ويتبادلون النسخ المصحّحة أو المجازة من قبل مؤلفها، ولم تمر فترة قصيرة حتى يتدارسه المعنيّون بموضوعه، وقد يطلق على مجموعة تقريرات الأستاذ في الفقه اسم – التعليقة، وفيحفظونها الطلبة ويتناقلونها، ومن هذه التعليقات ما يبلغ بضع مجلدات، وعلمّا كانت التعليقة أكثر أصالة كانت أكثر انتشاراً وتدارساً من قبل المعنيين وكان من عادات الأساتذة إذا ختموا كتاباً احتفلوا لذلك، ومما يروى بهذا الشأن أن الإمام الجويني عندما أتمّ تصنيف كتابه – نهاية المطلب في دراسة المذهب – وكان قد دّرسه للخواص من تلاميذه – عقد مجلساً حضره الأئمة الكبار، وختم الكتاب على رسم الإملاء والاستملاء، ودعا له الجماعة[10].
6- القبول والتخرج : ليس هناك سن محددة للقبول في هذه المدارس فقد يدخلها الطالب وهو ابن الثلاثين أو أكثر إلاّ أنه لا يقل عن العشرين في العادة حيث قضاها في التعليم بين المسجد والكتاتيب، فإذا انتمى لأحدى النظاميات وانتظم في سلك طلبتها وتلقى دروسها، فليس هناك سنّ معينة تمنع من سماعها فقد يحضرها وهو في سنّ الثمانين، وليس هناك وقت محدد للمادة التي يستغرقها الدرس أو عدد الدروس اليومية فقد يستمر ساعة أو ساعتين وهناك نصّ يمكننا الاستفادة منه في تحديد أقل مدة يصل فيه الطالب مرحلة الاعتماد على نفسه، والاستغناء عن الجلوس بين يدي أستاذه حيث ذكر ابن الجوزي في ثنايا ترجمته – لأبي علي الفارقي – أحد تلاميذ – أبي إسحاق الشيرازي هي أربع سنوات [11].
7- الإجازة : (شهادة التخرج): هي الوثيقة المدرسية وكان الاستماع للمحاضرات من شرائطها، لأنها لا تفي بالقصد من الدراسة والغرض من التعلم إذا لم يصحبها حضور، وهذا ما علّل به الماوردي – عدم صحة حمل الإجازة والرواية بها فقال : ولو جازت لبطلت الرحلة [12]. وقد يمنح الطالب عدة شهادات من شيوخ متعددين وطريقة الحصول عليها في العادة يكون بناء على طلب يتقدم به لمدرسة بعد أن ينهى دراسته، وقد أصبحت هذه ضرورة بعد تأسيس النظاميات وانتشار المدارس، فإذا نال إجازته فقد أصبح مهيأ لأن يشغل أحد مناصب القضاء، أو الإفتاء، أو التدريس، أو المناظرة، وقد يحظى بأكثر من واحدة منها فيكون قاضياً ومفتياً ومدرساً في آن واحد، أو أن يكون حرّا، فيعمل ليكون محدثاً أو متكلماً أو واعظاً أو خطيباً في أحد المساجد [13].
[1] الإدارة التربوية في المدارس في العصر العباسي ص 132.(/9)
[2] تاريخ آل سلجوق ص 45 نظام الملك ص 356.
[3] الأهبة – البزة الرسمية ، كما في تاريخ المماليك أو السلاح التام.
[4] نظام الملك ص 357.
[5] المصدر نفسه ص 357.
[6] نظام الملك ص 357.
[7] المصدر نفسه ص 358.
[8] الإدارة التربوية في المدارس في العصر العباسي ص 135.
[9] نظام الملك ص 358.
[10] نظام الملك ص 359.
[11] طبقات السكي (4/209) المنتظم حوادث سنة 528ه.
[12] نظام الملك ص 364.
[13] نظام الملك ص 364.(/10)
المدثر بشأن الوليد بن المغيرة 3
الحلقة (16) الجمعة 29 1396هـ- 30 كانون الثاني 1976م
العلامة محمود مشّوح
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون: فإن من أسوأ الأشياء أن يكفر الإنسان نعمة ربِّه، وأسوأ من ذلك أن يتخذ نعمة ربه وسيلة للصد عن سبيله، وإن هذه النماذج التي تسخر نعم الله عليها لتصد بذلك عن سبيل الله؛ لهي مظهر من مظاهر المرض الذي تعاني منه الإنسانية منذ كانت وإلى اليوم، وستظل تعاني من هذا المرض إلى ما شاء الله.
إن الأمر المفترض عند ذوي العقول والألباب أنّ العبد عليه أن يعرف قدر النعمة، كما عليه أن يعرف قدر المنعم، كما عليه بعد ذلك أنَّ يجعل نعمة المنعم في خدمة المنعم وهو الله تبارك وتعالى، والظاهرة التي نقف اليوم عندها والتي عرضنا لشيء من أخبارها فيما سبق ظاهرة رجل هو عنوان لمجموعة ولكنه من حيث هو رجل منعَّم عليه بالمال وبالبنين وبالجاه وبالسمعة، إنه من حيث هو كذلك يمثل أشنع النماذج الإنسانية وأشدها جحوداً وكفراناً. ذكرنا لكم أن الروايات تذكر أن الوليد بن المغيرة وهو من سادات قريش وسرواتها ووجهائها هو الذي نزلت في شأنه الآيات الكريمة من سورة المدثر رابعة سور التنزيل:
)ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً ومهدت له تمهيداً ثم يطمع أن أزيد(.
ولا نستطيع أن نعدو الروايات ولكننا مع ذلك نعود فنكرر: إن هذا النموذج متكرر. ليس مقصوراً على عصر الرسالة وإنما هو نموذج شائع في الإنسانية تجده حيث ما كنت وأينما وجدت. دعونا أولاً نقرأ ونفهم هذا الذي نقرأ؛ يقول الله تعالى والخطاب لمحمد صلوات الله عليه وآله (ذرني ومن خلقت وحيداً) وهذا التعبير، هذه الصياغة يراد بها التهديد والوعيد، كما تقول دعني لفلان؛ أي لا تتكل في عذابه والتنكيل به على غيري، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يخفف عن نبيه صلى الله عليه وسلم عبء التفكير في هذا المخلوق، ليتفرغ لما نُدِبَ إليه دون أن يلتفت إلى هذا الصغار الذي يتناثر من حوله، وأن يكل أمر المكذبين والمعاندين إلى الله تبارك وتعالى هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الله تعالى بهذا الكلام يُهِّولُ ويعظمُ من العذاب الذي أُعِدَّ لهذا المخلوق فحين يقول لنبيه صلى الله عليه وآله (ذرني ومن خلقت وحيداً) يريد بذلك أن يتكفل جل وعزّ بمعاقبة هذا الإنسان، وبتأديبه فأي شيء أعظم وأهول من أن يتولى الله تعالى تعذيب عبد من عباده، ومن ذا الذي يقوم ويستمسك لكل هذا التهديد الذي يصدر عن الله تبارك وتعالى من جهة أخرى...
إن الله تعالى يقول: (ذرني ومن خلقت وحيداً) فكلمة وحيد ليست -كما نبهت في الجمعة الماضية- هي الوصف الذي كان يوصف به الوليد في الجاهلية فالوحيد هنا شيء، والوحيد الذي وصف الوليد به في الجاهلية شيء مغاير، في الجاهلية وقبل الإسلام كان الوليد يسمى الوحيد وكان يسمى ريحانة قريش لأنه لا نظير له ولا مثيل ولا شبيه في العرب الجاهليين كرماً وثراءً ورجالاً وشجاعة وسداد رأي وكل ما تنطبق عليه مناقب الجاهلية، فالوحيد هناك وصف مدح أُبِيْنَ به الوليد عن سائر الناس، أما هنا فالله تعالى يقول: (ذرني ومن خلقت وحيداً) مشيراً بذلك إلى واحد من احتمالين: إما أن يكون وصف الوحيد مردوداً على الله تعالى ويكون المعنى ذرني ومن خلقته وحدي أي لم يُشْرِكْ أحد في خلقه.. هذا احتمال، أو أن يكون المراد: ذرني ومن خلقته وحيداً فرداً كما في قوله تعالى: (وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً) ولعل هذا التأويل الثاني هو المتعين لأنه أبلغ في الدلالة ضمن الجو الذي تعرض له الآيات، فالآيات عرضت الوليد ذا مال وذا بنين وذا جاه ممدود فناسب أن يذكر الوليد وأشباه الوليد بمبدأ الخلقة التي خلقهم الله تعالى عليها من حيث خلقهم فرادى جاءوا إلى هذه الدنيا، دفعتهم أرحام الأمهات لا يملكون شيئاً، ولا يقدرون لأنفسهم على نفع ولا على خير، فما زالت بهم نِعَمُ الرب تبارك وتعالى مترادفةً عليهم متواليةً، حتى استووا رجالاً أشداء يذهبون ويجيئون ويتصرفون ويأخذون ويتركون، فجمعوا المال والثراء وبعد أن كانوا فرادى تزوجوا فإذا هم ذوو أولاد عدة وإذا هم يتعززون بهؤلاء الأولاد الذين يحيطون ويطيفون بهم لأن عادة الإنسان ولا سيما حين يَغْنى وحين يَكْثُرُ بعد القلة أن ينسى.(/1)
أقول: من عادة الإنسان فرداً كما هو من عادة الأمم والجماعات؛ فالأمم أيضاً تصاب بالنكبات وتصاب بانتقاص الأنفس وانتقاص الثمرات، حتى إذا جاءتها أوقات رخاء وبعد العهد بينها وبين أوقات الشدة، قال الخلائف بوحي النسيان: قد مس آباءنا السراء والضراء، فمن المناسب أن يُذَكَّرَ الإنسان وهو في أوج العز والجبروت، وفي أوج الكثرة، من المناسب أن يُذَكَّرَ بالحال التي خرج بها إلى الدنيا وهذا هو فيما أرجح معنى قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيداً) ولا أحمل الكلام هنا على التأويل الأول أي ذرني من خلقته وحدي؛ لأن المشركين الذين يدعون لله آلهةً شُرَكاءَ معه ما قالوا إن الشركاء يخلقون ويرزقون ويُحْيونَ ويميتون؛ وإنما قالوا هم شفعاؤنا ووسطاؤنا إلى الله؛ ولهذا فأنا أكاد أقطع إن شاء الله تعالى أن المراد بوصف الوحيد هنا هو أن الإنسان خلقه الله تعالى وحيداً فريداً في هذه الدنيا ثم يدرج من بعدُ في ميادين الحياة فيكون له المال، ويكون له البنون، ويكون له الأتباع والأصدقاء والموالون ويرشح لهذا ويؤيده ما يأتي. يقول الله تعالى بعد ذلك: (وجعلت له مالاً ممدوداً) فهو أيضاً تذكير بالنعمة.
الإنسان الذي جاء إلى الدنيا لا يملك شروى نقير؛ مع الزمن يؤتيه الله تبارك وتعالى مالاً (وجعلت له مالاً ممدوداً) لكن إظهار النعمة لا يتوقف على الإخيار بأن الله جعل له مالاً بل يتركز في أن الله وصف هذا المال بأنه ممدود ومعنى المال الممدود هو الذي يزداد بالنماء، (والبحر يمده من بعده سبعة أبحر) فالمَدُّ هنا هو الإمداد ومرادفه العطاء فمال الوليد بمقتضى النص الذي أمامنا مال فيه قوة النماء وهو ينمو باستمرار ويرى هذا النماء بأم عينه، (وجعلت له مالاً ممدوداً) ثم (وبنين شهوداً) أما الشهود فهو جمع شاهد والشاهد هو الحاضر. والمن والتفضل على الإنسان أو على الوليد بالذات بكون البنين شهوداً، يتمثل في الآتي: تصور؛ أنا لي أولاد وأنت لك أولاد والآخر له أولاد. ولا شك الأولاد من زينة الحياة الدنيا وقرة عين الإنسان وبضعة من هذا الإنسان يريبه ما يريبهم ويؤذيه ما يؤذيهم؛ ليست النعمة في أن تكون ذا ولد فكم من ولد كان نقمة ولكن النعمة في أن تكون أوضاع هؤلاء الأولاد مما يبث في نفسك الطمأنينة.
أنا عندي أولاد، لكنهم ليسوا هنا، إنهم يضربون في الأسواق ويأخذون بالأسفار يضطربون هنا وهناك طلباً للعيش، قلبي معهم أنا معذب من أجل هؤلاء الأولاد، أنت كذلك حينما تكون بالوضع الذي يدفعك إلى أن تسخر أولادك لكي يشتغلوا ويعملوا تحت الأخطار وتحت الاحتمالات السيئة، فليس مناسباً أن يمن عليك بالأولاد، أولادك في هذه الحالة قلق وتعب وعذاب؛ لكن حينما تكون من اليسر وحسن الحال بحيث لا تكون محتاجاً إلى تشتت أولادك، وإلى أن تشردهم في جنبات الأرض؛ يطلبون لك ولهم لقمة العيش، ففي هذه الحالة فقط يكون الأولاد نعمة لأنهم راحة نفس وطمأنينة قلب وقرة عين، يقول الله تعالى (وبنين شهوداً) أي أنهم حاضرون عنده موجودون لا يتكلفون الضرب في الأرض مَكِفْيُّونَ بثراء الوالد مَكْفيِّون بما عند الوالد من الخدم والحشم والأجراء والموالي؛ وتلك قمة السعادة وغاية الراحة التي يطمع فيها الإنسان.
ثم ماذا؟ (ومهدت له تمهيداً) وتمهيد الأمر تسويته وتعديله، والتمهيد للإنسان يكون بماذا؟ ببسط الجاه، بنفوذ الكلمة، بحفظ المكانة العالية بين الناس، وكذلك كان الوليد في الجاهلية سيداً من سادات قريش، معروف المكانة، لا ينكر فضله أحد ممن هم حوله من سروات قريش، ثم ماذا؟ (ثم يطمع أن أزيد) من الذي يطمع هو الوليد بالرغم من كثرة المال وبالرغم من كثرة الأولاد بالرغم من فشو الموالي والخدم؛ يريد زيادة وتلك خصلة من خصال الإنسان.
يروى أن الوليد كان له ثلاثة عشر ولداً، وأما الأموال من صامت وناطق فما لا يقع تحت حصر ولا عد، ومع ذلك فهو يطمع أن يزيده الله، هل يطمع في الزيادة في المال فقط؟ لا. وجاء الكلام على الإطلاق يطمع أن أزيد إنه يطمع بزيادة المال، يطمع بزيادة الولد، يطمع بزيادة الجاه واتساع النفوذ كل هذه الأشياء مطلوبة للإنسان ومرغوبة من قبل الإنسان، ولا شيء في ذلك؛ فالإنسان يريد بطبعه هذه الأشياء والله جل وعلا لم يسق هذا الكلام ليشرح طبيعة الإنسانية وخليقة البشرية وإنما ليلفت النظر إلى سنة من سننه الماضية.
بعد هذا يقول (كلا) يأتي بأداة الردع والزجر، (كلا) يعني إن ما يتمناه الوليد من زيادة المال والولد، من اتساع النفوذ وبعد الصوت لن يكون، كلا. لماذا؟ (إنه كان لآياتنا عنيداً) السبب في أنه لن يزداد عزاً ولن يزداد مالاً ولن يزداد ولداً السبب في ذلك أنه نسي الله تبارك وتعالى ونسي أن هذا الذي بين يديه من نعمة الله عليه ونسي بطبيعة الحال الأدب الذي يجب أن يتأدب به مع الله تبارك وتعالى.(/2)
ويروى أَنَّ الوليدَ منذ نزلت هؤلاء الآيات؛ ما زال في نقصان في المال وفي الولد وفي السمعة؛ حتى أفضى إلى ما قدم، (كلا إنه كان لآياتنا عنيدا) إن الله جل وعلا أيها الإخوة يرزق البر والفاجر لا حسيب ولا رقيب عليه تبارك وتعالى؛ والدنيا مائدته الممدودة يأكل منها الناس جميعاً وما تساوي هذه الدنيا عنده شيئاً، ولو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، ولكنها لا شيء، ولا يجب أن نقيس أنفسنا على الله ولا أن نقيس الله على أنفسنا، فالكون ملك الله جل وعلا ولكن الله جل وعلا ليس لديه حرص على هذا الكون لأن خزائنه تتجدد ولا تنفد، والناس على خلاف ذلك. يقول الله جل وعلا:
)قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتوراً(.
لكن الله جل وعلا يرزق من يشاء بغير حساب، هذا وضع الدنيا بالنسبة إلى الله، لكن أهو كل الوضع؟ لا. إنما للدنيا جانب آخر، الدنيا بما فيها من عطاء ومن إمساك وسيلة من وسائل تهذيب الإنسان، وتأديب الإنسان، وصدق الله )ونبلوكم بالشر والخير فتنة( ولقد مضت سنة الله تبارك وتعالى أن الروح والريحان والنعيم والطمأنينة للذين يعرفون قدر المنعم جل وعلا، وأن الخسران والبوار للذين يجحدون هذه النعمة؛ بل إن الخسران كله والبوار كله للذين يستخدمون هذه النعمة للصد عن سبيل الله تبارك وتعالى.
الله يعطيك بغير حساب ليختبرك وليبتليك؛ فإن أنت قمت بما يتوجب عليك من رعاية لحرمات الله وقيام بحقوق الله وحقوق عباد الله؛ وسع الله عليك وأخرجك من الدنيا لا تأس على شيء فاتك أبداً لأنك تنتظر من الله ما هو أعظم وما هو أفضل، وإن أنت لم تعرف قدر المنعم وسخرت نعمة المنعم لإغضاب المنعم؛ فإن الله جل وعلا قادر على أن يسحب نعمته من بين يديك، وهذا الذي كان وهذا الذي لفت إليه النظر بقول الله (كلا) بهذا الردع العنيف والزجر القاسي والإيقاظ المعنت الذي يقول فيه الله: (كلا) لتستيقظ النفس إلى ما بعد، (إنه كان لآياتنا عنيدا)، فالسبب الذي من أجله سُحِبَت نِعْمةُ الله من الوليد هو أن الوليد عاند آيات الله وسخر أولاده وسخر أمواله وسخر جاهه وسمعته بين المكيين المشركين وبين العرب الجاهليين لمحاربة محمد صلى الله عليه وسلم وللصد عن سبيل الله تبارك وتعالى وهذا كما قلنا سنة ماضية من سنن الله تبارك وتعالى.
سأذكر لكم واقعة تتصل بالموضوع حينما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة لا شك أنه عليه السلام كان يؤثر أن يستقر في المدينة وأن يؤسس الجماعة المؤمنة على هينةٍ من أمره دون عجلة ودون تسرع؛ ولكن الحوادث أعجلته صلى الله عليه وسلم فلقي المشركين في بدر‘ وكان بينه وبينهم ما كان وانتصر المسلمون النصر المؤزر، وامتن الله عليهم بهذا النصر وتهيأت قريش لتلملم جراحها ولتحاول أن ترد الكرة على المسلمين، ونادى أبو سفيان في أغنياء المكيين؛ يهيب بهم أن يرصدوا أموالهم لمحاربة محمد صلى الله عليه وسلم. وأي إنسان يقف على رأس جماعة ناهضة، ما زالت في أول الخطوات في حياتها الجديدة، لا شك أنه سيهتم، وسيأخذ بعمل حسابات كثيرة لما يَهِمُّ به المكيون. فعندنا معسكران؛ محمد والذين آمنوا معه والمشركون أما الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنون فحسبنا أن نعلم أنهم خرجوا في موقعة بدر شبه مشاة؛ ويكاد أن لا يكون عندهم سلاح، لماذا؟ لأنهم هاجروا من أهليهم ومن ديارهم لا يحملون معهم شيئاً، فروا إلى الله ورسوله ولأن الأنصار ردوا ما كان بين أيديهم من مال على إخوانهم من المهاجرين؛ فالمسلمون في حال مادية سيئة، فحينما يقابلون بمعسكر كمعسكر المشركين؛ عندهم المال وعندهم الخيول وعندهم السلاح ومن ورائهم مدد لا يكاد ينتهي من الطامعين من أعراب البادية ولصوصها وقطاع الطرق بها؛ فلا بد أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سيحسب لذلك كل حساب، ومع هذا فالله جل وعلا طمأن نبيه صلى الله عليه وسلم إلى عدم جدوى هذه الخطوات التي يتخذها المكيون المشركون قال الله تعالى فيما أنزل عليه:
)إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ليميز الله الخبيث من الطيب( الآية.(/3)
فالسنة الماضية لله تبارك وتعالى أن الإنسان مهما يكن جمعه من مال ومن رجال إذا وقف من الله موقف المعاندة، ومن المؤمنين موقف اللدد والخصومة والحرب فلا بد أن ينتهي إلى البوار والخسران، سنة ماضية لا تتخلف كما أن الشمس تطلع من المشرق لتغيب في المغرب كذلك فكل من عاند الله جل وعلا، وكل من قتل المؤمنين وشرد والمؤمنين فمآله أن يدحر وأن يخسر.. تلك سنة لا تتخلف لكن بعض الناس يفقدون الصبر ويتعجلون الأمر، وهنا يتركز مقتلهم فالله جل وعلا يبرز هذه الحقيقة بعد أن يقص علينا من شأن الوليد ما يقص وبعد أن يبين لنا مبلغ النعم التي ظاهرها على الوليد يذكر أن الوليد مع ذلك يطمع بأن يزيده الله مالاً وولداً ثم يقول الله: (كلا إنه كان لآياتنا عنيداً) إن الذي أراده الوليد وطمع فيه لن يكون لسبب ظاهر؛ وهو أنه وقف من الله جل وعلا موقف العناد والرفض ووقف من نبيه صلى الله عليه وسلم موقف التكذيب والصد، واستخدم نعم الله جل وعلا للصد عن سبيل الله تبارك وتعالى وهذا وحده كاف لأن يسحب نعمته من بين يديه وحقاً ما زال الرجل في نقصان حتى قابل ربه تبارك وتعالى.
ثم يترسل الله جل وعلا في اقتصاص ما سيكون للوليد (سأرهقه صعودا) والصعود هو المكان الذي يُصْعَدُ والله جل وعلا كان يمكن أن يقول سأكلفه أن يصعد مكاناً شاقاً؛ لكن التكليف قد يكون هيناً، وقد يكون شاقاً والله تبارك وتعالى يريد لإيحاء الكلام أن يكون جامعاً مانعاً قال (سأرهقه) وكلمة الإرهاق تعني في لغة العرب أشد التعب؛ يعني أن الله سيكلفه من الأمور مشقة وراء مشقة كلما خرج من مشقة صادف مشقة أكبر منها في هذه الدنيا أما في الآخرة -لا ضير- ليكن في الدارين جميعاً أو في إحداهما دون الأخرى.(/4)
المهم أن الله جل وعلا تكفل بأن يجعل من حياة الوليد عذاباً دائماً وجحيماً لا يطاق.. بعد النعمة وبعد الراحة وبعد السكينة والاطمئنان؛ سيكون للوليد من الله التعب الدائم (سأرهقه صعوداً) كذلك لا بد من أن يكون لذلك سبب؛ فهنا وعيد من الله جل وعلا؛ افْتِتُحَ بأن طلب الله من نبيه أن يتركه له، حتى يتكفل هو بتأديبه وبتعذيبه، وثنَّى بأن قطع الله طمع الوليد في الزيادة فآض إلى البوار والنقصان، ثم (سأرهقه صعوداً) تكفل الله بأن لا ينجيه من مشقة حتى يضعه في مشقة أدهى وأمر. لماذا؟ للسبب الذي قال الله فيه: (إنه فكر وقدر) أما التفكير فمعروف وأما التقدير فهو وزن الأمور فالرجل يفكر ويزن ويحاول أن يقدر الأمور تقديراً صحيحاً فأي شيء خرج من هذه العملية الفكرية، إنه فكر وقدر، فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر، كلمة قتل كيف قدر جاءت للتهكم لا للوعيد؛ وإن كان مخرجها مخرج الوعيد لكنها للتهكم كما تقول لأحد الناس فكر في هذا الأمر فيفكر فيأتيك بنتيجة سخيفة فتقول له: خيبك الله كذلك جاء الكلام هنا (فقتل كيف قدر) أهذا كل ما خرج منك يا وليد بعد التفكير والتقدير ثم قتل كيف قدر يتهكم الله به ويهوِّن من شأن هذه النتيجة، التي انتهى إليها بماذا كان يفكر الوليد؟ -كما قلنا من قبل- كان يفكر في هذا القرآن الذي تلاه عليه محمد صلى الله عليه وسلم (إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر ثم نظر) وهذه الآيات ترسم الحركة النفسية وانطباعاتها على أسارير الوجه (ثم نظر ثم عبس وبسر) حينما تفكر تفكيراً عميقاً فإن أسارير وجهك تقطب (ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر، فقال إنْ هذا إلا سحر يؤثر) عند هذه الكلمة التي انتهى إليها الوليد نضع أيدينا على النتيجة التي خيبه الله من أجلها بعد كل التفكير والتعب، بعد المداولات بينك وبين رؤساء قريش وغيرهم من العرب المشركين تكون عاقبة التفكير؛ أن يوصف كلام الله بأنه سحر يؤثر. ألا خيبك الله (فقتل كيف قدر) هل هذا الكلام سحر، السحر لا يخفى نفث وعقد ودمدمة وكلام لا يفهم وهذا الذي تسمعونه من محمد يسمعه العربي الذي هو أقل منكم؛ وأضعف بصراً بأفانين الكلام منكم فيفهمه ويستطيع أن يميزه فوراً من دمدمة السحرة ونفثهم وعقدهم، أغاية ما انتهيت إليه يا وليد أنت والمشركون معك، أنَّ هذا سحر يؤثر، لكن الوليد حينما قال هذا الكلام علل هذا الكلام بتعليل قاله للمشركين، قال: ألا ترون أن هذا الذي جاء به محمد يفرق بين الأب وابنه وبين الزوج وزوجه وبين الإنسان وعبيده ومواليه، كذلك يفعل السحرة.. في هذا الكلام دقيقة أن الله تعالى قال: (إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر) قال: (ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر) فالعطف في هذا الكلام بين الجمل جاء بلفظ (ثم) (ثم) في لغة العرب تدل على التراخي والتمهل؛ تقول دخل زيد ثم دخل عمرو ثم دخل بكر ثم دخل خالد تريد أن بين الدخول والدخول فاصلة وزماناً يتراخى ولكن حينما تقول دخل زيد فعمرو يكون العطف بالفاء معنى ذلك أن واحداً دخل على أثر الآخر فوراً، ففي هذه الجمل كان العطف بعملية التفكير (ثم) لتدل على أن عملية التفكير بأطوارها أخذت من الوليد والذين معه زمناً طويلاً، لكنه حينما خطرت له الكلمة الشنعاء؛ أن يصف القرآن بأنه سحر فالله جل وعلا عدل عن (ثم) ليستخدم (الفاء) قال: فقال )إن هذا إلا سحر يؤثر( علامَ تدل في باب التحليل النفسي هذه الصياغة؟ تدل على أنه كان وهو في أقصى درجات الانفعال والتلهف لإيجاد وصف يصف به القرآن ما كاد تخطر له هذه الكلمة الشنيعة حتى أمسك بها فألقاها فقال؛ إنْ هذا إلا سحر يؤثر، ما ترك فاصلة ولا مهلة خشية أن تنفلت هذه الكلمة منه وتضيع فيخرج إلى تفكير آخر.
هذا التصوير الذي ذكر الله تعالى شأنه ما أظن أنه يخفى على قارئ للقرآن ولكن الشيء الذي قد يخفى هو ما ينبغي أن نلفت النظر إليه الآن. واضح أننا من تجربتنا نعرف أن كل الناس لا ينساقون إلى الحق على سوية واحدة، من الناس من يستجيب، ومن الناس من يُعْرِض.. لماذا؛ لا بد من أن نسأل أنفسنا هذا السؤال، ما الذي يمنع الإنسان من قبول الحق واعتقاده والأخذ به، هل في هذا الكلام الذي يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم شك وارتياب؟ لا وآية ذلك أنه منذ أربعة عشر قرناً تحدى الناس بأن يأتوا بسورة من مثله وما زال التحدي قائماً وما زال عجز الناس قائماً؛ وذلك أبلغ الدليل على أن هذا الكلام المنزل هو من عند الله تبارك وتعالى لم يتقوله أحد من الخلق لا من الماضين ولا من اللاحقين فلماذا إذاً بعد الوثوق بأن القرآن كلام الله وبأن الله لا يقول إلا الحق؟(/5)
لماذا يعرض الناس عنه؟ لا بد من سبب ولا بد من علة، ولعله في الرسالة تخلو الرسالة تماماً من كل امتيازاتها إذا سكتت عن بيان العلة، العلة في هذا أن الإنسان في الدنيا حينما نتعمق في فهمه لا يكفي أن نعرض له الحقيقة وإنما يجب أن نحطم السدود والقيود التي تمنعه من الأخذ بهذه الحقيقة، ما الذي يشكل هذه السدود والقيود؟ أعراف الناس، أفكار الناس، شهوات الأنفس، ما على وجه الأرض من زينة ومتاع فالإنسان في الواقع أحد رجلين إما رجل قادر على أن يسمو بنفسه فوق الضرورات فهو يستطيع في كل حين أن يلتزم بالحق أو إنسان ملوث بالشهوات مأسور لها فهو عاجز أبداً -طالما هو في هذه الحالة- عن رؤية الحقيقة، وعن اعتناق الحقيقة والأخذ بها، هل سكت الله جل وعلا عن بيان هذه العلة؟ ارجعوا فوراً إلى أول سورة.. ما هي أول سورة نزلت من القرآن؟ أول نداء صافح سمع النبي صلى الله عليه وسلم ماذا كان: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) ما الذي قال الله في تلك السورة؟ قال: (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) حينما يشعر الإنسان بأنه مخول بنعم كثيرة مال وأولاد وجاه وسلطان وما أشبه ذلك ينسى نفسه معتمداً على قوة خارج ذاته، وأية قوة فوق ذاته وخارج ذاته هي طغيان، وسداً في وجهه أمام الحقيقة هنا يبدأ مقتل الإنسان هنا يدركه العمى ولا يستطيع أن يرى الحق لمجرد أن يتجاوز الإنسان حده وأن يشعر بأنه مستغن عن ربه فحينئذ يبدأ الشيطان بالتلعب به تلعباً خطيراً هل هي هذه الإشارة فقط لا وإنما قال الله جل وعلا في السورة الثانية في سورة القلم: (فلا تطع المكذبين ودُّوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم) ماذا؟ (أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) فذلك الذي يكون ذا مال كثير وبنين كثيرين إذا تليت عليه آيات الله تبارك وتعالى، ولى مستكبراً؛ وقال أساطير الأولين.
ماذا يقول الله تبارك وتعالى في السورة الثالثة في سورة المزمل يقول:
)وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً(.
فأولوا النعمة هم المترفون وهم المتنعمون ثم هم المكذبون فهذا الاستغناء الناتج عن انغماس الإنسان في الشهوات وضياعه في مسار النعم المتدفقة عليه من كل جانب هو الذي يعميه وهو الذي يحول بينه وبين رؤية الحقيقة واعتناق الحقيقة وأخذ نفسه بهذه الحقيقة.
قلت إن الرسالة تفرغ من كل معناها وكل مبرراتها لو سكتت عن تشريع هذا الوضع فالله جل وعلا حين يعرض شأن الوليد وموقفه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقفه من الملأ من قريش من هذا القرآن وتكذيبه بأن يكون القرآن منزلاً من عند الله وادعاءه بأن هذا القرآن سحر يؤثر كان الدافع إلى ذلك ماذا أن الوليد مستغن من جملة المستغنين عبد من عبيد الشهوات إنسان صرعته النعمة صرعاً وأصبح لا يستطيع أن يرى الحقيقة. واجب الإسلام كما سنرى بعد التعمق في دراسته وتحليله أن يعيد تنظيم شؤون الحياة وتوزيع خيرات الحياة على نحو لا يؤثر على الفطرة الإنسانية أن يجعل النعمة في يد الإنسان لا في قلب الإنسان أن يجعل الإنسان سيد النعمة ولا يجعل النعمة هي سيدة الإنسان، بهذا يضمن الإسلام للإنسان أن يكون فعلاً متحرراً من جميع الدوافع ومن جميع الجواذب ثم أن يجعله في كل وقت قادراً على رؤية الحقيقة بذاتها عند هذا الحد نقف وإن كنت لا أرغب في أن أفصل الكلام من جانب آخر يتصل بفلسفة الدعوة وبجانبها الحركي لكني سأرجئ هذا إن شاء الله تعالى إلى فرصة أخرى ننظر في الآيات التي مرت جميعاً وفي السور الأربعة التي مرت جميعاً نظراً تفصيلياً لهدف من ورائه في تقعيد القواعد وتأصيل الأصول وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله(/6)
المدخل إلى قضيةالنص والتأويل ' (2/2)
24-6-2005
بقلم عبدالله بن عبدالرحمن النديم
"...قدم الكاتب في الجزء الأول مقدمة عن النص والتأويل وابتداء الحديث عن هذه القضية الفكرية الشائكة ، وفي هذا الجزء الثاني امتداد لتلك الرحلة ومتابعة للحديث عن أشهر المدارس التي تناولت قضية النص والتأويل بشيء من الإيجاز..."
ومهما يكنْ من أمر ٍ ، فإنَّ التيّاراتِ التغريبيّة َ اختزلتِ المشكلة َ في الثقافةِ السائدةِ في العالم ِ الإسلاميِّ ، بما تحويهِ من مواردَ وتطبيقاتٍ ، وبدأ من هنا توجيهُ النقدِ للنصِّ وللخطابِ الدينيِّ ، وهذا ما يُفسرُ لنا سببَ اعتناءِ كثير ٍ من ملاحدةِ العربِ وزنادقتهِ بالنصوص ِ الشرعيّةِ ، مع عدم ِ إيمانِهم بها أو بمكانتِها ، والتصدّي للبحثِ فيها والكلام ِ عليها ، وذلكَ ليكتملَ لهُم ما يُريدُونهُ من نقدِ النصِّ نقداً مُباشراً .
ظهرتْ كتاباتٌ كثيرة ٌ في مسألةِ النصِّ وكيفيّةِ التعامل ِ معهُ ، ورأى أصحابُها أنَّ العقلَ العربيَّ لا بُدَّ أن يتطوّرَ وهذا التطوّرُ يقفُ دونهُ حواجز ُ كثيرة ٌ ، على رأسِها النصُّ ، فكانَ لا بُدَّ من إخضاع ِ النصِّ لعمليّةِ التطوير بتأويلهِ ليتكيّفَ مع معطياتِ الواقع ِ الجديدةِ ، ويُصبحَ نصّاً مُتفاعلاً مع الصيرورةِ التأريخيّةِ ، وليسَ نصّاً جامداً مُتعالياً على الواقع ِ ، أو بتجاوز ِ النصِّ وهدمهِ عبرَ التشكيكِ فيهِ ، إمّا ثبوتاً أو دِلالة ً ، ويتلخّصُ رأي هؤلاءِ في قول ِ أحدِهم واصفاً فكرهم : " أنّهُ الفكرُ الذي ينهضُ على النصِّ ، لكنْ بتأويل ٍ يجعلُ النصَّ قابلاً للتكيّفِ مع الواقع ِ وتجدّدهِ ، أو الفكر ِ الذي لا يرى في النصِّ أيّة مرجعيّةٍ ، ويعتمدُ أساساً على العقل ِ لا النقل ِ " .
ويلاحظ ُ في النقل ِ السابق ِ أنَّ تطويرَ النصَّ بتأويلهِ يوازي عندهم إلغاءهُ بالكليّةِ ، وذلكَ أنَّ عمليّة َ التأويل ِ هي تعطيلٌ في حقيقتها للنصِّ ، وقد ذكرَ قريباً من ذلكَ فيما مضى الإمامُ ابنُ القيّم ِ في كتابهِ " الصواعقُ المُرسلة ُ " .
وثمة أمراً مُهمّاً وهو أنَّ أطروحاتِ التحديثِ في العالم ِ الإسلاميَّ ، لو اقتصرَ أصحابُها فيها على الجانبِ المادّيِّ ، لما وجدوا تلكَ الصعوباتِ في نشر ِ ما يُريدونَ ، ولكنّهم جعلوا التحديثَ الفكريَّ لازماً للتحديثِ الماديِّ ، وقرنوا العلومَ التجريبيّة َ والماديّة َ بالعلوم ِ الفكريّةِ والإنسانيّةِ والاجتماعيّةِ ، ورأوا ضرورة َ تشرّبِ الفكر ِ الإسلاميِّ للفكر ِ الغربيِّ ، وهذا ما جعلَ مشاريعهم تواجهُ برفض ٍ شديدٍ ، ممّا حداهم إلى ضرورةِ إيجادِ مخرج ٍ من هذا الأمر ِ ، على أن تستمرَّ قضيتُهم في إطارها المُحدّدِ ، وهو الرفضُ التامُّ للفصل ِ بينَ الأمرين ِ – التحديثِ الماديِّ والفكريِّ - ، وإن أدّاهم ذلكَ إلى رفض ِ الإسلام ِ ، وهذا ما وقعوا فيهِ لاحقاً عندما ألغوا الإسلامَ بإلغاءِ أصولهِ وقواعدهِ القائمةِ أساساً على الأدلة الشرعيّةِ .
وهذا ما يؤكّدهُ محمّد أركون في معرض ِ حديثهِ عن معوّقاتِ الحداثةِ قائلاً : " ولا تزالُ تحولُ دونَ تشكّل ِ المُجتمع ِ المدنيِّ ودولةِ الحقِّ والقانون ِ والشخص ِ – الفرد – المواطن ِ ، بصفتِهم فاعلينَ مُتداخلينَ للمسار ِ التاريخيِّ ، الهادفِ للوصول ِ إلى الحداثةِ الفكريّةِ والروحيّةِ والسياسيّةِ التي لا تنفصمُ !! " ، وهذا الرأي هو رأيُ الأغلبيّةِ من المفكّرينَ التغريبيينَ ، ممّن يرونَ الحداثة َ بكامل ِ أشكالِها أمراً لا بُدَّ منهُ للوصول ِ بالأمّةِ إلى مصافِّ التحضّر ِ ، وتخلّفُ أحدِ الصور ِ – الفكريِّ منها أو الماديِّ – يعني سقوطَ المشروع ِ الحضاريِّ بتمامهِ ! .
بدا واضحاً ممّا سبقَ أنَّ معاركَ الحداثةِ كانتْ تصطدمُ على صخرةِ الإسلام ِ ، وتُواجهُ بالنصوص ِ الشرعيّةِ ، الأمرُ الذي أدّى بهؤلاءِ التغريبيينَ إلى رفض ِ النصوص ِ ومُحاولةِ التشكيكِ فيها والنيل ِ من مكانتِها ، رغبة ً في الوصول ِ إلى الحداثةِ الغربيّةِ الشاملةِ .
ولا بُدَّ لي هنا أنْ أبيّنَ الفرقَ بينَ النصِّ وبينَ الخطابِ الدينيِّ ، فأمّا النصُّ الذي يتحدّثُ عنهُ المفكّرونَ في كُتبِهم فهو غيرُ النصِّ الذي يقصدهُ الأصوليّونَ ، والنصُّ عندَ الأصوليينَ هوَ الذي لا يحتملُ إلا معنىً واحداً ، فإذا قالَ فقيهٌ : هذا نصٌّ في المسألةِ ، أي أنّهُ نُصَّ على حكمِها نصّاً صريحاً ، ويُقابلُ النصَّ عندَ الأصوليينَ : الظاهرُ ، والظاهرُ ما احتملَ معنيين ِ أحدُهما أظهرُ من الآخر ِ ، وأمّا في الفكر ِ المُعاصر ِ فالنصُّ هو السلطة ُ الخبريّة ُ التي تُلزمُ النّاسَ أن يرجعوا إليها ، وفي كثير ٍ من الأحيان ِ يُقصرُ النصُّ على القرءان ِ ، وذلكَ لأنَّ أكثرَ هؤلاءِ لا يعتدّونَ بالسنّةِ جملة ً وتفصيلاً .(/1)
وأمّا الخطابُ الدينيُّ فهو طرقُ ووسائلُ تبليغ ِ المنظومةِ الدّينيّةِ ، وكيفيّة ُ التعبير ِ عنها ، وهناكَ من يخلطُ بينَ هذين ِ الأمرين ِ ، فيجعلُ الخطابَ الدينيَّ مُرادفاً للنصِّ ، ولهذا يجبُ تحريرُ المصطلح ِ قبلَ الخوض ِ في نقاشهِ وتبيينهِ ، حتّى لا نجورَ في الأحكام ِ ، أو نقعَ أسرى لبريق ِ مصطلح ٍ بينما صاحبهُ يقصدُ أمراً آخرَ .
اختلفتْ طرق ُ المفكّرينَ المعاصرينَ في التعامل ِ مع النصِّ ، ويأتي على رأس ِ ذلكَ أربعة ُ مدارسَ :
- المدرسة ُ الإلحاديّة ُ : وهم الذين لا يرونَ للنصِّ أيّة قيمة ً تُذكرُ ، وتأثيرهُ الاجتماعيُّ كانَ محدوداً بالزمن ِ الذي نشأ فيهِ والظروفِ البدائيةِ التي عالجها ، وأمّا الآن فقد انتهى عصرُ النصوص ِ وجاءُ عصرُ العقل ِ والبراهين ِ الثابتةِ – الماديّةِ والتجريبيّةِ - ، ويرى هؤلاءِ ضرورة َ فكِّ الارتباطِ بينَ العقل ِ والنصِّ ، وإزالةِ القدسيّةِ عن جميع ِ ما يُخالفُ العقلَ ، والعقلُ عندهم مقصورٌ على المحسوس ِ التجريبيِّ .
كما أنّهم يميلونَ إلى النظرةِ التشكيكيّةِ ، وينطلقونَ منها نحوَ النقدِ وإعادةِ التشكيل ِ للفكرةِ ، وهذا مذهبٌ باطلٌ ، ولا يشكُّ عاقلٌ في أنَّ المعارفَ لا تنشأ من فراغ ٍ ، أو تولدُ من الصفر ِ ، وإنّما هي مجموعة ٌ متوالية ٌ تترسّخُ بمرور ِ الوقتِ ، ولا يمكنُ لباحثٍ مهما بلغتْ درجة ُ حياديتهِ أن ينفيَ عن نفسهِ التأثيرَ والتكوينَ المعرفيِّ ، وأثرَ ذلكَ على نتيجةِ بحثهِ وحكمهِ .
وبعضُ هؤلاءِ – خاصّة ً الماركسيينَ منهم – يرى أنَّ النصَّ إنّما هو قيمة ٌ جماليّة ٌ ، وأدبٌ راق ٍ ، شأنهُ شأنُ بقيّةِ الآدابِ ، يُعاملُ كقطعةٍ نثريّةٍ ، ويُخضعُ لمعايير ِ النقدِ الحديثةِ ، وأمّا جعلهُ حاكماً على الحياةِ وعلى الأفعال ِ فهذا أمرٌ مردودٌ ، واعتبارُهم للنصِّ من بابِ الاعتبار ِ للأديان ِ مع كفرهم بها ، فهم يرون الأديانَ تجربة وظاهرة اجتماعية تستحقُّ النظرَ ، لا أنّها أمرٌ ربّانيٌّ يجبُ على البشريةِ الالتزامُ بهِ ، وهكذا هم مع النصِّ يرونهُ قطعةً أدبيةً يُقرأ أدباً وتذوّقاً .
وهذه المدرسة ُ تضمُّ في ثناياه أطيافاً شتّىً منهم : التغريبيّونَ ، والماركسيّونَ ، والعلمانيّونَ ، وملاحدة ُ العقلانيّةِ ، وآخرونَ يظهرُ ذلكَ من خلال ِ مفرداتِ أبحاثِهم ، ويجمعُهم جميعاً أنَّ منطلقاتِهم إلحاديّة ٌ صِرفة ٌ ، فلا يرونَ أثراً للدّين ِ في حياةِ النّاس ِ ، ويعدّونهُ طريقة ً اجتماعيّة ً ، وينتحلونَ مذاهبَ معاصرةٍ تسلُكَ طريقَ الإلحادِ والرفض ِ التامِّ للدّين ِ الإسلاميِّ ، أو تأويلهِ تأويلاً يأتي على أصلهِ بالبطلان ِ ، كمن يفرّقُ بينَ الدّين ِ في روحانياتهِ وبين تطبيقهِ في الحياةِ ، أو يرونَ الدّينَ مرحلة ً من مراحل ِ الماركسيّةِ .
- المدرسة ُ العقلانيّة ُ : وهم الذين يرون ضرورة َ إخضاع ِ النصوص ِ الشرعيّةِ للعقل ِ ، فما وافقَ العقلَ قُبلَ ، وما تعارضَ معهُ وجبَ رفضهُ : فإنْ كانَ نصّاً من القرءان ِ وجبَ تأويلهِ ، وذلكَ لأنّهم لا يقدرونَ على إظهار ِرفض ِ القرءان ِ مباشرة ً ، لعلّهم بأثر ذلك وحتّى لا يُكفّرهم النّاسُ ، وأمّا إنْ كانَ النصُّ من السنّةِ فإنّهم يردونهُ مباشرة ً ولو كانَ مُتواتراً .
- المتأثرونَ بالعقلانيّةِ : وهؤلاءِ لا يُعارضونَ النّصوصَ بالعقل ِ ، ولكنْ وقعَ عندهم تأويلٌ للكثير ِ من النّصوص ِ ، أو قاموا بتأويل ِ بعضِها حتّى تتكيّفَ مع الواقع ِ ، ولكنّهم لم يُوافقوا المدرسة َ العقليّةَ في جميع ِ الأصول ِ الفكريّةِ .
ويدخلُ ضمنَ هؤلاءِ كثيرٌ من العصرانيينَ المُعاصرينَ ، وكذلكَ بعضُ الذين لم يكتملْ خلاصُهم من الأفكار ِ القديمةِ التي تبنّوها .
- المدرسة ُ الشرعيّة ُ : وهم الذين يرونَ حُجّية َ النصوص ِ باعتبارِها مورداً رئيساً للأحكام ِ والتشريعاتِ ، ويرونَ صلاحيتها لكلِّ زمان ٍ ومكان ٍ ، حسبَ ما وردَ في مقاصدِ الشريعةِ التي راعتِ المصالحَ والمفاسدَ .
الغرضُ من التقسيم ِ السابق ِ – تقسيمٌ لفهم ِ المسألةِ فقط – هو تمييزُ الدعواتِ التي تنطلقُ بينَ فينةٍ وأخرى ، ويُطالبُ فيها أصحابُها بضرورةِ المراجعاتِ في النصِّ والخطابِ الدينيِّ .
أصحابُ المدرسةِ الإلحاديّةِ لا يرونَ للنصِّ – بقسميهِ كِتاباً وسُنّة ً - أي قيمةٍ دلاليّةٍ ، ويرونَ الدّينَ ظاهرة ً اجتماعيّة ً فقط ، ولهذا فهم في نقدِهم للنصِّ إمّا أن يقوموا بالتشكيكِ في ثبوتهِ ويجعلونهُ من الأساطير ِ ، أو أن يُضيّقوا دائرة َ تأثيرهِ ليجعلوهُ في الماضي ، وأمّا الحاضرُ فهو عصرٌ تحكمهُ التغيّراتُ المتلاحقة ُ – الصيرورة ُ – ويتطلّبُ من الذين يعيشونَ فيهِ أن يتفاعلوا معهُ ويتكيّفوا عليهِ بكافّةِ صورهِ وأشكالهِ ، والنصُّ لجمودهِ وثباتهِ يعوقُ حركة َ التاريخ ِ والتقدّم ِ ، فوجبَ تجاوزهُ .(/2)
ومنهم من يرى أنَّ النصَّ القرآنيَّ عِبارة ٌ عن مجازاتٍ ، ليسَ لها حقيقة ٌ واحدة ٌ ثابتة ٌ ، ويحقُّ لمن شاءَ أن يُفسّرهُ ، وهذا التفسيرُ محكومٌ بالحركةِ التاريخيّةِ ، فأبطلوا التفسيرَ الذي اختارهُ الصحابة ُ وأهلُ العلم ِ ولو كانَ مُتفقاً عليهِ ، وأتوا بتفسيراتٍ جديدةٍ توافقُ ما يريدونهُ من أفكار ٍ ومذاهبَ ، وهذا يجري كثيراً في كلام ِ محمّد أركون ، وهو أيضاً رأي أغلبِ الماركسيينَ ، فهم برغم ِ حربِهم على الإسلام ِ ، وتأصيلهم للمذهبِ الماركسيِّ المُصادم ِ للدّين ِ ، إلا أنّهم يستشهدونَ بالآياتِ القرآنيّةِ في سبيل ِ إثباتِ نظريّاتِهم الماركسيّةِ ، وقد فعلَ هذا كثيراً حُسين مروة وطيب تيزينيِّ وغيرُهم من أقطابِ الماسونيّةِ العربيّةِ .
وهؤلاءِ في نقدهم للنصِّ أو الخطابِ الدينيِّ إنّما يُريدونَ التحرّرَ من الدّين ِ كلّهِ ، فإذا قرأتَ لأحدِ هؤلاءِ كلاماً حولَ النصِّ أو الخطابِ الدينيِّ ، فلا بُدَّ من معرفةِ منطلقهِ الإلحاديِّ ، والسياق ِ الذي وردَ فيهِ كلامهُ ، ولا يكفي أن يغترَّ الإنسانُ بظاهر ِ كلامهم ، فهم يعمدونَ إلى التزييفِ كثيراً ، وإلى تلطيفِ العبارةِ ، كقولِهم مثلاً : النصوصُ مجازاتٌ ، أو أنَّ النّصوصَ متعالية على الواقع ِ ، وما إلى هنالكَ من الألفاظِ المشابهةِ لها .
ويأتي على رأس ِ هذه المدرسةِ : محمّد أركون ، هشام جعيط ، زكي نجيب محمود ، فؤاد زكريا ، نصر حامد أبو زيد ، حُسين مروة ، طيب تيزيني ، وغيرُهم كثيرٌ – لا كثّرهم اللهُ - .
ويكثرُ تعلّقُ هؤلاءِ بالمذاهبِ الفكريّةِ والأدبيّةِ المُعاصرةِ المُلحدةِ ، وتجدُ نفَسَ الاستشراق ِ ظاهراً فيما يكتبونهُ ، مع أنّهم يدعونَ التجرّدَ والموضوعيّة َ بعيداً عن تأثير ِ الأيدلوجياتِ والأفكار ِ أيّاً كانَ مصدرُها : فمحمّد أركونَ – مثلاً - يحتذي كثيراً طريقة َ أستاذهِ ميشيل فوكو في البنيويّةِ والتحليل ِ التفكيكيِّ ، كما أنّهُ ينتمي إلى المدرسةِ الاستشراقيّةِ في طريقةِ تعرّضهِ ودراستهِ للإسلام ِ وعلومهِ ، وزكي نجيب محمود يمشي على طريقةِ الوضعيينَ ، وحُسين مروة وطيب تيزيني ماركسيّونَ ماديّونَ ، وفؤاد زكريّا أخذ َ كثيراً من آراءهِ النقديّة َ من المفكّر ِ العقلانيِّ اليهوديِّ سبينوزا ، صاحبِ المذهبِ التشكيكيِّ النقديِّ الذي نقدَ بهِ الدّيانة َ اليهوديّة َ .
والحديثُ عن محمّد أركونَ خاصّة ً لهُ مناسبة ٌ قادمة ٌ ، في مقالةٍ عنهُ وعن فكرهِ – بحول ِ اللهِ تعالى - .
والنّقاشُ مع هؤلاءِ هو من جنس ِ النّقاش ِ مع الملاحدةِ ، يكونُ بتقرير ِ أصول ِ المسائل ِ العقديّةِ وإثباتِها ، ببراهين ِ الحسِّ والعقل ِ والخبر ِ العاضدِ ، إذ أنَّ أكثرَهم لا يؤمنُ بشيءٍ إلا المحسوسَ فقط ، ولهذا يقولُ فؤاد زكريّا في ردّهِ على من طلبَ مناقشتهُ أنّهُ سوفَ يُجيبهُ ، شريطة َ أن لا يُحاكمهُ أو يُلزمهُ بأي سُلطةٍ ، والسلطة ُ التي يقصدُها إنّما هي النصُّ الشرعيُّ ، يقولُ في ذلكَ : " وإذا كانَ لمؤلّفِ هذا الكتابِ من أمنيّةٍ ، فهو إلا يلجأ المعترضونَ عليهِ – وهم قطعاً كثيرونَ – إلى منهج ِ السُّلطةِ في مناقشةِ آرائهِ ، أعني أن لا يضعوا أفكارهُ في مواجهةِ سُلطةِ النصِّ " ، والنقلُ السابقُ من كتابهِ " الصحوة ُ الإسلاميّة ُ في ميزان ِ العقل ِ " .
ومن السماتِ الواضحةِ لمن يقرأ في كتبِ من سلفتْ أسمائهم ، أنّهم يحتذونَ المناهجَ الغربيّة َ في البحثِ والدراسةِ والنقدِ والتحليل ِ ، ويقضونَ لها بالدقّةِ والعمق ِ ، ويُحاكمونَ إليها نصوصَ الشريعةِ الإسلاميّةِ ، ويُخضعونَ لها التراثَ الإسلاميَّ بكافّةِ تفاصيلهِ ، ومع البون ِ الشاسع ِ بين ِ التراثِ الإسلاميِّ الذي مرّتْ عليهِ قرونٌ من النقدِ والمناقشةِ والتحليل ِ ، حتّى ثبتَ وصارَ نقيّاً وأُرسيتْ لهُ معاييرُ ثابتة ٌ للنقد ِ والبحثِ العلميِّ ، وبينَ المدارس ِ النقديّةِ الغربيّةِ المُعاصرةِ ، والتي تصلحُ أن تطبّقَ على النظريّاتِ الغربيّةِ ، تلكَ النظرياتُ التي لا تقومُ على قدم ِ البحثِ العلميِّ أبداً ، ويكفي أن أشيرَ هنا إلى أنَّ نظريّة َ داروين في النشوءِ والارتقاءِ والانتخابِ الطبعيِّ ، مرَّ عليها مئة ُ سنةٍ ، ووضعتْ على ميزان ِ النقدِ والتحليل ِ فأثبتتْ فشلها الذريعَ ، مع أنّها كانتْ يوماً من الأيّام ِ ثورة ً في مجال ِ العلوم ِ ، وفتحاً عظيماً ! ، وقل مثلَ ذلكَ على نظريّاتِ ماركس ، وفرويد ، وغيرِهم .(/3)
هذا السقوطُ السريعُ للنظريّاتِ الغربيّةِ ، ومن قبلهِ الفشلُ الذريعُ للكنيسةِ أن تثبتَ في وجهِ العلم ِ التجريبيِّ بعد أن حاربتهُ قروناً طويلة ً ، جعلَ أصحابَ المناهج ِ الغربيّةِ يقعونَ في إسقاطاتٍ كثيرةٍ جرّاءَ ذلكَ الأمر ِ ، ويُلصقونها بالإسلام ِ وتعاليمهِ ومنهجهِ في الحياةِ ، وبحمدِ اللهِ أنَّ نظرياتِهم تهاوتْ أمامَ الحُجج ِ العلميّةِ التي قامَ عليها الإسلامُ ، ومشاريعهم النهضويّة ُ المزعومة ُ ماتتْ في مهدها ، وبقيَ الإسلامُ عزيزاً شامخاً مهيباً ، بالرّغم ِ من ضعفِ المسلمينَ في الدراساتِ الخاصّةِ بنقدِ الحضارةِ الغربيّةِ ونقدِ مناهجِها .
وأمّا أصحابُ المدرسةِ العقلانيّةِ ، فهم كسابقيهم في النظر ِ إلى النصوص ِ الشرعيّةِ ، ويجمعهم جميعاً القولُ بانفصال ِ الشريعةِ عن نظم ِ الحياةِ ، فالشريعة ُ مختصة ٌ في شئون ِ الروحانيّاتِ ، وأمّا الحياة ُ وإدارتُها فهذا من الأمور ِ التي تركتِ الشريعة ُ البحثَ فيها للنّاس ِ ، ومن هذا المنطلق ِ صاروا يُحاربونَ السنّة َ التشريعيّة َ ، ويروونَ أنّها تسييسٌ للدّين ِ ، وأنَّ أكثرَ أحاديثِ السنّةِ النبويّةِ إنّما إفرازاتٌ للصراعاتِ السياسيّةِ الدائرةِ في صدر ِ الإسلام ِ ، ممّا حدا الخلفاءَ والملوكَ إلى تطويع ِ الدّين ِ لخدمةِ مآربِهم ، وقد تلقّوا أغلبَ هذه الآراءِ من كُتبِ ودراساتِ المُستشرقينَ ، لأنّهك كانوا يرون فيهم الدقّة والأمانةَ والبُعدَ عن التعصّبِ – كما يزعمونَ - ، إضافةً إلى خلوّهم نظرةِ التبجيلِ للنصِّ والسلفِ ، فمن المعيبِ عندهم النظرةُ التبجيليّةُ للنصِّ والسلفِ .
ويجتمعُ أصحابُ المدرسةِ الإلحاديّةِ والمدرسةِ العقلانيّةِ في التصوّر ِ العلمانيِّ للحياةِ ، ويتفقونَ في الأغلبِ الأعمِّ على عدم ِ استقلاليّةِ السنّةِ النبويّةِ بالتأثير ِ والتشريع ِ ، وكذلكَ على ضرورةِ تحكيم ِ العقل ِ والنظر ِ إليهِ مصدر ٍ مُستقلٍّ في النظر ِ والاستدلال ِ ، ولهذا وصلَ الكثيرُ من العقلانيينَ إلى مصافِّ الكفرِ الصريحِ .
وهؤلاءِ – أعني العقلانيينَ – لا يتوانونَ في نقدِ النصوص ِ الشرعيّةِ ، فما خالفَ العقلَ يردّونهُ مباشرة ً ، فإن كانَ من القرءان ِ الكريم ِ قاموا بتأويلهِ وحملهِ على معان ٍ مجازيّةٍ ، أو وسّعوا دائرة َ معانيهِ حتّى يشملَ أشياءَ تتوافقُ مع العصرَ الحديثِ ، ومنهم من يرى أنَّ القراءنَ كان يشتملُ على الأساطير ِ ، كما وقعَ لمحمّد أحمد خلفَ الله ، وأستاذهِ الخوليِّ ، وأمّا السنّة ُ النبويّة ُ فلا حكمَ لها إلا قليلاً ، والأصلُ أنّهم يردونَ أكثرَ الأحاديثِ ، وإذا خالفَ الحديثُ شيئاً يعتقدونهُ من العلوم ِ المُعاصرةِ أو ما استقرَّ في عقولِهم فإنّهم يحكمونَ بوضعهِ وبطلانهِ ، ولا ميزانَ يزنونَ بهِ الحديثَ إلا ميزانَ العقل ِ والحسِّ .
وللأمانةِ العلميّةِ فإنَّ المدرسة َ العقلانيّة َ تتفاوتْ في التعامل ِ مع النصوص ِ الشرعيّةِ ، فهم وإن اتفقوا على أصل ِ التأويل ِ أو تقديس ِ العقل ِ وتقديمهِ ، إلا أنَّ هذا الأصلَ كان يطردُ تِباعاً بحسبِ نفسيّةِ صاحبهِ وموقفهِ المباشر ِ ، يقولُ شيخُنا سلمان العودة : " وتتفاوتُ رموز ُ هذه المدرسةِ تفاوتاً كبيراً في موقفِها من النصِّ الشرعيِّ ، ولكنّها تشتركُ في الإسرافِ في تأويل ِ النصوص ِ ، سواءً كانتْ نصوصَ العقيدةِ ، أو نصوصَ الأحكام ِ ، أو الأخبارَ المحضة َ ، وفي ردِّ ما يستعصي من تلكَ النّصوص ِ على التأويل ِ " .
وهذا ما يقودنا للحديثِ عن المتأثرين بالعقلانيّةِ وهم من بقيتْ بهم رواسبُ تلكَ المدرسةِ ، فهؤلاءِ يوجدُ فيهم بقايا من فكرِ العقلانيينَ ، ويفترقونَ عنهم في أنّهم يعترفونَ بالسنّةِ مصدراً للتشريعِ ، إضافةً إلى اعترافهم بالقرآن الكريم ، لكنّهم يؤولونَ كثيراً من نصوصِ السنّةِ أو يردّونها إذا خالفتْ ما يرونهُ صريحَ العقلِ أو الحسِّ ، وصريحُ العقلِ والحسِّ لا ينضبطُ عندهم بضابطٍ كُلّي ، ولهذا يكثرُ عندهم من الاضطرابِ في هذا البابِ ما يجعلهم ينقسمون في المسألة الواحدةِ ما بين قائلٍ في أنها معارضةٌ للعقلِ الصريحِ وما بينَ مُعترفٍ بقبولِ الحقِّ لها .
والمتأثرون بالعقلانيّةِ ليسو على درجةٍ واحدةٍ كذلكَ ، بل قد يوجدُ في أهلِ العلمِ بالشريعةِ من يتأثرُ ببعضِ تلكَ الأفكارِ ، وأمّا من يتفقُ مع أولئكَ في آحادِ المسائلِ فإنّهُ ليسَ منهم ، وإنّما الشأنُ في الموافقةِ على الأصولِ الكليّةِ أو بعضِها .(/4)
ويأتي على رأس هذه المدرسةِ المدرسةُ الإصلاحيّةُ في مصرَ ، من أمثالِ محمّد عبده وطلابهِ كرشيد رضا وشلتوت والمراغي وغيرهم ، وقد تفاوتوا تفاوتا كثيراً في التأثرِ ، وهناك من يجعلُ محمّد عبده من محضة العقلانيةِ ومنهم من يراهُ مُصلحاً عظيماً ، والحقُّ أنَّ هذا الرجلَ وقعَ في تجاوزاتٍ وأخطاءٍ جسيمةٍ ، كانَ كثيرٌ منها في أصولِ الشريعةِ ، ويُقالُ أنَّ سببَ جنوحهِ إلى التأويلِ للغيبياتِ والمُعجزاتِ إنّما كانَ تطييباً لقلوبِ النّاسِ ، وكسباً لهم ، في وقتٍ اشتدتْ فيهِ أزمةُ الإلحادِ وإعراضُ النّاسِ عن الدينِ وتشككّهم فيهم ، لانتشارِ الماديةِ وفورةِ الاشتراكيّةِ والماركسيّةِ ، وبهذا أجابَ الشيخ رشيد رضا رسالةً وصلتهُ من الشيخ السعدي – رحمهما الله جميعاً - ، ذكرَ لهُ فيها أن تأويلَ بعضِ أمورِ الغيبِ أهونُ عندهم من خروجَ المسلمِ إلى دينِ الكفرِ .
وهذا الأمرُ مُشكلٌ غايةَ الإشكالِ ، ذلك أنَّ هذه الأمورَ هي من محكماتِ الشريعةِ ، وممّا كانتْ تعيبُ بعضهُ قريشٌ على النبيِّ – صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ – ولو كانَ بعضهُ أو كلّهُ يجوزُ أن يُبدّلَ أو يؤولَ مع وجودِ المُقتضي لذلك وانحسارِ المانعِ ، لكانَ النبيُّ – صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ – أولى بذلك في زمانهِ ، وحاجتهُ إليهِ أكثرُ ترغيباً للنّاسِ في الإسلامِ والإيمانِ ، وتكثيراً للأتباعِ الداخلينَ في الدينِ ، فلمّا تركَ ذلكَ وبقيَ على الأصلِ من اعتبارِ حقيقةِ هذه القضايا واعتبارها محكّاً للدينِ واختباراً للعبدِ ، دلَّ ذلكَ على تحريمِ تأويلها أو التعرّضِ لها بالتعطيلِ والتشكيكِ .
والواجبُ على أهلِ العلمِ هو صيانةُ العلمِ عن تشغيبِ العامّةِ ، وإصلاحُهم بالطرقِ الشرعيّةِ ، لاسيّما ما كان موجبهُ موجوداً في زمنِ النبيِّ – صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ - ، فما فعلهُ نفعلهُ ، لأنّهُ فعلهُ تشريعٌ كقولهِ ، وهذا محلُّ إجماعٍ عندَ أهلِ العلمِ ، وأمّا الوقوعُ في التأويلِ وصرفِ الخبرِ عن ظاهرهِ استمالةً للنّاسِ وتأليفاً لقلوبهِ ، فهذا مُصادمٌ لطريقةِ النبيِّ – صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ – ، بل كان يأخذُ النّاسَ في مواضعِ الحزمِ بالحزمِ ، وفي مواضعِ اللينِ باللينِ ، وأهلُ العلمُ خلفهُ في ذلكَ ، وإذا وجدوا من النّاسِ ريبةً أو تشكّكاً سدّوا ذلك البابِ بالتعرّضِ لأصولِ مسائلِ الإيمانِ ، لا بأن يفتحوا لهم باباً جديداً للتأويلِ وصرفِ حقائقِ الدينِ ، ومن وقعَ في شيءٍ من ذلك فلن يردّهُ إلا التأويلِ لصريحِ الدينِ وأصلِ الإيمانِ ، ومن هنا وصلَ من وصلَ إلى القولِ بصحّةِ دينِ اليهودِ والنّصارى ، لأنّهم وقعوا في بوّابةِ الانهزامِ الأولى ، وهي بوّابةُ الضعفِ أمّامَ سلطةِ العامةِ الذين لا يفقهونَ شيئاً .
والتتابعُ في التأويلِ جعلَ بعضَ هؤلاءِ يقعُ في التأويلِ الصريحِ لمحكماتِ القرآنِ ، كما حصلَ لمحمّد عبده في تفسيرهِ ، وقد ردَّ عليهِ في شيءٍ من ذلك الشهيدُ سيد قطب – رحمهُ اللهُ - ، وذلك في تفسيرهِ لسورة الفيل وغير ذلكَ من المواضعِ .
والحديثُ عن المتأثرينَ بالعقلانيّةِ ودُعاةِ العصرانيّةِ لهُ مناسبةٌ خاصّةٌ ، لاسيّما ونحنُ نرى كثرتُهم وانتشارُهم في العديدِ من المراكزِ العلميّةِ والإعلاميّةِ(/5)
المدرسة العقلية الحديثة
في البوسنة و الهرسك
و موقفها من السنة النبوية
تأليف الدكتور : أحمد عبد الكريم نجيب
أستاذ الحديث النبوي و علومه في كلّية الدراسات الإسلاميّة بسراييفو ، و الأكاديميّة الإسلاميّة في زينتسا
و مدرّس العلوم الشرعيّة في معهد قطر الديني سابقاً
توطئة
الحمد لله على نعمائه ، و الشكر له على عظيم آلائه و جزيل إحسانه ، و الصلاة و السلام على عبده و رسوله و صحبه و آله ، و بعد ..
مكانة العقل في الشريعة الإسلامية :
لم يهمل الإسلام العقل قط ، بل وجهه إلى النظر و التفكير ، و البحث و التدبير . و توجه بالخطاب إلى أهله ، يحثهم على تحكيمه فيما أشكل عليهم .
و وجه الخلق إلى التفكر و التدبر في غير آية من آيات الكتاب العزيز .
قال تعالى : { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته و ليتذكر أولو
الألباب } [ ص : 29 ] .
و قال سبحانه : { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } [ محمد :
24 ] .
و وصف عباده المؤمنين بالمداومة على ذكره و التفكر في خلقه فقال :
{ الذين يذكرون الله قياماً و قعوداً و يتفكرون في خلق السماوات و الأرض } [ آل عمران : 191 ] .
و دعا سائر الخلق إلى ذلك فقال : { أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات و الأرض و ما بينهم إلا بالحق و أجل مسمى } [ الروم : 8 ] .
و قال أيضاً : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف - و إلى السماء كيف رفعت - و إلى الجبال كيف نصبت - و إلى الأرض كيف سطحت } [ الغاشية : 17-20 ] .
و كرم الله العقل أفضل تكريم حيث و جهه إلى طلب العلم ، و رفع قدر العلماء .
... قال تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات } [ المجادلة : 11 ] .
و وصفهم سبحانه بالخشية فقال : { إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ } [ فاطر : 28 ] .
و من هذا المنطلق أقبل المسلمون على علوم الدين و الدنيا ، ينهلون منها و يعلمون ، و يأخذون و يعطون ، حتى علا قدرهم في المعارف كافة ، و أصبحت حواضر البلدان الإسلامية مراكز ثقافية ، و قامت فيها جامعات علمية يؤمها الطلبة من مختلف أنحاء العالم ، و غدت مكتباتها مراجع ينهل منها بنهم كل من عرف قيمة الكتاب ، بعد أن جلبت إلى خزائنها نوادر المخطوطات ، و نفائس المصنفات ، و ترجمت إلى اللسان العربي من مختلف اللغات في عهد بني العباس فمن بعدهم .
نشأة المدرسة العقلية في المشرق الإسلامي :
لا زالت شمس الإسلام تسطع على العالم كله يوم كانت لأبنائه الريادة في المجالات العلمية على تنوعها ، فانطلقت الفتوحات الإسلامية تملأ الأرض نوراً و عدلاً و بلغت أوجها في عهد السلطان محمد الفاتح رحمه الله الذي حاز فضيلة فتح القسطنطينية و التوغل من بعد في عمق البلدان الأوربية عبر بوابة البلقان .
و مع تقدم الزمن دبَّ الضعف في جسد الأمة ، و بدأت ريادة العالم العلمية تنتقل تدريجياً إلى الغرب الأوربي ، يحملها طلاب درسوا في الأندلس و اسطنبول و غيرهما من الحواضر الإسلامية ، و لصوص محترفون سرقوا من العالم الإسلامي نفائس المخطوطات و أمهات الكتب .
و أثناء هذا التحول عني العثمانيون بتسليح الشعوب الخاضعة لهم ، و اهتموا ببسط نفوذهم و الحفاظ على سلطتهم البسيطة ، فيما بدأ الغرب النصراني يبني نهضة ماديَّة تقنية ، و يوحد صفوفه في مواجهة دولة الخلافة المتقهقرة ..
و لا زال الغرب ينمو و يتقدم بتخليه عن ماضيه و خروجه على سلطة الكنيسة و رجالها ، و الشرق الإسلامي يتردى و يتحطم بتنكره لأصوله و تخليه عن دينه و شريعة ربه ، حتى جاءت اللحظة الفاصلة فسقطت الخلافة ، و تداعت الأمم على ديار الإسلام تستولي و تستعمر ، و تشغل معاول التجهيل و التغريب في أبناء المسلمين ، حتى اتسعت الهوَّة بين المسلمين و كلٍ من دينهم ، و الحضارة التي أحرزها عدوُّهم ، فيما كان للغرب الصليبي سبق لا ينكر في المجالات المادية ، و الصناعات التقنية .
و فقدت الأمة الإسلامية استقلالها ، فأمست تابعة مسودة مقودة ، يسيرها أعداؤها كما يشاؤون ، و يعاني أبناؤها من عقدة التخلف و التبعية .
و قد تمخض هذا الواقع عن ظهور ثلةٍ من المفكرين و الكتاب و العلماء الداعين إلى اللحاق بركب الحضارة الغربية ، لتجديد فهم الإسلام ، و تطوير أحكامه بما يتناسب و ظروف الزمن الراهن .
و كان في طليعة هؤلاء العلماء المجددين كلٌ من جمال الدين الأفغاني و محمد عبده ، و تلميذه محمد رشيد رضا ، و آخرون ممَّن كانت لهم الشهرة في أوائل القرن الرابع عشر الهجري .
و قد نادى هؤلاء المجددون بإدخال إصلاحات جذرية في علوم الشرع و أحكامه لتواكب العصر ، و كانت باكورة عملهم الدعوة إلى إصلاح الأزهر الشريف بصفته المرجعية العليا لغالبية المسلمين في تلك الفترة .
انتقال فكرة التجديد و دعوة العقلانيين إلى البوسنة :(/1)
تأثر بفكر التجديد ، و دعاوى العقلانيين طائفة من الطلاب الذين وفدوا من أقطار الدنيا لطلب العلم الشرعي في الأزهر الشريف ، و عادوا إلى بلادهم يدعون إلى الإصلاح و التجديد ، و كان فيهم بلا ريب عدد لا يستهان به من أبناء البلقان .
و مع سقوط الخلافة العثمانية انقطعت جسور التواصل بين مسلمي البوسنة و إخوانهم في أنحاء العالم الإسلامي ، و فرض عليهم أسلوب جديد في العيش و التفكير المتحرر من الواجبات الدينية و الثوابت العقدية .
و قد ساعد الوضع الجديد هذا على ظهور طائفة من الكتاب المسلمين البوسنويين لا تخفي اعجابها بالحضارة الغربية و تأثرها بدعوات التجديد التي ظهرت في الشرق الإسلامي ، و تدعو إلى مجاراة الغرب المتمدن باسم التطور و الإصلاح الديني و الدنيوي معاً تحت شعار ( التوفيق بين الأخلاق الإسلامية و المادية الغربية الممثلة في العلم و التقنية ) (1).
و من أبرز هؤلاء الكتَّاب :
محمد بيك قبطانوفيتش ( 1255 – 1320 هـ / 1839 -
1902 م ) .
قوت بيك باشاغيتش ( 1287 – 1353 هـ / 1870 -
1934 م ) .
عثمان نوري حاجيتش ( 1286 – 1356 هـ / 1869-
1937 م ) .
أدهم ملابديتش ( 1279 – 1374 هـ / 1862 - 1954 م ) .
محمد جمال الدين تشاوشيفيتش رئيس المشيخة الإسلامية في البوسنة في زمنه .
و إضافة إلى تسخير منابر المساجد التابعة للمشيخة للدعوة إلى التجديد ، أسس هؤلاء الكتاب مجلة ( بهاء ) النصف شهرية سنة 1900م / 1318 هـ ، و شحنوها بمقالاتهم الهادفة إلى مجاراة الغرب ، و الاقتباس من حضارته مع الحفاظ على روح الإسلام و حضارته بعد تطويره و تطويعه لروح العصر ، باعتبار أن البوسنة بلد أوربي ، و ليس شرقياً .
ثم أسست مجلة ( البلاغ ) الناطقة باسم رئاسة العلماء ، و المعبرة عن آراء و اجتهادات دعاة المشيخة الإسلامية ، و جلهم من أتباع المدرسة العقلية الحديثة ، و قد اشتهر بينهم في أواخر القرن الثالث عشر الهجري الأستاذ حسين جوزو الذي يعتبر أحد رواد التجديد في البوسنة .
ثم مجلة ( البحوث الإسلامية ) ، الصادرة عن كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو ، و المهتمة بنشر أبحاث و إسهامات أعضاء هيئة التدريس و خريجي الكلية .
و أخيراً مجلة ( الفكر الإسلامي ) التي صدرت بمبادرة من الدكتور أحمد إسماعيلوفيتش و توقفت عن الصدور مع بداية الحرب الأخيرة في البوسنة .
و قد كانت هذه المجلات مسرحاً فسيحاً لأفكار دعاة التجديد ، و أتباع المدرسة العقلية الحديثة ، تنشر ما يعلنونه من أهداف ، و من ذلك (2):
أ – قبول الحضارة الغربية و التفاعل معها .
ب - العودة إلى المصادر الأصلية للتشريع و هي الكتاب و السنة .
ج – تجديد المفاهيم الإسلامية و تطويرها .
... أمَّا أهدافهم غير المعلنة فكثيرة ، منها خدمة أعداء الإسلام عن سذاجة و حسن نيَّة تارة ، و عن مكرٍ و سوء طويَّةٍ تارةً أخرى ، و قد كشف بعضاً من هذه الأهداف دفاع عددٍ من أعلام مدرسة التجديد عن الاستعمار المتسلِّط على بلدان العالم الإسلامي ، و انتساب عددٍ منهم إلى المحافل الماسونية (3) .
... غير أنَّ ما يعنينا في هذا المقام هو موقف هؤلاء العقلانيين من السنَّة النبويَّة ، حيث عرف عنهم إنكار حجيَّتها ، و الإعراض عنها ، استناداً إلى شبهٍ أوهن من بيت العنكبوت ، كقولهم : إنَّ في التمسُّك بكتاب الله ما يغني عن الالتفات إلى ما في سواه سنَّة كان أو قياساً أو غير ذلك .
... و أصل هذه المقولة الفاسدة قديم عرفته الأمَّة من أيَّام السلف الصالح رحمهم الله تعالى ، وقد جاء التحذير منها و من أهلها على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث عدَّة تبيِّن خبثهم ، و أنَّهم سيعمُّون على الناس بلبوس العلم ، و مزاعم النصح لدين الله ، و التستر بدعوى الاعتصام بكتاب الله .
و الأحاديث في هذا الباب كثيرةٌ منها :
__________
(1) ... حركة إصلاح التشريع الإسلامي , ص : 216 .
(2) ... انظر : نصرت عيسانوفيتش : تحديات الفكر الإسلامي الحديث ( مقال نشرته مجلة البلاغ ، في عددها الثالث سنة 1411 هـ / 1990م ) ص: 13 و ما بعدها .
(3) ... انظر - مثلاً - ما قيل حول الشيخ محمد جمال الدين الأفغاني ، و انتسابه إلى محفل ( كوكب الشرق ) الماسوني الانجليزي في مصر في مؤلَّفات من كشف حقيقته ، مثل :
حقيقة جمال الدين الأفغاني ، و هو كتاب باللغة الفارسية لابن أخت الأفغاني ميرزا لطف الله خان الأسد آبادي ، و قد ترجمه إلى اللغة العربية الدكتور عبدالمنعم حسين الأستاذ بقسم اللغات الشرقية و آدابها بكلية الآداب في جامعة عين شمس .
و : الماسونية و الماسونيون في الوطن العربي ، تأليف حسين عمر حمادة ، ص: 221 و ما بعدها .
و : صوت الماسونية ، تأليف زكي إبراهيم ، ص : 162 و ما بعدها .(/2)
... عن أبي رافع مولى رسول الله - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا ألفينَّ أحدكم متكئاً على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري ممَّا أمرت به ، أو نهيت عنه . فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه )) (1) .
و معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - ( لا ألفينَّ ) أي : لا أجدنَّ ، و هذه الصيغة تفيد المبالغة في النهي ، ومعنى قوله ( أريكته ) أي : سريره المزخرف ، و هو إشارةٌ إلى أنَّ إنكار الحديث إنَّما يأتي من المترفين الذين شأنهم التنعم و حب الشهوات ، و عدم الالتفات إلى أحكام الشريعة أو علومها .
و عن المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ألا هل عسى رجلٌ يبلغه الحديث عني و هو متكئٌ على أريكته ، فيقول : بيننا و بينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه ، و ما وجدنا فيه حراماً حرَّمناه ، و إنَّ ما حرَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حرَّم الله )) (2) .
... لقد بيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الشريف ، أنَّه سيظهر في أمته من ينكر سنته ، متعللاً باتباع القرآن الكريم ، ثمَّ بين - صلى الله عليه وسلم - أن ما حرَّمه فهو و ما حرَّمه الله في الحكم سواء ، لأنَّه لا ينطق عن الهوى ، مكتفياً بذكر أحد المتقابلين عن ذكر الآخر ، حين أشار إلى ما حرَّم و لم يُشر إلى ما أحلَّ .
... و إخباره - صلى الله عليه وسلم - في هذين الحديثين بظهور منكرة السنة ، قبل ظهوره علمٌ من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم - ، و لذلك أوردهما و بوَّب عليهما الإمام البيهقي رحمه الله في كتابه ( دلائل النبوَّة ) ، فقال : باب ما جاء في إخباره - صلى الله عليه وسلم - بشبعان على أريكته يحتال في ردِّ سنَّته بالحوالة على ما في القرآن من الحلال و الحرام دون السنة ، فكان ما أخبر ، و به ابتدع من ابتدع ، و ظهر الضرر (3) .
... و قد تصدى السلف الصالح رضوان الله عليهم لمنكري السنة و حذَّروا منهم فور ظهورهم ، و حكموا بكفرهم .
... فعن عبد الله بن عبَّاس - رضي الله عنه - أنَه قال : (( من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب )) (4) .
... و معنى قوله : ( كفر بالرجم ) ، أي أنكر وجوب رجم الزاني المحصن ، و هو حكم ثبت بالسنَّة ، و سكت عنه القرآن الكريم .
... قال أيوب السختياني (5) : (( إذا حدَّثت الرجل بالسنة ، فقال : دعنا من هذا ، و حدِّثنا من القرآن ، فاعلم أنَّه ضالٌ مضل )) (6) .
... و قال الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله : (( لو أن امرأً قال : لا نأخذ إلاَّ ما وجدنا في القرآن لكان كافراً بإجماع الأمَّة )) (7) .
موقف دعاة المدرسة العقلية الحديثة في البوسنة من أخبار الآحاد :
__________
(1) ... حديث صحيح : تقدم تخريجه .
(2) ... حديث صحيح : تقدم تخريجه .
(3) ... انظر : دلائل النبوَّة ، للإمام البيهقي : 6/549 .
(4) ... إسناده صحيح :
أخرجه النسائي في " السنن الكبرى " 4 / 275 ( 7161 ) في الرجم ، باب : تثبيت الرجم ، و في 6 / 333 ( 11139 ) في التفسير ، سورة المائدة آية ( 15 ) ، و الطبري في " تفسيره " ( 11609 و
11610 ) ، و ابن حبان في " صحيحه " ( 4430 ) ، و الحاكم في " المستدرك " 4 / 359 من طرق عن الحسين بن واقد ، حدثني يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - به .
قلت : و هذا إسناد صحيح ، رجاله كلهم ثقات .
قال الحاكم : ( هذا حديث صحيح الإسناد ، و لم يخرجاه ) .
(5) ... أيوب السختياني ، هو : أيوب بن كيسان السختياني البصري ، أحد أئمة الإسلام الكبار ، و من صغار التابعين ، مولده عام توفي ابن عباس - رضي الله عنه - سنة 68 هـ / 687 م ، و لقي أنس بن مالك ( ، و كان حافظاً ورعاً ، قال عنه الإمام مالك رحمه الله : ( كان أيوب من العالمين العاملين الخاشعين ) ، توفي سنة 131هـ / 749 م .
انظر ترجمته في: طبقات ابن سعد 7 / 246 – 251 ، حلية الأولياء 3 / 2 – 14 ، تذكرة الحفاظ 1 / 130 ، سير أعلام النبلاء 6 / 15 – 26 ، تهذيب التهذيب 1/ 397 .
(6) ... أثر أيوب ، إسناده صحيح :
أخرجه الحاكم في " معرفة علوم الحديث " ، ص : 65 ، و الخطيب في " الكفاية " ، ص : 49 ، و الهروي في " ذم الكلام " ( 208 ) من طرق عن الأوزاعي ، عن مخلد بن الحسين ، عنه .
قلت : و هذا إسناد صحيح ، رجاله كلهم ثقات أفاضل .
(7) ... الإحكام ، لابن حزم : 2 / 80 .(/3)
الخلاف حول الاحتجاج بأخبار الآحاد في مسائل الاعتقاد قديم قدم الفِرق و النحل الإسلامية ، و هذه المسألة متفرعة من مسألة تقديم العقل على النقل التي عرف بها المعتزلة (1)، الذين حدوه بما لا يعلم كونه صدقاً أو كذباً (2) ، و اتفقوا على عدم الاحتجاج بما جاء في باب العقائد ، و ما خالف العقل منه ، و إن حكم أهل الصنعة الحديثية بصحته (3).
بينما ذهب بعضهم إلى إنكار حجيته في أمور الدين أصوله و فروعه مطلقاً (4)، و عدّ – عند المعتزلة - متساهلاً في ذلك من قبله بشروط كانضمام خبر أخر من أخبار الآحاد إليه ، أو اعتضاده بموافقة ظاهر الكتاب ، أو ظاهر خبرٍ آخر ، آو انتشاره بين الصحابة ، أو عمل بعضهم بمقتضاه (5) .
و على الرغم من أن مدرسة الاعتزال قد اندرست باعتبارها إحدى الفرق التي كان لها شأن أيام العباسين ، إلا أن بعض آرائها تناقلتها الأجيال ، و ظل يتشبث بها البعض حتى يومنا هذا .
و من هذه الآراء إنكار حجية أخبار الآحاد ، و هو ما ارتضته المدرسة العقلية الحديثة في تعاملها مع السنة النبوية ، فردت أحاديث عديدة بدعوى أنها أخبار آحاد ، لا يعتد بها في تقرير مسائل الاعتقاد .
قال الشيخ محمد عبده : (( و أما ما ورد في حديث مريم و عيسى ، من أن الشيطان لم يلمسهما (6)، و حديث إسلام شيطان النبي - صلى الله عليه وسلم - (7)
__________
(1) ... المعتزلة : فرقة كلامية ، رأسها واصل بن عطاء ، و قد سموا بالمعتزلة بعد ان اعتزل واصل مجلس الحسن البصري رحمه الله ، و قوله : ( إن صاحب الكبيرة في منزلة بين الإيمان و الكفر ) . و من مشائخ المعتزلة القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني ( ت : 415 هـ / 1024 م ) ، و أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي ( ت : 303 هـ / 915 م ) ، و أبو الحسين محمد بن علي الطيب البصري ( ت : 436 هـ / 1044 م ) . و أصول دعوة المعتزلة خمسة يتفق بعضها في الاسم مع ما عند أهل السنة و الجماعة ، و يفترق عنه في المضمون ، و هي التوحيد ، و العدل ، و الوعد و الوعيد ، و المنزلة بيمن المنزلتين ، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر .
انظر : الملل و النحل ، للشهرستاني : 1 / 48 و ما بعدها .
(2) ... انظر : شرح الأصول الخمسة ، للقاضي عبد الجبار الهمذاني ( نشر مكتبة وهبة ، القاهرة 1384 هـ /
1965 م ) ، ص : 769 .
(3) ... انظر : الأمين الصادق الأمين : موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية ( الطبعة الأولى ، مكتبة الرشد ، الرياض 1418 هـ / 1998 م ) : 1 / 129 ، 130
(4) ... انظر : المرجع السابق ، ص : 126 .
(5) ... انظر : المرجع السابق ، ص : 131 .
(6) ... حديث صحيح ، متفق عليه :
أخرجه البخاري ( 3286 ) في بدء الخلق ، باب : صفة إبليس و جنوده ، و في ( 4548 ) التفسير ، سورة آل عمران ، باب : قوله تعالى { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } ] آل عمران : 36 [ ، و مسلم ( 2366 ) في الفضائل ، باب : فضل عيسى عليه السلام ، و غيرهما من طرق عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
(( كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولادته ؛ إلا مريم و ابنها )) . و في رواية : (( ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان ، فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم و أمه )) ، ثم قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : اقرؤا إن شئتم : { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } ] آل عمران : 36 [ )) .
(7) ... حديث صحيح ثابت :
روي هذا الحديث عن عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم عائشة أم المؤمنين ، و عبد الله بن مسعود ، و شريك بن طارق - رضي الله عنهم - أجمعين :
فأما حديث عائشة رضي الله عنها :
أخرجه مسلم ( 2815 ) في صفات المنافقين و أحكامهم ، باب : تحريش الشيطان ، و بعثه سراياه لفتنة الناس ، و أن مع كل إنسان قرينا ، و لفظه :
(( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها ليلا ، قالت : فغرت عليه ، فجاء فرأى ما أصنع ، فقال : مالك يا عائشة ؟! أغرت ؟ " فقلت : و ما لي لا يغار مثلي على مثلك ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أوقد جاءك شيطانك ؟ قالت : يا رسول الله ! أو معي شيطان ؟ قال نعم قلت : و مع كل إنسان ؟ قال : نعم قلت : و معك يا رسول الله ؟! قال : نعم ، و لكن ربي أعانني عليه حتى أسلم )) .
و أما حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : =
= ... أخرجه مسلم ( 2814 ) في صفات المنافقين ، باب : تحريش الشيطان و بعثه سراياه لفتنة الناس ، و أحمد في " مسنده " 1 / 385 و 397 و 401 و 460 ، و غيرهما ، و لفظه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
(( ما منكم من أحد إلا و قد وكل به قرينه من الجن )) ، قالوا : و إياك ، يا رسول الله ؟! قال : (( و إياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير )) .
أما حديث شريك بن طارق - رضي الله عنه - :
أخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " 4 / 239 ، و ابن حبان في " صحيحه " ( 6416 ) ، و البزار
( 2439 ) ، و الطبراني في " الكبير " ( 7222 و 7223 ) من طريقين عن زياد بن علاقة عنه ، و لفظه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
(( ما منكم أحد إلا و له شيطان )) ، قالوا : و لك يا رسول الله ؟! قال : (( و لي ، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم )) .(/4)
، و إزالة حظ الشيطان من قلبه (1) ، فهو من الأخبار الظنية ، لأنه من رواية الآحاد ، و لما كان موضوعها عالم الغيب من قسم العقائد ، و هي لا يؤخذ فيها بالظن ، لقوله تعالى : { إن الظن لا يغني من الحق شيئاً } [ النجم : 28 ] ، فإننا غير مكلفين بالإيمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا ))(2) .
و ذهب مثل هذا المذهب أتباع المدرسة العقلية الحديثة في البوسنة ، و في مقدمتهم الأستاذ حسين جوزو ، رئيس علماء البوسنة في مطلع القرن الخامس عشر الهجري .
وترتب على إنكار حجية أخبار الآحاد عند حسين جوزو و من وافقه من علماء البوسنة مقالاتٌ فاسدة من أبرزها :
إنكار ما ثبت من خوارق العادات بما فيها معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و عدم الإيمان بإمكانية وقوعها أصلاً ، و رد النصوص الواردة في ذلك .
فهاهو الأستاذ حسين جوزو ينكر معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - جملةً و تفصيلاً ، و يقول : (( بنزول القرآن الكريم تفقد المعجزة المادية أهميتها و القرآن هو معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الوحيدة … و لا مبرر لتصديق بعض الروايات الضعيفة التي تنسب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - معجزات غير القرآن ، لأن كل أخبار المعجزات … لا ترتقي إلى درجة الصحة التي تلزمنا بقبولها )) (3) .
و يقول أيضاً : (( إنَّ الإسلام لم يستخدم المعجزة في إثبات نبوَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لأن المعجزة لا أهمية لها في عهد القرآن . لقد انتهى دور تلك المعجزات في زمن الإسلام ، و بدأ عصر الإعجاز العلمي )) (4) .
و يُضيف قائلاً : (( من المعروف أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يستعن بالمعجزات أبداً في دعوته ، و ما جاء من روايات تثبت بعض معجزاته مجرَّد حكايات لا أصل لها )) (5) .
و في مقام آخر يخاطب الشيخ حسين قراءه متهكّماً بمن يؤمن بكرامات الأولياء بقوله :
(( ألم يكن غزو المغول و وحشيَّتهم ، و الحروب الصليبيَّة ، و العدوان الإسرائيلي فرصةً مواتية لإظهار حقيقة الكشف و قيمة الكرامات !!
إنَّ ذلك لم يتم بل بقيت الخرافات و الحكايات المختلقة عن الكشف و الكرامات ، مجرَّد روايات لا تزال تروى إلى اليوم في المجتمعات المتخلِّفة )) (6) .
فهو إذن ينظر إلى الكرامات بعقله المجرّد ، فلا يرى لها أثراً ملموساً في حياة الناس ، و يرى هذا دليلاً كافياً على كونها ضرب من الخيال الذي يتردد في أذهان المتخلّفين .
كما يلاحظ أنه يقرن بين الكشف و الكرامات و كأنهما مسميان لذات الشيء ، و في هذا مغالطة علميّة ، إذ إن الكشف عند من يعتقده نوع من الاطلاع على المغيبات ، و القول به مما ينافي عقيدة أهل السنة ، و لا صلة له بما يثبتونه من كرامات للأولياء ألبتة .
إنكار جملةٍ من علامات قيام الساعة الثابتة بصريح و صحيح السنة النبوية الشريفة ، كمسألة نزول عيسى عليه السلام ، و ظهور مهدي آخر الزمان .
يقول الأستاذ حسين جوزو :
(( هناك عدد كبير من الأحاديث التي تذكر نزول عيسى عليه السلام ثانية إلى الأرض ، و حكمه بالشريعة الإسلامية ، و عملاً بتلك النصوص أصبح الاعتقاد بنزول عيسى عليه السلام حقيقة ، و ورد ذكره في كافة كتب العقيدة )) (7) .
ثم يستدل على إنكار هذه العقيدة بكلام ينسبه للشيخ محمد الخانجي رحمه الله يذكر فيه ما ذكره أهل العلم من علامات قيام الساعة كنزول عيسى عليه السلام ، و قتله الدجال ، و ظهور المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً بعد ما ملئت ظلماً و جوراً .
__________
(1) ... حديث صحيح :
أخرجه مسلم ( 162 ) ( 261 ) في الإيمان ، باب : الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و أحمد 3 / 121 و 149 و 288 ، و أبو يعلى في " مسنده " ( 3374 و 3507 ) ، و ابن حبان في " صحيحه " ( 6334 و
6336 ) ، و غيرهم ، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، قال :
(( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل ، و هو يلعب مع الغلمان ، فأخذه فصرعه ، فشق قلبه ، فاستخرج منه علقة فقال : هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم لامه ، ثم أعاده في مكانه ، و جاء الغلمان يسعون إلى أمه – يعني : ظئره – فقالوا : إن محمدا قد قتل ، فاستقبلوه منتقع اللون .
قال أنس - رضي الله عنه - : قد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره - صلى الله عليه وسلم - )) .
(2) ... تفسير المنار ، لمحمد رشيد رضا 3 / 392 .
(3) ... الفتاوى المعاصرة ، لحسين جوزو ، ص : 48 .
(4) ... حسين جوزو : الإسلام و العصر ، ص : 160 .
(5) ... المرجع السابق ، ص : 185 .
(6) ... المرجع السابق : 153 .
(7) ... انظر : الفتاوى المعاصرة لحسين جوزو ، ص : 48 .(/5)
و يستغرب الشيخ الخانجي - فيما ينسبه إليه حسين جوزو - اعتقاد المسلمين بنزول المسيح و ظهور المهدي رغم أن ما ورد في نزول عيسى عليه السلام ـ بما في ذلك حديث رواه البخاري في صحيحه ـ أخبار آحاد ، و ليست من قبيل التواتر ، فلا تصلح لإثبات العقائد (1) .
أما ظهور المهدي فالأدلة عليه أضعف مما ورد في إثبات نزول المسيح عليه السلام ، و ما قصة ظهور المهدي إلا ضلالة من الضلالات و خرافة من الخرافات يجب تحرير العقيدة الإسلامية منها و من آثارها السلبية في حياة المسلمين بحسب رأي الأستاذ حسين جوزو ، الذي لا يخفى تأثره بدعاة المدرسة العقلية الحديثة في مصر فيما ذهب إليه ، حيث ينسب إلى الشيخ محمود شتلوت (2) و محمد عبده ، و الشيخ المراغي (3) ، و رشيد رضا القول بأن عيسى عليه السلام قد توفي وفاة طبيعية و عليه فلا معنى لاعتقاد نزوله في آخر الزمان .
أما عن المهدي فيرى ـ تبعاً لأحمد أمين ـ أن الإيمان بظهوره آخر الزمان عقيدة شيعية انتقلت إلى أهل السنة ، و عليه فمن الواجب إخراجها من عقائد المسلمين (4) .
و يوافق الأستاذ حسين جوزو في نفي ظهور مهديِّ آخر الزمان غير واحدٍ من العلماء و الكتَّاب البوسنويين ، و من أبرزهم الرئيس علي عزَّت القائل : (( و نحن على ثقة بأنه لا يوجد هناك شيء اسمه ( أرض الميعاد ) أو ( زمن المعجزات ) و لا يوجد المهدي الذي ننتظر و عده )) (5).
غير أن ثمة فارق بين دوافع الإنكار لدى كلٍ من الأستاذ حسين جوزو و الرئيس علي عزت ، إذ ينطلق الأول من منطلق علمي بدافع ما يعتبره تنقية الإسلام ممَّا علق به و لا أصل له فيه ، أمَّا الثاني فباعثه على ما قال هو الاصلاح الذي يدعوا إليه ، و يرى أن من واجبه في ذلك تخليص الأمة من المثبطات التي جعلتها تركن إلى الواقع ، و تتعلق بالأوهام ، رافضةً بذل أي جهد – و إن كان بوسعها – بانتظار غائبٍ مرتقب .
و ممن تأثر بهذا الاتجاه العقلي ، فوقع في نفي بعض الأحاديث الدكتور عمر ناكيجفيتش (6) ، عميد كلية الدراسات الإسلامية في يومنا هذا ، حيث أنكر على الشيخ حسن كافي الآقحصاري رحمه الله ذكره بعض ما يكون بين يدي الساعة مما دلَّت عليه السنة الصحيحة ، فقال : ( نجد أن صاحبنا حسن كافي ذكر … بعض علامات يوم القيامة التي تخالف العقل ، و حتى النقل إذا فهمناها بمعنى ظاهري ، و لكن إذا نظرنا إلى معناها المجازي فيمكن فهمها ، غير أن صاحبنا لا يميل المعنى
المجازي … و قد ذكر من بين تلك العلامات خروج يأجوج و مأجوج … و خروج الدجال … و وصف دابة الأرض بأوصاف غريبة ) (7) .
__________
(1) ... أحاديث نزول المسيح عليه السلام في آخر الزمان كثيرة و صحيحة ، منها ما هو في الصحيحين أو أحدهما ، و قد عدَّها بعض العلماء من قبيل المتواتر كما فعل الشيخ محمد أنور شاه الكشميري ، الذي جمعها في جزءٍ ، عنوانه ( التصريح بما تواتر في نزول المسيح ) .
(2) ... محمود شلتوت : تخرَّج في الأزهر ، و درَّس في القسم العالي بالقاهرة ، ثمَّ عين وكيلاً لكلِّية الشريعة . له عضويَّة في هيئة كبار العلماء بمصر ، و مجمع اللغة العربيَّة بالقاهرة ، تولى مشيخة الأزهر حتى وفاته سنة 1383هـ/ 1963 م . من آثاره : الإسلام عقيدة و شريعة ، و الفتاوى ، و توجيهات الإسلام .
... انظر ترجمته في: المستدرك على معجم المؤلفين ، لكحالة : ص 774 ، الأعلام للزركلي 7 / 173 .
(3) ... الشيخ المراغي ، هو : محمد بن مصطفى بن عبد المنعم المراغي ، مفسرٌ و فقيه ، حنفي المذهب ، يأخذ من المذاهب الأخرى ما يناسب العصر و المصلحة ، و لد بالمراغة من صعيد مصر ، و نشأ بها ، ثمَّ انتقل إلى القاهرة و تتلمذ فيها على الشيخ محمد عبده ، اشتغل بالقضاء ، و تولى مشيخة الأزهر حتى و فاته سنة 1364هـ / 1945 م . من آثاره : بحوثٌ في التشريع الإسلامي ، و تفسير سورة الحجرات .
انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي 7 / 324 ، معجم المؤلفين ، لكحالة : 12 / 34 .
(4) ... انظر : الفتاوى المعاصرة ، لحسين جوزو ، ص : 48-52 .
(5) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .
(6) ... الشيخ عمر ناكيجفيتش : شيخ جليل ، و مربٍ فاضل ، و قد شرُفتُ بالتدريس في كلية الدراسات الإسلامية بسراييفو بعد أن أجازني لذلك ، و هو ممَّن أوذي في الله فاعتقل و عُذب فصبر سنين عددا ، غير أن إقراري بفضله و جلالة قدره ، لا يبرر التغاضي عمَّا أراه من زلله و هفواته ، التي أسأله تعالى أن يغفرها له ، و أن يعذره باجتهاده فيها ، لأننا نحب الرجال ، و لكنا نحب الحق أكثر من الرجال . ( الباحث ) .
(7) ... انظر : الدكتور عمر ناكيجيفيتش : الشيخ حسن كافي الآقحصاري ، ص : 181 .(/6)
و زاد الدكتور عمر - غفر الله له - في الإنكار على الشيخ حسن كافي ، و صرَّح بأنه يأخذ عليه ( ذكره بعض الأشياء التي ليست بعيدة عن القصص و الخرافات مثل توالد الشياطين ، و وصف الدجال ) (1)
تقديم العقل على النقل عند دعاة المدرسة العقلية الحديثة في البوسنة :
عرف عن دعاة المدرسة العقدية الحديثة ، ما عرف عن أسلافهم الأقدمين من تحريف الأدلة من نصوص السنة النبوية عن مواضعها ، كالتحريف في (( وجه دلالة النص و معناه ، بإخراجها عن حقائقها مع الافتراء ، بمعنى صرف الأدلة عن وجوه الاستدلال بها ... و منه في المدرسة العصرانية ضغط النص للواقع )) (2) .
و من أنواع تعدي العقلانيين على السنة ، تحريفها بالطعن فيها (3) و إبطال ثبوتها ، و منه الطعن بحديث الآحاد في أبواب الاعتقاد (4) .
يقول الأستاذ حسين جوزو : (( إن مما يدل على أهمية العقل و العلم في الإسلام أنه إذا تعارضت نصوص القرآن الكريم مع العقل ، أو مع نظرية علمية ،
وجب تقديم العقل ، و تأويل النص )) (5) .
و من الأمثلة على موقفهم هذا ما يلي :
أولاً : قول الأستاذ حسين جوزو : (( الحياة في تطور مستمر ، و متطلباته متطورة أيضاً فإذا كان إخراج ربع العشر كافياً لسد احتياجات مجتمع بدوي متخلف قبل ألف و أربعمائة سنة ، فإن ذلك لا يكفي اليوم ، و عليه فلا أظنني مخطئاً حينما أعيد النظر في نسبه زكاة المال ، و نصاب صدقة الفطر )) (6) .
الخلط في فهم نصوص السنة النبوية عند العقلانيين في البوسنة :
يضطرب دعاة المدرسة العقلية عموماًعندما يواجهون بما يرد عليهم ، أو يفند آراءهم الشاذة ، و أمام عجزهم عن القول برد السنة النبوية بالكامل ، نجدهم يسلمون بصحة ما ووجهوا به ، و يأولونه بأهوائهم تهرباً من القول بمقتضاه و يظهر ذلك جلياً في :
أولاً : رفض فهم السلف الصالح لكثير من الأحاديث النبوية :
يقول حسين جوزو بعد الإشارة إلى فهم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لبعض نصوص الشريعة و تطبيقهم لها : (( إن أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و صحابته كان ينظر إليها على أنها ملزمة للأجيال اللاحقة ، و لكن هل يمكن أن يظل الأمر كذلك إلى الأبد ؟ ألم يكن من بينها ما هو خاص بعصرهم ، و مناسب لظروفهم
فقط ؟ )) (7).
... و يقول في موضعٍ آخر : (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطبق قواعد الإسلام و أحكامه في بيئة معيَّنة ، و فترة زمنيَّة محددة ، و لا شك في أنَّ ذلك التطبيق كان ملائماً لتلك البيئة و مستواها الحضاري … و يجب علينا الإقرار بأنَّ تنزيل أحكام الإسلام على الواقع أمرٌ اجتهادي … و كيفيَّة تطبيقها تتغيَّر بحسب ظروف العصر ، و تطور المجتمع )) (8) .
... و انطلاقاً من هذا الفهم لا يستطيع الأستاذ حسين جوزو أن ينظر إلى السنة إلا بعتبارها نموذجاً لتطبيق الإسلام ، لا يلزم الأجيال اللاحقة التقيُّد به ، و أنَّ ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - و صحابته الكرام رضوان الله عليهم من بعده ليس حلاً نهائياً لا يمكن تغييره أو تطويره ، و لكنَّه مجرَّد رأيٍ يمكننا أن نرى غيره مما يتناسب مع العصر الذي نعيشه ، و الحضارة التي نتعامل معها ، و ننتسب إليها (9) .
... و المثال الذي غالباً ما يضربه دعاة التجديد لتغير الأحكام بتغيُّر الظروف و الأزمان هو قضيَّة تعدُّد الزوجات ، الأمر الذي يسعون جاهدين لتحريمه ، و القضاء عليه ، بدعوى عدم صلاحيَّته لهذا الزمان ، و في هذا يقول الشيخ محمد عبده :
(( لا سبيل إلى تربية الأمة مع فشو تعدد الزوجات فيها ، حتى يعيد العلماء النظر في هذه المسألة ، خصوصاً الحنفية منهم الذين بيدهم الأمر ، و على رأيهم الحكم ، فهم لا ينكرون أن الدين أنزل المصلحة الناس و خيرهم و أن من أصوله رفع الضرر و الضرار ، فإذا ترتبت على شيء مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيما قبله ، فلا شك في وجوب تغيير الحكم ، و تطبيقه على الحال الحاضرة )) (10) .
... و مقتضى كلامه هو أنَّ مسألةً – كمسألة تعدد الزوجات – لا يمكن تطبيقها في زمانٍ كزماننا ، و لا تناسب ظروفنا و مستوى ثقافتنا ، و إن كانت صالحة للتطبيق في العصور الغابرة ، و مقبولةً بحسب فهم الأجيال السابقة .
__________
(1) ... انظر : المرجع السابق ، ص : 184 .
(2) ... الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد : الردود ، ص: 157، 158 .
(3) ... انظر : الصواعق المرسلة ، لابن القيم : 1/ 217 .
(4) ... انظر : الدكتور بكر أبو زيد : الردود ، ص : 159 .
(5) ... الإسلام و العصر ، ص : 161 .
(6) ... المرجع السابق ، ص : 513 .
(7) ... المرجع السابق ، ص : 14 .
(8) ... المرجع السابق : 29 .
(9) ... انظر : المرجع السابق : 49 و ما بعدها .
(10) ... تفسير المنار : 4 / 349 – 350 .(/7)
... و ما هذه النظرة المتنكرة لفهم السلف لنصوص الشرع ، و تطبيقهم لها ، بل و لعمل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نفسه ، إلاَّ نتيجة لرأي العقلانيين القائل : إنَّ الالتزام بالسنة و العمل بالحديث على منهج السابقين يعني أننا (( حفرنا للحديث قبره ، و وأدناه فيه )) (1) .
... و ينتهي الأستاذ حسين جوزو إلى أنَّ على المسلمين في مرحلة التجديد و النهضة الإسلاميَّة على طريق العودة إلى الإسلام أن لا نقف عند أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - كأفعالٍ ، بل أن ننظر إلى كيفية فعله لها ، و كيفيَّة تطبيقه للقرآن الكريم ، و تعامله مع القضايا الواقعة و الأمور المستجدَّة في عصره ، علماً بأننا لن نجد في شيءٍ من ذلك حلولاً لكثيرٍ من قضايانا المعاصرة ، لأنه كان يحلُّ قضايا عصره و بيئته ، و علينا نحن أن نجد الحلول المناسبة لقضايا عصرنا و مجتمعاتنا (2) .
ثانياً : عدم الدقة في رواية الحديث و فهم معناه الموجب للتسليم و العمل بمقتضاه :
و من ذلك إشارة الشيخ حسين جوزو إلى حديث (( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها )) (3) بقوله : (( لقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيأتي كل مائة عام من يجدد هذا الدين بفهم جديد ، و تطبيق جديد و مناسب )) (4).
... و فضلاً عن عدم ضبط الأستاذ حسين جوزو لمتن الحديث ، يبالغ في الانتصار لمذهبه ، بإدراج ما يخدم توجهه فيه ، بزيادة (( بفهمٍ جديد ، و تطبيق جديد
مناسب )) ، و هو بذلك ينفرد بفهم جديد لمعنى التجديد الوارد في الحديث ، و الذي فسَّره به الشرَّاح السابقون بإحياء ما اندرس من العمل بالكتاب و السنَّة و الأمر بمقتضاهما ، فالمجدد هو الذي يبين السنة من البدعة ، و في عصر التجديد يكثر العلم و يقوى أهله ، و تقمع البدع و يكسر أهلها (5) .
... و استدلاله على أنَّ الإسلام قد ساوى بين الرجل و المرأة ، و أنَّ المساواة بينهما لا تكون إلا بتأهيل المرأة و تسليحها بالعلم ، بقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : (( طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم و مسلمة )) ، و معلوم أنَّ لفظ ( و مسلمة ) مدرجٌ في الحديث ، و ليس منه (6) ، و لو اقتصر من يروون الحديث بهذه الزيادة على ما روي مسنداً حسنا ، لكانوا أبعد عن الشبهة ، و أبلغ في التعبير عن المراد ، حيث قرر أهل العلم أنَّ الخطاب عامٌ يشمل الرجال و النساء ، و إنمَّا يرد بصيغة التذكير للتغليب لا للتخصيص .
ثالثاً : التقليل من شأن السنة النبوية :
... و ذلك باعتبار أنَّ الحديث النبوي عبارةٌ عن اجتهاداتٍ بشرية من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و ليس وحياً غير متلوٍ كما يقول كثيرٌ من العلماء .
فهاهو الأستاذ حسين جوزو يتساءل : هل كانت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - من اجتهاده البشري ؟ أم أنَّها وحيٌ ربَّاني ؟
__________
(1) ... حسين جوزو : الإسلام و العصر : 31 .
(2) ... المرجع السابق ، ص : 50 و ما بعدها .
(3) ... صحيح : تقدم تخريجه .
(4) ... الإسلام و العصر ، ص : 14 .
(5) ... انظر : عون المعبود : 11/ 386 .
(6) ... انظر : حسين جوزو : الإسلام و العصر ، ص : 476 .
قال السخاوي في " المقاصد الحسنة " ص 277 : ( قد ألحق بعض المصنفين بآخر هذا الحديث " و مسلمة " وليس لها ذكر في شيء من طرقه ، و إن كان معناها صحيحا ) .
قلت : و الحديث بدون هذه الزيادة روي عن عدد من الصحابة ، من طرق كثيرة لا يخلو إسناد منها من ضعف ، فقد نقل المناوي في " فيض القدير " 4 / 267 عن السيوطي قوله : ( جمعت له خمسين طريقا ) .
قلت : و بانضمام هذه الطرق بعضها إلى بعض يرتقي الحديث إلى درجة الحسن إن شاء الله تعالى ، و قد حسنه بعض الأئمة ، و صححه غيرهم ، أذكر عنهم طرفا من ذلك :
قال الذهبي في " تلخيص العلل المتناهية " ( 26 ) : ( روي عن علي و ابن مسعود و ابن عمر و ابن عباس و جابر و أنس و أبي سعيد - - رضي الله عنهم - ، و بعض طرقه أولى من بعض ، و بعضها صالح ، و الله أعلم ) .
و قال المزي فيما نقله عنه الزركشي و وافقه في " اللآلئ المنثورة " ص 43 : ( روي من طرق تبلغ رتبة الحسن ) .
و قال العراقي فيما نقله السخاوي في " المقاصد " ص 276 : ( قد صحح بعض الأئمة بعض طرقه ، كما بينته في تخريج الإحياء ) .
و حسنه السيوطي في " الدرر المنتثرة " ص 130 . بل نقل عنه المناوي في " الفيض " 4 / 267 قوله : ( و حكمت بصحته لغيره ، و لم أصحح حديثا لم أسبق إلى تصحيحه سواه ) .
قلت : و في ذلك نظر ، لما نقلناه عن العراقي قبل .
و نقل ابن عراق في " تنزيه الشريعة " 1/258 عن الحافظ العراقي الشافعي قوله :(حديث حسن غريب). =
= ... و قال الزرقاني في " مختصر المقاصد " ( 614 ) : ( حسن ، و قيل : صحيح ) .(/8)