فيه جواز الشكوى وذكر المرض ما لم يكن ثمة تسخط على أقدار الله جل وعلا .
فيه بركة بصاق النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فيه أن دعا الأنبياء مستجاب غالبا .
فيه أن الأمام يبعث من هو الأصلح والأفضل للمهمة ولا يراعي في ذلك القرابة ولا الوجاهة ولا النسب وليس معنى ذلك أن عليا أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان- رضي الله عنهم - بل لأن المقام اقتضى رجلا كعلي - رضي الله عنه - .
فيه فضيلة عمر- رضي الله عنه - وعلو همته .
فيه جواز طلب الإمامة في الدين .
فيه شجاعة علي وحرصه على الجهاد في سبيل الله .
فيه معنى قوله تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } وأن الجهاد ماض إلى قيام الساعة .
فيه جواز ذكر محاسن الشخص عند أمن الفتنة وسلامته من الكبر والعجب .
فيه طهارة الريق .
فيه وضع الإمام المحفزات لشحذ الهمم إلى معالي الأمور ومكارم الأخلاق .
جواز الرقية بالنفث وأنها لا تنافي التوكل وذلك على القول بأن نفثه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث كان رقية والراجح أن ذلك من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم - .
فيه الأمر بالرفق وعدم العجلة والطيش والتأني في الأمور ودراستها قبل الإقدام عليها .
فيه أن الدعوة إلى الإسلام تأتي أولا وقبل كل شيء .
فيه فقه التدرج في الدعوة إلى الله من الأهم إلى المهم .
فيه أن الدعوة العامة لابد فيها من العلم والفقه والدراية والحنكة وحسن السياسة في التعامل مع الناس والأحداث فالجاهل بهذه الأمور يفسد ولا يصلح .
فيه قرن الدعوة إلى الشهادتين ببيان معناهما ومقتضياتهما ولا سيما في القرون المتأخرة حيث كثر الجهل بمعنى لا إله إلا الله وما تدل عليه من النفي والإثبات .
فيه فضل الهداية وعظيم أمرها .
فيه العمل على إقامة الحجة على العباد .
فيه دليل على وجوب بيان الحجة وتفهيمها للمدعو وإزالة ما يعرض من شبه وإشكالات وتساؤلات .
فيه أن الفضل المترتب على هداية الناس عام للرجال والنساء وإنما خرج الضمير مخرج الغالب .
فيه أنه لا مقارنة بين الدنيا والآخرة .
فيه أن حب الدنيا ليس بمذموم إذا كان العبد قائما بأمر الله فيها .
فيه مشروعيه تقريب الأمر إلى الأفهام بالأمور الحسية المعلومة .
فيه أن الهداية نوعان هداية الدلالة والإرشاد وهي دور الأنبياء والمرسلين والدعاة والمصلحين وهداية التوفيق والإلهام وهي خاصة بالله الواحد القهار .
فيه جواز الحلف من غير استحلاف .
فيه حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - الشديد على هداية العباد .
فيه أن هداية الناس أولى عند الشارع من قتالهم .
فيه الرد على من قال بأن المسلمين لا همة لهم سوى إراقة الدماء ، فإن الدعوة قبل القتال فإن كانوا قد بلغتهم الدعوة فيجوز حينئذٍ قتالهم ابتدآءً فقد جاء هذا في الصحيحين حين أغار النبي صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون .
فيه فضل الجهاد في سبيل الله والصبر عليه .
فيه أن من أحبه الله فلا يضره بعد ذلك من أبغضه أو غلا في حبه .
فيه وجوب بغض من أبغض عليا- رضي الله عنه - وأن حبه من الإيمان .
فيه فقه علي - رضي الله عنه - وسعة علمه وذلك من قوله ( وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه ) .
فيه أن الرجل ينسب لأبيه وإن كان كافرا .
فيه تأدُّب علي - رضي الله عنه - مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث لم يناده باسمه ولا بقرابته منه .
فيه أن لله على عباده حقا عظيما لابد من أدائه والقيام به وإلا كان من أهل النار ألا وهو إفراده تعالى بالعبودية وإفراد نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالاتباع .
فيه أن على العبد إذا جاءه الأمر من الله تعالى أو من رسوله - صلى الله عليه وسلم - ألا يتلكأ ولا يتردد بل يبادر إلى الامتثال والتطبيق والعمل .
فيه إثبات البعث والجزاء والحساب .
فيه معنى اسم الله الحسيب .
فيه أن على العباد أن يقبلوا من الناس ظواهرهم وأن يكلوا سرائرهم إلى الله تعالى مالم يأت من القول أو العمل ما ينافي دين الإسلام .
جواز رفع الصوت عند أهل الفضل للحاجة .
فيه وجوب الاستفصال عند وجود الإشكال .
فيه معنى قوله تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } .
فيه أنه لا اجتهاد مع وجود النص أو ما يقوم مقامه كحضور المشرع - صلى الله عليه وسلم - كما هو الحال هنا .
فيه أن أعظم أمر وأشرف عمل ينبغي للعبد أن يقوم به وأن يفرغ فيه وسعه هو الدعوة إلى الله والحرص على هداية العباد .
فيه الرد على التكفيريين الذين يشتغلون بإصدار الأحكام على العباد من التكفير والتفسيق دون دعوتهم إلى التوحيد والسنة وبيان حقيقة ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب .
فيه تفقد الصحابة بعضهم بعضا .
فيه أن النطق بالشهادتين لا يعصم دم العبد وماله إلا أن يأتي بحقها وإلا لم تنفعه عند الله تعالى .
فيه أن إقامة الحدود من شأن السلطان أو من ينوب عنه .
فيه حرمة دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم إلا بالحق .(/2)
فيه طهارة قلوب الصحابة إذ لم يحسدوا عليا على ذلك بالاعتراض وتمني زوال النعمة والفضل عنه . والله أعلم .
قاله
سليمان بن ناصر العلوان
2 / 2 / 1422 هـ snallwan@hotmail.com(/3)
الفوائد والمعاني المستنبطة من الأحاديث الصحيحة
الحديث الثاني
قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تغضب )
بسم الله الرحمن الرحيم
مواصلة في بيان ما حوته السنة النبوية المطهرة من المعاني العظيمة والفوائد الغزيرة التي ينبغي على العلماء وطلبة العلم التصدي لها لاستخراج كنوزها وبث فوائدها وبيان أسرارها البديعة الصادرة من المشكاة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم .
... فقد ألقى فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان كلمة بتاريخ 1/2/1422هـ عن حديث من أحاديث الرسول الكريم التي جمعت بين البلاغة والإيجاز وعظيم النفع وكبير الفائدة واستنبط منه أكثر من خمسين فائدة فقال حفظه الله تعالى :-
... أخرج البخاري والترمذي من طريق أبي حصين عثمان بن عاصم عن أبي صالح ذكوان السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أوصني قال : ( لا تغضب فردد مراراً قال : لا تغضب ) وروى هذا الحديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد وفيه نظر والمحفوظ ما رواه أبو حصين ولذلك روى البخاري الحديث من إسناده وأعرض عن إسناد الأعمش لكثرة اختلافه على أبي صالح في هذا الخبر كما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة وغيره .
الفوائد
المقصود من ترك الغضب هو اجتناب أسبابه والأمور المفضية إليه .
فيه الأمر بالأخذ بالأسباب .
فيه الرد على الجبرية والقدرية .
فيه قاعدة سد الذرائع وأن الوقاية خير من العلاج .
فيه أهمية جمع المفتي بين العلم والعقل فيعطي كل مسألة حقها وكل سائل ما ينفعه .
التأدب في السؤال وطلب العلم .
فيه عدم جواز كتم العلم عمن طلبه إلا لمصلحة راجحة .
فيه أن الغضب يمنع العدل في القول والعمل .
فيه أن الذي لا يغضب منضبط الأفعال والأقوال حال رضاه وغضبه .
فيه الحث على حسن الخلق .
فيه الحث على الرضا بالقضاء والقدر .
فيه أن عدم الغضب دليل على وفور العقل وكماله .
فيه معنى قوله تعالى ( وإثمهما أكبر من نفعهما )وتقرير مبدأ المقارنة بين المصالح والمفاسد .
فيه أن هذا من محاسن الشريعة وكمالها .
حرص الصحابة على التفقه في الدين .
فيه معنى قوله صلى الله عليه وسلم اكلفوا من العمل ما تطيقون .
أن الشر كله في الغضب .
أن الغضب منه المحمود ومنه المذموم .
عظم فقه الصحابة حيث لم يفهموا العموم من هذا الخبر بل غضبوا الغضب المحمود وتركوا المذموم على ما علمهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
أن الغضب من الأسباب المفضية إلى الكفر .
وجوب بذل النصح للمسلمين .
أهمية النصيحة وأثرها في المجتمعات .
فيه أن المرء قليل بنفسه كثير بأصحابه فإن المؤمن مرآة أخيه المؤمن فالمرء لا يرى عيوب نفسه غالباً .
أن العبرة بفائدة الكلام ونفعه لا بكثرته وسجعه .
جواز مراجعة العالم في المسألة مع الأدب وحسن الخلق .
أن ترك الغضب والتحكم فيه خلق مكتسب .
مدافعة السنة الكونية القدرية بالسنة القدرية الشرعية .
أن الغضب من الشيطان .
أن القوي هو الذي يملك نفسه عند الغضب .
فضيلة الصبر والحلم .
مشروعية النصيحة بلفظ موجز جامع مانع .
فيه معنى ( أوتيت جوامع الكلم ) .
إنزال الناس منازلهم في النصيحة .
فيه أن النهي عن الشيء أمر بضده أي عليك بالحلم والصبر .
الإخلاص في إسداء النصيحة .
طلب النصيحة إنما يكون من ذوي العقل والرأي والدين .
أن لازم القول في الكتاب والسنة متوجه بخلاف كلام الناس فإنهم لا يؤخذون بلازم قولهم .
فيه أن طلب الوصية والنصيحة رفعة للعبد لا منقصة ولا مذمة فيها .
أن قبول النصيحة من كمال الإيمان .
فيه قياس الناس بأخلاقهم لا بهيئاتهم .
فيه جواز تكرار النصح والوعظ ما لم يبلغ حد السآمة .
فيه معني قوله ( أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل ) .
أن النهي عن الشيء نهي عن أسبابه ومقدماته من باب أولى .
أن من ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً منه فمن ترك الغضب عوض بالحلم .
بيان فضل كظم الغيظ .
الحث على العفو والنصح .
اتساع صدر العالم للمسائل والمراجعات .
تواضع النبي وسعة حلمه وحسن خلقه .
أن الترك يعتبر عملاً .
أن العمل من مسمى الإيمان .
أن العبد يؤجر على أفعال التروك .
أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد في حديثه على ثلاث .
فيه ثبات العالم على أقواله ومبادئه طالما أنه على الحق مهما ألح عليه الناس أو ضغط عليه الواقع . والله أعلم
قاله
سليمان بن ناصر العلوان
10 / 2 / 1422 هـ snallwan@hotmail.com(/1)
الفوائدُ الإيمانية للسَّفَر د. محمد عمر دولة*
الحمد لله الذي جعلَ الدنيا سَفَراً ومَعْبَراً، والآخرةَ مُقاماً ومُستَقَراًّ، والصلاة والسلام على خيرِ مَن ترك الدِّيارَ وخاضَ الأسفارَ وتحدَّى الأخطارَ وقطعَ الفيافي والقِفار؛ إرضاءً للعزيزِ الغفار، وعلى آلِه الأطهارِ وصَحابتِه الأخيارِ وسلَّم تسلِيماً كثيراً.
أخي المسافر الحبيب.. السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وبعد، هذه خَواطري أُهدِيها إليك.. ومَشاعِري في حالِ السفرِ أسُوقُها إليك بِعُجَرِها وبُجَرِها.. لعلَّها تُذهِبُ عنك هَمَّ السفر بل هي خَواطِرُك أنت أيها المسافرُ أُسامِرُك بها؛ فهي منك وإليك؛ فافتَحْ لها قلبَك.. لتِسَافرَ إلى مَرافىءِ السَّعادة ومَنازلِ الأحِبَّة:
بَكَيتُ إِلى سِرْبِ القَطا حينَ مَرَّ بِي ** فَقُلتُ وَمِثلي بِالبُكاءِ جَدِيرُ
أسِرْبَ القَطا هَلْ مَن مُعِيرٍ جَناحَهُ ** لَعَلِّي إلى مَن قد هَوِيتُ[1] أطِيرُ [2]
أسألُ الله العظيمَ ربَّ العرشِ الكريم أنْ يُهَوِّنَ عليك سَفرَك هذا.. ويطوِيَ عنك بُعْدَه، وأنْ يُحقِّقَ لك أمَلَك الذي ترجُوه، ويُبلِّغَك قصدَك الذي تصبُو إليه.. ويُزَوِّدَك البِرَّ والتقوى، وأنْ يرُدَّك إلى أهلِك سالِماً غانِماً.
وإني أستَسْمِحُك أيها الحبيبُ في حديثٍٍ قصيرٍ.. أسألُ الله عزَّ وجلَّ أن يجعلَه سَمَراً مُثْمِراً وبُستاناًً مُزهِراًً، كما قيل:
أتاك حديثٌ لا يُمَلُّ سَماعُهُ ** حَبِيبٌ إلينا نَثْرُهُ ونِظامُهُ
إذا سَمِعَتْه النفسُ زال عَناؤها ** وزال عن القَلبِ الْمُعَنَّى ظَلامُهُ
فبِالكلماتِ تُطوَى المسافاتُ.. وبالأشعارِ تُقطَعُ الأسفارُ، وقد كان العربُ يَعُدُّون الأحاديثَ في الأسْفارِ زاداً ومُعِيناً؛ فيقولُ أحدُهم لصاحبِه في أولِ السَّفرِ يحُثُّه على السَّمَر: "تحملني أم أحملك؟" يريد: تحدِّثني أو أحدِّثك. وكأني أسمعك الآن يا صاحِ.. ولسانُ حالِك يقول:
خَفِّفِ السَّيْرَ واتَّئِدْ يا حادِي ** إنَّما أنتَ سائقٌ بفُؤادي
يا سَمِيري رَوِّحْ بِمَكَّةَ رُوحي ** شادِياً إنْ رَغِبْتَ في إسْعادي
آهِ لو يَسْمَحُ الزَّمانُ بعَوْدٍ ** فعَسَى أنْ تعُودَ لِي أعْيادي
وقد روى البخاري رحمه الله من حديثِ سلمة بن الأكْوَع رضي الله عنه قال: خرجتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فسِرْنا ليلا فقال رجلٌ من القوم لعامر: يا عامِرُ ألا تُسْمِعُنا؟) وعند ابن إسحاق من حديث نَصر بن دهر الأسلمي أنه سمع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول في مَسِيرِه إلى خيبر لعامِر بن الأكْوَع وهو عم سَلَمة بن الأكْوَع: (انْزِلْ يا ابنَ الأكْوَع؛ فاحْدُ لنا مِن هُنَيهاتِك)[3]؛ قال ابنُ حَجر رحمه الله: "ففي هذا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرَه بذلك".[4] و"في رواية أحمد: (فجعل عامر يرتجز ويسوقُ الرِّكاب)، وهذه كانت عادتهم إذا أرادوا تنشِيطَ الإبلِ في السَّيرِ: ينزلُ بعضُهم فيُسُوقُها ويحدو في تلك الحال".[5]
وما زال الكتابُ للمُسافرِ نِعْمَ المسامِر، ورَحِمَ الله شوقي حيث قال:
أَنا مَن بَدَّلَ بِالكُتْبِ الصِّحابا ** لَم أَجِدْ لي وافِياً إِلا الكِتابا
صاحِبٌ إِنْ عِبْتَهُ أَو لَم تَعِبْ ** لَيسَ بِالواجِدِ لِلصاحِبِ عابا
كُلَّما أَخلَقْتُهُ جَدَّدَنِي ** وَكَسانِي مِن حِلى الفَضلِ ثِيابا
صُحبَةٌ لَم أَشْكُ مِنها رِيبَةً ** وَوِدادٌ لَم يُكَلِّفْنِي عِتابا
رُبَّ لَيلٍ لَمْ نُقَصِّر فيهِ عَن ** سَمَرٍ طالَ عَلى الصَّمتِ وَطابا
فيُسعِدُني أخي الحبيب.. أنْ أكونَ حادِيَك في هذا السَّفر.. وصاحبَك في هذا السَّمر.. وأنْ أستفتحَ بالفوائد الإيمانية للسَّفر.. وما أحلَى السَّمرَ على جناحِ السفر
يا ذاهِباً حيثُ لا نَدْري لهُ خَبَرا ** تَفِدي لنا ذاهباً نَدرِي لهُ خَبَرا
يَزيدُ مَرُّ اللَّيالِي في مَوَدَّتِهِ ** كالغُصْنِ يوماً فيوماً طالَ وانتَشَرا
يا أيُّها الرَّاحِلُ الْمَيمُونُ طائِرُهُ ** أَرَى وِدَادَكَ لا يَستَعمِلُ السَّفَرا
لكَ الْمُطَوَّلُ من شَوقِ المُحِبِّ وإِنْ ** كانَ الكِتابُ الذي يُهْدِيهِ مُختَصَرا
فالسَّفرُ يا صاحِ.. ليس مُجرَّدَ رِحلةٍ من مكان إلى مكانٍ.. أو انتِقالٍ في فترةِ محدَّدةٍ من الزمان.. بل الأمرُ أعظمُ نَظَراً وأكثرُ عِبَراً.
فالسَّفرُ أيها الحبيب.. يشتَمِلُ على أشواقٍ إيمانيةٍ عظيمةٍ وخواطِرَ ربَّانيةٍ عديدةٍ: منها:
1) التوكُّل على الله عزَّ وجلَّ:
ألا ترى أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد حَثَّ عِبادَه على الأسفارِ؟ (يضربون في الأرضِ يبتغون من فضل الله).[6] ودَعاهم إلى التوكُّلِ عليه ووَعَدَهم مُراغَماً كثيراً وسَعةً، فقال جلَّ جلاله: (ومن يُهاجِرْ فى سَبيلِ الله يَجِدْ في الأرضِ مُراغَماً كثيراً وسَعَةً ومَن يَخرُجْ من بيتِه مُهاجِراً إلى الله ورسولِه ثم يُدْرِكْه الموتُ فقد وَقعَ أجرُه على الله وكان الله غفوراً رحيماً).[7](/1)
قال القرطبي رحمه الله: "اختُلِفَ في تأويلِ الْمُراغَم: فقال مجاهد: المراغم المتزَحزَح،[8] وقال ابن عباس والضحاك والربيع وغيرهم: المراغَم المتحوَّل والمذهَب، وقال ابن زيد: المراغَم المهاجَر، وقاله أبو عبيدة. قال النحاس:[9] فهذه الأقوالُ مُتفِقةُ المعاني؛ فالمراغَم: المذهَبُ والمتحَوَّلُ في حالِ هِجرةٍ، وهو اسمُ الموضِع الذي يراغم فيه".[10] وقال السعدي رحمه الله: "هذا في بيانِ الحثِّ على الهجرةِ والترغيبِ وبيانِ ما فيها من المصالح؛ فوَعَدَ الصادقُ في وَعدِه أنَّ مَن هاجرَ في سبيلِه ابتغاءَ مَرضاتِه أنه يجدُ مُراغَماً في الأرضِ وسَعةً، فالْمُراغَمُ مُشتمِلٌ على مصالِحِ الدِّينِ، والسَّعةُ على مصالِحِ الدنيا؛ وذلك أنَّ كثيراً مِن الناس يتوهَّمُ أن في الهجرةِ شَتاتاً بعد الأُلفةِ وفَقراً بعد الغِنَى وذُلا بعد العِزِّ وشِدةً بعد الرَّخاء. والأمر ليس كذلك".[11]
وقال الرازي رحمه الله: "المشهور أنَّ هذه المراغَمة إنما حصلَت بسببِ أنهم فارقوا وخرجوا عن ديارهم. وعندي فيه وجهٌ آخر: وهو أن يكون المعنى: (ومن يهاجر في سبيل الله) إلى بلدٍ آخر يجدْ في أرضِ ذلك البلد مِن الخيرِ والنعمةِ ما يكون سَبباً لرغمِ أنفِ أعدائه الذين كانوا معه في بلدتِه الأصلية؛ وذلك لأنَّ مَن فارقَ وذهبَ إلى بلدة أجنبيةٍ فإذا استقام أمرُه في تلك البلدة الأجنبية ووصلَ ذلك الخبرُ إلى أهل بلدتِه خجلُوا من سُوءِ مُعاملتِهم معه، ورغمَت أُنُوفُهم بسببِ ذلك. وحمل اللفظ على هذا أقرب من حمله على ما قالوه والله أعلم. والحاصل كأنه قيل: يا أيها الإنسانُ إنك كنتَ إنما تكرهُ الهجرةَ عن وَطنِك خوفاً مِن أنْ تقعَ في المشقة والمحنة في السفرِ؛ فلا تخفْ؛ فإن الله تعالى يُعطِيك من النِّعَمِ الجليلة والمراتبِ العظيمة في مُهاجَرَتِك ما يصيرُ سبباً لرغمِ أُنُوفِ أعدائك؛ ويكون سبباً لِسَعةِ عَيشِك وإنما قُدِّم في الآية ذِكرُ رغمِ الأعداءِ على ذِكرِ سَعةِ العيشِ؛ لأنَّ ابتهاجَ الإنسانِ الذي يُهاجِرُ عن أهلِه وبلدِه بسببِ شِدةِ ظُلمِهم عليه بدَولَتِه من حيث إنها تصِيرُ سَبباً لِرَغمِ أنوفِ الأعداءِ أشدَّ من ابتهاجِه بتلك الدولة من حيث إنها صارت سبباً لِسَعةِ العيشِ عليه".[12]
2) الاستعانة بالله جلَّ جلاله:
ففي السَّفرِ تزدادُ فاقةُ العبدِ إلى مولاة؛ فيُهرَع من غَفلتِه إلى الاستِعانةِ بالله عزَّ وجلَّ، ويظهرُ منه صِدقُ التوجُّهِ إلى الله جَلَّ جلاله بالدعاءِ والتضرُّع؛ فالأسفارُ تزيدُ من شُعُورِ الإنسانِ بالفَقرِ والاضطِرار؛ فيتذكَّرُ قولَ الله عزَّ وجل: (أمَّنْ يُجِيبُ المضطرَّ إذا دعاه ويكشفُ السُّوء ويجعلُكم خُلَفاءَ الأرض أءلهٌ مع الله قليلا ما تذَكَّرون أمَّن يَهدِيكم في ظُلماتِ البرِّ والبَحرِ ومَن يُرسِلُ الرياحَ بُشراً بين يَدَيْ رحمتِه أءلهٌ مع الله تعالى الله عما يُشرِكون).[13]
ومَن خَبِرَ الأسفارَ وجرَّبَ ما فيها مِن الأخطارِ؛ عَلِمَ أنَّ العَبدَ أحْوَجُ ما يكونُ إلى الاستعانةِ بربِّه في رَحلاتِ البرِّ والبَحرِ والجوِّ؛ ليقينِه أنه لا يقدِرُ على حِفظِه إلا ربُّ العالَمِين؛ (فالله خيرٌ حافظاً وهو أرحَمُ الراحِمين).[14] فالمسافرُ يستحضرُ حينَئذٍ قولَ الله عزَّ وجلَّ: (وإذا مَسَّكم الضُّرُّ في البحرِ ضلَّ من تدعُون إلا إياه).[15] ويتذكَّرُ في تلك الحال قولَه جلَّ جلاله: (قلْ مَن يُنَجِّيكم من ظُلماتِ البَرِّ والبَحرِ تدعُونه تضَرُّعاً وخُفيةً لئن أنْجانا مِن هذه لَنَكُونَنَّ من الشاكِرين قُل الله يُنَجِّيكم منها ومِن كلِّ كَرْبٍ ثم أنتم تُشرِكُون).[16]
ولله ما أعظمَ سَفرَ العَبدِ مِن حُظوظِ نَفسِهِ إلى الاستعانةِ بربِّه وما أحسنَ ارتحالَه عن دَعواهُ إلى حَولِ الله وقُوَّتِه وقُدرتِه وغِناه حيث يقبلُ على الله عزَّ وجل بكُلِّيَّتِه، مُعْتَرِفاً بِعَجْزِه وضَعفِهِ وفَقرِه، مُتبرِّئاً من حَوْلِه وقُوَّتِه، كما قال ابن القيم رحمه الله: "فأولُ طريقِها أنْ تعرفَ الله وتهتديَ إليه طريقاً يُوصِلُك إليه ويحرقُ ظُلماتِ الطَّبعِ بأشِعةِ البصيرة؛ فيقوم بقلبِه شاهِدٌ مِن شَواهدِ الآخرة فينجذب إليها بكُلِّيتِه ويزهدُ في التعلُّقاتِ الفانية ويدأبُ في تصحيحِ التوبةِ والقيامِ بالمأموراتِ الظاهرةِ والباطنةِ وتركِ المنهِياتِ الظاهرةِ والباطنةِ، ثم يقومُ حارِساً على قلبِه؛ فلا يُسامِحُه بخطرةٍ يكرَهُها الله ولا بِخَطْرةِ فُضولٍ لا تنفعُه؛ فيصفُو بذلك قلبُه عن حديثِ النفسِ ووَسْواسِها؛ فيُفدَى مِن أسْرِها ويصيرُ طليقاً؛ فحينئذ يخلو قلبُه بذِكْرِ ربِّه ومحبتِه والإنابةِ إليه، ويخرجُ مِن بين بُيوتِ طَبعِه ونفسِه إلى فضاءِ الخلوةِ بربِّه وذِكْرِه، كما قيل:
وَأَخرُجُ مِن بَينِ البُيوتِ لَعَلَّنِي ** أُحَدِّثُ عَنكِ النَفسَ في السِرِّ خالِيا [17](/2)
فحينئذ يجتمع قلبه وخَواطِرُه وحديثُ نفسِه على إرادةِ ربِّه وطَلبِه والشوق إليه".[18]
3) الشهادةُ لله بالوحدانيةِ والتفرُّدِ بالنَّفعِ والضُّر:
وفي السَّفرِ إذا أنتَ أمعَنتَ النظر.. شهادةٌ من العبدِ لله ربِّ العالَمِين ـ بلسانِ الحالِ والمقالِ ـ بأنَّه اللهُ الأحدُ الصَّمد الذي لم يَلِدْ ولم يُولَدْ ولم يكنْ له كُفواً أحَد. فالعبدُ المسافرُ الفقيرُ إلى ربِّه يستحضرُ ـ وهو يضربُ في الأرض يبتغي من فضلِ الله ـ وحدانيةَ الله عزَّ وجل وتَفرُّدَه بالإجابةِ واختِصاصَه بالحفظِ والرِّزقِ والنَّفعِ والضُّر ويعلم أنه (ما يَفتحِ الله للناسِ من رحمةٍ فلا مُمْسِكَ لها وما يُمْسِكْ فلا مُرسِلَ له من بعدِه وهو العزيزُ الحكيم).[19] ويوقنُ بأنَّ مَصِيرَه بين يَدَيْ ربِّه؛ فلِسانُ حالِه: (وإنْ يَمْسَسْك الله بضُرٍّ فلا كاشِفَ له إلا هو وإنْ يُرِدْك بخيرٍ فلا رادَّ لفضلِه يُصِيبُ به مَن يشاء مِن عِبادِه وهو الغفورُ الرحيم).[20]
ولا عَجبا.. فالعبدُ يشعرُ في السَّفرِ بِقُربِه من ربِّه؛ فيزدادُ يقيناً بأنه لا يحفظُه في هذه الرحلةِ ـ البرِّيةِ أو البحرية أو الجوية ـ إلا الله، ولا يُنجِيهِ من العَطبِ في هذا السَّفرِ إلا الله (أمَّن يُجيبُ الْمُضطرَّ إذا دَعاه)؛[21] فهو يَدْعُوه مِن أعماقِ قلبِه خاشِعاً خاضِعاً مُنِيباً لا يتوجَّهُ إلى غيرِه ولا يرجو سِواه، كما أخبرَ الله عزَّ وجلَّ عن ذلك بقولِه: (ربُّكم الذي يُزجي لكم الفُلك في البحر لتبتغوا من فضلِه إنه كان بكم رحيماً وإذا مسَّكم الضُّرُّ في البحرِ ضلَّ من تدعُون إلا إياه فلما نجاكم إلى البرِّ أعرضتم وكان الإنسانُ كفورا).[22] وقال جلَّ جلاله: (وإذا مسَّ الإنسانَ ضُرٌّ دعا ربَّه مُنيباً إليه ثم إذا خوَّلَه نِعمةً منه نسِيَ ما كان يدعو إليه من قبلُ).[23]
ولا تسألْ عن قَلبٍ فارقَ جَسَدَه وانفكَّ من قَيدِه وسَافرَ إلى ربِّه صادِقاً مُنِيباً كما قال ابنُ القيم رحمه الله: "فحينَئذٍ يقومُ القلبُ بين يدي الرحمن مُطرِقاً لِهَيبَتِه خاشِعاً لِعَظَمتِه عانٍ لِعِزَّتِه فيسجد بين يدي الملك الحقِّ المبينِ سَجدةً لا يرفعُ رأسَه منها إلى يومِ المزيد؛ فهذا سَفرُ القلبِ وهو في وَطنُه ودارُه ومحلُّ مُلكِه؛ وهذا من أعظمِ آياتِ الله وعجائبِ صُنعِه فياله من سَفرٍ ما أبْرَكَه وأرْوَحَه وأعظمَ ثَمرتَه ورِبْحَه وأجلَّ مَنفعتَه وأحسنَ عاقبتَه سفرٌ هو حياةُ الأرواح ومفتاحُ السعادة، وغَنِيمتُه العقولُ والألباب لا كالسفرِ الذي هو قطعةٌ من العذاب" [24]
4) استحضارُ السفرِ إلى الله عزَّ وجل:
ومِن فوائدِِ السفرِ.. أنه يُذكِّرُنا بِسَفَرٍ عظيمٍ جليلٍ.. يغفلُ عنه كثيرٌ من المسافرين في زماننا إنه أخي الحبيب.. السَّفرُ إلى الله عزَّ وجلَّ، فقد قال جلَّ جلاله: (فَفِرُّوا إلى الله إنِّي لكم منه نذِيرٌ مُبِينٌ)،[25] قال البخاري رحمه الله: "(ففِرُّوا إلى الله): مَعناه مِن الله إليه".[26] وقال الرازي رحمه الله: "فلا دافِعَ للحاجاتِ إلا هو، ولا مُعْطِيَ للخيراتِ إلا هو؛ فعند مُشاهَدَةِ هذه الحالةِ يَفِرُّ العَبدُ مِن نفسِه ومِن كلِّ شيءٍ سِوى الحق؛ فيُشاهِد في هذا الفِرارِ سِرَّ قولِه: (فَفِرُّوا إلى الله)".[27] و"عادةُ المديونِ[28] أنه إذا رأى صاحِبَ الدَّيْنِ من البُعْدِ فإنه يَفِرُّ منه؛ والله الكريم يقول: عبادي أنتم غُرَمائي بِكَثرةِ ذُنوبِكم؛ ولكنْ لا تفِرُّوا منِّي، بل أقول: (فَفِرُّوا إلى الله)؛ فإنِّي أنا الذي أقضِي دُيُونَكم وأغفرُ ذُنُوبَكم" [29] وقال ابن الجوزي والشوكاني رحمهما الله: "(فَفِرُّوا إلى الله) بالتوبةِ من ذُنوبِكم".[30] وقال القرطبي رحمه الله: "قال سَهلُ بن عبد الله: فِرُّوا مما سِوى الله إلى الله".[31]
وقد قال عزَّ وجل حِكايةً عن خليلِه إبراهيم إمام الحنيفية عليه الصلاة والسلام: (وقال إني مُهاجِرٌ إلى ربي إنه هو العزيزُ الحكيم).[32]
وما أحسنَ ما قاله الزمخشري وهو يتوجه إلى المجاوَرَة في مكة المكرمة:
يا من يُسافرُ في البلادِ مُنقِّباً ** إنِّي إلى البلدِ الحرامِ مُسافِرُ
إنْ هاجرَ الإنسانُ عنْ أوطانِه ** فاللهُ أولَى مَن إليه يُهاجَرُ
وتجارةُ الأبرارِ تلك ومَن يَبِعْ ** بالدِّينِ دُنياهُ فنِعْمَ التاجِرُ
خرَّبْتُ هذا العُمْرَ غيرَ بَقِيةٍ ** فلعلَّنِي لكِ يا بَقِيَّةُ عامِرُ [33]
فليتك أيها المسافِرُ الحبيب.. تتذكرُ أنك مُسافرٌ إلى ربِّك الرحمنِ.. طائعا تائباً لِمَولاك.. الذي آتاك من كلٍّ ما سألتَه.. وأجابك إلى كلِّ ما دَعَوْتَه؟ والذي يقولُ في كتابِه: (قلْ يا عِباديَ الذين أسرَفُوا على أنفُسِهم لا تقنَطُوا مِن رحمةِ الله إنَّ الله يغفرُ الذنوبَ جميعا إنه هو الغفورُ الرحيم وأنِيبُوا إلى ربِّكم وأسلِمُوا له مِن قبلِ أنْ يأتِيَكم العذابُ ثم لا تُنصَرُون).[34](/3)
ولله دَرُّ ابنِ الجوزي ما أحسنَ قولَه: "السَّفرُ سَفَران: سَفرٌ بظاهرِ البدنِ عن الوطن، وسَفرٌ بِسَيرِ القَلبِ عن أسفلِ سافلِين إلى ملكوتِ السموات؛ وهذا أشرف السَّفَرَين".[35] ويؤكِّد هذا المعنى ما كان يدعو به النبيُّ صلى الله عليه وسلم مُصرِّحاً بالأوبة والتوبة إذا رجعَ من سَفرِه إلى المدينة، كما قال أنس رضي الله عنه: (أقبَلْنا مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم حتى إذا كُنا بِظَهرِ المدينة، قال: آيِبُون تائبُون عابِدُون لِربِّنا حامِدُون. فلم يزلْ يقولُ ذلك حتى قَدِمْنا المدينة).[36]
فطُوبَى لنفسٍ سافَرَتْ عن حُظُوظِها وفُكَّتْ مِن قُيودِها حتى زَكتْ وتابَتْ إلى ربِّها وأنابتْ
وألقَتْ عصاها واستقرَّ بها النوى كما قرَّ عَيناً بالإيابِ المسافِرُ
ورَحِم الله ابنَ القيم حيث قال: "تأمَّلْ قولَه تعالى: (وجَعَلَ لكم مِن الفُلكِ والأنعامِ ما تركبُون لتَسْتَوُا على ظهورِه ثم تذكُروا نعمةَ ربِّكم إذا استويتُم عليه وتقولوا سُبحان الذي سخَّرَ لنا هذا وما كُنَّا له مُقرِنِين وإنَّا إلى ربِّنا لَمُنقَلِبُون)[37] كيف نبَّهَهم بالسَّفرِ الحسِّي على السَّفرِ إليه، وجَمعَ لهم بين السَّفَرَين كما جَمَعَ لهم الزادَيْن في قوله: (وتزوَّدُوا فإنَّ خيرَ الزادِ التقوى)؛[38] فجمعَ لهم بين زادِ سَفَرِهم وزادِ مَعادِهم، وكما جَمعَ بين اللِّباسَين في قوله: (يا بني آدم قد أنزَلْنا عليكم لِباساً لِيُوارِي سَوءاتكم وريشاً ولباسُ التقوى ذلك خيرٌ ذلك من آياتِ الله لعلَّهم يذَّكَّرُون)؛[39] فذكرَ سبحانه زينةَ ظَواهِرِهم وبَواطِنِهم، ونبَّهَهم بالحسِّي على المعنوي".[40]
5) السفرُ وهجران المعاصي:
ولو استَحضَرْنا سَفَرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ورِحلتَه المباركة في الهجرة النبوية الشريفة.. لألْفَيناه سَفراً يُجَدِّد لكلِّ مُسلمٍ هِجرتَه إلى الله عزَّ وجل؛ وهذا من أحسنِ معاني السَّفرِ والهجرةِ كما عبَّر عنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقولِه في حديثِ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (المسلمُ من سَلِمَ المسلمون من لسانِه ويدِه، والمهاجِرُ مَن هَجرَ ما نَهى الله عنه).[41]
أخاطرُ بالنفسِ النفيسةِ راكباً ** مُتُونَ السُّرَى والْمَجدُ حَظُّ المخاطِرِ
فصادفتُ خيرَ الناسِ فَرْعاً ومَحْتداً ** وأفضلَ ناهٍ في الزمانِ وآمِرِ
فتًى هامَ بالتقوى فطارَ مُهاجِراً ** إليها ألا قرَّتْ عُيونُ الْمُهاجِرِِ [42]
فذِكْرَى الهجرة تُذكي في نفوسِ الصالحين الحرصَ على هجرانِ المعاصي والإقبالِ على ما يُرضي الله عزَّ وجل، كما قال الشوكاني رحمه الله:
هِجْرَةُ الأَعْلامِ مَنْ قَدْ هَجَروا ** كُلَّ هُجْرٍ خَلَفاً عَنْ سَلَفِ
ورَحِم الله الألبيري حيث قال:
إِذا ما كُنتُ مَكبُولَ الخَطايا ** وَعانِيَها فَمَن لِي بِالبَراحِ؟
فَهَل مِن تَوبَةٍ مِنها نَصُوحٍ ** تُطَيِّرُنِي وَتَأخُذُ لِي سَراحي؟
وَلَولا أَنَّنِي أَرجُو إِلَهي ** وَرَحْمَتَهُ يَئِستُ مِنَ الفَلاحِ
فإنْ صَدقتَ الله في السَّفرِ بالتوبة النصوح.. وعزمتَ على العمل الصالح؛ فَتحَ الله لك الأبواب ويسَّر لك الأسباب؛ فـ"ليس في السفرِ إلى الربِّ تعب: لما سافر موسى إلى الخضر وجد مَسَّ الجوع والنصَب؛ فـ(قال لفتاه آتِنا غداءنا لقد لقِينا من سَفَرِنا هذا نَصَباً)؛[43] فإنه سَفرٌ إلى مخلوق. ولَمَّا واعَدَه ربُّه ثلاثين ليلةً وأتَمَّها بِعَشرٍ فلم يأكُلْ فيها، لم يَجِدْ مسَّ الجوع ولا النصَب؛ فإنه سَفرٌ إلى ربِّه تعالى وهكذا سَفَرُ القلبِ وسَيرُه إلى ربِّه لا يجدُ فيه من الشقاء والنَّصَب ما يَجِدُه في سَفرِه إلى بعضِ المخلُوقِين" [44]
فمَن أراد الله به الخيرَ أيقظَه مِن غَفلتِه وأحيا قلبَه؛ ليسافِرَ إلى عبادةِ ربِّه، ولله درُّ ابن القيم رحمه الله حيث قال: "أولُ منازلِ العُبودية اليَقَظةُ، وهي انزِعاجُ القلبِ لِرَوْعةِ الانتباهِ من رقدةِ الغافلين، ولله ما أنفعَ هذه الرَّوْعةَ وما أعظمَ قدرَها وخَطرَها وما أشدَّ إعانتَها على السلوك فمَن أحسَّ بها فقد أحسَّ والله بالفلاح؛ وإلا فهو في سَكراتِ الغفلة؛ فإذا انتبهَ شَمَّرَ لله بِهِمَّتِه إلى السَّفرِ إلى مَنازلِِه الأولى وأوطانِه التي سُبِيَ منها:
فحَيِّ على جناتِ عَدنٍ فإنها ** مَنازلُك الأولى وفيها المخيَّمُ
ولكنَّنا سَبْيُ العدوِّ فهلْ ترى **نعودُ إلى أوطانِنا ونُسَلَّمُ
فأخَذَ في أُهْبةِ السَّفرِ، فانتقلَ إلى منزلةِ العزمِ: وهو العَقدُ الجازمُ على المسير ومُفارقةِ كلِّ قاطعٍ ومُعَوِّقٍ ومُرافقةِ كلِّ مُعِينٍ ومُوصِلٍ وبحسبِ كمالِ انتِباهِه ويَقظتِه يكون عزمُه وبحسبِ قوةِ عَزمِه يكون استعدادُه".[45]
6) سَفَرُ العِبرة:(/4)
ومن فوائد السفر.. أنه يعين الإنسانَ على الاعتبار بمصائر الأقوام السابقين، ويذكِّرُه بعواقب الظالمين؛ فلذلك سَمَّى العلماء (سَفَرَ العِبْرَة)[46] كما قال الله عزَّ وجلَّ: (أفلم يسيروا فى الأرضِ فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها أو ءاذان يسمعون بها)،[47] قال النسفي رحمه الله: " هذا حَثٌّ على السَّفرِ؛ لِيَرْوا مَصارِعَ مَن أهلَكَهُم الله بِكُفرِهم ويشاهِدُوا آثارَهم؛ فيعتبِرُوا".[48] وقال الزركشي رحمه الله: "قال ابن قتيبة: وهلْ شَيءٌ أبلغُ في العَظمةِ والعِزةِ من هذه الآية؛ لأنَّ الله تعالى أراد (أفلم يسيروا في الأرض) فينظروا إلى آثارِ قومٍ أهلَكَهم الله بالكُفرِ والعُتُوِّ؛ فيَرَوا بُيوتاً خاويةً قد سَقطَت على عُرُوشِها وبئراً يَشرَبُ أهلُها فيها قد عُطِّلَت وقَصْراً بناه مَلِكُه بالشَّيْدِ خَلا من السَّكَنِ وتداعى بالخرابِ؛ فيتعظوا بذلك ويخافوا من عُقوبةِ الله مثل الذي نزل بهم "[49]
وقال الشنقيطي رحمه الله: "بَيَّنَ الله جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنَّ كُفارَ مكة الذين كذَّبوا نبيَّنا صلواتُ الله وسلامه عليه ينبغي لهم أنْ يسيرُوا في الأرضِ؛ فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها أو آذانٌ يسمعون بها؛ لأنهم إذا سافروا مَرُّوا بأماكنِ قومِ صالحٍ وأماكن ِقومِ لوطٍ وأماكنِ قومِ هودٍ؛ فوجدُوا بلادَهم خاليةً وآثارَهم مُنطَمِسةً لم يَبقَ منهم داعٍ ولا مُجِيبٍ؛ لِتكذيبِهم رُسلَهم وكُفرِهم بربِّهم؛ فيُدرِكُون بعُقولِهم أنَّ تكذيبَهم نبيَّهم لا يؤمَنُ أن يُسَبِّبَ لهم مِن سَخطِ الله مثلَ ما حلَّ بأولئك الذين مرُّوا بِمَساكِنِهم خاليةً قد عمَّ أهلَها الهلاكُ وتكون لهم آذانٌ يسمعون بها ما قصَّ الله في كتابه على نبيِّه مِن أخبارِ تلك الأمم وما أصابَها من الإهلاك المستأصِل والتدميرِ؛ فيحذروا أن يحلَّ بهم مثلُ ما حل بأولئك. والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة كقوله تعالى: (أفلم يسيروا فى الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمَّرَ الله عليهم)، ثم بين تهديدَه لكفارِ مكة بما فعلَ بالأممِ الماضية في قوله: (وللكافرين أمثالُها)،[50] وكقوله في قوم لوط: (وإنكم لَتمُرُّون عليهم مُصْبِحِين وباليلِ أفلا تعقلون)".[51]
وقال ابن كثير رحمه الله: "قوله: (أفلم يَسِيرُوا في الأرض): أي بأبدانِهم وبفِكْرِهم أيضا... (فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها أو آذانٌ يسمعون بها): أي فيعتبرون بها؛ (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور): أي ليس العمى عمى البصر؛ وإنما العمى عمى البصيرة؛ وإنْ كانت القوةُ الباصِرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العِبَر ولاتدري ما الْخَبَر وما أحسنَ ما قاله بعض الشعراء في هذا المعنى وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن حيان الأندلسي الشنتريني وقد كانت وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة:
يا من يصيخُ إلى داعي الشقاءِ ** وقد نادى به الناعيان الشيب والكبر
إنْ كنتَ لا تسمعُ الذكرى ففيمَ ترى**في رأسِك الواعِيان السمعُ والبصر؟
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل ** لَم يهدِه الهاديان العينُ والأثر
لا الدهرُ يبقى ولا الدنيا ولا الفلك الأعلى ولا النيِّران الشمس والقمرُ
ليَرحلَنَّ عن الدنيا وإنْ كرها ** فِراقَها الثاوِيان البدوُ والحضرُ "[52]
وقال السعدي رحمه الله: "(أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشدَّ منهم قوةً وآثاراً في الأرضِ فأخذَهم الله بذُنوبِهم وما كان لهم مِن الله مِن واقٍ ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلُهم بالبيِّنات فكفروا فأخذَهم الله إنه قويٌّ شديدُ العِقاب)،[53] يقول تعالى: (أولم يسيروا في الأرض) أي بقلوبِهم وأبدانِهم سَيْرَ نَظَرٍ واعتِبارٍ وتفَكُّرٍ في الآثار؛ (فينظرُوا كيف كان عاقبةُ الذين كانوا مِن قَبلِهم) من المكذِّبين؛ فسيجدونها شرَّ العواقب: عاقبة الهلاك والدمار والخزي والفضيحة (وقد كانوا أشدَّ منهم قوةً) في العَدَد والعُدَد وكِبَرِ الأجسام (و) أشد (آثارا في الأرض)".[54]
ولو نظرتَ إلى السياحة في زمانِنا لوَجدتَها خاليةً ـ أو تكاد ـ من معانيها الإيمانية؛ فما أبعدَ الشُّقةَ بينَنا وبين السلفِ الصالح، فقد فُسِّرت السياحةُ في زمانِهم بِسَفرِ العِبْرَة، كما قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: "قيل: السائحُون هم الذين يتَحَرَّون ما اقتَضاه قولُه: (أفلم يَسِيرُوا في الأرضِ فتكونَ لهم قلوبٌ يعقِلُون بها أو آذانٌ يسمَعُون بها)[55]".[56] قال ابن العربي رحمه الله: "يقال: إنَّ ذا القرنين إنما طاف الأرض ليرى عجائبَها، وقيل: لينفِّذَ الحقَّ فيها".[57]
7) التزود بالتقوى والأخذ بالأسباب:(/5)
ويشتمل السفر.. على إعدادِ العُدَّة والتزوُّدِ والأخذِ بالأسبابِ واستِجماعِ الهمة، وقد ترجَمَ البخاري رحمه الله: [باب حَملِ الزادِ في الغزو وقول الله عزَّ وجل: (وتزوَّدوا فإنَّ خيرَ الزاد التقوى)[58]]، قال ابنُ حجر رحمه الله: "أشار بهذه الترجمة إلى أنَّ حَملَ الزادِ في السَّفر ليس مُنافِياً للتوكُّل".[59]
ولكنْ.. لا يكفي المسافرَ هذا الزادُ الظاهر.. بل هو في أشدِّ الحاجة إلى التقوى.. ذلكم الزادُ الباطنُ المبارَك قال ابن القيم رحمه الله: "قوله: (وتزوَّدُوا فإنَّ خيرَ الزادِ التقوى)[60] في ذِكْرِ الزادِ الظاهرِ الحسِّي والزادِ الباطِنِ المعنوي؛ فهذا زادُ سَفرِ الدنيا، وهذا زادُ سَفرِ الآخرة".[61]
فما من مُسافرٍ أخي الحبيب.. إلا وهو يحملُ من الزادِ ما يَكفِيه ويُغنِيه؛ فبأيِّ شيءٍ يا صاحِ استَعنتَ وبأيِّ زادٍ تزوَّدتَ؟ (ما عندَكم ينفد وما عند الله باق).[62] (وما بكم من نعمةٍ فمِنَ الله ثم إذا مَسَّكم الضُّرُّ فإليه تجأرون).[63]
إِنَّما الدُنيا مَتاعٌ زائِلٌ ** فَاقتَصِدْ فيهِ وَخُذْ مِنهُ وَدَعْ
لَيتَ شِعري ما تَزَوَّدتَ مِنَ **الزادِ يا هَذا لِهَولِ المُطََّلَعْ؟
يَومَ يَهديكَ مُحِبُّوكَ إِلى** ظُلمَةِ القَبرِ وَضِيقِ المُضْطَجَع [64]
أخي المسافر.. هل سألتَ نفسَك: أين ثِمارُ أسفارِنا علينا وعلى أُمَّتِنا؟ ومَن لنا بِمَن يُحيي فينا رُوحَ الهجرة وجَذوةَ الذِّكرى العَطِرة؛ فنَجِدَ لها في حياتِنا ومناهجِنا ثَمرةً وعِبرةً وللهِ دَرُّ ابن القيم حيث قال:
يا قومُ فَرْضُ الهجرتَيْن بِحالِهِ**والله لَم يُنسَخْ إلى ذا الآنِ
فالهجرةُ الأولى إلى الرحمنِ**بالإخلاصِ في سِرٍّ وفي إعلانِ
حتَّى يكون القصدُ وجهَ الله** بالأقوالِ والأعمالِ والإيمانِ
ويكون كلُّ الدينِ للرحمنِ ما ** لِسِواه شيءٌ فيه من إنسانِ
واللهِ هذا شَطرُ دينِ الله ** والتحكيمُ للمُختارِ شَطرٌ ثانِ
والهجرةُ الأخرى إلى المبعُوثِ** بالإسلام والإيمان والإحسانِ
أترون هذي هِجرةَ الأبدانِ لا** والله بلْ هي هِجرةُ الإيمان
8) السفر إلى الدارِ الآخرة:
ومن فوائدِ السَّفر يا صاح.. أنه يُذكِّرُ الغافِلين بالموتِ.. والرحلةِ الأبديةِ.. والبُعدِ عن الأحِبة وفراقِ الدنيا وأهلها ولا يكاد يفطنُ إلى أنَّ وراءَ هذه الرحلةِ رِحلةً أعظم إلا الموفَّقُون من المسافرين؛ ففي سَفَرِ هذا اليومِ وعَنائه ووَعْثائه عِبرةٌ لأهل الفِطنة بِسَفَرِ الغدِ وانقِضاءِ الدنيا:
إنَّ للهِ عباداً فُطَنا ** طلَّقوا الدُّنيا وخافُوا الفِتَنا
نظروا فيها فلمَّا علِمُوا** أنَّها ليستْ لِحَيٍّ وَطَنا
جعلُوها لُجَّةً واتخذُوا**صالِحَ الأعمالِ فيها سُفُنا [65]
فليتنا أخي الحبيب.. كما تأهَّبْنا لهذا السفرِ القريبِ، نستعدُّ لذلك السفرِ البعيد الذي لا ندري مكانَه ولا زمانَه (وما تدري نَفسٌ ما تكسِبُ غداً وما تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموت إنَّ الله عليمٌ خبيرٌ).[66] وتذكَّرْ أخي الحبيب.. قوافلَ المسافرين ومَن سبَقَك من الراحِلِين، ومَن مضى قبلَك مع الماضِين..
إلى متى اللَّهوُ والأحبابُ قد رَحَلُوا ** يا مَن بفانيةِ اللَّذّات يَشتَغِلُ
قد سافرُوا سَفَراً جَدَّ المَسِيرُ بِهِمْ ** فيه فليسَ إلى رُجْعَاهُمُ أمَلُ
باللَّهِ يا راحِلاً نحو الأحبَّةِ سَلْ ** عنهمْ وسَلِّمْ عليهم بعد إِذْ تَصِلُ
وقلْ لَهُمْ إنَّنا عنكم أُسَارى أَسًى ** وعن قريبٍ إليكم نحنُ نرتَحِلُ [67]
وإنَّ هذه الأسفارَ لَتذكِّرُ المؤمن بفراقِ الدنيا ولقاءِ الأحبةِ، ولله درُّ البخاري فقد أنشدَ حين نُعِيَ إليه الحافظ الدارمي:
إنْ عِشْتَ تُفْجَعْ بالأحِبةِ كلِّهِم **وبَقاءُ نفسِك لا أبا لك أفجَعُ [68]
ورَحِم الله أمَّنا عائشة فقد كانت كلما ذكرَتْ أخاها عبدَ الرحمان رضي الله عنهما تَمثَّلَتْ بقولِ مُتمِّم بن نُوَيْرة يرثي أخاه مالكاً:
وكُنّا كَنَدْمانَيْ جُذَيْمةَ حِقْبَةً** من الدَّهرِ حتى قيل لن يتصدَّعا
فلما تفرَّقْنا كأنِّي ومالكاً ** لِطُولِ اجتِماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معا [69]
ومن هنا كان تذكّرُ الموتِ من أقوى البواعِثِ على العُزوف عن الدنيا؛ لاسيما عند ذهاب الصالحين؛ وكأنما قصد البخاريُّ هذا المعنى في ترجمته البديعة في كتاب الرِّقاق: (باب ذهاب الصالحين)، حيث أورد حديث مرداس الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يذهب الصالحون الأول فالأول، وتبقى حُثالةٌ كحُثالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله بالة) [70]
وقال الشاعر:
ألا أيها الموتُ الذي ليس تاركي ** أرِحْنِي فقد أفنَيتَ كلَّ خَلِيلِ
أراكَ بَصيراً بالذين أَوَدُّهُمْ **كأنَّك تَنْحُو نَحْوَهُمْ بدليلِ
وقد روى مالك رحمه الله أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (ما أدري ما أنتم صانعون بعدي؟ فبكى أبو بكر ثم بكى؛ ثم قال: أئنّا لكائنون بعدك؟ )[71]
وقد تمثّل الشعراء هذا المعنى، كما قال شرف الدين بن أبي عصرون:(/6)
أؤمّل أن أحيا وفي كل ساعةٍ **تمرّ بيَ الموتى يُهَزُّ نعوشُها
وهل أنا إلا مثلهم غير أنّ لي **بقايا ليالٍ في الزمان أعيشُها
وليت شعري.. من لم تُذَكِّرْه الأسفارُ بفراقِ الأهلِ والإخوانِ؛ فمتى يتذكَّرُ ويعتبر؟ فهذا والله غافلٌ عن الموتِ؛ وما أحسنَ قولَ الشاعر يرثي أخاه:
عَجَباً يا عَمرو مِن غَفْلَتِنا ** والْمَنايا مُقبِلاتٌ عَنَقا [72]
قاصِداتٌ نَحوَنا مُسرِعةٌ ** يتَخلَّلْنَ إلينا الطُّرُقا
فإذا أذكُرُ فِقدانَ أخي ** أتقلَّبُ في فراشي أَرِقا
وأخي أيُّ أخٍ مثلُ أخي **قد جرى في كلِّ خَيرٍ سَبَقا [73]
وما أحسنَ ما قال بهاء الدين زهير:[74]
فَيا مَن غابَ عَنِّي وَهوَ رُوحي **وَكَيفَ أُطيقُ مِن رُوحي اِنفِكاكا
أَراكَ هَجَرتَنِي هَجراً طَويلاً ** وَما عَوَّدتَني مِن قَبلُ ذاكا
عَهِدتُكَ لا تُطيقُ الصَبرَ عَنّي ** وَتَعصي في وِدادي مَن نَهاكا
فَكَيفَ تَغَيَّرَتْ تِلكَ السََّجايا ** وَمَن هَذا الَّذي عَنِّي ثَناكا
فَلا وَاللَهِ ما حاوَلتَ عُذراً ** فَكُلُّ الناسِ يُعذَرُ ما خَلاكا
وَما فارَقْتَنِي طَوْعاً وَلَكِنْ ** دَهاكَ مِنَ الْمَنِيَّةِ ما دَهاكا
لَقَد حَكَمَتْ بِفُرقَتِنا اللَّيالي ** وَلَم يَكُ عَن رِضايَ وَلا رِضاكا
فَلَيتَكَ لَو بَقيتَ لِضُعفِ حالي ** وَكانَ الناسُ كُلُّهُمُ فِداكا
يَعِزُّ عَلَيَّ حينَ أُديرُ عَينِي ** أُفَتِّشُ في مَكانِكَ لا أَراكا
وَلَم أَرَ في سِواكَ وَلا أَراهُ ** شَمائِلَكَ المَليحَةَ أَو حِلاكا
خَتَمتُ عَلى وِدادِكَ في ضَميري ** وَلَيسَ يَزالُ مَختوماً هُناكا
أَرى الباكينَ فيكَ مَعي كَثيراً ** وَلَيسَ كَمَن بَكى مَن قَد تَباكى
فَيا مَن قَد نَوى سَفَراً بَعيداً ** مَتَى قُلْ لي رُجُوعُكَ مِن نَواكا؟
فَيا قَبرَ الحَبيبِ وَدِدتُ أَنّي ** حَمَلتُ وَلَو عَلى عَيني ثَراكا
سقاك الغيثُ هتَّاناً وإلا ** فحَسبِي من دُموعي ما سقاكا
ولا زال السلامُ عليك منِّي ** يرفُّ مع النسيمِ على ذُراكا
ولله دَرُّ النَّسفي فقد ذَكرَ السَّفَرَ إلى الدارِ الآخرة وقابلَه بسَفرِ الحجِّ "وما فيه من تحمُّلِ الأثقالِ ورُكُوبِ الأهوالِ وخَلْعِ الأسبابِ وقطيعةِ الأصحابِ وهَجرِ البلادِ والأوطان وفرقة الأولاد والخِلاّن, والتنبيه على ما يستمرُّ عليه إذا انتقلَ من دارِ الفناءِ إلى دارِ البقاء؛ فالحاجُّ إذا دخلَ البادية لا يتَّكلُ فيها إلا على عَتادِه ولا يأكلُ إلا من زادِه, فكذلك المرءُ إذا خرجَ من شاطىءِ الحياةِ وركبَ بحرَ الوفاة لا ينفعُ وِحْدَتَه إلا ما سعَى في مَعاشِهِ لِمَعادِه, ولا يؤنِسُ وِحْشتَه إلا ما كان يأنَسُ به مِن أورادِه... والبيتُ الحرامُ الذي مَنْ دَخَلَهُ كان آمِناً مِن الإيذاءِ والقتالِ أنموذجٌ لدارِ السلامِ التي مَنْ نزلَها بقيَ آمِناً مِن الفناءِ والزوالِ غير أنّ الجنّة حُفَّتْ بمكارِهِ النفسِ العادِيَة كما أنّ الكعبةَ حُفَّتْ بمتالِفِ البادِية؛ فمرحباً بمن جاوزَ مهالكَ البوادِي شوقاً إلى اللقاءِ يومَ التنادي" [75]
9) السفر والزهد في الدنيا:(/7)
وقد ضربَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مثلَ الزاهدِ في الدنيا كمثلِ المسافرِ الغريبِ وعابرِ السبيل المنقطِعِ عن أهلِه؛ فيالَه من تشبيهٍ بَليغٍ بَدِيع كما ترجَمَ البخاري رحمه الله في مطلعِ كتابِ (الرِّقاق) ـ بَعْدَ باب (ما جاء في الرِّقاق وأنْ لا عَيشَ إلا عَيشُ الآخرة)[76] ـ باب قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ).[77] قال ابنُ حَجر رحمه الله: "قوله: (كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابِرُ سَبِيل ) قال الطيبي: ليست (أو) للشك بل للتخيير والإباحة، والأحسنُ أن تكونَ بمعنى (بَلْ)؛ فشبَّهَ الناسِكَ السالِكَ بالغريب الذي ليس له مكانٌٌ يأويه ولا مَسكنٌ يسكنه، ثم ترقى وأضْرَبَ عنه إلى عابرِ السبيل؛ لأنَّ الغريبَ قد يسكنُ في بلدِ الغُربةِ بخلافِ عابرِ السبيلِ القاصدِ لِبَلدٍ شاسِعٍ وبينَهما أودِيةٌ مُردِيةٌ ومُفاوِزُ مُهلِكةٌ وقُطاعُ طَريق؛ فإنَّ مِن شأنِه أنْ لا يُقِيمَ لَحظةً ولا يَسكُنَ لَمحةً؛ ومِن ثَمَّ عقَّبَه بقولِه: (إذا أمسَيتَ فلا تَنتَظِر الصباحَ...) الخ، وبقوله: (وَعُدَّ نفسَك في أهلِ القبور)، والمعنى: استَمِرَّ سائراً ولا تغتَرَّ؛ فإنك إنْ قصَّرْتَ انقطَعْتَ وهلَكت في تلك الأودية ... وقال ابنُ بطال: لَمَّا كان الغريبُ قليلَ الانبِساطِ إلى الناسِ بل هو مُستَوْحِشٌ منهم؛ إذْ لا يكاد يَمُرُّ بِمَن يعرفُه مُستأنِساً به؛ فهو ذليلٌ في نفسِه خائفٌ وكذلك عابرُ السبيل لا ينفذُ في سَفرِه إلا بقوتِه عليه وتخفيفِه من الأثقال غيرَ مُتثبِّتٍ بما يمنعُه مِن قَطعِ سَفرِه معه زادُه وراحِلتُه يُبلِّغانه إلى بُغْيَتِه مِن قَصدِه شبهه بهما، وفي ذلك إشارةٌ إلى إيثارِ الزُّهد في الدنيا وأخْذِ البُلغة منها والكَفافِ؛ فكما لا يحتاجُ المسافرُ إلى أكثرَ مما يُبلِّغُه إلى غايةِ سَفرِه فكذلك لا يحتاجُ المؤمنُ في الدنيا إلى أكثرَ مما يُبلِّغُه المحلَّ. وقال غيره: هذا الحديث أصلٌ في الحثِّ على الفراغِ عن الدنيا والزهدِ فيها والاحتقارِ لها والقناعةِ فيها بالبُلْغة. وقال النووي: معنى الحديث: لا تَرْكَنْ إلى الدنيا ولا تتخِذْها وَطَناً، ولا تحدِّثْ نفسَك بالبقاءِ فيها، ولا تتعلَّقْ منها بما لا يتعلقُ به الغريبُ في غيرِ وَطنِه. وقال غيره: عابرُ السبيلِ هو المارُّ على الطريقِ طالباً وَطنَه؛ فالمرءُ في الدنيا كعَبدٍ أرسلَه سيِّدُه في حاجةٍ إلى غيرِ بلد فشأنه أنْ يُبادِرَ بفِعلِ ما أُرسِلَ فيه ثم يعودُ إلى وَطنِه ولا يتعلقُ بشيءٍ غير ما هو فيه، وقال غيرُه: المرادُ أن يُنْزِلَ المؤمنُ نفسَه في الدنيا مَنْزِلةَ الغريبِ؛ فلا يُعَلِّقَ قلبُه بشيءٍ مِن بَلدِ الغُربة، بل قلبُه مُتعلِّقٌ بِوَطنِه الذي يَرجِعُ إليه ويجعلُ إقامتَه في الدنيا لِيَقضِيَ حاجتَه وجهازه للرجوع إلى وطنه؛ وهذا شأنُ الغريبِ، أو يكون كالمسافرِ لا يَستقرُّ في مكانٍ بِعَيْنِه بل هو دائمُ السَّيْرِ إلى بَلدِ الإقامة". [78]
فالسَّفرُ بهذا المعنى الجليل.. يُزّهِّدُ العبدَ في الدنيا ويُذكِّر المؤمنَ برَحِيلِه وسَفَرِ أحبابِه الذين ودَّعُوه ورَحَلُوا عنه؛ فلِسانُ حالِه:
هَبْنِي بَقِيتُ على الأيَّامِ والأبدِ **ونِلتُ ما شئتُ مِن مالٍ ومِن وَلدِ
مَنْ لي برؤيةِ مَنْ قد كُنتُ آلَفُهُمْ **وبالزمانِ الذي ولَّى فلم يَعُدِ؟
ولا يخفى أنَّ في سَلامِ الأحياءِ على الأمواتِ إشارةً إلى الاستِعدادِ للرَّحيلِ واليقينِ به: (السلامُ عليكم أهلَ الدِّيارِ من المؤمنين والمسلمين؛ وإنَّا إنْ شاء الله بكم لَلاحِقُون) [79] وقال صلى الله عليه وسلم: (كنتُ نهيتُكم عن زيارةِ القبورِ فزورُوها؛ فإنَّها تُذكِّرُ الآخرة) [80] وقال صلى الله عليه وسلم: (أكْثِرُوا ذِكْرَ هاذمِ اللَّذَّات) [81]
ورَحِم الله ابنَ القيم حيث قال: "الذي أجمعَ عليه العارِفون: أنَّ الزُّهدَ سَفرُ القلبِ مِن وَطنِ الدنيا، وأخْذُهُ في مَنازلِ الآخرة؛ وعلى هذا صَنَّفَ المتقدِّمُون كُتُبَ الزهد: كالزهد لعبد الله بن المبارك وللإمام أحمد ولوكيع ولهناد بن السري ولغيرهم".[82]
ولله درُّ النوويِّ حيث قال: "إنها دارُ نفادٍ لا محلّ إخلاد، ومَرْكَبُ عُبورٍ لا منْزل حُبور ومَشْرَعُ انفصامٍ لا مَوطنَ دوام؛ فلهذا كان الأيقاظُ من أهلِها هم العُبَّاد وأعقلُ الناس فيها هم الزُّهَّاد... ولقد أحسنَ القائل:
إنَّ لله عِباداً فُطَناً ** طلَّقوا الدُّنيا وخافُوا الفِتَنا
نظرُوا فيها فلمَّا عَلِمُوا **أنَّها ليستْ لِحَيٍّ وَطَنا
جَعلُوها لُجَّةً واتَّخَذوا ** صالِحَ الأعمالِ فيها سُفُنا "[83](/8)
وهذا السفرُ ـ الذي هو زهدُ العبدِ في الدنيا ـ عَلامةُ سلامةِ القلب، كما قال ابنُ القيِّم رحمه الله: "القلبُ الصحيحُ يُؤْثِرُ النافِعَ الشافِيَ على الضارِّ المؤذِي، والقلبُ المريض بضد ذلك... ومن علاماتِ صِحَّتِه أيضا: أنْ يرتحلَ عن الدنيا حتى ينْزِلَ بالآخرة ويحلَّ فيها حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها جاء إلى هذه الدار غريباً يأخذ منها حاجتَه ويعودُ إلى وَطنِه، كما قال عليه السلام لعبد الله بن عمر: (كُنْ في الدنيا كأنك غَريبٌ أو عابرُ سَبيلٍ، وعُدَّ نفسَك من أهل القبور :
فحَيِّ على جناتِ عَدنٍ فإنَّها** مَنازِلُك الأُولَى وفيها الْمُخَيَّمُ
ولكنَّنا سَبْيُ العَدُوِّ فهل تُرى** نعودُ إلى أوطانِنا ونُسَلَّمُ
قال ابنُ أبي طالب رضي الله عنه: إنَّ الدنيا قد ترحَّلَتْ مُدبِرةً وإنَّ الآخرة قد ترحَّلَتْ مُقْبِلةً ولكلٍّ منهما بَنُونَ؛ فكونوا من أبناءِ الآخرةِ ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإنَّ اليومَ عَملٌ ولا حسابٌ، وغدا حِسابٌ ولا عَمل). وكلما عُوفِيَ القلبُ من مَرَضِه ترحَّلَ إلى الآخرةِ وقَرُبَ منها؛ حتى يَصِيرَ مِن أهلِها، وكلما مَرِضَ القلبُ واعتلَّ آثرَ الدنيا واستوْطَنَها؛ حتى يصيرَ من أهلها".[84]
10) السفر والشوق إلى لقاء الله عزَّ وجل:
فالسَّفرُ.. يُشوِّقُ العبدَ الصالِحَ إلى لقاءِ ربِّه الوَدُودِ الرؤوفِ الرحيمِ اللطيفِ الخبير؛ فقد وَعَدَ الله عزَّ وجلَّ عِبادَه بلقائه جلَّ جلاله، فقال الله عزَّ وجل: (من كان يرجُو لقاءَ الله فإنَّ أجلَ الله لآتٍ وهو السميع العليم)،[85] قال بعضُ العارفين: "لَما عَلِمَ الله شوقَ الْمُحِبِّين إلى لقائه ضرَبَ لهم مَوعِداً لِلقاءٍ تَسكُنُ به قُلُوبُهم".[86]
قال السعدي رحمه الله: "يعني: يا أيها المحبُّ لربِّه المشتاقُ لقربِه ولقائه المسارعُ في مرتضاته أبْشِرْ بِقُربِ لقاءِ الحبيب؛ فإنه آتٍ وكل ما هو آت قريب؛ فتزوَّدْ للقائه وسِرْ نحوَه مُستصحِباً الرجاءَ مؤملا الوصولَ إليه ولكنْ ما كلُّ من يدَّعي يُعطَى بدعواه، ولا كلُّ مَن تمنَّى يُعطَى ما تَمناه؛ فإنَّ الله سميعٌ للأصوات عليمٌ بالنيات؛ فمن كان صادقاً في ذلك أناله ما يرجُو، ومَن كان كاذباً لم تنفَعْه دعواهُ وهو العليمُ بِمَن يصلحُ لِحُبِّه ومن لا يصلح" [87]
وقال ابن القيم رحمه الله: "من منازل (إياك نعبد وإياك نستعين) منزلة الشوق، قال الله تعالى: (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت).[88] قيل: هذا تعزيةٌ للمشتاقين وتسليةٌ لهم: أي أنا أعلم أنَّ مَن كان يرجو لقائي فهو مُشتاقٌ إلي؛ فقد أجَّلتُ له أجلا يكون عن قريبٍ؛ فإنه آتٍ لا محالة وكلُّ آتٍ قريب. وفيه لطيفةٌ أخرى وهي تعليلُ المشتاقِين برجاءِ اللقاء:
لولا التعلُّلُ بالرَّجاءِ لقُطِّعَت ** نفسُ المحب صَبابةً وتشوقا
ولقد يكاد يذوبُ مِنهُ قلبُه ** مِما يُقاسي حَسْرةً وتحرُّقاً
حتى إذا رَوْحُ الرجاءِ أصابَه **سَكَنَ الحريقُ إذا تعلَّلَ باللِّقا
وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (أسألك لذةَ النظرِ إلى وجهِك والشوقَ إلى لقائك)".[89]
فالمسافرُ الحقُّ يشتاق إلى رحمةِ الله وجِوارِه، كما روى البخاري رحمه الله في كتاب (الرقاق) عن أبي قتادة رضي الله عنه (أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازةٍ، فقال: مُستَريحٌ ومُستراحٌ منه... العَبدُ المؤمنُ يستريحُ من نَصَب الدنيا وأذاها إلى رَحْمةِ الله عزَّ وجل، والعَبدُ الفاجِرُ يستريحُ منه العِبادُ والبِلادُ والشَّجرُ والدَّوابُّ) [90]
وللهِ درُّ التهامي؛ فقد وُفِّقَ إلى التعبيرِ عن هذا المعنى في رثاءِ ولده فقال:
أبكِيهِ ثم أقولُ مُعتذِراً له ** وُفِّقْتَ حين تركْتَ أَلأَمَ دارِ
جاوَرتُ أعدائي وجاوَرَ ربَّهُ ** شتَّانَ بين جِوارِه وجِواري
ورَحِم الله ابن القيم حيث قال: "الشوقُ: هو سَفرُ القلبِ إلى المحبوبِ أحثَّ السَّفر".[91] "فإذا وَصلَ إليه انتهى السفر:
وألقَتْ عصاها واستقرَّ بِها النوى كما قرَّ عيناً بالإيابِ المسافِرُ "[92]
و"إذا كان الشَّوقُ هو سَفرَ القلبِ في طَلبِ محبوبِه ونُزُوعَه إليه؛ فهو مِن أشرفِ مَقاماتِ العَبِيدِ وأجلِّها وأعْلاها ومَن أنكرَ شوقَ العَبدِ إلى ربِّه فقد أنْكَرَ محبتَه له؛ لأنَّ المحبةَ تستَلزمُ الشوق؛ فالمحبُّ دائما مُشتاقٌ إلى لقاءِ محبوبِه لا يهدأ قلبُه وقرارُه إلا بالوُصُولِ إليه".[93]
ومن ألطفِ قصص الصالحين في تَذكُّرِ القُدُوم على الله بقُدومٍ غائب مِن سفرِهِ أنه "كانت عَجوزٌ مُغِيبَة،[94] فقَدِمَ غائبُها من السَّفر؛ ففرِحَ به أهلُه وأقاربُه، وقَعدَتْ هي تبكي فقيل لها: ما يُبكيك؟ فقالت: ذكَّرَنِي قدُومُ هذا الفتى يومَ القُدومِ على الله عزَّ وجل:
يا مَن شكا شَوقَه مِن طُولِ فُرْقَتِه **اصْبِرْ لعلَّك تلقَى مَن تُحِبُّ غدا "[95](/9)
فأسأل الله العظيمَ ـ أخي المسافر ـ أن يجعلني وإياك ممن هو "مُسافرٌ في ليلِه ونهارِه ويقظتِه ومنامِه، لا يضعُ عَصا السَّير عن عاتقِه حتى يصلَ إلى مَطلبِه، قد رُفِعَ له عَلَمُ الْحُبِّ فشمَّرَ إليه وناداه داعي الاشتياقِ فأقبلَ بِكُلِّيته عليه؛ أجاب منادي المحبة إذْ دعاه حيِّ على الفلاح، ووصلَ السُّرَى في بيداءِ الطلبِ؛ فحَمِدَ عند الوُصُولِ سُراه؛ وإنما يحمدُ القومُ السُّرَى عند الصباح "[96]
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
- - - - -
[1] هوِيت ـ بكسر الواو ـ بمعنى المحبة، وليس بفتحها بمعنى السقوط.
[2] ورحم الله الشيخ العلامة محمد علي الطريفي؛ فقد كان يجيبني بقول المجنون:
وأيُّ قطاةٍ لم تُعِرْك جناحَها ** تعيش بِضُرٍّ والجناحُ كسيرُ!
وتروى هذه الأبيات كذلك للعباس بن الأحنف باختلاف في البيت الأخير:
وَأَيُّ قَطاةٍ لَم تُساعِدْ أَخا هَوًى ** فَعاشَتْ بِضَيْرٍ وَالْجَناحُ كَسِيرُ!
[3] قال ابن حجر: "قوله (من هناتك) بفتح الهاء والنون جمع هنة، ويروي: هُنَيهاتك، وهُنَيَّاتك، والمراد: الأراجيزُ القِصار". فتح الباري 11/137.
[4] صحيح البخاري، حديث3960، فتح الباري 7/465.
[5] فتح الباري 7/466.
[6] المزمل 20.
[7] النساء 100.
[8] قال مجاهد رحمه الله: "(يجد في الأرض مراغما كثيرا): يعني متزحزحا عما يكره". تفسير مجاهد 1/171.
[9] قال النحاس رحمه الله: "المراغم عند أهل اللغة والمهاجر واحد، يقال: راغمت فلانا إذا هجرته وعاديته: كأنك لا تباليه وإن لصق أنفه بالرغام: وهو التراب". معاني القرآن للنحاس 2/174.
[10] تفسير القرطبي 5/347.
[11] تفسير السعدي 1/196.
[12] التفسير الكبير للرازي 11/13.
[13] النمل 62-63.
[14] يوسف 64.
[15] الإسراء 67.
[16] الأنعام 63-64.
[17] البيت من يائية قيس بن ذُرَيح، ومنها:
أَشوقاً وَلَمّا تَمضِ لي غَيرُ لَيلَةٍ ** رُوَيدَ الهَوى حَتّى يَغُبَّ لَيالِيا!
تَمُرُّ اللَيالي وَالشُهورُ وَلا أَرى ** وَلَوعي بِها يَزدادُ إِلا تَمادِيا!
فَقَد يَجمَعُ اللَهُ الشَتيتَينِ بَعدَما ** يَظُنّانِ كُلَّ الظَنِّ أَن لا تَلاقِيا!
[18] مدارج السالكين 3/268. واقرأ بقية كلامه؛ فإنه في غاية النفاسة والنفع رحمه الله تعالى.
[19] فاطر 2.
[20] يونس 107.
[21] النمل 62.
[22] الإسراء 66-67.
[23] الزمر 8.
[24] مفتاح دار السعادة 1/199.
[25] الذاريات 50.
[26] صحيح البخاري (الجزء الخاص بالتفسير) 4/1837.
[27] التفسير الكبير للرازي 1/81.
[28] قال الخليل بن أحمد رحمه الله: "رجلٌ مَدْيُون: قدر رَكِبَه دَينٌ، ومَدِينٌ أجوَد". العين للخليل، مادة (دين).
[29] التفسير الكبير للرازي 1/136.
[30] زاد المسير لابن الجوزي 8/41. وفتح القدير للشوكاني 5/91.
[31] تفسير القرطبي 17/54.
[32] العنكبوت 26.
[33] الأبيات من قصيدتِه الرائية الرائعة التي مطلعها:
قالت لتمنعَنِي المسيرَ تُماضِرُ ** أنَّى لها وغرارُ عزمي باترُ؟
وغِرار السيف: حدَّه.
[34] الزمر 53-54.
[35] مختصر ابن قدامة لمنهاج القاصدين لابن الجوزي ص 129. مكتبة دار البيان، دمشق. ط2، 1420 هـ.
[36] رواه مسلم. ورواه الترمذي رحمه الله عن البراء بن عازب رضي الله عنه. سنن الترمذي (الجزء الخاص في التفسير) 1/498، حديث 3440. باب (ما يقول إذا قدم من السفر).
[37] الزخرف 12-14.
[38] البقرة 197.
[39] الأعراف 26.
[40] إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم 1/227. دار الجيل بيروت، 1973م.
[41] رواه الشيخان.
[42] الأبيات لإبراهيم العاملي المتوفى سنة 1214 هـ.
[43] الكهف 62.
[44] بدائع الفوائد 3/721. مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1416 هـ.
[45] مدارج السالكين 1/123.
[46] تفسير القرطبي 5/350.
[47] الحج 46.
[48] تفسير النسفي 3/107.
[49] البرهان في علوم القرآن للزركشي 2/428.
[50] محمد 10.
[51] أضواء البيان للشنقيطي 5/274.
[52] تفسير ابن كثير 3/228.
[53] غافر 21-22.
[54] تفسير السعدي 1/735.
[55] الحج 46.
[56] المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني 1/246.
[57] راجع سفرَ العِبْرة وغيره من أقسام السفر في أحكام القرآن لابن العربي 1/610 وما بعد. ونقله عنه القرطبي في تفسيره مطولا 5/349 وما بعد.
[58] البقرة 197.
[59] فتح الباري 6/129.
[60] البقرة 197.
[61] التبيان في أقسام القرآن لابن القيم 1/98. طبعة دار الفكر، بيروت.
[62] النحل 96.
[63] النحل 53.
[64] الأبيات لأبي العتاهية إسماعيل بن القاسم المتوفى سنة 211هـ.
[65] وقد استشهد بها النووي رحمه الله في مطلع كتابه القيم (رياض الصالحين).
[66] لقمان 34.
[67] الأبيات لإبراهيم الرياحي التونسي المتوفى سنة 1266هـ.
[68] هدي الساري مقدّمة فتح الباري لابن حجر ص 668.(/10)
[69] ذكر ذلك أبو الحجّاج المزّي في تهذيب الكمال بأسماء الرّجال في ترجمة عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما 16/595. مؤسسة الرسالة. ط1. 1413هـ.
[70] صحيح البخاري ح 6434. راجع فتح الباري 13/30.
[71] الموطأ ص 462. دار الحديث. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
[72] العَنَقُ: ضَربٌ من السَّيرِ.
[73] ذكر الذهبي هذه الأبيات في ترجمة (مندل بن علي العنزي)، وقال: "رثاه أخوه حبّان بتلك الأبيات السائرة..." ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي 4/180. دار المعرفة. بيروت.
[74] المتوفى سنة 656 هـ.
[75] مدارك التنْزيل وحقائق التأويل للنسفي 3/99.
[76] فتح الباري 11/229.
[77] وهي وصية النبيِّ صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنهما. صحيح البخاري، حديث 6053، فتح الباري 11/232.
[78] فتح الباري 11/234-235.
[79] رواه مسلم بعدّة ألفاظ. راجع شرح النووي على مسلم 8/44-45.
[80] رواه مسلم.
[81] رواه الترمذي. وقد رُوي (هاذم) بالدال المهملة والذال المعجمة كما قال ابن حجر في تلخيص الحبير. ومعناهما متقارب.
[82] مدارج السالكين 2/12.
[83] رياض الصالحين 38. المكتب الإسلامي. 1418هـ.
[84] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 1/70-71.
[85] العنكبوت 5.
[86] روضة المحبين ص 30.
[87] تفسير السعدي 1/626.
[88] العنكبوت 5.
[89] مدارج السالكين 3/51-52.
[90] صحيح البخاري كتاب (الرقاق) باب (سكرات الموت) ح 6512 و6513. فتح الباري 13/168.
[91] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي 1/129.
[92] روضة المحبين ص 31.
[93] طريق الهجرتين 1/489.
[94] قال الخليل: "أغابتِ المرأة فهي مُغِيبةٌ، إذا غاب زوجها". وقال الزبيدي: "امرَأَةٌ مُغِيبَةٌ: غَابَ عنها بَعْلُها أَو وَاحِدٌ من أَهْلِها". العين للخليل، وتاج العروس من جواهر القاموس) مادة (غيب). ويجوز في (مغيبة) هاهنا وجهان: الأول: ضم آخرها على أنَّ كان تامة، والثاني: نصبُها على أنها خبر كان الناقصة.
[95] مدارج السالكين 3/54.
[96] طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم ص92.(/11)
الفواتير الوهمية
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/الرشوة والغش والتدليس
التاريخ ... 6/7/1424هـ
السؤال
سؤالي لكم حول مسألة في البيوع قد عمّت بها البلوى (وهذا ما أخبرني به كل من سألتهم عن الموضوع، من أنهم يعانون من نفس المشكلة !) أنا أعمل في شركة أجنبية، يأتينا العملاء - ومعظمهم أجانب - بعد إنجاز العمل ليستلموا ما أعددناه لهم، ويطلبون منا فاتورتين :- فاتورة بالمبلغ الصحيح الذي نتقاضاه منهم لقاء ما قدمناه لهم من خدمات- وفاتورة فيها مبلغ أعلى من المبلغ الذي تقاضيناه منهم، وأغلب الظن أنهم يريدون تقديم الفاتورة الثانية لمرؤوسيهم إيهاما لهم أنهم دفعوا المبلغ الثاني، (نحن عادة لا نسألهم عن الأسباب) وأحياناً يطلبون منا عدة فواتير، كل واحدة منها فيها مبلغ مختلف، سؤالي هو : هل يجوز إعداد هذه الفواتير للزبون ؟علما أن هذا الأسلوب أصبح من الأمور المتعارف عليها الآن في السوق !!! هذا ما لمسته وهذا ما أخبرني به من يعملون في شركات أخرى، كما أنني لا أستطيع أن أرفض إعداد هذه الفواتير، فكما أسلفت، أنا أعمل في شركة أجنبية، وأغلب الظن أن الشركة ستخسر عملاءها لو رفضت تحضير الفواتير كما يطلبون، كما أنني تقريبا الوحيد بالشركة الذي يجيد الفرنسية، فهم يعتمدون عليّ في تحضير كل الوثائق التي باللغة الفرنسية، بانتظار إجابتكم بارك الله فيكم.
الجواب
إذا كانت هذه الفواتير التي يطلبها المشتري أو مندوبه لغرض التسعير لمعرفة الأقل سعراً أو الاجود صنفاً فلا بأس، أما إذا كان الأمر خلاف ذلك، ومثل ما تشير إليه في السؤال فإن هذا لا يجوز، بل مساعدة على الاختلاس وأكل الحرام وإعانة على الباطل والله يقول : "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" [المائدة: من الآية2] ويقول سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً" [النساء:29]، وفي الحديث الصحيح: "إنه لا يربو لحمٌ نبت من سحت إلا كانت النار أولى به" رواه الترمذي (614)، وغيره من حديث كعب بن عجرة – رضي الله عنه - ، وإذا كنت تجهل ما يراد بهذه الفواتير المطلوبة فلا إثم عليك، ولا يلزمك شرعاً أن تسأل ماذا تريدون بها، أما إذا سألت وعلمت أنهم يريدون إيهام رؤسائهم بأنهم دفعوا المبلغ الكبير ليحصلوا على الفرق بين الفاتورتين فهذا هو الحرام الذي لا يجوز لك فعله، وفق الله الجميع إلى ما يحبه ويرضاه.(/1)
الفواكه الصيفية.. صيدليّات طبيعيّة متنقّلة
الرياض: عبد الله أبا الخيل 29/5/1427
25/06/2006
يوماً بعد يوم وطوال أشهر ثلاثة قادمة ستتزايد حرارة الأجواء في المنطقة العربية والخليجية بخاصة، وهي أجواء تتطلب أنواعاً خاصة من الأطعمة والمشروبات التي تخفف حرارة الصيف اللاهبة التي تميز هذه الدول.
وتُعدّ الفواكه إحدى المرطبات المناسبة لمثل هذه الأجواء بالرغم أن الناس لم تعتد على أكلها إلا عقب الوجبات الدسمة باعتبارها عاملاً غذائياً مكملاً للغداء أو العشاء، مع أنها - أي الفواكه- يمكن أن تكون وجبة غذائية متكاملة الفيتامينات والسعرات.
وفواكه الصيف إحدى المرطبات الحقيقة التي يمكن أن تلطف حرارة الجو، وتسد حاجة الجسم من الفيتامينات والسوائل التي يفقدها الجسم صيفاً، وتستعرض (الإسلام اليوم) هنا بعض الفواكه الصيفية، وتلقي الضوء على فوائدها وخصائصها وكيفية استفادة الجسم منها...
العنب..الامتصاص السهل
يتميز العنب بأشكاله المختلفة عن بقية الثمار، إضافة إلى تعدد ألوانه وتباينها؛ فهناك العنب الأخضر، والأبيض، وهناك العنب الأسود، الذي يقول عنه الشاعر واصفا إياه:
عنبٌ أسودٌ كأنَّ عليهِ ... ...
حُللٌ من حَنادسِ الظَّلماءِ
يحتوي العنب على نسبة جيدة من المواد السكرية سريعة الامتصاص، وسهلة الهضم تُقدّر بحوالي 15% هي سكر العنب، حيث يتركز سكر الجلوكوز وسكر الفركتوز بشكل كبير، ويتميز كذلك العنب بغنائه بالفيتامينات مثل فيتامين ج وفيتامين ب وفيتامين أ، كما يحتوي على نسبة جيدة من العناصر المعدنية مثل البوتاسيوم والكالسيوم والصوديوم، ويحدّ أكل العنب من الإصابة بالإمساك، ويساعد على إدرار البول، ويساعد العنب على تنشيط الكبد وسلامة وظائفه و إدرار الصفراء بصورة منتظمة.
ويشير باحثون بريطانيون إلى أن العنب يحتوي على مادة (الريسفيراترول) التي تتحول في الجسم إلى عنصر مضادّ للسرطان قادر على استهداف وتدمير الخلايا السرطانية، كما أنها تحدّ من تصلّب الشرايين، وتقلّل من نسبة الكولسترول السيّئ في الجسم، كما يشير الباحثون إلى أن العنب يُعدّ عنصراً فعالاً للوقاية من مرض هشاشة العظام المنتشر بين النساء.
البطيخ ..رخص وفوائد بالجملة
ربما يكون البطيخ هو أشهر فواكه الصيف وأرخصها ثمناً لكثرة زراعته في السعودية، وبجانب رخص ثمنه فهو أنسب الفواكه لمعالجة أعراض الصيف المختلفة، وتناول شريحة متوسطة من البطيخ يوفر للجسم حوالي 20? من احتياجاته اليومية من فيتامين A وC، ويُعدّ البطيخ من الفواكه قليلة السعرات، ويحتوي على المياه بنسبة 92% من حجمه، وهو بذلك يؤدي إلى إحساس الفرد بالشبع ويعطيه حاجته من السوائل التي قد يفقدها صيفاً، ويحتوي البطيخ على الزنك والمنغنيز و الصوديوم و الكالسيوم بنسب معتدلة ومفيدة.
ويشير الأطباء إلى أن البطيخ يكفي حاجة الإنسان من الماء والفيتامينات والمعادن طوال اليوم، ووجد الباحثون أن المركبات الطبيعية الموجودة فيه تساعد في تخفيف شدة الأمراض الجلدية، كما تفيد بذوره في تخفيض ضغط الدم المرتفع، ويمكن استخدام جذوره في وقف النزيف الدموي، ، كما أنه يفيد في تخفيف حالات الإمساك والتهابات الجلد، و يساعد على إدرار البول، وتنقية الدم، وعلاج أمراض الكلى والنقرس ومرض البواسير، كما يحتوي على مضادات الأكسدة، ولذا فإنه من العوامل المساعدة على الوقاية من السرطان، وخاصة سرطان البروستاتا، لكن الأطباء يحذرون أيضاً من الإكثار من تناول البطيخ، فقد يؤدي الإكثار منه إلى ارتفاع في نسبة سكر الدم، كما لا ينصح بالإكثار من تناول البطيخ بعد الأكل مباشرة؛ كونه يسبب عسراً في الهضم إذا أُكل بعد الوجبات الدسمة مباشرة.
الرمان.. يكافح (11) مرضاً
تُعدّ زهرة الرمان من أجمل الزهور المنتشرة وتشتهر باسمها الفارسي (الجُلنار) و يحتوي الرمان على مواد سكرية بنسبة 10- 15 % ، وعلى 1% من حامض الليمون، ونسبة عالية من الماء، إضافة إلى مجموعة كبيرة من المعادن في الرمان بنسب قليلة مثل الفوسفور والحديد والمغنيسيوم.
وقد أكدت دراسة علمية حديثة أن ثمار الرمان تعالج (11) مرضاً، وتوفر احتياجات الجسم الأساسية من العناصر الغذائية، وقالت الدراسة: إن بذور الرمان الداخلية تقضي على البكتريا المسببة للإسهال، كما أنها تقوّي القلب والمعدة، وتدرّ البول، وتطهر الدم، وتذيب حصوات الكلى، وتلطّف الحرارة المرتفعة في الجسم، وتشفي عسر الهضم، وتقلل آلام النقرس، ويشير الأطباء إلى أن قلي قشور الرمان يفيد في طرد الديدان الشريطية.
ويكافح الرمان الوهن العصبي وأورام الأغشية المخاطية، كما أنه يُعدّ من الفواكه المطهرة للدم والمنظفة لمجاري التنفس، ويعدّ هاضماً جيداً للأكل.
وتشير بعض الدراسات إلى أن عصير الرمان يشفي بعض أنواع الصداع وأمراض العيون، وخاصة ضعف النظر، كما أنه مفيد لعلاج أمراض الضعف الجنسي من خلال مساعدته على تدفق الدم في الشرايين والأوردة.(/1)
الخوخ.. مستودع للفيتامينات
تحتوي الحبة الواحدة من ثمار الخوخ على 85% من وزنها ماء، و خمسة غرامات من السكر، وغرام واحد من النشويات، ونصف ملغم حديد، و نصف غرام من البروتين والدهون، إضافة إلى الفسفور, والكبريت, و نسبة عالية من الفيتامينات، ويفيد الخوخ في تخفيف حدة الإمساك، ويحمي أيضاً من أمراض القلب ويخفف كمية الكوليسترول، كما يساعد الخوخ على تنشيط المعدة والهضم، ويُعدّ الخوخ من العوامل المساعدة على إزالة حصى المثانة والبول الدموي، وقد كشفت إحدى الدراسات أن تناول (10 – 12) حبة من الخوخ كل يوم قد يمنع هشاشة العظام، إضافة إلى أنه يساعد الجسم على امتصاص الكالسيوم بشكل أفضل، ولا ينصح الأطباء المصابين بأمراض القرحة أو التهابات المعدة بتناول الخوخ.
التين الشوكي (البرشومي)
يشتهر البرشومي خارج الجزيرة العربية باسم (التين الشوكي) وهو من فصيلة الصبار، ولا يحتاج لمتابعة في زراعته؛ فهو من النباتات البرية التي يستخدمها بعض المزارعين لحماية بساتينهم، ويعتبر85% من وزن ثمرة البرشومي ماء فيما تمثل بقية المكونات 15% فقط من الوزن، و 8% عبارة عن جلوكوز، أما الباقي فيحتوي على سكر الفركتوز، ويحتوي البرشومي على فيتامين ج، وفيتامين ب، و كل مائة جرام من البرشومي تحتوي على حوالي (60) سعراً حرارياً فقط، ويمكن للبرشومي أن يمد الجسم بربع ما يحتاجه الإنسان من البوتاسيوم والمغنيسيوم.
ويساعد البرشومي مرضى السكر في تقليل نسبة السكر في الدم، إضافة إلى أن أكله يقضي على مشاعر التوتر وينظم درجة حرارة الجسم، ويساعد على بناء العظام، كما أنه مفيد للمصابين بقرحة المعدة، إضافة إلى أنه يزيل آلام النقرس عند تناوله بعد الوجبات الغذائية.(/2)
الفور أو التراخي في الأمر المطلق المجرد عن القرائن
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إمام المرسلين وخاتم النبيين وبعد :-
فإن دلالة الأمر على الفور أو التراخي من النصوص الشرعية التي وقف العلماء الأفاضل حيالها بالنظر والدراسة بعرض معرفة مراد الشارع الحكيم من الأمر ، ودلالة الأمر المطلق الخالي من القرائن ، تتعدد فيه احتمالات العلماء فمن قائل أن المراد في الأمر فيه على الفور ومن قائل أن المراد بالأمر فيه على التراخي وهذه مشكلة البحث التي أود من خلال هذا البحث الإجابة عنه ووضع الضوابط التي توضح الصورة لطالب العلم والمتعلم والخروج بصورة واضحة في هذا الأمر الذي يشكل على الكثير ممن يبتغي علم أصول الفقه وقبل أن أبين أقوال العلماء في هذه القاعدة الأصولية الشرعية لابد أن أبين هدفي من البحث بعد بينت المشكلة التي واجهتني وتواجه كثير من طلاب العلم الشرعي .
من المعلوم أن مقصود الشارع الحكيم من إنزال الأمر أن يلتزم المأمور بالأمر المراد منه وفق الكيفية التي رسمها الشارع عن طريق الوحي المتمثلة بالكتاب والسنة , ولما كان الأمر الخالي عن القرائن يخفى دلالة الأمر فيه على المكلف ؛ لخلو الأمر من القرائن التي تدل على تحديد زمن اتيان الامر التعبدي تفاوت العقول في فهم هذه الدلالة, فمنهم من يتخذ الفور الطريق الامثل لتنفيذ أمر الشارع قدر الإمكان وهذا أمر مطلوب ومستحسن وقد دلت عليه نصوص كثيرة من الشريعة , يقول الغزالي: ( فإنهم متفقون على أن المسارع إلى الامتثال مبالغ في الطاعة مستوجب جميل الثناء ... وقد أثنى الله تعالى على المسارعين فقال تعالى: ]وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ[ [سورة: آل عمران - الآية: 133] , وقال تعالى: ]أُوْلََئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[ [سورة: المؤمنون - الآية: 61] ، ومما يدل عليه حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك».
ومنهم من يأخذ الأمر المطلق على التراخي اعتمادا على مندوحة الشارع الحكيم؛ بان جعل هذه المسألة من مسائل التي يدخل النظر والاجتهاد فيها بسبب خفاء الأمر ، فيأخذها على سبيل المهلة , فيؤخر الأمر إلى الوقت الذي لا يخشى فيه الفوات , وكلا الرأيين له مدلوله من نصوص الشريعة ومقاصدها الشرعية ، مع اعتبار الاختلاف في الزمان والمكان ومنزل على أحوال المكلفين, وفق مصالح الأمة فحيثما كانت هناك مصلحة أخروية أو دنيوية , فثم وجه الله ، وفق الوحي من الكتاب والسنة على صاحبه أفضل الصلاة والسلام .
وأود من خلال هذا البحث أبين دلالة الأمر المطلق على قضية الفور أو التراخي حتى يتسنى لطالب العلم معرفة المقصود منه ، متخذا أقوال العلماء فيه خير بيان لمرادهم وتطبيقاتهم , وعملت جهدي بضرب صور للمسائل المتعلقة بهذا الموضوع والتطبيقات العملية لهذه القاعدة ولم اترك الحبل عل الغرب بل خلصت إلى رأي تبين لي رجحانه ، موقناً بن نستفيد منه في واقعنا من خلال التكاليف التي أمرنا الله بها ، وفي كل خطوة من خطوات بحثي جعلت دلالة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - مهيمنة على كل نظر واجتهاد مراعيا المقاصد الشرعية المعتبرة التي لا تخالف صريح النص ودلالاته الحكيمة ، وهو جهد مني أسل الله عليه الأجر والمثوبة والله الموفق والهادي إلى الصواب.
خطة البحث
قسمت البحث إلى مقدمة وسبعة مباحث وخاتمة
المقدمة.
المبحث الأول : التعاريف.
المبحث الثاني: المقصود بالفور والتراخي.
المبحث الثالث: مذاهب الأصوليين في الأمر المطلق .
المبحث الرابع: المناقشة والترجيح في الأمر الخالي من القرائن.
المبحث الخامس : بعض الشواهد على القول بالفور.
المبحث السادس: وفيه مسالتان.
المسألة الأولى :القائلين بان الأمر المطلق يتكرر.
المسالة الثانية :مسالة دلالة الوجوب والندب في الأمر المطلق .
المبحث السابع : تطبيقات القاعدة في فروع الفقه.
المبحث الأول
التعاريف
إن من الصعوبة بمكان فهم أي موضوع يراد دراسته دون معرفة وإدراكه على حقيقته ، ولما كان هذا السير ميزة وسبيل من سبقونا من جهابذة العلم والعلماء السابقين ،سرت عليه وأردت من خلال هذه التعارف ، أن تؤخذ صورة متكاملة عن موضوع " دلالة الأمر المطلق الخالي عن القرائن" وفهمه بكل جزئياته ويمكن تعريف هذه المصطلحات على النحو التالي :
الأمر:ـ
في اللغة : والأمر ضد النهي ويأتي الأمر بمعنى الطلب وجمعه أوامر
في الاصطلاح : الأمر طلب الفعل على جهة الاستعلاء وقيل الأمر اقتضاء فعل غير كف مدلول عليه بغير لفظ كف ,ولا يعبر به علو ولاستعلاء
المطلق:ـ(/1)
في اللغة : طلقا أي بلا قيد ولا وثاق ويقال: أطلق الأسير خلاه وأطلق الناقة من عقالها فطلقت هي بالفتح و أطلق يده بالخير ...الطليق الأسير الذي أطلق عنه إساره وخلي سبيله
في الاصطلاح : اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه
تعريف الأمر المطلق :ـ
الأمر المطلق : طلب الفعل من المكلف بلا قرينة تدل على الفور أو التراخي، يقول الإمام الشوكاني : ( الأمر المطلق وهو أن يقول افعل ولا يقيده بزمان معين)
الفور:ـ
في اللغة : فعلتُ أَمرَ كذا وكذا من فَوْري أَي من ساعتي، و الفَوْرُ: الوقت ومنه قولهم: ذهبْتُ في حاجة ثم أتيتُ فلانًا من فَوْرِي، أي قبل أن أسكُن, وفي الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - «نُعْطِيكم خمسين من الإبل في فَوْرِنا هذا» فَوْرُ كُلّ شَيء: أوَّله.
وأصل الفور: القصد إلى الشيء، والأخذ فيه بجدّ ، والفور : العجلة والإسراع. تقول: اصنع هذا على الفور .
في الاصطلاح : الفور وجوب الأداء في أول أوقات الإمكان بحيث يلحقه الذم بالتأخير
التراخي:ـ
في اللغة : تراخى وأترخى عمل أعمالا متواترة بين كل عملين فترة التقاعُدُ عن الشيء... أرخى الستر وغيره أرسله و استرخى الشيء و تراخى السماء أبطأ المطر ورجل رخي البال أي واسع الحال بين الرخاء بالمد و رخاء بضم الراء الريح اللينة ويقال: إِنَّ ذلك الأَمْرَ لَيَذْهَبُ منِّي في بالٍ رخي إِذا لم يُهْتَمَّ به. وفي حديث الدعاء يقول - صلى الله عليه وسلم - : اذكر الله في الرخاء يَذْكُرْك في الشِّدَّة
في الاصطلاح : التراخي التمهل وامتداد الزمان وتراخى الأمر تراخيا امتد زمانه
المبحث الثاني
المقصود بالفور والتراخي
المقصود بالفور في الامر المطلق الخالي من القرينة , أن يتلقى المكلف الأوامر من الشارع الحكيم ، المتمثلة بالكتاب والسنة ويشرع في الامتثال والتنفيذ عقب الأمر دون تأخير أ وتؤدة , ولا يأخذه الأمر على التراخي المفضي إلى تأجيل العمل مظنة الوسع والقدرة على التنفيذ في المستقبل , وليس مقصود التأخير تأخير الفعل إلى أخر الزمن ثم يؤديه , ولعل مرد قصد الفور والتراخي يرجع إلى أن الإنسان عند تلقي الأمر المطلق، يعتريه خاطرين إما قصد المبادرة بتنفيذ الأمر المطلق الخالي عن القرائن على جهة الفور عند تلقي التكليف مع تحقق القدرة ووجود الإمكان وهذا ما يسمي بالفور ، وجل ما في هذه المبادرة قصد العمل مع مشقة التضييق المعتادة للأمر عند التلقي في الوقت الأول حال بلوغ التكليف ، أو أن الذي يتلقى التكليف يأخذ الأمر المطلق الخالي عن القرائن بسعة الشريعة عند تلقي التكليف ,بدافع ان طلب الفعل غير مقيد بزمن معين فيؤخر تنفيذ الأمر مظنة إتيانه في زمن قادم هروبا من مشقة أدائه في وقته الأول.
المبحث الثالث
مذاهب الأصوليين في الأمر المطلق
لقد وقف علماء الأصول حول دلالة الأمر المطلق الخالي من القرائن وتباينت أقوالهم في هذه المسألة ويمكن تبينها على النحو التالي :
القول الأول : دلالة الأمر المطلق على الفور
ذهب جمع من علماء على أن دلالة الأمر المطلق يقتضي الفور وممن ذهب إلى هذا القول الحنابله :، يقول عل بن عباس البعلي : ( أنه يقتضي الفور ... يقول أبو البركات وهو ظاهر كلام أحمد ويعزى إلى أبي حنيفة ومتبعيه... ويقول القاضي: عبد الوهاب المالكي الذي ينصره أصحابنا أنه على الفور وحكاه القرافي عن مالك... وحكاه في المسودة عن أبي بكر الصيرفي والقاضي وأبي حامد وطائفة من الشافعية) وهو قول الشافعي، يقول السرخي: ( مطلق الأمر يوجب الأداء على الفور وهو الظاهر من مذهب الشافعي رحمه الله فقد ذكر في كتابه إنا استدللنا بتأخير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحج مع الإمكان على أن وقته موسع وهذا منه إشارة إلى أن موجب مطلق الأمر على الفور) وقال في إرشاد الفحول : انه مذهب المالكية ... , وبعض الحنفية والشافعية
ويقول ابن الامير الصنعاني : ( بأنه مذهب المالكية وبعض الحنفية والحنابلة وجماعة من الشافعية ... وإليه ذهب الهادي وجماعة من الآل إنه يدل على الفور فيجب فعله في أول أوقات الإمكان بعد سماع الأمر)
الأدلة على أن الأمر المطلق على الفور :
أدلة هذا القول كثيرة نذكر منها في قوله تعالى: ]وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ[ [سورة: البقر ة - الآية: 34]قال تعالى: (قَالَ يَإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاّ تَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ) [سورة: الحجر - الآية: 32] , هذا يدل على أنه أوجب عليه الإتيان بالفعل حين أمره به فعاب عليه عدم تنفيذ الأمر عند ما لم ينفذ وإذ لو لم يجب ذلك لكان لإبليس أن يقول إنك أمرتني وما أوجبت علي .
ويذكر الإمام الرازي عدة أدله على كونه للفور نذكر منها ما يلي :(/2)
أحدها: قال تعالى: ]أُوْلََئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[ [سورة: المؤمنون - الآية: 61] , في الآية الكريمة عاب على المكلف أنه لم يأت في الحال بالمأمور به ...
وثانيها: قال تعالى: ]وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ[ [سورة: آل عمران - الآية: 133]
وثالثها: أن السيد إذا أمر عبده بأن يسقيه الماء فهم منه التعجيل واستحسن العقلاء ذم العبد على التأخير والإسنادإلى القرينة خلاف الأصل فالأمر يفيد الفور
رابعها: أجمعنا على أنه يجب اعتقاد وجوب الفعل على الفور فنقول الفعل أحد موجبي الأمر فيجب على الفور قياسا على الاعتقاد والجامع تحصيل المصلحة الحاصلة بسبب المسارعة إلى الامتثال
خامسها: أن الأمر يقتضي أيقاع الفعل فأشبه العقود في المبيعات فلما وقع العقد عقيب الإيجاب والقبول فالأمر وجب أن يكون مثله وتحريره أنه استدعاء فعل بقول مطلق فيقتضي التعجيل كالإيجاب في البيع
سادسها : أن الأمر ضد النهي فلما أفاد النهي وجوب الانتهاء على الفور وجب في الأمر أن يفيد الوجوب على الفور
يقول الرازي: (دليل آخر وهو أن الامر لما كان على الوجوب اقتضى كراهة تركه فكان بمنزلة من نهى عن تركه وقد اتفق الجميع على أن النهي يقتضي ترك المنهي عنه على الفور )
القول الثاني : دلالة الأمر المطلق على التراخي
وذهب كثير من أصحاب أبي حنيفة وطائفة من علماء الأصول إلى أنه على التراخي وقال الإمام السرخسي من الحنفية الذي يصح عندي من مذهب علمائنا أنه يعنى الأمر المطلق على التراخي وذكر عن أبي حنيفة ما يدل على ذلك
واختاره الآمدي والبيضاوي من الشافعية ويقول العلامة : محمد يحي الولاياتي في شرح ابيات نيل السول على مرتقى الوصول :
الأمر للوجوب لاللندب * جرد مما شأنه أن يقترن
وهو إن احتفت به قرينة * فمقتضاها مقتض تعيينه
وليس للفور ولا التكرار * والنهي عن ضد على المختار
يعني ان الامر أي صغة افعل ليست للفور أي لا تقتضيه على المختار عند المغاربة , من المالكية وعند الشافعية...ثم قال فقيل مطلقا , وقيل بشرط السلامة, فان مات قبل الفعل اثم , وقيل لا يأثم الا أن يظن موته
الأدلة على ذلك :
1- حج الرسول في السنة التاسعة حجة الوداع , عن عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حجة الوداع ... وكان الحج قد فرض قبل ذلك في السنة السادسة عن أبي هريرة قال ثم بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمره عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل حجة الوداع , ففيه تأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - الحج عن وقته في السنة السادسة وأرسل أبو بكر رضي الله عنه ولم يحج إلا في التاسعة واستدلوا به على أن الأمر للتراخي لا الفور ,يقول بن حجر في الفتح : (اختلف هل هو على الفور أو التراخي وهو مشهور وفي وقت ابتداء فرضه فقيل قبل الهجرة وهو شاذ وقيل بعدها ثم اختلف في سنته فالجمهور على أنها سنة ست)
2- قد روي عن عائشة أنها قالت : ( كان يكون علي قضاء أيام من رمضان فلا أقضيها إلا في شعبان)
3- استدلالهم بالإجماع على بعض التكاليف , قال أبو عمر بن عبد البر: ( ويدل على التراخي إجماع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج إذا أخره العام الواجب عليه في وقته، بخلاف من فوّت صلاة حتى خرج وقتها فقضاها وأجمعوا على أنه لا يقال لمن حج بعد أعوام من وقت استطاعته أنت قاض وكل من قال بالتراخي لا يجد في ذلك حدًّا إلا ما روي عن سحنون: أنه إذا زاد على الستين وهو قادر وترك فسق، وروي قريب من هذا عن ابن القاسم)
4- واحتجوا في ذلك بأن الأمر له دلالة على استدعاء الفعل ولا دلالة له على الزمان بل الأزمنة كلها بالإضافة
القول الثالث :أنه مشترك بينهما
جواز التراخي والفور ( هذان المذهبان حكاهما الماوردي في كتاب القضاء وجهين لأصحابنا ) ، وقال علي بن عباس البعلي الحنبلي: ( وحكى في البرهان أيضا كونه مشتركا بين الفور والتراخى)
1- أنه مشترك بينهما والأفضل المسارعة فيه
2- يدل على مطلق الطلب و يتوقف على القرائن
واختلفت عبارات العلماء في المشترك فقول للعلماء بان طلب الفعل مجردا عن تعليقه بزمن معين فيتوقف إلى ظهور الدليل فإن بادر عد ممتثلا أحدها وأنه لا يدل على فور ولا على تراخ بل على طلب الفعل خاصة وهذا هو المنسوب إلى الشافعي وأصحابه كما قال إمام الحرمين في البرهان وقال في المحصول إنه الحق واختاره الآمدي وابن الحاجب يقول بن الأمير في شرح هذا البيت والصدر من بغية الآمل :
ولا على فور ولا تراخي * قال بهذا جلة الاشياخ
لكن له قرائن تفيد * .....................(/3)
ثم ذكر أقوال للعلماء فيه فقال : أن الإمام يحيى والمهدي والقرشي قالوا أنه لا يدل على غير مطلق الطلب يعني طلب الفعل وإليه ذهب الرازي والآمدي وابن الحاجب ... والمعنى أن المختار في الأمر المطلق هو ما ذكرناه من عدم الدلالة من حيث هو على أحد الأربعة أي الفور والتراخي والمرة والتكرار لكن إذا قيد الأمر بما يقتضي أحد الأربعة عمل به
ويقول الإمام الشوكاني وقالت الواقفية إنه مشترك بين الفور والتراخي في فتح القدير : ( وتوقف الجويني في انه باعتبار اللغة للفور أو التراخي
الأدلة على ذلك :
أحدها : أن الأمر قد يرد عندما يكون المراد منه الفور تارة والتراخي اخرى ، فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بين القسمين دفعا للاشتراك والمجاز والموضوع لإفادة القدر بين القسمين لا يكون له إشعار بخصوصية كل واحد من القسمين لأن تلك الخصوصية مغايرة لمسمى اللفظ وغير لازمة له فثبت أن اللفظ لا إشعار له لا بخصوص كونه فورا ولا بخصوص كونه تراخيا.
وثانيها: أنه يحسن من السيد أن يقول إفعل الفعل الفلاني في الحال أو غدا ولو كان كونه فورا داخلا في لفظ إفعل لكان الأول تكرارا والثاني نقضا وأنه غير جائز .
وثالثها: أن أهل اللغة قالوا لا فرق بين قولنا يفعل وبين قولنا إفعل إلا أن الأول خبر والثاني أمر لكن قولنا يفعل لا إشعار له بشيء من الأوقات فإنه يكفي في صدق قولنا يفعل إتيانه به في أي وقت كان من أوقات المستقبل فكذا قوله إفعل وجب أن يكفي في الإتيان بمقتضاه الإتيان به في أي وقت كان من اوقات المستقبل وإلا فحينئذ يحصل بينهما فرق في أمر آخر سوى كونه خبرا أو أمرا .
ورابعها : أن أهل اللغة قالوا في لفظ إفعل أنه أمر والأمر قدر مشترك بين الأمر بالشيء على الفور وبين الأمر به على التراخي لأن الأمر به على الفور أمر مع قيد كونه على الفور وكذلك الأمر به على التراخي أمر مع قيد كونه على التراخي ومتى حصل المركب فقد حصل المفرد فعلمنا أن مسمى الأمر قدر مشترك بين الأمر مع كونه فورا وبين الأمر مع كونه متراخيا وإذا ثبت أن لفظ إفعل للأمر وثبت أن الأمر قدر مشترك بين هذين القسمين ثبت أن لفظ إفعل لا يدل إلا على قدر مشترك بين هذين القسمين )
المبحث الرابع
المناقشة والترجيح في الأمر الخالي من القرائن
الرد على القول انه على التراخي :
الاستدلال بتأخير الحج لا يدل على التراخي لكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يؤديه في السنة السادسه قول مردود كون مكة كانت مازالت تحت يد العدو وقد يعترض بأنه فتح بعد ذلك ولم يحج الرسول - صلى الله عليه وسلم - فنقول الظاهر أن الرسول كان ممن يقضي كل وقته في دعوة الناس إلى الله جل وعلا ولم يتمكن من أداء الفريضة باشتغاله بما يرضى الله وفيه انه لم تتحقق الاستطاعة له , فضلا كونها من خصوصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - , وعائشة رضوان الله عليها كانت تقضي في شعبان , بسبب شغلها بالمصطفى صلى - صلى الله عليه وسلم - , والنظر في حالهم كانوا اشغل منا في زمانهم لان الحياة كانت متعبة بعكس توفر وسائل اليوم بغض النظر عن تصحيح الحديث وتضعيفه .
يقول الإمام الرازي : ( لو جاز التأخير لجاز إما إلى بدل أو لا إلى بدل والقسمان باطلان فالقول بجواز التأخير باطل أما فساد القسم الأول فهو أن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل منه من كل الوجوه ... وأما فساد القسم الثاني وهو القول بجواز التأخير لا إلى بدل فذلك يمنع من كونه واجبا لأنه لا يفهم من قولنا إنه ليس بواجب إلا أنه يجوز تركه من غير بدل.
لو جاز التأخير لجاز إما إلى غاية معينة بحيث إذا وصل المكلف إليها لا يجوز له أن يؤخر الفعل عنها أو يجوز له التأخير أبدا)
الرد على كونه أمر مشترك:
القول بأنه أمر مشترك قول يخالف طبع الأمر , ويذهب معناه من حيث هو , والقول الأحسن المبادرة , سواء كان واجبا أو ندبا وتخصيصه بالندب أمر يحتاج إلى دليل , وأما القول بالتوقف حتى تعرف القرينة قولاً لا ينطبق على الأمر المطلق , أما إذا كانت هناك قرينة تخرجه من كونه مطلق فهذا يخرج من كونه مطلقاً , وقد يقال تخفي القرينة وتظهر , فأقول يعامل معاملة المطلق وإذا ظهرت القرينة أخرجته من كونه مطلقا والله اعلم .
الترجيح في الأمر المطلق الخالي عن القرائن :(/4)
من خلال دراسة أقوال العلماء تبين لي أن الأمر المطلق الخالي على القرائن يقتضي الفور لما جاء من أدلة القائلين التسابق في فعل الخير قال تعالى: ]وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[ [سورة: البقرة - الآية: 148] يعني والله أعلم المبادرة والمسارعة إلى الطاعات وهذا يحتج به في أن تعجيل الطاعات أفضل من تأخيرها ما لم تقم الدلالة على فضيلة التأخير نحو تعجيل الصلوات في أول أوقاتها وتعجيل الزكاة والحج وسائر الفروض بعد حضور وقتها ووجود سببها ويحتج به بأن الأمر على الفور وأن جواز التأخير يحتاج إلى دلالة وذلك أن الأمر إذا كان غير مؤقت فلا محالة عند الجميع أن فعله على الفور من الخيرات فوجب بمضمون قوله تعالى : ] فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ [ إيجاب تعجيله لأنه أمر يقتضي الوجوب )
إضافة إلى ذلك اقتضاء الواقع في ابتعاد كثير من الناس ومن باب سد الذرائع في التكاسل عن العمل لابد من القول بان دلالة الأمر المطلق يدل على الفور ونسوق بعض الشواهد على ذلك في البحث التالي .
المبحث الخامس
بعض الشواهد على القول بالفور
الشواهد الدالة على أن الأمر المطلق يدل عل الفور كثيرة ووأذكر بعض الامثلة الدالة على ذلك من أقوال العلماء في آيات من كتاب الله على النحو التالي :
الشاهد الأول :المسارعة في فعل الخيرات من مقاصد الشارع ، قال تعالى: ]وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ[ [سورة: آل عمران - الآية: 133] يقول أبو السعود : ( للإيذان بأنهم مستقرون في أصل الخير متقلبون في فنونه المترتبة في طبقات الفضل لا أنهم خارجون عنها منتهون إليها وأولئك إشارة إلى الأمة باعتبار اتصافهم بما فصل من النعوت الجليلة وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم وسمو طبقتهم في الفضل وإيثاره على الضمير للإشعار بعلة الحكم والمدح أي )
الشاهد الثاني : قال تعالى: ]أُوْلََئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[ [سورة: المؤمنون - الآية: 61] يقول أبو السعود : ( ويسارعون في الخيرات صفة أخرى لأمة جامعة لفنون المحاسن المتعلقة بالنفس وبالغير والمسارعة في الخير فرط الرغبة فيه لأن من رغب في الأمر سارع في توليته والقيام به وآثر الفور على التراخي أي يبادرون مع كمال الرغبة في فعل أصناف الخيرات اللازمة والمتعدية وفيه تعريض بتباطؤ اليهود فيها)
الشاهد الثالث : المسارعة يدل على رغبة المكلف في العمل وهو مطلب الشارع ، والتباطؤ يدل على عدم الرغبة في التنفيذ ، قال تعالى: ]وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [ [سورة : البقرة - آية 67 ], يقول الإمام القرطبي ( وهذا يدل على أنهم كانوا تاركين للأمر بدا وأنه كان عليهم المسارعة إلى فعله فقد حصلت الآية على معان أحدها وجوب اعتبار عموم اللفظ فيما يمكن استعماله والثاني أن الأمر على الفور وأن على المأمور المسارعة إلى فعله على حسب الإمكان حتى تقوم الدلالة على جواز التأخير والثالث جواز ورود الأمر بشيء مجهول الصفة مع تخيير المأمور في فعل ما يقع الاسم عليه منه والرابع وجوب الأمر وأنه لا يصار إلى الندب إلا بدلالة إذ لم يلحقهم الذم إلا بترك الأمر المطلق)
الشاهد الرابع: لزوم القضاء وقت الإمكان يدل على الفور، قال تعالى: ]أَيّاماً مّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مّرِيضاً أَوْ عَلَىَ سَفَرٍ فَعِدّةٌ مّنْ أَيّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ[ [سورة: البقرة - الآية: 184] , قد أوجب القضاء في أيام منكورة غير معينة... فإن قيل لما قال الله فعدة من أيام أخر وكان الأمر عندنا جميعا على الفور وجب أن يلزمه القضاء في أول أحوال الإمكان من غير تأخير وذلك يقتضي تعجيل قضائه يوما بعد يوم وفي وجوب ذلك إلزام التتابع قيل له ليس كون الأمر على الفور من لزوم التتابع في شيء ألا ترى أن ذلك إنما يلزم على الفور على حسب الإمكان وأنه لو أمكنه صوم أول يوم فصامه ثم مرض فأفطر لم يلزمه من كون الأمر على الفور )
المبحث السادس
أحكام ومسائل
المسألة الأولى: القائلين بان الأمر المطلق يتكرر(/5)
عند دراسة دلالة الأمر في دلالته على الفور والترخي يتبادر إلى الذهن قضية , ما إذا كان الأمر للتكرار, أو لمرة واحدة وقد وقف العلماء حيال هذه المسألة, فالذين قالوا بتكرار الأمر قالوا بوجوبه على الفور , يقول الإمام الشيرازي : ( أن كان الأمر للتكرار فالقول بالفور, وإذا كان الأمر يقضي مرة واحدة فيه وجهان...) ويقول الإمام الشوكاني:(فالقائلون بأنه يقتضي التكرار يقولون بأنه يقتضي الفور ؛لأنه يلزم القول بذلك مما لزمهم من استغراق الأوقات بالفعل المأمور به)
ويقول صاحب الفوائد الأصولية : : (إذا قلنا الأمر المطلق يقتضي التكرار فيقتضي الفور) وإذا كان للمرة فيظهر الخلاف عن العلماء
المسالة الثانية :مسالة دلالة الوجوب والندب في الأمر المطلق
يتبادر إلى الذهن في دراسة دلالة الأمر كونه على التراخي أو الفور قضية ما إذا كان وجوبا أو ندبا والعلماء الأجلاء قد ذكروا هذا , فدلالة الفور أو التراخي تكون في الأمر سواء كان على التراخي أو الفور .
قال صاحب نثر الورود في شرح البيت:
وكونه للفور أصل المذهب وهو لدى القيد بتأخير امن
يعني أن كونه صيغة أفعل تقتضي الفور هو أصل مذهب مالك سواء دلت على الوجوب أو الندب على الصحيح
المسألة الثالثة :الدليل في القضاء في الأمر المطلق
يقول الإمام الشوكاني : ( واستدل لهم أيضا بأنه لو وجب القضاء بالأمر الأول لاقتضاه ولو اقتضاه لكان أداء فيكونان سواء فلا يأثم بالتأخير وأجيب عن هذين الدليلين بأن الأمر المقيد بوقت أمر بإيقاع الفعل في ذلك الوقت المعين فإذا فات قبل إيقاع الفعل فيه بقي الوجوب مع نقص فيه فكان إيقاعه فيما بعده قضاء ويرد هذا بمنع بقاء الوجوب بعد انقضاء الوقت المعين واستدل القائلون بأن القضاء بالأمر الأول بقولهم الوقت للمأمور به كالأجل للدين فكما أن الدين لا يسقط بترك تأديته في اجله المعين بل يجب القضاء فيما بعده فكذلك المأمور به إذا لم يفعل في وقته المعين ويجاب عن هذا بالفرق بينهما بالإجماع على عدم سقوط الدين إذا انقضى اجله ولم يقضه من هو عليه وبأن الدين يجوز تقديمه على اجله المعين بالإجماع واستدلوا بخلاف محل النزاع فانه لا يجوز تقديمه عليه بالإجماع واستدلوا أيضا بأنه لو وجب بأمر جديد لكان أداء لأنه أمر بفعله بعد ذلك الوقت المعين فكان كالأمر بفعله ابتداء ويجاب عنه بأنه لا بد في الأمر بالفعل بعد انقضاء ذلك الوقت من قرينة تدل على انه يفعل استدراكا لما فات أم أمع عدم القرينة الدالة على ذلك فما قالوه يلزم ولا يضرنا ولا ينفعهم)
المبحث السابع
تطبيقات القاعدة في فروع الفقه
التطبقات العملية للقاعدة :
القول بالفور أو التراخي يحكم الفقيه في تنزيلها في المسائل الفقهية بسب ترجيحه قاعدة إجمالية تحكمه في الحكم وحتى نتصور القواعد الإجمالية أسوق بعض الأمثلة الفقهية الفرعية التي تندرج تحتها حتى يتوضح الأمر ويتبين ؛ ولان القواعد الإجمالية قد يخرج منها إستثناءت , بنص , أو مشقة في أداء التكليف في سبق أو تراخي , أو عدم التقيد بهما , ممن يذهبون إلى الفور أو التراخي
التمهيد :
الأصل في الأشياء التعبدية المبادرة إلى الأعمال بقصد المسابقة في رضا الله تعالى , والبعد عن طول الأمل , حيث وان الموت اقرب للإنسان من شراك نعله , وفي بعض التكاليف العبادية قد تخفي دلالة المبادرة للعمل فكانت محل خلاف بين العلماء هل هي على الفور أم التراخي ,فنسوق بعض الأمثلة التي توضح اختيارات العلماء على قاعدة الفور أو التراخي
مسائل في باب العبادات : أمثلة على ذلك
أولا: مسألة أداء عبادة " الحج " صورتها على قاعدة الفور والتراخي
القول الأول : على قاعدة الفور
يقتضي أن المسلم عندما تتوفر شروطه أن يبادر إلى أدائه بعد حصول الاستطاعة على الفور دون التأخير لأنه أصبح من الوجبات الوقتية المضيقة التي يأثم مأخرها والقائلين بهذا العلماء الذين يقولون بالفور كما بينا سابقا
القول الثاني : على قاعدة التراخي
تأخير الحج حتى تتوفر فرصه انسب في الزمن القادم والقائلين به هم الذين يقوون بالتراخي
ثانيا:مسألة تأخير الزكاة وصدقة الفطر : صورتها على قاعدة الفور والتراخي
القول الأول : على قاعدة الفور
وصورتها: تعجيل الزكاة عن وقتها بسنة , أو أدائها عند انتهى دوران الحول فورا
القول الثاني : مبني على قاعدة الأمر يدل على التراخي
صورتها: تأخيرها عن وقت الحول بزمن
ثالثا:مسائل تأخير قضاء الفوائت من العبادات : صورتها على قاعدة الفور والتراخي
القول الأول : على قاعدة الفور
صورتها: أن الفوائت تقضى فور تذكرها أو حدوث طارئ بوقت مضيق في حينه
القول الثاني : مبني على قاعدة الأمر يدل على التراخي
صورتها: انه يؤديها على التراخي ولو جاء وقت التكليف الثاني
رابعا: مسائل النذر في العبادات والنوافل : صورتها على قاعدة الفور والتراخي
القول الأول : على قاعدة الفور
النذر يلزم الوفاء به متتابع اثر النذر دون التأخير مثل الاعتكاف(/6)
القول الثاني : مبني على قاعدة الأمر يدل على التراخي
يؤدى النذر بوقت موسع طالما هو عازم على الوفاء به
مسائل في باب النكاح : صورتها على قاعدة الفور والتراخي
مسألة الإقرار بالطلاق: صورتها على قاعدة الفور والتراخي
القول الأول : على قاعدة الفور
القول الثاني : مبني على قاعدة الأمر يدل على التراخي
المثال : الإقرار بالطلاق إقرارا بالطلاق وبانقضاء العدة ما إذا قال: أنت طالق أمس, أن الزوج إذا اعترف بطلاق زوجته من قبل ذلك وأن عدتها قد انقضت قبل قوله وزوجنا المرأة إذا لم نكذب الزوج وإن قلنا إن الأمر ليس على الفور فلا يكون إقرارا بانقضاء العدة وفي كونه إقرارا بالطلاق نظر لا سيما إذا قلنا إنه يدل على التراخي أو قلنا بالتوقف ثم إن ما صرح به النووي من الصراحة إنما يستقيم على قولنا إنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء فإن قلنا بالعكس فلا وإن جعلناه مشتركا فإن قلنا إن المشترك يحمل على جميع معانيه اتجه ذلك وإن قلنا لا فلا بد من مراجعته)
مسائل في باب البيوع والمعاملات : صورتها على قاعدة الفور والتراخي
مسألة قبض المبيع بالوكالة : صورتها على قاعدة الفور والتراخي
القول الأول : على قاعدة الفور
المثال: ما إذا قال لشخص بع هذه السلعة فقبضها الشخص وأخر بيعها مع القدرة عليه فتلفت وإن قلنا إنه للفور ضمن لتقصيره
القول الثاني : مبني على قاعدة الأمر يدل على التراخي
وهو أن الأمر المطلق لا يدل على شيء فلا ضمان عليه
مسألة رد المبيع بالعيب : صورتها على قاعدة الفور والتراخي
القول الأول : على قاعدة الفور
صورتها: أن المشتري يأخذ المبيع بالعيب ويعلمه , فيجب عليه في وقت العلم بالعيب رده إلى صاحبه.
القول الثاني : مبني على قاعدة الأمر يدل على التراخي
صورتها: أن المشتري يأخذ المبيع بالعيب ويعلمه ثم لا يرده إلا بعد زمن اعتماد على قاعدة التراخي
الخاتمة:
وفي الختام نحمد الله سبحانه وتعالى أن وفقني أن ابحث هذا الموضوع الأصولي في دلالة الأمر المطلق المجرد عن القرائن , ولقد عرَّفت المصطلحات حتى يتبين المراد, و فصلت في أقوال العلماء في دلالته على الفور والتراخي , وما توصلت إليه في دلالة الأمر المطلق , أنه يدل على الفور , واستدللت على ذلك بأدلة من الشريعة وضرورة الواقع ـ خاصة وان زماننا كثر فيه التساهل عن الأخذ بالأمر الشرعي ـ من باب الأخذ بالمصالح المرسلة , مع أن التراخي مذهب للعلماء ولهم سندهم من نصوص الشريعة أيضا , وهذا يدل على سعة الشريعة وتلبيتها لحاجة الناس جميعا وقد يؤخذ بالاجتهاد في زمن ويترك في زمن آخر , حتى ولو كانت قواعد الأصول كلية وإجمالية , أعدت ليندرج تحتها مسائل فروعية كثيرة ,وحاولت أن اذكر بعض التطبيقات في الشريعة الإسلامية , ونتيجة لقصر الوقت لم افصل أقوال العلماء في التطبيقات , واكتفيت بالإشارة إلى اندراجها تحت القاعدة العامة في الفور والتراخي والله الموفق والهادي إلى السبيل ..
تأليف : إفتخار على عبده عامر
مراجعة وتعليق: عبدالوهاب الشرعبي
المستصفى من علم الأصول, للامام الغزالي , ج1/ 215ـ216, دار الكتب العلمية ط1, 1413هـ , تحقيق : محمد عبد السلام عبد الشافي.
أخرجه الحاكم في المسدرك ,ج4/341, برقم 7846 , دار الكتب العلمية بيروت,ط1, 1411 هـ , تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا, وصححه الألباني في الصحيح الجامع.
القاموس المحيط ج4/ 429 , موسسة الرسلة بيروت .
المصباح المنير , ص8, مكتبة لبنان 1990م.
الأحكام للآمدي ,ج2/12, الكتاب العربي, بيروت, 1404هـ, ط1, تحقيق د. سيد الجميلي.
التعاريف للجرجاني , ج1/54 , دار الكتاب العربي , بيروت , ط1 , 1405هـ , إعتنى به : إبراهيم الأنباري
القاموس المحيط , ج1/8063.
مختار الصحاح, مكتبة لبنان , بيروت , ط4, 1406 هـ محمد المنتصر محمد الزمزمي الكتاني
الأحكام الآمدي ,ج3/5.
إرشاد الفحول ج1/187ـ188 .
لسان العرب , ج5/68 , ط1 دار صادر, بيروت
مختار الصحاح، ج1/208.
أخرجه أبو داود ج4/141 برقم 4503, : دار الفكر, تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد
فتح القدير ج2/ 498, للامام الاشوكاني دار الفكر, بيروت
البحر المحبط .
التعاريف للجرجاني ,ج ا/566, م دار الكتاب العربي , بيروت, ط1, 1405هـ ,المعتني به: إبراهيم الأبياري.
القاموس المحيط , ج1/ 11367.
مختار الصحاح ,ج1/101.
لسان العرب ج14/ 351.
أخرجه الحكم في المستدرك , ج3/623,برقم 6303.
التعاريف ج1/ 169.
لا بد من التنبيه أن العمل بأحد القولين يلزم منه أن يعرف حقيقة هذا الأمر ودلالته , وهل الأمر وقته مضيقا أم موسعا , وقدرة المكلف في الزمن الأول , أم الثاني , وأيهما أرضى لله مع استصحاب الأمر التعبدي ديانتا فيه.(/7)
القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام , علي بن عباس البعلي الحنبلي,ج1/179 , مطبعة السنة المحمدية, القاهرة 1375هـ تحقيق: محمد حامد الفقي ,و روضة الناظر وجنة المناظر , ج1/ 202, عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد, جامعة الإمام محمد بن سعود , الرياض ط2, 1399هـ, تحقيق : د. عبد العزيز عبد الرحمن .
الأصول للسرخسي , ج1/ 26ـ 28 .
إرشاد الفحول ص 178, مؤسسة الرسالة بيروت , ط7, 1417هـ.
إجابة السائل شرح بغية الآمل , لابن الأمير , مؤسسة الرسالة .ط1, 1406 بيروت , تحقيق كل من القاضي العلامة/ حسين السياغي, ا.د/ حسن محمد مقبول الأهدل.
المحصول في علم الأصول للرزي , ج2/ 199ـ 201, جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية , الرياض , ط1, 1400هـ تحقيق : طه جابر فياض العلواني.
الفصول في الاصول الرازي الجصاص, ج 2 ,103ـ117, وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويت ,ط1, 1405هـ تحقيق : د. عجيل جاسم النشمي.
تخريج الفروع على الأصول , محمود بن أحمد الزنجاني أبو المناقب,ج1/108, مؤسسة الرسالة, بيروت, ط2, 1398هـ د. محمد أديب صالح.
القواعد والفوائد الأصولية ,ج1/179.
الأصول للسرخسي , ج1/ 26ـ 28 .
نيل السول على مرتقى الوصول للولاتي ص126, مطابع دارلا عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع , الرياض ,1412هـ , بتصحييح بابا محمد الولاتي.
أخرجه مسلم ج1/82, برقم 66, دار إحياء التراث العربي بيروت , ترتيب : محمد فؤاد عبد الباقي.
أخرجه البخاري ج2/ 982, برقم 1347, دار إحياء التراث العربي , بيروت ترتيب: محمد فؤاد عبد الباقي.
فتح الباري ج3/ص378, دار المعرفة ,بيروت محب الدين الخطيب.
أخرجه الطبراني في المعجم الصغير , ج1/341, برقم 567, المكتب الإسلامي , دار عمار, بيروت , عمان, ط1, 1405 هـ ,تحقيق : محمد شكور محمود الحاج أمرير.
البحر المحيط .
تخريج الفروع على الأصول , محمود بن أحمد الزنجاني أبو المناقب,ج1/108 .
شرح المنار لابن مالك ج1/ 222.
القواعد والفوائد الأصولية ,ج1/179.
التمهيد في تخريج الفروع على الأصول الأسنوي , ج 1/288ـ289, مؤسسة الرسالة , بيروت, ط1, 1400هـ , تحقيق : د. محمد حسن هيتو.
إجابة السائل شرح بغية الامل , لابن الأمير ص283, مؤسسة الرسالة .ط1, 1406هـ بيروت , تحقيق كل من القاضي العلامة/ حسين السياغي, ا.د/ حسن مقبول الاهدل .
إرشاد الفحول ص 178, مؤسسة الرسالة بيروت , ط7, 1417هـ
المحصول في علم الأصول للرزي , ج2/ 199ـ 201, جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية , الرياض , ط1, 1400هـ تحقيق : طه جابر فياض العلواني
المحصول في علم الأصول للرزي , ج2/ 199ـ 201, جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية , الرياض , ط1, 1400هـ تحقيق : طه جابر فياض العلواني
أحكام القران محمد بن إدريس الشافعي للإمام البيهقي , ج1/ 113, دار الكتب العلمية, بيروت, 1400ن اعتنى به : عبد الغني عبد الخالق
إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم لأبوا لسعود نج2/74, سم الكتاب دار إحياء التراث العربي, بيروت
إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم لأبوا لسعود نج2/74, سم الكتاب دار إحياء التراث العربي, بيروت
أحكام القران , ج1/ 47.
السابق ,ج1، 258ـ260
اللمع في أصول الفقه , للإمام الشيرازي , ص23, دار الكلمة 1418هـ, د. مصطفى أبو سليمان الندوي
إرشاد الفحول ص178.
الفوائد الأصولية , ص179
نثر الورود على مراقي السعود , شرح محمد الأمين الشنقيطي ,ص178,179, توزيع دار المنار, جدة , ط2, 1420هـ, تحقيق : محمد وليد سيد الشنقيطي
إرشاد الفحول ج1/187ـ188
التمهيد في تخريج الفروع على الأصول الأسنوي , ج 1/288ـ289, مؤسسة الرسالة , بيروت, ط1, 1400هـ , تحقيق : د. محمد حسن هيتو(/8)
الفور والتراخي في الحج
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله تعالى فرض الحج على المستطيع بقوله تعالى: ? وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ? [آل عمران: 97] .
وجعله النبي- عليه الصلاة والسلام- ركناً من أركان الإسلام، فعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان" (1).
وركن الحج مفروض في العمرة مرة واحدة، فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فقال:" يا أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا" فقال رجل: أكل عام يا رسول الله، فسكت. حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتم" (2).
ولما كان الحج مفروضاً في العمر مرة واحدة، فهل يجب أداؤه على الفور ويكون في أول سنة للمكلف إن وجدت الاستطاعة، بمعنى: إن أخره عن أول وقت بعد الإمكان يأثم؟
أو أنَّ وجوبه على التراخي فله تأخيره عن أول أوقات الإمكان فيؤديه إن كان مستطيعاً في أول العمر أو في وسطه أو في آخره، بمعنى: أن يؤديه في العمر متى أراد ذلك؟
وهذا ما سأذكره في هذا البحث في هذه المسألة وهي: (الفور والتراخي في الحج).
سائلاً المولى عز وجل التوفيق والسداد، والإخلاص في القول والعمل.
أولاً: تعريف معنى الفور والتراخي:
الفور: (هو استعمال الشيء بلا مهلة، ولكن على أثر ورود الأمر به، والتراخي: تأخير إنفاذ الواجب) (3).
وقيل : (الفور: الشروع في الامتثال عقب الأمر من غير فصل، والتراخي: تأخير الامتثال عن الأمر زمناً يمكن إيقاع الفعل فيه صاعداً) (4).
إذاً : فالفور: التعجل في إيقاع الفعل، والتراخي التأخير في إيقاعه، وعدم تحديد وقت بعينه.
ثانياً: أقوال الفقهاء في هذه المسألة:
اختلف الفقهاء على قولين:
القول الأول: إنه يجب أداء الحج على الفور، وإلى هذا القول ذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة (5) ومالك (6) وأحمد (7) وإليه ذهب أبو يوسف من الحنفية (8) وبعض أصحاب الشافعي وغيرهم (9).
القول الثاني: إنه يجب على التراخي، وإلى هذا القول ذهب الإمام الشافعي (10) والأوزاعي (11) ومحمد بن الحنفية (12) وغيرهم (13).
ثالثاً: أدلة أقوال الفقهاء:
1 ـ أدلة القول الأول: استدل القائلون بالفور بأدلة من الكتاب ومن السنة ومن أقوال الصحابة، وهذه الأدلة هي: -
- من الكتاب، قول الله تعالى: ? وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً? [آل عمران:97] وقوله تعالى: ? الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ? [البقرة:197] .
ـ من السنة ،حديث علي- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
"من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله الحرام فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً" (14).
وعن ابن عباس- رضي الله عنهما -قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعارض له" (15).
"من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو مشقة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً" (16).
وإنما شبهه باليهودي والنصراني، وشبّه تارك الصلاة بالمشرك لأن اليهود والنصارى يصلون ولا يحجون (17).
ـ من أقوال الصحابة قول عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: "لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كل له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين" (18)، وقوله: "من مات وهو موسر لم يحج فليمت على أي حال شاء يهودياً أو نصرانياً" (19).
ـ وأجابوا عن فعله عليه الصلاة والسلام وهو التراخي في الحج بأنه كان لعذر.
وجه الدلالة من أدلة أصحاب القول الأول:
في الآية الأولى: ورد الأمر من الشارع بالحج، والأمر بالحج في وقت مطلق يحتمل الفور ويحتمل التراخي والحمل على الفور أولى خوفاً من الإثم بسبب التأخير.
وفي الآية الثانية: بيان أن للحج وقت معين، ووقته أشهر الحجر من السنة، ويفوت وقته بفوات السنة، فالأمر بأدائه ليس بمطلق بل هو مؤقت بأشهر الحج.
وأما وجه الدلالة من الأحاديث:
في الحديث الأول: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ألحق الوعيد لمن أخر الحج عن أول أوقات الإمكان لأن الشرط ملك الزاد والراحلة، وذلك في قوله: "من ملك زاداً وراحلة" فمن توفر فيه الشرط فلم يحج لحقه الوعيد، والفاء في قوله: "فلم يحج" للتعقيب بلا فصل ـ أي :لم يحج عقب ملك الزاد والراحلة.
وفي الحديث الثاني: لفظ: "تعجلوا "، والتعجيل يقتضي المبادرة وعدم التأخير، والسبب في التعجيل:احتمال الفوات، وعدم معرفة ما يعارض له.(/1)
وفي الحديث الثالث: الموانع والعوائق التي ورد الترخيص بها عن أداء الحج على الفور، فإن انعدمت هذه الأمور الأربعة، وهي:( المرض، والحاجة الظاهرة، والمشقة الظاهرة، والسلطان الجائر ) ولم يحج، لزمه ما ورد في الحديث.
مناقشة أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول بالآية الكريمة ? وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ? [آل عمران: 97] فهذه الآية تبين أن الله فرض الحج في وقت مطلقاً، ولما كان مطلقاً عن الوقت فلا يقيد إلا بدليل.
وأما دليلهم بقوله تعالى: ? الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَات ? [البقرة: 197] بأن للحج وقت معين من السنة يفوت بفوات السنة، فالجواب: بأن وقت الحج أشهر معلومات فيؤدي في أشهر الحج مطلقاً من العمر.
وأما الأحاديث التي استدلوا بها فإن فيها مقالاً عند المحدثين.
ولقد عدها ابن الجودي من الأحاديث الموضوعة.
وقال العقيلي والدار قطني: لا يصح في الباب شيء (20).
ومع التسليم بقبولها، فلقد ورد في بعض الروايات من حديث ابن عباس أو الفضل بن العباس أو أحدهما عن صاحبه-رضي الله عنهما- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن يحج فليتعجل فإنه قد تضل الضالة ويمرض المريض وتكون الحاجة" (21).
وعند النظر إلى مجمل أدلة القول الأول من الآيات والأحاديث.
أجد أن في الآيات احتمالاً لما استدلوا به، وذلك لأن الأمر المطلق عن الوقت يكون على التراخي ويكون على الفور، والأمر بالحج هو مؤقت بأشهر الحج يفوت الحج بفوات السنة، فعند التأخير إلى السنة الثانية قد يعش وقد لا يعش، فتأخيره من السنة الأولى تفويت له، وفي إدراكه السنة الثانية شك،فلا يرتفع الفوات الثابت للحال بالشك (22).
وأما الأحاديث التي استدلوا بها، فلقد وردت روايات متعددة وكثيرة فيها الأمر بالتعجل وبيان الوعيد لمن أخرها بدون سبب، (وهذه الطرق يقوي بعضها بعضاً وبذلك يتبين مجازفة ابن الجوزي في عده لهذه الأحاديث من الموضوعات فإن مجموع تلك الطرق لا يقصر عن كون الحديث حسن لغيره وهو محتج به عند الجمهور...قال الحافظ:وإذ انضم هذا الموقوف إلى المرسل لابن سابط علم أن لهذا الحديث أصلاً ومحمله على من استحل الترك ويتبين بذلك خطأ من ادعى أنه موضوع (23).
وكذلك في حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: " من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل" (24)، ولو كان على التراخي لم يعين العام القابل.
وأما قول بعض الصحابة بالفور فيستأنس بأقوالهم، إن صحت الروايات عنهم.
ـ و أما إجابتهم (25) عن تراخي النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحج وتأخيره الحج إلى العام العاشر: بأن في تأخيره عليه الصلاة والسلام عذر، وإذا علم أن التعجيل أفضل فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يترك الأفضل إلا لعذر وهذا العذر هوما يلي:
1ـ أن المانع من التأخير هو احتمال الفوات، ولم يكن في تأخيره ذلك فوات، لعلمه من طريق الوحي أن يحج قبل موته ،قال الله تعالى: ? لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ? [الفتح: 27] .
2ـ وتراخيه صلى الله عليه وسلم إنما كان لكراهة الاختلاط في الحج بأهل الشرك، لأنهم كانوا يحجون ويطوفون بالبيت عراة ففي تأخيره العذر .
3ـ ولخوفه على نفسه وعلى المدينة، ولهذا كان يحترس حتى نزل قوله تعالى: ? وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ?[المائدة:67]
4ـ ولاشتغاله بتمهيد قواعد الدين وتعليم العبادات والجهاد.
5ـ ولظهور المشركين على مكة، فلما نادى: لا يحج البيت بعد العام مشرك حَجَّ.
2 ـ أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني: بالكتاب، والسنة الفعلية للرسول صلى الله عليه وسلم.
- من الكتاب قول الله تعالى: ? وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ? [آل عمران: 97] .
وقوله تعالى: ? الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَات ? [البقرة: 197] .
- من السنة : تأخيره عليه الصلاة والسلام الحج إلى سنة العشر، مع أن الحج فرض بعد الهجرة، وفتح مكة كان لسنة ثمان من الهجرة، ولو كان وجوبه على الفور لما احتمل التأخير منه (26).
وجه الدلالة من أدلة أصحاب القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني القائلون بالتراخي: بالآيتين الكريمتين التي استدل بها أصحاب القول الأول،
ففي الآية الأولى: بيان أن الله تعالى فرض الحج في وقت مطلقاً للمستطيع لذلك، ثم بين في الآية الثانية: أن وقته في أشهر معلومات، فيؤدى الحج في أشهر معلومات مطلقاً من العمر، فوقته هو العمر مطلق (27).
وأما استدلالهم بفعله عليه الصلاة والسلام: فهو دال على التراخي، والأصل في تأخيره عليه الصلاة والسلام عدم العذر، ولو كان لعذر لبينه.(/2)
قال الشافعي: (أنزلت فريضة الحج بعد الهجرة، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر على الحج، وتخلف في المدينة بعد منصرفه من تبوك لا محارباً ولا مشغولاً بشيء، وتخلف أكثر المسلمين قادرين على الحج، وأزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، ولو كان كمن ترك الصلاة حتى يخرج وقتها ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفرض ولا ترك المتخلفون عنه،فوقت الحج ما بين أن يجب عليه إلى أن يموت) (28).
فمتى ما أدى الإنسان الحج سواء في السنة الأولى أو الثانية فهو أداء، فالمعتبر: هو الأداء في العمر.
مناقشة أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني: بالآيتين الكريمتين المقتضيتان الأداء في العمر طالما أن الأمر بأداء الحج مطلق، والأمر المطلق عن الوقت يقتضي التراخي لكن بشرط الأداء.
ـ والمأمور به من الشارع نوعان:
1- مطلق عن الوقت.
2- مقيد به.
ـ وحكم المطلق :أن يكون الأداء واجبا على التراخي بشرط أن لا يفوته في العمر، فلو نذر أن يعتكف ليلة فله أن يعتكف أي ليلة شاء.
ـ والمقيد نوعان:
أ ـ ما يكون الوقت ظرفاً للفعل: فوجوب الفعل فيه لا ينافي وجوب فعل آخر فيه من جنسه، وذلك كالصلاة: كأن ينذر أن يصلي في وقت الظهر عشر ركعات فيلزمه، فوجوب صلاة الظهر لا ينافي وجوب صلاة النذر فيصلي الجميع، وهنا تعتبر النية المعينة، وذلك لاعتبار المزاحم.
ب ـ ما يكون الوقت معياراً له: بمعنى: تعيين الوقت المخصص له، وذلك مثل شهر الصوم، فإذا عين الشارع له وقتاً لا يجب غيره في ذلك الوقت (29).
وأنبه إلى الفرق بين من يقول: يجوز التراخي، ومن يقول: يقتضي التراخي، ففي الأولى: يجوز الفور أو التراخي، وفي الثانية: لا يجوز الفور.
فإذا كان الأمر بأداء الحج يجوز فيه التراخي بشرط الأداء وعدم الفوات، فمن يضمن الأداء وعدم الفوات، فقد يعش وقد لا يعش، والموت خلال سنة غير نادر بل هو كثير.
ولهذا فمن مات قبل أداء الحج مع القدرة عليه قبل الموت: إما أن يكون مات عن وصية أو عن غير وصية، فإن مات من غير وصية يأثم، فعلى القول بالوجوب على الفور فلا إشكال فيه، لأنه سيؤديه عاجلاً.
وعلى القول بالتراخي: فلأن الوجوب يضيق عليه في آخر عمره في وقت ليس له التأخير فيه، فيجب عليه أن يفعله بنفسه إن كان قادراً على الفعل، وإن كان عاجزاً عن الفعل فيمكنه الأداء بما له بإنابة غيره منابه، ووجب عليه أن يوصي به، فإن لم يوص به حتى مات أثم بتفويته الفرض عن وقته مع إمكان الأداء (30).
وهذا الإثم الذي لحقه إنما هو بسبب التراخي حتى أدركه الموت قبل أدائه،ودون وصية به.
قال ابن حزم: (وحكم أوامر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم -كلها على الفور إلا أن يأتي نص بإباحة التراخي في شيء ما فيوقف عنده) (31).
والقائلون بالتراخي: لم يقولوا به مطلقا بل قيدوه بشروط: أن لا يخشى المرض، وأن لا يفوته في العمر.
لكن الأجل عرض، وما يحصل للإنسان في مستقبل عمره غيب (32).
وأما استدلالهم بفعله عليه الصلاة والسلام فقد تقدم الجواب عنه.
سبب الخلاف بين الفقهاء في هذه المسألة:
بعد أن ذكرت أقوال الفقهاء، وأدلتهم، ووجه الدلالة، ومناقشة الأدلة، أستطيع أن أحصر سبب الخلاف بين الفقهاء إلى أمرين اثنين:
1 ـ قول الرسول -صلى الله عليه وسلم - وفعله، حيث ورد القول بالتعجل،والفعل دل على التراخي.
2 ـ الأمر المطلق عن الوقت، هل يحمل على الفور أم يحمل على التراخي (33)، وذلك أن الأمر بأداء الحج مطلق على الوقت وذلك في قوله تعالى: ? الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَات ? [البقرة: 197] . فالذين قالوا بالفور، قالوا: لما كان مختصاً بوقت وهو العام بعد التمكن كان الأصل تأثيم تاركه حتى يذهب الوقت، والذين قالوا بالتراخي، قالوا: إنها أشهر معلومات من العمر، فهي على التوسعة.
واعتبر الإمام السرخسي : أن الأمر بأداء الحج ليس بمطلق بل هو مؤقت بأشهر الحج، فتكون أشهر الحج من السنة الأولى بعد الإمكان متعينة ولا مزاحم له، ولا يدري هل يبقى أم لا ؟وهذا محتمل ولا يعارض المتحقق، فإذا ثبت انتفاء المزاحمة كانت هذه الأشهر متعينة للأداء، فالتأخير عنها تفويتاً كتأخير الصلاة عن الوقت، والصوم عن الشهر (34).
ـ وقياساً على وقت الصلاة حيث أن للصلاة وقت أول وآخر، فمن شبهه بآخر الوقت قال:على الفور، ومن شبهه بأول الوقت قال:على التراخي.
وتشبيه الحج بآخر الوقت:
أ – لأن الحج يأتي بعده وقت لا يجوز فيه فعله،كما أن وقت الصلاة إذا انقضى يدخل بعده وقت لا يكون المصلي فيه مؤدياً.
ب ـ وبما يغلب على الظن من وقوع الموت في خلال فترة العام بخلاف تأخير الصلاة من أول الوقت إلى آخره فالغالب أن الموت في مقدار هذا الوقت نادر لأنه وقت قصير .
ج ـ ولأن التأخير في الصلاة مع مصاحبة الوقت، والتأخير في الحج مع دخول وقت لا تصح فيه العبادة، إلا على القول بأن وقته أشهر معلومات من العمر مطلقاً.(/3)
د ـ ولأن التراخي معناه:الأداء في الوقت، وليس معناه:دخول وقت لا يصح فيه وقوع المأمور،كما يؤدي التراخي في الحج إذا دخل وقته فأخره المكلف (35).
الترجيح وسببه:
الذي يبدو لي-والله أعلم-هو القول الأول، وهو:أن الأمر بأداء الحج يحمل على الفور.
السبب: أن الأمر بالحج في وقته مطلق يحمل على الفور ويحمل على التراخي،والحمل على الفور أحوط لأن معنى الحمل عليه:الإتيان بالفعل عاجلاً خوفاً من الإثم بالتأخير،ويكون قد أدى ما أمر به،فحصل الأمن من الضرر، حتى وإن أريد به التراخي وأداه على الفور لا يضره الفعل بل ينفعه لمسارعته إلى الخير.
والحمل على التراخي:قد يحصل بذلك التأخير فتلحقه المضرة،فكان الحمل على الفور حملاً على أحوط الوجهين فكان أولى (36).
ولأن التراخي معناه: التأخير، ويكون إما إلى وقت محدد فهذا يصير من المقيد، أو إلى وقت مطلق،والشرط:ظن لمأمور الأداء وعدم الفوات وهذا قد لا يقع لكثرة هجوم الأجل (37).
ثمرة الخلاف:
وتكمن ثمرة الخلاف: في أنّ القائلين بالفور وعدم التأخير: إنما هو لخوف الفوات ولحوق الإثم إن لم يفعل.
والقائلين بالتراخي قيدوه بشروط: أن لا يفوته في العمر،وأن لا يخش المرض،وأن يعزم العزم الصادق على الفعل فيما بعد (38).
فالواجب على التراخي يصير واجباً على الفور:إذا ضاق وقته، وإذا شرع في الفعل (39).
جمع وإعداد/ يونس عبد الرب فاضل الطلول
________________________________________
(1) أخرجه البخاري (1/12) برقم (8)، ومسلم (1/45) برقم (21) ، وهو متفق عليه .
(2) أخرجه مسلم(2/975) برقم (1337).
(3) الإحكام لابن حزم (1/50) .
(4) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل لابن بدران (1/227).
(5) بدائع الصنائع للكاساني (2/291)، فقه العبادات حنفي (1/176) .
(6) أشرف المسالك (1/93)، بداية المجتهد لابن رشد (1/449) .
(7) المغني لابن قدامة (3/203)، الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل (1/463) .
(8) فقه العبادات حنفي (1/176) .
(9) الروضة الندية (1/238) .
(10) مختصر المزني (1/71)، المهذب للشيرازي (1/358)، مغني المحتاج للشربيني (3/139) ، فقه العبادات شافعي (1/673).
(11) الروضة الندية (1/238).
(12) بدائع الصنائع (2/291) .
(13) نيل الأوطار للشوكاني (5/6).
(14) أخرجه الترمذي (3/176) قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا تعرفه إلا من هذا الوجه وفي إسناده مقال، قال الألباني ضعيف،انظر: ضعيف الجامع الصغير(1/1264)برقم(5860).
(15) أخرجه أحمد في مسنده (1/313) قال الأرنؤوط: حسن، قال الألباني :حسن، انظر:الجامع الصغير وزيادته (1/1095)برقم (10947)،وانظر :صحيح أبي داود (1325)برقم (1524).
(16) أخرجه الدارمي (2/45) قال حسين سليم أسد: إسناده ضعيف، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (3/305) .
وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/430)، قال: وهذا إن صح فإنما أراد إذا لم يحج وأخرج كذلك في السنن الكبرى (4/334).
(17) الروضة الندية (1/238).
(18) الروضة الندية (1/238) .
(19) مصنف بن أبي شيبة (3/306) برقم (14455) .
(20) نيل الأوطار (5/6) .
(21) أخرجه أحمد في مسنده (1/214) تعليق الأرنؤط : حسن وهذا إسناد ضعيف ،وحسنه الألباني، انظر:الجامع الصغير وزيادته (1/1095)برقم (10947)،وانظر :صحيح أبي داود (1325)برقم (1524).
(22) انظر: بدائع الصنائع للكاساني (2/291) .
(23) نيل الأوطار (5/6) .
(24) أبو داود (1/575) ، الترمذي (3/277) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، النسائي (5/198)، ابن ماجه (2/1028) وغيرهم، قال الألباني صحيح، انظر الجامع الصغير وزيادته (1/1147) برقم (11467)
(25) انظر هذه الأجوبة في : (بدائع الصنائع) (2/291) ، (نيل الأوطار) للشوكاني (5/6) ، (إيثار الإنصاف) سبط ابن الجوزي (1/100).
(26) مختصر المزني (1/71)، بداية المجتهد لابن رشد (1/449) .
(27) مغني المحتاج للشربيني (3/139)، كفاية الأخيار (1/300) فقه العبادات شافعي (1/673) .
(28) مختصر المزني (1/71) .
(29) انظر: أصول الشاشي (1/131، 135) .
(30) بدائع الصنائع (2/469) .
(31) الإحكام لابن حزم (1/50) .
(32) فقه العبادات شافعي (1/673)، الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري (1/997) .
(33) أصول السرخسي (1/26)، أصول الشاسي (1/131)، الإحكام للآمدي (2/184) .
(34) الأصول (1/29) .
(35) انظر: بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد (1/449) .
(36) بدائع الصنائع (2/291) .
(37) إجابة السائل شرح بغية الأمل (1/281) .
(38) فقه العبادات شافعي (1/673) ، الفقه على المذاهب الأربعة (1/997) .
(39) المنثور في القواعد للزركشي (3/321)، المغني لابن قدامة (3/383)، وقد تقدم قوله -عليه الصلاة والسلام- (وعليه الحج من قابل)،
وهذا لمن أحصر.(/4)
الفوز الكبير يا دعاة الإسلام
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله الذي هدى إلى صراط مستقيم، والصلاة والسلام على رسله خير الهداة المرشدين، وعلى نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم من العلماء العاملين، وبعد:
إن طريق الدعوة طريق ممتدة سهلة في أصلها، بيد أن قطاع الطريق الذين يصدون ويوعدون أهل الدعوة إذا اشتدت لهم شوكة قد يجعلون طريق الدعوة طريقاً مخوفاً مهولاً مُعْوِراً، والواجب الصبر حينها، فإما أن يصل السالك فيها إلى حيث أراد فيجني الثمرة، ويبصر بعين رأسه أرض الإسلام الخالص، ويتنسم هواءها العليل، ويشرب صرفاً من معينها الصافي، وإما أن يهلك فيه فيختصر له طريق الجنة، وحينها يخرج من ضيق الدنيا، إلى سعة الآخرة. وكلا الاحتمالين قد عرض لبعض أنبياء الله، فهذا صار ملكاً مطاعاً يسوس الناس بالشرع خير سياسة، وهذا قتل وأهدي رأسه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل، وذاك يجيء يوم القيامة ومعه السواد العظيم الذي سد الأفق، وآخر يأتي فرداً ليس معه أحد. وجميعهم قد قضوا ما عليهم وفازوا وأي فوز!
إن الفوز الكبير في الآخرة منوط بالثبات على الطريق بعد ولوجها، وليس منوطاً بقطعها، فإن النية تبلغ ما لا يبلغ العمل، المعول عل التزام أمر الله، لا على ترك الخليقة أمر ربها، فالبلاغ عليك، والهداية ليست إليك، وحينها فالانتصار الحقيقي هو ثباتك على منهج الله، ذلك هو الفوز الكبير، وإن مت أو قتلت! "قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ" فهل رأيت في القرآن تعقيباً يصف الله فيه الفوز بهذا الوصف إلاّ في هذا المقام؟ فإذا فقهت هذا فلا تعجب إن رأيت رصاصة آثمة تخترق جمجمة مؤمن وهو يقول ما كلمة سلفه: "فزت ورب الكعبة"! إي والله ذلك هو الفوز الكبير.
ولقد تأمَّلت في واقع الدعوة في عصورنا المتأخرة فوجدت أن الدعاة والجماعات والمؤسسات الدعوية على أحوال فمنهم من رأى أنّ الطريق الدعوة طريق طويل شاق، فاستعجل قطعه، فخرج عنه وحاد ذات اليمين ليختصره فضل، فأعلن بعضهم الجهاد قبل أوانه، بل في غير مكانه، مع مَنْ شأنهم أن يكونوا من أهل دعوتهم، فكيف كانت النتيجة؟ ما رأيت واحداً منهم خلال مدة بلغت نصف قرن إلاّ بضع سنين قد قطع الطريق، بل انقطعوا دونه شأن المنْبَتِّ فلا ظهراً أبقوا، ولا أرضاً قطعوا، ولا واقع أصلحوا، بل انتفش الفساد، وتنمر أهل الإفساد، ونزلت ببعض المسلمين رزايا، ولحقت بالقوم مَعَرَّة. وطائفة أخرى قابلت هؤلاء، أولئك هم الفئة اليائسة البائسة، دعت ودعت ودعت فلم ترَ استجابة، طولبت ببذر بذورٍ فظنت أن لها ثمرة مأكولة وأنها مكلفة بجلبها وفي الحال، وإن لم ينزل الله غيثاً من السماء، فلما لم ينجح المراد انقسموا فريقان: فمنهم من قعد قانطاً متشائماً آيساً ترك الحرث والبذر والعمل، وما أكثر هؤلاء في عصور الفتن، ولن أتساءل عن شباب وأفراد لا يحصون، ولكن أجبني أين دعاة كنت تعرفهم قبل عشرات السنين يملؤون السمع والبصر، فإذا هم الآن تاريخ غبر، هم أحياء ولكن:
رب حي رخام القبر مسكنه ... ...
ورب ميْتٍ على أقدامه انتصبا
فهؤلاء فريق تركوا السير والعمل، وركنوا إلى ظل زائل، وقد كفوا خيرهم وشرهم، فهم على عجرهم وبجرهم خير من الفريق الثاني: الذين رأوا أنهم مكلفون بجني الثمار، وبأي سبيل، فلما مرت السنوات ولم يرو للبذر أثراً، طفقوا يسرقون وينهبون ويستجدون ويأتون كل منكر لتحصيل ثمرة موهومة غير مرادة وليست بمأكولة!
رأوا الطريق طويلاً فظنوا أن بإمكانهم قطعها ولو على ظهر شيطان فركبوه! فأين تراه قد كبهم وألقاهم؟ لقد نشأت قبل بضع عقود حركات ودعوات كان فيها شيء من قوة ووضوح، فإذا بها الآن هيكل ليس فيه حياة وروح، تنازلوا كثيراً وتواضعوا مع الظالمين وركنوا إلى الطغاة، ثم زعموا أن هذا هو الدين، وتلك هي سبيل المؤمنين، فضلوا وأضلوا، فلا هم حافظوا على منهجهم الذي قامت مؤسساتهم ودعواتهم من أجله، ولا هم حصّلوا ما يريدون، ولا هم كَفَوا الناس شرهم، بل ربما كانوا أكثر ضرر من الظالمين الكالحين المحاربين. فتحصلت جراء الجهل بدعوة الرسل ثلاث فئات؛ فئة المستعجلين المتهورين الباغين، وفئة اليائسين البائسين القانطين،وفئة المستعجلين المتنازلين عن الدين.(/1)
أمّا الفرقة الناجية والطائفة المنصورة فهي التي لم تزل على الحق ظاهرة، ملتزمة بمنهج الرسل، لايضرها من خالفها ولا من خذلها، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
ومن فقه هؤلاء أنهم يفرقون بين ما يلزم الثبوت عليه وما لا يلزم، يعرفون أن الوسائل أمرها واسع ما لم تخالف شرعاً، فكان هذا مما أَهَلَهم للثبات على الثواب وأصول الدين. وقد يكون هؤلاء في أزمان هم الغرباء الأقلون القابضون على الجمر "وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" [يوسف: من الآية40].(/2)
الفيلسوف الغزالي: قراءة ميدانية لمنحنيات تطوّره الروحي
عصام عز الدين
لم يعد البحث في الإمام أبو حامد الغزالي مفكراً أو فيلسوفاً ومتكلماً
وفقيهاً ومتصوفاً فيه طراوة الجدة والأصالة منذ عهد بعيد، ذلك ان
البحث الأكاديمي قد استوفى
ما لهذا العملاق من حقوق عليه، فقد كتب فيه المحدثون مؤلفات
لا سبيل لإحصائها بمختلف اللغات من أقصى الشرق الى
منتهى الغرب. ولقد نشرت من مؤلفاته
العشرات وترجمت الى لغات آسيا وأوروبا، وقيل فيه كل شيء من
خلال شتى المشارب
والنزعات، وبالرغم من ذلك يبقى للكتاب الصادر مؤخراً عن دار
قباء بالقاهرة بعنوان:
«الفيلسوف الغزالي: اعادة تقويم لمنحى تطوره الروحي» للكاتب
والباحث العراقي الدكتور عبد الأمير الأعسم أهمية كبيرة تعكسها زاوية التناول التي يرى
بها ومنها المؤلف الفيلسوف الغزالي، وهي الزاوية التي تطل على تطوره الروحي
العام وتسعى لصياغة تصور لمنحى هذا التطور، والخيوط التي نسجته على منوالها
وقادته الى ربوة هذا التطور حيث الصوفية التي انتهى عندها مؤكداً على ان القتل
وحده ليس الوسيلة المثلى ولا الكافية لادراك الحقيقة المطلقة، منذ الكلمة
الأولى في السطر الأول للكتاب يبدو المؤلف شغوفاً وملماً ومحيطاً بشخصية
الغزالي، مدركا لدرجة ثرائها المعروفة عنها، والتي يبدو معه أكثر من شخصية أو
لنقل أكثر من صور لذات الشخصية. فبعض مؤرخي الفلسفة يرى في الغزالي ممثلاً
حقيقياً للفلسفة الاسلامية، له فيها شأن ودور يدفعهم لتصنيفه ودراسته ضمن
فلاسفتها، وبعضهم الآخر لا يراه ممثلاً للتيار الديني المضاد للفلسفة ومهما
اعترف هؤلاء بأقواله وجهوده في الفلسفة فإنهم ينسبونها جميعاً الى محاولته للرد
على الفلاسفة، وكشف مثالبهم «تهافت الفلاسفة». والبعض الثالث ينزه الغزالي عن
الفلسفة ويرفعه الى مصاف الأولياء، فهو المتكلم بحق عن مصادر اسلامية وليست
يونانية، وهو الصوفي الكبير الذي يصل الى الحقيقة المطلقة بحدسه الايماني
المشرق وبالاتصال المباشر بالله منبع الحقيقة. المؤلف الدكتور الأعسم لا يلم
بهذه الصور للغزالي فقط ولكونه يعترف بها جميعاً ويرى ان الغزالي كان كل هذه
الشخوص والصور جميعاً، وأنه تقلب بينها خلال مسيرته الحياتية التي بدأت في
الطابران بطوس عام 450هـ على الأرجح، وانتهت بطابران أيضاً عام 505هـ، ومرت
نيسابور وبغداد ودمشق والاسكندرية والقدس، حيث تعاقبت أدواره كتلميذ ومساعد
للامام الجويني في نظامية نيسابور، ثم معلماً بها بعد وفاة الجويني وهو
الفقيه الشامي الأشعري الصوفي الذي درس الغزالي على يديه، وتأثر به تأثراً كبيراً، ثم
رحيله الى بغداد عام 484هـ ليعمل بنظامية بغداد في اثرى فترات حياته، التي شهدت
اختلافه مع الفلاسفة وردوده عليهم واشتباكه معهم ونقده لهم، ،وهو الأمر الذي
دفعه دفعاً الى قلب حلبة السياسة حتى بدأ في فترة الشك مع نهاية القرن الخامس
الهجري، حيث بدأت حيرته بين الشهرة التي كان يرتع فيها كفقيه في نظامية بغداد
وبين النداء الباطني الملح الذي صار يدعوه الى تحطيم كل أسباب الدنيا ليفك أسره
الذي يعوقه عن التطلع الى الاتصال القلبي المباشر بالله، وعندها ترك الغزالي
نظامية بغداد وبدأ رحلته التي يختلف المؤرخون حول مدتها ومحطاتها، وان كان
الغالب انها شملت ترحاله بين مكة والقدس وشرق الاسكندرية قبل ان يعود مع عام
498 الى نيسابور ثم الى طوس التي انتهت حياته بها عام 505 هجري.
المنحى الصوفي للإمام الغزالي
بالرغم من ان المرحلة الصوفية في حياة الغزالي مثلت خاتمة حياته وخاصة في
السنوات السبع الأخيرة التي قضاها مع نيسابور ثم طوس في الخانقاه التي أنشأها
ليدرس بها العلوم الدينية، فإن المؤلف يؤكد على ان جذور تصوف الغزالي كانت
موجودة منذ بداية حياته، ويشير تحديداً الى ثلاثة جذور اساسية هي:
-أولها: جذر الميلاد لأب يعمل بغزل الصوف حيث الفقر يدفع بالزاهدين نحو التصوف
فكان أبوه رجلاً زاهداً يميل الى مجالس المتصوفة، ولا بد ان الصبي «الغزالي» قد
ذهب بصحبة أبيه الى مجالس الذكر والوعظ، ولم يكن الصبي الذكي لينظر الى ما يدور
حوله بلا وعي بل كان يفهم بأنهم يمارسون حب الله.
ثانيهما: ان صديقاً لأبيه من المتصوفة هو من قام بتربيته مع أخيه أحمد بعد وفاة
الأب الذي أوصى بهما هذا الصديق الصوفي. ولا بدّ ان سنوات وجود الغزالي في معية
هذا الصديق زرعت في أعماقه نوعاً من التطلع الدائم الى الجوانب الروحية في
صلاته كإنسان بربه. وثالثهما: تلقيه دروساً في التصوف وأصوله على الفارمدي
المتصوف الكبير الذي لا شك انه بلور الافكار الصوفية التي تولدت لدى الغزالي
على يدي أبيه وصديق أبيه الذي تولى تربيته، ويمكن القول بأن فترة تلمذة الغزالي
على الفارمدي أورثته صراعاً بين رغبته في الدنيا حيث العمل كفقيه درس الفقه على
الشيخ الاسماعيلي ثم على إمام الحرمين «الجويني» والذي لقبه لأول مرة بالفقيه،(/1)
ثم تدريسه بنظامية نيسابور، ثم نظامية بغداد، وبين رغبته في التصوف التي دفعته
لأن يعلن بأن «علم الفقه علم دنيوي لا ديني»، وهي نفسها دعوى الصوفية، كما أقدم
على نقد الفقهاء بجانب الفلاسفة تأثراً بالمنهج الصوفي، الذي كان يتطور في
اتجاهه على نحو بطيء ولم يتصوف فجأة كما يدعي البعض.
ويفسر المؤلف هذا التحول لدى الامام الغزالي بتبلور ايمانه بفكرة بدأت تختلط
بها ثقافته الموسوعية، وهي ان مطلق الحقيقة لا يأتيه الصدق الا طريق العقيدة
الدينية، بل انه صار يميز بين الحسيات والعقليات وبين ان يرجع كل آراء الفلاسفة
الى الأنبياء، حيث ان الأخيرين هم المنبع الفلسفي لكل ما اطلع عليه من آراء،
فكان لا بد له أيضاً بعد ان تنوعت معارفه ان يسقط صريع الشكوك الدفينة في
اعماقه والتي ورثها عن نشأته الأولى ثم زادها وأذكاها ما تعرض له من نقض
لمبادىء الفلاسفة وأهل الكلام، والباطنية منهم بوجه خاص، وبدلاً من ان يتيه في
حجج الفلاسفة والباطنية تبلور ايمانه الروحي بقطع العلائق عما تلقاه في حضانة
أبيه الصوفي ومربيه الوفي وأستاذه الصوفي، من وجه، مع تشبثه بالحياة وتلمذته
على الجويني وتعرفه على نظام الملك وتدريسه في نظامية بغداد ومكانته في قصر
الخليفة العباسي من وجه آخر، فتولد عن رغبته الصوفية وعن المشاكل السياسية التي
سببتها فترة تدريسه في نظاميتي نيسابور وبغداد ورده على الفلاسفة، اعادة وصل
معرفته الصوفية التي كانت قد انقطعت بعد الفارمدي.
ومن هنا يصل المؤلف الى ادراك رئيسي لكتابة هذه هو ان العقيدة الصوفية كانت
منغرسة وراسخة في بواطن الامام الغزالي، وان خطه البياني كان يعلو ويهبط
متأثراً بدرجة انشغاله بالحياة، منذ تلمذته وملازمته للامام الجويني وتدريسه في
نظاميتي نيسابور وبغداد، والذي دفع به الى قلب الأزمات السياسية، ثم بدرجة قلقه
وشكه وبحثه عن طمأنينة النفس التي لم يجدها الا في الحياة الصوفية فانكب على
كتب الصوفية في رحلته الطويلة، حتى عاد الى نيسابور وطوس في نهاية الرحلة
إماماً للمتصوفة.(/2)
الفِندُ الزِّمّانيُّ
د.عثمان قدري مكانسي
othman47@hotmail.com
شاعرنا الفِندُ – وبفتح الفاء أيضاً – من الشعراء الجاهليين الذين عاشوا قبل الإسلام . ولعل وفاته كانت عام اثنين وتسعين قبل الهجرة ، وقد زادت سِنُّه على المئة. .. وجعل الزركليُّ – رحمه الله تعالى – وفاته عام سبعين قبل الهجرة .
والفِند : الجبل العظيمُ أو قطعة طولية من الجبل .. واسمه : شهلُ بن شيبان بنِ مالكٍ الحنفيُّ من بكر بن وائل ، من أهل اليمامة . ولعل لقبه هذا – الفِند – جاء لجسامته ، فقد كان طويلاً ضخماً يملأ العين مهابةً .
كان الفِندُ من فرسان ربيعةَ المشهورين المعدودين ، وسيداً في قومه ، وقائداً لهم ... وقد شهد شاعرنا يومَ التحالق " يوم تَحلاق اللّمم " في حرب البسوس على رأس مدد من قومه نُصرةً لبني بكر على بني تغلب .
شعره سهل عذب ، قليل الغريب . وأكثره في الحماسة – وصف معاركه - يتخلله شيء من الحكمة ، وكثير من الاعتداد بالنفس .
لم يكن الفِندُ الزِّمانيُّ يرغب في الاشتراك في حرب البسوس كي لا يقاتل قوماً كانت بينه وبينهم قرابة . إلا أنه اضطر إلى خوضها كما تدل هذه القصيدة ، فقال مفتخراً بنفسه ، ناثراً حكمته :
صفحنا عن بني iiذُهلٍ
عسى الأيامُ أن iiيرجِعْـ
فلمّا صرّحَ الشرُّ..
ولم يبْقَ سوى iiالعُدوا
مشينا مِشيَةَ iiالليْثِ
بضربٍ فيه iiتوهينٌ
وطعنٍ كفَم الزّقِّ ii..
وبعضُ الحِلْمِ عند iiالجهـ
وفي الشرّ نجاةٌ iiحيـ ... وقلنا القومُ إخوانُ
نَ أقواماً كما iiكانوا
وأمسى وهْوَ iiعُريانُ
نِ دِنّاهم كما iiدانوا
غدا والليثُ iiغَضبانُ
وتخضيعٌ ، وإقرانُ ( ii1)
غذا، والزقُّ ملآن ii(2)
ل للذِلَّةِ iiإذعانُ
نَ لا ينجيكَ iiإحسانُ
1- فكان ضربه المتوالي لعدوَّه قوياً أضعفه وأذلّه . والإقران هنا : توالي الطعن .
2- كان طعانه قوياً نافذاً ، جعل في أجساد أعاديه فتحات تسيل منها الدماء بغزارة كما يسيل الخمر من أفواه الزقاق . والزق : إناء من جلدٍ للخمر . .. غذا : سال .(/1)
القائد الأعظم
وضع الرسول صلى الله عليه وسلم أسس ومبادئ الإدارة وفن قيادة الآخرين من خلال مواقفه مع أصحابه، فكل موقف كان يرسخ مبدأ جديداً في كيفية إنجاز الأعمال بنجاح، وتميز دون إهدار حقوق الغير، ودون التقليل من المهام الموكلة للآخرين. فمن منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الأداء أنه كان دائماً ما يعمد إلى التحفيز وبث روح المنافسة بين فريق عمله، فكم هو عدد الأوامر التي كان يلقيها صلى الله عليه وسلم بصورة التشجيع والتحفيز، حتى في أحلك الظروف والأزمات. كذلك كان للرسول صلى الله عليه وسلم القدرة على حل المشكلات الطارئة بفضل وجوده في موقع الحدث وامتلاكه كل مفاتيح الحسم. بالإضافة إلى سلوكه الراقي مع مرؤوسيه، حيث يكون مستعداًً لقضاء ساعات لا حصر لها في مساعدة الآخرين ليكونوا فاعلين، بتزويدهم بالحقائق والطاقة والموارد. هذا هو سيد القادة محمد صلى الله عليه وسلم الذي يبقى القدوة الأولى لكل مسلم في جانب القيادة والتي تأسست عليها أعظم دولة في التاريخ في مدة قصيرة.(/1)
القابضون على الجمر
المحتويات
مقدمة
لماذا الحديث عن الإيجابيات؟
إيجابيات هذا الجيل المبارك
الأول : أنه من أسعد الناس بتحقق طائفة من الأوصاف الشرعية
الثاني : استقامتهم على الدين في وسط يحتقر الدين والتدين
الثالث :انتصاراتهم على شهواتهم في وسط مجتمع يعجّ بالفتن والشهوات
الرابع : أن هذا النشء المبارك قد أحيا سنة حفظ كتاب الله تبارك وتعالى
الخامس: العلم الشرعي والعناية به وإحياؤه
السادس : الدعوة إلى الله تبارك وتعالى وحمل هم الإصلاح
السابع : مساهمة كثير منهم في إصلاح بيوتهم
الثامن : النفع للناس في أمور دنياهم
التاسع : التفوق في سائر مجالات الحياة المختلفة
العاشر: أن اهتماماتهم تجاوزت اهتمامات الناس الفارغة
الحادي عشر : أنه أحيا سنة الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى
الثاني عشر : أنهم قد أحيوا سنة الأخُّوة في الله
الثالث عشر : موقف هؤلاء من المعاصي
مقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ،أما بعد:
فعنوان حديثنا هذه الليلة: القابضون على الجمر، وهو كما تعلمون حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخبرصلى الله عليه وسلم"أنه يأتي على الناس زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر".
وهو ليس حديثاً عن القابضين على الجمر بأصنافهم وأحوالهم وأمورهم؛ إنما هو حديث عن طائفة نحسبهم والله حسيبهم ممن يصدق عليهم هذا الوصف النبوي .
لقد مرت الأمة بجهود للتغريب، وجهود لسلخها عن دينها وإخراجها من عقيدتها، ولقد تضافرت جهود أعداء الأمة بصد الشباب وفتنتهم عن دين الله تبارك وتعالى، ورأينا صوراً في عالمنا الإسلامي تدمي وتحزن وتحرك أشجان من كان له قلب، ومن يملك غيرةً وعاطفة على هذه الأمة المباركة، من بُعد شباب المسلمين عن الله تبارك وتعالى، ومن سَيْر هؤلاء وراء قذارة وتقليعات هذه الحضارة المعاصرة، وسيرهم وراء أعداء الله .
وفي وسط هذا الواقع المظلم البائس، وفي وسط هذا الانحراف والبعد؛ رأينا نماذج فذّة، ورأينا صوراً إيجابية، رأينا صوراً لامعة من ذلكم الشباب المتدين، الشباب الصالح المحافظ، الذي أصبحنا نراه يتوافد على المساجد وعلى ما يدله على دين الله تبارك وتعالى، من مجالس العلم، ومجالس الخير، والصحبة الصالحة، ورأيناه يأخذ طريقاً غير طريق أقرانه وأترابه.
وهاهم هؤلاء الشباب أمام مرأى المسلمين وجمعهم، هاهم يلتزمون بأمر الله تبارك وتعالى، ويستقيمون على طاعة الله عز وجل، في هذا العصر المائج المضطرب.
فحديثنا هذه الليلة عن بعض الجوانب المشرقة من واقع هؤلاء القابضين على الجمر .
لماذا الحديث عن الإيجابيات؟
الحديث عن هذا الموضوع له دوافع عدة :
أولها: أنه تثبيت لهؤلاء السائرين على هذا الطريق، والذين قد يواجهون ما يواجهون، فهم حين يشار لهم بما ميّزهم الله به وخصهم به، وحين ترفع أمامهم هذه اللافتات؛ يزيدهم هذا ثباتاً، ويزيدهم إصرارا ً في المضي على الطريق، ويزيدهم عزيمة لأن يحتملوا ما يصيبهم في هذا الطريق من اللأواء والنصب والنكد.
ثانيها: هذا الحديث دعوة لأولئك الذين لمّا يسلكوا هذا الطريق، أولئك الذين لا يزالون يسيرون في ركاب الغفلة والبعد عن الله تبارك وتعالى، فنقول لهم : هاهو الطريق، وهاهم أولاء قد سبقوكم، فبادروا فالميدان رحب واسع فسيح، لا يزال يتسع لكم ولأمثالكم، وأنتم طالما سمعتم الدعوة من خلال الترهيب من هذا المسلك السيئ الذي تسلكونه، ومن خلال التحذير من مغبة هذا الطريق المعوّج الذي تسيرون عليه، لكن ربما كان ذكر بعض الجوانب المشرقة من الطريق الآخر الذي ندعوكم إليه، الطريق الذي سلكه أقرانكم وأترابكم، ووفقهم الله تبارك وتعالى، بل أكرمهم عز وجل بسلوكه، إنكم حين تعرفون مزايا هذا الطريق، وحين تعرفون الجوانب المشرقة، وحين تعرفون تلك المنزلة التي يصلها أولئك الذين جانبوا الشهوات واللذات، وهجروا اللهو واللعب وساروا في طريق الصالحين، إنكم حين تعرفون هذه الجوانب ربما كان هذا دافعاً لكم أن تسيروا، وأن تلحقوا بالقافلة، وأن تدركوها، كما أن الخطر يتهددكم حين تمضون على هذا الطريق المظلم؛ فإن الطريق الآخر أمامكم مفروش بالأضواء، الطريق أمامكم يدعوكم ويقول :هَلُمُّوا فإن الطريق لا تزال تتسع لكم ولغيركم .(/1)
ثالثها: لا نزال نسمع الحديث الكثير عن النقد لبعض المظاهر السلبية لواقع الشباب الصالحين، والحديث عن بعض الأخطاء التي يقعون فيها، وهو حديث لا شك أن الكثير منه يصدر بلغة النصح ومنطق الإشفاق على هؤلاء، والهدف الرائد له الإصلاح والتغيير، وأشعر أنني ممن يشارك أيضاً في الحديث في هذا الأمر، فقد تحدثت كثيراً عن بعض الجوانب، وعن بعض الأخطاء والسلبيات التي ربما وقع فيها هؤلاء الشباب الأخيار، لكننا نخشى حينما يكثر الحديث عن هذه الجوانب السلبية، وحينما يكثر الحديث عن الأخطاء -وهو وإن كان بمنطق النصح والإشفاق - أن يحوَّل الصورة لدينا إلى صورة سلبية، وإلى صورة بائسة، وأن نتصور أن الالتزام والاستقامة التي عليها هؤلاء الشباب لاتعدو أن تكون سراباً ووهما، وأنها قضية خادعة.
إن هؤلاء الشباب يقعون في أخطاء في عبادتهم لله تبارك وتعالى ويقصرون، إنهم يقعون في المعاصي، ويرتكبون طائفة منها، إنهم يقعون في أخطاء في دعوتهم إلى الله تبارك وتعالى، إنهم يقصرون في حقوق إخوانهم، في حقوق أهلهم، في هذا الجانب وذاك، حتى لا تكاد ترى جانباً من الجوانب إلا وترى الحديث عن الأخطاء حوله.
إننا نخشى حين تطول هذه اللغة، وحين يرتفع هذا الصوت، أن تتحول القضية إلى قضية سلبية، وأن نشكك في أصل استقامة هؤلاء الشباب، وفي حقيقة تدينهم والتزامهم، وأن تُحول القضية إلى سراب ووهم خادع، لذا كان لا بد من الحديث عن الجانب الآخر، حتى لا نغلو في هذا الجانب وهذا الميدان .
رابعها: أن الحديث عن هذه الجوانب المشرقة فيه دعوة للناس، أن يدركوا موقع هؤلاء الشباب الذين أكرمهم الله تبارك وتعالى بهذه الهداية والسير على هذا الطريق، أن يدركوا عِظم منزلتهم ومكانتهم، وأن يدركوا قيمة هذا الإنجاز الذي حققوه؛ فيتعاطفوا معهم في وقت هم أحوج ما يكونون فيه إلى التعاطف مع قضيتهم .
إن هؤلاء الشباب الأخيار مع ما من الله عز وجل عليهم من الهداية والاستقامة على طاعة الله، يواجهون أخطاراً تهددهم، إنهم يواجهون الخطر الأكبر الذي يؤرقهم: أن يختلجوا من هذا الطريق، وأن يسلكوا بنيات الطريق فينحرفوا .
وهاهم يرون أنهم يعيشون في واقع يعج بالفتن والمغريات، واقع يدعوهم صباح مساء إلى أن يعرضوا عما هم عليه، واقع يدعوهم إلى أن يسيروا مع طريق الضلالة والغواية، ولا عجب فها نحن نرى فِئاماً من الشباب ممن كتب الله له الاستقامة والصلاح في أول عمره، ربما تنكب الطريق، وزاغ وضل، إنها قضية تؤرقهم، قضية تستدعي أن يتعاطف الجميع معهم في هذه القضية التي يرونها قضية القضايا عندهم، أن يتعاطف الآباء، وأن يتعاطف المصلحون، وأن يتعاطف الغيورون في مجتمعات المسلمين، وأن يدركوا أن هذا النشء، وهذا الجيل المبارك يستحق أن نحميه، ويستحق أن نثبِّته، ويستحق أن نعينه.
إن هؤلاء الشباب يعيشون أيها الاخوة في هذا العصر، يعيشون مأزقاً، بحاجة إلى أن يتعاطف معهم الجميع؛ ففتن الشبهات والشهوات قد بدأت تحاصر المسلمين الآن، وللشباب من ذلك نصيب وافر، بل لهم نصيب الأسد من ذلك، ومن ثم فنحن حين نتحدث عن قضية هؤلاء، حين نتحدث عن ما أنجزه وحققه هذا النشء المبارك، وهذا الجيل الطيب، الذي نسأل الله عز وجل أن يثبته، وأن يعصمه من مُظلات الفتن، وأن يكتب له الامتداد، وأن يكتب له تبارك وتعالى الخير والتمكين .
ولذلك وغيره رأيت أن أتحدث بعض هذه الجوانب التي كثيراً مانهملها وننساها.
وحديثنا لا يعدو أن يكون استثارة لصور نراها من واقع هذا النشء، ودعوةً للتذكير بهذه الصور التي قد ننساها .(/2)
قد تتهمني بأني أنطلق من منطلق عاطفة، وأنا لا أبرئ نفسي، ومعاذ الله أن أسعى إلى أن أتخلى عن هذه العاطفة، كيف لا وأنا أدين الله تبارك وتعالى، وأتعبد الله عز وجل بحب هذا الجيل المبارك، وهذا النشء المبارك، .لقد أخبر صلى الله عليه وسلم في ما رواه طائفة من أصحابه في الصحيحين وغيرهما أن المرء يوم القيامة يُحشر مع من أحب، فإنني أملك عاطفة تجاه هذا الجيل لأنه أطاع الله تبارك وتعالى، بل إنني أتعبد الله عز وجل بحب هذا الجيل، بالولاء له، بالتعاطف معه، وأشعر أن الإيمان وحب الله تبارك وتعالى يستلزم منا حب من يحب الله ويحبه الله تبارك وتعالى، أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله…"، ألم يخبر صلى الله عليه وسلم أن ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، إنني حين أسعى إلى دفع تهمة العاطفة عن حديثي هذا فإنني أسعى إلى أن أتخلّى عن واجب شرعي، وحق شرعي، في أن أحب من يطيع الله تبارك وتعالى ومن يحبه الله، بل إننا جميعاً نتعبد الله بحب الصالحين، ونشعر أن مما يكرم الله عز وجل به من أحب الصالحين : أن يبلغهم منازلهم ولو لم يلحق بهم، لقد سئل صلى الله عليه وسلم عن المرء يحب القوم ولمّا يلحق بهم فقال صلى الله عليه وسلم :"المرء مع من أحب" ولهذا قال الشافعي –رحمه الله-:
أحب الصالحين ولست منهم** لعلي أ ن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارتهم معاصي ** وإن كنا سويًّا في البضاعة
فإن كان الشافعي –رحمه الله- يقول هذه المقولة تواضعاً منه، وإلا فهو –نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً- من الصالحين المصلحين، فنحن نقول هذا حقًّا وصدقاً، فنحن نتعبد الله بمحبة الصالحين .
فالدعوة إلى إلغاء الشعور بالعاطفة هاهنا دعوة غير مقبولة، لكن الذي ينبغي ألا تؤثر في الحكم والتقويم.
وقد تقول لي : إن هؤلاء يقعون في أخطاء وعيوب، فأقول: نعم لكننا لسنا في مقام التقويم، ولسنا في مقام المقاضاة، ولسنا في مقام الموازنة بين الأخطاء والمحاسن، بل أعلم وتعلمون أني تحدثت عن كثير من هذه الأخطاء في أكثر من مناسبة، وأن حديثي عن هذه الأخطاء أكثر من حديثي عن هذه الجوانب، فأنا حين أتحدث عن هذه الجوانب المشرقة لست أدعي العصمة، ولست أدعي السلامة من الأخطاء، ومن ذا الذي لا يذنب؟ ومن ذا الذي لا يقع في الخطأ؟ ولكن هذه الأخطاء مهما كثرت وعظمت لا يمكن أن تُقارن بجوانبِ الإحسان وجوانب الخير، خاصة وأن كثيراً من الأخطاء ليس مصدره الهوى وتعمد العصيان وركوب طريق الغواية.
إيجابيات هذا الجيل المبارك
الأول : أنه من أسعد الناس بتحقق طائفة من الأوصاف الشرعية
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"يأتي على الناس زمان القابض فيهم على دينه كالقابض على الجمر" ، رواه الترمذي وأحمد وأبو داود .
إن هؤلاء قد استقاموا على طاعة الله تبارك وتعالى وابتعدوا عن الشهوات في عصر يعجّ بالفتن والشهوات، في عصر يدعوهم إلى ركوب الغواية، لا شك أنهم كالقابضين على الجمر.
وهم من أسعد الناس بقوله صلى الله عليه وسلم:"بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء" . وفسر النبي صلى الله عليه وسلم الغرباء بأنهم الذين يصلحون إذا فسد الناس، وأنهم أناس صالحون في أُناسِ سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم، فهنيئاً لكم يا شباب الإسلام، وقد أخذتم على عاتقكم الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فأنتم بين إحدى الحسنيين؛ إن استجاب لكم الناس وأطاعوكم فأنتم من أسعد الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً"، وإن عصاكم الناس وأعرضوا عن دعوتكم فأنتم سعداء بقوله صلى الله عليه وسلم : "أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم".، وهذا النشء المبارك من أسعد الناس بقوله عليه السلام : "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل وشاب نشأ في طاعة الله …"الحديث.
إننا حين نقول هذا فإننا لا نشهد لفرد بعينه، ولا لشخص بعينه أن هذه الصفة أو تلك تحققت فيه، لكننا نرى أن هذا الجيل المبارك في الجملة من أسعد الناس بهذه الصفات، ومن أقرب الناس إلى تحققها.
الثاني : استقامتهم على الدين في وسط يحتقر الدين والتدين(/3)
إن العالم الإسلامي اليوم قد فتن بصورة من صور الردة عافانا الله وإياكم، صورة احتقار الدين واحتقار المتدينين، حتى أصبح بعض من المسلمين يستحي حين يصلي مع أقرانه، يستحي حين يعمل طاعة من الطاعات، يستحي حين يمتنع عن معصية من المعاصي، ولئن تفاوتت الدرجات أو الدركات حول هذه الخطيئة التي عمت في بلاد المسلمين، فإن مجتمعات المسلمين تشترك في أن لها نصيب وافر من احتقار الدين وأهل الديانة والتدين، ووصفهم بأقبح الأوصاف وأحطها، واتهامهم بهذه التهم، ومع ذلك يسير هؤلاء الشباب ويستقيمون على طاعة الله تبارك وتعالى ويحتملون ما يواجهونه من احتقار الناس، ولعلهم من أسعد الناس بقول الله تبارك وتعالى :} إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرحِمِين*فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ*إِنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُون {. وقوله تبارك وتعالى: } إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُون*وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُون*وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ*وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَآلُّون*وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ*فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ*عَلَى الاَْرَآئِكِ يَنظُرُونَ {.
قال ابن عبد البر :وقد دأب أهل العلم على الاحتجاج بما نزل من الآيات في الكفار على من تشبه بأعمالهم ولو كان من المسلمين .
أيها الشباب المبارك لا يهوَّلنكم أن يسخر الناس بكم ما دمتم تعتزون بدين الله تبارك وتعالى، لقد أخبر الله عز وجل عن طائفة من المنافقين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات فقال تبارك وتعالى عنهم : } الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ { . وأخبر تبارك وتعالى عن حال الذين يقولون لشياطينهم إنا معكم إنما نحن مستهزئون فقال : }اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون { أيّ منزلة أعلى وأكمل من أن يسخر الله تبارك وتعالى بأولئك الذين يسخرون بعباده الصالحين، وأن يستهزئ بالذين يستهزئون بهم، وأي خسارة وبوار لأولئك حين يتعرضون لسخرية الجبار، وأن يستهزئ بهم تبارك وتعالى .
إن استقامة هؤلاء الشباب وثباتهم في هذا الوسط الذي يحتقر الدين والمتدينين، ويَعُد من صفات القصور والنقص في المرء؛ أن يكون متديناً، إن هذا من أعظم الإيجابيات، ومن أعظم جوانب الإنجاز التي حققها هؤلاء .
الثالث :انتصاراتهم على شهواتهم في وسط مجتمع يعجّ بالفتن والشهوات
إنها قضية أيها الأخوة ليست بحاجة إلى تمثيل، ليست بحاجة إلى بيان، وأنتم جميعاً لستم بحاجة إلى أذكركم بما تعجّ به مجتمعات المسلمين من مظاهر الإغراء والرذيلة، تلك المظاهر التي تدعو الشباب وتدعو الفتيات إلى مواقع الرذيلة والفساد، حتى صارت الرذيلة تلاحق الشاب والفتاة، في الشارع وفي السوق، بل في منزله، ومع ذلك ينتصرون على شهواتهم ويسيرون في طريق العفة، بإذن الله وتوفيقه تبارك وتعالى .
إن هذا وحده كافٍ في أن نتجاوز كل ما يقع فيه هؤلاء من تقصير في مقابل ما استطاعوا أن يحققوه في وسط فتن تؤزهم إلى الفساد أزًّا وتدعوهم إلى الفساد بكل وسائله وصوره وألوانه.
الرابع : أن هذا النشء المبارك قد أحيا سنة حفظ كتاب الله تبارك وتعالى
لقد كنا قبل سنوات في مجتمعنا يندر أن نرى إماماً يصلي بالناس وهو حافظ لكتاب الله تبارك وتعالى، فضلاً عن أن نجد شابًّا حافظاً، حتى صار يقال :إن في بني فلان شاب أو رجل يحفظ كتاب الله، بل إنه كان من النادر أن تجد من يتقن تلاوة كتاب الله عز وجل ولو كان المصحف بين يديه.
أما الآن فها نحن نرى هذا الجيل المبارك، هانحن نراه يتوافد ويُقبل على كتاب الله تبارك وتعالى، وهانحن نرى هؤلاء الشباب قد أقبلوا على حفظ كتاب الله تبارك وتعالى، ونرى العديد من هؤلاء مع ما ينشغل به من مشاغل: من الانشغال بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى، من الانشغال بدراسته، من الانشغال بمصالح نفسه ومصالح أهله، مع ذلك نجد العديد بل المئات من الشباب والفتيات قد أتموا حفظ كتاب الله، بل أصبحت وبحمد الله لا تكاد ترى شابًّا من هؤلاء الشباب المتدينين إلا وقد بدأ بحفظ كتاب الله وشرع فيه، حتى أولئك الذين قعدت بهم همتهم وقعد بهم كسلهم وفتورهم لا نزال نراهم يتساءلون في كل مناسبة : كيف أحفظ كتاب الله ؟ما الطريق إلى حفظ كتاب الله عز وجل، وهي صورة أوضح وأظهر من أن نشيد بها وأن نتحدث عنها .
الخامس: العلم الشرعي والعناية به وإحياؤه(/4)
لقد مرت على مراكز العلم وحِلقه ودروسه حالة من الجفاف، حالة من الفقر، كادت الأمة فيها أن تنسى العلم الشرعي، فما لبث هؤلاء الشباب وما لبث هذا الجيل المبارك أن يقبل ويتوافد على حلق العلم وأن يحييها .
إذا أردت مصداق ذلك فاذهب يمنة ويسرة وتأمل في حلق العلم، من هم روادها ؟ من هم الذين يثنون ركبهم في حلق العلم، في وقتٍ يتوافد أترابهم وأقرانهم على أماكن اللهو والمتعة واللعب، في وقت يدعوهم فيه الناس إلى الشهوات، إلى أن يَسعدوا باللهو واللعب؟ ومع ذلك يضحّي هؤلاء فيتركون لذة الفراش والنوم، ويتركون لذة اللهو واللعب، ويثنون ركبهم أمام المشايخ، وأمام حلق العلم، يتعلمون العلم.
وهانحن نرى بحمد الله الدراسات الشرعية والكليات الشرعية، تشهد إقبالاً واسعاً منقطع النظير من هذا الجيل بعد أن مرت بالأمة مرحلة يستحي الطالب فيها أن يقول أنه يدرس في كلية شرعية، وكان المسلمون يرون أنه من العيب والنقص في الشاب أن يدع سائر التخصصات ويقبل على العلم الشرعي.
إن رواج حلق العلم والإقبال على التخصصات الشرعية، ورواج الكتاب الإسلامي وانتشاره - بل كون الكتاب الإسلامي هو أكثر الكتب رواجاً وانتشاراً في العالم العربي كله - إن هذا دليل على إقبال الناشئة على العلم الشرعي، وهو بلا شك أمارة وعلامة على أن الأمة سائرة نحو المنهج الحق، وعلى أن هذه الدعوة المباركة سائرة على المنهج الصحيح وفي الطريق إليه، لأن الناس حين يقبلون على علم الكتاب والسنة فإن هذا بإذن الله عنوان عصمتهم من الأهواء والفتن والصوارف والضلال .
السادس : الدعوة إلى الله تبارك وتعالى وحمل هم الإصلاح
إن هذا الجيل وهذا النشء المبارك قد أخذ هذه الدعوة على عاتقه، هانحن نراه يصعد المنبر يخطب الناس أو يقف أمامهم واعظا أو داعيا بأي وسيلة من الوسائل، هانحن نراه يحيي الدعوة بمدرسته، في جامعته، في حيه، بل هانحن نرى هؤلاء هم أبرز الناس وأكثرهم حملاً للدعوة.
لقد أصبح همّ الإصلاح وهمّ التغيير في مجتمعات المسلمين يسيطر عليهم بل يُشغلهم عن سائر الهموم التي يهتم بها أقرانهم، ولا عجب ولا غروَ فقد كان للشباب من فرط هذه الأمة ورعيلها الأول: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك نصيب وافر، إن خمسة من العشرة المبشرين بالجنة كان أعمارهم حين دخلوا الإسلام دون الخامسة والعشرين، وطائفة من السابقين الأولين إلى الإسلام أمثال علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وخباب بن الأرت والأرقم وغيرهم وغيرهم كانوا لم يصلوا العشرين من أعمارهم ومع ذلك كانت لهم أدوار مثلى، وكان لهم القَدَحُ المعلى في الدعوة لهذا الدين والجهاد في سبيله والقيام بنصرته، ولهذا لا غَروَ أن نجد هذا الجيل وهذا النشء المبارك يحيي سنة أسلافه، ومن تشبه بقوم فهو منهم، ومن سار على طريق أولئك فهذا بإذن الله حريٌّ وجدير به أن يحشره الله تعالى معهم ، فالمرء يحشر يوم القيامة مع من أحب .
السابع : مساهمة كثير منهم في إصلاح بيوتهم
كثيرة هي البيوت التي صلحت بدعوة شاب ربما لم يبلغ الحلم، أو لم يجاوز العشرين من عمره، وكثير من الآباء والأمهات الذين أصلحهم الله تبارك وتعالى واستقاموا وصلحت بيوتهم؛ فزالت منها المنكرات، واستقامت على طاعة الله تبارك وتعالى بسبب جهد شاب صالح أو فتاة صالحة من هذا النشء وهذا الجيل المبارك.
وطائفة ممن لم يستطيعوا إصلاح بيوتهم والتأثير عليها، قد بذلوا الجهد في ذلك؛ فهم كثيراً مايتساءلون عن وسائل إصلاح بيوتهم، ويحدثونك بأن بذلوا هذه الوسيلة وتلك، وعملوا هذا الأمر، لكنهم لم يوفَّقوا ولم يستطيعوا، والنتائج بيد الله عز وجل.
الثامن : النفع للناس في أمور دنياهم
إن هذا الجيل المبارك من الشباب والفتيات الصالحين قد أخذ على عاتقه حمل قضية الدعوة والإصلاح، وقد شَعَر أن قضية الناس الكبرى والأساس هي القضية التي خُلقوا من أجلها، لعبادة الله تبارك وتعالى }وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون {، وشَعَر أن أعظم خير ونفع يقدمه للناس هو أن يدعوهم إلى عبادة الله تبارك وتعالى وطاعته؛ فأخذ على عاتقه هذا الهم، ومع ذلك لم يكن ذلك مشغلاً له عن أن يقوم بالواجب الآخر : أن ينفع الناس في أمور دنياهم، وهو أمر ظاهر بحمد الله، مَن هم الذين يتصدرون للإحسان إلى المحتاجين والفقراء؟ مَن هم الذين يقومون ويسهرون على المبَرّات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية؟ ويجهدون في نفع المسلمين في أمور دنياهم، في مسح دمعة يتيم، أو إطعام جائع في مسغبة، أو التخفيف عن مُصَاب في مصيبة؟
وقد أدرك أعداء الإسلام هذا الجانب، وشعروا أن هذه القضية قد تُكْسِب هؤلاء بعداً عند الناس؛ ولهذا سعوا في حجب هذه الأدوار عن هؤلاء، لكن حالهم حال أولئك الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يُتِمَ نوره .(/5)
وهانحن نرى –والحمد لله- هؤلاء الصالحين في كل مكان في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، حين تلم بالمسلمين كارثة أو تصيبهم مصيبة، هانحن نراهم يبادرون لنجدة إخوانهم ونصرتهم ولمسح الدمعة عنهم ولا غَروَ فقد ورثوا هذا الهدي من نبيهم صلى الله عليه وسلم فقد كان صلى الله عليه وسلم يحمل الكَلَّ ويعين على نوائب الدهر، وكان صلى الله عليه وسلم هو القدوة في الإحسان إلى الناس في أمور دينهم وأمور دنياهم .
التاسع : التفوق في سائر مجالات الحياة المختلفة
مع ما شُغل به هؤلاء، من الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ومن حفظ كتاب الله، وتعّلم العلم الشرعي، ومن نصرة قضايا المسلمين والاشتغال بها؛ مع ذلك كله هاهم يثبتون للناس أنهم هم المتفوقون في مجالات الحياة، ولا شك أن الاطلاع على نتائج الامتحانات في جامعة من الجامعات في بلاد المسلمين أو مدرسة من المدارس للشباب أو للفتيات؛ تعطينا دليلاً على أن هؤلاء المتدينين والصالحين هم الذين يتصدرون القائمة، وأن أغلب الذين يحققون التفوق هم والحمد لله من هؤلاء .
لقد سعى أعداء هذه الدعوة إلى أن يصوروا للأمة أن هذا التدين وهذه الاستقامة إنما هو إفراز لمشكلات نفسية، أو مشكلات اجتماعية واقتصادية، أنه إفراز لتخلف يعاني منه هؤلاء. لكن حين يرى المسلمون بأعينهم أن هؤلاء -كما أنهم قد تفوقوا في العلم وفي حفظ كتاب الله- فقد تفوقوا في سائر التخصصات في الكليات التي تُعْنَى بالدراسات التطبيقية، وفي إحدى كليات الطب كان في سنة من السنوات :الخمسة الأوائل من الطلاب من الشباب المتدينين الصالحين.
وفي إحدى الدول العربية -والتي كانت أول بلاد سُعي فيها إلى تحرير المرأة ورفع الحجاب –كانت ثمانية من الطالبات العشر الأول في نتيجة الثانوية العامة على مستوى الدولة من الفتيات المحجبات، في بلد هي أول من نزع الحجاب ومع ذلك تأتي تلك الفتيات ليقلنَ للعالم أجمع أن قضية الحجاب وقضية التدين ليست كما يطرحه أولئك: (إفراز لعقد نفسية، أو مشكلات اجتماعية)، وليثبتن أن هؤلاء المتدينين هم أقدر الناس على النجاح والتفوق؛ لأنهم يدركون أن قضية الحياة قضية جادة، فهم أينما ساروا وأينما ذهبوا هم المتفوقون.
العاشر: أن اهتماماتهم تجاوزت اهتمامات الناس الفارغة
ما هي القضايا التي تسيطر على همّ المسلمين صغاراً وكباراً، شيباً وشباناً؟ إنها قضية الدينار والدرهم، إنها قضية الشهوة، قضية العبث، قضية اللهو الفارغ، هي القضية التي سيطرت على حياة المسلمين، أما هذا الجيل المبارك وهذا النشء المبارك فهو يحمل همّاً آخر، يحمل قضية أخرى .
إن القضية التي تقلقه وتشغل باله هي: كيف يستقيم على طاعة الله؟ كيف يحفظ كتاب الله؟ كيف يحصّل العلم الشرعي؟ كيف ينفع المسلمين؟ كيف يدعو إلى الله تبارك وتعالى؟
وهو إنجاز من أعظم الإنجازات، حينما يتجاوزون ما يهتم به سائر المسلمين والمسلمات ولسان حال أحدهم يقول: ( يا قوم أنتم في واد وأنا في واد، يا قوم لكم همّ ولي همّ آخر، لكم شأن ولي شأن آخر ) . وهذا جدير بهم أن يكونوا ممن يقولون يوم القيامة لله تبارك وتعالى حين يُسألوا : قد مضى الناس ولم تمضوا، يقولون : يارب فارقنا الناس ونحن أحوج ما نكون إليهم، نعم لقد فارقناهم بالدنيا ونحن أحوج ما نكون إليهم، وهانحن نفارقهم يوم القيامة أحوج ما يكون الناس إلى ذلك، فنحن ننتظر ربنا تبارك وتعالى كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل .
إنهم يغتنمون الفرص لكل مافيه نصر للدين ودعوة إليه؛ فهم يتساءلون في كل مناسبة: في مقتبل الإجازة، في الحج، في رمضان، في كل مناسبة، يتساءلون كيف نستثمر هذا الموقف في الدعوة إلى الله عز وجل ؟ كيف نستغل هذا الوقت وهذا الموسم وهذه الفرصة في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ؟
في حين كانت القضية التي تُشغل غيرهم في الإجازة هي قضية السفر واللهو واللعب، وفي حين أن القضية التي كانت تشغل بعض المسلمين في شهر رمضان هي كيف يمتعوا أنفسهم بأطيب الطعام والشراب ؟ كيف يرتبون أوقاتهم في اللهو واللعب؟
ولهم أسوة بنبيهم صلى الله عليه وسلم الذي كان لا يدع قضية من القضايا وباباً من الأبواب وميداناً من الميادين إلا ونشر فيه علماً، ودعا فيه إلى الله تبارك وتعالى، أليس صلى الله عليه وسلم يأتي في موقف ربما لا يزيد أثره في الناس أن يستثير بعض عواطف الأمومة والأبوة نحوهم فيرى صلى الله عليه وسلم امرأة تأخذ طفلاً من السبي فتضمه إلى صدرها فيستوقف أصحابه صلى الله عليه وسلم ويقول :"أترون هذه طارحة ولدها في النار ؟" فيقولون : لا، فيقول:"لله أرحم بهذه من ولدها" أو يقول:"والله لا يلقي حبيبه في النار" .(/6)
لقد كانت قضية الدعوة وقضية التعليم قضية تشغل النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان يستثمر كل هذه الفرص، ولهذا أخذ هذا النشء وهذا الجيل المبارك هذا الهدي المبارك منه صلى الله عليه وسلم فصار سؤاله في كل وقت : كيف يستثمر هذا الوقت في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى؟
الحادي عشر : أنه أحيا سنة الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى
إن تجربة الجهد الأفغاني تجربة قريبة وتجربة لم ولن تنساها الأمة، في وقت كادت الأمة أن تنسى الجهاد وتنسى هذه الفريضة، بل للأسف كان بعض من يتصدر للتعليم وتدريس الناس الفقه يقفز باب الجهاد حين يصل إليه لأن الأمة قد نسيته ، وحين قام هذا الجهاد في تلك البلاد وفتح الميدان رأينا الشباب ممن لم يتجاوزوا العشرين أو تجاوزها بقليل، رأيناه يترك الدنيا ويترك الدينار والدرهم، ويترك كل ما يسير إليه الناس من متعهم، ويرحل إلى هناك إلى بلاد لا يعرف لغتهم، إلى بلاد لا يعرف طريقتهم، ولا يعرف حياتهم، ولسان حاله يقول وقد قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه حين ودع أصحابه وقالوا له حفظكم وردكم إلينا، قال : لا ردنا الله إليكم ، وقال:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة ** وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طَعنةٍ بِيَدَي حرّانَ مُجْهزةٍ ** تغوص من الأحشاء تقذف الكبدا
حتى يقال إذا مروا علىجدثي ** يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
وكان يسأل الشهادة ويقول وهو يخاطب راحلته :
إذا أديتِني وحملت رحلي ** مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك أنعم وخلاك برء ** ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وخلفوني ** بأرض الشام منجدل الثواء
هنالك لا أبالي طلع بعل ** ولا نخل أسافلها رِواء
ولسان حاله يقول كما قال الأول:
على شرجع يعلى بخضر المطارف ** أذا العرش إن حانت وفاتي فلا ن
يمَسُّون في فج من الأرض خائف ** ولكن أحِن يومي سعيداً بصحبة
لئن قالها صاحب بدعة وصاحب ضلالة، فهو يقولها وهو على السنة وهو يتمنى أن يرزقه الله الشهادة تحت لوائها.
وبعد أن نسيت الأمة صور الشهادة، ونسيت صور الجهاد، رأينا نماذج من هؤلاء، ممن قتلوا في سبيل الله -نحسبهم والله حسيبهم- من الشهداء في سبيل الله، فأحيوا فريضة الجهاد، وضربوا للأمة أروع الأمثلة في التضحية والبطولة والفداء، في وقتٍ كان يسافر أترابهم وأقرانهم لقضاء الرذيلة، ولقضاء الشهوات المحرمة، وفي وقتٍ كان يسافر فيه الكبار والصغار للنزهة، كان هؤلاء الشباب يسافرون لأن يتيسر لهم في تلك البلاد ما لا يتيسر لهم في بلادهم، أما هؤلاء فلهم شأن آخر وقضية أخرى وحياة أخرى.
وأولئك الذين لم تكتحل أعينهم برؤية ميدان الجهاد، ولم تتشنف أسماعهم بسماع صوت الجهاد، كما كان أحدهم يتغنى:
لا شيء يشجيني ويطرب مسمعي ** كأزيزِ رشاشي وصولة مدفعي
إنهم وإن لم تكتحل أعينهم برؤية تلك المشاهد، ولم تتشنف أسماعهم بسماع ذاك الصوت، ولم يحصل لهم شرف المشاركة في تلك الميادين؛ فإنما عاقهم عائق وحبسهم حابس عن هذه الميادين، وأحدهم يتمنى أن تتاح له الفرصة، وأن يفتح له الميدان .
إنها صورة تستحق الإشادة، وتستحق أن نحْفِل بها، وأن نشعر أنها من منجزات جيلنا المبارك، وكما قال صلى الله عليه وسلم :"من خير معاش الناس لهم في دينهم ودنياهم رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما سمع هيعة طار يبتغي القتل والموت من مظانه" .
الثاني عشر : أنهم قد أحيوا سنة الأخُّوة في الله
لقد كادت الأمة أن تنسى الحب في الله والأخُّوة في الله، فجاء هذا النشء المبارك ليحيي معاني هذه الأخُّوة وليتأسى بنبيه صلى الله عليه وسلم والجيل المبارك الذين تآخوا على غير أرحام بينهم .
ولعل هؤلاء من أسعد الناس بقوله صلى الله عليه وسلم : "رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه" مما حدا بأحد شعراء هذه الصحوة أن يستبشر حين رأى هذا الأمل:
الله أكبر إن عيني قد رأت ** نوراً بآفاق السماء يتلالا
فلعله فجر الأخُّوة قد بدا ** يحيي النفوس ويبعث الآمالا
ويميط عن هذه القلوب هوانها ** فتروح ترسل روحها إرسالا
الثالث عشر : موقف هؤلاء من المعاصي
إن هؤلاء -شأنهم شأن سائر المسلمين- قد يقعون في المعصية وقد يواقعون الذنب، ومن هو الذي لا يقع في الذنب والمعصية؟"لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولأتى بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم"و"كل ابن آدم خطّاء وخير الخطّاءين التوابون"كما قال صلى الله عليه وسلم .(/7)
إن هؤلاء -وإن وقع أحدهم في المعصية - فحالهم مع المعصية ليست كحال سائر المسلمين، إن أحدهم ما يلبث أن يبادر إلى التوبة إلى الله والإقلاع، ولعله بهذا من أسعد الناس بقوله تبارك وتعالى :} إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَىِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ {، وبقوله تبارك وتعالى }: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالاَْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين{ ، ثم ذكر تبارك وتعالى في صفة هؤلاء أنهم}إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله{، في حين يصرُّ غيرهم على هذه المعاصي .
وهم لو وقعوا في المعصية فإن أحدهم يستعظم المعصية وتعظم عنده، كما قال ابن مسعود t: "إن المؤمن يرى ذنبه كالجبل يوشك أن يقع عليه، وإن المنافق يرى ذنبه كذباب طار على أنفه فقال به هكذا".
كم يستهين كثير من المسلمين بالنظر الحرام بل يستنكر حين يُنكر عليه هذا الأمر كم يستهينون بالكبائر والفواحش؟ أما هذا الجيل فإنك تراه حين تقع منه معصية أو نظرة محرمة فإنه يستعظمها ويقبل على الله عز وجل مستغفراً تائباً ويشعر أن هذه القضية تكاد وتوشك أن توبقه .
وهم أيضاً لو وقعوا في المعصية فإنهم إنما يقعون وقوعاً عارضاً، فلا يسعون إلى المعصية، ولا يبحثون عنها، لكن قد يواقع أحدهم المعصية وقد غلبته شهوة وقد غلبه هوى، ولعله أسعد الناس بما قاله ابن القيم رحمه الله كما في مدارج السالكين : "والله تعالى إنما يغفر للعبد إذا كان وقوع الذنب منه على وجه غلبة الشهوة وقوة الطبيعة، فيواقع الذنب مع كراهته له من غير إصرار في نفسه، فهذا ترجى له مغفرة الله وصفحه وعفوه، لعلمه تعالى بضعفه وغلبة شهوته له وأنه يرى كل وقت مالا صبر له عليه. فهو إذا واقع الذنب واقعه مواقعة ذليل خاضع لربه، خائف، مختلج في صدره شهوة النفس الذنب و كراهة الإيمان له، فهو يجيب داعي النفس تارة، وداعي الإيمان تارات. فأما من بنى أمره على أن لا يقف عن ذنب ولا يقدم خوفاً ولا يدع لله شهوة، وهو فرح مسرور يضحك ظهراً لبطن إذا ظفر بالذنب، فهذا الذي يخاف عليه أن يحال بينه وبين التوبة ولا يوفق لها" .
وهم أيضاً لو وقعوا في المعصية لا يجاهرون بها ويستحي أن يراه أحد عليها، ولا شك أن هذا بإذن الله دليل خير فكما قال عليه السلام: " كل أمتي معافى إلا المجاهرين" ولعله أن ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث النجوى:" يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول عملت كذا وكذا؟ فيقول:نعم، ويقول عملت كذا وكذا؟ فيقول:نعم. فيقرره ، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا، فأنا أغفرها لك اليوم".
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن نشأ في طاعة الله تبارك وتعالى، وأسأله تبارك و تعالى أن يجعلنا وإياكم من الغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، وأن يجعلنا وإياكم ممن يقبض على دينه فيكون كالقابض على الجمر ، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .(/8)
القابليّة للاستعمار ونهاية الأمّة
د. عبد الله بن ناصر الصبيح 18/3/1426
27/04/2005
ابن خلدون ومالك بن نبي -رحمهما الله- علمان بارزان في فكرنا الإسلامي ولكن يبدو أنهما جاءا في غير وقتهما فلم تستفد منهما الأمة. وكلاهما درس الوضع الاجتماعي للأمة، وحاول تشخيصه، واستخلاص السنن والقواعد الحاكمة للسلوك البشري الاجتماعي. ابن خلدون جاء في زمن ضعف فيه الفكر الإسلامي، وانتشرت فيه بعض التيارات التي تنصر الخرافة تحت اسم الكرامات، وخوارق العادات، وتعطل الأسباب، فلم يكن لرؤيته المبدعة التي تدرس السلوك الاجتماعي دراسة موضوعية نصيب من النظر والدراسة والتطوير. ولهذا أهملت مقدمة ابن خلدون التي أسس بها لعلم الاجتماع إلى أن اكتشفته أوروبا.
و مالك بن نبي كان حظّه من عناية أبناء عصره به أفضل من نصيب ابن خلدون في وقته إلا أن ما ناله من الدراسة أقل مما يستحقه. ولعل سبب ذلك بعض الظروف السياسية، وربما خلافه مع سيد قطب في مفهوم الحضارة - ولعل ذلك جعل كثيرين من أبناء الصحوة في المشرق يزهدون فيه إلى وقت قريب.
كلا العلمين ناقشا ضعف الأمة وهزيمتها، ورؤيتاهما تكمّل إحداهما الأخرى. ابن خلدون تحدّث عن تقليد المغلوب للغالب، وجعل ذلك قاعدة من قواعد السلوك التي تتبعها أي أمة مغلوبة، فهو يقول في مقدمته: "الفصل الثالث والعشرون في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده. والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه... أو لما تراه -والله أعلم- من أن غلب الغالب ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحله من العوائد والمذاهب.." (ص 133، طبعة دار الشعب) .
ربما يكون تحليل ابن خلدون ليس محيطاً بالظاهرة من جميع جوانبها، فليس كل مغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب، فهناك من المغلوبين من يقاوم الغالب ويغالبه حتى ينتصر عليه، ويتحرر من ربقته. وهذا ينقض اطّراد القاعدة عند ابن خلدون وشموليتها. ولكن يمكن القول باطّراد النظرية لو أن باحثاً حرّر مقصد ابن خلدون من الغلبة، فإذا كان مقصده بالغلبة الهزيمة الداخلية فلا شك أن نظريته تطّرد، وهنا يلتقي مع ما ذكره مالك بن نبي عن القابلية للاستعمار. والقابلية للاستعمار – كما يراها ابن نبي - حالة خاصة تصيب بعض الشعوب فتستخذي للهزيمة، وتقبل الاستسلام للخصم، والوقوع تحت سلطته، وهي تصيب بعض الشعوب حتى ولو لم تكن استعمرت قط.
والقابليّة للاستعمار هي أسوأ ما يمكن أن ينتج بسبب الصراع بين الأمم والحضارات، ذلك أن الشعب القابل للاستعمار يعيد تعريف حضارته وأدبه وتاريخه وثقافته وفق رؤية المستعمر؛ فيستقبح من ذلك ما يستقبحه المستعمر ويستحسن منه ما يستحسنه المستعمر. وخلال هذه العملية يتخلّص من مظاهر القوة في ثقافته ومن كل مايميّزه عن مستعمره. وإذا أردنا أن نجمع بين ابن خلدون ومالك بن نبي لقلنا: إن القابليّة للاستعمار دفعت الشعب أو فئات من الشعب إلى أن يُقلّد المستعمر.
ولكن ما القابلية للاستعمار؟
يجيبنا مالك بن نبي بأنها هزيمة داخليّة.
ولكن ماذا يعني ذلك؟
إنها تعني أن طائفة من الناس تشعر أن مصالحها مرهونة بوجود المستعمر وتأييده، فهي إذن ترضى أن تسير في ركابه وتعيش في كنفه، وتدافع عنه وتحسّن ما يستحسنه، وتقبح ما يستقبحه؛ لتستمتع بالبقاء تحت سيادته.
والمستعمر يبحث عن هذه الفئة من الناس التي لديها القابلية للاستعمار و تعيش هزيمة داخلية؛ لأنهم رسله الذين يوطئون الوطن لمقدمه، ويمهّدون البلاد له، ويدافعون عن سياسته في حرب الأمة. ولأنهم حِرابه التي يطعن بها في خاصرة الأمة، فيتّهمون قيمها بالتخلف، ومناهجها التعليميّة مثلاً بصناعة الإرهاب.
والمستعمر إذا لم يجدهم سعى لإنشاء ظاهرة القابلية للاستعمار عند من يريد استعماره، مستخدماً عدداً من الوسائل الإعلاميّة والسياسيّة والعسكريّة؛ فالقوة المفرطة والاعتداء على كرامة الشعب، والسخرية من ثقافته وهويته وخياراته القصد منها كسر إرادة الشعب، وتحطيم خيار المقاومة عنده، وهزيمته النفسيّة.(/1)
القادم المنتظر
د. علي بن عمر بادحدح 29/8/1425
13/10/2004
مرّت الليالي وتوالت الأيام، وتعاقبت الأشهر وتصرّم العام، ودار الزمان دورته وها نحن في انتظار شهر الصيام، شهر الذكر والقرآن، شهر البرّ والإحسان، شهر الإرادة والصبر، شهر الإفادة والأجر، شهر الطاعة والتعبّد، شهر القيام والتهجد، شهر صحة الأبدان، شهر زيادة الإيمان .. ننتظر رمضان والنفوس إليه متشوقة، والقلوب إليه متلهفة، تمر بالذاكرة صور كثيرة، مساجد ممتلئة بالمصلين، وذاكرين ومرتلين، ومنفقين ومتصدقين، ونكاد نسمع ترتيل القرآن في المحاريب، وبكاء المبتهلين في الدعاء، فيزداد لذلك الشوق ويعظم العزم، وتتهيأ النفس .
" ويستقبل المسلمون في رمضان ثلاثين عيداً من أعياد القلب والروح، تفيض أيامها بالسرور، وتشرق لياليها بالنور" (1) ، "وتقبل علينا أيام لها في القلوب مكان، ولها في النفوس منازل، أيام خلدها القرآن، وباركها الله سبحانه وتعالى، أيام يُزاد فيها العطاء، ويُرفع فيها الدعاء، وتُغفر فيها الذنوب، أيام تكثر فيها الصلاة، وتُفرض فيها الزكاة" (2) ، وكأنني في رمضان وهو ينادي الزمان ويخاطب الدهر قائلاً :" قف – يا دهر – بأبناء البشرية رويداً، فقد أرهقْتهم بمفاتِنك، وخدعتهمببهارجك، واستعبدتهم بغرورك، وشغلتهم حتى عن علاج أنفسهم، وتغذية أرواحهم ، وسلخت من عامهم أحد عشر شهراً كاملاً تشابهت أيامها ولياليها، وطفحت أحداثها بمآسيها، كفى كفى يا دهر ، فقد أجعتهم من كثرة ما أكلوا، وأظمأتهم من طغيان ما شربوا، وأرّقتهم من طول ما ناموا، وأضعفتهم أضعاف أضعاف ما استراحوا، قف - يا دهر - بأمر ممن خلقني وخلقك، فإن الناس أكرم على الله من أن يتركهم فريسة لخَتَلك وخداعك، وهو –سبحانه- أرحم بهم من أن يغرقهم بشهواتك وأحداثك"(3)، وآن الأوان أن تسطع شمس الإيمان، وأن تحيا القلوب بالقرآن، وأن تصح الأرواح والأبدان، وأن تقوى الإرادة من بعد ضعف، وأن تعلو الهمة من بعد انتكاس، وأن يشتدّ العزم من بعد فتور.
أخي المسلم رمضان مختص بأمور كثيرة وعظيمة، تجعل له خصوصية عظيمة، فهو :
1- صومه فريضة من فرائض الإسلام (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
2- شهر نزول القرآن (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان).ِ
3- اختصاصه بمزايا في الصلة بدخول الجنان والنجاة من النيران :
(أ) قال صلى الله عليه وسلم: ( إن في الجنة باباً يُقال له الرّيان، يدخل منه الصائمون، فإذا دخلوا أُغلق فلا يدخل فيها غيرهم ).
(ب) قال صلى الله عليه وسلم : ( الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة، فشفّعني فيه، ويقول القيام : أي رب منعته النوم في الليل فشفعني فيه، فيُشفّعان فيه ).
(ج) يقول صلى الله عليه وسلم : ( إذا كان أول ليلة من رمضان صُفّدت الشياطين ومردة الجن ، وغلّقت أبواب النار فلم يُفتح منها باب، وفُتحت أبواب الجنة فلن يُغلق منها باب، وينادي منادٍ يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة ).
(د) يقول صلى الله عليه وسلم : ( إن للصائم عند فطره دعوة لا تُردّ ) .
(هـ) قال صلى الله عليه وسلم : ( من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً ) ويقول: ( الصيام جنة يستجن بها العبد من النار ) .
وفي شهر رمضان عبادات كثيرة :
(أ) الصوم وهو فريضة الوقت .
(ب) الصلاة محافظة على الفرائض، واستكثاراً من النوافل الرواتب، ومواظبة على قيام الليل في التراويح والتهجد.
(ج) أداء الزكاة، وإخراج الصدقات، ومواساة القرابات، وتفطير الصائمين.
(د) أداء العمرة بثواب الحج،كما قال صلى الله عليه وسلم : ( عمرة في رمضان تعدل حجة معي ).
(هـ) الإخلاص لله وتجريد العمل ابتغاء وجهه، ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم وأنا أجزي به ).
(و) الدعاء بتحري وقت السحر وعند الفطر، وفي قنوت الصلوات .
(ز) تلاوة القرآن لاختصاص رمضان بنزول القرآن .
ولذا فإليك هذه الوصايا بين يدي انتظار القادم العزيز :
أولاً: أهمية التخطيط والإعداد
لكل موسم خُطة ومتطلبات وإعداد، فعندما بدأت الدراسة كان الجميع منشغلاً قبلها بالاستعداد لها، وكل استعداد وإعداد يتناسب مع طبيعته، وتخطيط رمضان للعبادة والاستفادة.
ثانياً : أهمية العزم والمعاهدة
في طبيعة النفس فتور وضعف، ولها بمشاغل الحياة ارتباط وتعلّق، وفي الشهوات والملذات هواها ومبتغاها، والصوم فِطامها وحسن قيادِ زِمامها، فاجعل بداية ذلك عزماً ومعاهدة تقطع طريق التسويف، وتُبطِل حجج التأجيل، وتمنع أسباب الضّعف .
ثالثاً : أهمية التجديد والابتكار(/1)
والمقصود التجديد في طرق اغتنام الأوقات، والابتكار في المبادرات والمشروعات، والغرض مزيد من العمل الصالح والأجر العظيم، ودفع للرتابة المضعفة للعزم، والمقعدة عن العمل.
وإليك هذه الشعارات التي أنصح برفعها وكتابتها واستحضارها وتذكرها:
1- رمضان على هدي المصطفى العدنان.
2- وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .
3- مقاطعة المنكرات والترفع عن الشبهات والاستكثار من الطاعات .
وأخيراً :
احرص في الصلوات في التبكير وإدراك التكبير، وفي السنن على الرواتب والتكثير، وفي التلاوة على الختم والزيادة، وفي القيام على الخشوع والدوام، وفي الخير على كثرة الإنفاق وصلة الأرحام، وفي الوقت على دوام الذكر والاغتنام، وفي القلب على التطهير والتحرير، وفي النفس على التزكية والتعلية، وفي العقل على الادِّكار والاعتبار، وليكن لك زاد - من بدر - في الانتصار، ومن - الفتح - في التوسع والانتشار، وأسأل الله أن يبلغنا جميعاً، وأن يعيننا على الصيام والقيام .
الهوامش:
(1) من مقال ( استقبال رمضان ) للأستاذ أحمد حسن الزيات، مقالات الإسلاميين في شهر رمضان الكريم (ص201-202) .
(2) من مقال ( أيام العطاء ) للدكتور توفيق الواعي ، مقالات الإسلاميين في شهر رمضان الكريم (ص220) .
(3)من مقال (رمضان والصيام ) للأستاذ محمد عبدا لعظيم الزرقاني ، مقالات الإسلاميين في شهر رمضان الكريم (ص240-241) .(/2)
القاديانية ... عميلة الاستعمار
بقلم / الحافظ إحسان ظهير ( رحمه الله )
اجتمع قواد الاستعمار البريطانى وزعماؤه فى لندن ، وخططوا خطة ضد الإسلام من أخطر خططهم بعد تفكير عميق وبحث دقيق بأنه لا توجد فى قارات العالم قوة تجابههم غير الاسلام ، ولذا لا بد لتدعيم القوة الاستعمارية ، أن تشتت قوى الإسلام ، ولكن لا بمهاجمتها ، بل بانشاء فرق باطلة منهم ، تكون حاملة اسم الإسلام وفى الأصل تكون هادمة لأصوله ومبادئه ، وتمد هذه الفرق بكل الامكانيات من المساعدات المالية وغيرها لتعمل على حسابهم ، وتتجسس على المسلمين ، فنسجت يد الاستعمار على هذا المنوال نسجا جميلا محكماً وبالفعل أرسلت بعثات خاصة فى البلاد المستعمرة للبحث عن الظروف وعن الخونة لكى تشترى منهم ضمائرهم وإيمانهم ، وأحاسيسهم ومشاعرهم ، ففتشت هذه الفئات الخبيثة عن الخونة وأى قوم يخلو عن مثل هؤلاء وكان أشدهم خطراً عميل الاستعمار الانجليزى فى الهند ، غلام أحمد القاديانى ، وفى إيران ميرزا حسين على المعروف ببهاء الله ولكن الآخر كان أشجع وأحمق ، فأظهر العداوة والبغضاء ضد الإسلام والمسلمين واجترأ وقال :
أنه نسخ القرآن الكريم بكتابه المحشو من الأغلاط وأنه ناسخ لشريعة محمد ( عليه السلام ) – فكان خطره أقل ، ولكن الأول وهو القاديانى كان أمهر وأمكر ، ولذلك أخفى حقده وبغضه فظهر بمظهر التجديد مرة وبالمهداوية مرة أخرى ثم بعد ذلك قفز ووصل إلى النبوة وقال : أنه نبى مرسل ينزل عليه الوحى ولكنه ليس بنبى مستقل بل نبى متبع كهارون لموسى ، وحرف معانى القرآن وأولها بتأويل فاسد وروّج أفكاراً باطلة وأدى للاستعمار خدمات جليلة مع بقائه فى صفوف المسلمين لأنه ما كان يستطيع أن يخدمهم بخروجه عن الإسلام مثل ما استطاع وهو مظهر إسلامه ، فكان من أعظم خدماته لهم فتواه لا يجوز لمسلم أن يرفع السلاح فى وجه الانجليز لأن الجهاد قد رفع وأن الانجليز هم خلفاء الله فى الأرض فلا يجوز الخروج عليهم ، فسُرّ منه المستعمرون أيما سرور وقدموا له كل المساعدات من الحماية والمال وحتى أعطوه أناساً يتبعونه ويقلدونه ، فكان الرجل الذى ما رأى طوال حياته مائة جنيه يلعب بمئات الألوف يومياً والمسلم الذى كان موظفاً بسيطاً لا يأخذ أكثر من خمس جنيهات فى الشهر وينتقل بطلب المعاش من بلد إلى بلد ومن قرية إلى قرية يبنى قصوراً شامخة ويركب عربات فخمة ويأخذ خدمه معاشاً أكثر مما كان يأخذ سيدهم ، فهذا كله كان من بركات الاستعمار البريطانى ، كما اعترف فى محضره الذى قدمه لملكة بريطانيا حينما زارت الهند ، فركز الاستعمار الجهود لتنمية هذه الشجرة وتربيتها ، وعرفوه إلى الناس ورفعوا منزلته فى كنفهم وشجعوه على الهجوم على المسلمين والإسلام ، وعلى أكابرهم وأئمتهم حتى تناول أعراض الأنبياء عليهم السلام ، وعرض سيد المرسلين ، كما تناول عرض أبنائه الحسن والحسين وعرض خلفائه ، وأصهاره ورحمائه ، أبى بكر وعمر وعثمان وعلى وأصحابه البررة رضوان الله عليهم أجمعين فكفر جميع علماء الأمة وافتوا بوجوب قتله لادعائه النبوة ولاهانته الأنبياء وسبابه للمسلمين ولانكاره أسس الدين الإسلامى الحنيف ولكن سيده الاستعمار دافع عنه ، وحفظه من غيظ المسلمين وغضبهم ، فما استطاعوا أن يعملوا ضده أى شئ ، إلا أن علماء المسلمين ناظروه وناقشوه ، وأظهروا الحق وأبطلوا الباطل ، وكان أبرزهم العالم الجليل الشيخ ثناء الله الأمر تسرى الذى انتصر عليه غير مرة ، وأقام عليه الحجة وأخيراً دعاه إلى المباهلة بأن الكذاب يموت فى حياة الصادق بموت غير عادى ، ومرة أخرى ظهر الحق ، وبعد مدة قليلة من هذه المباهلة مات غلام أحمد القاديانى بموت يكره الإنسان مجرد ذكره كما سنذكره بالتفصيل .
ولكن وبالأسف الشديد أن هذه الفئة المرتدة ليس لها بالإسلام أية علاقة والإسلام برئ منها دخلت مرة أخرى فى صفوف المسلمين وأظهروا بأنهم يعتقدون كل ما يعتقده المسلمون وليس بينهم فرق إلا فى أشياء بسيطة فرعية ومرة أخرى ساعدهم سيدهم القديم بالمنشورات وغيرها فى أوروبا وأفريقيا وغيرها من بلاد العالم وكما نشرت لجنة مسيحية فى ضميمة خلف المنجد بأن القاديانية فرقة من فرق المسلمين سوى أنها تعتقد بعدم فرضية الجهاد على المسلمين .
فلذلك أردت أن أدرس هذا المذهب الجديد دراسة علمية واسعة وخاصة بعد ما لقيت بعض الاخوان من مختلف أنحاء العالم فى الكعبة المشرفة وأدهشنى بأنهم يجدون فى بلادهم أناساً يدعون إلى القاديانية بدعوى أن قائدهم مجدد هذه الأمة ومصلحها وهم لا يجدون شيئاً يُقاومونهم به ، وحينما يسألهم علماء القاديانية أسئلة فلا يستطيعون أن يُجيبوهم لعدم مطالعة كتبهم ولعدم المعرفة بمعتقداتهم الأصلية – فها أنا ذا أقدم أقدم أول نجم متعهداً بالله بأنى لا آلوا جهداً حتى أكشف النقاب عن حقيقة هذا المذهب وبالله التوفيق .(/1)
ولد غلام أحمد فى قرية قاديان من إحدى قرى البنجاب فى سنة 1839م فى أسرة عميلة للاستعمار الانجليزى وكان أبوه واحداً من الذين خانوا المسلمين وتآمروا عليهم وساعدوا الاستعمار لطلب العز والجاه كما ذكر غلام أحمد بنفسه فى كتابه – تحفة قيصرية : - بأن أبى غلام مرتضى كان من الذين لهم روابط طيبة وعلاقات ودية مع الحكومة الانكليزية وكان له كرسى فى ديوان الحكومة وهو ساعد الحكومة حينما ثار عليها أهل وطنه ودينه الهنديون مساعدة طيبة فى سنة 1851م ( ثورة معروفة ضد الاستعمار ) بل مدها بخمسين جندياً وخمسين فرساً من عنده وخدم الحكومة العالية فوق طاقته – ( الكتاب المذكور ص 16 ) ففى مثل هذه الأسرة إن لم يولد غلام أحمد ، فمن يولد غيره ؟؟ فولد وحينما بلغ الرشد درس بعض الكتب الأردية والعربية على يد أساتذة غير معروفين وقرأ شيئاً من القانون ثم توظف فى بلدة سيالكوت من إحدى بلاد باكستان الآن بخمسة عشر روبية شهرياً وكان رجلا بليداً (( حتى قيل له أن يأتى بالسكر من البيت فبدل أن يأتى بالسكر جاء بالملح ومن فرط بلاهته وسفاهته بدأ يأكله فى الطريق ولما وصل الملح إلى الحلقوم غُص به ودمعت عيناه )) ( سيرة المهدى لابنه بشير أحمد ) .
وكان جبانا وما دخل فى المنازلات والمصارعات مع أنه ما كان أحد آنذاك من أبناء الشرفاء إلا وتعلم الفنون العسكرية ، ولذلك حينما أراد مرة أن يذبح فروجا قطع إصبعه وسال منها الدم فقام مستغفراً تائبا لأنه طوال حياته ما ذبح حيواناً ولا طائراً . ( سيرة المهدى ج2 ص 4 ) .
وشب وترعرع فى بلهه وجبنه فكان من لوازم هذا ألا يشب وينشأ إلا ويكون مريضاَ ، وبالفعل أُصيب بمرض المراق شبه الجنون ، كما أُصيب بأمراض مختلفة أخرى ونشر مرة فى كجلة قاديانية – ريويو قاديلن - : - (( إن مرض مراق ما كان موروثاً لحضرة سيدنا بل كان لأسباب خارجية يعنى أنه ما كان أحد مبتلى بهذا المرض فى أسرة غلام أحمد قبله وهو الذى ابتلى به وظهر أثره بسبب ضعف الدماغ )) ( عدد أغسطس 1936م ) .
فثبت بأنه كان مريضاً بمرض المراق وأيضاً كان كثير من أسرته مصابين بهذا المرض ومنهم ابن خاله ، وابنته ، وحتى زوجته ، كما ذكر ابنه فى سيرته وذكره هو بنفسه (( أن زوجتى مريضة بمرض المراق وهذه هى تمشى معى أحياناً للتنزه والتفرج كما أوصى الأطباء )) .
فالآن نحن نبحث عن مرض المراق ما هو؟؟ لأن له علاقة بموضوعنا هذا ، فقد تبين الحكيم الرئيس أبو على سينا فى كتابه ( القانون ) ما هو ( المراق ) وقال : إن المراق مرض تتغير فيه الأخيلة والأفكار ، لأجل الخوف والفساد وتتوحش روح الذهن باطناً ويصير المريض مشوشاً لظلمة هذا المرض .
وقال العلامة برهان الدين فى شرح الأسباب والعلامات لأمراض الرأس : أن المراق مرض تتغير فيه الأخيلة والأفكار الطبيعية إلى غير الطبيعية وحتى يصل إلى هذا الحد فإن المريض يظن أنه عالم الغيب وبعضهم يظنون أنهم ملائكة .
فشب هذا المراقىّ المجنون فى أوهام وأخيلة وادعى بأنه مجدد ، ثم بأنه يُلهم أسرار الملكوت فاستغله ربيبه الاستعمار ووضع على رأسه تاج النبوة فكان هذا المتنبى نبيهم هم ، وهم آلهته كما اعترف بنفسه : أنى رأيت ملكاً فى صورة شاب انكليزى ما تجاوز عمره من عشرين سنة وهو جالس على كرسى وأمامه منضدة فقلت له أنك جميل جداً فقال : أى نعم ( تذكرة وحى المقدس ص 31 ) ثم أُلهم فى الانكليزية ( ..... ) يعنى أنا أحبك و ( .....) وأنا معك ( ......) وأنا أساعدك – ويُذكر بأنه ارتجف بعد ذلك جسمى وأُلهمت فى الانكليزية ( ......... ) نحن نستطيع أن نفعل ما نُريد ، ففهمت من التلفظ واللهجة كأنه انكليزى يتكلم عند رأسى ( براهين أحمدى تأليف غلام القاديانى ) وكيف وقد صدق وعده ونصر عبده فكان واجب عليه يشكرهم وخاصة حينما أرسل الله الملكة المعظمة قيصرة الهند سلمها الله تفضلت وتجلت فى بيته للتسلية والتشجيع كما يرويه بنفسه : رأيت فى الكشف أن الملكة المعظمة ( قيصرة الهند ) سلمها الله تجلت وتفضلت فى بيتنا فقلت لأحد من أصحابى أن الملكة المعظمة شرفتنا فى بيتنا فلابد لنا أن نشكرها ( مكاشفات الغلام للمنظور القاديانى ص 17 ) .(/2)
وبالفعل أدى واجبه بولائه للاستعمار وإعلان وفائه له ، وتجسسه على المسلمين وحتى حينما كتب أحد الخبثاء المستعمرين كتابا تناول فيه أعراض أمهات المؤمنين وهجم على ناموس الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام ، ثار المسلمون فى الهند وقامت المظاهرات العنيفة ورفعوا استنكارهم وغضبهم إلى الحكومة على هذا الكتاب ففى مثل هذا ، بدل أن يشتركهم ، بدأ يهجم على المسلمين لأنه لا حق لهم أن يقوموا بمثل هذه المظاهرات والثورات ضد حكومة بريطانيا العظمى التى هى ظل الله فى الأرض وكتب مرة فى إحدى مؤلفاته بعد أن شُن عليه الهجوم لمناصرته وموافقته للاستعمار بل لدعايته لهم وتجسسه على المسلمين فكتب ((نحن نتحمل كل البلايا لأجل حكومتنا المحسنة وسنتحمل أيضا فى المستقبل لأنه واجب علينا أن نشكرها لاحسانها ومنتها علينا ، ولا شك نحن فداء ، بأرواحنا وأموالنا للحكومة الانكليزية ، ودوما ندعو لعلوها ومجدها سرا وعلانية )) ( آرية دهرم ص 79 و80 للغلام ) .
وليت شعرى أمثل هذا يدعى النبوة والتجديد الذى يقبل إهانة رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟ بل يمدح من أهانوه ، ويهجم على الذين يفدون بأرواحهم وأجسادهم ناموس الرسول وعظمته ويحرض أتباعه ومريديه على أن يستعدوا بتضحيات المال والنفس لرب الأرباب الاستعمار الانكليزى لأن دينه يعلمه أن يطاع الله وتُطاع الحكومة التى أمكنت البلاد وحفظتهم تحت ظلها من أيدى الظالمين ( يعنى المسلمين ) وهذه الحكومة ليست إلا حكومة بريطانية ، ( وأكثر من هذا ) فإن عصينا الحكومة فقد عصينا الاسلام وعصينا الله ورسوله ( بلفظة خطاب الغلام المندرج فى رسالته لائق أن تلتفت إليه الحكومة ) وقال فى كتابه ( ضرورة الإمام ص 23 ) ( وفى رسالته تحفة قيصرية ص 27 ) : أنا أشكر الله عز وجل أنه أظلنى تحت ظل رحمة بريطانية التى أستطيع تحت ظلها أن أن أعمل وأعظ فواجب على رعية هذه الحكومة المحسنة أن تشكر لها وخصوصا علىّ أن أبدى لها الشكر الجزيل لأنى ما كنت أستطيع أن أنجح فى مقاصدى العليا تحت ظل أية حكومة أخرى سوى حكومة حضرة قيصر الهند ))
وقال : لعنة الله على من لا يريد أن يكون تحت أمر الأمير مع أن الله قال أطيعوا الله والرسول وأولى الأمر ، فالمراد من أولى الأمر هاهنا هو الملك المعظم ولذا أنا أنصح مريدى وأشياعى بأن يدخلوا الانكليز فى أولى الأمر ويطيعونه من صميم قلوبهم و ( بلفظه ) : وكيف لا يُطيعون وهم وأبناؤهم وصنيعة أيديهم وثمرة غرستهم .
ويعرف باحث تاريخ الهند أن الاستعمار حينما رأى أن شجرته التى غرسها قد أينعت ، قد أغدقت بالنعم فأعطى للقاديانيين مراعاة خاصة سواء فى الوظائف وأرسل طلبة القاديانيين إلى أوربا للتعليم والتدريس وأعطوا حقوقاً خاصة فى كل ميادين العمل فى التجارة والزراعة والحرفة وغيرها ، كما أن الحكومة الانكليزية تولت نشر أفكار هذه الفئة لأنها كلها كانت على حسابها وفى مصلحتها وقع كثير من جهلة ضعفاء المسلمين فى شبكة هؤلاء بالاغراء والتحريض لأنهم كانوا يرون فى دخولهم القاديانية مصالح دنيوية ، وفعلاً حصلوا عليها ، وبدأت هذه الفئة المرتدة فى النشاط والانتشار ونشروا كتباً ورسائل محاولين ابعاد المسلمين عن الإسلام وتقريباً لهم إلى عبودية بريطانيا العظمى ، ودوماً كان يحفظهم مربيهم الاستعمار من غيظ المسلمين وغضبهم ، وحينما تغافل عنهم أحد حكام الاستعمار قدمت ضده الشكاوى ، ورُفع الاحتجاج بأن فلاناً يُساوى بيننا وبين فئات أخرى – وعلى الفور ورد إليه الانذار والتنبيه – كما أن الغلام القاديانى قدم بنفسه عريضة لنائب الملك فى الهند بأسلوب واللفظ لا تليق بأى رجل غيور ، وأين نبى الله ، وهذا نصه : (( العريضة التى أعرضها إلى حضرتكم مع أسماء أتباعى ليس المقصود منها إلا أن تلاحظوا الخدمات الجليلة التى أديت أنا وآبائى فى سبيلكم وكما ألتمس وأرجو من الدولة العالية أن تراعى الأسرة التى أثبتت بكمال وفائها وإخلاصها طوال خمسين سنة بأنها من أخلص المخلصين للحكومة والتى أقر وأعترف بولائها أكابر أمراء الحكومة العظمى وحكامها وكتبوا لها وثائق وشهادات على أن هذه الأسرة ، أسرة خدام ، وأسرة مخلصة ، فلذا أرجو منكم أن تكتبوا للحكام الصغار برعاية هذه الشجرة وحفظها التى ما غرسها إلا أنتم كما أرجو أن ينظروا إلى أتباعى بنظرة خاصة ودية لأننا ما تأخرنا أبداً من التضحيات فى سبيلكم لا بالنفوس ولا بالدماء كما لا نتأخر بعد ذلك فلأجل هذه الخدمات الجليلة نحن نستحق أن نطلب من الحكومة العظيمة المد والعون لكى لا يجرأ أحد علينا ( عريضة غلام أحمد لنائب أمير الهند المندرجة فى كتاب تبليغ رسالة ج7 لقاسم القاديانى ) .
ومرة أخرى ذكر خدماتها الجليلة وقال : إنى ملأت المكاتب من الكتب التى كتبتها فى مدح الانكليز وخاصة وضع الجهاد الذى يعتقده كثير من المسلمين وهذه خدمة كبيرة للحكومة فأرجو أن أجزى بها جزاء حسنا ))(/3)
وبالفعل أن هذه الخدمة كانت من أكبر الخدمات ، لأن الاستعمار مسيحياً كان أو غير مسيحى لا يخاف مثل ما يخاف من عقيدة الجهاد فى المسلمين ، فجوزى وأى جزاء أكبر من هذا بأن الرجل المريض بمرض المراق والفقير الذى ما كان عنده قوت يوم ، يتربع على عرش النبوة وتجرى حوله النذور ويسعى إليه الأنام وتسانده أكبر دولة فى العالم آنذاك ، فكان من لوازم هذا أن يزداد جنونه ، فزاد وبلغ إلى ذروته كما نحن نذكره إن شاء الله فى مقال خاص – ونضيف إلى هذا البحث اعتراف ابن الغلام ، خليفته الثانى بأن القاديانية ليست إلا وليدة للاستعمار فيقول : (( إن للحكومة البريطانية علينا إحسانات كثيرة بكل اطمئنان وراحة ، ونتم مقاصدنا ... ونذهب إلى بلاد أخرى للتبليغ والحكومة البريطانية تساعدنا أيضا هناك وهذا من كمال منه وإحسانه علينا ( بركات الخلافة ص 65 ) .
ولأجل ذلك كان الغلام يحرص دائماً أن يوجه مريديه لوفاء الاستعمار وولائه ، ولا هذا فحسب بل بالتضحيات فى سبيله وأن يكونوا دعاة عاملين ، ويركزوا فى قلوب الناس بأنها لا توجد فى العالم حكومة أعدل من هذه الحكومة ولا أحسن منها فيكون لهذه الدعوة أثر بليغ فى النفوس لأنه حينما يسمع هذا الكلام تكراراً أو مراراً يرسخ فيها حب واحترام هذه الحكومة المحسنة وهذا لا يكون مقتصراً على الهند فقط بل أينما يذهب أحد منا فى بلاد أخرى لأن مفادنا واحد وهدفنا واحد ( وهو هدم الكيان الإسلامى ومحو الدين القيم ) وحينما تسمع بلدان أخرى عدالتها تشتهى أن تصل إليها أقدام هذه الحكومة الميمونة .
وبالفعل كانت الأهداف والأغراض واحدة كما يخبر ويشهد مبشر قاديانى بعد رجوعه من روسيا سنة 1923م فقال : إنى أُعتقلت مرات بتهمة الجاسوسية للانكليز ، ويقول مفتخراً ، أنا ما ذهبت إلى روسيا إلا لتبليغ القاديانية ولكن بما أن مفادات القاديانية وأهدافها متعلقة بأغراض وأهداف حكومة بريطانيا كنت مضطراً بأن أخدم الحكومة وأؤدى واجبها علىّ ( مكتوب محمد أمين مبلغ القاديانية المنشور فى جريدة الفضل القاديانية 28 سبتمبر سنة 1923م ) .
وهكذا وهلم جرا ونزلت هذه الفئة الخبيثة فى الدرك الأسفل من الذلة والهوان حتى أظهروا سرورهم وابتهاجهم بسقوط دول الإسلام والمسلمين تلو الأخرى بيد الاستعمار واحتفلوا بحفلات عامة كبيرة وأرسلوا مبالغ ضخمة لشراء آلات الحرب ليُذبح المسلمون وحينما دخل الجيش الانكليزى العراق ألقى ابن الغلام وخليفته خطاباً فى حفلة أقيمت لهذ المناسبة وقال : إن علماء المسلمين يتهموننا بتعاوننا مع الانكليز ويطعنوننا على ابتهاجنا على فتوحاته فنحن نسأل لماذا لا نفرح ؟ ولماذا لا نسر ؟ وقد قال إمامنا بأنى أنا مهدى وحكومة بريطانيا سيفى ، فنحن نبتهج بهذا الفتح ونريد أن نرى لمعان هذا السيف وبرقه فى العراق وفى الشام ، وفى كل مكان ، ويقول : أن الله أنزل ملائكته لتأييد هذه الحكومة ومساعدتها ( جريدة الفضل المؤرخة 7 ديسمبر 1918م ) .
ويقول : (( أن مئات القاديانيين تجندوا فى جيش الانكليز لفتح العراق وأراقوا دمائهم ( النجسة ) فى سبيله ( الفضل 31 أغسطس 1922م ) .
وهكذا أظهر سروره أيضاً حينما دخل عساكر الاستعمار فى القدس وكتب مقالاً بتأييد الاستعمار حتى شكره سكرتير رئيس الوزراء البريطانى على هذا ، وعلى سقوط دولة العثمانيين وقد نشرت جريدة الفضل :
(( نحن نشكر الله ألف وألف مرة على فتوحات بريطانيا ، وأنها السبب الابتهاج والسرور لأن إمامنا ( أى الغلام القاديانى ) كان يدعو لفتوحاتها وكان يوصى جماعته بالدعاء لها وأيضاً فتحت لنا أبواب الدعوة إلى القاديانية والتى كانت مسدودة قبل الآن ، وهذا كله امتداد دولة بريطانيا إلى بلدان أخرى ( الفضل 23 نوفمبر 1918م ) .
وهكذا أنشأ الاستعمار هذه الفئة لمقاصدها الرذيلة ، وأهدافها الخبيثة والتفريق بين المسلمين والتجسس عليهم ولذلك منعت حكومة المانيا وزراءها من أن يحضروا حفلة هؤلاء بتهمة أنهم عملاء الانكليز ( الفضل 1 نوفمبر 1934م ) .
وأيضاً حينما وصل اثنان من هذه الفئة إلى أفغانستان وكان آنذاك حرب بين الانكليز والأفغان قتلتهما حكومة أفغانستان بتهمة تجسسهما للاستعمار وأعلن وزير الداخلية الأفغانية بأنه وجدت عندهما وثائق ومكاتيب تثبت بأنهما عملاء لعدونا ، ولكن بالعكس من ذلك افتخر الخليفة القاديانى بجريمتهما وقال :
(( لو سكت رجالنا فى أفغانستان وما أظهروا عقيدتنا فى الجهاد لما كان عليهم شئ ولكنهم ما استطاعوا أن يكتموا حُبهم ومودتهم لحكومة بريطانيا التى حملوها من عندنا فلذلك لقوا حتفهم . ( خطبة الجمعة لابن الغلام المنشور فى الفضل 16 أغسطس 1935م ) .
وهذا مما لا يخفى على أحد بأن الاستعمار دائماً يستغل اسم الدين واسم التبشير للتجسس كما بينه بالتفصيل الدكتور (( عمر فروخ )) فى كتابه (( التبشير والاستعمار )) وكما نحن ذكرنا .(/4)
والآن والاستعمار يستغلهم أيضاً فى أفريقيا لتدعيم قوته وتحقيق مصالحه وفى الشرق الأوسط لتشكيك فى عقائدهم وتشويه الإسلام وللتجسس أيضاً وهم يعملون لحسابهم وبمساعدتهم ولكن باسم الإسلام .
وأخيراً ننقل ما نشرته لسان القاديانية (( الفضل )) ، أن حكومة بريطانيا هى ترس لنا نتقدم إلى الأمام وإلى الأمام تحت وقاية هذا الترس الذى لو أبعد لمزقنا من الرماية فانحدرنا وصار رقيها وعلوها رقيتنا وعلونا ، ودمارها دمارنا ( الفضل 19 أكتوبر 1915م ) .
وهذه هى حقيقة هذه الفئة المرتدة التى باعت ضميرها للاستعمار ، وخدمها بكل الإمكانيات ولا تزال تخدمها ..
(( ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم(/5)
القاديانية "خروج على النبوة المحمدية"
الأستاذ أنور الجندي
عرض المستشرق بولس براون في كتابه (طوالع الإسلام) إلى حركات التجديد والإصلاح التي ظهرت منذ القرن الماضي في أنحاء العالم الإسلامي من الهند إلى إيران إلى مصر، وقد اعتبر اليهائية والقاديانية حركتين إصلاحيتين في الإسلام وقد تابعه في هذا بعض المفكرين المسلمين.
ولا ريب أن هذا المستشرق ومن تابعه كانوا مخطئين في هذا التصور، وإن كنا لا نخلي "الاستشراق" من تبعة العمل لدفع هذه الحركات الهدامة إلى الأمام وحتضانها، وإعداد مخططتها المسومة لخداع الشعوب الإسلامية، وإشاعة روح "التزييف" في فكرها وإثارة الشبهات حول منهجها الأصيل. ومن يتابع هاتين الدعويين المبطلتين يعرف أنهمنا استهدفتا ضرب حركة اليقظة الإسلامية التي كانت قد قطعت مرحلة كبيرة في طريق التماس المنابع الأصيلة لجوهر الإسلام بمفهوم التوحيد الخالص، وإن الحركتين قد نشأتا في أعظم قيمه الأساسية وهي "فريضة الجهاد" وقد كشفت الأبحاث التاريخية عن علاقة أكيدة بين هاتين الدعوتين وبين الاستعمار والصهيونية والهندوكية.
وأنهما حاولتا بث الفتنة وزعزعة العقائد، وإثارة الشبهات والشكوك وإضعاف شوكة المسلمين وتثبيط عزائمهم في المكافحة ضد النفوذ الأجنبي والكيد للإسلام، وتضليل المسلمين عن حقائق عقيدتهم، وتفريق وحدتهم، ولم يعد هناك ريب في أن هذه الطوائف الدخيلة، تلقى المعونة والتوجيه من المستعمرين والمبشرين واليهود، وهم يعدونها لما أسموه "حرب الإسلام من الداخل".
وقد شنت الصحف الغربية في الفترة الأخيرة (أواخر عام 1978 م) حملات جديدة مكثفة لإحياء دعوة القاديانية وذلك بنشرها لإعلانات تقول: "بأن السيد المسيح عليه السلام لم يصلب حتى الموت كما يقول المسيحيون، أو يرفع إلى السماء دون أن يصلبه اليهود كما يقول المسلمون، ويمضي إعلان القاديانيين فيقول: إن السيد المسيح قد عوفي من جراحة بعد ذلك وغادر (جودية) وهو الاسم الذي يطلقه اليهود على الضفة الغربية من فلسطين ليبحث عن قبائل بني إسرائيل الضالة، حتى وصل إلى الهند وهناك عاش طويلاً جداً ثم دفن في كشمير.
ولا ريب أن هذه محاولة جديدة لإعادة توجيه الأذهان إلى هذه الطائفة، بعد أن أصيبت في السنوات الأخيرة بالهزيمة الساحقة، عندما أعلنت حكومة باكستان أنها طائفة غير إسلامية وقد أشارت هذه الأخبار أن هناك مؤتمراً دعى إليه مئات من المضلين يستهدف بالذات إلى اجتذاب المسيحيين إلى صفوف هذه الطائفة المارقة التي بدأت تعاني من التدهور.
القاديانية:
ظهرت القاديانية بعد أن عجزت السلطات البريطانية عن إخضاع المسلمين في الهند، عن طريق الحرب والسلطان العسكري والسجن والتشريد والنفي والقتل. فقد عمد الاستعمار البريطاني إلى محاولة إخضاع المسلمين بالتغريب والغزو الثقافي، وحاولت أن تقيم طائفة من المسلمين، تدين لها بالولاء وتضرب وحدة المسلمين وجماعتهم وتمزقهم إلى فرق، فأعدت غلام أحمد القادياني لحمل لواء هذه الدعوة التي بدأت بإدعاء الخروج عن مفاهيم التوحيد الخالص وانتهت بإدعاء النبوة، وقد مكنت لهم بريطانيا في الهند في إمارة خاصة تسمى "الربوة" داخل باكستان، وقدمت منهم من تسنهم عليا المناصب السياسية، ومن ثم تولى كبارهم مناصب الدولة والجيش، وأصبحوا عاملاً خطيراً في مواجهة أهل السنة والجماعة، وضرب مفهوم التوحيدالخالص.
وقد كان أبرز ما دعا إليه القادياني: مهاجمة فريضة الجهاد، والدفاع عن النفوذ الأجنبي باعتباره الطاعة لأولي الأمر، وقد رحبت الهندوسية بالقاديانية، ودافعت عنها، وكان من أخطر دعاوى القاديانية رأيهم الزائف حين جاءوا بتفسير مبتدع لختم النبوة خالفوا به تفسير المسلمين المتفق عليه بينهم، من أنه صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين فلا نبي بعده، ففسروا خاتم النبيين، بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء أي "طابعهم"، فكل نبي يظهر بعجه تكون نبوته مطبوعاً عليها بخاتم تصديقه صلى الله عليه وسلم، ويكفرون من يخالفهم ويكفرون جميع المسلمين الذين لا يؤمنوا بكلام القادياني.
وقد إدعى القادياني أنه أوحى إليه بما يربو على عشرة آلاف آية، وأنه مبعوث بالرسالة بعد محمد صلوات الله عليه وسلم وأن ما ينزل عليه وحي كالقرآن والتوراة والإنجيل، وأن روح المسيح حلت فيه، وأن الحج فريضة على المسلمين إلى قاديان، وأنها بلدة مقدسة كمكة والمدينة، وأنها المكنى عنها في القرآن بالمسجد الأقصى.
(عن كتاب براهين أحمدية ورسالة التبليغ).
وكان غلام أحمد القادياني قد بدأ دعواه 1888 م حيث أسس مدرسة في قاديان لتعليم أبناء شعبه وأصدر مجلة لنشر مذهبه سماها مجلة: "الأديان" وقد مرت دعوته بعدة مراحل، كانت آخرها إدعاءه النبوة وأنه المسيح المنتظر.(/1)
وقد قاوم رجال حركة اليقظة الإسلامية هذه الدعوى منذ اليوم الأول، وكشف العالمان البارزان: المودودي والندوي فساد هذه النخلة، وزيف فكرتها المسمومة وكشفا عن حقيقة موقف الإسلام حيث يعتقد المسلمون أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم المسلمين، وأنه لا نبي بعده إلى يوم القيامة، وأن القادياني قد فارق الإجماع وخالفه، حين فسر "خاتم النبيين" بأنه طابعهم وبأن كل نبوة لا يكون مطبوعاً عليها بخاتمه وتصديقه صلى الله عليه وسلم تكون غير صحيحة، وكشف علماء الإسلام أن هناك مخالفة تامة يبن المسلمين وبين هذه النخلة في كل شيء: في الله وفي الرسول وفي القرآن وفي الصوم وفي الحج والزكاة وهو خلاف جوهري في كل شيء، وقد كانت دعوى القادياني الخطرة، التي جعل من إدعاء النبوة مقدمة لها، هي إبطال شريعة الجهاد، والدعوة التي تقبل النفوذ البريطاني المسيطر على البلاد وإعلان الولاء له، وبذلك تكشف هدف هذه النخلة المبطلة وهو خدمة الحكومة البريطانية، وكل من يراجع كتابات غلام أحمد في مؤلفاته، يجد أسلوباً ساذجاً في الأداء وضالاً في المضمون، مثل قوله "إنني صادق كموسى وعيسى وداود ومحمد، وقد أنزل الله لتصديقي آيات سماوية تربو على عشرة آلاف سماوية تربو على عشرة آلاف، وقد شهد لي القرآن وشهد لي الرسول وأن من يخالفني فهو نصراني يهودي مشرك من أصحاب النار".
فمثال هذا الكلام لا يقنع أقل الناس ثقافة، ولا يستطيعأن يرقى لأن يكون فكراً عالمياً يمتلك النفوس ويهز الأرواح بل أنه يكشف عن زيف صاحبه وفساد هدفه، بل إن غلام أحمد القادياني قد شهد على نفسه في كتباباته بأنه تابع وخادم وعميل للحكومة البريطانية، حيث يقول في ختام كتابة (شهادة القرآن):
"قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الإنجليزية ومؤازرتها، وألفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولي الأمر من الكتب والنشرات ما لو جمع بعضه إلى بعض لملأ خمسين خزانة، لقد ظللت منذ خحداثة سني وقد ناهزت اليوم الستين، أجاهد بلساني وقلمي لأصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية،ولما فيه من خيرها والعطف عليها وأنادي بإلغاء فكرة الجهاد التي يدين بها معظم جهالهم، والتي تمعنهم من الإخلاص لهذه الحكومة".
وقد كشفت العلامة المودودي في كتابه ما هي القاديانية فساد دعوى القادياني حين قال: "لقد أمدت حركة الميرزا غلام أحمد الحكومة الإنجليزية بخير جواسيسها لخدمة مصالحها الاستعمارية، وقد كانوا أصدقاء أوفياء وكانوا موضع ثقة الحكومة الإنجليزية وقد خدموها في الهند وخارج الهند، وبذلوا نفوسهم ودماءهم في سبيلها بسخاء".
وعن الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه "القادياني والقاديانية" يقول غلام أحمد في آخر كتابه شهادة القرآن: "إن عقيدتي التي أكررها أن الإسلام جزئين: الجزء الأول إطاعة الله، والثاني إطاعة الحكومة التي بسطت الأمن وآوتنا في ظلها من الظالمين، وهي الحكومة البريطانية" وقد أمدت هذه الفئة الحكومة البريطانية بخير جواسيس لمصالحها وأصدقاء أوفياء ومتطوعين متحمسين موضع ثقة الحكومة.
الأحمدية: خدعة مضللة:
توفى غلام أحمد 1908 م ثم انقسمت الجماعة الضالة إلى فرقتين، انتخب أتباعه: حكم نور الدين، ثم أنشأ محمد علي اللاهوري جماعة منفصلة في لاهور بعد أن اتخذت جماعة قاديان ابن القادياني: محمود بشير الدين رئيساً لها.
وقد حاولت هذه الجماعة اللاهورية أن تدعي أنها ليست على ضلال القاديانية وحاولت أن تنكر دعوى نبوة غلام أحمد، أو إدعاؤه النبوةى، ونشروا كتبه الأولى وحجبوا كتبه الأخيرة، وهي محاولة خادعة لتحسين الظن به توطئة لأتباعه.
ويقرر باحث معاصر للأحداث هو (عبد الحميد السيد) أن دعاة القاديانيين اجتمعوا على محاولة استنقاذ الدعوى، وكان اختيار محمد علي اللاهوري لأنه مقرب من رجال الاستعمار البريطاني في الهند، وأريد له إصلاح الأمر بعد أن كره المسلمون ما أدعاه غلام أحمد وأنكروه، وذلك في محاولة جديدة لجمع القلوب حول باطلهم، فأدعى اللاهوري: أن غلام أحمد لم يكن غير مصلح من المصلحين وأنه لم يدع النبوة، وأعادوا طبع كتبه في الدور الأول.(/2)
يقول أبو الحسنات محمد محي الدين الهندي: لما رأى القاديانيون التشدد في الفضاء على فتنهم، بعد أن حاصرهم المسلمون في بلدتهم الصغيرة قاديان، وقاوموهم مقاومة شديدة، يجأزا إلة ظل الحكومة البريطانية، وتعهدوا بالدعاية لها والدفاع عنها، فانتهزت بريطانيا الفرصة لتفريق كلمة المسلمين عن طريق تشجيعهم، فمهدت الطرق للتبشير بالقاديانية على أساليب المبشرين، وركزوا على الدعوة لإلغاء الجهاد الإسلامي، والإدعاء بأن الإسلام لم يعد دين جهاد، بل صار الآن دين السلام، وسعوا إلى إيجاد السلام بين الإسلام والمستعمرين، وفي هذه المرحلة اتسع نطاق الدعوة تحت اسم الأحمدية، ووصل إلى بلاد كثيرة كالأفغان وغيرها في آسيا، ووصل إلى قلب أفريقيا وقد لمس الدكتور حسن عيسى عبد الظاهر نشاطها الخطير في نيجيريا وألف كتاباً في دحضها.
يقول السيد أبو الحسنات: أنهم خداعاً للعامة قد اتخذوا سبيل التقنية، وعمل محمد علي اللاهوري الذي يلقبه المسلمون في الهند (عبد الله بن أبي سلول) الثاني، تشبيهاً برئيس المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان من أبرز أنصار دعوة القادياني الصريحة حتى مماته وكان من أبرزهم في الخطابة وأبرعهم في الكتابة، فهو الذي ترجم القرآن إلى اللغة الإنجليزية وفسره وحرفه وغير معانيه في مواضع شتى، وفق تفسير متبوعه (غلام أحمد) وزعم أن نحلة القاديانية هي الحقة، فكل من قال لا إله إلا الله فهو مكلف شرعاً بإتباع القادياني وقد حوى تفسيره كثيراً من الشبهات والسموم، منها تفسيره لسورة الفاتحة، حين قال: إن الذين أنعم عليهم هم القاديانية والمغضوب عليهم هم المسلمون، وقال أن مريم تزوجت وزوجها يوسف النجار، وأن قول "لم يمسسني بشر" محمول على العرف الخاص، وأنكر أن سيدنا إبراهيم ألقي في النار، وأدعى في تفسيره بأنه اغترفه من فيض القادياني، وقال أنه هو المسيح وكذلك أنكر معجزة شق القمر، ولا ريب أن مراجعة ترجمة القرآن التي قدمها محمدعلي اللاهوري، تكشف عن سموم كثيرة معارضة لمفهوم أهل السنة والجماعة وأنها حاولت تقديم فلسفة القاديانية كاملة، وللاهوريين قولان: قول للمسلمين أنه مصلح، وقول لإخوانهم أنه نبي وفي السنوات الأخيرة عمدوا إلى إصدار ترجمة محرفة لمعاني القرآن، ظهرت هذه الترجمة في هولندا محشوة بكثير من التبديل والتغيير والتحريف والتشويه لمعاني كتاب الله، مع استغلال تفسير القرآن في خدمة أغراضها ونواياها وتنفيذ مؤامراتها الحاقدة إلى الإسلام لمحاولة تشكيك المسلمين في عقائدهم السمحة وتستهدف أساساً:
قطع صلة هذه الأمة بماضيها وعن خير أيامها وأفضل رجالها.
فتح الباب أمام الأدعياء ومدعي النبوة.
خروج علىى النبوة المحمدية وعلى صاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام.
إيئاس المسلمين من مستقبلهم.
وقد أشار إقبال إلى خطر القاديانية حين قال: "إن القاديانية مؤامرة مدروسة ترمي إلى تأسيس طائفة جديدة تدعمها نبوة جديدة منافسة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم".
ولقد امتد خطر القاديانية بلونها اللاهوري، وخدع كثيراً من الناس واتسع نطاقها واستفحل خطرها، وخاصة في باكستان نفسها، ففزعت الأحزاب والهيئات تطالب الحكومة بجعلها أقلية غير إسلامية، وكان قد صدر عام 1935 قرار محكمة مدنية بهاول ناجار، برئاسة القاضي محمد أكبر خان باعتبار أن القاديانيين غير مسلمين، وبطلان التزوج بينهم وبين المسلمين، ثم جاء قرار (7 سبتمبر 1974 م) من البرلمان الباكستاني حاسماً قاضياً باعتبار جميع الفئات القاديانية أقليات غير إسلامية، وقد جاء قرار البرلمان الباكستاني بعد دراسة للمسألة القاديانية استمرت أكثر من ثلاثين يوماً واقتضت تعديل دستور جمهورية باكستان الإسلامية على النحو التالي:
أولاً: اعتبار أتباع القاديانية أقلية غير إسلامية، واعتبار أتباع الميرزا غلام أحمد سواء أكانوا من فئة القاديانية أو من فئة اللاهورية أقلية غير مسلمة بموجب الدستور.
ثانياً: أي رجل لا يؤمن بالنبوة المطلقة لمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى أنه آخر الرسل أو أي شخص يدعي النبوة في أي معنى أو شكل للنبوة وبأي تفسير لكلمة النبوة ليس بمسلم، وأن من يؤمن بإدعاء أي مدعٍ للنبوة أو يعتبره مجدداً دينياً يكون غير مسلم بموجب الدستور والقانون.(/3)
القاديانية
السيد محمد حسن آل الطالقاني
تمهيد
تنسب «القاديانية » إلى ميرزا غلام أحمد ( 1839 م / 1908 م )، من بلدة قاديان في الهند، الواقعة في إقليم البنجاب، نشأ مسلما، وشغف بالتصوف. ثم، ادعى أنه النبي المعني بالآية الكريمة: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي إسمه أحمد) [الصف/6]، ثم أعلن أن نبوته «ظلية »، أى أنها انعكاس لنبوة محمد (ص)، لاعتقاده بالحلول والتناسخ ووحدة الوجود، فكمالات الأنبياء، كما يزعم ،تجمعت في شخص النبي محمد (ص) وانعكست ظليا فيه.
والحقيقة أن هذه الدعوة ليست من الإسلام في شى ء، وانما هي بدعة ضالة مضللة، وظفت في خدمة المشروع الاستعماري البريطاني لها، ومنها أيضا قول القادياني نفسه: «أقول مدعيا: أنا اكثر المسلمين إخلاصا للحكومة الانكليزية...»، وهو يرد هذا الإخلاص إلى تربية والدة الذي كان من صنائع هذه الحكومة وإلى أيادى المستعمرين البريطانيين البيضاء عليه، وإلى إلهام من اللّه تعالى)). واستنادا إلى هذا الإلهام الذي يزعمه كان يرى هذه الحكومة رحمة للهند وبركة.
و منذ سنين طويلة وأنا اقرأ عن البهائية والقاديانية وغيرها من المذاهب المبتدعة، إلا أن قراءاتي على كثرتها كانت عابرة في الغالب، ولم يكن القصد من ورائها غير التعرف على الأفكارالحديثة التي اكتسبت صفة الأديان والأباطيل والخرافات التي رفعها أصحابها إلى مصاف الشرائع السماوية.
ولم تكن تلك القراءات الخاطفة لتبعث في نفسي الرغبة الى التوفر على دراستها أو التعمق فيها، إلا انني خصصت القاديانية ببعض العناية، وانصرفت الى دراستها وفحصها والتعرف على خصائصها ودخائلهابعض الوقت، ويعود الفضل في ذلك إلى صديقي الدكتور حسين علي محفوظ، فقد دعي في سنة 1375ه، 1956م لحضور بعض المؤتمرات في امريكا وكتب لي من هناك رسالة في الخامس من تموزعام 1956 جاء فيها ما يلي:
«والذي أردت أن تعلمه انت ومن معك من الذين يبتغون نصر الحق واخلاد اهله، ان «القاديانية »وهم الذين... بنوا مسجدا في مدينة «بوستن » يولي كثير من الجاهلين وجوههم شطره، ولهم مثله في «واشنطن » وغيرها من امهات بلدان امريكا والغرب، وقد طبعوا القرآن مفسرا، وفاق اعتقادهم بالانكليزية والالمانية وغيرهما، وهم يحاولون الان نشر ما زخرفوه بالفرنسية!!؟ يا للعار... الخ ».
وقد ساءني للغاية ما اخبرني به الصديق محفوظ، مع انني كنت قد احطت علما ببعض ما تقوم به القاديانية في القارتين الاوروبية والامريكية من دعوة وتبشير، لكنني لم اكن لاتصور بان نشاطهم قدبلغ هذا الحد، وان دعوتهم تركض وتنتشر في القارات البعيدة بهذه السرعة.
وفي خلال ذلك قرأت مقالا لصديق آخر هو العلامة الدكتور محمد يحيى الهاشمي رئيس جمعية الأبحاث العلمية في حلب، ومؤلف كتاب «الامام الصادق ملهم الكيمياء» تحدث فيه عن ترجمة القرآن باللغة الالمانية، وذكر ان الدكتور «اوتوبو خنيگر» الذي زار الشرق وتغلغل في قلبه والقى محاضرات عنه قد نبهه على التحريف والتشويه الذي ضمته الترجمة، مما يدعم دعوة القاديانية الى المسيح المزعوم «أحمد» ويخالف المعتقدات الاسلامية، ويضر بتفاهم الامم والشعوب مع بعضها بعضا، ولايوقظ روح المودة والاخاء في الاوساط المسيحية. وقد حمل الدكتور الهاشمي الغيارى من المسلمين عب ء المسؤولية عن اخراج ترجمة صحيحة للقرآن، تتسم بالضبط والدقة وتظهر حقيقة الاسلام الذي سي ء فهمه في الغرب.
وقد فكرت في الموضوع طويلا، وعجبت لسكوت علماء المسلمين عن هذه الزمر الضالة المضلة التي ابتلي الاسلام بها يوم راحت تنطق باسمه، وتزور حقيقته، وتلبسه غير ثوبه، وتدخل فيه ما ليس منه...وقررت أن أكتب رداًعلى القاديانية، فاكشف زيفها للملأ، وأعلن عن بطلانها من أساسها، وأنها ليست من الاسلام في شي ء مطلقا، فما زلنا لا نحسن اللغات الأجنبية لنقف على تراجم القرآن ونرد على الزيف والبهتان، فلنرد على أصحاب الدعاوى الباطلة والمذاهب المستحدثة، وذلك أضعف الإيمان.
وهكذا قررت بالرغم من كثرة أعمالي وتعدد المواضيع التي كنت مشغولاً بإعدادها وإخراجها، وبدأت أ جمع المصادر، ولكنني كنت في قرارة نفسي أتمنى أن يقوم بهذا العمل غيري لينصرف إليه بكله، ويفرغ له جهده، ويعطى البحث حقه، ويشبعه تحقيقا وتمحيصاً... ولما كانت النية خالصة فقد حقق اللّه تلك الامنية، اذ تلقيت هدية من العلامة الكبير الشيخ (( سليمان ظاهر النباطى )) ، وهي الجزء الأول من ديوان شعره (( الإلهيات )) وقرأت في ثبت مؤلفاته المخطوطة المنشور على الغلاف (( الرد على القاديانية )).(/1)
وكانت فرحتي بذلك كبيرة لأن صديقنا المرحوم ظاهر من كبار العلماء والأدباء، ولا شك في أن مايكتبه هو الغاية في بابه، وهو فصل الخطاب، وقر رأيي على نشر كتابه، فكتبت إليه أطلب منه إرساله إلي لأتولى نشره، فأجابني رحمه اللّه بأن العلامة الشيخ موسى عز الدين من جويا بلبنان قد استعاره منه للإطلاع عليه ومضت عليه وهو عنده ستة شهور، وأنه سيسترجعه ويبعث به إلي لوضعه تحت تصرفي.
ومضت فترة طويلة شغلت خلالها عن الموضوع بالمرة، وحصلت بعض الموانع التي جرت العادة أن تحول دون أعمال الخير، وتقف حاجزا في طريق المصالح العامة والخدمات الكبيرة، وبين الرجال وأمانيهم الغالية وأهدافهم الجسام. وهكذا نسيت الموضوع أو تناسيته، وانتقل الشيخ سليمان إلى رحمة ربه، ومرت سنوات لم أحاول خلالها التفكير في الموضوع أو الرجوع إليه.
وفي أواسط عام 1961 وجهت إلي حكومة المانيا الاتحادية دعوة لزيارتها فلبيتها في شهر آب،وتجولت في عدد من مدنها المهمة كبرلين وميونيخ، وهامبورغ وفرانكفورت، وبون وكولونيا، وآخن وسباير، ولوبيك وهايدلبرغ، وغيرها. ورأيت للقاديانيين هناك مساجد ونشاطا ظاهراً، والدعوة والتبشير بشكل نتمناه للإسلام الصحيح وتعاليمه الحقة، فاستأت إلى أبعد حد، ونقمت على قومي بل احتقرتهم في قرارة نفسي، إذ رأيتهم أمواتا لا حياة لهم، فالباطل يصول ويجول في العالم المتمدن، ويغوي ويضل السذج والبسطاء، ونحن قابعون في زاوية مظلمة، وقد ضربنا حولنا سياجا وبقينا نعتقد ان الإسلام وتعاليمه في مأمن كما أراده اللّه ورسوله، ما زالت مظاهره الشكلية محفوظة داخل السياج.
وقد رأيت المسلمين في المانيا ينقمون بشدة على تلك الزمر الضالة ويضيقون بها ذرعا، وعلى رأسهم العلامة الكبير الشيخ محمد المحققي الأستاذ في جامعة طهران سابقا، وممثل المرجع الديني العام السيد حسين البروجردي في هامبورغ، ورئيس (( الجمعية الاسلامية )) هناك، فقد رأيته ناقما لدرجة أنه طلب مني الا استقبل أحدا من علماء القاديانية عندما علم بأن بعضهم قد طلب موعدا لزيارتي في (( فندق الاطلنطي )) الذي أنزل فيه فحددت له الساعة الخامسة بعد الظهر، ونزلت عند رغبة الشيخ فأبدلت منهجي الرسمي بالخروج معه في نزهة على ساحل البحر.
وعدت إلى العراق وحللت في وطني النجف وأنا أحمل حقائبا من الآلام والأمال، فقد رأيت العالم الغربي بعيني، ووقفت على مدى حبه للاستطلاع واهتمامه للوقوف على حقيقة الإسلام دين الحق والحرية والعدالة وكيف يتعشقون تعاليمه ونظمه ويتسابقون إلى إعتناقه... نعم عدت إلى مقبرة الأحياء النجف وأنا أتصور أنني سأرى التبدل والتطور قد شملها فرعا لقدم، لقد خيل لي أنها وعت وشعرت بواجبها خلال الفترة القصيرة التي بعدت عنها، إلا أنني رأيتها هي هي في مكانها وعلى وضعها، لم تتقدم خطوة واحدة ولم تتغير قيد أنملة...
وهكذا عدت إلى التفكير في الموضوع من جديد، فكتبت إلى الأستاذ الشاعر (( أحمد سليمان ظاهر )) في النبطية بلبنان وأعلمته بما دار بيني وبين المرحوم والده حول الكتاب، فما كان منه إلا أن طلبه من أخيه الأستاذ محمد في بيروت وبعث به إلي.
وقد صرت أمام مشكلة جديدة، وهي مسألة نشره، فقد كنت يوم طلبته من مؤلفه قادرا على الإنفاق لإخراجه، أما اليوم فأنا لا أملك تلك المقدرة، لأنني مثقل بعب ء بعض الآثار التي أخرجتها، والمفروض في مثل هذه الحالة أن ألجا إلى الزعامة الدينية في النجف واستعين بها على انجاز مشروع هو من واجبها في الصميم، لكنني رأيت ذلك يجرني إلى ما لا أرتضيه لنفسي، لأنني أعلم بان تلك الجهة لاتقدم على مثل هذا العمل ما لم يسبغ ظلها عليه، وتقدم لها التزلفات، والادعاء بانها الحامية للإسلام والمتصدية لخصومه... وفي ذلك من المتاجرة بديني وقلمي وكرامتي ما لم أسمح به لنفسي في ماضي أايامي، ويستحيل علي أن أقدم عليه بعد أن قدمت في حياتي العملية أمثلة يعرفها المقربون من إخواني والعارفون من قرائي، فقد ضحيت بالمصالح الخاصة والمنافع الشخصية التي يتهالك عليها الاخرون من أجل أن لا أكون داعية أو مطية للغير، وإذا كان هذا حال الجهة التي يفترض فيها أن تكون الفرد الأكمل في المجتمع، فكيف بالتجار والوجهاء وأمثالهم؟ وإذا كان الدافع الحقيقي والهدف الأساسي هو التقرب إلى اللّه تعالى ونصرة دينه طمعاً في الجزاء الأخروي، فالأجدر أن لا أجعل للرياء سبيلا إليه، وأن لا أشرك معي فيه جهة تنتظر الاطراء أوتشترط الثناء، وأن أقوم به منفردا ومتوكلاً على اللّه، وهكذا كان.
واليوم وحين أوفق إلى إخراجه ابتهل الى اللّه تعالى أن يتغمد روح مؤلفه بالرحمة والرضوان، ويجزيه خير جزاء المحسنين، وأن ينفع به ويجعل عملي فيه خالصا لوجهه، وأن يوفقني ما حييت، لما ينفع الناس ويمكث في الارض ويرضي الرب، واللّه تعالى هو الموفق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)(/2)
إن شبه القارة الهندية من دول آسيا الكبرى والمهمة، احتل الفرس واليونان اجزاء منها في القرن الرابع قبل الميلاد، وازدهرت على شواط ى ء نهر السند فيها حضارة عظيمة بلغت ذروتها في القرن الثالث الى القرن الاول قبل الميلاد، وتعاقبت على احتلالها شعوب
عديدة، وأسس المسلمون في أنحائها دولاً مستقلة، كما أسس المغول إمبراطورية شملت الهند بأسرها، وقد اطلق الجغرافيون الأقدمون اسم الهندعلى البلاد التي لم يبلغها المسلمون، والهند أقدم ما عرف في التاريخ من بلاد اللّه
وهي من أغرب البلاد حقا، ففي الوقت الذي قدمت فيه للبشرية نماذج من العقول الجبارة والأدمغة الكبيرة التي أحلت الحضارة الشرقية محلها الرفيع في أنظار الأوروبيين وغيرهم، وانتزعت اعترافات الجمعيات العلمية الكبرى في العالم الغربي... أقول في الوقت الذي قدمت فيه الهند تلك العقول النيرة والبصائر النافذة التي بهرت البشرية في مختلف مجالات الحياة القديمة والحديثة، نراها قد ضمت أوتضم حتى اليوم العقول المتعفنة، والديانات السخيفة، والمعتقدات الخرافية التي يترفع عنها الإنسان،ويعافها كل ذي ذوق وعاطفة ووجدان، كالبرهمية، والجايناسية، والبوذية والباربسيسية، والسيخية،والمهدوية، والدنيا إلهية، والأغاخانية، والقاديانية، والنيجرية وأمثالها من الأساطير التي تهبط بالإنسان من عليائه إلى أسفل دركات الجهل والضلالة، والغواية والضحالة، فكيف يرضى الإنسان لنفسه أن يعبد البقرة كرب، ويتبرك ببولها فيلوث به جبهته التي هي أشرق مكان في جسمه...؟ وكيف يطيق حرق المرأة حية مع زوجها إذا مات...؟ فأي شريعة سمجة سنت تلك القوانين؟! وأي بشر يدين بها؟! وأتذكر أني قرأت كتاباً لبعض أدباء مصر عن (( الأغاخانية )) نسيت إسمه وإسم مؤلفه، وقد ذكر فيه أن صلته ب (( أغاخان )) قد توثقت حتى صار يفضي إليه بكل كبيرة وصغيرة من أصول ديانة أتباعه،ويُجيبه عن كل سؤال يطرحه عليه، وأنه قال له يوما:
أريد أن أسالك عن أمر تهمني معرفته لكنني أخشى أن يغيظك، فوعده بأن لا يغضب مهما كان سؤاله، فقال له: كيف ترضى لأتباعك أن يعبدوك كرب مع ثقافتك العالية وتضلعك في المعرفة؟ فأرخى ربطة عنقه وضحك طويلاً وقال: هذا السؤال الذي خفت أن يغيظني؟ قال: نعم، فقال له: أأنا أفضل أم البقرة؟؟ إن هؤلاء الهنود رضوا بالبقرة ربا فعبدوها وأنا أفضل منها بدون شك!! وإن الإنسان ليأسف حقاًً أن يرى في بني جنسه من هو بهذه الدرجة من الغباء بالنسبة للعابد، ومن الدجل والشعوذة بالنسبة للمعبود!! لقد ملكت الأسرة التيمورية المغولية بلاد الهند زمنا طويلاً، فقد ظهر تيمورلنك التتري وملك الهند في أايام السلطان بايزيد بن مراد الأول آل عثمان الذي توفي في اسر تيمور سنة 805ه، 1402م وحكم العديد من أولاده واحفاده في عواصم مختلفة كما قامت دول شيعية اتخذت لها عواصم اخرى ذكر منها الشيخ عبد العزيز الجواهري ثلاث دول:
1 العادل شاهية في بيجابور.
2 النظام شاهية في احمدنكر.
3 القطب شاهية في كولكندة وحيدر آباد
وكانت في قبال الدول الاسلامية دويلات هندوسية متناثرة في أرجاء تلك البلاد الواسعة.
وقد بدأ الانكليز يفدون على شبه القارة الهندية بعد اكتشاف «رأس الرجاء الصالح » ويفتحون محلات تجارية يتخذون منها ذريعة للتدخل في شؤون البلاد الداخلية، ثم وحدوها في سنة 1009ه، 1600م باسم (( شركة الهند الشرقية الانكليزية للتجارة )) ورسخت أقدامهم، واستمروا في تزايد وقوة بالتدريج.
وقد امعنوا في إذلال الجنود واحتقارهم لعقائدهم في داخل الثكنات العسكرية، سواء أكانوا من المسلمين أم من الهندوس، ومن أمثلة ذلك البسيطة أنهم كانوا يدهنون الخراطيش بشحم البقروالخنازير، وعندما تتجمد يأمرون الجنود بإزالتها بأسنانهم عمداً، فيتذمرون ويعلنون مخالفة ذلك لعقائدهم الدينية فالبقر محرم عند الهندوس والخنازير محرمة عند المسلمين إلا أن القواد الانجليز كانوا يجبرونهم على الطاعة ويعاقبون المخالفين، فخرج رهط على تنفيذ الأوامر، فأصدرت المحاكم في حقهم أحكاماً قاسية في 15 شهر رمضان سنة 1273 ه، 9 مارس 1857م، فاحتدم الجيش غيظا ووثب الجنود على قوادهم الانكليز فقتلوهم في داخل الثكنات، واندفعوا نحو العاصمة (( دلهي )) وجرت دماء القوة الانجليزية التي حالت دون وصولهم أنهارا، وقام أحرار الهند من المسلمين والهنادك بثورة عارمة، فألحقوا بالانكليز خسائر فادحة في الأرواح، لكن الانكليز انتصروا على الثورة وفعلوا بالثوار ما لا يتصوره العقل من وحشية وجرائم أدت إلى براءة الكثير من عقلائهم مما حصل.(/3)
وتحمل المسلمون العب ء الأكبر من الإضطهاد قبل الثورة، ومن التنكيل والإنتقام بعدها ما لم يتحمله غيرهم، ونصبت لهم المشانق في شوارع (( دلهي )) وأعدموا ثلاثة آلاف رجل، ودخلوا مسجدها بخيولهم، وكلما وجدوا رجلا طويل اللحية ظنوه مسلما فقتلوه، وكانوا يشدون البعض على أفواه المدافع ويطلقون قذائفها فتتناثر أجزاؤهم في الفضاء، كما كتبه الضابط الانكليزي (( روبرت )) في رسالة إلى أمه، وبلغ عدد قتلاهم في (( دلهي )) وحدها سبعة وعشرين ألفاً ، وكتب (( ونكلسون )) إلى (( ادوارد)) : (( علينا أن نسن قانونا يبيح لنا إحراق الثوار وسلخ جلودهم وهم أحياء، لأن نار الإنتقام التي تأججت في صدورنا لاتخمد بالشنق وحده ))، وقد فعلوا ذلك أيضاً، فقد كتب المستر (( دي لين )) مدير جريدة (( تايمز إن إنديا )): إن المسلمين كانوا يخاطون بجلود الخنازير ثم يدلكون بشحومها وتخاط عليهم ويحرقون وهو أحياء )) ،وكتب مثل ذلك المستر (( گربر)) المشرف على القوات الانكليزية في شمال الهند، وكتب (( ونكلسون )) و(( لورنس )) و(( مونتجمري )) فضائح أخرى.
وفي سنة 1275 ه، أول تشرين الثاني سنة 1858م أصدرت الملكة (( فكتوريا )) قراراً بنقل حكم الهند 15 منه وقد رغبت في التوسع في هذا التمهيد لأُعطي القارى ء فكرة تامة عن حالة البلاد والشعب اللذين ولدت فيهما هذه الدعوة، فمعرفة تاريخهما وظروفهما، ومعرفة البيئة وما فيها من ملابسات، مما يساعد على فهم العوامل التي شجعت القادياني على إعلان دعوته، فالحالة الاجتماعية والاقتصادية وما داخلهما من جهل وفقر، كانت من الدوافع التي حدت بفئة ساذجة من ذلك الشعب المسحوق المضطهد إلى الإيمان بالدعوة الجديدة والركض وراءها من غير هدى. أقول:
كنت أفضل التوسع لولا أنني خشيت أن يحكم القارى ء على أنه سرد تاريخي لا دخل له بالموضوع، وأنه أوسع مما تقتضيه طبيعة تمهيد لفكرة، فنحن نحيل القارى ء على مجلة (( العروة الوثقى )) التي كان يصدرها في باريس السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، والكتب الخاصة التي كانا يصدرانها كملاحق وينشران فيها تفاصيل السياسة الانكليزية في الهند، وكانت جريدة (( أخبار دار السلطنة )) التي تطبع في كلكته، وجريدة (( مشير قيصر )) التي كانت تصدر في لكنهو تترجمان مقالاتها من العربية الى الأردوية لإطلاع عموم الشعب الهندي على ما كان ينشر دفاعا عنه.
(2)
القادياني والقاديانية:
القاديانية والأحمدية اسمان لجماعة واحدة تنسب إلى الميرزا غلام أحمد بن غلام مرتضى بن عطا بن الميرزا گل محمد القادياني.
ولد في قرية (( قاديان )) في مديرية «جورداسبور» في اقليم (( البنجاب )) سنة 1839م، وتلقى دروسه في منزل أبيه على الطريقة القديمة وكان والده طبيبا، وقد جلب لولده المعلمين، فتعلم القراءة والكتابة، وقرأ القرآن ودرس النحو والصرف والمنطق والحكمة، ودخل (( الكلية الشرقية )) في البنجاب ،وعين كاتبا في محكمة مدينة (( سيالكوت )) وشغل وظائف أخرى حرة مدة أربع سنوات ثم تركها.
وكان ذا شغف بالقراءة والمطالعة منذ نشاته يقضي فيها معظم وقته، وقد تفرغ لدراسة الكتب الدينية والصوفية، وغلبت عليه نزعة التصوف، وكانت سائدة يومئذ بين كثير من علماء المسلمين في الهند،وكان لها طرقها ورجالها ومؤلفاتهم، كما كان لهم خصومهم الذين يتظاهرون بنقدهم ومعارضتهم.
وكانت يومذاك أيضا حركة تجديدية هندوكية باسم (( آريه سماج )) وكان لها زعماء بارزون وعلماء ينطقون باسمها، وقد كثرت المناظرات بينها وبين خصومها، كما كانت بعثات تبشيرية تتألف من القسس والرهبان، وكان الصراع على أشده بينهم وبين علماء المسلمين، فظهر القادياني على الساحة في تلك الفترة، وعد في النابهين من المسلمين، وكانت له مع كبار المناظرين من الفئتين مواقف مشهورة وتفوق بارز إعترف به علماء عصره، فقد قال السيد عبد الحي الحسني:
(( ... واشتغل بالكلام وكان يباحث احبار الارية والنصارى ويفحمهم في مباحثاته، ويصرف اوقاته كلها في الذب عن الحنفية البيضاء، ويصنف الكتب في ذلك، وكانت مساعيه مشكورة عند أهل الملة الإسلامية...)) و(( قد أورد في كتابه (براهين أحمدية) على إحقاق الإسلام ثلاثمئة دليل عقلي )). وقد واصل مطالعة كتب العرفان والتصوف والفلسفة، وثقف نفسه ثقافة عالية اهلته للصدارة والتاليف، فانتج آثارا قيمة قوبلت بالاعجاب والاكبار من قبل الطبقات المتنورة، ولم يكن لما اشاعه عنه خصومه وكتبه عنه البعض من أنه كان محدود الذكاء وأنه رسب في امتحان (( مولوي فاضل )) الذي يعادل الصف الثاني من الكلية نصيب من الصحة، وكذلك ما كان يقال عنه من أنه مصاب بنوع خطيرمن (( الهستيريا )) و(( القطرب ))
إدعاءاته:(/4)
وبعد فترة ادعى انه «مجدد» للاسلام لما اشاع بين المسلمين من ان اللّه يبعث مجددا على راس كل مئة سنة، وهو مجدد القرن الرابع عشر الهجري، وظل يؤكد ذلك في تصريحاته وخطبه ومؤلفاته فترة، ثم ادعى انه المهدي المنتظر والمسيح الموعود في وقت واحد، استنادا الى ما رواه ابن ماجة من حديث «لا مهدي إلا المسيح » واستمر يبرهن على ذلك ويؤكد أن العلامات التي ذكرت لظهور المهدي منطبقة على زمانه، وان له شبها كبيرا بالمسيح، واخذ يتكلم في المغيبات والمنامات وتفسير بعض الاخبار والايات القرآنية بما ينطبق عليه ويقرب ذلك الى الاذهان الساذجة، وادعى انه ملهم ،ومن تصريحاته الخطيرة في هذه المرحلة قوله:
(( أنا مهدي وافضل من الانبياء ))
وقد كانت ولاية (( البنجاب )) في معزل عن مراكز الثقافة في الهند، أكثر من غيرها، وكانت الخرافات والأوهام والأساطير تعشعش فيها، والدهماء عادة يتقبلون الأمور الغريبة وخوارق العادات، وما يظهرمن شطحات الصوفية ويدعونه من الهامات، وكان للقادياني قبل ذلك رصيد علمي وشهرة كبيرة وأتباع عديدون، ولذلك بادر الكثير من أهلها الى الاستجابة لدعوته، وشكلوا الأغلبية العظمى
لمعتنقي ديانته، فقد بلغ عددهم فيها وحدها إلى ما قبل وفاته بسنة سبعين ألفا، وكان منهم الشقيق الأكبر للشاعر الفيلسوف الدكتور (( محمد إقبال )) ، في الوقت الذي كان فيه أخوه المذكور من أكبر المحاربين للقادياني.
وقد قوبلت مزاعمه بالاستنكار الشديد، فرحل الى بلدة (( لوديانة )) في البنجاب نفسها، واصدر منشورااعلن فيه أنه (( المسيح المنتظر )) فهب في وجهه العلماء، وكان من بينهم (( المولوي محمد حسين )) صاحب جريدة (( اشاعت سنت )) فدعا عددا من علماء الهند الى «لوديانة » لمناظرته، لكن الوالي الانكليزي في تلك المنطقة منع من عقد المناظرة، وارغم (( المولوي محمد حسين )) ومن معه من العلماء على مغادرة البلد في اليوم نفسه.
واستمر القادياني على نشر دعوته سنين طوالا، وأكثر من مناقشة المعارضين ومحاججة المستنكرين،وألف في ذلك الكتب ونشرها في البلاد الإسلامية بصورة واسعة، واقتنع بها فريق من الناس فاعتنقوها، وبقي على تلك الحال يواصل الدعوة ولكن لم يرض طموحه ما حصل عليه من إقبال فادعى النبوة وتفاقم الخطب، وأعلنت دنيا الإسلام ولا سيما في الهند استنكارها بمختلف الوسائل،وسادت الفوضى وصار حديث الناس والساعة، فكرست القوى بمختلف أشكالها لتكذيبه وتكفيره ،وأخذ هو وأتباعه يدافعون عن آرائهم واحتدم النزاع.
وكان من ادعاءاته أنه المعني بقوله تعالى :(ومبشرا برسول يأتي من بعدي إسمه أحمد) [الصف/6] وأنه يوحى إليه باللغات العربية والفارسية والأردوية والانكليزية، وأكثر من التأليف في كل تلك اللغات، وان كتابه المقدس في مقابل القرآن هو«الكتاب المبين » وأن مما أوحي اليه: (( ان اللّه خاطبني وقال يا أحمدي أنت معي وأنا معك، إذا غضبت غضبت، وكل ما أحببت أحببته، أنا مهين من أراد إهانتك، وإني معين من أراد إعانتك )) و(( إن اللّه خاطبني وبشرني باكرامي وقبولي في زمن الياس، وقال: يحمدك اللّه في عرشه » وغير ذلك من التفاهات
ولما رأى ان الحملة عليه شعواء، وأن الاقلام قد اوقفت على محاربته ودحض شبهاته ومزاعمه، وكشف أامره وحقيقته، وإعلان خروجه عن الاسلام، أعلن تمسكه بالشريعة الاسلامية والقرآن والسنة، وأن نبوته ظلية حسب تعبيره وهي انعكاس لنبوة الرسول، لاعتقاده بالحلول والتناسخ ووحدة الوجود، فهو يرى أن مراتب الوجود دائرة تضم اللّه والانبياء والبشر، فاللّه يحل في الانبياء،وبدوران الوجود داخل النبوة تنتقل الروح من فرد لاخر لا فرق بين سابق ولاحق، ويكون الانبياءنبيا واحدا، وباتصال اطراف هذا الوجود بعضها بالبعض الاخر يكون الانبياء جزءا منها، والانسان جزءا آخر من هذه الوحدة التي تضم ملكوت السماء والارض، فكمالات الانبياء المتفرقة قد تجمعت في شخص النبي
محمد(ص) وانعكست ظليا فيه.
وقد استفاد من إيمانه ببعض النظريات الفلسفية التي آمن بها، في زعمه الغوص في ذات اللّه والبروز عنه الى الارض، والانتهال من علوم الغيب واسرار الكون، وغير ذلك من المزاعم الكاذبة والادعاءات الباطلة.
بنى مدرسة لابناء نحلته في «قاديان » لئلا يشرف على تعليمهم وتربيتهم غير القاديانيين، كما بنى لهم مسجدا خاصا للصلاة، لكن اقاربه المخالفين له في الراي بنوا جدارا جعل اشياعه لا يتمكنون من الوصول الى المسجد الا بعد ان يمشوا مسافة طويلة، فرفع عليهم دعوى في المحكمة وقضى حكم الانكليز بازالة الجدار، واصدر قانونا يقضي بالا يزوج القاديانيون بناتهم لمن لم يصدق بنبوته، واكثرمن التطاول على المسلمين وشتمهم سواء في ذلك من عارضه او سالمه، لانه كان يقول بكفر من لم يؤمن برسالته ويتبعه.(/5)
وفي سنة 1323 ه، 1905م زعم انه اوحي اليه بان اجله قد قرب والف كتاب «الوصاية » الا انه عاش بعد ذلك... وفي السنة نفسها زعم انه اوحي اليه انشاء مقبرة خاصة في «قاديان » وفرض على من يريدالدفن فيها ان يهب لخزينة «القاديانية » ربع ماله، وبناها وقدمت له المبالغ، ومنذ ذلك التاريخ فرض على كل قادياني ان يقدم الى خزينتهم الدينية ربع ماله واستمر الى الان.
وفاته:
أصيب بالهيضة الوبائية وهو في لاهور، ومات سنة 1326 ه، الساعة العاشرة والنصف صباحا يوم(26) مارس سنة 1908م ونقلت جثته الى قاديان التي تبعد عن لاهور ستين ميلا، ودفن في المقبرة التي سماها (( بهشتي مقبرة )) : (( مقبرة الجنة )) وكتب على قبره (( ميرزا غلام أحمد الموعود )) وأنزله أتباعه منزلة الأنبياء واتخذوا قبره بمثابة ضريح رسول اللّه (ص) وصرحوا بأن زيارته تعدل زيارة الرسول(ص) وقالوا: (( ان اللّه بارك ثلاثة أمكنة وجعلها مقدسة وهي مكة والمدينة وقاديان حيث تلوح تجلياته سبحانه )).
وكان قد ضاقت به الدنيا لشدة مقاومة «المولوي ثناء اللّه له » فكتب له دعاء جاء في آخره: (( يا مرسلي إاني أدعوك بحظيرة القدس ان تفصل بيني وبين المولوي ثناء اللّه، ومن كان منا مفسدا في نظرك كاذباعندك فتوفه قبل الصادق منا... الخ » وكان صدور الدعاء في اليوم الاول من ربيع الاول سنة 1325 ه،25 نيسان سنة 1907م، فمات القادياني بعد التاريخ بسنة وعاش ثناء اللّه بعد ذلك سنين طويلة.
وكان للقادياني صديق قديم ذهب اليه في قريته (( قاديان )) وناظره فانتصر عليه، ثم اتفقا على مباهلة مؤداها أن يموت الكاذب منهما
خلال ثلاثة أيام، فمات القادياني خلال تلك المدة.
وقد أوصى ان يتألف مجلس من أتباعه لاختيار خليفة له، فانتخب (( المولوي حكيم نور الدين )) أول خليفة له، ولما مات في سنة 1333 ه، 1914م انتقلت رئاسة الاتباع إلى ولده (( بشير أحمد )) المسمى عندهم بالخليفة الثاني، ولما مات انتقلت الى حفيده (( بشير الدين )) بن بشير أحمد بن غلام أحمدالقادياني وسمي بالخليفة الثالث.
(3)
إختلاف أتباعه بعد وفاته:
وكان أتباعه قد انقسموا بعد موته فريقين، رأس أحدهما (( بشير احمد )) كما قلنا، وهذا الفريق يؤيد نبوته ويكفر جميع المسلمين الذين لا يدينون بعقيدتهم، اما الفريق الثاني فقد راسه «الخواجه كمال الدين »ونائبه (( الشيخ محمد علي اللاهوري )) الذي فسر القرآن باللغة الانكليزية، وقد اقتصرت عقيدة هذاالفريق على أن القادياني مجدد مصلح لا مهدي ولا نبي، وقد أطلق عليهم اسم (( اللاهورية )).
وقد ظل الصراع بينهم وبين المسلمين قائما في الهند وباكستان وغيرهما من البلاد التي وصلت دعوتهم إليها، وكان كبار العلماء والجمعيات الدينية في الباكستان يقاومونهم بشدة وباستمرار في خطبهم في المساجد والنوادي ومقالاتهم في الصحف، ويصدرون الفتاوى والنشرات والكتب بتكفيرهم، وقد ذكر السيد عبد الحي الحسني مجموعة من تلك الكتب بالعربية والفارسية والاردوية وقد حملواالسلطات على محاكمتهم، وبعد مشاحنات طويلة استمرت سنتين اصدرالقاضي «محمد اكبر خان »حاكم «بهاولبور» في سنة 1354 ه، 1935م حكما بتكفيرهم وعدم جواز تزوج المسلمات بهم.
آثاره العلمية:
ألف «القادياني » منذ كان مسلما يحارب أعداء دينه حتى اواخر أيامه، وبعد ان انحرف عن مبادئه ومعتقداته وارتد عن الاسلام ووقف في صف أعدائه المخربين الف ما يقرب من ثمانين كتابا باللغات العربية والفارسية والاردوية والانكليزية، وبعضها في عدة اجزاء. ولم نقف الا على عدد يسير منها يعد بالأصابع، ويعود الفضل في ذلك الى كل من العلامة الاديب السيد حيدر عباس اللكنهوي، والفاضل السيد حكمة الهندي نزيل «المدرسة الهندية » في النجف، فقد جلبا لي ذلك من الهند بواسطة بعض معارفهما هناك، كما يعود الفضل الى أولهما في ترجمة نبذ مما هو محل الحاجة من آرائه للاستشهاد من الانكليزية والاردوية، وذكر له الحسني ثلاثة عشر كتاب، والى القارى ء أسماء ما وقفنا عليه وذكره الحسني:
1- آئينة كمالات اسلام، فارسي.
2- إزالة اوهام.
3- إعجاز المسيح.
4- اعجاز احمدي.
5- انجام اتهم.
6- البراهين الاحمدية (خمس مجلدات).
7- البرية.
8- تبليغ الرسالة.
9- تجليات الاهية.
10- تحفة الندوة.
11- التذكرة.
12- ترياق الفاروق.
13- ترياق القلوب.
14- توضيح مرام.
15- جشمه مسيحي.
16- جشمه معرفت، فارسي.
17- حقيقة الوحي.
18- الخطاب الجليل في الاصول الاسلامية.
19- الخطبة الالهامية.
20- دافع البلاء.
21- در ثمين.
22- دين الحق.
23- رسالة احمدي.
24- رسالة ختم النبوة.
25- رسالة قيصر.
26- سر الخلافة.
27- سر جشمه آرية، بالاردو.
28- سفينة نوح.
29- فتح الاسلام.
30- القصيدة الاعجازية.
31- كتاب الاربعين.
32- كتاب البرية.
33- الكتاب المبين.
34- كتاب الوصية.
35- عين المعرفة.
36- معيار الاخبار.
37- مكتوب احمد.
38- الملفوظات الاحمدية.
39- من خطاب سيكلوت.(/6)
40- المهدي.
41- مواهب الرحمن.
42- نزول المسيح.
43- نور الحق.
(4)
نشاط القاديانية في الباكستان:
كان القاديانية يحلمون بأن تصبح البلاد الهندية على سعتها قاعدة لهم، ولذلك مجدوا شخصيات الهندوس الدينية، وأقاموا علاقات مع زعماء السياسة، وخطبوا ود (( نهرو )) وأغروه حتى أُعجب بهم،وأشيع في الأوساط الإسلامية أنه إعتبرهم أحسن طوائف المسلمين، لأن نبيهم ينحدر من الجنس الهندي ولهم مركز مقدس (( قاديان )) في الهند.
وانطلاقا من هذه المطامع السياسية حبذوا فكرة وحدة الهند وعارضوا قيام دولة الباكستان، ولما قامت صرفوا جهدهم للنيل من مسلمي الباكستان، واستفادوا من رعاية الانكليز في ترسيخ أقدامهم في مختلف دوائر الدولة الفتية ونالوا مناصب كبيرة.
وكان السير (( ظفر اللّه خان )) أول وزير خارجية لباكستان العقل المخطط للقاديانية، وقد اغتنم فرصة وفاة القائد محمد علي جناح فشحن وزارته والمفوضيات خارج الباكستان بالقاديانيين.
وخطوا خطوة أخطر حين تسربوا إلى الجيش والشرطة ومصلحة الطيران وتغلغلوا في المرافق الحيوية الاخرى.
وقد قامت جماعة منهم برئاسة زعيمهم (( بشير الدين )) فهاجرت الى الباكستان بينما بقي جماعة في مركزهم قاديان في الهند واستطاع المهاجرون بمساعدة النفوذ الانكليزي الحصول من الحكومة على مساحة شاسعة من الارض في اقليم (( جنهنك )) بنوا عليها مدينة خاصة بهم سموها (( ربوة )) .
وفي الحقيقة أن عش القاديانية في الباكستان (( ربوة )) بمثابة الفاتيكان للمسيحيين، فهي دويلة داخل دولة فيها كل ما للحكومة من دوائر ومكاتب وشعب مستقلة لكل من الشؤون الخارجية والداخلية والاعلام والشؤون العامة، وحرس وطني باسم «هيئة خدام الأحمدية » وتنظيم عسكري على شاكلة الميليشيا يتألف من فرقتين منتظمتين، تدعى الاولى (( الهادفة )) والثانية (( الفرقان )) وكلها تمارس نشاطهافي داخل نطاقها المحدود. ولشعبة الامور العامة دائرة مخابرات مهمتها جمع المعلومات عن نشاط الحكومة والمنظمات السياسية المناهضة للقاديانية، وتقوم بعثتها في اسرائيل بنشاط كبير، فالمركزان (( قاديان )) و(( ربوة )) على اتصال دائم بها، ويجري بينهما تبادل الاشخاص بين الحين والاخر عن طريق بعض الدول الافريقية التي تتعاون معها وتصدر لمبعوثيها جوازات السفر، ولذلك وغيره فان مسلمي الباكستان في قلق دائم من تحركاتهم المشبوهة، وحيطة وحذر من نشاطهم الهدام وتخطيطهم الخطر.
وفي سنة 1371 ه، 1951م اشتركوا في الانقلاب الفاشل، ولولا رحمة اللّه بتلك الدولة الناشئة لكان مصيرها دولة قاديانية.
وفي جمادى الثانية سنة 1372 ه آذار 1952م دعي شيخنا الامام شيخ الاسلام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء لحضور المؤتمر الاسلامي في كراچي وكان لي شرف توديعه واستقباله في مطارالبصرة تطرق بعد عودته في حديثه عن المؤتمر الى وضع القاديانيين ونشاطهم التخريبي، ووضعهم لبعض العراقيل في طريق المؤتمر بسبب عدم السماح لهم بحضوره.
وبالنظر لخطورة الموقف واستفحال أمر القاديانية اجتمع قادة المسلمين من الشيعة والسنة وزعماء(( الجمعية الاسلامية )) في كراچي في سنة 1373 ه، كانون الثاني عام 1953م، وعكفوا على دراسة الوضع السائد ووجوب اتخاذ الوسائل الكفيلة لمجابهة دسائس القاديانية وخطرها على الامة الاسلامية، وأصدروا بيانا أعلنوا فيه ان القاديانيين خارجون عن الاسلام، وطلبوا من الحكومة إصدار قرار ينص على أنهم أقلية غير مسلمة كالهندوس والمسيحيين، وان تعطيهم ما يستحقونه من الحقوق حتى في البرلمانات المحلية والمركزية كما هو الحال بالنسبة للاقليات الاخرى، واقصاء (( ظفر اللّه خان )) من وزارة الخارجية وسائر القاديانيين من الوظائف الحساسة. وكان المسلمون ولا يزالون بالرغم من مواقفهم الحاسمة والجدية تجاه القاديانيين، يؤكدون على الالتزام بالوسائل السلمية وتجنب العنف،وينهون عن المقاطعة التي يتعرض لها افراد من القاديانيين كقطع الماء او منع الطعام عنهم، ويعارضون ذلك بشدة لانه يخالف التعاليم الاسلامية الانسانية.
وفي السنة نفسها ثار المسلمون الباكستانيون على القاديانيين ثورة عنيفة، وصاحبت ذلك اضطرابات أدت الى مذابح قتل فيها عدد كبير من الجانبين، واعلنت الدولة الحكم العرفي العسكري ووقفت موقفامنحازا، واستشهد مئات المسلمين برصاص الجيش والشرطة. واعتقل المسلمون بما فيهم زعماء الدين الذين قادوا الثورة، ومنهم الشيخ (( أبو الاعلى المودودي )) زعيم الجماعة الاسلامية يومذاك. بسبب تأليفه كتاب (( المسالة القاديانية )) الذي كشف فيه حقيقة القاديانية من النواحي الدينية والسياسية وما يكمن فيها من أخطار إجتماعية على الشعب الباكستاني المسلم، وصدر الحكم عليه وعلى غيره بالاعدام ثم خفف إلى أربع عشرة سنة، وأطلق سراح الجميع بعد سنوات.
(5)
عمالته المكشوفة للانكليز:(/7)
كانت أسرة القادياني على وئام تام وعلاقة صميمة مع «السيخ » ايام حكمهم على «البنجاب » على العكس من المسلمين المضطهدين وما ان دخل الانكليز وسيطروا على البلاد حتى بادرت الى انشاءالصلة بهم وانضمت الى صفوفهم، وكانت من اتباعهم علانية بسبب ان جد القادياني «الميرزا غلام محمد» كان من الاقطاعيين الكبار في ولاية «البنجاب » ولذلك اعلن ولاءه للانكليز وللتاج البريطاني منذ بداية الاحتلال، فنال الحب والعطف والرعاية من الولاة، وخلفه ولده «غلام مرتضى » فعزز ذلك بوقوفه الى جانب الانكليز عندما ثار الشعب الهندي عليهم ثورته المشهورة عام 1273 ه، 1857م ومدهم بخمسين مقاتلا فوجهوا له كتب الشكر، كما ساندهم في كل الحركات التي قامت ضدهم، وقبل التوظيف في دوائرهم.
ولما جاء دور ولده «الميرزا غلام احمد» سار على نهج ابيه وجده في الاخلاص والولاء، فتوظف في دوائرهم وحافظ على صحبتهم، ولما ظهر على الساحة وتبلورت شخصيته وبدا بادعاءاته التجديدفالمهدوية فالنبوة، كانوا وراء ظهره سندا في مختلف المراحل، والا لما استطاع ان يفوه بكلمة واحدة، فقداعلن دعوته بصراحة في بلد فيه عشرات الملايين من المسلمين، وخرق اجماع مئات الملايين من المسلمين الذين اجمعت كلمتهم على ختم النبوة، وتحدى علماءهم وشتمهم، وشبههم بالقردة والكلاب والشياطين وما شابه ذلك من النعوت، وظل يواصل دعوته وينشر مزاعمه بدون اكتراث،وحقق نجاحا في بلاده وفي البلدان الاسلامية الاخرى، وظل على قيد الحياة متمتعا بالحرية والحصانة مع المشايعين لفكرته، ولم يجرا احد على اخماد فتنته بالقضاء عليه، بل كان الاغتيال نصيب الزعيم الهندي (( غاندي )) الذي تمزق جسمه النحيل بالرصاص، لان الانكليز كانوا ضده.
ولو لم يصرح «القادياني » بعمالته للانكليز، لما كانت تخفى على أحد من ذوي البصائر، لان العمل الذي قام به مما لا يقوى عليه رجل بمفرده كل بضاعته الكذب والدجل والافتراء، وانما كان له رصيد قوي ودعم كبير، من جهة عليا تحميه وتسدده وتسخر امكانياتها لدعمه، وبذلك استطاع الاستمرار في دعوته مبلغا وخطيبا وناشرا، وتمكن ان يجمع حوله زمرا من السذج والمنتفعين والمنافقين... اقول لو لم يصرح بعمالته لما غمض على احد امره، فكيف وقد ملا كتبه بالاعترافات الصريحة والاعلان المكشوف، وفيما يلي نموذج من تلك التصريحات:
«فقد ساعدهم (الانكليز) والدي مساعدة كبيرة في قمع تمرد 1857 (يقصد ثورة الشعب الهندي على البريطانيين الغزاة) ومدهم بخمسين فارسا مسلحا لضرب الثورة، لذلك تدفقت على والدي رسائل الشكر والامتنان من قبل الحكام، وكذلك ساندهم والدي في المعارك الاخرى التي خاضها المتمردون(يقصد الوطنيين الاحرار)» «ولما توفي والدي ناب عنه اخي الكبير ميرزا غلام قادر في خدمة الحكومة البريطانية، فشملته هوالاخر بعنايتها، ولما توفي هو الاخر اقتفيت آثارهما وسلكت مسلكهما في اعلان الحب والولاءللحكومة والطاعة لها، وقد عاهدت اللّه منذ ذلك الحين على انني لن اكتب شيئا ضد هذه الحكومة »
«اقول مدعيا: انا اكثر المسلمين اخلاصا للحكومة الانكليزية، لان هناك ثلاثة امور جعلتني احتل الدرجة الاولى في الاخلاص لها.
1- تربية المرحوم الوالد.
2- أيادي الحكومة البيضاء.
- الهام من اللّه تعالى »
وقد خاطب اتباعه قائلا: «اسمعوا: ان السلطة الانكليزية رحمة لكم وبركة عليكم، وهي الحصن المنيع الذي اقام اللّه لوقايتكم، فعليكم ان تقدروها حق التقدير من سويداء قلوبكم، والانكليز خير لكم الف مرة من هؤلاء المسلمين الذين يحاربونكم »
وهو يعترف بصراحة بانه لا يستطيع ترويج بضاعته الزائفة، واعلان دعوته الكاذبة ومزاعمه الفاسدة،في اي بقعة اسلامية من العالم، لان ذلك يؤدي الى دق عنقه واراقة دمه، فهو يقول:
«لا يمكن ان احقق دعوتي كل التحقيق في مكة، ولا في المدينة، ولا في الروم يقصد تركيا ولا في الشام، ولا في فارس،ولا في كابل، الا في كنف هذه الحكومة التي ادعو لها دائما بالازدهار والانتصار»
ويقول ايضا: «لقد بسطت هذه الحكومة الانكليزية اياديها البيضاء علينا لحد اننا ان خرجنا من هنا لاتؤوينا مكة ولا قسطنطينية، فكيف يجوز لنا اذن ان نضمر في قلوبنا امرا ضدها». وبعد ان اعلن ولاءه المكشوف بهذا الشكل عاد يستجدي العطف عليه وعلى اتباعه، ويرجو من الحكومة الانكليزية ان تنظر اليهم نظر رافة ورحمة وتحميهم من المسلمين، فقد وجه كتابا الى الحاكم الانكليزي في المنطقة يقول فيه: «...(/8)
القصد من وراء ذلك الطلب الذي تقدمت به الى حضرتكم،والذي يحتوي على اسماء اتباعي ايضا، هو انني وان كنت استحق رعاية خاصة من الحكومة الانكليزية نظرا للخدمات الخاصة التي قمت بها انا واسلافي نحو الحكومة الموقرة بصدق واخلاص وتجردوبتحمس قوي، ارجو من الحكومة السامية ان تجعل هذه الاسرة يعني اسرته التي عرفتها وفية موالية لها مؤمنة بها مستميتة في سبيلها بعد تجارب استمرت خمسين سنة مضت، هذه الاسرة التي شهدلها اركان الحكومة الموقرة بانها اول المخلصين لها والقائمين على خدمتها، ارجو من الحكومة السامية ان تجعل هذه الاسرة التي هذا شانها، والتي هي عبارة عن غرسها نفسها، ان تجعلها موضع رعاية خاصة...»
بهذه الحقارة والوضاعة يستجدي هذا الدني ء عطف الغزاة المحتلين لبلاده، والهاتكين لحرمته، والمريقين لدماء ابنائه البررة، بهذا الاسلوب الذي يدل بصراحة على تفاهته وهوانه على نفسه، ثم يدعي انه نبي،والافظع ان يدعي ان اللّه الهمه الولاء للمحتلين، ويامر الناس بتصديق اقواله ويلعن من خالفه واستخف به. والحقيقة ان هذه الرسالة وثيقة ادانة وعمالة لا غبار عليها، فليس اكثر من ان يدعي ان هذه الطائفة من غرس يد الانكليز، واذا ثبت ذلك وهو ثابت فنحن في غنى عن ايراد الادلة والاستشهاد بالاقوال.
(6)
سبب احتضان الانكليز للقاديانية:
لقد قوبل الانكليز وغيرهم من القوى الاستعمارية الكافرة عند دخولهم البلاد الاسلامية فاتحين بضراوة وعنف وتحطيم وتدمير، وتلقوا من المسلمين ضربات ماحقة اطارت صوابهم وارتهم العجب في التضحية والاستبسال، وتقارير ضباطهم الى قياداتهم ومذكراتهم التي كتبوها خلال ايام احتلالهم ونشرت تراجمها اكبر شاهد على ما نقول، فقد صرح الجميع واتفقت كلمتهم على غيرة المسلمين على اوطانهم ودفاعهم المستميت عنها، وعن حميتهم وتضحيتهم بالغالي والنفيس في سبيل الحفاظ على ارضهم من دنس الغاصبين.
ومرجع ذلك الى ان الجهاد في سبيل اللّه من الواجبات الدينية باجماع المسلمين، وحكمه حكم فروع الدين الاخرى كالصلاة والصيام والزكاة والحج كما نص عليه فقهاء الامة قديما وحديثا، وهو كما تفصله المصادر كافة نوعان، احدهما للدعوة الى الاسلام واعلاء كلمته في بلاد اللّه وعباده، والثاني للدفاع عن الاسلام والمسلمين وبلادهم، وكذلك عن النفس والمال والعرض. ويشترط فقهاؤنا معاشر الشيعة الامامية في النوع الاول وجود الامام او نائبه الخاص اما الثاني فلا يشترط فيه ذلك.
وقد نص القرآن الكريم على ذلك في العديد من الايات، ومنها:
(إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من اللّه فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم).ومنها: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم فضل اللّه المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد اللّه الحسنى وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين أجراً عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان اللّه غفورا رحيما)
كما حثت عليه السنة النبوية، فقد قال رسول اللّه (ص): «من ترك الجهاد ألبسه اللّه ذلا وفقرا في معيشته ومحقا في دينه » وقال أمير المؤمنين(ع): «الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه اللّه لخاصة اوليائه، وهولباس التقوى ودرع اللّه الحصينة وجنته الوثيقة، فمن تركه البسه اللّه ثوب الذل وشمله البلاء...»
ومن أجل ذلك كان المسلمون يعلنون الثورة على العدو الكافر إذا غزاهم في عقر دارهم، ويهبون للجهاد في سبيل اللّه في مقاومته ودحره، وكان على رأس الداعين إلى الجهاد علماء الدين، فإذا ما أفتوا بوجوبه وضرورة حفظ البلاد من الغازين لم يتخلف عن الامتثال لأوامرهم أحد إلا الشيخ الهرم والمريض العاجز. ولا يزال العهد بثورة العراق الكبرى عام 1920 قريبا إلى الأذهان، فقد هاجمه الانكليز فاتحين، وأفتى زعيم الثورة الكبير الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي وبقية زعماء الدين بوجوب الجهاد والمحافظة على البلاد، فهب الشعب العراقي هبة واحدة ولقن الانكليز درسا لن ينسوه الى الأبد. وقد جاء في «مذكرات مس بل » قولها: «رجال الدين من العلماء في النجف وبغداد وكربلاء والكاظمية وسامراء... كان هؤلاء العلماء شديدي التعصب للإسلام وشديدي الكره لبريطانيا... وكان لهم حتى الآن أثر كبير على السكان المتدينين في المدن المقدسة...»(/9)
ولم تكن حال المسلمين في الهند لتختلف عنها في سائر بلادهم الأخرى، فقد قاوموا التسلط الانكليزي والإحتلال الغاشم، وحرضهم علماؤهم على الجهاد في سبيل اللّه، فضاق الانكليز بذلك ذرعا وظل القلق يساورهم دوما، وحاولوا التماس وسيلة توقف تلك الانتفاضات عند حدها، وتخنق أصوات الاحرار الذين يطالبونهم بالجلاء عن البلاد، ووجدوا ضالتهم عند (( القادياني )) فقد جند نفسه لتلك المهمة وبذل كل وسعه وطاقته في إيقاف المد الثوري بفتاواه المتوالية في عدم جواز الجهاد ضد الانكليز، وملأ الأذان بصخبه في ارشاده وخطبه ومؤلفاته وسائر الوسائل الممكنة الاخرى، وامده الانكليز بالمال وجندوا في خدمته الرجال، وهو يواصل مسعاه الخبيث وجهده الخائن، لكن ذلك لم يجده ولم يجداسياده فتيلا، اذ لم يكن لفتواه سميع غير قومه، وهم اقل من القليل اذا ما قيسوا بعدد المسلمين في مقاطعة البنجاب وحدها، فضلا عما سواها من مقاطعات شبه القارة الهندية.
وكان يفسر الاية الكريمة: (اطيعوا اللّه واطيعوا الرسول واولي الامر منكم) بحسب ميوله الضالة،ويؤكد على ان الانكليز هم اولوا الامر الذين امر اللّه بطاعتهم وحذر من مخالفتهم، لغرض اسقاط فكرة الجهاد الاسلامي ضد الكفار، وقد ذكر ذلك مباهيا وافتخر به في غير واحد من مؤلفاته، وكان من جملة تصريحاته الوقحة قوله: «إني منذ الصغر إلى أن بلغت ستين سنة من عمري كنت أحاول في محاضراتي ومقالاتي ان اخلق الحب والولاء للانكليز في قلوب المسلمين، وأن أحملهم على التخلي عن الجهاد ضد المحتلين الانكليز»، وقوله: «وجب على كل مسلم ومسلمة تقديم الشكر الى هذه الحكومة، وحرام على كل مؤمن مقاومتها بنية الجهاد، وما هو جهاد بل هو أقبح أنواع الفساد»وقوله: «لقد خطوت اكبر مرحلة في حياتي في نصرة الدولة البريطانية والدفاع عنها والفت كتبا كثيرة احرم فيها الجهاد ضدها، لو جمع كل ما كتبته في هذا الصدد لبلغ خمسين كتابا، ووزعت هذه الكتب كلها في جميع أقطار العالم مثل الجزيرة العربية والشام، وكابل ومصر، وبلاد الروم يقصد تركيا »، إلى غير ذلك مما يصعب استقصاؤه.
فهل يحتاج الانسان بعد هذه الصراحة والصلافة الى ما يوضح له اسباب احتضان الانكليز له وتعلقهم به في حياته؟ ودعمهم وتمويلهم لاتباعه بعد وفاته؟ ومساعدتهم على الانتشار لتخريب العقائد والديار،فالمسالة في غاية الوضوح، والمساجد والجمعيات الدينية التي يشيدها القاديانيون في مختلف البلاد آولا سيما في الغرب بؤر جاسوسية ومراكز هدم، والواجب على الغيارى من ابناء المسلمين محاربتهاوتقويض اركانها، لا سيما في اوروبا وامريكا فانها اشد ضررا، لانهم في البلاد الاسلامية وديار الشرق معروفون ومعزولون من قبل معظم اهلها، لكن الغربيين لا يعرفون اسرارهم ونواياهم وانما ياخذون فكرة مشوهة عن الاسلام بواسطتهم، اذ يدسون السم في العسل ويفسرون القرآن حسب مشتهياتهم ووفق رغباتهم، مما يضر بتفاهم الامم والشعوب ورسل الاديان، كما مرت الاشارة إليه في التقديم.
(7)
شبه القاديانية بالبهائية:
وللقاديانية شبه بالبهائية من حيث التكوين والتطوير فكلاهما من صنائع الاستعمار، فقد غذتهماالايادي الاجنبية التي كانت تعمل للتخريب في البلاد الاسلامية في القرن التاسع عشر، ولخلق الفتنة والاضطراب والهاء الشعوب بالخلافات الداخلية، وبديهي انهما لم تصلا الى ما هما عليه اليوم من قوة وسعة انتشار في العالمين الشرقي والغربي الا بدعم الاستعمار المادي والمعنوي، فقد كان وراءهما منذالخطوات الاولى.
والملاحظ ان الاستعمار كان ولا يزال يختار لتنفيذ خططه ودسائسه في بلاد الشرق بعض المتلبسين بلباس رجال الدين، امثال كعب الاحبار ووهب بن منبه في التاريخ القديم، وراسبوتين وابي الهدى الصيادي في التاريخ الحديث، ليسهل اختلاطهم بالعامة وسواد الناس، ويمكن دسهم عن طريق التوجيه والوعظ والتاليف الارشاد.
أما البابية فقد غرس بذرتها في ايران «كينيار دالكوركي » المترجم ثم الوزير المفوض في السفارة الروسية بطهران، فقد اعترف في مذكراته المطبوعة بالدور الذي لعبه في تاسيس هذه الفرقة بوحي من الحكومة القيصرية، وذلك لاشغال رجال الدين
المسلمين الذين كانوا على خلاف دائم مع الحكومة الروسية.
ولا ننسى شقيقتهما الثالثة «الماسونية » فهي أكبر منهما عمرا، لأنها ولدت في بداية القرن الثامن عشر،وقامت على أنقاض تنظيم يهودي يهدف الى السيطرة على العالم، ويدعو الى أممية لا علاقة لها بالأديان والأوطان والقوميات وكل القيم والمثل الأخلاقية العليا، حيث تسحق ذلك جميعا وتحل محله روح الالحاد والاباحية، لكنها اعلنت لها اهدافا خادعة هي:
«الحرية، والاخاء، والعدالة، والمساواة » لاغراءالناس وترغيبهم في الانتماء اليها.(/10)
وهناك سؤال يشكل علامة استفهام كبيرة، وهو لماذا توجد في اسرائيل مراكز لكل من الماسونية والقاديانية والبهائية؟ وهل يعقل أن ذلك محض صدفة؟ والجواب بالطبع: لا. بل إن ذلك تخطيط مدروس، وعمل مقصود، وتنسيق مسبوق، فالكل يدور في فلك الاستعمار ويلتقي عند نقطة واحدة،يجب أن يفكر بها ويعمل لها من بيدهم الحل والعقد في العالم الاسلامي والعربي...
والحمد لله رب العالمين(/11)
القبر موعدنا
دار الوطن
الحمد لله ذي الملكوت والسلطان، والصلاة والسلام على رسول ربنا الرحمن، محمد وعلى آله وصحبه البررة الكرام، أما بعد:
أخي المسلم: هل رأيت القبور؟ هل رأيت ظلمتها؟ هل رأيت وحشتها؟ هل رأيت شدتها؟ هل رأيت ضيقها؟ هل رأيت هوامها وديدانها؟
أما علمت أنها أعدت لك كما أعدت لغيرك؟
أما رأيت أصحابك وأحبابك وأرحامك نقلوا من القصور إلى القبور.. ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود.. ومن ملاعبة الأهل والولدان إلى مقاساة الهوام والديدان.. ومن التنعيم بالطعام والشراب إلى التمرغ في الثرى والتراب.. ومن أنس العشرة إلى وحشة الوحدة.. ومن المضجع الوثير إلى المصرع الوبيل؟ فأخذهم الموت على غرة، وسكنوا القبور بعد حياة الترف واللذة، وتساووا جميعاً بعد موتهم في تلك الحفرة، فالله نسأل أن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة.
أتيت القبور فساءلتها *** أين المعظم والمحتقر؟!
وأين المذل بسلطانه *** وأين القوي على ما قدر؟!
تفانوا جميعاً فما مخبر *** وماتوا جميعاً ومات الخير!!
فيا سائلي عن اناس مضوا *** أما لك فيما مضى معتبر؟!
تروح وتغدو بنات الثرى *** فتمحو محاسن تلك الصور!
هول القبور
عن هانئ مولى عثمان قال: عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟ فقال: إن الرسول قال: { القبر أول منازل الآخرة، فإن ينج منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه }، ثم قال: قال رسول الله { ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه } [أحمد والترمزي وحسنه الألباني].
وفي حديث جابر بن عبدالله عن النبي أنه قال: { لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد } [أحمد وحسنه الهيثمي].
أخي الكريم:
تجهز إلى الأجداث ويحك والرمس *** جهازاً من التقوى لطول ما حبس
فإنك ما تدري إذا كنت مصبحاً *** بأحسن ما ترجو لعلك لا تمسي
شيع الحسن جنازة فجلس على شفير القبر فقال: "إن أمراً هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوله، وإن أمراً هذا أوله لحقيق أن يخاف آخره".
ووعظ عمر بن عبدالعزيز يوماً أصحابه فكان من كلامه أنه قال: "إذا مررت بهم فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم.. سل غنيهم ما بقي من غناه؟.. واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا للذات بها ينظرون.. واسألهم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان تحت الأكفان؟!.. أكلت الألسن، وغفرت الوجوه، ومحيت المحاسن، وكسرت الفقار، وبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء فأين حجابهم وقبابهم؟ وأين خدمهم وعبيدهم؟ وجمعهم وكنوزهم؟ أليسوا في منازل الخلوات؟ أليس الليل والنهار عليهم سواء؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء؟ قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة والمال والأهل".
فيا ساكن القبر غداً! ما الذي غرك من الدنيا؟ أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد؟ وأين ثمارك اليانعة؟ وأين رقاق ثيابك؟ وأين طيبك وبخورك؟ وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟.. ليت شعري بأي خديك بدأ البلى.. يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموت.. ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا..وما يأتيني به من رسالة ربي.. ثم انصرف رحمة الله فما عاش بعد ذلك إلا جمعة.
إخوتي: تفكروا في الذين رحلوا.. أين نزلوا؟ وتذكروا، القوم نوقشوا وسئلوا.. واعلموا أنكم كما تعذلون عذلوا.. ولقد ودوا بعد الفوات لو قبلوا.. ولكن هيهات هيهات وقد قبروا.
عن وهب بن الورد قال: بلغنا أن رجلا فقيها دخل على عمر بن عبدالعزيز فقال: سبحان الله! فقال له عمر: وتبينت ذلك فعلا؟ فقال له ك الأمر أعظم من ذلك! فقال له عمر: يا فلان! فكيف لو رأيتني بعد ثلاث، وقد أدخلت قبري.. وقد خرجت الحدقتان ن، وتقلصت الشفتان عن الأسنان.. وانفتح الفم.. ونتأ البطن فعلا الصدر.. وخرج الصديد من الدبر!!
وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: "ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم.. من الموت موعده.. والقبر بيته.. والثرى فراشه.. والدود أنيسه.. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر.. كيف يكون حاله؟!"، ثم بكي رحمه الله.
عظة القبور
قال عبدالحق الأشبيلي: "فينبغي لمن دخل المقابر أن يتخيل أنه ميت، وأنه قد لحق بهم، ودخل معسكرهم، وأنه محتاج إلى ما هم إليه محتاجون، وراغب فيما فيه يرغبون، فليأت إليهم ما يحب أن يؤتى إليه، وليتحفهم بما يحب أن يتحف به، وليتفكر في تغير ألوانهم، وتقطع أبدانهم، ويتفكر في أحوالهم، وكيف صاروا بعد الأنس بهم والتسلي بحديثهم، إلى النفار من رؤيتهم، والوحشة من مشاهدتهم وليتفكر أيضاً في انشقاق الأرض وبعثرة القبور، وخروج الموتى وقيامهم مرة واحدة حفاة عراة غرلاً، مهطعين إلى الداعي، مسرعين إلى المنادي".
يا أيها المتسمن *** قل لي لمن تتسمن؟(/1)
سمنت نفسك للبلى *** وبطنت يا مستبطن
وأسأت كل إساءة *** وظننت أنك تحسن!
مالي رأيتك تطمئن *** إلى الحياة وتركن!
يا سكن الحجرات ما *** لك غير قبرك مسكن
اليوم أنت مكاثر *** ومفاخر تتزين
وغداً تصير إلى القبور *** محنط ومكفن!
أحدث لربك توبة *** فسبيلها لك ممكن
واصرف هواك لخوفه *** مما تسر وتعلن
عن محمد بن صبيح قال: "بلغنا أن الرجل إذا وضع في قبره، فعذب أو أصابه ما يكره، ناداه جيرانه من الموتى: يا أيها المتخلف في الدنيا فبعد إخوانه! أما كان لذلك فينا معتبر؟ أما كان لك في تقدمنا إياك فكرة؟ أما رأيت انقطاع أعمالنا وأنت في المهل؟ فهلا استدركت ما فات إخوانك!!".
فتنة القبور
أخي المسلم: ماذا أعددت لأول ليلة تبيتها في قبرك؟ أما علمت أنها ليلة شديدة، بكى منها العلماء، وشكا منها الحكماء، وشمر لها الصالحون الأتقياء؟
فارقت موضع مرقدي *** يوماَ فقارققني السكون
القبر أول ليلة *** بالله قل لي ما يكون؟!
كان الربيع بن خثيم يتجهز لتلك الليلة، ويروى أنه حفر في بيته حفرة فكان إذا وجد في قلبه قساوة دخل فيها، وكان يمثل نفسه أنه يقد مات وندم وسأل الرجعة فيقول: رب ارجعون لعلي أعمل صلحا فيما تركت [المؤمنون:99-100]، ثم يجيب نفسه فيقول: "قد رجعت يا ربيع!!" فيرى فيه ذلك أياماً، أي يرى فيه العبادة والاجتهاد والخوف والوجل.
وعن أبي هريرة عن النبي قال: { إن الميت يصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا شعوف ( أي غير خائف ولا مزعور ) ثم يقال له: فيم كنت؟ فيقول: كنت في الإسلام فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمد رسول الله ، جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه، فيقال له، فينظر إليها يحطم بعضها بعضا، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله: ثم يفرج له قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: هذا مقعدك، ويقال له: على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث، إشاء الله.
قال: ويجلس الرجل السوء في قبره فزعا مشعوفاً، فيقال له: فيم كنت؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولاً فقلته. فيفرج له قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: انظر ما صرف الله عنك. ثم يفرج له فرجه قبل النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً فيقال له: هذا مقعدك، على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله } [ابن ماجة وصححه البوصيري].
أرى أهل القصور إذا أميتوا *** بنوا فوق المقابر بالصخور
أبوا إلا مباهاة وفخراً *** على الفقراء حتى في القبور
لعمرك لو كشقت الترب عنهم *** فما تدري الغني من الفقير
ولا الجلد المباشر ثوب صوف *** من الجلد المباشر للحرير
إذا أكل الثرى هذا وهذا *** فما فضل الغني على الفقير؟
فيا إخوتاه! ألا تبكون من الموت وسكرته؟
ويا إخوتاه! ألا تبكون من القبر وضمته؟
ويا أخوتاه! ألا تبكون خوفاً من النار في القيامة؟
ويا أخوتاه! ألا تبكون خوفاً من العطش يوم الحسرة والندامة؟
عذاب القبر ونعيمه
أخي الكريم: ثبت عذاب القبر بالكتاب والسنة والإجماع، ولا ينكر ذلك إلا مكابر ومعاند قال تعالى: سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم [التوبة:101].
وقال سبحانه: وحاق بئال فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب [غافر:45،46].
وعن البراء بن عازب عن النبي أنه قال: يثبت الله الذين إمنوا بالقول الثابت قال: { نزلت في عذاب القبر. يقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ونبي محمد ، فذلك قوله عز وجل: يثبت الله الذين إمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } [متفق عليه].
وعن أنس رضي الله عنه، أن النبي قال: { لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر } [رواه مسلم].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { إذا اقبرت الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما المنكر، وللآخر النكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فيقولان: قد كنا نعلمك أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين، ثم ينور له فيه، ثم يقال له: نم فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم؟ فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه بذلك.
إن كان منافقاً قال: سمعت الناس يقولون فقلت مثله.. لا أدري فيقولان: قد كانا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه، فتختلف فيها أضلاعه، فلا يزال فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك } [الترمزي وقال: حسن غريب].(/2)
وعن أنس قال: قال نبي الله : { إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم قال: يأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ قال: فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله قال: فيقال له: إنظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة قال نبي الله فيراهما جميعاً.
وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرحل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقيلين } [متفق عليه].
حديث القبور
روي عن علي بن أبي طالب أنه قال في خطبته: "يا عباد الله: الموت الموت، فليس منه فوت، إن أقمتم له أخذكم، وإن فررتم منه أدر ككم، الموت معقود بنواصيكم، فالنجاة النجاة، الوحا الوحا، فإن وراءكم طالبا حثيثا وهو القبر، ألا وإ، القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران، ألا وإنه يتكلم في كل يوم ثلاث مرات فيقول: أنا بيت الظلمة.. أنا بيت الوحشة.. أنا بيت الديدان ألا وإن وراء ذلك اليوم يوما أشد من ذلك اليوم، يوما يشيب فيه الصغير، ويسكر فيه الكبير وترى الناس سكرى وما هم بسكرى ولكن عذاب الله شديد [الحج:2].
وروى أسيد بن عبدالرحمن أنه قال: "بلغني أن المؤمن إذا مات فحمل قال: أسرعوا بي، فإذا وضع في لحده كلمته الأرض فقالت: كنت أحبك وأنت على ظهري، فأنت الآن أحب إلي في بطني.
وإذا مات الكافر فحمل قال: ارجعوا بي، فإذا وضع في لحده كلمته الأرض فقالت: كمت أبغضك وأنت على ظهري، فأنت الآن أبغض إلي في بطني!!
ويقال: إن الأرض تنادي كل يوم فتقول:
يا ابن آدم تمشي على ظهري ومصيرك في بطني!!
يا ابن آدم تأكل الألوان على ظهري، وتأكلك الديدان في بطني!
يا ابن آدم تضحك على ظهري، فسوف تبكي في بطني!
يا ابن آدم تفرح على ظهري، فسوف تحزن في بطني!
يا ابن آدم تذنب على ظهري فسوف تعذب في بطني!
أيتها المقابر فيك *** من كنا ننازله
ومن كنا نتاجره *** ومن كنا نعامله
ومن كنا نعاشره *** ومن كنا نطاوله
ومن كنا نشاربه *** ومن كنا تؤاكله
ومن كنا له إلفا *** قليلاً ما نزايله
ومن كنا له بالأمس *** أحيانا نواصله
فحل محله من حلها *** صرمت حبائله
ألا إن المنبة منهل *** والخلق ناهله
زيارة القبور
أخي الحبيب:
حيث أن اله وسلم على زيارة الموتى في قبورهم، والأعتبار بأحوالهم، فقال عليه الصلاة والسلام: { زوروا القبور فإنها تذكر الموت } [رواه مسلم].
وقال النبي : { نهيتكم عن زيارة القبور فزروها } [رواه مسلم]، وعند أبي داود: { فإن في زيارتها تذكرة }، وعند الإمام أحمد: { فزوروها فإن في زيارتها عبرة وعظة }.
وكان النبي صلى الله عليه إذا أتى المقابر قال: { السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لا حقون، أنتم لنا فرط، ونحن لكم تبع، أسأل الله لنا ولكم العافية } [رواه مسلم].
وفي زيارة القبور فوائد كثيرة منها أنها:
1- تذكر الموت والآخرة. 2- تقصر الأمل. 3- تزهد في الدنيا. 4- ترقق القلوب. 5- تدمع الأعين. 6- تدفع الغفلة. 7- تورقث الخشية. 8- تورث الاجتهاد في العبادة.
قال محمد بن واسع لرجل: "ما أعجب إلى منزلك! فقال: وما بعجبك من منزلي وهو عند القبور؟ قال: وما عليك، يكفون الأذى ويذكرون الآخرة!!".
الأسباب الموجبة لعذاب القبر
أخي المسلم الموفق: ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن أهل القبور يعذبون على جهلهم بالله، وإضاعتهم لأمره، وارتكابهم لمعاصيه، فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة أثر غضب الله وسخطه على عبده، فعذاب القبر يكون على معاصي القلب، والعين، والأذن، والفم، واللسان، والبطن، والفرج، واليد،، والرجل، والبدن كله، فمن أغضب الله واسخطه في هذه الدار ثم لم يتب، ومات على ذلك، كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه، فمستقل ومستكثر، ومصدق ومكذب.
وقد ورد الوعيد بالعذاب في القبر على كثير من المعاصي والذنوب منها:
1- النميمة والغيبة. 2- عدم الاستبراء من البول. 3- الصلاة بغير طهور. 4- الكذب. 5- تضييع الصلاة والتثاقل عنها. 6- ترك الزكاة. 7- الزنى. 8-الغلول من المغنم (السرقة). 9- الخيانة. 10- السعي في الفتنة بين المسلمين. 11- أكل الربا. 12- ترك نصرة المظلوم. 13- شرب الخمر. 14- إسبال الثياب تكبراً. 15- القتل. 16- سب الصحابة. 17- الموت على غير السنة (البدعة).(/3)
وقال رحمه الله بعد أن ذكر أنواع كثيرة من المحرمات التي يعذب بها الموتى في قبورهم: "وما كان أكثر الناس كذلك، كان أكثر أهل القبور معذبين، والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب، وبواطنها حسرات وعذاب ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات، وفي باطنها الدواهي والبليات، تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها، ويحق لها وقد حيل بينها وبين أمانيها.. تالله لقدت وعظت لواعظ مقالا، ونادت: يا عمار الدنيا لقد عمرتم دارا موشكة بكم زوالا، وخربتم دارا انتم مسرعون إليها انتقالا هذه دار الاستيفاء، ومستودع الأعمال، وبذر الزرع، وهي محل للعبر، رياض من رياض الجنة، أو حفر من حفر النيران".
ما للمقابر لا تجيب *** إذا دعاهن الكئيب
حفر مسقفة عليهن *** الجنادل والكثيب
فيهن ولدان وأطفال *** وشبان وشيب
كم من حبيب لم تكن *** نفسي بفرقته تطيب
غادرته في بعضهن *** مجندلاً وهو الحبيب
وسلوت عنه وإنما *** عهدي برؤيته قريب
فاعتبروا يا أولي الأبصار
إخواني: كم من ظالم تعدى وجار، فما راعي الأهل ولا الجار، بينا هو عقد الإصرار، حل به الموت فحل من حلته الأزرار فاعتبروا يا أولي الأبصار .
ما صحبه سوى الكفن، إلى بيت البلى والعفن، ولو رأيته وقد حلت به المحن، وشين ذلك الوجه الحسن، فلا تسأل كيف صار فاعتبروا يا أولي الأبصار .
أين مجالسة العالية؟ أين عيشته الصافية؟ أين لذاته الخالية؟ كم كم تسفى على قبره سافية!! ذهبت العين وأخفيت الآثار فاعتبروا يا أولي الأبصار .
تقطعت به جميع الأسباب، وهجره القرناء والأتراب، وصار فراشه الجندل والتراب، وربما فتح له في اللحد باب إلى النار فاعتبروا يا أولي الأبصر.
نادم بلا شك ولا خفا، باك على ما زل وهفا، يود أن صافي اللذات ما صفا، وعلم انه كان يبني على شفا جرف هار فاعتبروا يا أولي الأبصر.
الأسباب المنجية من عذاب القبر
وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن أسباب النجاة من عذاب اقبر، هي أن يتجنب الإنسان تلك الأسباب التي تقتضي عذاب القبر، وهي جميع المعاصي والذنوب.
وذكر رحمه الله أن من أنفع تلك الأسباب: أن يحاسب المرء نفسه كل يوم على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد التوبة، النصوح بينه وبين الله، فينم على تلك التوبة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلا للعمل، مسرورا بتأخير أجله، حتى يستقبل ربه ويستدرك ما فاته، ولا ينام إلا على طهارة، ذاكراً الله عز وجل، مستعملاً الأذكار والسنن التي ورت عن الرسول عند النوم حتى يغلبه النوم، فمن أراد الله به خيراً وفقه لذلك.
ثم ذكر رحمه الله الطاعات التي ورد أنها مما ينجي من عذاب القبر وهي:
1- الرباط في سبيل الله.
2- الشهادة في سبيل الله.
3- قراءة سورة الملك.
4- الموت بداء البطن.
5- الموت يوم الجمعة.
الثبات عند الموت
قال الفقيه أبو الليث المرقندي: ويكون التثبيت في ثلاثة أحوال، لمن كان مؤمنا مخلصا مطيعا لله تعالى:
أحدهما: في حال معاينة ملك الموت.
ثانيها: في حال سؤال منكر ونكير.
وثالثها: في حال سؤاله عند المحاسبة يوم القيامة.
فأما التثبيت عند معاينة ملك الموت فهو على ثلاثة أوجه:
الأول: العصمة من الكفر، وتوفيق الاستقامة على التوحيد، حتى تخرج روحه وهو على الإسلام.
والثاني: أن تبشره الملائكة بالرحمة.
والثالث: أن يرى موضعه من الجنة.
وأما التثبيت في القبر فهو على ثلاثة اوجه:
الأول: أن يلقنه الله تعالى الصواب[، حتى يجيب الملكين بما يرضى عنه الرب.
والثاني: أن يزول عنه الخوف والهيبة والدهشة.
والثالث: أن يرى مكانه في الجنة، فيصير القبر روضة من رياض الجنة.
وأما التثبيت عند الحساب فعلى ثلاثة أوجه:
الأول: أن يلقنه الحجة عما يسأل عنه.
والثاني: يسهل عليه الحساب.
والثالث: أن يتجاوز عنه الزلل والخطايا.
فالواجب على كل مسلم أن يستعيذ بالله تعالى من عذاب القبر، وأن يستعد له بالأعمال الصالحة قبل أن يدخل فيه، فإنه قد سهل عليه الأمر ما دام في الدنيا، فإذا دخل القبر فإنه يتمنى أن يؤذن له بحسنة واحدة أو يؤذن بأن يصلي ركعتين، أو يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله ولو مرة واحدة، أو يؤذن له بتسبيحه واحدة، فلا يؤذن له، فيبقى في حسرة وندامة، ويتعجب من الأحياء كيف يضيعون أيامهم في الغفلة والبطالة؟!
قد كان عمرك ميلا *** فأصبح الميل شبرا
وأصبح الشبر عقدا *** فاحفر لنفسك قبرا
نسأل الله أن يوفقنا للاستعداد ليوم الحاجة، ولا يجعلنا من النادمين، وأن يجعل القبور بعد فراق الدنيا خير منازلنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/4)
القبر موعدنا
دار الوطن
الحمد لله ذي الملكوت والسلطان، والصلاة والسلام على رسول ربنا الرحمن، محمد وعلى آله وصحبه البررة الكرام، أما بعد:
أخي المسلم: هل رأيت القبور؟ هل رأيت ظلمتها؟ هل رأيت وحشتها؟ هل رأيت شدتها؟ هل رأيت ضيقها؟ هل رأيت هوامها وديدانها؟
أما علمت أنها أعدت لك كما أعدت لغيرك؟
أما رأيت أصحابك وأحبابك وأرحامك نقلوا من القصور إلى القبور.. ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود.. ومن ملاعبة الأهل والولدان إلى مقاساة الهوام والديدان.. ومن التنعيم بالطعام والشراب إلى التمرغ في الثرى والتراب.. ومن أنس العشرة إلى وحشة الوحدة.. ومن المضجع الوثير إلى المصرع الوبيل؟ فأخذهم الموت على غرة، وسكنوا القبور بعد حياة الترف واللذة، وتساووا جميعاً بعد موتهم في تلك الحفرة، فالله نسأل أن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة.
أتيت القبور فساءلتها *** أين المعظم والمحتقر؟!
وأين المذل بسلطانه *** وأين القوي على ما قدر؟!
تفانوا جميعاً فما مخبر *** وماتوا جميعاً ومات الخير!!
فيا سائلي عن اناس مضوا *** أما لك فيما مضى معتبر؟!
تروح وتغدو بنات الثرى *** فتمحو محاسن تلك الصور!
هول القبور
عن هانئ مولى عثمان قال: عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟ فقال: إن الرسول قال: { القبر أول منازل الآخرة، فإن ينج منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه }، ثم قال: قال رسول الله { ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه } [أحمد والترمزي وحسنه الألباني].
وفي حديث جابر بن عبدالله عن النبي أنه قال: { لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد } [أحمد وحسنه الهيثمي].
أخي الكريم:
تجهز إلى الأجداث ويحك والرمس *** جهازاً من التقوى لطول ما حبس
فإنك ما تدري إذا كنت مصبحاً *** بأحسن ما ترجو لعلك لا تمسي
شيع الحسن جنازة فجلس على شفير القبر فقال: "إن أمراً هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوله، وإن أمراً هذا أوله لحقيق أن يخاف آخره".
ووعظ عمر بن عبدالعزيز يوماً أصحابه فكان من كلامه أنه قال: "إذا مررت بهم فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم.. سل غنيهم ما بقي من غناه؟.. واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا للذات بها ينظرون.. واسألهم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان تحت الأكفان؟!.. أكلت الألسن، وغفرت الوجوه، ومحيت المحاسن، وكسرت الفقار، وبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء فأين حجابهم وقبابهم؟ وأين خدمهم وعبيدهم؟ وجمعهم وكنوزهم؟ أليسوا في منازل الخلوات؟ أليس الليل والنهار عليهم سواء؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء؟ قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة والمال والأهل".
فيا ساكن القبر غداً! ما الذي غرك من الدنيا؟ أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد؟ وأين ثمارك اليانعة؟ وأين رقاق ثيابك؟ وأين طيبك وبخورك؟ وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟.. ليت شعري بأي خديك بدأ البلى.. يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموت.. ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا..وما يأتيني به من رسالة ربي.. ثم انصرف رحمة الله فما عاش بعد ذلك إلا جمعة.
إخوتي: تفكروا في الذين رحلوا.. أين نزلوا؟ وتذكروا، القوم نوقشوا وسئلوا.. واعلموا أنكم كما تعذلون عذلوا.. ولقد ودوا بعد الفوات لو قبلوا.. ولكن هيهات هيهات وقد قبروا.
عن وهب بن الورد قال: بلغنا أن رجلا فقيها دخل على عمر بن عبدالعزيز فقال: سبحان الله! فقال له عمر: وتبينت ذلك فعلا؟ فقال له ك الأمر أعظم من ذلك! فقال له عمر: يا فلان! فكيف لو رأيتني بعد ثلاث، وقد أدخلت قبري.. وقد خرجت الحدقتان ن، وتقلصت الشفتان عن الأسنان.. وانفتح الفم.. ونتأ البطن فعلا الصدر.. وخرج الصديد من الدبر!!
وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: "ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم.. من الموت موعده.. والقبر بيته.. والثرى فراشه.. والدود أنيسه.. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر.. كيف يكون حاله؟!"، ثم بكي رحمه الله.
عظة القبور
قال عبدالحق الأشبيلي: "فينبغي لمن دخل المقابر أن يتخيل أنه ميت، وأنه قد لحق بهم، ودخل معسكرهم، وأنه محتاج إلى ما هم إليه محتاجون، وراغب فيما فيه يرغبون، فليأت إليهم ما يحب أن يؤتى إليه، وليتحفهم بما يحب أن يتحف به، وليتفكر في تغير ألوانهم، وتقطع أبدانهم، ويتفكر في أحوالهم، وكيف صاروا بعد الأنس بهم والتسلي بحديثهم، إلى النفار من رؤيتهم، والوحشة من مشاهدتهم وليتفكر أيضاً في انشقاق الأرض وبعثرة القبور، وخروج الموتى وقيامهم مرة واحدة حفاة عراة غرلاً، مهطعين إلى الداعي، مسرعين إلى المنادي".
يا أيها المتسمن *** قل لي لمن تتسمن؟(/1)
سمنت نفسك للبلى *** وبطنت يا مستبطن
وأسأت كل إساءة *** وظننت أنك تحسن!
مالي رأيتك تطمئن *** إلى الحياة وتركن!
يا سكن الحجرات ما *** لك غير قبرك مسكن
اليوم أنت مكاثر *** ومفاخر تتزين
وغداً تصير إلى القبور *** محنط ومكفن!
أحدث لربك توبة *** فسبيلها لك ممكن
واصرف هواك لخوفه *** مما تسر وتعلن
عن محمد بن صبيح قال: "بلغنا أن الرجل إذا وضع في قبره، فعذب أو أصابه ما يكره، ناداه جيرانه من الموتى: يا أيها المتخلف في الدنيا فبعد إخوانه! أما كان لذلك فينا معتبر؟ أما كان لك في تقدمنا إياك فكرة؟ أما رأيت انقطاع أعمالنا وأنت في المهل؟ فهلا استدركت ما فات إخوانك!!".
فتنة القبور
أخي المسلم: ماذا أعددت لأول ليلة تبيتها في قبرك؟ أما علمت أنها ليلة شديدة، بكى منها العلماء، وشكا منها الحكماء، وشمر لها الصالحون الأتقياء؟
فارقت موضع مرقدي *** يوماَ فقارققني السكون
القبر أول ليلة *** بالله قل لي ما يكون؟!
كان الربيع بن خثيم يتجهز لتلك الليلة، ويروى أنه حفر في بيته حفرة فكان إذا وجد في قلبه قساوة دخل فيها، وكان يمثل نفسه أنه يقد مات وندم وسأل الرجعة فيقول: رب ارجعون لعلي أعمل صلحا فيما تركت [المؤمنون:99-100]، ثم يجيب نفسه فيقول: "قد رجعت يا ربيع!!" فيرى فيه ذلك أياماً، أي يرى فيه العبادة والاجتهاد والخوف والوجل.
وعن أبي هريرة عن النبي قال: { إن الميت يصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا شعوف ( أي غير خائف ولا مزعور ) ثم يقال له: فيم كنت؟ فيقول: كنت في الإسلام فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمد رسول الله ، جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه، فيقال له، فينظر إليها يحطم بعضها بعضا، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله: ثم يفرج له قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: هذا مقعدك، ويقال له: على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث، إشاء الله.
قال: ويجلس الرجل السوء في قبره فزعا مشعوفاً، فيقال له: فيم كنت؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولاً فقلته. فيفرج له قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: انظر ما صرف الله عنك. ثم يفرج له فرجه قبل النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً فيقال له: هذا مقعدك، على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله } [ابن ماجة وصححه البوصيري].
أرى أهل القصور إذا أميتوا *** بنوا فوق المقابر بالصخور
أبوا إلا مباهاة وفخراً *** على الفقراء حتى في القبور
لعمرك لو كشقت الترب عنهم *** فما تدري الغني من الفقير
ولا الجلد المباشر ثوب صوف *** من الجلد المباشر للحرير
إذا أكل الثرى هذا وهذا *** فما فضل الغني على الفقير؟
فيا إخوتاه! ألا تبكون من الموت وسكرته؟
ويا إخوتاه! ألا تبكون من القبر وضمته؟
ويا أخوتاه! ألا تبكون خوفاً من النار في القيامة؟
ويا أخوتاه! ألا تبكون خوفاً من العطش يوم الحسرة والندامة؟
عذاب القبر ونعيمه
أخي الكريم: ثبت عذاب القبر بالكتاب والسنة والإجماع، ولا ينكر ذلك إلا مكابر ومعاند قال تعالى: سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم [التوبة:101].
وقال سبحانه: وحاق بئال فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب [غافر:45،46].
وعن البراء بن عازب عن النبي أنه قال: يثبت الله الذين إمنوا بالقول الثابت قال: { نزلت في عذاب القبر. يقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ونبي محمد ، فذلك قوله عز وجل: يثبت الله الذين إمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } [متفق عليه].
وعن أنس رضي الله عنه، أن النبي قال: { لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر } [رواه مسلم].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { إذا اقبرت الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما المنكر، وللآخر النكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فيقولان: قد كنا نعلمك أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين، ثم ينور له فيه، ثم يقال له: نم فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم؟ فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه بذلك.
إن كان منافقاً قال: سمعت الناس يقولون فقلت مثله.. لا أدري فيقولان: قد كانا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه، فتختلف فيها أضلاعه، فلا يزال فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك } [الترمزي وقال: حسن غريب].(/2)
وعن أنس قال: قال نبي الله : { إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم قال: يأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ قال: فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله قال: فيقال له: إنظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة قال نبي الله فيراهما جميعاً.
وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرحل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقيلين } [متفق عليه].
حديث القبور
روي عن علي بن أبي طالب أنه قال في خطبته: "يا عباد الله: الموت الموت، فليس منه فوت، إن أقمتم له أخذكم، وإن فررتم منه أدر ككم، الموت معقود بنواصيكم، فالنجاة النجاة، الوحا الوحا، فإن وراءكم طالبا حثيثا وهو القبر، ألا وإ، القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران، ألا وإنه يتكلم في كل يوم ثلاث مرات فيقول: أنا بيت الظلمة.. أنا بيت الوحشة.. أنا بيت الديدان ألا وإن وراء ذلك اليوم يوما أشد من ذلك اليوم، يوما يشيب فيه الصغير، ويسكر فيه الكبير وترى الناس سكرى وما هم بسكرى ولكن عذاب الله شديد [الحج:2].
وروى أسيد بن عبدالرحمن أنه قال: "بلغني أن المؤمن إذا مات فحمل قال: أسرعوا بي، فإذا وضع في لحده كلمته الأرض فقالت: كنت أحبك وأنت على ظهري، فأنت الآن أحب إلي في بطني.
وإذا مات الكافر فحمل قال: ارجعوا بي، فإذا وضع في لحده كلمته الأرض فقالت: كمت أبغضك وأنت على ظهري، فأنت الآن أبغض إلي في بطني!!
ويقال: إن الأرض تنادي كل يوم فتقول:
يا ابن آدم تمشي على ظهري ومصيرك في بطني!!
يا ابن آدم تأكل الألوان على ظهري، وتأكلك الديدان في بطني!
يا ابن آدم تضحك على ظهري، فسوف تبكي في بطني!
يا ابن آدم تفرح على ظهري، فسوف تحزن في بطني!
يا ابن آدم تذنب على ظهري فسوف تعذب في بطني!
أيتها المقابر فيك *** من كنا ننازله
ومن كنا نتاجره *** ومن كنا نعامله
ومن كنا نعاشره *** ومن كنا نطاوله
ومن كنا نشاربه *** ومن كنا تؤاكله
ومن كنا له إلفا *** قليلاً ما نزايله
ومن كنا له بالأمس *** أحيانا نواصله
فحل محله من حلها *** صرمت حبائله
ألا إن المنبة منهل *** والخلق ناهله
زيارة القبور
أخي الحبيب:
حيث أن اله وسلم على زيارة الموتى في قبورهم، والأعتبار بأحوالهم، فقال عليه الصلاة والسلام: { زوروا القبور فإنها تذكر الموت } [رواه مسلم].
وقال النبي : { نهيتكم عن زيارة القبور فزروها } [رواه مسلم]، وعند أبي داود: { فإن في زيارتها تذكرة }، وعند الإمام أحمد: { فزوروها فإن في زيارتها عبرة وعظة }.
وكان النبي صلى الله عليه إذا أتى المقابر قال: { السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لا حقون، أنتم لنا فرط، ونحن لكم تبع، أسأل الله لنا ولكم العافية } [رواه مسلم].
وفي زيارة القبور فوائد كثيرة منها أنها:
1- تذكر الموت والآخرة. 2- تقصر الأمل. 3- تزهد في الدنيا. 4- ترقق القلوب. 5- تدمع الأعين. 6- تدفع الغفلة. 7- تورقث الخشية. 8- تورث الاجتهاد في العبادة.
قال محمد بن واسع لرجل: "ما أعجب إلى منزلك! فقال: وما بعجبك من منزلي وهو عند القبور؟ قال: وما عليك، يكفون الأذى ويذكرون الآخرة!!".
الأسباب الموجبة لعذاب القبر
أخي المسلم الموفق: ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن أهل القبور يعذبون على جهلهم بالله، وإضاعتهم لأمره، وارتكابهم لمعاصيه، فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة أثر غضب الله وسخطه على عبده، فعذاب القبر يكون على معاصي القلب، والعين، والأذن، والفم، واللسان، والبطن، والفرج، واليد،، والرجل، والبدن كله، فمن أغضب الله واسخطه في هذه الدار ثم لم يتب، ومات على ذلك، كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه، فمستقل ومستكثر، ومصدق ومكذب.
وقد ورد الوعيد بالعذاب في القبر على كثير من المعاصي والذنوب منها:
1- النميمة والغيبة. 2- عدم الاستبراء من البول. 3- الصلاة بغير طهور. 4- الكذب. 5- تضييع الصلاة والتثاقل عنها. 6- ترك الزكاة. 7- الزنى. 8-الغلول من المغنم (السرقة). 9- الخيانة. 10- السعي في الفتنة بين المسلمين. 11- أكل الربا. 12- ترك نصرة المظلوم. 13- شرب الخمر. 14- إسبال الثياب تكبراً. 15- القتل. 16- سب الصحابة. 17- الموت على غير السنة (البدعة).(/3)
وقال رحمه الله بعد أن ذكر أنواع كثيرة من المحرمات التي يعذب بها الموتى في قبورهم: "وما كان أكثر الناس كذلك، كان أكثر أهل القبور معذبين، والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب، وبواطنها حسرات وعذاب ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات، وفي باطنها الدواهي والبليات، تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها، ويحق لها وقد حيل بينها وبين أمانيها.. تالله لقدت وعظت لواعظ مقالا، ونادت: يا عمار الدنيا لقد عمرتم دارا موشكة بكم زوالا، وخربتم دارا انتم مسرعون إليها انتقالا هذه دار الاستيفاء، ومستودع الأعمال، وبذر الزرع، وهي محل للعبر، رياض من رياض الجنة، أو حفر من حفر النيران".
ما للمقابر لا تجيب *** إذا دعاهن الكئيب
حفر مسقفة عليهن *** الجنادل والكثيب
فيهن ولدان وأطفال *** وشبان وشيب
كم من حبيب لم تكن *** نفسي بفرقته تطيب
غادرته في بعضهن *** مجندلاً وهو الحبيب
وسلوت عنه وإنما *** عهدي برؤيته قريب
فاعتبروا يا أولي الأبصار
إخواني: كم من ظالم تعدى وجار، فما راعي الأهل ولا الجار، بينا هو عقد الإصرار، حل به الموت فحل من حلته الأزرار فاعتبروا يا أولي الأبصار .
ما صحبه سوى الكفن، إلى بيت البلى والعفن، ولو رأيته وقد حلت به المحن، وشين ذلك الوجه الحسن، فلا تسأل كيف صار فاعتبروا يا أولي الأبصار .
أين مجالسة العالية؟ أين عيشته الصافية؟ أين لذاته الخالية؟ كم كم تسفى على قبره سافية!! ذهبت العين وأخفيت الآثار فاعتبروا يا أولي الأبصار .
تقطعت به جميع الأسباب، وهجره القرناء والأتراب، وصار فراشه الجندل والتراب، وربما فتح له في اللحد باب إلى النار فاعتبروا يا أولي الأبصر.
نادم بلا شك ولا خفا، باك على ما زل وهفا، يود أن صافي اللذات ما صفا، وعلم انه كان يبني على شفا جرف هار فاعتبروا يا أولي الأبصر.
الأسباب المنجية من عذاب القبر
وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن أسباب النجاة من عذاب اقبر، هي أن يتجنب الإنسان تلك الأسباب التي تقتضي عذاب القبر، وهي جميع المعاصي والذنوب.
وذكر رحمه الله أن من أنفع تلك الأسباب: أن يحاسب المرء نفسه كل يوم على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد التوبة، النصوح بينه وبين الله، فينم على تلك التوبة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلا للعمل، مسرورا بتأخير أجله، حتى يستقبل ربه ويستدرك ما فاته، ولا ينام إلا على طهارة، ذاكراً الله عز وجل، مستعملاً الأذكار والسنن التي ورت عن الرسول عند النوم حتى يغلبه النوم، فمن أراد الله به خيراً وفقه لذلك.
ثم ذكر رحمه الله الطاعات التي ورد أنها مما ينجي من عذاب القبر وهي:
1- الرباط في سبيل الله.
2- الشهادة في سبيل الله.
3- قراءة سورة الملك.
4- الموت بداء البطن.
5- الموت يوم الجمعة.
الثبات عند الموت
قال الفقيه أبو الليث المرقندي: ويكون التثبيت في ثلاثة أحوال، لمن كان مؤمنا مخلصا مطيعا لله تعالى:
أحدهما: في حال معاينة ملك الموت.
ثانيها: في حال سؤال منكر ونكير.
وثالثها: في حال سؤاله عند المحاسبة يوم القيامة.
فأما التثبيت عند معاينة ملك الموت فهو على ثلاثة أوجه:
الأول: العصمة من الكفر، وتوفيق الاستقامة على التوحيد، حتى تخرج روحه وهو على الإسلام.
والثاني: أن تبشره الملائكة بالرحمة.
والثالث: أن يرى موضعه من الجنة.
وأما التثبيت في القبر فهو على ثلاثة اوجه:
الأول: أن يلقنه الله تعالى الصواب[، حتى يجيب الملكين بما يرضى عنه الرب.
والثاني: أن يزول عنه الخوف والهيبة والدهشة.
والثالث: أن يرى مكانه في الجنة، فيصير القبر روضة من رياض الجنة.
وأما التثبيت عند الحساب فعلى ثلاثة أوجه:
الأول: أن يلقنه الحجة عما يسأل عنه.
والثاني: يسهل عليه الحساب.
والثالث: أن يتجاوز عنه الزلل والخطايا.
فالواجب على كل مسلم أن يستعيذ بالله تعالى من عذاب القبر، وأن يستعد له بالأعمال الصالحة قبل أن يدخل فيه، فإنه قد سهل عليه الأمر ما دام في الدنيا، فإذا دخل القبر فإنه يتمنى أن يؤذن له بحسنة واحدة أو يؤذن بأن يصلي ركعتين، أو يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله ولو مرة واحدة، أو يؤذن له بتسبيحه واحدة، فلا يؤذن له، فيبقى في حسرة وندامة، ويتعجب من الأحياء كيف يضيعون أيامهم في الغفلة والبطالة؟!
قد كان عمرك ميلا *** فأصبح الميل شبرا
وأصبح الشبر عقدا *** فاحفر لنفسك قبرا
نسأل الله أن يوفقنا للاستعداد ليوم الحاجة، ولا يجعلنا من النادمين، وأن يجعل القبور بعد فراق الدنيا خير منازلنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/4)
القبض على المجاهدين وتعذيبهم
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ ... 29/10/1425هـ
السؤال
ما حكم من يقبض على مجاهد ترك ماله وعمله وبيته وأولاده وملذات الدنيا ومغرياتها، وذهب ليجاهد مع إخوانه في العراق ضد اليهود والنصارى، وقد سفكوا دماء إخوانه المسلمين، وانتهكوا أعراض أخواته المسلمات، وعذبوا ونكل بهم، هل يجوز منعه وسجنه وتعذيبه لأنه اختار طريق الجهاد؟ بينما تفرش الأرض، وتوزع الهدايا، ويمجد المغني الماجن أو اللاعب وغيرهما؟!
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
يجب أن يُعلم أن دعوة الكافر إلى الإسلام بتألُّفه وتعريفه بأحكام الشرع ومقاصده، مقدم على قتله ومقاتلته، ودعوته إلى الإسلام قبل القتال أو بعده لا يقل أجرها عن أجر قتله إذا امتنع عن الإسلام ففي الحديث: "لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِن أنْ يَكُونُ لَكَ حُمْرُ النَّعَمْ". أخرجه البخاري (3701) ومسلم (2406). ومن المعلوم في أحكام الجهاد أن الكافر متى رغب في الدخول في الدين أو نطق بالشهادة، وجب الكف عن قتاله، وتأمينه حتى يسمع كلام الله، ولا يجوز التشكيك في قصده؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. . .)[النساء: من الآية94]. أما إذا بدأ العدو المسلمين بالقتال أو لم يقبل دعوة الحق التي عرضت عليه وجب قتله ومقاتلته؛ (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)[البقرة: 190- 191]. ولاشك أن قتال أمريكا وحلفائها في العراق قتال مشروع وعمل مبرور، ومن قتله الأمريكان وحلفاؤها من المسلمين فله أجر شهيدين- إن شاء الله- كما جاء في حديث قيس بن شماس، في سنن أبي داود (2488): لما جاءت أم خلاد تسأل عن ابنها وهو مقتولٌ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابْنُكَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ". قالت: ولِمَ ذلك يا رسول الله؟ فقال: "لَأَنَّهُ قَتَلَهُ أَهْلُ الكِتَابِ". فالله الله يا أهل العراق خاصة، أثخنوا في الأمريكان قتلًا وأسرًا، ولا تأخذكم في ذلك لومة لائم؛ (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا. . . )[محمد: من الآية4]. واحذروا أن يوقع عدوكم الفتنة بينكم فيقتل بعضكم بعضًا، فإنكم مهما اختلفت توجهاتكم تقفون اليوم أمام عدو مشترك يريد أن يستأصل شأفتكم، ويأخذ خيراتكم، ويفسد عليكم دينكم ودنياكم، والله يقول لعباده المؤمنين: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الأنفال: 46].(/1)
أما الشباب غير العراقيين فلا أنصح بذهابهم للقتال هناك، وإنما عليهم العمل بنصرة إخوانهم، وهم مقيمون في أوطانهم بما يستطيعونه من مال أو رأي ومشورة، أو دعاء، أو طعام ودواء، فنصرتهم بهذه الأمور أهم وأولى من الذهاب للقتال معهم، فهم إلى الدعم بهذه الأمور أحوج من غيرها، ويجب أن نستفيد- معشر المسلمين- من واقع الجهاد في أفغانستان مع الاتحاد السوفيتي، ولقد كان قادة المجاهدين آنذاك (رباني وسيَّاف وحكمت يار) يقولون: لسنا بحاجة للرجال غير الأفغان، وإنما نحن بحاجة ماسة إلى الدعم بالمال والدعاء. فكان هذا عين الصواب والحكمة، وليته تم- غير أن حماس شباب العرب وعاطفتهم طغت على حكمة وشجاعة العجم، فكان ما كان مما أصاب العالم كله والمسلمين خاصة حكومات وشعوبًا مما لا يجهله اليوم إنسان، لقد اجتيح بسبب هذا في مدة وجيزة دولتان (أفغانستان والعراق)، قتل وجرح، وشرد فيها مئات الألوف من الأنفس البريئة، علاوة على انتهاك الأعراض وإفساد الأموال والممتلكات ما الله به عليم، ولا يزال الحبل على الجرار، فالدور قادم- إلا أن يشاء الله- على دول الجوار، وكل ما حصل ويحصل للمسلمين من كل مكان من الذل والهوان والتخلف إنما هو بسبب المعاصي والذنوب من عامة الحكومات والشعوب، وصدق الله العظيم: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)[الرعد: من الآية11]. ومن أعظم هذه المعاصي الجهل بالدين والدنيا معًا، وأعظم الجهل بالدين الجهل بتوحيد الله من بناء الأضرحة على القبور والدعاء عندها، والطواف عليها، وتشريع القوانين والأنظمة بتحريم ما أحل الله، وإباحة ما حرم الله، والحكم بها والتحاكم إليها، وهذا الجهل له مظهران:
(1) مظهر روحي شخصي- بفضل الله أمسكناه.
(2) وآخر مدني- مع الأسف فرطنا به وأضعناه، فراح بعضنا يبكيه، والبعض الآخر جاهل به، معرض عنه كأنه لا يعنيه، أو ما يدري هؤلاء وأولئك أن جهلهم بأحكام أدى بهم إلى رهبانية كرهبانية النصارى؛ (دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر). فصاروا لا يتناهون عن منكر فعلوه، ولا يتناصحون فيما يصلح العباد والبلاد من أمور الحياة كالطب والهندسة، والصناعة، والزراعة، وسائر الخدمات الضرورية، ونتيجة جهلهم بالدين أخرجوها منه قولًا وفعلًا، وحصروه بمظاهر العبادة من صلاة وصيام، وصدقة، وإحسان، بل راح بعض الناس نتيجة جهله ينظر إلى أن كثرة ورود النصوص الشرعية في موضوع ما، وقلتها في موضوع آخر تدل على أهمية هذا على ذاك، وتقديمه عليه لكثرة ما ورد فيه من نصوص؛ كالجهاد في سبيل الله ورد فيه من النصوص الشرعية من القرآن والسنة ما يكاد يساوي أو يزيد على ما ورد في الصلاة والزكاة، مع أنهما من أركان الإسلام، وإذا كانت الصلاة عماد الدين فإن الجهاد فرع عنها لا يصح إلا بها، وأيضًا لو كانت الكثرة والقلة مقياسًا للأهمية لكان السواك للناس أهم من الشورى، ومعرفة المواريث أهم من دراسة الطب، وإعفاء اللحية أولى من الزراعة والصناعة، وهكذا، فالشورى والطب والهندسة والصناعة، والزراعة لم يرد فيها من النصوص الشرعية مجتمعة عشر ما ورد في صدقة التطوع، مع أن تعلم مثل هذه الفنون وتعليمها من فروض الكفاية، لو أجمع أهل بلد على ترك واحد منها وجب على الحاكم الشرعي قتالهم، بخلاف لو تركوا صدقة التطوع، لقد بلغت الحماسة والغيرة عند الشباب مبلغها حتى غطت على العقل والروية- أو كادت- فراحوا يأخذون بفتاوى العلماء السابقين، وكأنهم يعيشون تحت ظل الخلافة الراشدة أو بعدها حين كان هارون الرشيد يخاطب السحابة: (أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك). ونسوا أنهم يعيشون زمن الضعف والفرقة، ففي كل شبر من المعمورة أمير للمؤمنين ومنبر، إن أول ما يصطدم به هؤلاء الشباب إغلاق الحدود أمامهم، فلا يمكن لهم أن يعبروها إلى دولة أخرى دون جواز وتأشيرة، ولن يستطيعوا الحصول عليها إلا بعد تعب واحتيال وتعريض أنفسهم للسجن والتعذيب قبل خروجهم أو بعد عودتهم إن عادوا، وإن كان الأولى عدم الخروج من بلادهم؛ غير أن سجنهم وتعذيبهم لو خرجوا حرام لا يجوز، قد يكون نصرة للعدو وصدًّا عن سبيل الله مؤذنًا بالعقوبة في الدنيا قبل الآخرة (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[الأحزاب: 58]. والله أعلم.(/2)
القتل بدم بارد
الكاتب: الشيخ د.سلمان بن فهد العودة
يحفل التاريخ البشري بمشهد عدوان الإنسان على أخيه، منذ قصة ابني آدم المذكورة في سورة المائدة، في القرآن الكريم: "فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ".
ويؤكد السياق الحكم بالخسار وبالندم على القتلة، فيتحصل عقوبتان:
أحدهما: شرعية وهي الخسار، ويتضمن القصاص والذم في الدنيا والعقوبة الأخروية: "فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا"[النساء:93].
والثانية: قدرية وهي الإحساس العظيم بالذنب، وتقريع الضمير بعدما تنطفئ فورة الغضب، ويعود الإنسان إلى هدوئه وتفكيره وعقله.
والقتل يتم أحياناً للصراع على الدنيا والمصالح والمال والنساء والسلطة، ولذا كان ابن السماك يقول: لولا ثلاث لم يقع حيف، ولم يرفع سيف؛ سلك أنعم من سلك، ووجه أصبح من وجه، وطعام أطيب من طعام!
وهذه قضية قائمة، يجتهد المخلصون في حصارها وتخفيفها بالتربية والتوجيه والإصلاح، وتسعى الأنظمة والدول إلى ذلك بالعقوبات والردع والمحاسبة.
بيد أن أشد صنوف القتل عدواناً هو ما يقع من بعض المتحمسين غلطاً وافتياتاً على الشريعة.
هو الأشد؛ لأنه يستخدم الدين الذي جاء للعدل وحماية الحياة وحفظ الضروريات الإنسانية في نقيض هذا المقصد العظيم، ويضع شريحة من الذين يفترض فيهم حفظ الدماء وحقنها في موضع المباشرين للجرم العامدين إليه المتجرّئين عليه.
وهو الأشد؛ لأنه عصي على الإصلاح، أو يقرب أن يكون كذلك، فالقاتل لعصبية أو طمع أو دنيا إذا تليت عليه آيات الله، وسيقت إليه أحاديث رسوله المبلّغ -صلى الله عليه وسلم- في تعظيم شأن الدم، وشدة العقوبة على القاتل في الدنيا والآخرة ارتعدت فرائصه إن كان من المؤمنين، واضطرب وخاف، وهذا يورث الندم، والندم طريق التوبة والإقلاع.
أما القاتل بذريعة شرعية موهومة؛ فهو متلبس بشبهة أمْلَتْها النفس الأمارة بالسوء، وزينها الشيطان، وحرسها الجلساء والمساندون، ودعموها بزخرف من القول لا حقيقة له حتى عمي صاحبها عن سواء السبيل، وصدّ عن الكتاب المنزّل، فهان عليه أن يتبرم بالنص أو يلوي عنقه بحشو كلام، لا يقبله القائل ذاته لو سمعه من غيره في أتفه المسائل.
وقد يندهش بعض الناس من شجاعة هذا القاتل، وهي- لعمرُ الله- شجاعة جاهلية، ولَأَبو جهلٍ كان أشدَّ شجاعةً في بدر حين جُندِل صريعاً يتشحّط في دمه، ويرى الموت عياناً... ثم يسأل: لمن الدائرة اليوم؟!
ويعيّر صاحبَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابن مسعود فيقول: لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم!
وكل خُلق لم يحكم بقيم الإسلام وضبطه؛ فهو إلى إفراط أو تفريط.
إن استهداف أماكن التجمع العامة التي يأوي إليها الناس جميعاً؛ كالأسواق والفنادق والقطارات وسواها لهو غاية في السوء والجراءة، ففيها المسلم العابد المصلي، وفيها عابر السبيل، وفيها المسلم العاصي الذي لم يعطك الله الإذن بقتله، وفيها الكافر المعصوم الدم(/1)
القدس بين حضارة التدمير وحضارة التعمير
أ.د/
جابر قميحة
komeha@menanet.net
ليس هناك أبلغ من الخطباء والشعراء إلا «التاريخ» لأن كلمة الشاعر والخطيب تختلف قيمة ومصداقية - باختلاف اللغات, واختلاف الفكر والثقافة والمشاعر عند المبدع والمتلقي. أما كلمة التاريخ فواحدة, وواقعية, وحاسمة» لأنها تقدم الدليل الثابت, والبرهان الذي لا ستطيع منصف أن ينكره. وهذه هي بلاغة الحال التي تتفوق علي بلاغة المقال.وتأسيسًا علي هذا الحكم نقول: إن حضارة الغرب حضارة عدوانية وحشية, نفعية, تقيم بناءها ومصالحها علي حساب استنزاف الأمم, وتخريب الدول, وتدمير الشعوب: أوطانًا, وعقائد, وأفكارًا, وثقافات.
حضارة إنسانية أصيلة
وعلي النقيض عاشت الحضارة الإسلامية.. حضارة إنسانية تؤدي رسالة البناء والتعمير والتنوير.. وهذا الحكم علي الحضارتين لا تعصب فيه, ولا انحياز, ولا إسراف, ولا شطط أنه حكم التاريخ ببلاغة واقعية حاسمة فائقة.. لا تعرف التزييف والتزوير.
وما بالك بدين يجعل من أساسيات «دستور الحرب» الانتصار للقيم الإنسانية, والتحلي بأخلاق الفروسية» في صورتها المثلي, فيحرم علي الجندي المسلم المقاتل: أن يخون, أو يغدر, أو يغل (ينهب), أو يمثل بالجثث, أو يقتل الأطفال والنساء والشيوخ, أو الرهبان المنقطعين للعبادة, أو البهائم والحيوانات, ويحرم عليه التخريب بقطع النخل والشجر, وحرق البيوت والمنازل والمحلات, وعليه أن يطيع الله في السر والعلن. والسراء والضراء.
إنها توجيهات النبي صلي الله عليه وسلم وخلفائه للقادة والجيوش المسيرة لقتال أعداء الإسلام والأمة. وقد أخذ المسلمون أنفسهم بها في حروبهم, وفتوحاتهم, وتعاملهم مع الآخرين. بينما عاش الغرب علي العدوان الذي لم يتوقف علي مدار التاريخ مذابح وحشية00ونهب00وتخريب والأمثلة الدالة علي صدق هذا الحكم أكثر من أن تحصي, ونكتفي منها بمثال واحد في هذا المقام. وهو ما ارتكبه الصليبيون من جرائم عندما سقطت القدس في أيديهم في أواخر شعبان من سنة 492هـ. يقول ابن الأثير في كتابه «الكامل»: «... وركب الناس السيف, ولبث الفرنج في البلدة أسبوعًا, يقتلون فيه المسلمين, وقتلوا في المسجد الأقصى ما يزيد علي سبعين ألفًا, منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبّادهم, وزهَّادهم ممن فارق الأوطان, وجاور بذلك الموضع الشريف.. وأخذوا من عند الصخرة نيًّفا وأربعين قنديلاً من الفضة, وزن كل قنديل ثلاثة آلاف وستمائة درهم, وأخذوا تنورًا من فضة وزنه أربعون رطلا بالشامي, وأخذوا من القناديل الصغار مائة وخمسين قنديلاً, ومن الذهب نيّفا وعشرين قنديلاً, وغنموا منه ما لا يقع عليه الإحصاء...".
ومن أغرب ما ذكره ابن الأثير أن القسيسين من الصليبيين أخذوا يقتطعون قطعًا من صخرة الأقصى «ويبيعونها للفرنج الواردين إليهم من داخل البحر للزيارة, يشترون بوزنها ذهبًا رجاء بركتها, وكان أحدهم إذا دخل بلاده باليسير منها بني له كنيسة, ويجعل في مذبحها... " فما قام به الصيبيون يمثل عدوانًا وحشيًا دمويًا سافرًا, ولم يكن حرب مواجهة بين جيشين, لقد قتلوا سبعين ألف مسلم داخل المسجد منهم خيرة الأئمة والعلماء, وغرباء جاءوا من بلادهم لتلقي العلم والبركة, ونهبوا محتويات المسجد ودور العبادة والمدارس, وأموال الناس, واقتطعوا مساحات واسعة من حرم الأقصى, وبنوا فيها مساكن ومخازن وراحات.
الفتح العظيم
وبعد هذه المأساة بواحد وتسعين عامًا هزم صلاح الدين الأيوبي جيوش الصليبيين في حطين هزيمة نكراء, وفرّ عشرات الآلاف منهم إلي القدس حتي اجتمع منهم داخل أسوارها قرابة ستين ألفًا, وعقدو لواء القيادة لفارسهم «باليان ده إيبالين», وهو من الذين فروا من حطين, وأمده البطريرك الصليبي في القدس بما تحتاجه الحرب, وبما يرضيه ويثريه, حتي لقد جمع له سبائك الذهب والفضة, وزينة الكنائس, ولم يستثن من ذلك ما زينت به الكنائس من ذهب وفضة, وجواهر.
وفي سنة 583هـ - بعد انتصاره المبين في حطين - زحف صلاح الدين إلي بيت المقدس, وحاصرها, ونصب «المجانيق» (قاذفات الصخور) خارجها.. وبدأ النقّابون ينقبون أسوارها (أي يفتحون ثغرات في الأسوار بالمعاول), فعلا صراخ الرجال وبكاء النساء والأطفال من الصليبيين داخل المدينة, وألقي كثير من الرجال السلاح خوفًا ورهبة. فاتفق رأيهم علي طلب الأمان من صلاح الدين, وتسليم بيت المقدس, واستشار صلاح الدين أصحابه, فأجمعوا علي إجابتهم للأمان, وعقدت اتفاقية تسليم المدينة يوم الجمعة 27 من رجب 583هـ. إنسانية الفاتحين000
وظهرت إنسانية صلاح الدين في التعامل مع الصليبيين في مظاهر وسلوكيات متعددة من أهمها:(/1)
-1- أعطي صلاح الدين للصليبيين مهلة طويلة للخروج من بيت المقدس مدتها أربعون يومًا, ولهم الحق أن يحملوا معهم ما يشاءون من أموالهم وأملاكهم (عدا السلاح والخيل). وسمح لهم أن يبيعوا ما لا يمكنهم حمله من أمتعتهم, وذخائرهم, وأموالهم, وعقاراتهم.
-2- علي كل صليبي يغادر بيت المقدس أن يدفع مبلغًا زهيدًا قدره عشرة دنانير للرجل, وخمسة للمرأة, وديناران للطفل.
-3- أمّن نساء ملوك الفرنجة وأمراءهم, وسمح لهن بالخروج, ومعهن من الخدم والحشم, والعبيد, والجواري, والأموال, والجواهر النفيسة الكثير.. والكثير.
-4- أطلق ملكة القدس , ومعها خدمها, وحشمها, وأموالها, وكان زوجها يحكم نيابة عنها, وأسره صلاح الدين , وحبسه بقلعة نابلس , فاستأذنت صلاح الدين في المسير إلي زوجها هناك, فأذن لها , وأقامت عنده.
-5- كان صلاح الدين قد قتل «أرناط» (رينو دي شاتيون) بيده بعد أسره, لأنه خان الميثاق الذي عقده معه, وقام بقتل أسري المسلمين, وهدد بالزحف إلي مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم, ونبش قبره. فأتته زوجته, فشفعت في ولد لها مأسور, فوافق صلاح الدين علي إطلاقه, بشرط أن يسلم له الصليبيون قلعة «الكرك», فسارت إلي الكرك , ومعها أموالها, وعبيدها, وحشمها. ولكن الفرنجة رفضوا طلبها.
- 6- سمح صلاح الدين بخروج البطرك الأكبر, ومعه من الأموال والمتاع ما يصعب وصفه وإحصاؤه. وأشار عليه بعض قواده أن يأخذ ما معه ليقوًّي به المسلمين, فرفض, وقال «لا أغدر به أبدا». ولم يأخذ منه إلا عشرة دنانير, كأي واحد من عامة الصليبيين.
-7- وخوفًا من قُطّاع الطرق علي سلامة المغادرين, أرسل صلاح الدين معهم قوة من جيش المسلمين تحميهم إلي أن يصلوا إلي مدينة صور. وللأسف خانوا وغدروا, وانضموا إلي قوات الصليبيين بها, وقاتلوا معهم جيش صلاح الذي حاصر المدينة بعد ذلك وعجز عن إسقاطها.
-8- أما النصاري من أهل القدس فسمح لهم صلاح الدين بالبقاء في المدينة, ودفع الجزية.
التطهير00والتعمير
وبعد هذا الخروج الكبير باشر صلاح الدين بنفسه إعادة المدينة المقدسة إلي طهرها, ونقائها, وعمارها, فأمر - كما يقول ابن الأثير - «بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار والأنجاس» وأزال المساكن والمخازن والمداحات التي بناها الفرنجة غربي الأقصي, وعلي مساحات من حرمه. ولما كان الجمعة الأخرى (4 من شعبان 583) صلي فيه المسلمون الجمعة, ومعهم صلاح الدين, وصلي في قبة الصخرة.. ثم رتب فيه خطيبًا وإمامًا برسم الصلوات الخمس, وأمر بإحضار المنبر الذي كان نور الدين محمود قد أمر بصنعه من عشرين عامًا للمسجد, ومات دون أن يتحقق أمله في نقله إليه. وأمر ببذل أقصي الجهود في ترصيف المسجد, وتحسينه, وتجميله وعمارته, واستخدم في ذلك الرخام الفاخر, وأظهر الصخرة (وكان الفرنجة قد غطوها بالرخام) , وأزال من فوقها الصليب الذهبي الضخم, ووضع هلالا هائلا مكانه. وأقام ببيت المقدس إلي الخامس والعشرين من شعبان , يرتب أمور البلد وأحواله, وأمر ببناء الرّبط والمدارس قبل أن يغادر البلدة المقدسة لمواصلة الجهاد, وتحرير بقية المدن والقري التي احتلها الصليبيون من عشرات السنين.إنها كلمة التاريخ00
هذه كانت كلمة التاريخ وبيانه البليغ الواقعي الحاسم لأنه لا يشوبه التزوير والتزييف. وليرجع القارئ إلي صورة القدس تحت وطأة العدوان الصليبي, وصورة القدس بعد أن استعادها المسلمون ليتبين الفوارق الهائلة بين حضارة قامت علي التخريب والتدمير, وحضارة عاشت للتعمير والتنوير(/2)
القدس عبر التاريخ
خليل الصمادي
khsemadi@yahoo.com
عضو اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين/ الرياض
لم يأل اليهود جهداً قبل قيام ما يسمى (إسرائيل) بتضليل الناس في أقطار الغرب المختلفة لا سيما في البلدان التي تعتبر حديثة التاريخ مثل استراليا وأمريكا؛ فإن هذه البلدان لا تعرف التاريخ ولا سيما تاريخ الشرق الأوسط إلا من خلال ما يقوله اليهود. ومن هذه المغالطات التي بثوها بالأمس ـ وما زالوا إلى يومنا هذا ـ حقهم التاريخي في فلسطين خاصة في المدينة المقدسة
عرفت فلسطين منذ أقدم العصور بأرض كنعان وتفرع عنهم العموريون واليبوسيون والجرجاشيون والعمالقة وذلك خلال الفترة (3000 ـ 2500) ق .م. كما سميت القدس باسم (يبوس) نسبة لليبوسيين وقد أقام هؤلاء الكنعانيون العرب فيها قبل غيرهم، وأسسوا في القدس وما حولها حضارة ومدنية زاهرة وقد خرجت هذه القبائل إلى بلاد الشام من شبه الجزيرة العربية ولم يكتف العرب الكنعانيون ببناء القدس بل استوطنوا معظم أنحاء فلسطين وبنوا فيها مدناً عديدة مثل مجدو وعسقلان وغزة وغيرها وكانوا أصحاب زراعة وبناء، وعرفوا المعادن والتعدين، كما عرفوا حروف الهجاء والكتابة والتأليف. ويعد هؤلاء العرب سكانها الأصليين، فلم يغادروها إلى يومنا هذا برغم الادعاءات الصهيونية التي يحاولون تضليل العالم بها.
وقد عمت الحضارة المنطقة كلها بفضل نشاط الكنعانيين ولما تمتاز به المنطقة من موقع مميز جعلها مركز الإشعاع للبلدان المجاورة، كما جعلها محط أنظار الطامعين فيها، فقد كانت تلك الديار موطناً لرسالات التوحيد التي بعث بها الله أنبياءه، وانطلقت دعوات الأنبياء عليهم السلام بالتوحيد لله تعالى من هناك، وبرغم غزوات الطامعين العديدة والتي حاولت محو شخصيتها العربية إلا أنها ظلت تحتفظ بروحها العربية التي لم تنطفئ في يوم ما وذلك بسبب قوة حضارتها وعمق ثقافتها.
أهم الغزوات التي تعرضت لها القدس:
تعرضت فلسطين وخاصة مدينة القدس التي كانت تعرف باسم (أورسالم) أو (أورشالم) إلى كثير من الغزوات أهمها:
1ـ غزو الفراعنة وذلك منذ عام (2500ق.م) وهم الذين اطلقوا عليها اسم (أورسالم) ويتألف الاسم من مقطعين هما (سالم) وهو اسم إله عندهم قديم ـ تعالى الله عن إفكهم ـ و (أور) وهي كلمة تعني (أسس) فيكون معناها (أسسها سالم).
2ـ غزو الفرزيين والرفائيين وذلك منذ عام (1800ق.م).
3ـ غزو الحثيين نحو (1750ق.م).
4ـ غزو الحوريين نحو (1500ق.م).
5ـ غزو بني إسرائيل نحو (1220ق.م) وسوف نتحدث عنه مفصلاً فيما بعد.
6ـ غزو الآشورين نحو (732 ق.م).
7ـ غزو البابليين نحو (586ق.م).
8ـ غزو الفرس نحو (539ق.م) وقد جعل الفرس لغتهم الفارسية هي اللغة الرسمية ومع ذلك ظلت اللغة الآرامية هي لغة التجارة والمعاملات وكذلك لغة الشارع.
9ـ غزو اليونان الأغريق نحو (332ق.م).
0ـ غزو الرومان عام (63ق.م).
11ـ غزو البيزنطيين عام (593 ـ 636م).
12ـ وأخيراً غزو العرب المسلمين وذلك عام 15هـ-636م.
غزو بني إسرائيل للقدس:
لم يكن غزو بني إسرائيل أو اليهود للقدس الغزو الأول أو الأخير، فهو غزو ضمن غزوات كثيرة اجتاحت فلسطين وخرجت منها، وقد تعرضت فلسطين لغزو العبرانيين أوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وفي هذه الغزوة وصلت القبائل العبرية التي خرجت من مصر مع موسى عليه السلام إلى جبال أدوم وموآب في شرقي الأردن، وقد توفي موسى عليه السلام قبل أن يعبر بهم أرض كنعان؛ فتولى قيادتهم يوشع بن نون عليه السلام الذي عبر بهم نهر الأردن وبدأ بمهاجمة المدن الكنعانية، وكانت أريحا أول مدينة تسقط في يده بعد حصار دام ستة أيام وبعدها بدأت القبائل العبرية بالانتشار في البلاد دون أن تتمكن من احتلال المدن الكنعانية، ولم تسقط القدس في أيديهم واستعصت عليهم أكثر من قرنين من الزمن حتى فتحها الملك داوود عليه السلام عام (997ق.م) ومما يستفاد من ذلك أن الحرب بين العبريين واليبوسيين (أهل القدس) استمرت مدة طويلة لم يتمكن اليهود من إحكام سيطرتهم وقبضتهم على فلسطين وعاصمتها يبوس.
استمر اليهود في (أورشليم) منذ عهد داوود عليه السلام إلى أن فتحها بنوخذ نصَّر وذلك سنة (586ق.م) وقد دمرها ودمر المسجد الأقصى كذلك وأخرج من فيها من اليهود وتم نقلهم إلى بابل وسبيهم فيما عرف بالسبي البابلي. وفي عام (538ق.م) سمح الملك قورش لمن أراد من الأسرى اليهود الرجوع إلى (أورشليم).
وظلت البلاد مدة طويلة تحت الحكم الفارسي إلى أن فتحها الإسكندر المقدوني سنة (332ق.م) وفي عام (165ق.م) قام الملك السلوقي *(انطيوخوس الرابع) بتدمير الهيكل وأرغم اليهود على اعتناق الوثنية فاعتنقها كثير منهم ورفض البعض وقاموا بثورة ونجحوا في نيل الاستقلال بأورشليم وذلك في سنة (135ق.م) إلى سنة (78ق.م).(/1)
ولما دخل الرومان أورشليم في عهد الإمبراطور نيرون بدأت ثورة اليهود على الرومان فقام الرومان باحتلال أورشليم سنة (70ق.م) وأحرقوا الهيكل، وفتكوا باليهود فتكاً ذريعاً. وبقى الروم هناك إلى أن أنقذ الله القدس منهم ومن أعدائهم على أيدي المسلمين.
الفتح الإسلامي للقدس:
قبل أن تصل الجيوش الإسلامية إلى أرض بيت المقدس، كانت قلوب المجاهدين تهفوا إليها لما كان لها من أثر عظيم في نفوس المسلمين؛ فقد كانت قبلة المسلمين الأولى، ومسرى النبي محمد ومنها كان عروجه إلى السماء.
وصلت الجيوش الإسلامية سنة (15هـ) إلى بيت المقدس والتي كانت تسمى (إيلياء) بعد أن حاصرها أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه؛ فطلب أهلها منه أن يصالحهم على صلح أهل الشام، وأن يكون المتولي للعقد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إليه أبو عبيدة في ذلك ؛ فسار الفاروق رضي الله عنه من المدينة واستخلف عليها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبعد أن وصل إلى القدس كان في استقباله "صفرونيوس" بطريرك (إيلياء) وكبار الأساقفة في مكان يسمى (جبل الطور) وبعد أن اتفقوا على شروط التسليم أقروا وثيقة سجلها التاريخ بمداد من ذهب وعرفت (بالوثيقة العمرية أو المعاهدة العمرية) وقد وصل عمر إلى جبل الطور بثوب مرقع من وبر الجمل، ورفض أن يصلي العصر في الكنيسة.
ومن أهم ماجاء في المعاهدة العمرية:
"هذا ما أعطى عبدالله عمر أمير المؤمنين أهل أيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم، سقيمها وبريئها وسائر ملتها، ألا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولامن شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود...".
وبعد هذا الاتفاق دخل عمر والمسلمون مدينة القدس فاتحين ولا يزال هذا العهد محفوظاً لدى سدنة كنيسة القيامة في القدس، ويعد أقدم ميثاق دولي يدعو إلى احترام الشعائر الدينية، وصيانة الأماكن المقدسة. ولعل أهم ما جاء في الميثاق هو إصرار النصارى على الحيطة من قدوم اليهود إلى القدس حاضراً ومستقبلاً فيومها لم يكن لهم وجود هناك ولكنهم ومن شدة معرفتهم باليهود أحبوا أن يحتاطوا للأمر؛ فشرطوا ذلك ووافق عمر رضي الله عنه وبالفعل لم يجرؤ اليهود على الإقامة في القدس طوال أيام الخلفاء الراشدين.
القدس في العصرين الأموي والعباسي:
اهتم الخلفاء الأمويون والعباسيون بالقدس الشريف اهتماماً بالغاً وقد أخذ معاوية رضي الله عنه البيعة له هناك في بيت المقدس وكذلك أخذها عبدالملك بن مروان الذي شيد مسجد الصخرة عام (70هـ) ورصد لبنائه خراج مصر لمدة سبع سنين وجاء آية في الجمال والروعة والسعة وفي عام (72هـ) أمر ببناء القبة الواسعة التي مازالت شاهقة في وجوه المحتلين، وفي عام (74هـ) شرع في تجديد بناء المسجد الأقصى ولم يكتمل بناؤه في عهده فأكمله ابنه الوليد عام (86هـ ) ويبلغ طوله ثمانين متراً وعرضه خمسين متراً، وله أربع مآذن.
أما عمر بن عبدالعزيز فقد طلب من جميع ولاته أن يزوروا المسجد الأقصى ويقسموا يمين الطاعة والعدل هناك ولما انتقل الحكم إلى العباسيين قام أبو جعفر المنصور بزيارة القدس فهاله الدمار الذي حل بالمسجد الأقصى من جراء زلزال حدث؛ فأمر بإصلاحه وترميمه ودأب أكثر الخلفاء العباسيين على الاهتمام بالمسجد الأقصى ومسجد الصخرة وقاموا بتجديد أبنيتها مثل المهدي والمأمون وغيرهما.
القدس في عهد الصليبيين:
احتل الصليبيون القدس سنة (492هـ) وقد سجلت كتب التاريخ المذابح الرهيبة التي اقترفوها بحق المسلمين هناك، وبلغت ضحاياهم أكثر من ثمانين ألفاً سالت دماؤهم في شوارع القدس ونهبوا ما كان في الصخرة والأقصى من كنوز ومجوهرات، كما نصبوا صليباً على قبة الصخرة وحولوا المسجد الأقصى إلى اصطبلات لخيولهم وبقوا هناك أكثر من تسعين عاماً، إلى أن هيأ الله للبلاد والعباد القائد الفذ البطل صلاح الدين الذي تمكن من فتح القدس بعد هزيمته للصليبيين في حطين عام (583هـ) وقد سجل التاريخ سماحة هذا القائد العظيم في معاملة النصارى وعفوه عنهم وبعد أن طردهم قام بإنزال الصليب عن قبة الصخرة ووضع المصاحف في المسجد الأقصى، وأمر برفع الأذان، واهتم ببناء المدارس والأربطة والمشافي والأسوار وهكذا تم تحرير القدس في ذلك العهد بفضل الله تعالى ثم بصلابة الناصر لدين الله صلاح الدين.
ومن الجدير ذكره أن منبر المسجد الأقصى الذي أحرق في 21-8-1969م كان قد صنعه نور الدين محمود في حلب، وفي عهد صلاح الدين تم نقله ونصبه في المسجد الأقصى، وكان مصنوعاً من أجود أنواع الخشب استغرق عمله وقتاً طويلاً.
القدس في عهد المماليك:(/2)
حظيت القدس في عهد المماليك باهتمام كبير، وكانت قد دخلت في حوزتهم عام (651هـ) وقد عرف العهد المملوكي بعهد البناء، وقد نالت أكثر البلدان التي احتلوها اهتماماً بالبناء وخاصة مدينة القدس فأنشأوا العديد من المدارس والأربطة والمساجد كما اهتموا بتجديد المسجد الأقصى ومسجد الصخرة، وقد غدت القدس في عهدهم مركزاً هاماً للعلم والمعرفة يفد إليها الدارسون من أصقاع كثيرة.
وفي هذه الفترة اجتاح التتار الشرق الإسلامي، وسقطت بغداد عام 656هـ في أيديهم وارتكبوا فيها أبشع المجازر. حرقوا دورها ومكتباتها وأسقطوا الخلافة العباسية، وتابعوا سيرهم إلى بلاد الشام يخربون ويدمرون ويقتلون وسقطت بلدان الشام الواحدة تلو الأخرى، ودخلوا فلسطين ولم يردهم عن طغيانهم إلا جحافل المسلمين التي تمكنت بقيادة السلطان قطز من هزيمتهم شر هزيمة وذلك عام 658هـ في معركة عين جالوت وقد تظافرت جهود القادة وعلماء المسلمين في تجهيز العدة والجيوش وتعبئة المسلمين لملاقاة أعداء الله التتار الذين اجتاحوا بلدان المسلمين؛ فأبعدوا خطرهم عن الشرق الإسلامي عامة، وعن بيت المقدس خاصة.
القدس في العهد العثماني:
دخل السلطان سليم البلاد الشامية (عام922هـ) وكانت القدس ضمن البلدان التي زارها وفي عهد ابنه السلطان سليمان القانوني تمت الإنشاءات الكثيرة في البلدان الإسلامية ومنها مدينة القدس التي نالت أكثر من غيرها بعد الحرمين الشريفين اهتماماً كبيراً فقام بتجديد عمارة سور القدس، وتجديد عمارة قبة الصخرة، وإعادة تبليطها، وأنشأ الجدران المحيطة بالمسجد الأقصى، وجدد أبوابه. كما قام بتجديد عمارة بركة السلطان الواقعة في الجهة الجنوبية من باب الخليل، وقام بترميم القلعة، وأنشأ سبيل ماء ليخدم أهل البلد والمسافرين وقامت زوجته "روكسيلانة" بإنشاء التكية المعروفة بتكية "خاصكي سلطان" التي قامت بدور بارز في إمداد طلاب العلم والفقراء بالطعام والشراب، كما قام السلطان سليم بإنشاء المدرسة الرصاصية التي كانت مركز اشعاع لطلاب العلم والمعرفة.
واستمر هذا العطاء طيلة الحكم العثماني للقدس ولما بدأت هجرة اليهود إلى فلسطين أصدر العثمانيون قوانين تحد من هجرتهم فاقلقهم ذلك فحقدوا على الخلافة العثمانية ودبروا لها المكائد والمؤامرات خاصة في عهد السلطان عبدالحميد الذي رفض رفضاً قاطعاً وفود أي يهودي إلا للحج أو الزيارة وفي مدة أقصاها ثلاثة شهور . كما كان رَفْض السلطان عبدالحميد التنازل عن فلسطين مقابل رشاً هائلة السبب القوي في هدم الخلافة العثمانية من الداخل عن طريق الجماعات الماسونية اليهودية؛ ليتمكن هرتزل واليهود من الاستيلاء على فلسطين كما حدث فيما بعد سقوط الدولة العثمانية.
سقوط القدس في أيدي البريطانيين:
بعد أن تم خلع السلطان عبدالحميد الثاني عام 1909م بتأثير من القوى اليهودية نصب السطان محمد رشاد الخامس سلطاناً للبلاد، وخليفة للمسلمين ولم يكن له حول ولا قوة في تسيير أمور البلاد؛ فقد دخلت تركيا الحرب العالمية الأولى مع ألمانيا ضد إنكلترا وحلفائها بتدبير من جمعية الاتحاد والترقي الماسونية، وانتهت الحرب بهزيمة ألمانيا وتركيا، ووقعت بلاد العرب والمسلمين في قبضة المستعمرين، وقسمت معظم بلاد العرب بين البريطانيين والفرنسيين وذلك عام 1916م فيما عرف باتفاق "سايكس بيكو"(8).
وبموجب هذا الاتفاق وضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني، ودخلت جيوشها فلسطين في 18-2-1917 ودخل اللورد (اللنبي) قائد الجيش البريطاني مدينة القدس وقال قولته المشهورة:"الآن انتهت الحروب الصليبية" وبهذه العبارة كشفت بريطانيا عن نواياها الحقيقية تجاه فلسطين.
وقد فر من بقي من الضباط الأتراك من حامية القدس منهين الحكم العثماني لمدينة القدس والذي استمر أربعمائة عام (1517 ـ 1917م).
وعد بلفور:
بدأت المأساة الحقيقية لفلسطين في (2 نوفمبر ـ تشرين الثاني ـ 1917م) عندما أعطى وزير خارجية بريطانيا أنذاك ـ اللورد بلفور ـ وعده المشهور لليهود بإنشاء وطنهم القومي في فلسطين، وسرعان ما نفذ هذا الوعد بمباركة الدول الكبرى آنذاك؛ وأخذت الهجرات اليهودية تتوالى على فلسطين تحت الحماية البريطانية، وبدأوا يستوطنون القدس، ويقيمون فيها دوراً ومؤسسات وجمعيات ومنظمات إرهابية، واحتلوا جزءاً من القدس، وشرعوا في بناء الجامعة العبرية، وسارعت بريطانيا في إكمال المخطط الصهيوني بتعيين السير صموائيل (اليهودي) مندوباً سامياً لبريطانيا على فلسطين وكان همه تهويد البلاد؛ فقد قام بتهويد أجهزة الحكم كهيئة الحكومة، ودائرة الخزينة، ودائرة الشرطة وغيرها، وكان يقول: "إني ذاهب إلى فلسطين لاتخاذ مشروعات، وتنفيذ أوامر حكومتي لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين".
مقاومة شعب فلسطين للهجرة اليهودية:(/3)
لما أحس الفلسطينيون بالكارثة عبروا عن رفضهم للهجرة اليهودية بشتى الوسائل؛ بثورات في القدس وغيرها، وهاجموا العصابات الصهيونية، وجحافل المستوطنين. وكان من أشد ثوراتهم ثورة البراق عام (1929م) استمرت (15يوماً) قتل وجرح فيها (472) يهودياً وكان ضحايا المسلمين (338) بين قتيل وجريح؛ ولكن بريطانيا أخمدت هذه الثورة وما تلاها من الثورات بكل ما أوتيت من قوة.
واستنجد العرب في القدس بإخوانهم المسلمين فعقدوا في أرض الإسراء والمعراج المؤتمر الإسلامي عام (1931م) وحضره أكثر من اثنين وعشرين شخصاً يمثلون بلادهم، وأسهم فيه كبار الزعماء والمفكرين المسلمين، وأصدر قرارات بمقاطعة البضائع الصهيونية، ونادى بوقف الهجرة الهيودية، وإنشاء جامعة إسلامية في القدس تنافس الجامعة العبرية.
وخرج وفد فلسطيني يجوب العالم الإسلامي يجمع التبرعات لدعم صمود أهل فلسطين؛ لكن بريطانيا التي كانت مستعمرة معظم بلدان العالم الإسلامي حاربت هذا المشروع وأجهضته.
واندلعت الثورة الكبرى عام (1936م) وقامت العمليات الجهادية ضد اليهود، وأخذت بريطانيا على عاتقها إخماد الثورة؛ ولكنها عجزت عن ذلك طيلة ثلاث سنوات، وأخمدت الثورة بالقهر (1939م) وأصدرت أحكاماً جائرة ضد كل من يساعد المجاهدين، أو يحمل رصاصة، أو سكيناً، وهدمت الدور، ونفذت حكم الإعدام بحق (148) مسلماً في سجن عكا، واستمر تهويد مدينة القدس يزداد يوماً بعد يوم وبلغ نشاط العصابات اليهودية أوجه قبل (عام1948)؛ فقاموا بنسف الفنادق العربية، والمساجد، والأسواق، وتفجير السيارات، والتجمعات العامة، وقد سقط مئات الأبرياء وقصدهم ارغام السكان على إخلاء المدينة المقدسة، واستمرت الحال حتى عام 1948م، اذ بلغ عدد المهاجرين اليهود في القدس وحدها أكثر من مائة ألف نسمة.
حرب عام (1948م):
سقط القسم الغربي من مدينة القدس في حرب (1948م) وضم إلى ما يعرف بدولة إسرائيل وبقي القسم الشرقي والضفة الغربية في أيدي المسلمين، وضم إلى الأردن التي أشرفت على إدارة الضفة الغربية، والقدس العربية بما فيها المسجد الأقصى وظل في أيديهم تسعة عشر عاماً.
احتلال اليهود للقدس كلها:
في أعقاب حرب (1967م) استولى اليهود على ما تبقى من مدينة القدس وقتلوا ما يزيد على مائتي مقدسي من غير المحاربين من رجال ونساء وأطفال وتم استيلاؤهم على المقدسات والعقارات الإسلامية التابعة للوقف الإسلامي، ودنسوا المسجد الأقصى، وبدأ التخطيط الإجرامي لنسف المسجد لأنه صار في قبضتهم ومن ثم إقامة الهيكل عليه، كما استولوا على مكان البراق، وهدموا المساجد والأوقاف الغربية فيه، وأزالوا حيين من الأحياء المجاورة للمسجد الأقصى وهما حي المغاربة وحي مشرف لصنع ساحة مقابل حائط المبكى ـ البراق ـ للزوار والمصلين اليهود.
كما عملوا على خلخلة التركيبة السكانية للمدينة بتشجيع الهجرة إلى القدس؛ إذ بلغ عدد اليهود عام (1967م) حوالي 200 ألف نسمة. وقاموا بتوسيع القدس على حساب باقي مدن الضفة الغربية؛ حيث جعلوها من 13كم2 إلى 108كم2 وذلك ضمن مشروع القدس الكبرى وأقر الكنيست اليهودي قرار ضم القدس إلى إسرائيل.
وفي عام (1980م) أقر القانون الأساسي للقدس، وتم إعلانها عاصمة لدولتهم، (وفي عام 1982م) بلغ عدد اليهود فيها ما يقارب (000،400نسمة) وبدأوا بمحاصرة من بقي من العرب هناك وذلك بمصادرة دورهم، وتشجيعهم على الهجرة خارج فلسطين، وظهرت المنظمات المتطرفة التي تسعى إلى هدم المسجد الأقصى؛ لإقامة هيكل سليمان ـ كما يزعمون ـ وحفروا الأنفاق حول الأقصى ليتداعى للسقوط.
ولم يستكن المسلمون هناك لخططهم، وحاولوا بما أوتو من قوة لإحباطها أو على الأقل تعطيلها وأصبح الأقصى يعج بالآلاف المؤلفة من المصلين في كل جمعة من أهل القدس والمدن القريبة منه والبعيدة؛ لعرقلة الخطط اليهودية الرامية إلى مصادرته ثم هدمه وبناء الهيكل في آخر لبنات مشروع الاستسلام لليهود .
وما الانتفاضة الأخيرة التي سميت بانتفاضة الأقصى إلا صخرة مدوية ملأت الأفاق تحذر المسلمين في العالم كله من هذا المشروع الذي بدأ من سنين، ولم تكن زيارة مجرم الحرب شارون وزير الدفاع السابق ومنفذ مجازر صبرا وشاتيلا إلا بالون اختبار لمكانة الأقصى عند المسلمين.
وما زالت الحجارة تنطلق كل يوم في القدس وغيرها على جيش الاحتلال معلنة أن أولى القبلتين وكل بلاد فلسطين تنتظر من يفك الحزن عنها!!
* الملك السلوقي نسبة إلى البطالمة السلوقيين وهم خلفاء الإسكندر المقدوني.
المصادر والمراجع:
1ـ القرآن الكريم.
2ـ مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين بيروت 1975م دار الطليعة.
3ـ عارف العارف، المفضل في تاريخ القدس 1969.
4ـ ابن الأثير، الكامل في التاريخ.
5ـ عبدالعزيز مصطفى، قبل أن يهدم الأقصى دار الوطن للنشر الرياض 1410هـ ط2.
6ـ مجلة الفيصل العدد 232 شوال 1416هـ.
7ـ نشرة الأرض المباركة (فلسطين) الندوة العالمية للشباب الإسلامي الرياض.(/4)
8ـ مارك سايكس: عضو البرلمان البريطانيا والمندوب السامي لشؤون الشرق الأدنى جورج بيكو: هو قنصل فرنسا السابق في بيروت ومعتمدها السامي.(/5)
القدس قضية الأمة
الكاتب: الشيخ د.علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
حديثنا اليوم نجدد به أحاديث سلفت ؛ لأنه لا بد أن يكون حاضراً في الأذهان ، حيّاً في القلوب لما له من ارتباط وطيد بحقائق الأيمان والإسلام من جهة ، وبوحدة المسلمين ورابطة المؤمنين من جهة أخرى ..
ولأنه كذلك يمثل قضية الوجود الإسلامي الإيماني في مواجهة العدوان الإجرامي الظالم ؛ ولأنه من جهة ثالثة ورابعة يمثل محور الصراع بين الحق والباطل .. بين الشر والخير .. بين المعاني والقيم الفاضلة وبين الأضاليل والجرائم الفظيعة .
حديثنا مرةً أخرى عن أرض الإسراء .. عن قلب أمتنا الإسلامية النابض بالمقاومة والجهاد ، في مرور الذكرى الرابعة للانتفاضة الجهادية المباركة .. لاشك أن حدثاً مثل هذا أحسب أنه قد مرّ على الآذان و الأذهان مرور الكرام ، لم يُربط بحقائق الأيمان ، لم يستدل عليه بآيات القران ، لم يكن له صلة واضحة بما كانت غليه سيرة وسنة المصطفى العدناني صلى الله عليه وسلم .
كثيرة هي الأمور التي تمرّ بنا ، وننظر إلى جانبها المظلم دون المشرق ، وإلى حقائقها الدنيوية المادية دون حقائقها الإيمانية المعنوية .. كم نحن في حاجة إلى أن تكون قلوبنا حية بالإيمان فلا تفقه إلا فقهه ، ولاتزن إلا بميزانه ، ولا تنظر إلا بعينه بدلاً من أن نكون مستسلمين لذلك الكمّ الهائل من القول الإعلامي الزائف الذي ليس في مجمله مرتبطا بالإيمان والقران والإسلام إن لم يكن محايداً وبعيداً عن ذلك فهو يرجف بالقول الذي يعارضه ، ويلقي بالتهم التي تنقضه .
ومن هنا ؛ فإن حديثنا هذا - ولو تجدد ولو تكرر ، وإن كنا قد انقطعنا عنه فترة من الزمن - فإنه جديرٌ دائماً وأبداً ألا يرتبط بخطبة أو محاضرة أو حادثة ، لأن فعل اليوم المتكرر في كل ساعة ودقيقة وثانية .. ما الذي تسمعه ؟ جرّت هذه المقاومة الويلات والنكبات على أبناء فلسطين أوصلتهم كما يقول بعض المحللين من أبناء العرب بل من أبناء فلسطين إلى ارتفاع نسبة الفقر من 15% و20% قبل هذه المقاومة الجهادية إلى 40و50% أوصلتهم إلى أرواح أزهقت ، وبيوت هدّمت ، وأسر شتت .. وغير ذلك ، ثم ماذا بعد هذا ؟
ثم إنها أوجدت الذرائع والأسباب والمبررات للعدو لكي يجد مسوّغاً عالمياً ، ومنطقاً دولياً فيما يقوم به من الإجرام والعدوان ولست أدري وقد تكرر مثل هذا القول عبر ليس سنة و سنتين ، ولا عقداً ولا عقدين ، بل أكثر من ذلك لم يعد أحد يفقه مثل هذا القول ويقبله إن كان حيّ القلب يقض الضمير راشد العقل عالي الهمة حراً في نفسه لا يقبل بالذل والظيم .
لننظر إلى الجانب الآخر لننظر إلى الحقائق ولأبدأ معكم ببعض الومضات من الحقائق القرانية في الآيات القرانية التي تكشف لنا صوراً أخرى غير ذلك الوهم المسيطر على قلوب الخائفين والدنيويين وغير ذلك .. الوهم المسيطر على المتاجرين من السياسيين وغير ذلك .. الوهم المسيطر على الغافلين الدنيويين الراكنين إلى حياتهم .
{ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } .
سنة ربانية ماضية ، آية قرانية ، أو شطر آية حقيقتها ثابتة .. أين نراها اليوم لننتقل إلى هناك إلى أرض العزّة والقوة والمقاومة والجهاد ، في زمن - كما أسلفت مراراً - ران وغلب على كثير من المسلمين الذلة والخنوع والخوف والاستسلام .. لماذا حقق أهلنا وإخواننا في فلسطين معادلة غريبة شاذة لا تُفهم إلا بمقياس الإيمان ؟ لماذا ومن أين جاءوا بهذه الشجاعة والقوة والبطولة ؟ وكيف تسنى لهم هذا الثبات رغم قوة البطش وشدة العدوان ، وتوالى الجرائم ، ومع ذلك يقفون برؤوس مرفوعة ، وصدور مشرعة ، وأقدام ثابتة ، وكلمات تعبر عن معاني القوة والعزة ؟
إنها الآية القرآنية والسنة الربانية ، قال تعالى : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } .
لقد وقع التغير هناك تغير حقيقي يظهر في صور شتى ، بدءاً من الارتباط بالقرآن حفظاً لآياته وتلاوة لها ، وتدبراً لمعانيها ، ومروراً بتربية المساجد التي تعلّقت بها قلوب الشباب قبل الشيب ، والصغار قبل الكبار .. وانتهاءاً إلى التربية العظيمة للأمهات الفاضلات المربيات المجاهدات .
وقد سمعت خلال الأيام الماضية ، ورأيت مقابلات بقدر ما فيها من حزن وألم ، بقدر ما فيها من عظمة واستعلاء ..
أم فلسطينية ، لها سبعة أبناء ليس عندها واحد منهم مطلقاً ؛ واحد منهم مضى شهيداً ، وستة في الأسر ، وهي تقول : " بقيت واحدةً مفردةً ، لكني لا أضعف ولا ألين ، بل أفتخر وأعتز بهم " .
ثم تلتفت إلينا وإلى الجميع لتقول : أين المسلمون ؟ وأين العرب منا ؟ بل تلتفت إلى ما هو أدنى إليها وأقرب منها : أين المسئولون عنا في بحثهم عن معاناتنا ، ووقوفهم إلى جانبنا وغير ذلك كثير وكثير .(/1)
ثم ننظر كذلك إلى القدوات التي صارت تعلوا هناك وترتفع .. إنها ليست قدوات المغنين والمغنيات ، أو الراقصين والراقصات ، أو اللاعبين واللاعبات ! إنها قدوات الاستشهاديين والاستشهاديات .. إنها قدوات اليوم يتحدث بها الصغير في سن السادسة والسابعة من عمره .. لقد أصبحت البطولة شغفاً عظيماً ، وأملاً كبيراً ، وروحاً تسري في الدماء والعروق .
لقد صار القوم على غير ما نحن عليه في ترفنا وغفلتنا ، وانشغالنا بدنيانا ، واستسلامنا الضعيف الخانع لواقعنا ، ورضوخنا وذلتنا لهيمنة أعدائنا ..
لقد كسروا الطوق البشري ، وتعلقوا بالطوق الرباني .. لقد نظروا إلى الحقائق في ضوء الإيمان فعرفوا أن الظواهر لا تغني شيئاً ، وأن الحقائق وراء هذه الظواهر تكشف أن العاقبة للمتقين ، وأن جند الله لهم الغالبون ، وأن ذلك يُرَى رأي العين لمن كان في قلبه يقينٌ راسخٌ ، وإيمانٌ صادق ..
إنها كذلك عِبر إسلامية .. نظرة في كل أمرٍ من الأمور ، ليس هناك من الأسباب المادية ، ولا من الحقائق الدنيوية ما يمكن أن يفسر شيئاً من ذلك ! ولذلك هم يفسّرونه بالمعاني الإيمانية ، والسنن الربانية ، والحقائق المعنوية .. وذلك ما نراه في واقع ذلك التضييق .
وانظروا إلى كثرة الناس في المساجد ، ودروس العلم ومسيرات البيارق في المسجد الأقصى ، وعناية الناس بالعمل الخيري ، وتكاتفهم وتعاطفهم مع كل شهيد يُستشهد ، كيف يخلف في أهله رغم شدة الظروف وقسوتها وعظمة الفقر وسعته .
لقد تغيرت الصورة إلى صورة لن نقول إنها نموذجية ، لكنها تحقق حداً من المعاني الإيمانية والإسلامية في صدق الإيمان ، وفي قوة اليقين ، وفي التعلق بالله عز وجل ، وفي الارتباط بمنهجه ، وفي الاقتداء بسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ حتى تجددت عندنا معاني غائبة في واقع حياتنا ؛ من إيثار الآخرة على الدنيا ، ومن التضحية والفداء في ميادين المعارك والجهاد ، وذلك أمرٌ آخرٌ ينبغي الالتفات له ، وفي مقابل ذلك أيضاً جاء التغيّر عند القوم الذين يعادونهم ، عند شذّاذ الأرض وأفاعيها وأفاكيها ؛ من اليهود الغاصبين - عليهم لعائن الله - لقد كانت أجيالهم الأولى أشد ارتباطاً بعقيدتها منهم وأكثر تضحية ، وجاءت الأجيال المتتالية والمهاجرون الذين وعدوا بالنعيم والترف والثراء فتغيروا ، ولم يعد حالهم كحالهم الأوائل . وجاء ذلك أيضاً بسنة الله عز وجل فيما هم عليه .
ونحن إنما نشير إشارات ونضيء إضاءات ؛ لعلنا نعتبر وندّكر .. أنتقل إلى آيات أخرى :
قال تعالى : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } .
يخاطبنا الله فيقول : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } يا أصحاب العقول انتبهوا ، والتفتوا إلى الحقائق ..
أمر عجيب .. جيش هو الخامس في العالم ، وشراذم من حيث الناحية المادية والعددية ، قليلة لا تملك من أسباب القوة المادية شيئاً يذكر بالمقارنة لعدوها ! وما هي النتيجة ؟!
انظروا إلى هذه الآيات تصف لنا حال فئة من اليهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، بعد أن نقضوا العهود ، وطعنوا المسلمين في ظهرهم ، وأرادوا ارتكاب الجريمة العظمى بمؤامرتهم على قتل المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وقد بنو الحصون وعندهم الأموال الطائلة .. هذه الآيات تصف ما كانوا عليه من أوهام الدنيا التي يعيشون فيها ، بل إن القرآن يخاطب أهل الإيمان { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا } ما كان أحد يتصور ذلك ! مقام طويل ، ومال وفير ، وعدد غفير ، ومجتمع مترابط منعزل عن غيره !
قال تعالى : { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ } أخذوا أسباب القوة المادية بأعظم وأعلى صورها { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا }
إن قدر الله غالب ، وإن سنته ماضية ، وإن نصره لعباده متحقق ، وإن العاقبة للمتقين .. ذلك ما تكشف عنه هذه الحقائق ونحن ننظر إلى المواجهة غير المتكافئة .. فماذا نرى ؟
يأتينا كثير من الناس ليرينا الجانب المظلم .. كم قتل من أبناء فلسطين ، كم هدّم من بيوتهم .. وكأنهم يمكن للناس أن يأخذوا حقوقهم من غاصبيها ، وأن يستعيدوا كرامتهم من مهينها دون أن يدفعوا ضريبة ! ولكن يكفيهم أن يجلسوا على الطاولات ، وأن يعقدوا المؤتمرات ، وأن يأكلوا أشهى الوجبات ، ثم يصدروا البيانات وفي آخر الأمر يحققون الانتصارات !
مَنْ مِن المغفلين يصدّق إن هذا يمكن أن يقع في واقع الحياة ! وكيف استطاع أولئك الشذاذ المجرمون المغتصبون لهذه الأرض أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه ؟(/2)
لقد بذلوا أموالهم ، وسفكوا في أول الأمر دماءهم ، وتعاظمت معهم المعونة من قبل أولياءهم وحلفاءهم ، ولا بد أن نوقن بأنه لا يمكن أن يكون تغيير ذلك بغير ذلك !
لكننا ننظر إلى الجانب الآخر .. إلى جانب العدو الذي تكبّد خسائر لم يتكبد مثلها في الحروب التي خاضها كلها مع جيوش ودول كاملة ومنظّمة .
يكفينا أن نشير إلى بعض الإحصاءات المذكورة خلال هذه الفترة القصيرة : ثلاثة عشر ألف وخمس مائة عملية جهادية منوعة ، أوقعت ألفاً وسبعة عشر قتيلاً ، وأكثر من خمسة آلاف جريح ، وأوقعت فيهم بعد ذلك ما هو أفظع وأنكى وأشد .. إنه ما أشارت إليه الآية في قوله تعالى : { وقذف في قلوبهم الرعب } .
إنهم يعيشون خوفاً دائماً ، وهلعاً فضيعاً ، أقضّ مضاجعهم ، وأذهب نومهم ، وملأ العيادات النفسية بالمراجعين منهم .. إن قضايا النصر لا تبدو في صورها المادية النهائية ، بل هي بالحقيقة متدرجة ، تبدأ بالقلق والخوف ثم تمرّ بالحيرة والاضطراب ، ثم تنتهي إلى الخور والاستسلام ، وتلك المراحل هي التي تمرّ بها كل معركة ومواجهة .
لننظر إلى حالهم وواقعهم .. لننظر إلى الحقائق والأرقام ، وقد سئل بعض اليهود فأجاب بما لا يجيب به بعض أبناءنا من العرب والمسلمين .. قيل له : ولكننا نقتل منهم أكثر مما يقتلون ! قال : " إن الأعداد في مثل هذه المواجهة غير موضوعية ، لقد قُتل من الأمريكان خمسون ألفاً وقتلوا من الفيتناميين ثلاثة ملايين ، وخرجوا خاسرين ، وقُتل من الفرنسيين بضعة آلاف ، وكان شهداء الجزائر نحو مليون ، ولكنهم كانوا منتصرين ! " .
وهكذا ؛ فإن القضية ليست قضية الأعداد والأرقام ، ولكنها قضية القوة والمعنوية والثبات وما في النفوس من طمأنينة ، تراها رغم كل هذا الهول في نفوس إخواننا الذين تركوا تعلقهم بالناس ، وربطوا حبالهم برب الناس .
إنهم لم يعودوا ينتظرون اليوم منا حتى دعم مادي ، وقد انقطع ذلك إلا ما رحم الله .. لم يعودوا ينتظرون منا اليوم دعماً سياسياً ، ولم تعد هناك إلا البيانات والبيانات .. لم يعودوا - فضلاً عن ذلك - ينتظرون أن يقف أحد إلى جوارهم في خندقهم ، ولذلك ننظر إلى هذه المعالي ، وننظر إلى قادة الكبار عند الأعداء وهم يقرون بأن المعضلة كبيرة .
أما الاقتصاد فهو في تدهور مستمر ، وأما البطالة فهي في زيادة مضطربة ، وأما السياحة فقد صارت أثراً بعد عين ، وأما الأمن فإنه لم يعد متوفراً في أي شبر في تلك الأرض وأي بقعة منها .. ولذلك نرى هذه الصورة صورة واضحة ، تؤيدها اللفتة القرآنية الثالثة :
قال تعالى : { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون الله ما لا يرجون }
جرحٌ هنا وجرٌح هناك .. قتلٌ هنا وقتلٌ هناك .. لكن هنا إيمان ، واحتساب وأجر ، وتكفير سيئات : ( ما يصيب المسلم من همٍّ ولا غمٍ ولا نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها عنهم خطاياه ) ذلك ما يؤمن به إخواننا ..
وهنا قتيل وهناك قتيل .. لكن هذا شهيد ، وذاك إلى جهنم وبئس المصير .
يقين لا بد أن يكون راسخاً في نفوسنا وقلوبنا ، بموجب آيات ربنا ، وأحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم ، وتلك قضية واضحة ظاهرة في قضايا الألم الذي يشعر به الطرف الآخر ، والعناء الذي يقاسيه ، والخوف الذي يسيطر عليه ؛ حتى إنه قد ارتفعت نسب المراجعين للعيادات النفسية بنسبة 50% في كل عام عن الذي قبله ، وتزيد نسبة البطالة بنسبة 4.18 % في كل عام عن الذي قبله ، وتزيد نسب أخرى كثيرة توجع العدو ، ولولا ما يلقاه من دعم ويصب له من مالٍ ، ويقع له من خياناتٍ ، وتقدّم له من معلومات لكان الأثر أكثر وأعظم ولكنها إرادة الله سبحانه وتعالى .
وها هم يعترفون بذلك ، والأرقام تشهد به ، والحقائق تدل عليه .. لقد أصبحوا - كما يقول بعضهم – : " في دائرة دموية مفرغة ، لا يمكن الخروج منها .. الناس لا يخرجون من بيوتهم خوفاً من العمليات الاستشهادية ، الجمهور متعب ومرهق ومتشائم ، وإسرائيل وقوتها لا تستطيع أن تفعل شيئاً ! " .
" إن طريقة مواجهة أجهزة الأمن الإسرائيلية للانتفاضة لم تخفق فقط ، بل إنها أدت إلى انتقال حمى العمليات الاستشهادية إلى فصائل لم تتبنها من قبل ، وحصلت إسرائيل على عكس النتائج التي راهنت على تحقيقها ".
تلك أقوالهم في صحفهم - ومن قبل خبرائهم - والروح المعنوية مختلفة تماماً 50% زيادة استهلاك المهدئات والأدوية النفسية ، والصدمة في كل حادث من تلك الحوادث والعمليات الجهادية يكون عدد المصابين أربعة أضعافهم ، مصابون بما يعرف بالصدمة والخوف والهلع ، ويراجعون المستشفيات ، ويُحملون في الإسعافات مثل الذين أصيبوا بالجراحات ..
معدل الخوف رصد من خلال الدراسات العلمية في أشهر ثلاثة متتالية - ليس في هذا العام بل فيما قبله - وكانت النسب 57% ، ثم 68% ، ثم 78%(/3)
والمال معبود اليهود كما قال الله جل وعلا : { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } هذا المال وهذا الاقتصاد الذي يضعف ويشتد بعضه ، يؤذن بأمور كثيرة لصالح إخواننا في أرض فلسطين ، وكأننا نرى في ذلك ما قاله الله سبحانه وتعالى : { وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً } ، إله اليهود كان عجل من ذهب ، ويوشك هذا أن يتفجر فلا يبقى حينئذٍ أمر يبقيهم في ديارهم أو أرضهم ، كما سنذكر وكما هو حال واقعهم في هذه الوقائع .
وما نرى من جهة أخرى كيف هي النظرة التي تتغير حتى كما يقولون عالمياً والرأي العام والعالمي ، ونرى كيف تنظر الشعوب اليوم وتتكشف لها الحقائق ، ويتكلم من كان صامتاً بأمور تكشف هذه الحقائق عن اليهود وظلمهم ، وبفيهم رغم ما يحاصر به كل معترض ومنتقل في كل بقعة من الأرض .
هذه حادثة وقعت قبل يومين ، في إطلاق الصواريخ على اليهود :
إحدى الساكنات في مغتصبة من هذه المغتصبات ، تقول : " نحن ندرس بجدية فكرة هجرة هذه البلدة ، وكنا في السابق نقول هذا بيتنا ولن نتركه ! أما الآن فنحن نفكر بالأولاد والتعليم والعمل .. لقد تغير كل مجرى حياتنا ؛ نحن نعيش في رعب دائم لا ندري متى سيسقط الصاروخ الثاني وأين ؟ " .
وعجيب هذا الأمر لتنظروا كيف هي رعاية الله .. كيف يستطيع أولئك في ظل الظروف الأمنية والإرهابية والعدوانية أن يصنعوا صاروخاً حتى ولو كان صاروخاً صغيراً ، وانظروا كيف أقضّ المضاجع ، وقد أطلقت نحو خمسمائة صاروخ خلال هذه الفترة من الانتفاضة ، وأقضت المضاجع !
وانظروا إلى التطور العجيب الذي هو بالمقياس الواضح توفيق وإعانة من الله عز وجل .. انتفاضة من الحجر إلى مسدس أو إطلاق نار إلى الصواريخ والقدرة على تدمير الدبابات الإسرائيلية المحصنة .. ما الذي يدلنا ذلك يدلنا ذلك على تحقيق موعود الله عز وجل : { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم }
من كان مع الله فالله معه .. من اعتمد على الله عز وجل فإن الله جاعل له مخرجاً وفرجاً ، ومثبتٌ قلبه ، ومطمئنٌ نفسه ، وجاعلٌ له في كل مواجهة ما يعينه بها ، ويثبته فيها .. وهذا أمره واضح وكثير ..
إننا لو مضينا مع هذه الحقائق ؛ لوجدنا أننا نحن الضعفاء الذين نحتاج إلى قوة ، ونحن الذين نحتاج أن نراجع معاني العزة في نفوسنا .. نحن الذين نحتاج أن ننظر إلى الآيات القرآنية أن نقرأ السيرة النبوية .. أن نعيد مرةً أخرى ارتباطنا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .. أن نفقه الدنيا وحقائقها في واقع وضوء القرآن وثوابته .
إن الإرجاف الإعلامي اليوم جعلنا على إحدى صور كلها لا نريدها لأنفسنا : إما أننا لم يعد يعنينا شيء ، ولم نعد نلتفت إلى الأمر كله ، وإلى القضية بقضها أو قضيضها .. كما شغلنا بذلك أمور أخرى كثيرة ، أو أننا ننظر إلى الجانب الذي تكرّسه بعض وسائل الإعلام العربية والإسلامية .. أولئك قومٌ قد هُدّمت بيوتهم ، وأزهقت أرواحهم ، وأُسر آبائهم .. فما بالهم يصنعون ذلك ؟ لماذا يختارون الطريق الشاق ؟ لماذا يسيرون في هذه الأشواك ؟ لماذا وليس هناك قدرة على النصر ؟ لماذا لا يغيرون ؟ لماذا لا يتوقفون ؟ لماذا لا يؤثرون حياتهم الدنيا على هذا الجحيم الذي لا يطاق ؟
ونحن نقول ذلك ، واليهود المعادون يقولون غيره ، ويقولون إن المقياس لصالح أهل الأرض ضد المغتصبين والمحتلين ، وإما أننا نكتفي بالحوقلة ، وننسى أن نكون بقلوبنا ودعائنا ومالنا وقدرتنا في كل جانب من الجوانب ، ولو أن نبقي هذه المعاني حية فإنها محور الصراع .
نسأل الله عز وجل أن يثبت إخواننا في أرض الإسراء ..
الخطبة الثانية :
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
وإنه لا بد لنا أن نحقق أخوتنا الإيمانية ..
قال تعالى : { إنما المؤمنون إخوة }
وأن نحقق رابطتنا الإسلامية : ( المسلم أخو المسلم ) ولا بد لنا في الحقيقة أن نحقق ذاتيتنا وعقيدتنا بالنظر والتأمل والتدبر وفق حقائق القرآن وثوابت الإيمان ، دون أن نتأثر بهذه الوقائع وما يتلوها من الأوهام والتحليلات .
ولعلي أشير أيضاً إلى جانب آخر :
إن الذين يكثرون القول علينا من المآسي والنكبات التي يقولون إنها حلت بإخواننا ، ويُبدون حزنهم على ذلك أو تأثرهم به ، ثم يدعون إلى ترك المقاومة وكأن تركها سيجعل العدو يقدم الورود بدلاً من الرصاص !
نقول بدلاً من ذلك : اجعلوا هذه المأساة محركة للآخرين .. أين نحن من بيوت هدّمت ؟ أين نحن من أسر لم يعد لها عائلٌ إما هو أسير أو شهيد ؟ أين نحن من أي جانب من الجوانب ؟ أين الدول العربية ؟ أين الجيوش ؟ أين السياسات ؟ أين القيادات ؟(/4)
لِمَ لا يقال ذلك ؟ لِمَ يكون الحل هو عند أولئك الضعفاء الذين لا يملكون شيئاً من أسباب الحياة الدنيوية والمادية سياسية أو مالية أو عسكرية ؟ لِمَ لا نجعل ذلك وهذا الذي نريده أن يكون لنا تواصل وصلة نحقق بها هذا الفهم الصحيح .. نحقق بها تلك الأخوة الصادقة .. نحقق بها تلك الرابطة الإيمانية الوثيقة .. وننتظر ونوقن بأن النصر مع الصبر ، وأن سنة الله الماضية جاعلة للمتقين فرجاً ، وجاعلة للمؤمنين نصراً { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } .
وأعلم كذلك أن بعضاً منا قد يقول - وهو ممن نَفَسُه قصير - قد طال الأمر ، وتوالت السنون ، وتجاوزت نصف قرنٍ !
ونقول مرةً أخرى كما بينت لنا آيات القرآن شدة الأمر وصعوبته وطوله ، وأنه مرهون بسنة الله عز وجل .. قال تعالى : { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } .
ونحن نوقن بهذا القُرب ، لا نعرف أمده ولا مدّته ، لكن الناظر رأي العين ؛ فضلاً عن فقه القلب و يقينه يرى أن الأمور سائرة في طريقها المحتوم ، وأن العاقبة للمتقين .. وكلنا يوقن بأن الظلم والعدوان في سنة الله عز وجل بالمقياس الإنساني والإسلامي والإيماني عاقبتها وخيمة ، وكما أخبرنا الحق بذلك سبحانه وتعالى : { ولتعلمن نبأه بعد حين }
وكما قال جل وعلا : { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } .
وكما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) .
ولكنها برهان لا بد أن يقدم من أهل الإيمان .. ولكنها قيمة وثمن لا بد أن يدفعه أهل الإيمان ، وأهلنا هناك يدفعونه ويلقون أجره من الله عز وجل دنيا وأخرى .. ولعلنا نجتهد أن ندفعه بكل وسيلة من تحقيق انتمائنا لإسلامنا ، والتزامنا بديننا ، وترابطنا مع إخواننا ، وتصحيح مفاهيمنا ، وتبديل وجهات نظرنا بما يتفق مع قرآننا وهدي نبينا صلى الله عليه وسلم .
نسأل الله جل وعلا أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً ..(/5)
القدوة الحسنة
يتناول الدرس معنى القدوة وأهمية القدوة الحسنة والشوط الواجب توفرها في الشخص حتى يكون أهلا لئن يقتدى به، وماهي الأمور التي تخرج الشخص عن صلاحية الاقتداء به، ثم بين كيف تتم التربية بالقدوة مع بيان نماذج من القدوات عبر التاريخ .
أولاً التعريف :
يقول الله سبحانه وتعالى : ' لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا[21] ' سورة الأحزاب , قال القرطبي في تفسيره : [ الأسوة القدوة , والأسوة ما يتأسى به أي يتعزى به فيقتدي به في جميع أحواله ] , ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي : [ الأسوة نوعان؛ أسوة حسنة، وأسوة سيئة ] ، نخلص من هذا أن القدوة الحسنة تنطبق على من يتبع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم , فيكون متبوعًا في كلامه وأفعاله.
ثانياً : أهمية القدوة
وتكمن أهمية القدوة في العملية التربوية في الأسباب التالية:
1- إن القدوة الحسنة يثير في نفس العاقل قدرًا كبيرًا من الاستحسان , فتتهيج دوافع الغيرة لديه، ويحاول تقليد ما استحسنه وأعجب به.
2- إن القدوة الحسنة تعطي الآخرين قناعة بأن بلوغ هذه الفضائل من الأمور الممكنة.
3- إن مستويات الفهم لكلام عند الناس تتفاوت ، ولكن الجميع يتساوى أمام الرؤية بالعين المجردة لمثال حي ؛ فإن ذلك أيسر في إيصال المفاهيم التي يريد المربي إيصالها للمقتدي.
4- إن الاتباع ينظرون إلى القدوة نظرة دقيقة دون أن يعلم ، فرب عمل يقوم به لا يلقي له بالاً يكون في حسابهم من الكبائر
هفوة العالم مستعظمة إن هفا أصبح في الخلق مثل
وعلى زلته عمد تسهم فبها يتحج من أخطأ وزل
لا تقل يستى علمي زلتي بل بها يصل في العلم الخلل
إن تكن عندك مستحقرة فهي عند الله والناس جبل
فإذا الشمس بدت كاسفة وجل الخلق لها كل الوجل
وتراقت نحوها أبصارهم في انزعاج واضطراب وزجل
وسرى النقص لهم من نقصها فغدت مظلمة منها السبل
وكذا العالم في زلته يفتن العالم حرًا ويضل
يقتدي منه بما فيه هفا لا بما استعصم فيه واستقل
فهو ملح الأرض ما يصلح إن بدا فيه فساد وخلل
وهذا أبو جعفر الأنباري صاحب الإمام أحمد عندما أخبر بحمل الإمام أحمد للمأموم في الأيام الأولى للفتنة عبر الفرات , فإذا أحمد جالس في الخان فسلم عليه , وقال: [
يا هذا؛ أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن بإجابتك خلق من خلق الله، وإن أنت لم تجب ليمتنعنّ خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل ـ يعني المأمون ـ إن لم يقتلك فإنك تموت ولا بد من الموت؛ فاتّقِ الله ولا تجبهم إلى شيء , فجعل أحمد يبكي , ويقول: ما قلت؟ فأعاد عليه فجعل يقول: ما شاء الله، ما شاء الله
].
ثالثاً : شروط القدوة
1- الإيمان بالفكرة: لا تتكون القدوة في نفس الداعية حتى يكون هو أول من يؤمن بما يقول ، ثم ينقل هذا الإيمان إلى عمل.
2- تعلم العلم: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [ تعلموا قبل أن تسودوا ]، فالسيادة في الدعوة تحتاج إلى علم يتأكد فيه القدوة من صحة خطواته، ويصحح فيه خطوات الآخرين.
3- حسن الخلق: هناك أخلاق بارزة يحتاجها الداعية القدوة دائمًا ، وبغيرها يصبح من المتعذر عليه النجاح في دعوة الناس، ومن أهمها الصبر والرحمن والرفق والتواضع والمخالطة.
4- موافقة العمل القول.
5- عدم الانقطاع عن الأعمال: عدم الانقطاع عن عمل ما دون أي مبرر شرعي أو نسيان, وترجع خطورة هذا الانقطاع إلى أمرين ؛ الأول : هو دخوله في دائرة الذين يقولون ما لا يفعلون ، و الثاني: هو إحساس المتربي بعدم جدية ذلك الأمر وأهميته.
6- التثبت من صحة النقول: سواء كانت أحاديث للرسول صلى الله عيه وسلم أو كلمات للصالحين؛ فإذا كان القدوة لا يتثبت من صحة النقول يكون المقتدون كذلك.
7- الابتعاد عن المباحات: يقول ابن القيم: [ فالعارف يترك كثيرًا من المباح إبقاء على صيانته، ولا سيما إذا كان ذلك المباح برزخًا ين الحلال والحرام ].
وهذه أتقنها يحيى بن يحيى فقد كان يومًا عند مالك في جملة أصحابه؛ إذ قال قائل: قد حضر الفيل فخرج أصحاب مالك لينظروا إليه غيره [أي وبقي يحيى مكانه] فقال له مالك: لم تخرج فترى الفيل - لأنه لا يكون بالأندلس -، قال يحيى : إنما جئت من بلدي لأنظر إليك , وأتعلم من هديك وعلمك , ولم أجئ لأنظر إلى الفيل , فأعجب به مالك , وسمّاه عاقل أهل الأندلس.
8- المحاسب الدائمة: فعلى الداعية القدوة أن يعي أنه تحت رقابة دقيقة ممن يتخذونه قدوة لهم فيحاسب نفسه على كل كلمة أو تصرف صغر أم كبر حتى يتجنّبه في مرات أخرى.
رابعاً : مبطلات القدوة(/1)
1- مخالفة العمل للقول: ولا نستغرب عندما يطلق ابن الحاج على الخطورة التي تترتب على ذلك السم القاتل ، ويعلل ذلك بأن الغالب على النفوس الاقتداء في شهواتها وملذاتها وعاداتها أكثر مما تقتدري به في التعبد الذي ليس لها فيه حظ، فإذا رأت ذلك من عالم؛ وإن أيقنت أنه محرم أو مكروه أو بدعة تعذر نفسها في ارتكابها.
عن أسامة بن زيد قال : قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَا لَكَ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ بَلَى قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ] رواه البخاري ومسلم وأحمد.
2- عدم الالتزام بالقول: وتختلف عن سابقتها بأن هذه لا تكون فيمن يخالف عمله قوله متعمدًا، وإنما تكون فيمن لا يطبق ما يقول، وليس على صفة الدوام، وذلك لأسباب منها:
أ- عدم تقدير حجم العمل المترتب على قوله.
ب- عدم معرفة نوع العمل المترتب على قوله.
ج- الحماسة غير الواعية.
د- عدم تقدير القوة التي يمتلكها لأداء ذلك العمل , ومن ثم يواجه بذلك العمل؛ فلا يستطيع أن يطبق ما قاله، ودعا إليه، ويتضح ذلك في قول ابن عباس رضي الله عنه: [كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله عز وجلّ دلّنا على أحب الأعمال إليه، فنعمل به فأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أن أحب الأعمال إليه إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به , فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين , وشق عليهم أمره، فقال الله تعالى: ] يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون [.
3- الزلل بجميع صورة القولية والفعلية.
4- الانتصار للنفس : والانتصار للنفس ظاهرة تنبئ عن عدم إخلاصه لما يحمل من معانٍ سامية, محاولاً إخفاء الحقيقة في سبيل عدم الوقوع في دائرة الإحراج التي يعتبرها مسًا لكرامته ومكانته بين متّبعيه , وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قدوتنا جميعًا ـ يمر بقوم على رؤوس النخل فيقول: [مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ ] فَقَالُوا يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَيَلْقَحُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا ] , قَالَ فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ : [إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ] أخرجه مسلم وابن ماجة وأحمد , فبهذا التجرد الخالص له وحده يكون القدوة ناجحًا في دعوته، وكيف لا يتبع قوم قدوتهم وهو على هذا المستوى من التجرد البيّن للحق.
خامساً : كيف تتم التربية بالقدرة
نقتطف هنا بعض الزهور من الروضة النبوية لنرى كيف استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة في تربية أصحابه رضي الله عنهم كأسلوب متميز عن باقي الأساليب في الدعوة.(/2)
1- أهمية التربية الصامتة للأتباع : في صلح الحديبية، وبعد أن فرغ الرسول صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب قال للصحابة رضي الله عنهم : [ قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا ] قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا. رواه البخاري والنسائي وأبو داود وابن ماجة وأحمد . 2-لا بد للقدوة أن يوضح بعض التصرفات التي يقوم بها للأتباع خاصة تلك التي تحتمل التأويل السيء , ومثالاً على ذلك جاءت صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة, ثم قامت تنقلب , فقام النبي صلى الله عليه وسلم ليقلبها ؛ حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: [عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ] فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا] خرجه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة وأحمد كلهم عن الحسين بن علي , يقول ابن حجر: وفيه التحرز من التعرض لسوء الظن والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتزار، ويقول ابن دقيق العيد: وهذا متأكد في حق العلماء ومن يقتدى به، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلاً يوجب سوء الظنّ بهم، وإن كان لهم فيه مخلص؛ لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم.
3-عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قِبَل الصوت؛ فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعًا وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عُرْي في عنقه السيف وهو يقول: [ لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا] أخرجه السبعة ماعدا النسائي , فهذه الدعوة الصادقة للشجاعة هي التي أخرجت أعمى كابن أم مكتوم يصر على الجهاد ، ويحمل الراية ويقاتل حتى يقتل ، وهي التي أخرجت أعرج كعمرو بن الجموح يبكي لأنه أعفي من الجهاد، ثم يطلب بإلحاح مشاركة المجاهدين، ويقول: إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة، ويقاتل حتى يقتل.
4-روى البخاري في صحيحه عن عقبة قال: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر فسلم , ثم قام مسرعًا , فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم , فرأى أنهم عجبوا من سرعته , فقال: [ ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ] رواه مسلم والنسائي وأحمد.
ولكم ألقى الشطان في نفوس بعض المربين أن الإنفاق أمام المتربين من الرياء , فيحجم عن أصل من أصول العملية التربوية، وبالتالي يفاجأ هذا الأخ بظهور علامات الشحّ على من يربيهم مع أنه أعطاهم دروسًا كثيرة عن الإنفاق، وينسى حقيقة وهي هل رأوا واقعًا عمليًا للإنفاق من مربيهم؟
صفحات مملوءة بالقدوات
1-القدوة في الشجاعة : قال ابن المبارك: لقد كنّا يومًا في المسجد الجامع , فوقعت حية , فسقطت في حجر أبي حنيفة , فهرب الناس غيره , ما رأيته زاد على أن نفض الحية وجلس.(/3)
2-القدوة في التضحية للمبدأ والعقيدة :يوسف بن يحيى البويطي خليفة الإمام الشافعي كانت الفتاوى ترد عليه من السلطان فمن دونه، وهو مقتدى به أعمال المعروف كثير التلاوة لا يمر يوم ولا ليلة غالبًا ما يختم، فسعى به من يحسده، وكتب فيه إلى ابن أبي دؤاد بالعراق، فكتب إلى والي مصر يمتحنه؛ أي يسأله هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق ؟ فامتحنه فلم يجب ـ أي بخلق القرآن ـ فقال له: قل فيما بيني وبينك , قال: إنه يقتدي بي مائة ألف , ولا يدرون المعنى ، فأُمِر أن يحمل إلى بغداد في أربعين رطل حديد - يقول الربيع صاحب الشافعي - ولقد رأيته على بغل , وفي عنقه غلّ,وفي رجليه قيد , وبين الغلّ و القيد سلسلة حديد , وهو يقول: إنما خلق الله الخلق بكن، فإذا كانت مخلوقة فكأن مخلوقًا خلق بمخلوق، ولئن أدخلت عليه لأصدقنه , ولأموتن في حديدي هذا ؛ حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم.
3-القدوة في العزة: جاء في ترجمة الخطيب البغدادي أنه دخل عليه بعض العلوية وفي كمه دنانير، فقال للخطيب : فلان يسلم عليك , ويقول لك اصرف هذا في بعض مهماتك , فقال الخطيب: لا حاجة لي فيه ، وقطب وجهه ، فقال العلوي: كأنك تستقله , ونفض كمه على سجادة الخطيب وطرح الدنانير عليها فقال: هذه ثلثمائة دينار، فقام الخطيب محمرًا وجه، وأخذ السجادة , وصب الدنانير على الأرض وخرج من المسجد.
وحركة نقض السجادة التي لم تستغرق دقيقة واحدة من الخطيب ربت أتباعه الذين كانوا في المسجد على معاني العزة وحقارة العبودية لغير الله ؛ ظهرت في قول أحدهم : ما أنسى عز خروج الخطيب , وذلك ذلك العلوي وهو قاعد على الأرض يلتقط الدنانير من شقوق الحصير ويجمعها .
4-القدوة في الورع: هذا هو الحافظ عبد العظيم المنذري صاحب [مختصر صحيح مسلم] يعطي درسًا عمليًا في الورع لصاحبه الحافظ الدمياطي , فقد خرج من الحمام وقد أخذ منه حرها فما أمكنه المشي فاستلقى على الطريق إلى جانب حانوت فقال له الدمياطي: يا سيدي أنا أقعدك مسطبة الحانوت ـ وكان الحانوت معلقًا ـ فقال وهو في تلك الشدة: بغير إذن صاحبها كيف يكون , وما رضي.
اسم الكتاب: المصفى من صفات الدعاة …… المؤلف: عبد الحميد البلالي(/4)
القدوة مبادئ ونماذج
يتناول الدرس معنى القدوة وأهمية القدوة الحسنة والشوط الواجب توفرها في الشخص حتى يكون أهلا لئن يقتدى به، وماهي الأمور التي تخرج الشخص عن صلاحية الاقتداء به، ثم بين كيف تتم التربية بالقدوة مع بيان نماذج من القدوات عبر التاريخ .
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد ،
فإن الدعوة إلى الله أمر جليل ودعامة عظيمة؛ من دعائم ترسيخ المبادئ الحقة في المجتمع المسلم، ومن أهم طرق الدعوة إلى الله والتي يكون مردودها أوقع وأقوى في النفوس:' القدوة الصالحة' والتي يرى فيها الناس واقعًا معاشًا للمبادئ التي يدعو إليها، القول فيها صنو العمل . ولأهمية هذا الأمر أردت أن أنبه على بعض إشارات تعين على أداء تلكم المهمة العظيمة والرسالة الشريفة.
مقصود القدوة ومعناها:
الأسوة والقدوة بمعنى واحد، ويقصد بها السير والاتباع على طريق المقتدى به، وهي نوعان : حسنة وسيئة .
الأول: الأسوة الحسنة: الاقتداء بأهل الخير والفضل والصلاح في كل ما يتعلق بمعالي الأمور وفضائلها، من القوة والحق والعدل.
وقدوة المسلمين الأول رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول عز وجل:} لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا[21] {[سورة الأحزاب].ومن دقيق المعنى في هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه جعل الأسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يحصرها في وصف خاص من أوصاف، أو خلق من أخلاقه، أو عمل من أعماله الكريمة، وما ذلك إلا من أجل أن يشمل الاقتداء أقواله عليه الصلاة والسلام وأفعاله وسيرته كلها فيقتدي به صلى الله عليه وسلم، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويقتدى بأفعاله وسلوكه من الصبر الشجاعة والثبات والأدب وسائر أخلاقه، كما يشمل الاقتداء بأنواع درجات الاقتداء من الواجب، والمستحب، وغير ذلك مما هو محل الاقتداء.
والنوع الثاني: الأسوة السيئة: ويعني السير في المسالك المذمومة، واتباع أهل السوء والاقتداء من غير حجة أو برهان، ومن ذلك قول المشركين:} إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ[23] { [سورة الزخرف]. ولهذا رد عليه القرآن بقول:} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ ءَابَاءَكُمْ ...[24] {[سورة الزخرف].
أهمية القدوة الحسنة :
إن من الوسائل المهمة جدًا في تبليغ الدعوة، وجذب الناس إلى الإسلام، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ القدوة الطيبة للداعي، وأفعاله الحميدة، وأخلاقه الزاكية مما يجعله أسوة حسنة لغيره؛ فيقبلون عليه، لأن التأثر بالأفعال والسلوك أبلغ وأكثر من التأثر بالكلام وحده.
فالقدوة الحسنة التي يحققها الداعي بسيرته الطيبة هي في الحقيقة دعوة عملية للإسلام، يستدل بها سليم الفطرة راجح العقل من غير المسلمين على أن الإسلام حق من عند الله . وتكمن أهمية القدوة الحسنة في الأمور الآتية :
المثال الحي المرتقي في درجات الكمال: يثير في نفس البصير العاقل قدرًا كبيرًا من الإعجاب والتقدير والمحبة، فإن كان عنده ميل إلى الخير، تطلع إلى مراتب الكمال، وأخذ يحاول تقليد ما استحسنه وأعجب به، بما تولد لديه من حوافز قوية تحفزه لأن يعمل مثله، حتى يحتل درجة الكمال التي رآها في المقتدى به.
القدوة الحسنة المتحلية بالفضائل العالية : تعطي الآخرين قناعة بأن بلوغ هذه الفضائل من الأمور الممكنة، التي هي في متناول القدرات الإنسانية، وشاهد الحال أقوى من شاهد المقال.
مستويات فهم الكلام عند الناس تتفاوت: ولكن الجميع يتساوى أمام الرؤية بالعين المجردة لمثال حي. فإن ذلك أيسر في إيصال المعاني التي يريد الداعية إيصالها للمقتدى، فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: اتَّخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ - فَنَبَذَهُ وَقَالَ:- إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا] فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ. رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ومالك وأحمد. قال العلماء :'فدل ذلك على أن الفعل أبلغ من القول'.
الأتباع ينظرون إلى الداعية نظرة دقيقة فاصحة : دون أن يعلم، فرب عمل يقوم به لا يلقي له بالاً يكون في حسابهم من الكبائر، وذلك أنهم يعدونه قدوة لهم، ولكي ندرك خطورة ذلك الأمر؛ فلنتأمل هذه القصة:(/1)
يروي أن أبا جعفر الأنباري صاحب الإمام أحمد عندما أخبر بحمل الإمام أحمد للمأمون في الأيام الأولى للفتنة؛ عبر الفرات إليه فإذا هو جالس في الخان، فسلم عليه، قال: يا هذا أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن بإجابتك خلق من خلق الله، وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل ـ يعني المأمون ـ إن لم يقتلك فأنت تموت، ولابد من الموت فاتق الله ولا تجبهم إلى شيء. فجعل أحمد يبكي ويقول : ما قلت ؟ فأعاد عليه فجعل يقول : ما شاء الله، ما شاء الله .
وتمر الأيام عصيبة على الإمام أحمد، ويمتحن فيها أشد الامتحان ولم ينس نصيحة الأنباري، فها هو المروزي أحد أصحابه يدخل عليه أيام المحنة ويقول له: 'يا أستاذ قال الله تعالى:} وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ...[29]{[سورة النساء: 29]. فقال أحمد : يا مروزي اخرج، انظر أيّ شيء ترى !! قال: فخرجت على رحبة دار الخليفة فرأيت خلقًا من الناس لا يحصى عددهم إلا الله والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر في أذرعتهم، فقال لهم المروزي: أي شيء تعملون؟ فقالوا: ننظر ما يقول أحمد فنكتبه، قال المروزي: مكانكم . فدخل إلى أحمد بن حنبل فقال له: رأيت قومًا بأيدهم الصحف والأقلام ينتظرون ما تقول فيكتبونه فقال: يا مروزي أضل هؤلاء كلهم !! أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء'. فمن أبرز أسباب أهمية القدوة أنها تساعد على تكوين الحافز في المتربي دونما توجيه خارجي وهذا بالتالي يساعد المتربي على أن يكون من المستويات الجيدة في حسن السيرة والصبر والتحمل وغير ذلك.
أصول القدوة :
الأصل الأول: الصلاح، وهذا يتحقق بثلاثة أركان:
الركن الأول: الإيمان: وتحقيق معنى التوحيد ومقتضياته من معرفة الشهادتين والعمل بمقتضاهما.
الركن الثاني : العبادة: فيستقيم القدوة على أمر الله من الصلاة، والزكاة، والصيام، وسائر أركان الإسلام العملية، ويهتم بالفرائض والمستحبات، ويَجِدّ في اجتناب المنهيات والمكروهات.
ويتمثل القدوة الحديث القدسي: [... وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ...] رواه البخاري .
الركن الثالث: الإخلاص : فيكون المقصود بالقول والعلم والعمل وجه الله، بعيدًا عن أغراض النفس وأغراض المخلوقين بل عبودية خاضعة تمام الخضوع لله، أمرًا ونهيًا ونظرًا وقصدًا. وإن النصح والإخلاص يرقى بالعبد الضعيف العاجز إلى رتبة القادر العامل ففي غزوة العسرة من تبوك سجل القرآن الكريم هؤلاء الضعفاء الناصحين المخلصين في قوله سبحانه}لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[91]وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ[92]{.
وسجل لهم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الموقف حين خاطب جنده الغازين في سبيل الله بخير هذه الطائفة بقوله: [ إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلَا وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ]رواه البخاري- واللفظ له- وأبوداود وابن ماجه وأحمد .
و أما ضعف الإخلاص عند كثير من ذوي المواهب والمواقع القيادية؛ جعل تابعيهم والمعجبين بهم يَشْقَوْنَ بمواهبهم ويرجعون بها القهقري. يتبين من كل ذلك أن الإسلام يلحظ في أعمال الناس ما يقارنها من نيات وما يصاحبها من دواعي وبواعث .
الأصل الثاني : حسن الخلق:إذا كان الصلاح يتوجه إلى ذات المقتدى به ليكون صالحًا في نفسه قويمًا في مسلكه؛ فإن حسن الخلق يتوجه إلى طبيعة علاقته مع الناس، وأصول تعامله معهم، وإليه الدعوة النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم: [ ...وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ] رواه الترمذي والدارمي وأحمد.
والكلام في حسن الخلق واسع متشعب وتحاول أن نحصر عناصره الكبرى في خِلالٍ خمس:
الصدق : تبرز أهمية الصدق وعظم أثره في مسلك القدوة في قوله صلى الله عليه وسلم: [ إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ ...] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبوداود وابن ماجه وأحمد .(/2)
وقد سأل هرقل أبا سفيان عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً : ' هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ' .
وما أنجى الثلاثة الذين خُلفوا في غزوة تبوك إلا صدقهم مع الله ومع رسوله، حين ظنوا ألا ملجأ من الله إلا إليه، ولقد نادى الله سبحانه عباده المؤمنين في ختام قصتهم بقوله:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[119] {[سورة التوبة]. وهل رأيت سوأة أزري ممن يتسنم مواقع القيادة والقدوة بينما ترمقه الألحاظ، وتشير إليه الأصابع بالخيانة والكذب. وما كان للتهريج والادعاء، والهزل أن يغني فتيلاً عن أصحابه. وفي الحديث: [ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ] رواه أحمد.
الصبر : الأزمات إذا استحكمت والضوائق إذا ترادفت لا دفع لها ولا توقّي ـ بإذن الله ـ إلا بالصبر ذلك أن : [ ...الصَّبْرُ ضِيَاءٌ...] رواه مسلم . ومَنْ أَوْلَى من الرجل الأسوة بتوطين نفسه على احتمال المكاره من غير ضجر، والتأني في انتظار النتائج مهما بعُدت. والصبر من معالم العظمة المحمودة وشارات الكمال العالي ودلائل التحكم في النفس وهواها وهو عنصر من عناصر الرجولة الناضجة. فأثقال الحياة وأعباؤها لا يطيقها الضعاف المهازيل والحياة لا ينهض بأعبائها ورسالتها إلا الأكفاء الصبارون، وقد استحقت فتنة من بني إسرائيل الإمامة والريادة بصبرهم وحسن بلائهم:} وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[24] {[سورة السجدة]. وأدركت بني إسرائيل حالة استحقوا بها ميراث الأرض المباركة، وكان درعهم في ذلك الصبر:} وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ...[137] {[سورة الأعراف]. ولهذا فإن نصيب ذوي القدوة والأسوة من العناء والبلاء مكافئًا لما أوتوا من مواهب وما تحملوا من مشاق، يجسد هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ أَشَدّ النَّاس بَلَاء الْأَنْبِيَاء ثُمَّ الْأَمْثَل فَالْأَمْثَل] رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي.
الرحمة : الرحمة عاطفة حية نابضة بالحب للناس، والرأفة بهم، والشفقة عليهم . والرحمة المذكورة هنا يقصد بها: الرحمة العامة لكل الخلق، فيلقى المسلم الناس قاطبة وقلبه لهم بالعطف مملوء، إن الرحمة الخاصة قد تتوفر في بعض الناس فيرّق لأولاده حين يلقاهم ويهشّ لأصدقائه حين يجالسهم، ولكن الرحمة المطلوبة من القدوة أوسع من ذلك وأرحب: [...ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ...] رواه الترمذي وأبو داود وأحمد.
بل إن الرحيم تنال رحمته الحيوان من غير البشر، والله يثيب على هذه الرحمة، ويغفر بها الذنوب. فالذي سقى الكلب لما رآه يأكل الثرى من العطش؛ شكر الله له فغفر له، المرأة البغي من بني إسرائيل سقت كلبًا كان يطيف حول بئر في يوم حار قد دلع لسانه من العطش فنزعت له خفها وسقته؛ فغفر لها. ولئن كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا، فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب .
التواضع : جبلت النفوس على كره من يستطيل عليها ويستصغرها، كما جبلت على النفرة ممن يتكبر عليها ويتعالى عنها، حتى ولو كان ما يقوله حقًا وصدقًا. إن قلوبهم دون كلامه مغلقة، وصدورهم عن إرشاده ووعظه موصدة . إن التواضع خلق يكسب صاحبه رضا أهل الفضل ومودتهم، ومَنْ أحق بهذا الخلق من رجل القدوة، فهو أنجح وسيلة على الائتلاف.. إن ابتغاء الرفعة، وحسن الإفادة من طريق التواضع هو أيسر الطريق وأوثقها؛ ذلك أن التواضع في محله يورث المودة، فمن عمر فؤاده بالمودة امتلأت عينه بالمهابة.
ويلتحق بهذا الأمر ويلتصق به: حديث المرء عن نفسه، وكثرة الثناء عليها، فذلك شيء ممقوت، يتنافى مع خلق التواضع وإنكار الذات، فينبغي لرجل الدعوة ومحل القدوة ألا يدَّعى شيئًا يدل على تعاليه. بل إن حق عليه أن يعرف أن كل ما عنده من علم أو مرتبة هو محضُ فضل الله عليه فليتحدث بفضل الله لا بفضل نفسه، فإذا أدرك الناس منه ذلك؛ فتحوا له قلوبهم، وتحلّقت حوله نفوسُهم قبل أجسادهم، ووقع وعظّه وتوجيهه منهم موقع القبول والرضا، ونال من الحظوة على قدر إحسانه وقصده.(/3)
الرفق : والرفق صفة المصطفى صلى الله عليه وسلم التي رحم الله العباد بها؛ فاصطفاه لها، يقول الله عز وجل:} فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [159]{ [سورة آل عمران]. نعم لقد أدرك الله برحمته أن يمنن على العالم برجل يمسح آلامه، ويخفف أحزانه، ويستميت في هدايته، فأرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم، وسكب في قلبه من العلم والعمل، وفي خلقه من الإحسان والبر، وفي طبعه من اللين والرفق، وفي يده من الكرم والندى ما جعله أزكى عباد الله قلبًا، وأوسعهم عطفًا، وأرحبهم صدرًا، والينهم عريكة . هذا بعض نعت محمد صلى الله عليه وسلم، المجتزأ من قوله تعالى:} وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ[4]{ [سورة القلم]. وهذا إيراد من قبس النبوة في باب الرفق، وبيان أثره:
يقول عليه الصلاة والسلام : [إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ] رواه مسلم-واللفظ له- والترمذي وأحمد . وقال مخاطبًا عائشة رضي الله عنها: [عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ فَإِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ] رواه مسلم.
وقد يحسن أن نخصّ الدعاة المقتدى بهم بخطاب عن الرفق أخذًا من نهج السلف؛ إذ أن هذا الميدان- ونحن نعيش الصحوة الإسلامية وأجواءها المباركة- نحتاج فيه إلى مزيد عناية، وفقه، وترفق:
يقول عمر ـ رضي الله عنه ـ وهو على المنبر : 'يا أيها الناس لا تُبغّضوا الله إلى عباده، فقيل كيف ذلك أصلحك الله؟ قال: يجلس أحدكم قاصًّا- أي: واعظاً- فيقول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه، ويقوم أحدكم إمامًا فيطول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه'.
وَ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ:' يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ' قَالَ: ' أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا' رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.
يعلق على هذا الحافظ بن حجر في الفتح بقوله: ' وَيُسْتَفَاد مِنْ الْحَدِيث اِسْتِحْبَاب تَرْك الْمُدَاوَمَة فِي الْجِدّ فِي الْعَمَل الصَّالِح خَشْيَة الْمَلَال , وَإِنْ كَانَتْ الْمُوَاظَبَة مَطْلُوبَة لَكِنَّهَا عَلَى قِسْمَيْنِ : إِمَّا كُلّ يَوْم مَعَ عَدَم التَّكَلُّف . وَإِمَّا يَوْمًا بَعْد يَوْم فَيَكُون يَوْم التَّرْك لِأَجْلِ الرَّاحَة لِيُقْبِل عَلَى الثَّانِي بِنَشَاطٍ , وَإِمَّا يَوْمًا فِي الْجُمُعَة , وَيَخْتَلِف بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَال وَالْأَشْخَاص , وَالضَّابِط الْحَاجَة مَعَ مُرَاعَاة وُجُود النَّشَاط '.
والرفق ذو ميادين فسيحة ومجالات عريضة، فرفق مع الجهال: إما جهل علم، أو جهل تحضر، ولقد رفق النبي صلى الله عليه وسلم بالأعرابي الذي بال في المسجد، وتركه حتى فرغ من بوله وأمر أصحابه بالكف عنه وألا يقطعوا عليه بوله فلما فرغ دعاه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره أن المساجد لم تبن لهذا وإنما هي لذكر الله والصلاة .
ومن الذين يخصون بمزيد من الترفق: المتبدئون في الإسلام والعلم وطريق الاهتداء. والغفلة في هذا الجانب قد تؤدي إلى فتنة وانعكاس في المقصود، وقد قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن : [ يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا...] رواه البخاري ومسلم.
يقول ابن حجر:'والمراد تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليُقبل، وكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلاً حُبب على من يدخل فيه وتلقاه بانبساط وكانت عاقبته غالبًا الازدياد بخلاف ضده'.
وينبغي أن يتمثل القدوة في هذا الباب الرفق بمجالسيه، فيتحمل من كان منهم ذا فهم بطيء،ويسع بحلمه جفاء ذا الجهالة، لا يعنف السائل بالتوبيخ القبيح فيخجله، ولا يزجر فيضع من قدره.
الأصل الثالث : موافقة القول العمل : يقول الله عز وجل:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[2]كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3] {[سورة الصف]. الصدق ليس لفظة تخرج من اللسان فحسب، ولكنه صدق في اللهجة واستقامة في المسلك، الباطن فيه كالظاهر، والقول فيه صنو العمل .. هذا جانب.(/4)
وجانب آخر: أن الناس والنفوس مجبولة على عدم الانتفاع بمن علمت أنه يقول ولا يعمل، أو يعلم ثم لا يعمل، ولهذا قال شعيب عليه السلام: } وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[88] {[سورة هود].
وجانب ثالث: هو أن كثيرًا من الناس لا يتوجه نحو العمل حتى يرى واقعًا ماثلاً، وأنموذجًا مطبقًا يتخذه أسوة، ويدرك به أن هذا المطلوب أمر في مقدور كل أحد. بل متى يكون المرء قدوة صالحة، وأسوة حسنة ما لم يسابق إلى فعل ما يأمر به من خير، وترك ما ينهى عنه من سوء؟! وقد جاء في الصحيحين وغيرهما عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ]
وغير تقي يأمرُ الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو عليل
وهنا مسألة هامة يحسن التنبيه إليها: وهي أن المسلم حتى ولو كان قدوة مترقيًا في مدارج الكمال قد يغلبه هوى، أو شهوة، أو تدفعه نفس أمارة بالسوء، أو ينزغه الشيطان، فتصدر منه زلة، أو يحصل منه تقصير .فإذا حدث ذلك فليبادر بالتوبة والرجوع، وليعلم أن هذا ليس بمانع من التأسي به والاقتداء . وقد حدّث مالك عن ربيعة قال: سمعت سعيد بن جبير يقول:'لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف، ولا نهى عن منكر' قال: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء'. وقد قال الحسن البصري لمطرف بن عبد الله بن الشخير: 'يا مطرف عظ أصحابك، فقال مطرف : إني أخاف أن أقول ما لا أفعل؛ فقال الحسن : يرحمك الله وأيُّنا يفعل ما يقول؟ لودَّ الشيطان أنه ظفر بهذه منكم، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر'.
وقال الحسن أيضًا:' أيها الناس إني أعظكم ولست بخيركم ولا أصلحكم، وإني لكثير الإسراف على نفسي، غير محكم لها ولا حاملها على الواجب في طاعة ربها، ولو كان المؤمن لا يعظ أخاه إلا بعد إحكام أمر نفسه؛ لعُدم الواعظون، وقلّ المذكرون، ولما وُجد من يدعو إلى الله جل ثناؤه، ويرغّب في طاعته، وينهى عن معصيته، ولكن في اجتماع أهل البصائر ومذاكرة المؤمنين بعضهم بعضًا حياة لقلوب المتقين، وإذكار من الغفلة، وأمن من النسيان، فالزموا ـ عافاكم الله ـ مجالس الذكر، فربّ كلمة مسموعة ومحتقرٍ نافع'.
شواهد حية في مواقف القدوة :
في صلح الحديبية: وبعد أن فرغ الرسول صلى الله عليه وسلم، من كتابة الصلح مع قريش، أمر عليه الصلاة والسلام الصحابة أن ينحروا، ثم يحلقوا من أجل أن يتحللوا من عمرتهم؛ لأنهم قد حصروا ومنعوا من البيت. يقول الراوي: ' فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا' رواه البخاري .(/5)
توضيح موقف وتفسير تصرف : يحسن بالقدوة أن يكون على درجة من الشفافية والتحسس؛ ليبقى بعيدًا عن موارد الظنون، ومواقع التأويلات . عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا: جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ] فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا] رواه البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجة والدارمي وأحمد. قال الحافظ في الفتح:'وفيه التحرز من التعرض لسوء الظن والاحتياط من كيد الشيطان والاعتذار'. ويقول ابن دقيق العيد:' وهذا متأكد في حق العلماء، ومن يقتدى بهم، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلاً يوجب سوء الظن بهم، وإن كان لهم فيه مخلص لأن ذلك سببُ إلى إبطال الانتفاع بعلمهم'.
آمنة للصحب الكرام : فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعًا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري في عنقه السيف وهو يقول مهدئًا من روعهم: [ لَمْ تُرَاعُوا لَمْ تُرَاعُوا] رواه البخاري ومسلم . عليه الصلاة والسلام لقد كان أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس قولاً وعملاً .إن المتأمل ليقف متعجبًا لهذه الشجاعة المحمدية، ينطلق الناس قبل الصوت فيجدون إمامهم قد سبقهم بل قد رجع وهم في بداية الانطلاق، إن هذه الدعوة الصامتة للشجاعة مع قوارع القرآن هي التي استنهضت همة الأعمى كابن أم مكتوم ليصر على الجهاد ويحمل الراية، والأعرج كعمرو بن الجموح ليطلب الجهاد بإلحاح قائلاً:'إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة' فيقاتل حتى يقتل .
كرهت أن يحبسني :هذا مثال من غير الشجاعة ولكنه منظوم في مسلك السيرة العملية التي ترسم للأتباع، تقطع دابر الوسواس لدى بعض المتفيهقة ليميزوا ما كان رياءً مما ليس كذلك، فَعَنْ عُقْبَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَرَأَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ فَقَالَ:
[ ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ] رواه البخاري والنسائي وأحمد.
وصلى الله على خير خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
من رسالة:' القدوة مباديء ونماذج' للشيخ/ صالح بن حميد(/6)
القرآن الكريم معجزة الله الخالدة
(الإعجاز والتَّحدي)
م. حسن الحسن
A_l_hasan@yahoo.dk
يمثل القرآن الكريم حجر الأساس في إثبات صدق رسالة الإسلام، وعليه فإنَّ إبطال حجيته في الإعجاز يعني انهيار صرح الإسلام تماما، ذلك الصرح الذي أرَّق منذ بزغ فجره الشرق والغرب على السواء. وبعيداً عن تفاصيل أوجه الإعجاز التي تناولها الباحثون في علوم القرآن، سأقتصر على الوجه الإعجازي الأكثر بساطة والأكثر قوة والأكثر قرباً لفهم الناس، والذي ينسجم مع الخطاب القرآني الواضح والمباشر بهذا الصدد. وقبل أن أشرع في تناول لبِّ الموضوع لا بد من استعراض أساس ما يستند إليه من تصورات.
نظراً لأنَّ مكونات الطبيعة الملموسة تفتقد ميزة العقل وتتصف بمحدودية حيزها، كان وجودها وتنظيمها الأخّاذ على النحو الذي تنساب فيه كالدرر المتلألئة في العقد الفريد بحاجة إلى قوة كبرى، تتمتع بإمكانية الخلق من العدم والقدرة على التحكم الدقيق بالأشياء والتنظيم البديع لأشياء الوجود. وهو ما لا يتأتى وقوعه من الطبيعة الصماء نفسها بحال، فالنظام الذي يسود الكون يستند إلى حِكَم وقوانين مشاهدة لا يمكن إغفالها، ولا يمكن إنكار حاجتها إلى خالقٍ مدبرٍ حكيم.
لا يمكن استثناء الإنسان من القاعدة السابقة تذرعاً بما يتمتع به من قدرة عقلية وإرادة في الاختيار، لأنه يقرُّ بمحدوديته وبعجزه أمام قوانين الكون القاهرة، تلك التي يجهد لفهمها ويخضع لها عند الابتكار. وإذا كان هذا هو حال الإنسان الذي استعمر الأرض وخاض غمار الفضاء، كانت بقية المخلوقات التي يصل إليها حس الإنسان أشد عجزاً منه. لذلك كان صاحب الخلق وواضع قوانين الطبيعة المتحكم فيها خارجاً عن إطار الكائنات المخلوقات بداهة. وقد تعارف الفلاسفة والمفكرون على تعريف صاحب هذه القدرة اللامحدودة في إبداع وتنظيم الكون والإنسان والحياة بواجب الوجود، أي الخالق الأزلي الذي تستند كافة المخلوقات في وجودها إليه.
ينظر الإنسان حوله، تدفعه نوازع عدة لفهم دوره في الحياة، يفتش عن إجاباتٍ لتساؤلاته الكثيرة عن طبيعة دنياه، التي لم يُستشَر في قدومه إليها ولم يُخير في كثير من تفاصيلها، فضلاً عن أنه لا يمتلك القدرة على استمرار البقاء فيها. يضطر الإنسان إلى إيجاد فلسفة ما تجيبه عن أسئلته، إلا أنه لا يشعر بالراحة ولا تسكن قلبه الطمأنينة بل ويبقى أبد الدهر مضطرباً قلقاً حائراً مهما بلغ شأن فذلكة الفلسفة المتبناة، ما لم تحقق له هذه الفلسفة رؤية مستنيرة تعالج له أسباب وجوده ورحيله القصري بشكلٍ شامل متكاملٍ يقنع عقله وينسجم مع فطرته.
تهبط الرسالة من الله تعالى (واجب الوجود) على من يختاره من بني البشر ويصطفيه (أي الرسول) ليرشد الإنسان إلى الغاية من خلقه، محدداً له طبيعة دوره في الحياة، واضعاً له منهجاً يسير عليه، ليرتقي به إلى ما فطر الله عليه بني البشر من تكريم وتفضيل عن بقية المخلوقات. تأتي الحاجة هنا إلى توثيق مصدر هذه الرسالة، حيث يلزم منح صاحبها الدليل على صدق ما يحمل، وأنه ليس مجرد دعيّ، وإلا لزعم النبوة كل من هبّ ودبّ وضاع الناس في حيص بيص.
يأتي الدليل (المعجزة) على مستوى لائق بالرسالة التي تريد أن تربط أهل الأرض بالخالق سبحانه، حيث يبهر ذلك الدليل بني البشر بما يمثل من اختراق لقوانين الطبيعة السائدة التي يتحكم فيها الخالق وحده، فيطرح الدليل بذلك تحدياً يعجز معه الناس بقدراتهم عن الإتيان بمثله مجتمعين ومتفرقين، ما يوثق صحّة نبوة حامل الرسالة، ويصبح ذلك الدليل برهاناً فاصلاً بين الكفر والإيمان به.
هكذا يزول قانون الإحراق من النار فلا تتمكن من إيذاء إبراهيم عليه السلام، وتنقلب عصا موسى كليم الله إلى ثعبان، ويُحيي عيسى عليه السلام الموتى بإذن الله. تتدخل الإرادة الإلهية في قوانين الطبيعة مؤثرة فيها، لتكون هذه الشواهد معجزات لأصحابها توثق صدق نبواتهم لكل من شاهدها واطلع عليها. إلا إن تلك المعجزات قد توقفت في حجيتها على أزمنة وأمم معينة، وأما إيماننا بصدق وقوعها فلأنها وردت في كتاب الله، المعجزة الخالدة، التي لا تتوقف حجيته على زمان ولا ترتبط بأمة دون الأمم.
نزل القرآن الكريم على النبي الكريم محمد، صلّى الله عليه وسلّم. هو لم يدَّع أنه ألفه، ولو افترضناه جدلاً، لأمكن أن يأتي أحد في زمانه أو بعده بما أتى به أو خيراً منه، بحكم طبيعة البشر وسنن الحياة، وهذا لم يحصل قط. كما لم يدََّع أحد آخر تأليفه، ولو فعلوا لانطبق عليهم نفس الحكم، أي طالما تمكن إنسان ما من تأليف القرآن فلن يلبث آخر أن يأتي بمثله أو بخير منه، وهو ما لم يحصل أيضا، وسنفصل في استحالة أن يقع مثل ذلك. فدلّ على أن القرآن من الله تبارك وتعالى.(/1)
صِيغَ القرآن بلغة عربية صرفة، بقواعدها ومعارفها التي تخضع لها أحرف لغة الضاد من الألف إلى الياء. تجسد القرآن في ثلاثين جزءاً، مفصلة في مئة وأربع عشرة سورة، مؤلفة من ستة آلاف ومئتين وستّ وثلاثين آية، كثيرٌ من آياته أكبر حجماً من أقصر سوره.
توجه النبي الكريم محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى مناوئيه ممن أتقن اللغة العربية وأجادها شعراً ونثراً على نحو بارز بلغ فيها العرب ذروة القمة، على النحو الذي بلغه سحرة فرعون في فن السحر، وقوم عيسى عليه السلام في الطب. تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن الكريم " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا "الإسراء 88. طلب أن يأتوا ببعض سور فقط إمعاناً في التحدي وإظهاراً لقوته " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين"َ هود 13. طالبهم بأن يأتوا بأقل ما يمكن أن يقع فيه التحدي، أي سورة واحدة " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " يونس 38، أكد هذا التحدي وكرره مجدداً في قوله " وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " البقرة 23
لم يكن بإمكان قريش تجاهل التحدي بحال، ذلك أنَّ القرآن الكريم يمثل الركن الأساس في إثبات صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق رسالة الإسلام، تلك التي تتضمن عقائد وشرائع مثلت منهج حياة جديد، صدمت المجتمع الجاهلي في مكوناته الأساسية، أصابته في صميمه بشكلٍ حاد على نحو يؤثر في قلب الأوضاع رأساً على عقب، عقائديا وسياسياً واقتصاديا واجتماعيا. استجاب سادة مكة للتحدي، حاولوا عبثاً وباؤوا بالفشل، ما أدى إلى ترك المحاججة باللسان والانتقال إلى مقاومة دعوة الإسلام بعنف وشراسة.
حاولوا سحق دعوة الإسلام، مارسوا القتل والتعذيب والنفي والحصار للقضاء على دعوة اقتصرت ثلاثة عشر عاماً على الصدع بالكلمة والتحدي بسورة واحدة، من غير سلاح ولا ثورة و لا عنف. هكذا تغلبت كلمات القرآن الجليلات عليهم، مع أنها تتشكل من حروفهم الهجائية وباللغة التي يفهمونها ويعظمون شأنها ويُجلون مكانتها ويعون خباياها ويعلقون روائعها في جوف الكعبة. ازدادت الدعوة الإسلامية صلابة واكتسبت أنصارا جددا، فأسقط في أيدي طواغيت مكة، فازدادوا شراسة. تآمروا على النبي الكريم وأحكموا خطة لقتله وزاد تنكيلهم بأتباعه، مع أنهم كان يكفيهم الإتيان بسورة، لو فعلوا، لَكُفُوا معها همََّ الإسلام إلى الأبد، ولكن أنّى لهم ذلك (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) الأحقاف 2.
بمنتهى البساطة، كان ولا يزال يكفي الإتيان بسورة واحدة من مثل ما سطره القرآن الكريم حتى تبطل دعوة الإسلام. وما يجدر ذكره أنه لا حاجة لمن قبل التحدي أن يأتي بمثل سورة البقرة، التي يبلغ عدد كلماتها 6144، بل يكفيه الإتيان بمثل سورة الكوثر، التي تتكون من ثلاث آيات، تتشكل من عشر كلمات فقط لا غير. نعم، جملة واحدة، أقل من سطر واحد، كانت ولا تزال تكفي أرباب النثر والشعر من خصوم هذا الدين لطي صفحة الإسلام نهائياًً.
إلا أن هذا لم يحدث ولن يحدث لسبب جوهري، فالقرآن كلام الله تعالى وليس من لدن أحد من البشر، تم نظم درره على نحو فريد بديع، جعل الوليد بن المغيرة ألد أعداء النبي الكريم يصفه قائلاً:" "والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو وما يعلى".
ولعلَّ قائلاً يجادل: لو افترضنا الإعجاز في القرآن، لانحصر إدراكه في العرب، لأنهم يستطيعون تذوق اللغة ويعون خباياها، فيتمكنون بذلك من إدراك أوجه الإعجاز في القرآن، ولا ينطبق هذا على غير العرب، فكيف يعتبر القرآن حجة على العالمين تلزمهم اعتناق الإسلام!؟(/2)
فات أصحاب هذا الجدل أن الإيمان بالقرآن واعتناق الإسلام لا يشترطان احتراف علوم اللغة العربية فضلاً عن معرفتها، فهذا المطلب غير متحقق عند أكثر المسلمين، حيث أن غالبيتهم لا تفقه العربية، كما أن الإلمام باللغة لتذوق القرآن وسبر أغواره والغوص في بحاره وتأمل لآلئه بات عصياً حتى على أكثر العرب في أيامنا هذه. أمّا ما ينبغي إدراكه من قبل من أراد اعتناق الإسلام، هو أنَّ الإعجاز القرآني قائمٌ ومنصبُّ على التحدي بأن يأتي أحد من البشر بمثل سورة من القرآن، وللتبسيط، فإن القرآن يتحدى البشريةجمعاء أن تأتي بما يماثل سورة من القرآن تتألف من عشر كلمات لا تتجاوز سطراً، ولمرة واحدة لا غير لإبطال أمر الإسلام. وهو ما لم يتمكن أحد قط من فعله، مع أنّ اللغة العربية بتناول اليد، ما زال معمولٌ بها وبقواعدها وينطق بها مئات الملايين من البشر، ما دلَّ على أن القرآن من عند خالق البشر.
فما ينبغي إدراكه، وهو ما يعيه المسلمون تماما، العرب منهم والعجم، إنَّ الأمم كافة عجزت مجتمعة ومتفرقة فرادى وجماعات عن الإتيان بمثل سورة واحدة من القرآن الكريم، وإدراك المسلمين لهذا العجز عن الإتيان بمثل هذا القدر البسيط من القرآن على مرور الأزمان، مع علمهم بإتقان كثير من غير المسلمين للغة العربية، ووجود عوامل قبول التفاعل مع التحدي، هذا هو، لا مهاراتهم اللغوية، ما جعلهم يسلمون بقدسية القرآن الكريم وأنه من عند الله تعالى.
ويكرر بعض المجادلين السؤال بصيغة أخرى، لكن غير العرب من غير المسلمين لن يستطيعوا محاكمة النص القرآني وتبيان إعجازه ما لم يعرفوا العربية، بالتالي كيف يُطالبونَ بإدراك حجية القرآن وإعجازه!؟
نؤكد مجدداً أن المطلوب هو إدراك أن الإعجاز واقعٌ في استعصاء الإتيان بسورة من مثل ما ورد في القرآن الكريم من بني البشر ولو كانت بحجم جملة تتألف من عشر كلمات، وهو ما لم يتأتّ وقوعه قط. وبهذا تكون حجية القرآن ملزمة لجميع من وصله هذا الوجه الإعجازي ببيانه.
ولإزالة كل لبس نضيف، صحيحٌ أن السورة لا يتأتى نظمها إلا باللغة العربية، لذا كان لا بد من إتقان اللغة العربية لإجراء المحاولة، إلا أن المطلوب هو إدراك أن هناك من امتلك تلك المهارات الفائقة وفشل رغم أنهم كانوا أهل اللغة الأصليين وأساطينها، كذلك ما زال يوجد من يمتلك مثل تلك المهارات ويهمه هدم الإسلام بالكلية وفشل أيضا، وبالتالي فإنّ هذا هو ما يُلزِم الاعتقاد بصدق معجزة القرآن الكريم.
إضافة إلى ما سبق، فإن باب التحدي ما زال مفتوحاً على مصراعيه، ولا شك بأن أمر الإسلام يتعاظم في العالم، ومسألة إفشاله تهم دولاً كبرى وأمماً شتى. وفهم وتعلم اللغة العربية أمر متأتٍ لكل من يهمه الأمر، كيف لا، وتعلم عامة اللغات أمر معمول به منذ القدم، بل ويمتلك كثيرون مهاراتٍ فائقة في العديد من اللغات في نفس الوقت على نحو لافت للنظر. والواقع أن أمثال هؤلاء، ممن يتقنون أكثر من لغة، يتعزز لديهم واقع الإعجاز القرآني، لأنهم يعون أكثر من غيرهم معنى استعصاء الإتيان بجملة واحدة لمرة واحدة لا تتجاوز كلمات السطر الواحد في لغة كل عوامل التأليف فيها متوافرة.
وفي موضوعنا فإنَّ الأمر يتعلق بإتقان لغة يكفي إثبات خطأ ادعاء واقع الإعجاز فيها مؤونة شقاء المتهالكين في حملاتهم المتعاقبة للقضاء على الإسلام، في حروب صليبية استمرت لقرون، وفي صراع حضارات دموي، وفي حملات شتى للقضاء على جذور "الإرهاب"!. وليس هذا بشيء جديد، فقد مثل الإسلام أهم عوامل الصراع لقرون طويلة وما زال وسيستمر، وكان مركز تنبه الدول الكبرى والإمبراطوريات على الدوام لما يجسده من تحدٍ وتهديدٍ لها لا يمكن إغفاله بحال، وقد أرَّق الإسلام سهاد ساسة الغرب والشرق على السواء.
وقد بذل خصوم الإسلام جهوداً مضنية لإلغاء عامل الدين في صراعهم مع الأمة الإسلامية، بخاصة ما شاهدناه من قبل الغرب في القرون المتأخرة. حيث استفحلت أنشطة المستشرقين، وحاولوا مطولاً النيل من الإسلام بطرائق شتى، محاولين إثارة الشبهات واللغط المغلوط حول أحكامه. وليس مقبولاً أن يخطر ببال أحد أن قد فات هؤلاء التحدي القرآني بالإتيان بمثل سورة من القرآن عبارة عن جملة واحدة من عشر كلمات لإبطال الإسلام من أساسه.(/3)
كما أن لدى الغرب من الباحثين والخبراء المهرة في مراكز الدراسات المتخصصة في الإسلام والعربية ما يقفون معه على أدق تفاصيل الأمور، وهو أمرٌ مشهود، لهم فيه باعٌ طويل تجسد بآلاف الدراسات. ومن زار المعاهد والمؤسسات المتخصّصة في لندن وموسكو وواشنطن وباريس لوجد من الأساتذة المحترفين من غير المسلمين من يتقن العربية بشكلٍ فذ، حتى ليظن المرء أنَّ أولئك النفر قد زاملوا الشافعي ومالك وأبو الأسود الدؤلي. وطالما أن الخبراء وذوي الاختصاص قد أخفقوا في تقديمهم ما يبطل إعجاز القرآن، مع وجود المحفزات الضرورية لذلك، وانتفاء الموانع التي تمنحهم القيام به، فما على من دونهم سوى الإقرار بعظم منزلة هذا القرآن والتسليم بإعجازه وبصدق رسالة الإسلام.
وما يزيد الإعجاز القرآني قوة وقهراً وإبهاراً فضلاً عن قلة المطلوب تحقيقه في ذلك المجال مع وجود تحدٍ موجب للتفاعل معه وتوفر الإمكانات المهولة لدى خصومه، كما سبق وذكرنا، هو إبقاء باب التحدي مفتوحاً على مصراعيه إلى قيام الساعة، فلا يوجد موعد مؤقتٌ بأجل يتوقف عنده. وبهذا يظل التحدي القرآني ماثلاً أمام البشرية جمعاء لإبطال أمر الإسلام بالكلية، وهو أمرٌ محال، لأنه كلام الله المعجز المحفوظ إلى قيام الساعة، فكان القرآن بذلك هو المعجزة الخالدة، ليربط لزوماً وجوب الإيمان برسالة الإسلام وبالتالي بالرسول الكريم محمد حامل الرسالة ومبلغها عن الله تبارك وتعالى.(/4)
القرآن الكريم من التدبر إلى التأثر ... ... ...
القرآن الكريم نور البصائر، وهداية العقول، وطمأنينة القلوب، وشفاء النفوس، ولكي يحقق القرآن في الأفراد آثاره، ويؤتي في الأمة ثماره، فإنه لابد من أمرين أساسين، حسن الفهم له، وقوة اليقين به .
أولاً: حسن الفهم
قال ابن تيمية :"حاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن " ، والفهم الصائب أساس العمل الصالح، وإذا لم يتحقق حسن الفهم فإنه لا مناص من أمرين : الحيرة والاضطراب وعدم العمل، أو العمل على أساس منحرف أو مختل لا يوصل إلى الغاية المنشودة والنهاية المحمودة.
الطريق إلى حسن الفهم :
لكي نصل إلى حسن الفهم فلنأخذ بهذه الخطوات :
أ- حسن الصلة :
كيف يفهم القرآن من يهجره ولا يقرؤه ؟، وأنّى لمن ترك تلاوته والاستماع إليه أن يفقهه ؟ ومن هنا لا بد من :
* كثرة التلاوة : وهو أمر رباني قال تعالى: { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ } [ النمل:91-92] .
* تجويد التلاوة : بمعرفة الأداء الصحيح بالتلقي والمشافهة لأن النبي صلى اله عليه وسلم قال: ( الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة ).
* حسن التلاوة :وفي ذلك قوله تعالى:{ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } [ المزمل:4]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ).
* الإنصات للتلاوة:وقد قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأعراف:204].
* التأني في التلاوة: وقد ورد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه : " لا تهذوا القرآن هذاً كهذّ الشعر، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة " .
* حسن التدبر: والمراد بالتدبر تفهّم المعاني وتدبر المقاصد ليحصل الاتعاظ ويقع العمل، وهو أمر مهم جعله الله مقصداً أساسياً لنزول القرآن فقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } [ صّ:29 ] ، ومدح الحق جل وعلا من تدبر وانتفع، فذكر من صفات عباد الرحمن :{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } [ الفرقان:73]، وذم الله عز وجل من ترك التدبر فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [ محمد:24]، والتدبر من النصح لكتاب الله الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي سياق بيان معنى النصح لكتاب الله عدّ النووي التدبر من ضمنه فقال:" والوقوف مع أحكامه وتفهم علومه وأمثاله ".
وحسن الصلة معين على التدبر، فهذا ابن كثير يقول في الترتيل :" المطلوب شرعاً إنما هو تحسين الصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه"، والنووي يقول:" الترتيل مستحب للتدبر وغيره"، فمن أدام الصلة بالقرآن تلاوة وتجويداً وتحسيناً تيسر له الانتفاع بالقرآن تدبراً وتفكراً ، قال ابن باز عن قارئ القرآن :" ينبغي له أن لا يتعجل، وأن يطمئن في قراءته، وأن يرتل ...المشروع للمؤمن أن يعتني بالقرآن ويجتهد في إحسان قراءته، وتدبر القرآن والعناية بالمعاني ولا يعجل"، والعكس صحيح فالقراءة السريعة بعيدة كل البعد عن التدبر كما قال القرطبي :" لا يصح التدبر مع الهذّ".
والاستماع الواعي له أعظم الأثر في التدبر والتأثر، وقد كان الفاروق رضي الله عنه يقول لأبي موسى الشعري رضي الله عنه :" يا أبا موسى ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يسمعون ويبكون ".
وهذا أعظم تأثيراً في القلب كما قال ابن القيم :" فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن والتدبر".
وقد جمع الأمران (حسن الصلة وحسن التدبر) في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ) .
ثانياً : قوة اليقين :
لابد من الاعتقاد الجازم بكل ما في القرآن من الأخبار والحقائق، وبسلامة وكمال ما فيه من الأحكام والشرائع، وصدق ما فيه من الوعد والوعيد، والتسليم بما فيه من الحِكم والسنن، وذلك كله بيقين راسخ يقتنع به العقل، ويطمئن به القلب في سائر الأماكن والأزمان، وفي كل الظروف والأحوال.
وأبرز ما ينبغي الإيمان واليقين به كبريات الحقائق المتصلة بالقرآن ومنها :
أ- الكمال المطلق :(/1)
اليقين بأن ما في القرآن من العقائد والشرائع والأحكام والآداب هو الكمال الذي لا نقص فيه، وهو الذي تتحقق به السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة، وهو الذي يلبي الاحتياجات، ويحل المشكلات، ويعالج المستجدات، فالله جل وعلا قال:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً } [ المائدة:3]، وفي كل ميدان ومجال نجد القرآن يقدم الأكمل والأمثل والأفضل : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء:9].
ب- الشمول التام :
فاليقين لا بد أن يكون جازماً بأن القرآن شامل شمولاً عاماً، فهو بالنسبة للفرد يخاطب عقله وروحه وجوارحه، وهو لا يقتصر على العناية بشأن الآخرة دون شأن الدنيا، ولا ينحصر في شعائر العبادة دون تنظيم شؤون المعاملات، وإحكام نظام القضاء والمرافعات، وأسس السياسة وقواعد الاجتماع إلى جميع شؤون الحياة، كما قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ } [ النحل:89]، وقال جل وعلا: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء } [ الأنعام: 38].
ج- السنن الماضية :
واليقين بأن ما في القرآن من السنن الإلهية التي فيها ذكر أسباب القوة والضعف، والنهوض والسقوط ، والصلاح والفساد أنها كما أخبر الله بها لا تتغير ولا نتبدل: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }[ فاطر:43]، وهذه السنن هي المنطلقات الأساسية في معرفة الأحداث وتحليل النتائج كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } [ يونس:81]، وقوله :{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد:11].
وإذا وجد حسن الفهم، وقوة اليقين تحققت البداية الصحيحة للانطلاقة الإيجابية لتغيير واقع الأمة وتربية نشئها وصناعة أجيالها .
والمتأمل في عموم أحوال المسلمين يستطيع أن يقول : إن من أعظم أسباب الزيغ في الفكر، والقسوة في القلب، والانحراف في السلوك، وعدم التأثر بالقرآن، لضعف أو انعدام الصلة به، ولعدم أو سوء الفهم له، ولقلة أو ضعف اليقين به، ولقد كان القرآن في حياة الأمة قلبها النابض، ولسانها الناطق، وحُكمها القاطع، ومرجعها الدائم، كان دوّيه يتردد في محاريب المساجد في الصلاة، وعلى صهوات الجياد في الجهاد، وكان حفظه وفهمه والعمل به هو جوهر الإسلام وحقيقته، ومن ثم تعلق به الصحابة حتى قال ابن مسعود:" ما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، وفيمن نزلت، ومتى نزلت، وهل نزلت بليل أو نهار أو بسفر أو حضر، ولو كنت أعلمُ أحداً أعلمُ مني بكتاب الله تضرب إليه أكباد الإبل لرحلت إليه"، فها هي الصلة وطيدة بكل شيء متعلق به، أما العلم والعمل فها هو عبد الرحمن السلمي يخبرنا فيقول :" كان الذين يقرؤوننا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوزون بنا العشر من الآيات حتى نعرف ما فيها من العلم والعمل فتعلمنا العلم والعمل معاً " .
نعم تلك هو جيل القرآن جيل التلقي للتأثر، جيل العلم والعمل، جيل الدعوة والتعليم، والصحوة والدعوة لن يتم لها مرادها ولن تبلغ مقاصدها وهي بعيدة عن منبع الهدى، فهل من صلة دائمة ؟ وهل عودة صادقة ؟ وهل من معرفة واعية ؟ لا مناص من ذلك إن أردنا الخير والفلاح .
د. علي بن عمر بادحدح ... ...(/2)
القرآن الكريم ورسالة الإسلام
استهدف الإسلام قبل كل شىء ربط الإنسان بربه وبميعاده -أي اليوم الأخر-
فمن الناحية الأولى: ربط الإنسان بالإله الواحد الحق الذي تشير إليه الفطرة، وأكثر وحده الإله الحق وشدد على ذلك لكي يقضي على كل أنواع التأله المصطنع حتى جعل من كلمة التوحيد {لا إله إلا الله} شعاره الرئيسي.
ومن الناحية الثانية: ربط الإنسان بيوم القيامة، حيث هناك العدل الإلهى المطلق ليجازى الظالم بظلمه ويكافئ المحسن بإحسانه.
وللقرآن الكريم أثر عظيم في حفظ هذه الرسالة وبقائها إلى يومنا هذا، نقية واضحة ظاهرة، فللرسالة الإسلامية خصائصها التي تميزها عن سائر رسالات السماء وأهم هذه الخصائص:
أولاً: بقاؤها سليمة ضمن النص القرآني، دون أن تتعرض لأي تحريف، بينما منيت الكتب السماوية السابقة بالتحريف، قال الله تعالى عن القرآن الكريم:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} {الحجر:9}
وقال عن أصحاب الكتب السابقة
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} {البقرة:79}
فأفرغت الكتب السابقة من محتواها العقائدي والتشريعي، وبعد ما كانت تدعوا إلى التوحيد قبل التحريف أصبحت تدعوا إلى الوثنية وإلى الشرك وبعد ما كان لها الدور التربوي السليم أصبحت تدعوا إلى أشياء ما أنزل الله بها من سلطان بل وتعارض فطرة الإنسان بسبب التحريف، وكل رسالة تفرغ من محتواها بالتحريف والضياع لا تصلح أداة ربط بين الإنسان وربه، لأن هذا الربط لا يتحقق بمجرد الانتماء الأسمى، بل بالتفاعل مع محتوى الرسالة وتجسيدها فكراً وسلوكاً، ومن أجل ذلك كانت سلامة الرسالة الإسلامية بسلامة النص القرآني الشرط الضروري لقدرة هذه الرسالة على مواصلة أهدافها، واحتفاظ الرسالة الإسلامية بمحتواها العقائدى والتشريعي هو الذي يمكنها من مواصلة دورها التربوي.
ثانياً: إن بقاء القرآن نصاً كما هو يعني أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لم تفقد أهم وسيلة من وسائل إثباتها، لآن القرآن وما يعبر عنه من مبادئ الرسالة والشريعة هو من أكبر الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكونه رسولاً من عند الله، وهذا الدليل يستمر مادام القرآن باقياً، وخلافاً لبقية النوات التي يرتبط إثباتها بوقائع معينة، تحدث في لحظة وتنتهي كإبراء الأكمة والأبرص، فإن هذه الوقائع لا يشهدها عادة إلا المعاصرون لها، وبمرور الزمن وتراكم الأحداث تفقد الواقعة شهودها الأوائل، ويعجز الإنسان غالباً عن الحصول على أي تأكيد حاسم لها، عن طريق البحث والتنقيب.
ونحن اليوم نعتمد في إيماننا بالأنبياء السابقين صلوات الله وسلامه عليهم على إخبار القرآن الكريم بذلك.
ثالثاً: إن مرور الزمن كما عرفنا، لا ينقص من قيمة الدليل الأساسي على الرسالة الإسلامية وهو القرآن الكريم بل أنه أيضاً يمنح هذا الدليل أبعاداً جديده من خلال تطور المعرفة البشرية واتجاه الإنسان إلى دراسة الكون، وذلك لأن القرآن الكريم سبق إلى هذا الاتجاه نفسه وربط الأدلة على الصانع الحكيم بدراسة الكون والتعمق في ظواهره. والإنسان الحديث اليوم يجد في ذلك الكتاب الذي بشر به رجل أمي في بيئة جاهلة قبل مئات السنين وإشارات واضحة وإلى ما كشف عنه العلم الحديث، قال تعالى:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} {فصلت:53}
رابعاً: إن هذه الرسالة جاءت شاملة لكل جوانب الحياة وعلى هذا الأساس، استطاعت أن توازن بين تلك الجوانب المختلفة وتجمع في إطار صيغة واحدة كاملة بين الجامع والجامعة، والمعمل والحقل ولم يعد الإنسان ليعيش حالة الانشطار بين حياته الروحية وحياته الدنيوية.
خامساً: إن هذه الرسالة الإسلامية هي الرسالة السماوية الوحيدة التي طبقت على يد الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء بها وسجلت في مجال التطبيق نجاحاً باهراً، واستطاعت أن تحول الشعارات التي أعلنتها إلى حقائق اليومية للناس.
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً} {الأحزاب:21}
أخيراً: أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء بهذه الرسالة تميز عن جميع الأنبياء الذين سبقوه بتقديم رسالته بوصفها أخر رسالة ربانية وبهذا أعلن أن نبوته هي النبوة الخاتمة، وفكرة النبوة الخاتمة لها مدلولان:(/1)
أحدهما سلبي وهو المدلول الذي ينفي ظهور نبوة أخرى والأخر إيجابي وهو المدلول الذي يؤكد استمرار النبوة الخاتمة وامتدادها مع العصور، وحينما نلاحظ المدلول السلبي للنبوة الخاتمة - أي لأي نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم - نجد أن هذا المدلول قد انطبق على الواقع تماماً خلال الأربعة عشر قرناً التي تلت ظهور الإسلام، وسيظل منطبقاً على الواقع مهما أمتد الزمن، غير أن عدم ظهور نبوة أخرى على مسرح التاريخ ليس لأن النبوة تخلت عن دورها كأساس من أسس الحضارة الإنسانية، بل لأن النبوة الخاتمة جاءت بالرسالة الوريثة، لكل ما يعبر عنه تاريخ النبوات من رسالات والمشتملة على كل ما في تلك النبوات والرسالات من قيم ثابتة، وبهذا تكون هي الرسالة المهيمنة القادرة على الاستمرار مع الزمن وكل ما يحمل من عوامل التطور والتجديد، كما قال تعالى:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ }{المائدة: من الآية48}(/2)
القرآن حصن المقاومة المنيع
ترى ما الذي يمكن أن يصل إليه تجديد الخطاب الديني على الطريقة الأمريكية المرفودة بالعلمانية المتجذرة من ناحية وبعلماء السلطة ذات التقاليد القديمة من ناحية أخرى … أكثر مما فعلوا في إسقاط الدعوة إلى مبدأ " الحكم بالشريعة " وهو المبدأ الذي أطلقه مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في الستينيات والسبعينات رغم جميع الظروف المعاكسة آنذاك ؟
ترى ما الذي يمكن أن يصلوا إليه أكثر مما فعلوا في إسقاط فريضة الجهاد عن كاهل الجيوش في البلاد الإسلامية وتركوها لأفراد يتم مطاردة الكثيرين منهم حاليا تحت عنوان الإرهاب ؟
ترى ما الذي يمكن أن يصلوا إليه اكثر مما فعلوا بفريضة الزكاة التي أسقطوها عن كاهل الحكومات ، وقمعوها في أروقة المؤسسات ، وطاردوها في نوايا الأفراد المرتعشة أيديهم بتهمة تغذية البنى التحتية والفوقية للإرهاب ؟ وارجع إلى حجم المشكلة في حلقة " الشريعة والحياة " في قناة الجزيرة بتاريخ 27\10\2003
ترى ما الذي يمكن أن يفعلوا في إسقاط فريضة صلاة الجمعة التي قننت خطبتها بمواصفات أمريكية أصبحت ملموسة في مساجد الوزارة وتوابع مساجد الوزارة ، وأصبحنا نستمع إلى خطباء مجددين يلبسون الزي الأفرنجي ، ويخلطون حديثهم بلهجة عامية ، ويتحدثون في كل شيء إلا أن يكون قريبا من مواجع المستمعين ؟
ترى ما الذي يمكن أن يصلوا إليه أخيرا في مواجهة رمضان بما جاء به من القرآن الكريم وبما جاء به القرآن من فريضة القراءة " فاقرؤا ما تيسر من القرآن" المزمل 20 وبما جاءت به فريضة القراءة من التذكرة بكل محرمات الخطاب الديني الحديث ؟
وإذا كان شهر رمضان لا يقتضي منا التوقف عن السجال الفكري في معركتنا الحضارية مع الغرب فإنه وفي إطار هذه المعركة يقتضينا أن نتنحى جانبا لنستمع إلى كلمات القرآن المقدسة خالصة ، تلك الكلمات المقدسة التي تعجز إمكانيات الولايات المتحدة وتوابعها من مواجهتها وذلك بعض من فضل رمضان الذي جاءنا كبعض من فضل القرآن ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن )
في جامع الترمذي بسنده عن الحارِثِ الاعْوَرِ قالَ: مَرَرْتُ فِي المَسْجِدِ فَإِذَا النّاسُ يَخُوضُونَ فِي الأَحَادِيثِ فَدَخَلْتُ عَلَى عَلِي، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَلاَ تَرَى النّاسَ قَدْ خَاضُوا فِي الاحَادِيثِ؟ قالَ: وقد فَعَلُوهَا؟ قلْتُ: نَعَمْ، قالَ: أَمَا إِني قد سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَلاَ إِنّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ، فَقُلْتُ: مَا المَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ الله؟ قالَ: كِتَابُ الله فِيهِ نَبَأُ مَا كان قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبّارٍ قَصَمَهُ الله، وَمَنْ ابَتَغَى الهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلّهُ الله، وَهُوَ حَبْلُ الله المَتِينُ، وَهُوَ الذّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، هُوَ الّذِي لاَ تَزِيعُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الالْسِنَةُ، وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلاَ يَخْلُقُ عَلى كَثْرَةِ الرّدّ، وَلاَ تَنْقَضَي عَجَائِبُهُ، هُوَ الّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتّى قالُوا {إِنّا سَمِعْنَا قُرْآنَا عَجَبَاً يَهْدِي إِلَى الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ}، مَنْ قالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» .
وفي سنن الدارمي بسنده عنْ أبي سعيدٍ الخدريّ قالَ: قالَ رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «منْ شغلَهُ قراءةُ القرآنِ عنْ مسألتِي وذكري، أعطيتُهُ أفضلَ ثوابِ السائلينَ، وفضلُ كلامِ اللّهِ علَى سائِرِ الكلامِ كفضلِ اللّهِ علَى خلقِهِ».
وفي المعجم الصغير للطبراني بسنده عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة لا يهولهم الفزع الأكبر ، ولا ينالهم الحساب ، هم على كثيب من مسك حتى يفرغ من حساب الخلائق :
رجل قرأ القرآن ابتغاء وجه الله وأم به قوما وهم يرضون به
وداع يدعو إلى الصلوات الخمس ابتغاء وجه الله
وعبد أحسن فيما بينه وبين ربه وفيما بينه وبين مواليه "
إن الثقافة الإسلامية الحقيقية من حقها أن تقف موقفا فذا بين جميع أنواع الثقافات التي ظهرت في التاريخ . ذلك أنه إن كانت أنواع تلك الثقافات قد خضعت جميعا للعامل البشري في تطوره وتغيره وتحوله على مدار آلاف السنين فإن الثقافة الإسلامية في جوهرها تستعصي على ذلك .
إنه يمكن أن يحدث على سطحها الكثير من التزييف أو التزوير أو التشويش .. وقد يستمر هذا التشويش زمنا فيتقدم خطوة أو خطوات ويتراجع خطوة أو خطوات ، ولكنها تظل في جوهرها نقية عصية على التغيير أو التبديل ، يعود بها الإسلام كما بدأ.(/1)
والسر في ذلك يرجع إلى حصن المقاومة المنيع : القرآن الكريم .الذي لا يمسه إلا المطهرون ، ومن معاني ذلك ألا يمسه سماسرة التحديث حكما وواقعا .
وهو يرجع من ضمن ذلك إلى عمليات الحفظ المضمونة بضمان الله { إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظونَ } 9 الحجر ، وفي صحيح البخاري بسنده عن عثمانَ بن عفان رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إِنّ أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه».
ومن حفظه دوام تلاوته المضمونة بضمان الإيمان : ففي صحيح مسلم بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: « وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلاّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرّحْمَةُ وَحَفّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ. وَمَنْ أَبَطأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ».
وفي جامع الترمذي بسنده عن عَبْدِ الله بن عَمْرٍو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «يُقَالُ ـ يَعْنِي لٍصَاحِبِ الْقُرْآنِ : اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتّلْ كَمَا كنْتَ تُرَتّلُ فِي الدّنْيَا، فَإنّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا». قال أبو عيسَى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
حتى إن قرأ وهو يتعتع ففي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: « الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ. وَالّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقّ، لَهُ أَجْرَانِ ».
وهو أمر لم يتيسر لثقافة أخرى فيما نعلم
وهو أمر يخطئ علماء الإنسانيات كل الخطأ إذا تجاهلوه أو لم يضعوه في الحسبان .
يخطئون في حق أنفسهم إذ يظهرون بمظهر الجهل والحيرة والاندهاش أمام سلطان القرآن ونفوذه الغالب على سلطان الجيوش ونفوذ الحكومات .
ويخطئون في حق الإنسانية عند ما يصدونها عن هدي القرآن إذ يعرضونها بذلك لفترات طويلة من التخبط والعمى والضلالة . وتبقى الحصيلة الأخيرة قائمة هناك :
ا - كتاب يتأبى على كل محاولات التغيير والتبديل والتحويل . { لا يَأْتيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَميدٍ } 42 فصلت . { إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظونَ } 9 الحجر
ب - وطائفة من أمته لا تزال قائمة على الحق لا يضرهم من خالفهم كما جاء في صحيح البخاري بسنده عن عُميرُ بن هانىء أنه سمعَ معاوية يقول: « سمعتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: لا يزالُ من أُمّتي أمةٌ قائمةٌ بأمرِ الله لا يضرّهم مَن خذَلَهم ولا من خالَفَهم، حتى يأتيَهم أمرُ اللهِ وهم على ذلك».
ج - ومنهج قائم على الكتاب والسنة لا يضل المسلمون مهما تمسكوا بهما أبدا . ففي سنن أبي داود بسنده عن عَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ عَمْرٍو السّلَمِيّ وَ حُجْرُ بنُ حُجْرٍ عن الْعِرْبَاضَ بنَ سَارِيَةَ، أنه قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى الله وَالسّمْعِ وَالطّاعَةِ وَإِنْ عَبْداً حَبَشِيّا ، فَإِنّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلاَفاً كَثِيراً، فَعَلَيْكُم بِسُنّتِي وَسُنّةِ الْخُلَفَاء الرّاشِدِينَ المَهْدِيّينَ تَمَسّكُوا بِهَا، وَعَضّوا عَلَيْهَا بِالنّوَاجِذِ، وَإِيّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأمُورِ، فَإِنّ كُلّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكلّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ».
وفي جامع الترمذي بسنده عَن زَيْدِ بنِ أَرقمَ رضي الله عنهما قالَ قال رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: « إنّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمسّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلّوا بَعْدِي : أحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الاَخَرِ كِتَابُ اللّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السّمَاء إلى الأَرْضِ وعِتْرَتِي أَهْل بَيْتِي وَلَنْ يَتَفَرّقَا حتّى يَرِدَا عَلَيّ الْحَوْضَ فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفونِي فِيهمَا ». قال أبو عيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وما عترته غير الذين اتبعوه غير مبتدعين من أهل بيته ، وما بيته غير بيت النبوة والإسلام والإيمان والإحسان ، وما أهل بيته غير أهل القرآن والسنة أهل الله وخاصته ، الذين جاء فيهم في سنن النسائي الكبرى بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ لله أهلينَ مِن خَلْقِه، قالوا: وَمَنْ هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن همْ أهلُ الله وخاصّتُه.(/2)
وفيما جاء في مصباح الزجاجة في سنن ابن ماجة بسنده عن أنس بن مالك- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن لله أهلين من النّاس » قالوا: يا رسول الله! من هم؟ قال «هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته». هذا إسناد صحيح رجاله موثقون . رواه النسائي في الكبرى في فضائل القرآن عن أبي قدامة، عن عبيد الله بن سعيد، عن ابن مهدي به. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن عبد الرحمن بن بديل بإسناده ومتنه.
ومن ثم يبقى الغزو الفكري مهما استشرى واستكبر مآله الفشل في خاتمة المطاف وإن بعد بلاء وجراح .
هذا الذي يحدث اليوم للمسلمين وللفكر الإسلامي والثقافي من غزو وتزييف إن كان يثير فينا كثيرا من الحزن فهو لا يثير فينا كثيرا من اليأس
وهو إن كان يثير في أعدائنا كثيرا من الفرح والأمل الذي يعلقونه على تدمير التربية في بلادنا وبخاصة التربية الدينية لكن اليأس - كما يعرفون يأتيهم في بقاء القرآن ، حتى إن بعض مراكزهم العليا أخذت تصرخ اليوم من عدم قابلية القرآن للتحريف والتبديل ، إلى حد اقتراح طرد المسلمين الذين لا يقبلون ذلك من بلادهم !!
ففي كتاب صدر باللغة الانجليزية تقل صفحاته عن المائة والعشرين – أنظر مقال الأستاذ الدكتورعزام التميمي مدير معهد الفكر الإسلامي السياسي بلندن ، في جريدة الشعب الألكترونية بتاريخ 19\7\ 2003 - قدم المؤلفان : البارونة كارولاين كوكس وزميلها جون ماركس تشخيصاً للحالة الإسلامية المعاصرة مشفوعاً بوصفة شافية وافية لمن يتمنون غياب الإسلام والمسلمين تماماً من الساحات الأوروبية. عنوان الكتاب " الإسلام والإسلاموية: هل ينسجم الإسلام الأيديولوجي مع الديمقراطية الليبرالية ؟ " والمؤلفة تقرع نواقيس الخطر علي مسامع صناع القرار في بريطانيا ـ بأن المسلمين الذين يصرون علي أن القرآن غير قابل للتبديل والتحريف ويتمسكون بالشريعة الإسلامية ـ التي تري أنها تتناقض بشكل سافر مع منهج الحياة الليبرالي ـ ينبغي ألا تتاح لهم الفرصة للعيش في بريطانيا
من المفارقات العجيبة – كما يقول الأستاذ عزام التميمي - أن صدور الكتاب تزامن مع صدور كتاب آخر حول سيرة حياة كبير أساقفة كانتربري ( رأس الكنيسة الأنجليكانية ) ، نقل عنه فيه التصريح بأن النصاري غيروا كثيراً في دينهم عبر التاريخ ، فالجحيم الأخروي لم يعد ناراً تحرق وإنما هو نوع من الألم النفسي ، والربا لم يعد محرماً، والطلاق لم يعد ممنوعاً، ولذا فما المانع في أن يصبح اللواط مباحاً هو الآخر؟ . ومن عجائب الصدف أنه بعد صدور الكتاب بأيام تفجرت داخل الكنيسة الأنجليكانية أزمة لم تنته تداعياتها بعد بسبب تعيين أحد القساوسة كبيراً للأساقفة في كنيسة مدينة ريدينغ بالرغم من تصريحه بأنه لواطي. ) هكذا
فليذهبوا بغيظهم مطرودين بسلطان القرآن
إنه القرآن قلعة المقاومة المنيعة الأولى والأخيرة بيد المسلمين
قيم لاعوج فيه : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا ، قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَديداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنينَ الَّذينَ يَعْمَلونَ الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ، ماكثين فيه أبدا } 1-3 الكهف
مبارك فاتبعوه : { وَهَذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فاتَّبِعوهُ واتَّقوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمونَ } الأنعام 155
يهدي للتي هي أقوم : { إِنَّ هَذا الْقُرْآنَ يَهْدي لِلَّتي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنينَ الَّذينَ يَعْمَلونَ الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبيراً 9 الإسراء
وهو في شهر رمضان الكتاب الذي تتردد أصداؤه في كل مكان بصبر القوامين من جنود رمضان
وهو خط المقاومة الذي لا ينهار بعد أن تنهار جميع الخطوط
إن مقاومته تأتي مع المؤمنين به غير محتاجين لغير قراءته إلا قليلا ، وما تحدثه فيهم قراءته إلا قليلا
إنهم يقرءون وسوف يقرءون رغم أنف التحديث الأمريكي ، ومن قبله ومن بعده التجديد العلماني ، ومن قبله ومن بعده التحبير " المهني " !
إنهم يقرءون القرآن مباشرة ، ويسمعونه مباشرة ، ويمكنهم أن يهتدوا به مباشرة ، بعد أن تنهدم قلاع وتذوب قلاع وتقوم قلاع
إنهم يقرءون وسيظلون يقرءون :
في مبدأ " توازن الإرهاب والرعب والتدافع " وأسلحة الدمار الشامل في الصراع مع العدو وصولا إلى السلام تأتيهم فريضة الإعداد لذلك في قوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ، وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ) 60-61 الأنفال ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) البقرة 251(/3)
( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) الحج 40
في التسليم لشعارات : العقل ؟ والإنسانية ؟ والأنانية ؟ والغيرية ؟ والوطنية ؟ والقومية ؟ ولديموقراطية ؟ والبروليتارية ؟ والليبرالية ؟ في كل ذلك تخرج من حصن القرآن كلمة الرفض : لا
فالتسليم ليس إلا لله . ومن طريقه قد يأتي الأخذ ببعض مما تقدم : { قُلْ أَنَدْعوا مِنْ دونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانا اللَّهُ كالَّذي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطينُ في الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعونَهُ إِلى الْهُدى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدى اللَّهِ هوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمينَ } الأنعام 71
{ وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضى اللَّهُ وَرَسولُهُ أَمْراً أَنْ يَكونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبيناً } 36 الأحزاب
في الهدف من الوجود الإنساني ؟ وهو تساؤل يطلقه الفلاسفة والشعراء والمطربون ، وهو ينعكس بأثره على صياغة الإنسان لهويته ولحياته العملية وعلاقاته الاجتماعية والكونية ، في كل ذلك تأتي من حصن القرآن تأتي كلمة العبادة ثم كلمة الخلافة لتحسم المسألة
{ وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْأِنْسَ إِلّا ليَعْبُدونِ } 56 الذاريات
{ وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنّي جاعِلٌ في الْأَرْضِ خَليفَةً قالوا أَتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمونَ } البقرة 30
في قضية التطور في قيمة العفة وما يتصل بها من الأخلاق :
تأتي من حصن القرآن كلمة الرفض : لا
{ إِنَّ الَّذينَ يُحِبّونَ أَنْ تَشيعَ الْفاحِشَةُ في الَّذينَ آمَنوا لَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ في الدُّنْيا والْآخِرَةِ واللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمونَ ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤوفٌ رَحيمٌ ، يا أَيُّها الَّذينَ آمَنوا لا تَتَّبِعوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ والْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكّي مَنْ يَشاءُ واللَّهُ سَميعٌ عَليمٌ } 19 – 21 النور
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذينَ لا يَجِدونَ نِكاحاً حَتّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ والَّذينَ يَبْتَغونَ الْكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فيهِمْ خَيْراً وَآتوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهوا فَتَياتِكُمْ عَلى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفورٌ رَحيمٌ } 33 النور
في الانغماس في الحياة الدنيا ؟ لا
{ مَنْ كانَ يُريدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزينَتَها نوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فيها وَهُمْ فيها لا يُبْخَسونَ ، أولَئِكَ الَّذينَ لَيْسَ لَهُمْ في الْآخِرَةِ إِلّا النّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعوا فيها وَباطِلٌ ما كانوا يَعْمَلونَ } 15- 16 هود
أما المؤمنون فلهم منها نصيب :
{ وابْتَغِ فيما آتاكَ اللَّهَ الدّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ في الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدينَ } 77 القصص
في الطغيان والدكتاتورية ؟ لا خضوع
{ قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبيرُكُمُ الَّذي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ في جُذوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى ، قالوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ والَّذي فَطَرَنا فاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضي هَذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ، إِنّا آمَنّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ واللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى ، إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَموتُ فيها وَلا يَحْيى ، وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ فَأولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى ، ، جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْري مِنْ تَحْتِها الْأَنْهارُ خالِدينَ فيها وَذَلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكّى } 71 واستكمل إلى76 طه
في التجبر ؟ لا ، إنه يفشل حتما(/4)
{ واسْتَفْتَحوا وَخابَ كُلُّ جَبّارٍ عَنيدٍ ، مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَديدٍ ، يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسيغُهُ وَيَأْتيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَليظٌ ، مَثَلُ الَّذينَ كَفَروا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرّيحُ في يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرونَ مِمّا كَسَبوا عَلى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعيدُ } 15 – 18 إبراهيم
في سلطان الظالمين وجاههم ؟ لا
{ فَذَرْهُمْ في غَمْرَتِهِمْ حَتّى حينٍ ، أَيَحْسَبونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنينَ ، أَيَحْسَبونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنينَ ، نُسارِعُ لَهُمْ في الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرونَ } 54- 56 المؤمنون
{ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذينَ ظَلَموا ما في الْأَرْضِ جَميعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكونوا يَحْتَسِبونَ ، وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانوا بِهِ يَسْتَهْزِئونَ } 47 – 48 الزمر
{ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرى الَّذينَ كَذَبوا عَلى اللَّهِ وُجوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرينَ ، وَيُنَجّي اللَّهُ الَّذينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنونَ } 60 – 61 الزمر
{ زُيِّنَ لِلَّذينَ كَفَروا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرونَ مِنَ الَّذينَ آمَنوا والَّذينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ واللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ } 212 البقرة
في تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني ؟ لا
{ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ يوادّونَ مَنْ حادَّ اللَّهَ وَرَسولَهُ وَلَوْ كانوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشيرَتَهُمْ أولَئِكَ كَتَبَ في قُلوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِروحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِها الْأَنْهارُ خالِدينَ فيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضوا عَنْهُ أولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحونَ } 22 المجادلة
{ وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهودُ وَلا النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصيرٍ } 120 البقرة
في تغيير صورة اليهودية والمسيحية وادعاء أنها والإسلام سواء وادعاء تعددية النجاة ضمن ما يسمى الأديان السماوية الثلاثة ؟ لا
{ اتَّخَذوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دونِ اللَّهِ والْمَسيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِروا إِلّا ليَعْبُدوا إِلَهاً واحِداً لا إِلَهَ إِلّا هوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكونَ ، يُريدونَ أَنْ يُطْفِئوا نورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبى اللَّهُ إِلّا أَنْ يُتِمَّ نورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرونَ } 30 –32 التوبة
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذينَ قالوا إِنَّ اللَّهَ هوَ الْمَسيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ في الْأَرْضِ جَميعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ } 17المائدة
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذينَ قالوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلَهٍ إِلّا إِلَهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهوا عَمّا يَقولونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذينَ كَفَروا مِنْهُمْ عَذابٌ أَليمٌ ، أَفَلا يَتوبونَ إِلى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرونَهُ واللَّهُ غَفورٌ رَحيمٌ ، ما الْمَسيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلّا رَسولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنّى يُؤْفَكونَ } 73- 75 المائدة
في الانحياز إلى الآباء والأجداد وتحسين صورتهم ولو كانوا فراعنة مشركين ؟ لا(/5)
{ وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّها الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْري فَأَوْقِدْ لي يا هامانُ عَلى الطّينِ فاجْعَلْ لي صَرْحاً لَعَلّي أَطَّلِعُ إِلى إِلَهِ موسى وَإِنّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبينَ ، واسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنودُهُ في الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعونَ ، فَأَخَذْناهُ وَجُنودَهُ فَنَبَذْناهُمْ في الْيَمِّ فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظّالِمينَ ، وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعونَ إِلى النّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرونَ ، وَأَتْبَعْناهُمْ في هَذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبوحينَ } 38- 42 القصص
في الغزو الرأسمالي ولو كان من بنات صندوق البنك الدولي و.. ؟ لا
{ الَّذينَ يأْكُلونَ الرِّبا لا يَقومونَ إِلّا كَما يَقومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّما الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فأولَئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فيها خالِدونَ ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبي الصَّدَقاتِ واللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ أَثيمٍ ، إِنَّ الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلوا الصّالِحاتِ وَأَقاموا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنونَ ، يا أَيُّها الَّذينَ آمَنوا اتَّقوا اللَّهَ وَذَروا ما بَقيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلوا فَأْذَنوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمونَ وَلا تُظْلَمونَ ، وَإِنْ كانَ ذو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمونَ } 275- 280 البقرة
في حبس المال ؟ لا
{ يا أَيُّها الَّذينَ آمَنوا إِنَّ كَثيراً مِنَ الْأَحْبارِ والرُّهْبانِ لَيَأْكُلونَ أَمْوالَ النّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدّونَ عَنْ سَبيلِ اللَّهِ والَّذينَ يَكْنِزونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقونَها في سَبيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَليمٍ، يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهورُهُمْ هَذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذوقوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزونَ } 34- 35 التوبة
في الغزو الاشتراكي بنهب المال ؟ لا
{ يا أَيُّها الَّذينَ آمَنوا لا تَأْكُلوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحيماً، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْليهِ ناراً وَكانَ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ يَسيراً ، إِنْ تَجْتَنِبوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَريماً ، وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصيبٌ مِمّا اكْتَسَبوا وَلِلنِّساءِ نَصيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ واسْأَلوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَليماً ) 29 –32 النساء
في تحديد النسل ونظريات مالتوس ومؤتمر السكان إلخ ؟ لا
{ وَكَأَيِّنْ مِنْ دابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَها اللَّهُ يَرْزُقُها وَإيّاكُمْ وَهُوَ السَّميعُ الْعَليمُ ) 60 العنكبوت { وَما مِنْ دابَّةٍ في الْأَرْضِ إِلّا عَلى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ في كِتابٍ مُبينٍ } 6 هود
المسلمون هم الإسلام ؟ لا
{ إِلا تَنْفِروا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَليماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرّوهُ شَيْئاً واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ} 39 التوبة
{ ها أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقوا في سَبيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ واللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكونوا أَمْثالَكُمْ } 38 محمد
اليأس من نصر الله ؟ لا
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا مِنْكُمْ وَعَمِلوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الْأَرْضِ كَما اسْتَخْلَفَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دينَهُمُ الَّذي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدونَني لا يُشْرِكونَ بي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأولَئِكَ هُمُ الْفاسِقونَ } 24 النور(/6)
{ الَّذينَ أُخْرِجوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلّا أَنْ يَقولوا رَبُّنا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فيها اسْمُ اللَّهِ كَثيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزيزٌ ، الَّذينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ في الْأَرْضِ أَقاموا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَروا بِالْمَعْروفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمورِ } 40 – 41 الحج
السيطرة على الطبيعة وصولا إلى تدمير البيئة ؟ لا
ومشكلة البيئة تعرض في أقسى صورها اليوم من خلال ما وصلت إليه الحضارة العالمية المعاصرة من خلال مشروعها النهضوي – منذ بداية النهضة الأوربية – القائم على التقدم العلمي للسيطرة الطبيعة ، حيث أصبح الوضع الحاضر قد وصل إلى حد تحويل الكرة الأرضية إلى كوكب غير صالح للسكنى في الوقت الذي أصبح المسئولون عن ذلك في قيادة هذه الحضارة غير مستعدين – ولا قادرين – على التعديل في سلوكهم إزاء هذا الكوكب إذ يتطلب ذلك قدرا هائلا من التغيير الاستراتيجي في المشروع النهضوي وأركانه – كما يعترف بذلك آل جور نائب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابق في كتابه عن كوكب الأرض - ، وتحوله من مشروع للسيطرة الإنسانية على الطبيعة إلى مشروع للاستفادة منها وفقا لمشروع الخالق لها ، وهذا مالا تملكه أية فلسفة علمانية تستبعد الدين ، ولا أي تصور ديني آخر بعيد عن الإسلام
وهنا يتقدم الإسلام لإنقاذ الإنسانية في هذه المشكلة القاتلة ، بما له من تصور خاص في التعامل مع هذه البيئة : أي تحت سيطرة الله لا التحرر منه : فهو الخالق ، وهو المالك ، وهو المنعم ، وهو الرقيب وهو الحسيب . وهنا نجد القرآن هو الحصن . ونعرض هنا بعض الآيات ونراها في صميم الموضوع :
هو الله الخالق فارفعوا أيديكم أيها المنتهبون المتغطرسون:
{ اللّهُ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } 62 الزمر
{ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ، } 54-واستكمل إلى 58 الأعراف
{ خَلَقَ السّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىَ فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثّ فِيهَا مِن كُلّ دَآبّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، هََذَا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ }10- 11 لقمان
{ أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ثُمّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىَ لاُوْلِي الألْبَابِ}10-واستكمل إلى 21الزمر {هُوَ الّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 6 آل عمران
هو - سبحانه – الذي يمكن الإنسان من الطبيعة للأخذ منها وليس الإنسان هو الآخذ منها بالسيطرة لمشروعه الخاص :
{اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ وَسَخّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ} 32 إبراهيم
{ وَآيَةٌ لّهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، } 33-واستكمل إلى 43 يس
طبيعة مسخرة سلفا
{ اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ وَسَخّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ، وَسَخّر لَكُمُ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخّرَ لَكُمُ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ، وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ} 32 - 34 إبراهيم
{هُوَ الّذِي يُسَيّرُكُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ } 22 يونس
{هُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْلّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنّهَارَ مُبْصِراً إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} 67يونس
هو المالك فارفعوا ايديكم أيها المتطفلون :(/7)
{ قُل لّمَنِ الأرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكّرُونَ، قُلْ مَن رّبّ السّمَاوَاتِ السّبْعِ وَرَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتّقُونَ، قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ فَأَنّىَ تُسْحَرُونَ } 84 – 89 المؤمنون
{ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمّ إِذَا مَسّكُمُ الضّرّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } 53 النحل
بيده سبحانه أمر الطبيعة لا بيد الإنسان
{ إِنّ اللّهَ يُمْسِكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ إِنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } 41 فاطر
{ هُوَ الّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ السّحَابَ الثّقَالَ } 12 الرعد
{ إِنّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنّوَىَ يُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيّتِ مِنَ الْحَيّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنّىَ تُؤْفَكُونَ، فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلّيْلَ سَكَناً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، } 95 -واستكمل إلى 102 الأنعام
{ اللّهُ الّذِي رَفَعَ السّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ يَجْرِي لأجَلٍ مّسَمّى يُدَبّرُ الأمْرَ يُفَصّلُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ بِلِقَآءِ رَبّكُمْ تُوقِنُونَ } 2 – 4 الرعد
{ وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ، } 78 -واستكمل إلى 81 النحل
وما خلقه إلا في سياق الحق : { خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ تَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ} 3 النحل
وهل يمكن حل المشكلة حلا حقيقيا بغير الرجوع للخالق ؟ لا :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَىَ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآءِ وَالضّرّآءِ لَعَلّهُمْ يَتَضَرّعُونَ ، فَلَوْلآ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرّعُواْ وَلََكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ، فَلَمّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ حَتّىَ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوَاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مّبْلِسُونَ } 42 – 43 – 44 الأنعام
{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمِلُواْ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ } 41 الزمر
{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىَ ظَهْرِهَا مِن دَآبّةٍ وَلََكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } 45 فاطر
{ وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } 163 الأعراف
في السببية وأنها من الطبيعة ؟ لا
{ وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللّهِ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ } 68 القصص
{ أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ، وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لّعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ، وَجَعَلْنَا السّمَآءَ سَقْفاً مّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ، وَهُوَ الّذِي خَلَقَ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } 30 – 33 الأنبياء
{قَالَتْ رَبّ أَنّىَ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } 47 آل عمران
{ إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } 59 آل عمران
على طريق العناية { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنّا جَعَلْنَا الْلّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنّهَارَ مُبْصِراً إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } 86 النمل
{ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لّعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ } 9 - 14 الزخرف(/8)
{ اللّهُ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنّهَارَ مُبْصِراً إِنّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } 61 -واستكمل إلى64 غافر
{ إِنّا زَيّنّا السّمَآءَ الدّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ، وَحِفْظاً مّن كُلّ شَيْطَانٍ مّارِدٍ} 6 - 7 الصافات
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ، وَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الأرْضِ وَإِنّا عَلَىَ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ، } 16 - واستكمل إلى22 المؤمنون
وهو الله صاحب الشأن : { وَهُوَ الّذِي يُنَزّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيّ الْحَمِيدُ، } 28 - 33 الشورى
بسط الرزق ولكن بقدر ما يشاء : { وَلَوْ بَسَطَ اللّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرْضِ وَلََكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مّا يَشَآءُ إِنّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ) 27 الشورى
هو الذي يصل بيننا وبين الطبيعة { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنّا فَضْلاً يَاجِبَالُ أَوّبِي مَعَهُ وَالطّيْرَ وَأَلَنّا لَهُ الْحَدِيدَ } 10 سبأ
{ أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ثُمّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزّلُ مِنَ السّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ، يُقَلّبُ اللّهُ اللّيْلَ وَالنّهَارَ إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لاُوْلِي الأبْصَارِ} 43 - 44 النور
هو الذي وضع الصلة الكونية والحيوية بين الكائنات المختلفة
{ تُسَبّحُ لَهُ السّمَاوَاتُ السّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلََكِن لاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } 44 الإسراء
{ثُمّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدّ قَسْوَةً وَإِنّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَشّقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ} 74 البقرة
{ وَمَا مِن دَآبّةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمّ إِلَىَ رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ } 38 الأنعام
{ فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هََذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ } 31 المائدة
نتناول من الطبيعة في حدود ما أذن الله :
{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الاُخْتِ وَأُمّهَاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مّنَ الرّضَاعَةِ وَأُمّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مّن نّسَآئِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ فَإِن لّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَآءِ إِلاّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلّ لَكُمْ مّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً، وَمَن لّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنّ وَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ، يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } 25 - 26 النساء(/9)
{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدّيَةُ وَالنّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السّبُعُ إِلاّ مَا ذَكّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ } 3 - 5 المائدة
{ وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} 27 النساء
وهو هو القاهر الحافظ المنجي المنعم :
{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتّىَ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يفرطون } 61 الأنعام
{ قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرّعاً وَخُفْيَةً لّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هََذِهِ لَنَكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ، قُلِ اللّهُ يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ ثُمّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ، قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىَ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الاَيَاتِ لَعَلّهُمْ يَفْقَهُونَ ، وَكَذّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقّ قُل لّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } 63 - 66 الأنعام
{ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } 22 البقرة
أما أن يقوم هذا الحصن بدوره ذاك فشرطه أن يلجأ إليه من يريد أن يتحصن .
وتلك مسألة مشروطة باليأس من كل ما عداه .
وهو يأس مشروط بالفشل في كل ما عداه .
وهو فشل مشروط بشدة البلاء مع كل ما عداه .
وهذه سنة الله ، وهي سنة تجري بين أعيننا وأسماعنا ، ورؤيتنا لها مشروطة بأن نرى وأن نسمع . وقبل ذلك أن نستحيي .
وكما جاء في إحياء علوم الدين للغزالي : على لسان ما قيل إنه جاء في التوراة ( يا عبدي أما تستحيي مني ، يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في الطريق تمشي فتعدل عن الطريق ، وتقعد لأجله وتقرؤه وتتدبره حرفا حرفا وهذا كتابي أنزلته إليك : أنظر كم فصلت لك فيه من القول ، وكم كررت عليك فيه لتتأمل طوله وعرضه ؟ ثم أنت معرض عنه ؟ أفكنت أهون عليك من بعض إخوانك ؟ يا عبدي يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكل وجهك ، وتصغي إلى حديثه بكل قلبك ، فإن تكلم متكلم أو شغلك شاغل عن حديثه أومأت إليه أن كف ، وهأنذا مقبل عليك ومحدث لك ، وأنت تعرض بقلبك عني ، أفجعلتني أهون عليك من بعض إخوانك ؟ ) [1]
أد : يحيى هاشم حسن فرغل ،
yehia_hashem@ hotmail .com
المقالة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد الأستاذ عامر عبد المنعم مدير تحرير جريدة الشعب الغراء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
فشكرا على نشركم مقالي السابق.وأتشرف بأن أرسل مرفقا بهذا المقالة الثانية بعنوان ( السنة كلها تشريع ) رجاء التفضل بنشرها إن رأيتم ذلك ، وأ رجو التكرم بإفادتي بوصولها .
.ولك مني عظيم الشكر والتقدير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تحريرا في 28\ 10 \2003 أد : يحيى هاشم حسن فرغل
من علماء الأزهر
عميد كلية أصول الدين بالأزهر سابقا ،
yehia_hashem@ hotmail .com
السنة كلها تشريع
أد : يحيى هاشم حسن فرغل
yehia_hashem@ hotmail .com
موضوع السنة من الموضوعات القديمة الجديدة التي يحوم حولها أعداء الإسلام قديما ، وحديثا : يحاولون أن ينفذوا منها إلى هدم الشريعة ثم هدم الإسلام برمته ، والمقصود بالسنة هنا أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته
وهي تتضمن الأحكام الشرعية الخمسة من الفرضية مثل صوم رمضان ، أو الوجوب مثل صلاة الوتر عند الحنفية ، ومن السنية أو الندب أوالاستحباب مثل صوم ست من شعبان ، ومن التحريم مثل أكل الربا ، ومن الكراهية التحريمية أو التنزيهية مثل أكل الثوم عند صلاة الجمعة ، ومن الإباحة مثل البيع والشراء .
منذ زمن طويل أطلت برأسها فتنة الاكتفاء بالقرآن الكريم : قال رجل لعمران بن حصين لا تتحدث معنا إلا بالقرآن فقال له عمران : إنك لأحمق ، هل في القرآن بيان عدد ركعات الفرائض أو اجهروا في كذا دون كذا ؟ فقال الرجل لا ، فأفحم الرجل .(/10)
وروى البيهقي أيضا في باب صلاة المسافر من سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنه سئل عن قصر الصلاة في السفر وقيل له : إنا لنجد في الكتاب العزيز صلاة الخوف ولا نجد صلاة السفر فقال للسائل : يا أخي : إن الله تعالى أرسل إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا ، وإنما نفعل ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ، قصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ) [2]
واليوم فإن من أظهر ما يدل على مدى التمزق والحيرة التي أصابت الساحة الثقافية – بفضل حركة التنوير - هو ما عليه المسلمون اليوم بالنسبة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم
وهم اليوم أربعة أصناف متناحرة .
صنف يتطرف برفض السنة كلها وهؤلاء خارجون عن الملة بالكلية
وصنف يأخذون بها جميعا ولكنه يتطرف فلا يفرق بين ما هو فرض ومندوب ، وحرام ومكروه من الأحكام الخمسة .
وصنف يزعم أن فيها ما هو للتشريع فيأخذ به وما ليس في التشريع فلا يأخذ به .
وصنف يأخذ بالسنة كلها وأنها كلها تشريع يتفاوت حكمه بين الفرض والمندوب والتحريم والكراهة والإباحة .
أما الصنف الأول الذي يزعم أنه يكتفي بالقرآن ولا يتقيد بالسنة فأمره واضح بين ، إذ هو لا يلتزم بالسنة ولا بالقرآن معا ، لأنه لوا التزم بالقرآن لالتزم بالسنة نزولا عند قوله تعالى :
{ مَنْ يُطِعِ الرَّسولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفيظاً } 80 النساء
[65] {فَلا وَرَبِّكَ لا يؤْمِنونَ حَتّى يُحَكِّموكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّموا تَسْليماً }
{ وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلّا وَحْيٌ يوحى } النجم 3 – 4
وفي سنن ابي داود بسنده عنِ المِقْدَامِ بنِ مَعْدِ يكَرِبَ عنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أنّهُ قالَ: «ألاَ إنّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ألاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرّمُوهُ. ألاَ لاَ يَحِلّ لَكُم الْحِمَارُ الأهْلِيّ وَلاَ كُلّ ذِي نَابٍ مِنَ السّبُعٍ وَلاَ لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ إلاّ أنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أنْ يَقْرُوهُ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أنْ يَعْقُبَهُمْ بِمِثْلَ قِرَاهُ».
هؤلاء أمرهم بين ، ينتسبون إلى الإسلام زورا وبهتانا .
يقول الإمام الشعراني : ( سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول : لولا أن السنة بينت لنا ما أجمل في القرآن ما قدر أحد أن يستخرج أحكام المياه والطهارة ، ولا عرف كيف يكون الصبح ركعتين والظهر والعصر والعشاء أربعا ، ولا كون المغرب ثلاثا ، ولا كان أحد يعرف ما يقال في دعاء التوجه والافتتاح ، ولا عرف صفة التكبير ، ولا أذكار الركوع والسجود ، والاعتدالين ، ولا ما يقال في جلوس التشهدين ولا كان يعرف كيفية صلاة العيدين والكسوفين ، ولا غيرهما من الصلوات كصلاة الجنازة ، والاستسقاء ، ولا كان يعرف الزكاة ولا أركان الصيام والحج ، والبيع والنكاح والجراح والأقضية وسائر أبواب الفقه . )
الصنف الثاني : وهو من يذهب إلى الطرف الآخر من القضية في أقصاه ، فيلتزم بالسنة التي هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته ، ولكنه لا يفرق فيها بين الأحكام الشرعية الخمسة التي قدمناها فيخلط بين الفرض والمندوب ، فيراه فرضا كله والمكروه والمحرم فيراه محرما كله ، ويدخل المباح تارة هنا وتارة هناك
فهؤلاء - مثلا – يستمعون إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في لعق الأصابع عند الأكل فيأخذون بذلك في جميع الأحوال كأنه فرض .
ويستمعون إلى سنته صلى الله عليه وسلم في التوضؤ بحفنة من الماء فيأخذون بذلك في جميع الأحوال كأنه فرض كذلك .
لابد من النظر في ضوء أصول الفقه في تحديد معنى الأمر ومعنى النهي ومعنى الوجوب ومعنى الإباحة إلخ .
وفي ضوء أسباب الواقعة ، التي تفسر معناها ولا تحبسه.
يقول أستاذنا الدكتور موسى شاهين لاشين في بحثه القيم الذي اعتمدنا عليه في هذه المقال :
نعم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد أي بحفنة من الماء ، وكان يغتسل بأربع حفنات فهذا تشريع ولكنه ليس للوجوب بالذات ، وإنما هو يدور بين الوجوب والندب والإباحة بحسب الظروف ، والملابسات . ولو عاش صلى الله عليه وسلم على ضفاف نهر مثلا لتوضأ بأكثر من حفنة ماء ، ولاغتسل بأكثر من أربع حفنات .
وكان صلى الله عليه وسلم يعد سلاحه لملاقاة الأعداء بالسيف والرمح والنبل ، فهذا تشريع ولكنه ليس للوجوب بالذات ، ولكنه يدور بين أحكام الشريعة الخمس ، بحسب الملابسات ، ولو عاش في زماننا لما قصر صلى الله عليه وسلم عن الإعداد بأقصى مظاهر القوة العسكرية الحديثة .(/11)
إن بعض مشكلات الإسلام اليوم هي في بعض أهله ممن يفرِّطون ، أو يفرُطون ، فليس من الإسلام في شيء ما نسمع عنه اليوم من أن بعض الدعاة يذهب إلى أوربا أو أمريكا ليدعو إلى الإسلام فيأكل على الأرض ، وبالأصابع ، فالحق أن هذا تنفير من الإسلام وليس دعوة إليه ولا فهما له .
إن مشكلة الإسلام مع هؤلاء في أنهم يدخلون جميع أفعاله صلى الله عليه وسلم في باب الوجوب أو الإلزام ، بينما هي قد تكون من التشريع بالندب ، أو من التشريع بالإباحة ، أو غير ذلك من أحكام التشريع .
والصنفان السابقان – من يرفضون السنة جملة وتفصيلا ، ومن ياخذون بها دون تفرقة بين الأحكام الشرعية الخمسة - أمرهما هين في كشف خطرهما أو انحرافهما ، فالأول الذي ينكر السنة في باب التشريع إجمالا ، كافر غير مسلم ، والثاني الذي لا يميز فيها بين الفرض والمندوب والمحرم والمكروه والمباح أمره خطير ولكنه أقل خطرا من أولئكم .فهم مسلمون متشددون فيما لا موضع للتشديد فيه ، ويمكن كشف خطرهما بشيء من الفقه والتعليم .
وهناك صنف ثالث برز في العقود الأخيرة يزعم أن منها ما هو للتشريع فيؤخذ به ، ومنها ما هو لغير التشريع فلا يؤخذ به ، وهذه مقولة بالغة الخطر ، وخطرها من نعومتها وشدة التلبيس فيها .
يقول الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين ردا على هؤلاء مبينا أن السنة كلها تشريع : ( ولم يخالف في ذلك أحد من علماء المسلمين طوال أربعة عشر قرنا ) حتى كان النصف الثاني للقرن الرابع عشر للهجرة ، فكان أول من قسم السنة إلى تشريع وغير تشريع فضيلة الشيخ محمود شلتوت في كتابه " الإسلام عقيدة وشريعة "
يذهب الشيخ شلتوت : إلى أن ما ورد من أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته قد يأتي بعضه : على ما سبيله سبيل الحاجة البشرية كالأكل والشرب والمشي والتزاور والمصالحة بين شخصين. وما سبيله التجارب والعادة الشخصية ، أو الاجتماعية كالذي ورد في شئون الزراعة والطب وطول اللباس أو قصره . وما سبيله التدبير الإنساني في ظروف خاصة كتوزيع الجيوش على المواقع الحربية . وكل هذه الأنواع ليس شرعا يتعلق به طلب الفعل أو تركه ، وإنما هو من الشئون البشرية التي ليس مسلك الرسول فيها صلى الله عليه وسلم " تشريعا ولا مصدر تشريع "
ويقول الشيخ موسى شاهين لاشين : وعن الشيخ شلتوت أخذ كثير من المعاصرين فيما كتبوه عن السنة وتقسيمها إلى تشريعية وغير تشريعية . والذين ساروا في ركاب الشيخ شلتوت هم حتى اليوم لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة .وهؤلاء بحسن نية في بعض الأحيان يفتحون في الشريعة الإسلامية ثغرة يحسبونها هينة وهي منفذ خطير لأعداء الشريعة الإسلامية .
خصوصا وأن القضية بدأت أولا : بإخراج ما سبيله الحاجة البشرية كالأكل والشرب من التشريع ، ثم انتهت إلى إخراج كل ما يتعلق بالمعاملات التي لم ترد في القرآن الكريم ، فيذهبون إلى أن المعاملات في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست خاضعة للتشريع ، وإنما هي صادرة عن اجتهادات بشرية يجوز لمن يأتي بعده أن يجتهد مثله ، وأن يخالفه في أفعاله وتقريراته وأفعاله وبخاصة ما جاء منها في المعاملات التي لم ترد في القرآن الكريم ( ولو أدى اجتهاده إلى غير ما قرره الرسول صلى الله عليه وسلم باجتهاده ) وفقا لعبارة الدكتور عبد المنعم النمر في كتابه " السنة والتشريع ص 46 " ويحصر السنة التشريعية في دائرة ضيقة بقوله : ( نسارع فنقرر أن كل ما صدر عن الرسول من شئون الدين والعقيدة والعبادة والحلال والحرام والعقوبات والأخلاق والآداب لا شأن لنا به إلا من ناحية فهمه ) ثم يقول : ( لكن هناك أحاديث كثيرة تتصل بمعاملات الناس في الحياة من بيع وشراء ورهن وإجارة وقراض وسلم ) كل ذلك لا يراه من التشريع وإن جاء في السنة ، ثم يقرر أن المعاملات تخضع في الإسلام أولا وأخيرا لمبدأ المصلحة . وعلى هذا النحو جاءت كتابات العلمانيين من نحو نور فرحات ، ومحمد خلف الله أحمد ، وحسين أحمد [3]
وهو لم يكتف بما اكتفى به الشيخ شلتوت من إخراج ما سبيله الحاجة البشرية كالأكل والشرب ، وإنما أخرج المعاملات جميعا ، ولم يفرق في ذلك بين واجب ومندوب ، أو مباح ومحرم ، أو مكروه ، وحكم على ما يقرب من نصف السنة بأنه ليس من التشريع .
ومن الواضح ما يمثله هذا التوجه من خطر على الشريعة الإسلامية : ينسفها أولا في المعاملات ، ويبقيها في العبادات ليجهز بعد ذلك على المعاملات والعبادات جميعا .
وهذه هي الغاية التي تنتهي إليها العلمانية في أقصى حالاتها .
وهؤلاء يأتي الرد عليهم بعد نبذة سريعة عن الصنف الرابع
الصنف الرابع : وهم المسلمون منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قريب من عهدنا الحاضر ، فهؤلاء يؤمنون بأن السنة كلها تشريع : إيمانا بما جاء عن ذلك في القرآن الكريم :(/12)
{ وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسولٍ إِلّا ليُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَموا أَنْفُسَهُمْ جاءوكَ فاسْتَغْفَروا اللَّهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسولُ لَوَجَدوا اللَّهَ تَوّاباً رَحيماً } 64 النساء
{ وَما آتاكُمُ الرَّسولُ فَخُذوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهوا واتَّقوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَديدُ الْعِقابِ } 7 الحشر
{ وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضى اللَّهُ وَرَسولُهُ أَمْراً أَنْ يَكونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبيناً } 36 الأحزاب
{ وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلّا وَحْيٌ يوحى } النجم 3 – 4
يقول الأستاذ الدكتور عبد الغني عبد الخالق : ( كل ما تلفظ به رسول الله صلى الله عليه وسلم – ما عدا القرآن – أو ظهر منه من ابتداء رسالته إلى نهاية حياته فهو من سنته ، سواء ما أثبت حكما عاما لسائر أفراد الأمة ، وهذا هو الأصل ، أو ما أثبت حكما خاصا به أو ببعض أصحابه ، وسواء أكان فعله جبليا أم كان غير جبلي ، من قول أو فعل يصدر عنه إلا ويثبت حكما شرعيا ، بقطع النظر عن كونه إيجابا أو ندبا أو تحريما أو كراهة أو إباحة .
يقول ابن تيمية رحمه الله : ( كل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم – بعد النبوة – أو أقرعليه أو فعله ولم ينسخ فهو تشريع . والتشريع يتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة ، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب ، فإنه يتضمن إباحة الدواء ، والانتفاع به فهو شرع لإباحته ، وقد يكون شرعا لاستحبابه ، والمقصود أن جميع أقواله يستفاد منه شرع .
لقد ذهب جمهور الأصوليين إلى أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدل – على الأقل – على الإذن به ، مطلق الإذن الذي يشمل الوجوب والندب والإباحة ، ما لم يوجد دليل على تعيين واحد منها
وقال بعضهم : يفيد الوجوب ما لم توجد قرينة مانعة منه .
وقال بعضهم يفيد الاستحباب ما لم توجد قرينة مبينة للوجوب
ومن ذلك يتبين الإجماع على كونه تشريعا .
إن أظهر ما يستدل به القائلون بأن بعض السنة ليس تشريعا هو ما يذكرونه في باب الأكل والشرب
يقولون : إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكل والشرب هي من باب الجبلة أو العادة والتجربة . فهي ليست تشريعا . وهو كلام منمق يتبين بطلانه بعد الفحص والنظر . فإذا ظهر بطلان دعواهم فيما جاء عن الأكل والشرب ظهر بطلان دعواهم في القضية كلها . وتبين رسوخ ما عليه جماعة المسلمين من كون السنة كلها تشريعا .
لقد حرم الله الميتة ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحر( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) فمن الذي أحل السمك الميت – وها نحن في قلب مسألة الأكل والشرب – ؟ أليس هذا تشريعا ؟
كيف يكون ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الأكل والشرب صلى الله عليه وسلم في الأكل والشرب ليس تشريعا مع أن الله سبحانه وتعالى يقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم ( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) 157 الأعراف ، أليس فعله صلى الله عليه وسلم أو قوله أو تقريره يعطي حكما شرعيا أقله رفع الحرج عن فعله ؟ أكله صلى الله عليه وسلم للقثاء بالرطب ألا يفيد هذا إباحة هذا الفعل ؟ أو لا يفيد ؟ ألا يفيد هذا جواز الجمع بين لونين من الطعام ؟ أو لا يفيد ؟ وإليكم طائفة مما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الأكل والشرب ، بعضها واجب وبعضها مندوب :
فعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال : ( كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا غلام سم الله وكل بيمينك ، وكل مما يليك ) كيف لا يكون هذا تشريعا يدخل في أحد الأحكام الخمسة ؟
وفي ذم الشره والتنفير من الجشع في الأكل يقول صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء ) أخرجه البخاري ، كيف لا يكون هذا تشريعا يدخل في أحد الأحكام الخمسة ؟
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن " الكرع " وهو الشرب منكفئا على الإناء وتناول الشراب بالفم كما تشرب البهائم ، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا بها " أخرجه ابن ماجة ، أليس هذا تشريعا يدخل في أحد الأحكام الخمسة ؟
ونهى صلى الله عليه وسلم عن اختنات الأسقية – أي الشرب من الإناء الكبير – منعا من توارد الأفواه على المكان الواحد في الإناء ، فعن عائشة رضي الله عنها ( نهى صلى الله عليه وسلم أن يشرب من في السقاء – أي فم السقاء – لأن ذلك ينتنه ) أخرجه الحاكم بسند قوي ، أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة ؟
ونهى صلى الله عليه وسلم عن التنفس في الإناء عند الشرب فقال : " إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الماء " أخرجه البخاري . أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة ؟(/13)
ونهى صلى الله عليه وسلم عن النفخ في الشراب عند الشرب فقال رجل : القذاة أراها في الإناء ؟ قال : اهرقها . قال : فإني لا أروى من نفس واحد ؟ قال : فأبن القدح إذن عن فيك ) أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح . أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة ؟
ونهى صلى الله عليه وسلم عن الشرب في آنية الذهب والفضة . أخرجه البخاري أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة ؟
وأمر صلى الله عليه وسلم بتغطية أواني الطعام والشراب فقال : ( أطفئوا المصابيح إذا رقدتم وغلقوا الأبواب ، وأوكوا الأسقية ، وخمروا الأطعمة والشراب ) أي غطوها . أخرجه البخاري ، أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة ؟
ونهى صلى الله عليه وسلم عن الأكل من وسط الإناء فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " البركة تنزل وسط الطعام فكلوا من حافته ، ولا تأكلوا من وسطه " أخرجه الترمذي وقال : حسن صحيح . أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة ؟
ورغب صلى الله عليه وسلم في المواساة بالطعام والمشاركة فيه والاجتماع عليه فقال : ( طعام الواحد يكفي الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي الأربعة ، وطعام الأربعة يكفي الثمانية ) أخرجه مسلم أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة ؟
وحفاظا منه صلى الله عليه وسلم على أحاسيس الآخرين نجده صلى الله عليه وسلم : ما عاب طعاما قط ، كان إذا اشتهى شيئا أكله وإن كرهه تركه ) أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة ؟ وقد اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا – في المسجد – لا يدخل عليهن بيوتهن – أخرجه البخاري أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة ؟
ولم يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة له ولا خادما قط – أخرجه أحمد - أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة ؟
وكان صلى الله عليه وسلم يتوضأ بحفنة من الماء وغيره يتوضأ بعشر حفنات – أخرجه البخاري أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة ؟
وكان صلى الله عليه وسلم يصلي في الليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة – أخرجه البخاري - أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة ؟
وكان صلى الله عليه وسلم يصوم في السفر وبعض أصحابه يفطر ، وكان يفطر وبعض أصحابه يصوم ، كما أخرجه البخاري أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة ؟
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتلحي في العمة – أي بتطويقها تحت الحنك – كما ذكره ابن قتيبة ، أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة ؟
وقد يحزن صلى الله عليه وسلم فيأتي في حزنه بما لا يعتبر واجبا ولكنه يعتبر تشريعا بالإباحة كالبكاء ودمع العينين
وقد يضحك فيأتي في ضحكه بما يعتبر تشريعا بالتبسم صلى الله عليه وسلم ،أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة ؟
وقد يعبس صلى الله عليه وسلم أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة ؟
وقد يغضب صلى الله عليه وسلم فيأتي في غضبه بما يعتبر تشريعا بأحد الأحكام الخمسة ؟
وقد ينسى صلى الله عليه وسلم فيأتي بعد نسيانه بما يعتبر تشريعا بأحد الأحكام الخمسة ؟
وإن ما يجري في الأكل والشرب يجري مثله في الأفعال الجبلية أو العادية الأخرى له صلى الله عليه وسلم كاللباس فلبسه صلى الله عليه وسلم للإزار ، والرداء ، والجبة الشامية ، والقميص ، والبرنس ، والسراويل والعمامة ، وتقنع ، ، وعصب رأسه بخرقة فوق العمامة ، ولبس على رأسه المغفر ، والعمامة السوداء ، والبردة النجرانية ، والحبرة ، والبردة اليمانية والشملة إلخ أفلا يعتبر ذلك تشريعا بأحد الأحكام الخمسة ؟
وكان الصحابة رضي الله عنهم يؤمنون بذلك : أي بأن أفعاله تشريع : لبس نعله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فلبسوا نعالهم ، فلما خلع نعله – لسبب لا يعلمونه – خلعوا نعالهم
ولما رأوه صلى الله عليه وسلم يمتنع عن أكل الثوم امتنعوا حتى أباح لهم
ولما رأوه صلى الله عليه وسلم يمتنع عن أكل الضب – لسبب لا يعلمونه أيضا – أوشكوا أن يمتنعوا حتى أباح لهم .
وكانوا في الأفعال الجبلية يقضون حاجاتهم جماعات يرى بعضهم بعضا ويكلم بعضهم بعضا ، فعلمهم التواري والتستر وعدم الكلام ، وكان بعضهم يبول قائما فعلمهم الجلوس . أخرجه النسائي وابن ماجة .
وإذا كان بعض الصحابة لم يصبغوا شيبتهم – مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى ذلك – مخالفة لليهود والنصارى – فليس معنى هذا أن سنته صلى الله عليه وسلم في ذلك ليست تشريعا بالمعنى العام ، ولكن معناه أنه ليس تشريعا بالوجوب ، ويظل بعد ذلك داخلا في التشريع بالندب أو التشريع بالإباحة
أليس إذا اختلف أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في فعل من الأفعال أنه محظور أو مباح ثم نقل الناقل في موضوع اختلافهم فعلا للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا يدل ذلك على حسم الخلاف ؟
وكانوا لا يؤاكلون الحائض ولا يأكلون مما عملت يداها ولا يخالطونها ولا يلامسونها فكان هو صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك كله – كما أخرجه مسلم – تشريعا بالإباحة ؟
أليست الإباحة من أقسام الحكم الشرعي :(/14)
طبقا لتعريف الحكم الشرعي كما عرفه الأصوليون من أهل السنة بأنه خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا فإن الإباحة حكم شرعي ، وهو على كل حال شيء والحرية شيء آخر ، ومن الخطأ الاستدلال به على قيمة الحرية في اٌلإسلام كما وجدنا في مناقشة هذا الموضوع في حلقة الشريعة والحياة بقناة الجزيرة في 11\10\2003
المباح كما عرفه الآمدي : ما دل الدليل السمعي على خطاب الشارع بالتخيير فيه بين الفعل والترك ، فهو إذن تشريع ، وهو كما عرفه الجويني : ما خير الشارع فيه بين الفعل والترك من غير اقتضاء ولا زجر ولا حكم عقلي قبل ورود الشرع ، فالإباحة حكم شرعي لم يخالف في ذلك إلا بعض المعتزلة
والمراد بالاقتضاء الطلب سواء كان طلبا بالإيجاب ، أو بالندب ، أو بالتحريم أو بالكراهة
والمراد بالتخيير ما كان تخييرا بين فعل الشيء أو تركه دون ترجيح لأحد الجانبين على الآخر ، والذي يترتب على هذا هو الإباحة ، فيصير المكلف مخيرا بين الفعل والترك ويسمى الفعل مباحا
وقد أطلق بعض الأصوليين اسم الحكم التكليفي على الحكم التخييري – كما هو على الحكم الاقتضائي – ويرجع ذلك فيما يرى الأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور إلى عدة اعتبارات من بينها : أن المكلف ملزم باعتقاد إباحته ، ولأنه يرد بأسلوب الأمر أحيانا كما في نحو قوله تعالى (كلوا واشربوا ) ( ,إذا حللتم فاصطادوا ) وربما يرجع الأمر في هذا إلى ما ذهب إليه الأستاذ الدكتور موسى شاهين لا شين من أن بعض أحكام الإباحة واجبة التناول في أصلها كالأكل والشرب لا يجوز الامتناع عنه بإطلاق ، ويرى الكعبي من الأصوليين أن المباح مطلوب ، بل واجب ، بناء على أنه به يحصل ترك الحرام ، وما يحصل به ترك الحرام فهو واجب .
ومن المعتزلة من ينفي أن الإباحة من الأحكام الشرعية - كما نقل عنهم الغزالي في المستصفى - إذ معنى المباح رفع الحرج عن الفعل والترك وذلك ثابت بالعقل قبل السمع ، وقد ناقشهم الغزالي بما يثبت كون الإباحة داخلة في أحكام الشرع باعتبار أو آخر . وموقفنا في هذا المقال يركن إلى عدم الدخول في هذا الخلاف ، لأن كلامنا في أن السنة كلها تشريع يتجه إلى ما جاء بالسنة لا إلى ما لم يأت بها ، وهذا الأخير ما نترك التوسع فيه للأصوليين . ومن هنا فإنه كما يرى الأستاذ الدكتور موسى شاهين لا شين في بحثه القيم في صميم هذا الموضوع [4]: لا خلاف لنا هنا مع المعتزلة فيما جاء من الإباحة على الأصل المعقول قبل مجيء الشرع ، وكلامنا فيما جاء فيه نص أو سنة ، فهو مما اجتمع عليه الدليلان العقلي والنقلي معا
إن الإباحة تعني تكليفا وتشريعا لا بأحد المباحات دون غيره ، ولكنه تكليف بالتحرك في دائرته ، يقول الإمام الشاطبي ( المباح وإن كان ظاهره الدخول تحت اختيار المكلف لكنه إنما دخل بإدخال الشارع له تحت اختياره ) أي إنه إنما كان مباحا بحكم الشارع لا بحكم المكلف .
وأليس المباح عندما يتناوله المسلم كما تناوله الرسول صلى الله عليه وسلم بنية الاقتداء به ومحبته ألا يعتبر عندئذ داخلا في حكم التشريع بالندب والاستحباب
وأليس المباح الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يظن البعض كالاكتحال وصبغ الشعر وتضفيره أفاد تشريعا بالإباحة لولاه لاجتهد مجتهدون بالتحريم أو الكراهة ؟
وأليس تناول المباح موجبا للأجر إذا تناوله المسلم باعتباره مما أباحه الشارع ، أو باعتباره مساعدا على البعد عن الحرام ؟ إذن فهو تشريع ، وهذا مقتضى قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم بسنده عَنْ أَبِي ذَرَ أَنّ نَاساً مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لِلنّبِيّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدّثُورِ بِالأُجُورِ. يُصَلّونَ كَمَا نُصَلّي. وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ. وَيَتَصَدّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ: «أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللّهِ لَكُمْ مَا تَصّدّقُونَ؟ إِنّ بِكُلّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً. وَكُلّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ. وَكُلّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ. وَكُلّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ. وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ. وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ. وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ».
والمباح نفسه ألا يعني التكليف بوجه من الوجوه :
فالأكل والشرب واجب في أصله وجملته ، يحرم الامتناع عنه مدة تعرض النفس للهلاك ، والاختيار إنما هو في المأكول والبدائل والملابسات فيه .(/15)
واللباس واجب في أصله يحرم التجرد منه نهائيا ، والاختيار إنما هو في بدائل الملبوس وملابساته { يا بَني آدَمَ خُذوا زينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلوا واشْرَبوا وَلا تُسْرِفوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفينَ ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هيَ لِلَّذينَ آمَنوا في الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمونَ } 31 - 32 الأعراف .
أما إذا كان المقصود بأن بعض أفعاله صلى الله عليه وسلم ليست تشريعا يعني أنها غير ملزمة أي غير واجبة فهذا صحيح بشروطه ، ولا خلاف عليه إجمالا ، لكنه لا يعني أنه لا يفيد حكما شرعيا على الإطلاق سواء بالوجوب أو بالندب أو بالكراهة إلخ ، فهذا باب خطير من أبواب اختراق الشريعة الإسلامية بالاجتهاد المغلوط .
وكما يقول أستاذنا الدكتور موسى شاهين لاشين : ( إن باب الشر المغلق إذا كسر غلقه لم يؤمن انفتاحه على مصراعيه ، ومعظم النار من مستصغر الشرر ، وسلب التشريع عن عشرة من أفعاله صلى الله عليه وسلم يتيح الفرصة لآخرين : تسلبها عن عشرين ، ثم عن مائة ، ثم عن المعاملات كلها ، ثم عن الشريعة كلها .) جزاه الله خيرا
[1] \ إحياء علوم الدين ج 1 ص 245
[2] \ الميزان للشعراني ج1 ص 49
[3] \ أنظر بحث الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين السابق ص 33
[4] \ بحث بعنوان " السنة كلها تشريع " بمجلة كلية الشريعة بجامعة قطر العدد العاشر(/16)
القرآن روح تسري في الأرواح
بقلم : أ. د. محمد بديع
الإنسان وهو يقرأ القرآن يتغير فيه تغيراتٍ خفيةٍ داخليةٍ، كمَثَل مَن يَدخل مجالاً مغناطيسيًّا يؤثر عليه.. وهذه هي التجربة التي أجراها د. "أحمد القضاي" في ولاية (فلوريدا) بتجربة علمية تقاس بالأجهزة العلمية القياسية والبيولوجية لفسيولوجيا الأعضاء والسوائل مجموعات من المضطربين نفسيًّا والمتوترين، جُرِّبَت معهم وسائل عديدة، ومن ضِمنها سماع قرآن بانتظام، وأيضًا سماع لغة عربية بانتظام، كإحدى صور العلاج، وهم لا يتكلمون العربية ولا يعرفونها، وبالطبع لا يعرفون القرآن، فكانت نسبة نجاح علاج القرآن فيهم 97%، وأكثر من هذا يترسب في النفس علاجات لبعض الأمراض السلوكية دون أن يشعر الشَّخص نفسه أو حتى يقصد.
إنَّ تشابه آيات القرآن في ختامها أو في بداياتها أمرٌ تكرر بأكثر من صورة؛ ليكون لها لفتًا للأنظار لكل آية على حِدة، وكذلك كي تبحث عن أجزاء القصة في كل سور القرآن، فتتربى العقلية التجميعية لا التفتيتية أو التجزيئية، والعقلية التجميعية هذه عقلية ناضجة تعتبر عقلية رشيدة تتمكن عند كل قضية أو مشكلة أن تجمع أطرافها، ولا تكون ضيقة الأفق؛ فتصل إلى حلٍّ حكيمٍ شاملٍ يحقق كل النجاحات في جميع الاتجاهات.. كذلك هذا التشابه يوجد الانتباه، ويطرد الغفلة، والإنسان المنتبه المتربي على القرآن لا يسهل استدراجه من باب غفلته، وحتى لو حدث فسيجد نفسه دخل في سورة غير السورة وآيات غير الآيات، فيعود من قريب، ويتعود على الرجوع إلى الحق، وليس التمادي في الخطأ.
والعقل الذي لم يكن يعرف الأرقام تتناول سور القرآن العديد من الأرقام، وأجزاء الواحد الصحيح، وكأنه تدريب خفي على علوم الحساب؛ بل على أصول علوم الحسابات والحاسبات.
علاج قرآني لضعف العزيمة والهمة
?ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلاَ يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ? التوبة: 120-121
العلاج يكون بتصحيح المفهوم والتصور وضبط النية؛ لأن السبب الرئيسي في القعود والكسل أو الخوف والوجل من العمل الصالح، وما يترتب عليه من بعض المكروهات؛ هو الخوف من الخسارة للمكسب الدنيوي، بينما المؤمن يعلم أن الجنة حُفت بالمكاره، والنار حُفت بالشهوات والفهم الخاطئ.
ثلاث أعمدة رئيسية يدور حولها هذا الموضوع
العمود الأول:
أن المستفيد الأول من الطاعات هو أنت، والخاسر الأول من القعود عن الطاعات أو البخل بالنفقات من كل صور الإنفاق من الوقت والجهد والمال والعلم أيضًا هو أنت. وهنا إذا ترسخ في النفس هذا الدافع بمنطق المكسب والخسارة، وتغليب الحرص على ما ينفع على ما يضر وما يبقي على ما يفنى، كان هذا هو منتهى الذكاء والفطنة: "الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت"، بل بمنطق التجارة والربح والخسارة فالأعمال الصالحة هي أعلى استثمار فهمه "عثمان بن عفان" التاجر الدارس جيدًا للسوق التجارية؛ فقد باع قافلة التجارة لله- الذي يعطي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف- فأي بورصة دنيوية، وأي مشروع في الدينا يحقق سبعمائة ضعف من رأس المال.
هكذا أقحم الصحابي الجليل جميع التجار الذين جاءوا يزايدون على شراء القافلة بعد أن باع لله- عز وجل- وهذا هو "صهيب بن سنان الرومي"- الصحابي الجليل- ابن الروم، وسابق الروم كلهم إلى الإسلام، الذي حصل على ربح شهد به النبي- صلي الله عليه وسلم- عندما مدح صنيعه بالهجرة من مكة لله تاركًا ماله ابتغاء مرضاة الله، فقال له الرسول الكريم: "ربح البيع يا صهيب"، ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُّلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ?سورة الصف : 10 , ومقابلة الإفلاس والخسارة يضبط ميزانها التجارى رسول الله- صلي الله عليه وسلم- يقول للصحابة- رضوان الله عليهم-: "أتدرون من المفلس؟ إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتى وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا؛ فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضَى ما عليه أُخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار".
العمود الثاني:(/1)
?إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ? (التوبة: 120. الكتابة بقلم القدر الذي جف ورفع، وطويت الصحف التي كتب فيها، تعطي المؤمن عزة وقوة وطمأنينة إلى جنب الله: ?قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ? (التوبة: 51)، والملاحظ لنا هنا ولهم هناك؛ فكله لنا وليس علينا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، فتتلقي الأحداث كلها على أنها من رب العزة القوي القادر العليم اللطيف الخبير؛ فتطمأن إلى أن الخلق كلهم أدوات، وأنك تستر القدرة، وتأخذ الأجرة.
ومن زواية ثانية أنك لا تهرب من تكليفٍ؛ خشية أن يصيبك مكروه، فلو أن الله يعلم أن في هذا ضررك ما كلفك به، وهو يحبك وأنت تحبه: ?فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا? (النساء: 19
واعلم أنه لا يغني حذرٌ من قدر؛ بل إن الأصل في الحذر ليس القعود، ولكن أخذ الحيطة قبل التنفيذ والجد والعزم على المسارعة في الخير جمعت في كلمتين: ?خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا? (النساء: 71
العمود الأخير:
?أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ? (التوبة: 121. تأمل يا أخي هدانا الله وإياك هذه الجملة الموجزة.. ما دام الجزاء سيكون من الكريم على مستوى أحسن أعمالك؛ ألا يدفع هذا المؤمن الكيس الفطن على أن يجيد ويتقن ولو في بعض المرات؛ لكي يحاسب على هذا المستوى العالي؟ وهذه الفئة والشريحة الحسابية.. كلما حققت مستوى أفضل وأداء أكمل من أي عمل صالح، سجلت رقما قياسيًّا في أعمالك.. سيحاسبك الكريم يوم القيامة على كل أعمالك بمستوى هذه القمة التي بلغتها ولو مرة: ?وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ? (المطففين: 26)، وصدق الرسول- صلي الله عليه وسلم- الذي يدل أمته على الخير: "إذا سألتم الله فسلوه الفردوس الأعلى".
حديث "يحيى بن زكريا" عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام
روى الإمام "أحمد" في مسنده أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:
"إنَّ الله أمَرَ "يحيى بن زكريا"- عليهما السلام- بخمس كلمات أن يعمل بهنَّ، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وإنه كاد أن يبطئ بها، فقال له عيسى- عليه السلام-: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن، وتأمر بني إسرائيل أن يعلموا بهن، فإما أن تبلغهن، وإما أن أبلغهن، فقال: يا أخي، أخشى إن سبقتني أن أعذَّب أو يُخسف بي، قال: فجمع "يحيى بن زكريا" بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشرف، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن، أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، فإن مَثَل ذلك كمَثَل رجلٍ اشترى عبدًا من خالص ماله بوَرِقٍ أو ذَهَبٍ، فجعل يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيكم يسرُّه أن يكون عبده كذلك؟
وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وآمركم بالصلاة، فإن الله ينصبُ وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، وآمركم بالصيام، فإن مَثَل ذلك كمَثَلَ رجلٍ معه صُرَّة فيها مِسك في عصابةٍ كلهم يجدُ ريحَ المِسك، وإنَّ خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وآمركم بالصدقة فإن مَثَلَ ذلك كمَثَلِ رجل أسَرَه العدو، فشدوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه، وقال لهم: هل لكم أن أفدي نفسي منكم، فجعل يفدي نفسه منه بالقليل والكثير حتى فكَّ نفسه، وآمركم بذكر الله، وإنَّ مَثَلَ ذلك كمَثَلَ رجلٍ طلبه العدو سراعًا في أثره، فأتى حصنًا فتحصَّن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله".
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "وأنا آمُركُم بخمسٍ أمَرَني الله بهنَّ: الجماعة، والسمع والطاعة، والجهاد في سبيل الله، والهجرة، فإن مَن خَرج عن الجماعة قيدَ شِبرٍ فقد خَلَع رَبقةَ الإسلام مِن عُنُقه إلا أن يُراجَع، ومَن دعا بدعوى الجاهلية، فإنه من جثي جهنم"، قالوا: يا رسول الله، وإن صامَ وصلَّي، فقال: "وإن صامَ وصلَّى، وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سمَّاهم الله- عزَّ وجلَّ- المسلمين المؤمنين عباد الله" (رواه الإمام أحمد، وهو حديثٌ حسنٌ، وجاء في تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير: 1/56).(/2)
القرآن كلام الله ...
القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، ذلك أن كل نبي انقضت معجزته بموته إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فما زالت معجزته باقية محفوظة ، متمثلة في كتاب الله عز وجل ، كلام الله المنزل الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ } ( فصلت الآية : 42 ) ، وقد ذكر الله سبحانه هذه الحقيقة وهي أن القرآن كلام الله في قوله تعالى { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } (التوبة: من الآية6) وفي قوله { سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ } (الفتح: من الآية 15) ، فدلت الآيتان على أن القرآن هو كلام الله الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وأكدت السنة هذه الحقيقة أيضا : فقد روى أحمد و الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في الموسم على الناس في الموقف فيقول : ( هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي ) ، وقد أجمع المسلمون على ذلك .
وتضافرت الدلائل العقلية والحسية على تأكيد هذه الحقيقة وتأييدها :
فمن تلك الدلائل ما ثبت من عجز المشركين عن أن يأتوا بآية فضلا عن سورة فضلا عن أن يأتوا بمثله ، وهذا مع توافر هممهم لمعارضة النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته ، وتمكنهم من اللسان العربي ، الذي نزل القرآن به لفظا ونظما ، كل ذلك يدل على أن هذا الكلام ليس بكلام البشر ، وإنما هو كلام رب العالمين .
ومن الدلائل على أن القرآن كلام الله ما اشتمل عليه من الإخبار عن المغيبات ، فما أخبر عن أمر إلا وقع كفلق الصبح ،و لهذا لما هزمت الفرس الروم في بعض معاركها سجل القرآن هذه الهزيمة ، وأخبر بأن الروم سيغلبون الفرس في بضع سنين ، فوقع الأمر كما أخبر ،قال تعالى : { غُلِبَتِ الرُّومُ () فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } (الروم :2- 3)
ومن ذلك ما اشتمل عليه القرآن الكريم من الإعجاز العلمي بإخباره عن حقائق علمية ، لم تكتشف إلا بعد أربعة عشرا قرنا ، و من تلك الحقائق ما أثبته القرآن من وجود حاجز مائي يفصل بين الماء المالح والماء العذب لئلا يختلطا ، قال تعالى : { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ } (الرحمن:19-20 ) . فجاء العلم الحديث فأكد هذه الحقيقة وقررها .
ومن الأدلة أيضا على أن القرآن كلام الله ، ما يجده الإنسان في نفسه من الراحة والطمأنينة عند قراءته لكتاب الله ، وهي راحة وطمأنينة لا يجدها عند قراءة غيره من كلام البشر ، وذلك مصداقا لقول الحق سبحانه وتعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } ( الرعد:28) .
ومن الدلائل أيضا ما يحصل من الاستشفاء بالقرآن وطرد الشيطان عند تلاوته ، قال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } ( الإسراء: من الآية82) .
وفي الجملة فالأدلة على أن القرآن كلام الله أكثر من أن نحصيها في هذا المقال ، ونختم بقول الوليد بن المغيرة وكان من سادات المشركين وقد طلب منه أن يقول في القرآن قولا : فقال : " وماذا أقول ؟! فو الله ما من رجل أعلم بالأشعار مني ، ولا أعلم برجز ولا بقصيدة مني ، ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وأنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه ليعلو وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته " رواه الحاكم و البيهقي .
هذا هو القرآن كلام الله الذي أعجز البشرية جمعاء في فصاحة نظمه ، وعدالة حكمه ، وصحة خبره ، ولا يزال التحدي به قائما ، ولا يزال عجز البشرية عن مواجهة هذا التحدي قائما أيضاً ، ليظل القرآن حجة الله البالغة أمام خصومه ومنكريه .(/1)
القرآن وأميّة بن أبى الصلت أيهما أخذ من الآخر؟
د.إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
أمية بن أبى الصلت شاعر مخضرم من قبيلة ثقيف، التى كانت تسكن الطائف. وكان أبوه أيضا شاعرا، كما كانت له أخت تُسَمَّى: "الفارعة"، وبنتان وعدة أبناء بعضهم شعراء، وأخٌ اسمه "هذيل" أُسِر وقُتِل مشركا فى حصار الطائف. وهو من الحنفاء الذين ثاروا على عبادة الأصنام وآمنوا بالله الواحد واليوم الآخر، وأزعجهم التردِّى الخلقى الذى كان شائعا فى الجزيرة العربية، وتطلعوا إلى نبى يُبْعَث من بين العرب، بل إنه هو بالذات كان يرجو أن يكون ذلك النبى. وكان أمية يخالط رجال الدين ويقرأ كتبهم ويقتبس منها فى أشعاره. وكان رجل أسفار وتجارة، كما كان يمدح بعض كبار القوم كعبد الله بن جدعان وينال عطاياهم وينادمهم على الخمر، وإن قيل إنه قد حرَّمها بعد ذلك على نفسه. وتُجْمِع المصادر على أنه مات كافرا حَسَدًا منه وبَغْيًا، إذ ما إن بلغه مبعث النبى محمد حتى ترك الطائف فارًّا إلى اليمن ومعه بنتاه اللتان تركهما هناك، وأخذ يجول فى أرجاء الجزيرة ما بين اليمن والبحرين ومكة والشام والمدينة والطائف. وتذكر لنا الروايات مع ذلك أنه وفد على النبى ذات مرة وهو لا يزال فى أم القرى واستمع منه إلى سورة "يس" وأبدى تصديقه به مؤكدا لمن سأله من المشركين أنه على الحق. بَيْدَ أن حقده الدفين منعه من أن يعلن دخوله فى الإسلام رسميا وبصورة نهائية رغم أنه، كما جاء فى إحدى الروايات، كان قد اعتزم أن يذهب إلى المدينة للقاء الرسول مرة أخرى وإعلان دخوله فى الدين الجديد، لكن الكفار خذّلوه وأثاروا نار حقده على محمد من خلال تذكيره بأنه قتل أقاربه فى بدر ورماهم فى القليب، فما كان منه إلا أن عاد أدراجه بعد أن شقّ هدومه وبكى وعقر ناقته مثلما يصنع الجاهليون. ثم لم يكتف بهذا، بل رثى هؤلاء القتلى وأخذ يحرض المشركين على الثأر لهم منضمًّا بذلك إلى جبهة الشرك والوثنية ضد الإسلام، وظل هكذا حتى لقى حتفه على خلاف فى السنة التى مات فيها ما بين الثانية للهجرة إلى التاسعة منها قبل فتح النبى الطائف بقليل، وهو الأرجح (شعراء النصرانية قبل الإسلام/ ط2/ دار المشرق/ بيروت/219 وما بعدها، ود. جواد على/ المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ ط2/ دار العلم للملايين/ 1978م/ 6/ 478- 500، وبهجة عبد الغفور الحديثى/ أمية بن أبى الصلت- حياته وشعره/ مطبوعات وزارة الإعلام/ بغداد/ 1975م/ 46 فصاعدا. وله تراجم فى "طبقات الشعراء"، و"الشعر والشعراء"، و"الأغانى" وغيرها).
ولأمية ديوان شعر يختلط فيه الشعر الصحيح النسبة له بالشعر المنسوب له ولغيره بالشعر الذى لا يبعث على الاطمئنان إلى أنه من نظمه، وهذا القسم الأخير هو الغالب. وأكثر شعر الديوان فى المسائل الدينية: تأمّلاً فى الكون ودلالته على ربوبية الله، ووصفًا للملائكة وعكوفهم على تسبيح ربهم والعمل على مرضاته، وإخبارًا عن اليوم الآخر وما فيه من حساب وثواب وعقاب، وحكايةً لقصص الأنبياء مع أقوامهم، إلى جانب أشعاره فى مدح عبد الله بن جدعان والفخر بنفسه وقبيلته وما إلى ذلك. ومن الشعر الدينى المنسو ب إليه ما يقترب اقترابا شديدا من القرآن الكريم معنًى ولفظًا وكأننا بإزاء شاعرٍ وَضَع القرآنَ بين يديه وجَهَدَ فى نظم آياته شعرا. ومن هذه الأشعار الشواهد التالية:
لك الحمد والنعماء والمُلْك iiربنا
مليكٌ على عرش السماء iiمهيمنٌ
مليك السماوات الشِّدَاد iiوأرضها
تسبِّحه الطير الكوامن فى iiالخفا
ومن خوف ربى سبّح الرعدُ iiحمده
من الحقد نيران العداوة بيننا
لآدم لمّا كمّل الله iiخلقه
وقال عَدُوُّ الله للكِبْر iiوالشَّقا:
فأَخْرَجَه العصيان من خير iiمنزلٍ
* * ii*
ويوم موعدهم أن يُحْشَروا iiزُمَرًا
مستوسقين مع الداعى كأنهمو
وأُبْرِزوا بصعيدٍ مستوٍ iiجُرُزٍ
وحوسبوا بالذى لم يُحْصِه iiأحدٌ
فمنهمو فَرِحُ راضٍ iiبمبعثه
يقول خُزّانها: ما كان iiعندكمو؟
قالوا: بلى، فأطعنا سادةً iiبَطِروا
قالوا: امكثوا فى عذاب الله، ما iiلكمو
فذاك محبسهم لا يبرحون iiبه
وآخرون على الأعراف قد iiطمعوا
يُسْقَوْن فيها بكأسٍ لذةٍ iiأُنُفٍ
مِزاجها سلسبيلُ ماؤها iiغَدِقٌ
وليس ذو العلم بالتقوى iiكجاهلها
فاسْتَخْبِرِ الناسَ عما أنت جاهلهُ
كأَيِّنْ خلتْ فيهمو من أمّةٍ iiظَلَمَتْ
فصدِّقوا بلقاء الله iiربِّكمو
* * ii*
قال: ربى، إنى دعوتك فى iiالفـ
إننى زاردُ الحديد على iiالنـ
لا أرى من يُعِينُنِى فى حياتى ...
... فلا شىء أعلى منك جَدًّا iiوأَمْجَدُ
لعزّته تَعْنُو الجباه iiوتسجدُ
وليس بشىء فوقنا iiيتأودُ
وإذ هى فى جو السماء iiتَصَعَّدُ
وسبّحه الأشجار والوحش iiأُبَّدُ
لأن قال ربى للملائكة: iiاسجدوا
فخَرُّوا له طوعًا سجودا iiوكدّدوا
لطينٍ على نار السموم فسوَّدوا
فذاك الذى فى سالف الدهر يحقدُ
* * ii*
يوم التغابن إذ لاينفع الحَذَرُ
رِجْل الجراد زفتْه الريح iiتنتشرُ(/1)
وأُنْزِل العرش والميزان iiوالزُّبُرُ
منهم، وفى مثل ذاك اليوم iiمُعْتبَرُ
وآخرون عَصَوْا، مأواهم iiالسَّقَرُ
ألم يكن جاءكم من ربكم iiنُذُرُ؟
وغرَّنا طولُ هذا العيشِ والعُمُرُ
إلا السلاسل والأغلال iiوالسُّعُرُ
طول المقام، وإن ضجّوا وإن صبروا
بجنةٍ حفّها الرُّمّان iiوالخُضَرُ
صفراء لا ثرقبٌ فيها ولا iiسَكَرُ
عذب المذاقة لا مِلْحٌ ولا iiكدرُ
ولا البصير كأعمى ما له iiبَصَرُ
إذا عَمِيتَ، فقد يجلو العمى iiالخبرُ
قد كان جاءهمو من قبلهم iiنُذُرُ
ولا يصُدَّنَّكم عن ذكره iiالبَطَرُ
* * ii*
ــجر، فاصْلِحْ علىَّ iiاعتمالى
ــاس دروعًا سوابغ iiالأذيالِ
غير نفسى إلا بنى iiإسْرالِ
وقد ظنت طوائف المبشرين ممن فقدوا رشدهم وحياءهم أن بمستطاعهم الإجلاب على الإسلام ورسوله وكتابه بالباطل فأخذوا يزعمون أن القرآن مسروق من شعر أمية بن أبى الصلت لهذه المشابهات. والواقع أن عددا من كبار دارسى الأدب الجاهلى، من المستشرقين قبل العرب والمسلمين، قد رَأَوْا عكس هذا الذى يزعمه المبشرون، إذ قالوا بأن هذه الأشعار التى تُنْسَب لأمية مما يتشابه مع ما ورد فى القرآن عن خلق الكون والسماوات والأرض، وعن العالم الآخر وما فيه من حساب وثواب وعقاب وجنة ونار، وعن الأنبياء السابقين وأقوامهم وما إلى ذلك، هى أشعار منحولة عليه. قال ذلك على سبيل المثال تور أندريه وبروكلمان وبراو من المستشرقين، ود. طه حسين والشيخ محمد عرفة ود.عمر فروخ ود.شوقى ضيف ود. جواد على وبهجة الحديثى من العلماء العرب، وإن كان من المستشرقين مع ذلك من يدعى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أخذ بعض قرآنه من شعر هذا المتحنّف كالمستشرق الفرنسى كليمان هوار، ومنهم من قال إن الرسول وورقة قد استمدا كلاهما من مصدر واحد.
وإلى القارئ تفصيلا بهذا: فالمستشرق الألمانى كارل بروكلمان يؤكد أن أكثر ما يُرْوَى من شعر أمية هو فى الواقع منحول عليه، ماعدا مرثيته فى قتلى المشركين ببدر، وأنه إذا كان كليمن هوار المستشرق الفرنسى قد زعم أن شعره كان مصدرا من مصادر القرآن، فإن الحق ما قال تور أندريه من أن الأشعار التى نظر إليها هوار فى اتهامه هذا إنما هى نَظْمٌ جَمَع القُصَّاصُ فيه ما استخرجه المفسرون من مواد القصص القرآنى، وأن هذه الأشعار لا بد أن تكون قد نُحِلَتْ لأمية منذ عهد مبكر لا يتجاوز القرن الأول للهجرة، فقد سماه الأصمعى: "شاعر الآخرة"، كما أراد محمد بن داود الأنطاكى أن يفتتح القسم الثانى فى الدِّينِيّات من كتابه "الزهرة" بأشعار أمية (كارل بروكلمان/ تاريخ الأدب العربى/ ترجمة د. عبد الحليم النجار/ ط4/ دار المعارف/ 1/ 113). يريد بروكلمان أن يقول: لولا أنه كان هناك شعر يدور حول الموضوعات الدينية التى ذكرناها قبلا منسوب لأمية منذ ذلك الوقت المبكر لما أطلق عليه الأصمعى هذه التسمية ولما فكر الأنطاكى أن يورد له أشعارا دينية فى كتابه المذكور. ويقول المستشرق براو كاتب مادة "أمية بن أبى الصلت" بالطبعة الأولى من "دائرة المعارف الإسلامية"، تعليقا على اتهام هوار للقرآن بأنه قد استمد بعض مواده من أشعار أمية، إن صحة القصائد المنسوبة لهذا الشاعر أمر مشكوك فيه، شأنها شأن أشعار الجاهليين بوجه عام، وإن القول بأن محمدا قد اقتبس شيئا من قصائد أمية هو زعم بعيد الاحتمال لسبب بسيط، هو أن أمية كان على معرفة أوسع بالأساطير التى نحن بصددها، كما كانت أساطيره تختلف فى تفصيلاتها عما ورد فى القرآن. ثم أضاف أنه، وإن استبعد أن يكون أمية قد اقتبس شيئا من القرآن، لا يرى ذلك أمرا مستحيلا. وهو يعلل التشابه بين أشعار أمية وما جاء فى القرآن الكريم بالقول بأنه قد انتشرت فى أيام البعثة وقبلها بقليل نزعات فكرية شبيهة بآراء الحنفاء استهوت الكثيرين من أهل المدن كمكّة والطائف، وغذّتها ونشّطتها كلٌّ من تفاسير اليهود للتوراة وأساطير المسلمين. ثم يخبرنا براو بما توصَّل إليه تور أندريه من أنه ليس فى قصائد أمية الدينية ما هو صحيح النسبة إليه، وأن هذا اللون من شعره هو من انتحال المفسرين (دائرة المعارف الإسلامية/ الترجمة العربية/ 4/ 463- 464).(/2)
وعند طه حسين أن "هذا الشعر الذى يضاف إلى أمية بن أبى الصلت وإلى غيره من المتحنفين الذين عاصروا النبى (ص) وجاؤوا قبله إنما نُحِلَ نَحْلاً. نحله المسلمون ليثبتوا أن للإسلام قُدْمَةً وسابقةً فى البلاد" (فى الأدب الجاهلى/ دار المعارف/ 1958م/ 145). ويرى الشيخ محمد عرفة أنه لو كانت هناك مشابهةٌ فعلا بين شعر أمية والقرآن الكريم لقال المشركون، الذين تحداهم الرسول بأن يأتوا بآية من مثله، إن أمية قد سبق أن قال فى شعره ما أورده هو فى القرآن زاعمًا أنه من لدن الله. لكنهم لم يقولوا هذا، بل اتهموه بأنه إنما يعلّمه عبد أعجمى فى مكة. كذلك يؤكد أن شعر أمية لا يشبه فى نسيجه شعر الجاهلية القوى المحكم، إذ هو شعر بيِّن الصنعة والضعف على غرار شعر المولَّدين. ومن هنا كان هذا الشعر المنسوب لذلك المتحنف الطائفى هو شعر منحول عليه ومنسوب زورا إليه (من تعليق الشيخ محمد عرفة على مادة "أمية بن أبى الصلت" فى "دائرة المعارف الإسلامية"/ 4/ 465).
أما د. عمر فروخ فيؤكد أن القسم الأوفر من شعر أمية قد ضاع، وأنه لم يثبت له على سبيل القطع سوى قصيدته فى رثاء قتلى بدر من المشركين. وبالمثل نراه يؤكد أن كثيرا من الشعر الدينى المنسوب لذلك الشاعر هو شعر ضعيف النسج لا رونق له (د.عمر فروخ/ تاريخ الأدب العربى/ ط5/ دار العلم للملايين/ 1948م/ 1/ 217- 218). ويرى د. شوقى ضيف أن المعانى التى يتضمنها شعر أمية مستمدة من القرآن بصورة واضحة، إلا أنه لا يرتب على ذلك أن يكون أمية قد تأثر بالقرآن، بل يؤكد أن الشعر الذى يحمل اسمه هو شعر ركيك مصنوعٌ نَظَمَه بعضُ القُصّاص والوُعّاظ فى عصور متأخرة عن الجاهلية. وردًّا على دعوى هوار بأن القرآن قد استمد بعض مادته من أشعار أمية يقول الأستاذ الدكتور إن ذلك المستشرق لا علم له بالعربية وأساليب الجاهليين، وإلا لتبين له أنها أشعار منحولةٌ بيِّنة النحل، ولما وقع فى هذا الحكم الخاطئ (د. شوقى ضيف/ العصر الجاهلى/ ط10/ دار المعارف/ 395- 396).
ويؤكد د. جواد على فى كتابه "المفصل فى تاريخ العرب" أن بعض أشعار أمية الدينية مدسوسة عليه، ومن ثَمّ لا يمكن أن يكون أميّة قد اقتبس شيئا من القرآن، وإلا لقام النبى عليه الصلاة والسلام والمسلمون بفضحه. وعلى هذا فهو أيضا يرى أن شعره الذى يوافق فيه القرآنَ إنما صُنِع بعد الإسلام صنعا لأنه ليس موجودا فى التوراة ولا فى الإنجيل ولا غيرهما من الكتب الدينية، اللهم إلا القرآن الكريم، وأن أكثره قد وُضِع فى عهد الحجاج تقربا إليه، وبخاصة أن شعره الدينى يختلف عن شعره المَدْحِىّ والرثائى وغيره، إذ يقترب من أسلوب الفقهاء والمتصوفة ونُسّاك النصارى، كما تكررت إشارات الرواة إلى أن هذا الشعر أو ذاك مما يُعْزَى له قد نُسِب لغيره من الشعراء. ثم إنه قد مدح الرسول عليه السلام، كما أن فى الشعر المنسوب له ما يدل على أنه قد آمن به، فكيف يتسق هذا مع رثائه لقتلى بدر من المشركين؟ (المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/ 491- 496). أما بهجة عبد الغفور الحديثى فإنه يقسم شعر أمية الدينى إلى قسمين: قسم يظهر عليه أثر الحنيفية وكتب اليهود والنصارى، وقسم يظهر عليه أثر القرآن. وهو يميل إلى أن يكون القسم الأول له كما يظهر من أسلوبه ومعانيه، أما الثانى فمنحول عليه بدليل ما يبدو عليه من ركاكة لغته وضعف صياغته، ومن أسلوبه المستمد من القرآن (أمية بن أبى الصلت- حياته وشعره/ 127).
وقد بحثت عن طريق المشباك (النِّتّ) فى كتب الأحاديث النبوية الشريفة عن روايات تذكر شيئا من شعر أمية فلم أجد إلا ثلاثة أبيات له فى مُسْنَد أحمد يتحدث فيها عن الشمس وعرش الله بما لم يأت شىء منه فى القرآن، وأن الرسول عليه السلام قد صدّقه فيها، وهذا نصها:
رجلٌ وثورٌ تحت رجْل iiيمينه
والشمس تطلع كل آخر iiليلة
تأبَى فلا تبدو لنا فى iiرِسْلها ... ... والنسر لليسرى، وليثٌ مُرْصَدُ
حمراءَ يصبح لونها يتورّدُ
إلا مُعَذَّبَةً وإلا تُجْلَدُ(/3)
كما جاء أيضا فى مُسْنَدَىْ ابن ماجة وأحمد أن الشريد بن الصامت قد أنشد النبىَّ ذات مرة مائة بيت من شعر أمية، وكان كلما انتهى من إنشاد بيتٍ قال النبى عليه الصلاة والسلام: "هِيهْ"، يستحثه على الاستمرار فى الإنشاد، ثم عقّب صلى الله عليه وسلم فى النهاية قائلا: "كاد أن يُسْلِم"، وفى رواية أخرى فى مسند أحمد أن النبى لم يعلّق فى نهاية الإنشاد بشىء، بل سكت فسكت الشريد بدوره. وهذا كل ماهنالك، فلم نعرف من الحديث ما هى الأبيات التى أنشدها الصحابى الكريم على مسامع رسول الله، ولا مدى مشابهتها للقرآن. على أن هاهنا نقطة لا بد من تجليتها قبل الانتقال إلى شىء آخر، إذ لا أظن الصحابى الجليل قد قصد عدد المائة تحديدا، فليس من المعقول أنه كان يعدّ الأبيات التى كان ينشدها على مسامع النبى أوّلاً بأوّل وهو يتلوها. ذلك أمر غير متخيَّل، والأرجح بل الصواب الذى لا أستطيع أن أفكر فى غيره أنه أراد الإشارة إلى أنه قد أنشد سيّدَ الأنبياء عددا غير قليل من الأبيات.(/4)
كذلك رجعتُ إلى تخريجات القصائد المشابهة للقرآن الكريم التى قام بها بهجة الحديثى فى رسالته عن أمية، فلفت انتباهى أن هذه القصائد، أو على الأقل الأبيات التى يوجد فيها ذلك التشابه، لم تَرِدْ فى أىٍّ من كتب الأدب واللغة والتاريخ والتفسير المعتبرة ككتاب "جمهرة أشعار العرب" لأبى زيد القرشى، أو "طبقات الشعراء" لابن سلام، أو "الشعر والشعراء" لابن قتيبة، أو "الأغانى" للأصفهانى، أو "تاريخ الرسل والملوك" أو "جامع البيان فى تفسير القرآن" للطبرى مثلا. بل إن كثيرا من هذه الأشعار لم تَرِدْ فى طبعة الديوان الأولى، فضلا عن أن بعضها قد نُسِب فى ذات الوقت إلى غيره من الشعراء. ونقطة أخرى مهمة جدا: لماذا لم يُثِرْ علماؤنا المتقدمون قضية التشابه بين شعر أمية والقرآن الكريم باستثناء محمد بن داود الأنطاكى، الذى كان يردّ، فيما يبدو، على من اتهم القرآن بالأخذ عن أمية بأن ذلك غير صحيح لأنه عليه السلام لا يمكن أن يستعين فى كتابه بشعر رجل أقر بنبوته وصدّق بدعوته، وأنه لو كان صحيحا رغم ذلك لسارع أمية إلى اتهام الرسول بالسرقة من شعره، وبذلك تسقط دعوته صلى الله عليه وسلم بأيسر مجهود وأقلّه؟ (الزهرة/ تحقيق د. إبراهيم السامرائى ود. نور حمود القيسى/ ط2/ مكتبة المنار/ الزرقاء/ 1406هـ- 1985م/ 2/ 503). لقد كان ابن داود الأنطاكى من أهل القرن الثالث الهجرى، فى حين أن صاحب "الأغانى" قد جاء بعده بقرن، فكيف اطمأن المتقدم وشكّ المتأخر، أو فلنقل: كيف أورد المتقدمُ الشعرَ المنسوب لأمية، بينما لم يورده الأصفهانى، الذى جاء بعده بقرن كما قلنا؟ والأحرى أن يكون الوضع بالعكس حيث يكون المتقدم أقرب زمنا إلى صاحب الشعر فيستطيع من ثم أن يحسم الحكم فى مسألة نسبة الشعر إليه، على الأقل قبل تراكم الروايات وازدياد صعوبة غربلتها وإصدار حكم بشأنها. بَيْدَ أن مثل هذا الوضع لا غرابة فيه، فعندنا مثلا ابن إسحاق وابن هشام اللذان اشتركا فى كتابة "سيرة رسول الله": تأليفًا بالنسبة لابن إسحاق، ومراجعةً وتعليقًا وتنقيةً بالنسبة لابن هشام، وجاء الأول قبل الثانى بزمن غير قصير كما هو معروف، ومع هذا لم يمنع ابنَ هشام تأخُّرُ زمنه عن النظر فى السيرة التى كتبها سَلَفُه وإجالة قلمه فيما يرى أنه لا بد من تغييره أو تصحيحه أو التعليق عليه بما يرى أنه الصواب أو الأقرب للحق، مثلما فعل عندما أنكر على ابن إسحاق مثلا إيراد أشعار لآدم وثمود والجن، بل لأفراد من قريش ذاتها ممن قال إن أهل العلم لا يعرفون لهم شعرًا أصلا أو ينكرون ما ينسب إليهم من شعر. والمسألة بَعْدُ هى مسألة اختلاف فى شخصية الباحث ما بين مطمئنٍ يقبل ما يُرْوَى له ومدقِّقٍ لا يقبل إلا بعد تمحيص وتقليب...وهكذا. ومعروف أن ابن سلام وابن قتيبة وأبا الفرج الأصفهانى هم من النقاد ومؤرخى الأدب القدماء المشهود لهم بالتمحيص والتنقيب وعدم قبول أى شىء على علاته، بينما لا يزيد ما فعله ابن داود الأنطاكى فى كتابه "الزهرة" عن جمع الأشعار وتنسيقها، إلا حين يعلّق بكلمة هنا أو هناك تدور عادةً على شرح لفظة صعبة أو تحليل جانب من جوانب عاطفة الحب التى ألف كتابه عنها. إن هذا كله من شأنه أن يعضّد القول الذى سمعنا كبار دارسى الأدب العربى من مستشرقين وعرب يرددونه من أن القصائد التى تتشابه مع القرآن من الشعر المنسوب لأمية هى فى الواقع قصائد منحولة. ولقد نبهنى هذا الاكتشاف إلى ما أحسست به عند مراجعتى لديوان أمية مؤخرا من أنى لا أستطيع أن أتذكر قراءتى لأىٍّ من هذه الأشعار فى الكتب التى أومأتُ إليها لِتَوِّى. وهذا هو السبب فى أننى قد استبدّ بى الاستغراب أثناء مطالعتى لذلك النوع من قصائد أمية حين فكرت فى الكتابة عن هذه القضية بالرغم من كثرة ما قرأت عن الرجل من قبل فى "الأغانى" و"طبقات الشعراء" و"الشعر والشعراء" مثلا، وكذلك فى كتب تاريخ الأدب العربى التى ألفها باحثون معاصرون ممن تكلموا فى هذه القضية، لكنهم لم يوردوا شيئا من الأشعار محل الخلاف والمناقشة مكتفين بالكلام النظرى فيها. وبالمثل كان الانطباع الذى شعرتُ به بمجرد قراءة تلك الأشعار هو أنها أقرب إلى النظم الذى وضع صاحبُه أمام عينيه آياتِ القرآن الكريم وأخذ يجتهد فى تضمينها ما ينظم من أبيات: فالكلام مهلهل وغير مستوٍ، وفيه فجوات يملؤها الناظم بما يكمّل البيت بأى طريقة والسلام، على عكس شعر أمية فى رثاء قتلى المشركين ببدر مثلا أو مدائحه لعبد الله بن جدعان. وغنى عن القول ألاّ وجه لمقارنة هذا الشعر بأسلوب القرآن وما يتسم به من فحولة وجلال وشدة أسر وسحر ينفذ إلى القلوب نفوذا غلابا قاهرا، وهو ما يجعل القول بتأثر شعر أمية بالقرآن لا العكس هو ما يمليه المنطق وتَهَشّ له العقول والضمائر إذا صحَّت نسبة هذه الأشعار له. ومع ذلك كله فلسوف أسلك الطريق الصعب فأفترض أن تلك الأشعار محلَّ الخلاف هى أشعار صحيحة قالها أمية فعلا، وأن الأحداث التى(/5)
رافقت نظم هذه القصائد هى بالتالى أحداث صحيحة وقعت هى أيضا.
والآن لو تتبعنا أهم الأحداث فى حياة المصطفى وأمية مما يتصل بهذه القضية فماذا نجد؟ أول كل شىء أن شاعرنا كان، كما جاء فى الروايات التى تحدثت عنه، يتوقع أن يكون هو النبى المنتظر، وأنه حين علم أن النبوة تجاوزته لم يستطع صبرا على المُقام بالطائف على مقربة من الرجل الذى كان حُكْم القدر أن ينزل عليه وحى السماء، فأخذ ابنتيه وهرب إلى اليمن. ومعنى ذلك أنه هو الذى كان مشغولا بمحمد لا العكس. وهذا أحرى أن يجعله متنبها لكل ما يتعلق بمحمد، وعلى رأسه القرآن، الذى كان يتمنى بخلع الضرس بل بِفَقْءِ العين أن يكون هو النبى الذى يتلقاه ويبلغه للناس، حرصا منه على الشهرة والسمعة والمكانة بين قومه، جاهلا فى غمرة حماقته وحسده الأسود العقيم أنه سبحانه وتعالى "أعلم حيث يجعل رسالته". ومن المنطقى جدا، كما أومأنا، القول بأنه لم يستطع أن يتجاهل الرسول رغم غيظه، بل قل: بسبب غيظه من عدم اختياره هو نبيا للعرب، وأنه كان يتصيد الآيات والسُّوَر التى تنزل على الرسول ويضعها نصب عينيه وهو يَنْظِم شعره، جَرْيًا على المثل الشعبى القائل: "إن فاتك المِيرِىّ تمرَّغْ فى ترابه". إنه "عبده مشتاق" الجاهلى، الذى يمكن أن نرى فيه رائدا لنظيره فى كاريكاتير جريدة "الأخبار" القاهرية، مع بعض التلوينات المختلفة هنا وهناك تبعا لاختلاف طبيعة الدور الذى يريد كل من هذين العبدين أن يؤديه والظروف التى يتحرك فى نطاقها! ولقد فاتته النبوة، فليضمّن نصوصَ وحيها إذن شعره، فهذا أفضل من أن "يخرج من المولد بلا حمّص"! وهو حين يصنع هذا إنما كان يجرى على عادته قبل سطوع بدر الإسلام من العكوف على الكتب الدينية السابقة والاقتباس منها فيما يَنْظِم من أشعار. فهو إذن لا يفترع طريقا جديدا حين يقتبس من القرآن، بل يستمر فى سبيله القديم. والطبع غلاب كما يقولون! ولا أدرى فى الواقع لماذا، بدلا من هذا الهروب غير المجدى من الطائف، لم يواجه محمدا ويقول له فى وجهه إنه قد سبقه فى شعره إلى ما يقوله هو فى قرآنه، وإن هذا دليل على أنه ليس نبيا حقيقيا، ومن ثم فهو أفضل منه، على الأقل من ناحية العلم والحكمة. ألم يكن هذا هو ما يقتضيه المنطق لو كان عند أمية ذلك الدليل القاهر الذى يلوّح به بعض المستشرقين ويتابعهم عليه، فى غباءٍ لا يليق بمن عنده مسكة من عقل، مبشّرو آخر الزمان، ومن خلفهم ذيول المسلمين الذين فقدوا كل معنى من معانى الكرامة والرجولة؟ ومن الواضح أن الرجل كان يحب الظهور بمظهر العالم الحكيم، هذا الوصف الذى وصفه به خطأً بعض من ترجموا له من القدماء، إذ لو كانت الحكمة من صفاته حقا لما ترك الحسدَ يطوّحه ويقلقله فى بلاد العرب جنوبا وشمالا وشرقا وغربا كراهيةَ أن يكون على مقربة من الرجل الذى آثرته السماء عليه فى مسألة النبوة (وإن ذكرتْ بعضُ الروايات، حسبما رأينا، أنه وفد عليه فى مكة واستمع إلى ما تلاه عليه من قرآن وقال كلاما طيبا فى حقه)، ولأَقْبَلَ بدلا من ذلك عليه بجْمْع قلبه وإخلاصه ما دام يرى أنه على الحق كما يشير إلى ذلك الشعر الذى يتحدث فيه، قبل البعثة النبوية، عن حاجة البلاد لنبى يأخذ بيدها فى طريق الهداية، وكذلك القصيدة التى قالها فى مدحه عليه الصلاة والسلام والدين الذى أتى به. بَيْدَ أنه، لحَِظّه التعيس، لم يحزم أمره، وظل مترددا يقترب بقلبه حينًا بعد حينٍ من الدين الجديد، لكنه سرعان ما تثور به عقارب الحقد فيبتعد عنه...إلى أن أقبل أخيرا فى نوبة قوية بعض الشىء من نوبات يقظته الخلقية والروحية ليعلن إسلامه رسميا، فوقفت قريش فى طريقه وأخبرته بأن المسلمين قتلوا عُتْبة وشَيْبة ابنى ربيعة وغيرهما من رجالات الطائف ممن كانوا يمتّون إليه بواشجة القرابة، فما كان منه إلا أن لوى عِنَان فرسه مبتعدا عن طريق النور والسعادة حاكما بذلك على نفسه ببؤس المصير إلى الأبد، وهو ما يدل بأجلى بيان على أنه لم يحزم أمره يوما، وهذه هى مشكلته المزمنة مع نفسه، فأين الحكمة هنا إذن؟ أما العلم فإن نصيبه منه لا يخرج، فيما هو واضح، عن نقل النصوص والقصص من كتب الأمم السابقة إلى شعره دون الانتفاع الحق بها، فهو إذن كالحمار يحمل أسفارا، وإلا فلماذا لم يستفد بها فى اتّباع الحق الذى كان يؤمن به فى أعماق قلبه، وفضّل عليه الانحياز إلى الوثنية ممثلةً فى أقاربه الذين رثاهم ومجَّدهم حين سقطوا وهم يحاربون تحت رايتها ضد التوحيد، وزاد فشقّ جيوبه عليهم وبكى وجدع أنف ناقته كما كان يفعل أهل الجاهلية الجهلاء حسبما ذكرت كتب السيرة وتاريخ الأدب (د.جواد على/ المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/ 479)، وهو الذى طالما صدّع أدمغتنا من قبل بالحديث عن الحنيفية؟ ولْنقارن بين موقفه هذا وموقف النبى عليه السلام حين أسلم وَحْشِىّ قاتل عمه الغالى وأخيه من الرضاع حمزة بن عبد المطلب، وكذلك هندٌ آكلة الأكباد ومدبّرة مقتله(/6)
المأساوى رضى الله عنه. لقد قَبِلهما النبى فى دينه، وكأن شيئا لم يكن، رغم الجرح الغائر الذى خلّفه موت سيد الشهداء فى قلبه، وذلك نزولا على مبدئه العظيم القائل بأن "الإسلام يَجُبّ ما قبله". أو لماذا لم يقم هو بالدعوة إلى ما كان يؤمن به (حسبما نقرأ فى الشعر المنسوب إليه)، ولو فى أضيق نطاق بين قومه فى الطائف فقط ما دام ادعاء النبوة سهلا إلى هذا الحد كما فعل محمد، الذى لم يكن قارئا كاتبا مثله؟ فانظر وقارن يتبين لك الفرق بين النبوة والحسد الذى يأكل قلب صاحبه أكلاً فلا يتركه يهنأ بحياته أبدا!
أما المحطة الثانية التى نحب أن نقف عندها فهى ذهاب رسول الله إلى الطائف حين شعر أن مكة تستعصى على دعوته بغباء غريب ما عدا القليلين الذين دخلوا فى دعوته رغم التضييق والعنت الشديد والأذى المتواصل، فحَسِبَ أن الطائف قد تكون أحسن استقبالا للدين الجديد، لكن أهلها للأسف لم يكونوا أفضل حالا من قومه فى مكة. ترى لو كان أمية قد سبق القرآن إلى تناول الموضوعات التى نقرؤها فى ذلك الكتاب بنفس الألفاظ والعبارات فى كثير من الأحيان، ومن ثم أخذ محمد بعض قرآنه من شعره، أكان يفكر مجرد تفكير فى السفر إلى بلد ذلك الشاعر معرضا نفسه للسخرية والاتهام من جانب أهلها بدلا من إقبالهم عليه ودخولهم فى دينه؟ إنه إذن لـ"كالمستجير من الرمضاء بالنار" كما جاء فى أمثال العرب، أو كمن "جاء يُكَحِّلها فأعماها" كما يقول المثل الشعبى! ولم يكن الرسول يوما بالشخص الذى يمكن أن يقع فى مثل هذا التصرف الأخرق العجيب، بل لم يتهمه أحد من أَعْدَى أعدائه بشىء من ذلك قط! ثم فلنفترض بعد هذا أنه قد ارتكب هذا التصرف الأحمق (وأستغفر الله العظيم على هذا التعبير الذى اقترفتُه لأكون فى غاية السماحة مع "الأنعام" الذين لهم قلوب لكن لا يعقلون بها، ولهم أعين لكن لا يبصرون بها، ولهم آذان لكن لا يسمعون بها!)، فكيف فات الطائفيين الأمرُ فلم يجابهوه ويجبهوه بهذه السرقة التى كانت كفيلة بقصم ظهر الدعوة التى أتى بها بدلا من إغرائهم صبيانهم وعبيدهم وسفهاءهم بمطاردته بالحجارة فى شوارع المدينة حتى أخرجوه منها منتهكين بتصرفهم الوحشىّ هذا ما توجبه التقاليد العربية الراسخة القاضية بإكرام الضيف الوافد، واضطروه إلى اللجوء إلى بستانٍ لعُتْبة وشَيْبة ابنى ربيعة حيث قابل هناك خادمهما عداس، الذى قدّم له قِطْفا من العنب يتقوّت به ويزيل عن نفسه التعب، ثم أقبل عليه فى حب وإجلال حين رآه يسمّى الله قبل الطعام وعرف شيئا من دينه على ما هو معروف لقارئى السيرة النبوية؟
ثم هناك قدوم أمية على النبى ومدحه إياه بقصيدة يقرّه فيها على دعوته ويثنى عليه ويصدّق به. ويبدو أن ذلك كان بتأثير الأسئلة التى من المؤكد أنها كانت توجَّه له ممن حوله، إذ لا بد أن يثور فى أذهانهم التساؤل عن السبب، يا ترى، الذى يمنعه من الإيمان بمحمد ما دام يردد ما يقوله تقريبا ويضمّن شعره بعض ما جاء فى قرآنه! أقول هذا رغم أن فى نفسى من صحة هذه القصيدة شيئا للأسباب التى سأذكرها من فورى، لكننى قلتُه على الشرط الذى وضعتُه حين بينتُ أنه لكى نقبل أشعار أمية التى تشابه القرآن الكريم لا بد أن نقبل معها الأحداث التى صاحبتها حسبما أوردتها الروايات. على أية حال هأنذا أورد جُلّ أبيات القصيدة أولا، ثم ننظر فيها بعد ذلك:
لك الحمد والمنّ رب iiالعبا
ودِنْ دين ربك حتى iiالتُّقَى
محمدًا ارْسَلَه iiبالهدى
عطاءً من الله iiأُعْطِيتَه
وقد علموا أنه iiخيرهم
نبىُّ هدًى صادقٌ طيبٌ
به ختم الله من iiقبله
يموت كما مات من قد مضى
مع الأنبيا فى جِنَان iiالخلو
وقدّس فينا بحب iiالصلاة
كتابًا من الله نقرا iiبه ...
... د. أنت المليك وأنت iiالحَكَمْ
واجتنبنّ الهوى iiوالضَّجَمْ
فعاش غنيا ولم iiيُهْتَضَمْ
وخصَّ به الله أهل iiالحرمْ
وفى بيتهم ذى الندى والكرمْ
رحيمٌ رءوف بوصل iiالرَّحِمْ
ومن بعده من نبىٍّ iiختمْ
يُرَدّ إلى الله بارى iiالنَّسَمْ
دِ، هُمُو أهلها غير حلّ iiالقَسَمْ
جميعا، وعلّم خطّ iiالقلمْ
فمن يعتريه فقدْمًا iiأَثِمْ
(أمية بن أبى الصلت- حياته وشعره" لبهجة عبد الغفور الحديثى/ 260- 264)(/7)
وقد رفض د. جواد على هذه القصيدة على أساس أن ما فيها من إيمان قوى بالنبى ودينه يتناقض مع ما نعرفه من تردد أمية بالنسبة للإسلام وافتقار قلبه إلى الإيمان العميق، وأنه يشير فيها إلى وفاة الرسول التى لم تقع إلا بعد موت أمية أوّلا (المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/ 497- 498). لكن بهجة الحديثى لا يشك فى القصيدة، بل يرى أنها تمثل خطرة من الخطرات التى كانت تنتاب أمية، فالمعروف أنه لم يكفر بالرسول تكذيبا بل حسدا، إذ كان فى دخيلة نفسه مصدِّقا بما جاء به، بل همّ أن يعلن إسلامه فعلا. كما أن الأنطاكى، الذى كان يعيش فى القرن الثالث الهجرى، قد أكد أنها موجودة فى شعره ومفهومة عند أهل الخبرة به (أمية بن أبى الصلت/ 78- 79). والحق أن الحجة الأخيرة تكاد تكون العقبة الوحيدة التى تمنعنى من القطع بزيف هذه القصيدة رغم ما فيها مما يدابر المنطق: فهى تتحدث عن اختتام النبوة بمحمد عليه السلام، وهى قضية لم تكن قد طُرِحَت بعد، لأن القصيدة لا بد أن تكون قد سبقت غزوة بدر على آخر تقدير حيث حسم أمية أمره بعد تلك الغزوة وشقَّ جيوبه وعقر ناقته وتراجع نهائيا عن الدخول فى الإسلام، على حين أن الإشارة إلى أن نبوة محمد هى خاتمة النبوات قد وردت فى سورة "الأحزاب"، التى نزلت بعد ذلك بزمن طويل على ما هو معروف. أما ما جاء فى القصيدة من ذكر موت النبى فلا يعنى بالضرورة أنه قد مات فعلا، إذ الكلام يحتمل هذا، كما يحتمل أنه سيموت كسائر البشر حسبما جاء فى قوله تعالى: "إنك ميتٌ، وإنهم ميتون" (الزُّمَر/ 30)، إذ أتى الفعلُ الدالّ على الموت فى القصيدة فى صيغة المضارع لا الماضى كما لا بد أن يكون القارئ قد لاحظ، رغم أن فى ذكر الموت فى حد ذاته فى هذا السياق كثيرا من الغرابة والخروج على مقتضيات المديح. كذلك فوصف الرسول بأنه "رحيم رءوف" هو صَدًى لوصفه فى القرآن فى الآية قبل الأخيرة من سورة "التوبة" بهاتين الصفتين، وإن جاءتا فى القصيدتين بعكس ترتيبهما فى السورة، والآية المذكورة تنتمى لمرحلة زمنية متأخرة عن تاريخ نظم القصيدة. كذلك ففى القصيدة صَدًى لقول رسول الله فى حديث أبى هريرة: "لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيَلِج النار إلا تحلَّة القسم"، والمقصود الإشارة إلى قوله تعالى فى الآية 71 من سورة "مريم": "وإنْ منكم إلا وارِدُها.كان على ربك حتما مقضيًّا"، ومعروف أن أبا هريرة إنما أسلم فى المدينة فى السنة السابعة للهجرة، أى بعد نظم أمية قصيدته بأعوام، فكيف يمكن أن يتأثر أمية بحديث كهذا لم يكن قد قيل إلا بعد ذلك ببضع سنوات؟ وأنا هنا، كما يلاحظ القارئ، أنطلق من أن القصيدة هى التى تأثرت بالقرآن لا العكس ما دام أمية قالها فى مدح النبى والتصديق بدعوته، إذ معنى هذا أنه لم يكن يرى فى القرآن أى أثر لشعره، وإلا ما فكر فى مدحه عليه السلام بتاتًا، بل فى هجائه وفَضْحه. ثم إن فى النظم هَنَاتٍ لا يقع فيها جاهلىٌّ عادة: فقد جاءت كل من كلمتى "أرسله" و"الأنبياء" فى القصيدة بهمزة، وهو ما يحدث اضطرابا فى موسيقى البيتين اللذين وردت الكلمتان فيهما، إلا إذا حذفنا الهمزتين كما فعلت أنا هنا، فعندئذ نشعر على الفور أننا بإزاء شعر إسلامى صوفى مما يصعب انتماؤه للعصر الأموى أو حتى بدايات العباسى. لكن هل يمكن أن يكون هذا قد فات ابن داود الأنطاكى؟ تلك هى المعضلة. إلا أننا لو استحضرنا فى المقابل أن كبار مؤرخى الأدب ونقاده فى تلك الفترة، وهم العلماء الذين شغلتهم قضية الانتحال فى الشعر الجاهلى والمخضرم كابن سلام وابن قتيبة والجاحظ وأبى الفرج وابن هشام، لم يَرْوُوا شيئا من هذا الشعر لأمية، لوجدنا أنها ليست بالمعضلة التى تستعصى على الحل. وأيا ما يكن الأمر فكما قلت: إن من يريد منا أن نقبل نسبة الأشعار محل الدراسة لأمية فلا بد أن يقبل معها الأحداث المصاحبة لها فى الروايات التى أوردتْها لنا.(/8)
ومما تقوله الروايات عن النبى وأمية أيضا ذلك اللقاء الذى تم بينه صلى الله عليه وسلم وفارعة أخت الشاعر حينما جاءته عند دخوله الطائف فى السنة التاسعة للهجرة وحكت له قصة أخيها وأنشدته من شعره بناءً على طلبه، وما عقَّب به عليه السلام قائلا: "يا فارعة، إن مَثَل أخيك كمَثَل من آتاه الله آياته فانسلخ منها" (ابن حجر/ الإصابة فى معرفة الصحابة/ مطبعة مصطفى محمد/ القاهرة/ 1939م/ 4/ 363، والاستيعاب فى معرفة الأصحاب/ مطبعة مصطفى محمد/ القاهرة/ 1939م/ 4/ 379). هل يعقل أنه صلى الله عليه وسلم يسعى إلى فتح ملفّ أمية ويقول فيه هذه الكلمة القارصة، وعلى مسمع من أخته، وفى أشد اللحظات على أهل الطائف وطأةً لأنها لحظة انكسار وانهزام، لو كان قد استمد شيئا من قرآنه من شعر الرجل؟ إنه فى هذه الحالة كمن يمد يده فى جحر الثعابين والعقارب معرِّضا نفسه لخطر الهلاك الوَحِىّ دونما أدنى داع، ومعاذَ الذكاء المحمدى أن يفوته عليه السلام ما ينتظره من الخطر فيقدم على التصرف بمثل هذا التهور! ونفس الشىء نقوله عن موقفه من الشريد بن الصامت، إذ لماذا يشجعه صلى الله علي وسلم على الاستمرار فى إنشاد الشعر الذى من شأنه أن يفضح دعواه لو كان أمية قد قاله فعلا قبل القرآن، واستمد هو قرآنه منه؟ بل لماذا ينشد سويد أمامه شعر أمية أصلا لو كان متطابقا مع القرآن هذا التطابق الذى يدل على استمداده منه؟ بل كيف لم يتنبه لهذا التشابه ولم يختلج على الأقل ضميره بالشكوك والوساوس؟ ولنفترض بعد ذلك كله أنه صلى الله عليه وسلم قد أقدم على هذا التصرف الخاطئ فى الحالين، فكيف لم يصدر عن الطرف الآخر أى شىء يُلْمِح إلى أسبقية شعر أمية على القرآن أو حتى إلى مجرد المشابهة بين النصين ولو على سبيل فلتات اللسان؟
وعندنا من الثقفيين، غير فارعة أخت شاعرنا، كنانة بن عبد ياليل، وكان رئيس ثقيف فى زمانه، واشترك مع أبى عامر الراهب العدو اللدود للإسلام فى التآمر على الدين الجديد وصاحبه، ولم يتركا سبيلا إلا وسلكاه لبلوغ هذه الغاية حتى إنهما ذهبا إلى قيصر للاستعانة به ضد الإسلام. ولما فشلا بقى أبو عامر فى الشام، وعاد ابن عبد ياليل بعد تطواف هنا وهناك وأعلن إسلامه. ويقال إنه كان من بين المرتدين، ثم رجع إلى الإسلام مرة أخرى. والسؤال الذى يتبادر إلى الذهن لو كان الرسول قد أخذ شيئا من شعر أمية هو: كيف سكت مِثْلُ كنانة فلم يتخذ من هذا الأمر سلاحا يوجهه إلى قلب الإسلام فى مقتل فيريح نفسه وقومه والعرب جميعا من هذا البلاء الذى أرَّقهم وأزعجهم بدلا من الضرب فى الآفاق والاستعانة بمن يساوى ومن لا يساوى؟ أليس هذا هو ما كان ينبغى أن يمليه المنطق على مثل ذلك الزعيم القبلى؟ لكنه لم يفعل، فعلام يدل هذا؟ أيعقل أن يكون بيده ذلك السلاح الحاسم ولا يفكر فى استخدامه على طول ما حارب الإسلام وكثرة ما تآمر ضده؟ (ابن حجر/ الإصابة فى معرفة الصحابة/ 2/ 496، و3/ 305).
وكان عروة بن مسعود الثقفى قد بكَّر بالدخول فى الإسلام قبل قومه بزمن، فأراد من حبه لهم أن يهديهم الله على يديه، فاستأذن الرسولَ عليه السلام أن يأتيهم فيدعوهم إلى الدخول فى دين التوحيد، لكنه صلى الله عليه وسلم حذره من أنهم سيقتلونه. إلا أنه لم يكن يتصور أنهم يمكن أن يعادوه ويتأبَّوْا عليه اعتقادا منه أنهم يحبونه ويكرمونه أشد الإكرام، فعاود الاستئذان، والرسول يحذره، ثم أذن له فى الثالثة ليذهب إليهم ويلقى المصير الذى حاول الرسول أن يجنبه إياه، إذ ما إن بدأ يدعوهم إلى الإسلام حتى اجتمعوا إليه من كل جانب ورَمَوْه بالنبل فقتلوه، رضى الله عنه (أبو نعيم الأصفهانى/ دلائل النبوة/ ط2/ حيدر أباد الدكن/ 1950م/ 467). أولو كان الرسول قد أخذ قرآنه من أمية ابن الطائف التى طال استعصاؤها على الإسلام إلى وقت متأخر، أكان عروة يدخل فى دينه مخالفا قومه بهذه البساطة؟ بل أكان الرسول يرضى أن يذهب إليهم هذا المندفع الذى لا يفكر فى العواقب، ومعروف أن أول ماسيجيبونه به هو: أوقد نسيت أن الرسول الذى تدعونا إلى الإيمان بدينه ليس سوى سارق لشعر شاعرنا، أخذه وزعم أنه قرآن يُوحَى إليه من السماء؟ وحتى لو لم يفكر أى منهما فى تلك النتيجة التى لا يمكن أن يتجه الذهن إلى أى شىء غيرها، أكانت ثقيف تدع تلك الفرصة السانحة دون أن تتهكم بعروة على غفلته وتحمسه لدين يقوم على هَبْش النصوص الشعرية من الشعراء الآخرين والزعم بأنه وحى من عند رب العالين؟(/9)
وهناك أيضا من مشاهير الثقفيين الشاعر أبو محجن، الذى كان مدمنا للشراب، وكان يتأرجح بين عشقه المتوله للخمر وتحرجه الدينى، وإن كان للعشق الغلبة فى بداية أمره حتى لقد حُدَّ فيها مرارا، ونفاه عمر إلى إحدى الجزر...إلى أن جاءت حرب القادسية، وقصته فيها معروفة، إذ كان ساعتها فى القيد فى بيت سعد بن أبى وقاص (قائد المسلمين فى تلك المعركة) بسبب الخمر انتظارا لإيقاع الحدّ عليه، فأخذ يلحّ على امرأة سعد من وراء زوجها أن تحل وثاقه كى يستطيع المشاركة فى الجهاد فى سبيل الله، ولها عليه عهد الله أن يعود من تلقاء نفسه بعد المعركة فيضع رجليه فى القيد كرة ثانية، حتى نجح فى إقناعها فأطلقته فحارب وأبلى فى الحرب بلاء حسنا وانتصر المسلمون، فكان عند كلمته وعاد فوضع رجليه فى القيد، ثم أعلن توبته النهائية عن أم الخبائث بعد أن أبدى سعد إعجابه به ووعده أنه لن يحده أبدا، إذ صرَّح قائلا إنه يستطيع الآن أن يقلع عنها دون الخوف من أن يقول أحد عنه إنه تركها خشية العقاب. ولا يزال ديوانه يمتلئ بالأشعار التى يتغزل فيها فى بنت الكَرْم متمردا على تحريمها فى دين محمد. بل إنه كان أحد الذين دافعوا عن الطائف أثناء حصار المسلمين لها عقب فتح مكة، وأصاب سهمه فيها ابنًا لأبى بكر (الزركلى/ الأعلام/ ط3/ 5/ 243، ودائرة المعارف الإسلامية/ الترجمة العربية/ 2/ 597- 598، وديوان الشاعر، وبهجة عبد الغفور الحديثى/ أمية بن أبى الصلت/ 42- 43). والسؤال هنا أيضا: كيف لم يتحدث مثل هذا الشاعر عن استعانة الرسول بشعر ابن قبيلته ولو فى نوبة من نوبات تهتكه وتمرده على تحريم الإسلام الصارم لأم الخبائث، أو فى شعره قبل دخوله فى الإسلام؟
ثم لدينا من الثقفيين أيضا الحجاج بن يوسف، الذى كان معلما للقرآن فى بداية حياته كأبيه لا يبتغى بذلك مالا، بل احتسابًا عند الله، ثم أصبح فيما بعد أحد عمال بنى أمية الكبار. وهو الذى أدخل على نظام الكتابة العربية المزيد من الإتقان والضبط، إذ عهد إلى نصر بن عاصم بإعجام الخط، أى وَضْع النقاط للتمييز بين الأحرف المتشابهة كالباء والتاء والثاء، والجيم والحاء والخاء...طلبًا لمزيد من الدقة والتسهيل فى قراءة القرآن، الذى يدَّعى بعض الرُّقَعاء أنه مقتبَس فى بعض مواضعه من شعر أمية. كما كان، رغم كل ما قيل عن قسوته أيام ولايته على العراق، من المداومين على قراءة القرآن. وكذلك كان يشجع بكل وسيلة على حِفْظه، ويُدْنِى منه حُفّاظه (أحمد صدقى العَمَد/ الحجاج بن يوسف الثقفى- حياته وآراؤه السياسية/ دار الثقافة/ بيروت/ 1975م/ 86- 87، 96، 474، 477- 478، وهزاع بن عيد الشّمّرى/ الحجاج بن يوسف الثقفى- وجه حضارى فى تاريخ الإسلام/ دار أمية/ الرياض/ 44). والآن ألا يحق لنا أن نتساءل: ما الذى جعل الحجاج يتحمس لدين محمد كل هذا التحمس لو كان هناك ولو ذرة واحدة من الشك تحوم حول مصدر هذا الكتاب، وبخاصة أن المصدر فى هذه الحالة لن يكون شيئا آخر غير شعر ابن القبيلة التى يعتزى هو إليها؟ لا ليس ابن قبيلته فقط، بل هو ابن خالة جده الرابع لأمه: معتب بن مالك (انظر فى نَسَبه "الحجاج بن يوسف الثقفى- وجه حضارى فى تاريخ الإسلام" لهزاع بن عيد الشّمّرى/ 15). ولا يظنَّنّ أحد أن شعر أمية لم يكن يهم الحجاج لانشغاله بالسياسة وما يتصل بها، فقد رُوِىَ عنه قوله: "ذهب قوم يعرفون شعر أمية، وكذلك اندراس الكلام" (د. جواد على/ المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/ 483 )، أى أن نصوص الشعر والأدب إنما تضيع بذهاب من يحفظونها. وههنا نقطة مهمة جدا، ألا وهى أن شعر أمية قد ضاع، على أقلّ تقدير،ٍ جانبٌ كبير منه قبل الحجاج، فكيف وصلنا إذن كل هذا الشعر الذى يشابه القرآن إذا كان واحد من أقرب من تصله به رابطة الدم يشكو من ضياعه على هذا النحو؟(/10)
وأهم من ذلك كله دلالةً على ما نريد من أن القضية التى يثيرها الفارغون الجهّال من المبشرين ومَنْ لَفَّ لفَّهم من أبناء المسلمين الذين ختم الله على قلوبهم وعقولهم وأعينهم، فهم لا يفكرون ولا يستمعون إلا لكل مغرض ممن يريد أن يقضى عليهم وعلى أمتهم، إنما هى زوبعة فى كستبان لا أكثر، أن الفارعة أخت أمية، وأبناءه القاسم وأمية وربيعة ووَهْبًا، قد دخلوا مع ثقيف كلها فى الإسلام، وكان القاسم وأمية وربيعة يقولون الشعر، ولم يُؤْثَر عن أى منهم ولا من غيرهم ممن كان يمتّ بصلة نسب إلى أميّة أية كلمة تومئ مجرد إيماء إلى أن الرسول يمكن (يمكن فقط) أن يكون قد استفاد من شعر ذلك الشاعر على أى نحو من الأنحاء، ودعك من أن مجرد اعتناقهم الإسلام هو فى حد ذاته برهان على تكذيبهم بأبيهم وانحيازهم إلى محمد، وهو ما ينقض ما يهرف به الأغبياء المحترقون حقدًا على دين محمد من أن القرآن هو فى بعض جوانبه اقتباس من شعر متحنّف الطائف. كما أن كثيرا من العرب قد ارتدّ بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وكان لكل قبيلة تعلاتها السخيفة التى تحاول أن تسوّغ بها هذه الردة، لكننا لم نسمع قطّ أن أحدا ممن ارتدّ قد فتح هذا الموضوع. بل إن قبيلة ثقيف قد هَمَّتْ بالارتداد، لولا أن عثمان بن العاص كرّه إليهم الإقدام على مثل ذلك التصرف الذى لا يليق، فما كان منهم إلا أن فاؤوا إلى رشدهم ولم يعودوا إليها، بل كان منهم كثيرون حاربوا المرتدّين بكل إخلاص. وهنا أيضا لم نسمع أية نأمة حول الاستفادة المحمدية المزعومة من شعر أمية! ليس ذلك فحسب، فهناك، كما أشار د. جواد على (فى كتابه: "المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام"/ 6/ 493)، يوحنا الدمشقى مثلا، وهو من أوائل من كتب من النصارى مهاجما الإسلام، وكان معاصرا لدولة بنى أمية. أفلو كان لهذه الشبهة أىّ ظل من الحقيقة مهما ضَؤُل، أكان هذا الراهب المتعصب على الإسلام، والذى يريد أن يهدمه على رؤوس أصحابه ويثبت بكل وسيلة أن محمدا لم يكن نبيًّا صادقًا، يُفْلِت تلك السانحة الغالية ويسكت فلا يستخدم هذه الورقة الجاهزة والرابحة بكل يقين؟(/11)
بهذا تكون القضية قد ظهرت على وجهها الحقيقى: فلا أمية ولا أى واحد من أبنائه أو أقاربه أو قبيلته أو حتى من العرب، بل ولا من النصارى واليهود الذين عاصروا النبى أو جاؤوا بعده بقليل، قد أثار هذا الأمر على أى وضع. أليس لنا الحق بعدئذ فى أن نصف من يفتح هذا الموضوع الآن بالرقاعة والوقاحة؟ إن ذلك بمثابة رفع دعوى من غير ذى صفة، بل من شخص لا يستند إلى أى توكيل من أىٍّ من أصحاب الشأن رغم أن الظروف كلها من شأنها أن تدفع أصحاب الشأن هؤلاء إلى الكلام لو كان لتلك المزاعم أساسٌ أىّ أساس! خلاصة القول إنه ليس أمامنا فى هذه المسالة إلا أمران: فإما قلنا بزيف نسبة هذه الأشعار إلى أمية، وإما قلنا إنه قد نظمها تقليدا لما جاء فى القرآن. لكن د. جواد على يرفض الاحتمال الثانى ولا يرى إلا احتمالا واحدا هو زيف الأشعار المعزوّة إلى أمية. ومن بين ما اعتمد عليه فى هذا الرأى أن النبى عليه السلام لم يتهم أمية بالأخذ منه (المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/491). وأنا، وإن كنت أميل إلى رأى الأستاذ الدكتور، لا أستطيع أن أنبذ الرأى الآخر مائة فى المائة لعدم توفر دليل قاطع على صحته، ولكيلا أترك فرصة لأى جَعْجَاع يريد أن يُجْلِب على القرآن والرسول، فكان لا بد أن أسدّ هذه الثغرة. ومن هنا فإنى أجيب على الحجة التى ساقها د. جواد بالقول إن النبى عليه السلام أكبر من أن يقف عند هذه الأشياء، وبخاصة أنه قد نزل عليه القرآن كى يفيد منه الناسُ أيا كان نوع تلك الإفادة لا ليشمخ به عليهم. ثم إن القرآن ليس ملكا للرسول بل هو كتاب الله، فماذا كان يمكن للرسول أن يقول لأمية فى هذه الحالة، وبالذات إذا علمنا أن أمية لم يواجهه بل اكتفى بالازورار؟ وحتى هذا الازورار لم يكن كاملا، فقد جاء فى بعض الروايات أنه وفد عليه ذات مرة واستمع منه إلى سورة "يس"، وشهد له بالحق، وأنه، عند عودته من الشام، قد أخذ طريقه إلى المدينة ليعلن الدخول فى دين محمد لولا تحريض المشركين له بإثارة نقمته على الرسول جرّاء مقتل بعض أقاربه على يد المسلمين فى بدر حسبما جاء فى "الإصابة" لابن حجر و"مجمع البيان" للطَّبَرْسِىّ وغيرهما (د. جواد على/ المفصَّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ 6/ 486). أما إذا كان لا بد من أن يردّ عليه النبى رغم ذلك كله، أفلا يكفينا ما رُوِىَ عنه صلى الله عليه وسلم من قوله فيه: "آمن شعره، وكفر قلبه" أو "آمن لسانه، وكفر قلبه" (صحيح مسلم من كتاب "الشعر". وقد أورده الدكتور جواد نفسه فى "المفصّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام "/ 485)؟ إذ معنى "آمن شعره أو لسانه" أنه كان يأخذ ما جاء فى القرآن ويردّده فى شعره ترديد المؤمن به، لكن حسده له عليه السلام قد منعه أن يعلن ذلك بصفة رسمية ونهائية، وهذا معنى كفران قلبه. أما الاحتمال الثالث الذى طرحه بعض المستشرقين، كالمستشرق الألمانى شولتس ناشر ديوان أمية، من أن النبى وأمية قد استقيا كلاهما من مصدر ثالث مشترك فهو احتمال ليس له رِجْلان يمشى عليهما، إذ أين ذلك المصدر المشترك؟ ولِمَ لَمْ يظهر طوال كل هاتيك القرون؟ وكيف وقع كل منهما عليه، وبينهما كل هذا البعد المكانى والنفسى؟ ثم لماذا هما وحدهما بالذات من دون العرب كلهم بل من دون العالم أجمع؟(/12)
القرآن والعربية
القرآن رسالة السماء إلى الأرض، فمن أراد أن يفهمه على هذا النهج فقد وقف بنفسه على مواطن العظمة، ومواضع الإعجاز فيه. ومن أراد أن يعرف أثره في اللغة العربية فلينظر ذلك الأثر في حياة المسلمين عقيدة وسلوكاً، ليرى ذلك واضحاً وجلياً.
ولكن قد تَقْصُر الأفهام عن المراد من آية من آياته، فيُظَنُّ أنها جاءت على غير ما تعارف عليه أهل اللغة.
وقد يَعْجَز البصر عن الوصول إلى إعجاز نحوي جاء في أثناء آية، فيذهب الظن إلى أن القرآن قد تجاوز قواعد اللغة وما تعارف عليه أهلها، وهذا - لاشك - قصور وعجز في الإنسان عن إدراك لغة القرآن وأساليبه البيانية، فهو كتاب رب العالمين، ومحال أن يناله تجاوز أو خطأ أو مجافاة للذوق اللغوي، فضلاً عن أنه أساس اللغة العربية، ومنه تُستنبط القواعد اللغوية.
وفي هذه العجالة سوف نأتي على بعض الأمثلة، التي قد يُظن أن فيها خطأ نحويًا، أو أنها تجافي لسان العرب ومعهودهم، ونبين توجيه العلماء لها.
المثال الأول: قوله تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (آل عمران:59) والإشكال الذي قد يَرِد هنا، قوله تعالى: {فيكون} حيث جاء الفعل مضارعاً، مع أن الحَدَثَ قد حصل وانتهى. وأُجيب عن هذا بأن الفعل جاء حكاية لحال ماضية، فيجوز فيه الوجهان، فلا إشكال إذن.
المثال الثاني: قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف:56) والسؤال: لماذا جاءت الصفة وهي قوله تعالى: {قريب} مخالفة للموصوف، وهو قوله: {رحمت} مع أن الأصل موافقة الصفة للموصوف، تذكيراً وتأنيثاً؟ وأجيب عن هذا بأجوبة نختار منها اثنين:
- أن {قريب} صفة لموصوف محذوف، تقديره: شيء قريب.
- أنَّ {قريب} على وزن فعيل، وما كان كذلك فيصح أن يوصف به المذكر والمؤنث.
ومثل هذه الآية أيضاً، قوله تعالى: {لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} (الشورى:17) والتقدير في الآية: "لعل مجيء الساعة قريب" وهذا جائز بلا خلاف يُذكر.
المثال الثالث: قوله تعالى: {وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} (التوبة:62).
والسؤال، لماذا جاء الضمير في قوله تعالى: {يرضوه} بصيغة المفرد؟ وأُجيب عن ذلك بأنه لا فرق ولا تفاوت بين رضا الله تعالى، ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم، فكانا في حكم مَرْضيٍّ واحد، كقولك: إحسان زيد وإكرامه نعشني وجَبَرَ مني. ولك أن تقول: هو من باب التقديم والتأخير، وعلى هذا يكون المعنى: والله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك. وهذا من البلاغة أيضاً، فتنبه إليه.
المثال الرابع: قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} (يوسُف:15) فإن قلت: أين جواب "لمَّا" ؟ قلنا: جوابها محذوف؛ لاستطالة الكلام مع أمن الالتباس، ولأن في الآية ما يدل عليه، وهو قوله تعالى: {وأوحينا إليه} والحذف أولى من الإثبات، للوجازة والبلاغة.
المثال الخامس: قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (الحج:19) قد يُشْكِل في الآية مجيء الفعل {اختصموا} بصيغة الجمع، مع أن الفاعل {خصمان} قد جاء بصيغة المثنى. وأجابوا عن ذلك، بأن قوله تعالى: {هذان خصمان} هو لفظ، فكل خصم فريق، وكل فريق مؤلَّف من عدد من الخصماء، وقوله: {اختصموا} هو للمعنى - وهو مجموع الخصماء - لا للفظ - وهو الخصمان - فناسب أن يقول: {اختصموا} لأن كل فريق من الذين كفروا والذين آمنوا كبير. وليس في شيء من هذا ما تأباه اللغة، وذلك ظاهر لمن خَبُر العربية وتذوقها.
المثال السادس: قوله تعالى: {تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (التحريم:4) الخطاب في الآية لأُمِّ المؤمنين عائشة وحفصة، رضي الله عنهما، واستعمال الجمع في قوله: {قلوبكما} مكان المثنى أو المفرد أو العكس أمر وارد وصحيح في اللغة، على سبيل النيابة، أي يُذكر الجمع ويُراد به المثنى أو المفرد. ووجَّه بعض العلماء الآية بأن أقلَّ الجمع اثنان، وعلى هذا التوجيه فلا إشكال حينئذ.
وهكذا يتضح بكل جلاء أنه لا تعارض بين ما جاء في القرآن الكريم وبين بعض القواعد التي أصَّلها أهل اللغة والنحو، وإن كان شيء من هذا القبيل، فمردُّه إما إلى الاختلاف في نفس القاعدة، وإما إلى الجهل بأساليب اللغة العربية، التي هي في الأساس مستخْلَصة من لغة القرآن، ولاشك أن كتاب الله هو أول حجة في جواز شيء أو عدم جوازه، لذا كان أحق أن يُتَّبع، والله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم.(/1)
القرآن والعلم الحديث
بقلم : الأستاذ أحمد محمد جمال رحمه الله
خلال الصفحات التالية سوف أحاول بإذن الله وعونه تقديم خلاصات أو إشارات عن دراسات الطبيب الفرنسي (موريس بوكاي) للقرآن العظيم مقارنًا بالتوراة والإنجيل – مع تعليقات سريعة عليها.
يقول الدكتور (بوكاي) في المقدمة :
"إنّ ما ورد في التوراة والإنجيل عن الظواهر الطبيعية والبشرية – على قلته – يناقض العلم كل المناقضة ، فهو إذن لا يثبت أمام الدراسة النقدية التي كرّس لها المؤلف كتابه ، و "الكتاب المقدس" محشوٌّ بمعلومات علمية خاطئة" .
وإن القرآن الكريم ليس فيه مسألة واحدة تناقض العلم الحديث ، بل إن كل ما ورد فيه من آيات وإشارات في علم الفلك ، وعلوم الحيوان والنبات ، وعن التناسب البشري .. يوافق تمام الموافقة معطيات المعارف العصرية التي كانت مجهولة في عصر النزول . ويجعل المؤلف من هذه النتيجة حجة أخرى على أن القرآن الكريم أوحي به الله ، وأنه كتاب تقصر عقول البشر عن صنعه . وكانت حجة المؤلف الأولى هي أن القرآن العظيم بقي كما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم لم تمسه يدٌ بتغيير، حُفَظ في الصدور وقت نزوله ، ودوَّنه كَتَبَةُ الوحي، وضمَّه المصحف الشريف .
إنّ "بوكاي" أتقن العربية ودرس القرآن العظيم في أصله وفي مختلف ترجماته الفرنسية ، كما راجع تفاسير القُدامى والمحدثين من علماء المسلمين، وأتيح له أن يجتمع في المملكة العربية السعودية الشقيقة بالملك "فيصل بن عبد العزيز" – رحمه الله–، وبعدد من علمائها ورجالها ، وقد رتّب "بوكاي" كتابه وقسمه إلى الفصول الرئيسية الآتية :
- كتاب العهد الجديد .
- الأناجيل (الأربعة)
- القرآن الكريم ، والعلم الحديث .
- الأقوال القرآنية ، وأقوال الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل).
- القرآن العظيم والأحاديث النبوية ، والعلم الحديث .. وعدد صفحات الكتاب(254)
فحص المؤلف في الفصل الأول من الكتاب أسفار العهد القديم – التوراة – مشيرًا إلى اختلاف النصوص المتداولة ، وإلى ضياع نصوصه الأصلية الثلاثة التي كانت تُقْرَأُ في القرن الثالث قبل الميلاد، كما ذكر المحاولة التي تجرى الآن لاستخلاص نص تأليفي موحد للتوراة على يد هيئةٍ من الخبراء الكاثوليكيين والبروتستانيين (المجتمع المسكوني).
وأبرز المؤلف ما أصاب التوراة من تحريف وتغيير خلال مدة ألفي عام وما داخلها من تصويب وتصحيح من اختلاف الروايات والترجمات مؤكدًا أن أسفار العهد الجديد قوامها الذاكرة انتقلت بالإنشاد والرواية من جيلٍ إلى جيل.
وبمقارنة بعض الإشارات الواردة في أسفار العهد القديم – التوراة – بمعطيات العلم الحديث استخلص المؤلف أن هذه الإشارات تتنافى كليًا مع المعارف العصرية ، وقد تناول على الخصوص المسائل المتعلقة بخلق العالم وبالطوفان .
ومحَّص المؤلف في الفصل الثاني من الكتاب (الأناجيل) مبرزًا التناقض الموجود بين الأناجيل الأربعة التي تتباين رواياتها في موضوع معيَّن ، وألقى نظرة على تاريخ الأناجيل الأربعة ومصادرها المتعددة ، ثم قارن أقوال الأناجيل بالمعارف العلمية العصرية مبينًا تناقض تلك الأقوال وتعارضها مع معطيات العلم ، وانتهى إلى النتيجة الآتية : "إن ما يوجد في الأناجيل من تناقضٍ واضح ، وأقوال ليستحيل تصديقها ، وتعارض مع معطيات العلم الحديث ، وما طرأ على نصوصها من تغييرات متعاقبة كل ذلك يجعل من الأناجيل كتبًا تتضمَّن فصولاً ومقاطع من صنع خيال الإنسان ، إلاَّ أن هذه العيوب ليس من شأنها أن تُشكك في وجود رسالة عيسى – عليه السلام – : وإنما يخلق الشك حول مراحل سير هذه الرسالة".
* * *
وفي الفصل الثالث من الكتاب – تحدث المؤلف عن ثبوت صحة القرآن العظيم. مبينًا مراحل نزوله منجمًا وتدوينه، ومستخلصًا من ذلك أن القرآن الكريم وحي منزَّل من عند الله ، وأن يد البشر لم تعبث به ولم تتطرق إلى نصه بزيادة أو نقصان . وتناول بالدرس والتحليل مسائل النزول والجمع والتدوين المتعلقة بالمصحف الشريف مستندًا في ذلك على أصح الروايات التأريخية ومستشهدًا بعديد من الآيات الكريمة التي تثبت أن القرآن الكريم كلام الله المنزَّل .
وأجرى المؤلف بعد ذلك مقارنةً علميةً بين أقوال القرآن العظيم وأقوال التوراة والإنجيل مبينًا ما يوجد بينها من اتفاق أو اختلاف حول مواضيع معينة وردت في الكتب السماوية الثلاثة ، وأثبت بالمقارنة والحجة أن ما تحدث به القرآن عن مسائل تتصل بخلق العوالم والطوفان – مثلاً – يختلف عما ورد في التوراة والإنجيل ، وإن كل ما ورد في القرآن الكريم يتفق كليةً مع معطيات العلم الحديث بخلاف ما ورد عن نفس المواضيع في أسفار العهد القديم والعهد الجديد .
* * *(/1)
إنَّ الصلة بين الدين والعلم لم تكن متشابهةً في كل مكان وعصر. والواقع أن كتب الديانات التوحيدية تخلو كلها مما قد يحمل على أنه إدانة للعلم . غير أننا – من الوجهة العلمية – نرى أن رجال العلم كانوا يخاصمون السلطات الروحية لبعض الديانات ، وأن السلطات المسيحية المسؤولة لم تقف من تطور العلم موقف المنازعة ، وذلك طوال قرون عديدة ومن غير أن يكون لها سند من نصوص الكتب السماوية الصحيحة ، وقد اتخذت هذه السلطات في حق رجال العلم الذين كانوا يسعون في سبيل التقدم التدابير التي نعرفها ، فكانت تنفيهم من الأرض أو تحرقهم بالنار إذا لم يقبلوا دفع غرامة مع الرجوع في مواقفهم والتماس الغفران ، وكثيرًا ما تذكر في هذا المقام محاكمة "غاليليو" الذي اُضطُهِدَ بسبب أخذه بمكتشفات "كوبيرنيك" في مسألة دوران الأرض ، وقد صدر عليه الحكم استنادًا إلى تأويلات خاطئة للتوراة والإنجيل .
أما الإسلام ، فإن موقفه من العلم كان ، بصفة عامة ، مغايرًا لما سبق ذكره ولا أدلَّ على ذلك من هذا الحديث النبوي المشهور: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"(1).
ومن الحقائق الرئيسة أن القرآن الكريم ، الذي يدعو دائمًا إلى التَّزود بالعلم يزخر بالعديد من التأملات حول الظواهر الطبيعية ، المشفوعة بتفاصيل توضيحية توافق تمام الموافقة معطيات العلم الحديث ، ولا شبيه لذلك في التوراة والإنجيل .
* * *
ثم يتصدى الدكتور (بوكاي) لأخطاء بعض مفسري القرآن الكريم – فيرى أن بعض مفسري القرآن الكريم (بما فيهم أولئك الذين عاصروا عهود الحضارة الاسلامية الزاهرة) قد وقعوا ، عبر العصور في أخطاء حين تفسيرهم لبعض الآيات التي لم يكن في وسعهم أن يدركوا معناها الدقيق ، ولم يعط لهذه الآيات تفسيرها الصحيح إلاّ في عهود متأخرة قريبة من عصرنا هذا .
ويترتب على هذا أن المعارف اللغوية لاتكفى وحدها لفهم تلك الآيات القرآنية ، بل لا بدَّ للمفسر من أن يكون محيطاً بمعارف علمية متنوعة جدًا ، إذ أن هذا النوع من الدراسة يكتسي طابعًا موسوعيًا شاملاً، وكلما مضينا قدمًا في مطالعة المسائل التي يعرضها القرآن الكريم يتضح لنا جليًا أنه لابدَّ من الإحاطة بعديد من المعارف القرآنية لاستيعاب معنى بعض آيات الكتاب .
إن القرآن العظيم لايهدف – كما هو معلوم – إلى إثبات بعض النواميس التي تتحكم في الكون، ذلك أن مقاصده الجوهرية دينية ، وهو إذْ يتحدث عن القدرة الإلهية فإنه يدعو الناس إلى التدبَّر في ملكوته وفيما أبدعه الله من أكوان ، وتتخلل هذه الدعوة الإلهية اشاراتٌ إلى وقائع يمكن أن يدركها البشر بالملاحظة ، أو قوانين سنَّها بقدرته الإلهية وجعل نظام العالم خاضعًا لها ، وذلك في مجال علوم الطبيعة وفيما يتصل بالإنسان نفسه . وبعض هذه الإشارات لايعسر فهمها ، إلاّ أن البعض الآخر لايمكن إدراك معناه إلاّ إذا توافرت المعارف العلمية الضرورية لذلك ، وهذا يعنى أن إنسان القرون الماضية لم يكن في مقدوره أن يفقه من تلك الإشارات إلاّ معناها الظاهري ، وذلك ما جعله في بعض الأحوال يستخلص نتائج غير صحيحة بسبب نقصان علمه في عصره .
* * *
ثم يقول بوكاي :
وقد محَّصت القرآن الكريم باحثًا عما إذا كانت فيه إشارات إلى ظواهر لا تعسر على الفهم البشري حتى ولو لم يكن العلم الحديث أثبتها ، وأعتقد أنني من هذه الناحية قد وجدت في القرآن الكريم إشارات إلى وجود كواكب في الكون تشبه الكوكب الأرضي ، ويجب القول إن عددًا من العلماء يعتبرون ذلك محتملاً جدًا ولو أن المعطيات الحديثة لا تستطيع أن تقطع فيه باليقين ، وقد رأيت من واجبي أن أعرض لذلك ذلك مع التحفظ الذي يقتضيه الحال .
"ولما كنت قد شرعت في هذه الدراسة منذ نحو ثلاثين عامًا ، فقد كان ينبغي أن أضيف إلى ما سبق ذكره في علم الفلك : مسألة أخرى أشار إليها القرآن العظيم ، وأعني بذلك غزو الفضاء ، وقد كان الناس يرون وقت شروعي في هذه الدراسة وعقب إجراء أولى تجارب إرسال الصواريخ الفضائية – أن الإنسان قد يتاح له من الإمكانات المادية ما قد يجعله يرتاد في يوم الفضاء بعيدًا عن محيط الكرة الأرضية ، وكانوا يعلمون إذ ذاك بوجود آية قرآنية جليلة تقول بأن الإنسان سوف يحقق يومًا هذا الغزو الفضائي ، وها قد تم اليوم تحقيق ذلك .
* قلت : تختلف مع (بوكاي) في فهمه لآيات سورة الرحمن حول اختراق الفضاء ، بالآيات المشار إليها لا تعني ذلك . وقد أوضحنا وجهة نظرنا مفصلة في كتابنا (القرآن كتاب أحكمت آياته) الجزء/3 صفحة 56.
* * *(/2)
"إن هذه المقابلة بين الكتاب المنزّل والعمل تأخذ في الحسبان المفاهيم المرتبطة بالحقيقة العلمية ، وذلك سواء تعلق الأمر بالتوراة والإنجيل أو بالقرآن العظيم . ولكى تكون المقابلة صالحةً يجب أن تكون الحجة العلمية التي تستند عليها تامة الثبوت وغير قابلة للمناقشة . وإن أولئك الذين يغضبهم تدخل العمل في تمحيص الكتب المقدسة ينكرون على العلم قدرته على أن يكون عاملاً صالحًا من عوامل المقارنة ، سواء تعلق الأمر بالتوراة والإنجيل اللذين لا يصمدان أمام هذه المقارنة ، أو بالقرآن الكريم الذي ليس له أن يتخوف منها ، وهؤلاء يزعمون أن العلم يتغيَّر مع الزمن ، وأن مسألة بذاتها قد تكون اليوم مقبولةً وقد ترفض فيما بعد .
"وهذه الملاحظة تستوجب الإيضاح التالي: يجب التمييز بين النظرية العلمية وفعل الملاحظة القائم على صحة النظر – إن القصد من النظرية هو تفسير ظاهرة أو مجموعة من الظواهر التي يصعب فهمها ، فالنظرية إذن متغيرة في كثير من الأحوال وهي محمولة على أن تبدَّل أو تعرض بنظرية أخرى حينما يتيح التقدم العلمي تحليل الوقائع بشكل أفضل، وتصوُّر تفسير أصلح وأنسب . وعلى العكس من ذلك فإن فعل الملاحظة الثابت بالتجربة لايمكن تغييره : نعم يمكن تحديد صفاته بشكل أفضل ، إلاّ أن الفعل يبقى هو هو . وإذ ثبت – مثلاً – أن الأرض تدور حول الشمس وأن القمر يدور حول الأرض ؛ فإن هذه المسألة لن تكون محل إعادة النظر، بيد أنه في الإمكان أن يقع في المستقبل تحديد مسار كلا الكوكبين بشكل أدق ، وذلك على أحسن تقدير".
_________________
(1) رواه ابن ماجة في سننه.(/3)
القرآن يا أمة الإسلام
القرآن الكريم هو الكتاب المبين الذي أنزله رب العالمين على الرسول الأمين ؛ هدى وموعظة للمسلمين.
وهو مصدر الإسلام الأول عقيدة وشريعة وأخلاقاً وأدباً، حدد الله فيه معالم الحق، وأصول العدل، وبين مناهج الخير فيه، وضوابط السلوك، وقواعد الهداية والتشريع، قال الله تعالى: يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ( 16 ) {المائدة: 16}.
وهو دستور الإسلام الجامع الذي فصل الله فيه الحقوق، والواجبات، ونظم العلاقات والمعاملات، وشرع الحدود والأحكام في آياته البينات.
هو آية النبي العظمى، ومعجزته الباقية الكبرى، وحجته القاطعة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال تعالى: وإنه لكتاب عزيز 41 لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد 42 {فصلت: 41، 42} والله الذي لا إله إلا هو، إنه لترق القلوب، وتسكن الأصوات، وتذرف العيون، وتقشعر الجلود عند قراءة أو سماع آية من آيات كتاب الله العزيز بقلب صادق مؤمن خالص الإيمان لله ، ومحب له ولكتابه.
كيف لا والله سبحانه وتعالى يقول: لو أنزلنا هذا القرآن على" جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون 21 {الحشر: 21}.
إنها حياة القلوب عند تدبرها، والتفكر في معانيها ومافيها من إعجاز وتأثير عجيب على القلوب.
كيف لا وهي كلام العلي العظيم.
قال الله تعالى: وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين 38 {الدخان: 38} إنها آية واضحة، جلية المعاني؛ حيث يخبر الله سبحانه عن عدله عز وجل، وتنزيه نفسه عن العبث واللعب والباطل، أفظننتم أنكم مخلوقون عبثاً بلا قصد ولا إرادة ولا حكمة لنا في ذلك؛ بل خلقتم للعبادة وإقامة أوامر الله عز وجل كما أورد ابن كثير في تفسير قوله تعالى: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون 115 فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم 116 {المؤمنون: 115، 116} .
هل الحياة دائمة؟ كلا والله، إنه موت ثم قبر مظلم فيه ضمة تختلف فيها الضلوع، ووحشة لم يشهد صاحبها لها نظير، ثم حشر ونشر وسؤال وجواب فجنة أو نار، نعم إن الله تعالى حق ولقاءه حق، وقوله حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيين حق، والساعة حق ونبينا محمد حق.
إن خير معين على الطاعة هو الصلاة في وقتها في المسجد مع جماعة المسلمين والاستعداد لها من حسن طهارة وخشوع الذي هو روحها وسرها ومقصودها، ولعله يذهب مابنا من قسوة وغفلة.
هذا ونسأل الله العلي العظيم فاطر السموات والأرض أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.
اللهم احفظنا بالقرآن وأعنا على قراءته وحفظه واجعله قائدنا ودليلنا إليك وإلى جناتك جنات النعيم.
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا الجهد وعلى الله التكلان فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
@ المراجع:
1 تفسير ابن كثير ج(3)، ج(4).
2 زاد المعاد ج(1).
3 الإبتلاء، عبدالله ميرغني.(/1)
القراءات القرآنية ...
روى البخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ( سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة "الفرقان" في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يُقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أُساوره - أي أثب عليه - في الصلاة، فصبرت حتى سلم، فَلَبَّبْتُه بردائه - أي أمسك بردائه من موضع عنقه - فقلت: من أقرأك هذه السورة ؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: كذبت، فانطلقتُ به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرأ فيها، فقال: أرسله - أي اتركه - اقرأ يا هشام ، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال: كذلك أنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر ، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال: كذلك أنزلت إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه) .
وقد أجمع أهل العلم على أن القرآن الكريم نُقل إلينا عن النبي صلى الله عليه وسلم بروايات متعددة متواترة، ووضع العلماء لذلك علماً أسموه علم "القراءات القرآنية" بينوا فيه المقصود من هذا العلم، وأقسام تلك القراءات وأنواعها، وأهم القراء الذين رووا تلك القراءات، إضافة لأهم المؤلفات التي دوَّنت في هذا المجال.
والقراءات لغة، جمع قراءة، وهي في الأصل مصدر الفعل "قرأ"، أما المقصود من علم القراءات في اصطلاح العلماء، فهو العلم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها، منسوبة لناقلها.
وقد قسَّم أهل العلم القراءات القرآنية إلى قسمين رئيسين هما: القراءة الصحيحة، والقراءة الشاذة.
أما القراءة الصحيحة فهي القراءة التي توافرت فيها ثلاثة أركان هي:
- أن توافق وجهاً صحيحاً من وجوه اللغة العربية.
- أن توافق القراءة رسم مصحف عثمان رضي الله عنه.
- أن تُنقل إلينا نقلاً متواتراً، أو بسند صحيح مشهور.
فكل قراءة استوفت تلك الأركان الثلاثة، كانت قراءة قرآنية، تصح القراءة بها في الصلاة، ويُتعبَّد بتلاوتها. وهذا هو قول عامة أهل العلم.
أما القراءة الشاذة فهي كل قراءة اختل فيها ركن من الأركان الثلاثة المتقدمة.
وهناك قسم من القراءات تُوقف فيه، وهو القراءة التي صح سندها، ووافقت العربية، إلا أنها خالفت الرسم العثماني. ويدخل تحت هذا القسم ما يسمى بـ "القراءات التفسيرية" وهي القراءة التي سيقت على سبيل التفسير، كقراءة سعد بن أبي وقاص قوله تعالى:{ وَلَهُ أُخْتٌ }(النساء:176) فقد قرأها: (وله أخت من أم) وقراءة ابن عباس قوله تعالى:{ وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ }(الكهف:79-80) حيث قرأها: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً*وأما الغلام فكان كافراً).
قال العلماء: المقصد من القراءة الشاذة تفسير القراءة المشهورة وتبيين معانيها؛ كقراءة عائشة و حفصة قوله تعالى:{ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى }(البقرة:238) قرأتا: (والصلاة الوسطى صلاة العصر) وقراءة ابن مسعود قوله تعالى:{ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا }(المائدة:38) قرأها: (فاقطعوا أيمانهما) وقراءة جابر قوله تعالى:{ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(النور:33) قرأها: (من بعد إكراههن لهن غفور رحيم). فهذه الحروف - القراءات - وما شابهها صارت مفسِّرة للقرآن.
وقد اتفقت كلمة أهل العلم على أن ما وراء القراءات العشر التي جمعها القراء، شاذ غير متواتر، لا يجوز اعتقاد قرآنيته، ولا تصح الصلاة به، والتعبد بتلاوته، إلا أنهم قالوا: يجوز تعلُّمها وتعليمها وتدونيها، وبيان وجهها من جهة اللغة والإعراب.
والقراءات التي وصلت إلينا بطريق متواتر عشر قراءات، نقلها إلينا مجموعة من القراء امتازوا بدقة الرواية وسلامة الضبط، وجودة الإتقان، وهم:
قراءة نافع المدني، وأشهر من روى عنه قالون و ورش .
قراءة ابن كثير المكي، وأشهر من روى عنه البَزي و قُنْبل .
قراءة أبي عمرو البصري، وأشهر من روى عنه الدوري و السوسي .
قراءة ابن عامر الشامي، وأشهر من روى عنه هشام و ابن ذكوان .
قراءة عاصم الكوفي، وأشهر من روى عنه شعبة و حفص .
قراءة حمزة الكوفي، وأشهر من روى عنه خَلَف و خلاّد .
قراءة الكِسائي الكوفي، وأشهر من روى عنه أبو الحارث ، و حفص الدوري .
قراءة أبي جعفر المدني، وأشهر من روى عنه ابن وردان و ابن جُمَّاز .
قراءة يعقوب البصري، وأشهر من روى عنه رُوَيس و رَوح .
قراءة خَلَف ، وأشهر من روى عنه إسحاق و إدريس .
وكل ما نُسب لإمام من هؤلاء الأئمة العشرة، يسمى (قراءة) وكل ما نُسب للراوي عن الإمام يسمى (رواية) فتقول مثلاً: قراءة عاصم براوية حفص ، وقراءة نافع برواية ورش ، وهكذا.(/1)
وذكر ابن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير" أن القراءات التي يُقرأ بها اليوم في بلاد الإسلام هي: قراءة نافع براوية قالون ، في بعض القطر التونسي، وبعض القطر المصري، وفي ليبيا. وبرواية ورش في بعض القطر التونسي، وبعض القطر المصري، وفي جميع القطر الجزائري، وجميع المغرب الأقصى، وما يتبعه من البلاد والسودان. وقراءة عاصم براوية حفص عنه في جميع المشرق، وغالب البلاد المصرية، والهند، وباكستان، وتركيا، والأفغان، قال - والكلام لـ ابن عاشور -: وبلغني أن قراءة أبي عمرو البصري يُقرأ بها في السودان المجاور لمصر.
وقد ألَّف العلماء في علم القراءات تآليف عدة، وكان أبو عبيد - القاسم بن سلاَّم - من أوائل من قام بالتأليف في هذا العلم، حيث ألَّف كتاب "القراءات" جمع فيه خمسة وعشرين قارئاً. واقتصر ابن مجاهد على جمع القرَّاء السبع فقط. وكتب مكي بن أبي طالب كتاب "التذكرة".
ومن الكتب المهمة في هذا العلم كتاب "حرز الأماني ووجه التهاني" لـ القاسم بن فيرة ، وهو عبارة عن نظم شعري لكل ما يتعلق بالقرَّاء والقراءات، ويُعرف هذا النظم بـ "الشاطبية" وقد وصفها الإمام الذهبي بقوله: " قد سارت الركبان بقصيدته، وحفظها خَلْق كثير، فلقد أبدع وأوجز وسهَّل الصعب".
ومن الكتب المعتمدة في علم القراءات كتاب " النشر في القراءات العشر" للإمام الجزري ، وهو من أجمع ما كُتب في هذا الموضوع، وقد وضعت عليه شروح كثيرة، وله نظم شعري بعنوان "طيِّبة النشر".
ونختم هذا المقال بالقول: إن نسبة القراءات السبعة إلى القراء السبعة إنما هي نسبة اختيار وشهرة، لا رأي وشهوة، بل اتباع للنقل والأثر، وإن القراءات مبنية على التلقي والرواية، لا على الرأي والاجتهاد، وإن جميع القراءات التي وصلت إلينا بطريق صحيح، متواتر أو مشهور، منزلة من عند الله تعالى، وموحى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك وجدنا أهل العلم يحذرون من تلقي القرآن من غير طريق التلقي والسماع والمشافهة. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين.(/2)
القراءة الإبداعية
لماذا القراءة؟ وما أهميتها بالنسبة للطالب؟
تقول الدراسات الحديثة أن نحو 70% مما يتعلمه المرء يرد إليه عن طريق القراءة.
أما الطالب، فهو يقضي معظم ساعاته في ممارسة عملية التعلم. فهو:
يحتاج إلى القراءة في تعلم جميع الموضوعات التي يدرسها.
يقدم الامتحانات التي غالبا ما تكون كتابية، أي أنها تعتمد على قدرته في القراءة والفهم ( خاصة الأسئلة الموضوعية).
يوظف مهارات القراءة في الحياة اليومية والخاصة مثل: قراءة الجرائد/ المجلات/ الأفلام المترجمة / اللافتات/ روشتة الدواء/ الفواتير/ الرسائل الخاصة/ الإعلانات والشعارات وغير ذلك.
الضعف في القراءة يؤدي إلى الضعف في الكتابة، ولكي يتقدم الطالب في عملية الكتابة عليه أن يتقن أولاً المهارات القرائية.
إذاً فالطالب يحتاج إلى تعلم مهارات القراءة من أجل توظيفها في حياته اليومية داخل المدرسة وخارجها. ...
هل هناك مهارة واحدة فقط للقراءة؟
بمعنى، هل نقرأ كل ما تصل إليه أيدينا من المواد المكتوبة بنفس المقدار من العناية ودرجة السرعة والإتقان؟
هناك في الحقيقة مهارات متعددة للقراءة:
فقراءة الجريدة تختلف عن قراءة كتاب علمي مقررّ. وقراءة البحث تختلف عن قراءة قصة مسلية وقراءة رسالة شخصية تختلف عن قراءة قصيدة ..... وهكذا.
وما نريد أن نوصله لتلاميذنا هو:
ليست هناك مهارة واحدة فقط للقراءة، وإنما عدة مهارات أساسية.
لا تعامل كل المواد المقروءة بنفس السرعة ودرجة الإتقان.
كل ما يُقرأ يحتاج إلى تفكير قبل وأثناء وبعد القراءة . فالقراءة نفسها هي عملية تفكير.
القراءة مثل قيادة السيارة من حيث الحاجة إلى الانتباه والتركيز والتكيف في السير حسب ما يقتضيه الموقف. فالسير في شارع عريض يختلف عن السير في أزقة ضيقة.. وهكذا.
المرونة في القراءة تأتي بالتدريب على القراءة يوميا، وذلك بتوظيف جميع المهارات القرائية حسب المادة المقروءة .
فلا تستعمل قراءة الدرس كبديل لكل أنواع القراءات، فهناك:
1. قراءة الاستطلاع:
وهي بمثابة اللقاء الأول بأي كتاب أو موضوع، قبل أن يقرر الشخص ما إذا كان سيقرأه أم لا.
وبعبارة أخرى، إنها نظرة سريعة على بعض الأمور التي تلقي الضوء على محتوى المادة التي تحاول قراءتها، سواء كانت كتاباً أو موضوعاً أو مقالة أو غير ذلك. وتحدد لك مستوى المادة والأفكار التي تدور حولها تلك المادة، كالمقدمة والعرض والخلاصة، والزمن الذي كتبت فيه والمراجع التي أخذت منها بعض الأفكار والأسلوب الذي كتب به، إلى غير ذلك من الأمور.
2. القراءة العابرة أو التصفح:
وهي قراءة تصفح خفيفة سريعة، تبحث عن بعض نقاط، أو عن أفكار عامة، تكون عادة مذكورة بوضوح في المادة المقروءة، كما تكون موجزة جداً، تتمثل في كلمة أو بضع كلمات يتم العثور عليها بسهولة، كإجابات عن أسئلة من نوع: (هل؟) (من؟) (متى؟) (أين؟) ( كم؟). وتكون الإجابة عن السؤال العابر عادة قصيرة، وقد لا تتعدى كلمة أو اثنتين.
3. قراءة التفحص :
وهي قراءة متأنية نسبياَ، وتفيد عادة في تنظيم المادة. وهي تجيب عن أسئلة من نوع (لماذا؟) (وكيف؟)، إضافة إلى أسئلة القراءة العابرة.
وهي تبحث عن أفكار متفرقة يسعى القارئ إلى تجميعها. وقد يحتاج من أجل ذلك أن يقرأ المادة كلها، ولكنه يقرأها بسرعة وحرص، ماراً بالأفكار كي يجيب عن الأسئلة التي في ذهنه، وهو خلال ذلك، يتعرف على النقاط الرئيسة والحقائق والمعلومات التي تجيب عن تلك الأسئلة.
4. قراءة الدرس:
وهي قراءة متأنية دقيقة، كما أنها قراءة تأمل وتفكير. وتتطلب الأسئلة التي يجاب عنها في قراءة الدرس معلومات أكثر حرفية مما هي عليه في أنواع القراءة السريعة أو العابرة والتفحص. فالقارئ هنا يقرأ بعقل ناقد، وهو لا يكتفي بقراءة ما يرى، بل يقرأ ما بين السطور. لأن عليه أن يزن الحقائق الجديدة في ميزان خبراته الخاصة، ويتفاعل معها سلبا أو إيجابا، فتصبح بالتالي جزءاً من الخبرات الجديدة التي يضيفها إلى رصيده السابق من الخبرات. وهي التي ستساعده على التنبؤ بما سيرد من أفكار ومعلومات أثناء القراءة، فتصبح بذلك مفاتيح للفهم.
5. مهارة المجاراة ( القراءة السريعة مع الفهم السريع):
وتعني القراءة السريعة مع الفهم السريع. وهي لهذا تعتمد على المرونة، أي "القدرة على قراءة النصوص المختلفة بالسرعة الأكثر اتفاقا مع غرض ونوعية النص".
هذه المهارة ليست كالمهارات السابقة، فهي تحتاج إلى الكثير من التدريب، كما تتطلب الاستمرار في التطبيق. وحبذا لو درب المعلمون تلاميذهم عليها في المراحل الأولى بمجرد أن يتقنوا مهارات القراءة الآلية. وذلك بوضع خطة منظمة ذات أهداف واضحة تؤدي بالتالي إلى التحسن فالإتقان.
6.لكي يكون الطالب قارئا جيدا ومرناً عليه أن يتجنب المعوقات في القراءة السريعة مثل:
قراءة المادة كلمة كلمة مع أو دون تحريك الشفتين.
عودة حركة العين لما سبق وأن رأته من كلمات ومقاطع.(/1)
عدم القدرة على رؤية الكلمات التي على جانبي الكلمة التي تركز عليها العين.
كيف يوظف الطالب مهارات القراءة في جميع الموضوعات؟
هل يحتاج الطالب إلى توظيف المهارات القرائية في حصة القراءة فقط ؟
إنه يقرأ مسائل الحساب، ويقرأ التجارب في العلوم، ويقرأ كذلك كتب التربية الدينية والاجتماعيات تماما كما يقرأ التعليمات والإرشادات المتعلقة بالألعاب الرياضية والنشاط والتربية الفنية والعلوم المنزلية. وهو يقرأ أيضا أوراق العمل وأوراق الامتحانات إلى غير ذلك من الكتب والمجلات في مطالعاته الخاصة.
إذا فالطالب يحتاج إلى توظيف جميع المهارات القرائية في كل ما يقرأه، والمعلم الناجح هو الذي يساعد تلاميذه في توظيف المهارات المناسبة في الموقف المناسب.
كيف تتم عملية القراءة؟ وما أنواعها؟ وماذا يوظف منها؟
تتم عملية القراءة عموما عن طريق الإبصار إذا كانت القراءة جهرية أو صامتة، وعن طريق السماع إذا كانت القراءة سمعية. أما النوع الثالث فيتم عن طريق اللمس (طريقة بريل).
والطالب في معظم مدارسنا، يوظف نوعين من القراءة:
القراءة السمعية، وهذه تتم أثناء النقاش والاستماع.
القراءة البصرية سواء منها الجهرية أو الصامتة، أثناء القراءة للمواد التي يدرسها، وعند قراءة الأسئلة أو قراءة مواضيع التعبير أو الكلمات الصباحية أمام التلاميذ.
ما الفرق بين القراءة الجهرية والصامتة من حيث الصعوبة؟
يوظف القارئ العين والدماغ في القراءة الصامتة (5% من النشاط للعين و 95% كنشاط ذهني). بينما يضيف إلى ذلك توظيف جهاز النطق في القراءة الجهرية. ولهذا فان القراءة الجهرية هي الأكثر صعوبة وتحتاج إلى وقت أطول، لأن القارئ سيقرأ كل كلمة مع مراعاة الضوابط والوقف ونبرة الصوت وتغيره ليتواكب مع المعنى .... الخ.
ومما يجدر ذكره، أن القراءة الآلية، أي لفظ الحروف والمقاطع والكلمات والجمل والعبارات لفظا سليما مع مراعاة الضوابط والوقف والمعنى... الخ. يتوقف إتقانها مع نهاية الصف الرابع الابتدائي (10 سنوات). إلا أن بعض التلاميذ يُتقنونها قبل هذه الفترة، وبعضهم لا يتقنها إلا بعد ذلك بفترة قصيرة. وقد لا يتقنها البعض إلا بعد سنوات عدة.
والسؤال الذي يُطرح: أيهما يستعمل الطالب في حياته أكثر، القراءة الجهرية أم القراءة الصامتة الفاهمة؟
لا شك أن القراءة الصامتة الفاهمة هي التي يحتاجها الطالب والتي يستعملها طيلة حياته. وهي التي ستلازمه كطريقة للتعلم الذاتي المستقل الذي يستمر معه مدى الحياة.
كيف نشجع التلاميذ على إتقان القراءة الصامتة؟
لكي يتقن التلاميذ مهارات القراءة الصامتة التي يستخدمونها في معظم المواقف الحياتية، علينا:
أن ندربهم على مهارة الفهم، أي فهم المقروء، منذ بداية تعليمهم اللغة الفصحى في المدرسة. وأن نستفيد من البطاقات الخاطفة للتدريب على القراءة الصامتة.
أن نضع بين أيديهم مواد قرائية متنوعة للتدرب على قراءتها قراءة صامتة فاهمة، بتوظيف مختلف المهارات القرائية حسب الحاجة إليها.
أن نراقب تقدمهم في مجال الفهم السريع بالقراءة السريعة، وذلك باستعمال ساعة التوقيت. لا يكفي أن يقرأ الطالب، وإنما عليه أن يعرف مسبقا الهدف من القراءة. فإذا عرف لماذا يقرأ فهو سيعرف عندئذ ماذا يقرأ وكيف يقرأ.
يطلب بعض المعلمين من تلاميذهم أن يقرأوا مادة الدرس قائلين: افتحوا الكتاب صفحة (49) مثلا واقرأوا الدرس قراءة صامتة.
ما الخطأ الذي وقع فيه المعلم ؟
إنه لم يذكر شيئاً يدفع الطالب للقراءة ( كسؤال للبحث عن إجابته).
وهو لم يحدد وقتاً مناسباً للقراءة ( كدقيقة ونصف مثلا).
كما انه لم يخلق حافزا للقراءة عن طريق الربط بشيء سابق.
وأود هنا أن أشير إلى أمر هام. وهو أن الطالب، أي طالب، يتفاعل عادة مع الموضوع الذي يشعر أنه بحاجة إليه. أو إذا أدرك أهميته وهدفه سواء كان في الرياضيات أو اللغة أو العلوم أو الاجتماعيات... الخ.
وكلما كان الربط متينا بين المادة التي يتعلمها الطالب وحاجته، ضمن بيئته ومجتمعه، كلما سهل عليه فهمها وإدراكها.
ماذا نعني بمهارة المجاراة وضبط السرعة؟ وكيف يتدرب عليها التلاميذ؟
إنها القراءة السريعة مع الفهم السريع.
ويمكن أن يتم تدريب التلاميذ عليها خلال قراءة النصوص التي ترد في كتبهم المدرسية أو الاستعانة بنصوص خارجية. وذلك بأن يعين المعلم وقتا مناسبا للقراءة. ويوماً فيوماً ينقص المدة المقررة لقراءة نصوص مشابهة من حيث الكم والمستوى.
كما يمكن تشجيع التلاميذ بملاحظة سرعتهم وتسجيل المدة الزمنية لقراءاتهم الخارجية والعمل على إنقاص تلك المدة تدريجياً.
لا شك أن التلاميذ سيجدون متعة في ذلك، وسينجزون في فترة قصيرة ما كانوا سيحتاجون إلى إنجازه وقتا طويلا.(/2)
ولا يفوتنا هنا التركيز على الفهم، إذ لا معنى لتقليب الصفحات إن لم يقترن ذلك بفهم للمحتوى. ولنتذكر دائما أن كثيراً من الطلاب يخفقون في الإجابة عن الأسئلة الموضوعية التي يتعرضون لها، لا لعدم معرفتهم بالإجابات الصحيحة، وإنما للبطء في قراءة الأسئلة.
ماذا نعني بمهارة التخمين؟ وكيف يوظفها الطالب في قراءاته المختلفة؟
إنها العملية الذهنية التي يقوم بها الدماغ قبل قراءة النص. فقد يوحي العنوان بأفكار قد تكون في صلب الموضوع، فيخمن القارئ أو يتنبأ بما يمكن أن يرد في ذلك النص.
وهذه العملية تستمر كذلك كنشاط ذهني يمارسه القارئ خلال القراءة، فيتوقع ما سيرد من أفكار ونتائج عن طريق الربط بين الجمل.
يمكن تدريب التلاميذ على هذا النشاط الذهني أثناء أدائهم للأنشطة الصفية سواء كانت في حصة لغة عربية أو أثناء حل مسائل حسابية أو تجارب علمية.. أو وقائع تاريخية... وهكذا. المهم أن نفسح المجال للطالب ليفكر ويخمن، وبعد ذلك يقارن بين النتيجة الحقيقية وتلك التي سبق وتنبأ بها.
قد يتساءل البعض، وما الفائدة من ذلك؟
وللإجابة عن هذا السؤال نقول: ألا يكفي أن تتاح فرصة التفكير للطالب؟ أو ليس التفكير هدف عظيم بحد ذاته؟؟ ثم إن التدريب المبكر على هذه المهارة تساعد الطالب في حياته العملية في الحاضر والمستقبل، فهي أداة رائعة لقياس النتائج قبل وقوعها، فيتجنب ما هو سلبي ويقبل على ما هو إيجابي.
كيف يقيم الطالب قدرته على فهم المقروء باستعمال الأسئلة المفتاحية؟
يحتاج الطالب أولا أن يعرف الأسئلة التي يقيس بها الفهم، والأداة التي تستعمل للاستفسار عن أمر محدد: فالسؤال (بـ هل ؟) يحتاج إلى الإجابة بالنفي أو الايجاب، (من؟) للاستفسار عن الأشخاص، ( ماذا؟) للأشياء، ( أين؟) للمكان، (متى؟) للزمان، ( لماذا؟) للسبب أو المبرر و ( كيف؟) للسؤال عن الهيئة، وهو يحتاج إلى توضيح وتفسير. (وكم؟) للعدد.
هذه هي مفاتيح الأسئلة وما عداها فهي أسئلة مشتقة منها.
بعد معرفة الاستعمالات المختلفة لهذه المفاتيح، يحتاج الطالب لان يتدرب عليها. وذلك بان يضع المعلم نصا مناسباً بين أيدي التلاميذ ويطلب منهم أن يحددوا السؤال الذي ينطبق على كل إجابة يحددها هو لهم. وإذا تمكن التلاميذ من إتقان ذلك، يسهل عليهم بالتالي وضع أسئلة مشابهة لدى قراءاتهم الخاصة أو أثناء دراستهم للمواد المقررة، مما يسهل عليهم تذكر المعلومات بدلا من حفظ النصوص غيبا ( وهذا ما يحصل عادة عند كثير من التلاميذ). وكلنا نعرف أن الحفظ غيبا لا يدل على الفهم والاستيعاب.
ولو تدرب الطالب على مهارة الفهم السريع بالقراءة السريعة، وعلى الأسلوب الصحيح في الدراسة وتقييم قدراتهم على فهم المواد واستيعابها وبالتالي تذكرها، فانهم لن يلجأوا إلى الطرق الملتوية (كالغش مثلا) لدى تقديم الامتحانات، وسيدرك الطالب أن الوقت والجهد الذي بذلوه لاستعمال الأساليب الخاطئة ربما تكون أطول بكثير من الوقت الذي يحتاجونه للدراسة والفهم والاستعداد الحقيقي للامتحانات.
ماذا يكتسب الطالب من إتقانه للمهارات القرائية الأساسية؟
إن إتقان الطالب للمهارات القرائية الأساسية ليست هدفا بحد ذاته، وإنما وسيلة لأهداف هامة، فالطالب:
يكتسب عادة القراءة السريعة والفهم السريع في مطالعاته الحرة التي تستمر معه مدى الحياة.
يكتسب القدرة على التعبير بالكتابة الابداعية، وذلك بتعرفه على الأساليب المختلفة في التعبير واستعمال الألفاظ واللعب باللغة.
يكتسب القدرة على اجتياز جميع أنواع الاختبارات سواء منها الموضوعية وغير الموضوعية. ...(/3)
القرار النهائي
الرد على الدكتور عائض القرني بسبب قراره النهائي
بقلم: مصطفى محمد الطحان
soutahhan@hotmail.com
إلى الأخ عائض القرني المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قرأت قصيدتك التي سميتها (القرار الأخير).. والتي قررت فيها اعتزال العمل الدعوي.. وأنا لا أعرفك من قبل.. وإن كنت سمعت باسمك..
أقول لك: إن هذا القرار الأخير ليس لك.. ولا تملكه حتى تتخذه.. فالقرار لله سبحانه وتعالى الذي أمر دعاته فقال:
)ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة(. فإذا كان الرجوع للحق فضيلة.. فسارع لذلك.
مع خالص التحية، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
للدكتور عائض القرني
يا أرضَ بالقرن ما زلنا محبينا لا البعدُ ينسي ولا الأعذارُ iiتثنينا
فسائلي الغيمَ كم أسقى معاطفَنا وسائلي البرقَ كم أحيا iiمغانينا
لي فيكِ يا دوحةَ الأمجادِ ملحمةٌ محفورةٌ في كتابٍ من iiليالينا
يوم الصبا كقميصِ الخزِ ألبسُه والروضُ اخضرُ مملوءٌ iiرياحينا
والرملُ لوحي وأقلامي غصونُ ندا والربعُ يمطرهُ القمريْ iiتلاحينا
يا ارضَ بالقرن لو فتشتِ في خَلَدي وجدتِ فيه أخاديدًا وتأبينا
جرحٌ من الحبِ يا بالقرن ما اندملتْ أطرافُهُ باتَ يُقصينا iiويُدنينا
قد زرتُ بعدكِ يا بالقرن كلَّ حمى وطرتُ في الجو حتى جئتُ برلينا
فما رضيتُ سواكم في الهوى بدلاً لأنني عاشقٌ دنياك iiوالدينا
رأيتُ باريسَ في جلبابِ راهبةٍ شمطاءَ قد بلغتْ في العمرِ سبعينا
وأنتِ في ريَعَان العمرِ زاهيةٌ في ميعةِ الحسن إشراقاً iiوتكوينا
أتيتُ واشنطنًا لا طاب مربعُها رأيتُ ساحتَها في الضيقِ iiسجِّينا
فلا نسيمَ كأرضي إذ يُصبِّحنا ولا ندى الطلِ في الوادي يمسِّينا
ارضُ السنابلِ لا ارضَ القنابلِ يا سِحْرَ الوجودِ ويا حرزَ iiالمحبينا
يا روضةً طالما هزَّتْ معاطفَها كأنها بتباشيرٍ iiتحيينا
وربوةٍ كم درجنا في ملاعبها عهدُ الطفولة يزهو من iiأمانينا
والأربعون على خدي مروِّعةٌ يا ليت أني أهادي سنَّ iiعشرينا
والغبنُ يكتب في أضلاعنا خطبًا مدربُ القلف يعطينا iiتمارينا
يقتاتُ من لحمنا غصْبًا ويجلُدنا ويستقي دَمَنا زورًا ويظمينا
وإن نظَمْنا بيوتَ الشعرِ نمدحه يظل بالشَّعَر المفتولِ iiيلوينا
إذا اقترحنا على أيامنا طلبًا ذقنا المنايا التي تطوي iiأمانينا
آهٍ على قهوةٍ سمراءَ نشربُها في غرفةٍ من ضميمِ الطيِن iiتؤوينا
سِجادُها بحصيرِ النخلِ ننسجه وريشُها بنقي الصوفِ يدفينا
بعنا الهمومَ بدنيانا صيارفةً لسنا جباةً وما كنا iiمرابينا
لم ندّخِرْ قوتَنا بخلاً ليومِ غدٍ لكل يومٍ طعامٌ سوف iiيأتينا
ونملأُ الضيفَ ترحابًا لننسيَهُ ما غابَ من أهله عنه ويُنسينا
أمام غرفتِنا يجري الغديرُ على صوتِ الحمامِ بأبياتٍ iiيُغنينا
قلوبُ أصحابِنا طُهْرٌ وسيرتُهم مثلُ الزلالِ الذي في القيظِ يروينا
أيامَ لا كدلكٍ يعوي بحارتنا ولا البواري تدوّي في iiنوادينا
واليومَ أموالُنا باتتْ تؤرقُنا همًا وأولادُنا بالغمِّ iiتؤذينا
إذا رفعنا بآياتٍ عقيرتَنا قالوا: غلوٌ وهذا خالفَ iiالدينا
وإن همسنا بحبٍّ في مجالِسنا قالوا: يدبر أعمالاً iiلتردينا
وإن لبسنا بشوتًا عرَّضوا سفهًا بأننا نزدهي فيها iiمرائينا
وإن تقشَّف منا صادقٌ ورِعٌ قالوا: يخادِعُنا عمْدًا iiويغوينا
إذا صمتنا اقضَّ الصمتُ مضجعَهم وإن نطقنا شربنا كأسَنا iiطينا
إذا أجبْنا على الجوالِ أمطَرَنا بالسبِّ مَنْ كان نغليه iiويغلينا
وإن أبينا أتتنا من رسائله مثل السعيرِ على الرمضاء iiتشوينا
قلنا لهم هذه الأشياءُ حلَّلَها أبو حنيفة بل سُقنا البراهينا
قالوا: خرقتَ لنا الإجماعَ في شُبَهٍ مِن رأيِك الفجِّ بالنكراءِ iiتأتينا
وإن ضحكنا أضافونا بسخرية صفراءَ تملؤنا غبنًا iiوتذوينا
وإن بكينا لظلوا شامتين بنا كأنهم وحدَهُم صاروا iiموازينا
تفردوا بخطايانا وأشغلَهُم عن ذكرِ سُوئِهُمُ المُرْدي iiمساوينا
ويفرحون إذا زل النعال بنا ويهزؤون بمن يروي iiمعالينا
ولا يرون سوى أغلاطِنا أبدًا فنقدُهُمْ صارَ في أهوائهم iiدينا
وشتْمُهُمْ هو محضُ النصحِ عندهمُ وردُّنا هو زورٌ من iiمغاوينا
لحومُهُم عندنا مسمومةٌ أبدًا ولحمُنا صارَ تحت النقدِ iiسردينا
فنحن عند الحداثيين قافلةٌ من الخوارج نقفو النهجَ iiتالينا
أما الغلاةُ فإنا عند شيخهمو لسنا ثقاتٍ وما كنا iiموامينا
ونحن في شرعِهِ خُنَّا عقيدتَنا من بائعين مبادينا iiوشارينا
حتى السياسي مرتابٌ ولو حلفتْ لنا ملائكةٌ جاءوا iiمزكينا
كم مولَعٍ بخلافي لو أقولُ له هذا النهارُ لقالَ الليلُ iiيضوينا
إذا طلبنا جليسًا لا يوافقُنا واديه ليس على قربٍ iiبوادينا
فتاجرٌ لاهثٌ ألهتْهُ ثروتُه عبدَ الدراهمِ قد عادى iiالمساكينا
وجاهلٌ كافرٌ بالحرفِ ما بصُرَت عيناه سِفْرًا وما أمَّ iiالدواوينا
ومعْجَبٌ صَلِفٌ زاهٍ بمنصبه تواضعٌ منه فضلاً أن iiيماشينا
فالآن حلَّ لنا هجرُ الجميعِ وفي لزومِ منزِلِنا غُنْمٌ iiيواسينا(/1)
نصاحبُ الكُتُبَ الصفراءَ نلْثِمُها نشكو لها صخَبَ الدنيا iiفتشكينا
تضمُّنا من لهيبِ الهجرِ تمطِرُنا بالحبِّ تُضحِكُنا طورًا iiوتُبْكينا
ما في الخيامِ أخو وجدٍ نطارِحُه حديثَ نجدٍ ولا خلٌ iiيصافينا
فالزمْ فديتُك بيتًا أنتَ تسكُنُه واصمتْ فكلُّ البرايا أصبحوا iiعينا
شكرًا لكم أيها الأعداءُ فابتهجوا صارت عداوتُكُم تينًا iiوزيتونا
علَّمتمونا طِلابَ المجدِ فانطلقتْ بنا المطامحُ تهدينا iiوتعلينا
جزاكم اللهُ خيرًا إذْ بكم صلحت أخطاؤنا واستَفَقْنا من iiمعاصينا
دلَلْتُمونا على زلاتِنا كرمًا وغيرُكُم بِسُكارِ المدحِ iiيُعمينا
فسامِحونا إذا سالتْ مدامعُنا من لذعِ أسياطِكُم كنتم iiمصيبينا
تجاوزوا عن زفيرٍ من جوانِحنا حلمًا على زفراتٍ في iiحواشينا
ثناءُ أحبابِنا قد عاقَ همتَنا ولومُ حسادِنا أذكى iiمواضينا
ماذا لقينا من الدنيا وعشرتِها عشاقُها نحنُ وهي الدهرَ iiتقلينا
على مصائبها ناحتْ مواجعُنا ومن نكائدِها ذابتْ iiمآقينا
تغتالُنا بدواهيها وتنحرُنا صارتْ مخالبُها فينا iiسكاكينا
والآن في البيتِ لا خِلٌّ نُسَرُّ به إلا الكتابُ يناجينا iiويشجينا(/2)
القرار في البيوت الخرِبة
سامي الماجد 14/2/1427
14/03/2006
لم يكن ترغيب النساء بالقرار في البيوت -والمستفاد من أدلةٍ غير آية الأحزاب- أمراً مقصوداً لذاته، فتتعبّد به المرأة ربها على أي وجه كان؛ كما يتعبّد الحاج ربّه بالمبيت في منى ومزدلفة، بل ترغيبها بالقرار أمرٌ مقصودٌ لغيره، فإن في البيت وظيفةً لا يحسنها غيرُ المرأة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فرُغّبت بالقرار وهي بعدُ فتاة صغيرة لتتهيأ لتلك الوظيفةِ بالدّربة والتعلم، حتى إذا آن أوانها بتحوّلها إلى عصمة زوجها نشطت لها بإذن ربها.
غير أنه لا ينبغي -ونحن في عصر العولمة وثورة الاتصالات- أن نفرح بمجرد قرار الفتاة في بيتها، غير مبالين على أي وجه كان قرارها، فقد يكون فيه ما في خروجها من المفاسد أو يزيد، وقد يكون قرارها لشيء استهواها واستلب عقلها، فهو يستجرّها شيئاً فشيئاً إلى ما يمسخ هُوِيّتها ويسم عقلها ويحرِّضها على أسوأ ما يكون خروجها، فبأي شيء يُفرح بهذا القرار الذي أحاط به الفراغ من كل جانب، فخلا به عقل الفتاة وقلبها، حتى تمكنت منها قنوات هابطة ومواقع مردية؟!
إن حال كثير من البيوت اليوم غير حالها بالأمس، فهي اليوم بيوت مختَرَقة، أشبه ما تكون بنافذة مطلّة على العالم، وقد يكون القارّ فيها أكثر اتصالاً بالعالم ممن هو خارجها، فالتقنيات وصلت العالم بعضه ببعض، وجعلته كقرية صغيرة تسرع فيها العدوى، ويسهل بين بيوتها التأثير. ولقد أسرعت العدوى إلى بيوت كثيرةٍ، فهي خربة تُفتقد فيها الولاية الصالحة، وقد تقرّ الفتاة في بيت كهذا فيكون في ذلك درءٌ لافتتان الشباب بها، لكن ما شأن افتتانها هي وقد قرّت في بيتها؟! هل أمنت الفتنةَ بقرارها في البيت الخرِبِ المخترقِ بتقنيات موصولة بقنوات الرذيلة ومواقعها؟!
ألم تقع فتيات تلك البيوت أسيرات للقنوات الهابطة، يتشرَّبن منها سموم الأخلاق والأفكار؟! أومدمناتٍ للإنترنت، يُفنين أوقاتهن في تصفّح مشبوه ومحادثات غير شرعيّة؟ ألا إن هذا هو القرار الذي يبعثهن على الخروج المحذور، فما للمصلحين بدّ من إخراج هؤلاء الفتيات من بيوتهن الخربة إلى حيث يكون استصلاحهن ليقررن بعد ذلك في بيوتهن القرار المرغوب...إلى المراكز والدور والمؤسسات التربويّة والاجتماعيّة الهادفة لِيُشغِلن فراغهن قبل أن تشغلها مظلات المواقع والقنوات، وليس في هذا صرف لهن عن وظائفهن في البيوت، فما زلن فتيات لم يضطلعن بأعباء المسؤوليّة؛ فليُستصلَحن قبل أن يُشغلن بحقوق الأزواج والأولاد.
إن الفتاة شخصية إنسانية ذاتُ مسؤولية وأعباء، وليست مجرد جوهرة مكنونة مستودعةٍ عند حافظ؛ فيكون قُصارى مسؤوليتِه أن يتعاهدها بإحكام الرقابة والحراسة؛ ليزُفَّها إلى حافظ آخر يمارس الولاية نفسها...ولاية الحفظ والصيانة فحسب! وهل غاية ما نؤمله في الفتيات أن يكففن عن المجتمع شرّهن، ويحافظن على عفتهنّ من غير أن يكون وراء ذلك وظيفةٌ منتظرةٌ لهن؟!
هل المرأة مجرد زينة تتملّاها النواظر حتى تُشبَّه بالجوهرة؟ إن الإلحاح في تشبيه الفتاة بالجوهرة النفيسة ليس بالذي يدفعها لمقاومة إغراءات الفتنة، إنما يدفعها لذلك هو الارتقاء في خطابها ارتقاءً يُشعرها بأنها إنسان سويّ وُهبَ عقلاً ليفكر في مآلات الأمور قبل أن يُقدمَ عليها، وأنها بهذا العقل تأهَّلت لمرتبة التكليف، فنالت به درجة التكريم والتشريف، فليكن لعقلها إسهامُه في صيانتها واشتغالها بما ينفعها.
ينبغي أن يخرج الخطاب الدعويّ والوعظيّ للمرأة من هذا الأفق الضيّق إلى الأفق الأرحب الذي تشعر فيه المرأة أن الخطاب متوجّه إليها كما هو متوجّه إلى وليها، وأن لعقلها منه خطاباً كما هو لعاطفتها، وتعي به أنها إنسان مرتهن بوظيفة لا يصلح لها غيره، وأن من مسؤوليتها أن يقوم من تلقاء نفسها رقيب وازع لا يغني عنه رقابة الوليّ وحفظه.
إن البيت ليس خزينةً لحفظ الفتيات (الجواهر)، ولكنه مدرسةٌ يتعلمن فيها وظيفتهن المنتظَرَة، ويتربين فيها على الأخلاق الفاضلة، ويتحصنّ فيها بالوعي ومراقبة الله، فتنمو في قلوبهن رقابةٌ ذاتيةٌ تعمل عملها إذا غاب الوليّ؛ فإن من المتعذر أو من المتعسر جداً أن يظل الوليّ لزيماً لمحرمه في كل أحوالها، وفي كل خرجاتها.
وفي القرآن إيماءاتٌ تدلّ على أنه لا بد وأن تأتي اللحظة التي تكون فيها هذه الرقابة الذاتيّة هي المعوّل والمعتمد في ضبط التصرفات وكبح جماحها، يقول الله تعالى بعد أن قرّر قِوامة الرجل: (فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله)، أي حافظات لفرش أزواجهن في غيبتهم بحفظ الله لهن بصلاحهن، وكيف كُن كذلك لولا ما حيا في نفوسهن من مراقبة لله، جعلتهن حافظات للأمانة، محفوظاتٍ من الخيانة.(/1)
فيا أيها المصلحون: أخرجوا من البيوت الخرِبة فتياتها، واستنقذوهنّ من الأَسْر الخبيث.. أسْر الفضائيات ومواقع المحادثات وأمثال ذلك، وأقيموا بديلاً عن بيوتهن مؤسساتٍ تربويّة واجتماعيّة يستثمرن فيها أوقاتهن، فالحاجة اليوم تستدعي توسعاً في الأنشطة النسائيّة الخيريّة الإصلاحيّة لتحتوي فتياتٍ افتقدن الناصح الموجِّه فاحتواهن الفراغ واقتادهن شرّ قياد.(/2)
القرحة الكبرى
د. طارق الطواري
</TD
يعد طبيبا فاشلا من يعالج أثار الأمراض الظاهرة ويترك أسبابها ، فأنت حينما تظهر عليك بعض أعراض المرض من ارتفاع للحرارة واعتلال للصحة ودمامل وخدور في الأطراف وكسل وربما ترجيع وزغللة في العيون ودوار في الرأس ، كل هذا آثار لمرض انتشر داخل الجسم وأورث هذه الآثار وظهرت أعراضه خارجا ، وبناء لهذه الأعراض يشخص الطبيب الماهر طبيعة المرض ويصف الدواء على خطين متوازيين ، الأول علاج السبب الرئيسي للمرض والثاني علاج الآثار والمظاهر الناتجة عن المرض في الخارج.
وإذا كان الطبيب غبيا أو متغابيا أو متدربا أو غير مخلص فإنه سيلجأ إلى إعطائك مسكنات ومهدئات وعلاجات سطحية للآثار والمظاهر دون التطرق للسبب الرئيسي لهذا المرض وهي القرحة الكبرى التي تفرز الدمامل على حسم الإنسان وتعمل بين فترة وأخرى على إيذائه وشل حركته ، إذا فهمنا ذلك فإن الواقع التي تعيشه أمتنا كواقع جسم الإنسان يظهر فيها بين الحينة والأخرى دمامل على السطح وآثار انحراف فمرة حرب في الصحافة وأخرى استهزاء في الإعلام والتمثيليات وأخرى مقابلة مع مرتد في التلفزيون لينشر سمه على الخلق ورابعة تشريعات وقوانين تحد من حريات المسلم وتدعوا للتفسخ والانحلال وتمنع المسلمة من الحجاب أو لبسه أثناء العمل أو لدخول المراكز الحكومية وخامسة في حملات الاعتقالات والتعذيب وصناعة الشيكات الوهمية واستصدار الأحكام القضائية المعلبة والمعدة ضد الشباب المسلم.
وإذا التفت إلى العالم الإسلامي تكاد تجزم أنه لا تكاد تخلوا بقعة من اغاضتك واستفزازك بكل طريقة ووسيلة تحت اسم الحرية أحيانا والديمقراطية حينا آخر والتدابير الواقية من التطرف ومحاربة الإرهاب والعلمانية حينا ثالثا.
وينشط الدعاة المخلصون عند هذه النوازل للرد والتبين والدفاع ونظل طوال حياتنا ندافع وغيرنا يهجم ونبرر وغيرنا يتهم ونصد وغيرنا يضرب ، ولست هنا في معرض التقليل من شأن ما يقوم به الدعاة ، فعلى سبيل المثال قبل أيام كتب غبي من أغبياء الصحافة الكويتية مقالا يشتم فيه صلاح الدين ويصفه بالمرتزق وأن القدس لم تكن عربية ولا إسلامية أبدا ، وكتب حيوان ناطق في الصحافة مقالا يمجد فيه اليهود والعلاقة الحميمة معهم وآخر كتب عن مقاسات اللحى وأثرها في التصنيف الحزبي ، ناهيك الفساد الأخلاقي والمقنن والمدروس الذي يتسلل إلى الناس عبر الفضائيات والانترنت والبلوتوث والصحافة والمجلات والمدارس الأجنبية.
وكل هذا لاشك يستلزم جهدا ووقتا في الرد عليه لكن نسي الأخوة الدعاة القرحة الكبرى التي تفرز كل هذا الواقع المرير المريض أنها النظام السياسي القائم ، فنظام الحكم في العالم الإسلامي لا يمت إلى الشريعة في صلة اللهم إلا القليل الذي أعن الإسلام منهجا له ، وعليه فإن النظام السياسي العلماني الحاكم في العالم الإسلامي هو القرحة الكبرى والداء العضال الذي يفرز هذه المتناقضات ففي الوقت الذي يسمح فيه بإظهار شعائر الإسلام من مساجد وصلاة ينتقض الإسلام في تغيير أحكام الحدود والقصاص والجنايات وأنظمته الإدارية والمالية لا تراعي أحكام الشريعة ولا تلتفت لها وعلاقتها الدولية مبنية على أساس المصالح المشتركة والاتفاقات الدولية لا على أساس الشريعة ومواثيقه وعهوده وتحالفاته لا تضع اعتبارا للكفر والإيمان بل ولا إلى شريعة الله تعالى.
ونظام الحكم لا يمت إلى الخطاب الشرعي لا المنزل ولا المؤول ولا المبدل بل هو نمط جديد مزيج من الأنظمة والتعاليم الإسلامية والفرنسية والنصرانية والهندوسية البرهمية وبالتالي فإن أي تغيير يريده الدعاة فلا بد أن يركزوا على معالجة أصل النظام الحاكم أو نظام الحكم.
ولقد قام النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي والمدني ، ففي العهد المكي عالج آثار النظام السائد ليؤسس لنظام جديد وقد قام هذا النظام في المدينة لا على المزج بين الأنظمة الجاهلية والإسلام وإنما على الوضوح في النظام الإسلامي الجديد الذي جاء بديلا عن النظام الجاهلي في الحياة الاجتماعية والتربوية والدينية والقانونية .
و من المؤسف قد انطفأت نار الدعاة الذين يدعون إلى عودة الشريعة إلى الحكم أو البحث عن أرض يقام فيها حكم الله تعالى ، فبعد كفاح دام 50 عاما أصبح لليهود دولة محتلة ومغتصبة ،ووضع الصليبيين للنصارى دولة أسموها الفاتيكان ، ووجد للشيعة دولة إيران وبجهاد فردي وصدق وإخلاص قام للسنة دولة مخلصة صادقة اسمها دولة طالبان ولكن سرعان ما تآمر عليها الغرب وأعوانهم من الخونة لتدميرها ومسحها من الوجود وهي عائدة بإذن الله بل وفي القريب العاجل وقد ظهرت التباشير واتضحت العلامات .(/1)
لذا فإن على أهل السنة مع حربهم على أهل الفساد ومعالجتهم لمظاهر الانحراف أن لا ينسوا الأصل وهي إقامة دين الله في الأرض من خلال تحكيم شرعه وتطبيق أمره (( واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل إليك )) وأن كل نظام غي شريعة الله فهو من الجاهلية (( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون )) وأن الذين لا يريدون شريعة الله ولا يرغبون بها ويرون أن قوانينهم مساوية لشريعة الله أو هي أحسن منها فهم كفرة وفاسقون وظالمون كما نص القرآن في ذلك.
وعليه فلا بد من نصرة من يدعوا لإقامة دولة الإسلام كإخواننا المجاهدين الصادقين أينما كانوا في العراق أو أفغانستان أو الفلبين أو كشمير أو فلسطين بكل ما تستطيع وبذلك تفهم كيف تأكل الكتف.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(/2)
القرضاوي يعزي في بابا الفاتيكان ويترحم عليه ويشيد بمواقفه التبشيرية...
فتدبروا يا أولي الألباب !!
" يوسف القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأزكى صلوات الله وتسليماته على من بعثه الله رحمة للعالمين وحجة على الناس أجمعين سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا ومعلمنا محمد وعلى أهله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بسُنته إلى يوم الدين،
أما بعد فقد جرت عاداتنا في هذا البرنامج أن نتحدث عن أعلام العلماء من المسلمين حينما ينتقلون من هذه الدنيا إلى الدار الآخرة ونحن اليوم على غير هذه العادة نتحدث عن عَلم ولكن ليس من أعلام المسلمين ولكنه عَلم أعلام المسيحية وهو الحَبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية وأعظم رجل يُشار إليه بالبنان في الديانة المسيحية.
لقد توفي بالأمس وتناقلت الدنيا خبر هذه الوفاة ومن حقنا أو من واجبنا أن نقدم العزاء إلى الأمة المسيحية وإلى أحبار المسيحية في الفاتيكان وغير الفاتيكان من أنحاء العالم وبعضهم أصدقاء لنا، لاقيناهم في أكثر من مؤتمر وأكثر من ندوة وأكثر من حوار، نقدم لهؤلاء العزاء في وفاة هذا الحَبر الأعظم الذي يختاره المسيحيون عادة اختيارا حرا، نحن المسلمين نحلم بمثل هذا أن يستطيع علماء الأمة أن يختاروا يعني شيخهم الأكبر أو إمامهم الأكبر اختيارا حرا وليس بتعيين من دولة من الدول أو حكومة من الحكومات، نقدم عزاءنا في هذا البابا الذي كان له مواقف تذكر وتشكر له، ربما يعني بعض المسلمين يقول أنه لم يعتذر عن الحروب الصليبية وما جرى فيها من مآسي للمسلمين كما اعتذر لليهود وبعضهم يأخذ عليه بعض أشياء ولكن مواقف الرجل العامة وإخلاصه في نشر دينه ونشاطه حتى رغم شيخوخته وكبر سنه، فقد طاف العالم كله وزار بلاد ومنها بلاد المسلمين نفسها، فكان مخلصا لدينه وناشطا من أعظم النشطاء في نشر دعوته والإيمان برسالته وكان له مواقف سياسية يعني تُسجل له في حسناته مثل موقفه ضد الحروب بصفة عامة.
فكان الرجل رجل سلام وداعية سلام ووقف ضد الحرب على العراق ووقف أيضا ضد إقامة الجدار العازل في الأرض الفلسطينية وأدان اليهود في ذلك وله مواقف مثل هذه يعني تُذكر فتشكر.. لا نستطيع إلا أن ندعو الله تعالى أن يرحمه ويثيبه بقدر ما قدَّم من خير للإنسانية وما خلف من عمل صالح أو أثر طيب ونقدم عزاءنا للمسيحيين في أنحاء العالم ولأصدقائنا في روما وأصدقائنا في جمعية سانت تيديو في روما ونسأل الله أن يعوِّض الأمة المسيحية فيه خيرا. "
النص نقلا عن موقع الجزيرة نت.http://www.qaradawi.net/site/topics/article.aspx?cu_no=2&item_no=3970&version=1&template_id=105&parent_id=16
إنا لله وإنا اليه راجعون في مثل هؤلاء العلماء. " وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً " الفرقان.
المشرف العام على الموقع
----------------
أنا لن أصلي من أجل البابا
رغم مضي الوقت على هذا الموضوع ، و تورية البابا يوحنا بولس الثاني التراب .. وجدت لزاما علي التعليق على هذا الحدث .. و ألا يمر دون توقيع !
انشغل العالم أجمع الأسبوع الماضي بوفاة بابا الفاتيكان و الزعيم الروحي للكاثوليك في العالم ، و نقلت وسائل الإعلام جمعاء أخبار مرض الموت و الصلاة من أجل البابا ثم إعلان وفاته و إلقاء النظرة الأخيرة عليه و مراسم الدفن و العزاء و محاضر الصلاة الجماعية سواءا في ساحة القديس بطرس أو في بقية أنحاء العالم ، و أخيرا توافد الحشود و ممثلي الدول إلى الفاتيكان لحضور جنازة كارلو فويتيوا البابا رقم 264 في تاريخ البابوية النصرانية، و كان لهذا الحدث معنا وقفات عديدة ..
أولها : من هو البابا ؟ إنه ذاك النصراني البولندي الجنسية و الذي تولى بشكل مريب أمر البابوية بعد (تسميم) البابا يوحنا بولس الأول بعيد توليه المنصب بشهر تقريبا ، و هو أول بابا يتولى هذا الأمر من خارج إيطاليا منذ ما يقرب 455 سنة ، و لم يكن وقتها حتى كاردينالا لأنه لم يبلغ الستين من العمر ! فثارت علامات استفهام كثيرة على سبب اختياره و توليه !(/1)
خامسا : طل شيخ الأزهر بوجهه القبيح ثانية ليكيل المديح للبابا و يحزن لوفاته و يدعو له بالمغفرة ، و أنا أسأل : لماذا أحزن عليه ؟ و لماذا أصلي من أجله ؟ ماذا فعل؟ و ما هي عقيدته ؟ و من حقي أن أتساءل : لماذا لم يشارك المسلمين في جنازة الشهيد حسن البنا ؟ لماذا لم يشارك المسيحيون في تشييع سيد قطب ؟ لماذا لم يرسل البابا التعزية بوفاة الشيخ بن باز ؟ لماذا لم نجد الأسى باديا في العالم الإسلامي في استشهاد عبدالله عزام ؟ لماذا لم يخرج الأرعن بوش أو بلير أو شيراك ليعزوا المسلمين في وفاة الشيخ أحمد ياسين ؟ أو الرنتيسي ؟ و لماذا لم تقف الدول الإسلامية دقيقة حداد على استشهاد خطاب ؟ و لماذا لم تعطل الأعمال لاستشهاد جوهر دوداييف أو أبي الوليد ؟! من يعطي إجابة على كل هذه الإستفسارات ؟!
إن جنازة البابا كشفت عن عورات كثير من البشر .. حكاما و شعوبا و دول ! فليصلوا من أجل البابا ، و ليدعوا له بالمغفرة ، أما أنا فلن أصلي من أجل البابا و لا الكرادلة و لا أي قس نصراني مات أو انتحر ! إنما سأصلي لله و سأدعوه لينصر المجاهدين و يعز الدين و يهلك زمرة المتجبرين على رؤوس المسلمين ...
رحل بابا و سيأتي آخر .. و على الإسلام تدور الدوائر
الأخت الفاضلة سكون القلب ..
أتعلمين أين الخلل ؟ أنه في الرويبضة الذين لا يفقهون في أمر الدين ثم يفتون الناس على هواهم ! سأنقل في نهاية ردي فتوى في حكم تعزية الكفار و الدعاء لهم بالمغفرة !
أما حالتنا ... فتذكرني بقصيدة مظفر النواب .. القدس عروس عروبتكم .. ما أخطأ في وصفه و لا تبيانه !
أما من يكون له الود و الاحترام فأذكره بقوله تعالى " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الأيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون"
سعيد بمشاركتك
الأخت سهام الليل ..
لم يعد في هذه الدنيا أي أمر مستغرب ! كل شيء أصبح جائزا و لينا و مباحا .. ما عدا رفع راية لا إله إلا الله .. نسأل الله الفرج القريب
أما الغرب فهم لم و لن يفعلوا ... لأن عقيدتهم تقول بذلك .. و هم بها ملتزمون .. فهم يتعظ المسلمون ؟
الأخت الحنين للقمر :
هي صورة الواقع أنقلها لكم !
أخي المغترب ..
في البداية آنسني وجودك في المنتدى و تسطير قلمك .. ثم مرورك على موضوعي ..
و لعل في ما نقلت عن الشيخ بن باز الفائدة لمن كان في غفلة ... إضافة قيمة .. بارك الله بك
الأخ ماركو بولو
حتى من صدق في مودته منهم .. أقول من صدق و بان عليه ذلك .. لا يجوز الدعاء له بالمغفرة و لا الرحمة .. لأنه مات على غير ملة الإسلام و الهل تعالى يقول " و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ، و هو في الآخرة من الخاسرين "
و هذه فتوى الشيخ ناصر العمر عندما سئل عن الموضوع :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصلنا أخيراً نبأ وفاة بابا الفاتيكان فرأينا الكثير من المسلمين يتباكون ويعزون في وفاته وسؤالي فضيلة الشيخ وأرجو ألا تتأخروا في الإجابة لأهمية الأمر:
أولاً : هل هذا البابا كافر أم مسلم ؟
ثانياً : هل يجوز الدعاء له بالرحمة ؟
ثالثاً : هل يجوز لعنه والدعاء عليه ؟
رابعاً : هل الترحم عليه والحزن لأجله من الموالاة الناقضة للإسلام أم لا ؟
أرجو الإجابة بأسرع ما يمكن لأهمية الأمر وجزاكم الله خيراً
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن مما ابتليت به الأمة في عصورها المتأخرة كثرة الجهل وضعف العلم، مع كثرة قرائها وكتابها، ومن أثر ذلك ضعف معالم الولاء والبراء، والجهل بالبدهيات من أمور العقيدة، والرقة بالدين، ومداهنة أعداء الله. وبعض ما ذكره السائلون يندرج في هذا الباب مثل السؤال هل البابا كافر أو مسلم، فإذا لم يكن البابا كافراً فمن الكافر، وهل عن مثل ذلك يسأل لولا ما ذكرت، وقريب منه الدعاء له بالرحمة. والله المستعان.
وأشك في صحة النقل بأن أحد المشايخ يوجب الترحم عليه، ولا يقول بذلك من له أدنى علم بالشرع فضلاً عن أن يكون من المشايخ، ولكن لعل السائل نُقِل له ذلك، أو التبس عليه ما قال،فإن ثبت ذلك فلا نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل قال سبحانه (ومن يرد أن يضله فلن تملك له من الله شيئا )
وخلاصة الأمر:
-1 البابا كافر، لا شك في كفره، ووصيته وشهادة قومه تؤكد أنه مات على ذلك، وما شهدنا إلا بما علمنا.(/2)
-2 لا يجوز الترحم عليه، وهذا من الدعاء المنهي عنه، قال سبحانه: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (التوبة:113)، وقال سبحانه: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) (التوبة:84 ) والبابا مشرك لأنه يعتقد أن عيسى ابن الله، تعالى الله عما يقولون (وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) (التوبة: من الآية30)، ويقول بعقيدة التثليث، وهذا من بدهيات عقيدة النصارى.
- 3 أما لعنه، فالصحيح أنه يجوز لعن من مات كافراً، أما إعلان اللعن والدعاء عليه فتراعى فيه قاعدة المصالح والمفاسد – كما قرر أهل العلم -.
4- أما التعزية ففيها تفصيل:
إن كان المراد تعزية أهله وقرابته لا أهل ملته، فقد كرهه بعض السلف، لكن الراجح جواز ذلك، لأن من السلف من عزى أهل الذمة في أمواتهم ، ذكر ذلك ابن القيم – رحمه الله – في كتابه الرائع (أحكام أهل الذمة) ج1/ص438 فصل في تعزيتهم.
لكن يجدر التنبيه إلى أنه لا يجوز في التعزية الدعاء للميت بالرحمة ولا لأهله الكفار بحصول الأجر والثواب ،كما يقال ذلك للمسلمين ،لأن الله لا يقبل من الكافر عملا ولا طاعة حتى يسلم ،وإنما يقال أخلف الله لكم خيرا منه ،ونحو ذلك من الكلمات ،كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله قال في (أحكام أهل الذمة ) { قال الحسن إذا عزيت الذمي فقل لا يصيبك إلا خير وقال عباس بن محمد الدوري سألت أحمد بن حنبل قلت له اليهودي والنصراني يعزيني أي شيء أرد إليه فأطرق ساعة ثم قال ما أحفظ فيه شيئاً وقال حرب قلت لإسحاق فكيف يعزي المشرك قال: يقول أكثر الله مالك وولدك"}.ا ـ هـ
أما تعزية أهل ملته إذا مات منهم قسيس ونحوه فلا يجوز، لأن مفسدتها تربو على مصلحتها،وحيث يوهم الجهال بأن ما هم عليه حق، وبذلك فيغتر أهل الكتاب والمسلمون على السواء ،بل إن تعزيته وبخاصة إذا كان معظما فيهم كالبابا ، أشد أثراً خطرا من مجرد تهنئتهم على عيدٍ أو شعيرةٍ دينية ،وهذا أمرٌ لا يخفى قال الشيخ محمد بن عثيمين في حكم تعزية الكافر : { والراجح أنه إذا كان يفهم من تعزيتهم إعزازهم وإكرامهم كانت حراماً وإلا فينظر في المصلحة } مجموع فتاواه /303ً .
والذي يطالع كثيراً مما كتبته بعض وسائل الإعلام حول وفاة البابا يحزن لما وصلت إليه حال كثير من المسلمين، حتى إن بعضهم يمدحه بأنه خدم أهل ملته ونشر دينه، وصاحب هذا القول يخشى عليه؛ لأن خدمته لدينه هو نشر الكفر والشرك وحرب الإسلام – كما هو مشاهد وواقع – نسأل الله أن يلطف بنا ولا يؤاخذنا بما فعل السفهاء والجهّال منا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
د. ناصر العمر
----------------
غباء مستفحل .. وجيب أستئصالة
هذا الرجل صاحب القبعة السحرية ، الذي يحاول تشتيت المسلمين بكلامة الغير منطقي ( انه القرضاوي )
ماذا ننتظر ننتظر من رجل حل غزو العراق و و حرم الدفاع عن العراق ؟!
ماذا ننتظر ننتظر من رجل حلل الغناء بكل انواعة ؟!
ماذا ننتظر من رجل حلل سفر المرأة المسلمة بدون محرم ؟!
ماذا ننتظر من رجل يستبيح دم الابرياء في العراق و فلسطين ؟!
ماذا ننتظر من شيخ يحاول ارضاء الامريكان بكلامة الغير منطقي ...؟؟!
هذا هو القرضااااااااااااوي باشا
---------------
بسم الله الرحمن الرحيم
إخواني ,,,,,, الغادي ,,, اللورد ,,,, محايد ,,,,, الأخت ,,,, وررردة ,,,,
هؤلاء هم علماء السوء الذين يقفون شاؤوا أم أبوا صفا واحدا ضد دين الله الحق وأهله ودعاته .
إن أعداء الأمة القابعين بين صفوفها أخطر بكثير من العدو الخارجي الظاهر العداوة .
فالإبتداع في الدين حقيقته إستدراك على الشرع المنزل في القرآن والسنّة وتطاول على حق من حقوق الرب جل وعلا
وهو حق التشريع.
تعليقا على كلامك أخي الغادي عن لحوم العلماء أنقل هذا الكلمات القيمة التي صدرت عن عالم رباني بحق الإمام العلامة
ابن قيم الجوزية _ رحمه الله _ عن أمثال هذا القرضاوي .
قال الإمام القيم بن قيم الجوزية _ رحمه الله _ في كتابه ( الفوائد ) عن علماء السوء
: (( علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ويدعونهم إلى النار بأفعالهم .
فكلما قالت أقوالهم للناس : هلموا . قالت أفعالهم : لا تسمعوا منهم فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له .
فهم في الصورة أدلاء وفي الحقيقة قطاع طرق)) .
إن من النقاط التي إستوقفتني في كلام هذا الدعي القرضاوي تلك الكلمات التي يريد ويتمنى فيها أن يُنتخب أئمة
الإسلام وعلماءه من قبل الناس أي _ بالديمقراطية _ ...!!!!!!
ويتمنى صراحة أن نكون بمثل نهج النصارى الذين إتخذوا رهبانهم وأحبارهم أربابا من دون الله ، نعوذ بالله من الخذلان.(/3)
بلا شك أن القرضاوي من أوائل من سيرشح نفسه ليكون (بابا) المسلمين لو حدث هذا ووقع ..!!!!
وحسب هذه (الديمقراطية ) في تعيين _إمام أكبر_ كما سماه هو فإن أئمة الأمة السالفين والمعاصرين لا شرعية لهم إذ
أنهم إما أنهم معينون من قبل أولياء الأمور أو أنهم سادوا بعلمهم وفضل علو باعهم في الشريعة فألقى الله لهم
القبول في الأرض ولو سخط أعداء الله وغضبوا .
فليت شعري أين يذهب القرضاوي بأئمة المسلمين كالإمام أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة والبخاري ومسلم وابن تيمية وابن القيم
ووو ...الخ من العلماء والأئمة الصادقين المرضيين _ رحمهم الله _ فكل هؤلاء لم تُنصب لهم صناديق الإقتراع ليصوت الناس لهم بالموافقة
ليستحقوا أن يكونوا أئمة وعلماء !!!..... بل عدد منهم عذب وحورب حتى من قبل ولاة الأمر بسبب علماء السوء الذين أحاطوا
بهم وغرروهم في دينهم وحرضوهم على المذهب الحق مذهب أهل السنة والجماعة كما حدث ذلك للإمام أحمد في فتنة خلق القرآن
وأسماء الله وصفاته التي أوقد نارها المعتزلة ورأسهم آنذاك أحمد بن أبي دؤاد وفتنتهم للخليفة هارون الرشيد والمأمون ..
وما حدث أيضا لشيخ الإسلام بن تيمية مع الأشاعرة والصوفية وتحريضهم لولاة الأمر عليه وعلى دعوته السلفية الحقة .
ومع ذلك نعرف من سيرة هؤلاء الأئمة في معاملة الحاكم وولي الأمر وفق منهج السلف في عدم الخروج عليهم ورفع السيف وتحريض
الخلق والإستهتار بدماء المسلمين رغم ما لاقوه من نكال وعذاب على أيديهم . لأنهم كانوا دعاة لله لا لأنفسهم كما يفعل
الخوارج قديما وحديثا .
والله وحده المستعان .
-------------
الدعاة المضلين : ضرورة المناقشة ( القرضاوي الى اين ؟!)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الرسول الكريم (( اخوف ما اخاف على امتي الامة المضلين )) الحديث ...
اخواني في الله : انه ليوسفني ان اسمع من احدالشيوخ ( شيوخ الفضائيات ) ان اسمع منه كلام لا يتناسب مع ديننا الاسلامي .. فوا اسفاه!!
ففي برنامج الشريعة والحياة التي تبثه قناة الجزيرة لقد قام الشيخ القرضاوي بالترحم على اكبر المنصرين ومن الذين قالو ان الله ثالث ثلاثة وهو اكبرهم عداوه للاسلام قام بالترحم على البابا يوحنا الثاني بابا الفاتيكان بعد وفاتة : قال الله يرحمه فقد كان مخلص في نشر رسالتة الدينية ! . فهل هناك دين غير الاسلام؟ والله سبحانه وتعالى يقول (( ومن يبتغ غير الاسلام دينن فلن يقبل منه )) وقال انه كان رجل سلام !!!!!! اي سلام وقد دس النصرانية في بلاد المسلمين ......
فا القرضاوي نراه في اقواله انه متجه الى الهاويه
وا اسفاه !! ايطلع الكلام هذا من رجل يدعي انه عالم او مفتي اسلامي ؟
وا اسفاه !! ايطلع الكلام هذا من رجل ملا الارض صيته عبر الفضائيات بانه رجل واعي ديننا الاسلامي ..
اخواني فان هذا الكلام قد سمعه الكثيرين من القرضاوي . فارجو الحذر والحذر من علما الفضائيات .
فارجو من اخواني المناقشة في هذا الموضوع لكي نتفاقم الامر ونوعاه
والسلام عليكم ورحمة الله وبراكاته ...
--------------
صنعاني فرص ...
بسم الله الرحمن الرحيم
رب اشرح لي صدري ويسر لي امري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي
قال شيخ الجهاد في عصره عبد الله بن المبارك رحمه الله
وهل أفسد الدينَ إلا الملوكُ --- وأحبارُ سوءٍ ورهبانُها
نعم والله صدق عبد الله بن مبارك
فما افسد الدين الا الملوك واحبار سوء ورهبانها
وفي ايامنا هذه قد انتشر علماء السوء بكثرة وساعد وساهم في نشرهم امريكا الكافرة في محاولة لهدم الاسلام من داخله
وكذلك حكامنا العرب كثير منهم يعلم مدى تاثير الدين على الناس فيستخدم العلماء لاغراضه ومصالحه الشخصية ويستخدم وسائله من تلفاز واذاعة وصحف وغيرها للبس الحق بالباطل
وبقينا نحن العامة في فتنة كبيرة بعضنا لا يهتم ولا يكترث والبعض مهتم وتائه لا يدري اي طريق يسلك والبعض قد سلم عقله لغيره
في الماسنجر كنت اتحدث مع احد الاخوة في هذا المنتدى فساقنا الحديث الى ذكر مسئلة من المسائل فقلته له ان هذه المسئلة ليست من الاسلام في شيء فقال لي أنه يثق بمن علمه تلك المسئلة فقلت له ليس لك الحق ان تثق بأي شخص ما لم يكن ذلك الشخص هو نبي الله محمد بن عبد الله عليه وعلى اله الصلاة والسلام
فاقول لاخوتي واخواتي في المنتدى
كل منا سيحاسب بمفرده
قال الله عز وجل
ان كل من في السماوات والارض الا آتي الرحمن عبدا
لقد احصاهم وعدهم عدا
وكلهم آتيه يوم القيامة فردا
كلنا سناتي الرحمن فردا
لن تأتي مع شيخك ولن تأتي مع ابيك ولا مع امك ولن ينفعك احد
ولن تعذر بقولك يا الله انا اتبعت فلان هو من قال لي افعل كذا او قال لي لا تفعل كذا
قال الله تعالى
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُِ(/4)
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِِ
فليعلم الجميع ليست الحجة في الاشخاص انما الحجة فيما قاله الله وقاله رسوله كتاب وسنة
فلندخل الى موضوع الاخ
الدكتور يوسف القرضاوي
عندما كنت في الثانوية كانت عليا مادة الثقافة الاسلامية وكنا ندرس كتاباً لهذا الشخص يوسف القرضاوي
احببت الكتاب واحببت كاتبه وكنت أظن كاتبه من من عاشوا في العصور القديمة للاسلام
وبعد سنين في قناة الجزيرة رأيت مقابلة مع احد العلماء المصريين واذا به هو نفسه يوسف القرضاوي
فبصراحة عند رؤيتي له ابتعدت كل الهيبة التي كانت له في قلبي لا ادري لماذا ربما من تأتأته في الكلام ولهجته المصريه
لكنني ما غيرت رأيي فيه وجلست أنظر اليه عالم جليل
وكنت اتابعه كثيراً على التلفاز وبصراحة كانت تصدر منه جمل لا يتقبلها عقلي لا اقتنع بها ولا ااخذ بها لكنني لم اجعلها تغير من نظرتي له
وتراكمت تلك الاشياء
وفي يوم من الايام سمعت ان احد شيوخ اليمن من اصحاب الفكر السلفي قد الف كتاباً اسماه
اسكات الكلب العاوي يوسف القرضاوي
فانذهلت بصراحة واعتبرت مؤلف هذا الكتاب رجل حاقد يسب ويشتم بلا ادب ولا اخلاق
وفي يوم من الايام على قناة اقرأ كان الشيخ يوسف القرضاوي في برنامج مع رجلين وامرأتين ومجموعة من المتفرجين في برنامج لا اذكر اسمه
وكان الحديث عن تعدد الزوجات و احقية المرأة في الولاية وبعض الاحاديث المتعلقة بالمرأة
لم تعجبني اكثر ما في الحلقة وكنت كشاب استغرب هذا الشيخ يوسف القرضاوي يجلس واماه نساء متبرجات وو
واتعجب
وبعدها حصلت على مقال رائع للشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق وهو يرد على القرضاوي في تلك الحلقة التي انا شخصياً كنت شاهدا عليها
وكان الرد مسكتاً ومقنعاً
حيث أن القرضاوي في ذلك البرنامج اعترض على حديث من الاحاديث ولم يقبل الاخذ به وكانت حجته ان رسول الله كان يمزح
فكان رد الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق
الخصه بالنقاط التالية
1- هذا البوابة التي فتحها يوسف القرضاوي يمكن من خلاالها هدم الدين كله وكلما لم يعجبنا شيء نقول كان رسول الله يمزح
2- بين الشيخ ان الحديث لم يكن فيه شيء من المزاح بل كان في بيان وعظ وارشاد
3- ان رسول الله لا يكذب مازحاً او جادا حاشاه ان يكذب ومزاحه حق سلام الله عليه
المهم يوم ورى يوم وتراكمت عندي اقوال غريبة للشيخ يوسف القرضاوي
ووالدي والدي العزيز بعض الاحيان يسئلني عن مسئلة شرعية فان كنت اعلم اخبره باقوال اهل العلم
فاذا لم يعجب ابي الكلام يقول لي ايش قال القرضاوي
فأي بسؤاله عن ما قاله القرضاوي يبحث عن السهل والبسيط
وهذا غلط وستين غلط
لكني ذكرت ذلك لاخبركم ان الكثير منا يجد في القرضاوي السهولة واليسر والتفلت ولهذا يحب ان يأخذ بكلام هذا الشيخ
يوسف القرضاوي
من يحضر اجتماعات التقريب بين الاديان
من يقول علناً ان النصارى اخواننا في الايمان
من افتى للامريكي بالمسلم بجواز ان يحارب المسلمين مع الامريكان اذا طلب منه ذلك
هذا الرجل زعل زعل شديد على فقدانه لحبيبه وصديقه واخوه البابا يوحنا
اخر ما سمعته من القرضاوي بصوته وقرأته من قناة الجزيرة
هو كلامه عن البابا يوحنا الذي توفي قبل فترة
فدخل في قلبي كره شديد وبغض ما بعده بغض لهذا الشخص المدعو الدكتور يوسف القرضاوي
وانا هنا احذر الجميع منه واقول عليكم ان تتحروا فيما يقوله هذا الشخص
بل عليكم ان تتحروا فيما يقوله اي شخص
لا تسلموا عقولكم لاحد
واسمحوا لي ان استعرض كلام القرضاوي لنناقشة ان كان هنا من يريد النقاش
نقلاً من موقع قناة الجزيرة وهذا رابط النقل
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/E...E-AADA290DFF18
ويوجد بصوته
البرنامج: الشريعة والحياة
الموضوع :المساواة بين الرجل والمرأة وتطبيقاتها
مقدم البرنامج :- خديجة بن قنة
ضيف البرنامج :- يوسف القرضاوي
خديجة بن قنة: فضيلة الشيخ لنبدأ من قول الله سبحانه وتعالى على لسان أم مريم {ولَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} هل هذا شرع أم عرف؟ وفي أي سياق وُرَد وهل هو بالمطلق هكذا؟(/5)
يوسف القرضاوي: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأزكى صلوات الله وتسليماته على من بعثه الله رحمة للعالمين وحجة على الناس أجمعين سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا ومعلمنا محمد وعلى أهله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بسُنته إلى يوم الدين، أما بعد فقد جرت عاداتنا في هذا البرنامج أن نتحدث عن أعلام العلماء من المسلمين حينما ينتقلون من هذه الدنيا إلى الدار الآخرة ونحن اليوم على غير هذه العادة نتحدث عن عَلم ولكن ليس من أعلام المسلمين ولكنه عَلم أعلام المسيحية وهو الحَبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية وأعظم رجل يُشار إليه بالبنان في الديانة المسيحية.
لقد توفي بالأمس وتناقلت الدنيا خبر هذه الوفاة ومن حقنا أو من واجبنا أن نقدم العزاء إلى الأمة المسيحية وإلى أحبار المسيحية في الفاتيكان وغير الفاتيكان من أنحاء العالم وبعضهم أصدقاء لنا، لاقيناهم في أكثر من مؤتمر وأكثر من ندوة وأكثر من حوار، نقدم لهؤلاء العزاء في وفاة هذا الحَبر الأعظم الذي يختاره المسيحيون عادة اختيارا حرا، نحن المسلمين نحلم بمثل هذا أن يستطيع علماء الأمة أن يختاروا يعني شيخهم الأكبر أو إمامهم الأكبر اختيارا حرا وليس بتعيين من دولة من الدول أو حكومة من الحكومات، نقدم عزاءنا في هذا البابا الذي كان له مواقف تذكر وتشكر له، ربما يعني بعض المسلمين يقول أنه لم يعتذر عن الحروب الصليبية وما جرى فيها من مآسي للمسلمين كما اعتذر لليهود وبعضهم يأخذ عليه بعض أشياء ولكن مواقف الرجل العامة وإخلاصه في نشر دينه ونشاطه حتى رغم شيخوخته وكبر سنه، فقد طاف العالم كله وزار بلاد ومنها بلاد المسلمين نفسها، فكان مخلصا لدينه وناشطا من أعظم النشطاء في نشر دعوته والإيمان برسالته وكان له مواقف سياسية يعني تُسجل له في حسناته مثل موقفه ضد الحروب بصفة عامة.
فكان الرجل رجل سلام وداعية سلام ووقف ضد الحرب على العراق ووقف أيضا ضد إقامة الجدار العازل في الأرض الفلسطينية وأدان اليهود في ذلك وله مواقف مثل هذه يعني تُذكر فتشكر.. لا نستطيع إلا أن ندعو الله تعالى أن يرحمه ويثيبه بقدر ما قدَّم من خير للإنسانية وما خلف من عمل صالح أو أثر طيب ونقدم عزاءنا للمسيحيين في أنحاء العالم ولأصدقائنا في روما وأصدقائنا في جمعية سانت تيديو في روما ونسأل الله أن يعوِّض الأمة المسيحية فيه خيرا، نعود إلى سؤالك يا أخت
============
هنا اتوقف
الاخت مقدمة البرنامج تسئل عن قوله تعالي وليس الذكر كالأنثى
لكن يوسف القرضاوي لم يفوت الفرصه لا بد من تعزيته لصديقه البابا
وايش دخل البابا بالذكر والانثى يا يوسف القرضاوي
ويا ليته عزاه بس
لكنه اثناء عليه ولماذا يا ترى اثنى عليه
لان هذا البابا مدري الماما مخلص في نشر دينه ودعوته
بل انه هذا الحبر الاعظم يأتي الى بلاد المسلمين الى اين
بلاد المسلمين لماذا لينشر دينه ودعوته فيستحق منا يوحنا كل احترام وتقدير
نعم نعم البابا يوحنا رجل رائع انه ينشر دينه في بلاد المسلمين
استغفر الله العلي العظيم
ثم اختتم يوسف القرضاوي كلامه بقوله نسئل الله ان يرحمه بقدر ما قدم من خير
يا سلام يا سلام
لا حول ولا قوة الا بالله ما هذا الكلام الخبيث
لا ادري كيف سنناقش هذا الامر ساحاول ان اتمالك اعصابي
1- بالنسبة لتعزية الكفار
فمن اهل العلم من اجاز ذلك غير أني شخصياً لن ولن ولن افعل ذلك ولو على جثتي
قبل ان اعزي ذاك النصراني عليا ان افكر اولاً بتعزية ملايين ملايين المسلمين الذين يقتلون ويهانون كل يوم هنا وهناك من قبل نصارى ويهود وهندوس وملحدين وكل الكفار
2- كلما كان الكافر مترقيا في دينه كلما كان اخبث واخطر على الاسلام والمسلمين
والمفروض بغضنا له وعداوتانا اياه تكون اكبر من عداوة الكافر الجاهل
3- المفروض نبغض النصارى وما هم عليه على الاقل نسكت
اما ان نشكرهم على سعيهم لنشر دينهم ونشكرهم على مجيئهم الى بلاد المسلمين هذا كلام غريب عجيب
الجبال السموات هذه المخلوقات الجماد
مليئة بالغيض والحرقة بسبب ما يقوله النصارى
وانت ايها المسلم تشكر النصارى لنشرهم دينهم ؟ وفي بلاد المسلمين
قال الله تعالى
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًاِ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّاِ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّاِ أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًاِ
اللهم اني اشهدك على ما في قلبي من غيض على ما يقوله النصارى فيك حاشاك يا الله حاشاك يا الله
كلنا عبيدك وعيسى بن مريم عبدك ونبيك
وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًاِ
اللهم إنا نبرأ اليك من النصارى وما يقولون ونبرأ اليك من من احبهم ورضي بما يقولون واعتبرهم اخوانا له
4- ترحم يوشف القرضاوي على البابا
لا حول ولا قوة الا بالله
قال الله تعالى
=======(/6)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِِ
=======
وهذه الاية نزلت في عم رسول الله ابا طالب من ناصر رسول الله وعاونه وحماه
ولم يرضى ان يسلم
فقال رسول الله لاستغفرن لك ما لم انه عنك
فجاء النهي
ما كان للنبي
فاستغفر الله العظيم
وقال الله تعالى
وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه
ان شاء الله لي عودة جائني ضيف الان
تحياتي
---------------(/7)
القس يولوجيوسوحركة شهداء الصليب'
ما أشبه الليلة بالبارحة :السبت 10ربيع الأول1427هـ – 8 أبريل 2006م
كتبه شريف عبد العزيز
shreef@islammemo.cc
مفكرة الإسلام : هذه القصة العابرة في ثنايا كتب التاريخ الأندلسي تكشف لنا وبجلاء الأبعاد النفسية والجذور العقائدية في قضية سب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتظهر لنا حقيقة تاريخية لم يفطن إليها وللأسف كل من تعرض لحادثة سب الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحف الدانمركية والأوروبية، وتلقى هذه الحادثة الضوء على الجزء المظلم في هذه القضية، وهل سمع أحد من المسلمين إلا من رحم الله عز وجل يوماً عن حركة الاستشهاد الصليبي التي قادها القس 'يولوجيوس' بالأندلس وحتى لا يعجل علينا أحد فيقول : وهل يستشهد عباد الصليب ؟؟ نروى له هذه الحادثة كما رواها الأولون :
لم يكد يقترب عهد عبد الرحمن بن الحكم من نهايته في الأندلس حتى عمت البلاد الثقافة العربية والإسلامية وانتشرت اللغة العربية والإسلام بين الأسبان الأصليين، وانبهر الأسبان برقى الحضارة الإسلامية وحتى من بقى على النصرانية من الأسبان نسى علائقه القديمة باللغة والآداب اللاتينية وأقبل على اللغة العربية، وعرفت هذه الطبقة باسم 'المستعربين'، ونظراً لإتباع أمراء الأندلس لسياسة العدل والحرية والشرع، أقبل الأسبان على الدخول في دين الله أفواجاً، وهذه الأمور أغاظت وبشدة قساوسة الكنيسة الأسبانية الذين أحنقهم دخول معظم الأسبان في الإسلام واستعراب من بقى منهم، وغضبوا بشدة من تناقص أعداد النصارى حتى وصلوا لمرتبة الأقلية، وزاد غضبهم وحقدهم نتيجة تبكيت كرسي البابوية لهم باستمرار عن تخاذلهم في وقف المد الإسلامي خاصة وأن قساوسة إسبانيا كانوا على خلاف عقائدي مع كرسي البابوية بسبب الطقوس والشعائر الصلواتية .
في هذه الأجواء القاتمة بالنسبة لقساوسة إسبانيا ظهرت حركة القس 'يولوجيوس' في قرطبة لمقاومة موجة الإسلام والاستعراب بها، 'ويولوجيوس' كان قسيساً زاهداً أسس حركته على فكرة الاستشهاد من أجل الصليب وذلك بسب الإسلام وسب الرسول صلى الله عليه وسلم في الأماكن العامة وبالتالي يقتلهم المسلمون ويصبحوا هم شهداء من أجل دينهم ويلفتون الأنظار لقضية تراجع النصرانية في إسبانيا، وقد استطاع 'يولوجيوس' أن يقنع العديد من الرجال والنساء بفكرته المضطرمة بالحقد والحسد على الإسلام .
كان أول ظهور علني لهذه الحركة يوم 1 شوال سنة 236 هجرية / 850 ميلادية عندما انبرى أحد أتباع هذه الحركة واسمه 'برفيكتوس' ووقف في طريق المسلمين عند خروجهم من مصلى عيد الفطر وأخذ في سب الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذ وشنق، وبعدها أخذ قساوسة قرطبة في الترويج لشائعة أن 'برفيكتوس' من القديسين ونسبوا إليه عمل الكرامات وشفاء الأمراض، ليلفتوا النظر إلى حركتهم ويكسبوا أعضاء جدد، ثم حدث بعد ذلك بقليل أن تظاهر راهباً اسمه 'إسحاق' برغبته في اعتناق الإسلام وسمح له بالوقوف أمام القاضي ، وأخذ القاضي يشرح له مبادئ الإسلام وأصوله فلم يكد ينتهي القاضي من شرحه حتى انبرى له الراهب وأخذ في سب النبي صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام فأمر القاضي بقتله وأعلنت الحركة أن' إسحاق' قد أصبح من ضمن القديسين أيضا، ومن ثم بدأ التسابق على الاستشهاد 'الانتحار' بسب الرسول والإسلام وبلغ عدد من قتل بهذه الطريقة أحد عشر شخصاً ودخلت بعض الفتيات في المضمار منهم فتاة منهم تدعى' فلورا 'وقد حبست فترة طويلة لترجع عن سب النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها أصرت فأعدمت، ونظمت هي الأخرى في دعاية القديسين .
حاول بعض عقلاء النصارى أن يكبحوا جماح هذه الحركة المتعصبة، ولكنها ظلت مشتعلة حتى قام 'يولوجيوس' نفسه بالاستشهاد سنة 245 هجرية 859 ميلادية وبعدها بدأت الحركة في الضعف تدريجياً حتى انتهت من تلقاء نفسها.
هذه الحادثة العابرة في بطون كتب التاريخ تكشف لنا عن دلالات هامة في قضية سب الرسول صلى الله عليه وسلم :-
هذه الحادثة تكشف لنا عن الروح العميقة من التعصب والحقد على الإسلام عموماً ورمزه خصوصاً وهو النبي صلى الله عليه وسلم, وأن هذه القضية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنفسية الإيمانية والدينية المضطرمة ببغض الرسول وحتى ولو كان المقابل هو الانتحار من أجل نصرة الصليب.
تكشف أيضاً هذه الحادثة أنه مهما كان الغرب علمانياً أو إباحياً أو ملحداً، فمازالت ثوابته النفسية تجاه الرسول والإسلام واحدة ثابتة وهى في مجملها غلٌ وحقدُ وبغضٌ وكره يفوق الوصف للدين ورسوله.(/1)
تكشف لنا هذه الحادثة أيضاً أن سب الرسول هو نوعٌ من الدفاع عن النصرانية بزعمهم ، واعتراض خفي على انتشار الإسلام بين أبناء الدول الأوروبية والأمريكية, وتناقص أعداد النصارى, على الرغم من قلة المجهودات المبذولة من أجل نشر الإسلام، الذي ينتشر بذاتيته الوهاجة بين الأوروبيين، وعلى الرغم من المعوقات الضخمة التي توضع في طريق الدعوة, بل والحرب المعلنة على الإسلام، وفي نفس الوقت على الفشل الذريع والظاهر لجهود التنصير في بلاد المسلمين رغم الأموال الطائلة التي تنفق على ذلك .
وبالجملة فدين الله عز وجل غالب رغم أنف كل من يقف في طريقه، فهو وعد الله ووعد رسول الله للعالمين .
المصادر
البيان المغرب
دولة الإسلام في الأندلس
تاريخ المغرب والأندلس
تاريخ الغرب الإسلامي
المسلمون وآثارهم في الأندلس(/2)
القسوة
حين تجف داخلَ النفس الإنسانية عاطفة الإحساس بآلام الآخرين وحاجاتهم، وحين تنعدم من القلوب الرحمة تحل القسوة بالقلوب فتسمي مثل الحجارة التي لا ترشح بأي عطاء ، أو أشد قسوة من الحجارة؛ لأن من الحجارة ما تتشقق قسوته الظاهرة فيندفع العطاء من باطنه ماءً عذبًا نقيًا، ولكن بعض الذين قست قلوبهم يجف من أغوارها كل أثر للفيض والعطاء. وقد وصل أقوام إلى هذا الحال من القسوة وانعدام الرحمة، فقد خاطب الله بني إسرائيل فقال: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) إن من الحجارة ما يخرج منه العطاء، أما قلوب هؤلاء فلا تتدفق لأي مؤثر يستثير الرحمة، فتظل في قسوتها واستكبارها. ثم بيَّن الله السبب الذي لأجله قست قلوب أهل الكتاب: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) إن أية أمة يطول عليها الأمد وهي تتقلب في بحبوحة النعم على فسق وفجور ومعصية ونسيان لربها، تقسو قلوبها فلا تخشع لذكر الله وما نزل من الحق، وبهذا يبتعدون عن مهابط الرحمة فتقسو القلوب أكثر فأكثر. وحين تشتد قسوة قلوب الأمم، يكون آخر علاج لإصلاحها أن تنزل بها الآلام والمصائب، لتردها إلى الله، فتلجأ إليه وتتضرع بذل وانكسار لاستدرار رحمته. فإذا لم تستجب القلوب لهذا الدواء، أتى دور الهلاك وفق سنة الله بعد أن يفتح عليهم أبواب كل شيء من الترف والنعمة، حتى إذا اغتروا بما عندهم من زهرة الدنيا وزينتها أتاهم عذاب الله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) إن الذين قست قلوبهم قسوة بالغة، فهي لا تلين عند ذكر الله، وتظل معرضة عنه، ولا يزيدها التذكير بالله إلا قسوة ونفورًا، فأولئك الويل لهم: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) إن أصحاب هذه القلوب القاسية هم أبعد الناس عن الله،كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد القلوب عن الله القلب القاسي". إن حرارة الإيمان تستطيع أن تنضج القلوب فتلينها وترققها، فإذا غذاها وقود العمل الصالح والإكثار من الذكر، ومراقبة عدل الله وفضله وسلطانه المهيمن على جميع خلقه رقَّت القلوب وخشعت.. ومتى وصلت القلوب إلى هذه المرحلة تدفقت منها الرحمة. أما عند غياب هذه المعاني الإيمانية عن القلوب فإنها تتيه في ظلمات الضلال والغواية والعصيان، فتقسو وتتكبر. وما أعظمها من عقوبة ،والعجب أن صاحب هذا القلب لا يشعر بأنه معاقب. وما أشد هذه العقوبة وأعظمها، يقول مالك بن دينار: ما ضُرب عبدٌ بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم. أما عن أعظم أسباب قسوة القلوب فقد أخبر الله عنه عندما ذكر السبب الذي جعل ذريات بني إسرائيل تقسو قلوبهم، فقال تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فالمعصية ومخالفة أمر الله ونقضهم العهد والميثاق سبَّب لهم الطرد عن الله، فابتعدوا بذلك عن مهابط رحمة الله، فأمست قلوبهم جافة(/1)
قاسية. فاحذر أيها الحبيب مما يسبب لك قسوة القلب،وإذا وجدت قسوة في قلبك فامسح رأس يتيم ،وأطعم المسكين ، وأكثر من ذكر مولاك ، وسله شفاء قلبك. رزقنا الله وإياكم رقة القلب وأعاذنا وإياكم من القسوة ، وصلى الله على أرحم الخلق محمد وآله وصحبه وسلم " الحمد لله على نعمه الاسلام "(/2)
القصة القرآنية .. لها مقصد وهدف
أن الذي يتدبر القرآن الكريم، يرى جانبا كبيرا من آياته وسوره، قد اشتمل على قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعلى قصص غيرهم من الأخيار والأشرار.
يرى ذلك بصورة أكثر تفصيلا في السور المكية، التي كان نزولها قبل الهجرة، لأنها في الأعم والأغلب اهتمت بإقامة الأدلة على وحدانية الله تعالى وعلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، وعلى أن هذا القرآن من عند الله تعالى وعلى أن البعث وما يترتب عليه من ثواب أو عقاب حق وصدق.
وهذه الأدلة ساقتها السور المكية تارة عن طريق قصص الأنبياء مع أقوامهم، وتارة عن غير ذلك من الطرق الأخرى، كالنظر في ملكوت السماوات والأرض، وفي خلق الإنسان وغيره من سائر المخلوقات.
أما السور المدنية وهي التي كان نزولها بعد الهجرة، فهي في الأعم والأغلب اهتمت بعد أن رسخت العقيدة السليمة في قلوب المؤمنين، بتفصيل أحكام الشريعة العملية، كالعبادات، والمعاملات، والحدود، والعلاقات الاجتماعية، وتنظيم شئون الدولة الإسلامية داخليا وخارجيا..
فمثلا من السور المكية التي اشتمل معظمها، أو جانب كبير منها، على قصص الأنبياء، سور: الأعراف، ويونس، وهود، ويوسف، والشعراء، والقصص، والصافات .. الخ.
والقصة في كل زمان ومكان لها أثرها العميق في النفوس، لما فيها من عنصر التشويق، وجوانب الاعتبار والاتعاظ .. ولا تزال على رأس الوسائل التي يدخل منها الهداة والمصلحون والقادة، إلى قلوب الناس وعقولهم، لكي يسلكوا الطريق القويم، ويعتنقوا الفضائل، ويجتنبوا الرذائل، ويسلموا وجوههم لله الواحد القهار ومن هنا ساق ما ساق من قصص يمتاز بسمو الغاية، وشريف المقصد، وصدق الكلمة والموضوع، وتحري الحقيقة بحيث لا تشوبها شائبة من الوهم أو الخيال أو مخالفة الواقع.
كما أن من مميزات قصص القرآن: اشتماله عن طرق شتى في التربية والتهذيب، تارة عن طريق الحوار، وأحيانا عن طريق سلوك طريق الحكمة والاعتبار، وطورا عن طريق التخويف والإنذار نرى ذلك على سبيل المثال في قوله تعالى:
[{ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ "100" وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ "101" وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ "102" إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ "103" } (سورة هود: 100 ـ 103)]
وللقصة في القرآن الكريم أهداف سامية، ومقاصد عالية، وحكم متعددة من أهمها:
أ. بيان أن الرسل جميعا قد أرسلهم الله تعالى برسالة واحدة في أصولها ألا وهي إخلاص العبادة لله الواحد القهار، وأداء التكاليف التي كلف سبحانه خلقه بها وقد وردت آيات كثيرة تدل على أن أول كلمة قالها كل رسول لقومه، هي أمرهم بعبادة الله تعالى، ونهيهم عن عبادة أحد سواه.
فهذا نوح عليه السلام يقول لقومه كما حكى القرآن عنه:
[{يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (سورة الأعراف: 59)]
وهذا هود عليه السلام يقول لقومه:
[{يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (سورة الأعراف: 65)]
وهذا صالح عليه السلام يقول لقومه:
[{يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (سورة الأعراف: 73)]
وهذا شعيب عليه السلام يقول لقومه:
[{يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (سورة الأعراف: 85)]
فهذه الجملة الكريمة حكاية لما وجهه هؤلاء الأنبياء لقومهم من إرشادات وهدايات. أي: قالوا لهم بكل لطف وأدب: اعبدوا الله وحده لا شريك له، فإنه هو المستحق للعبادة، أما سواه فلا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.
ويحكي القرآن الكريم هذا المعنى على لسان كل نبي فيقول:
[{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (سورة الأنبياء: 25)]
أي: وما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول آخر، إلا وأفهمناه عن طريق وحينا، أنه لا إله يستحق العبادة والطاعة آلا أنا، فعليه أن يأمر قومه بذلك، وأن ينهاهم عن عبادة غيري.
ب. بيان أن هذا القرآن عند الله تعالى وأن ما اشتمل عليه هذا القرآن من قصص للسابقين، لا علم للرسول صلى الله عليه وسلم بها، وإنما علمها بعد أن أوحاها الله تعالى إليه، وأنه صادق فيما يبلغه عن ربه. استمع إلى القرآن وهو يقرر ذلك في مواطن متعددة، فيقول في أعقاب حديث طويل عن قصة نوح عليه السلام مع قومه:(/1)
[{تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } (سورة هود: 49)]
أي: تلك القصة التي قصصناها عليك عن نوح وقومه من أخبار الغيب الماضية، التي لا يعلم دقائقها وتفاصيلها أحد سوانا، ونحن "نوحيها إليك" ونعرفك بها عن طريق وحينا الصادق الأمين.
وهذه القصة وأمثالها "ما كنت تعلمها" أنت يا محمد، وما كان يعلمها "قومك" أيضا بهذه الصورة الصادقة الحكيمة "من قبل" هذا الذي الوقت أوحيناها إليك فيه.
ومادام الأمر كذلك "فاصبر" صبرا جميلا على تبليغ ما أمرك الله بتبليغه، كما صبر أخوك نوح من قبلك، واعلم أن العاقبة الحسنة للمتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل ما لا يرضي الله تعالى.
فالآية الكريمة تعقيب حكيم عن قصة نوح عليه السلام، قصد به الامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم كما قصد به الموعظة والتسلية.
أما الامتنان فنراه في قوله سبحانه: "ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا" وأما الموعظة فنراها في قوله تعالى: "فاصبر".
أما التسلية فنراها في قوله عز وجل: "أن العاقبة للمتقين". وشبيه بذلك ما قاله سبحانه في أعقاب الحديث الطويل عن قصة يوسف عليه السلام مع أخوته مع غيرهم قال تعالى:
[{ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ } (سورة يوسف: 102)]
أي: ذلك الذي قصصناه عليك يا محمد من قصة أخيك يوسف، من الأخبار الغيبية التي لا يعلمها علما تاما شاملا إلا الله تعالى وحده، ونحن "نوحيه إليك" ونخبرك به لما فيه من العظات والعبر.
وأنت يا محمد ما كنت حاضرا مع أخوة يوسف، وقت أن أجمعوا أمرهم للمكر به، وللاعتداء عليه، وقد أخبرناك بذلك للاعتبار والاتعاظ.
ونرى مثل هذا المعنى أيضا وهو الدلالة على أن هذا القرآن من عند الله تعالى وحده ما قصه سبحانه علينا بعد حديث طويل عن جانب من قصة موسى عليه السلام، وعن جانب من قصة مريم.
أما بالنسبة لقصة موسى عليه السلام فقد قال سبحانه:
[{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ "44" وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ "45" وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا .. "46"} (سورة القصص: الآيات 44 ـ46)]
أي: لم تكن يا محمد حاضرا وقت أن كلفنا أخاك موسى بحمل رسالتنا، وكان ذلك عند الجانب الغربي لجبل الطور، ولم تكن أيضا من المشاهدين لما أوحيناه إليه، ولكنا أخبرناك بذلك بعد أن خلت بينك وبين موسى أزمان طويلة.
ولم تكن إيضا مقيما في أهل مدين، وقت أن حدث ما حدث بين موسى عليه السلام وبين الشيخ الكبير وابنتيه من محاورات ..
ولم تكن كذلك بجانب جبل الطور وقت أن نادينا أخاك موسى، وأنزلنا إليه التوراة لتكون هداية ونورا لقومه.
فالمقصود بهذه الآيات الكريمة بيان أن هذا القرآن من عند الله تعالى، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن عالما بتلك الأحداث السابقة، وإنما أخبره الله تعالى بها عن طريق قرآنه الكريم، ووحيه الصادق الأمين.
وأما بالنسبة لقصة مريم، فقد قال سبحانه خلالها:
[{ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } (سورة آل عمران: الآية 44)]
أي: ذلك القصص الحكيم الذي قصصناه عليك يا محمد فيما يتعلق بما قالته امرأة عمران، وما قاله زكريا، وما قالته الملائكة لمريم.
ذلك كله من أخبار الغيب التي ما كنت تعلمها أنت ولا قومك، وإنما يعلمها الله وحده وأنت ما كنت حاضرا مع زكريا عليه السلام ومع الذين نافسوه في كفالة مريم، واقترعوا على ذلك فكانت كفالتها من نصيب زكريا عليه السلام، ومن الواضح أن المقصود بهذه الآية الكريمة، وما يشبهها من آيات كثيرة، إقامة الأدلة على أن هذا القرآن من عند الله تعالى، وأن ما اشتمل عليه من قصص السابقين لم يكن للرسول صلى الله عليه وسلم علم به، ولم يكن أيضا لغيره علم صحيح به.
فجاء القرآن الكريم بهذه القصص، وحكاها بالحق والصدق، لتكون عبرة وعظة للناس .. قال تعالى:
[{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (سورة آل عمران: الآية 62)]
وقال سبحانه:
[{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } (سورة الكهف: الآية 13)]
وقال عز وجل:
[{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } (سورة الأعراف: الآية 7)](/2)
جـ. كذلك من أهداف القصة في القرآن الكريم: تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، وتسليته عما أصابه من قومه وتبشيره صلى الله عليه وسلم بأن العاقبة الطيبة ستكون له ولأصحابه .. أما تثبيت فؤاده عن طريق قصص الأنبياء السابقين، فنراه في آيات كثيرة: منها قوله تعالى:
[{وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } (سورة هود: الآية 120)]
وقد جاءت هذه الآية الكريمة في أواخر سورة من سور القرآن الكريم الزاخرة بقصص الأنبياء مع أقوامهم وهي سورة هود عليه السلام.
فقد اشتملت هذه السورة على قصة نوح مع قومه، وقصة هود مع قومه، وقصة صالح ولوط وشعيب مع أقوامهم، وقصة إبراهيم مع الملائكة الذين جاءوا يبشرونه بابنه إسحاق، كما اشتملت على جانب من قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه.
والمعنى: وكل نبأ من أنباء الرسل الكرام السابقين نقصه عليك أيها الرسول الكريم ونخبرك عنه: المقصود به تثبيت قلبك، وتقوية يقينك، وتسلية نفسك ونفوس أصحابك، عما لحقكم من أذى في سبيل تبليغ دعوة الحق إلى الناس ..
ولقد جاءك يا محمد في هذه السورة الكريمة وغيرها من سور القرآن، الحق الثابت المطابق للواقع، والذكرى النافعة للمؤمنين بما جئت به.
وأما التسلية عن طريق قصص الأنبياء السابقين، والتسرية عن قلبه صلى الله عليه وسلم ودعوته إلى الاقتداء بهم في صبرهم .. فكل ذلك نراه في آيات كثيرة منها قوله سبحانه:
[{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ "52" أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ "53" فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ "54" وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ "55"} (سورة الذاريات: الآيات من 52: 55)]
وقد جاءت هذه الآيات بعد حديث مركز عن جانب من قصة إبراهيم وموسى وهود وصالح ونوح عليهم الصلاة والسلام.
والمعنى: نحن نخبرك يا محمد بأنه ما أتى الأقوام الذين قبل قومك من نبي أو رسول، يدعوهم إلى عبادتنا وطاعتنا، إلا وقالوا له كما قال قومك في شأنك هذا الذي يدعي الرسالة أو النبوة ساحر أو مجنون.
والمقصود بالآية الكريمة: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما أصابه من مشركي قريش، إذ بين له سبحانه أن ما أصابه قد أصاب الرسل من قبله، والمصيبة إذا عمت خفت.
ثم أضاف سبحانه إلى هذه التسلية تسلية أخرى فقال: "أتواصوا به"؟
أي: أوصي السابقون اللاحقين أن يقولوا لكل رسول يأتيهم من ربهم، أنت أيها الرسول ساحر أو مجنون!
وقوله سبحانه: "بل هم قوم طاغون": إضراب عن تواصيهم إضراب إبطال، لأنهم لم يجمعهم زمان واحد أو مكان واحد، حتى يوصي بعضهم بعضا، وإنما الذي جمعهم تشابه القلوب، والالتقاء على الكفر والفسوق والعصيان.
أي: هل وصى بعضهم بعضا بهذا القول القبيح؟ كلا لم يوص بعضهم بعضا، لأنهم لم يتلاقوا، وإنما تشابهت قلوبهم، فاتحدت ألسنتهم في هذا القول المنكر.
ثم تسلية ثالثة نراها في قوله تعالى: "فتول عنهم فما أنت بملوم".
أي: فأعرض عنهم أيها الرسول الكريم وسر في طريقك دون مبالاة بمكرهم وسفاهتهم، فما أنت بملوم على الإعراض عنهم، وما أنت بمعاقب منا على ترك مجادلتهم ..
وداود على التذكير والتبشير والإنذار مهما تقول المتقولون، فإن التذكير بما أوحيناه إليك من هدايات سامية، وآداب حكيمة .. ينفع المؤمنين.
وشبيه بهذه الآيات في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أذى، قوله تعالى:
[{وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ "42" وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ "43" وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ "44"} (سورة الحج: 42 ـ 44)]
وأما دعوته صلى الله عليه وسلم على الاقتداء بإخوانه الأنبياء السابقين في صبرهم، فناره في آيات متعددة .. منها قوله سبحانه:
[{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ .. } (سورة الأنعام: 90)]
وقد جاءت هذه الآية الكريمة بعد أن ذكر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في الآيات السابقة عليها أسماء ثمانية عشر نبيا، ثم أمره بالاقتداء بهم فقال:
[{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ .. } (سورة الأنعام: 90)]
أي: أولئك الأنبياء الذين ذكرناهم لك يا محمد، هم الذين هديناهم إلى الحق، وإلى الطريق المستقيم فبطريقتهم إلى الإيمان بالله، وفي ثباتهم على الحق، كن مقتديا ومتأسيا.
وأما تبشيره صلى الله عليه وسلم عن طريق قصص الأنبياء السابقين بأن النصر سيكون له ولأتباعه، فنراه في آيات كثيرة: منها قوله تعالى:(/3)
[{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ } (سورة الأنعام: 34)]
أي: ولقد كذب الأقوام السابقون رسلا كثيرين جاءوا لهدايتهم، فكان موقف هؤلاء الرسل من هذا التكذيب والأذى الصبر والثبات، واستمروا على صبرهم وثباتهم حتى أتاهم نصرنا الذي اقتضته سنتنا وأحكامنا التي لا تتخلف.
ولقد جاءك أيها الرسول الكريم من أخبار إخوانك الأنبياء السابقين ما فيه العظات والعبر، فعليك أن تستبشر بأن النصر سيكون لك ولأتباعك.
ومن الآيات التي بشرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن العافية ستكون له ولأتباعه، كما كانت للأنبياء السابقين وأتباعهم قوله تعالى:
[{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } (سورة المجادلة: 21)]
وقوله سبحانه:
[{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ "171" إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ "172" وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ "173"} (سورة الصافات: الآيات 171 ـ173)]
[{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } (سورة غافر: الآية 51)]
كذلك من أهداف القصة في القرآن الكريم: الاعتبار والاتعاظ. قال تعالى:
[{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }]
وهذه الآية الكريمة هي الآية الأخيرة التي ختم الله تعالى بها سورة يوسف عليه السلام، التي اشتملت على احسن القصص وأحكمه وأصدقه وأشده أثرا في النفوس .. أي: لقد كان في قصص أولئك الأنبياء الكرام، وما جرى لهم من أقوامهم، عبرة وعظة لأصحاب العقول السليمة، والأفكار القويمة، بسبب ما اشتمل عليه هذا القصص من حكم وآداب وإرشادات.
وما كان هذا الذي قصصناه حديثا مختلقا أو كاذبا، وإنما هو حديث لحمته وسداه الصدق الذي لا يحوم حوله الكذب، والتأييد لما صح من الكتب السابقة التي امتدت إليها أيدي الفاسقين بالتحريف والتبديل، والتفصيل والتوضيح للشرائع السابقة، والهداية والرحمة لقوم يؤمنون به، ويعملون بما فيه من أمر أو نهي.
والعبر والعظات التي نأخذها من قصص القرآن الكريم، لها صور شتى منها: بيان حسن عاقبة المؤمنين، الذين ثبتوا على الحق، وابتعدوا عن الباطل، وتابوا إلى الله تعالى توبة صادقة، وشكروا الله تعالى على نعمه، بأن استعملوها فيما يرضيه لا فيما يسخطه.
ونرى نماذج لذلك في قصة سليمان عليه السلام الذي آتاه الله تعالى ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فلم يبطره هذا الملك، ولم يشغله عن ذكر الله تعالى بل قال كما حكى القرآن عنه "هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر".
ونرى نماذج لذلك في قصة ذي القرنين، الذي مكن الله تعالى له في الأرض، فاستعمل ما آتاه الله من قوة في الخير لا في الشر، وفي الإصلاح لا في الإفساد.
ونرى نماذج لذلك في قصة أصحاب الكهف، الذين آمنوا بربهم، وزادهم الله تعالى إيمانا على إيمانهم، بسبب ثباتهم على الحق.
نرى نماذج لذلك في قصة قوم يونس عليه السلام الذين استجابوا لدعوة الحق، وصدقوا نبيهم فيما أخبرهم به، وأخلصوا دينهم لله تعالى.
[{فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } (سورة يونس: الآية 98)]
والمعنى: فهلا عاد المكذبون إلى رشدهم وصوابهم، فآمنوا بالحق الذي جاءتهم به رسلهم، فنجوا بذلك من العذاب، كما نجا منه قوم يونس عليه السلام بسبب ندمهم على ما فرط منهم، وإيمانهم إيمانا صادقا، وتوبتهم توبة نصوحاً، فعاشوا آمنين إلى حين انقضاء آجالهم في هذه الدنيا ..
ومنها: بيان سوء عاقبة المكذبين، الذين أصروا على كفرهم، ولم يستمعوا لنصائح أنبيائهم، واستحبوا العمى على الهدى، وجحدوا نعم الله تعالى واستعملوها في المعاصي لا في الطاعات.
ونرى نماذج لذلك في قصة قارون الذي آتاه الله تعالى من النعم ما أتاه، فلم يشكر الله تعالى على نعمه، بل قال بكل غرور وصلف: "إنما أوتيته على علم عندي".
كما نرى نماذج لذلك في قصة أهل سبأ الذين قال الله تعالى في شأنهم:(/4)
[{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ "15" فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ "16" ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ "17"} (سورة سبأ: الآيات: 15 ـ 17)]
ولفظ "سبأ" في الأصل: اسم لرجل ينتهي نسبه إلى أول ملك من ملوك اليمن، والمراد به هنا: الحي أو القبيلة المسماة باسمه، وكانوا يسكنون بمأرب على مسيرة ثلاثة أيام من صنعاء.
والمعنى: لقد كان لقبيلة سبأ في مساكنهم، علامة واضحة على فضل الله مساكنهم والثاني عن شمالها .. وقال الله تعالى لهم على ألسنة الصالحين منهم: "كلوا من رزق ربكم واشكروا له" نعمه، فأنتم تسكون في بلدة طيبة، فيها كل ما تحتاجونه، وقد منحها لكم الله الرحيم بكم، الغفور لذنوبكم، فاشكروه على ذلك.
"فأعرضوا" أي: فأعرضوا عن نصح الناصحين، وجحدوا نعم الله، فكانت نتيجة ذلك، أن أرسل الله تعالى عليهم السيل المدمر، وتحولت البساتين اليانعة إلى أماكن ليس فيها سوى الثمار والأشجار التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
هذا الذي فعلناه بهم، سببه جحودهم وبطرهم، ومن سنتنا أننا لا نعاقب بهذا العقاب الرادع إلا من جحد نعمنا، وفسق عن أمرنا.
والمتدبر للقرآن الكريم يراه قد ساق لنا كثيرا من قصص الجاحدين، ثم بين لنا سوء مصيرهم. ومن ذلك أنه سبحانه بعد أن ذكر لنا جانبا من قصص نوح وإبراهيم ولوط، وشعيب، وهود، وصالح وموسى .. مع أقوامهم، عقب على ذلك بقوله تعالى:
[{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } (سورة العنكبوت: 40)]
أي: فكلا من هؤلاء المذكورين كقوم نوح وإبراهيم ولوط .. أخذناه وأهلكناه، بسبب ذنوبه التي أصر عليها ولم يرجع عنها. فمنهم من أرسلنا عليه "حاصبا" أي ريحا شديدة رمته بالحصاة كقوم لوط عليه السلام.
ومنهم من أخذته الصيحة الشديدة المهلكة كقوم صالح وشعيب عليهما السلام ومنهم من خسفنا به الأرض وهو قارون.
ومنهم من أغرقناه كما فعلنا مع قوم نوح ومع فرعون وقومه. وما كان الله تعالى مريدا لظلمهم، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم، وأوردوها موارد المهالك، بسبب إصرارهم على كفرهم وجحودهم.
هذه بعض الأهداف والمقاصد التي من أجلها ساق القرآن ما ساق من قصص، امتاز بسمو غايته، وشريف مقاصده، وعلو مراميه.
وهناك أهداف أخرى، يستنبطنها كل ذي عقل سليم، وما ذكرناه هو قليل من كثير، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.(/5)
القصة والقصاص
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
لقد أحببت التنبيه في هذه العجالة على مفهوم شاع بين بعض طلاب العلم وقد يكون فيه من الخطل ما فيه، ذلك هو مفهوم القصة والقصاصين، فلعل واقع الحال –وليس بجديد- أضفى على أذهان بعضهم ارتباط هذا التعبير بالخرافة والكذب وضياع الأوقات فيما لا فائدة فيه! فأضحى بعضهم تنقبض نفسه من القصة، ويزهد في معرفتها أو سماعها، أو تربية أولاده الصغار بها.
والحق أن القصة أسلوب تربوي مهم أولاه القرآن الكريم عناية خاصة، فحفلت الكثير من سوره بعدد من القصص، بل سميت سورة كاملة فيه بسورة القصص ومما يندرج في القَصص القِصص، والله _جل وعلا_ قد بين في آخر آية من سورة يوسف؛ السورة التي كانت القصة محورها الرئيس، بين أهمية القصة، فقال: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ".
والنبي - صلى الله عليه وسلم- كان يعالج الكثير من المواقف من خلال القصة؛ جاءه بعض الصحابة وهو في ظل الكعبة وقد بلغ بهم أذى المشركين كل مبلغ، فقالوا له: يا رسول الله ألا تدع لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقال لهم _عليه الصلاة والسلام_: "كان الرجل فيمن كان قبلكم يؤتى به فيوضع في الحفرة ويشق مابين لحمه وعظمه..." الحديث(1). والسنة المطهرة فيها عشرات القصص التي تعالج قضايا اجتماعية مثل قصة أم زرع وأبي زرع(2). بل يعلق النبي _عليه الصلاة والسلام_ على قصة موسى والخضر في سورة الكهف، فيقول: (وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما)(3)، أي ودَّ النبي _صلى الله عليه وسلم_ أن موسى _عليه السلام_ لم ينه الموضوع في المحاولة الثالثة لعجيب خبرهما.
وهذه دعوة للدعاة والمربين ليولوا هذا الجانب عناية خاصة، شريطة الالتزام بالضوابط الشرعية للقصص؛ فيتجنب ما علم كذبه، كأن تكون القصة مما قد وقع حقاً، كما نقرأ في قصص القرآن، أو أن تكون من قبيل ضرب المثل والتشبيه غير المنسوب إلى معين، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم-: "كان فيمن كان قبلكم"، أو (يؤتى بالرجل)، وليس المراد حالة فرد، إنما هي أحوال متعددة.
وأيضاً لا ينبغي أن يؤخذ منها تشريع إلاّ أن تكون ثابتة عن معصوم، وإنما يهيج بها ويوجه إلى مكارم ومعان ثابتة بالنصوص.
وكذلك يسوغ الإخبار بما حكي ولم يعلم كذبه لأجل أخذ العبرة، أو التنويه بمقصد شرعي صحيح دلت عليه الأدلة، شريطة ألا يصدق وترتب عليه الأحكام، ومن هذا القبيل الرخصة في التحديث عن بني إسرائيل.
ويتجنب كذلك ما لا فائدة فيه وإن كان حقاً، ولهذا فقد أعرض الله _تعالى_ عن ذكر بعض التفاصيل والأخبار في قصص القرآن بل في سورة يوسف عليه السلام مع تفصيلها وذلك لعدم الفائدة، فالتفصيل والإسهاب بما لا فائدة فيه قد يكون لغواً في أحسن أحواله، وما فيه الحكمة البالغة والعبر المعتبرة جم غفير فحري الاشتغال به عما سواه.
ولعل الغرب قد أحسن في استخدام القصة وسيلة للباطل، وتبعه في ذلك جمع من مستغربينا، والواجب أن يطغى هذا الواقع على الأذهان فينفر من القصص والقصاص بإطلاق، ولكن يدعى لإصلاحه، والإفادة منه فهو هدي قرآني، وسمت نبوي، وسيلة استفاد منها الجيل الأول فما أحرانا بالإفادة منها في اعتدال. والله أعلم.
_______________
(1) صحيح البخاري 3/1322.
(2) صحيح البخاري 5/1990، ومسلم 4/1901.
(3) صحيح البخاري 4/1757.(/1)
القصة وسيلة دعوية
إن من يقرأ كتاب الله ¯ تبارك وتعالى ¯ يجد أن القصة تتكرر فيه في مواطن عدة, ويتجاوز الأمر إيراد القصة وتكرار ذلك إلى:
الامتنان على النبي صلى الله عليه و سلم بأن أنزل إليه أحسن القصص: ((نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين))(يوسف: 3).
الإخبار بأن القصص سبب لتثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه و سلم : ((وكلا نقص عليك من أنباء الرسل مانثبت به فؤادك))(هود: 120).
الأمر بقص القصص: ((فاقصص القصص لعلهم يتفكرون))(الأعراف: 176).
الأمر بالاعتبار بما قص الله في كتابه: ((لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)). (يوسف: 111).
ولقد اعتنى صلى الله عليه و سلم بشأن القصص, فحفظت لنا دواوين السنة طائفة من قصه صلى الله عليه و سلم عليهم من قصص الأمم الماضية وأخبارهم.
ولم تكن قصص القرآن أو السنة قاصرة على أنباء الصالحين وأخبارهم, بل شملت مع ذلك قصص المعرضين والفجار للاعتبار بما أصابهم.
كل ذلك يؤكد أهمية القصة ودورها التربوي الدعوي مما يجدر بالدعاة أن يعتنوا بها ويستخدموها في دعوتهم وخطابهم للناس.
إنها تحمل عنصر التشويق والإثارة, ويُقبل عليها المستمع والقارئ بعناية وإنصات, وهي كذلك تقدم البرهان على تأهل المعاني المجردة إلى التطبيق على أرض الواقع, وتبرز النموذج والقدوة الصالحة, وتزيد المرء إيماناً بقدرة الله تبارك وتعالى وسائر صفاته.
وتبدو أهمية ذلك بشكل أكبر في تربية الناشئة وخطابهم; إذ يعاني شباب المسلمين اليوم وفتياتهم من غياب القدوة الصالحة, ومن بروز النماذج والقدوات السيئة والإعلاء من شأنها وتبجيلها لدى الناس.
ومع أهمية القصة وعلو شأنها إلا أنه ينبغي أن يراعى في ذلك أمور عدة, منها:
أن تُعرَض وتُستخدَم في الخطاب بالقدر المعقول; فلا تكون هي اللغة الوحيدة في الخطاب, أو تكون على حساب غيرها.
الحذر من القصص الواهية والأخبار التي لا زمام لها ولا خطام; إذ إن النفوس كثيراً ما تتعلق بالغرائب وتجنح إليها, والقليل منها هو الذي يثبت عند التحقيق والنقد العلمي.
أن تأخذ أخبار النبي صلى الله عليه و سلم وقصصه, وأخبار الرعيل الأول من سلف الأمة مكانها الطبيعي, وألا تطغى أخبار من بعدهم من المتأخرين ممن تعرف منهم وتنكر.
أن البشر مهما علا شأنهم وارتفع قدرهم, ومهما بلغوا المنازل العالية من الصلاح والتقى فلن تكون أعمالهم حجة مطلقة, بل لا بد من عرضها على هدي النبي صلى الله عليه و سلم ; كما يروي بعضهم في مقام الصبر أن شيخاً قام يرقص على قبر ابنه حين توفي رضًى بقدر الله على حد زعمه, وخير من ذلك هدي النبي صلى الله عليه و سلم الذي تدمع عينه ويحزن قلبه, ولا يقول إلا ما يرضي ربه, وهديه صلى الله عليه و سلم القولي والعملي في النوم والقيام خير مما يروى عن بعضهم أنه صلى الفجر بوضوء العشاء كذا وكذا من السنوات, وهديه في تلاوة القرآن خير مما يروى عن بعضهم أنه يختم القرآن كل ليلة, مع التماسنا العذر لمن كان له اجتهاد من سلف الأمة في ذلك.(/1)
القصيدة الزينبيّة
صالح بن عبد القدوس
صَرَمتْ حِبالَكَ بعد وَصلكَ زينبُ والدَّهرُ فيهِ تَغيَّرٌ وتَقَلُّبُ
نَشَرتْ ذوائِبَها التي تَزهو بها سُوداً ورأسُك كالثُّغامَةِ أشيَبُ
واستنفرتْ لمّا رأتْكَ وطالما كانتْ تحنُّ إلى لقاكَ وتَرغبْ
وكذاكَ وصلُ الغانياتِ فإنه آل ببلقَعَةٍ وبَرْقٌ خُلَّبُ
فدَّعِ الصِّبا فلقدْ عداكَ زمانُهُ وازهَدْ فعُمرُكَ مرَّ منهُ الأطيَبُ
ذهبَ الشبابُ فما له منْ عودةٍ وأتَى المشيبُ فأينَ منهُ المَهربُ
دَعْ عنكَ ما قد كانَ في زمنِ الصِّبا واذكُر ذنوبَكَ وابِكها يا مُذنبُ
واذكرْ مناقشةَ الحسابِ فإنه لا بَدَّ يُحصي ما جنيتَ ويَكتُبُ
لم ينسَهُ الملَكانِ حينَ نسيتَهُ بل أثبتاهُ وأنتَ لاهٍ تلعبُ
والرُّوحُ فيكَ وديعةٌ أودعتَها ستَردُّها بالرغمِ منكَ وتُسلَبُ
وغرورُ دنياكَ التي تسعى لها دارٌ حقيقتُها متاعٌ يذهبُ
والليلُ فاعلمْ والنهارُ كلاهما أنفاسُنا فيها تُعدُّ وتُحسبُ
وجميعُ ما خلَّفتَهُ وجمعتَهُ حقاً يَقيناً بعدَ موتِكَ يُنهبُ
تَبَّاً لدارٍ لا يدومُ نعيمُها ومَشيدُها عمّا قليلٍ يَخربُ
فاسمعْ هُديتَ نصيحةً أولاكَها بَرٌّ نَصوحٌ للأنامِ مُجرِّبُ
صَحِبَ الزَّمانَ وأهلَه مُستبصراً ورأى الأمورَ بما تؤوبُ وتَعقُبُ
لا تأمَنِ الدَّهرَ الخَؤُونَ فإنهُ ما زالَ قِدْماً للرِّجالِ يُؤدِّبُ
وعواقِبُ الأيامِ في غَصَّاتِها مَضَضٌ يُذَلُّ لهُ الأعزُّ الأنْجَبْ
فعليكَ تقوى اللهِ فالزمْها تفزْ إنّّ التَّقيَّ هوَ البَهيُّ الأهيَبُ
واعملْ بطاعتِهِ تنلْ منهُ الرِّضا إن المطيعَ لهُ لديهِ مُقرَّبُ
واقنعْ ففي بعضِ القناعةِ راحةٌ واليأسُ ممّا فاتَ فهوَ المَطْلبُ
فإذا طَمِعتَ كُسيتَ ثوبَ مذلَّةٍ فلقدْ كُسيَ ثوبَ المَذلَّةِ أشعبُ
وتَوَقَّ منْ غَدْرِ النِّساءِ خيانةً فجميعُهُنَّ مكايدٌ لكَ تُنصَبُ
لا تأمنِ الأنثى حياتَكَ إنها كالأفعُوانِ يُراغُ منهُ الأنيبُ
لا تأمنِ الأُنثى زمانَكَ كُلَّهُ يوماً ولوْ حَلَفتْ يميناً تكذِبُ
تُغري بلينِ حديثِها وكلامِها وإذا سَطَتْ فهيَ الصَّقيلُ الأشطَبُ
وابدأْ عَدوَّكَ بالتحيّةِ ولتَكُنْ منهُ زمانَكَ خائفاً تترقَّبُ
واحذرهُ إن لاقيتَهُ مُتَبَسِّماً فالليثُ يبدو نابُهُ إذْ يغْضَبُ
إنَّ العدوُّ وإنْ تقادَمَ عهدُهُ فالحقدُ باقٍ في الصُّدورِ مُغيَّبُ
وإذا الصَّديقٌ لقيتَهُ مُتملِّقاً فهوَ العدوُّ وحقُّهُ يُتجنَّبُ
لا خيرَ في ودِّ امريءٍ مُتملِّقٍ حُلوِ اللسانِ وقلبهُ يتلهَّبُ
يلقاكَ يحلفُ أنه بكَ واثقٌ وإذا توارَى عنكَ فهوَ العقرَبُ
يُعطيكَ من طَرَفِ اللِّسانِ حلاوةً ويَروغُ منكَ كما يروغُ الثّعلبُ
وَصِلِ الكرامَ وإنْ رموكَ بجفوةٍ فالصفحُ عنهمْ بالتَّجاوزِ أصوَبُ
واخترْ قرينَكَ واصطنعهُ تفاخراً إنَّ القرينَ إلى المُقارنِ يُنسبُ
إنَّ الغنيَ من الرجالِ مُكرَّمٌ وتراهُ يُرجى ما لديهِ ويُرهبُ
ويُبَشُّ بالتَّرحيبِ عندَ قدومِهِ ويُقامُ عندَ سلامهِ ويُقرَّبُ
والفقرُ شينٌ للرِّجالِ فإنه حقاً يهونُ به الشَّريفُ الأنسبُ
واخفضْ جناحَكَ للأقاربِ كُلِّهمْ بتذلُّلٍ واسمحْ لهمْ إن أذنبوا
ودعِ الكَذوبَ فلا يكُنْ لكَ صاحباً إنَّ الكذوبَ يشينُ حُراً يَصحبُ
وزنِ الكلامَ إذا نطقتَ ولا تكنْ ثرثارةً في كلِّ نادٍ تخطُبُ
واحفظْ لسانَكَ واحترزْ من لفظِهِ فالمرءُ يَسلَمُ باللسانِ ويُعطَبُ
والسِّرُّ فاكتمهُ ولا تنطُقْ بهِ إنَّ الزجاجةَ كسرُها لا يُشعَبُ
وكذاكَ سرُّ المرءِ إنْ لمْ يُطوهِ نشرتْهُ ألسنةٌ تزيدُ وتكذِبُ
لا تحرِصَنْ فالحِرصُ ليسَ بزائدٍ في الرِّزقِ بل يشقى الحريصُ ويتعبُ
ويظلُّ ملهوفاً يرومُ تحيّلاً والرِّزقُ ليسَ بحيلةٍ يُستجلَبُ
كم عاجزٍ في الناسِ يأتي رزقُهُ رغَداً ويُحرَمُ كَيِّسٌ ويُخيَّبُ
وارعَ الأمانةَ ، والخيانةَ فاجتنبْ واعدِلْ ولا تظلمْ يَطبْ لكَ مكسَبُ
وإذا أصابكَ نكبةٌ فاصبرْ لها من ذا رأيتَ مسلَّماً لا يُنْكبُ
وإذا رُميتَ من الزمانِ بريبةٍ أو نالكَ الأمرُ الأشقُّ الأصعبُ
فاضرعْ لربّك إنه أدنى لمنْ يدعوهُ من حبلِ الوريدِ وأقربُ
كُنْ ما استطعتَ عن الأنامِ بمعزِلٍ إنَّ الكثيرَ من الوَرَى لا يُصحبُ
واحذرْ مُصاحبةَ اللئيم فإنّهُ يُعدي كما يُعدي الصحيحَ الأجربُ
واحذرْ من المظلومِ سَهماً صائباً واعلمْ بأنَّ دعاءَهُ لا يُحجَبُ
وإذا رأيتَ الرِّزقَ عَزَّ ببلدةٍ وخشيتَ فيها أن يضيقَ المذهبُ
فارحلْ فأرضُ اللهِ واسعةَ الفَضَا طولاً وعَرضاً شرقُها والمغرِبُ
فلقدْ نصحتُكَ إنْ قبلتَ نصيحتي فالنُّصحُ أغلى ما يُباعُ ويُوهَبُ(/1)
القصيدة اليتيمة
شعر: دوقلة المنبجيّ
الطلل
هل بالطلول لسائل رَدّ أم هل لها بتكلّم عهدُ
درس الجديد جديد مَعْهَدِها فكأنّما هي رّيْطة جَرْد
من طول ما تبكي الغمام على عَرَصاتها ويُقهقهُ الرعدُ
وتُلثُّ ساريةٌ وغاديةٌ ويَكرُّ نحس خلفه سعد
تلقاء شاميةٍ يمانيةٌ لهما بمَوْرِ تُرابها سَردُ
فكست بواطنُها ظواهرَها نَوراً كأنَّ زَهاءَه بُرد
فوقفتُ أسألها وليسَ بها إلا المها ونقانقٌ رُبدُ
فتبادرت دِرَرٌ الشئون على خدّي كما يتناثرُ العقد
أو نَضْجُ عزلاءِ الشّعيب وقد راح العيفُ بِمِلئِها يَعدو
خلق دعد
لهفي على دَعد وما خُلفت إلا لحرِّ تلهّفي دعدُ
بيضاء قد لبس الأديمُ بَها ء الحُسن فهو لجلدها جلد
ويزين فَوْدَيها إذا حَسرت ضافي الغدائر فاحمٌ جَعدُ
فالوجه مثلَ الصبح مبيضٌ والشعر مثلَ الليل مسودّ
ضدّان لما استجمعا حَسنا والضدّ يُظهر حُسّهُ الضِدّ
وجبينها صَلْتٌ وحاجبها شَخْتُ المخَطّ أزَجُّ ممتد
وكأنها وسنى إذا نظرتْ أو مُدنَفٌ لما يُفِقْ بعدُ
بفتور عينٍ ما بها رَمَدُ وبها تُداوى الأعينُ الرُّمد
وتُريك عِرنيناً يزيّنه شَمَمٌ وخَدَّاً لونُهُ الورد
وتجيل مسواكَ الأراك على رَتلٍ كأن رُضابه الشَهدُ
والجيد منها جيدُ جازئة تعطو إذا ما طالها المرْد
وامتدّ من أعضادها قصبٌ فَمْمٌ تلته مَرافق دُرْد
والمِعصَمان فما يُرى لهما من نَعمة وبضاضةٍ زند
ولها بنان لو أردتَ له عَقداً بكفّكَ أمكن العقد
وكأنما سُقيت ترائبُها والنحر ماءَ الورد إذ تبدو
وبصدرها حُقّان خِلتهما كافورتين علاهما نَدُّ
والبطن مطوىّ كما طُويتْ بيضٌ الرياط يصونها المَلْد
وبخصرها هَيفٌ يزيّنه فإذا تنوء يكاد ينقدُّ
والتفّ فَخذاها وفوقهما كَفَل يجاذب خصرها نَهد
فقيامُها مثنى إذا نهضت من ثقله وقعودها فَرد
والساق خَرعبة منعّمةٌ عَبِلتْ فطَوق الحَجل منسدّ
والكَعب أدرمُ لا يبين له حَجم وليس لرأسه حَدُّ
ومشت على قدمين خُصرَتا وألينتا، فتكامل القدّ
ما عابَها طول ولا قِصْرٌ في خَلْقها فقِوامُها قَصدُ
شكوى الهجر والصدود
إن لم يكن وصل لديكِ لنا يشفي الصبابةَ فليكنْ وعد
قد كان أورق وصلُكم زمناً فذَوى الوصال وأورق الصَدّ
لله أشواقي إذا نَزحتْ دارٌ بنا ونأى بكم بُعدُ
إنْ تُتْهمي فتهامةٌ وطني أو تُنجِدي يكن الهوى نجد
وزعمتِ أنكِ تضمرين لنا ودّاً فهلاّ ينفع الوُدّ!
وإذا المحبّ شكا الصدودَ ولم يُعطَف عليه فقتله عَمْد
تختصّها بالودّ وهي على مالا تحبُّ ، فهكذا الوجد
الفخر بأخلاق النفس
أو ما ترى طِمريَّ بينهما رجلٌ ألحَّ بهزله الجِدُّ
فالسيف يقطَع وهو ذو صَدا والنصل يعلو الهام لا الغِمد
هل تنفعنّ السيفَ حليته يوم الجلاد إذا نبا الحَدُّ
ولقد علمتِ بأنني رجل في الصالحات أرواح أو أغدو
سَلْمٌ على الأدنى ومَرحمةٌ وعلى الحوادث هادِنٌ جَلْدُ
مَتجلببٌ ثوبَ العَفاف وقد غفل الرقيب وأمكن الورد
ومُجانبٌ فعلَ القبيح وقد وصل الحبيبُ وساعد السعدُ
منع المطامع أن تُثلّمني أني لمعْوَلِها صفاً صلدُ
فأروح حُراً من مذلتها والحرُّ – حين يطيعها - عبدُ
آليتُ أمدح مُقرفاً أبدا يبقى المديح ويَنفدُ الرفد
هيهات يأبى ذاك لي سَلفٌ خَمدوا ولم يخمد لهم مجد
والجد كندةُ والبنون همُ فزكا البنون وأنجبَ الجدّ
فلئن قفوتُ جميل فعلهم بذميم فعلى إنني وَغْد
أجملْ إذا حاولتَ في طلب فالجِدّ يغني عنك لا الجَدّ
ليكنْ لديك لسائلٍ فَرجٌ إن لم يكن فَليَحْسُنِ الردُّ
وطريد ليل ساقَه سَغَبٌ وَهْناً إليَّ وقادَه بَرْد
أوسعتُ جُهدَ بشاشة وقِرى وعلى الكريم لضيفه الجُهد
فتصرّمَ المثُني ومنزله رَحْبٌ لديّ وعيشه رَغْد
ثم اغتدى ورداؤه نعَمٌ أسأرتُها وردائي الحمد
يا ليت شِعري بعد ذالكُمُ ومصيرُ كلّ مؤملٍ لحد
أصريعُ كَلْمٍ أم صريع ضَناً أودَى فليس من الرَدى بُدّ(/1)
القضاء بالقرائن المعاصرة
د.إبراهيم بن ناصر الحمود [الأستاذ المشارك بالمعهد العالي للقضاء]. 2/9/1426
05/10/2005
أقسام القرائن
حكم العمل بالقرائن
القرائن المعاصرة
(العلامات الوراثية)
حجية العلامات الوراثية في إثبات النسب
الفحص الطبي المثبت للاعتداء على النفس وما دونها
القرائن المادية
طريقة فحص الشعر
أهمية آثار البصمات
مميزات بصمة الحمض النووي عن غيرها من وسائل الإثبات الحديثة
حكم ضرب المتهم ليقر بجريمته
من قرارات مجمع الفقه الإسلامي
من مهمات القاضي في مجال الفصل في الخصومات أن يسعى جاهداً لإثبات الحق أو نفيه.
فالمدعي مطالب بإثبات الحق المدعى به.
والمدعى عليه: مطالب بنفي الدعوى المقامة ضده.
وطرق الإثبات التي نصت عليها الشريعة: الإقرار: وهو كما يقولون (سيد الأدلة) لانتفاء نسبة الاحتمال إليه، ثم الشهادة وهي شهادة رجلين عدلين أو رجل وامرأتين كما دلت النصوص الشرعية على ذلك.
وفي حالة عدم وجود إقرار ولا شهادة ولا بينة وهي التي تسمى (الأدلة المباشرة)، فإن القاضي يلجأ إلى وسيلة أخرى غير مباشرة وهي المسماة بالقرائن:
والقرائن : جمع قرينة بمعنى المصاحبة والمقارنة والملازمة:
والقرائن: لم تفرد في فقه المذاهب في باب مستقل وإنما تذكر في معرض الحديث عمن وسائل الإثبات في باب الدعاوى والبيانات، كما يقول الإمام الزيلعي في كتاب تبين الحقائق (وإن وصف أحدهما علامة –أي بالولد- فهو أحق به) وهذا له أصل في الشرع كما في قصة يوسف عليه السلام (وإن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين) فالقرينة في هذا المعنى هي العلامة.
وعرفها الجرجاني في كتاب التعريفات بقوله: (هي أمر يشير إلى المطلوب) وهذا التعريف فيه إجمال إذ ليس مقصوراً على القرينة الشرعية عند الفقهاء.
وعرفها مصطفى الزرقاء في المدخل الفقهي العام (2/918) بقوله (كل أمارة ظاهرة تقارن شيئاً خفياً تدل عليه).
وتعريفات الفقهاء متقاربة ولعل هذا أقربها، ومن الأمثلة على ذلك سكوت المرأة البكر فإنه قرينة على رضاها بالخاطب.
أقسام القرائن
1- تنقسم القرائن باعتبار مصدرها إلى:
l- قرائن نصية ثابتة بالكتاب أو السنة كالمثال السابق في قصة يوسف عليه السلام، فشق القميص من الخلف قرينة على صدق يوسف وكذب امرأة العزيز. ومن السنة ما ثبت في الصحيحين من قصة مجزز ابن الأعور لما دخل فرأى أسامة وزيد بن حارثة قد بدت أقدامها فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض.
II- قرائن فقهية:وهي التي استنبطها الفقهاء باجتهادهم ومن الأمثلة على ذلك:
الحجر على المفلس بقرينة عدم الوفاء إذا ثبت أنه تصرف في أمواله بقصد إخفائها لتفويت حق الغرماء.
III- قرائن قضائية: وهي التي يستنبطها القاضي بفطنته وذكائه وهي دليل على الإثبات متى اقتنع القاضي بها وغلب على ظنه صحتها، وقد ذكر ابن القيم في الطرق الحكمية أمثلة عليها منها:
ادعى رجل أنه سلم رجلاً وديعة فأنكرها فقال له القاضي أين سلمته إياها؟ قال: في مسجد البلد فقال اذهب فجئني منه بمصحف فذهب ثم قال للمدعى عليه أتظنه بلغ المسجد قال لا فألزمه بالمال.
2- وتنقسم باعتبار علاقتها بمدلولها إلى قسمين:
I- قرائن عقلية: وهي التي يقوم العقل باستنباطها كظهور الحمل على امرأة غير متزوجة قرينة على زناها، وكوجود الرماد في مكان دليل على سبق وجود النار.
II- قرائن عرفية: وهي التي يدل عليها العرف والعادة وهي غير ثابتة قد تتبدل: كشراء الشاة يوم عيد الأضحى فهو قرينة على أنها أضحية وقد تكون لغير ذلك.
3- وتنقسم باعتبار قوة دلالتها في الإثبات:
أ- قرائن قوية: وهي التي بلغت حد اليقين:
مثالها: لو خرج رجل من دار وفي يده سكين ملوثة بالدماء وثوبه ملطخ بالدم وهو خائف مضطرب. وبعد خروجه وجد الناس في الدار رجلاً مقتولاً ولم يكن في الدار غيرهما. فهذه قرينة على أن ذلك الرجل هو القاتل.
ب- قرائن ضعيفة: وهي التي تقبل إثبات عكسها فلا يصح الاعتماد عليها وحدها بل تحتاج إلى دليل آخر لترتب الحكم عليها.
مثالها: إذا وقع نزاع بين زوجين في متاع البيت كل يدعيه له ولا بينه وكلاهما صاحب يد فيرجح قول كل منهما فيما يصلح له بقرينة المناسبة فما يناسب الرجال هو للزوج وما يناسب النساء فهو للزوجة.
ج- القرينة الكاذبة: وهي التي يتطرق إليها الاحتمال ولا تفيد العلم فلا يعول عليها في الإثبات لمعارضتها ما هو أقوى منها كدعوى إخوة يوسف أن الذئب أكله وجاءوا بالدم على قميصه كقرينة على صدق قولهم لكن أباهم اكتشف كذبهم، لأنه لا يمكن أن يفترسه الذئب ويسلم القميص من التمزق، ولهذا قال لهم: (بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل) .
حكم العمل بالقرائن
للفقهاء في ذلك قولان:
1- جواز العمل بها في طرق الإثبات وهو قول بعض الحنفية وابن فرحون من المالكية والعز بن عبد السلام من الشافعية وابن القيم من الحنابلة.
2- منع العمل بالقرائن وهو قول بعض متأخري الحنفية والقرافي من المالكية.(/1)
- استدل القائلون بالجواز بما ورد في قصة يوسف عليه السلام كوجود الدم على قميصه قرينة على كذبهم. وكذا قصته مع امرأة العزيز وشرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا ما ينسخه.
- قوله تعالى: "تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً" فيعرف فقر كل واحد منهم من العلامات التي تبدو عليه من التواضع والخشوع والخجل من سؤال الناس وما يظهر من الجهد وضعف البنية.
- ما ثبت في دلالة الحيض على عدم وجود الحمل.
والأدلة كثيرة وقد حكى ابن قدامة إجماع الصحابة على العمل بالقرائن.
ومن المعقول: فإن عدم العمل بالقرائن يؤدي إلى ضياع الحقوق.
واستدل القائلون بالمنع بحديث (لو كنت راجماً أحداً بغير بينة لرجمت فلانة فقد ظهر منها الريبة في منطقها ومن يدخل عليها) والحديث صحيح الإسناد ويحمل هذا على أن تلك القرائن ضعيفة لا يعتمد عليها في إثبات الحد لأنها مجرد تهمة وشك، والحدود تدرأ بالشبهات.
وقالوا: إن القرائن مبنية على الظن والتخمين والظن أكذب الحديث.
وأجيب عليه: بأن الظن المذموم هو الضعيف الذي لا تبنى عليه الأحكام، ولهذا قال تعالى: (إن بعض الظن إثم) مما يدل على أن منه ما هو حق.
القول الراجح:
جواز العمل بالقرائن لقوة أدلة القائلين بذلك ومن المرجحات:
1- إن عدم الأخذ بالقرائن يؤدي إلى ضياع الحق خاصة في العصور المتأخرة حيث كثرت وسائل التحايل والتستر وقلب الحقائق.
2- أن القرائن نوع من البينات، وقد جرى الاتفاق على حجية البينة.
والعمل بالقرائن ليس على إطلاقه وإنما في حال عدم وجود بينة أقوى منها وعندما تكون الأدلة عند القاضي غير كافية.
والعمل بالقرائن لا يعني التوسع فيها وإنما في نطاق ضيق إذا دعت إليها الحاجة.
يقول ابن القيم (إن أهملها الحاكم أضاع حقاً كثيراً وأقام باطلاً كبيراً وإن توسع وجعل معموله عليها دون الأوضاع الشرعية وقع في أنواع الظلم والفساد).
القرائن المعاصرة
القرائن المعاصرة لها ارتباط وثيق بمسرح الجريمة، وقد تطورت تبعاً للتطور العلمي الذي يشهده العالم اليوم.
وهي تقوم على أساس أسلوب الاستشارات الفنية والبحوث والخبرة في مجال الإثبات والبحث الجنائي ومنها:
1-مقارنة الخطوط والكتابات عند التزوير.
2- الفحص الطبي المثبت للدعوى للتوصل إلى معرفة الجاني وسبب الوفاة وهو ما يسمى بتقرير الطبيب الشرعي.
3- الحمض النووي: وهو البصمة الوراثية القائمة على معرفة الصفات الوراثية للجنس البشري.
4- التحاليل المعملية لماديات الجريمة سواء كانت ظاهرة أم خفية لتكون أدلة علمية لكشف الجريمة ومرتكبها ومنها:
آثار الشعر، المقذوفات النارية، آثار الأقدام، مقارنة البصمات، الروائح، فحص الدم، المني، التصوير، التسجيل.
1. القضاء بقرينة المستندات الخطية
صورتها: إذا ادعى شخص على آخر وأثبت حقه بموجب كتابة رسمية أو عادية فهل تكون هذه الكتابة حجة رسمية يعتمد عليها في إصدار الحكم إثباتاً أو نفياً.
حجيتها: الراجح من قول الفقهاء أن الكتابة (الخط) تعد من وسائل الإثبات في الحقوق للأدلة الدالة على ذلك كآية الدين وحديث الوصية، وحاجة الناس إليها ماسة لاستيفاء حقوقهم وإبراء الذمم، وقواعد الشريعة ومقاصدها تقتضيها لحفظ الحقوق ودفع الحرج.
ومن ذلك: الكتابة على الجدار بأن المنزل وقف، وقد حكم بذلك الإمام أحمد –رحمه الله- وقد تكون الكتابة مستنداً رسمياً كالصكوك، وما يصدر من كتابة العدل، وشهادة الميلاد ...الخ. ويشترط في كاتبها العدالة.
وفي حال الاعتراض على الكتابة بالتزوير فهي دعوى تحتاج إلى دليل وإلا فالأصل إلغاؤها ووجوب العمل بالسندات الرسمية هو ما نص عليه نظام القضاء والأعمال الإدارية في المملكة.
حجية الكتابة في إثبات النسب:
إذا أنكر رجل بنوة آخر يدعي عليه أنه ابنه ولا يوجد ما يثبت نسبه إليه إلا ورقة مكتوبة بخطه فهل تثبت نسبته بهذه الورقة؟
فإن كانت الورقة مجردة عن الإشهاد، والمدعي امرأة، وكاتب الورقة ميت فلا تعتبر دليلاً على الإثبات، حتى لا يكون ذريعة للنساء بحيث كل امرأة تقدم على الفاحشة تدعي مثل ذلك لدفع العار عنها.
فلا تسمع دعوى النسب عند الإنكار إلا إذا كانت ثابتة بشاهدين أو كانت الورقة رسمية كشهادة الميلاد.
فإن كان الكاتب حياً: فإن أقر فيها، ثبت النسب بالإقرار.
فإن أنكر ، فهناك قرائن أخرى لإثبات النسب كالتحاليل المخبرية والبصمة الوراثية وهناك مستندات أخرى خطية غير معدة للتوثيق كالرسائل البريدية، والبرقيات والتلكس والفاكس. وللفقهاء فيها تفصيلات لا يتسع المقام للحديث عنها.
2/ القضاء بقرينة محضر الشرطة(/2)
المحضر: صورة صادقة لما يتم من إجراءات وهو أعم من التقرير لاشتماله على الوقائع وكلام الخصوم وحججهم والجواب عنها. وقد يشتمل على رسم تخطيطي لمكان الحادث. وللقاضي سلطة الاقتناع بما في المحضر أو عدم اقتناعه به، وله تركه والاعتماد على أدلة أخرى فالمحضر ليس بحد ذاته حجة على ما ورد فيه. لكنه خير معين للقاضي في التعرف على ملابسات القضية كأن يكون فيه شهود عيان، أو قرائن مادية أو معنوية تنير له الطريق.
وفي حال عدم اقتناع القاضي بما ورد في المحضر أو التقرير يطلب إثباته بوسائل أخرى.
مثاله: تقرير أو محضر تصادم بين سيارتين نتج عنه وفاة أحد السائقين وقد أثبت التقرير نسبة الخطأ على كل منهما. فقد يؤدي نظر القاضي إلى العكس.
3/ القضاء بقرينة الفحص الشرعي (الطبي)
للطب الشرعي في مجال الإثبات دور بارز خاصة في مجال الجنايات، مما يؤكد معرفته لكل طبيب. خاصة طبيب النساء والولادة لإثبات حالات الإجهاض أو الولادة، أو الاغتصاب. ومن يقوم بالعمليات الجراحية. يقدم تقرير عن أسباب الكدمات والجروح ومدى خطورتها ومضاعفاتها ومدتها.
وكذا إثبات حالات التسمم الانتحاري أو الجنائي.
وقد ساهم الطب الشرعي في حل كثير من المشاكل التي تعترض سير القضاء منها:
1- قضايا أخطاء مهنة الطب والصيدلة.
2- فحص المسجونين في حال دعوى المرض لمعرفة الحقيقة.
3- فحص حالة الجنون لمن ادعاه خوفاً من العقاب.
4- التعرف على المجهولين من الأحياء والأموات في حال هرب الأحياء من يد العدالة وتغيير ملامحهم، وفحص الجثة معرفة سبب الوفاة وهو علم واسع يسمى (بالتشريح الجنائي).
5- فحص المتهم بالزنا، أو من تناول سكراً بتحليل دمه.
6- إثبات العيوب بين الزوجين عن طريق الفحص الطبي.
7- إثبات النسب بتحليل فصيلة الدم لمعرفة تقاربها مع مدعيه.
8- الفحص الطبي لإثبات جريمة الغش التجاري.
ونفصل القول في مسألتين:-
الأولى: القضاء بقرينة الفحص الطبي في إثبات النسب أو نفيه:
(العلامات الوراثية)
كان الاعتماد في السابق في إثبات النسب على القيافة في حال تعذر الإقرار أو الشهادة وفي العصر الحاضر تم اكتشاف العلامات الوراثية عن طريق تحاليل الدم المخبرية.
فالدم: يشتمل على العديد من تلك الصفات الوراثية الموروثة من الأب والأم بحيث يأخذ الولد نصف الصفات من أبيه الحقيقي والنصف الآخر من أمه عن طريق الحيوان المنوي للرجل، والبويضة للأنثى.
(العلامات الوراثية الموجودة في الدم) منها:
1/ فصائل الدم الرئيسية:
فلكل إنسان صفات وميزات في دمه تختلف عن الآخر بدليل أنه لو خُلط نوعان من الدم مختلفين لم يمتزجا إذا كانا من فصيلتين مختلفتين وهي أربع فصائل: أ،ب،أب،صفر.
وهذه لها خصائص يعرفها الأطباء:
طريقة تحديد فصيلة الدم: بواسطة الميكروسكوب.
وفصيلة الدم التي تحددت فإنها تبقى ثابتة لكل شخص وتنتقل من الوالدين إلى الولد.
2/ بصمة الحمض النووي:
لإثبات تميز إنسان عن آخر يمكن بواسطة الحمض النووي الذي يوجد في خلايا الجسم ما عدا كرات الدم الحمراء حيث ليس لها نواة.
ونواة كل خلية من خلايا الجسم تحتوي على (23)زوجاً من الكروموزومات منها (22) متماثلة بين الذكر والأنثى. ويختلفان في واحدة وهي الكروموزومات الجنسية ولكل خلايا رمز خاص بها.
فمثلاً يمكن عن طريق خلايا الشعر معرفة هل هو لذكر أم لأنثى، وكذا في التعرف على الدم، واللعاب، والجلد.
ووجد أن وحدة بناء هذه الكروموزومات هو الحمض النووي. وكل حمض نووي يتكون من سلاسل حلزونية يلتف بعضها حول بعض. وهذا التسلسل يختلف من شخص لآخر. ولا يحصل تشابه إلا في حال التوائم المتشابهة لأن أصلها بويضة واحدة وحيوان منوي واحد.
ويطلق على هذا العلم (البصمة الوراثية) نظراً لهذا الاختلاف وهذا الحمض النووي أو المعلومات الوراثية هي المسؤولة عن صفات الوراثة المكتسبة منذ بدء خلق الإنسان: وهي (الموروثات التي تدل على كل إنسان بعينه).
وما توصل إليه العلم الحديث في اكتشاف بصمة الحمض النووي ما هو إلا فيما يتعلق بالصفات الوراثية ولم يعلم سوى ذلك من ملايين المعلومات عن الإنسان في حياته وبعد موته (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً).
حجية العلامات الوراثية في إثبات النسب
أ- فصيلة الدم:
تقدم أن كل إنسان يرث صفاته من أبيه وأمه مناصفة سواء كان دم الأبوين من فصيلة واحدة أو من فصيلتين مختلفتين.
ومتى وجدت زمرة دموية في طفل لا توجد في مدعيه يمكن الاعتماد على ذلك في نفي نسبه منه.
وفي حال توافق الفصائل بين الطفل ومدعيه فإن هذا ليس قطعياً في إثبات نسبه لأن الفصيلة الواحدة قد يشترك فيها أناس كثيرون يحتمل أن يكون أبو الطفل واحداً منهم.
مثال: لو ولدت امرأتان في مستشفى واختلط الولدان وتعذر تمييزهما فيمكن عن طريق تحليل الدم معرفة نسب الولد الصحيح. وفي حال اختلاف الفصائل يكون التحليل قاطعاً في نفي النسب أما في حال التوافق بإلحاقه من باب الاحتمال فقط.(/3)
فيمكن الاعتماد على قرينة اختلاف فصائل الدم في نفي نسب الولد في غير الحالة التي يجب فيها على النافي اللعان وهي حال قذف الزوج زوجته.
ومتى ثبت عدم نسبة الولد إليه بواسطة العلامة الوراثية فلا حاجة إلى اللعان عند بعض الفقهاء، لأن اللعان يمين وهي إنما وضعت لتحقق ما يحتمل الوقوع وعدمه وفي هذه الحالة لا يمكن كون الولد من الزوج فلم يحتج في نفيه إلى لعان.
ب/ بصمة الحمض النووي
وتسمى البصمة الوراثية، وهي تختلف من شخص لآخر نظراً لاختلاف الصفات الوراثية ويمكن بواسطتها تحديد البنوة لأن هناك تشابهاً بين الشخص وولديه في هذا الحمض. فإن وجدت الصفات الوراثية الموجودة في الابن نصفها في الأم والنصف الآخر غير مطابق لصفات الأب المدعي فهذا يدل على أنه ليس هو الأب الحقيقي والعكس صحيح. وهذا يتم بعمل بصمة الحمض النووي لكل منهم ومطابقتها.
وبناء على ذلك وما قرره الأطباء من أنه لا يوجد تشابه بين شخص وآخر في الحمض النووي ما عدا الابن مع والديه فإن تلك القرينة تعد قاطعة في إثبات النسب إذا تشابه المدعي به مع المدعيين له في هذا الحمض أما إذا اختلفت فهي قرينة قاطعة على نفي النسب ولا تقبل الشك.
أما فصائل الدم فهي قرينة قاطعة في نفي النسب دون إثباته.
الأدلة من الشرع على حجية العلامات الوراثية:
1- لذلك أصل في الشرع كما في حديث الرجل الفزاري الذي جاء للنبي (صلى الله عليه وسلم) يريد نفي ولده لوجود اختلاف بينهما في اللون فقال: (إن امرأتي ولدت غلاماً أسود فقال. هل لك من إبل؟ قال: نعم قال: ما ألوانها؟ قال حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم، قال: فأنى لها ذلك؟ قال: لعله نزعة عرق. قال: فلعل ابنك هذا نزعة عرق.
2-كذلك اتفق جمهور الفقهاء على العمل بالقافة في إثبات النسب بناء على العلامات الظاهرة التي يعرفها القائف. كما ورد في حديث مجزز المدلجي في قصة أسامة بن زيد. وزيد بن حارثة.
يقول ابن القيم –رحمه الله- (أصول الشرع وقواعده والقياس الصحيح يقتضي اعتبار الشبه في لحوق النسب والشارع متشوف إلى إيصال الأنساب وعدم انقطاعها).
ويكون الشبه دليلاً على نفي الولد استناداً لحديث المرأة التي لاعنها زوجها وهي حامل فقال الرسول –صلى الله عليه وسلم- انظروا إن جاءت به أسهم أدعج العينين خدلج الساقين فلا أحسب عويمرا إلا قد صدق. وإن جاءت ابن أحيمر كأنه وحرة فلا أحسبه إلا كذب عليها فجاءت به على الوصف الأول فقال الرسول –صلى الله عليه وسلم- (لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن) فجعل الشبه دليلاً على نفي النسب.
والأخذ بقرينة الشبه والقافة على نفي النسب أو إثباته لا ينافي العمل بالعلامات الوراثية. بل العمل بالعلامات الوراثية أولى لأن نسبة الخطأ فيها نادر بينما نسبة الخطأ في الشبه والقافة واردة لكونها تقوم على الظن والخبرة.
فالفقه الإسلامي لا يمنع من الأخذ بالوسائل الطبية الحديثة في إثبات النسب أو نفيه.
كما أن الاعتماد على العلامات الوراثية في نفي النسب لا يعارض قرينة الفراش إذا ثبت أن الولد مولود لزوجين على فراشهما حسب القرينة الظاهرة لأن العمل بالعلامات الوراثية إنما يكون إذا لم يعارضها ما هو أقوى منها، ومتى وجد معارض أقوى كالفراش حكمنا به، لأن القرائن يقدم فيها الأقوى فالأقوى، والفراش أقوى لحديث (الولد للفراش وللعاهر الحجر).
الفحص الطبي المثبت للاعتداء على النفس وما دونها
إذا تعذر إثبات ذلك بالشهادة والإقرار تتجه المحكمة إلى طلب إجراء الفحص الطبي التشريحي لإثبات أن الوفاة كانت جنائية أو أنه اعتداء على ما دون النفس.
وللتشريح ثلاثة أغراض:
أ/ إثبات جريمة القتل بتشريح الجثة:
إذا لم يعلم سبب الوفاة واشتبه في وجود جريمة تدخل الطب الشرعي في فحص الشخص المتوفى ومعرفة سبب وفاته هل هي طبيعية أم ناتجة عن جريمة اعتداء مما يعين عند التحقيق على توجيه التهمة للفاعل، ومعرفة نوع السلاح المستخدم.
ب/ وكذا لو كانت الوفاة غير جنائية لمعرفة نوع المرض الذي مات بسببه من أجل الوقاية منه وعلاجه في المستقبل فلكل داء دواء. والأحاديث في الأمر بالتداوي مستفيضة والأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل.
ج/ وكذا التشريح لغرض التعليم، فعلم التشريح له باع واسع في كليات الطب وهو من العلوم النافعة والضرورية في وقتنا الحاضر حيث لا يمكن الاقتصار في التشخيص على الفحص السريري في بعض الحالات.
فتشريح الجثة جائز شرعاً للضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، ففي حال الاشتباه في سبب الوفاة فإن التشريح يزيله فيتوصل به إلى الحقيقة حفظاً لحقوق الأولياء وإعانة على حفظ الأمن، وردع أمثال الفاعل من المجرمين وقد يثبت التشريح نتائج سلبية ويحكم بأن الوفاة عادية فتحصل براءة الذمة.
كما أن المصلحة الراجحة مقدمة على المفسدة المرجوحة وهي انتهاك حرمة الميت.(/4)
مثال: لو ابتلع شخص مالاً ثم مات فطلب صاحب المال رده، يشق جوفه ويرد المال على صاحبه، ذكره النووي في روضة الطالبين (2/141) وابن قدامة في المغني (2/552).
وكذا مشروعية التشريح لأجل التعلم فإن طب الأجسام وعلاج الأبدان أمر مشروع والتشريح من الوسائل المفيدة في ذلك والوسائل لها حكم الغايات.
* وقد صدرت الفتوى من هيئة كبار العلماء بجواز التشريح تحقيقاً لمصالح كثيرة في مجالات الأمن والعدل سواء كانت الجثة معصومة الدم أم لا.
أما التشريح لأجل التعليم فإن الضرورة منتفية فيكتفى بتشريح جثث غير معصومة.
القرائن المادية
كل جريمة تترك وراءها من الدلائل والعلامات ما يتوصل به إلى معرفة الفاعل مهما حاول المجرمون طمس معالم الجريمة وإخفاء آثارها، وقد أثبتت التجارب العلمية المخبرية التوصل إلى المجرمين بواسطة القرائن المادية التي تخلف الجريمة.
وقد اتجهت الدراسات الحديثة إلى الاستفادة من الوسائل الحديثة لإثبات الجريمة وكشف مرتكبيها من خلال الآثار المادية التي يتركها الجاني في مكان الجريمة. وتختلف حالة الآثار باختلاف الجريمة من حيث نوعها وأسلوب تنفيذها ووسائلها المستخدمة في التنفيذ.
والآثار المادية نوعان:
أ/ آثار مادية ظاهرة. ب/ آثار مادية خفية.
أولاً: الآثار المادية الظاهرة:
(أ) آثار الشعر:
وجود الشعر في مكان الجريمة يساعد على تفسير ملابساتها ويساعد المحقق على معرفة نوعه وعلاقته بالجريمة.
وللشعر خاصية عجيبة في التعرف على الجريمة والفاعل لما يختص به من صفة الالتصاق بالأجسام الصلبة. وله صفة امتصاص تساعد على معرفة نوع المشروب ومدة بقائه في الجسم.
مما يستوجب المحافظة على عينة الشعر حتى تبقى على طبيعتها التي وجدت عليها.
طريقة فحص الشعر
يتم ذلك بالطرق التالية:
1- تفريق الشعر عن الألياف عن طريق إجراء اختبارات كيميائية.
2- التفريق بين شعر الإنسان والحيوان عن طريق الميكروسكوب.
3- معرفة من يخصه الشعر من الجنس البشري.
4- هل الشعر يخص ذكراً أم أنثى عن طريق فحص خلايا الشعر.
5- معرفة موقع الشعر من جسم الإنسان.
6- معرفة صاحب الشعر عن طريق فصيلة الدم من الشعر والمقارنة أو عن طريق التحليل الإشعاعي ويحتاج إلى مزيد من الدراسات حتى يمكن تحديد الجاني بدقة أكبر.
* أو عن طريق بصمة الحمض النووي لكل من الشعر المعثور عليه والمتهم، ومطابقة النتيجة لمعرفة صاحب الشعر، لأن التشابه في هذه الحالة غير وارد.
قوة قرينة الشعر في الإثبات أو النفي:
بعد فحص الشعر فإما أن يتشابه بشعر المتهم أو يختلف، فإن تشابه عن طريق فصيلة الدم المأخوذة من الشعر والبروتين الموجود في الشعر فإن هذا يزيد الشك في المتهم ولكي يزول هذا الشك لابد من استخدام فحص الحمض النووي DNA لكل من الشعر المعثور عليه وشعر المتهم ففي حال المطابقة نجزم بأن هذا الشعر يخص المتهم. لأن بصمة الحمض النووي قرينة قوية في الإثبات أو النفي لا تقبل الشك.
س/ هل ينتفي النسب بالبصمة الوراثية دون اللعان؟
ج/ هذه المسألة محل خلاف عند الفقهاء: والذي يترجح -والله أعلم- أنه يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب مادامت النتيجة قطعية كما ترد دعوى الزوج بنفي النسب إذا أثبتت البصمة الوراثية خلاف ذلك لمخالفة قول الزوج للحس والعقل. وينبغي للقضاة أن يحيلوا الزوجين قبل اللعان لفحوص البصمة الوراثية. لأن اللعان مشروط بعدم وجود بينة. فإذا كان لأحد الزوجين بينة تشهد فلا وجه لإجراء اللعان كما لو صدقته الزوجة فلا وجه لإجراء اللعان مع وجود بينة قاطعة.
(ب) قرينة المقذوفات النارية:
الأسلحة النارية أداة مهمة من أدوات الإجرام بل هي في مقدمة الوسائل المستخدمة في جرائم القتل.
ومن آثارها ما يفيد في التعرف على نوع السلاح المستخدم وتحديد عياره كالمقذوفات، والظروف الفارغة وهذا يفيد المحقق في التعرف على مرتكب الجريمة، لأن لكل جرح ما يناسبه من السلاح، ومعرفة ما إذا كان السلاح المضبوط من نفس عيار المقذوف المستخرج من حجم المجني عليه ويتم ذلك بالفحص في مختبرات الأسلحة النارية.
(ج) قرينة آثار الآلات
لا يخلو مكان الجريمة –غالباً- من الآلات تبقى آثارها في مسرح الجريمة كالفأس، والسكين وكل آلة حديدية قاتلة أو آلة خشبية، ومتى تم ضبط الآلة المستخدمة أمكن إجراء المقارنة المخبرية للبحث عن الآثار التي قد تكون عالقة بالآلة كذرات الخشب أو الحديد- أو وجود خدوش على الآلة نتيجة الاستخدام أو آثار دم. أو طلاء، أو شعر ويستخدم الميكروسكوب في عملية المقارنة.
وإذا لم يمكن العثور على الآلة فيمكن معرفتها على وجه التقريب وبواسطة الآثار الناتجة عنها.
يمكن القول بأن آثار الآلات هي: (الخطوط الدقيقة التي تحدثها الآلة على سطح الجسم).(/5)
وأثر الآلة على سطح الجسم يمكن مشاهدته إما بالعين المجردة أو عن طريق استخدام العدسات المكبرة وينتج هذا الأثر إما بسبب انزلاق الآلة على الجسم أو ترددها عليه، أو الضغط القوي.
ويتم فحص أثر الآلة عن طريق مضاهاة الأثر مع أثر مماثل للآثار التي عثر عليها بواسطة الميكروسكوب، ليتم معرفة نوع الآلة وعددها وتعدد الجناة، ومهارة الجاني، واليد التي استخدمها، وزمن الاستخدام التقريبي عن طريق دراسة البرق المعدني وما طرأ عليه من تغيير نتيجة الصدأ.
وقرينة أثر الآلة من القرائن الضعيفة لأنها مبنية على الظن والتخمين، لما بين الآلات من التشابه، وقد لا تكون الجريمة مقصودة إذا ادعى المتهم استخدام الآلة لغرض آخر.
ثانياً القرائن المادية الخفية
وهي أنواع منها:
1- قرينة آثار البصمات.
2- قرينة آثار بقع الدم.
3- قرينة آثار بقع المني.
4- قرينة آثار الروائح.
أولاً: قرينة آثار البصمات:
البصمة: هي تلك الخطوط والنتوءات البارزة وما يصيبها من قنوات صغيرة تشكل معاً أشكالاً خاصة توجد في أصابع اليدين والقدمين وراحة اليدين وباطن القدمين.
وتترك آثاراً عند ملامستها السطوح المصقولة. ويرجع تاريخ البصمات إلى ما قبل 1000عام.
وأول من استخدم البصمات في التحقيقات الجنائية: الصينيون، ولم تكن في ذلك الوقت مبنية على دراسة علمية وفي عام 1858م تعددت الدراسات والبحوث في علم البصمات وتطورت على مرور الزمن حتى ظهرت للوجود وأثبتت نجاحاً باهراً في مجال التحقيق الجنائي.
ويعثر على وجود البصمات غالباً على الأشياء التي لامسها الجاني بيده أو قدمه كزجاج النافذة، أو مقبض الباب، أو الدولاب، أو الخزانة التي فتحها، أو على الآلات التي كان يحملها وتركها في موقع الحادث.
وتحتاج معرفتها إلى خبراء متخصصين لمعاينة مكان الجريمة لرفع آثار البصمات ويؤخذ في الاعتبار اختلاف هذه الآثار من حيث الوضوح وعدمه.
ويتم إظهار البصمات الخفية بإحدى طرق ثلاث:
أ- بواسطة المساحيق لها قدرة على الالتصاق على موضع الفحص إذا كان مستوياً لا نتوءات فيه.
ب- الأشعة فوق البنفسجية، إذا كان السطح ذا ألوان بعد رشه بمادة تلتصق بمادة الأثر وتظهر خطوطه ويتم تصويرها بعد ذلك.
ج- الطرق الكيميائية. خاصة إذا مضى على البصمات زمن طويل وغالباً تكون للأسطح نصف مسامية كالورق، والمستندات وقد أثبتت الدراسات بصمتين لشخصين مختلفين.
أهمية آثار البصمات
1- الكشف عن سوابق المتهمين في حال عودة المتهم إلى الإجرام.
2- إثبات شخصية الطفل بعد الولادة عن طريق بصمات قدمه اليمنى حيث تسجل على نموذج خاص يسلم للوالدين تلافياً لخطأ اختلاط المواليد.
(الخطوات التي يتبعها المحقق لتقديم هذه القرينة للقضاء)
1- استخراج العلامات المميزة للبصمة المنقولة من مكان الحادث وإعطاء كل علامة رقماً يخصها
2- تطبق العلامات المميزة على بصمة المتهم، فإن تطابقت 12 علامة مميزة من حيث الشكل والموقع في البصمتين يمكن القول بأنهما لشخص واحد وهذا يحتاج إلى تكبير حجم البصمتين خمس مرات.
3- يقوم الخبير بعمل تقرير واف يضمنه رأيه مع ذكر الأسباب التي اعتمد عليها.
وللمحكمة الحق في استدعائه لمناقشة تقريره في الجلسة.
* لقد أصبحت البصمات دليلاً قوياً لا يحتمل الشك في إثبات الجريمة إذا توفرت الخبرة في التعامل معها فهي قرينة قاطعة في الإثبات أو النفي في حال التطابق أو عدمه.
ثانياً/ القضاء بقرينة آثار بقع الدم
تعتبر البقع الدموية من أهم الآثار المادية التي يجدها المحقق في موضع الحادث، والتي يتعين عليه فحصها لتقديم معلومات تفيده في الكشف عن الجاني وهل هي من دمه أو دم المجني عليه.
وتفيد البقع الدموية في معرفة ما يلي:
1- معرفة مكان الجريمة.
2- الوضع الذي كان عليه المصاب وقت إصابته.
3- تحديد اتجاه سير المصاب.
4- المسافة بين الجاني والمجني عليه.
وتعتبر البقعة الدموية قرينة قوية ضد المتهم: إذا وجدت البقعة الدموية المطابقة لفضيلة المجني عليه على المتهم أو ما يتعلق به. وكذا بواسطة تحليل بروتين بلازما الدم للبقعة الدموية ودم المجني عليه لأن التشابه في هذا النوع قليل جداً، وفي حال عدم توفر ذلك فإنها تكون قرينة قاطعة على نفي التهمة إذا كان اتهامه بوجود البقعة على جسمه أو ما يتعلق به. وكذا تكون قاطعة في النفي والإثبات بواسطة بصمة الحمض النووي المسماة DNA.
مميزات بصمة الحمض النووي عن غيرها
من وسائل الإثبات الحديثة
1- أنها قرينة نفي وإثبات بخلاف فصائل الدم فهي وسيلة نفي فقط.
2- يمكن تطبيقها على كافة التلوثات الدموية –السائلة- والجافة، والقديمة. حيث ثبت أن هذا الحمض يقاوم الظروف الجوية المختلفة.
3- تظهر آثارها بواسطة خطوط بواسطة خطوط يسهل قراءتها وتخزينها في الحاسب الآلي.
4- بصمة الحمض النووي هي أصل كل العلامات الوراثية، ومتى حصل أي خلل في الحمض النووي فإنه يظهر على صورة مرض.(/6)
ومما يدل على الاستدلال بالدم في التعرف على القاتل قول النبي –صلى الله عليه وسلم- لمن ادعيا قتل أبي جهل (هل مسحتما سيفيكما قالا لا) فنظر في السيفين ثم قال: كلاكما قتله، وهذا فيه توجيه ضمني إلى الاستفادة من بقع الدم في التحقيق الجنائي.
ثالثاً: القضاء بقرينة آثار المني في إثبات الزنا:
إذا لم يثبت الزنا بالإقرار أو الشهادة وقويت الشبهة في حصوله فمن القرائن المعاصرة تحليل الآثار المنوية على اللباس أو البدن، وتحديد فصيلتها فإذا ثبتت مطابقتها بفصيلة المتهم كانت قرينة في إثبات حصول الزنا منه.
قد يتفق بعض الأشخاص في فصيلة الحيوان المنوي مما يجعل الاحتمال يتطرق إلى نتائج الفحص المخبري مما يضعف الأخذ بهذه القرينة في إثبات جريمة الزنا.
أما في حال نفي التهمة فيكون التحليل المنوي قرينة قوية على براءة المتهم مما نسب إليه.
لذلك فإنه يمكن التأكد من ثبوت التهمة بطريق بصمة الحمض النووي للمني. وفي حالة توافق بصمة الحمض النووي للتلوثات المنوية مع بصمة الحمض النووي لمني المتهم فهذا مما يؤكد إدانة المتهم. فإن بصمة الحمض النووي أقوى نفياً وإثباتاً من الفصائل الأخرى كما تقدم.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في (الطرق الحكمية ص48) قصة طريفة حصلت في عهد عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- حين ادعت امرأة أن شباباً اغتصبها ووضعت على ثوبها وفخذيها بياض البيض، وبعد معاينة النساء لها همَّ عمر –رضي الله عنه- بعقوبة الشاب إلا أن الشاب طلب من -عمر رضي الله عنه- التثبت من أمره وأقسم انه لم يرتكب الفاحشة فسأل عمر علياً في أمرهما فنظر علي رضي الله عنه إلى ما في الثوب فدعاء بما ء حار فصب عليه فجمد البيض ثم شمه فعرفه، فشدد عمر -رضي الله عنه- على المرأة حتى اعترفت.
رابعاً: القضاء بآثار الروائح في إثبات الجريمة:
أ- بطريق استخدام الكلاب المعلمة.
ب- عن طريق التحاليل المخبرية.
الأول: مجالات استخدام الكلاب في الإثبات الجنائي وحجيته.
يستخدم الكلب البوليسي في الإجراءات الوقائية من الجريمة وكشف الجريمة والتعرف على مرتكبيها وذلك بالطرق التالية:
أ- تتبع الآثار:بحيث يقوم الكلب بتتبع آثار الرائحة لأثر معين واستبعاد ما عداها من الروائح، وعلى المدرب أن يلاحظ ردود الفعل من الكلب عند قيامه بالتتبع.
ب- تزويد دوريات الشرطة بالكلاب البوليسية أثناء الليل في المناطق التجارية وأطراف المدن.
ج- تدريب الكلاب على تفتيش الأماكن و الأشخاص في المطارات خاصة للبحث عن المخدرات وأنواعها لما للكلاب من حاسة شم قوية لا تقارن بحاسة البشر.
د- كشف المفرقعات وأنواع المتفجرات بعد تعرف الكلب عليها حيث يقوم بإرشاد رجال الأمن إلى أماكن وجودها.
*مع ما للكلاب من قدرة على التتبع والكشف إلا أنه لا يعتمد عليها اعتماداً كاملاً في إدانة المتهم أو تبرئته، فالدليل الذي يقدمه الكلب يعد قرينة ضعيفة بسبب أن العنصر الأساس الذي يعتمد عليه الكلاب هو الرائحة، وقد تتشابه هذه الرائحة بسبب مأكول أو مشروب، وقد يقوم الجاني بتضليل الكلب باستخدام روائح عطرية نفاذة، ثم إن الروائح لها صفة الانتقال من شخص لآخر فقد تشم رائحة التدخين من شخص لا يدخن بسبب المجالسة، والكلاب تتأثر قدرتها بالآثار الطارئة عليها من تعب وجوع وعطش. مما يؤكد ضعف هذه القرينة والقاضي لا يحكم إلا بقرينة قاطعة مقنعة لا بالظن والتخمين وهذا لا يمنع الاستعانة بالكلاب في الوصول إلى الحقيقة.
حكم ضرب المتهم ليقر بجريمته
جاء في الشرح الكبير: (إذا ثبت عند الحاكم أنه من أهل التهم جاز سجنه وضربه ويعمل بإقراره) (الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي (4/345) ويقول الماوردي في الأحكام السلطانية (ص274): (يجوز للأمير مع قوة التهمة أن يضرب المتهم ضرب تعزير لا ضرب حد ليأخذه بالصدق عن حاله فيما اقترف واتهم).
وورد مثل هذا عن ابن تيمية في التفاوى (35/400) وابن القيم في الطرق الحكمية ص(104).
فمن نصوص الفقهاء يتضح جواز ضرب المتهم إذا عرف بالشر والفجور وسوء السيرة، لأن إيلام المتهم بالضرب يحمله غالباً على قول الحق. ولكن يكون ذلك في حدود قدرة المتهم على التحمل دون ضرب القسوة.
ولقبول الإقرار الناتج عن ضرب المتهم ضوابط:
1- ألا يكون هناك وسيلة أخرى يمكن التوصل بها إلى إقراره.
2- أن يتأكد القاضي أن الإقرار صدر من المتهم مطابقاً للواقع لا خوفاً من الضرب.
3- أن يظهر للقاضي فسق المتهم وسوء سلوكه مما يرجع التهمة في حقه.
4- ألا يكون ذلك في جرائم الحدود التي تدرأ بالشبهات.
وفي حال عدم الإقرار بعد الضرب فهل يجوز استخدام الوسائل الحديثة كالعقاقير المخدرة، أو التنويم المغناطيسي، أو جهاز الكذب؟ راجع (استخدام الوسائل الحديثة في الكشف عن الجريمة) (محمد فالح حسن ص29-30).
والخلاصة: أنه لا يمكن الاعتماد على هذه الوسائل في إثبات الجريمة بالإقرار: لأن الإقرار لابد أن يكون صادراً عن إرادة واختيار.(/7)
رابعاً: القضاء بقرينة التصوير والتسجيل:
أ- يتم التصوير إما بالأشعة غير المرئية، أو باستخدام التصوير الضوئي أو بغير ذلك بحثاً عن الدليل الجنائي كتصوير البصمات، وآثار الأقدام وآثار الإطارات للمضاهاة.
وكذا يستخدم التصوير في فحص المستندات المزورة، والخطابات المقفلة –وتصوير الطرود
المشتملة على المفرقعات. وكذا التصوير المتحرك عن طريق الإخراج التلفزيوني.
س/ لو ادعى شخص على آخر بجريمة سرقة وليس لدى المدعي إلا صورة أخذها وقت قيام المتهم بالسرقة، أو أتهم شخص باغتصاب امرأة وليس لدى المدعي إلا صور.
فهل يحكم على المتهم بموجب تلك القرينة؟.
ج/ الصور الفوتغرافية على ارتكاب جريمة (ما) دلالة ضعيفة لا يعتمد عليها في إثبات الجريمة لعدة أمور منها:
1- احتمال التركيب بين الصور لمكانين مختلفين بطريق الدبلجة.
2- التشابه بين صور الأشخاص أحياناً إذا لم يوجد علاقة خارقة.
3- القدرة على الرسم بما يشبه الصورة.
ولكن متى ما رأى القاضي ترجيح جانب الصورة في الإثبات لعدة مرجحات فله العمل بها وإن أمكن تعزيزها بغيرها فهو أولى، فالأمر راجع إلى ما يتمتع به القاضي من فطنة وذكاء.
وكذا في حال التصوير في قضايا الحوادث المرورية.
أما التصوير بكميرات الفديو: (الصوت والصورة) في إثبات الخطأ في الحوادث المرورية فإنه أولى بالاعتبار من الأدلة المادية الأخرى.
(ب)- تعد عملية تسجيل المحادثات الهاتفية من الأدلة الحديثة المستخدمة في الإثبات أو النفي. فإن كان استعماله من قبل سلطة التحقيق لجمع المعلومات عن المتهم فذلك جائز لأن في مصلحة التحقيق.
أما إن كان من غير جهة التحقيق فإن كان مكان عام كالمحاضرات والندوات فلا بأس باعتبار الإذن العام. أما إن كان في مكان خاص لا يسمح فيه التسجيل فلا يجوز لأنه من باب التجسس المنهي عنه.
(ج)- الدليل المستحدث من التسجيل الصوتي يعد قرينة ضعيفة لإدانة المتهم بموجبها، لوجود التشابه في الأصوات وإمكانية تقليدها وإحداث تغيير فيها بحذف أو تقديم وتأخير وهذا خلاف مقاصد الشرع فلا يعتمد عليه في مجال الإثبات والنفي، ويمكن الاستعانة به لتقوية التهمة.
وأحكام الشرع تبنى على أمور ثابتة لا تحتمل الخطأ حفاظاً على دماء الناس وأموالهم وأعراضهم.
ويمكن للقاضي الاستفادة من هذه القرينة عند الحاجة إليها متى وجد إلى ذلك سبيلاً خاصة في القضايا التي يقوى فيها جانب التسجيل الصوتي ومنها: المجالات الجنائية المتعلقة بكشف الجريمة وتشخيص مرتكبيها.
من قرارات مجمع الفقه الإسلامي
1/ في إثبات النسب بالبصمة الوراثية:
(يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات التالية:
أ- حالات التنازع على مجهول النسب.
ب- حالات الاشتباه في المواليد والمستشفيات، ومراكز رعاية الأطفال وأطفال الأنابيب.
ج- حالات ضياع الأطفال واختلاطهم بسبب الحوادث والكوارث وحالات عدم التعرف على الهوية أو القبيلة.
2/ في نفي النسب، وحكمها مع اللعان:
لا يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب ولا يجوز تقديمها على اللعان.
أهم المراجع
1- القضاء بالقرائن المعاصرة/ رسالة دكتوراه بالمعهد العالي للقضاء/ عبد الله سليمان العجلان.
2- البصمة الوراثية وحجيتها/ بحث في مجلة العدل العدد 23(1425هـ) عبد الرشيد قاسم.
3- البصمة الوراثية كدليل أمام المحاكم/ بحث في مجلة البحوث الأمنية العدد (19) د. إبراهيم الجندي.
4- كشف الجريمة بالوسائل الحديثة/ عبد العزيز حمدي/ عالم الكتب-القاهرة.
5- الإثبات والتوثيق أمام القضاء/بحث من إعداد/ عبد الرحمن بن عبد العزيز القاسم – مطبعة السعادة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد(/8)
القضاء في الإسلام
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
ضعف الدين في النفوس، وغاب عنها وازع الإيمان والخوف من الله جل وعلا إلا من رحم الله فساءت الأخلاق وقست القلوب وضاقت النفوس فلم تعد ترى إلا ذاتها أنانية مفرطة، وجشع وطمع وتطلع إلى حقوق الآخرين والاستيلاء عليها بالحيلة والمكر، والخداع والتحايل، أو بالقوة والظلم والغصب.
فكثرت الخصومات وضجت المحاكم والنيابات بالقضايا والنزاعات، وهناك تزداد الحيل ويكثر الزور وتتعقد الأمور وكل خصم يسعى جاهداً للغلبة والانتصار على خصمه وإبطال دعواه بالحق والباطل وتكون المغالبة والعناد هو الوقود والدافع الذي يؤجج الصراع ويديمه ويطيل القضايا في نزاع غير متناهي، حيث تدفع الأموال ويتنصب المحامون الذين قد يسهموا في تضليل القضاء وإطالة أمد المشكلات.
إن سبب ذلك كله هو ضعف الإيمان أو انعدامه في الخصوم وأحياناً في القضاة وأحياناً في المحامين. إن القاسم المشترك هو نسيان الله جل وعلا وعدم اليقين في لقائه والوقوف بين يديه للجزاء والحساب إذ لو وجد الخوف من الله واستشعار عظمته واستيقان الحساب يوم الدين لكانت الحالة غير التي نعيشها اليوم.
ذكروا أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - ولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - القضاء ، فمكث في منصبه سنة لم يترافع إليه اثنان، إذ كل واحد قد علم الحق الذي له والحق الذي عليه فتناصف الناس فيما بينهم بالحق والعدل ، يدفعهم إلى ذلك خوفهم من الله واستعدادهم للقائه لا يبغون علواً في الأرض ولا فساداً. فلما انقضى العام جاء عمر - رضي الله عنه - أبا بكر يطلب منه أن يعفيه من هذا المنصب الذي لا يحتاج إلى متفرغ له لقلة الخصومات أو انعدامها في زمن الصديق - رضي الله عنه - .
إن الناس يخطئون ويذنبون وتغرهم الحياة ويخدعهم الشيطان فهم في حاجة ماسة إلى من يذكرهم بربهم وينصحهم ويعظهم، فقد كان القضاة الربانيون طوال تاريخ الإسلام الممتد عبر القرون كانوا يعظون الخصوم ويذكرونهم بالله وبلقائه ويرغبونهم في العدل وفيما عند الله، ويحذرونهم من الظلم وسوء عاقبته في الدنيا والآخرة ، كل ذلك كان يتم قبل صدور الأحكام، وكان الكثير من المتخاصمين يستيقظ عندهم الإيمان فيتوبون ويعترفون بالحق ويندمون، فيستريحون ويريحون.
وكان هذا هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع المتخاصمين ، كان يعظهم ويذكرهم ويخوفهم عقوبة الله ولا سيما عند اليمين التي يبنى عليها الحكم. ففي الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان".
وفي رواية عن عدي بن بحيرة قال: "كان بين امرئ القيس ورجل من حضرموت خصومة فارتفعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال للحضرمي: "بينتك وإلا فيمينه" ، قال: يا رسول الله إن حلف ذهب بأرضي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حق أخيه لقي الله وهو عليه غضبان" ، فقال امرؤ القيس: يا رسول الله فما لمن تركها وهو يعلم أنها حق؟ قال: "الجنة" ، فقال : أشهدك أني قد تركتها، فنزلت هذه الآية وهي قوله تعالى: ? ِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ?[آل عمران: 77].(/1)
وذكر ابن جرير في تفسيره أن الأشعث بن قيس اختصم هو ورجل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في أرض كانت في يده لذلك الرجل أخذها في الجاهلية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أقم بينتك"، قال الرجل: ليس يشهد لي أحد على الأشعث، قال: "فلك يمينه"، قال الأشعث: نحلف، فأنزل الله قوله: ?إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ?[ آل عمران: 77].، ففعل الأشعث وقال: إني أشهد الله وأشهدكم أن خصمي صادق، فرد إليه أرضه، وزاده من أرض نفسه زيادة كثيرة".
وفي صحيح مسلم وأبي داؤود والترمذي عن وائل بن حجر، قال: جاء رجل من حضرموت، ورجل من كندة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا غلبني على أرضٍ كانت لأبي، قال الكندي: هي أرض كانت في يدي أزرعها ليس له فيها حق!، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للحضرمي: "ألك بينة؟" ، قال: لا، قال : "فلك يمينه"، فقال: يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع عن شيء، فقال: "ليس لك منه إلا ذلك"، فانطلق ليحلف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أدبر: "لئن حلف على مال ليأكله ظلماً ليلقين الله وهو عنه معرض" وفي رواية أبي داؤود: "فتهيأ الكندي لليمين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يقتطع أحد مالاً بيمين إلا لقي الله وهو أجذم"، فقال الكندي: هي أرضه.
وأخرج الحاكم وصححه عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة كانت نكتة سوداء في قلبه لا يغيرها شيء إلى يوم القيامة".
وفي صحيح مسلم والنسائي وغيرهما عن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة"، قالوا: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟، قال:"وإن كان قضيباً من عراك ثلاثاً".
وفي صحيح البخاري عن أبي مليكة: أن امرأتان تخرزان في بيت فخرجت إحداهما وقد أُنفذ بإشفي في كفها ـ وهو المثقب الذي يخرز به- فادعت على الأخرى، فرفعا إلى ابن عباس ، فقال ابن عباس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو يعطه الناس بدعواهم لذهب دماء قوم وأموالهم"، ذكروها بالله، واقرأوا عليها:? ِإنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ?[ آل عمران: 77]. فذكروها فاعترفت.
وفي الحديث الصحيح عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع منكم، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما يقتطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة".
بهذه الطريقة الربانية الإيمانية كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يربي النفوس ويسوسها ويبني قيم الإيمان والخوف من الله في تلك القلوب، فترق وتخشع وتستجيب وتعترف بالحق وتنصف من النفس.
فأين نحن اليوم من هذا المنهج السديد الرشيد وأين منه الحكام والقضاة ؟ ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين؟
ألا إن الخوف من الله والإيمان بوعده ووعيده هو طريق النجاح والفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة ، خوف الله هو عربون النصر والتمكين وإهلاك الظالمين، قال تعالى: ?وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ?[ إبراهيم: 13-14].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي سيد المرسلين.
الخطبة الثانية:
لو أن يهودياً قتل في مكان ما من الأرض لتحركت الدنيا لمقتله ونددت وسائل الإعلام بهذا العمل ، وتحركت العواصم لإدانته، والأمم المتحدة ومجالسها تستنكر؟ كل ذلك لمقتل علج يهودي!
أما أن تباد أمة وأن يسحق شعب ويعتدى عليه، أما أن يقتل الآمنون الأبرياء وتقصف المدن ويباد الآلاف ويشرد شعب بأكمله فمسألة فيها نظر!؟ لماذا لأن الضحايا مسلمون والمسلمون لا بواكي لهم، هانوا على الله فهانوا على الناس!!(/2)
وليس غريباً أن يقف الكفر العالمي هذا الموقف السلبي من قضايا المسلمين لأنهم أعداء لنا وخصوم، أخبرنا الله عن حقدهم وعداوتهم، وأمرنا بأخذ الحيطة والحذر وأمرنا بالاستعداد والإعداد لقتالهم وكف عدوانهم بعلمه تعالى بحقيقتهم وما تخفيه صدورهم فهو أعلم منا بأعدائنا ? وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ...?[ النساء: 45]. ولكننا لم نوقن ولم نمتثل واتخذنا الكافرين أولياء من دون المؤمنين وصدقناهم ونبذنا كتاب الله وراء ظهورنا ووقف معظم حكام المسلين من شعوبهم موقف العداء والتربص.
شعب الشيشان يعتدى عليه ويباد وحكام المسلمين كأنهم موتى لا وجود لهم حتى الشجب والاستنكار الذي يجيدون استخدامه بخلوا به هذه المرة!! لعل السبب في ذلك أن أمريكا غير متحمسة للموضوع وبالتالي فلا داعي للحديث عنه البتة إلا من خلال ما يطرحه الكافرون ويسمحون بنشره وبثه.
أيها المؤمنون من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ، إذا غلبتم على أمركم ولم تستطيعوا القيام بنصرتهم والوقوف معهم بالنفس والمال فلا تبخلوا عليهم بالدعاء والشعور بالأخوة والانتماء أدعوا الله لهم في صلواتكم في ليلكم ونهاركم واصدقوا في ذلك وأروا الله من أنفسكم خيراً، ألحوا على الله بالنصر وهلاك الكافرين حتى يأذن الله لهذه الأمة بالنصر والتمكين ويهيئ لها قادة ربانيين وزعماء مجاهدين يكونون أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة الكافرين ولا يكترثون بضجيج وصخب المنافقين والملحدين . إن الأمة الإسلامية في مختلف البقاع تتطلع بفارغ الصبر إلى من يقودها ويسوسها بالإسلام ويحكم فيها بالقرآن ويسعى إلى توحيد صفوفها وحشد قواتها وطاقاتها الهائلة. والتي إن انتظمت وتوحدت على عقيدتها واعتصمت بدينها فإنها ستقلب المعادلة وتزيل الباطل وتعيد الحق إلى نصابه في هذا العالم المليء بالمظالم والمآسي.
? لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ...?[ الروم:45].
راجعه / عبد الحميد أحمد مرشد.
البخاري 2/851، حديث رقم: 2285 ، ومسلم 1/122، حديث رقم: 138.
صحيح البخاري: باب: عهد الله عز وجل: الحديث رقم: (6283) .
صحيح مسلم: كتاب الإيمان: باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار: الحديث رقم:(223) عن علقمة بن وائل، عن أبيه .
سنن أبي داؤود: 2/240 ، حديث رقم: 3244، وصححه الألباني.
المستدرك للحاكم : 4/ 327، حديث رقم : 7800، وصححه الذهبي في التلخيص.
صحيح مسلم: كتاب الإيمان: باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار: الحديث رقم: (218) . عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه .
صحيح البخاري: باب: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم} الحديث رقم: (4277) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، وأخرجه مسلم في الأقضية، باب: اليمين على المدعى عليه، رقم: (1711) .
صحيح البخاري: باب: إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت، فقضي بقيمة الجارية الميتة، ثم وجدها صاحبها فهي له، ويرد القيمة ولا تكون القيمة ثمناً: الحديث رقم: (6566) عن أم سلمة .(/3)
القلب بين الطب والأدب
الدكتور حسان شمسي باشا
عندما يعزف القلب أغنية الحياة ، يغزل المحبون والشعراء والفنانون أنسجة القصائد على تداعيات هذه الألحان .
والقلب كتلة من اللحم وزنها في الإنسان الكهل 280 - 340 غ ، وسمي قلبا لكونه في وسط البدن تقريبا ، فقلب كل شيء وسطه وليه . وقال بعضهم سمي قلبا لأن وضعه قلوب في البدن . فقمته في الأسفل ، وقاعدته في الأعلى . ولكن أحد الشعراء يرأى رأيا آخر:
ما سمي القلب إلا من تقلبه والرأي يصرف بالإنسان أطوارا
والقلب أمير البدن بلا منازع ، كل عضو في البدن ، وطل خلية فيه بحاجة إليه ، حتى الدماغ إذا قطع القلب الدم عنه مات بعد 4 دقائق .
أما هو فمستقل بذاته ، يضخ دمه إلى خلاياه عبر شرايينه التاجية . وإذا قطع الدماغ عنه سيالته العصبية ، أمر العقد العصبية المنبثة في عضلته فقامت بوظيفة الدماغ واستفنى عنه .
وينبض القلب في الدقيقة الواحدة وسطيا 70 مرة ، ويضخ 5 لترات من الدم . وفي اليوم الواحد ينبض 100,000 نبضة تقريبا . ويدفع 7200 لترا من الدم .
وإذا عاش الإنسان سبعين عاما ، فإن القلب يكون قد نبض حوالي 3 مليارات نبضة ، وضخ حوالي 200 مليون لتر من الدم طوال تلك الحياة . والقلب هو العضلة الوحيدة التي لا تتوقف عن العمل طوال حياة الإنسان . وإذا كان القلب عند الأطباء مستقرا في مكانه في تجويف الصدر ، فإنه عند الأدباء يتلفت ذات اليمين وذات الشمال .
ويؤكد أديب العلماء الشيخ علي الطنطاوي أن القلب يتلفت ويبصر ويتكلم في عالم الشعر فيقول :
" والقلب يتلفت ، نعم يتلفت ، فلا تصدقوا أخبار العواذل من الأطباء الذين يرجفون بأنه ليس إلا عضلة ملساء .
ولقد مررت على ديارهم وطولها بين البلى نهب
فوقفت حتى لج من لغب نضوى ولج بعذلي الركب
وتلفتت عيني فمذ خفيت عنى الطول تلفت القلب
يتلفت ليرى المنازل وأهلها ، ثم يبعد الركب فلا يرى إلا حيا كلها ، ثم يبعد الركب أكثر فلا يرى إلا دخانها ، ثم ترمي بالركب المرامي فلا يرى شيئا ، عندئذ يبصرها القلب بعينه التي لا يحجبها الناي ولا الليل ولا المنام .
تلفت حتى لم يبن من بلادكم دخان ولا من نارهن وقود
وإن التفات القلب من بعد طرفه طوال الليالي نحوكم ليزيد
والهوى يتجسم في عالم الشريف الرضي إنسانا ، ويزور الشاعر فينصحه ألا يفارق أحبابه ، فإذا لم يسمع نصح الهوى ، جاء القلب فكلمه وضرب له الأمثال :
ولما تدانى البين قال لي الهوى رويدا ، وقال القلب : أين تريد ؟
أتطمع أن تسلو على البعد والنوى وأنت على قرب المزار عميد ؟ "
ويؤكد بشار بن برد أن القلب في موطن الهوى يبصر قبل العين ، ويسمع قبل الأذن فيقول :
دعوا قلبي وما اختار وما ارتضى فبالقلب لا بالعين يبصر ذو اللب
وما تبصر العينان في موضع الهوى ولا تسمع الأذنان إلا من القلب
والعين هي الطريق الموصل إلى القلب كما يقول البحتري :
وما كان حظ العين في ذاك مذهبي ولكن رأيت العين بابا إلى القلب
كما أن دموع العاشقين هي الألسنة التي تنطق بها القلوب . يقول ديك الجهني الحمصي :
دموع العاشقين إذا توالت بظهر الغيب ألسنة القلوب
وفي جراحة القلب يقوم الجراح بشق الجلد بمبضعه ، ثم يقص عظم القص بمنشار خاص قبل أن يصل إلى القلب ليجري عليه عملية جراحية . ولكن سهام " البدور " عند المتنبي تصل إلى القلوب قبل الجلود !!
عمرك الله هل رأيت بدورا طلعت في براقع وعقود ؟
راميات بأسهم ريشها الهدب تشق القلوب قبل الجلود
وفي نفس المعنى يقول كثير عزة :
رمتني بسهم ريشه الهدب لم يضر ظواهر جلدي وهو في القلب جارح
وكثيرا ما تحدث الشعراء عن جروح القلب ، فلا مباضع ولا سهام ، بل مجرد تذكر الحبيب كاف لأن يحدث جرحا في القلوب .
قال ذو الرقة :
إذا خطرت من ذكر حية خطرة على القلب كادت في فؤادك تجرح
ولعل نظرة من نظرات الحبيب لا تجرح القلب فحسب ، بل تودي بالحياة !! . قال ابن الرومي :
نظرت فأقصدت الفؤاد بلحظها ثم انثنت عنه فظل يهيم
فالموت إن نظرت وإن هي أعرضت وقع السهام ونزعهن أليم
ومسكين ذلك القلب المجروح ، فحتى شهادته لا تقبل عند الخصام .
يقول الطبيب الشاعر شاكر الخوري :
وسألتها هل بالأكيد تحبني قالت : فؤادك شاهد يا روحي
فأحببتها أهل الهوى لن يقبلوا أبدا شهادة شاهد مجروح
وكثيرا ما تتحسن أمراض القلب بالأدوية الحديثة من موسعات لشرايين القلب إلى ما يزيد القلب قوة وعزما ، إلا أن من أدواء القلب ما يزداد نكسا بالدواء !! قال الفاضل اليماني :
لله داء في الفؤاد أجنه يزداد نكسا كلما داويته
ولا شك أن الضغوط النفسية الشديدة والمصائب العظام تؤثر سلبا على القلب ، فكم رأينا من حالات " جلطة القلب " ( احتشاء عضلة القلب ) ، ساهم في إحادثها تعرض المريض لضغط نفسي شديد . قال الشاعر :
احرص على حفظ القلوب من الأسى فصفاؤها بعد التكدر يعسر(/1)
وإذا كان القلب يبدو واضحا على شاشة تصوير القلب بالأشعة فوق الصوتية ( الايكو ) ، فنرى ما فيه من صمامات ، وضعف أو توسع في عضلة القلب ، في انقباضه وانبساطه ، فإن الأطباء يعجزون عن إدراك ما في القلب من أحاسيس ومشاعر .
ويأبى الذي في القلب إلا تبينا وكل إناء بالذي فيه يرشح
وقد تصاب عضلة القلب بالتضخم والقساوة ، وخاصة عند المسنين ، أو عند المصابين بارتفاع ضغط الدم الشديد . ولكنه قد يكون قاسيا عند المحبوب ، فلا يحن ولا يلين . يقول صريع الغواني مسلم بن الوليد :
أحب من حبكم من كان يشبهكم حتى لقد كدت أهوى الشمس والقمرا
أمر بالحجر القاسي فألثمه لأن قلبك قاس يشبه الحجرا
ويقال في الأدب : إن أحن القلوب هو قلب الأم ، وأكثرها صفاء قلب الطفل ، وأشدها غلظة قلب الجاحد ، والقلب المريض قلب الكافر ، والضعيف قلب المتردد . والقلب الأسود الذي يختزن الضغينة والإساءة .
خفقان القلب :
والخفقان هو الشعور بضربات القلب ، أو الإحساس بوجود ضربات سريعة وقوية في القلب .
ويحدث الخفقان عادة إثر القيام بجهد عنيف ، أو عند الانفعال الشديد ، أو لدى التعرض لخوف مفاجئ .
وقد ينجم الخفقان عن اضطراب بالتسرع فجأة ، ويخفق بضربات سريعة وكأنه يركض . ويشعر المريض عادة بهذا التسرع إذا ما ازدادت ضربات قلبه عن 100 ضربة في الدقيقة .
وأكثر أسباب الخفقان شيوعا القلق والخوف ، وأمراض أخرى غير أمراض القلب ، كالحمى أو فرط نشاط الغدة الدرقية وغيرها . ولكن ينبغي التأكد من عدم وجود حالة فرضية في القلب .
وقد تصل سرعة ضربات القلب إلى 200 ضربة في الدقيقة ويسمى " التسرع ما فوق البطيني " .
وهذا عمران بن حطان يعير الحجاج بن يوسف الثقفي لأنه نكص عن ملاقاة " غزالة " فقال :
أسد علي وفي الحروب نعاقة فتخاء تنفر صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى بل كان قلبك في جناحي طائر
صدعت غزالة قلبه بفوارس تركت مدابره كأمس الدابر
وكثيرا ما عبر الشعراء عن إحساسهم بالخفقان لدى رؤية المحبوب أو البعد عنه . فهذا الشريف الرضي فارق محبوبه فصار قلبه يعدو كالحسان السريع حتى كاد يطير .
أشكو إلى الله قلبا لا قرار له قامت قيامته والناس أحياء
إن نال منكم وصالا زاده سقما كأن كل دواء عندكم داء
كأن قلبي يوم البين طار به من الرقاع نجيب الساق عداء
وقال ابن المعتز يصف ما أحدث الفراق في قلبه وجسمه :
ومتيم جرح الفراق فؤاده فالدفع من أجفانه يتدفق
بهرته ساعة فرقة فكأنما في كل عضو منه قلب يخفق
أما ابن زيد فيدعو على قلبه أن لا يسكن ولا يهدأ من الخفقان فيقول :
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا والأفق طلق ومرأى الأرض قد راقا
لا سكن الله قلبا عن ذكركم فلم يطر بجناح الشوق خفاقا
ويصف علي بن الحسين الخفقان السريع الذي ينتابه ، وكأنه الطائر الذي تخفق أجنحته في صدره وهو يبحث عن طريق للفرار ، والجواغ الذي تطبق عليه من كل جانب . وكثيرا ما يشعر المريض أثناء الخفقان بضيق في صدره ، وانقباض في جوانحه :
كأن فؤادي طائر بين أضلعي يريد فرارا والجوانح تطبق
كأن عدا أبي حوله شرك له تنسب فيه فهو للخوف يخفق
وهذا عروة بن حزام يصف ما انتابه من خفقان من حب عفراء :
على كبدي من حب عفراء قرحة وعينان من وجدي بها تكفان
كأن قطاة علقت بجناحها على كبدي من شدة الخفقان
أجارنا الله وإياكم من الخفقان وسلم القلوب من كل داء !
* * *(/2)
القلب
القلب هو محل نظر الرب تبارك وتعالى، ولهذا جاء في الحديث: " إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
جعل الله مدار السعادة أو الشقاوة على القلب، فإذا ملئ القلب إيماناً وتصديقاً وفقهاً وإدراكاً لمراد الله ومراد رسوله كان ذلك دليل الصحة والسلامة، وصاحبه ناج في الدنيا من الفتن والشبهات والشهوات، وسالم ناج يوم القيامة ? يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ?[ الشعراء:88ـ89].
وهذا القلب إذا لم يتعهده صاحبه بذكر الله تعالى ومراقبته، ودوام الخشية منه، فإن الشهوات سرعان ما تتسرب إليه، وتبدأ بوادر المرض تغزوه بواسطة المعاصي والذنوب والمخالفات فيمرض القلب وقد يموت والعياذ بالله، فإذا لم يتدارك العبد هذا المرض، واستمر على العصيان، فإن القلب يصاب بعدد من العقوبات حيث يقسو ويشتد ويغلف ويطمس ويقفل ويطبع عليه ويزيغ عن الحق وعندها تكون حالة موت القلب التي هي أسوأ الحالات لأنها تنقل صاحبها من الإيمان إلى الكفر وتجعله في مرتبة هي أحطَّ من البهائم كما قال تعالى عن هؤلاء ?وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ?[ الأعراف:179].
ومما يصاب به القلب من العقوبات العمى الذي يصاب به فلا يكاد صاحبه يرى شيئاً من الحق ولهذا وصف الله قلوب الكفار بالعمى فقال: ? فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ?[ الحج: من الآية46], فالعمى الحقيقي ليس عمى البصر وإنما هو عمى القلب والبصيرة، لأن أعمى البصر يستطيع السير في الطريق بالاستعانة بعصا أو دليل، أما أعمى القلب فلا دليل يرشده فهو يتخبط في كل اتجاه ويقع في كل هاوية ويصطدم بكل شيء فهو في زيغ دائم، وقلبه مقفل مختوم.
أيها المؤمنون:
إن مرض القلوب أكثر بكثير من مرض الأبدان ولكن الناس لا يحسون بأمراضهم ولا يشعرون، فمريض القلب بالشهوة أو الشبهة لا يدري أنه مريض، ثم إن عاقبة مرض القلوب غير مشاهدة لكثير من الناس والإحساس بالألم هذا المرض قليل بخلاف مرض البدن وأيضاً عدم وجود أو ندرة أطباء القلوب وأطباء القلوب هم العلماء الربانيون العاملون بعلمهم وراثوا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فما أقل هؤلاء وما أندرهم.
ولخطورة مرض القلب نجد الآيات القرآنية تحذر منه غاية التحذير وتنذر مرضى القلوب بالعذاب الشديد، ويبين الرسول الكريم صلوات وسلامه عليه بدايات المرض وحذر من مغبته في أحاديث كثيرة منها ما رواه الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن العبد إذا اخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، فإن عاد زيد فيها، حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله في كتابه: ? كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ?[ المطففين:14].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن الرجل ليذنب الذنب فينكت في قلبه نكتة سوداء ثم يذنب الذنب فينكت فيه نكتة أخرى، حتى يصير لون قلبه لون الشاة الربداء يعني السوداء.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: القلب بمنزلة الكف، فإذا أذنب تقبض.. حتى يجتمع، فإذا اجتمع طبع عليه، فإذا سمع خيراً دخل في أذنيه حتى يأتي القلب فلا يجد منه مدخلاً فيخرج فذلك قوله عز وجل? كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ?[المطففين:14].
فهذه الأحاديث تبين بأن كثرة المعاصي وعدم المبالاة بها تجعل القلب يصد أو يسود ويعلوه الران حتى يكون عليه حجاب كثيف يحجب عنه أنوار الهداية والإيمان شيئاً فشيئاً حتى يتبلد ويموت.
والقلوب لا يدعها الله تعالى حتى يبتليها ويفتنها بالفتن الكثيرة حتى تظهر حقيقتها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصف وصفاً دقيقاً الفتن التي تتوارد على القلب وبين التأثير البالغ الذي تحدثه فتن الأهواء والشهوات كما جاء في صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه، قال : سمعت رسول الله عليه وآله وسلم يقول: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه"، فالقلب المفتون هو المجخي المائل المنكوس الذي خرج منه كل خير وإيمان، كالكأس إذا انتكس وسكب ما بداخله صار فارغاً إلا من الهواء. وصاحب هذا القلب هو شر الناس وأخبثهم فإنه يعتقد الباطل حقاً والحق باطلاً، لا يوجد بقلبه سوى الهوى والضلال.(/1)
ويشرح حذيفة رضي الله عنه أحوال القلوب بحسب صحتها ومرضها وحياتها وموتها فقال: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط عليه غلافه، وقلب منكوس وقلب مصفح. فأما القلب الأغلف فقلب الكافر .
وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر.
وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، مثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم، فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه.
فالقلب السليم هو قلب المؤمن المستضيء بنور إيمانه المتجرد في إخلاصه لربه، وأما الفاسق فقد اختلط في قلبه الماء مع القيح المؤذي، فأي المادتين غلبت أحالت القلب إليها، والظاهر أنه يقصد بالقلب المصفح الذي فيه إيمان ونفاق أنه الرياء ونحو ذلك من نفاق الأعمال وليس النفاق الاعتقادي الذي يكون أصحابه في الدرك الأسفل من النار.
فالقلب إذاً يمرض كما يمرض البدن وشقاؤه في التوبة والحمية من الوقوع في المعاصي والآثام، والقلب يصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر.
والقلب يعرى كما يعرى الجسم وزينته ولباسه التقوى والقلب يجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وغذاؤه وشرابه هو في معرفة الله تعالى وحبه والتوكل عليه والإنابة له سبحانه ودوام طاعته وعبادته.
فعلى المؤمن أن يضرع إلى الله ويلجأ إليه ويلح في الدعاء بأن يثبت الله قلبه على الإيمان، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من الدعاء ويقول في دعائه "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" فقال أنس راوي الحديث: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: "نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء" .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى عليه وآله وسلم يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك". وإذا كان رسول الله صلى عليه وآله وسلم يدعو الله بهذا الدعاء فكيف بنا نحن، المقصرون في حق الله المسرفون على أنفسنا. إن علينا جميعاً أن نهتف ضارعين من سويداء قلوبنا سيما في الأسحار وفي السجود قائلين ? رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ?[ آل عمران:8].
من علامات صحة القلب وسلامته: نفرته من المعاصي وكرهه للذنوب صغيرها وكبيرها، ومن علامات المعصية: تهاونه واستخفافه بها واقتحام المحقرات من الذنوب كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: "إياك ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه".
ولقد كان أصحاب النبي رضوان الله عليهم يتخوفون من الذنوب، ويستعظمون الوقوع فيها حتى أن أنس بن مالك رضي الله عنه وهو من المعمَّرين من الصحابة كان يقول للتابعين: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد رسول الله من الموبقات.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: مثل المحقرات كمثل قوم على سَفَرٍ، نزلوا بأرض قفر، معهم طعام لا يصلحه إلا النار، فتفرقوا فجعل يجيء هذا بالروثة، ويجيء هذا بالعظم، ويجيء هذا بالعود حتى جمعوا من ذلك ما أصلحوا به طعامهم، قال: فكذلك صاحب المحقرات يكذب الكذبة، ويذنب الذنب ويجمع من ذلك ما يكبه الله على وجهه في نار جهنم.
وقال بعض السلف في التحذير من الوقوع في المحقرات لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظمة من عصيت وقال كفى به ذنباً أن الله يزهدنا في الدنيا، ونحن نرغب فيها.
أيها المؤمنون إن من أسباب غفلة القلب وانحرافه انصراف العبد عن مواطن العبادات وأماكن الطاعات التي أمر الله بعمارتها وجعل عمارها أهل الإيمان والتقوى وامتدحهم الله بقوله: ? إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ?[ التوبة:18] وقال: ? فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ?[ النور:36ـ37].(/2)
فالمحافظة على الصلوات جماعة في المساجد، والحرص على إقامة الجمع هو من الإيمان ودليل سلامة القلب وطهارته. والابتعاد عن المساجد وترك الصلوات بها وترك الجمع دليل الغفلة والشؤم والطبع على القلب كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من التخلف عن الجمعة والجماعات كما جاء في صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين.." .
وفي سنن الترمذي وأبي داؤود عن أبي الجعد الضمري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها طبع الله على قلبه" فاحذروا رحمكم الله من التهاون في فرائض الله، وابتعدوا عن محاربة الله فلا تقربوها، وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
راجعه:علي عمر بلعجم
عبد الحميد أحمد مرشد
ـ أخرجه مسلم في صحيحه 4/1986, برقم: 2564, وأحمد في المسند 2/284, برقم:7814, وابن حبان في صحيحه 2/119, برقم: 394.
ـ أخرجه الترمذي في سننه 5/434, برقم: 3334, وابن ماجة في سننه 2/1418, برقم: 4244, والحاكم في المستدرك 1/45, برقم:6, وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 3/122, برقم: 3141, وفي صحيح الترمذي 3/127, برقم: 2654.
ـ أخرجه مسلم في صحيحه 1/128, برقم: 144, وأحمد في المسند 5/386, برقم: 23328 .
ـ أخرجه الترمذي في سننه 4/448, برقم: 2140, وأحمد في المسند 3/257, برقم:13721, والحاكم في المستدرك 2/317, برقم: 3140, والبخاري في الأدب المفرد 1/237, برقم: 683, وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/894, برقم:8932, وفي صحيح الترمذي 3/171, برقم: 2792.
ـ أخرجه مسلم في صحيحه 4/2045, برقم: 2654, وأحمد في المسند 2/168, برقم: 6569, والنسائي في السنن الكبرى 4/414, برقم: 7739, وصححه الألباني في السلسة الصحيحة4/261, برقم: 1689.
ـ أخرجه أحمد في المسند 1/401, برقم: 3818,والطبراني في المعجم الكبير6/165, برقم: 5872, والبيهقي 5/456, برقم:7267,وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/446, برقم: 4451, وفي صحيح الترغيب والترهيب 2/324, برقم:2471,وفي السلسة الصحيحة 1/744, برقم: 389.
ـ أخرجه مسلم في صحيحه 2/591, برقم: 865, والنسائي في سننه 3/88, برقم: 1370, وأحمد في المسند 1/239, برقم:2132.
ـ أخرجه مالك في الموطأ 1/111, برقم: 246, والترمذي في السنن 2/373, برقم:500, وابن ماجة في السنن 1/357, برقم:1125, وأحمد في المسند 5/300, برقم:22611, وصححه الألباني في صحيح الترغيب 1/178, برقم: 728, وصحيح ابن ماجة1/185, برقم:923 .(/3)
القنوت دراسة موضوعية في ضوء الكتاب والسنة
أ.د. أحمد علي الإمام*
هذه رسالة فى القنوت تشرح معناه فى لغة القرآن الكريم، وتفسر الآيات التى جاء فيها ذكر القنوت، مع بيان مشروعية قنوت النوازل وضرورته فى عصرنا هذا، وتبين آداب القنوت وأحكامه ومذاهب الفقهاء فى وقته ومحله، وما يجزئ من القنوت، وألفاظه وشرح غريبه وسعة الهدى النبوى فى ذلك، وأهم شئ فى القنوت ان يتحقق من يدعو بالمعانى الجامعة لكلمة القنوت، من الاشتغال بذكر الله والخشوع فى الصلاة والقيام، وان يدعوه سبحانه وتعالى مقرين له بالعبودية، مخلصين له الدين (وما أمروا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)
وحقاً (إنما يتقبل الله من المتقين) ثم أنه (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) والمؤمنون يعتمدون في أعمالهم كلها على عناية الله ويتوكلون عليه وحده ( قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا )
ونحن مندوبون إلى سؤال الله تعالى ودعائه، مفتقرين إليه منكسرين له حتى نكون اقرب للإجابة ونيل المطلوب، كما وجهنا نبينا صلى الله عليه وسلم) إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم)
والله تعالى نسأله أن يجعلنا من عباده القانتين .
دواعى الكتابة عن القنوت وهي كثيرة علمية وعملية على نحو ما يلى:
اولاً : الدواعي العلمية:
لبسط العلم ونشر سننه وآدابه وذلك لما يلي :
أـ خفاء فقه القنوت .
ب ـ تعدد الآراء .
ج ـ التنازع حول مسألة القنوت .
د ـ غفلة الأمة عن القنوت .
ثانياً :
الدواعي العملية : نواجهها في حياتنا المعاصرة مع واقع المسلمين اليوم ومن ذلك :
أ ـ الهجمة الشرسة من الكفار على المسلمين بمختلف الاشكال والأنواع والصور
ب ـ ظلم كثير من حكام المسلمين، للانفصام الحادث في مواقفهم وأحكامهم بين السلطان والقرآن، وبين السيف والقلم مع التبعية المخزية للكفار وموالاة غير المؤمنين
ج ـ غفلة عامة المسلمين عن هذا الواقع المرير، وإنه لمن النوازل حقاً عدم اعتبار المسلمين لذلك، وعدم انتباههم إلى أن ما حل بالمسلمين في مشارق الارض ومغاربها يستدعى قراءة قنوت النوازل .
د ـ حالة الضيق والتمزق الذي قد يصيب بعض من نذر نفسه أن يكون مصلحاً فيواجه مكر الليل والنهار وليس له إلا أن يخلص في دعائه والتجائه إلى ربه .
هـ ـ دعوة المسلمين كافة للإكثار من القنوت والتوسع فيه وعدم التعرض لمن يقنت لأن الأمر في فقه الدين واسع .
وـ أهمية القنوت في تزكية النفوس وإعلاء القيم الروحية وتوثيق صلة العباد بربهم ، والاهتمام بأمر المسلمين، وتنمية العلاقات الاخوية والاجتماعية .
وأخيراً كانت هذه الرسالة لأجل هذه الدواعي مجتمعة ولنتقرب بذلك كله إلى ربنا جل جلاله وهو قريب ممن دعاه ( واذا سألك عبادي عني فأني قريب اجيب دعوة الداعي اذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون )
ونشرع في بيان المقصود والله المستعان
اولاً : معاني القنوت في اللغة
يرد القنوت في لسان العرب على المعاني التالية :
1ـ الإمساك عن الكلام والسكوت .
2ـ الدعاء والتسبيح .
3ـ الصلاة .
4ـ الدعاء في الصلاة .
5ـ الخشوع والإقرار بالعبودية .
6ـ القيام .
7ـ إطالة القيام .
8ـ القيام بالطاعة التي ليس معها معصية .
فيصرف في كل واحد من هذه المعاني إلى ما يحتمله اللفظ في سياقه من آية او حديث او عبارة .
أ / قال ابن سيده : فيما نقله عنه ابن منظور في كتابه " لسان العرب " القنوت الطاعة، هذا هو الأصل ، ومنه قوله تعالى ( والقانتين والقانتات ) ثم سمي القيام في الصلا ة قنوتاً ، ومنه قنوت الوتر .. والقانت : المطيع القانت : الذاكر لله تعالى ، كما قال عز وجل : ( أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً ) .
وقيل : القانت : العابد .
والقانت في قوله عز وجل : (وكانت من القانتين ) أي من العابدين .
والمشهور في اللغة أن القنوت الدعاء . وحقيقة القانت أنه القائم بأمر الله ، فالداعي إذا كان قائماً خص بأن يقال له قانت ، لأنه ذاكر لله تعالى ، وهو قائم على رجليه ، فحقيقة القنوت العبادة والدعاء لله عز وجل ، في حال القيام ، ويجوز أن يقع في سائر الطاعة ، لأنه إن لم يكن قيام بالرجلين ، فهو قيام بالشيء بالنية .
قال ابن سيده : والقانت القائم بجميع أمر الله تعالى
(ب) وجاء في مفردات الراغب الأصفهاني في تفسير معنى القنوت أنه :
لزوم الطاعة مع الخضوع وفسر بكل واحد منهما في قوله :
1ـ ( وقوموا لله قانتين ) وقوله تعالى : ( كل له قانتون ) قيل خاضعون وقيل طائعون .(/1)
2ـ وقيل ساكتون ولم يعن به كل السكوت وإنما عني به ما قال عليه الصلاة والسلام ( إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الآدميين وانما هي قرآن وتسبيح ) وعلى هذا قيل : أي الصلاة افضل ؟ فقال : طول القنوت ، أي الاشتغال بالعبادة ورفض كل ما سواه وقال تعالى : ( إن ابراهيم كان أمة قانتاً ) ( وكانت من القانتين ) ( أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً ) ( اقنتي لربك ) ( ومن يقنت منكن لله ورسوله )
( والقانتين والقانتات ) ( فالصالحات قانتات ) .
(ج) وفي وزاد المعاد أن القنوت يطلق على القيام والسكوت ودوام العبادة والدعاء والتسبيح والخشوع كما قال تعالى ( وله من في السموات والارض كل له قانتون) الروم وقال تعالى : ( أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه )
وقال تعالى : ( وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) التحريم وقال صلى الله عليه وسلم ( افضل الصلاة طول القنوت ) وقال زيد بن ارقم لما نزل قوله تعالى ( وقوموا لله قانتين ) أمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وقد نظم الشيخ الحافظ زين الدين العراقي معاني القنوت على نحو ما يلي .
ولفظ القنوت اعدد معانيه تجد مزيداً على عشر معاني مرضية
دعاء خشوع والعبادة طاعة اقامتها اقراره بالعبودية
سكوت صلاة والقيام وطوله كذاك دوام الطاعة الرابح القنية .
ثانياً : معاني القنوت في القرآن الكريم :
لقد جاء ذكر القنوت في القرآن الكريم في ثمان سور ، في اثنى عشر موضعاً ، ثلاثة مواضع منهن مكية في النحل ، والروم والزمر، وبقيتهن مدنيات في سور البقرة وآل عمران ، والنساء والتحريم والأحزاب .
تدور معاني القنوت في هذه المواضع على الطاعة والاستجابة والاستكانه والخضوع والخشوع والإقرار بالعبودية ثم تأتي بمعنى الطاعة عامة ، والطاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، والطاعة في سكون ، والطاعة في خشوع ، والخشوع في الصلاة ، وطول الركوع في الصلاة .
وعليه فالقانت هو الخاشع المطيع لله ورسوله ، العابد الراكع ، المستكين له الخاضع لأمره الخاشع في صلاته ، الذي يطيل في صلاته وركوعه .
والقنوت مرتبة عالية لأنه يذكر بعد الإسلام والإيمان، ولهذا فالإسلام بعده مرتبة يرتقي اليها وهو الإيمان ثم القنوت ناشيء عنهما .
وهذا بيان تفصيلي للمواضع التي جاء فيها لفظ القنوت مع تفسير موجز لمعنى القنوت في كل موضع مع تصنيف الآيات موضوعياً .
الكون كله قانت لله :
( وقالوا اتخذ الله ولداً بل له من في السموات والارض كل له قانتون ) ( وله من في السموات والارض كل له قانتون )
ومعنى { قانتون في الموضعين : أي مقرّون بالعبودية مطيعون خاشعون لله خاضعون
القنوت صفة الأنبياء :
كما جاء ذلك في وصف إبراهيم عليه الصلاة والسلام (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله) وقانتاً هنا تعني الخاشع المطيع .
فضل القانتين واهل القيام والتهجد :
( أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الاخرة ويرجو رحمة ربه ) وكلمة قانت هنا تعني الخشوع في الصلاة والتهجد ( حافظوا على الصلوات والصلوة الوسطى وقوموا لله قانتين ) .
الأمر بالقنوت خطاباً لمريم عليها السلام :
( يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ) والقنوت هنا بمعنى طول الركوع في الصلاةو امتثالاً لامر الله تعالى .
وفي خطاب القرآن لامهات المؤمنين رضوان الله عليهن :
( ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها اجرها مرتين واعتدنا لها رزقاً كريماً ) . أي تطع الله ورسوله وتستجب .
ثم جاء ذكر القنوت على أنه صفة ملازمة للمؤمنين والمؤمنات :
( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات ) . المطيعين والمطيعات في سكون .
( الصابرين والصادقين والقانتين ) . الطائعين الخاضعين .
( فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ) . مطيعات لأزواجهن .
( مسلمات مؤمنات قانتات ) مطيعات
(وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين) من المطيعات .
ثالثاً : المعنى الاصطلاحي للقنوت :
وقد ذهب ابن حجر العسقلاني إلى أن القنوت يطلق على معان ، والمراد به هنا الدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام ومع أن المراد بالقنوت هنا هو الدعاء في الصلاة فإن هذا المعنى يجمع المعاني الأخرى المرادة من القنوت لأنه دعاء في قيام في صلاة لا كلام فيها إلا ذكر الله في طاعة لله وعبادة خالصة خاشعة وإقرار بالعبودية .
رابعاً : مشروعية القنوت وخاصة قنوت النوازل وضرورته في عصرنا هذا :
والقنوت سنة نبوية، وخاصة عند النوازل الكثيرة التي تحل بالامة المسلمة وهي تواجه الحرب والحصار والمقاطعة والكيد واستبداد قوى الطغيان والاستكبار من اعداء الله الظاهرين والمستترين . ولا بد من بيان المقصود من النوازل التي يشرع عندها القنوت .
النوازل في حياة المسلمين :(/2)
ومن يتأمل اليوم في حال المسلمين ويهتم لأمرهم ويتابع أخبارهم ويسعى مع العاملين لإقامة الدين يجد من النوازل ما يدعو المسلمين لدعاء القنوت وهذا بيان ذلك :
أ ـ حال المسلمين :
1ـ أغلبية مغلوبة وأكثريات مقهورة .. وأقليات مهضومة .
2ـ والعرب والمسلمون مختلفون فيما بينهم ، بعضهم تبع للأجنبي تماماً كما كان الغساسنة والمناذرة ... أو كما كان في اليرموك يقاتل الروم المسلمين بعدد مساولهم من العرب تبعاً ..
3ـ وبيت المقدس في أيدي اليهود ، وأهل فلسطين مشردون حرموا الأمن حتى أنهم ليقتلون في مساجدهم .
4ـ والمسلمون مستضعفون حيثما كانوا .. وقد اجتمعت كلمة الكفر على حربهم واستلاب خيراتهم، وتداعت عليهم كما تتداعى الأكلة على قصعتها ، مخافة أن تعود دولة الإسلام وتنتشر دعوته في العالمين وتسود حضارته ، وتزدهر على ضفاف النيل والرافدين والبحر الأحمر والبحر الأبيض والبحر الأسود ، والقرن الإفريقي وقلب إفريقيا فضلاً عهن أوربا وأمريكا . والمسلمون في البوسنة والهرسك استبيحت نساؤهم وشرد أطفالهم وقتلوا تقتيلاً على مرأى ومسمع من دول العالم .
بل تآمرت دول الغرب المدعين المسيحية حتى تتم تصفيتهم جسدياً وعرقياً واستولى اعداء الله من الصرب والكروات على معظم أراضيهم ، ومنعهم مجلس الأمن الدولي بقرار ظالم من التسلح ثم منع المسلمون من مساعدتهم وأتيحت الفرصة لأعدائهم الصرب والكروات للقضاء عليهم نهائياً حتى لا تقوم للإسلم قائمة في قلب أوربا ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ) . ثم كانت كارثة الشيشان التي مكر فيها أعداء الله الروس بالمسلمين الشيشان ، وسكت الغرب ، وتآمرت جمعياته المنسوبة للعفو وحقوق الانسان وتواطئوا جميعا ومكروا مكراً كباراً في محاولة منهم لتدمير تلك القوة الإسلامية فأخلوا الطريق للروس ليقوموا بتنفيذ خططهم في تدمير المباني والمعاني ، وليس بالمسلمين اليوم حيلة لنصرة إخوانهم بل قد حيل بينهم وبين إخوانهم بشتى العوائق ، ومكر الليل والنهار . وما للمسلمين والحالة هذه إلا أن يضرعوا إلى الله قانتين في صلواتهم ومناجاتهم لربهم أسوة بنبينا صلى الله عليه وسلم .
والقنوت سبيلنا لنصرة إخواننا المستضعفين ، نصرهم الله وأعلى لواءهم وقهر أعداءهم .
5ـ المسلمون ممنوعون عن اقامة دينهم ، والقيام بمقتضيات توحيد الله والاتساق مع أنفسهم في إقامة شعائر الله وشرائعه :
أ ـ في النظم التربوية والتعليمية والثقافية والإعلامية تبعاً وتقليداً للغرب وتراثه الوثني والمادي .
ب ـ وشرع الله معطل في المعاملات المالية ، فالربا المحرم تقوم عليه مؤسسات ، والغش والغرر والبيوع الفاسدة تسود المعاملات المعاصرة .
ج ـ والقوانين الجنائية مستمدة من القوانين الوضعية ، ذوات الاصول المادية والمجوسية والوثنية .
د ـ وحدود الله معطلة ، ورغم مطالب المسلمين فإن مؤسساتهم التشريعية مقهورة بالعلمانية والتدخلات الخارجية حتى لا يتميز المسلمون في قوانينهم . وليشوهوا صورة النظام الإسلامي ، ويشوشوا عليه ويفترون على الله الكذب ويقولون على الله ما لا يعلمون ويصفون الشريعة العادلة بما هي منه براء .
ب ـ أهل الكفر مع المسلمين :
1ـ الكفار في تطاول واستكبار واستبداد على خلق الله واستضعاف واستصغار واستذلال للمسلمين ..
2ـ جيوش الكفار تعيث في الارض الفساد ..
3ـ صنائعهم وجيوبهم مؤتمرة تحارب بالسلاح جنود الرحمن ..
4ـ من خلع ربقة الكفر عن عنقه ، وطرح قوانينه ونظمه وعاد إلى الله متوكلاً عليه دارت عليه دوائر البغي ومكروا عليه كباراً ، وزوروا عليه ، وافتروا الكذب مستخدمين سيطرتهم على المؤسسات الدولية والسياسية ، والأمنية ، والمالية ومتخذين ستائر الرحمة ، والإغاثة ، والعدل وحقوق الإنسان لفرض الحصار الظالم والمقاطعة الجائرة والظلم ظلمات يوم القيامة وعلى المفترين الظلمة خزي وندامة ، ودعوة المظلوم ليس لبينها وبين الله الحجاب ، وعلى دعاة الحق أن يوجهوا عداءهم وبغضهم إلى هؤلاء الأعداء ثم إن على الدعاة الى الله أن يكونوا مخلصين لله في القنوت والدعاء أن يتولاهم بالتأييد والتمكين لدينه وينصرهم على عدوهم .
خامساً : أحكام القنوت :
1ـ مشروعية القنوت :
القنوت سنة مشروعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب مالك الى أن القنوت في صلاة الصبح مستحب، بينما ذهب الشافعي الى انه سنة وقد أثبت الإمام البخاري سنية القنوت ومشروعيته في الصلاة حين بوب له في كتاب الوتر من صحيحه قال (باب القنوت قبل الركوع وبعده) وقد علق ذلك صاحب " فتح الباري في شرح صحيح الإمام البخاري" فقال: "اثبت بهذه الترجمه – أي عنوان الباب- مشروعيه القنوات إشاره إلى الرد علي من روي عنه أنه بدعه كابن عمر وفي الموطأ عنه أنه كان لايقنت في شئ من الصلوات ووجه الرد عليه ثبوته من فعل النبي صلي الله عليه وسلم فهو مرتفع عن درجه المباح .
2- وقت القنوت:(/3)
أ - صلاة الصبح ، وهو مذهب مالك والشافعي للحديث الصحيح فيه عن أنس رضي الله عنه( أن النبي صلي الله عليه وسلم قنت شهرا يدعو عليهم ثم ترك فأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا)حديث صحيح رواه جماعه من الحفاظ وصححوه .
وقد احتج الشافعي علي أن الصلاة الوسطي الصبح من حيث قرانها بالقنوت في قوله تعالي(حافظوا علي الصلوات والصلاه الوسطي وقوموا لله قانتين)
ب- وذهب أبو حنيفه واحمد إلى أن وقت القنوت هو الوتر في جميع السنه وقد نسب ابن قدامه هذا القول لابن مسعود وإبراهيم واسحق واصحاب الرأي وانه روايه عن الحسن .
وفي رواية عن أحمد أن وقتة الوتر في النصف الأخير من رمضان , قاله ابن قدامه . وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان , وروى ذلك عن علي وأبى قال ابن سيرين وسعيد بن أبي الحسن الزهري ويحى بن ثابت ومالك الشافعي واختاره أبوبكر الأثرم لما روى عن الحسن ( عمر جمع الناس على أبى ابن كعب , فكان يصلي بهم عشرين ركعة ولا يقنت إلا في النصف الثاني )
وعن ابن عمر ( أنه لايقنت إلا في النصف الأخير من رمضان ) . وعنه لا يقنت في صلاة بحال
3- مذاهب العلماء في القنوت في الصلوات الخمس :
أ- في الصلوات الخمس إن نزل المسلمين نازلة ( وهو قول الشافعي )
ب- في الصلوات الخمس مطلقا كما قال قوم .
ج- عدم القنوت مطلقا في غير صلاة الصبح والصحيح الذي قام علية الدليل من هدي النبوة مشروعية قنوت النوازل في الصلوات الخمس ويكون الدعاء فيها جهرا بعد الرفع من الركوع ويدل على القنوت عند النوازل في الصلو ات الفرائض كلها حديث ابن عباس قال : ( قنت الرسول صلى الله علية وسلم شهرا متتابعا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كل صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الاخيرة : يدعوا عليهم على حي من بني سليم وعلى رعل وذكوان وعصية , يؤمن من خلفه } .
4- القنوت في شهر رمضان :
أ - يستحب القنوت في النصف الاخير من شهر رمضان،وقيل في النصف الأول منة , في الركعة الأخيرة من الوتر وهو مذهب الشافعية .
ب - وفي جميع رمضان على قول للشافعية ، ونسبه الامام النووي إلى الإمام مالك .
5- محل القنوت في صلاة الصبح :
1- قبل الركوع في الركعة الأخيرة , وهذا مذهب مالك وقد ذكر الشيخ أبو الحسن صاحب كفاية الطالب الرباني شرح رسالة ابن أبى يزيد القيرواني أن ظاهر كلا م ابن أبي يزيد القيرواني – أن القنوت – بعد الركوع افضل , ونسب هذا القول إلي حبيب وأن لمشهور أن القنوت قبل الركوع أفضل لكونة أصح وأضاف الشيخ علي الصعيدي صاحب حاشية العدوى أنه مع كونه أصح قبل الركوع فلما فيه من الرفق بالمسبوق ولأنه الذي استقر علية عمر رضي الله عنه بحضور الصحابة .
وروى محمد بن نصر من طريق اخرى عن حميد عن أنس ( أول من فعل القنوت قبل الركوع أي دائما عثمان , لكي يدرك الناس الركعة ) وفي صحيح البخاري بلفظ ( سأل رجل أنسا عن القنوت بعد الركوع أو عند الفراغ من القراءة ؟ قال لابل عند الفراغ من القراءة )
2- بعد الرفع من الركوع , هو مذهب الشافعي وتحقيق المقال في هذا الموضوع أن الامر واسع في كل القنوت قبل الركوع ام بعده , ويدل ذلك على حديث ابن ماجة عن أنس سئل عن القنوت فقال ( قبل الركوع وبعده ) قال ابن حجر العسقلاني : "اسنادة قوي" – ومجموع ماجاء عن انس بن مالك في ذلك يدل على ان القنوت للحاجة بعد الركوع لا خلاف فية عنة في ذلك اما لغير الحاجة فالصحيح انه قبل الركوع . وقد اختلف عمل الصحابة في ذلك والظاهر انه من الاختلاف المباح .
6- محل القنوت في الوتر :
في موضع القنوت في الوتر اوجه :
1- أنه قبل الركوع – أي بعد القراءة وبعد التكبير
2- الصحيح المشهور أنه بعد الركوع ونص علية الامام الشافعي
3- يتخير بينهما
وذهب بعض الفقهاء الي أنه لم يحفظ عنه صلى الله علية وسلم أنه قنت في الوتر إلا في حديث ابن ماجة عن أبي بن كعب أن الرسول صلى الله علية وسلم كان يور ويقنت قبل الركوع .
7- محل القنوت في النوازل :
بعد الرفع من الركوع جهرا
وفي بيان الحكمة من جعل القنوت في النوازل بعد الرفع من الركوع جهرا يقول بن حجر العسقلاني:
وظهر لي أن الحكمة في جعل قنوت النازلة في الاعتدال دون السجود مع أن السجود مظنة الإجابة كما ثبت ( أقرب ما يكون العبد من ربة وهو ساجد ) وثبوت الامر بالدعاء فيه : إن المطلوب من قنوت النازلة أن يشارك المأموم الإمام في الدعاء ولو بالتأمين من ثم اتفقوا على أنه يجهر به بخلاف القنوت في الصبح فاختلف في محله وفي الجهر به .
.سادسا ألفاظ القنوت:
*واختلف الائمة فيما يقنت به
أ - فاستحب مالك القنوت بـ(اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونستهديك ونتوب اليك نخلع لك ونترك من يكفرك . اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد , نرجو رحمتك ونخاف عذابك ان عذابك الجد بالكافرين ملحق )(/4)
ب - وقال الشافعي واسحق بل يقنت بـ ( اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وقنا شر ما قضيت انك تقضي ولا يقضى عليك تباركت ربنا وتعاليت ) وهذا يرويه الحسن بن علي من طرق ثابتة أن النبي علية الصلاة والسلام علمة هذا الدعاء يقنت به في الصلاة
ج- قال النووي : فالاختيار أن يقول فيه ما رويناه في الحديث الصحيح ( اللهم اهدنا في من هديت ....) قال أصحابنا : وإن قنت بما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنة كان حسنا وأنه قنت قبل الصبح بعد الركوع فقال ( اللهم انا نستعينك ونستغفرك ..)
د- وقال قوم : ليس في القنوت شئ موقوت لأنه دعاء وأهم ما يراعي فيه الإخلاص, في الدعاء
حكم الجمع بين ادعية القنوت :
ويجوز الجمع بين هذه الأدعية الواردة في القنوت وغيرها مع اختيار جوامع الدعاء والإخلاص في الدعاء ومناسبته للمقام وحال المصلين . قال النووي ويجوز بل يستحب مع النشاط الجمع بين أدعية القنوت .
مايجزي من القنوت :
والدعاءفي القنوت واسع غير مقيد بنص معين من أدعية القنوت الواردة بل كل دعاء من أدعية القرآن والسنة أو مطلق الدعاء وافٍ بالمطلوب .
من أدعية القنوت :
وقد تعددت صيغ القنوت في السنة النبوية ومن ذلك :
1- الدعاء الأول :
( اللهم اهدني فيمن هديت , وعافني فيمن عافيت , وتولني فيمن توليت , وبارك لي فيما اعطيت , وقني شر ما قضيت , فإنك تقضى ولا يقضى عليك , وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت ) رواه الترمذي وقال : حديث حسن ... ولا نعرف عن النبي صلى الله علية وسلم في القنوت شئا أحسن من هذا وفي رواية ذكرها البيهقي أن محمد بن الحنفية – وهو ابن علي بن ابي طالب رضي الله عنه – قال إن هذا الدعاء هو الدعاء الذي كان أبي يدعوا به في صلاة الفجر في قنوته
قال النووي : ويتسحب ان يقول عقب هذا الدعاء : ( اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم ) ..فقد جاءت رواية النسائي في هذا الحديث باسناد حسن : ( وصلي الله على النبي )
2 -الدعاء الثاني :-
( اللهم إنا نستعينك , ونستغفرك ولا نكفرك , ونؤمن بك و نخلع ونترك من يفجرك , اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد , وإليك نسعى , ونحفد , ونرجو رحمتك , ونخشى عذابك , إن عذابك الجد بالكفار ملحق , اللهم عذب الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك , ويقاتلون أولياءك , اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات , والمسلمين والمسلمات , واصلح ذات بينهم , وألف بين قلوبهم , واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة , وثبتهم على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم , واوزعهم ان يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم علية , وانصرهم على عدوك و عدوهم , اله الحق اجعلنا منهم .)
3- الدعاء الثالث : دعاء قنوت النوازل :
وهذا أنموذج لما كان يدعوا به النبي علية الصلاة والسلام في قنوت النوازل يدعو فيه على أعدائه الذين يصدون عن سبيل الله ويقاتلون اولياءه , أو يدعو للمستضعفين من المؤمنين مع الدعاء على الكفار .
1- عن ابن عمر انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع راسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول : اللهم العن فلانا , وبعد ما يقول سمع لمن حمدة ربنا ولك الحمد ) فأنزل الله تعالى : ( ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم او يعذبهم ) الي قوله ( فانهم ظالمون)
وفي الحديث دليل مشروعية الجهر بالقنوت
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعوعلى أحد أو ان يدعو لأحد قنت بعد الركوع , فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ( اللهم انج الوليد بن الوليد , وسلمة بن هشام , وعياش بن ابي ربيعة , والمستضعفين من المؤمنين , اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف )
قال يجهر بذلك ويقول صلاة الفجر : ( اللهم العن فلانا وفلانا ) حيين من أحياء العرب حتى أنزل الله تعالى ( ليس لك من الامر شئ )
* وفية نص الراوي على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جهر .ودلالة ذلك واضحة في أنه لايجوز أن يكون القنوت سبابا او لعنا وخاصة إذا كان مع المخالفين في الرأي من أهل القبلة ولا شك أن ذلك خلاف هدي كتاب ربنا تعالى وسنة نبينا صلى الله علية وسلم .
4- الدعاء الرابع : نموذج من جوامع الدعاء في قنوت النوازل ليختار منها مايوفق الحال والنشاط
* اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك .
* اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفو عنا .
اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن ونعوذ بك من الجبن والبخل ونعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال .
* اللهم اجعل عملنا كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا .
* اللهم ارزقنا الإخلاص في العمل , والتوفبق لما ترضى والقبول عندك .
* اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا .
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات , وألّف بين قلوبهم واصلح ذات البين , وانصرهم على عدوك وعدوهم .(/5)
اللهم العن الكفرة الذين يكذبون رسلك , ويصدون عن سبيلك ويقاتلون اولياءك
* اللهم خالف بين كلمتهم وزلزل أقدامهم , وانزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين
* ونج اللهم المستضعفين من المسلمين , وانصر المجاهدين في مشارق الارض ومغاربها .
* اللهم احفظنا وانصرنا , ودعوتنا , وامتنا , ودولتنا , وقيادتنا ومكن دينك الذي ارتضيت . وأيد اللهم جنودنا وثبت أقدامهم , وسدد رميتهم , واشرح صدورهم ,واذهب غيظ قلوبهم وانصرهم نصرك المؤزر المبين على عدوك وعدوهم , واكفنا شر اعدائنا من الساعين بالفتنة , والباغين للبرآء العيب والمحادين الله ورسولة والمؤمنين .
* اللهم اكفنا شرهم بما شئت وكيفما شئت , إنك على ما تشاء قدير .
* اللهم منزل الكتاب و ومجري السحاب و وهازم الاحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم .
* اللهم اغننا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك , وارفع عنا الغلاء والربا وما لا يكشفه عنا غيرك .
* اللهم بارك لنا في زرعنا وضرعنا وأرضنا , واجعل سائر بلادنا سخاء رخاء وأمنا وسلاما , وارحم أمة محمد صلى الله عليه وسلم رحمة عامة , وارحم امتنا في السودان رحمة من لدنك خاصة , وقها شر الفتن ما ظهر منها وما بطن , واهد اللهم ولاة أمورنا إلي مافية خير العباد والبلاد , واهدهم إلي الحق وإلي طريق مستقيم , وأعنهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم , وقهم شر من حولهم وما حولهم , وارزقهم بطانة الخير التي تأمرهم بالمعروف وتحضهم علية , وجنبهم بطانة السوء , وانشر اللهم في بلادنا لواء االعدل والإحسان , وألف بين قلوب عبادك ياكريم .
سابعا : آداب وأحكام :
1- صيغة دعاء القنوت :
1- يستحب ان يدعو الإمام بصيغة الجماعة .
2- ويكرة ان يخص نفسة بالدعاء لما في سنن أبي داود والترمذي عن ثوبان رضي الله عنة قال : قال رسول اللهصلى الله علية وسلم :( لا يؤم عبد قوما فيخص نفسه بدعوة دونهم و فإن فعل فقد خانهم )
2-رفع اليدين في الدعاء القنوت :
يستحب رفع اليدين في القنوت لما صح عن أنس رضي الله عنه في قصة القراء الذين قتلوا رضي الله تعالى عنهم قال : ( لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما صلى الغداة يرفع يديه يدعو عليهم يعني على الذين قتلوهم ) قال البيهقي : ولأن عددا من الصحابة رضى الله تعالى عنهم رفعوا أيديهم في القنوت . ثم روى عن أبي نافع قال :( صليت خلف عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقنت بعد الركوع رفع يديه وجهر بالدعاء )
وفي مسح الوجه باليدين قولان , ونسب النووي إلي البيهقي أن الصحيح عدم المسح لأنه لم يحفظ فيه شئ عن أحد من السلف وإن كان يروي عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة فأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت فية خبر ولا أثر ولا اقتباس
تأمين المؤمنين :
ويستحب للمأموم ان يؤمن على الدعاء , لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( قنت رسول الله صلى علية وسلم , وكان يؤمن من خلفه ) ويستحب له أن يشاركة في الثناء لأنه لايصح التأمين على ذلك فكانت المشاركة أولى .
3- القنوت بين الإجهار والإسرار :
1- قال الشافعية : إن كان المصلي منفردا أسر به. و وهكذا إن كان مأموما ولم يجهر الإمام قنت الماموم سرا كسائر الدعوات فانة يوافق فيها الامام سرا
2- وإن كان إماما جهر على المذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه الأكثرون.
3- وقيل : يسر كسائر الدعوات في الصلاة .
4- إن جهر الامام بالقنوت . فإن كان المأموم يسمعه أمّن على دعائه وشاركه في الثناء في آخره , وان كان لا يسمعه قنت سرا .
5- في غير صلاة الصبح إذا قنت فالمغرب والعشاء كالصبح .
6-والجهر بالقنوت في جميع الصلوات مسنود بسنة صحيحة ففي صحيح البخاري في باب تفسير قول الله تعالى ( ليس لك من الأمر شئ ) عن أبي هريرة رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالقنوت في قنوت النازلة)
4- القنوت بين الترك والاستمرار :
ولا يعني ماورد من تركة صلى الله عليه وسلم للقنوت اكثر من ترك الدعاء واللعن على الكفار في قنوت النوازل بعد ما نزل قول الله تعالى ( ليس لك من الأمر شئ ) ويدل ذلك على ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم مما اخرجة الامام البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله علي وسلم قنت في صلاة العتمة شهرا يقول في قنوته :
( اللهم انج الوليد بن الوليد )
( اللهم انج سلمة بن هشام )
( اللهم انج عياش بن ابي ربيعة )
( اللهم انج المستضعفين من المؤمنين )
( اللهم اشدد وطأتك على مضر )
( اللهم اجعلها عليهم سنين كسنىّ يوسف )
قال أبو هريرة : وأصبح ذات يوم فلم يدع لهم فذكرت ذلك له قال أو ما تراهم قد قدموا .(/6)
قول الإمام النووي في تأييد هذا المذهب أما الجواب عن حديث أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما في قوله ثم تركه فالمراد ترك الدعاء على أولئك الكفار ولعنتهم فقط، لا ترك الجميع القنوت، اوترك القنوت في غير الصبح، وهذا التأويل متعين لأن حديث أنس في اوله ( ولم يزل يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا ) صحيح صريح يجب الجمع بينهما . هذا الذي ذكرناه متعين للجمع . وقد روى البيهقي بإسناده عن عبد الرحمن بن مهدي الإمام قال : إنما ترك اللعن . يوضح هذا التأويل رواية أبي هريرة السابقة وهي قوله ثم ترك الدعاء لهم)
الجواب عن حديث سعد بن ابي طارق ان رواية الذين اثبتوا القنوت عنهم زيادة علم وهم أكثر فوجب تقديمهم.
5- رأي المنكرين استمرار القنوت والتزامة في صلاة الصبح :
والمنكرون للقنوت في صلاة الصبح على سبيل الالتزام المستمر يذكرون أنه كان قنوت النوازل، أو يؤولونه بمعنى من معاني القنوت وهو هنا طول القيام بعد الركوع ولم يكن طول القيام بعد الركوع مجرد سكوت بل كان فية الدعاء والثناء . فالمراد بالدعاء هنا مطلق الدعاء لا دعاء القنوت المحفوظ . بل كان الثناء فيه على الله تعالى وتمجيدة والدعاء وقد انتصر لهذا الرأي ابن قيم الجوزية وتبعه الشوكاني فأيده في عدم الاستمرار في قنوت الصبح . وانة مختص بالنوازل في الصلوات كلها دون تخصيص
6- الانصاف والاعتدال في التزام القنوت في صلاة لصبح :
ومع ان ابن القيم قد وقف مع المنكرين استمرار القنوت والتزامة في صلاة الصبح ولكنة وقف موقف الاعتدال والانصاف من مخالفية في الرأي حين لخص الهدى النبوي في القنوت فقال :
والانصاف الذي يرتضية العالم المنصف انه صلى الله عليه وسلم جهر وأسر وقنت وترك . وكان إسراره أكثر من جهره وتركه القنوت اكثر من فعله فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم، والدعاء على اخرين ثم تركه ولما قدم من دعا لهم وخلصوا من الاسر وأسلم من دعا عليهم وجاءوا تائبين، فكان قنوته لعارض فلما زال ترك القنوت , ولم يختص بالفجر بل كان يقنت في صلاة الفجر والمغرب ذكره البخاري في صحيحه عن أنس ثم خلص في بيان الهدي النبوي في القنوت حيث قال : وكان هديه القنوت في النوازل خاصة، وتركه عند عدمها ولم يكن يخصه بالفجر بل كان أكثر قنوته فيها لاجل ماشرع فيها من التطويل ولاتصالها بصلاة الليل وقربها من السحر وساعة الإجابة وللتنزل الإلهي ولانها الصلاة المشهودة والتي يشهدها الله وملائكته او ملائكة الليل والنهار .
7- سعه الهدى النبوي في القنوت فعلا وتركا :
الأمر في القنوت واسع ايضا التزاما له في صلا ة الفجر او الوتر او عند النوازل كما سبق بيان ذلك في الأدلة مع عرضنا لأقوال الفقهاء والمجتهدين وقد أحسن صاحب ( زاد المعاد في هدى خير العباد ) حيث مدح الفقهاء من أهل الحديث بأنهم أسعد بالهدي النبوي من حيث أنهم يقنتون حين قنت رسول الله صلى الله عيله وسلم ويتركونه حيث تركه فيقتدون به في فعله وتركه .
ويقولون : فعله سنة وتركه سنة مع هذا لا ينكرون على من داوم عليه ولا يكرهون فعله ولا يرونه بدعة ولا فاعله مخالفا للسنة بل من قنت فقد احسن ومن تركه فقد احسن . ولعل هذا التسامح هو الاقرب لسنة من وصفه ربه بالرأفة والرحمة لقوله تعالى ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) من نجاه ربه من أن يكون فظا غليظا القلب حاشاه بل كان خلقة القرآن يعفو ويصفح ويستغفر لأمته ويشاورهم في الأمر فإذا عزم على إمضائه فإنه يتوكل على الله تعالى قال تعالى ( ولو كنت فظا غليظا لا نضفوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فاذا عزمت فتوكل على الله ان الله يحب المتوكلين )
الخلاصة
وهي ايجاز ما انتهى اليه هذا البحث في القنوت وأحكامه وآدابه وهو اختيارنا ولا بد من الرجوع لما فصلته الرسالة من أحكام قنوت النوازل وخاصة ذكر دواعيه في حياتنا المعاصرة اليوم في وجه التحديات القائمة والأخطار , وإنه لمن النوازل حقا عدم اعتبار المسلمين لذلك , وعدم انتباههم ومعرفتهم الي أن ما حل بالمسلمين في مشارق الارض ومغاربها يستدعي قراءة قنوت النوازل كما فصلت هذه الرسالة .
تدور معاني القنوت على الطاعة والاستجابة والاستكانة والخضوع والخشوع والإقرار بالعبودية ثم تأتي بمعنى الطاعة عامة والطاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله علية وسلم , والطاعة في سكون , والطاعة في خشوع , والخشوع في الصلاة وطول الركوع في الصلاة وعلية فالقانت هو الخاشع في صلاتة الذي يطيل في صلاته وركوعه .(/7)
القنوت سنة مشروعة عن رسول الله صلى الله علية وسلم وقد ذهب مالك الي أن القنوت في صلا ة الصبح مستحب , فيما ذهب الشافعي الي أنه سنة . وقد اثبت الامام البخاري سنية القنوت ومشروعيته في الصلاة حين بوب له في كتاب الوتر من صحيحه قال : ( باب القنوت قبل الركوع وبعده ) وقد علق على ذلك صاحب فتح الباري فقال : أثبت بهذه الترجمة أي عنوان الباب – مشروعية القنوت إشلرة إلي الرد على من روى عنه انه بدعة كابن عمر .
وقت القنوت :
في صلاة الصبح هو مذهب مالك والشافعي للحديث الصحيح عن أنس رضى الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرا يدعو عليهم ثم ترك فأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا ) وذهب أبو حنيفة وأحمد الي أن وقت القنوت هو الوتر في جميع السنة , وفي رواية عن أحمد أن وقته الوتر في النصف الاخير من رمضان , والصحيح الذي قام علية الدليل من هدي النبوة مشروعية قنوت النوازل في الصلوات الخمس ويكون الدعاء فيها جهرا بعد الرفع من الركوع
محل القنوت في صلاة الصبح :
قبل الركوع في الركعة الأخيرة وهذا مذهب مالك قال الشيخ علي الصعيدي صاحب حاشية العدوى أنه مع كونه أصح قبل الركوع لما فيه من الرفق بالمسبوق ولأنه الذي استقر علية عمر رضي الله عنه بحضور الصحابة وما جاء عن أنس في ذلك يدل على أن القنوت للحاجة بعد الركوع لا خلاف فيه عنه وأما لغير الحاجة فالصحيح أنه قبل الركوع وقد اختلف عمل الصحابة في ذلك الظاهر أنه من الاختلاف المباح .
محل القنوت في النوازل :
بعد الرفع من الركوع جهرا وفي بيان الحكمة من جعل القنوت في النوازل بعد الرفع من الركوع جهرا يقول ابن حجر العسقلاني ( وظهر لي انه ان الحكمة في جعل قنوت النازلة في الاعتدال دون السجود مع ان السجود مظنة الاجابة كما ثبت ( اقرب ما يكون العبد من ربة وهو ساجد ) وثبوت الامر بالدعاء فية ان المطلوب من قنوت النازلة ان يشارك المأموم الإمام ولو بالتأمين ومن ثم اتفقوا على أن يجهر به بخلاف القنوت في الصبح فاختلف في محله وفي الجهر به .
يجوز الجمع بين الادعية الواردة في القنوت وغيرها مع اختيار جوامع الدعاء والإخلاص ومراعاة الاعتدال في الدعاء ومناسبة القيام وحال المصلين .
يستحب رفع اليدين في دعاء القنوت , ويستحب للمأموم أن يؤمن على الدعاء لما روى أن ابن عباس رضي الله عنهما قال ( قنت رسول الله صلى الله علية وسلم وكان يؤمّن من خلفه ) .
لا يعني ماورد من تركه صلى الله علية وسلم للقنوت اكثر من انه ترك الدعاء على الكفار ولعنهم في قنوت النوازل لنزول قولة تعالى ( ليس لك من الامر شئ ) كما نجد ذلك في نص الحديث .
الانصاف الذي يرتضيه العالم المنصف أنه صلى الله علية وسلم جهر وأسر , وترك وقنت وكان إسراره أكثر من جهره .
الأمر في القنوت واسع التزاما له في صلاة الفجر أو الوتر او عند النوازل كما سبق ذلك مع الادلة وبيان آراء الفقهاء .
نسأل الله تعالى أن يتقبلنا وقراء هذة الرسالة والمسلمين كافة وأن يوفقنا أجمعين لما يحب ويرضى , وأن يجعلنا من عباد الله المخلصين المفتقرين إليه جل جلاله , والمفوضين أمرنا كله إليه تعالى , كما نسأله تعالى أن يفقهنا في الدين , وأن يزيدنا علما . سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم .(/8)
القنوت في النوازل
السؤال :
مع تتابع النوازل و الكروب التي تحلّ بالمسلمين في العصر الحاضر ، هل يعتبر القنوت في الصلوات للدعاء بصلاح المسلمين و هلاك الكافرين سنّة على الدوام ؟ و هل يتعيّن موافقة وليّ الأمر لمشروعيّة قنوت النازلة في الصلوات المساجد ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
القنوت في النوازل للدعاء على الكفّار سنّة ، و قد وردت فيه أحاديث كثيرة منها :
ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : لأقربن صلاة النبي صلى الله عليه و سلم فكان أبو هريرة رضي الله عنه يقنت في الركعة الآخرة من صلاة الظهر و صلاة العشاء و صلاة الصبح بعد ما يقول سمع الله لمن حمده فيدعو للمؤمنين و يلعن الكفار .
و فيهما أيضاً عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه ، قَالَ : قَنَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ شَهْراً يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَ ذَكْوَانَ .
قلتُ : و قد كثُرَت المصائب و الحروب و المِحن النازلة بالمسلمين في العصر الحاضر و تداعت عليهم الأمم من كلِّ حدَبٍ و صوبٍ ، و من أقلِّ ما ينبغي للمسلم في هذه الحال أن يفزع إلى الصلاة و الدعاء ، و يقنت في صلاة الفذِّ و الجماعة للدعاء بهلاك الكافرين و نجاة الموحدين .
أمّا تقييد قنوت النازلة بشهر ، و اعتبار ما زاد عنه بدعةً فقولٌ مرجوح ، و الراجح عندنا أنَّ القنوت مشروعٌ حتى تُرفَع النازلة ، و تنكشف الكربة ، و يردّ الكافرون ، و يُنصَر المؤمنون ، و إن طال .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح حديث أبي هريرة المتقدّم : ( و استشكل التقييد في رواية الأوزاعي بشهر لأن المحفوظ أنه كان في قصة الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ... و أن مدته كانت طويلة فيحتمل أن يكون التقييد بشهر في حديث أبي هريرة يتعلق بصفة من الدعاء مخصوصة ؛ و هي قوله : اشدد وطأتك على مضر ) .
و ذهَب الإمام النووي في شرح صحيح مسلم إلى أن التقييد بشهر خاصٌّ بالدعاء على رِعلٍ و ذِكوان ، و ليس المراد منه تقييد القنوت بشهرٍ مطلقاً .
أمّا إذا حظر الحاكم القنوتَ للدعاء على الكفّار في المساجد فهذا تعدٍّ منه لا تجب طاعته فيه ، إذ إنَّ الطاعة الواجبة لا تكون إلا في المعروف .
روى الشيخان و أبو داود و النسائي و أحمد عنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ : « إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ » .
و هذا على فَرَض كون الحاكم مسلماً عالماً مجتهداً لا يرى مشروعيّة القنوت على الكفّار ، أمّا إذا كان في حظره للقنوت و الدعاء على الكافرين صاحبَ هوى أو موالاةٍ لأعداء الله فهذا أشنَع من سابقه ، و لا طاعة له فيه ، بل يُضرَبُ بقوله عرض الحائط ، و يُرجَع إلى ما أمَر الله و رسوله به فيُصار إليه قولاً و عمَلاً .
و قد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عمن ولي أمراً من أمور المسلمين ، و مذهبه لا يجوِّز شركة الأبدان فهل يجوز له منع الناس منها ؟
فأجاب : ليس له منع الناس من مثل ذلك ، و لا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد ، و ليس معه بالمنع نص من كتاب و لا سنة ، و لا إجماع ، و لا ما هو في معنى ذلك ، لا سيما و أكثر العلماء على جواز مثل ذلك ، وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار . اهـ .
هذا و بالله التوفيق ، و عليه الاتكال .(/1)
...
القواعد الأربع التي تفرق بين دين المسلمين ودين العلمانيين
رئيسي :عقائد :
يتناول الدرس القواعد التي يعرف بها المسلم الفرق بين دينه العظيم، وبين الوثنية الجديدة والشرك المعاصر المسمى: بالعلمانية بجميع أصنافها الكثيرة؛ ليجتنبها، ويبتعد عنها، ويبرأ منها ومن أهلها المسمين: بالعلمانيين، ويكفرهم ويعاديهم ويبغضهم ويجاهدهم، سواء أكانوا مفكرين، أو مثقفين، أو سياسيين، أو حكام، أو صحفيين، أو مغنين، أو ممثلين، أو نظريات، أو حكومات، أو أنظمة .
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد : فهذه قواعد يعرف بها المسلم الفرق بين دينه العظيم، وبين الوثنية الجديدة والشرك المعاصر المسمى: بالعلمانية بجميع أصنافها الكثيرة؛ ليجتنبها، ويبتعد عنها، ويبرأ منها ومن أهلها المسمين: بالعلمانيين، و يبرأ إلى الله منهم ويكفرهم ويعاديهم ويبغضهم ويجاهدهم، سواء أكانوا مفكرين، أو مثقفين، أو سياسيين، أو حكام، أو صحفيين، أو مغنين، أو ممثلين، أو نظريات، أو حكومات، أو أنظمة... وغير ذلك . وهذه القواعد الأربع هي :
القاعدة الأولى : أن المشركين الذين بُعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين بالربوبية، قال تعالى: }قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [31] {'سورة يونس' .
وقال تعالى: }قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ[84]سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ[85]قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ[86]سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ[87]قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ[88]سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ[89] {'سورة المؤمنون' . وقال تعالى: } وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ[106] {'سورة يوسف' .
ومع ذلك قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكفّرهم، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام.
والعلمانيون- غير الغلاة- : يقرون بالربوبية كذلك، وعندهم بعض العبادات، فلم يدخلهم ذلك في الإسلام، أما الغلاة فهم أشد؛ فعندهم لا إله، ولا رب، والحياة مادة .
القاعدة الثانية : أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء في أناس لهم تشريعات وقوانين، يفصلون فيها بينهم في الخصومات وغيرها، ولهم عوائد جاهلية يسيرون عليها؛ فلم يقبلوا حكم الله ولا هديه؛ فكفرهم الله ورسوله وقاتلهم، ولم يدخلهم في الإسلام.
فمن تشريعاتهم ما جاء في قوله تعالى:} وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ[121] {'سورة الأنعام' .
وقال تعالى عن قريش ومن تبعها:} أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ...[21]{ 'سورة الشورى' .
والعلمانيون: لهم تشريعات وقوانين، ومحاكم وضعية محلية، أو إقليمية، أو عالمية، يفصلون فيها بينهم في الخصومات وغيرها، ولهم عوائد جاهلية يسيرون عليه يسمونها حضارة وتنور وتطوير، فلم يقبلوا حكم الله ولا هديه؛ فلابد من تكفيرهم والبراءة منهم .
القاعدة الثالثة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى أناس يجعلون الدين في شيء دون شيء، يعبدون الله في الشدة دون الرخاء، فيشركون، قال تعالى:} فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ[65] {'سورة العنكبوت' . وكذلك يجعلون لله شيئاً ولأوثانهم شيئا مثل ما جاء في قوله تعالى:}فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا[136] {'سورة الأنعام' .
والعلمانيون: يعبدون الله في المسجد، وفي رمضان، وفي النكاح، والطلاق، والأحوال الشخصية فقط، وفي غير ذلك يرجعون إلى تشريعاتهم وعوا ئدهم الضالة .
القاعدة الرابعة : جاء الرسول إلى المشركين ولهم أرباب كثيرة و مختلفة، فمنهم من يعبد الأصنام والأوثان، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الجن، ومنهم من يعبد النجوم، ومنهم من يعبد النار، ومنهم من يعبد عيسى ابن مريم، ومنهم من يعبد الأنبياء، ومنهم من يعبد الصالحين؛ فلم يفرق بينهم في الحكم والكفر والقتال .(/1)
والعلمانيون: كذلك لهم آلهة كثيرة، وهم طوائف باعتبار معبوديهم منهم من يعبد الأمريكان، ومنهم من يعبد الأوربيين، ومنهم من يعبد الروس، ومنهم من يعبد النظام العالمي الجديد، ومنهم من يعبد الحكام، ومنهم من يعبد النظريات، ومنهم من يعبد الوطن، ومنهم من يعبد القومية والجنس، ويعبدون قيادييهم ومفكريهم؛ فلا فرق بينهم في الكفر والردة .
والعصرانيون أيضاً: ويلحق بذلك نابتة وطائفة ضالة في هذا العصر، وهم جسر العلمانيين وأذنابهم وأفراخهم، وهم طائفة العصرانيين : فهم من غلاة المرجئة في باب الإيمان والتكفير، وفي باب الفقه أهل أهواء وشهوة، وإباحية، وخضوع للواقع، وترخص ينتهي بهم إلى الزندقة .
وفي الختام:
نضيف كلاما للشيخ عبد الرحمن بن محمد الدوسري رحمه الله، فإنه ـ فيما أعلم ـ من أوائل من فضح هذه الوثنية الجديدة، وهذا الشرك اللعين المعاصر، آلا وهي العلمانية، حيث جعل خاتمة على كتاب 'كشف الشبهات' للشيخ محمد بن عبد الوهاب، كشف فيه رحمه الله أستار الوثنية الجديدة، والشرك المعاصر، كما كشف الشيخ محمد بن عبد الوهاب الشرك المعاصر له،
فقال الشيخ عبد الرحمن الدوسري: [ إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه 'كشف الشبهات' عالج شرك التخريف بصورته المتمثلة في دعاء الأموات والغائبين وتقديس القبور، ثم حدثت ضروب من الشرك برزت بأسماء وألقاب ينخدع بها الجهلة، ويتعلق بها المغرضون والحاقدون- ثم قال: - إن الذي تولى كبره هم اليهود والمجوس، لما خافوا من البعث الإسلامي الصحيح الذي ندب إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقام به مع أعوانه، وفي هذا الوقت كسبوا أنصاراً من بني جلدتنا؛ فألهبوا حماس الجهلة بنعرات العصبيات القومية في كل أمة إسلامية، فظهرت الوثنية الجديدة، وعبادة المادة والشهوات، وتقديس الأشخاص، بحجة الجنسية والوطنية، حتى تكونت في المحيط الإسلامي والعربي –خاصة- ردة جديدة بما انتحلوه من مبادئ وطنية، ومذاهب مادية مزخرفة بألقاب ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب] .
وبعد هذه المقدمة تكلم الشيخ عبد الرحمن الدوسري عن معنى الألوهية وأصولها، وهما أصلان:
1- الكفر بكل معبود
2 ـ إفراد الله بالعبادة والاستسلام لحكمه .
ثم تكلم عن حقيقة العبادة، والحب في الله، وبغض أعداء الدين، ثم تكلم عن حقيقة ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقال: [ وبه تعرف مدى ما انغمس فيه غالب المحسوبين على الإسلام من الوثنية الجديدة، وما استجلبوه من مباديء الغرب، ومذاهبه المادية، فجعلوا حدود الوطن فوق حدود الله، وجعلوا لأنفسهم الخيرة فيما يشرعون وينظمون خلافاً لما قضى الله ورسوله، واتبعوا ما يمليه رجال تألهوهم بالحب والتعظيم، وجعلوهم أنداداً من دون الله: كالقومية، والوطنية، وما يستلزمها من المذاهب المادية ...- ثم ذكر من جعل الوطن ندا لله في قول قائلهم- :
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
وجلبوا موالاة أعداء الله بحجة الجنس والوطن، وتعطيل الشريعة بحجة التطوير الفاسد، وعبادة كل طاغوت في سبيل ذلك .
ومن مبادئهم الباطلة :
مبدأ: الدين لله والوطن للجميع .
مبدأ: الدين علاقة بين العبد وربه فقط لا شأن له في الحياة .
ومبدأ: إرادة الشعب من إرادة الله .
وذكر أنه لا يزال خريجو المدارس الاستعمارية يركزون هذه المفاهيم في طبقات الأمة الإسلامية، وقال: إن المدارس هي أول ما فرض الاستعمار علينا ثقافته بواسطتها،ثم قال: فعلى المسلمين شيباً وشباناً، وحكومات وشعوباً أن يقاوموا هذا الشرك الجديد والوثنية الجديدة ، أهـ ملخصاً .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
من رسالة :'القواعد الأربع التي تفرق بين دين المسلمين ودين العلمانيين'
للشيخ/ علي بن خضير الخضير(/2)
القواعد الأربع
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة ، وأن يجعلك مباركاً اينما كنت ، وأن يجعلك ممن إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر ، وإذا أذنب استغفر ، فإن هؤلاء الثلاث عنوان السعادة.
اعلم أرشدك الله لطاعته : أن الحنيفية ملة إبراهيم أن تعبد الله وحده مخلصاً له الدين ، كما قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } .
فإذا عرفت أن الله خلقك لعبادته فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد ، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة ، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت ، كالحدث إذا دخل في الطهارة.
فإذا عرفت أن الشرك اذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل وصار صاحبه من الخالدين في النار ، عرفت أن أهم ما عليك : معرفة ذلك ، لعل الله أن يخلصك من هذه الشبكة وهي الشرك بالله الذي قال الله تعالى فيه : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ، وذلك بمعرفة أربعة قواعد ذكرها الله تعالى في كتابه :
[ القاعدة الأولى ]
أن تعلم أن الكافرين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مقرون بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المدبر ، وأن ذلك لم يدخلهم في الإسلام ، والدليل قوله تعالى : { قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تعقلون } .
[ القاعدة الثانية ]
أنهم يقولون : ما دعوناهم وتوجهنا إليهم إلا لطلب القربى والشفاعة .
فدليل القربة قوله تعالى : { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ماهم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كذاب كفار } .
ودليل الشفاعة ، قوله تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } .
والشفاعة شفاعتان : شفاعة منفية ، وشفاعة مثبتة :
فالشفاعة المنفية : ما كانت تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ، والدليل قوله تعالى : { يأيها الذين ءامنوا انفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون } .
والشفاعة المثبتة : هي التي تطلب من الله ، والشافع مكرم بالشفاعة ، والمشفوع له من رضي الله قوله وعمله - بعد الإذن - كما قال تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } .
[ القاعدة الثالثة ]
أن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر في اناس متفرقين في عباداتهم ، منهم من يعبد الملائكة ، ومنم من يعبد الأنبياء والصالحين ، ومنهم من يعبد الاشجار والأحجار ، ومنهم من يعبد الشمس والقمر ، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يفرق بينهم ، والدليل قوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } .
ودليل الشمس والقمر : قوله تعالى : { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون } .
ودليل الملائكة : قوله تعالى : { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبين ارباباً } .
ودليل الأنبياء : قوله تعالى : { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب } .
ودليل الصالحين : قوله تعالى : { وأولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه } .
ودليل الاشجار والأحجار : قوله تعالى : { افرءيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى . . . الآية } ، وحديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه ، قال : ( خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين - ونحن حدثاء عهد بكفر - وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم ، يقال لها ذات انواط ، فمررنا بسدرة ، فقلنا : يا رسول الله ، أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات انواط . . . الحديث ) .
[ القاعدة الرابعة ]
أن مشركي زماننا أغلظ شركاً من الأولين ، لأن الأولين يشركون في الرخاء ، ويخلصون في الشدة ، ومشركي زماننا شركهم دائماً في الرخاء والشدة ، والدليل : قوله تعالى : { فإذا ركبوا البحر دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم الله إلى البر إذا هم يشركون } .
تمت وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى(/1)
القواعد الصحية عند تناول الطعام والشراب
راعى الإسلام في التربية الجسمية اتباع القواعد الصحية في الأكل وكذا النوم أيضا وقد بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديثه وأولها التيامن في كل أمر لقول عائشة رضي الله عنها : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في شأنه كله : في طهوره وترجله وتنعله ) البخاري ومسلم.
المسلم ينظر الى الطعام والشراب باعتبارهما وسيلتين إلى غيرهما لا غاية مقصودة لذاتها فهو يأكل ويشرب من اجل المحافظة على سلامة بدنه الذي به يمكنه ان يعبد الله تعالى تلك العبادة التي تؤهله لكرامة الدار الآخرة وسعادتها فليس هو يأكل ويشرب لذات الأكل والشرب وشهوتهما فلذا هو لو لم يجع لم يأكل ولو لم يعطش لم يشرب وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم قوله ((نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا فلا نشبع ))
ومن توجيهات الرسول _صلى الله عليه وسلم _ في هذا المجال : ألا يعيب المرء طعاما وإن كرهه ، وأن يمدحه إذا دعي إليه ومن القواعد الصحية والتي سبق بها الإسلام علماء الطب في وضعية الجسم عند تناول الطعام والتي سنذكرها مع الآداب الشرعية والتي ينبغي للمسلم أن يلتزم في مأكله وفي مشربه .
آداب ما قبل الأكل
1- أن يستطيب طعامه وشرابه بأن يعدهما من الحلال الطيب الخالي من شوائب الحرام
والشبه لقوله تعالى(ياأيها الذين امنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) البقرة والطيب
هو الحلال الذي ليس بمستقذر ولا مستخبث
2- أن ينوى بأكله وشربه التقوية على عبادة الله تعالى ليثاب على ما أكله وشربه
فالمباح يصير بحسن النية طاعة يثاب عليها المسلم
أن يغسل يديه قبل الأكل إن كان بهما أذى ،أو لم يتأكد من نظافتهما
3- أن يضع طعامه على سفرة فوق الأرض لا على مائدة ، إذ هذا أقرب إلى التواضع
ولقول أنس _ رضي الله عنه _ ( ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على
خوان ، ولا في سكرجة ) رواه البخاري.
4- أن يجلس متواضعا بأن يجثو على ركبتيه ، ويجلس على ظهر قدميه ، أو ينصب
رجله اليمنى ويجلس على اليسرى ،
كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس ولقوله عليه الصلاة والسلام :
(لا آكل متكئا إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد ) رواه البخاري) كما روى أنه ( ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا قط ) رواه أبو داوود وابن ماجة ( جاء في كتاب الإعجاز العلمي في السنة لأجل أن يكون وضع الجهاز الهضمي في أتم استعداد لاستقبال وجبة الطعام ولأجل قدوم أكبر كمية ممكنة من الدم كافية للجهاز الهضمي ، كان وجوب الجلوس وثني الساقين تحت الجسم لحصر الدم في منطقة الجهاز الهضمي ، مع جعل الساق اليسرى مثنية واليمنى مرتكزة على القدم ، لجعل منطقة المعدة حرة طليقة ومساحتها الخارجية بعيدة عن أي ضغط مسلط باتجاهها من الجهة الخارجية . كما يجب الامتناع عن الحركة والسير أثناء الطعام لمنع ذهاب الدم إلى الجهاز العضلي في وقت يكون فيه الجهاز الهضمي في أمس الحاجة إليه ، الأمر الذي يجعل الإنسان يحس بالرقود الفكري و الخمول ، كما يحس بالانحلال العضلي والارتخاء الجسمي العام وهذا الوضع من أشكال الجلوس أمر به و طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم . وهو أصح وأسلم في حالة الجلوس على الأرض من استعمال الكراسي حول مائدة الطعام . أما تناول الطعام في وضع الإتكاء فإنه يسبب تشنج واضطراب تقلصات البلعوم ، فلا يستطيع الإنسان ( بلع ) اللقمة بارتياح ولذة كما انه يحدث ارتخاء في عضلات البطن ،فلا تستقبل المعدة الطعام بصورة صحية ؛لان المعدة في وضعها الصحيح تكون في حالة انتصاب الجسم وارتكازه على الأرض ،وتوازنه الطبيعي دون لجوئه إلى ارتكازه الجانبي في حالة الإتكاء. ولقد ثبت علميا أن سير الطعام عبر المريء واستقبال المعدة له في حالة انتصاب الجسم جلوسا يساعد على عمليات الهضم في سهولة ويسر بخلاف الأمر عند الإتكاء أو الوقوف أو السير أثناء الأكل وما شابه ذلك .
5- أن يرضى بالموجود من الطعام ، وان لا يعيبه ، وإن أعجبه أكل وإن لم يعجبه تركه ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط إن اشتهاه أكل ،وان كرهه ترك )رواه أبو داود
6- أن يأكل مع غيره من ضيف أو أهل أو ولد ،أو خادم لخبر :(اجتمعوا على طعامكم يبارك لكم فيه ) أبو داود والترمذي .
_ آداب الأكل :
1- أن يبدأه ببسم الله ، لقوله عليه الصلاة والسلام : ( إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى ، فإن نسى أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل : بسم الله أوله وآخره ) أبو داود والترمذي .(/1)
2- أن يختمه بحمد لله تعالى لقوله عليه السلام : (من أكل طعاما وقال الحمد لله الذي أطعمني ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه ) البخاري ومسلم . 3- أن يأكل بثلاثة أصابع من يده اليمنى ، وأن يصغر اللقمة ويجيد المضغ ، وأن يأكل مما يليه لا من وسط القصعة لقوله عليه الصلاة والسلام لعمر بن سلمة (يا غلام سم الله وكل بيمينك ، وكل مما يليك ) وقوله صلى الله عليه وسلم : ( البركة تنزل وسط الطعام فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه ) متفق عليه .
4-أن يلعق الصحفة وأصابعه قبل مسحها بالمنديل ، أو غسلها بالماء لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح أصابعه حتى يلعقها، أو يلعقها ) رواه أبو داود والترمذي ولقول جابر _ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمر بلعق الأصابع والصحفة ، وقال إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ) رواه مسلم
5_ إذا سقط منه شيء مما يأكل أزال عنه الأذى وأكله ، لقوله عليه الصلاة والسلام : (إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها وليمط (ينح) عنها الأذى وليأكلها ،ولا يدعها للشيطان
6 _ أن لا ينفخ في الطعام الحار ، وأن لا يطعمه حتى يبرد ، وأن لا ينفخ في الماء حال الشرب ، وليتنفس خارج الإناء ثلاثا ، أبو عبيدة عن جابر بن زيد قال بلغني أن أبا سعيد الخدري دخل على مروان بن الحكم فقال له مروان هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن التنفس في الشراب فقال أبو سعيد : نعم ؛ فقيل له : ( يا رسول الله إني لا أروى عن نفس واحد فقال فأبن القدح عن فيك ثم تنفس ) فقال الرجل: فإني أرى القذى قال : فاهرقه (قال الربيع ) قال أبو عبيدة وكذلك في الطعام لا ينفخ فيه وإن كان حارا فليبرده ) رواه الربيع بن حبيب في مسنده ج2ص118 ؛ فيمنع التنفس في الشراب ويستحب التنفس خارجه ثلاثا وأن يعطي الأيمن فالأيمن ، ويكره الشرب من فم القربة ، ويقاس عليه الشرب من فم الزجاجة أو ما يحفظ الماء في الثلاجة .
7_ أن يتجنب الشبع المفرط لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن لم يفعل فثلث للطعام ، وثلث للشراب ، وثلث للتنفس ) رواه أحمد وابن ماجة .
8 _ أن لا يبدأ بتناول الطعام أو الشراب ، وفي المجلس من هو أولى منه بالتقديم لكبر السن ، أو زيادة فضل ، لأن ذلك مخل بالآداب ، معرض صاحبه لوصف الجشع المذموم قال بعضهم :
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن ... بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
9 _ أن لا يحوج رفيقه أو مضيفه إلى أن يقول له : كل ، ويلح عليه ، بل عليه أن يأكل في أدب كفايته من الطعام من غير حياء أو تكلف للحياء ، إذ في ذلك إحراج لرفيقه أو مضيفه كما فيه نوع من الرياء والرياء حرام .
10- أن يرفق برفيقه في الأكل فلا يحاول أن يأكل أكثر منه،ولا سيما إذا كان الطعام قليلا ،لأنه في ذلك يكون آكلا لحق غيره
11- أن لا ينظر إلى الرفقاء أثناء الأكل، وان لا يراقبهم فيستحون منه بل عليه أن يغض بصره عن الأكلة حوله ، وان لا يتطلع إليهم إذ ذلك يؤذيهم ،كما قد يسبب له بغض احدهم فيأثم لذلك .
12- أن لا يفعل ما يستقذره الناس عادة فلا ينفض يده في القصعة ،ولا يدنى رأسه منها عند الأكل والتناول لئلا يسقط من فمه شيء فيقع فيها ،كما إذا اخذ بأسنانه شيئا من الخبز لا يغمس باقيه في القصعة ،كما عليه أن لا يتكلم بالألفاظ الدالة على القاذورات والأوساخ ، إذ ربما تأذى بذلك أحد الرفقاء ، وأذية المسلم محرمة .
13- أن يكون أكله مع الفقير قائما على إيثاره ، ومع الإخوان قائما على الانبساط والمداعبة المرحة ، ومع ذوي الرتب والهيئات على الأدب والاحترام.
_آداب ما بعد الأكل
1- يمسك عن الأكل قبل الشبع إقتداء بالرسول عليه السلام وحتى لا يقع في التخمة
المهلكة والبطنة المذهبة للفطنة .
2- أن يلعق يده ثم يمسحها ، أو يغسلها ، وغسلها أولى وأحسن .
3- أن يلتقط ما تساقط من طعامه أثناء الأكل لما ورد من الترغيب في ذلك لأنه من
باب الشكر للنعمة .
4- أن يخلل أسنانه ويتمضمض تطييبا لفمه ، إذ به يذكر الله تعالى ويخاطب الإخوان
كما أن نظافة الأسنان قد تبقي على سلامة الأسنان.
5- أن يحمد الله تعالى عقب أكله أو شربه ، وأن يقول إذا شرب لبنا : اللهم بارك لنا
فيما رزقتنا وزدنا منه .
اللهم ارزقنا طعاما شهيا وشرابا هنيئا إنك أنت الجواد(/2)
القواعد العشر في الإيمان بالقضاء والقدر عند حلول المصائب
ناصربن يحيى الحنيني
الحمدلله العليم الخبير ، ذو الحكمة في الخلق والتدبير ، يخلق مايشاء ويفعل مايريد ، له الحمد على ما قدر وحكم ، وله الشكر على ما قضى وأبرم ، الحمدلله الذي وسعت رحمته الوجود ، وعم فضله كل موجود ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ؛محمد بن عبدالله الرسول النبي الأمين ،وعلى آله وأصحابه الصادقين الصابرين معه في كل الميادين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
أيها المسلمون :اتقوا الله حق التقوى فهي أساس النجاة ، وبها يحصل التفاضل وبها ترفع الجباه ، وإن من أسس التقوى التي عليها تقوم وبها تصح الأعمال :الإيمان بالأصول الستة التي أجمعت عليها الشرائع ، ودلت عليها الدلائل في كتاب ربنا وسنة المصطفى سيد الأواخر والأوائل ، فقد جاء في التنزيل الحكيم : (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لانفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) ، وجاء عن نبينا الكريم أنه قال في حديث جبريل المشهور لما سأله عن الإيمان قال : ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ) ، وهذه الأصول الثابتة ، من فرط في ركن منها فهو غير مؤمن وقد ضل عن سواء السبيل ولا يقبل منه كثير ولا قليل مصداق ذلك في قول ربنا الجليل : ( ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً ) .
أيها المسلمون : حديثنا اليوم عن أصل من هذه الأصول وركن من هذه الأركان ، وهو متعلق بالإيمان بالله بل هو أساس إيمان العبد وتعظيمه لمولاه ألا وهو : الإيمان بقضاء الله وأقداره ، وهو علامة على صدق إيمان العبد وإحسان ظنه بربه كما قال صلى الله عليه وسلم : (لايؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله ، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه )، ومن آمن بما قدر الله وقضى عاش مطمئناً مستقراً ، ثابتاً مرابطاً ، لا تزعزعه الفتن ، ولا توهنه المحن ، نسأل الله أن يرزقنا إيماناً صادقاً وعملاً خالصاً .
وإن الإيمان بالقضاء والقدر يرسخ في الجنان ، وتظهر آثاره على الجوارج والأبدان إذا اهتدى المؤمن وعمل بما أمره الله ورسوله في القرآن والسنة ويمكن أن نجمل ما ورد في الكتاب والسنة فيما يخص الإيمان بالقضاء والقدر عند حلول المصائب والنكبات في عشر قواعد هي على سبيل الإجمال ما يلي :
القاعدة الأولى : الإيمان بعلم الله الشامل المحيط بكل شيء يعلم الغائب والشاهد ، والظاهر والمستتر ، وأنه سبحانه لا تخفى عليه خافيه ويعلم ما توسوس به الصدور ويعلم ما كان وما سيكون وأنه لا يقع شيء في الوجود إلا بعلمه سبحانه كما قال جل وعلا :(وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولاحبةٍ في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) وقال سبحانه : (عالم الغيب والشهادة ) ، وقال سبحانه : (ذلك لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً ) .
إذا علم هذا واستقر في القلوب ، وأنه سبحانه علام الغيوب ومن أسمائه العليم السميع البصير : أيقنت النفوس المؤمنة واطمأنّت بأن ما يحدث بعلمه واطلاعه سبحانه فلماذا تخاف وتقلق ، لماذا ترتبك وتتراجع والملك الجبار عالم بكل ما يحدث وما يخططه الأعداء وما يحيكه اليهود والنصارى في الخفاء ،فالإيمان بهذا الأمر يورث الأمن والطمأنينة والثبات بإذن الله عزوجل .
القاعدة الثانية : أنه لايحدث شيء في هذا الكون من خير أو شر إلا بإرادته ومشيئته ، ولا يقع أي أمر إلا بإذنه ، فلا يتصور ولا يتخيل أن يحدث شيء بدون إرادته سبحانه ، وأن الخلق مهما خططوا وفعلوا فلن يحدث ولن يقع إلا ما أراد وقدر سبحانه .
قال جل وعلا : ( إن ربك فعّال لما يريد ) وقال سبحانه : ( وإذا أراد الله بقوم سؤً فلا مرد له ) وقال سبحانه : (إن الله يفعل ما يريد) .
إذا علم هذا فإذا نزلت النازلة وحلت المصيبة تذكر أنه بإرادة الله ومشيئته فلا تجزع فإنك تؤي إلى ركن شديد.
عباد الله : ومع إيماننا بمشيئة الله النافذة وإرادته لكل ما يحدث في الكون فنحن أيضاً مأمورون بامتثال أوامر الله وما أراده منا شرعاً وديناً فلا يحتج محتج بنزول المصائب وأنها من عند الله ونقف هكذا لا نحرك ساكناً بل أمرنا الله بمدافعة الكفار والجهاد في سبيله سبحانه وإقامة دينه وشرعه وتحليل الحلال وتحريم الحرام .
وبالإيمان بالقدر وبما شرع الله يتم الإيمان وتثبت قدم المرء على الإسلام .(/1)
القاعدة الثالثة : أن ما قدر في هذا الكون لحكمة ومصلحة نعلمها وقد لانعلمها والله سبحانه لا يقدر الأقدار ويخلق الخلق لغير حكمه فهو سبحانه منزه عن العبث واللعب قال جل وعلا : ( وماخلقنا السماء والأرض وما بينها لاعبين ) وقال سبحانه : (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً ) ، وقال جل وعلا : ( وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية ) ، وحال المؤمنين إذا تفكروا في ملكوت الله وخلقه قالوا : ( ربنا ماخلقت هذا باطلاً سبحانك ) .
إذا علم هذا فعند حلول المصائب تطمئن وترضى وتسلم لقضاء الله وقدره وتحسن الظن بالله لأنه ما قدر هذة المصائب التي تحل بالأمة أو بالأفراد إلا لحكمة بالغة لأنه سبحانه الحكيم الخبير .
القاعدة الرابعة : أن الله سبحانه لا يقدر شراً محضاً ليس فيه خير ، بل كل ما قدر وإن ظهر لنا أنه شر كله فإن من وراءه من الخير مالا يعلمه إلا الله كتكفير السئيات ورفعة الدراجات وتمحيص المؤمنين وتبصيرهم بعيوبهم وكشف ما يخطط لهم أو دفع شر أعظم مما حل بهم كحفظ دينهم ولو ذهب شيء من دنياهم ، ونحو ذلك من المصالح التي لا تخطر على البال ، وقد جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لربه ( والشر ليس إليك ) ، وهذا إبليس أساس الشر في العالم خلقه الله سبحانه وقدر وجوده في الكون ليختبر العباد ويعلم الصادق من الكاذب وغيرها من الحكم التي ظهر فيها الخير للعباد ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
فإذا حلت المصائب لا تظن أيها العبد المسكين يامن علمك ناقص وبصرك محدود إعلم أن الحكيم الخبير والرؤف الرحيم لا يمكن أن يقدر على خلقه أمراً ليس فيه خير ومصلحة لهم.
القاعدة الخامسة : أن الله سبحانه يفعل في خلقه وملكه ما يشاء وهو لا يُسئل سبحانه عما يفعل وهم يسألون ، لأنه مالك الملك وجبار السموات والأرض رب العالمين وخالق الناس أجمعين ومدبر الكون وإله الأولين والآخرين سبحانه جل وعلا ، فلا يحق لنا أن نسأل مولانا لماذا قدر علينا المصيبة ولماذا أصابنا ولم يصب غيرنا فنحن خلقه وعبيده وهذا ملكه ووجوده يفعل في خلقه وملكه ما يشاء سبحانه ، وهذا الأدب مع الله هو أساس اعتراف العبد بألوهية الله وربوبيته سبحانه والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً .
القاعدة السادسة : الاعتقاد الجازم الذي لايخالطه شك ولا يمازجه ريب بأنه سبحانه الحكم العدل الذي حرم الظلم على نفسه وجعله بين خلقه محرماً وهو سبحانه لا يرضى عن الظلم والظالمين فقال سبحانه : (ولا يظلم ربك أحداً ) وقال سبحانه : ( وما ربك بظلام للعبيد ) ويقول جل وعلا : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً ) .
إذا علم هذا فإذا رأيت المصائب تنزل فاستحضر هذه القاعدة ولتكن منك على بال فلا تسيء الظن بربك فهو أعدل العادلين وأحكم الحاكمين ، وأنه سبحانه لا يرضى أن يُظلم عباده وسوف ينتصر لهم ولو بعد حين وأن الله أعد للظالمين عذاباً أليماً وأن دعوة المظلوم لا ترد وتصعد إلى الله كأنها شرارة .
القاعدة السابعة : أن الله سبحانه رحيم بالمؤمنين ، بل هو أرحم بهم من أمهاتهم وآباءهم ومن رحمته ما يقدر في الكون وهو قد كتب على نفسه الرحمه وأن رحمته سبقت غضبه سبحانه ،وما يقدر في الكون من خير وشر هو من رحمته بنا لأننا لا نعلم ما يخبئه الله لنا من الخير والرحمة خلف هذه المصائب والشرور فسبحانك يارحمن يارحيم ، واعلم أن ربنا ارحم بنا من أمهاتنا وآباءنا بل هو أرحم بنا من أنفسنا لأنه خالقنا وهو العالم بما يصلحنا ويسعدنا وبما يفسدنا ويشقينا والله سبحانه قد قال في الحديث القدسي : ( أنا عند ظن عبدي فليظن بي ماشاء ) فلا نظن بربنا إلا خيراً.
القاعدة الثامنه: أن كل ما سوى الله وأسمائه وصفاته مخلوق فالعباد وأعمالهم كلها مخلوقة لله جل قال سبحانه : ( الله خالق كل شيء ) وقال سبحانه : ( وخلق كل شيء فقدره تقديراً ) ، وقال سبحانه : (والله خلقكم وما تعملون ) وقال صلى الله عليه وسلم : (إن يصنع كل صانع وصنعته) .
إذا تأملت هذا وآمنت به علمت ضعف عدوك وقلة حيلته وأنه مخلوق لله هو وما يصنع وما يدبر، فلا تعلق قلبك إلا بالقوى الخالق لكل شيء سبحانه .(/2)
القاعدة التاسعة : أن الأقدار والأيام دول وأن دوام الحال من المحال ، فالله قد قضى وقدر في الكون أن أقداره ماضيه على المؤمن والكافر والبر والفاجر وأن التدافع بين الخير والشر سنة ما ضية وحكمة قاضية قال سبحانه : ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) فمرة لأهل الحق ومرة لأهل الباطل وأن الصراع بينهما إلى قيام الساعة كما قال جل وعلا : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) ولكن الذي نوقن به ولا نشك أن دين الله منصور وغالب وأن العاقبة للمتقين وأنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة لا يضرها من خذلها ولا من خالفها إلى قيام الساعة ، فلا تنظر إلى الأحداث بنظرة عجلة قصيرة بل استشرف المستقبل المشرق واعمل بالأسباب التي تؤدي إلى النصر والتمكين والله سبحانه ناصر دينه وأولياءه.
القاعدة العاشرة : الصبر على أقدار الله مما أمرنا الله به وأوجبه علينا وهو سر الهداية والفلاح فقد قال جل وعلا : (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا لعلكم تفلحون ) وأمرنا سبحانه بالاستعانة بالصبر والصلاة فقال : ( واستعينوا بالصبر والصلاة )
وقال سبحانه مبيناً ابتلاءه واختباره لعباده وأن الفائز والناجح في هذا الامتحان هو الصابر الراضي بقضائه وقدره فقال سبحانه : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إن لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)
هذا في الدنيا أم في الآخرة فأجر الصابرين عظيم لا يعلم قدره إلا الله فقال سبحانه : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) .
والصبر هو أحد أسباب النصر على الأعداء وهو الذي تطلبه الأمة من ربها عند لقاء عدوها قال جل وعلا : ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ) ، وقال عن الفئة المؤمنة المستضعفة التي قاتلت الطاغية جالوت : ( قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم فئةٍ قليلةٍ غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ، ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، فهزموهم بإذن الله ) الآيات .
فاللهم ارزقنا الصبر والثبات عند ملاقاة عدونا وانصرنا على القوم الكافرين .
http://www.raddadi.comالمصدر(/3)
القواعد العشر في فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الكاتب: الشيخ أ.د.أحمد بن سعد الغامدي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد:
فهذه قواعد في فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رجوت أن يستفيد منها من يراها من إخواني المسلمين، لا سيما الشباب والشابات منهم لما ألمسه فيهم من تتيم بهذه الشعيرة المباركة .
والحديث لا يدور هنا عن فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا عن أدلة وجوبه، وما شابه ذلك، وإنما هي قواعد كلية تكون بمثابة المنارات في طريق الحسبة.
والله تعالى أسأل أن ينفع بها، وأن يجعلها عملا خالصاً لوجهه الكريم.
القاعدة الأولى : إن المعروف ما عرف في الشرع والعقل حسنه، والمنكر خلافه، فلا خلاف بين نص صحيح صريح، وعقل سليم صحيح ، فالقياس الفاسد، والاستحسان الباطل لا يقررهما.
القاعدة الثانية : إن الآمر والناهي هو الشارع الحكيم، وغيره آمر وناهي، ومأمور ومنهي منه، خلافاً لأرباب البدع.
القاعدة الثالثة : إن الأصل في الحسبة تعبيد الخلق لله تعالى، وامتثال الأمر، وتحصيل الأجر، ودرء المفاسد، وجلب المصالح، فحظوظ النفس سراديب الشرك.
القاعدة الرابعة : ليس من شأننا التنقيب عن المنكر الخفي، فالمتضرر صاحبه.
القاعدة الخامسة : إنه ليس مراد الشارع الأمر والنهي المجردين فقط، بل إيقاع المأمور به، والمنهي عنه، من أهله على أهله، مع مراعاة الحال، والمقال، والزمان، والمكان . فمن حمل الناس على أمر واحد تعب وأتعب.
القاعدة السادسة : إن الآمر والناهي: إما عالم وأمر بالحكمة، فأصاب مقاصد الشريعة، أو بغيرها فمفسدته راجحة، ومثل الأ خير الجاهل المخطئ، ولا يكون جهله إلا مركباً.
فالأول لله هو كم من نائم أيقضه، وشارد رده، وعابد بصره، وفتنة دهماء صدها.
ومن أمر بغير حكمة من أهل العلم، فقد صد عن سبيل الله تعالى، ووقف على أبواب الهداية، فنفر, وأجلب العداوة بخيلها ورجلها.
والجاهل فيما جهله ليس من أهل الأمر والنهي، لافتقاره إليه، فإن احتسب، فحاصل احتسابه مفسدة محققة، تدور بين صغرى البدع وكبراها، وفي أهل التصوف والتشيع عبر.
القاعدة السابعة : المأمور إما عالم، وما جاهل، مستجيب أو مكابر، فالمستجيب محمود في الدنيا والآخرة، والمكابر يلزم بالحق من السلطان أو نائبه انتهاء .
القاعدة الثامنة : إن المأمور به لا يخرج عن حق أو باطل، أو فيه حق وباطل، أو موهم، فالحق مقبول مع شكر قائله، والباطل مردود في ألطف عبارة، مع حمل قائله على إرادة الإصلاح، وما فيه حق وباطل يقبل الحق، ويرد الباطل كما سبق، والموهم نتوقف ونستفصل عن المراد منه، فإن كان حقاً قبل، وإن كان باطلاً رد، ومن ظهر بطلان احتسابه احتسبنا عليه بمقاصد الشريعة، والجاهل يسأل أهل العلم.
القاعدة التاسعة : الحرص على طلاقة الوجه، و مجانبة اليأس في إصلاح الناس، والرفق واللين في الاحتساب عليهم، واعتقاد إرادة الصلاح منهم، وحرصهم على الامتثال فوراً، وتوطين النفس على قبول أعذارهم، ومحبتهم والدعاء لهم .
القاعدة العاشرة : إذكاء روح الحسبة في قلوب الناس، بالوسائل المشروعة، من غير غلو ولا تفريط.
هذا ما أردت وقد شرحت هذه القواعد في رسالة بعنوان: (القواعد والأصول في فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). عسى أن تنشر قريباً.
وفق الله الجميع والحمد لله أولاً وأخراً، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(/1)
القواعد في عمارة المساجد
د. محمد عمر دولة*
الحمد لله الذي أذِن لبيوته في عالمِنا أن تُبنى وتُرفَعَ، ويسّر للنداء في مآذننا أن يُعلى ويُسمَع، ومكّن لكتابه أن يُتلى في جوانبها ويُذكَر، ومهّد لاسمِهِ في صلواتنا أن يُمجَّد ويُكبَّر، ووفّق للحق فيها أن يظفر ويظهر، وقدّر للباطل أن يُقهَرَ ويُدْحَر.
والصلاة والسلام على من اشتاقت المنابر إلى أنامله الشريفة أن تتلمّسها، وحنّ الجذع إلى أنفاسه العذبة أن يتنسّمها، وبكت النخلة (على ما كانت تسمع من الذكر عندها).[1]
وبعد، فقد أثنى الله تبارك وتعالى على عُمّار بيوته، فقال جل جلاله:(في بيوتٍ أذن الله أن تُرفَعَ ويُذكَر فيها اسمُه يسبِّح له فيها بالغدوّ والآصال رجالٌ لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلّب فيه القلوبُ والأبصار ليجزيَهم الله أحسنَ ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب).[2]
ولعلّ المتأمّل في فقه عمارة المساجد في القرآن والسنة؛ يجد قواعد علميّةً، يمكن بيانَ بعضها في ما يلي:
إنّ القاعدة الأولى لعمارةِ المساجد: بناؤها وإعلاؤها
كما قال القرطبي رحمه الله في تفسير قول الله تعالى:(في بيوتٍ أذن الله أن تُرفَع):"(تُرفع) قيل: معناه: تُبنى وتُعلى ـ قاله مجاهد وعكرمة ـ ومنه قوله تعالى:(وإذ يرفع إبراهيم القواعدَ من البيت)،[3] وقال صلى الله عليه وسلم:(من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنّة)، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرةٌ تحضّ على بنيان المساجد".[4]
القاعدة الثانية لعمارة المساجد: تعظيمها وتطهيرها وصونها عن النجاسات
كما قال الله عزّ وجل:(وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهِّرا بيتي للطائفين والعاكفين والرّكّع السجود)،[5] وقد أشار ابن كثير رحمه الله إلى العلاقة بين عمارة المساجد وتطهيرها بقوله:"تطهير المساجد مأخوذٌ من هذه الآية الكريمة ومن قوله تعالى:(في بيوتٍ أذن الله أن تُرفع...)، ومن السنة من أحاديث كثيرةٍ من الأمر بتطهيرها وتطييبها، وغير ذلك من صيانتها من النجاسات وما أشبه ذلك".[6] ومن هذا الباب قوله تعالى:(ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله).[7]
القاعدة الثالثة لعمارة المساجد: إخلاص النية لله
كما قال الله عز وجل:(والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المسلمين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفنّ إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجدٌ أُسِّس على التقوى من أوّل يومٍ أحق أن تقوم فيه فيه رجالٌ يحبّون أن يتطهّروا والله يحبّ المطّهّرين).[8] قال الشيخ السعدي رحمه الله:"في هذه الآيات فوائد عدّةٌ، منها: أنّ اتخاذ المسجد الذي يُقصَد به الضرار لمسجدٍ آخر بقربه أنه محرَّمٌ، وأنه يجب هدم مسجد الضرار الذي اطلِع على مقصود أصحابه، ومنها: أنّ العمل وإن كان فاضلا تغيّره النيّة؛ فينقلب منهيّاً عنه، كما قَلَبَتْ نيّة أصحاب مسجد الضرار عملهم إلى ما ترى...".[9]
القاعدة الرابعة: غرس التقوى في قلوب المسلمين
فمن كياسة المؤمن الفطن أن يؤسّس عملَه كلَّه على التقوى وينأى به عن قرناء السّوء؛ فقد أراد قوم جريج ـ في حديث الثلاثة الذين تكلّموا في المهد [10]ـ أن يشاركوه في بناء الصومعة؛ ليكون لهم سلطةٌ على هذه المؤسّسة العِباديّة وقدرةٌ على هدمها من داخلها، وهو ما يعنيه قول الله عز وجل:(وأنّ المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا)؛[11] ورحم الله جُريجا فقد أدرك أنّ الصوامع لا تعمرها القلوب الفارغة؛ (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله). ولله درّه كيف حفظ أساسَ صومعتِه أن يُقوَّض، ومقصده العبادي أنْ يُحرَّف من قِبَل هؤلاء؛ لئلا يكون مع الذين (اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله). وصنيع جُريج في رفضه إشراك الأيدي المتنجّسة في بناء أساس صومعته يذكّرنا بهدم النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار والنفاق كما جاء في القرآن (لا تقم فيه أبداً لمسجدٌ أُسِّس على التقوى من أوّل يومٍ أحقُّ أن تقوم فيه فيه رجالٌ يُحبّون أن يتطهّروا والله يحبّ المُطَّهِّرين أفمن أسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانٍ خيرٌ أمّن أسّس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين).[12]
القاعدة الخامسة: إحياء القلوب بالإيمان وإعمارها بالأخوة في الله(/1)
كما قال الله تبارك وتعالى:(إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر)،[13] قال الإمام القرطبي:"قوله تعالى:(إنما يعمر مساجد الله) دليلٌ على أنّ الشهادة لعُمّار المساجد بالإيمان صحيحةٌ؛ لأنّ الله سبحانه ربطه بها، وأخبر عنه بملازمتها".[14] وقد ذكر سيّد قطب في تفسير:(وأنّ المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا) أنّ هذه الآية"توحي بأنّ السجود ـ أو مواضع السجود وهي المساجد ـ لا تكون إلا لله؛ فهناك يكون التوحيد الخالص، ويتوارى كلُّ ظلٍّ لكل أحدٍ ولكل قيمةٍ ولكلّ اعتبار، وينفرد الجوّ، ويتمحّض للعبوديّة الخالصة لله، ودعاء غير الله قد يكون بعبادة غيره، وقد يكون بالالتجاء إلى سواه، وقد يكون باستحضار القلب لأحدٍ غير الله".[15]
ولا ريب أن بيوت الله تعالى تشتمل على أعظم معاني الأخوة في الله، فقد جمع الله قلوبهم على محبة بيوته وجعل قلوبهم تهوي إليها آناء الليل وأطراف النهار (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله)[16]
وإن نسيت لا أنسى موقفاً دمعت فيه العيون لأحد المؤذنين وهو يغادر الخرطوم إلى قرية نائية؛ فطفق يودع المصلين ودموعه تسيل على خديه وهو يترك بيتاً من بيوت الله قد تعلق به قلبه ، وأفنى فيه عمره ، وعرف فيه رجالاً صالحين ؛ فسبحان من ألف بين قلوب أهل المساجد على هذا الدين ( لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم )
القاعدة السادسة: نشر العقيدة السليمة وتصحيح ما يعتريها من الخلل
وذلك لأنّ العقيدة الصحيحة أساسُ هذا الدّين؛ فإذا فسدت العقيدة ضاع العمل كلّه، كما قال تعالى:(أفمن أسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانٍ خيرٌ أمّن أسّس بنيانه على شفا جُرُفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنّم).[17] ورحم الله صاحب الظلال فقد أدرك هذا المعنى، وعبّر عنه بأحسن عبارةٍ في قوله:"إنّ العبادة تعبيرٌ عن العقيدة؛ فإذا لم تصحّ العقيدة لم تصحّ العبادة. وأداء الشعائر وعمارة المساجد ليست بشيء ما لم تعمر القلوب بالاعتقاد الإيماني الصحيح، والعمل الواقع الصريح، وبالتجرّد لله في العلم والعبادة على السواء؛ (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله)! والنص على خشية الله وحده دون سواه بعد شرطي الإيمان الباطن والعمل الظاهر لا يجيء نافلةً؛ فلا بد من التجرّد لله، ولا بد من التخلّص من كلّ ظلٍّ للشرك في الشعور أو السلوك".[18]
القاعدة السابعة لعمارة المساجد: التربية على الزهد في الدنيا والتعلّق بالمساجد
وقد نصّ المفسِّرون على هذا المعنى، كما ذكر القرطبي رحمه الله أنّ قوله تعالى:(لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله) ثناءٌ على من لم تشغلهم التجارة والبيع عن الصلاة، وقال:"خصّ التجارةَ بالذكر؛ لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة".[19] وقال ابن كثير:"قوله تعالى:(رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله) كقوله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا لا تُلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله)الآية، وقوله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع)الآية، يقول تعالى: لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربّهم الذي هو خالقهم ورازقهم، والذين يعلمون أنّ الذي عنده هو خيرٌ لهم وأنفع مما في أيديهم؛ لأنّ ما عندهم ينفد، وما عند الله باقٍ".[20]
وقد عرفتُ رجلا من الصالحين أقعده المرض عن المسجد أسبوعين؛ حتى إنه ما كان يقدر على حضور الجمعة؛ فعدته في مرضه، فقال: والله إنّ غيابي عن المسجد شديدٌ على نفسي؛ حتى إنه أشدّ على قلبي مما أجده من آلام المرض؛ فقلتُ: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ورجلٌ قلبه معلّقٌ بالمساجد)!
القاعدة الثامنة لعمارة المساجد: كثرة الذّكر والتسبيح
ولله درّ الحافظ ابن كثير، فقد قال في تفسير قول الله تبارك وتعالى:(يسبّح له فيها بالغدوّ والآصال رجالٌ لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله)[21]:"قوله تعالى(رجالٌ) فيه إشعارٌ بهِمَمِهم السّامية، ونيّاتِهم وعزائمِهم العالية؛ التي بها صاروا عُمّاراً للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه ومواطن عبادته وشكره وتوحيده وتنزيهه، كما قال تعالى:(من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه)[22]الآية ".[23] ولا يخفى على القاريء اللبيب اللفتة البارعة في كلام ابن كثير إلى العلاقة ما بين الرجال الذين (لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيع عن ذكر الله...)، والرجال الذين (صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبَه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا)! وهو ما يتعلّق بالقاعدة الآتية.
القاعدة التاسعة للعمارة: نشر العلم النافع والعمل الصالح، والجهاد في سبيل الله(/2)
ويشهد لهذا المعنى دلالةُ السياق[24] الذي ورد فيه قول الله تعالى:(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكَر فيها اسمُ الله كثيرا) من التوسّط بين:(أُذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا وإنّ الله على نصرهم لقدير)، وبين:(الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتَوُا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبةُ الأمور)؛ ولعلّ خطورة هذه الوظيفة التربويّة هي التي تدفع الظالمين إلى تحيّن الذرائع وانتظار خطأِ الدعاة إلى الله ليهبّوا إلى هدّ الصوامع وهدم الجوامع؛ فإنّ هذا الخُلق السيّء لم يزل شائعاً في واقع المسلمين الذين لبّس عليهم شياطين الإنس والجن فابتكروا:(خطط تجفيف منابع التديُّن) في تركيا وتونس وغيرهما...وليت شعري أيّ خرابٍ للمساجد وأيّ هدم للصوامع أكبر من منع مدارسة الكتاب والسنة فيهما؟! (ومن أظلم ممّن منع مساجد الله أن يُذكَر فيها اسمُه وسعى في خرابها)![25] ولله درّ الشيخ السعدي رحمه الله حيث قال:"(خرابها) الحسّي والمعنوي؛ فالخراب الحسّي: هدمُها وتخريبُها وتقذيرُها، والخرابُ المعنويّ: منعُ الذّاكرين لاسم الله فيها، وهذا عامٌّ لكلّ من لتّصف بهذه الصفة"![26]
القاعدة العاشرة: إحياء الوظيفة التربويّة للمسجد؛ بعيداً عن الزخارف
فإنّ الرجل الذي تعلّق قلبُه بالمساجد في حديث الصحيحين ـ حتى صار من السبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه ـ قد دعاه إلى المسجد داعي الإيمان؛ ومن هنا فإنّ الإسراف في الزخارف شأن الجهلة الذين تُعميهم الظواهر عن الجواهر، وكم من الناس يُضيعون وظيفة المسجد باستعانتهم في بناء المسجد بأصحاب الشبهة الذين يحولون بعد ذلك دون أداء المسجد رسالته العلميّة والتربويّة؛ وتأمَّلْ كيف قال الملأ من قوم جريج ـ في الصحيح ـ بعد أن هدموا صومعتَه:(نبني صومعتك من ذهب)؟! وأما تحمُّل أعباء الدين والقيام بحق الرسالة فإلى(جريج) وحده! ولهذا نسبوا الصومعة إلى جريج (صومعتك)؛ وأما البناء ودفع الذهب فنسبوه لأنفسهم. فهذا داء بني إسرائيل نسأل الله أن يكفي المسلمين شرَّه؛ حتى لا يتسرّب إلى أمتنا؛ فيصير بناء المساجد مُغنياً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!
ولله درّ من قال:
----------
[1] رواه البخاري في كتاب المناقب[فتح الباري لابن حجر6/602. مكتبة الغزالي دمشق].
[2] النور36-38.
[3] البقرة 127.
[4] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي12/266.
[5] البقرة 125.
[6] تفسير القرآن العظيم 1/288.
[7] التوبة 17.
[8] التوبة 107-108.
[9] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان للشيخ عبد الرحمن السعدي ص 352. مؤسسة الرسالة. ط1-1420هـ.
[10] راجع (قرى الضيافة على حديث لم يتكلّم في المهد إلا ثلاثة) في موقع المشكاة www.meshkat.net
[11] الجنّ 18.
[12] التوبة 108-109.
[13] التوبة 18.
[14] الجامع لأحكام القرآن 2/90.
[15] في ظلال القرآن لسيّد قطب 29/3735. دار الشروق. الطبعة الشرعيّة الثلاثون. 1422هـ.
[16] النور 36-37 .
[17] التوبة 109.
[18] في ظلال القرآن لسيد قطب 10/1614.
[19] الجامع لأحكام القرآن12/279.
[20] تفسير القرآن العظيم 3/191.
[21] النور 36-37.
[22] الأحزاب 23.
[23] تفسير القرآن العظيم لابن كثير3/390. جمعيّة إحياء التراث الإسلامي. ط 5- 1420.
[24] في سورة الحج الآيات 39-41.
[25] سورة البقرة 114.
[26] تيسير الكريم الرحمن 1/61.
[27] تذكير الساجد بجملة من أحكام المساجد للشيخ جمال الطاهر ص 13.(/3)
القول الأسنى في نظم الأسماء الحسنى ...
هذه قصيدة جُمعت فيها أسماء الله الحسنى، وهي للشيخ حسين بن علي بن محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ وهي مطبوعة في عام 1375 هـ في كتاب بعنوان القول الأسنى في نظم الأسماء الحسنى، ومما اخترناه من أبياتها ما يلي:
هذه قصيدة جُمعت فيها أسماء الله الحسنى، وهي للشيخ حسين بن علي بن محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ وهي مطبوعة في عام 1375 هـ في كتاب بعنوان القول الأسنى في نظم الأسماء الحسنى، ومما اخترناه من أبياتها ما يلي:
جميع الثنا والحمد بالشكر أكملُ
وأشكره شكراً كثيراً لأنه
له الحمد أعلى الحمد والشكر والثنا
له الحمد حمداً طيباً ومباركاً
إلى الله أُهدي الحمد والشكر والثنا
وأشهد أن الله لا رب غيره
عفوٌّ يحب العفو من كل خلقه
إذا سُئل الخيرات أعطى جزيلها
تبارك فهو الله جل جلاله
يسحُّ من الخيرات سحّا على الورى
تجلُّ عن الأوصاف عزّة ذاته
إذا أكثر المُثني عليه من الثنا
وفي اسمه [الخلاق] لم يخلق الورى
وفي اسمه [الباري] برى كل خلقه
[عليم] فلا يخفى عليه من الورى
[حسيب] فيُحصي كل شيء وفي الذي
[خبير] فيقضي ما يشاء وكل ما
[لطيف] بألطاف كثير وبعضها
[سميع] فلا صوت خفيٌّ يفوته
[بَرٌ] يحب البر يرفعُ أهله
[حكيم] فيقتضي ما يشاء بحكمه
[كبير]، جليل، واحد، واجد له
تبارك لا يُحصى على ذاته الثنا
إذا كان شكر العبد نًعماه نعمةً
فسبحان من كُلُّ الورى سجدوا له
قضى الله أن لا يعبد الخلقُ غيره
[عليم] بأحوال الورى وبما جرى
[لطيف] فلا يخفى عليه الورى
[حفيظ] فيُحصي كلَّ شيء وعلمه
له تُرفع الأعمال في كل لحظة
عليه اعتمادي واتّكالي ورغبتي
تعالى فأخلاق البريا بما قضى
إلهي لك الفضل الذي عم الورى
وغيرك لو يملك خزائنك التي
وإني بك اللهم ربي لواثقٌ
أعوذ بك اللهم من سوء صُنعنا
إلهي فثبتني على دينك الذي
وهب لي من الفردوس قصراً مُشيّداً
ولله حمد دائمٌ بدوامه
مدادُ كلام الله عدة خلقه
يزيد على وزن الخلائق كلها ... ولله مجموع الثلاثة أجعلُ
مقرّ الثنا أهلٌ له متأهّل
أعزُّ وأزكى ما يكون وأفضل
كثيرٌ فضيل حاصلٌ متحصِّل
له الحمد مولانا عليه المُعوّل
كريم رحيم يُرتجى ويُؤمّل
عن الجود والإحسان لا يتحول
ويرفع مكروه البلا ويُزوِّل
جواد كريم كامل لا يُمثّل
فيُغني ويقني دائماً ويُحوّل
أعز من الأوصاف أعلى وأكمل
فذو العرش أعلا في الجلال وأجمل
سواه [جواد] دائم ليس يغفل
وألطافه تترى دواماً وتنزل
ولو غاب في شبرٍ من الأرض خردل
جرى بيننا يوم القيامة يفصل
قضاه مضى حتماً ولا يتفتل
يُرى ظاهراً بين الورى يتخلل
وإن دق جداً واختفى ليس يشكل
على الناس في يوم الجزاء يُفضّل
[حليم] فلا يخشى فواتاً فيعجل
من الجود والإحسان ما ليس يُجهل
ولو بالثنا كًلُّ الخلائق أجملوا
فأين يطاقُ الشكر؟ من أين يحصُل؟
إذا سبَّحوا أو كبروه وهلّلوا
وأن لا به شيء ـ وإن جلَّ ـ يُعدلُ
وما ليس يجري لو جرى كيف يحصل
خفيٌّ ولا ينسى ولا الرب يذهل
على المختفي أين اختفى؟ يتغلغل
بأيدي كرام كاتبين وتُحملُ
وإصلاح شأني مُجملٌ ومُفصّل
وقدّره من أي شكل تشكّلوا
وجوداً على كل الخليقة مُسبَل
تزيد مع الإنفاق لا بُد يبخل
ومالي بباب غير بابك مدخل
ومن أن تكون نعماك عنّا تحوّل
رضيت به ديناً وإياه تقبلُ
ومنَّ بخيراتٍ بها أتعجل
مدى الدهر لا يفنى ولا الحمدُ يكمل
رضى نفسه ينمو ويسمو ويفضل
وأرجح من وزن الجميع وأثقل(/1)
القول الفصل فيما ليس له أصل
www.ahlussunah.org
مقدّمة
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى لا سيما نبينا المصطفى وعلى ءاله وصحبه أولي الصدق والوفا.
أما بعد
يقول الله تعالى :{ولا تقولوا لمَا تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب}.
عملاً بهذه الآية الكريمة أحببنا أن نسدي نصيحة للإخوة للحذر مما لا أصل له من الأحكام التي تنسب إلى الدين.
الفهرس
الحلقة الأولى: في بعض مسائل الدّين
الحلقة الثانية: في مسائل الاستغفار
الحلقة الثالثة: في مسائل الهجرة
الحلقة الرابعة: في مسائل الحدث الأكبر والاغتسال
الحلقة الخامسة: فيما يتعلق بالقرءان الكريم
الحلقة السادسة: أقوال شائعة على ألسنة بعض الناس
الحلقة السابعة: في أحكام الجنب والاغتسال
الحلقة الثامنة: في الإسراء والمعراج
الحلقة التاسعة: في بعض مسائل الدين
الحلقة العاشرة: في بعض ما يُنسب للصلاة
الحلقة الحادية عشرة: في بعض ما يُنسب للصلاة (2)
الحلقة الثانية عشرة: في بعض ما يُنسب للصلاة (3)
القول الفصل فيما ليس له أصل
في بعض مسائل الدين
الحلقة الأولى:
مما لا أصل له وهو شائع جدًّا قولهم:
الزواج بين العيدين حرام، أو قولهم مكروه، فكل ذلك لا أصل له في شرع الله تعالى. ومن قال بشىء من ذلك ففيه تكذيب للشرع وذلك لما روى الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال وبَنَى بي في شوال، فأيّ نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحظى عنده مني، وكانت عائشة تستحب أن تُدخل نساءها في شوال".
قوله تُدخل هي من دخول الزوج على زوجته أي ليلة الزفاف ويسميها أهل العصر "ليلة الدخلة".
وقال ابن كثير في السيرة:
فعلى هذا يكون دخوله بها عليه السلام بعد الهجرة بسبعة أشهر أو ثمانية أشهر.
وقد حكى القولين ابن جرير وقال وإن دخوله بها كان بالسُّنْحِ (موضع بالمدينة المنورة) نهارًا وهذا خلاف ما يعتاده الناس اليوم.
وفي دخوله عليه السلام بها في شوال ردٌّ لما يتوهمه بعض الناس من كراهية الدخول بين العيدين خشية المفارقة بين الزوجين وهذا ليس بشىء، قالته عائشة رادّة على من توهمه من الناس في ذلك الوقت "تزوجني في شوال وبنى بي في شوال ـ أي دخل بي في شوال ـ فأي نسائه كان أحظى عنده مني".
فدل هذا على أنها فهمت منه عليه السلام أنها أحبُّ نسائه إليه. وهذا الفهم منها صحيح لما دل على ذلك من الدلائل الواضحة، ولو لم يكن إلا الحديث الثابت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص: قلت: يا رسول الله أي الناس أحبُّ إليك قال: "عائشة" قلت: من الرجال قال: "أبوها".
ومما يدل على جواز النكاح في شوال:
قال عمر بن أبي سلمة وأمه أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: واعتدّت أمي حتى خَلَت أربعة أشهر وعشر ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها في ليالٍ بقين من شوال فكانت أمي تقول: ما بأس بالنكاح في شوال والدخول فيه، قد تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر شوال وبنى فيه.
• ... ومما لا أصل له ترك الناس أوانيهم غير مغطاة في الليل.
والصواب هو يسَنَّ تغطية الأواني بأغطية أو قلبها على أفواهها حتى لا تترك مفتوحة أو يوضع على فم الإناء عود وذلك يكفي، لأنه ينزل في ليلة من ليالي السنة بلاء فإذا غُطيَ الإناء أو قُلِب على فمه، أو وضع على فمه عود فإن ذلك يمنع من نزول البلاء على الإناء.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمّروا الآنية" رواه البخاري.
ومعنى خمّروا: أي ضعوا على فم الآنية خُمرة وهي القطعة من القماش.
وروى البخاري أيضًا من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطفئوا المصابيح بالليل إذا رقدتم، وأغلقوا الأبواب، وأوكئوا الأسقية، وخمروا الطعام والشراب".
قال هُمام: وأحسبه قال ولو بعود يَعْرضُهُ.
وهمام: هو أحد رواة الحديث.
وقوله وأوكئوا الأسقية:
الأسقية: جمع سِقاء وهو كيس من جلد كان يوضع فيه الماء والزيت والعسل ونحوه، والمعنى اربطوا أفواه الأسقية.
هذا وقد ذكر النصارى القدماء أن الليلة الذي ينزل فيها البلاء في الشتاء في شهر كانون. ولا يمنع شرعًا أن يحتاط الشخص لهذا الأمر في شهري كانون من الشتاء.
القول الفصل فيما ليس له أصل
في مسائل الاستغفار
الحلقة الثانية:
* لا أصلَ لما ورد في مجلة "الأمان" اللبنانية التابعة لما يسمى الجماعة الإسلامية في لبنان من أنّه لا يجوز قول: أستغفر الله، وقد ورد ذلكَ في العدد 7 السنة الثانية الصادر بتاريخ 22 رجب 1400هـ.
الرد: اعلم أن التوبة إلى الله تعالى فرض على كل مذنبٍ من كل صغيرة أو كبيرة على الفور. والتوبة هي الندمُ أسفًا على الوقوعِ في محرم حرَّمه الله تعالى والإقلاع عن الذنب في الحال والعزم على أن لا يعود العبد إلى هذا الذنب إن لم يكن في المعصية حق متعلق لآدمي، وإلا لا بدّ من القضاء أو الاسترضاء. ولا يشترط الاستغفار اللسانيّ أي قول: أستغفر الله.(/1)
والاستغفار باب واسع لتكفير الذنوب وأمر حضَّ اللهُ تعالى عليه في القرءان الكريم. والاستغفار معناهُ طلب المغفرة، والمغفرة هي الوقاية مما توعد اللهُ عبده المذنب من عذاب وكذلك طلب سترها في الآخرة.
وقد كثر في القرءان ذكر الاستغفار، فتارة يأمر به كقوله تعالى :{واستغفروا اللهَ إن اللهَ غفور رحيم} (سورة المزمل/20) وقال تعالى :{واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه} (سورة هود/90) وتارة يمدحُ اللهُ عبادَه المستغفرين كقوله :{والمستغفرين بالأسحار} (سورة ءال عمران/17) وقوله تعالى :{ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا} (سورة النساء/110).
وقول المؤمن: أستغفر الله، معناهُ أطلبُ مغفرة الله، ولفظ "أستغفر الله" يصلح أن يكون خبرًا لما يفعله الإنسان من طلب الغفران ويصلح إنشاء على معنى السؤال كما أورد ابن منظور في كتاب "لسان العرب" في مادة (غفر) أن سيبويه أنشد:
أستغفرُ اللهَ ذنبًا لست محصيه * رب العباد إليه القول والعمل
وقد جاء في القرءان في قوله تعالى :{ولو أنَّهم إذ ظلموا أنفسَهم جاءوكَ فاستغفروا اللهَ واستغفر لهم الرسول لوجدوا اللهَ توابًا رحيمًا} (سورة النساء/64) فلا فرق في اللفظ بين (أستغفر الله) أو قول القائل (غفرانك) أو (رب اغفر لي) أو (ربنا اغفر لنا).
وروى البيهقيّ والحاكم عن ابن مسعودٍ رضي اللهُ عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"مَن قال أستغفرُ اللهَ الذي إلهَ إلاّ هو الحيّ القيوم وأتوب إليهِ ثلاثًا غفرت ذنوبه وإن كان فارًّا من الزحف" أي فرّ هاربًا من القتالِ لغير عذرٍ وهو من الكبائر. وروى النسائيّ عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إنّي لأستغفرُ اللهَ عز وجلَّ وأتوبُ إليهِ في اليومِ مائة مرة" وروى أبو داود والترمذيّ وغيرهما عن ابن عمرَ رضي اللهُ عنهما قال: كنا لنعدّ لرسول اللهِ صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول :"ربّ اغفر لي وارحمني وتب عليّ إنَّك أنت التوابُ الرحيم" بقدر مائة مرة.
والمسلمونَ اعتادوا وتعلموا من السنّة أن يقولوا: أستغفرُ اللهَ، عقبَ الصلوات، وفي الليل والنهار وتناقلوا هذا اللفظ جيلاً بعد جيل، إلا أنّه في عصرنا هذا كتب بعض الكتاب في مجلة يسمونها "الأمان" لا يأمن قارئها أن يسلمَ في دينِه إلا من رحم اللهُ، يقول هذا المدّعي فيها :"من يقول: أستغفر الله ويريدُ بذلك الدعاء فقط أخطأ الاستغفار" وهاك عبارته بالنصّ :"إنّ صيغةَ الاستغفار التي يمارسها الناسُ والمسلمون على وجه الخصوص بقولهم أستغفر الله هذه الصيغة لا تعني الاستغفار بحال" ثم يزعم قائلاً:"لا تصحّ صيغة الاستغفار إلا قول: رب اغفر لي، أو ربنا اغفر لنا أو غفرانك" ويقول هذا المدعي:"كل ما عدا هذه الصيغ فهو كلام أقلّ ما يقال فيهِ إنّه المكاء والتصدية. وما استعمال صيغة أستغفر الله إلا دليل جهل من قبل المستغفر لا أصل له في القرءانِ والسنة" انتهى كلامه من مجلة "الأمان".
وإنا نعوذُ باللهِ من إنسانٍ جعل قول "أستغفر الله" أشبه بالمكاء والتصدية الذي كان المشركون يفعلونه بالجاهلية من التصفيق والتصفير ليشوشوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء صلاتِه في البيت، فأي كان هذا الذي يجعل الاستغفار من المسلم كفعل الجاهلي الكافر!!!
وكم هي كثيرة ألفاظ الاستغفار في كتب الحديث ولو بسطنا القول في ذلك لما وسع المقال، ويكفيك دليلاً ما ذكره النووي في "الأذكار" أنه يستحبّ عند الاستسقاء أن يقال: اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، وروى مسلم أن الأوزاعي رضي الله عنه سئل كيف الاستغفار قال: نقول أستغفر الله أستغفر الله. وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن مسعود قال: علمنا رسول الله خطبة الحاجة وفيها: الحمد لله نستعينه ونستغفره.. الحديث، وفي الحديث الذي نص الحافظ ابن حجر رحمه الله في أماليه على صحته عن عبد الله بن عمر قال: "كنا نعد لرسول الله في المجلس الواحد مائة مرة أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه"، فيكفي هذا وما سبق حتى يرجع حزب الإخوان عن تشبيه المستغفر بالجاهلي المكاء المصفق، وليستحوا من الله.
* لا أصل لما يقال إن الأمم السابقة كانت تدخل في الإسلام بقول أستغفر الله.
الرد: أولاً معنى الاستغفار هو طلب المغفرة من الله والهمزة والسين والتاء تسمى في اللغة أحرف الطلب، فقول الله تعالى في سورة نوح حكاية عن نبيّ الله نوح عليه السلام {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارًا} المعنى اطلبوا المغفرة من الله بدخولكم الإسلام وليس بمجرد قولكم أستغفروا الله وكذلك الآية حكاية عن سيدنا عيسى عليه السلام {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} الآية [سورة المائدة/118]. أي وإن تغفر لهم بدخولهم في الإسلام.(/2)
إذن فهذا دعاء بالمغفرة للكافر على معنى الدعاء له بالمغفرة بدخوله في الإسلام وهذا كان في شرع من قبلنا ثم نُسخ هذا، ولا يجوز في شرع محمد عليه الصلاة والسلام أن تدعو لكافر بالمغفرة على معنى أن يدخل بالإسلام، ولكن من قال ذلك من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى لا يكفر.
والمعنى الثاني للاستغفار: هو أن يطلب المؤمن من الله المغفرة بقول أستغفر الله أو ربِ اغفر لي أو نحوها لما ورد ذلك بالنصوص والآثار.
* لا أصل لقول بعضهم: لا يجوز أن يقول شخص لآخر اغفر لي بمعنى سامحني.
الرد: يجوز أن يقول شخص لآخر اغفر لي على معنى سامحني مما قد أسأت لك، يريد أن يتحلل من تَبِعَة له عليه.
والدليل على ذلك قوله تعالى {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} (سورة التغابن/14) وقوله تعالى {ولمن صبرَ وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} (سورة الشورى/43).
وقوله تعالى: {قل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} (سورة الجاثية/14) أما المحظور هو أن يطلب شخص من ءاخر أن يغفر له ذنوبه كالكفر أو ما دونه من كبائر الذنوب وصغائرها كأن يطلب مريد من شيخه ذلك فهذا الطلب كفر والعياذ بالله، وقوله غفرت لك ذلك كفر أيضًا وذلك تكذيب لقوله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} (سورة ءال عمران/135).
* لا أصل لما يقوله البعض سامحني من غير تبِعَة له عليه، ثم يقول له ذاك سامحتك.
الرد: لا يجوزُ لشخص أن يستسمح شخصًا ءاخر إلا إذا كان له عليه تبعة من التبعات كأن ضربَه أو سبّه بغير حقّ فعند ذلكَ يجوزُ أن يقول له سامحني، أما أن يقول له سامحني من غير ذنب ثم يقول له ذاك سامحتك من غير ذنب وهما يعلمان ذلك فهذا لا معنى له، بل هو تلاعب بالشرع والعياذ بالله، كذلك الذي ينوي رفع الجنابةِ وهو يعلم من نفسه أنه ليس بجنب.
* لا أصل لما يقال إن الصبي (أي غير البالغ) لا يجوز له أن يقول أستغفر الله.
الرد: يجوزُ للصبيّ أن يقول أستغفر الله. فالمعنى هو طلب محو أثر القبيح وذلك كأن يفعل الصبي أمرًا قبيحًا كظلمِ ءاخر ونحوه، وإنما يترتب على ذلك أي على قول أستغفر الله أنه قد يرفع عنه بلاء بذلك.
* لا أصل لما يفعله خلق كثير في هذا العصر ممن يزعمون أنهم على الإسلام من أن أحدهم إذا وقع بكفر كسب الله تراه إذا ندم يبادر إلى قول أستغفر الله ليخلص مما وقع فيه على زعمه.
الرد: اعلم أن ما يفعله كثير من الجهلة من أنهم يبادرونَ إلى قول أستغفر الله بعد الكفر فهذا لا يزيدهم إلا إثمًا لأن اللهَ قال :{إنَّ اللهَ لا يغفرُ أن يشركَ بهِ ويغفر ما دونَ ذلك لمن يشاء} فهذا الذي يقول "أستغفر الله" بعد التلفظ بالكفر كأنه يقول يا رب اغفر لي وأنا على الكفر وهذا تكذيب للقرءان بل عليه أن يبادر إلى الشهادتين بعد أن يتبرأ من الكفر الذي وقع به أو يتشهد بنية الخلاص منه أو بنية الدخول في الإسلام.
ولقوله صلى الله عليه وسلم :"أُمرت أن أقاتلَ الناسَ حتى يشهدوا أنْ لا إلهَ إلا الله وأنّي رسول الله"، هذا وقد نقل ابن المنذر وغيرُه الإجماع على أن الدخول بالإسلام لا يكونُ إلا بالشهادتينِ أو ما في معناهما. نقل ذلكَ ابن المنذر في كتاب "الإجماع" وكتب المذاهب الأربعة طافحة بهذا.
* ومما لا أصل له قول عمرو خالد "من قال أستغفر الله مرة واحدة لا ينتفع".
الرد: قال عمرو خالد في كتابه المسمى "عبادات المؤمن" صحيفة 174: وذلك تحت عنوان عبادة الذكر شرطها الإكثار:"ولكن هذه العبادة لها شرط واحد وهو الإكثار إذ لا ينفع معها القليل" انتهى. ثم يقول عمرو صحيفة 175 :"ولذا لا ينفع أن نقول مرة واحدة مثلاً أستغفر الله" انتهى.
سنترك الآن عمرو خالد يرد على عمرو خالد! فقد ذكر في الكتاب نفسه صحيفة 182 :"وروي في الأثر أن سيدنا سليمان عليه السلام مرّ بموكبه وجنوده ورجاله ذات يوم على فلاح بسيط يحرث في أرضه فقال ذلك الفلاح: لقد صار ملك ءال داود عظيمًا فنظر إليه سيدنا سليمان عليه السلام وقال: واللهِ لَتسبيحة في صحيفة المؤمن خير مما أعطي سليمان وأهله فإنّ ما أعطي سليمان يزول والتسبيحة تبقى" انتهى. فكيف تزعم أنه لا ينفع، ألا تتقي الله في نفسك وفي المسلمين. ألم تسمع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "سبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض" ثم يقول :"وفي كل تسبيحة صدقة وفي كل تحميدة صدقة وفي كل تهليلة صدقة".
قوله "في كل تسبيحة": أي في قول سبحان الله مرة واحدة.
وقوله "تحميدة": أي قول الحمد لله مرة واحدة وكذلك التهليلة: أي قول لا إله إلا الله مرة واحدة، فالرسول يقول له في كل واحدة صدقة بينما عمرو خالد قال لا ينفع!
هل الرسول صلى الله عليه وسلم اشترط ما اشترطتَ من أنّه لا بدّ من الإكثار كما زعمت هذا؟ وكتب الأذكارِ طافحة بالأحاديث التي تثبت أنّ الذِكْر ولو مرة واحدة فيه نفع عظيم، فراجع يا عمرو وتدبر ولا تدع الشيطان يتخذك وليًّا له.(/3)
ألم تتدبر يا عمرو في قوله صلى الله عليه وسلم :"وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض" ثم تقول لا ينفع، نعوذ بالله من الجهل.
يا عمرو إن الآية :{يا أيها الذين ءامنوا اذكروا اللهَ ذكرًا كثيرًا} معناها إرشاد إلى الأحسنِ والله يرشدنا إلى الأحسن وهذا الأمر (بكثرة الذكر) إنما هو على سبيل الاستحباب وليس على سبيل الوجوب، وإنما أشكل عليك هذا لأنك ما تعلمتَ علم أصول الفقه ولو تعلمت ذلكَ لما قلتَ ما قلتَ لأن الأمر إنما يكون على سبيل الوجوب تارة وعلى سبيل الاستحباب تارة أخرى، والمثال على الاستحباب قول النبي صلى الله عليه وسلم :"لا تصاحبْ إلا مؤمنًا ولا يأكلْ طعامكَ إلاّ تقي" فشرعًا يجوزُ للمسلم أن يطعم غير المؤمن قال تعالى :{ويطعمونَ الطعامَ على حُبّه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا} والأسيرُ هو الكافر بإجماع المفسرين. ويجوز أن يصاحب غير التقيّ.
ونختم بردٍ من عمرو خالد حيث قال في كتابه المسمى "عبادات المؤمن" صحيفة 184: يقول النبي صلى الله عليه وسلم :"كلمتانِ خفيفتانِ على اللسانِ ثقيلتان في الميزانِ حبيبتان إلى الرحمنِ: سبحان الله وبحمدِه سبحان اللهِ العظيم" انتهى. رواه البخاريّ ومسلم فكيف لك أن تقول بعد ذلك إن الذكر القليل لا ينفع يا عمرو!
ثم إن عمرو يذكر في كتابه نفسه فيقول في الصحيفة 190 "دعاء مباشرة الزوجة: اللهمّ جنّبنا الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنا فمن قال ذلك (وقضى الله له ولزوجته بولد) لم يضره الشيطان أبدًا" انتهى.
ثم علق عمرو خالد على الحديث قائلاً :"سبحان الله (ذكر واحد) يقي الولد الشيطانَ" انتهى. وهنا نسأل عمرو خالد كيف حصل النفع بذكر واحد فقط وليس بالكثير كما ذكرت. وءاخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
القول الفصل فيما ليس له أصل
في مسائل الهجرة المباركة
الحلقة الثالثة:
* الهجرة النبوية الشريفة: لا أصل لما يروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وهما في الغار: لو جاءونا من ها هنا لذهبنا من هنا، فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر وإذا البحر قد اتصل به وسفينة مشدودة إلى جانبه.
قال شيخنا المحدث الإمام عبد الله الهرري هذا كذب وافتراء. وقال ابن كثير في السيرة لم يرد ذلك بإسناد قوي ولا ضعيف، ولسنا نثبت شيئًا من تلقاء أنفسنا ولكن ما صح أو حسُن سنده قلنا به والله أعلم.
* لا أصل لما يعتقد البعض أن الرسول صلى الله عليه وسلم هاجر في شهر محرم.
لقد هاجر صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول، وإنما يبدأ العام الهجري بمحرم وذلك لرأي رءاه بعض الصحابة ولعله لأن شهر محرم أحد الأشهر الحرُم، والمحرم أقرب إلى شهر ربيع. وإنما الحكمة من التأريخ بالهجرة وليس بميلاده صلى الله عليه وسلم لأن الهجرة كانت سبب ظهور الإسلام وانتشاره، لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة كان الكفار يؤذونه أما بعد الهجرة قويَ الإسلام صار الناس يأتون من الخارج إليه فيُسلِمون، أهل المدينة قبل أن يذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم كانوا اجتمعوا به قبل الهجرة فأسلموا فصاروا أيضًا عونًا له فلما جاء ساعدوه وناصروه وأعانوه على نشر الإسلام.
ولا بأس أن يقال في حكمة التأريخ بالهجرة وليس بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم: إن الهجرة ميلاد أمة أما ميلاد النبي فهو ميلاد فرد.
ومن الفوائد في هذا المقام:
أن الرسول صلى الله عليه وسلم هاجر في ربيع الأول يوم الاثنين ونُبّىء يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين. فالإثنانِ يومٌ مبارك.
* لا أصل لما يشاع على بعض الألسنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "هرب إلى المدينة".
فمن كان يفهم منها نسبة الجُبْن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا كفر لأنه نسب للرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يليق له من النعوت وقد جرت بعض الأقلام في نسبة هذا الوصف لسيدنا موسى لما خرج من مصر ولسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة.
أما إن كان لا يفهم منها الجبن أو التنقيص لا يكفر إنما يُعلّم وينهى عنها.
* لا أصل لما يروى أن أبا بكر خلال الهجرة مع الرسول شاهد أحد الكفار يتبول ولفت نظر الرسول إلى أن هذا الكافر لو نظر بين ساقيه كما يفعل من يتبول لرءاهما. وهذه الرواية الكاذبة رواها عمرو خالد في إحدى محاضراته على شاشة التلفزيون.
إنما الرواية المشهورة والصحيحة ما رواه البخاريّ ومسلم في صحيحيهما من حديث همام عن ثابت عن أنس عن أبي بكر رضي الله عنه قال: كنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم فقلت: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رءانا. فقال: اسكت يا أبا بكر اثنان اللهُ ثالثُهما.
وروى أحمد حدثنا عفان أنبأنا ثابت عن أنس بن مالك أن أبا بكر حدثه قال قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنينِ اللهُ ثالثهما.
تنبيه:(/4)
اعلم رحمك الله أنه لا يقال "إن المرأة اختصت بصفات الأنوثة والحنان لما ينتظرها من حمل وولادة وإرضاع". فالصواب أن هذا التعبير خطأ ولا يقال، ومن اعتقد أن الرجال محرومون كلهم من صفات الشفقة والحنان فهو كافر. وقائل هذه العبارة يحكم عليه بحسب فهمه.
ولا يقال أيضًا "فجاء الإسلام وحارب وأدَ البناتِ وتفضيل الذكر على الأنثى". فالصواب أن العبارة الأخيرة باطلة، فإن تفضيل الذكر على الأنثى من حيث الإجمال من شك فيه يكفر، قال تعالى :{الرجال قوّامون على النساء}، وحديث بما معناه "النساء ناقصات عقل ودين". أما من ينكر تفضيل الرجال على النساء في أمر سوَّى الشرع فيه الرجال والنساء لا يكفر. ومن فهم من هذه العبارة أن الشرع يساوي بين الذكر والأنثى على الإطلاق واعتقد ذلك فليتشهد.
* ومما لا أصل له قول المدعو ناصر الدين الألباني إنه يجب على أهل فلسطين الهجرة والخروج منها وعدم بقائهم مع اليهود، وذلك قياسًا بهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وقال: إن هذه هي السنّة.
والصواب: إن هذا الكلام مجرد هراء، لا بل هي فتوى صهيونية. وهو قياس فاسد وقول كاسد. وقد نشرت في جريدة اللواء الأردنية بتاريخ 7/7/1993 صحيفة 16.
وورد ذلك أيضًا في كتاب "فتاوى الألباني" جمع عكاشة عبد المنان ـ طبع مكتبة التراث صحيفة 18.
وموثق هذا الكلام بشريط مسجل بصوته في بيته بتاريخ 22/4/1993. وإليك ما نشرته الصحف بتاريخ 1/9/1993 ونصه:
لماذا قال الألباني كل من بقي قي فلسطين هو كافر، إن قضية فتوى المدعو محمد ناصر الدين الألباني التي قال فيها إن على الفلسطينيين أن يغادروا بلادهم ويخرجوا إلى بلاد أخرى وإن كل من بقي في فلسطين منهم فهو كافر. هذه الفتوى الغريبة العجيبة لا تزال تثير ردود أفعال عديدة ولم يقتصر أثرها على الأردن حيث كان يعيش بل امتد إلى بقية أنحاء العالم العربي وقد تصدى لها عشرات الشخصيات الدينية ورجال الفكر.
وممن رد على هذه الفتوى الدكتور صلاح الخالدي حيث قال: إن الشيخ الألباني في فتواه خالف السنة، وطلب الدكتور الخالدي من أتباع الشيخ ومريديه ألا يسيروا وراءه دون تفكير وعلق الدكتور علي الفقير (وزير أوقاف ونائب أردني سابق) على فتوى الألباني قائلاً:
"إن هذه الفتوى صادرة عن شيطان"، واستغرب الدكتور الفقير أن يطلب من سكان فلسطين ترك وطنهم بحجة أن اليهود يحتلونها. وقال الدكتور علي الفقير: إن منطق الشيخ الألباني يهودي صِرف والنتيجة نفسها وصل إليها مراقبون سياسيون ولم يبرئوا الفتوى من غاية مدسوسة قد يكون الألباني على دراية بها.
وقد تصدت للمسألة قطعًا للجدل هيئة التدريس في كلية الشريعة في الجامعة الأردنية وأصدرت بيانًا نددت فيه بفتوى الألباني وبينت المغالطة التي وقع فيها في فتواه ففلسطين من ديار الإسلام والواجب يقضي بتضافر الجهود لاستعادة الحق السليب لا ترك هذا الحق لمغتصبه.
القول الفصل فيما ليس له أصل
في مسائل الحدَث الأكبر والاغتسال
الحلقة الرابعة:
* مما لا أصل له قولهم إنه إذا أراد شخص الدخول في الإسلام فلا بدّ أن يغتسل قبل ذلك.
الرد: إن هذا القول لا أصل له البتة ومن قاله كفر لأنه يأمر مريد الدخول في الإسلام بالتأخير. بل إنّ على مريد الإسلام أن يتشهد فورًا بذلك يدخل في الإسلام وقد صحّ في الحديث :"أُمرتُ أن أقاتل الناس حتّى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّي رسول الله ..." الحديث.
ثم انعقد الإجماعُ على أن الدخول في الإسلام لا يكونُ إلا بالشهادتين ونقل ذلك ابن المنذر وغيره.
ثم ليعلم أن الاغتسال من الجنابة عبادة والعبادة لا تصحّ من كافر لأن أهم شروط صحّة العبادة الإسلامُ، ثم إن المسلم لو تشهد وهو على حال الجنابة فهو جائز لا خلاف في ذلك لأن التشهد ذكر وللجنب أن يذكر اللهَ بالإجماع.
ثم إن المطلع على السيرة النبوية وغيرها من تاريخنا يعلم أن من أراد الدخول في الإسلام تُطلب منه الشهادتان ولا يطلب منه الاغتسال ابتداءً وما يرويه البعض عن خالد بن الوليد لما أسلم "جرجا" قال له: اذهب فاغتسل ثم تعال أسلم. هذا كذب وافتراء على سيدنا خالد رضي الله عنه.
* ومما لا أصل لهُ قولهم يجوزُ للضيف إذا أجنب أن يصلي من غير اغتسال إذا خشي أن يتهمه صاحب البيت بالزنى بأهله كما قال هذا ابن تيمية الحراني والعياذ بالله.
الرد: إن هذا الكلام هُراء لا أصل له في دين اللهِ تعالى، ومن اعتقد صحة صلاة الجنب من غير طهارة فهو كافر والعياذ بالله، بل يجب على الضيف أن يغتسل من أجل الصلاة في وقتها، وإن استيقظ في الوقت ولم يغتسل بلا عذر وفاتته الصلاة فقد ارتكب كبيرة من الكبائر. وهذا الكلام أي صلاة الضيف بلا اغتسال ذكره ابنُ تيميةَ وهذه من الضلالات التي خرق بها إجماعَ الأمّة.
* ومما لا أصل له قولهم من خرج في جنازة الكافر فيجب عليه الاغتسال.(/5)
الرد: هذا كلام غير صحيح ولا دليل عليه، فمن المعلوم أنه لا يجب على هذا الشخص الاغتسال إنما يجب الاغتسال على الجنب من أجل الصلاة، وكذلك يجب على الحائض والنفساء عند انقطاع الدم أن تغتسلا من أجل الصلاة وكذلك بعد الجماع، في هذه الأحوال يجب الاغتسال كالولادة أما فيما سوى ذلك فهو كلام بلا دليل. وللفائدة يُسنّ لمن غسَّل ميتًا أن يغتسل من غير وجوب عليه ولم يثبت حديث به.
* ومما لا أصل له قولهم إن الجنب نجس، وكذلك قولهم عن الحائض والنفساء، وأنهما إن لامسَتا طعامًا تنجس.
الرد: هذه المقالة الأخيرة (قولهم إن لامستا طعامًا تنجس) هي من عقائد يهود السامرة وهو متداول بين السحريات والعياذ بالله (وهن نساء ينتسبن إلى امراة تدعى سحر حلبي في لبنان تلميذة أميرة جبريل تلميذة منيرة قبيسي)، وهذا الكلام فاسد وبلا دليل وهو قول الجهلة، ومما يردّ به عليهنّ ما ورد في صحيح البخاريّ أن الرسول عليه الصلاةُ والسلامُ لما لقي أبا هريرة وهو جنب في بعض طرق المدينة، فانخنس أبو هريرة فذهب واغتسل ثم جاء فقال: أين كنتَ يا أبا هريرة؟ قال: كنتًُ جنبًا فكرهتُ أن أجالسكَ وأنا على غير طهارة، فقال النبي صلى اللهُ عليه وسلم: "سبحان الله إن المسلمَ لا ينجُس". ولِمَا روى مسلم في صحيحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للسيدة عائشة رضي الله عنها ناوليني الخُمرة (بضم الخاء) وهي قطعة من القماش فقالت له إنني حائض فقال لها: وهل حيضتك بيدك!
وروى البخاريّ أن السيدة عائشةَ رضي اللهُ عنها قالت كنت أرجّل رأس رسول الله عليه الصلاة والسلام وأنا حائض. فلو كانت الحائض تُنَجّس ما تمسه كيف تمس رأسَ رسول الله أفصل خلق الله!
* وكذلك لا أصل لما يقال إن الجنب إذا وضع يده في الماء يتنجس الماء.
* ومما لا أصل له نيّة رفع الجنابة لغير الجنب، وذلك أن البعض إذا أراد غسل النظافة ينوي رفعَ الجنابةِ فهذا تلاعب بالدين والتلاعب بالدين كفر، فنيّة رفع الجنابة للمغتسِل لا تكون إلا للجنب لرفع الحدث، لذا فإن نوى الجنبُ رفعَ الجنابة وعمّم بدنه بالماء فلا يجوزُ له أن يعود وينوي رفع الجنابة لأن ذلك تلاعب بالدين أيضًا فليُحذر.
* ومما لا أصل له قولهم لا يجوزُ دخول الحائض والنفساء على المرأة التي ولدت حديثًا وذلك لئلا ينكبس ولدها أي لئلا يكبُرَ.
الرد: هذا من خرافات العوام التي لا أساس لها ولا دليل عليها.
* ومما لا أصل له قولهم حرام أن تغتسل المرأة وهي عارية.
الرد: هذا كلام لا أصل له ولا دليل عليه.
* ومما لا أصل له قولهم إن فاطمة سميت بـ "الزهراء" لأنها لم تصب بحيض ولا نفاس.
الرد: هذا الكلام لا أصل له بل إنها سُمّيت بهذا الاسم لأنها كانت زهراء أي مشرقة الوجه شديدة الجمال.
* ومما لا أصل له قولهم إن ثياب الجنب نجسة.
الرد: إذا كان الجنب ليس نجسًا فمن باب أولى أن لا تكون ثيابه نجسة طالما أنها لم تتنجس بنجس كالبول ونحوه، وأما المني فليس بنجس عند الشافعية.
* ومما لا أصل له قول بعضهم إنه يجوز للمرأة الحائض والنفساء أن تجلس في المسجد لطلب العلم.
الرد: إن هذه المسئلة مشهورة عن رجب ديب صاحب الضلالات الشهيرة حيث يجيز للنساء الحُيّض دخول المسجد لحضور دروسه وهذا مخالف لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود: قال صلى الله عليه وسلم :"إنّي لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنب" ورجب ديب لا دليل له لا من الكتاب ولا من السنة ولا قول إمام معتبر بل همّه أن يجمع الناس كيفما اتفق والعياذ بالله.
* ومما لا أصل لهُ قولهم إن الجنبَ لا يجوزُ له الصوم ولا الذبح ولا الذكر ولا الخروج ولا العمل. وكذلك قولهم لا يجوز للحائض والنفساء أن تذبح.
* ومما لا أصل له كذلك قولهم إن الجنب إذا خرج من البيت دون اغتسال تلعنه الشمس وتلعنه كل شعرة في جسمه.
الرد: إن الجنابة لا تؤثر على صحة الصوم لما روى البخاري في صحيحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصلي بالناس. وكذلك يجوزُ للجنب وللحائض والنفساء أن يذبحوا لأنه ليس من شروط الذبح الطهارة من الحدث الأكبر أو الأصغر حتى إن البعض يحرّم على المرأة أن تذبحَ ولو كانت طاهرة من الحدثين الأكبر والأصغر، ومن أغرب ما سمعت قول بعضهم إنه يجوز أن تذبح بشرط أن يلامسها ولد ذكر!
وكذلك يجوزُ لهم الذكر والخروج للعمل، وأما قولهم إن الشمس وكل شعرة يخرج من تحتها شيطان يلعن الجنب إذا خرج من بيته من غير اغتسال فهذا هُراء وكلام بلا دليل. فقد ثبت أن حذيفة وأبا هريرة وحنظلة خرجوا وهم مجنبون، ومن قال تلعنه الشمس والشيطان فهذا يكفر، فإن هذا الكلام تكذيب للشرع وتكذيب الشرع كفر والعياذ بالله.(/6)
فقد ثبت في الحديث أن حنظلة ابن الراهب "غسيل الملائكة" ذهب إلى الجهاد في يوم عرسه وهو جنب فاستشهد وهو جنب فغسلته الملائكة بسبب جنابته إكرامًا له فسمي غسيل الملائكة. وكذلك حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهُ استشهد وهو جنب فلو كان الخروج من المنزل حرامًا على الجنب لما خرجا.
وقد روى البخاري وغيره أنا أبا هريرة لقي الرسول صلى الله عليه وسلم في السوق وهو جنب ولم يجالس الرسول صلى الله عليه وسلم ثم ذهب واغتسل وعاد فالرسول صلى الله عليه وسلم علَّمه أن المؤمن لا ينجس، المعنى أنه يجوز له أن يصافح الغير ويجالس الغير ولم يعترض النبي عليه الصلاة والسلام عليه لأنه خرج وهو جنب.
* ومما لا أصل له قولهم لا ترتفع الجنابة إلا أن يتشهد الجنبُ أثناء اغتساله.
الرد: الشهادتان ليستا من شروط صحة الاغتسال بل لا بدّ للجنب أن ينوي رفع الجنابة بقلبه ويعمم جميع ظاهر بدنه بالماء المطهر، ومن السنّة أن يسمي اللهَ قبل الاغتسال. ويصح الاغتسال من غير نية عند الإمام أبي حنيفة.
* ومما لا أصل له قول خالد الجندي وغيره إن المذي يوجب الاغتسال.
الرد: إن المذْي لا يوجب الاغتسال بل هو نجس وهو مادة سائلة تخرج عند ثوران شهوة الرجل أو المرأة قبل نزول المني، والمني يخرج عند أقصى ثوران الشهوة بتدفق، وخروج المني هو الذي يوجب الغسل.
وأما قول خالد الجندي في كتابه المسمى "فتاوى معاصرة" ص 77: "إن ما يخرج من المرأة أثناء المداعبة يوجب عليها الغسل" فهذا باطل لا أساس له.
فوائد وفرائد:
يقال في اللغة "نِفاس" بكسر النون وليس بضمها كما هو شائع.
يُقال "مَذْيٌ" بفتح الميم وتسكين الذال وتخفيف الباء وليس مَذيًّا بكسر الذال وتشديد الياء.
يُقال جُنُب للرجل وللمرأة.
ويقال امرأة حامل وحائض.
ويقال امرأة نُفَسَاء، وليس "نفْسَا" كما تقول العوام.
ويُسمى النفاس حيضًا، قال البخاري في صحيحه باب من سمّى النفاس حيضًا.
والله أعلمُ وأحكم.
القول الفصل فيما ليس له أصل
فيما يتعلق بالقرءان الكريم
الحلقة الخامسة:
* مما لا أصل له قولهم إنّ ثواب قراءة القرءان لا يصل للميت المسلم ولا ينتفع به.
الرد: الرسول صلى الله عليه وسلم قال للسيدة عائشة رضي الله عنها "ذاكِ لو كان وأنا حيّ لاستغفرتُ لكِ ودعوت لك" فهذه الكلمة "ودعوتُ لك" تستعمل للدعاء بأنواعه فدخل في ذلك دعاء الرجل بعد قراءة شىء من القرءان لإيصال الثواب للميت بنحو قول: "اللهم أوصل ثواب ما قرأتُ لفلان".
ومما يشهدُ لنفع الميت بقراءة غيره حديث معقل بن يسار "اقرأوا على موتاكم" رواه أبو داود وحديث "اقرأوا يس على موتاكم" رواه النسائي وابن ماجه وابن حبان وصححه.
قال السيوطي في شرح الصدور: وأما قراءة القرءان على القبر فجزم بمشروعيتها أصحابنا وغيرهم. وقال الشافعيّ عن القراءة على القبرِ لا بأس بها وإن ختموا القرءان على القبر كان أفضل، وقال القرطبيّ: استدل بعضُ علمائنا على قراءة القرءان على القبر بحديث العسيب الرطب الذي شقّه النبيّ باثنين ثم غرس على قبر نصفًا وعلى قبر نصفًا وقال "لعله يخفّف عنهما ما لم ييبسا"، وإذا خفّف عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن للقرءان. قال ابن عمر: سمعت رسول الله يقول:"إذا ماتَ أحدُكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة" ورواه الطبراني كذلك إلا أنه قال: عند رأسه بفاتحة الكتاب والباقي سواء.
* ومما لا أصل له قولهم إنّ من يقرأ القرءان من غير تلقٍ من قارىء ثقة ثم يخطىء بالقراءة فله أجران.
الرد: أما الحديثُ الذي نصه: قال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم :"الماهرُ بالقرءان مع السفرة الكرام البَرَرة، والذي يقرأ القرءان ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران". وفي رواية "والذي يقرؤه وهو يشتد عليه له أجران". رواه البخاريّ ومسلم واللفظ له.(/7)
قال النووي: السفرة جمع سافر ككاتب وكتبة. والسافر: الرسول، والسفرة الرسل لأنهم يسفرون إلى الناس برسالات الله، وقيل السفرة الكتبة البررة المطيعون من البر وهو الطاعة. والماهر الحاذق الكامل الحفظ الذي لا يتوقف ولا يشق عليه القراءة بجودة حفظه وإتقانه، وقال القاضي يحتمل أن يكون معنى كونه مع الملائكة أن له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقًا للملائكةِ السفرة لاتصافه بصفتهم من حمل كتاب الله تعالى. وأما الذي يتتعتع فيه فهو الذي يتردد في تلاوته لضعف حفظه فله أجران. أجر القراءة وأجر بتعتعته في تلاوته ومشقته. وهذا يكون يأخذ القرءان بالتلقي، يتعلمه من قارىء ثقة ليتقن تلاوته ويقرأ قراءة صحيحة، وليس المعنى أن الشخص الذي يقرأ القرءان وحده ويلحن في قراءته بدون أن يتعلم من قارىء ثقة أن له أجرين، إنما من قرأ وحده ولحن عليه معصية. الله تعالى قال :{ورتّلِ القرءان ترتيلاً} وقال سبحانه :{يتلونه حقّ تلاوته}: فمن كان لا يحسن القراءة ويريد الثواب فلينظر إلى المصحف فقد قال ابن مسعود :"أديموا النظر في المصحف" وقال بعض السلف :"النظر في المصحف عبادة" والمعنى إن كان بنية حسنة نظر إليه، للتبرك أو لفهم ما فيه فهذا عبادة.
* لا أصل لما يقال إن القرءان بمعنى كلام الله الذاتي الأزليّ مخلوق.
الرد: فهناك طرفا إفراط وتفريط وطرف وسط، فأحد الطرفين المنحرفين عن الحق نفيُ الكلام عن أن يكون صفةً لله تعالى ذاتية كما نفت المعتزلة سائر الصفات كالعلم والقدرة (وهذا كفر)، يزعمون أنه إذا قيل لله صفات قائمة بذاته أزلية كان ذلك تعديدًا للقدماء. وقالوا: الله يخلق كلامه في الشجرة ثم موسى سمع كلام الله على زعمهم من الشجرة فجعلوا الشجرة على زعمهم أعلى قدرًا من موسى عليه السلام.
والطرف الآخر أثبتوا لله كلامًا من جنس كلام الخلق الذي هو الصوت المشتمل على الحروف وهؤلاء هم المشبهة الذين قاسوا الخالقَ على المخلوق، ورضوا باعتقاد أن كلام الله من جنس كلام المخلوق من كونه حروفًا وأصواتًا وذلك من فساد عقولهم.
وأما الفرقة التي هي الوسط فهم أهل السنة والجماعة قالوا: كلام الله صفة أزلية قائمة بذاته أبدية. ومعنى قائمة بذاته أي ثابتة له، ليس حروفًا وأصواتًا ولا لغة، ومع ذلك أثبتوا اللفظ المنزل وأطلقوا عليه كلام الله لأنه عبارات عن الكلام الأزلي الأبدي القائم بالذات المقدّس. وقد سُجن الإمام أحمد لأنه امتنع عن القول بخلق القرءان. وقد وشى المعتزلة عند الخليفة على الإمام أحمد فسجنه وعذّبه وضربه الجلادون بالسياط. ثم خلصه الله من هذه المحنة. لأن الإمام أحمد لو قال عن اللفظ المنزل مخلوق خشي أن يأتي أجيال فتقول قال الإمام أحمد عن كلام الله الأزلي الأبديّ الذي هو صفة الله مخلوق، من أجل هذا امتنع. قال الإمام أبو حنيفة في الفقه الأبسط :"واللهُ يتكلم لا ككلامنا، نحن نتكلم بالآلات من المخارج والحروف، والله يتكلم بلا ءالة ولا حرف.
* ومما لا أصل له قولهم إن الشافعيّ سئل عن القرءان هل هو مخلوق أم لا فقال وقد أضمر تورية وأشار إلى ثلاثة من أصابعه قائلاً إن القرءان والإنجيل والتوراة هذه الثلاثة (يعني أصابعه تورية) مخلوقة.
الرد: هذا الكلامُ لا يليقُ نسبته إلى الشافعيّ رضي الله عنه، لأنه يوهم الناس بأنه يقول بخلق القرءانِ وهذا ضلال. فالشافعي كالإمام أحمد كان شديدًا في أمر الله ولا يداهن في دين الله.
* ومما لا أصل لهُ قول بعضهم حفظ القرءان صعب.
الرد: الله تعالى قال {ولقد يسرنا القرءان للذّكر فهل من مُدّكر} معنى الآية يَسَّرَهُ للحفظ، وهو تفسير متّفق عليهِ بين السلف والخلف وليس معناه التفسير، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم :"من قال في القرءان بغير علمٍ ألجمه الله بلجامٍ من نارٍ يوم القيامة"، فلو كان يجوز تفسير القرءان لكل شخص لما قال ذلك، وهذا الحديث صحيح كما قال الحافظ ابن حجر رضي الله عنه في "المطالب العالية". بعض المبتدعة احتجّ بهذه الآية أنه يجوز لكل مسلم أن يفسّر القرءان، فسرها بأن القرءان ميسَّر للتفسير بأن بعضه يفسر بعضًا. وتأمل في هذه الأمّة من هو ابن سبع سنين يحفظ القرءان وابن ستّ سنين يحفظ القرءان وابن العشرين والثلاثين وغيرهم من ءالاف المسلمين من يحفظون القرءان عن ظهر قلب.
* لا أصل لقولهم حرام وضع المصحف في السيارة بقصد الحفظ. بل هو جائز ولا غبار عليه ولا عبرة بقول المتنطعين بلا دليل.
* لا أصل لقول بعضهم: حَرامٌ على المرأة أن تقرأ القرءان وهي غير محجبة حتى ولو كانت لوحدها. هذا كلام مردود ومرفوض لأنه لا دليل عليه.
* لا أصل لقول بعضهم حرام ترك المصحف في البيت من غير قراءة.
فهذا الكلام مرفوض ولا دليل عليه.
* لا أصل لقول بعضهم حرام ترك لمصحف وهو مفتوح لئلا يقرأ به الشيطان.
الرد: هذا الكلام من الخرافات المتوارثة.
* لا أصل لما يقال إن نسيان شىءٍ من القرءان من الكبائر.(/8)
الرد: هناك حديث ضعيف وهو مشكل معنًى. قالوا قال الرسول صلى الله عليه وسلم نظرتُ في الذنوب فلم أر أعظم من سورة من القرءان أوتيها رجل فنسيها. إلاّ أن يُحمل على ما جاءَ عن أبي يوسف القاضي من تفسير ذلك بترك العمل به. فعدُّ نسيان القرءان من الكبائر لا يصحّ. ثمّ على زعم من نسي سورة وقعَ في الكبيرة هذا فيه الحرج على الأمة. والله تعالى رفع الحرَج عن الأمة، والله تعالى قال :{وما جعل عليكم في الدّين من حرَج} والرسول صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ هذا الدين يسر".
وقريب من هذا ما ورد في الحديث الضعيف "رُبَّ تالٍ للقرءانِ والقرءانُ يلعنه" و المعنى أنّه يعمل بخلاف القرءان.
* لا أصل لقول بعضهم لا يجوز شراء القرءان وبيعه ويزعمون أن الجائز هو هبته.
الرد: هذا كلام فيه تنطع لأنّه بلا دليل. وشرعًا يجوزُ بيع القرءان وشراؤُه ولا شبهة في ذلك.
* لا أصل لما يفعله كثير من الجهلة وذلك بأنهم يعملون استخارة بالمصحف أو بالمسبحة.
الرد: الاستخارة لا تكونُ إلاّ بالصلاة كما علمنا النبي عليه الصلاة والسلام فمن أراد أن يستخير اللهَ في شىء فعليه بصلاة الاستخارة.
* لا أصل لما يفعله بعض الناس حيث يضعون المصحف مع الميت في قبره.
الرد: هذا غير جائز شرعًا فالمصحف لا يُؤمن عليهِ من التلوث من دم الميت وقيحه وصديده.
* لا أصل لوضع المصحف تحت المخدّة بقصد الحفظ فالمصحف لا يوضع فوقه شىء مثل هذا، وبعض الناس يصل بهم الأمر أي عدم اللامبالاة بأن يضع المفاتيح أو القلم أو التلفون فوق المصحف فهذا لا يجوزُ، والبعض يضع فوقه علبة الدخان فهذا استخفاف به والاستخفاف بالقرءان كفر والعياذ بالله.
* ومما لا أصل له قول بعضهم يجب الإنصات لقراءة القرءان من الإذاعة أو المسجل أو غيرها من الآلات.
الرد: اعلم أن الآية : {وإذا قرىء القرءان فاستمعوا له وأنصتوا} معناها عند الإمام أبي حنيفة أنه يجبُ الاستماع والإنصات للقارىء، وأما الشافعية فيرون أن الأمر في الآية على سبيل الاستحباب ليس على سبيل الوجوب وكل ذلك إذا صدر من قارىء وليس من ءالة كالتسجيل وغيره، لكن يحرم التشويش على قارىء القرءان.
فائدة مهمة: ما يفعله بعض المؤذنين وخدام المساجد بأنهم يُديرون الأسطوانة أو التسجيل بالأذان ويكتفون بذلك فهذا غير مشروع، فلا بدّ للأذان المشروع أن يكون بصوت مؤذن وليس عن طريق الآلة فإنّه لا يُجزىء.
* ومما لا أصل له أن بعض الناس يلقون بالمصاحف غير المتماسكة في الماء فهذا يعرضها للامتهان كأن تصاب بالنجاسات والمستقذرات التي ترمى في الماء ونحو ذلك أو قد يدوس عليها أحد.
فالمصحف غير المتامسك إن خشي عليه التلف والضياع يحرق أو يدفن في باطن الأرض في مكان لا يطؤه الناس عادة وأما إن كان لا يخشى عليه ذلك يُحتفظ به وإذا أراد شخص أن يتلف ورقة مكتوب بها شرع أو كنحو أسماء الله أو نحو ذلك يمزّقها بحيث تتفرق حروف الكلمات بحيث لا تفيد المعنى الأصلي للكلمة.
* ومما لا أصل له ترجمة القرءان الكريم إلى غير العربية فهذا أمر غير جائز شرعًا لأنه كثيرًا من الكلمات لا تترجم حرفيًّا كما وردت.
إنما الجائز هو ترجمة معاني القرءان بشكل لا يُخلّ بالمعنى وليحذر الكثير الكثير من الترجمات التي أخلّت إخلالاً فاضحًا وفادحًا.
* ومما لا أصل له مدّ الرجلين إلى المصحف، فلا يجوزُ مدّ الرجلين أساسًا باتجاه المصحف أو الكتب الشرعية إن لم يكن هنالك حائل معتبر شرًعا.
فائدة مهمة: اعلم إن قراءة القرءان مع اللحن (الخطأ في حركات الإعراب) وذلك بتغيير الحروف أو بتغيير المعاني كرفع المفعول ونصب الفاعل ونحو ذلك فهو حرام.
وأما من قرأ قراءة سليمة بنية حسنة كالحفظ للرد على المحرفين، له ثواب إن كان يأمن الغلط.
* ومما لا أصل له قراءة القرءان مصحوبًا بالموسيقى المحرمة فهذا حرام وإن كان لا يقصد الفاعل الاستخفاف ففعله يدلّ على الاستخفاف والاستخفاف بالقرءان كفر والعياذ بالله.
* ومما لا أصل له تقليب أوراق المصحف بالأصابع وقد وضعها في فمه فصار عليه البُزاق ثم يضعها على الورقة فهذا حرام لا يجوز، بل عليه أن يقلبها بدون ذلك أو يضع أصبعه في ماء طاهر.
البصاق المتجمع إذا انفصل عن الفم يكون مستقذرًا، وتقليب أوراق المصحف بالإصبع المبلولة بالريق حرام لكون ذلك استهانة. فلا يجوزُ تلويث المصحف بمستقذر، وقد أخطأ صاحب كتاب "الفقه على المذاهب الأربعة" حيث قال مجرد وضع الأصبع الملوثة بالبزاق على المصحف كفر. فالرد أنه لا يكفر إلا إذا أراد الاستخفاف.
* ومما لا أصل له قول خالد الجندي المصري إن القرءان نزل على حاجة اسمها مواقع النجوم فهذا الكلام هُراء ولا أصل لهُ.
فوائد: نزل القرءان دفعة واحدة إلى مكان يسمى "بيت العزة" في السماء الأولى ثم أنزله سينا جبريل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في ظرف ثلاث وعشرين سنة وذلك بحسب أسباب النزول.
فائدة: من أسماء القرءان: المصحف، والذِّكْر، والفرقان، والكتاب.(/9)
- الله حفِظ القرءان من التحريف قال تعالى :{إنا نحن نزلنا الذّكر وإنا له لحافظون}.
- من علامات الساعة الكبرى أنه يُرفع القرءان في ءاخر الزمان. يرفع من الصدور.
- للقرءان رسم خاص فليتنبه إلى ذلك أثناء القراءة لئلا يحصل تحريف.
- معنى الحديث :"لا تسافروا بالقرءان إلى أرض العدو" أي إن كنتم لا تأمنون عليه من أن ينال منه العدو بالتمزيق أو أن يطأوا عليه أو نحو ذلك. ويفسره ما رواه الإمام أحمد :"لا تسافروا بالقرءان فإنّي أخاف أن يناله العدوّ".
- الآية :{وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم} وليست الآية "ولا تكرهوا شيئًا" كما يقولها الكثير من الناس، وهذا النقل الفاسد يغير المعنى تمامًا.
- الآية :{إنّك لا تهدي من أحببت} وليست الآية "لا تهدِ من أحببت" كما يقوله الكثير من الناس لأنه يغير المعنى، فمعنى الآية "إنّك لا تخلق الهداية في قلب من أحببت له الهداية".
- هذه الجمل (بعضها لا يقال) ليست من القرءان الكريم ولا من الحديث الشريف وذلك قولهم:
* كذب المنجمون ولو صدقوا.
* الأقربون أولى بالمعروف.
* إن الله مع الصابرين إذا صبروا.
* وجعلنا لكل شىء سببًا.
* على حسب نواياكم تُرزقون.
* وخلقناكم درجات.
* ليس بعد الكفر ذنب.
* الشرك بالله والإضرار بالناس.
* يقولون سورة الصمدية والصحيح أن لها اسمين: الإخلاص والتوحيد.
* تؤلف ولا تؤلفان.
* ورزقكم في السماء وما توعدون. أما الآية فهي {وفي السماء رزقكم وما توعدون}.
* اسع يا عبدي حتى أسعى معك.
* تعلموا السحر ولا تعملوا به.
القول الفصل فيما ليس له أصل:
أقوال شائعة على ألسنة بعض الناس
الحلقة السادسة:
* لا أصل لما يقال "خطأ معروف خير من صواب غير مألوف".
الرد: هذا القول باطل، ومن الدسائس التي دخلت علينا فهي من الدخائل التي لا أصل لها وإنما وضعوها للتحريف والتزوير، وقد وضعوا التقاليد الفاسدة والأعراف الكاسدة والتي راجت بين الناس لتحل محل عقيدتنا وفقهنا وأخلاقنا ولغتنا وما شابه، والأمثلة على ذلك كثير ومنها:
• ... ما شاع من قولهم :"إن الله ما عنده إلا الرحمة" وهذا الكلام كفرٌ فيه تكذيب للدّين فالله تعالى قال :{وخلَقَ كلّ شىء} فاللهُ عنده الرحمة والعذاب وهو خالقُ الخيرِ والشرّ. ويردّ عليهم بقول: من خلقَ جهنم والزلازل والأمراض والشيطان؟ اللهُ هو خالق كل شىء.
• ... وقولهم :"إنَّ اللهَ نور بمعنى الضوء" وهذا كفرٌ وقد استدلّوا بزعمهم بالآية :{اللهُ نور السمواتِ والأرض} فهذه الآية فسَّرها حبر هذه الأمّة عبد الله بن عباس رضي اللهُ عنهما بقوله: إنَّ اللهَ هادي أهل السموات أي الملائكة وأهل الأرض أي المؤمنين من الإنس والجنّ.
فالنور هنا بمعنى الهادي وليس بمعنى الضوء بدليل قوله تعالى في ءاخر الآية :{يهدي اللهُ لنورِه من يشاء} (سورة النور/35) أي لنور الإيمان. فالله تعالى {ليس كمثله شىء} لا يشبه شيئًا ولا يشبهه شىء، وقد قال الإمامُ أبو جعفر الطحاوي في عقيدته :"ومَنْ وصفَ الله بمعنًى من معاني البشر فقد كفر".
وكذلك ما شاع عند بعض أدعياء العلم من قولهم :"إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على عبد الله بن أُبيّ بن سلول وهو يعلم كفرَه".
اعلم أنَّ هذا الكلام كفرٌ صريح والصواب: أن الرسول صلى عليه ءاخذًا بظاهره وهو لا يعلم أنّ باطنه غير ظاهره فالظاهر منه الإسلام. هذا ولم يقل أحد من أهل العلم أو التفسير أو من المجتهدين أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى عليهِ وهو يعلم نفاقَه وكفرَه، ولو كانت الصلاة تجوزُ على كافر فمن باب أولى أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد صلى على عمه أبي طالب مع العلم أن أبا طالب كان يناصر الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته ويحميه ويعينه، ومع ذلك فلم يصل عليه، أما ابن سلول فكان من أشدّ الناس إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان يؤلّب الناس عليه ثمّ إنّه في ءاخر حياته أظهر للرسول صلى الله عليه وسلم ما يظهر توبته وإسلامه كطلبه رداء الرسول صلى الله عليه وسلم ليكفن فيه وطلبه من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر له، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بالظاهر ولم ينكشف له حقيقة ما يبطن فصلى عليه، ثم إنَّ اللهَ أطلع الرسول صلى الله عليه وسلم على أنّه منافق وأطلعه على منافقي المدينة ونهاه اللهُ عن أن يصلي عليهم بقوله :{ولا تصلّ على أحدٍ منهم ماتَ أبدًا} (سورة التوبة/84).
* ومما لا أصل له قولهم "من لا يعمل لا يخطىء".
الرد: هذا الكلام غلط ظاهر وواضح، وذلك أن العمل منه ما هو فرض كالعبادات المفروضة كالنفقة الواجبة على من تجب عليه نفقتهم ونحو ذلك فهذا إن قعد عن عمل ما أوجب الله من غير عذر فهو لا شكّ مخطىء وءاثم.
* لا أصل لما يقال :"خطأ الشيخ خير من صواب المريد".(/10)
الرد: اعلم أنّ هذه العبارة من أفحش الضلال وإنما قالها بعض الزنادقة من أدعياء التصوف وأشباههم ليُعْموا أنظار الناس عن جهلهم وعيوبهم حتى قال أحد مريدي هؤلاء :"لو رأيت الشيخ بعيني يزني لسخَّنتُ له الماء ليرفع الجنابة وقلت إن الشيخ ما زنى إلاَّ لحكمة" والعياذ بالله تعالى من الكفر.
وبعضهم إن رأى من شيخه خطأ يقول :"هو أعلم بالشرع منّا"، وإن قام أحد العامة ورد على شيخ مشهور وردَّ عليه بحقّ فبدلاً من أن يعينوه يقولون:"مَن هو فلان حتى يردّ على فلان"؟!
وكأنهم لم يسمعوا بتلك المرأة التي ردَّتْ على سيدنا عمر بن الخطاب في مسئلة المهور.
والحاصل أن كثيرًا من الناس يعتقدونَ عصمة بعض المشايخ وإن لم يصرحوا بها وذلك من شدّة المغالاة بهم، فالغلو قبيح حتى بقصد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم فالبعض غالى بمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع في الكفر وذلك كمن قال: "الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم كلَّ علم الغيب" والعياذ بالله.
* لا أصل لما يقال :"إنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم يخطىء في التشريع".
الرد: إنَّ هذه المقالة من أشهر ضلالات يوسف القرضاوي التي ذاعت عنه وقد قال ذلك في قناة الجزيرة القطرية بتاريخ 12/9/1999 ويكفي في الرد على القرضاوي وأمثاله قوله تعالى :{وما ينطِق عن الهوى إنْ هو إلاَّ وحيٌ يُوحى}.
وقد قال الزركشيّ في "تشنيف المسامع" إنَّ القول الصحيح أن النبيَّ إذا اجتهدَ لا يُخطىء.
وقال العلامةُ ابن أمير الحاج في كتابه "التقرير والتحبير" (2/300) ما نصه :"وقيل بامتناعه أي جواز الخطإ على اجتهاده، نقله في الكشف وغيره عن أكثر العلماء وقال الإمام الرازيّ والصَّفي الهنديّ إنَّه الحقّ وجزم به الحليمي والبيضاويّ وذكر السبكي أنَّه الصواب وأن الشافعيّ نص عليه في مواضع من الأمّ"، هذا وقد روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"إنَّما أنا بشرٌ فإذا أمرتكم بشىءٍ من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشىء من رأيي فإنَّما أنا بشر" المعنى أي مما يتعلق بغير الدين كالحرب فالخطأ عليه في غير التشريع جائز كالأمور الدنيوية مثل الذي ورد في تأبير النخل.
ومن أقوى الردود على القرضاوي قوله صلى الله عليه وسلم :"ما منْ أحدٍ إلاَّ يؤخذُ من قولِه ويُترك غيرَ رسول الله" وفي رواية "إلاَّ النبيّ". أخرجه الطبرانيّ في الأوسط وحسَّنَه الحافظ العراقي.
* ولا أصل لما يقال: "إنّ معاوية اجتهد في حرب صفين فأخطأ فله أجر".
الرد: تنص القاعدة المتفق عليها أنّه لا اجتهاد مع ورود النص.
فالرسول صلى الله عليه وسلم اعتبر معاوية ومن معه ممن حاربوا سيدنا عليًّا بغاةً حيث قال قبل وقوع معركة صفين بأكثر من أربعين عامًا :"ويح عمَّار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنَّة ويدعونه إلى النار" رواه البخاريّ.
واعلم أنّ هذا الحديث متواتر رواه خمسة وعشرون من الصحابة منهم معاوية وعمرو بن العاص.
ثم إنّ عمارًا كان في جيش عليّ رضي الله عنه. فأين الاجتهاد بعد ورود النص من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! هذا وقد قال عمار بن ياسر :"لا تقولوا كفَر أهل الشام ولكن قولوا فسقوا وظلموا"، وعمار ورد مدحه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم فهل نتركُ قول الرسول صلى الله عليه وسلم وعمار وأئمة الاجتهاد إلى قول بعض المتأخرين!
* لا أصل لما يقال "إن الجاهل يعذر بخطئه على الإطلاق".
الرد: إن الجاهل لا يعذر بجهله مطلقًا إذ لو أن الجاهل معذور بجهله لكان الجهل أفضل من العلم، ولو أنّ الجاهل يعذر بجهله فلماذا أرسل الله النبيين والمرسلين وأمر العلماء بالتعليم وجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات في الدين!
وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى شخصًا لا يُحسن صلاته فقال له :"صلّ إنَّك لم تصل" فأعاد على هذه الحال ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له "صلّ فإنَّك لم تصل" إلى أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعضَ الصحابة بإرشاده، فلو كان هذا الشخص معذورًا كما يزعمون لمَا أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بإعادة صلاته ولما أمر الصحابة بإرشاده.
لذا فالواجب على كل مكلف شرعًا معرفة العلم الضروريّ وهو القدْر الذي يجبُ تعلّمه من الاعتقاد والعبادات ومعرفة مسائل الحلال والحرام، والمعاملات إن كان يتعاطاها، ونحو ذلك. فالجهلُ منه ما يوقع بالكفر كالجهل بالاعتقاد السليم كمن يعتقد أن اللهَ جسم أو ضوء، ومنه ما يوقع بالكبائر كالجهل بشروط الصلاة.
فائدة في اللغة:
من حيث اللغة لا يقال "فلان صحَّحَ الخطأ" بل يُقال "أصلحه" وكذلك لا يقال "صوَّب الخطأ".
فقوله "صحَّحَ" أي قال عنه صحيح وكذلك "صوَّبه" أي قال عنه صواب.
ومن ذلك قول المحدّثين عن الحديث "صحَّحه فلان" أي حكَم بصحته، "وضعَّفه فلان" أي حكَم بضعفه.
تنبيه:(/11)
مما لا أصل له من القول "لا عيب على من يخطىء ولكن العيب على من يصرّ على الخطأ" وكذلك لا أصل لقول القرضاوي في كتابه المسمى "الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم" ص 142 ما نصه :"ومن القواعد المسلَّمة أن الخطأ مرفوع عن هذه الأمّة كالنسيان" انتهى. واحتجَّ بالآية :{ربَّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} وحديث :"إنَّ اللهَ تجاوزَ لهذه الأمّة على الخطإ والنسيان" وبالآية :{وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} ثم قال :"ومن بذل جهدَه في معرفة الحقّ فأخطأ الطريق إليه لم يكن عليه جناح ولم يوجه إليه لوم وإلا كلفناه بما لا طاقة له به وهو منفي أيضًا بما دلت عليه الآية السابقة :{ربَّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به}".
الرد: إن الخطأ في الشرع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
* خطأ يثاب عليه الشخص وهو للمجتهد بحقّ ليس لمطلق العالِم.
* وخطأ لا يثاب عليه ولا يأثم.
* وخطأ يأثم فاعله ويستحق العقاب.
أما الخطأ الذي يثاب فاعله فهو أن المجتهد الذي توفرت به شروط الاجتهاد بأجمعها إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد.
أما الخطأ الذي لا يثاب عليه الشخص ولا يأثم فهو كقتل الخطإ وهذا هو المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم :"إنَّ اللهَ تجاوز عن أمتي الخطأ والنيسان وما استكرهوا عليه" رواه ابن ماجه.
وكذلك من المعروف أنه يجب الاجتهاد لمعرفة القبلة ولمعرفة دخول وقت الصلاة ولا يعتمد على التقليد، فمريد الصلاة إذا اجتهد لمعرفة القبلة بحسب الأدلة الشرعية ثم صلى إلى ذلك الاجتهاد فلا يأثم ولو كان الاتجاه غير صحيح، وإذا تبين له أنّه مخطىء أعاد الصلاة ولا إثم عليه في ذلك الخطأ، وكذلك في مسئلة دخول الوقت للصلوات إذا دخلها بالاجتهاد.
أما الخطأ الذي يأثم عليه الشخص فهو كل كفر وكبيرة وصغيرة يقترفها الشخص، فهذا خطأ وفاعله ءاثم، فمنه ما يُخرج من الدين ويوجب الخلود في النار إن مات على ذلك وهو الكفر. ومنه ما يوجب الحدّ شرعًا كبعض الكبائر، والتوبة منه واجبة، وكذلك الصغائر يأثم فاعلها بلا خلاف ويجب عليه التوبة.
القول الفصل فيما ليس له أصل
في أحكام الجنب والاغتسال
الحلقة السابعة:
* لا أصل لما يقال إن الجنب نجس وإنه إذا مسّ الماء تنجس.
الرد: إنّ الجنب ليس بنجس فيجوز مؤاكلة الجنب ومجالسته ومخالطته ومصافحته وله أن يفعل ما يشاء قبل رفع الجنابة إلاَّ ما حرَّم عليه الشرع كالمكث في المسجد ومس القرءان وقراءته.
فقد روى البخاريّ في صحيحه عن أبي هريرة قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنب فأخذ بيدي فمشيت معه حتى قعد فانسلَلتُ، فأتيتُ الرَّحل فاغتسلت، ثم جئت وهو قاعد فقال صلى الله عليه وسلم "أين كنتَ يا أبا هريرة؟ فقال له: كنت جنبًا فكرهتُ أن أجالسَك وأنا على غير طهارة فقال صلى الله عليه وسلم :"سبحان الله إن المؤمن لا ينجس".
وفي شرح العيني على البخاري (ج2/ص242):
وما نقل عن بعض الصحابة أنهم كانوا إذا أجنبوا لم يخرجوا من بيوتهم ولم يأكلوا حتى يتوضؤوا هذا المنقول عنهم محمول على الاستحباب لا على الوجوب. انتهى.
هذا وعرق الإنسان (ذكرًا كان أو أنثى صغيرًا أو كبيرًا) ولعابه ومخاطه ودموعه طاهرة سواء كان مُحدِثًا أو لم يكن محدِثًا وسواء كان مسلمًا أو لم يكن مسلمًا. فالمخاط طاهر لكنّه مستقذر واللعاب أيضًا طاهر لكنه إذا انفصل عن الفم صار مستقذرًا لكنه يبقى طاهرًا.
* ولا أصل لما يقال إن الحائض والنفساء نجستان بل يزعم بعض الجهلة كالقبيسيات والسحريات أن المرأة الحائض إذا لمست المخلل تنجس، وهذه العقيدة الفاسدة عقيدة طائفة من اليهود تسمى يهود السامرة، والدليل على فساد هذا المعتقد ما رواه مسلم والبيهقي وفيه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها :"أعطيني الخُمْرَةَ (بضم الخاء وهو حصير بقدر الرأس يسجد عليها المصلي) قالت: إني حائض. قال: إنّ حيضتكَ ليست في يدك".
وروى مسلم في صحيحه عن أنس أنه قال:"إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت" (أي لم يخالطوهن ولم يساكنوهن في بيت أحد) فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله تعالى :{ويسئلونكَ عن المحيضِ قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} (سورة البقرة/222) فقال صلى الله عليه وسلم :"اصنعوا كل شىءٍ إلاَّ النكاح" أي إلاَّ الجماع.
وروى مسلم في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاهُ على موضع فمي فيشرب وأتعرَّقُ العَرْقَ وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فمي" ومعنى أتعرَّقُ العرْقَ: هو العظم تأخذ منه معظم اللحم. كما ذكر ابن الأثير في النهاية (ج3/ص 220).
وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت :"كنت أغسل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض".(/12)
* لا أصل لما يقال إن غير المسلم نجس الجسم وهذا الكلام غير صحيح وأما من يستدل في هذا الموضوع بقول الله تعالى :{إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (سورة التوبة/28) فاستدلاله في غير محله لأن الآيةَ فيها أن الله حرم عليهم أن يقربوا المسجد الحرام بسبب نجاسة عقائدهم أي خبثها لا نجاسة أجسامهم.
* لا أصل لما يقال إن الجنب إذا خرج من بيته تلعنه الشمس وتلعنه كل شعرة في بدنه وتلعنه الأرض والشيطان والملائكة.
الرد: هذا الكلام مردود جملة وتفصيلاً لما روى البخاري في صحيحه الحديث الذي تقدم عن أبي هريرة.
وقد روى البخاري في صحيحه أن سيدنا حمزةَ رضي الله عنه أُصيب يوم أحد وهو جُنُب قبل أن يغتسل. وروى البيهقي من حديث حنظلة غسيل الملائكة وفيه أنه التزم زوجته ليلة عرسه ثم اغتسل فصلى الفجر ثم التزم زوجته فأجنب فسمع الهائعة "صوت النفير للحرب" فخرج ولم يغتسل فأصيب في أُحُد فرأى النبي صلى الله عليه وسلم الملائكة تغسله بين السماء والأرض قال عليه الصلاة والسلام : سلوا صاحبته (أي زوجته) فأخبرتهم بخبره.
* لا أصل لما يقال عن الجنب والحائض والنفساء بأنه لا يجوز ذبحهم للذبيحة، وقولهم لا يجوز لهم قص شعرهم أو تقليم أظافرهم، وكذلك لا أصل لقول بعضهم لا يجوز دخول النفساء والحائض على المرأة التي تلد لأنه يضر الولد والوالدة، وكذلك لا أصل لما يقال إنه لا يجوز للحائض زيارة المقابر إلا إذا حملت حجرًا أو أن "تضع سبعة حفاضات" تحت ملابسها وذلك لئلا يرى الموتى عورتها بزعمهم الكاذب.
الرد: إن هذه الافتراءات ومثيلاتها كثيرة ولا أصل لها البتة فلا يقول هذا الكلام إلا جاهل لا صلة له بالعلم.
* لا أصل لما يقال يحرم على الجنب الصيد.
الرد: لا يحرم على الجنب أن يصطاد وأما من استدل بقوله تعالى :{يا أيها الذين ءامنوا لا تقتلوا الصيد وأنتُم حُرُم} (سورة المائدة/95) والآية الآخرى :{وحُرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حُرُمًا} (سورة المائدة/96) فليس معنى "حُرم" جنبًا بل معناها لا تصطادوا وأنتم في حال الإحرام بالحجّ أو العمرة هذا هو المعنى ثم من أراد المزيد في هذا الموضوع فليراجع أحكام المحرم في الحجّ.
* لا أصل لما يعتقده بعض الناس أن ثياب الجنب والحائض والنفساء متنجسة ولا سيما الملابس الداخلية.
الرد: كما أن أن أجساد الحائض والنفساء والجنب ليست متنجسة فمن باب أولى أن لا يُحكم على الثوب بالتنجس إلا ما أصابته نجاسة كالبول والدم وعند ذلك يحكم على البقعة التي أصابتها النجاسة بأنها نجسة دون سائر الثوب.
* لا أصل لما يفعله بعض الجهلة أنهم يمكثون بأرض موقوفة لبناء مسجد وهم في حال الجنابة.
الرد: بعض المساجد يبنون تحتها محلات تجارية بعد أن كانت الأرض وقفت مسجدًا فقط فهذه المحلات لها حكم المسجد، وكذلك أي أرض وقفت لبناء مسجد وأي أرض بني عليها مسجد ثم زال المسجد في كل هذه الأحوال تأخذ الأرض حكم المسجد فلا يجوز لجنب ولا حائص ولا نفساء المكث فيها.
* ومما لا أصل له قول بعضهم لمن أراد الدخول بالإسلام اغتسلْ أولاً ثم ادخل بالإسلام.
الرد: إنَّ هذا الكلام باطل بل الواجب عليه أن يلقّنه فورًا الشهادتين من غير تأخير وإن أخَّره كأن قال له "اذهب واغتسل أو فكّر قبل أن تُسلِم" فهذا كفر لأنه رضي له بالبقاء على الكفر والرضى بالكفر كفر.
فإذا ءامنَ الكافرُ وأسلم يؤمر بالاغتسال وجوبًا إن كان قد أجنب حال كفره ويندب له الاغتسال إن كان لم يجنب، ولا يجوز تأخير الإسلام لأجل الاغتسال أو غير الاغتسال، فقد قال الفقهاء :"من أشار لمن يريد الدخول في الإسلام وعرض عليه أن يلقنه الشهادة فقال له انتظر إلى وقت كَفَر". هذا وقد كتب النووي في هذا الموضوع بحثًا نفيسًا في كتابه "المجموع".
* لا أصل لما يقال إن الشخص إذا بات عند قوم وأجنب وخشي أن يتهمه صاحب البيت بأهله فله أن يصلي من غير اغتسال.
الرد: هذه الفتوى من الفتاوى الشاذة التي قالها ابن تيمية وقد خالف بها إجماع المسلمين حيث أجمعوا على أن الصلاةَ من غير طهارة من الحدث لا تصح بل عند الحنفية يكفر من صلى بغير وضوء متعمدًا لأن فعله هذا عندهم يدل على الاستهزاء بالصلاة.
* لا أصل لما يعتقده بعض الشباب والشابات أنهم إذا نزل منهم المذي أو الودي أنهم أجنبوا.
الرد: الجنابة لها تفاصيل ومنها أنه إذا رأى الذكر أو الأنثى المذي أو الودي وهما ماءان غير المني يخرجان من الذكر والفرج وهما نجسان ولكن لا يوجبان الغسل، أما المني فهو عند الرجل يخرج بتدفق عند اللذة القصوى ويسمونها النشوة وكذلك المرأة تنزل المني حال الجماع أو عند انتهاء ثوران الشهوة وإن كان غالبًا لا يرى عند النساء لكنهن يشعرن بخروجه فبخروج المني تحصل الجنابة كما تحصل بالجماع.
* ومما لا أصل له اعتقاد البعض أن مجرد المداعبة بين الرجل وزوجته من غير إيلاج الذكر بالفرج ومن غير إنزال المني البعض يعتقد أنه صار جنبًا وهذا غلط.(/13)
الرد: إن هذا الاعتقاد غلط فاحش لأن الجنابة لا تحصل إلا بأمرين: أولهما، التقاء الختانين أي غياب الحشفة (رأس الذكر) في فرج المرأة حتى لو لم ينزلا المني وثانيهما إنزال المني ولو من غير جماع.
* لا اصل لما يقال إن صيام الجنب لا يصح.
الرد: لا يشترط لصحة الصيام الطهارة حيث صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم رواه البخاري في صحيحه في باب "الصائم يصبح جنبًا" لذا فلو صام الشخص كل رمضان وهو جنب فصيامه صحيح ولكنه مرتكب للكبائر بسبب تركه للصلاة.
* لا أصل لما يفعله بعض الجهلة إذا أراد الاغتسال وهو ليس جنبًا ينوي رفع الجنابة.
الرد: إذا أراد شخص الاغتسال وهو يعلم من نفسه أنه ليس جنبًا ومع ذلك قال "نويت رفع الجنابة" هذا وقع في الكفر لأن هذه النية إنما هي تلاعب في الدين والبعض قد يكون في حال الجنابة ثم ينوي رفع الجنابة ويغتسل يعمم بدنه بالماء وبعد تعميم البدن بالماء يجدد نية رفع الجنابة بنية الفرضية والعياذ بالله فهذا تلاعب بالدين وكيف ينوي رفع الجنابة وهو طهَرَ منها؟!!
القول الفصل فيما ليس له أصل
في الإسراء والمعراج
الحلقة الثامنة:
* لا أصل لما يعتقده بعض الناس والعياذ بالله من الكفر وهو أن الله يسكن جهة الفوق مستدلين برحلة الإسراء والمعراج حيث يعتقدون أن الرسول صلى الله عليه وسلم عُرِج به إلى السموات العلى للقاء ربه ويستدلون من شدة جهلهم بقوله تعالى :{ثمّ دنا فتدلى فكان قابَ قوسين أو أدنى} ومنهم عمرو خالد الذي قال عن الرسول صلى الله عليه وسلم :"طلع يقابل ربنا".
الرد: إن الله عرَج برسوله إلى السموات العلى تكريمًا له ومن أجل أن يُريه من ءاياته الكبرى وليس من أجل أن يجتمع به، لأن ذلك مستحيل على الله تعالى، لأن الاجتماع لا يكون إلا للأجسام والله تعالى منزّه عن الجسمية وعن الجهة، لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان، ثم إن الله تعالى افتتح سورة الإسراء بقوله "سبحان" وكلمة "سبحان" معناها تنزه عن كل ما لا يليق به من الشبه والجسم والجهة والحركة والسكون وتنزه عن أن يحل في شىء أو أن ينحل منه شىء.
وأما تفسير قوله تعالى :{ثمَّ دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى} فعن عائشة رضي الله عنه في تفسير هذه الآية قالت:"إنما ذاك جبريل كان يأتيه وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي الأصلية فسدّ أفق السماء".
هذا هو التفسير الصحيح وليس المعنى كما يزعم بعض الجهلة أن الله هو الذي دنا من رسول الله دُنوًّا حسيًّا، تعالى الله عما يقول المجسمون علوًّا كبيرًا.
وروى مسلم أيضًا عن عائشة رضي الله عنها أن مسروقًا (وهو تابعي) قال لعائشة رضي الله عنها: ألم يقلِ الله عز وجل {ولقد رءاه بالأفق المبين} (سورة التكوير/23) {ولقد رءاه نزلةً أخرى} (سورة النجم/13). فقالت إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :"إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطًا من السماء سادًّا عِظَم خِلْقِه ما بين السماء والأرض".
* لا أصل لما يقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبي بكر في السماء.
الرد: هذا كلام لا أصل له ولم يأتِ في خبر صحيح قط.
* لا أصل لما يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لله: التحيات لله والصلوات والطيبات، فقال الله: السلام عليك أيّها النبي، فقال الرسول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
الرد: هذا كلام كذب لا أصل له، ولم يذكر ذلك إلا الوضاعون الكذابون، فقد ثبت أن بعض الصحابة كانوا يقولون في صلاتهم قبل أن تفرض عليهم صيغة التشهد: السلام على الله، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل. ثم قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم :"إنَّ اللهَ هو السلام" وعلمهم أن يقولوا: السلامُ عليكَ أيّها النبي ورحمة والله وبركاته. رواه البيهقي.
تنبيه: إنّ ردّنا لهذه الرواية الكاذبة لا يعني أننا لا نعترف بصيغة التحيات التي هي فرض قراءتها في الصلاة عند التشهد وقد ثبتت عن الرسول.
* لا أصل لما يسمى بكتاب معراج ابن عباس.
الرد: إن ما يسمى بمعراج ابن عباس كتاب مدسوس محشو بالأباطيل والخرافات التي لا أصل لها، وابن عباس بريء من هذا الكتاب براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام. ومما جاء من أباطيل في هذا الكتاب قول المؤلف: وإذا بملَك نصفه من ثلج ونصفه من نار فلا النار تذيب الثلج ولا الثلج يطفىء النار، له ألف رأس وفي كل رأس ألف ألف وجه، وفي كل وجه ألف ألف لسان يسبح الله تعالى بألف ألف لغة إلخ...
ومما ورد فيه من الدجل قول المؤلف: فدنوت (يعني سيدنا محمدًا) من ربي حتى صرت منه كقاب قوسين أو أدنى (وقد مر الرد على هذا الزعم).(/14)
وفي هذا الكتاب عبارة تتضمن عقيدة التجسيم وهي والعياذ بالله "فوضع اللهُ سبحانه وتعالى يدَه بين كتفيّ" والعياذ بالله وهذا تكذيب لقوله تعالى :{ليس كمثله شىء} وهنا أثبت الكاتب العضو والحس والمس والحركة والسكون لله تعالى وهذا محض ضلال.
* ومما لا أصل له حديث كذب نصه: أتاني جبرائيل بسفرجلة من الجنة فأكلتها ليلة أُسري بي فعلقت خديجة بفاطمة فكنت إذا اشتقت إلى رائحة الجنة شممتُ رقبة فاطمة.
الرد: قال الذهبي هو كذب جليّ من وضع مسلم بن عيسى الصفار لأن فاطمة ولدت قبل النبوة فضلاً عن الإسراء والمعراج كذا قال ابن حجر، نقله السيوطي في مسند فاطمة الزهراء رقم الحديث 109.
* مما لا أصل له ما يروى عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت :"ما فقدتُ جسدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أسري بروحه".
الرد: وهو حديث غير ثابت وهَّنه القاضي عياض في الشفا سندًا ومتنًا وحكم عليه الحافظ ابن دِحية بالوضع (الكذب) ومما لا يخفى أن نسبة هذا الحديث للسيدة عائشة غير صحيح لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدخل بها إلا بعد الهجرة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أُسري به قبل أن يخطبها.
* ومما لا أصل له قول بعض الناس إن الرسول صعد على صخرة عند المعراج فارتفعت في الهواء فقال لها كوني فكانت فتوقفت في الهواء.
الرد: هذا الكلام لا أصل له البتة وحتى إن البعض يعتقد أن هذه الصخرة ما زالت معلقة في الهواء وهذا مجرد وهم لا يستند إلى دليل.
* ومما لا أصل له من الأباطيل قولهم إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما وصل مع جبريل إلى سدرة المنتهى قال جبريل "هنا يفارق الخليل خليله لو تقدمتُ لاحترقتُ ولو تقدمتَ لاخترقتَ".
الرد: هذا القول كذب لا أصل له ولم يثبت في مرجع يُعوّل عليه بل هو من الإسرائيليات.
* لا أصل لما يقال عن المسجد الأقصى إنه أولى القبلتين الشريفتين.
ولا أصل لما قاله عمرو خالد في قناة "اقرأ" في حلقة عن القدس: إن المسلمين ظلوا يصلون إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة في مكة.
الرد: إن المسلمين من سيدنا ءادم إلى سيدنا محمد مرورًا بسائر الأنبياء وأممهم كانوا يتوجهون بصلاتهم إلى الكعبة، ثم إنَّ اللهَ تعالى أمر المسلمين بعد أن هاجروا إلى المدينة المنورة بعد أن كانوا يتوجهون إلى الكعبة أمرهم أم يتوجهوا إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرًا، ثم أُمِر الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بأن يتحول ويتوجه إلى الكعبة. وما زال الحكم ساريًا إلى يوم القيامة. وأما الحكمةُ من تغير الاتجاه من الكعبة إلى بيت المقدس ثم إلى الكعبة فهي ابتلاء للعباد أي امتحان لهم ليظهر انقياد الطائع منهم.
* لا أصل لما يعتقده بعض الناس أن الخَمر الذي قدمه جبريل للرسول ليلة الإسراء إنما هو من خمر الدنيا.
الرد: ورد في الحديث أن جبريل عليه السلام جاء بإناء من خمر وإناء من لبن فاختار النبي صلى الله عليه وسلم اللبن فقال جبريل عليه السلام "اخترتَ الفطرة" أي اخترتَ الدين، أي ما هو خير لك.
تنبيه مهم: إن الخمرة التي قُدّمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت من خمر الجنة التي لا تضر ولا تُسكر، ولا يتوهمن متوهم أنّه من خمر الدنيا، فمن الضلال اعتقاد أن جبريل عليه السلام أفضل الملائكة يقدم الخمرة النجسة المسكرة لأفضل خلق الله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* لا أصل لما قال عمرو خالد إن من بنى المسجد الأقصى نبي الله داود في مكان بيت رجل يهودي وإن من أكمل بناء المسجد الأقصى هو سليمان.
الرد: نقل ذلك عن عمرو خالد الدكتور إبراهيم محمد مسعود في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ الخميس 15 ءاب 2002 تحت عنوان "فتاوى عمرو خالد خطيرة تمس حقوق المسلمين" يقول إنه سمع عمرو خالد يقول هذا الكلام في برنامجه في قناة "اقرأ" الفضائية يوم الجمعة في العاشر من أيار 2002.
أقول: ورد في صحيح مسلم أن سيدنا ءادم بنى المسجد الأقصى بعد بناء الكعبة.
ومن الثوابت في التاريخ أن سليمان عليه السلام أعاد بناءه، وأما ما ادعاه عمرو خالد فهذا مجرد هُراء ولا دليل عليه إلا النقل مما هب ودبّ.
* لا أصل لما يقال إن الإسراء والمعراج كانا بالروح ولم يكونا بالجسد.
الرد: إن الإسراء والمعراج كانا بالروح والجسد، وليس كما يقول البعض: إنهما بالروح دون الجسد أو إنهما رؤيا منامية، فالله تعالى قال :{سبحان الذي أسرى بعبده} ولم يقل بروح عبده، لذا فمن أنكر أن الإسراء كان بالروح والجسد فهو مكذب لنص صريح في القرءان والحديث الصحيح وهو كفر صريح والعياذ بالله تعالى.
* لا أصل لما قاله عمرو خالد عن سدرة المنتهى حيث قال:"وسيدخل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى ومعه جبريل وفجأة توقف جبريل يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فالتفتُ إلى جبريل فإذا هو كالحِلْسِ البالي" من كتابه المسمى "أخلاق المؤمن" ص 198 الطبعة الأولى.(/15)
الرد: يبدو أن عمرو خالد لا يعرف أن سدرة المنتهى شجرة، فقد قال القرطبي في تفسيره ج 17 ص 94 في تفسير الآية: والسّدر شجر النّبقِ وهي في السماء السادسة، وجاء في السماء السابعة، والحديث بهذا في صحيح مسلم الأول ما رواه مرة بن عبد الله قال: لما أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى. الحديث...
الحديث الثاني رواه قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"لما رُفعتُ إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة" الحديث..
ثم قال القرطبي:"وكذا لفظ مسلم من حديث ثابت عن أنس "ثم ذُهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا أوراقها كآذان الفِيلة وإذا ثمارها كالقِلال فلما غشيها من أمر الله عز وجل ما غشيَ تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع نعتها من حسنها". وأما حديث "فالتفت إلى جبريل فإذا هو كالحلس البالي" الذي أورده عمرو خالد فهو ضعيف لا يثبت، ومعناه أن جبريل صار من خشية الله مثل هذا الذي يوضع على ظهر الدابة، لكن فيه كلمة قبيحة بعد هذا الموضع وهي أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال "فعلمتُ أنه أخشى لله مني"، فهذا باطل لأنه لا يوجد في خلق الله أخشى لله من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
* لا أصل لما قاله عمرو خالد في قناة "اقرأ" في حلقة عن القدس: إنما صلى النبي بالأنبياء إمامًا لأنه صاحب المسجد الأقصى وصاحب البيت في الفقه هو الذي يصلي في بيته إمامًا لانه إن صلى غيره ما "يصحش".
الرد: أولاً المسجد الأقصى هو لله وليس لسيدنا محمد كما ادعى عمرو خالد، ولا لغيره من الأنبياء قال تعالى :{وأن المسجد لله}. ثانيًا: كان حسنًا أن يصلي سيدنا محمد إمامًا فهو أفضل الأنبياء قاطبة، ومن المعلوم أن الأفضل أن يصليَ الفاضل إمامًا بالمفضول.
ثالثًا: أما ادعاؤه بأنه لا تصح الصلاة وراء غير صاحب البيت فهذا هُراء من عنده، وما أحد نص على ذلك من أئمة الإسلام وإنما الذي قالوه إن صاحب البيت أولى بالإمامة في بيته على تفصيل يذكرونه.
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى لا سيما نبينا المصطفى وعلى ءاله وصحبه أولي الصدق والوفا.
أما بعد
يقول الله تعالى :{ولا تقولوا لمَا تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب}.
عملاً بهذه الآية الكريمة أحببنا أن نسدي نصيحة للإخوة القراء للحذر مما لا أصل له من الأحكام التي تنسب إلى الصيام.
القول الفصل فيما ليس له أصل
في بعض مسائل الدين
الحلقة التاسعة:
أولاً: في الأحكام:
• ... لا أصل لما يقال "إنه لا يجوز الأكل بعد النية في الصيام ليلاً".
والحكم: أنه لو نوى بعد المغرب أن يصوم يوم غد يجوز له أن يأكل ويشرب ويجامع إلى ما قبل طلوع الفجر.
• ... لا أصل لما يقال إنه من نام طيلة النهار وهو صائم فإن صيامه لا يصح.
والحكم: أنه إن نوى الصيام ثم نام قبل الفجر ولم يستيقظ حتى دخول المغرب فصيامه صحيح ولا إثم عليه حتى ولو فاتته الصلوات الخمس إن لم يستيقظ أو لم يوقظه أحد ضمن وقت الصلاة فهذا مرفوع عنه القلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم :"وعن النائم حتى يستيقظ".
• ... لا أصل لما يقال "إن الزواج في شهر رمضان حرام أو مكروه".
والحكم: أن الزواج في شهر رمضان حلال ولا كراهة فيه فيجوز أن يخطب ويعقد ويجامع شرط مراعاة أحكام الصيام ومن مراعاة أحكام الصيام أن لا يجامع أثناء النهار. ولا بأس بتأخير الزفاف إلى ما بعد شهر رمضان خشية اندفاع العروسين الجديدين إلى ما يفطّر الصائم.
• ... لا أصل لما يقال "إن شهر رمضان يُعرف دخوله بحساب المنجمين".
الحكم: أنه لا يعرف دخول رمضان شرعًا إلا برؤية الهلال لقوله صلى الله عليه وسلم :"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وعلى ذلك انعقد الإجماع ولا يلتفت لمخالفة بعض العصريين لهذا الحكم.
• ... لا أصل لما يقال "إن الغيبة تُفطِّرُ الصائم" مع كون الغيبة معصية بلا شك لكنها ليست مفطّرة، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله :"لو كانت الغيبةُ تُفطِّر الصائم لما صح لنا صوم".
• ... لا أصل لما يقال "إن الزكاة لا تكون إلا في شهر رمضان".
الحكم: أن الزكاة تجب إذا حالَ الحول على النصاب في المال الحوليّ أي انقضى على وجوده في ملكه عام قمري فيجب عليه أداء الزكاة سواء كان ذلك في رمضان أو شعبان أو رجب أو أي شهر. وإن أخر بغير عذر فقد عصى فإنّ تأخير الزكاة عن وقتها حرام قال تعالى: {وءاتوا حقَّهُ يوم حصاده} [سورة الأنعام/141].
• ... لا أصل لما يقال "لا يصح الصوم من غير صلاة، ويقولون الصائم بلا صلاة كالراعي بلا عصا".
الحكم: هذا الكلام خلاف الدين، فالصوم يصح ما لم يرتكب الصائم أيًّا من المفطرات كتناول الطعام أو الشراب أو الجماع أو الوقوع في الردة عن الإسلام.
تارك الصلاة يرتكب كل يوم خمس كبائر بسبب تركه للصلاة لكن ذلك لا يؤثر على صحة الصوم.(/16)
حتى إن بعض الناس "والعياذ بالله" إن رأوا امرأة لا تستر رأسها عند خروجها من البيت وتكون مداومة على الصلاة وتراعي أحكام الصلاة، هذه يقولون عنها لا تصح صلاتُها فهذا الكلام لا أصل له البتة ما قال ذلك أحد من أئمة المسلمين.
• ... لا أصل لما يقال "شم الورد يفطر الصائم".
الحكم: أن مطلق الشم للورد وغيره من الروائح الطيبة أو الخبيثة لا يفطر ما لم يدخل شىء له حجم من منفذ مفتوح إلى الجوف.
• ... لا أصل لما يفعله بعض الناس حيث يأكلون قبل النوم في أول الليل على أن هذا الطعام هو مسحور.
الحكم: أن السحور يكون في وقت النصف الثاني من الليل وليس في أي وقت من الليل فمن أراد أن ينال بركة السحور فعليه أن يأكل ضمن الوقت المخصص لهذا الأمر والوقت هو من منتصف الليل إلى الفجر ويحصل التسحر ولو بجرعة ماء.
• ... لا أصل لما يقال "إنه من أوتر فلا يصح أن يصلي بعده شيئًا" "أو لا يُصلى بعد الوتر".
الحكم: يجوز أن تختم صلاتك بالليل بالوتر أو بمطلق نافلة أو بقضاء صلاة، فلذلك لا يقال: لا تصح صلاة بعد الوتر، ولا يقال: لا يُصلى بعد الوتر نافلة. لكن لا يصح وتران في ليلة لحديث :"لا وترانِ في ليلة".
• ... لا أصل لما يقال "بَلْع الريق يفطّر الصائم".
الحكم: أن بلع الريق لا يفطر الصائم، ومن حكمَ بإفطار من بلع ريقه الذي لم يخالطه غيره فهذا كفر، لأن في هذا الكلام إلزامًا للصائم بجهد ومشقة وعسر، فبعض الناس يبصقون دائمًا لما يصومون مخافة أن يفطروا بزعمهم هذا من شدة جهلهم.
• ... لا أصل لما يقال "إن قلع الضرس يُفطِّر".
الحكم: لا يفطر من قلع ضرسه إلا إذا ابتلع دمًا ولو قليلاً بإرادة، أما إن بلع مغلوبًا فلا يؤثر.
• ... لا أصل لما يفعله كثير من الناس حيث يُمسكون ويفطرون لمجرد سماعهم الأذان في هذه الأيام.
الحكم: لا يجوز لمن أراد الإمساك أو الإفطار الاعتماد على صوت المؤذن غير التقي وحده في المسجد أو في الإذاعة أو في التلفزيون لأن وقت الفجر له علامات ووقت المغرب له علامات ولا يعتمد على أذان غير التقي.
أما المؤذنون فيغلب على كثير منهم الجهل بأحكام دخول الوقت، فبعضهم يؤذن قبل دخول الوقت ولو بلحظة وكذلك أجهزة الإعلام، فعلى من أراد الالتزام بالشرع أن يتحرى دخول الوقت بحيث يطمئن قلبه وليس بمجرد سماع المؤذن غير الثقة. ولو قال قائل: أليس من السنّة التعجيل بالإفطار؟ فالجواب: بلى ولكن التعجيل بالإفطار لا يكون قبل دخول الوقت بل عندما يطمئن من دخول الوقت يبادر للإفطار.
• ... لا أصل لما يقال "إن الجماع في ليل رمضان حرام".
الحكم: الجماع حرام أثناء الصيام وليس بعد الإفطار، فبعد دخول وقت المغرب للصائم أن يأكل ويشرب ويجامع إلى ما قبل وقت دخول الفجر فعندئذ يمسك.
• ... لا أصل لما يقال "إن الاغتسال أو السباحة حرام بقصد الانتعاش".
الحكم: لو اغتسل الشخص أو سبح ولو في وقت الحر الشديد ولو بعد الظهر ولو انتعش فهذا لا يضر طالما لم يدخل إلى جوفه الماء من منفذ مفتوح.
• ... لا أصل لما يقال "لا يجوز الصيام مع الجنابة".
الحكم: لو بقي الصائم كل رمضان جنبًا فهذا لا يؤثر على الصيام مطلقًا، إنما ارتكب كبائر كثيرة بسبب تركه للصلاة المفروضة، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله وهو صائم.
- لا أصل لما يقال "إن الصائم إن احتلم حال نومه يفطر".
الحكم: أن من نام أثناء الصوم واحتلم أي أصابته الجنابة فلا يفطر ولو نام مرارًا وأجنب مرارًا أثناء النوم فلا يضر الصوم.
• ... لا أصل لما يقال "إنه لا يجوز الأكل أو الشرب بعد أذان الإمساك".
الحكم: يجوز الأكل والشرب بعد الأذان الأول أي أذان الإمساك وذلك حتى وقت طلوع الفجر.
• ... لا أصل لاقتداء أصحاب قضاء الصلوات بإمام التراويح بنية طلب الثواب.
الحكم: من اقتدى بإمام يصلي التراويح أو قيام رمضان والمقتدي يصلي قضاء عليه فهذا مكروه لا ثواب له عند الشافعية، وأما عند الحنفية فلا يصح اقتداء مفترض بمنتفل. والأحسن أن يقيم من عليهم قضاء صلوات جماعةً خاصةً بهم.
ثانيًا: في الحديث
• ... لا أصل لحديث :"خمس يُفطِّرنَ الصائم النظرة المحرمة والكذب والغيبة والنميمة والقبلة".
بل هو مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم ولكن بعضها يذهب ثواب الصيام كالنميمة وهي نقل الكلام بين شخصين على وجه الإفساد.
• ... لا أصل لحديث :"شعبان شهر الله ورجب شهري ورمضان شهر أمتي".
• ... لا أصل لحديث :"يوم نحركم يوم صيامكم" هو لا أصل له وإن وافق غالبًا.
ثالثًا: في اللغة
• ... الخُلوف وهو ريح يظهر من فم الصائم بضم الخاء وليس بفتحها كما هو شائع يقال "أفطر الصائم" ولا يقال "فَطَرَ" لأن "فَطَرَ" تأتي لمعنى خلقَ قال تعالى حاكيًا عن سيدنا إبراهيم عليه السلام {إني وجهت وجهي للذي فطرَ السموات والأرض} [سورة الأنعام/79]. وقد ورد في القرءان الكريم أربع عشرة ءاية بهذا المعنى.(/17)
• ... كما يقال فلان فَطَر الجُبّ بمعنى شّقَّ البئر.
• ... يقال فلان مفطر ولا يقال فاطر، فاطر تأتي بمعنى خالق.
قال الله تعالى :{الحمد لله فاطر السموات والأرض} [سورة فاطر/1].
• ... يقال كفَّارة ولا يقال غفَّارة كما يقال ويشاع.
• ... معنى السَّحور بفتح السين ما يؤكل عند السحور والسُّحور بضم السين هو وقت السحور.
يقال قلع الضرس لا يُفطِّر ولا يقال يُفطِر، وكذلك يقال الردة تُفطِّر الصائم ولا يقال تُفطِر الصائم. والله أعلم.
القول الفصل فيما ليس له أصل
في بعض ما يُنسب للصلاة
الحلقة العاشرة:
* لا أصل لما يقال إنَّ من لم يُصلّ في الدنيا يقضي تلك الصلاة في نار جهنم.
الرد: هذا كذب لما روى البخاري عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال :"اليوم العمل ولا حساب وغدًا الحساب ولا عمل".
وليعلم أن التكليف ينقطع بالموت بل لا يُقبل إيمان الكافر وتوبة العاصي إذا رأى ملَك الموت عند قبض الروح وإذا أيقن بالهلاك بالغرق ونحوه كما حصل لفرعون وكذلك إذا وصلت الروح إلى الغرغرة (أي إلى الحلقوم)، وإذا طلعت الشمسُ من مغربها وهذه من علامات الساعة الكبرى، وكلّ هذه الأمور وردت بها نصوص صريحة وصحيحة.
وبالعودة إلى أصل الموضوع نقول إنّ من مات ولم يصلّ وكان من أهل الإيمان نقول عنه هو تحت مشيئة الله إن شاء عذّبه وإن شاء غفر الله له ولكن لو عذّبه لا يخلد في نار جهنم.
* ومما لا أصل له قول عمرو خالد:"إن السهو المذموم في القرءان هو الصلاة في ءاخر الوقت".
قال عمرو خالد في شريط له مسمى "التوبة" :"إن السهو الذي ذمّه القرءان هو الذي يصلي الظهر قبل العصر والعصر قبل المغرب بوقت قليل".
الرد: إن تفسير عمرو خالد للآية :{فويلٌ للمصلين الذين هُم عن صلاتهم ساهون} بزعمه أن المراد تأخير الصلاة إلى ءاخر الوقت تفسير باطل لم يُسبق إليه وقد صحّ عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى :{فويلٌ للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون} أنهم هم الذين يتعمدون ترك الصلاة حتى يخرج وقتها ويدخل وقت الصلاة الأخرى. انتهى.
وأما الذي يصلي في ءاخر الوقت بحيث تكون صلاته ضمن الوقت فليس عليه معصية، كيف وقد جاء في سنن أبي داود وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يومًا في ءاخر وقته بحيث إنه بعدما سلم دخل وقت العصر، فأحكام الشريعة في وادٍ وأقوال عمرو خالد في وادٍ ءاخر.
* ومما لا أصل له قول عمرو خالد :"إن من نام عن صلاة الفجر ارتكب كبيرة". قال في شريطه المسمى التوبة :"إن الذي لا يستيقظ ليصلي الفجر يكون فعله هذا كبيرة".
ويقول في كتابه المسمى "عبادات المؤمن" ص 17 :"وليس اللوم على من يأخذ بالأسباب كأن يضبط المنبّه ثم تفوته الصلاة لأنه رفع القلم عن ثلاث منهم النائم حتى يستيقظ إنما اللوم على الذي لا يأخذ بالأسباب فلا يضبط (المنبّه) ولا يطلب من أحد أن يوقظه" انتهى.
الرد: على زعمك يا عمرو إذا كان المسلم فرض عليه أن يربط المنبه أو أن يوكّل شخصًا بإيقاظه فما معنى ما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ القلم رفع عن النائم حتى يستيقظ.
وماذا تقول يا عمرو في الحديث الذي رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم :"ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من أخّر الصلاة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى" فالحاصل أن الذي نام قبل الوقت استغرق كل وقت الصلاة في النوم فلم يستيقظ ليصليها ليس عليه ذنب. إنما الإثم على من استيقظ ثم نام ضمن الوقت وهو يعلم أنه لن يستيقظ، ثم إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يقيّد فلم يقل ليس في النوم مع المنبه ومع التوكيل تفريط، فمن أين أتيت بهذا القيد! كيف وقد شكت امرأة زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه لا يصلي الصبح إلا بعد طلوع الشمس فدافع عن نفسه أنّه لا يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس فعَذَرَه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل له يجب عليك أن توكّل من يوقظك فمن أين أتيت بشرطك الفاسد هذا يا عمرو خالد، أو لم تعلم بأنّ محرّم الحلال كمستحل الحرام.
* ومما لا أصل له قول عمرو خالد :"إن ملابس تارك الصلاة تلعنه واللقمة التي يأكلها".
قال عمرو خالد في كتابه المسمى "عبادات المؤمن" صحيفة 21 :"بل إن ملابس تارك الصلاة تلعنه تخيل تقول أخزاك الله لولا أن الله سخرني لك لفررت منك وتلعنه حتى اللقمة التي يأكلها تقول لعنك الله أتأكل من رزق الله ولا تؤدّي فريضته" انتهى.
الرد: ألا يكفي ما ورد في النصوص الشرعية عن حكم تارك الصلاة وهي واضحة لا لبس فيها، فلماذا التنطع والمزايدة على النصوص والإتيان بمثل هذا الكلام من القصص الإسرائيليات أو بعض الكتب المليئة بالخرافات.
كيف تنقل يا عمرو خالد كلامًا يخالف الشرع كمثل هذا الكلام الذي ليس له مستند ولا دليل، لا تكن كحاطب ليل حيث يحمل مع الحطب عقربًا أو حية من حيث لا يشعر، هل عندك دليل يثبت صحة ما تقول؟(/18)
* ومما لا أصل له قول عمرو خالد في كتابه المسمى "عبادات المؤمن" ص 28 :"وقيمة الصلاة أنها السبيل الأساسي لتعرفنا بالله عز وجل فبدون الصلاة لا نستطيع أن نتعرف على الله تعالى فإنت إذا كنت لا تصلي فمعنى ذلك لم تعرف ربك سبحانه وتعالى" انتهى.
الرد: هذا الكلام هو عكس الحقيقة تمامًا. يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله :"لا تصحّ العبادة إلا بعد معرفة المعبود"، فمن نصدّق الغزالي أم عمرو خالد، واعلم أن معرفة الله تعالى تكون في قلب المؤمن في الصلاة وخارج الصلاة ولا تصح إلا بعد معرفة الله كما ورد في الكتاب والسنّة وما أجمع عليه أهل الحقّ في اتباع العقيدة الحقة، فمعرفة الله وصفاته وأن الله واحد لا شريك ولا شبيه له، لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان وأنّه الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية وسائر الكلام عن الذات والصفات والقدَر وغير ذلك مما تجب معرفته على كل مكلف، كل هذا لا يتحصل من الصلاة فالصلاة فرع ومعرفة الله أصل وكيف يتحصل أصل من فرع! فالعبادات العملية فروع، والعقائد أصول، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه :"أحكمنا هذا قبل ذاك" أي أحكمنا علم أصول العقيدة قبل علم الفروع.
ثم ألم تعلم يا عمرو أن الأنبياء لم يدعوا الكفار ابتداءً إلى الصلاة بل دعوهم إلى الإيمان، إلى معرفة الله وأقاموا لهم البراهين والحجج القاطعة من طريق المعجزات وأدلة العقل ولم يقولوا لهم صلوا لتعرفوا الله تعالى. ثم لو قاموا بصورة الصلاة قبل أن يعرفوا الله لما صحت منهم ولَما عرفوا الله كحال كثير ممن يدعون الإسلام ويحافظون على صورة الصلاة وهم يعتقدون بالله العقائد القبيحة كاعتقاد أنه جسم قاعد فوق العرش أو منفصل عنه في جهة فوق أو تحت أو اعتقاد أن الله حال في الأجساد أو في كل مكان.
ومعنى قولك "فإذا كنت لا تصلي فمعنى ذلك أنك لم تعرف ربك" أن الإنسان لا يعرف الله إلا إذا صلّى وأنّه لا يكون مؤمنًا حتى يصلي، ويكفي لرد هذه الفرية على الدين ما رواه البخاريّ وغيره عن الرجل الذي كان مشركًا ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المعركة أُسلِم أم أقاتل؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أسلِمْ ثم قاتل" فأسلم فقاتل فقُتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"عمِل قليلاً وأُجِر كثيرًا" انتهى. فهذا الرجل لم يصلّ ركعة واحدة فهل يزعم عمرو خالد أنه لم يعرف الله وأنّه كان كافرًا.
القول الفصل فيما ليس له أصل
في بعض ما يُنسب للصلاة
الحلقة الحادية عشرة:
* ومما لا أصل له قول عمرو خالد في كتابه المسمى "عبادات المؤمن" صحيفة 40 :"واعلم أن الله أمرنا بإقامة الصلاة لا بمجرد الصلاة فقال (وأقيموا الصلاة) ولم يقل صلوا وشتان بين هذه وتلك فمعنى أقيموا أي أتموا وأحسنوا وفي اللغة العربية أقام البيت أي حسّنه وأتمه وجمَّله ولم تُذكر صلى لمعنى الأداء فقط إلا في موضوع واحد وهو موضع ذم في سورة الماعون :{فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون} فلم يقل سبحانه فويل للمقيمي الصلاة أو للمقيمين الصلاة إذ لو كانوا مقيميها حقًّا لما سهوا عنها أبدًا".
الرد: في هذا الكلام عدة أخطاء:
الخطأ الأول: في زعمه أن مجرد الأمر بالصلاة ليس معناه تحسينها وإتمامها، كيف وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام :"صلّوا كما رأيتموني أصلي" رواه البخاري والبيهقي وغيرهما ولم يقل أقيموا الصلاة كما رأيتموني أقيم الصلاة. فهل يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد منا بذلك إتمامها والإتيان بها على وجهها؟! أوليس الرسول صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى الأحسن.
الخطأ الثاني: قوله "فمعنى أقيموا أي أتموا وأحسنوا" من أين أتيت بهذا الكلام أم أنك (فاتح على حسابك)؟ قال شارح القاموس الحافظ محمد مرتضى الزبيدي في تاج العروس الذي يعتبر أضخم المعاجم العربية قال في مادة (ق و م) وأقام الشىء إقامة: أدامه ومنه قوله تعالى :{وأقيموا الصلاة}. وأما ادعاء عمرو في قوله :"وفي اللغة العربية أقام البيت أي حسنه وأتمه وجمله" فإن هذا الكلام لا أصل له في معاجم العرب كما رأيت.
الخطأ الثالث: قوله "(صلى) بمعنى الأداء فقط إلا في موضع واحد وهو موضع ذم في سورة الماعون {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون} فلم يقل سبحانه فويل للمقيمي الصلاة" هذا الكلام يدل على قلة اطلاعه على القرءان الكريم فالله تعالى قال {إنَّ الإنسان خُلق هلوعًا إذا مسَّه الشَّر جزوعًا وإذا مسّه الخير منوعًا إلا المصلين الذي هم على صلاتهم دائمون}. ثم امتدحهم في أكثر من عشر ءايات ثم قال :{والذين هم على صلاتهم يحافظون} فهنا جاء في القرءان استعمال فعل الصلاة من غير "أقيموا" للمدح البليغ تمامًا على عكس ما ابتدعه عمرو خالد وزعمه فهل نأخذ بقول عمرو خالد أم بقول الله تعالى، لا شك أننا نأخذ بما جاء به القرءان ونضرب بكل ما خالفه عرض الحائط.(/19)
* ومما لا أصل له قول عمرو خالد في كتابه المسمى "عبادات المؤمن" ص 20 عندما يتكلم عن حكم تارك الصلاة :"هل يعني أنه كافر؟ لا.. العلماء يقولون إنه يعمل عملاً من أعمال الكفار وهناك فرق كبير فاحذروا أيها الإخوة أن تكفروا أحدًا لأن التكفير مسئولية أهل العلم والاختصاص كالأزهر مثلاً" انتهى.
أولاً: إذا كان ترك الصلاة من أعمال الكفار كما زعم فتاركها كافر لأن ارتكاب أي عمل من أعمال الكفار بإرادة من غير إكراه كفر سواء كان فعليًّا أو اعتقاديًا أو لفظيًا. وقد ذكر العلماء كالنووي والبلقيني الشافعيين وابن عابدين الحنفي والبهوتي الحنبلي ومحمد عليش المالكي وغيرهم من أهل المذاهب الأربعة أمثلة كثيرة لذلك فقالوا إن الكفر الاعتقادي كاعتقاد أن الله غير قادر أو غير عالم أو أنه يشبه المخلوقات أي باعتقاد أنه جسم أو له لون أو حجم أو هيئة، والكفر الفعلي كرمي المصحف في القاذورات وكالسجود للصنم أو للنار، والكفر القولي كشتم الله أو النبي أو الإسلام، فمن فعل أي عمل من أعمال الكفر المذكورة يكفر من غير شرط أن يجتمع معه نوع ءاخر، فقول عمرو خالد بعدم تكفير من يعمل عملَ كفرٍ بعيد عن الصواب كل البعد.
نعم تارك الصلاة كسلاً لم يرتكب فعل كفر، ولذلك لا يكفر ويدل على ذلك حديث النسائي حيث روى عن النبي صلى الله عليه وسلم :"خمسُ صلوات كتبهنَّ اللهُ على العباد من جاء بهنَّ لم يضيع منهن شيئًا استخفافًا بحقهنّ كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأتِ بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذّبه وإن شاء أدخله الجنة" وروى أحمدُ نحوه.
وأما قوله "فاحذروا أيها الإخوة أن تكفروا أحدًا" فناقص فاسد وإنما عليه أن يقول احذروا أن تكفروا أحدًا بغير حقّ ولو قال ذلك لوافقناه وقلنا جاء بعين الحق.
أما قوله "لا تكفروا أحدًا" فهذا تعطيل للشرع فالفرض على كل مسلم أن يعتقد كفرَ الكافرين المرتدين والملحدين والمشركين والذين حاربوا الأنبياء وجاءوا على خلاف ما قاله الأنبياء كعبدة الأوثان والشيطان والأشخاص والشمس والقمر والنجوم وغيرهم كذلك إذا سمع أي إنسان يسب الله أو الأنبياء أو يفتي بفتاوى تكذب الشريعة والدين فإن عليه أن يعتقد كفرَه ولو اعتقد أنه بعد كل الذي حصل منه أنه على الإسلام كفر هو، فكيف يقول عمرو خالد احذروا أن تكفروا أحدًا؟!
نعم ليس شرطًا أن يعلن المسلم بلسانه في كل حال أن فلانًا كافر وفلانًا وفلانًا حتى يسْلَم بل الواجب اعتقاد كفر الكافرين وإيمان المؤمن.
أما دور أهل العلم وكل من عنده الأهلية مثلاً فواجب عليهم التحذير من أهل الكفر والفساد والضلال وتسميتهم بالاسم ليحذرهم الناس.
* ومما لا أصل له زعم عمرو خالد بأن الصحابة يصلون إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة. قال عمرو في محاضرة في قناة "اقرأ" خصصها بزعمه للقدس: "إن المسلمين ظلوا يصلون إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة في مكة".
الرد: يرد هذا الكلام ما رواه البخاريّ في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل الله {قد نرى تقلُّب وجهك في السماء} فوجّه نحو الكعبة" الحديث.
فماذا تقول يا عمرو بعد هذا؟!...
* ومما لا أصل له قول عمرو خالد في كتابه المسمى "عبادات المؤمن" ص 174 تحت عنوان "الذكر" :"ولكن المسكين لم يقدر معنى وقيمة الذكر الذي هو أفضل عند الله من إنفاق الذهب والفضة ومن أن يلقى المسلم عدوه فيضرب عنقه ويضرب عدوه عنقه" انتهى.
الرد: هذا التكرار الثالث لعمرو خالد لنفس الخطإ في الموضوع نفسه، وعمرو فهم هذا الكلام من حديث فهمًا فاسدًا لأنه لم يجشم نفسه هذا العناء وقد اعتبر نفسه أو اعتُبِر مرجعية تتمحور حولها الفضائيات والمحاضرات و ... هو يرى نفسه أكبر بكثير من أن يتصل بأهل العلم ويسألهم.(/20)
أما نص الحديث الذي فهمه خطأ فهو ما رواه الإمام أحمد في مسنده (ج5/239) قال معاذ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة ومن أن تلقوا عدوكم غدًا فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم"؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال :"ذِكر الله عز وجل". فالذكر هنا معناه الصلاة المفروضة وقد روى البخاريّ في صحيحه من طريق ابن مسعود قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله قال :"الصلاة على وقتها" قال: ثم أيّ؟ قال :"بر الوالدين" قال: ثم أيّ؟ قال :"الجهاد في سبيل الله" قال: حدثني بهن ولو استزدته لزادني والذكر في القرءان ورد بمعنى الصلاة قال تعالى :{إذا نودي للصلاةِ من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذِكر الله} وهذه الآية هرب منها عمرو خالد لأنها صريحة في أن الذّكر فيها الصلاة ولذلك لم يذكرها، وهي مع ما ذكرنا قبلها تدل بأن المقصود بالذكر في الحديث الذي ذكره عمرو خالد هو الصلاة وذلك لأن الأحاديث تتعاضد ولا تتناقض وبعضها شاهد لبعض وإلا فهل يقبل من عنده مِسكة عقلٍ أن يقول إن الذكر على معنى التسبيح والتهليل ونحوه أفضل من الإنفاق في سبيل الله وأفضل من الجهاد في سبيل الله؟! فلماذا خرج عمرو خالد في ندوة سماها "القدس" في التلفزيون وحث وحضّ على الجهاد وقتال اليهود واستمرار الانتفاضة ولماذا لم يرشدهم إلى الذكر طالما هو أفضل من لقاء العدو وقتاله على زعمه.
ويقول عمرو خالد في الصحيفة 177 :"ويحذر الله عز وجل عباده المؤمنين من أن تلهيهم الدنيا بما فيها عن ذكر الله فيقول سبحانه {يا أيها الذين ءامنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} فمن ألهاه أولاده أو أمواله عن ذكر الله فقد خسر خسرانًا مبينًا" انتهى.
الرد: وهنا زلّ عمرو للمرة الرابعة وفي الموضوع ذاته لذلك نقول قال الرازي في تفسيره (15/18) في قوله تعالى :{يا أيها الذين ءامنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} أي عن فرائض الله نحو الصلاة والزكاة والحج أو عن طاعة الله، وقال الضحاك: الصلوات الخمس" انتهى.
وحاصل الأمر أن كلمة "الذكر" لو راجع عمرو خالد هذه الكلمة في القرءان وفي كتب التفسير واللغة لوجد أن لها معاني كثيرة فهي تأتي بمعنى العلم والقرءان والإسلام والصلاة وغير ذلك.
قال تعالى :{ومن أعرضَ عن ذكري} (سورة طه/124) الآية تعني الإسلام.
وقال تعالى :{فاسألوا أهل الذكر} (سورة الأنبياء/7) يعني العلم.
وقال :{وهذا ذكر مبارك أنزلناه} (سورة الأنبياء/50) يعني القرءان.
وقال :{لقد أضلّني عن الذكر بعد إذ جاءني} (سورة الفرقان/29) يعني الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال :{إذ نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} (سورة الجمعة/9) يعني الصلاة.
وقال :{إنَّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون} (سورة الحجر/9) يعني القرءان.
وقال {يا أيّها الذين ءامنوا اذكروا الله ذِكرًا كثيرًا} (سورة الأحزاب/41) أي الذكر المعروف، والآيات كثيرة والمعاني أيضًا كثيرة.
القول الفصل فيما ليس له أصل
في بعض ما ينسب للصلاة
الحلقة الثانية عشرة:
* لا أصل لما يفعله كثير من الناس حيث يدخلون في الصلاة من غير التحري لمعرفة دخول الوقت، فمن شروط الصلاة دخول الوقت، والوقت لا يُعرف دخوله من طريق الظن بل لا بد من اليقين فقد يدخل بعض الناس في الصلاة لمجرد سماع الأذان، وكذلك كثير من الناس يفطرون في رمضان لمجرد سماع الأذان من المؤذن غير الثقة أو من الإذاعة التي لا يعتمد عليها من غير تيقّن دخول الوقت فهذا لا تصح صلاته وكذلك لا يصح صيامه إن أكل قبل المغرب، فلا بد من اليقين في كليهما.
* ومما لا أصل له عدم تحري القِبلة فكثير من الناس يتجه في صلاته إلى اتجاهات يظنها القبلة من غير اجتهاد شرعي معتبر كأن يدخل إلى مسجد بُني حديثًا فيصلي إلى محرابه فهذا لا تصح صلاته، فكثير من المساجد تُبنى على يد مهندسين لا علم لهم باتجاه القبلة ولربما يحدد اتجاه القبلة أناس من غير المسلمين وقد شوهد الكثير من المساجد في أنحاء الأرض أن المحراب فيها منحرف عن اتجاه القبلة، فلا بُدّ إذًا لمريد الصلاة أن يجتهد إلا في المساجد القديمة التي مرّ عليها علماء وأقرّوا الاتجاه الصحيح. والاجتهاد يكون بنحو النجم القطبي والشرق والغرب والشمال والجنوب والبوصلة الصحيحة المجرّبة. ثم يعمل فكره بالتحري بحسب كل من هذه الأشياء.
واعلم أن من أخطر الأمور في هذا الموضوع ما فعله بعض المبتدعة في أميركا الشمالية منذ ست وثلاثين سنة حيث حولوا الناس من الاتجاه إلى الكعبة وهي إلى الجنوب الشرقي إلى الشمال الشرقي والعياذ بالله مستدلين بأوهام لا أساس لها في شرع الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.(/21)
والأشنع من ذلك ما رأيته في المسجد الحرام حيث إن بعض الناس يرون الكعبة أمامهم ولا يصلون إلى اتجاهها!! بل يلزمون الخط الأسود في البلاط وذلك في الطوابق العليا، وقد رأيت ذلك في ناحية الصفا والمروة على هذا الشكل بحيث لم يحكم عمل الدائرة جيدًا فاتجه الناس إلى غير عين الكعبة وهم يرونها بأعينهم.
* لا أصل لما يقال إنّ من صلى (من الذكور) كاشفًا رأسه فهو مكروه.
هذا الكلام لا أصل له وإن قاله بعض المتأخرين حيث ثبتَ في ابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى وهو حاسر الرأس فلو كان مكروهًا لما فعله صلى الله عليه وسلم. ونصُّ الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى وليس على جسده شىء إلا البُرد. وهو الإزار الذي يُؤتزر به.
* ومما لا أصل له فعل بعض النساء حيث يُصلين وجزء من العورة بارز وهو ما بين ذقنها وعنقها، فهذا لا يجوز إجماعًا لأن هذا الجزء عورة، حتى إن البعض منهن يخرجن إلى الشارع وقد عقدن الخمار عند العنق ولم يعقدنه تحت الذقن بحيث يظهر مما يليها إلى العنق فهذا حرام.
* ومما لا أصل له أمر بعض أولياء الأبناء أبناءهم بالصلاة وهم دون سنّ التمييز، والتمييز هو أن يفهم الولد الخطاب ويرد الجواب، وسنّ التمييز الغالب هو سبع سنوات قمرية، فمن كان دون التمييز لا يؤمر بالصلاة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"مُروا أولادكم بالصلاةِ وهم أبناء سبع". فغير المميّز يُعلم بالنظر يقال له: انظر إلى المصلين، ثم يؤمر بالصلاة لما يَصير عمره سبع سنوات وقد ميّز.
* ولا أصل لقول بعضهم إنه لا يجوز أن نقول في التشهد اللهم صل على سيدنا محمد. يستدلون بحديث مكذوب "لا تُسيّدوني في الصلاة" فهذا الحديث مكذوب وزيادة على ذلك فيه خطأ في اللغة وهو قولهم "لا تُسيّدوني" والصواب من حيث اللغة "لا تُسوّدوني"، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يلحن بلغة العرب كيف وهو أفصح من نطق بالضاد. إذًا فلا بأس لو قال الشخص في الصلاة "اللهم صلّ على سيدنا محمد".
* ومما لا أصل له وضع بعض المصلين أيديهم في صلاتهم على بطونهم لجهة اليسار بحجة أنها جهة القلب فهذا لا أصل له ولم يرد به دليل.
* ومما لا أصل له قول بعضهم في الصلاة "الله أكبار" وذلك في تكبيرة الإحرام وغيره.
فالأكبار في اللغة جمع "كَبَر" وهو الطبل الكبير، فكأنه يقول "الله طبول" فمن فهِم هذا المعنى وتعمّد قوله فقد كفر والعياذ بالله، ومن لم يعرف هذا المعنى وقاله لم تصح صلاته ووقع في حرام، ولا يعذر بجهله، وبعض الناس يقول "الله أكبار" عند التعجب، يمدّون الباء فهذا حرام فليُحذر.
* ومما لا أصل له طأطأة الرأس بين التسليمتين حتى يلامس ذقنه ترقوة صدره، وليس على ذلك من دليل بل هو من بدع العامة.
* ومما لا أصل له القول بالصلاة في "البيجاما" مكروهة، وهذا من التنطع في الدين والقول في دين الله بغير علم. فأي ثوب يُصلي به المسلم الصلاة به صحيحة ما لم يكن متنجّسًا أو غير ساتر للعورة.
فالرسول كان له ثوب واحد وكان ينام به ويصلي به فماذا يقولون في هذا؟
هم تأثروا بأهل الدنيا الذين يعيبون على الناس الخروج من المنزل بملابس النوم أو حتى استقبال الضيوف بملابس النوم فلا عبرة بالعرف إن خالف الشرع.
* لا اصل لما يقال لا يجوز للمرأة أن تصلي أمام (بحضور) الرجال الأجانب أو إن صلاتها لا تصح.
هذا كلام لا أساس له ولا دليل عليه، بل هي جائزة، وقد ثبت قي الصحيح أن النساء كنّ يصلين خلف الرجال في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يكون بينهم حاجز وهذا ما يحصل حتى اليوم عند الكعبة المشرفة. نقول ذلك مع بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في مسجدي هذا".
ملاحظة: نرجو ممن وجد خطأ مطبعيًا أن يرسل لنا التصويب مع ذِكر الموضع بالتحديد على العنوان التالي: webmaster@ahlussunah.org
وبارك الله بكم(/22)
القول المختار في حكم الاستعانة بالكفار
...
سيرة المؤلف لأحد تلامذته
هو الشيخ العلامة أبو عبدالله حمود بن عبدالله بن عقلاء بن محمد ابن علي بن عقلاء الشعيبي الخالدي من آل جناح من بني خالد ، ولد سنة 1346هـ ونشأ في بلدة الشقة من أعمال بريدة ، وعندما بلغ السابعة من عمره كف بصره بسبب مرض الجدري ، وعلى الرغم من ذلك واصل دراسته في الكتَّاب ، وكان لوالده جهدٌ كبير في تنشأته وتعليمه ، وقد حفظ القرآن وعمره خمسة عشر عاماً في الكتَّاب أيضاً على يد الشيخ عبدالله بن مبارك العمري ، ثم رحل إلى الرياض لطلب العلم وذلك في سنة 1367هـ بإشارة من والده ، فبدأ بتلقي العلوم على فضيلة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ ، أخذ عنه مبادىء العلوم ، ثم انتقل إلى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ سنة 1368هـ ، فلازمه وأكثر من الأخذ عنه في شتى فنون العلم ، وقد تتلمذ على عدة مشائخ غير هؤلاء منهم فضيلة الشيخ إبراهيم بن سليمان وفضيلة الشيخ سعود بن رشود وفضيلة الشيخ عبدالله بن محمد ابن حميد وفضيلة الشيخ عبدالعزيز بن رشيد وغيرهم .
وبعد أن فتحت كلية الشريعة بالرياض أخذ فيها عن سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله ، وعلى الشيخ محمد الأمين الشنقيطي فلازمه حتى في بيته فأخذ عنه المنطق وأصول الفقه والتفسير ، وفي سنة 1376هـ تخرج من كلية الشريعة وعين في نفس السنة مدرساً في المعهد العلمي بالرياض ، وفي عام 1378هـ عين مدرساً في كلية الشريعة ، وتولى فيها على مدى أربعين سنة تدريس الحديث والفقه وأصول الفقه ، والتوحيد والنحو والتفسير ، ثم ترقى خلالها حتى وصل إلى درجة أستاذ ولشيخنا بحوث ومؤلفات عدة ، منها : الإمامة العظمى ، والبراهين المتظاهرة في حتمية الإيمان بالله والدار الآخرة ، وشرح جزء من بلوغ المرام ، وشارك في تأليف كتاب تسهيل الوصول إلى علم الأصول المقرر في الجامعة الإسلامية ، وهذا البحث المبارك " القول المختار في حكم الاستعانة بالكفار " وله فتاوى ومذكرات كثيرة متفرقة متداولة ، تتضمن الوقوف ضد التيارات المنحرفة والمبتدعة ، منها في التصوير والتحذير من الحفلات الغنائية ، والأعياد المبتدعة وقيادة المرأة السيارة وغيرها ، ومنها تزكيات للعلماء والمصلحين ، فجزاه الله خيراً من مجاهد صادق ، وقد تخرج على يده ثلة غفيرة من العلماء والأساتذة والوزراء ، منهم معالي الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي وزير الشؤون الإسلامية ، ومعالي الدكتور عبدالله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ وزير العدل ، وفضيلة الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء ، وفضيلة الشيخ المجاهد سلمان بن فهد العودة، وفضيلة الشيخ المجاهد علي ابن خضير الخضير، وفضيلة الشيخ قاضي تمييز عبدالرحمن بن صالح الجبر ، وفضيلة الشيخ قاضي تمييز عبدالرحمن بن سليمان الجارالله ، وفضيلة الشيخ قاضي تمييز عبدالرحمن بن عبدالعزيز الكِليِّة ، وفضيلة الشيخ قاضي تمييز عبدالرحمن بن غيث ، وفضيلة الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله العجلان رئيس محاكم منطقة القصيم ، وفضيلة الشيخ سليمان ابن مهنا رئيس محاكم الرياض ، وفضيلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن السعيد الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورئيس هيئة التحقيق والادعاء العام فضيلة الشيخ محمد بن مهوس ، وفضيلة الشيخ الدكتور عبدالله الغنيمان ، وفضيلة الشيخ حمد بن فريان وكيل وزارة العدل ، وفضيلة الشيخ إبراهيم بن داود وكيل وزارة الداخلية ، وممن أشرف على رسائلهم العلمية سواء في الدكتوراه أو الماجستير : الدكتور محمد عبدالله السكاكر، والدكتور عبدالله بن صالح المشيقح ، والدكتور عبدالله بن سليمان الجاسر ، والدكتور صالح بن عبدالرحمن المحيميد ، والدكتور محمد بن لاحم ، والدكتور عبدالعزيز بن صالح الجوعي ، والدكتور ناصر السعوي ، والدكتور خليفة الخليفة ، والدكتور إبراهيم ابن محمد الدوسري وغيرهم كثير ، فجزاه الله خير الجزاء ونفع الله بعلمه وختم له بخير .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين .
15/2/1420هـ
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إله الأولين والآخرين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى سائر إخوانه من النبيين والمرسلين وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين . أما بعد :(/1)
فإن الله سبحانه وتعالى لما أراد بأهل الأرض خيراً أرسل إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق وأمره أن يبلغ هذا الدين لأمته ، فقام صلوات الله وسلامه عليه بهذا الأمر أتم قيام فما ترك خيراً وصلاحاً إلا دل الأمة عليه وأمرهم به وبين لهم أسباب الوصول إليه ، وما ترك شراً إلا وحذر الأمة منه ونهاهم عنه وبين لهم الطرق الموصلة إليه ليجتنبوه ، فما توفي عليه الصلاة والسلام إلا وقد بين لأمته كل ما تحتاج إليه ويصلحها في دنياها وأخراها . قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } . وقال عليه الصلاة والسلام : " تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " . وقال أبو ذر رضي الله عنه : " ما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وذكر لنا منه علماً " .
وإن مما حذر منه عليه الصلاة والسلام ونهى عنه في آخر حياته وفي مرض موته صلى الله عليه وسلم إقامة اليهود والنصارى والمشركين في جزيرة العرب واستعانة المسلمين بالكفار في القتال وفي غيره ، والمستقرىء لكتاب الله العزيز يجد فيه النصوص الكثيرة في تحريم الركون إلى الكفار وموالاتهم والاستعانة بهم ، وكذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم نصوص كثيرة متظافرة تنهى نهياً مؤكداً عن إقامة اليهود والنصارى والمشركين في جزيرة العرب ، وعن الاستعانة بالكفار والركون إليهم وموالاتهم كذلك ، وهذا ثابت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين والمسانيد والسنن وغيرها كما ستقف عليه إن شاء الله في أثناء هذا البحث ، ولما رأيت بعض الحكومات - التي تدعي الإسلام - في الجزيرة العربية قد تجاهلت مدلول هذه النصوص فسهلت الطريق لدخول اليهود والنصارى إلى الجزيرة ومكنتهم من الإقامة فيها وتكديس ترسانات أسلحتهم المتنوعة فيها لإرهاب المسلمين وتهديد استقرار الشعوب العربية المسلمة ومهاجمتهم بالأسلحة الفتاكة واستمرار الهجمات والضربات العسكرية عليهم من وقت لآخر . . . رأيت لزاماً عليَّ أن أبين هذه الحقيقة وفق ما يفهم من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام فكتبت هذا البحث المختصر وضمنته بعضاً من النصوص الواردة في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة في هذا الشأن كما ذكرت فيه جملة من أقوال علماء الأمة الذين أدوا الأمانة ووفوا بالعهود التي أخذها الله عليهم فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً .
ولقد عزمت على كتابة هذا البحث إبراءاً للذمة وأداءاً للأمانة واتقاءاً للوعيد الذي تضمنه قوله تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } .
والله أسأل أن ينفع به ويجعله خالصاً لوجهه الكريم .
حمود بن عبدالله بن عقلاء الشعيبي
الأستاذ سابقاً في كلية الشريعة وأصول الدين
في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
فرع القصيم 15 شوال 1419هـ
تمهيد
قبل الشروع في البحث لابد لي من تمهيد بين يديه تعرف من خلاله السبب الذي من أجله أوصى عليه الصلاة والسلام بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب ونهى عن الاستعانة بالكفار .
فأقول : أعلم وفقنا الله وإياك أنه منذ أشرق نور الإسلام في ربوع مكة المكرمة جُنَّ جنون أعداء الرسل من يهود ونصارى ومشركين ومنافقين فشمَّروا عن سواعدهم لمحاربة الإسلام ومعارضته وقاموا بحملات كلامية استهدفوا فيها شخص النبي صلى الله عليه وسلم حيث نعتوه بشتَّى نعوت الذم والعيب والتنقص ليشوهوا ما جاء به وينفروا عنه الناس فتارة قالوا ساحر ومرة قالوا شاعر وأخرى معلَّم مجنون وقالوا : مفترٍ ولكن الله سبحانه وتعالى ردَّ عليهم في كتابه العزيز ونفى كل هذه النعوت الكاذبة الحاقدة عن نبيه عليه الصلاة والسلام فقال { وما صاحبكم بمجنون } وقال : { فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون } . وقال :
{ وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين } . وقال : { إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلاً ماتؤمنون } إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي نزه الله بها نبيه عن تلك النعوت الكاذبة .
ولما لم تنجح هذه الأساليب في صد الناس عن اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام لجأوا إلى إيذاء أصحابه وأتباعه وتسلطوا عليهم بالتعذيب والإهانة والقتل أحياناً رجاء أن يرجعوا عن اعتناقهم الإسلام واتباع
النبي صلى الله عليه وسلم ولما لم تكن هذه الأساليب ناجحة في صرف المسلمين عن اتباع نبيهم صلى الله عليه وسلم لجأ قتلة الأنبياء إلى محاولة القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم فتارة وضعوا له السُّم في الطعام ومرة سحروه وأخرى حاولوا إلقاء حجر عليه من شاهق غير أن هذه المحاولات الحاقدة باءت بالفشل حيث حمى الله نبيه وأطلعه على هذه المحاولات الشريرة التي استهدفت القضاء على النبي وعلى(/2)
دين الإسلام الذي جاء به ولما استفحل أمرهم وعظم شرهم وتكرر نقضهم للعهود والمواثيق قاومهم النبي صلى الله عليه وسلم وجرت بينه وبينهم معارك عسكرية هي غزوة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وغزوة خيبر ، وفي كل هذه المعارك انتصر الإسلام ، وانهزم أعداء الله ، وعندما فتح الله على نبيه خيبر صالح عليه الصلاة والسلام اليهود على البقاء فيها والعمل في أرضها بشطر ما يخرج منها ولكنه صُلْح جعل الخيار فيه للمسلمين بأن قال عليه الصلاة والسلام : " نقركم فيها ما شئنا " . فمقتضى هذا الصلح أن للمسلمين الخيار ، فمتى شاءوا أخرجوا اليهود وأنهوا الصلح معهم وهذه الصورة للصلح هي إحدى صورتين صالح فيهما النبي صلى الله عليه وسلم أعداءه ، والأخرى صلْحه مع المشركين يوم الحديبية وهو صُلْح محدد بزمن معين ينتهي بانتهاء ذلك الزمن ، أما غير هاتين الصورتين فلم يحصل صُلْح بين النبي وبين الكفار حسب علمي اللهم إلا أن يقال إنه عند قدومه صلى الله عليه وسلم للمدينة وادع اليهود وهذا صحيح ولكن وادعهم على ألا يعتدوا عليه ولا يعينوا عليه أحداً مقابل بقائهم في قراهم ومزارعهم ، أما صُلْح يتضمن تنازل المسلمين عن شيء من أراضيهم لليهود أو أحد من الكفار وتبقى ملك للعدو إلى الأبد ويكونون أصدقاء لهم ويعترفون بهم ويلغون مقاتلتهم وجهادهم فهذا لم يقع منه صلى الله عليه وسلم حسب ما علمت .
جرت هذه المعارك بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود كما جرت بينه وبين النصارى معارك أخرى هي مؤتة وهي غزوة موجهة إلى نصارى العرب وغزوة تبوك الموجهة إلى الروم النصارى وما ذاك إلا لعلمه صلى الله عليه وسلم بخطرهم على الإسلام والمسلمين ثم جدد الأخطبوط - اليهود والنصارى - صراعهم بعد عهد النبوة فحاولوا القضاء على الخلافة الإسلامية بالجهود التي قام بها طاغوتهم وأشقاهم عبدالله بن سبأ اليهودي فقد تآمروا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقتلوه ، وتآمروا على أمير المؤمنين عثمان بن عفان فخلعوه من الخلافة وقتلوه ، ثم قتلوا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ، ثم فيما بعد ما قام به النصارى الصليبيون في الداخل من التعاون مع أعداء الدين ضد المسلمين ثم ما قاموا به من حملات صليبية عسكرية استولوا بها على أجزاء من بلاد المسلمين حتى جاءت فتنة الاستعمار العسكري المباشر في القرن الماضي ، ثم الغزو الفكري ، ثم التغريب والتبعية ، ثم العلمنة ، واليوم يقومون بنفس الدور في محاربة الإسلام والمسلمين لكن بأسماء مختلفة وشعارات مخدرة بما يسمى بالنظام العالمي الجديد ، ومظلة الأمم المتحدة ، والشرعية الدولية ، ومن تلك الأساليب ما يطلقونه على المجاهدين من ألقاب كالأصولية والإرهاب والتطرف والتشدد ، فعادوا إلى المنطقة الإسلامية بأسماء مستعارة كالصداقة ومسمى التعاون أو الاستعانة أو إعادة الشرعية ، والواقع أن اليهود والنصارى من أخطر أعداء الإسلام ، ولذا جاء ذمهم كثيراً في القرآن الكريم والسنة المطهرة والتحذير من شرورهم .
وفي الجملة فإن كل فساد وضلال وقع في العقيدة الإسلامية فاليهود والنصارى وراؤُه ، فإذا تأملت ضلالة الخوارج وبدعتهم وجدت أن وراءَها اليهود ، لأن محدثها اليهودي الذي سمى نفسه عبدالله بن سبأ ، وإذا تأملت بدعة الرفض وجدت أن محدثها هو ابن سبأ ، وإذا تأملت ضلالة القدرية وجدت أن محدثها يهودي من يهود البصرة يقال له سوسن اليهودي ، وإذا تأملت كفر الباطنية وجدت أن محدثه ميمون بن ديصان اليهودي ، وإذا تأملت بدعة الجهمية وجدت أن سند الجهم بن صفوان يتصل بلبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وحتى المذاهب الكفرية المعاصرة، مثل الشيوعية والبهائية والقاديانية وجدتَ أن محدثيها اليهود والنصارى ، فإن إمام الشيوعية كارل ماركس يهودي ، والقاديانية والبهائية من صنع البريطانيين ، أحدثوها في الهند وفارس ودعوا إليها وعملوا على نشرها في العالم الإسلامي .
وبهذا التمهيد المختصر تعرف الأسباب التي من أجلها أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب ، ونهانا أن نستعين بهم أو نركن إليهم ، ولأن الاستعانة بهم تستلزم موالاتهم والركون إليهم واتخاذهم أولياء وأصدقاء .
قبل الكلام على حكم إجلاء اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب لابد من بيان الجزيرة العربية وموقعها وحدودها وأهميتها والدول الواقعة فيها .
تعريف الجزيرة
لغة : جاء في المصباح المنير : " جزر الماء جزراً من بابي ضرب وقتل انحسر وهو رجوعه إلى خلف ومنه الجزيرة سميت بذلك لانحسار الماء عنها " .
اصطلاحاً : والجزيرة في اصطلاح الجغرافيين والمؤرخين وعلماء البلدان : " بقعة من اليابسة يحيط بها الماء من جميع جهاتها ولذا سميت جزيرة لأن الماء جزر عنها وبقيت يابسة(/3)
وجزيرة العرب بهذا التعريف تكون شبه جزيرة لأن الماء يحيط بها من أغلب جهاتها لا من جميع جهاتها ونسبت إلى العرب لأنها مقرهم منذ كانوا .
موقعها فأما موقعها فهي تقع في الطرف الجنوبي الغربي من قارة آسيا .
حدودها وأما حدودها فقد أتفق المؤرخون والجغرافيون تقريباً على حدودها الثلاثة الغربي والجنوبي والشرقي واختلفوا في الحد الشمالي اختلافاً يقرب من أن يكون لفظياً .
والذي يتلخص من كلام المؤرخين والجغرافيين في تحديد الجزيرة أنها تحد من الغرب ببحر القلزم المعروف بالبحر الأحمر ، ومن الجنوب بالبحر العربي ، ومن الشرق بالخليج العربي ( خليج البصرة ) ، ومن الشمال ببادية الشام .
قال شيخ الإسلام تقي الدين : " جزيرة العرب التي هي من بحر القلزم إلى بحر البصرة ، ومن أقصى حجر اليمامة إلى أوائل الشام بحيث كانت تدخل اليمن في دارهم ولاتدخل فيها الشام، وفي هذه الأرض كانت العرب حين البعث وقبله " اهـ .
قال أبو عبيد والأصمعي : " هي من ريف العراق إلى عدن طولاً ، ومن تهامة وما وراءها إلى أطراف الشام عرضاً " اهـ .
وقال أبو عبيدة : " هي من حفر أبي موسى إلى اليمن طولاً ومن رمل يبرين إلى منقطع السماوه عرضاً " اهـ .
قال الخليل : " إنما قيل لها جزيرة العرب لأن بحر الحبش وبحر فارس والفرات قد أحاطت بها " اهـ .
وقال سماحة الشيخ العلامة بكر أبو زيد : " حدود الجزيرة العربية غرباً بحر القلزم والقلزم مدينه على طرفه الشمالي وهو المعروف باسم البحر الأحمر ، ويحدها جنوباً بحر العرب ويقال بحر اليمن، وشرقاً خليج البصرة ( الخليج العربي ) والتحديد من هذه الجهات الثلاث بالأبحر المذكورة محل اتفاق بين المحدثين والفقهاء والمؤرخين والجغرافيين وغيرهم الحد الشمالي يحدها شمالاً ساحل البحر الأحمر الشرقي وما على ماسامته شرقاً من مشارف الشام وأطرافه ( الأردن حالياً ) ومنقطع السماوة من ريف العراق والحد غير داخل في المحدود هنا " اهـ .
وبالجملة فالجزيرة العربية هي قاعدة الإسلام والمسلمين ومنطلقه العريق وهي أولى البلاد بأن تكون خالصة للإسلام والمسلمين طاهرة من رجس اليهود والنصارى . بأي مسمى جاؤوا إليها سواء مسمى الإعانة أو الدفاع أو الإقامة ، ولذا جاء التحذير من الرسول صلى الله عليه وسلم بتطهير الجزيرة العربية منهم .
قال ممليه عفا الله عنه : والعجب مما ذهب إليه بعض العلماء من أن المراد بجزيرة العرب التي ورد ذكرها في الأحاديث هي الحجاز فقط حيث خصصوا الحكم بإجلاء اليهود والنصارى والمشركين من الحجاز مع أن الحجاز لا ينطبق عليه تعريف الجزيرة لأن الجزيرة جزء من اليابسة يحيط به الماء من جميع جهاته أو من أغلبها والحجاز لايحيط به الماء من جميع جهاته ولا من أغلبه وإنما يحده من جهة واحدة وهي الجهة الغربية فكيف يطلق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم جزيرة العرب في الأحاديث الكثيرة ، وقد بحثت عن دليل يخص الحجاز بهذه التسمية فلم أجد سوى أمرين استدل بهما القائلون بأن الحجاز هي جزيرة العرب ، وهما دليلان لا يوصلان إلى المدعى ، أما الأول فقالوا إنه ورد عنه صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث قوله : " أخرجوا اليهود من الحجاز " ، وأما الثاني : فإنهم قالوا إن الحكَّام وبعض العلماء تركوا اليهود في اليمن وتيماء فلو كانت هذه الأماكن من الجزيرة لما تركوا اليهود فيها .
الجواب عن هذين الدليلين :
أما الأول : فإنه قوله صلى الله عليه وسلم أخرجوا اليهود من الحجاز وهو لايتنافى مع قوله صلى الله عليه وسلم أخرجوهم من جزيرة العرب لأن الحجاز جزء من جزيرة العرب ومعلوم أنه قد تقرر في علم الأصول أن ذكر بعض أفراد العام أو أجزاء الكل لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون ذكر بعض أفراد العام أو أجزاء الكل مخالفاً لحكم العام أو الكل أو موافقاً له ، فإن كان موافقاً له فهو مؤكد له غير معارض له كما في ذكر إجلاء اليهود من الحجاز فإنه موافق لقوله : " أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب " غير معارض له لأن الحجاز من جزيرة العرب وإن كان ذكر بعض أفراد العام أو أجزاء الكل مخالفاً لحكم العام أو الكل فهو مخصص له غير ناسخ له .
ثانياً : أما استدلالهم بترك بعض الحكَّام والعلماء لليهود في تيماء واليمن فالجواب عنه أن يقال : أولاً : قد يكون لتركهم لليهود في اليمن وغيره مبرر يقتضي ذلك بأن يكون تركهم في هذه الأماكن وعدم إجلائهم فيه مصلحة للإسلام والمسلمين تربوا على مفسدة بقائهم . ثانياً : وقد يكونون غير قادرين على إجلائهم .(/4)
وقد تعرض الإمام الصنعاني في كتاب الجهاد من كتاب سبل السلام لهذا فقال رحمه الله : " قلت : لا يخفى أن الأحاديث الماضية فيها الأمر بإخراج من ذكر من أهل الأديان غير دين الإسلام من جزيرة العرب والحجاز بعض جزيرة العرب وورد في حديث أبي عبيدة الأمر بإخراجهم من الحجاز وهو بعض مسمى جزيرة العرب والحكم على بعض مسمياتها بحكم لا يعارض الحكم عليها كلها بذلك الحكم كما
قرر في الأصول أن الحكم على بعض أفراد العام لا يخصص العام .
وهذا نظيره ، وليست جزيرة العرب من ألفاظ العموم كما وهم فيه جماعة من العلماء وغاية ما أفاده حديث أبي عبيدة زيادة التأكيد من إخراجهم من الحجاز لأنه أدخل إخراجهم من الحجاز تحت الأمر بإخراجهم من جزيرة العرب، ثم أفرد بالأمر زيادة تأكيد لا أنه تخصيص أو نسخ كيف وقد كان آخر كلامه صلى الله عليه وسلم : " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " .
وأخرج البيهقي من حديث مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه سمع عمر بن عبدالعزيز يقول : " بلغني أنه كان آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لا يبقين دينان بأرض العرب " .
وأما قول الشافعي : إنه لا يعلم أحداً أجلاهم من اليمن فليس ترك إجلائهم بدليل فإن أعذار من ترك ذلك كثيرة ، وقد ترك أبو بكر رضي الله عنه إجلاء أهل الحجاز مع الاتفاق على وجوب إجلائهم لشغله بجهاد أهل الردة ولم يكن ذلك دليلاً على أنهم لا يجلون بل أجلاهم عمر رضي الله عنه، وأما القول بأنه صلى الله عليه وسلم أقرهم في اليمن بقوله لمعاذ : " خذ من كل حالم ديناراً أو عدله معافرياً " فهذا كان قبل أمره صلى الله عليه وسلم بإخراجهم فإنه كان عند وفاته كما عرفت ، فالحق وجوب إجلائهم من اليمن لوضوح دليله، وكذا القول بأن تقريرهم في اليمن قد صار إجماعاً سكوتياً لا ينهض على دفع الأحاديث فإن السكوت من العلماء على أمر وقع من الآحاد أو من خليفة أو غيره من فعل محظور أو ترك واجب لا يدل على جواز ما وقع ولا على جواز ما ترك فإنه إن كان الواقع فعلاً أو تركاً لمنكر وسكتوا لم يدل سكوتهم على أنه ليس بمنكر لما علم من أن مراتب الإنكار ثلاث باليد أو اللسان أو القلب ، وانتفاء الإنكار باليد واللسان لا يدل على انتفائه بالقلب وحينئذ فلا يدل سكوته على تقريره لما وقع حتى يقال قد أجمع عليه إجماعاً سكوتياً إذ لا يثبت أنه قد أجمع الساكت إذا علم رضاه بالواقع ولا يعلم ذلك إلا علام الغيوب . وبهذا يعرف بطلان القول بأن الإجماع السكوتي حجة ولا أعلم أحداً قد حرر هذا في رد الإجماع السكوتي مع وضوحه والحمد لله المنعم المتفضل ، فقد أوضحناه في رسالة مستقلة ، فالعجب ممن قال : ومثله قد يفيد القطع وكذلك قول من قال إنه يحتمل أن حديث الأمر بالإخراج كان عند سكوتهم بغير جزية باطل لأن الأمر بإخراجهم عند وفاته صلى الله عليه وسلم والجزية فرضت في التاسعة من الهجرة عند نزول براءة فكيف يتم هذا ، ثم إن عمر أجلى أهل نجران وقد كان صالحهم صلى الله عليه وسلم على مال واسع كما هو معروف وهو جزية والتكلف لتقويم ما عليه الناس وردِّ ما ورد من النصوص بمثل هذه التأويلات مما يطيل تعجب الناظر المنصف اهـ .
فأما الدول الواقعة فيها فمنها جمهورية اليمن والمملكة والكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر وعمان .
وبعد الفراغ من بيان الجزيرة العربية وموقعها وحدودها وأهميتها والدول الواقعة فيها نتكلم على حكم إقامة اليهود والنصارى والمشركين فيها .
حكم إقامة اليهود والنصارى والمشركين في الجزيرة العربية
لقد اتفق من يعتد بقوله من فقهاء الأمة وعلمائها على أنها لا تجوز إقامة اليهود والنصارى والمشركين في جزيرة العرب لا إقامة دائمة ولا مؤقتة ما عدا أن بعض العلماء يرى جواز إقامتهم ثلاثة ايام للضرورة ، ولا يجوز لمسلم أن يأذن لهم في دخولها للإقامة . معتمدين على الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم والآثار الثابتة عن الصحابة رضوان الله عليهم . فمن تلك النصوص :
أولاً : ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى عند موته بثلاث : " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، ونسيت الثالثة " .
وفي صحيح مسلم من طريق أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يقول أخبرني عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً " .
وفي الصحيحين : " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز " .
ومنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق محمد بن إسحاق قال حدثني صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد الله ابن عبدالله بن عتبة عن عائشة قالت : " كان آخر ما عهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يترك بجزيرة العرب دينان " .(/5)
وقال الإمام مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه سمع عمر ابن عبدالعزيز يقول كان آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال : " قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لا يبقين دينان
بأرض العرب " وحدثني مالك عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" لا يجتمع دينان في جزيرة العرب فأجلى يهود خيبر " .
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال :
" بينما نحن في المسجد إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " انطلقوا إلى يهود فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس فقام النبي صلى الله عليه وسلم فناداهم :
يا معشر يهود أسلموا تسلموا ، فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم فقال : ذلك أريد ثم قالها الثانية فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم، ثم قال في الثالثة فقال : اعلموا أن الأرض لله ورسوله وإني أريد أن أجليكم فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله " .
هذه النصوص وغيرها مما لم أورده تدل دلالة قاطعة على أنه لايجوز لليهود والنصارى وغيرهم من الكفار أن يبقوا في جزيرة العرب وهي كما ترى في مكان من حيث الصحة والصراحة ووضوح المعنى والإحكام بحيث لايمكن الطعن فيها بالتضعيف أو التأويل أو دعوى النسخ وذلك أنها مخرجة في الصحيحين وبعضها في المسند وبعضها في السنن وقد اتفق العلماء على أن ما اتفق على إخراجه البخاري ومسلم رحمهم الله أنه يفيد العلم اليقيني لأن الأمة تلقته بالقبول والتصديق فلا مجال للطعن فيما اتفق عليه البخاري ومسلم ، وأما عدم جواز تأويلها فذلك لأجل صراحة ألفاظها ووضوحها وكونها نصاً في الموضوع لا يحتمل لفظها معنى غير المعنى الظاهر منها وما كان كذلك فلا يصح تأويله عند علماء الأصول وغيرهم من العلماء إنما الذي يجوز تأويله من النصوص هو الذي يكون لفظه محتملاً لمعنيين فيرجح أحدهما لأجل قرينة تحف به ، أما كونها محكمة وغير قابلة للنسخ فلأجل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر وأوصى بإخراجهم من جزيرة العرب في آخر حياته كما روى الإمام أحمد عن عائشة أنها قالت : " كان آخر ما عهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
لا يترك بجزيرة العرب دينان " . وكما قال الإمام مالك رحمه الله في الموطأ : " أنه سمع عمر يقول : " كان آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
لا يبقين دينان بأرض العرب " . فإذا كان الأمر كذلك فدعوى النسخ غير واردة لمعرفة تأخر تأريخ تكلمه صلى الله عليه وسلم بذلك ، وأيضاً فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أجلى اليهود من خيبر والنصارى من نجران بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلو كان أمره صلى الله عليه وسلم بإخراجهم من الجزيرة منسوخاً لم يجلهم عمر ، ولا يقال يمكن أن يخفى على عمر رضي الله عنه النسخ ، كما يدل على هذا ما أخرجه البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال لما فدع أهل خيبر عبدالله بن عمر قام عمر خطيباً فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامل يهود خيبر على أموالهم وقال : نقركم ما أقركم الله وإن عبدالله ابن عمر خرج إلى ماله هناك فَعُدِىَ عليه من الليل فَفُدِعَتْ يداه ورجلاه وليس لنا هناك عدو غيرهم هم عدونا وتهمتنا وقد رأيت إجلاءهم فلما أجمع عمر على ذلك أتاه أحد بني أبي الحقيق فقال : يا أمير المؤمنين أتخرجنا وقد أقرنا محمد صلى الله عليه وسلم وعامَلنا على الأموال وشرط ذلك لنا ؟ فقال عمر : أظننت أني نسيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلةً بعد ليلةٍ ؟ فقال : كانت هذه هُزَيْله من أبي القاسم . فقال : كذبت يا عدو الله فأجلاهم عمر وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالاً وإبلاً وعُرُوضاً من أقتاب وحبال وغير ذلك " .
ذكر طرف من أقوال العلماء في إجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : " قال الإمام مالك أرى أن يجلو من أرض العرب كلها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ويقول : لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً " .
وقال تقي الدين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته أن تخرج اليهود والنصارى من جزيرة العرب فأخرجهم عمر رضي الله عنه من المدينة وخيبر وينبع واليمامة ومخاليف هذه البلد ولم يخرجهم من الشام بل لما فتح الشام أقر اليهود والنصارى بالأردن وفلسطين وغيرهما كما أقرهم بدمشق وغيرها " .(/6)
وقال أيضاً رحمه الله فيما نقله عنه الإمام ابن القيم : " وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضرب جزية راتبة على من حاربه من اليهود لا بني قينقاع ولا النضير ولا قريظة ولا خيبر ، بل نفى بني قينقاع إلى أذرعات وأجلى النضير إلى خيبر وقتل قريظة وقاتل أهل خيبر فأقرهم فلاّحين ما شاء الله وأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب " .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ رحمه الله في كتاب الجهاد من الفتاوى ما نصه : " الوثنية المحضة لا تقر بحال لا في مشارق الأرض ولا في مغاربها والمرتدون أغلظ وأغلظ واليهود والنصارى يقرون بالجزية لكن لا في جزيرة العرب " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب " . وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لليهود في خيبر بالجزية لإصلاح ما يصلحون منسوخ بما أوصى به عند موته " اهـ .
حكم الاستعانة باليهود والنصارى وسائر الكفار
تمهيد : لما أوجد الله الخليقة على هذه الأرض كانوا مفتقرين ومحتاجين لبعضهم في تحقيق أمورهم لأن كل فرد من البشر مهما كانت قدرته وغناه ، ومهما بلغ من العلم لا يستطيع أن يقوم بكل شؤونه بل لابد أن يحتاج إلى غيره في تحقيق ما يريد حتى ولو كان ملكاً أو عالماً أو غنياً ، فلو كان الملك مثلاً على جانب من الشجاعة والعلم بشؤون الحرب والقتال ماهراً في علوم السياسة والقيادة وأراد الغزو لقتال العدو فلابد أن يحتاج إلى من يعينه على هذه المهمة من مستشارين وضباط وجنود وغيرهم وأولئك الأعوان محتاجون إلى الملك في ما يأخذونه من أجور على أعمالهم .
ومثال آخر يبين مدى حاجة كل فرد من البشر إلى غيره ، فلو أراد إنسان أن يقيم لنفسه قصراً فإنه لا يقوى على تحقيق ذلك مهما كانت منزلته من الغنى والعلم بشؤون البناء والهندسة بل لابد من احتياجه إلى من يعينه من بنائين وصناع وغيرهم .
والخلاصة أن كل فرد من أفراد البشر محتاج لخدمة غيره ، وغيره محتاج لخدمته وإن لم يشعر بذلك :
الناس للناس من بدو وحاضرة ** بعض لبعض وإن لم يشعروا خدمُ
ولما كان التعاون بين الناس بهذه المنزلة من الأهمية أمر به الإسلام ورغب فيه وحث عليه قال تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان . . . . } ، وامتن سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين بأن جعلهم أمة واحدة متحدين متعاونين متناصرين بعد أن كانوا مختلفين ومتفرقين قال سبحانه وتعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً . . . } الآية . وقال سبحانه وتعالى ممتناً على نبيه صلى الله عليه وسلم : { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم إنه عزيز حكيم } ، وقال عليه الصلاة والسلام : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " ، وقال عليه الصلاة والسلام : " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " ، ولماكانت الاستعانة تقتضي الحب والموالاة والركون إلى المستعان به رأيت أن أقدم نبذة مختصرة عن الولاء والبراء .
الولاء
تعريفه في اللغة : الولي فعيل بمعنى فاعل ومنه وَلِيَه إذا قام به ، ومنه قوله تعالى :
{ الله ولي الذين آمنوا } ويكون الولي بمعنى مفعول في حق المطيع ، فيقال : المؤمن ولي الله ووالاه موالاة وولاء : من باب " قاتل " أي تابعه .
وقال في لسان العرب ماخلاصته " الموالاة كما قال ابن الأعرابي أن يتشاجر اثنان فيدخل ثالث بينهما للصلح ، ويكون له في أحدهما هوى فيواليه أو يحابيه ووالى فلان فلاناً إذا أحبه " اهـ .
وهذه الكلمة المكونة من الواو واللام والياء يصاغ منها عدة أفعال مختلفة الصيغ والمعاني يأتي منها وَلِيَ وولّى وتولى ووالى واستولى ولكل من هذه الأفعال معنى يختلف عن الآخر عند الاستعمال .
أولاً : وَلِىَ : يطلق ويراد به القرب ، تقول وَلِىَ فلان فلاناً ، وفلان يلي فلاناً أي قريب منه ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " والولي القريب ، فيقال هذا يلي هذا أي يقرب منه ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر " . أي لأقرب رجل إلى الميت " اهـ . ويأتي ولي بمعنى الاستيلاء والملك فيقال ولي الأمر بعد سلفه إذا صار الأمر إليه .
ثانياً : ولىَّ : يأتي لازماً فيكون بمعنى ذهب كقوله صلى الله عليه وسلم في قصة ابن أم مكتوم حينما جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته رخص له صلى الله عليه وسلم ، قال الراوي : " فلما ولىَّ - أي ذهب - ناداه ، قال : أتسمع النداء ؟ قال : نعم ، قال : فأجب " . وفي لفظ قال : " لا أجد لك رخصة " . ويأتي متعدياً فيقال ولَّى فلان فلاناً الأمر إذا أسنده إليه .(/7)
ثالثاً : تولىَّ : يأتي معدىً بحرف الجر " عن " فيكون بمعنى أعرض كقوله سبحانه وتعالى : { فتول عنهم فما أنت بملوم } . أي أعرض عنهم ويأتي متعدياً بنفسه فيكون بمعنى اتَّبَعَ ، يقال : تولاه أي اتبعه واتخذه ولياً كقوله تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } ، ويأتي لازماً كقوله تعالى : { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم } .
رابعاً : والى : يقال والى فلان فلاناً إذا أحبه واتبعه ، والمولى : اسم يطلق على جماعة كثيرة فهو الرب والمالك والسيد والمنعم والمعتق والناصر والمحب والجار وابن العم والتابع والصهر والحليف والعقيد والمنعم عليه والعبد والمعتق ، هذه المعاني تقوم على النصرة والمحبة .
خامساً : استولى ، يقال استولى الجيش على بلد العدو إذا أخذوها عنوة .
منزلة الولاء والبراء في الإسلام
الولاء والبراء قاعدة من قواعد الدين وأصل من أصول الإيمان والعقيدة ، فلا يصح إيمان شخص بدونهما ، فيجب على المرء المسلم أن يوالي في الله ويحب في الله ويعادي في الله فيوالي أولياء الله ويحبهم
ويعادي أعداء الله ويتبرأ منهم ويبغضهم ، قال صلى الله عليه وسلم : " أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله " .
قال ممليه عفا الله عنه : الناس بالنسبة للموالاة والمعاداة ثلاثة أقسام :
القسم الأول : من آمن بالله ورسوله ، وصدق بدينه وشرعه ، وامتثل لأوامره ، وتجنب معاصيه ، فهذا القسم أهله يستحقون الولاية الكاملة من جميع الوجوه .
القسم الثاني : من كفر بالله ورسوله ، ولم يؤمن بدينه وشرعه ، فهؤلاء يستحقون المعاداة الكاملة من جميع الوجوه .
القسم الثالث : الذين آمنوا بالله ورسوله ودينه وشرعه ، ولكن حصلت منهم بعض المخالفات من ارتكابه بعض المعاصي وترك بعض الواجبات فهؤلاء يوالون من جهة إيمانهم بالله ورسوله ويعادون من جهة تقصيرهم في الأوامر والنواهي .
ومما تقدم يتبين لك أيها القارىء أن الولاء يقوم على المحبة والنصرة والاتباع ، فمن أحب في الله وأبغض في الله ، ووالى في الله ، وعادى في الله ، فهو ولي الله .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : " من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك وقد صارت مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئاً " .
أما من والى الكافرين واتخذهم أصدقاء وإخواناً فهو مثلهم ، قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين . فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } .
والقرآن العزيز مشتمل على كثير من الآيات التي تحذر من اتخاذ الكافرين أولياء كقوله سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضو عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور . إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لايضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط } .
قال ابن جرير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآيات الكريمة : يعني بذلك تعالى ذكره : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به نبيهم من عند ربهم { لا تتخذوا بطانة من دونكم } يقول :
لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم { من دونهم } من دون أهل دينكم وملتكم يعني من غير المؤمنين ، وإنما جعل " البطانة " مثلاً لخليل الرجل فشبهه بما وَلِىَ بطنه من ثيابه لحلوله منه في اطِّلاعه على أسراره وما يطويه عن أباعده ، وكثير من أقاربه محل ما وَلِىَ جَسَده من ثيابه ، فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاّء وأصفياء ثم عرفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة وبغيهم إياهم الغوائل فحذرهم بذلك منهم ومن مخالتهم فقال تعالى ذكره { لايألونكم خبالاً } يعني لا يستطيعونكم شراً من ( ألوت آلُو ألواً ) ، يقال ما ألا فلان كذا : أي ما استطاع كما قال الشاعر :
جهراء لا تألو إذا هي أظْهرتْ ** بَصَراً ولا مِنْ عَيْلةٍ تغنيني
يعني : لا تستطيع عند الظهر إبصاراً ، وإنما يعني جل ذكره بقوله(/8)
{ لا يألونكم خبالاً } البطانة التي نهى المؤمنين عن اتخاذها من دونهم فقال : إن هذه البطانة لا تترككم طاقتها خبالاً أي لا تدع جهدها فيما أورثكم الخبال ، وأصل الخبْل والخبال الفساد ثم يستعمل في معان كثيرة يدل على ذلك الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أصيب بخبْل أو جراح . وأما قوله : { ودوا ما عنتم } فإنه يعني ودوا عنتكم يقول : يتمنون لكم العنَت والشرَّ في دينكم وما يسوءكم ولا يسرُّكم ، وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين كانوا يخالطون حلفاءهم من اليهود وأهل النفاق منهم ويصافونهم المودَّة بالأسباب التي كانت بينهم في جاهليتهم قبل الإسلام فنهاهم الله عن ذلك ، وأن يستنصحوهم في شيء من أمورهم ، ثم استشهد رحمه الله على صحة تغير هذه الآيات بأحاديث وآثار كثيرة نكتفي منها بما رواه رحمه الله ، فقد روى بسنده عن ابن عباس قال ، كان رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحِلْف في الجاهلية ، فأنزل الله عز وجل فيهم ينهاهم عن مباطنتهم تخوُّف الفتنة عليهم منهم { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم - إلى قوله - وتؤمنون بالكتاب كله } " اهـ .
قال ممليه عفا الله عنه : وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة معان جليلة منها :
أولاً : نهيه سبحانه وتعالى وتحذيره لعباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين بطانة أي أولياء وأصدقاء .
ثانياً : بين سبحانه وتعالى الأسباب المقتضية للنهي عن موالاة الكافرين والتحذير من مودتهم والركون إليهم ، من هذه الأسباب : أنهم لا يألون خبالاً في إعنات المؤمنين وإيذائهم بكل ما يستطيعونه من الأذى، ومنها : أنهم أعداء للمؤمنين عِداءاً مستحكماً بحيث تظهر البغضاءُ والكراهيةُ على ألسنتهم وما يخفونه من العداء والبغضاء في صدورهم أكبر مما يبدو على ألسنتهم ، ومنها : أنهم لايحبون المؤمنين ولايؤمنون
بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إلا ظاهراً أما في الباطن فإنهم يكفرون بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم { وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضُّو عليكم الأنامل من
الغيظ } . ومنها : أن ما يصيب المؤمنين من خير يسؤهم وما يصيب المؤمنين من شر فإنهم يفرحون به ويسرهم ، وقال سبحانه وتعالى مبيناً الموالاة الحقيقية : { إنما وليُّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون . ومن يتولّ الله ورسولَه والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون . يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } . بعد أن نهى سبحانه وتعالى عن موالاة اليهود والنصارى وبين أن من اتخذهم أولياء فهو منهم حصر الولاية الصحيحة بموالاة الله ورسوله والمؤمنين بإنما التي هي أبلغ طرق الحصر بعد الحصر بالنفي والاستثناء حيث تقرر في علم المعاني أن أبلغ طرق القصر هي النفي والاستثناء كقولك : " لا إله إلا الله " ويليها في البلاغة الحصر بإنما ، كما تضمنت هذه الآية الكريمة أن النصر والغلبة والتأييد يحصل بتولي الله ورسوله والمؤمنين فقط { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } .
قال ابن جرير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية : " يعني تعالى ذكره بقوله : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } ، أنه ليس لكم أيها المؤمنون ناصر إلا الله ورسوله والمؤمنون الذين صفتهم ما ذكر تعالى ذكره فأما اليهود والنصارى الذين أمركم الله أن تبرأوا من وَلايتهم ونهاكم أن تتخذوا منهم أولياء فليسوا لكم أولياء ولا نُصَراء بل بعضهم أولياء بعض ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً اهـ .
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره : " عند قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً . . . الآية } وهذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله من الكتابيين والمشركين الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون وهي شرائع الإسلام المطهرة المحكمة المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي يتخذونها هزواً يستهزئون بها ، ولعباً يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد وفكرهم الفاسد اهـ .
وقال أيضاً ابن كثير رحمه الله عند تفسيره تعالى : { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا . . . } الآية ، قال : وما ذاك إلا لأن كفر اليهود كفر عناد وجحود ومباهتة للحق وغمط للناس وتنقص بحملة العلم ولهذا قتلوا كثيراً من الأنبياء حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مره وسموه وسحروه وألّبوا عليه أشباههم من المشركين عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة اهـ .
ثم ذكر رواية الحافظ أبو بكر ابن مردويه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما خلا يهودي بمسلم قط إلا هم بقتله " .(/9)
وصدق رحمه الله فيما ذكره من صفات اليهود من أنهم أشد الناس عداءاً للرسل والأديان وخصوصاً عدائهم لنبينا صلى الله عليه وسلم ، والقرآن الكريم ، استدل على ذلك بعشرات الآيات التي تذم اليهود وتبين مكرهم وغدرهم بالرسل واتباعهم ، وقد اطلعت على كلام لبعض العلماء ذكره عنهم ابن النقاش في كتابه " المذمَّة في استعمال أهل الذمة " تضمن بيان بعض صفات اليهود والنصارى الذميمة التي جاءت في القرآن فأحببت ذكره للقارىء على ما فيه من طول لجودته وكثرة فوائده فقال رحمه الله : " ومعلوم أن اليهود والنصارى موسومون بغضب الله ولعنته ، والشرك به ، والجحد لوحدانيته ، وقد فرض الله على عباده في جميع صلواتهم أن يسألوا هداية سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وتجنبهم سبيل الذين أبعدهم من رحمته وطردهم من جنته فباءوا بغضبه ولعنته من المغضوب عليهم والضالين ، فالأمة الغضبية هم اليهود بنص القرآن ، وأمة الضلال هم النصارى المثلثة عباد الصلبان ، وقد أخبر تعالى عن اليهود بأنهم بالذلة والمسكنة والغضب موسومون فقال تعالى : { ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلاّ بحبل من الله وحبل من الناس وبآءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } ، وأخبر سبحانه بأنهم باؤوا بغضب على غضب وذلك جزاء المفترين ، فقال سبحانه :
{ بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزِّل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين } . وأخبر سبحانه أنه لعنهم ولا أصدق من الله قيلاً فقال سبحانه : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولاً } ، وحكم سبحانه بينهم وبين المسلمين حكماً ترتضيه العقول ويتلقاه كل منصف بالإذعان والقبول فقال سبحانه : { قل هل أنبئكم بشَّرٍ من ذلك مثوبةً عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شرٌ مكاناً وأضل عن سواءَ السبيل } ، وأخبر سبحانه عما أحل بهم من العقوبة التي صاروا بها مثلاً في العالمين فقال تعالى : { فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون . فلما عتو عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردةً خاسئين } . ثم حكم عليهم حكماً مشتملاً عليهم في الذراري والأعقاب على مر السنين والأحقاب فقال تعالى : { وإذ تأذّن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوءَ العذاب إن ربك لسريع العقاب } الآية ، فكان هذا العذاب في الدنيا بعض الاستحقاق { ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق } ، فهم أنجس الأمم قلوباً ، وأخبثهم طويَّه وأرداهم سجية وأولاهم بالعذاب الأليم
{ أولئك الذين لم يرد الله أن يطهِّر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم } ، فهم أمة الخيانة لله ورسوله ودينه وكتابه وعباده المؤمنين فقال سبحانه : { ولا تزال تطَّلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم فاعف عنهم وأصفح إن الله يحب المحسنين } ، وأخبر عن سوء ما يصنعون ويقولون وخبث ما يأكلون ويحكمون فقال تعالى وهو أصدق القائلين : { سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين } ، وأخبر تعالى أنه لعنهم على ألسنة أنبيائه ورسله بما كانوا يكسبون فقال سبحانه :
{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون . ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون } ، وقطع الموالاة بين اليهود والنصارى وبين المؤمنين وأخبر أن من تولاهم فإنه منهم في حكمه المبين فقال تعالى وهو أصدق القائلين : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } ، وأخبر عن حال متوليهم بما في قلبه من المرض المؤدي إلى فساد العقل والدين بقوله :
{ فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } ، ثم أخبر عن حبوط أعمال متوليهم(/10)
ليكون المؤمن لذلك من الحذرين فقال : { ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين } ، ونهى المؤمنين عن اتخاذ أعدائه أولياء وقد كفروا بالحق الذي جاءهم من ربهم وأنهم لا يمنعون من سوء ينالونهم به بأيديهم أو ألسنتهم إذا قدروا عليه فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق } - إلى قوله - { إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون } وجعل سبحانه لعباده المسلمين أسوة حسنة في إمام الحنفاء ومن معه من المؤمنين إذا تبرأوا مما ليس على دينهم امتثالاً لأمر الله وإيثار مرضاته وما عنده فقال تعالى :
{ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده } ، وتبرأ سبحانه ممن اتخذ الكفار أولياء من دون المؤمنين فقال تعالى وهو أصدق القائلين :
{ ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير } ، فمن ضروب الطاعات أهانتهم في الدنيا قبل الآخرة التي هم إليها صائرون ، ومن حقوق الله الواجبة : أخذ جزية رؤوسهم التي يعطونها عن يد وهم صاغرون . ومن الأحكام الدينية : أن تعم جميع الذمة إلا من لا تجب عليه باستخراجها وأن يعتمد في ذلك سلوك سبيل السنة المحمدية ومناهجها وألا يسامح بها أحد منهم ولو كان في قومه عظيماً وألا يقبل إرساله بها ولو كان فيهم زعيماً وألا يحيل بها على أحد من المسلمين ولا يوكل من إخراجها عنه أحداً من الموحدين بل تؤخذ منه على وجه الذلة والصغار إعزازاً للإسلام وأهله وإذلالاً لطائفة الكفار وأن تستوفى من جميعهم حق الاستيفاء وأهل خيبر وغيرهم في ذلك على السواء ، وأما ما ادعاه الجبابرة من وضع الجزية عنهم بعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك زور وبهتان وكذب ظاهر يعرفه أهل العلم والإيمان لفَّقَه القوم البهت وزوّروه وضعوه من تلقاء أنفسهم وتمموه وظنوا أن ذلك يخفى على الناقدين أو يروج على علماء المسلمين ويأبى الله إلا أن يكشف محال المبطلين وإفك المفترين وقد تظاهرت السنن وصح الخبر بأن خيبر فتحت عنوة وأوجف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون الخيل والركاب فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على إجلائهم عنها كما أجلى إخوانيهم من أهل الكتاب ، فلما ذكروا أنهم أعرف بسقي نخلها ومصالح أرضها أقرهم فيها كالأُجَرَاء وجعل لهم نصف الأبضاع وكان ذلك شرطاً مبنياً وقال : " نقركم فيها ما شئنا " ، فأقر بذلك الجبابرة صاغرين وأقاموا على هذا الشرط في الأرض عاملين ولم يكن للقوم من الذمام والحرمة ما يوجب إسقاط الجزية عنهم دون من عداهم من أهل الذمة كيف وفي الكتاب المشحون بالكذب والمين شهادة سعد بن معاذ وكان قد توفى قبل ذلك بأكثر من سنتين وشهادة معاوية ابن أبي سفيان وإنما أسلم عام الفتح بعد خيبر سنة ثمان وفي الكتاب المكذوب أنه أسقط عنهم الكُلَفْ والسُخَر ، ولم يكن على زمانه صلى الله عليه وسلم في شيء من ذلك ولا على زمان خلفائه الذين ساروا في الناس أحسن السير . ولما اتسعت رقعة الإسلام ودخل فيه الخاص والعام وكان في المسلمين من يقوم بعمل الأرض وسقى النخل أجلى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه اليهود من خيبر بل من جزيرة العرب ممتثلاً أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب " . وقال : " لئن بقيت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً " .
البراء
تعريفه في اللغة : مصدر بَرَى بمعنى قطع ومنه برى القلم بمعنى قطعه والمراد هنا : قطع الصلة مع الكفار فلا يحبهم ولا يناصرهم ولا يقيم في ديارهم .
وقال ابن الأعرابي : بري إذا تخلص وبرىء إذا تنزه وتباعد وبرىء إذا أعذر وأنذر ومنه قوله تعالى : { برآءة من الله ورسوله } . أي إعذار وإنذار . والبرىء والبراء بمعنى واحد إلا أن البراء أبلغ من البرىء .
والبراء في الاصطلاح : هو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار .
يقال برىء وتبرأ من الكفار إذا قطع الصلة بينه وبينهم فلا يواليهم ولا يحبهم ولا يركن إليهم ولا يطلب النصرة منهم .
مكانة البراء في العقيدة الإسلامية(/11)
إن من الأسس التي تقوم عليها العقيدة الإسلامية البعد عن الكفار ومعاداتهم وقطع الصلة بهم فلا يصح إيمان المرء حتى يوالي أولياء الله ويعادي أعداءَه ويتبرء منهم ولو كانوا أقرب قريب . قال سبحانه وتعالى : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألاَ إن حزب الله هم المفلحون } ، فقد تضمنت هذه الآية الكريمة أنه لا يتحقق الإيمان إلا لمن تباعد عن الكفار المحادين لله ورسوله وبرىء منهم وعاداهم ولو كانوا أقرب قريب وقد أثنى سبحانه وتعالى على خليله إبراهيم حينما تبرأ من أبيه وقومه ومعبوداتهم حيث قال : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براءٌ مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمةً باقيةً في عقبه لعلهم يرجعون } وقد نهى سبحانه وتعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء فقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل . إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداءً ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير قد كانت لكم أسوةٌ حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضآء أبداً } .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسيره لهذه الآية قال : يعني المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم } الآية ، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } ، وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً } ، وقال تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شىءٍ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه } ، ولهذا قَبِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عذرَ حاطب ، لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد ، ثم قال رحمه الله تعالى : وقوله تعالى : { يخرجون الرسول وإياكم } ، هذا مع ما قبله من التهيج على عداوتهم وعدم موالاتهم لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده ولهذا قال تعالى : { أن تؤمنوا بالله ربكم } أي لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين كقوله تعالى : { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } ، وكقوله تعالى : { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } . وقوله تعالى : { إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي } أي إن كنتم كذلك فلا تتخذوهم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي باغين لمرضاتي عنكم فلا توالوا أعدائي وأعداءكم وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم حنقاً عليكم وسخطاً لدينكم وقوله تعالى : { تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } أي تفعلون ذلك وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر { ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداءً ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء } أي لو قدروا عليكم لما أبقوا فيكم من أذى ينالونكم به بالمقال والفعل { وودوا لو تكفرون } أي ويحرصون على أن لا تنالوا خيراً ، فهم عداوتهم لكم كامنة وظاهره فكيف توالون مثل هؤلاء ؟ وهذا تهييج على عداوتهم أيضاً وقوله تعالى : { لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير } ، أي قرابتكم لا تنفعكم عند الله إذا أراد الله بكم سوءاً ونفعهم لا يصل إليكم إذا أرضيتموهم بما أسخط الله ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم فقد خاب وخسر وضل عمله ولا ينفعه عند الله قرابته من أحد ولو كان قريباً إلى نبي من الأنبياء .
ثم قال رحمه الله تعالى : يقول تعالى لعباده المؤمنين الذي(/12)
أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه } ، أي وأتباعه الذين آمنوا معه { إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم } أي تبرأنا منكم { ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم } أي بدينكم وطريقكم { وبدا
بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً } يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم ما دمتم على كفركم فنحن أبداً نتبرأ منكم ونبغضكم { حتى تؤمنوا بالله وحده } . أي إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له وتدعوا ما تعبدوه معه من الأوثان والأنداد " اهـ .
ويحسن أن نختم بحث الولاء والبراء بأبيات قالها الشيخ سليمان ابن سحمان حيث قال رحمه الله : عفاءً فأضحتْ طامساتِ المعالمعليها السوافي من جميع الأقالمكذاك البَراء من كل غاوٍ وآثم بدين النبي الأبطحي ابن هاشم به الملة السمحاء إحدى القواصمإلى الله في محو الذنوب العظائموران عليها كسب تلك المآثم بأوضار أهل الشرك من كل ظالمونهرع في إكرامهم بالولائميقيم بدار الكفر غيرُ مصارم مسالمة العاصين من كل آثم وملة إبراهيم غُودر نهجهاوقد عدمت فينا وكيف وقد سفتوماالدين إلا الحب والبغض والولاوليس لها من سالك متمسك فلسنا نرى ما حل بالدين وانمحتْفنأسى على التقصير منّا ونلتجيفنشكوا إلى الله القلوب التي قستألسنا إذا ما جاءنا متضمخ نهش إليهم بالتحية والثناوقد برء المعصوم من كل مسلم ولكنما العقل المعيشي عندنا
=============
حكم الاستعانة بالكفار
بعد أن بينا حكم الولاء والبراء ومكانتهما في عقيدة المسلم نبدأ ببيان حكم الاستعانة بالكفار .
الاستعانة يختلف حكمها باختلاف حالاتها بالنسبة للمستعان بهم والمستعان عليهم ونوع الاستعانة ، فالاستعانة بالكفار تارة يكون المستعان به دولة كافرة ، وتارة يكونون أفراد ، وتارة تكون الاستعانة بهم في الحرب والقتال ، وتارة تكون بالسلاح والمال والمستعان عليهم تارة يكونون دولة كافرة ، وتارة تكون دولة مسلمة ، وتارة تكون طائفة مسلمة كأهل البغي ، ويختلف حكم الاستعانة بالكفار حسب هذه التقسيمات .
أولاً : استعانة المسلمين بالدولة الكافرة على دولة كافرة .
اتفق جمهور فقهاء الأمة وعلمائها على تحريم هذا النوع تحريماً عاماً لا يستثنى منه شيء واستدل أصحاب هذا المذهب بأمور منها :
أولاً : الكتاب العزيز .
حيث شدد سبحانه وتعالى في النهي عن موالاة الكفار والركون إليهم واتخاذهم أولياء وأصدقاء في كثير من آيات الكتاب العزيز فمن ذلك قوله : { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون } ، وقال سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } . وقال سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً } . وقال سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } ، فهذه الآيات وأمثالها كثيرة في الكتاب العزيز ، كلها تحذر من الركون إلى الكافرين وموالاتهم واتخاذهم أصدقاء ، والاستعانة بالكفار لا تتم إلا بموالاتهم والركون إليهم .
ثانياً : من السنة المطهرة .
ومنها ما ثبت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل بدر فلما كان بحرَّة الوَبَره أدركه رجل قد كان يذكر منه جُرأة ونَجْدة ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : جئت لأتبعك وأصيب معك ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : لا . قال : فارجع فلن استعين بمشرك قالت : ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة قال : فارجع فلن أستعين بمشرك ، قال ثم رجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أول مرة تؤمن بالله ورسوله قال نعم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق " .
ومنها : ما أخرجه الطحاوي والحاكم عن أبي حميد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم أحد حتى إذا جاوز ثنية الوداع إذا هو بكتيبة خشناء ، فقال من هؤلاء ؟ فقالوا : هذا عبدالله ابن أبي بن سلول في ستمائة من مواليه من اليهود أهل قينقاع وهم رهط عبدالله بن سلام قال : وقد أسلموا ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : قولوا لهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين " .
ومنها : ما رواه الإمام أحمد والحاكم عن خبيب بن أساف قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته فأتيته أنا ورجل قبل أن نسلم فقلنا إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهداً ولانشهده معهم ، فقال : أأسلمتما قلنا : لا . قال : فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين " .(/13)
هذه النصوص كما ترى غاية في الصحة والصراحة على تحريم الاستعانة بالمشركين في الحرب والقتال ، فلا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يستعين بكافر أو يجيز الاستعانة بهم وهو يعلم هذه النصوص الصحيحة الصريحة . وكما ثبت بالكتاب والسنة منع الاستعانة بالكفار كما ترى فكذلك الصحابة رضوان الله عليهم ذهبوا إلى منع الاستعانة بالكفار ومن ذلك ما ثبت عن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إنكاره على أبي موسى حينما استعمل كاتباً نصرانياً ذكر ذلك البيهقي عن أبي موسى : " أنه استكتب نصرانياً فانتهره عمر وقرأ : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } . . . الآية . فقال أبو موسى والله ما توليته وإنما كان يكتب فقال : أما وجدت في أهل الإسلام من يكتب ؟ فقال : لا تدنهم إذ أقصاهم الله ولا تأمنهم إذ خونهم الله ولا تعزهم بعد أن أذلهم الله " .
وقد ذكر صاحب المذمَّة عن عمر رضي الله عنه غير هذا الخبر فقال : وكتب إليه بعض عماله ( أي عمر ) ليستشيره في استعمال الكفار فقال : " إن المال قد كثر وليس يحصيه إلا هم فاكتب إلي بما ترى فكتب إليه : لا تدخلوهم في دينكم ولا تسلموهم ما منعهم الله منه ولا تؤمنوهم على أموالكم وتعلّموا فإنما هي الرجال " ، وكتب رضي الله عنه إلى عماله أما بعد : " فإنه من كان قِبَله كاتب من المشركين فلا يعاشره ولا يوادده ولا يجالسه ولا يعتضد برأيه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستعمالهم ولا خليفته من بعده " .
وورد عليه كتاب معاوية بن أبي سفيان : " أما بعد : يا أمير المؤمنين فإن في عملي كاتباً نصرانياً لا يتم أمر الخراج إلا به فكرهت أن أقلده دون أمرك فكتب إليه : عافانا الله وإياك قرأت كتابك في أمر النصراني : " أما بعد : فإن النصراني قد مات والسلام " ، وكان لعمر عبد نصراني فقال له : أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين فإنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم فأبى فأعتقه وقال : اذهب حيث شئت " وكتب رضي الله عنه إلى أبي هريرة رضي الله عنه :
أما بعد : فللناس نفره على سلطانهم فأعوذ بالله أن تدركني وإياك أقم الحدود ولو ساعة من النهار فإذا حضرك أمران أحدهما : أمر لله والآخر للدنيا فآثر الله على نصيبك من الدنيا فإن الدنيا تفقد والأخرى تبقى عد مرضى المسلمين واشهد جنائزهم وافتح بابك وباشرهم وأبعد أهل الشرك وأنكر أفعالهم ولا تستعن في أمر من أمور المسلمين بمشرك وساعد على مصالح المسلمين لنفسك فإنما أنت رجل منهم غير أن الله سبحانه جعلك حاملاً لأثقالهم .
كما ذكر أيضاً عن عمر بن عبدالعزيز أنه كتب إلى جميع عماله في الآفاق : " أما بعد فإن عمر بن عبدالعزيز يقرأ عليكم من كتاب الله { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجسٌ } ، جعلهم نجساً حزب الشيطان وجعلهم الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً واعلموا أنه لم يهلك هالك قبلكم إلا بمنعه الحق وبسط يد الظلم وقد بلغني عن قوم من المسلمين فيما مضى أنهم إذا قدموا بلداً أتاهم أهل الشرك فاستعانوا بهم في أعمالهم وكتابتهم لعلمهم بالكتابة والجباية والتدبير ولا خير ولا تدبير فيما يغضب الله ورسوله وقد كان لهم في ذلك مدة وقد قضاها الله ، فلا أعلم أن أحداً من العمال أبقى في عمله رجلاً متصرفاً على غير دين الإسلام إلا نكّلت به فإن محو عمالكم كمحو دينهم وأنزلوهم منزلتهم التي خصهم الله بها من الذل والصغار " اهـ .
فإن قيل هذه النصوص التي أوردتموها كلها في رفضه عليه الصلاة والسلام الاستعانة بالأفراد أما عدم الاستعانة بالدولة الكافرة فلم يرد فيه نص يمنعه فالجواب أن يقال :
أولاً : قوله صلى الله عليه وسلم : " لن أستعين بمشرك " مشرك هنا نكرة جاءت في سياق النفي واتفق علماء الأصول على أن النكرة في سياق النفي صيغة من صيغ العموم فيكون قوله " لن استعين بمشرك " يعم كل مشرك فرداً كان أو دولة .
ثانياً : الضرر المتوقع والخطر المحتمل من الاستعانة بالفرد الكافر أخف من الضرر المترتب على الاستعانة بالدولة لأن الفرد يكون تحت سيطرة المسلمين ومراقبتهم له أما الدولة فإن قوتها وقدرتها على إيقاع الضرر بالمسلمين أكثر من قدرة الفرد المتوقع حصولها ضد المسلمين فعلى هذا يكون تحريم الاستعانة بالدولة الكافرة أولى من تحريم الاستعانة بالفرد الكافر وبهذا يتبين أن الاستعانة بالكفار لا تجوز مطلقاً أفراداً كانوا أو دولاً .
أما من جوز الاستعانة بالكفار من العلماء فقد استدل بأدلة واهية لا توصل إلى المدّعى لأنها إما ضعيفة أو غير صريحة في الدلالة أو متناقضة وإليك ما استدل به والجواب عنه :(/14)
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً فقال لرجل ممن يدعى بالإسلام : " هذا من أهل النار " . فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالاً شديداً فأصابته جراحة فقيل : يا رسول الله الرجل الذي قلت له آنفاً " إنه من أهل النار " فإنه قاتل اليوم قتالاً شديداً وقد مات . فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إلى النار " . فكاد بعض المسلمين أن يرتاب ، فبينما هم على ذلك إذ قيل إنه لم يمت ، ولكن به جراحاً شديداً ، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال " الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله " ، ثم أمر بلالاً فنادى في الناس : " إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " . قالوا : فهذا الذي قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات إلى النار فربما أنه كان في حقيقة أمره كافراً أو أنه ارتاب وشك في الإيمان فمات كافراً قالوا ويؤيد ذلك آخر الحديث وهو :
" الرجل الفاجر " فالفجور عام ويشمل الفسق والكفر .
2 - واشتهر عند أهل السير أن صفوان بن امية شهد حنيناً
مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان مشركاً قال ابن حجر : " وقصته مشهورة في المغازي " .
3 - وجاء عن بعض أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود ولم يسهم لهم قال الإمام الترمذي يروى عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لقوم من اليهود قاتلوا معه .
4 - روى أبو داود بسنده قال : قال جبير : انطلق بنا إلى ذي مِخْبر - رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - فأتيناه ، فسأله جبير عن الهدنة ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ستصالحون الروم صلحاً آمناً ، وتغزون أنتم وهم عدوَّاً من ورائكم " .
5 - وروى البيهقي أن سعد بن مالك غزا بقوم من اليهود فرضخ لهم " .
وهذه الأدلة كما ترى لا تفيد جواز الاستعانة بالكفار لأنها ضعيفة لا توصل إلى المدعى إما في دلالتها وإما في ثبوتها فحديث أبي هريرة ليس صريحاً في أن الرجل الذي قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم كان كافراً بل فيه عكس ذلك حيث قال أبو هريرة رضي الله عنه أنه " يدعي الإسلام " كما أن القصة لا تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان به وإنما أذن له فقط في الحضور والقتال ، وكذلك الشأن في قصة صفوان فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب منه أن يقاتل بل إنه هو بنفسه الذي شهد الوقعة ولم يثبت أنه قاتل وإنما كان خروجه مع المسلمين للتفرج والنظر فيما يحصل ولهذا لما انهزم المسلمون في أول وهلة فرح أبو سفيان بذلك وقال : " والله لا يرد هزيمتهم البحر " فقال له صفوان : اسكت فض الله فاك فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن " اهـ .
ثم إن الخبر الوارد في قصة صفوان على الرغم من أنه لم يتضمن الدلالة على أن صفوان قاتل مع النبي صصلى الله عليه وسلمفإنه لا تثبت به حجة ، وهو غير ثابت وفيه اضطراب شديد بمتنه وسنده ، قال أبو عمر بن عبد البر : حدثنا عبدالله بن محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن محمد وسلمة بن شبيب قالا حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا شريك عن عبدالعزيز ابن رفيع عن أمية ابن صفوان ابن أمية عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه دروعاً يوم حنين فقال : اغصب يا محمد . فقال : بل عارية مضمونة . ثم قال ابن عبدالبر قال أبو داود : هذه رواية يزيد ببغداد وفي روايته بواسط غير هذا قال أبو داوود وكان أعاره قبل أن يسلم ثم أسلم : قال أبو عمر : حديث صفوان هذا اختلف فيه على عبدالعزيز بن رفيع اختلافاً يطول ذكره فبعضهم يذكر فيه الضمان وبعضهم لا يذكره وبعضهم يقول عن عبدالعزيز عن ابن أبي مليكة عن ابن صفوان قال : " استعار النبي صلى الله عليه وسلم ص " لا يقول عن أبيه ومنهم من يقول عن عبدالعزيز بن رفيع عن أناس من آل صفوان أو من آل عبدالله بن صفوان مرسلاً أيضاً وبعضهم يقول فيه عن عبدالعزيز بن رفيع عن عطاء عن أناس من آل صفوان ولا يذكر فيه الضمان ولا يقول مؤداه بل عارية فقط والاضطراب فيه كثير ولا يجب عندي بحديث صفوان هذا حجة من تضمين العارية والله أعلم .
وقال أبو محمد علي بن حزم : أما خبر دروع صفوان فإنا رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنبأنا عبدالرحمن بن محمد بن سلام أنبأنا يزيد بن هارون أنبأنا شريك هو ابن عبدالله القاضي عن عبدالعزيز بن رفيع عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدرعاً فقال : غصب يا محمد . قال بل عارية مضمونة " شريك مدلس للمنكرات إلى الثقات ، وقد روى البلايا والكذب الذي لا شك فيه عن الثقات " .(/15)
وقال أيضاً رحمه الله : ومن طريق مسدد أنبأنا أبو الأحوص حدثنا عبدالعزيز بن رفيع عن عطاء بن أبي رباح عن ناس من آل صفوان بن أمية استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان سلاحاً فقال : أعارية أم غصب ؟ قال : بل عارية ففقدوا منها درعاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت غرمناها لك فقال يا رسول الله إن في قلبي من الإيمان ما لم يكن يومئذ . هذا عند ناس لم يسموا .
ومن طريق أحمد بن شعيب أنبأنا أحمد بن سليمان حدثنا عبيد الله ابن موسى أنبأنا إسرائيل عن عبدالعزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن عبدالرحمن بن صفوان بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية دروعاً فهلك بعضها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن شئت غرمناها لك فقال : لا يارسول الله " إسرائيل ضعيف وقال في ص17 وقد روينا من طريق ابن أبي شيبة حدثنا جرير بن عبدالحميد عن عبدالعزيز بن رفيع عن إياس بن عبدالله بن صفوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أراد حنيناً قال لصفوان هل عندك سلاح . قال : عارية أم غصباً ؟ قال لا بل عارية فأعاره ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعاً فلما هزم المشركون جمعت دروع صفوان ففقد منها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا فقدنا من أدرعك أدرعاً فهل نغرم لك فقال : لا يا رسول الله إن في قلبي اليوم ما لم يكن " فهذا مرسل " اهـ .
أما خبر خروج يهود بني قينقاع مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه أسهم لهم أو رضخ لهم فهالك لأسباب :
أولاً : أن الخبر من مراسيل الزهري ومعلوم أن مراسيل الزهري ضعيفة .
ثانياً : أنه ورد ما يعارضه فقد روى الطحاوي والحاكم : هذا الحديث من طريق الفضل ابن موسى السيناني شيخ إسحاق بن راهويه قال الطحاوي حدثنا عبيد بن رجال قال حدثنا محمد بن عمرو عن سعد ابن المنذر بن أبي حميد الساعدي عن جده الساعدي قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى إذا خلف ثنية الوداع إذا هو بكتيبة خشناء فقال : من هؤلاء فقالوا بنو قينقاع وهم رهط عبدالله بن سلام وقوم عبدالله بن أبي بن سلول فقال : أسلموا . فأبوا قال : قل لهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين " .
قال ممليه عفا الله عنه : والعجب ممن ذهب من العلماء إلى جواز الاستعانة بالكفار معتمداً في ذلك على هذه الآثار والمراسيل الضعيفة والمضطربة ويعرض عن ما خُرِّج في صحيح مسلم والسنن ومسند الإمام أحمد وغيره من رفضه صلى الله عليه وسلمالاستعانة بالمشركين ، إننا إذا سلكنا طريق الترجيح وجدنا أن حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه مسلم في صحيحه وما وافقه من آثار أخرى أرجح يقيناً من تلك المراسيل المضطربة السند والمتن كما أسلفنا .
قال ابن عبدالبر : " وأما شهود صفوان بن أمية مع رسول الله حنيناً والطائف وهو كافر فإن مالكاً قال لم يكن ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال مالك : ولا أرى أن يستعين بالمشركين على قتال المشركين إلا أن يكونوا خدماً أو نوتيه .
وقد ناقش الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن أدلة القائلين بالجواز فتكلم على مرسل الزهري وبين عدم صحة دلالته على المسألة فقال رحمه الله ما نصه : " أما مسألة الاستنصار بهم فمسئلة خلافية والصحيح الذي عليه المحققون منع ذلك مطلقاً وحجتهم حديث عائشة وهو متفق عليه ، وحديث عبدالرحمن بن حبيب وهو حديث صحيح مرفوع اطلبهما تجدهما فيما عندك من النصوص والقائل بالجواز احتج بمرسل الزهري وقد عرفت ما في المراسيل إذا عارضت كتاباً أو سنة ثم القائل به قد شرط أن يكون فيه نصح للمسلمين ونفع لهم ، وهذه القضية فيها هلاكهم ودمارهم ، وشَرَطَ أيضاً أن لا يكون للمشركين صولة ودولة يخشى منها ، وهذا مبطل لقوله في هذه القضية واشترط كذلك ألا يكون له دخل في رأي ولا مشورة بخلاف ما هنا كل هذا ذكره الفقهاء وشراح الحديث ونقله في شرح المنتقى وضعف مرسل الزهري جداً وكل هذا في قتال المشرك للمشرك مع أهل الإسلام .
قال أيضاً ما نصه : " الشبهة التي تمسَّك بها من قال بجواز الاستعانة هي ما ذكرها بعض الفقهاء من جواز الاستعانة بالمشرك عند الضرورة وهو قول ضعيف مردود مبني على آثار مرسلة تردها النصوص القرآنية ، والأحاديث الصحيحة الصريحة النبوية ، ثم القول بها على ضعفها مشروط بشروط نبه عليها شراح الحديث ونقل الشوكاني منها طرفاً في المنتقى ، منها : أمن الضرر والمفسدة وألا يكون لهم شوكة وصولة وأن لا يدخلوا في الرأي والمشورة وأيضاً ففرضها في الانتصار بالمشرك على المشرك ، وأما الانتصار بالمشرك على الباغي عند الضرورة فهو قول فاسد لا أثر فيه ولا دليل عليه إلا أن يكون محض القياس وبطلانه أظهر شيء في الفرق بين الأصل والفرع وعدم الاجتماع في مناط الحكم " اهـ .(/16)
قال ممليه عفا الله عنه : والضرورة التي ترد في بعض كلام الفقهاء المجيزين الاستعانة بالكافر هي الضرورة التي تتعلق بالدين ومصلحة الإسلام والمسلمين . أما الضرورة التي تتعلق بحكم الحاكم وحماية كرسيه وسلطته فإنها لا تبيح الاستعانة بالكفار حتى عند القائلين بجواز الاستعانة بهم للضرورة .
قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله تعليقاً على كلمة الضرورة التي جاءت في كلام الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن : " غلط صاحب الرسالة - يقصد بصاحب الرسالة من رد عليه الشيخ عبداللطيف - في معرفة الضرورة فظنها عائدة إلى مصلحة ولي الأمر من رياسته وسلطانه وليس الأمر كما زعم ظنه بل هي ضرورة الدين وحاجته إلى من يعين عليه وتصلح به مصلحته كما صرح به من قال بالجواز وقد تقدم ما فيه والله أعلم " اهـ .
ومن الأئمة الكبار الذين ذهبوا إلى عدم جواز الاستعانة بالكفار في جميع الأحوال الشيخ ابن مفلح في الآداب الشرعية حيث ذكر كلاماً طويلاً في هذا الباب ضمنه مقتطفات من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية من كتاب اقتضاء الصراط المستقيم حيث قال : فصل في الاستعانة بأهل الذمة . قال بعض أصحابنا : ويكره أن يستعين مسلم بذمي في شيء من أمور المسلمين مثل كتابة وعمالة وجباية خراج وقسمة فيء وغنيمة وحفظ ذلك ونقله إلا ضرورة قال في الرعاية الكبرى ولايكون بواباً ولا جلاداً ونحوها . وعن أبي موسى الأشعري أنه اتخذ كاتباً نصرانياً فانتهره عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
وعن عمر أيضاً أنه قال : لا ترفعوهم إذ وضعهم الله ، ولاتعزوهم إذ أذلهم الله . ولأن في الاستعانة بهم في ذلك من المفسدة ما لا يخفى وهي ما يلزم عادة أو ما يفضى إليه من تصديرهم في المجالس ، والقيام لهم وجلوسهم فوق المسلمين وابتدائهم بالسلام أو ما في معناه ورده عليهم على غير الوجه الشرعي وأكلهم من أموال المسلمين ما أمكنهم لخيانتهم واعتقادهم حلها وغير ذلك . ولأنه إذا منع من الاستعانة بهم في الجهاد مع حسن رأيهم في المسلمين والأمن منهم وقوة المسلمين على المجموع لاسيما مع الحاجة إليهم على قول فهذا في معناه وأولى للزومه وإفضائه إلى ما تقدم من المحرمات بخلاف هذا ، وبهذا يظهر التحريم هنا وإن لم تحرم الاستعانة بهم على القتال ، وقد نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتخذوا الكفار بطانة لهم فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم } . وبطانة الرجل تشبيهه ببطانة الثوب الذي يلي بطنه لأنهم يستبطنون أمره ويطلعون عليه بخلاف غيرهم ، وقوله { من دونكم } أي من غير أهل ملتكم . ثم قال تعالى : { لا يألونكم خبالاً } . أي لا يبقون غاية في إلقائكم فيما يضركم والخبال الشر والفساد ، { ودوا ما عنتم } . أي يودون ما يشق عليكم من الضر والشر والهلاك ، والعنت المشقة يقال فلان يُعنِتُ فلاناً أي يقصد إدخال المشقة والأذى عليه . { قد بدت البغضاء من أفواههم } . قيل بالشتم والوقيعة في المسلمين ومخالفة دينكم ، وقيل باطلاع المشركين على أسرار المسلمين . { وما تخفي صدورهم أكبر } أي أعظم ، { قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون } .
قال القاضي أبو يعلى من أئمة أصحابنا وفي هذه الآية دليل على أنه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة ولهذا قال الإمام أحمد رضي الله عنه لا يستعين الإمام بأهل الذمة على قتال أهل الحرب ، وقد جعل الشيخ موفق الدين رحمه الله هذه المسألة أصلاً في اشتراط الإسلام في عامل الزكاة فدل على أنها محل وفاق .
وقال الإمام أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب وقد سأله يستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج ؟ فقال : لا يستعان بهم في شيء . فانظر إلى هذا العموم من الإمام أحمد نظراً منه إلى ردىء المفاسد الحاصلة بذلك وإعدامها وهي وإن لم تكن لازمة من ولايتهم ولا ريب في لزومها فلا ريب في إفضائها إلى ذلك ، ومن مذهبه اعتبار الوسائل والذرائع وتحصيلاً للمأمور به شرعاً من إذلالهم وإهانتهم والتضييق عليهم وإذا أمر الشارع عليه الصلاة والسلام بالتضييق عليهم في الطريق المشتركة فما نحن فيه أولى هذا مما لا إشكال فيه ، ولأن هذه ولايات بلاشك ، ولهذا لايصح تفويضها مع الفسق والخيانة ، والكافر ليس من أهلها بدليل سائر الولايات وهذا في غاية الوضوح ، ولأنها إذا لم يصح تفويضها إلى فاسق فإلى كافر أولي بلا نزاع ولهذا قد نقول يصح تفويضها إلى فاسق إما مطلقاً أو مع ضم أمين إليه يشارفه كما نقول في الوصية ولأنه إذا لم تصح وصية المسلم إلى كافر في النظر في أمر أطفاله أو تفريق ثلثه مع أن الوصي المسلم المكلف العدل يحتاط لنفسه وماله وهي مصلحة خاصة يقل حصول الضرر فيها فمسألتنا أولى هذا مما لا يحتاج فيه إلى تأويل ونظر والله أعلم . وقال تعالى : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } .(/17)
وهذا من أعظم السبيل استدل الشيخ وجيه الدين وغيره من الأصحاب بهذه الآية على أنه لايجوز أن يكون عاملاً في الزكاة وقد قال أصحابنا في كاتب الحاكم لايجوز أن يكون كافراً واستدلوا بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة } . وبقضية عمر على أبي موسى .
وقال الشيخ تقي الدين في أول الصراط المستقيم في أثناء كلام له : ولهذا كان السلف يستدلون بهذه الآية على ترك الاستعانة بهم في الولايات فروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى قال قلت لعمر رضي الله عنه إن لي كاتباً نصرانياً قال مالك قاتلك الله أما سمعت الله يقول : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } . ألا اتخذت حنيفياً ؟ قال قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه ، قال لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله . انتهى كلامه . ورواه البيهقي وعنده فانتهرني وضرب على فخذي وعنده أيضاً فقال أبو موسى والله ما توليته إنما كان يكتب . فقال عمر له أما وجدت في أهل الإسلام من يكتب ؟ لا تدنهم إذا أقصاهم الله ولا تأمنهم إذا أخانهم الله ولا تعزهم بعد إذ أذلهم الله .
وروى الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لا تستعملوا اليهود والنصارى فإنهم يستحلون الرُّشاء في دينهم ولا تحل الرُّشاء .
وقال سعيد بن منصور في سننه ثنا هشيم عن العوام عن إبراهيم التيمي قال قال عمر لا ترفعوهم إذا وضعهم الله ولا تعزوهم إذ أذلهم الله يعني أهل الكتاب كلهم أئمة لكن إبراهيم لم يلق عمر ، وقطع الشيخ تقي الدين في موضع آخر بأنه يجب على ولي الأمر منعهم من الولايات في جميع أرض الإسلام ، وقال أيضاً الولاية إعزاز وأمانة وهم يستحقون للذل والخيانة ، والله يغني عنهم المسلمين ، فمن أعظم المصائب على الإسلام وأهله أن يجعلوا في دواوين المسلمين يهودياً أو سامرياً أو نصرانياً ، وقال أيضاً : لا يجوز استعمالهم على المسلمين فإنه يوجب من إعلائهم على المسلمين خلاف ما أمر الله ورسوله ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يُبدأوا بالسلام وأمر إذا لقيهم المسلمون أن يضطروهم إلى أضيق الطرق ، وقال الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، وقد منعوا من تعلية بنائهم على المسلمين فكيف إذا كانوا ولاة على المسلمين فيما يقبض منهم ويصرف إليهم وفيما يؤمرون به من الأمور المالية ويقبل خبرهم في ذلك فيكونون هم الآمرين الشاهدين عليهم ؟ هذا من أعظم ما يكون من مخالفة أمر الله ورسوله ، وقد قدم أبو موسى على عمر رضي الله عنهما بحساب العراق فقال إدع يقرؤه فقال إنه لايدخل المسجد فقال لم ؟ قال لأنه نصراني ، فضربه عمر بالداوة فلو اصابته لأوجعته وقال لا تعزوهم إذ أذلهم الله ولا تصدقوهم إذ كذبهم الله ولا تأمنوهم إذ خونهم الله ، وكتب إليه خالد بن الوليد إن بالشام كاتباً نصرانياً لا يقوم خراج الشام إلا به ، فكتب إليه لا تستعمله فأعاد عليه السؤال وإنا محتاجون إليه ، فكتب إليه مات النصراني والسلام ، يعني قَدِّر موته، فمن ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً منه ، إلى أن قال وقد يشيرون عليهم بالرأي التي يظنون أنها مصلحة ويكون فيها من فساد دينهم ودنياهم ما لا يعلمه إلا الله وهو يتدين بخذلان الجند وغشهم يرى أنهم ظالمون ، وأن الأرض مستحقة للنصارى ويتمنى أن يمتلكها النصارى .(/18)
وقال أيضاً : كان صلاح الدين وأهل بيته يذلون النصارى ولم يكونوا يستعملون منهم أحداً ، ولهذا كانوا مؤيدين منصورين على الأعداء مع قلة المال والعدد ، وإنما قويت شوكة النصارى والتتار بعد موت العادل حتى قام بعض الملوك أعطاهم بعض مدائن المسلمين وحدثت حوادث بسبب التفريط فيما أمر الله به ورسوله فإن الله تعالى يقول : { ولينصرن الله من ينصره } . إلى أن قال : وهم إلى ما في بلاد المسلمين أحوج من المسلمين إلى ما في بلادهم بل مصلحة دينهم ودنياهم لا تقوم إلا بما في بلاد المسلمين والمسلمون ولله الحمد مستغنون عنهم في دينهم ودنياهم ، ففي ذمة المسلمين من علماء النصارى ورهابنهم من يحتاج إليهم أولئك النصارى وليس عند النصارى مسلم يحتاج إليه المسلمون مع أن افتداء الأسراء من أعظم الواجبات وكل مسلم يعلم أنهم لا يتجرون إلى بلاد المسلمين إلا لأغراضهم لا لنفع المسلمين، ولو منعهم ملوكهم من ذلك لكان حرصهم على المال يمنعهم من الطاعة فإنهم ارغب الناس في المال ولهذا يتقامرون في الكنائس وهم طوائف كل طائفة تضاد الأخرى ولا يشير على ولي الأمر بما في إظهار شعارهم في دار الإسلام أو تقوية أيديهم بوجه من الوجوه إلا رجل منافق أو له غرض فاسد أو في غاية الجهل لايعرف السياسة الشرعية التي تنصر سلطان المسلمين على أعدائه وأعداء الدين . وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل كيف مكنهم الله وأيدهم وفتح لهم البلاد وأذل لهم الأعداء لما قاموا من ذلك بما قاموا وليعتبر بسيرة من والي النصارى كيف أذله وكبته إلى أن قال : وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن مشركاً لحقه ليقاتل معه فقال له : " إني لا استعين بمشرك " ، وكما أن استخدام الجند المجاهدين إنما يصلح إذا كانوا مؤمنين فكذلك الذين يعاونون الجند في أموالهم وأعمالهم إلى أن قال : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم } . وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم } .
وذكر سبب نزولها ثم قال وقد عرف أهل الخبرة أن أهل الذمة من اليهود والنصارى والمنافقين يكاتبون اهل دينهم بأخبار المسلمين وربما يطلعون على ذلك من أسرارهم وعوراتهم وغير ذلك وقد قيل :
كل العداوات قد ترجى مودتها** إلا عداوة من عاداك في الدين
انتهى كلامه .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً " رواه الإمام أحمد والنسائي وعبد ابن حميد وغيرهم ، ومعنى قوله : " ولا تستضيئوا بنار المشركين " أي لا تستشيروهم ولا تأخذوا آراءهم . جعل الضوء مِثْلا الرأي عند الحيرة هذا معنى قول الحسن رواه عبد بن حميد ، واحتج الحسن بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم } . وكذا فسره غيره، وفسر الحسن : " ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً " أي لا تنقشوا فيها محمداً وفسره غيره محمد رسول الله لأنه كان نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي حديث عمر : " لا تنقشوا في خواتيمكم العربية " وعن ابن عمر أنه كان يكره أن ينقش في الخاتم القرآن .
وقال ابن عبد البر قال ابن القاسم سئل مالك عن النصراني يستكتب ؟ قال لا أرى ذلك ، وذلك أن الكاتب يستشار ، فيستشار النصراني في أمر المسلمين ؟ ما يعجبني أن يستكتب ، وذكر ابن عبدالبر أنه استأذن على المأمون بعض شيوخ الفقهاء فأذن له ، فلما دخل عليه رأى بين يديه رجلاً يهودياً كاتباً له عنده منزله وقربه لقيامه بما يصرفه فيه ويتولاه من خدمته فلما رآه الفقيه قال : وقد كان المأمون أومأ إليه بالجلوس ، فقال : أتأذن لي يا أمير المؤمنين في إنشاد بيت حضر قبل أن أجلس ؟ قال نعم ، فأنشده :
إن الذي شُرِّفتَ من أجله ** يزعم هذا أنه كاذب
وأشار إلى اليهودي ، فخجل المأمون ووجم ثم أمر حاجبه بإخراج اليهودي مسحوباً على وجهه فأنفذ عهداً بإطراحه وإبعاده وأن لا يستعان بأحد من أهل الذمة في شيء من أعماله . قال ابن عبدالبر كيف يؤتمن على سر ، أو يوثق به في أمر ، ومن وقع في القرآن ، وكذَّب النبي عليه السلام ؟ وقد أمر الناصر لدين الله أن لا يستخدم في الديوان بأحد من أهل الذمة ، فكتب إليه عن أبي منصور بن رطيناً النصراني إنا لا نجد كاتباً يقوم مقامه ، فقال نقدِّر أن رطيناً مات هل كان يتعطل الديوان ؟ فحينئذ أسلم وحسن إسلامه اهـ .
ثانياً : حكم الاستعانة بالكفار على الدولة المسلمة أو الطائفة المسلمة كأهل البغي .
أهل البغي طائفة من المسلمين تخرج على الإمام الشرعي بتأويل سائغ ولايكونون كفاراً بمجرد خروجهم لأنهم ما خرجوا إلا بتأويل سائغ بل ولا يكونون فساقاً عند بعض العلماء .(/19)
قال الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله ما نصه : " وأما إذا كان الباغي مجتهداً ومتأولاً ولم يتبين له أنه باغ بل اعتقد أنه على الحق وإن كان مخطئاً في اعتقاده . لم تكن تسميته ( باغياً ) موجبة لأثمه ، فضلاً عن أن توجب فسقه . والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين يقولون : مع الأمر بقتالهم قتالنا لهم لدفع ضرر بغيهم لاعقوبة لهم بل للمنع من العدوان ويقولون إنهم باقون على العدالة لايفسقون " اهـ .
ومما استدل به القائلون بعدم تفسيق أهل البغي قوله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فاصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون اخوة فاصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } . وجه الدلالة من الآيات أنه قال { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } ثم إن البغاة إذا خرجوا على الإمام والحالة هذه وجب عليه أن يدعوهم ويسألهم ما ينقمون منه فإن ذكروا مظلمة أزالها وإن ذكروا شبهة كشفها ، فإن استمروا في الخروج بعد ذلك استعان بالله وقاتلهم ، ولايجوز له أن يستعين بالكفار على قتالهم كما لا يجوز الاستعانة بالكفار على قتال الدولة المسلمة التي حصل بينه وبين حاكمها نزاع أو خلاف لأن في الاستعانة بالكافرين تسليطاً لهم على المسلمين ولايجوز لأحد أن يسلط كافراً على مسلم { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } . وقد اتفق من يعتد بقوله من علماء الأمة وفقهائها على أنه لا يجوز للحاكم المسلم أن يستعين بالدولة الكافرة على المسلمين بأي حال من الأحوال وذلك للأمور التالية :
1 - ما قدمناه من النصوص من الكتاب والسنة وأقوال العلماء من منع الاستعانة بالكفار على الكفار فإن كان هذا هو الراجح - أعني منع استعانة المسلمين بالكفار على الدولة الكافرة فمن باب أولى منع الاستعانة بهم على الدولة المسلمة .
2 - الكفار أعداء للمسلمين عداوة عقيدة ودين ، ومعلوم أن الكفار إذا مكنوا من قتال المسلمين انتقموا منهم واستأصلوا شأفتهم لما يضمرون لهم من البغضاء والعداء . قال تعالى : { إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداءاً ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون } . وقال سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر - إلى قوله - وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } ، وقال تعالى : { ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } .
3 - وبالنسبة لأهل البغي فالعلة في جواز قتالهم هي كفهم وردهم إلى الطاعة لا قتلهم وإبادتهم وبهذا يعلم أنه لا حاجة إلى الكفار فلم تجز الاستعانة بهم .
4 - أن الاستعانة بالكفار في تلك الحال موالاة لهم وركون إليهم وقد قال تعالى : { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار } .
5 - ثم إن في الاستعانة بهم تعزيزاً وتقوية لبعض المسلمين على بعض وإشعالاً للحروب بينهم ودافعاً لهم على التنازع على الرئاسة والملك وذلك مالا يقره الشرع بحال بل إنه يدعو المسلمين في تلك الحال إلى الإصلاح فيما إذا كانوا جميعاً طلاب حق أو ملك أو رئاسة فإذا كانت إحدى الطائفتين المتحاربتين هي المحقة فالمقصود من قتالها للأخرى دفع بغيها لا إبادتها وذلك يتحقق بدون الاستنصار بالكفار .
6 - والاستعانة بالكفار تمكين لهم في كسر شوكة المسلمين والقضاء عليها بل ربما إبادتهم أو طردهم من بلادهم والاستيلاء عليها وكفى بالتاريخ شاهداً على ما نقول فالمسلمون في الأندلس مثلاً وقعت بينهم الفتن العظيمة واستنصر بعضهم بالنصارى على إخوانهم المسلمين حتى هلكوا جميعاً وزال سلطان المسلمين هناك والأمر لله من قبل ومن بعد .
7 - والاستعانة بهم كذلك سلم لهم للتدخل في شؤون المسلمين الخاصة والاطلاع على عورات المسلمين ومكامن الضعف والقوة فيهم الأمر الذي قد يجعلهم سادات وحكام يحتكم إليهم المسلمون بل ربما آل الأمر بأولئك إلى حشد جيوشهم وسلاحهم في بلاد المسلمين باسم المحافظة على الأمن وفض النزاع ونصرة المستضعفين والمظلومين وذلك بمجرد توجيه أدنى إشارة إليهم للنجدة والنصرة من بعض من في قلوبهم مرض من المسلمين اهـ .
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن من صور الاستعانة بالكفار على أهل البغي ما يكون كفراً .(/20)
قال الإمام أبو محمد علي بن حزم في المحلى : " وأما من حملته الحمية من أهل الثَّغر من المسلمين فاستعان بالمشركين الحربيين وأطلق أيديهم على قتل من خالفه من المسلمين أو على أخذ أموالهم أو سبيهم فإن كانت يده هي الغالبة وكان الكفار له كأتباع فهو هالك في غاية الفسوق ولايكون بذلك كافراً لأنه لم يأت شيئاً وجب به عليه كفرٌ قرآن أو إجماع وإن كان حكم الكفار جارياً عليه فهو بذلك كافر على ما ذكرنا فإن كانا متساويين لا يجري حكم أحدهما على الآخر فما نراه بذلك كافراً والله أعلم " . وهذا الحكم أعني منع الاستعانة بالكفار شامل للكفار الحربيين وأهل الذمة والمرتدين قال الإمام أبو محمد علي بن حزم أيضاً : " هل يستعان على أهل البغي بأهل الحرب أو بأهل الذمة أو بأهل بغي آخرين قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس في هذا فقالت طائفة لايجوز أن يستعان عليهم بحربي ولا بذمي ولا بمن يستحل قتالهم مدبرين وهذا قول الشافعي رضي الله عنه وقد ذكرنا في كتاب الجهاد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنا لا نستعين بمشرك " وهذا عموم مانع من أن يستعان بهم في ولاية أو قتال أو شيء من الأشياء إلا ما صح الإجماع على جواز الاستعانة بهم فيه كخدمة الهداية أو الاستئجار أو قضاء الحاجة وغير ذلك ممالا يخرجون فيه عن الصغار والمشرك يقع على الذمي والحربي " اهـ .
أما من قال من المنتسبين للعلم بجواز الاستعانة بالكفار على قتال أهل البغي عند الضرورة فليس له حجة ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا أثر صحيح .
قال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله : " أما استنصار المسلم بالمشرك على الباغي فلم يقل بهذا إلا من شذ واعتمدها القياس ولم ينظر إلى مناط الحكم والجامع بين الأصل وفرعه ومن هجم على مثل هذه الأقوال الشاذة واعتمد في نقله وفتواه فقد تتبع الرخص ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها المستفاد من حديث الحسن وحديث النعمان بن بشير " اهـ .
الاستعانة بالكفار في غيرمباشرة القتال .
هذا النوع من الاستعانة بالكفار له حالات :
الحالة الأولى : الاستعانة بهم في الأعمال الكتابية والحسابية والإدارة ونحو ذلك ، وهذا تقدم الكلام فيه وذكرنا موقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من هذه المسألة وتشديده النكير على أبي موسى رضي الله عنه حين استكتب نصرانياً وتقدم أيضاً عنه رضي الله عنه أنه كتب لعماله في الآفاق : أما بعد فإنه من كان قبله كاتب من المشركين فلا يعاشره ولا يوادده ولا يجالسه ولا يعتضد برأيه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستعمالهم ولا خليفته من بعده وعندما كتب إليه معاوية يستشيره في الاستعانة بالكفار في الكتابة والحساب نهاه وقال : عافانا الله وإياك فإن النصراني قد مات والسلام .
وكذلك تقدم موقف الخليفة عمر بن عبدالعزيز في هذا حيث كتب لعماله في الآفاق قائلاً : أما بعد فإن عمر بن عبدالعزيز يقرأ عليكم من كتاب الله { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } ، فجعلهم نجساً حزب الشيطان إلى قوله : فلا أعلم أن أحداً من العمال أبقى في عمله رجلاً متصرفاً على غير دين الإسلام إلا نكّلت به فإن محوا عمالكم كمحو دينهم وأنزلوهم منزلتهم التي خصهم الله بها من الذل والصغار اهـ . ثم إن الاستعانة بالكفار في هذا المجال يتيح لهم الفرصة في إيقاع الضرر بالمسلمين وخيانتهم والاطلاع على أسرارهم وإبلاغها لقومهم أعداء الإسلام والمسلمين ويمكنهم من معرفة مكامن القوة والضعف والاطلاع على طرق المسلمين ومسالكهم فيبلغون قومهم بذلك وهذا فيه أكبر الضرر على المسلمين .
ولهذا فإن مذهب جمهور علماء الأمة وفقهائها أعني عدم جواز الاستعانة بالكفار ذميين كانوا أم غيرهم في الوظائف الهامة كالكتابة والإدارة والحساب والوزارة التنفيذية وغير ذلك هو الراجح من أقوال العلماء في هذه المسألة للأمور التالية :
1 - لوجود الأدلة الكثيرة وهي ظاهرة الدلالة .
2 - ولأنه لم يعهد أن أحداً من ولاة المسلمين في صدر الإسلام ولىّ ذمياً شيئاً من تلك الولايات .
3 - ولاة الوظائف العامة فيها ولاية وسلطة وصلاحيات كثيرة تخوِّل صاحبها العمل والحزم والحل والعقد والكافر لا سلطان له على المسلمين كما قال جل ثناؤه { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } .
4 - ثم إنها وظائف غير مناسبة للكافر لأنها تتطلب أمراً مهماً هو الإيمان بأهمية هذه الوظائف وأنها أمانة عظيمة ومسؤولية شرعية وهذا لا يوجد إلا في المسلم لأن الدولة كلها تقوم على العقيدة الإسلامية والفكر الإسلامي فهي دولة عقدية فكرية ذات أصول ثابتة وليست دولة دنيوية صرفه ، ومن غير المعقول أن تسند الأعمال المهمة في هذه الدولة إلى من لا يؤمن بأصولها وأسسها .
5 - فإن هذه الوظائف لها أهمية بالغة لما تنطوي عليه من الأسرار التي لا يتسع لها قلب الكافر بل لا ينبغي أن يطلع عليها .(/21)
6 - معلوم أن الكفار أعداء للمسلمين عداوة ظاهرة وأنهم يتمنون أن تكون لهم سلطة على المسلمين فينتقموا منهم بشتى أنواع الانتقام ويفرحون بكل ما يصيب المسلمين من ضرر وأذى منهم أو من غيرهم ويعتقدون أنه لا حرج عليهم في الاستيلاء على أموال المسلمين ومقدراتهم . قال تعالى : { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } .
قال في المذمة : وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن أهل الكتاب أنهم يعتقدون أنهم ليس عليهم إثم ولا خطيئة في خيانة المسلمين وأخذ أموالهم فقال تعالى : { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } ( 2 ) . وهذه صفة قبط مصر فإنهم الذين زعموا أنهم ليس عليهم في الأميين سبيل وأن لهم أخذ أموالهم وأنفسهم مجاناً في مقابلة ما أخذوا من أموال النصارى وأنفسهم في الزمان الغابر اهـ .
أما استعانة المسلمين بالكفار في الخدمة كالدلالة على الطريق واستئجارهم في الخدمة العامة البعيدة عن الحرب والقتال فهذا لا بأس به لأنه لا يخرجهم عن الذلة والصغار .
قال الإمام أبو محمد بن حزم بعد أن ذكر منع الاستعانة بالكفار حربيين كانوا أم ذميين قال : " وهذا عموم مانع من أن يستعان بهم في ولاية أو قتال أو شيء من الأشياء إلا ما صح الإجماع على جواز الاستعانة بهم فيه كخدمة الهداية أو الاستئجار أو قضاء الحاجة وغيره مما لا يخرجون فيه عن الصغار " .
ونقل ابن عبدالبر في التمهيد عن الإمام مالك قوله : " ولا أرى أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين إلا أن يكونوا خدماً أو نواتيه " اهـ .
أما استعانة الدولة المسلمة بأموال الدولة الكافرة فلا يخلوا إما أن يكون على وجه القرض أو الهبة ، فإن كان على سبيل القرض فعمومات النصوص من الكتاب والسنة على تحريم الاستعانة بالكفار تدل على منع الاستقراض منهم لأن العلة التي من أجلها نهى الشارع عن الاستعانة بالكفار موجودة في الاستقراض منهم ، ولأن الاستقراض من الكفار يترتب عليه أمور منها :
1 - أن فيه ذل وصغار على الدولة لأنه من سؤال الند لنده .
2 - أن الدولة الكافرة لن تقرض الدولة المسلمة تعاطفاً معها أو رحمة بها أو إكراماً لها بل لما ترجوه من الحصول على الفوائد والأرباح فهي إما أن تأخذ فائدة معينة على القرض وهو صريح الربا ، وأما أن تشترط على الدولة شروطاً تستفيد منها وتكون مرهقة للدولة المسلمة بل خزياً وعاراً عليها .
3 - أن الدولة الكافرة ولا سيما المحاربة ربما اتخذت من القروض أسلوباً لاستعمار المسلمين وأرضهم فإنها تفتح صدرها للدولة المسلمة للاقتراض منها كما تشاء فتتراكم الديون حتىتعجز الدولة المسلمة عن وفائها فيكون ذلك سلماً للاستعمار الحقيقي أو المعنوي وهذه علامة الانتكاس والإفلاس للدولة المسلمة وفي العصر الحديث أثبتت ذلك دول الكفر عملياً .
4 - أن في الاستقراض من الكفار ركوناً إليهم وموالاة لهم وخضوعاً لسلطانهم .
الحالة الثانية : الاستعانة بأموال الدولة الكافرة عن طريق الاستيهاب فهذا آكد منعاً وأغلظ تحريماً لما يترتب عليه من ذل وهوان وصغار وركون إلى الكفار وموالاتهم ولأن في الاستيهاب مسألة والمسألة نهى الشارع عنها بين المسلمين أنفسهم لا سيما إذا كان السؤال للكفار، وقد ورد ذم المسألة في نصوص كثيرة منها ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم " ، وقال تعالى { ولاتهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } ، وقال { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } ، ولأن سؤال الكفار يكشف ضعف المسلمين وفقرهم وفاقتهم وحاجتهم إلى الدولة الكافرة الأمر الذي يفرحهم ويسرهم بل ويجرئهم على العدوان ونقض العهود كما قال تعالى { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط } .
حكم الاستعانة بالكفار في الأمور المعنوية(/22)
لقد بينا فيما سبق أن الاستعانة بهم لا تجوز مطلقاً سواء أكانت الاستعانة بهم في الحرب والقتال أم في الإدارة والكتابة وسائر الأعمال وبرهنّا على ذلك بنصوص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وذكرنا أقوال علماء الأمة في ذلك وفي هذا الفصل نبين حكم الاستعانة بهم من حيث المعنى مثل وقوفهم إلى جانب قضايانا وتصويتهم معنا في المحافل الدولية لأن ذلك لا يعدو الأقوال دون الفعال فهم وإن وقفوا مع المسلمين وأيدوا قضاياهم بالقول فلن يفعلوا شيئاً يكون فيه نصرة للمسلمين أو نفعٌ لهم لأنهم أعداء للإسلام والمسلمين ويفرحون بكل ما من شأنه أن يضر بقضايا المسلمين وكل عداوة قد يرجى زوالها إلا العداوة في الدين كما قال الشاعر :
كل العدوات قد ترجى مودتها ** إلا عداوة من عاداك في الدين
والواقع شاهد على ما نقول فقد أبيد المسلمون في البوسنة والهرسك من قبل النصارى ودامت الحرب سنوات والأمم الكافرة تشجب وتستنكر في هيئة الأمم وفي غيرها من المحافل الدولية وتهدد لكن لم يحصل فعل وكذلك في إقليم كوسوفا فمنذ أكثر من سنة والصرب يبيدون المسلمين ويجلونهم من ديارهم ويحرقونها والغرب يشجب ويستنكر ويتوعد بضربات عسكرية ضد صربيا لكنه لم يفعل شيئاً .
قال الدكتور عبدالله بن إبراهيم الطريقي : " إن عصراً مثل عصرنا الذي قويت فيه شوكة الباطل ودالت له الدولة وضعفت فيه الأمة الإسلامية وتفرقت دويلاتها مزقاً وضاعت فيه حقوقها واغتصبت أراضيها وانتهكت حرماتها في كثير من بلدانها إن عصراً كهذا قد يدعو المسلمين إلى عملِ ما يملكونه وما يستطيعونه لتوجيه أنظار العالم إلى قضاياهم الضائعة وحقوقهم المغتصبة وإقناعه باهميتها ومن ثم طلب ضم الصوت لصالحهم بالتنديد بأعمال العدو المغتصب وضرورة إعادة الحقوق إلى أصحابها . ويمكن أن نضرب لذلك مثلاً بقضية المسلمين في " فلسطين " التي اغتصبها اليهود وأقاموا فيها دولتهم على مرأى ومسمع من العالم فهل مثل هذا العمل مشروع ؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تستدعي إثارة سؤالين هما :
الأول : هل من فائدة في استجداء الكفار واستعطافهم واسترحامهم ؟
الثاني : ماواجب المسلمين حينما يحصل الاعتداء من الكفار على ديارهم ومقدساتهم ؟
ونجيب عن السؤال الأول فنقول : لعل مما لا ينكر شرعاً أو واقعاً أن استجداء الكفار واستعطافهم ما هو إلا ذل وصغار للمسلمين ولا يزيدهم إلا وهناً ولا يزيد الكافرين إلا عزة واستكباراً وأنفه ، وصدق الله جل ثناؤه إذ يقول : " الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً } ، وإذ يقول :
{ إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط } ، ففي الآية الأولى ينكر الله على من يطلب العزة من الكفار ولا شك أن طلب ضم الصوت منهم يعتبر طلباً للعزة وفي الثانية يخبر الله تعالى عن الكفار أنهم يساءون حينما يصيب المسلمين خير ويفرحون إذا أصيبوا بشر فطلب التصويت منهم إذن لا جدوى فيه .
والجواب على السؤال الآخر : إن واجب المسلمين عند وقوع الاعتداء من الكفار أن يردوا الاعتداء بمثله ويدافعوا عن حقوقهم بلا خلاف وإن كان الأمر كذلك فإن استجداء الكفار بأن يصوتوا في صالح القضايا الإسلامية أمر عديم الفائدة ولا طائل تحته بل هو استجداء للمشركين وخضوع لهم ولعل واقع المسلمين المعاصر يصور لنا ذلك في أوضح الصور فالقضية الفلسطينية مثلاً ماذا استفادت من استجداء العرب لدول الكفر واستعطافهم لهم فكم من البيانات المشتركة والقرارات بين دول العالم الإسلامي وبين بعض دول الكفر التي صدرت تستنكر وتندد بشدة " ظاهرياً " بأعمال اليهود فإنها مهما قيل وادعى من حصول المكاسب من ورائها فهو هراء .
لهذا نقول إن طلب التصويت أمر غير مشروع لما عرفناه وواجب المسلمين تجاه حقوقهم المغتصبة والمنتهكة أن يوحدوا صفوفهم ويعيدوها بالجهاد ولا شيء غير ذلك " .
خاتمة(/23)
إن المستعرض لهذا البحث على اختصاره يلاحظ أنه اشتمل على كثير من الأحكام المتعلقة بجزيرة العرب حيث تضمن بيان موقعها وحدودها وأحكام إقامة الكفار فيها فقد بينت ذلك كله بياناً واضحاً وسقت ما ورد في ذلك من النصوص الشرعية وذكرت ما تضمنته القواميس اللغوية ، وذكرت المعول عليه من كلام العلماء في حكم إقامة اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار في هذه الجزيرة كما تضمن البحث بيان حكم الاستعانة بالكفار في القتال وفي غيره من الأعمال الأخرى كالإدارة والكتابة والوزارة وغيرها وبينت ما شبَّه به المجيزون للاستعانة بالكفار من الأدلة وأوضحت أن ما ذكروه من الأدلة لاينهض للاستدلال إما لضعفه وإما لعدم وضوح دلالته وإما لاضطرابه متناً وسنداً وبهذا تم البحث راجياً من الله أن يجعله خالصاً لوجهه وأن ينفع به ونظراً إلى أنني بشر والبشر معرض للخطأ فارجو ممن قرأه وعثر على خطأ فيه أن ينبهني على ذلك فأكون شاكراً له هذا وقد فرغت من إملائه يوم الاثنين الموافق 15 شوال عام 1419هـ .
=============
سيرة المؤلف لأحد تلامذته
المقدمة
تمهيد
حكم إقامة اليهود والنصارى والمشركين في الجزيرة العربية
ذكر طرف من أقوال العلماء في إجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب
حكم الاستعانة باليهود والنصارى وسائر الكفار
الولاء
منزلة الولاء والبراء في الإسلام
البراء
مكانة البراء في العقيدة الإسلامية
فصل الاستعانة بالكفار
الاستعانة بالكفار في غيرمباشرة القتال
حكم الاستعانة بالكفار في الأمور المعنوية
خاتمة(/24)
القول النفيس على عمرو خالد صديق إبليس
قام بهذا الرد الشيخ الفاضل عبدالرقيب بن صالح العلابي القائم على مركز السنة ببيحان - شبوة - اليمن
وهي ضمن سلسلة الصواريخ السلفية في دك رؤوس الحزبية
بسم الله الرحمن الرحيم
القول النفيس في الرد على عمرو خالد صديق إبليس
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد
فقد قال ربنا عز وجل "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" وقال عز وجل " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ماكانوا يفعلون "
انطلاقا من هذه الآيات وغيرها من الأدلة التي تأمر ببيان الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد من الله علينا بإخراج العدد الأول من (سلسلة الصواريخ) وكان أول ضحاياها المدعو عمرو خالد ، وقد نفع الله بها نفعا عظيما ما كان يخطر ببالنا ولا يدور بخيالنا حيث وأنها قد طبعت ووزعت بالآلاف وقد أقر الله بها أعين المنصفين الذين يريدون الحق وأما من سخر نفسه للدفاع عن الباطل وأهله من المبتدعة الحزبيين فقد ضاقت بها صدورهم وجن جنونهم فلجئوا إلى بضاعتهم المزجاة من الكذب على أهل السنة الذابين عن دين الله النافين عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين ، وقد ذكرناهم ولا نزال نذكرهم بقول الله عز وجل " ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما" وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع" ولكن الحزبية مساخة تفسد العقل والدين ، قال عز وجل " ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور" هذا وقد تراجع كثير منهم ممن همه الدين والبحث عن الحق وهذا شأن المنصفين فإن الحق ضالة المؤمن أينما وجده أخذه ، هذا وقد أشيع عنا أننا نكفر صديق إبليس عمرو خالد ونحن ما كفرناه وإن كانت بعض أقواله كفراً لأن من شرط التكفير هو العلم وعمرو خالد أجهل عندنا من حمار أهله وإلا فعلى قولكم أنه عالم فقد أقيمت عليه الحجة ويلزم تكفيره.
وإليك طرفا من ضلالاته :
عمرو خالد يطعن في قدرة الله عز وجل حيث قال :"صعب على الله أن يغير واقع الأمة" شريط العلم ـ وشبكة الإنترنت في رابطة الموثق.
الرد: وهذا الكلام كفر وردة بإجماع من في قلبه مثقال ذرة من إيمان وقد قال الله عز وجل إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " وقال عز وجل " وما كان الله ليعجزه من شيء في الأرض ولا في السماء" وقال عز وجل" إن الله على كل شيء قدير" وحكاية هذا الكلام كاف في بطلانه.
2- عمرو خالد يطعن في نبي الله آدم عليه السلام حيث قال: إن سيدنا آدم حينما عصى الله وأكل من الشجرة ندم ولكنه لم يعرف كيف يتوب (أخلاق المؤمن ص209).
الرد:هكذا يرمي آدم عليه السلام بأنه جاهل بشروط التوبة وكيف يتوب العبد وقد قال الله عز وجل"فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم" وقال عز وجل "ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى" فكيف يتوب الله عليه وهو جاهل بشروط التوبة، وإذا كان أنبياء الله عليهم السلام لا يعرفون كيف يتوبون فمن الذي يعرف؟ أأنت أيها الرقاص الفنان وأمثالك من الذين سخروا أنفسهم للطعن في دين الله؟ وهذا مما يؤكد مدى صداقته بإبليس حيث اشتركا في ذم آدم عليه السلام، وقد تقدم قوله إن إبليس ماكفرش فلهذه وغيرها لقبناه بصديق إبليس.
3- عمرو خالد وقلة أدبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنكن ناقصات عقل ودين) :" مش ممكن كان بيهزر معاهم ؟ ".. قاله في ضمن محاضرة رفع الظلم عن المرأة.
الرد:(/1)
هكذا يقول قليل الأدب ونحن نقول له كبرت كلمة تخرج من فيك أيها الكذاب إن قلت إلا كذبا فهذا الكلام ضلال مبين وتلاعب واضح بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحكم شرعي تناقلته الأمة خلفا عن سلف وقد قال ربنا عز وجل عن نبيه "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو :اكتب فوالذي نفسي بيده لا أقول إلا حقا وأشار إلى لسانه "ولو فتح هذا الباب على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لعطلت الشريعة أوما علم الإخوان المفلسون أن كل مافي الكون يعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان الجمل يأتي ويسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما في مسند الإمام احمد عن أبي هريرة وحن الجذع لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم "وتصبب البراق عرقا حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم" ، فما بال كثير من الإخوان المفلسين لا يوقرون رسول الله ولا يعظمونه ولا يقيمون لسنته وزنا فيسمونها قشورا تارة وتنطعا وغلوا وتشدقا أخرى فإنا لله وإنا إليه راجعون!! ، وأدهى من ذلك أنهم مع هذا يتجلدون في الدفاع عن من يطعن في الله ورسله عليهم الصلاة والسلام وصحابة نبيه رضي الله عنهم ويدافع عن إبليس وغيره من صناديد الكفر كالبابا!؟ ، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين.
عمرو خالد واختلاطه بالنساء السافرات.
فمن أكبر مميزات محاضرات المهرج عمرو خالد أن أكثر الحضور عنده من النساء المتبرجات والشباب الضائع وقد أصبحت مأوى للعاشقين والعاشقات ونحمد الله الذي صان بيوته عن هذه المنكرات حيث أن محاضراته تكون في المنتديات وأماكن الرقص والصالات العامة وقد قال ربنا عز وجل لصحابة نبيه وهم أطهر الناس قلوبا وأتقى الأمة وأبرها "وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب" وقال عز وجل "وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إياكم والدخول على النساء " وقال عليه الصلاة والسلام: " ما تركت بعدي فتنة اضر على الرجال من النساء" مع مايحصل في ذلك من نظر الرجال إلى النساء والعكس ، وقد قال الله عز وجل " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " وقال عز وجل " وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن" ، وإليك بعض أقوال جمهور عمرو خالد الذين يفتخر بهم الإخوان المفلسون :
فقد قال بعضهم : والله إنّا لا نتابع دروسه لأجل الوعظ وإنما من أجل رؤية النساء... وقال بعضهم وهو يشاهد برامج عمرو خالد إن أحسن مافيه ليس عمرو خالد وميوعته بل تركيز المصور على الحسناوات في القاعة إما يضحكن أو تنساب الدموع على خدودهن وهذا ما يشدني لبرنامجه...
وقالت بعض الفتيات أعجبني في عمرو خالد أنه شاب وسيم وجامعي ومن دون لحية ويلبس البدلة الأنيقة ويتحدث بلغة سهلة وقريبة من الشباب كما يخوض في الحديث عن علا قات الحب والزواج العرفي بين طلبة الجامعات كما أنه يشرح الدين بكل سهولة ولا يصعبه كما يفعل المشايخ...
وتقول فتاة أخرى: جمهور عمرو خالد مثلا معظمه من البنات المعجبات بشكله وبطريقة لبسه كما يفعل عمرو دياب وغيره من النجوم لدرجة أن بعض الفتيات يرين عمرو خالد في أحلامهن فالبعض يذهب لرؤيته وليس للصلاة أو الهداية.. (مجلة زهرة الخليج عددها 1212 بتاريخ 15/6/2002).
وقد انتقلت هذه العدوى والسنة السيئة إلى كثير من البلدان حيث أصبح بعض دعاة الإخوان المفلسين يحاضرون في المساجد في أوساط النساء وجها لوجه وكأنهم أصبحوا محارم لهن، فحقا إن الحزبية تمسخ الدين والمروءة والغيرة و قد بلغنا أن بعضهم يدفع بزوجته مكرهة للاختلاط بالرجال، ولكن ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا.
وصدق القحطاني رحمه الله إذ يقول: إن الرجال الداخلين على النساء ** مثل الكلاب تطوف باللحمان
عمرو خالد فنان وليس بعالم.
حيث أقر أنه يجيد العزف على الناي والبيانو والعود والكمان وما منعه من أن يصور نفسه وهو يعزف إلا هيبة العلم زعم!!.. (مجلة زهرة الخليج العدد 1212بتاريخ 15/6/2002 صـ64) وأفتى بجواز الإستماع للأغاني كعبد الحليم وأم كلثوم.. وقال الأصل في الفن أنه حلال ( جريدة الميدان 5/11/2002). هكذا يقول المنحرف المفتون ورب العزة يقول "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم" أقسم عبدالله بن مسعود أنه الغناء، ورسول الله يقول ليكونن أقواما من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف" فهؤلاء علماء الإخوان الذين شَغلوا الناس بهم ورفعوهم فوق منزلتهم وهم ما بين رقاص كالتلمساني وما بين محب للأغاني ومغرم بالنصارى كالقرضاوي وما بين صوفي قبوري كالبنا وسعيد حوى وما بين عقلاني مهوس كالغزالي وما بين تكفيري خارجي كسيد قطب وما بين صيدلاني فاشل كعبد المجيد الزنداني، وأدلة ذلك تقدمت في (الإيضاح) وبعضها سيأتي إن شاء الله تعالى في الأعداد القادمة.(/2)
هذا ولو تتبعنا ضلالاته وانحرافاته لطال المقام والغرض هو بيان الحق والذب عن الدين وبيان حاله لمن اغتر به من المسلمين، هذا وقد حذر منه أهل العلم الراسخون فيه تقدم بعض أقوالهم في العدد الأول وقد قال عنه العلامة المحدث أبو نصر محمد بن عبدالله الإمام "نبرأ إلى الله من محاضرات عمرو خالد" وقال "الرجل عاطل من علم الشريعة ومن علم الإسلام، وقال فيه "رجل ضائع مائع" وقال الشيخ العلامة المحدث عبدالعزيز بن يحيى البرعي "رجل منحرف بعيد عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وترقبوا الضحية الثانية من ضحايا سلسلة الصواريخ السلفية وأيضا الصواعق السلفية لإحراق التلبيسات الحزبية ... "ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم"
وكتبه/ الشيخ عبدالرقيب بن صالح العلابي
والأخ الفاضل/ أبوعمرو نور الدين الوصابي
دار الحديث بيحان _ شبوة _ اليمن(/3)
القول بجواز طواف الحائض
لشيخ الإسلام ابن تيمية
سئل شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عن طواف الحائض لتكميل حجها ، فأجاب بما يدل على جواز طوافها للضرورة والحاجة ، ويتم بذلك حجها في كلام له طويل ممتع موشح بالدلائل الجلية ، والبراهين القطعية ، أورد هذه المسألة والأجوبة عليها من ابتداء صفحة 436 إلى 456 من المجلد الثاني الطبعة القديمة من الفتاوى ،وهذا ملخص كلامه علي سبيل الاختصار ـ رحمه الله ـ قال:
» ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: » الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت « ، وقال لعائشة: » اصنعي ما ينصع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري « وصح عنه أنه قال: » لا يطوف بالبيت عريان « . قال: » ولم ينقل أحد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه أمر الطائفين بالوضوء كما أمر المصلين بالوضوء فنهيه الحائض عن الطواف بالبيت ،إما أن يكون لأجل اللبث في المسجد ، لكونها منهية عن اللبث فيه وفي الطواف لبث أو عن الدخول في المسجد مطلقا لمرور أو لبث ، وإما أن يكون لكون الطواف نفسه يحرم مع الحيض كما يحرم على الحائض الصلاة والصيام بالنص والإجماع ، ومس المصحف عند عامة العلماء وكذلك قراءة القرآن في أحد قولي العلماء . فإن كان تحريمه لأجل المسجد لكونها منهية عن اللبث فيه لما روى أبو داود عن عائشة أن النبي ـ صلى لله عليه وسلم ـ قال: » إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب « ورواه ابن ماجة من حديث أم سلمة ، وهذا الحديث قد تكلم فيه ، فإنه لم يحرم عليها عند الضرورة والحاجة ، وروى مسلم في صحيحه وغيره عن عائشة قالت: قال لي رسول الله : ناوليني الخمرة من المسجد ، فقلت: إني حائض فقال: » إن حيضك ليست في يدك « ، ولهذا ذهب أكثر العلماء ، كالشافعي وأحمد وغيرهما إلى الفرق بين المرور واللبث جمعا بين الأحاديث وأباح أحمد وغيره اللبث في المسجد لمن يتوضأ ، لما رواه هو وغيره من عطاء ابن يسار ، قال: رأيت رجالا من أصحاب رسول الله يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤا وضوء الصلاة لكونه إذا توضأ ذهبت الجنابة عن أعضاء الوضوء فلا يبقى يتوضأ. كما ثبت من حديث عمر وعائشة ، قال: وأما الحائض فحدثها دائم ولا يمكنها الطهارة ، فهي معذورة في مكثها ونومها ، فلا تمنع مما يمنع منه الجنب ، مع حاجتها إلى المسجد ، كما هو مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب الشافعي ، ولهذا كان أظهر قولي العلماء: أنها لا تمنع من قراءة القرآن إذا احتاجت إليه ، كما هو مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب الشافعي ،ويذكر رواية عن أحمد وعلى هذا متى احتاجه إلى الفعل من المكث في المسجد والطواف أو القرآن ، استباحة المحظور مع قيام سبب الحظر لأجل الضرورة .(/1)
و من المعلوم أن الصلوات هي أكبر الواجبات على الإطلاق و تجب في اليوم و الليلة خمس مرات و أجمع العلماء على اشتراط الطهارة لها و تباح ، بل تجب للحاجة لعادم الطهورين فيصلي بغير وضوء و لا تيمم و يصلى إلى غير القبلة للضرورة و يصلى العريان عند عدم ما يستر به عورته و نحو ذلك مما أجمع العلماء على جواز فعله للضرورة و طواف الحائض أولى بالجواز من هذا كله . فلا ينبغي للعالم أن ينظر إلى الحدث المقتضي للحظر و لا ينظر مع ذلك إلى الحاجة الموجبة للإذن و كل ما يحرم معه الصلاة ، فإنها تجب معه عند الحاجة ، إذا لم تمكن الصلاة إلا كذلك . وكذلك الطواف و ذهب منصور بن المعتمر ، و حماد بن سليمان فيما رواه أحمد عنهما إلى أن الطواف للمحدث غير محرم ، قال عبد الله في مناسكه ، حدثني ابي عن سهل بن يوسف ، أنبأنا شعبة عن حماد و منصور قال : سألتهما عن الرجل يطوف بالبيت و هو غير متوضئ فلم يريا به بأسا ، و كذا قال بعض الحنفية : إن الطهارة ليست واجبة في الطواف ، بل سنة ، فعلى قول هؤلاء لا يحرم طواف الحائض و الجنب ، إذا اضطرا إلى ذلك ، و متى كان الجنب و كذا الحائض إذا عدما الماء صليا بالتيمم ، و إذا عجزا عن التيمم صليا بلا غسل و لا تيمم ، و هذا هو المشهور في مذهب الشافعي و أحمد ، فلا شك أن الحائض متى عجزت عن الطهارة ، فإنه يجوز لها أن تطوف والحالة هذه إذا الصلاة آكد في الوجوب من الطواف ، وقد صلى عمرو بن العاص بأناس من الصحابة وهو جنب وعنده الماء ، لكنه خاف على نفسه من استعماله من شدة البرد فتيمم ، فذكر للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: » ما حملك أن تصلي بأصحابك وأنت جنب ، قال: يا رسول الله تذكرت قول الله تعالى: » ولا تقتلوا أنفسكم « فتيممت، فضحك النبي وأقرّه على صلاته ولم يأمره من معه بالإعادة ، فطواف الحائض التي لا يمكنها الطهارة والحالة هذه أولى بالجواز ، وإذا كانت إنما منعت عن الطواف لأجل المسجد ، فمعلوم أن إباحة ذلك للعذر أولى ، كما أبيح لها قراءة القرآن للحاجة ومس المصحف للحاجة ، لهذا نقول: أنها إذا اضطرت إلى الطواف ، بحيث لا يمكنها الحج بدون طوافها وهي حائض ويتعذر المقام عليها إلى أن تطهر فهذا الأمر دائر بين أن تطوف مع الحيض وبين إلزامها بالمقام بمكة حتى تطهر ، وهذا من الضرر الذي ينافي الشريعة . وكثير من النساء إذا لم ترجع مع من حجت معه لا يمكنها بعد ذلك الرجوع ولو قدر أنها رجعت قبل كمال حجها ، فإنه يبقى وطئها محرما وهي عند أهليها ، وهذا من أعظم الحرج الذي لا يوجب الله مثله ، إذ هو أعظم من إيجاب حجتين ويحتمل متى رجعت إلى الحج أن يقع بها مثل ما وقع بها من الابتلاء بالحيض ، وأما وجوب القضاء على المفسد لحجه من أجل تفريطه بإفساده لحجه وهذه لم تفعل ما تلام عليه من تفريط أو إفساد . وقد تنازع العلماء في قراءة القرآن للحائض وليس في منعها من القرآن سنة أصلا ، فإن قوله: لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث وليس لهذا أصل عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا حدث به أحد من المعروفين بنقل السنن ، وقد كانت النساء يحضن على عهد رسول الله ، فلو كانت القراءة محرمة عليهن كالصلاة والصيام لكان هذا مما بينه النبي لأمته وتعلمه أمهات المؤمنين عنه ، وكان ذلك مما ينقلونه إلى الناس ، فلما لم ينقل أحد عن النبي ـ صلى الله وعليه وسلم ـ في ذلك نهيا لم يجز أن تحل حراما ، مع العلم أنه لم ينه عن ذلك وإذا لم ينه عنه مع كثرة الحيض في زمنه ، علم أنه ليس بمحرم . وإنما منعت الحائض من الطواف إذا أمكنها أن تطوف وهي طاهر ، لأن الطواف يشبه الصلاة من بعض الوجوه وليس كالصلاة من كل الوجوه والحديث الذي رواه النسائي عن ابن عباس:(/2)
» الطواف بالبيت صلاة ، إلا أن الله أباح فيه الكلام « قد قيل: أنه من كلام ابن عباس، والله سبحانه إنما فرض في الحج طوافا واحدا ووقوفا واحدا ، فكذلك السعي حتى أحمد في نص الروايتين عنه لا يوجب على الممتع إلا سعيا واحدا ، إما قبل التعريف وإما بعده ، بعد الطواف. ولهذا قال أكثر العلماء : إن العمرة لا تجب كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة ، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وهو الأظهر في الدليل ، فإن الله لم يوجب إلا حج البيت ولم يوجب العمرة ، وإنما أوجب إتمام الحج والعمرة على من يشرع فيهما . وهذا مما يفوق به بين طواف الحائض وصلاة الحائض، فإنها تحتاج إلى الطواف الذي فرض الله عليها مرة في العمر ، وقد تكلفت السفر الطويل إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ، فأين حاجة هذه إلى الطواف الذي يكمل به تمام حجها ، وقد تقم القول الراجح في أن الحائض لا تمنع من قراءة القرآن لحاجتها ، وحاجتها إلى هذا الطواف أعظم . ثم إن اشتراط الطهارة من الحديث للطواف فيه نزاع ، كالطهارة للصلاة والاحتجاج بقوله: الطواف بالبيت صلاة حجة ضعيفة ، فإن نهايته أن يشبه بالصلاة وليس المشبه كالمشبه به من كل وجه ، فمن أوجب له الطهارة فلا بد له من دليل شرعي وما أعلم ما يوجب ذلك ، ثم أني تدبرت وتبين لي أن طهارة الحدث لا تشترط في الطواف ولا تجب فيه بلا ريب ، فإن الأدلة الشرعية إنما تدل على عدم وجوبها فيه وليس في الشريعة ما يدل على وجوب الطهارة الصغرى فيه و لا نسلم أن جنس الطواف أفضل من جنس الصلاة ، بل جنس الصلاة أفضل منه ، وقد صحت في حالة الضرورة بدون وضوء ولا تيمم كعادم الطهورين، فكيف لا يصح طواف الحائض مع الضرورة والحالة هذه ، فإنها إذا اضطرت إلى الطواف الذي لم يقم دليل شرعي على وجوب الطهارة فيه مطلقا كان أولى بالجواز.
فقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : » الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت « وقوله لعائشة: » افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري « هو من جنس قوله: » لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يتوضأ « وقوله : » لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار« وقوله: » إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب « ، فإذا كان قد حرم المسجد على الحائض والجنب ورخص للحائض أن تناوله الخمرة من المسجد ، وقال لها: » إن حيضك ليست في
يدك« ، وقد أبيح المرور للجنب ، وكان الصحابة يجلسون في المسجد وهم مجنبون ، إذا توضئوا مع أنه لا ضرورة إليه ، فإباحة الطواف للضرورة لا يتنافي تحريمه بذلك النص كإباحة الصلاة بدون وضوء ولا تيمم للضرورة وإباحة صلاة المرأة بدون خمار للضرورة . ولم تأت السنة بمنع الحديث من المسجد وما لم يحرم على المحدث فلا يحرم على الحائض مع الضرورة بطريق الأولى والأحرى، كقراءة القرآن . فلو حرم الطواف عليها مع الحيض ، فلا يلزم تحريم ذلك مع الضرورة ، ومن جعل حكم الطواف الصلاة فيما يحل ويحرم ، فقد خالف النص والإجماع.
وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع ، وإنما الحجة النص والإجماع ودليل مستنبط من ذلك تقدر مقدماته بالأدلة الشرعية لا بأقوال بعض العلماء ، فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية ولا يحتج لها . ومن تربى على مذهب قد تعوده واعتقد ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية ولا تنازع العلماء فيها ، فإنه لا يفرق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول، وبين ما قاله بعض العلماء مع تعذر الحجة على صحته ، وإنما هو من المقلدة الناقلين لأقوال غيرهم والمقلد ليس معدودا من أهل العلم.
وإذا دار الأمر بين أن تطوف طواف الإفاضة مع الحيض للضرورة وبين ألا تطوف ، كان أن تطوف مع الحيض أولى ، فإن في اشتراط الطهارة للطواف نزاعا معروفا وكثير من العلماء كأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه يقولون: » أنها في حال القدرة على الطهارة إذا طافت مع الحيض اجزأها وعليها دم مع قولهم: أنها تأثم بذلك ، وأهل هذا القول يقولون إن الطهارة واجبة فيها لا شرط والوجبات كلها تسقط بالعجز ، وحينئذ فهذا المرأة المحتاجة للطواف مع الحيض أكثر ما يقال أنه يلزمها دم مع الضرورة ، وقد تبين بهذا أن المضطرة إلى الطواف مع الحيض لما كان في علماء المسلمين من يفتيها بالإجزاء مع الدم ولم تكن الأمة مجمعة على أنه لا يجزأها إلا الطواف مع الطهر مطلقا ، وحينئذ فليس مع المنازع القائل بمنعها من الطواف حتى تطهر ، ولو كانت مضطرة لا نص و لا قياس ولا إجماع ، وقد بينا أن العلماء اختلفوا في طهارة الحدث ، هل هي واجبة للطواف ، وأن قول النفاة للوجوب أظهر ، فلم تجمع الأمة على وجوب الطهارة عليها و لا على الطهارة شرط في الطواف.(/3)
وذكر أبو بكر عبد العزيز في " الشافي " عن الميموني ، قال لأحمد: » من سعى أو طاف طواف الواجب على غير طهارة، ثم واقع أهله فقال: الناس في هذا مختلفون ، وذكر قول ابن عمرو ما يقوله عطاء وما يسهل فيه ، ومما نقل عن عطاء في ذلك أن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف أنها تتم طوافها ويصح منها وهذا صريح من عطاء أن الطهارة مع الحيض ليست
شرط « .
والحائض أحق بالعذر من الجنب ، لكون الجنب يقدر على الطهارة ، وهذه عاجزة عنها ، فهي معذورة ، كما عذرها من جوّز لها قراءة القرآن لأن عذرها بالعجز والضرورة أولى من عذر الجنب بالنسيان . ومن نسي الطهارة للصلاة عليه أن يتطهر ويصلي إذا ذكر بخلاف العاجز عن الشرط والواجب كالعاجز عن الوضوء والتيمم أو عن قراءة ، أو استقبال القبلة ، فإن هذا يسقط عنه كل ما عجز عنه ولم يوجب الله على أحد ما يعجز عنه ، لقول الله تعالى: » فاتقوا الله ما استطعتم لا يكلف الله نفسا إلا وسعها « ، وفي الحديث: » إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعم « .
وقد قال أحمد في رواية محمد بن الحكم : إذا طاف طواف الإفاضة على غير طهارة وهو ناس لطهارته حتى رجع ، فإنه لا شيء عليه ، وإن وطئ فحجه ماض ولا شيء عليه ، وبالجملة هل يشترط في الطواف شروط الصلاة على قولين في مذهب أحمد وغيره.
أحدهما: يشترط لقول مالك والشافعي وغيرهما.
والثاني: لا يشترط وهو قول أكثر السلف وهو مذهب أبي حنيفة وغيره ، وهذا القول هو الصواب ، فإن المشترطين للطواف كشروط الصلاة ، ليس معهم حجة إلا قوله: الطواف بالبيت صلاة وهذا لو ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن لهم فيه حجة لمخالفته لشئون الصلاة. فإذا طافت الحائض مع العجز عن الطهارة ، فهنا غاية ما يقال أن عليها دما ، والأشبه أنه لا يجب عليها الدم ، لأن الطهر واجب تؤمر به مع القدرة لا مع العجز ، لأن الدم إنما يجب بترك المأمور وفعل المحظور بالاختيار وهي لم تترك مأمورا ولم تفعل محظورا في هذه الحال بالاختيار ، وإنما هي مغلوبة على أمرها لا تستطيع رفع الحدث » الحيض « عنها ، فمنعها من الطواف هو من جنس منعها من اللبث في المسجد والاعتكاف فيه وقراءة القرآن ومس المصحف، وهذه كلها يجوز للحائض فعلها بلا دم عند الحاجة إليها ، فإن قيل: لو كان طوافها مع الحيض ممكنا لأمرت بطواف القدوم وطواف الوداع ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسقط طواف الوداع عن الحائض وأمر عائشة لما كانت متمتعة وقد حاضت أن تدع أفعال العمرة وتحرم بالحج فعله أنه لا يمكنها الطواف. فالجواب: أن الطواف مع الحيض محظور ،إما لحرمة المسجد أو للطواف مع أولهما والمحظورات لا تباح إلا في حالة الضرورة ولا ضرورة بها إلى طواف الوداع ، ولا إلى طواف القدوم ، لأن طواف الوداع ساقط عن الحائض بالنص وطواف القدوم مستحب وليس بواجب وليست مضطرة إليه ، ولو قدم مكة وقد ضاق الوقت فبدأ بالوقوف بعرفة ولم يطف للقدوم صح حجه بخلاف طواف الفرض ، فإنها مضطرة إليه ولا يتم حجها إلا به ، والحاصل أن القول: بأن هذه المرأة العاجزة عن الطهر ترجع محرمة ، أو تكون كالمحصر أو يسقط عنها طواف الفرض أو الحج كله ، أو تلزم بالتخلف عن رفقتها والجلوس بمكة حتى تطهر وتطوف ، كل هذه الأقوال مخالفة لأصول الشرع ، مع أنني لم أعلم إماما من الأئمة صرح بشيء منها في هذه الصورة ، وكان في زمنهم يمكنها أن تطوف بعدما تطهر ، بحيث أن الأمراء يلزمون الأجراء أن يحتسبوا حتى تطهر الحيض ويطفن.
ولهذا ألزم الإمام مالك وغيره المكاري أن يحتبس معها حتى تطهر وتطوف ، ثم إن أصحابه قالوا : لا يجب على مكاريها في هذه الأزمان أن يحتبس معها لما يلحقه في ذلك من الضرر ، فعلم أن أجوبة الأئمة بكون الطهارة شرطا أو واجبا في حقها ، كان مع القدرة على أن تطوف طاهرا لا مع العجز عن ذلك ، فلو قدر تحريم الطواف عليها مع الحيض في حالة الاختيار ، فإنه لا يلزم تحريم ذلك مع الضرورة ، وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع ، وإنما الحجة النص والإجماع ودليل مستنبط من ذلك تقدر مقدماته بالأدلة الشرعية لا بأقوال بعض العلماء ، فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية ، ولا يحتج بها ، ومن تربي على مذهب قد تعوده واعتقد ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية و لا تنازع العلماء فيها ، فإنه لا يفرق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول وبين ما قاله علماء مذهبه ، مع تعذر الحجة على صحته ، ومن كانت هذه صفته ، فإنه يعد من المقلدة الناقلين لأقوال غيرهم مثل المحدث عن غيره .
إنتهى كلامه مختصراً ـ رحمه الله وعفا عنه ، وأسكنه فسيح جنته ـ ونفعنا وسائر المسلمين بعلومه .
ولإبن القيم ـ رحمه الله ـ في الأعلام نحو من هذا الكلام في جواز طواف الحائض وكونه يتم بذلك ح(/4)
القول بقدم العالم
الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك
الحمد لله، وصلى الله وبارك على عبده ورسوله، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فقد أخبر - سبحانه وتعالى - أنه استوى على العرش في سبعة مواضع من القرآن، فآمن بذلك أهل السنة، وأثبتوا الاستواء بمعناه، وقالوا: الاستواء معلوم- يعني: معلوم معناه في اللغة العربية؛ لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين- والكيف مجهول. فكيفية الاستواء على العرش هي مما استأثر الله بعلمه، كما يقولون إن استواء الله - تعالى -لا يماثل استواء المخلوق. وقالوا: إن استواءه فعل من أفعاله التي تكون بمشيئته - سبحانه وتعالى -، وهو فعَّال لما يريد، والذي قال إنه يمكن استواؤه على بعوضة، أو لو أخبرنا أنه استوى على بعوضة لسلمنا بذلك- هو عثمان بن سعيد الدارمي، لا ابن تيمية- رحمهما الله - وقال هذا مبالغةً في الرد على من أنكر استواء الله على عرشه، ولا أذكر نص عبارته، ولو لم يأت بهذا التعبير لكان أولى، فهو- سبحانه وتعالى -- على كل شيء قدير، والظاهر أنه لم يقل إنه - تعالى -يمكن استواؤه على ظهر بعوضة، بل لعله قال: لو أخبرنا بذلك لآمنا به. فإنه- سبحانه وتعالى -- أصدق الصادقين، ولا يلزم من هذا الافتراض أن يكون ممكنًا فضلاً عن أن يكون واقعًا، فإنه- تعالى- قد قال: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)[الأنبياء: 22].
وأما القول بقدم العالم، أي: بقدم هذا العالم المشهود الذي منه السماوات، فقول باطل، فإن هذا العالم مخلوق في ستة أيام، كما أخبر الله، بل إن السماوات والأرض كان خلقها بعد تقدير مقادر الخلائق بخمسين ألف سنة، فهو محدث وليس بقديم، والقول بقدم هذا العالم الموجود هو قول ملاحدة الفلاسفة الذين يسمون الخالق - سبحانه وتعالى - العلةَ الأولى، ومبدأَ الوجود، ويقولون إنه علة تامة للموجودات، والعلة التامة تستلزم معلولها، فهذا العالم قديم بقدم علته، ومعناه أن وجوده لم يُسبق بعدم، وكأن السائل يُعرض بالإمام ابن تيمية حيث يقول بقدم جنس العالم أو جنس المخلوقات، أو بتسلسل الحوادث، أو بدوام الحوادث بالأزل، وهذه عبارات مؤداها واحد، ومعنى هذا: أن الله لم يزل يخلق ويفعل ما يشاء، فما من مخلوق إلا وقبله مخلوق إلى ما لا نهاية؛ لأن الله لم يزل موجودًا، ولم يزل على كل شيء قدير، ولم يزل فعَّالاً لما يريد، فيقتضي ذلك أن المخلوقات لم تزل أو أقل ما يقال إنه يمكن ذلك، فإنه لا يلزم تسلسل الحوادث؛ لأنه لا يستلزم أن يكون شيء من الموجودات مشاركًا لله في قدمه؛ لأن كل مخلوق حادث بعد أن لم يكن، فهو مسبوق بعدم نفسه، والله تعالى- لم يسبق وجوده عدم، بل هو- سبحانه وتعالى -- قديم أزلي، فلا بداية لوجوده، ولا نهاية، ومن أسمائه الأول والآخر، فهو الأول فليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والذين ينكرون على ابن تيمية هذا القول- وهو ليس قول ابن تيمية وحده، بل قول كل من يؤمن بأن الله لم يزل على كل شيء قديرًا، ولم يزل فعَّالاً لما يريد- فالذين ينكرون هذا القول لم يفهموا حقيقته، ولو فهموا حقيقته لما أنكروه، فالذين ينكرون تسلسل الحوادث في الماضي أو دوامها في الماضي، وأن ذلك ممتنع يلزمهم أن الله كان غير قادر، ثم صار قادرًا، وغير فاعل ثم صار فاعلاً، وهذا يقول به كثير ممن يقول بامتناع حوادث لا أول لها، ومن قال بامتناع دوام الحوادث في الماضي وقال مع ذلك بأن الله لم يزل قادرًا وفاعلاً كان متناقضًا ويلزمه الجمع بين النقيضين.
وبسبب اعتقاد أن دوام الحوادث في الماضي أو المستقبل ينافي أوليته- سبحانه - وآخريته، قيل بامتناع الحوادث في الماضي وفي المستقبل فنتج عن ذلك القول بفناء الجنة والنار، وهذا ما ذهب إليه جهم بن صفوان ومن تبعه، وهذا ضرب من الكفر بما أخبر الله به، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والله - تعالى -قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء، كما في عبارة الإمام الطحاوي، أما ما سوى الله فكلٌّ مسبوق بعدم نفسه، ومن شاء - سبحانه وتعالى -- بقاءه على الدوام، وأنه لا يفنى فهو باقٍ بإبقاء الله وبمشيئته - سبحانه وتعالى -- فلا يكون شيء من المخلوقات مشابهًا لله في خصائصه؛ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)[الشورى: 11].
21/11/1425 هـ
http://www.islamlight.net المصدر:(/1)
القياس المصدر الرابع من التشريع
إعداد/ متولي البراجيلي
الحلقة الثالثة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة
والسلام على أشرف المرسلين، وبعد:
تحدثنا في اللقاءين السابقين عن تعريف القياس
وحجيته وضوابطه، ثم ذكرنا أقسام القياس وأدلته من القرآن، ونواصل البحث - إن
شاء اللَّه -:
ثانيًا أدلة السنة:وفي السنة آثار كثيرة تدل على أن النبي صلى
الله عليه وسلم نبه إلى القياس ودل على صلاحيته لاستنباط الأحكام ومنها:
1- حديث معاذ المشهور رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى
اليمن قال: «كيف تقضي إذا عُرض عليك قضاء؟».
قال: أقضي بكتاب اللَّه.
قال: «فإن لم تجد في كتاب اللَّه ؟».
قال: فبسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
قال: «فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب اللَّه ؟».
قال: أجتهد رِأيي ولا آلو.
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: «الحمد لله
الذي وفق رسولَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله». [أبو
داود والترمذي]
وقد صحح الخطيب البغدادي الحديث قائلاً: على أن أهل العلم قد
تقبلوه واحتجوا به فوقفنا بذلك على صحته عندهم. [الفقيه والمتفقه]
إلا أن من
المحدثين من ضعفه من جهة السند مع القول بصحة معناه، وقد ذهب الشيخ الألباني -
رحمه اللَّه - إلى ضعف الحديث سندًا وأن في متنه مخالفة لأصل مهم، وهو عدم جواز
التفريق في التشريع بين الكتاب والسنة ووجوب الأخذ بهما معًا. [السلسلة الضعيفة
ح881]
وقال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: وهو الحجة في إثبات القياس
عند جميع الفقهاء القائلين به.
2- أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول اللَّه، ولدي غلام أسود [منكرًا لونه الأسود]، فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «هل لك من إبل ؟» قال: نعم. قال: ما ألوانها ؟ قال: حمر. قال:
«هل فيها من أورق؟» (الأسود غير الحالك) قال: نعم. قال: فأنَّى ذلك ؟ قال: لعله
نزعه عرق، قال صلى الله عليه وسلم: «فلعل ابنك هذا نزعه عرق». [متفق عليه]
3- وعندما سألت الخثعمية عن الحج عن أبيها الذي أدركته فريضة الحج وهو شيخ كبير لا
يستطيع أن يثبت على الراحلة، فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم مستخدمًا
القياس: أرأيت لو كان على أبيك دينٌ فقضيته؛ أكان ينفعه ؟ قالت: نعم. قال صلى
الله عليه وسلم: «ودين اللَّه أحق أن يُقضى». [البخاري]
4- وعندما قال عمر: يا رسول اللَّه، لقد صنعت اليوم أمرًا عظيمًا، قبلت وأنا صائم، فأجابه رسول الله
صلى الله عليه وسلم مستخدمًا القياس: أرأيت لو تمضمضت بالماء؟ فقال: لا بأس،
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «فمه» (أي فماذا عليك). [أحمد وأبو داود]
5- قوله صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه خمس مرات،
هل يبقي من درنه شيء ؟» قالوا: لا. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو اللَّه
بهن الخطايا. [البخاري]
فالقياس: كما أن الماء مطهر من الأدران الحسية فالصلاة
مطهرة من الأدران (السيئات) المعنوية. إلى غير ذلك من أحاديث النبي صلى الله
عليه وسلم التي استخدم فيها القياس.
ثالثًا: أدلة الصحابة:
1- كتاب عمر رضي اللَّه عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه في القضاء، وفيه: اعرف الأشباه
والأمثال وقس الأمور، ثم الفهم الفهم، فيما أُدْلِيَ إليك مما ورد عليك مما ليس
في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عندك واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى
أحبها إلى اللَّه وأشبهها بالحق.
2- ولما بعث عمر رضي اللَّه عنه شريحًا على
قضاء الكوفة، قال له: انظر ما تبين لك في كتاب اللَّه فلا تسأل عنه أحدًا، وما
لم يتبين لك في كتاب اللَّه فاتبع فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما
لم يتبين لك فيه السنة فاجتهد رأيك.
3- وقال عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه:
من عَرَض له منكم قضاءً فليقض بما في كتاب اللَّه، فإن لم يكن في كتاب اللَّه
فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء أمر ليس في كتاب اللَّه
ولم يقض فيه نبيه صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاء أمر
ليس في كتاب اللَّه ولم يقض به نبيه ولم يقض به الصالحون فليجتهد رأيه، فإن لم
يحسن فليقم ولا يستحي.
4- وكان ابن عباس رضي اللَّه عنهما إذا سُئل عن شيء، فإن
كان في كتاب اللَّه قال به، وإن لم يكن في كتاب اللَّه وكان عن رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم قال به، فإن لم يكن في كتاب اللَّه ولا عن رسول اللَّه صلى الله
عليه وسلم ولا عن أبي بكر وعمر، اجتهد رأيه.
قال ابن تيمية رحمه اللَّه: هذه
الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس - رضي اللَّه عنهم - وهم من اشهر
الصحابة بالفتيا والقضاء.
[مجموع الفتاوى 19/201]
5- ومن ذلك أيضًا: تقديم
الصحابة لأبي بكر رضي اللَّه عنه إمامًا للمسلمين وجعله خليفة رسول الله صلى(/1)
الله عليه وسلم قياسًا على تقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة،
فقالوا: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ديننا، أفلا نرضاه لأمر
دنيانا؟!
رابعًا: أدلة المعقول:
1- إن اللَّه سبحانه ما شرع حكمًا إلاَّ
لمصلحة، وإن مصالح العباد هي الغاية المقصودة من تشريع الأحكام، فإذا ساوت
الواقعة التي لا نصَّ فيها الواقعة المنصوص عليها في علة الحكم التي هي مظنة
المصلحة، قضت الحكمة والعدالة أن تساويها في الحكم تحقيقًا للمصلحة التي هي
مقصود الشارع من التشريع.
ولا يتفق وعدل اللَّه وحكمته أن يحرم شرب الخمر
لإسكاره محافظة على عقول عباده، ويبيح نبيذًا آخر فيه خاصية الخمر، وهي
الإسكار، لأن مآل هذا هو: المحافظة على العقول من مسكر، وتركها عرضة للذهاب
بمسكر آخر.
2- إن نصوص القرآن والسنة محدودة ومتناهية، ووقائع الناس وأقضيتهم
غير محدودة ولا متناهية، فلا يمكن أن تكون النصوص المتناهية وحدها هي المصدر
التشريعي لما لا يتناهى، فالقياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع
المتجددة، ويكشف حكم الشريعة فيما يقع من الحوادث ويوفق بين التشريع
والمصالح.
3- إن القياس دليل تؤيده الفطرة السليمة والمنطق الصحيح، فإن من نهى
عن شراب لأنه سام، يقيس بهذا الشراب كل شراب سام، ومن حرم عليه تصرف لأن فيه
اعتداءً وظلمًا لغيره، يقيس بهذا كل تصرف فيه اعتداء وظلم لغيره، ولا يُعرف بين
الناس اختلاف في أن ما جرى على أحد المثلين يجري على الآخر، ما دام لا فارق
بينهما.
ولعل القياس من أهم الأسباب التي جعلت الشريعة الإسلامية صالحة لكل
زمان ومكان، حيث تتسع لكل ما يطرأ على مصالح العباد وتصرفاتهم.
نفاة القياس
وأدلتهم: ومع أن الجمهور على أن القياس حجة شرعية، وأنه في المرتبة الرابعة من
الحجج الشرعية بعد القرآن والسنة والإجماع؛ إلا أنه يوجد من أهل العلم من
أنكرالقياس، كأهل الظاهر وخاصة ابن حزم - يرحمه اللَّه -.
وأوردوا أدلة مختلفة
من القرآن وآثار الصحابة ومن المعقول تنفي القياس، وسننظر إلى هذه الأدلة وكيف
وجهها أهل العلم في الرد عليهم.
أولاً: من القرآن:
1- قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله
ورسوله [الحجرات: 39].
فقال أهل الظاهر إن القياس يعارض هذه الآية لأنه
تقدُّم أو تقديم بين يدي اللَّه ورسوله بحكم يقول به في واقعة لم يرد فيها نص
من كتاب أو سنة.
2- قوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم
[الإسراء: 36].
فقالوا: أي لا تتبع ما ليس لك به علم، والقياس أمر ظني مشكوك
فيه، فيكون العمل به بغير علم، ومن قبيل الظن الذي لا يغني عن الحق شيئًا، كما
جاء في القرآن الكريم.
3- قوله تعالى: ونزلنا عليك الكتاب
تبيانا لكل شيء <<. ففي القرآن بيان كل حكم فلا حاجة معه للقياس،
لأنه إذا جاء بحكم ورد في القرآن، ففي القرآن الكفاية، وإن جاء بما يخالفه فهو
مرفوض غير مقبول.
ومن مثل ذلك، قوله تعالى: ما فرطنا في الكتاب من
شيء [الأنعام: 38].
وقوله تعالى: ولا رطب ولا يابس إلا في
كتاب مبين [الأنعام: 59].
ثانيًا: من آثار الصحابة:
قالوا: وردت آثار
كثيرة عن الصحابة بذم الرأي وإنكار العمل به، ومن ذلك قول عمر رضي اللَّه عنه:
إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا
بالرأي فضلوا وأضلوا.
وقوله أيضًا: إياكم والمطايلة، قيل: وما المطايلة ؟ قال:
المقايسة.
وقال علي بن أبي طالب: لو كان الدين يؤخذ بالرأي لكان باطن الخف أولى
بالمسح من ظاهره، وهذا يدل على ذم القياس، وأنه ليس بحجة فلا يعمل به.
ثالثًا: ومن المعقول:
قالوا: إن القياس يؤدي إلى الاختلاف والنزاع بين الأمة لأنه مبني
على أمور ظنية من استنباط علة الأصل وتحققها في الفرع، وهذه أمور تختلف فيها
الأنظار، فتختلف الأحكام، ويكون في الواقعة الواحدة أحكام مختلفة، فتتفرق
الأمة، والتفرق أمر مذموم غير محمود، وما يؤدي إليه مذموم أيضًا وهو القياس.
ثم
إن أحكام الشريعة لم تبن على أساس التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين
المختلفين، ولهذا نجد في الشريعة أحكامًا مختلفة لأمور متماثلة مثل: إسقاط
الصوم والصلاة عن الحائض في مدة حيضها، وتكليفها بقضاء الصوم دون الصلاة بعد
طهرها، وإيجاب قطع يد السارق وعدم قطع يد المنتهب، ولا فرق بين الاثنين، وإقامة
الحد على القاذف بالزنا دون القاذف بالكفر، مع أن الكفر أقبح من الزنا.
كما نجد
في الشريعة أحكامًا متماثلة لأمور مختلفة مثل: جعل التراب طهورًا كالماء، وهما
مختلفان.
فإذا كانت الشريعة لم تراع التماثل بين الأشياء في تشريعها الأحكام،
فلا حجة في القياس، لأنه يعتمد المساواة والتماثل والشريعة لم تعتبرهما.
مناقشة
أدلة نفاة القياس:الأحكام الشرعية معللة، أي أنها بنيت على عللٍ وأوصافٍ اقتضت
هذه الأحكام، سواء كانت عبادات أو معاملات، ولكن علل العبادات محجوبة عنا لا
سبيل إلى إدراكها تفصيلاً، وإن كنا جازمين بوجود هذه العلل.(/2)
أما في المعاملات
فإن عللها يمكن إدراكها بطريق سائغ مقبول، لذا يمكن طرد أحكامها في جميع
الوقائع التي تشتمل على هذه العلل جريًا وراء نهج الشريعة، في التشريع وأخذًا
بقانون التماثل الذي دل عليه القرآن في كثير من نصوصه، والتسوية بين المتماثلين
والتفريق بين المختلفين أمر مشهود له بالصحة والاعتبار، قال تعالى:
أفنجعل المسلمين كالمجرمين (35) ما لكم كيف
تحكمون [القلم: 35، 36].
وقال تعالى: أم حسب الذين اجترحوا
السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات
سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون [الجاثية:
47].
فالقرآن إذن شاهد على صحة قانون التساوي بين المتماثلين والتفريق بين
المختلفين، وما القياس إلا أخذًا بهذا القانون.
أما ما احتج به نفاة القياس:
فالآيات القرآنية لا حجة لهم فيها، لأن القياس يؤخذ به حيث لا نصَّ في المسألة،
فلا يكون تقديمًا بين يدي اللَّه ورسوله.
ولأنه يكشف عن حكم اللَّه في الواقعة
التي لم يرد بحكمها نص صريح، فهو مظهر لحكم ثابت وليس مثبتًا لحكم غير موجود،
فلا يكون مخالفًا لآية: وأن احكم بينهم بما أنزل الله <<.
وأن القياس يفيدنا الظن الراجح في صحة الحكم مع ملاحظة أن من النصوص ما هو ظني
الدلالة، والظن الراجح كاف في إثبات الأحكام العملية، فلا يكون مخالفا لآية:
ولا تقف ما ليس لك به علم [الإسراء: 36]، وآية: وإن
الظن لا يغني من الحق شيئا [النجم: 28].
- وكون القرآن
تبيانًا لكل شيء، يعني تبيانه للأحكام لفظًا أو معنى، وليس معناه النص الصريح
على كل حكم.
- أما الآثار الواردة عن الصحابة في ذم الرأي والقياس، فتحمل على
الرأي الفاسد والقياس الفاسد، ونحن نسلم أن من القياس ما هو فاسد، كما أن منه
ما هو صحيح، والصحيح هو ما توافر فيه الأركان والشروط التي ذكرناها من قبل،
والفاسد ما كان خلاف ذلك، مثل قياس المبطلين الذين: قالوا إنما البيع
مثل الربا [البقرة: 275].
على أن حقيقة البيع تخالف حقيقة الربا.
ومثل ما قصَّ اللَّه علينا من قول إخوة يوسف عليه السلام: إن يسرق فقد
سرق أخ له من قبل [يوسف: 77].
وكقياس إبليس المبني على أن النار
أفضل من الطين، وغيره.
ولكن وجود قياس فاسد لا يقدح في حجية الصحيح منه، فإننا
نجد مما ينسب إلى السنة ما هو باطل قطعًا كالأحاديث الموضوعة، ولكن لا يقدح هذا
في وجوب اتباع السنة.
وأما قولهم إن القياس مثار اختلاف ونزاع، فالرد عليهم: أن
الاختلاف موجود في استنباط الأحكام الشرعية العملية، وهو سائغ طالما لا يوجد نص
صريح قطعي الدلالة في المسألة المختلف فيها، بل إن نفاة القياس أنفسهم اختلفوا
فيما بينهم في كثير من الأحكام حتى ولو كانوا من مذهب واحد، والاختلاف المذموم
هو ما كان في المسائل الاعتقادية في أصول الدين لا في فروعه، وفي الأحكام
القطعية أو المجمع عليها، لا في الأحكام الظنية.
- وأما ما قاله بعضهم من أن
الشريعة جاءت بالتفريق بين المتماثلات والتسوية بين المختلفات وبهذا فيهدم أساس
القياس، فهو قول غير سديد مطلقًا، فالشريعة لم تأت قط بما ينافي ما هو مركوز في
الفطر السليمة من تفريق بين المختلفين وتسوية بين المتماثلين وأحكامها الدالة
على ذلك كثيرة.
أما إذا جاءت الشريعة باختصاص بعض الأنواع بحكم يفرق بين
نظائره، فلا بد أن يختص هذا النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم، ويمنع مساواة غيره
به، فليس في الشريعة أحكام تخالف قانون التماثل، وأما الأمثلة التي ضربوها
فبيانها:
- أن الحائض بعد طهرها تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة، فهذا مبني على
رفع الحرج في قضاء الصلاة دون الصوم، لكثرة أوقات الصلاة، والحرج مرفوع
شرعًا.
- أما وجوب حد القاذف بالزنا دون الكفر، لأن القذف بالزنا لا سبيل للناس
للعلم بكذب القاذف، فكان حده تكذيبًا له وتبرئة لعرض المقذوف ودفعًا للعار عنه،
لا سيما إن كانت امرأة، أما الرمي بالكفر فإن مشاهدة حال المسلم واطلاع
المسلمين عليه كافٍ في تكذيب القاذف، وباستطاعة المقذوف أن ينطق بكلمة الإيمان
فيظهر كذب القاذف، أما الرمي بالزنا، فماذا يفعل المقذوف حتى يظهر كذب القاذف
؟
- وكذلك إيجاب قطع يد السارق دون المنتهب، لأن السارق يهتك الحرز ويكسر القفل
وينقب الدور، ولا يمكن لصاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك، فكان لابد من إيجاب
القطع على السارق حسمًا لهذا البلاء على الناس، وهذا بخلاف المنتهب فإنه ينهب
المال على مرأى من الناس فيمكن مطاردته وانتزاع المال من يده، كما يمكن الشهادة
عليه لدى الحاكم فينزع منه الحق، وفضلاً عن ذلك فإن المنتهب يعاقب تعزيرًا،
فليست حقيقة السرقة كحقيقة النهب، فافترقا في الحكم.
- وأما التراب لما صار
طهورًا ورافعًا للحدث عند فقد الماء، فهذا حكم تعبدي، والأحكام التعبدية لا
تعلل.
وما أجمل المناظرة التي جرت بين أبي العباس أحمد بن سريج الشافعي، ومحمد
بن داود الظاهري.
قال أبو العباس له: أنت تقول بالظاهر وتنكر القياس، فما تقول(/3)
في قوله تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن
يعمل مثقال ذرة شرا يره [الزلزلة: 7، 8].
فمن يعمل مثقال
نصف ذرة ما حكمه؟
فسكت ابن داود الظاهري طويلاً، ثم قال: أبلعني ريقي.
قال أبو العباس: قد أبلعتك دجلة.
قال ابن داود الظاهري: أنظرني ساعة.
قال له أبو العباس: أنظرتك إلى قيام الساعة... وافترقا رحمهما اللَّه.
ولقد حمل ابن حزم
الظاهري رحمه اللَّه على الأئمة حملة شديدة لأخذهم بالقياس وقال: إن كل ما لم
يأت بنص من كتاب أو سنة لا يجوز البحث عنه، فهو مما سكت اللَّه عنه، وهو
عفو.
لكن - يقول الشنقيطي - ليس كل ما سكت عنه الوحي فهو عفو، بل الوحي يسكت عن
أشياء ولابد من حلها، ومن أمثلة ذلك مسألة العول (في الميراث)، فأول عول نزل في
زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
ماتت امرأة وتركت زوجها وأختيها، فجاء زوجها
وأختاها إلى أمير المؤمنين، فقال الزوج: يا أمير المؤمنين، هذه تركة زوجتي ولم
تترك ولدًا، والله يقول في كتابه: ولكم نصف ما ترك أزواجكم
إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد
[النساء:12].
فهذه زوجتي ولم يكن لها ولد، فلي نصف ميراثها بهذه الآية ولا
أتنازل عن نصف الميراث بدانق.
فقالت الأختان: يا أمير المؤمنين هذه تركة أختنا
ونحن اثنتان، والله يقول: فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان
مما ترك [النساء: 176]، والله لا نقبل النقص عن الثلثين بدانق.
فقال
عمر: ويلك يا عمر، والله إن أعطيت الزوج النصف لم يبق للأختين ثلثان، وإن أعطيت
الثلثين للأختين لم يبق للزوج النصف.
(فهنا الوحي سكت ولا يمكن أن يكون عفوًا،
فلم يبين أي النصين ماذا نفعل فيهما، فلا بد من حل، فلا نقول لهم: تهارشوا على
التركة تهارش الحمر أو ننزعها من واحد إلى الآخر، فلابد من الاجتهاد).
فجمع عمر
رضي الله عنه الصحابة وأسف كل الأسف أنه لم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن العول لمثل هذا.
فقال له العباس بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه: يا أمير
المؤمنين، أرأيت هذه المرأة لو كانت تُطالب (مدينة) بسبعة دنانير وتركت ستة
دنانير فقط، ماذا كنت فاعلاً ؟ قال: أجعل الدنانير الستة سبعة أنصباء، وأعطي كل
واحد من أصحاب الدنانير نصيبًا من السبعة، قال: كذلك فافعل.
وللحديث بقية إن شاء اللَّه تعالى.
المراجع:
1- الوجيز في أصول الفقه: د. عبد الكريم زيدان.
2- معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة: للجيزاني.
3- علم أصول الفقه: عبد الوهاب خلاف.
4- التأسيس في أصول الفقه: مصطفى سلامة.
5- مذكرة في أصول الفقه: للشنقيطي.
6- أصول الفقه: د. شعبان محمد إسماعيل.
7- أقيسة الصحابة وأثرها في
الفقه الإسلامي: د. محمود حامد عثمان.
8- الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي.
9- جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر.
10- السلسلة الضعيفة للألباني.
11- فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.(/4)
القيم الخلقية أ.د. جعفر شيخ إدريس*
ربّما كان معيار القيم الخُلُقية أكثر المعايير دوَراناً على ألسنة الناس في تقويمهم للأشخاص والتصرفات؛ فهم ما يزالون يحكمون على هذا بأنه سياسي كذاب، وذاك بأنه رجلُ دينٍ منافق، وعلى تلك بأنها امرأة شريفة، وعلى هؤلاء بأنهم موظفون أُمناء وهكذا...
فنحن لسنا ـ إذن ـ بحاجة لأن نقيم دليلاً على أن هذه القيم من المعايير التي يلجأ إليها العقلاء، أو سائر الناس في حال تقويمهم العقلي.
أما المسألة التي تحتاج إلى شيء من البيان بسبب ما أُثير حولها، ولا سيما في الفكر الغربي من شبهات، فهي مسألة علاقة القيم الخلقية بالأوامر والنواهي الإلهية.
زعم بعض المنتسبين إلى الأديان ـ حتى من المسلمين ـ أنّ قِيَم الصدق والأمانة والوفاء وسائر المكارم الخلقية إنما تُعرف بالدين ولا معنى لها قبل ورود الشرع، وزعم آخرون أن الإيمان وحده هو الذي يدفع الإنسان للالتزام بهذه القيم، وأن من لا إيمان له لا خُلُقَ له.
قال المعترضون: لكننا نعرف ـ بالحس والتجربة ـ أناساً صادقين أو أُمناء مع أنه لا علاقة لهم بِدِينٍ.
بل زعم بعض الفلاسفة أن التزام المتدين بمكارم ـ كالصدق والأمانة ـ ليس التزاماً بمكارم خُلُقية، وإنما هو تصرُّف تاجر يريد أجراً على فعله، وأن الملتزم بمكارمَ مثل هذه ـ باعتبارها مكارمَ خُلُقية ـ لا يفعل هذا رجاءَ ثواب أو خوفاً من عقاب، وإنما يفعله؛ لأنه عملٌ حَسَنٌ في نفسه.
فما وجه الحق في هذه المسائل؟ نقول:
أولاً: أما معرفة الناس بحسن أصول المكارم الخُلُقية ـ من صدق وأمانة وعدل ووفاء وغيرها قبل ورود الشرع بها أو أمره بها ـ فمسألة لا شك فيها، بل هي من لوازم الدين التي لا يعرف الناس حقيقة الدين إلا بها.
إذاً؛ لم يكن الناس قادرين على التمييز بين الصدق والكذب، أو بين حُسْن الأول وقُبح الثاني؛ فكيف يميزون إذن بين نبي صادق ومدّعٍ للنبوة كاذب؟ وكيف يميزون بين كلام الله وافتراءات الدجالين؟
إن الشكر هو لُبّ العبادة، وما أنواع العبادات من صلاة وصوم وحج وذِكْر إلا وسائل يعبر بها العبد عن شكره لله تعالى؛ فإذا لم يكن يعرف معنى الشكر ولا حُسْنه قبل ورود الشرع به؛ فكيف إذن يستجيب للدعوة إلى عبادة الله؟
قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - 22].
فالدعوة إلى عبادة الله في هذه الآيات الكريمات وأمثالها دعوة إلى شكره على نعمه التي أنعم بها على الإنسان.
وكذلك الدعوة إلى القراءة باسمه ـ تعالى ـ في أول سورة طرقت أسماع العباد هي دعوة إلى شكره على نعمة الخَلْق ونعمة العِلْم. وأن الذي لا يستجيب إلى هذه الدعوة فيشكر الله ـ تعالى ـ عليها هو الذي أصابه من الغرور ما جعله يعتقد أنه مستغنٍ عن الخالق سبحانه. قال ـ تعالى ـ:
{اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلاَّ إنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 1 - 7].
ثانياً: إذا كان الخطاب الشرعي مبنياً على حقيقة أن الناس عارفون بحسن الصدق والأمانة والعدل والوفاء وغيرها؛ فمن الخطأ أن يُعرّف الإحسان بأنه ما أمر الله به، أو يُعرّف الشر بأنه ما نهى الله ـ تعالى ـ عنه. فرقٌ بين أن تقول: إن الله يأمر بالعدل، وأن تقول: إن العدل هو ما أمر الله به. فالعبارة الأولى تعني أن الإحسان كان إحساناً قبل أن يأمر الله به، والشر كان شراً قبل أن ينهى الله عنه. أما الثانية ـ إذا قصد بها تعريف الخير والشر ـ فإنها تعني أن ما أمر الله به لم يكن إحساناً أو خيراً قبل الأمر به، وما نهى عنه لم يكن شراً قبل النهي عنه. لكن هذا تلزم عنه شنائع كما بيّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية؛ إذ قال كلاماً فحواه أن هذا القول يفرغ بعض الآيات من معانيها ويجعلها تحصيل حاصل. وذكر على ذلك مثلاً قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
فإذا قلت: إن العدل هو ما أمر الله به، كان معنى الآية: إن الله يأمر بما يأمر به. أما بالقول الثاني فيكون في الآية ثناء على الله ـ تعالى ـ أنه يأمر بالعدل الذي يعرف الناس أنه عدل وأنه شيء حسن. يتضح لك هذا في قوله ـ تعالى ـ:(/1)
{وَإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 28 - 29].
فالله ـ تعالى ـ ينزِّه نفسه عن أن يأمر بالفحشاء، وأنه إنما يأمر بالقسط. فإذا فسرت الفحش بأنه ما نهى الله عنه والقسط أنه ما أمر الله به، صار معنى الآية: إن الله لا يأمر بما ينهى عنه، وإنما يأمر بما يأمر به.
ثالثاً: لماذا يلتزم المسلم بمكارم الأخلاق؟ لأسباب ثلاثة:
أولها: أنه كغيره من عباد الله من ذوي الفطرة المستمرة على استقامتها: يصدق، أو يفي، أو يعدل؛ لأنه يحب هذه الخصال ويبغض أضدادها، ويرى في الالتزام بها إكراماً لنفسه، وفي الخروج عليها تدنيساً لها.
ثانيها: أن إيمانه بربه وحبه لما يحب يقوّي هذا الشعور الفطري فيه.
ثالثها: أنه يرجو ثواب ربه ولا سيما حين يقتضي الفعلُ الحَسَنُ قدْراً من التضحية. وهو في كل هذا سائر على مقتضى المعايير التي يلتزم بها العقلاء. أما غيره فإنه حين يسلك هذا السلوك الحسن يضطر لأن يخرج على بعض تلك المعايير. إن كل إنسان يرى أنه من أكبر العبث أن يُقْدِم على فعل لا يرجو منه نفعاً ألبتة كما بيّنا في المقال السابق. فما الذي يجعل مكارم الأخلاق مستثناة من هذه القاعدة؟ إنه حتى الذي لا يؤمن بالله ولا بآخرة لا يلتزم بها التزاماً لا يجد له نفعاً في هذه الحياة الدنيا. بل إنه قد يُحْسِنُ لِمَا يجد للإحسان من أثر طيب على نفسه، أو لأن الناس يحمدونه عليه، كما كانوا يفعلون مع مشاهير الكرماء من أمثال حاتم الطائي. فما الذي يجعل العمل من أجل مثل هذا الثواب خيراً من رجاء الثواب عند الله تعالى؟
حين كنت أفكر في كلام هؤلاء الفلاسفة أيام الشباب لفتت نظري هذه الآية الكريمة:
{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119].
قلت: إذا كان الصدق رأس المكارم الخُلُقية ومع ذلك ينتفع به صاحبه نفعاً خاصاً؛ فلا منافاة إذن بين أن يكون العمل من مكارم الأخلاق وبين أن ينتفع به صاحبه.
ثم لفت نظري قوله ـ سبحانه ـ الذي وجدت فيه الرد على شبهتهم:
{هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُ} [الرحمن: 60].
فكأن الآية تقول لهؤلاء: إن الذي ظننتموه متناقضاً مع مكارم الأخلاق هو منها ومن مقتضياتها.
بعض الفلاسفة الذين أثاروا هذه الشبهة ذكروا ـ هم أنفسهم ـ في مقابلها شبهة تنقضها. فهذا زعيمهم الفيلسوف الألماني «كانْت» الذي اشتهر بنظرية تسمى: الواجب المطلق categorical imperative ، والتي فحواها: أن الإنسان يجب أن يلتزم بمكارم الأخلاق لا لأيِّ سبب نفسي أو خارجي، بل أداءً للواجب الذي يعبّر عنه هذا الأمر المطلق المسمى بـ «القانون الخُلُقي». هذا ـ كما ترون ـ مجرد تحكم، لكنه قول صار عند الغربيين من النظريات الخُلُقية التي ما تزال تُدرس وتُنشر.
لكن «كانْت» هذا قال في مكان آخر قولاً ينقض دعواه هذه.
في مناقشته لأدلة وجود الخالق انتهى إلى أن أحسن دليل هو الدليل الخُلُقي الذي فحواه أن القانون الخُلُقي يقتضي العدل، أي: أن تكون سعادة الإنسان متناسبة مع التزامه بالفضيلة. وهذا أمر لا يضمنه إلا الخالق، لكنه لم يضمنه في هذه الدنيا فلا بد إذن من دار أخرى يتحقق فيها.
والقارئ المسلم يعلم أن ما يُسمى بالدليل الخُلُقي مصرّحٌ به في كثير من آيات الكتاب العزيز، من مثل قوله ـ تعالى ـ:
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت: 4].
وقوله ـ تعالى ـ: {إنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 34 - 36].(/2)
القَسَمُ ... الجديد
جاءنَا التبليغُ أَمراً ليسَ يُرْفَضْ
صاحبُ العِزَّةِ ما أملاهُ يُفْرضْ ... ... فَهْوَ مِنْ بَيْتٍ بَديعِ اللَّوْنِ أَبْيَضٍْ
إنَّهُ بوشُ فأبْقِ الرأسَ يُخْفَضْ
عاشَ فِرْعَوْنُ فتى «العهدِ الجديدْ»
جاءَنا التَّبْليغُ يا جُنْدِيُّ طَبِّقْ
لا تُفاجَأْ ليس ما أتلوهُ يُقْلِقْ ... ... وإذا لم يُرْضِكَ الأَمْرُ فأَطْبِقْ
في زمانِ الذُّلِّ طأطئْ ثمّ صَدِّقْ
قالَ فرعونُ، فقلْ: «هل من مزيد ؟»
دعْ قديمَ القسمِ، الآنَ، تطوَّرْ
لا تقلْ أُقْسِمُ باللهِ، وتَفْخَرْ ... ... فالنظامُ العالَمِيُّ اليومَ أَسْفَرْ
فالأصوليَّةُ في الأرضِ ستُقْبَرْ
هكذا فرعونُ أَمْلى بالوعيدْ
«قسماً بالبوش»، قُلْ بَعْدِي، وردِّدْ
«سوفَ أُعْلي رأيَ أَمْريكا وأُلْحِدْ ... ... «قسماً بالآبِ والإبنِ ودَيْفِدْ»
كلَّ مَنْ داسَ عليها وهو يُوقِدْ»
إنَّ هامانَ على فِعْلي شهيدْ
«السَّفاراتُ سأحميها وأَقْتُلْ
«وسيلْقى السَّجْنَ مِنْ دونِ تَمَهُّلْ ... ... كُلَّ مَنْ ألقى ولو حَبَّةَ فُلْفُلْ»
مَنْ إذا تَمْتَمْتُ «واشُنْطُنَ» يَسْعُلْ»
إنَّ فِرعونَ له كَفٌّ حديدْ !
«وسأحْمي مطعماً في إثرِ مطعَمْ
«لا غنى للناس عن (بِتْزا) تُقَدَّمْ ... ... مثلما أحمي السَّلاطينَ وأَعظَمْ»
وكذا (هَمْبِرْغَر) يُقْلى ... ويُقْضَمْ»
عن طعامِ (العَمِّ سام) .. لا نحيدْ
«قسماً عيني ستجتاحُ المساجدْ
«هكذا أحْمِي بِلادي، فلْنُعاهِدْ ... ... باحثاً عَمَّنْ تَمَنَّى أنْ يُجاهِدْ»
أَن يُرى الإسْلامُ مَبْتورَ السَّواعِدْ»
وَلْيَدُمْ فرعونُ في عيشٍ سعيدْ !
«قسماً يا بوشُ إنِّي لَنْ أُهادِنْ
«سَوْفَ أُفْنِيهِ وإنْ دُكَّتْ مَدائِنْ ...
...
مَنْ تَبقَّى عِنْدَهُ وَهْمُ (ابنِ لادِنْ)»
لِيعودَ الذُّلُّ في كُلِّ الأَماكِنْ»
وليَبْقى صوْتُ فِرْعَونَ الوحيدْ
«قسماً أَسحقُ أنصارَ الخِلافَهْ
«دَوْلَةُ الإسْلامِ مِنْ نَسْجِ الخرافَهْ ... ... بِصُنُوفِ الفَتْكِ في (دارِ الضِّيافَهْ)»
وهي لا تَنْفَعُ في عَصْرِ الثَّقافَهْ»
إنَّهُ الفِقْهُ الأَمِرْكِيُّ الفريدْ
«قسماً لَسْتُ أُبالِي بالشَّتَائِمْ
«هَدَفي أَنْبَلُ مِن هذِي الحمائِمْ ... ... من صفوف الشعب إن ظل يقاوم»
هَدَفِي إِشْباعُ بوشٍ بالجماجِمْ»
فَاعْلُ يَا فِرعونُ فَالكُلُّ عَبيدْ
هكذا أَقْسِمْ ونَفِّذْ ... أَوْ تَحَمَّلْ
وَدِّعِ الأَهْلَ وللسِّجْنِ تَفَضَّلْ ... ... لَطْمَةَ الخَدِّ وكُنْ فِي الحالِ أَرْمَلْ
إنَّهُ العَدْلُ الأَمِرْكِيُّ المُفَضَّلْ
هكذا أَقْسِمْ وإِلاَّ ... سَتَبيدْ
الرد العنيد
لا وإِنْ قُطِّعَ جِسْمي بالمشارطْ
لسْتُ أَرْضى أنّني في الجيشِ ضَابِطْ ... ... ووهبْتُمْ دَمَ قَلْبي كُلَّ حائطْ
وولائي يُشْتَرى .. والسِّعْرُ هابِطْ
فَلْيَكُنْ سَيْفي كَسَيْفِ «ابْنِ الوليدْ»
قِبْلَتي الكَعْبةُ، لَيْسَ الأَمْرُ لُعبَهْ
مُسْلِماً ما زِلْتُ، في قَلْبِيَ رَهْبَهْ ... ... ذَلَّ مَنْ حَوَّلَ عنْها اليومَ قَلْبَهْ
وأَنا «الإِرْهابُ» يا نِعْمَ المَسَبّهْ
فَانْفُضِ الأَكْفانَ عنْ «عبدِ الحميدْ»
لَسْتُ كلباً تَحْتَ رِجْلَيْ أيّ عاهلْ
وسأُهْدي لكِ يا أَدْنى المزابلْ ... ... و«إذا» ما كنْتُ، فالإذلالُ آفِلْ
حفْنَةَ الأَصنامِ في أَسْفلِ سافِلْ
أنا مِنْ أُمَّةِ «هارونَ الرَّشِيدْ»
لَسْتُ مِنْكمْ يا خَنازيرَ المزارِعْ
لَسْتُ أَرْضى حُكْمَ أَوْلادِ الشوارِعْ ...
...
لَسْتُ مِنْ بُوشَ وإنْ قُدَّتْ أَصابِعْ
جَيْشِ داءِ الإِدْزِ أَرْبابِ الفَظائِعْ
فاتْرُكوا أوْطانَنا دونَ وئِيدْ
لَسْتَ في جِيفَةِ فِرعونَ بِشعْرَهْ
بِعَصا مُوسى رَأَى فرعونُ قَبْرَهْ ... ... فاتَّعِظْ يا بوشُ إنَّ الدَّهْرَ عِبْرَهْ
وبِأَيْدِينَا عِصِيٌّ ذاتُ وَفْرَهْ
فانتظرْ زَحْفاً بِهِ الأَرْضُ تَميدْ
إِنَّ دِينَ اللهِ عاتٍ ليسَ يُغْلَبْ
قَسَماً بِاللهِ يا بوشُ سَتُضْرَبْ ... ... موعدُ النصْرِ غَداً بَلْ هُوَ أَقْرَبْ
وبفضْلٍ مِنْكَ أَمْرِيكا ستُنْكَبْ
فَانْجُ مِنْ حَتْفِكَ إنْ كُنْتَ تُجِيدْ
عَنْتَرِيَّاتُكَ يا بوشُ تَفاهَهْ
فامْضِ في دَرْبِكْ واهْنأْ بالمتاهَهْ ... ... والأُلى غُرُّوا بِها أَهْلُ بَلاهَهْ
أَيّها الرّاعي الذي غَشَّ شِياهَهْ
باتَتِ الأُمَّةُ تَدْرِي ما تُريدْ
دولةَ الإِسْلامِ، في ظِلِّكِ يُقْطَعْ
تَحْتَ راياتِكِ ثَوْبُ العِزِّ يُصْنَعْ ... ... دابِرُ الكُفْرِ، وخَدُّ الظُّلْمِ يُصْفَعْ
وكِتابُ اللهِ في العَلْياءِ يُرْفَعْ
ها أنا أُعْلِنُ عِصْيانِي المريدْ
يا فتى النُّصْرَةِ كنتُ، الأمسَ، أضْحَكْ
ها دَمُ الأمّةِ مِن ذُلِّيَ يُسْفَكْ ... ... وأَرى دربَك – عُذْراً – شَرَّ مَهْلَكْ
وَأَرى دَرْبَكَ نوراً حِينَ تُسْلَكْ
خُذْ يَدي وامْضِ إلى الفجْرِ السَّديدْ
أنا مِنْ جُنْدِ المثنّى، جُنْدِ طارِقْ
عَزَماتي حُرّةٌ والقلبُ صادِقْ ... ... جُنْدِ سَعْدٍ وعلِيٍّ في الخنادِقْ(/1)
وانْقِلابِي سَوْفَ تَرْويهِ البَنادِقْ
وسَأَسْقِي كُلَّ حُكَّامِي الصَّديدْ
يا رِفاقَ الجيْشِ مَسْعانا الضَّمانَهْ
واشْحَذُوا الهِمَّةَ وَامْضُوا في أَمانَهْ ... ... فارْفَعوا الْهامَ ولا تَرْضَوْا إِهانَهْ
نقلُبِ العرْشَ ونَجْتَثَّ الخِيانَهْ
أَعْلِنُوا دَوْلَةَ قُرْآنٍ مَجِيدْ قرآن كريم
أيمن القادري(/2)
القُصَّاص الجُدُد
قال الله تعالى
( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )
سورة الإسراء الآية 36
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
( من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار )
رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح
كتبها
د. حسام الدين بن موسى عفانه
الأستاذ المشارك في الفقه والأصول
كلية الدعوة وأصول الدين
جامعة القدس
يقول السائل : ما قولكم فيمن يربطون الأحداث التي وقعت في أفغانستان وما تعلق بها بالآيات القرآنية الواردة في قصة موسى عليه السلام مع فرعون ربطاً تفصيلياً حيث إنهم يجعلون لكل حدث من الأحداث مهما كان صغيراً ارتباطاً بآية قرآنية وإن كثيراً من عامة الناس قد صدقوا هذه التفسيرات ؟
الجواب : عرف التاريخ الإسلامي جماعة من الوعاظ والقصاص الذين كانوا يحدثون الناس في المساجد بالغرائب والأباطيل والأكاذيب وكان هؤلاء القصاص يستميلون قلوب العامة إليهم بذلك قال ابن قتيبة :[ … القصاص فإنهم يميلون وجه العوام إليهم ويشيدون ما عندهم بالمناكير والأكاذيب من الأحاديث ومن شأن العوام القعود عند القاص ما كان حديثه عجيباً خارجاً عن نظر المعقول أو كان رقيقاً يحزن القلب … ] تأويل مختلف الحديث ص357 .
والعامة في كل عصر مولعون بالغريب ويعجبون بالخرافة ويستمتعون بالعجائب وقد ظهر في زماننا هذا نوع جديد من القصاص يهواهم العامة ويتحلقون حولهم ويظنونهم من المجددين لدين الإسلام وهؤلاء القصاص الجدد يزعمون أن عندهم فهماً جديداً لآيات القرآن وينزلون آيات الكتاب الكريم على الواقع الذي تعيشه الأمة المسلمة اليوم وهو واقع مرير بلا شك . ويتعلق العامة بالقصاص الجدد بسبب حالة الضعف والذلة والهوان التي تعيشها الأمة المسلمة ونظراً لحالة العداء الشديدة للغرب عامة ولأمريكا خاصة السائدة اليوم في العالم الإسلامي فلما سمع عامة الناس كلام القصاص الجدد حول دمار أمريكا وغرقها وتدمير أبراجها إلى آخر المقولة التي يرددها القصاص الجدد تعلق العامة بهذا الكلام كتعلق الغريق بالقشة . وأذكر هنا أمثلة من ربط الأحداث الحالية بالآيات القرآنية مما يروج على العامة وأشباه طلبة العلم فمن ذلك : إن قصة موسى عليه السلام المذكورة في سورة القصص تنطبق على أمريكا اليوم وأن أمريكا ستغرق كما غرق فرعون وسيكون غرق أمريكا خلال سنة أو سنتين !!! قال الله تعالى :( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ ) سورة الزخرف ، الآيات 51-56
الزعم بأن كلمة فرعون تعني البيت العظيم ويوجد اليوم البيت الأبيض قال الله تعالى (… سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ )
الزعم بأن ما ورد في سورة القصص من ذكر لبعض الأمور بصيغة المثنى مثل (رجلين )( امرأتين )( الأجلين )
( فذانك برهانان ) ( سحران تظاهرا ) ( أهدى منهما ) ( أجرهم مرتين ) إن هذه التثنية تدل على أن القصة ستحدث مرتين الأولى مع فرعون والثانية مع أمريكا !!!
الزعم بأن قصة قارون المذكورة في سورة القصص تنطبق على السعودية لأن قارون كان من قوم موسى واليوم أسامة بن لادن سعودي فقارون هي السعودية . فالله آتى قارون من الكنوز :( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة ) والله سبحانه وتعالى أعطى السعودية آبار النفط .
الزعم بأن المراد بقوله تعالى على لسان فرعون :( فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ) أن الصرح هو المرصد الفلكي وأمريكا أطلقت التلسكوب الفضائي هابل .
الزعم بأن فرعون كان يقاتل القاعدة :( فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا ) وأمريكا اليوم تقاتل شبكة القاعدة والناس تقول للقاعد فز !!!
الزعم بأن قوله تعالى مخاطباً موسى :( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ) ينطبق على انضمام جماعة الجهاد إلى القاعدة والآية قالت ( عضدك ) والظواهري اسمه أيمن !!!
الزعم بأن قوله تعالى :( قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ ) بأنه ينطبق على مصاهرة أسامة بن لادن للملا عمر !!! الزعم بأن قوله تعالى :( فسقى لهما ) ينطبق على حفر أسامة بن لادن لآبار المياه في أفغانستان !!!(/1)
الزعم بأن تحالف الشمال الأفغاني ينطبق عليه قوله تعالى :( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) وقوله تعالى ( والذين ظاهروهم ) هم بنو قريظة والنسبة إليهم قرظي وقرظاي هو زعيم الحكومة الأفغانية الآن !!!
الزعم بأن قوله تعالى :( وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا ) هي 10% من أرض أفغانستان التي كانت بأيدي تحالف الشمال الأفغاني حيث إن الطالبان والقاعدة سينتصرون عليهم ويطؤوا تلك الأرض التي لم يطؤوها من قبل !!!
الزعم بأن هناك توافقاً بين اسم موسى عليه السلام واسم أسامة بن لادن ففي قصة موسى في سورة القصص قال تعالى :( طسم ) وأن السين والميم هما الحرفان المركزيان في اسم موسى وكذلك هما في اسم أسامة . والزعم بأن أوصاف موسى تنطبق على أسامة بن لادن من حيث الطول والسواد والأنف وحمل العصا فأسامة كذلك ، إلى غير ذلك من المزاعم والترهات التي حاولوا إلصاقها بآيات الكتب المبين وبهر بها العامة . إنه نوع جديد من التلاعب بكلام رب العالمين إن كلام الله أجل وأعظم من هذه الأباطيل والترهات . وأقول في إبطال هذا الكلام ما يلي : ينبغي أن يعلم أنني لا أكتب هذا الكلام إلا دفاعاً عن كتاب الله سبحانه وتعالى وكلامي لا يعني أنني حريص على بقاء أمريكا بل إن كل مسلم يتمنى أن يقصم الله ظهر دول الكفر وعلى رأسها أمريكا .
ولكنه الدفاع عن كلام رب العالمين حتى لا يكون لعبة للمتلاعبين بأقدس ما يملك المسلمون وألخص ردي فيما يلي : أولاً : إن تفسير كلام رب العالمين ليس من شأن العوام ولا من شأن أشباه طلبة العلم .إن تفسير كلام رب العالمين له قواعده وضوابطه التي قررها العلماء ولا بد من معرفتها قبل أن يخوض أي أحد في تفسير القرآن الكريم وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجرأة على الخوض في كلام الله تعالى بغير علم فقد روى الترمذي بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :( من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ) وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح . وحسنه البغوي في شرح السنة 1/258 . وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال :( اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ) رواه الترمذي وقال حديث حسن وحسنه البغوي في شرح السنة 1/257. وعن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ) رواه الترمذي ثم قال :[ هكذا روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أنهم شددوا في هذا في أن يفسر القرآن بغير علم ] سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي 11/50-51 .وقد ذكر الإمام القرطبي في مقدمة تفسيره باباً بعنوان ( ما جاء في الوعيد في تفسير القرآن بالرأي والجرأة على ذلك ) وذكر فيه الأحاديث السابقة ثم ذكر أقوال أهل العلم في التحذير الشديد من التلاعب بكلام الله وتفسيره حسب الآراء والأهواء التي لا تقوم على أساس صحيح ونقل عن ابن عطية قوله :[ وكان جلة من السلف الصالح كسعيد بن المسيب وعامر الشعبي وغيرهما يعظمون تفسير القرآن ويتوقفون عنه تورعاً واحتياطاً لأنفسهم مع إدراكهم وتقدمهم قال أبو بكر الأنباري : وقد كان الأئمة من السلف الماضي يتورعون عن تفسير المشكل من القرآن ؛ فبعض يقدر أن الذي يفسره لا يوافق مراد الله عز وجل فيحجم عن القول . وبعض يشفق من أن يجعل في التفسير إماماً يبنى على مذهبه ويقتفى طريقه . فلعل متأخراً أن يفسر حرفاً برأيه ويخطئ فيه ويقول :إمامي في تفسير القرآن بالرأي فلان الإمام من السلف وعن ابن أبي مليكة قال:سئل أبو بكر الصديق- رضي الله عنه - عن تفسير حرف من القرآن فقال:أي سماء تظلني وأي أرض تقلني!وأين أذهب !وكيف أصنع !إذا قلت في حرف من كتاب الله تعالى بغير ما أراد تبارك وتعالى ) تفسير القرطبي 1/33-34.وقال الإمام بن العربي المالكي :[من تسور على تفسير القرآن فصور صورة خطأ فله الويل ، ومن أصاب فمثله ، كما روى أبو عيسى وهكذا قال النبي عليه السلام في القاضي أنه إذا حكم بجهل وأصاب فله النار لإقدامه على ما لا يحل في أمر يعظم قدره وهو الإخبار عن الله بما لم يشرع في حكمه أو إخباره عن ما لم يرده بقوله في وحيه ) عارضة الأحوذي 11/52 .
ثانياً : لا شك أن الله سبحانه وتعالى حث على الاتعاظ والاعتبار بآيات القرآن الكريم قال الله تعالى :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) سورة القمر الآية 17 .وهذه الآية تمسك بها القصاص الجدد ليفتحوا لأنفسهم باب القول في القرآن الكريم وفق أهوائهم وشهواتهم فيرون أنه لا يوجد أية شروط لمن أراد الادكار أي التفسير حتى لو كان كافراً .(/2)
وهذا الكلام الباطل يرده ما قاله المفسرون في معنى الآية وهو ( والله لقد سهلنا القرآن للحفظ والتدبر والاتعاظ لما اشتمل عليه من أنواع المواعظ والعبر (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) أي فهل من متعظ بمواعظه معتبر بقصصه وزواجره )انظر تفسير الألوسي 14/83 . تفسير ابن كثير 6/50 ، صفوة التفاسير 3/286 .إن الادكار والاتعاظ والاعتبار شيء والتلاعب بكتاب الله شيء آخر ولا يقبل بحال من الأحوال أن يقول إنسان مهما كان برأيه في كتاب الله ثم يقول إن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان فلو قال إنسان مثلاً إن المراد بقوله تعالى :( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) البقرة هي عائشة رضي الله عنها ثم يقول هذا رأيي فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فالله ورسوله منه بريئان !!! هل يكون هذا الكلام مقبولاً ؟ بالتأكيد لا ، لأن التفسير له قواعده وأصوله .
قال الشيخ مناع القطان رحمه الله : ذكر العلماء للمفسر شروطاً نجملها فيما يلي: 1-صحة الاعتقاد: فإن العقيدة لها أثرها في نفس صاحبها، وكثيراً ما تحمل ذويها على تحريف النصوص والخيانة في نقل الأخبار، فإذا صنف أحدهم كتاباً في التفسير أوَّل الآيات التي تخالف عقيدته، وحملها باطل مذهبه، ليصد الناس عن اتباع السلف، ولزوم طريق الهدى. 2-التجرد عن الهوى: فالأهواء تدفع أصحابها إلى نصرة مذهبهم، فيغرون الناس بلين الكلام ولحن البيان، كدأب طوائف القدرية والرافضة والمعتزلة ونحوهم من غلاة المذاهب. 3-أن يبدأ أولاً بتفسير القرآن بالقرآن، فما أُجمل منه في موضع فإنه قد فصل في موضع آخر، وما اختصر منه في مكان فإنه قد بسط في مكان آخر.
4-أن يطلب التفسير من السنة فإنها شارحة للقرآن موضحة له، وقد ذكر القرآن أن أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما تصدر منه عن طريق الله (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) [النساء: 105] وذكر الله أن السنة مبينة للكتاب: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) [النحل: 44]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" يعني السنة. وقال الشافعي رضي الله عنه: "كل ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن" وأمثلة هذا في القرآن كثيرة –جمعها صاحب الإتقان مرتبة مع السور في آخر فصل من كتابه كتفسير السبيل بالزاد والراحلة، وتفسير الظلم بالشرك، وتفسير الحساب اليسير بالعرض. 5-فإذا لم يجد التفسير من السنة رجع إلى أقوال الصحابة رضي الله عنهم فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال عند نزوله، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح.
6-فإذا لم يجد في القرآن ولا في السنة ولا في أقوال الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المسيب، والربيع بن أنس وقتادة، والضحاك بن مزاحم، وغيرهم من التابعين، ومن التابعين من تلقى جمع التفسير عن الصحابة، وربما تكلموا في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال، والمعتمد في ذلك كله النقل الصحيح، ولهذا قال أحمد: "ثلاث كتب لا أصل لها، المغازي والملاحم والتفسير" يعني بهذا التفسير الذي لا يعتمد على الروايات الصحيحة في النقل. 7-العلم باللغة العربية وفروعها: فإن القرآن نزل بلسان عربي، ويتوقف فهمه على شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع، قال مجاهد: "لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب". والمعاني تختلف باختلاف الإعراب، ومن هنا مست الحاجة إلى اعتبار علم النحو، والتصريف الذي تعرف به الأبنية، والكلمة المبهمة يتضح معناها بمصادرها ومشتقاتها. وخواص تركيب الكلام من جهة إفادتها المعنى، ومن حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها. ثم من ناحية وجوه تحسين الكلام- وهي علوم البلاغة الثلاثة: المعاني والبيان والبديع –من أعظم أركان المفسر. إذ لابد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وإنما يدرك الإعجاز بهذه العلوم. 8-العلم بأصول العلوم المتصلة بالقرآن، كعلم القراءات لأن به يعرف كيفية النطق بالقرآن ويترجح بعض وجوه الاحتمال على بعض، وعلم التوحيد، حتى لا يؤول آيات الكتاب التي في حق الله وصفاته تأويلاً يتجاوز الحق، وعلم الأصول، وأصول التفسير خاصة مع التعمق في أبوابه التي لا يتضح المعنى ولا يستقيم المراد بدونها، كمعرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، ونحو ذلك. 9-دقة الفهم التي تمكن المفسر من ترجيح معنى على آخر، أو استنباط معنى يتفق مع نصوص الشريعة. مباحث في علوم القرآن ص 340 – 342.(/3)
ثالثاً : إن الاتكاء على قوله تعالى:( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) سورة الكهف الآية 54 . وقوله تعالى :( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) سورة يوسف الآية 111 . ونحوها من الآيات التي أخذ منها القصاص أن كل شيء يحدث في هذا الكون لا بد وأن يكون مذكوراً في القرآن الكريم . فإن هذا فهم خاطىء لكلام الله والواقع يكذبه فإن أحداثاً كثيرة وقعت ليس لها ذكر في القرآن الكريم وإنما القرآن الكريم فيه عمومات تحمل عليها الحوادث قال الشيخ العلامة السعدي :[ وينبغي أن تنزل جميع الحوادث والأفعال الواقعة والتي لا تزال تحدث على العمومات القرآنية فبذلك تعرف أن القرآن بيان لكل شيء وأنه لا يحدث حادث ولا يستجد أمر من الأمور إلا وفي القرآن بيانه وتوضيحه ] تفسير السعدي ص11 . وأما القول بأن كل حادث صغير أو كبير مذكور في القرآن الكريم فادعاء باطل باطل .
وخلاصة الأمر أنني أوجه نداء عبر هذا المنبر إلى هؤلاء الناس أن يثوبوا إلى رشدهم وأن يكفوا عن التلاعب بآيات القرآن الكريم وأن يكفوا عن إيقاع عامة الناس في الأوهام . وأن يعلموا أن لله سبحانه وتعالى سنناً في نصر المؤمنين وهزيمة الكافرين قال الله تعالى :( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) سورة النور الآية 55 ، فقد علق الله تعالى نصر المؤمنين وتمكينهم في الأرض على اتباع أوامر الله جل جلاله وعبادته والبعد عن الشرك فهل هذا متحقق في الأمة المسلمة اليوم ؟؟؟ وقال الله تعالى :( إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ) فهل وجد الشرط حتى يتحقق المشروط ؟؟؟
والله الهادي إلى سواء السبيل(/4)
الكاثوليك .. الأرثوذكس .. المارون .. و البروتستانت
سليمان الخراشي
فيما يلي تهذيب واختصار وتقريب لما جاء في كتاب " الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام " للدكتور علي عبدالواحد وافي ، عن فرق النصارى والتعريف بها ، وجدتُ أنه قد أجاد عرضه بوضوح وسلاسة ؛ حفزتني على نقله للقارئ لعله يستفيد منه .
ومن أراد المزيد فعليه بأصل الكتاب ، أو رسالة الدكتور سعود الخلف - حفظه الله - " دراسات في الأديان : اليهودية والنصرانية " ، أوغيرها من كتب الأديان أو الموسوعات .
قال الدكتور ( ص 120-146) :
( اجتازت العقيدة المسيحية مرحلتين أساسيتين: المرحلة الأولى من بعثة المسيح إلى مجمع نيقية سنة 425م، والمرحلة الثانية من مجمع نيقية إلى الوقت الحاضر. وسنتكلم على كل مرحلة منهما على حدة:
المرحلة الأولى: من بعثة المسيح إلى مجمع نيقية سنة 325م:
كانت المسيحية في فاتحة هذه المرحلة –كما ينبئنا القرآن- ديانة توحيد تدعو إلى عبادة إله واحد، وتقرر أن المسيح إنسان من البشر أرسله الله تعالى بدين جديد وشريعة جديدة كما أرسل رسلاً من قبله، وأن الإرهاصات التي سبقت بعثته والمعجزات التي ظهرت على يديه بعد رسالته هي من نوع الإرهاصات والمعجزات التي يؤيد الله تعالى بها رسله، وأن خلقه بدون أب ليس إلا إرهاصاً من هذه الإرهاصات، وأن أمه صديقة من البشر قد كرمها الله فنفخ فيها من روحه فحملت بالمسيح.
ولكن لم تمض بضع سنين على رفع المسيح حتى أخذت مظاهر الشرك والزيغ والانحراف تتسرب إلى معتقدات بعض الفرق المسيحية، وافدة إليها أحياناً من فلسفات قديمة، وأحياناً من رواسب ديانات ومعتقدات كانت سائدة في البلاد التي انتشرت فيها المسيحية والتي احتك بأهلها المسيحيون.
فانقسم حينئذ المسيحيون إلى طائفتين: طائفة جنحت عقائدها إلى الشرك بالله؛ وطائفة ظلت عقائدها محافظة على التوحيد، وضم كل طائفة من هاتين الطائفتين تحت لوائها فرقاً كثيرة:
( أ ) فمن أهم الفرق التي انحرفت عقائدها في هذه المرحلة : فرقة المرقيونيين ، وفرقة البربرانية ، وفرقة الأليانية ، وفرقة التثليث .
1 - أما فرقة "المرقيونيين" فإنها تنسب إلى مرقيون أو مرسيون Marcion وهو من رجال القرن الثاني الميلادي، وكان قسيساً، ثم حكم عليه بالطرد والحرمان، ويقوم مذهبه على الاعتقاد بوجود إلهين: أحدهما الإله العادل Dieu Juste أو الإله ديميورج Demiurge أي الخالق والمهندس، وهو الإله الذي اتخذ من بني إسرائيل شعباً مختاراً وأنزل عليهم التوراة، والآخر الإله الخير Dieu Bon الذي ظهر متمثلاً في المسيح وخلص الإنسانية من خطاياها، وقد كان للإله الأول السلطان على العالم حتى ظهر الإله الثاني فبطلت جميع أعمال الإله الأول وزال سلطانه.
ومن ثم يقوم هذا المذهب على اطراح العهد القديم (كتب اليهود المقدسة) في جملته وتفاصيله، ولا يعترف كذلك بمعظم أسفار العهد الجديد، والأسفار القليلة التي يعترف بها من أسفار هذا العهد، وهي إنجيل لوقا ورسائل بولس، لا يعترف بها إلا بعد أن يدخل على نصوصها تغييرات كثيرة تخرجها عن أوضاعها ومدلولاتها الأولى.
ولعل هذا المذهب متأثر بالديانة الزرادشتية الفارسية في مراحلها الأخيرة، فقد انتهى الأمر بالزرادشتيين إلى الاعتقاد بوجود إلهين، إله للخير وكانوا يسمونه أهورا مزدا، وإله للشر وكانوا يسمونه أهريمان.
وعلى الرغم من الحرب الشعواء التي شنتها الكنيسة على هذا المذهب فإنه قد انتشر وتبعه خلق كثير في إيطاليا وأفريقيا ومصر، وظل كذلك حتى منتصف القرن الثالث، أي حتى انتهاء المرحلة التي نتحدث عنها، ثم أخذ يضمحل ويتناقص اتباعه تناقصاً كبيراً، ولكنه لم ينقرض انقراضاً تاماً إلا حوالي القرن العاشر الميلادي.
2- وأما فرقة "البربرانية" فكانت تذهب إلى القول بألوهية المسيح وأمه معاً، ويقرر ابن البطريق مذهب هذه الفرقة فيقول: "ومنهم من كان يقول إن المسيح وأمه الإلهان من دون الله وهم البربرانية، ويسمون الريميتيين". ولعل هؤلاء هم الذين يشير إليهم القرآن الكريم فما يخاطب به الله تعالى عيسى بن مريم إذ يقول: { وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } ، وإذ يردّ عليهم في قوله: { ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام } .
هذا، وقد أوشكت هذه الفرقة على الانقراض كذلك في نهاية المرحلة التي نتحدث عنها، وإن كان يبدو من ذكرها في القرآن أنه كان لا يزال لمذهبها اتباع في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام (القرن السابع الميلادي).(/1)
3- وأما فرقة إليان فيؤخذ مما ذكره في صددها ابن البطريق والشهرستاني في الملل والنحل أنها كانت تؤله المسيح وتقرر أنه ابن الله وتصور حقيقته وحمل أمه به وقصة صلبه في صورة خاصة، فتذهب إلى أن مريم لم تحمل به كما تحمل النساء بالأجنة ، وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب.
وقد أوشكت هذه الفرقة على الانقراض في نهاية المرحلة التي نتحدث عنها، وإن كان يبدو مما ذكره الشهرستاني في صددها إذ يقول: "وهؤلاء يقال لهم الإليانية، وهم قوم بالشام واليمن وأرمينية"، أنه كان لا يزال لهذه الفرقة أتباع في مصر (القرن السادس الهجري والثالث عشر الميلادي).
4- وأما فرقة التثليث وألوهية المسيح فهي الفرقة التي تذهب إلى أن الإله ثلاثة أقانيم وهي الأب والابن وروح القدس، وأن الابن أو الكلمة هو المسيح، وكانت كنيسة الإسكندرية من أشد الكنائس تعصباً لهذا المذهب الذي أصبح المذهب الرسمي المقرر لجميع الفرق المسيحية بعد مجمع نيقية سنة 325م، كما سيأتي .
(ب) ومن أهم الفرق التي ظلت عقائدها محافظة على التوحيد فرقة أبيون وفرقة بولس الشمشاطي وفرقة أريوس.
1- أما فرقة أبيون أو الأبيونيين ؛ فكانت تقر جميع شرائع موسى، وتعتبر عيسى هو المسيح المنتظر الذي تحدثت عنه أسفار العهد القديم، وتنكر ألوهية المسيح وتعتبره مجرد بشر رسول.
2- وأما فرقة الشمشاطي فهم أتباع بولس الشمشاطي ، وكان بولس هذا أسقفا لأنطاكية منذ سنة 260م. وأنكر ألوهية المسيح وقرر أنه مجرد بشر رسول، وقد عقد بأنطاكية من سنة 264 إلى سنة 269 ثلاث مجامع للنظر في شأنه، وانتهى الأمر بحرمانه وطرده، وقد بقي لمذهبه أتباع على الرغم من ذلك حتى القرن السابع الميلادي.
3- وأما الأريوسيون فهم أتباع أريوس، وكان قسيساً في كنيسة الأسكندرية، وكان داعياً قوي التأثير، واضح الحجة، جريئاً في المجاهرة برأيه، وقد أخذ على نفسه في أوائل القرن الرابع الميلادي مقاومة كنيسة الإسكندرية فيما كانت تذهب إليه من القول بألوهية المسيح وبنوته للأب، فقام يقرر أن المسيح ليس إلهاً ولا ابناً لله إنما هو بشر مخلوق ، وأنكر جميع ما جاء في الأناجيل من العبارات التي توهم ألوهية المسيح.
وما زال مذهبه يضمحل ويتناقص عدد أتباعه حتى انقرض كل الانقراض في أواخر القرن الخامس الميلادي.
المرحلة الثانية: من مجمع نيقية سنة 325م إلى الوقت الحاضر:
في سنة 325م أمر قسطنطين إمبراطور الرومان بأن يعقد مجمع ديني يضم ممثلين لجميع الكنائس في العالم المسيحي للفصل في أمر الخلاف بين أريوس ومعارضيه، ولبيان أي الرأيين يتفق مع الحق، ولتقرير مبدأ صحيح يعتنقه المسيحيون فيما يتعلق بألوهية المسيح، ولاتخاذ ما ينبغي اتخاذه من قرارات أخرى في شئون العقيدة والشريعة، فاجتمع في نيقية ثمانية وأربعون وألفان من الأساقفة، ولكنهم اختلفوا اختلافاً كبيراً ولم يستطيعوا الإجماع على رأي، ويظهر أن قسطنطين كان يجنح للرأي القائل بألوهية المسيح، فاختار من بين المجتمعين ثمانية عشر وثلاثمائة من أشد أنصار هذا المذهب، وألف منهم مجلساً خاصاً وعهد إليهم أمر الفصل في هذا الخلاف واتخاذ ما يرون اتخاذه من قرارات أخرى في شئون العقيدة والشريعة، على أن تصبح قراراتهم مذهباً رسمياً يجب أن يعتنقه جميع المسيحيين، فانتهوا إلى عدة قرارات كان من أهمها القرار الخاص بإثبات ألوهية المسيح وتكفير أريوس وحرمانه وطرده وتكفير كل من يذهب إلى أن المسيح إنسان، وتحريق جميع الكتب التي لا تقول بألوهية المسيح وتحريم قراءتها.
وبذلك تقرر التثليث في الديانة المسيحية، وأصبح هو العقيدة الرسمية التي يجب أن يعتنقها كل مسيحي، ويحكم بكفر من يقول بغيرها، وأخذت المذاهب المسيحية الأخرى التي كانت منتشرة عند بعض الفرق المسيحية في المرحلة الأولى، والتي أشرنا إليها فيما سبق، تتلاشى شيئاً فشيئاً، ويتضاءل عدد أتباعها، حتى انقرضت كل الانقراض، سواء في ذلك مذاهب الفرق التي كانت محافظة على التوحيد، أم مذاهب الفرق التي انحرفت عن التوحيد إلى عقائد أخرى غير عقيدة التثليث، ولا نجد الآن أية كنيسة مسيحية ولا أية فرق من المسيحيين لا تقول بالتثليث، ولكنهم جميعاً، مع ذلك يتسترون وراء كلمات التوحيد، فيقولون "تثليث في وحدية" أو "وحدية في تثليث" !! مع أنه لا يمكن أن يكون التثليث وحدانية ولا الوحدانية تثليثا: { لقد كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثلاثة، وما من إله إلا إله واحد } .
تقرر التثليث إذن في الديانة المسيحية على الوجه الذي سبق بيانه، وأجمع على اعتناقه المسيحيون جميعاً. غير أنهم مع إجماعهم على هذه العقيدة، قد اختلفوا فيما بينهم في أمور فرعية أخرى من عقائدهم وانقسموا إلى طوائف كثيرة، وأعطت كل طائفة لنفسها، نتيجة لهذا الاختلاف، لقباً خاصاً بها، ولكنها ما كانت تخرج في ذلك عن أحد لقبين وهما الكاثوليكية والأرثوذكسية.(/2)
فاختلفوا في طبيعة المسيح: هل طبيعته طبيعة واحدة لأنه إله؟ أم أن له طبيعتين طبيعة إلهية وطبيعة إنسية ؛ لأنه ابن الله وابن الإنسان معاً (فقد جاء من مريم، ومريم من البشر) فيكون بذلك قد اجتمع فيه اللاهوت بالناسوت على حد تعبيرهم.
وقد أخذت بالمذهب الأول، وهو أن للمسيح طبيعة واحدة، وهي الطبيعة الإلهية، ثلاث كنائس صغيرة من الكنائس التي سمت نفسها الأرثوذكسية: إحداها الكنيسة الأرثوذكسية في مصر والحبشة (وتسمي نفسها كذلك الأرثودكسية المرقسية نسبة إلى الرسول مرقس صاحب الإنجيل، لأن بطاركتها يعتبرون أنفسهم خلفاء لهذا الرسول ). وثانيها الكنيسة الأرثوذكسية السريانية التي يرأسها بطريرك السريان ويتبعها كثير من مسيحيي آسيا، وثالثها الكنيسة الأرثوذكسية الأرمنية. ومع أن الأرمن يتفقون مع الكنيستين السابقتين في القول بالطبيعة الواحدة للمسيح فإنهم يختلفون عنهما في بعض التقاليد والطقوس، ولهم بطاركة يرأسونهم، ولا يندمجون مع الكنيسة السريانية ولا مع الكنيسة المصرية، وبذلك انفصلت هذه الكنائس الثلاث عن بقية كنائس المسيحيين .
وقد اكتسب هذا المذهب قوة بعد أن انتصر له في القرن السادس الميلادي داعية قوى الحجة، بليغ الأثر، جرئ في الجهر برأيه، اسمه يعقوب البرادعي ، حتى لقد أطلق على هذا المذهب اسم المذهب اليعقوبي وعلى أنصاره اسم اليعاقبة أو اليعقوبيين.
وأخذت بالمذهب الآخر، وهو أن للمسيح طبيعتين طبيعة إلهية وطبيعة إنسية، أي اجتمع فيه اللاهوت بالناسوت، جميع الكنائس الأخرى، وقرر هذا المذهب في صورة حاسمة في مجمع خليكدونية المنعقد سنة 451، فقد انتهى هذا المجمع بعد خلاف كبير بين أعضائه إلى القول بأن للمسيح طبيعتين لا طبيعة واحدة، وأن الألوهية طبيعة وحدها والناسوت طبيعة وحده التقتا في المسيح.
وقد انتصر الإمبراطور الروماني لهذا المذهب، بل إنه هو الذي عمل على اجتماع مجمع خليكدونية لينتهي إلى تقرير هذا الرأي في صورة حاسمة، ومن ثم يطلق على هذا المذهب اسم المذهب الملكي أو الملكاني نسبة إلى الملك أي إمبراطور روما.
ظهور " المارونية " :
وقد ظلت الكنائس التي تقول بالطبيعتين متحدة في جمع آرائها المتعلقة بشخص المسيح إلى أن ظهر في القرن السابع الميلادي (سنة 667) يوحنا مارون، فذهب إلى أن المسيح، مع أنه ذو طبيعتين، له مشيئة واحدة وإرادة واحدة وهي المشيئة الإلهية والإرادة الإلهية، لالتقاء الطبيعتين في أقنوم واحد إلهي وهو الابن أو الكلمة، وقد شايعه في هذا الرأي بعض مسيحيي آسيا، ولم ترق هذه المقالة في نظر بابوات روما ورؤساء الكنيسة الكاثوليكية، فأوعزوا إلى الإمبراطور أن يجمع مجمعاً ليقرر أن المسيح ذو طبيعتين وذو مشيئتين بعد أن استوثقوا من أن الإمبراطور يشاركهم هذا الرأي، فاجتمع لذلك مجمع القسطنطينية السادس سنة 680م وكان مؤلفاً من 289 أسقفا وانتهى إلى إصدار قرار بكفر يوحنا مارون ولعنه وطرده وكفر كل من يقول بالمشيئة الواحدة .
وقد نزلت بعد ذلك بأصحاب المذهب الماروني القائل بالمشيئة الواحدة اضطهادات شديدة، فأخذوا يفرون بدينهم من بلد إلى بلد إلى أن انتهى بهم المطاف في جبل لبنان، واشتهروا بلقب المارونيين، وظلوا مستقلين في شئونهم الدينية إلى أن قربتهم إليها كنيسة روما فأعلنوا في سنة 1182 الطاعة لها مع بقائهم على مذهبهم القائل بالمشيئة الواحدة، ولا تزال هذه الطائفة متوطنة في جبل لبنان، وإن كان قد هاجر منها عدد كبير إلى قارة أمريكا وغيرها، ولها بطريرك خاص، وإن كان يقر بالرياسة لبابا الكنيسة الكاثوليكية بروما.
وقد ظلت الطوائف القائلة بالطبيعتين والمشيئتين متفقة في آرائها إلى أن نشب بينها في منتصف القرن التاسع خلاف بشأن الأقنوم الذي انبثق منه روح القدس، فذهب بعض الطوائف إلى أن انبثاق روح القدس كان من الأب وحده، وذهب بعضها الآخر إلى أن انبثاقه كان من الأب والابن معاً.
وكان ذلك سبباً في انقسام الكنائس القائلة بالطبيعتين والمشيئتين إلى كنيستين رئيسيتين:
إحداهما: الكنيسة الشرقية اليونانية؛ ويقال لها كذلك الكنيسة الشرقية فقط وكنيسة الروم الأرثوذكسية، وهي التي يذهب أتباعها إلى أن روح القدس منبثق عن الأب وحده، والمشايعون لها أكثرهم في الشرق وبلاد اليونان وتركيا وروسيا والصرب وغيرها.
وثانيتهما: الكنيسة الغربية اللاتينية، ويقال لها كذلك الكنيسة الغربية فقط، وكنيسة روما، والكنيسة الكاثوليكية، وهي التي تذهب إلى أن روح القدس منبثق عن الأب والابن معا، والمشايعون لهذه الكنيسة أكثرهم في الغرب في بلاد إيطاليا وفرنسا وبلجيكا وأسبانيا والبرتغال وأمريكا الجنوبية وبلاد أخرى كثيرة.
ولما أحيط به رئيس كنيسة روما من تقديس بين مشايعيه وعند الملوك ورؤساء الدول، ولكثرة معتنقي مذهبه، تتساهل الكنيسة الشرقية فتعترف له بالتقدم لا بالسلطان.
ظهور " البروتستانتية " :(/3)
في أوائل القرن السادس عشر ظهر في العالم المسيحي، بجانب النحل السابق ذكرها، نحلة جديدة أطلق عليها اسم " البروتستانتية " أي نحلة الاحتجاج أو الاعتراض ، وأطلق على معتنقيها اسم "البروتستانت" أي المحتجين أو المعترضين. وقد دعا إلى ظهور هذه النحلة أمور كثيرة يرجع أهمها إلى مظاهر الفساد التي بدت في كثير من شئون الكنيسة الكاثوليكية ومناهجها وطقوسها، وما أحدثته من بدع، ومسلك قسيسيها والقوامين عليها، وإلى تحكمها في تفسير كل شيء، ومحاولة فرض آرائها على جميع أتباعها حتى الآراء التي لا علاقة لها بالدين ؛كالآراء المتعلقة بظواهر الفلك والطبيعة وشئون السياسة ونظم الحكم وما إلى ذلك.
لهذه الأسباب وأسباب أخرى كثيرة من هذا القبيل ظهر في القرن السادس عشر دعاة للإصلاح الديني وتخليص المسيحية من هذه الأدران، وتكونت من إصلاحاتهم نحلة جديدة هي النحلة البروتستانتية. وكان على رأس هؤلاء المصلحين مارتن لوثر الألماني ، وزونجلي السويسري ، وكلفن الفرنسي.
أما مارتن لوثر (1483-1546) فهو أسبقهم جميعاً وإليه تنسب النحلة البروتستانتية أكثر مما تنسب إلى غيره ، وقد ثار أول الأمر ضد صكوك الغفران وأعلن بطلانها وكتب في ذلك احتجاجاً علقه على باب الكنيسة (ومن ثم سميت نحلته بالبروتستانتية أي نحلة الاحتجاج أو الاعتراض). فأصدر البابا قراراً بحرمانه واعتباره كافراً زائغ العقيدة، فلم يأبه لهذا القرار بل عمد إلى الإنذار الذي أرسل إليه في هذا الصدد فأحرقه في ميدان من أكبر ميادين المدينة في جمع حاشد من الناس، فجمع البابا سنة 1520 مجمعاً قرر محاكمته، فلم يذعن مارتن لوثر لهذا القرار. ولما حاول الإمبراطور في سنة 1529 أن ينفذ هذا القرار ثار أنصار لوثر واحتجوا على ذلك (ومن ثم سمي أتباع هذه النحلة بالبروتستانت أي المحتجين). وأخذ لوثر من ذلك الحين ينشر مبادئه المعارضة للكنيسة الكاثوليكية، التي تكونت منها النحلة البروتستانتية. وأخذ الناس يدخلون في نحلته أفواجاً.
وأما زونجلي السويسري ((1484-1531) فقد ظهر في العصر نفسه الذي ظهر فيه لوثر ودعا إلى كثير مما دعا إليه لوثر في شئون الدين، وثار على صكوك الغفران وغيرها من مفاسد الكنيسة الكاثوليكية وتبعه كذلك خلق كثير. ولكنه مات قتيلاً في أثناء صراع وقع بين أنصاره وأنصار الكنيسة الكاثوليكية. وكانت دعوته منفصلة عن دعوة لوثر وإن التقت معها في مبادئها.
وأما كلفن الفرنسي (1509-1564) فقد قام بعد لوثر بالدعوة إلى البروتستانتية ونشر مبادئها وألف في ذلك بحوثاً ورسائل كثيرة نشر معظمها بعد فراره إلى جينيف بسويسرا. فإليه يرجع تنظيم البروتستانتية وتحرير مبادئها.
وقد انتشرت البروتستانتية في كثير من بلاد العالم النصراني ، ويعتقنها الآن معظم أهل ألمانيا والدانمرك وسويسرا وهولندا والسويد والنرويج وإنجلترا واسكتلنده وايرلندة الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية؛ وأخذت الآن بسبب جمعيات التنصير البروتستانتية وعظيم نشاطها وواسع إمكانياتها المالية وإخلاص رجالها لمبادئها، تغزو كثيراً من معاقل الكاثوليكية والأرثوذكسية، وتنتشر في السودان الجنوبي وأواسط أفريقيا والصين واليابان.
هذا، ولا تختلف البروتستانتية عن النحل السابقة فيما يتعلق بجوهر العقيدة،فهي مثلها تؤمن بالتثليث وألوهية المسيح وبنوته لله وصلبه وقيامته ورفعه وحسابه للعالم يوم القيامة وبأنه صلب لتكفير الخطيئة الأزلية التي ارتكبها آدم وعلقت بجميع نسله.. وما إلى ذلك من الأمور التي استقرت عليها العقيدة النصرانية.
وإنما تختلف البروتستانتية عن غيرها من النحل المسيحية بوجه عام وعن الكاثوليكية بوجه خاص في أمور فرعية من أهمها ما يلي:
1- تستمد البروتستانتية جميع الأحكام المتعلقة بالعقائد والعبادات والشرائع من الكتاب المقدس وحده، ولا تقيم لغيره وزناً في هذا الصدد إلا إذا كان تفسيراً معقولاً لما ورد في هذا الكتاب؛ على حين أن الكنائس الأخرى تستمد أحكامها من الكتاب المقدس ومن قرارات المجامع وآراء البابوات ورؤساء الكنائس، ومن ثم سميت الكنائس البروتستانتية الكنائس الإنجيلية لاعتمادها على الإنجيل خاصة وعلى سائر أسفار الكتاب المقدس بوجه عام، بينما سميت الكنائس الأخرى الكنائس التقليدية لاعتمادها على التقاليد المستمدة من المجامع ومن آراء رؤساء الكنيسة ، وجعلها لهؤلاء الرؤساء سلطاناً في تقرير حقائق العقائد والعبادات والشرائع.(/4)
2- لا تقرر البروتستانتية البابوية أو الرياسة العامة في شئون الدين، ولذلك ليس لكنائسهم رئيس عام كما هو الشأن في الكنائس الأخرى، وإنما تجعل لكل كنيسة بروتستانتية رياسة خاصة بها، وليس لها إلا سلطان الوعظ والإرشاد والقيام على شئون العبادات والواجبات الدينية الأخرى،وعلى تعليم مسائل الدين، ولا يسمون رجال الدين قسسا كما هو الشأن في الكنائس الأخرى، وإنما يسمونهم "رعاة" لأنهم يرعون تابعي كنيستهم ويؤدون لهم ما يجب على الراعي أن يؤديه نحو رعيته من واجبات.
3- ليس في البروتستانتية نظام الرهبنة، وهي لا تحرم الزواج على رجال الدين كما تحرمه الكاثوليكية على جميع الرهبان والقسس بمختلف درجاتهم.
4- تنكر البروتستانتية كل الإنكار أن يكون لرجل الدين الحق في غفران الذنوب في حالة الاحتضار وغيرها، وإنما تجعل ذلك الحق لله وحده، فيقبل إن شاء توبة العاصي ويغفر له ما تقدم من ذنبه، بل إن أهم ما اتجهت البروتستانتية في نشأتها إلى القضاء عليه هو ما كانت تزعمه الكنيسة الكاثوليكية لرجالها من السلطان في محو الذنوب، وما تبع هذا الزعم من نظام صكوك الغفران .
5- تقرر البروتستانتية أن الغرض من أكل الخبز وشرب الخمر في العشاء الرباني هو أن يكون وسيلة رمزية لتذكر ما قام به المسيح في الماضي ؛ إذ قدم جسمه للصلب ودمه للإراقة لتخليص الإنسانية من الخطيئة الأزلية ، ولتذكر ما سيقوم به يوم القيامة إذ يدين الناس ويحاسبهم على ما كسبت أيديهم، وبذلك تنكر البروتستانتية كل الإنكار ما تذهب إليه الكنائس الأخرى إذ تزعم أن ما تجريه على الخبز والخمر من طقوس يحولهما إلى أجزاء من جسم المسيح ومن دمه !
6- تنكر البروتستانتية إنكاراً باتاً جميع ما تقيمه الكنائس الأخرى للسيدة مريم أم المسيح من طقوس واحتفالات وعبادات وأعياد، وتعتبر ذلك خروجاً على أصول الدين.
7- تحرم البروتستانتية ما تسير عليه الكنائس الأخرى من وضع الصور والتماثيل في أماكن العبادة واتجاه المصلين لها بالسجود، معتمدة على تحريم التوراة لذلك وعلى أن شريعة موسى شريعة للمسيحيين إلا ما ورد نص صريح من المسيح بنسخه أو تعديله.
8- تحرم البروتستانتية أن تقام الصلاة بلغة غير اللغة المفهومة للمتعبد، كما تفعل الكنائس الأخرى التي تقيمها بلغة ميتة كاللاتينية والقبطية . انتهى الإختصار والتهذيب(/5)
الكاريكاتير القرآني
أ. د. عماد الدين خليل 28/4/1426
05/06/2005
نعم .. وإن في القرآن لعشرات من الصور والعروض (الكاريكاتيرية) يرسمها كتاب الله على طريقته الفنية المعجزة، بكلمات قلائل لا تعدو أصابع اليد الواحدة.. كلمات قلائل ولكنها تمنحنا بضرباتها المركزة، المرسومة، النقائض الأساسية في الموقف البشري، فتجسدها لنا كما لو كانت رسماً أو نحتاً!!
فلنعاين بعضاً من هذه الصور ..
(1)
يقول فرعون لأتباعه (مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ)(1) فكأن أنظار الناس جميعاً، ممن ابتلوا بحكم فرعون وألوهيته المزيفة، لا يسمح لها بالعمل إلا بعد أن تستحصل جواز مرور إلى العالم في عيني فرعون نفسه.. ما يراه تراه .. أو بعبارة أوضح: ما يريد لها أن تراه.. تراه.. وما لا يريد.. لا تراه .. (مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى)!!
فإذا ما تذكرنا أن الرؤية هاهنا لا يُعنى بها المشاهدة الخارجية للأشياء.. أي النظر فحسب، ولكنها تعني ما يعقب الرؤية من اتخاذ موقف شخصي إزاء الأشياء والأحداث، تمليه العاطفة أو الهوى أو المصلحة أو الوجدان أو الظن أو التخمين.. أدركنا أن فرعون يريد أن يقول للناس: إن عليكم ألاّ تفكروا وتتخذوا مواقفكم، وتختاروا، إلا من خلالي .. من خلال ما أفكر به وما أتخذه وما أختاره.. وبعبارة أخرى: إن عليكم أن تجمدوا فكركم، وأن تكفّوا عن اتخاذ المواقف، وأن تتوقفوا حالاً عن الاختيار.. لأنني.. أنا..فرعون.. ربكم الأعلى .. أنا الذي سأفكر لكم، وأرسم لكم المواقف، وأنا الذي سأختار لكم (مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ).
وسواء أكان فرعون مقتنعاً بصواب ما يدعو إليه، ويرغمهم عليه، أم غير مقتنع، فالأمر سواء .. والمهم أنّ عليهم ألاّ يروا ويفكروا ويختاروا إلا من خلاله.. وبه..
أثمة أكثر وضوحاً في خطوط الصورة، لو رُسمت بالألوان، أو نحتت على المعادن والصخور، من هذه الكلمات؟ إنها تجعلنا نحزن على ما مُني به أتباع فرعون، وكل فرعون من عبودية مطلقة وإذلال كامل، تُمسخ فيه إنسانية الإنسان، ويُطمس على عقله وإرادته ووجدانه، ولا يتبقّى منه إلا أجهزة حسية، من بصر وسمع ولمس، يستخدمها الطغيان، أدوات فحسب لتمرير رؤيته.. وتنفيذها!!
وتجعلنا نضحك، في الوقت نفسه، والسخرية هي بداية الرفض ونهايته أيضاً، من الصيغة التي يريد أن يتحقق بها الدكتاتور.. في كل زمان ومكان، كما يرسمها لنا الكاريكاتير القرآني:
تقف أمة بكاملها، وقد استأصل أبناؤها ـ بطريقة ما ـ عقولهم وإرادتهم ورؤيتهم الخاصة، وطمسوا على معالم شخصيتهم.. تقف طوابير، بصمت مطبق، وكأن على رؤوسها الطير.. وواحداً إثر آخر، يتقدم إلى سدة فرعون.. ينحني انحناءة كاملة، ثم يتلقى الأمر بأن يفعل كذا، ولا يفعل كذا .. تنفيذاً حرفياً لأمر الطاغية.. ينسحب، بعد انحناءة أخرى، ويذهب إلى مهمته..
يتقدم الآخر.. لكي يريه فرعون ما يرى .. ويهديه إلى سبيل الرشاد!! وهكذا حتى نهاية الطابور..
وتتكرر العملية كلما أحبت جماعة من المواطنين أن تفكر في شيء أو تقدم على فعل شيء..
لابد أن يقف كل واحد منها في مكانه من الطابور.. وينتظر دوره!!
(2)
(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ)(2) .
انظروا: هاهي أمة بكاملها تفقد القدرة على الرؤية، وتُستلب إرادتها، وتمّحى الملامح الشخصية لكل واحد من أبنائها.. تستلّ من تكوينهم أفكارهم، ومطامحهم، وأحلامهم، تمسح حتى بصمات أصابعهم.. لا يتبقى لهم أيما وجود متميز.. فيفقدون ثقلهم، ويخف وزنهم بالتالي..
وإنها لصورة تجسم السخرية بالكلمة.. حتى لنكاد نلمس شخوصها ونرى حركتهم رأي العين: الخفة والارتفاع في الهواء، كأن ليس لهم أي ثقل يتعاملون به مع جاذبية الأرض.. ومع الخفة تأرجح ذات اليمين وذات الشمال .. لا يستقرون على شيء.. وبإشارة من فرعون الطاغية، يتحركون كيفما يشاء هو لا ما يشاؤون هم .. يذعنون ويطيعون لكل أمر يصدره إليهم، ويتجهون حيثما مد أصبعه ..
ونتصور الطاغية وهو يجلس منتفخاً على عرشه يلعب على أمته، أو بالأحرى يلعب بها.. بسهولة ومقدرة تثير الإعجاب.. إلى اليمين فتندفع إلى هناك . يسار فتتحول صوب اليسار.. وقوفاً، فتتجمد في أماكنها.. لا يكلفه ذلك أي جهد حقيقي؛ فهي أخف وزناً من أن تكلفه شيئاً.. ليس ثمة أي ثقل في عقولها وأفئدتها .. لقد بذل جهده الصعب يوم قام (بعملية) استئصال الوزن وتبديده.. أما وقد نجحت العملية واستخف قومه، فإن طاعتهم العمياء مسألة غاية في السهولة، وهي تأتي جزاءً وفاقاً على الجهد الشاق الذي بذله أول مرة..(/1)
ولو لم يكن هؤلاء يملكون الاستعداد للتضحية بثقلهم الحقيقي رغباً أو رهباً، لو لم تكن شخصية كل واحد منهم على درجة محزنة من التفكك والضعف والهزال.. لو لم يكونوا قد اختاروا ألا يكون لهم أيما موقف أو رأي أو وجهة نظر في أية قضية أو مشكلة.. لما استطاع فرعون أن يسوقهم إلى هذا المصير المخزي.. ولما استخفّهم، أو استخفّ بهم، هذا الاستخفاف!!
أما وقد امتلكوا الاستعداد للأمر.. فإن فرعون عرف كيف يجرّدهم من كل ثقل، ويحيلهم إلى أصفار لا تتضمن أية قيمة إيجابية.. وأن يفعل بهم ما يشاء..
فاستخفّ قومه فأطاعوه.. إنها كلمات ثلاث، ولكن اللوحة التي ترسمها بالأحرف تظلّ شاخصة على مدى الأبصار لأنها تتضمن صيغة (كاريكاتيرية) تعرف كيف تجسّد الموقف وتبرز عيوبه وتناقضاته بالخطوط والظلال والألوان، فتجعلنا نضحك منه ونرثي له..
(3)
(وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا)(3).
لكأنما يأتي النداء من فوق.. من قدرة فوق قدرة الإنسان، ورؤية فوق رؤية الإنسان.. تنظر إلى وادي النمل البشري فترى واحدة منها تتضخم وتتضخم وتنتعش وتتطاول.. ثم ماذا تكون؟!
وما تلبث اللطمة القاسية، اللطمة الساخرة، أن تنقض، على الخد المتصعر.. على الرأس المتطاول.. على الجسد المتمطي.. لكي تلفت الطاغية، الذي يتحرك عند أسفل جدار في العالم، إلى حجمه الحقيقي، وتعرف طوابير الأقزام المخدوعين به، الذين خُيّل إليهم ـ لضآلتهم وحقارتهم ـ أنه فعلاً يملك القدرة على أن يمتد بطوله صوب السماء، وأن يستعلي عليهم، وهم يتحركون كالحشرات عند أقدامه .. تعرفهم بهذا الذي خدعوا به..
إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً .. وماذا يكون الإنسان .. أكبر إنسان في العالم.. أكثر الناس انتفاخاً وتضخماً وامتداداً وتطاولاً.. ماذا يكون إزاء طول الجبال وشموخها.. وعمق الأرض وأغوارها السحيقة ؟! لا شيء.. لا شيء..
إن الصورة تسمّر أنظارنا على هذا المشهد المترع بالسخرية والجهل والغباء والاحتقار، مشهد الإنسان الطاغية وهو يقف قبالة واحد من جبال العالم.. يتطاول فلا يعدو إحدى حجارته الملقاة على السفح، يمد جسده ويمطيه إلى آخر نقطة يستطيع فيها جسده أن يبلغها طولاً .. فلا يتجاوز صخرة تافهة أسقطتها الأعاصير من هذا الجانب أو ذاك من واجهة الجبل فلم تحدث فيه إلا كما تنقص قطرة الماء المتبخرة من البحر الكبير .. ومصيبة أتباعه أنهم ـ لما يعانونه من قزمية ـ ينظرون إليه وحده معجبين بامتداده، ولا ينظرون إلى الجبل نفسه.. ربما لأنهم لا يرون إلا طاغيتهم وحده.. وربما لأنهم يخافون أن يلتفتوا عنه إلى أي شيء آخر غيره، وبخاصة إذا كان الالتفات لغرض المقارنة.. وربما لأنه قد استلب حريتهم وقدرتهم على الحركة والالتفات.. وربما لأنه أترع قلوبهم وعقولهم بالخوف والرعب، وأفقدهم أية قدرة على القيام بحركة ذاتية متصورين أن أي مقارنة بينه وبين أي شيء آخر إنما هي خروج عن أمره وتمرّد على ربوبيته ..
ولكننا ـ نحن ـ ننظر إلى الصورة القرآنية المؤثرة من الخارج فنرى الطاغية ونرى الجبل، نرى طول هذا ونرى ارتفاع ذاك.. تطاول هذا وشموخ ذاك.. فلا نعاين إزاء كتلة الجبل الهائلة سوى شيء لا يكاد يُرى.. كتلة صغيرة تافهة ملقاة عند أسفل الجبل فأنى لها الطموح إلى أن تسامت الجبل يوماً وتبلغ طوله؟ إنها مسألة مستحيلة كاستحالة دخول الجمل سم الخياط.. مبهظة ثقيلة قاسية، لأنها كالكابوس لا يمكن أن تتمخض عن أي نتيجة حتى لو مضى عليها ملايين السنين من المط والتطاول، فكيف وعمر الإنسان لا يعدو الخمسين
أو الستين؟!
ونراه .. الطاغية .. وهو يضرب بأقدامه الأرض .. بعد إذ أدرك عجزه عن موازاة الجبل .. يضربها بعنف وعصبية، محاولاً خرقها وتفتيت قشرتها الصلبة.. ولن يستطيع..
وأتباعه الأقزام ، داخل الصورة ، ينظرون إليه معجبين ، وقد سمرت عيونهم وعقولهم بجسده العملاق، وهو يتطاول ويتطاول ، وبأقدامه القوية وهي تضرب الأرض .. فما يزدادون إلا تضاؤلاً وإعجاباً!!
وننظر نحن من خارج الصورة، فيأخذنا المنظر المؤثر ويجعلنا نضحك على تفاهة الإنسان ونبكي لمأساته.. فهو التناقض القاسي الذي يضحك ويبكي!
(4)
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالأنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ)(4) .(/2)
إذن .. فقد انكشفت اللعبة وتمزقت الأستار.. وأي لعبة لا تتكشف يوم الحساب؟ هاهم الطغاة.. والأرباب.. والمتألهون.. والفراعنة.. يقفون طوابير على حافة جهنم.. خاشعين، ناكسي رؤوسهم لا يرتدّ إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء!! يقفون منتظرين دورهم في الدخول إلى حيث يكتوون بالنار التي لم يوقفهم لهيبها وسعارها عن ممارسة ألوهيتهم هناك، يوم كانوا يسرحون في الأرض ويمرحون.. يقفون الآن وهم يرتجفون خوفاً وهلعاً .. إنهم بعد دقائق أو لحظات سيؤخذون من نواصيهم التي تطاولت على الله سبحانه كذباً وغروراً، ويُجرّون من أقدامهم التي مشوا بها طويلاً على رؤوس العباد .. ويُرمى بهم في النار التي ازداد تلمظها وهي ترى هذا الصيد الثمين يقف على بعد خطوات!!
ومن الصف الطويل، يقفز بين الحين والحين، أناس لا نكاد نراهم ونميزهم إلا بصعوبة.. إنهم أصغر حجماً بكثير من هؤلاء الأرباب، وهم مضغوطون إلى درجة لا يكادون يرون معها لكثرة ما مارسوه هناك في الحياة الدنيا من خوف وجبن وملق ونفاق وصغار والتصاق بالطغيان.. يتقافزون من هنا وهناك، منادين رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا { بأصوات لا تكاد تُسمع هي الأخرى: !! } مِنَ الْجِنِّ وَالأنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا
وإنه لمنظر مضحك حقاً.. وإن الإنسان ليظل يضحك حتى تدمع عيناه .. وهو يرى إلى هؤلاء الأقزام يتقافزون بين أقدام الأرباب، فالناس ـ أغلب الظن ـ محشورون حسب أوزانهم؟! ولكن الذي أطمع هؤلاء الأتباع المتضائلين بسادتهم وجعلهم يطلبون هذا الأمر المضحك: أن يجعلوا هؤلاء السادة من الأرباب والطواغيت تحت أقدامهم، وهم على ما هم عليه من ضخامة وامتلاء.. ما رأوه على هؤلاء من هلع وذلة وانكسار وخوف، سرت قشعريرته الباردة الصفراء إلى عروقهم فأخذوا يهتزون ويرتجفون.. رغم أنهم قريبون من لفح النار!!
إذن فهؤلاء هم السادة الكبار.. هؤلاء هم الآلهة والأرباب .. لقد تبدّدت الكبرياء.. وضاع الجبروت .. وهاهم يرتجفون بأسمالهم التي تفوح منها رائحة الزفت والقطران.. ويحيطهم الخزي، وتكتسحهم المذلة ..
وإنها لفرصة نادرة لأتباعهم الصغار أن يتمردوا عليهم، وأن يطلقوا سراح حشود من المشاعر والأحاسيس والانفعالات كانت قد احتبست في طبقات بعيدة من نفوسهم يوم كانوا يمارسون مهنة العبودية والفناء في ذوات أسيادهم.. وهم يريدون الآن أن يكثفوا مقتهم وغضبهم بحركة ذات دلالة: أن يجعلوا أولئكم السادة تحت أقدامهم!!
ولكن رؤيتهم التي فقدت قدرتها على الإبصار في الحياة الدنيا، تصيبهم الآن ببعض العناء، وسط دخان النار وهول الحساب، فلا يكادون يرون مرة أخرى آلهتهم وأسيادهم على طولها وامتدادها، فيكون نداؤهم المضحك ذاك: (رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالأنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ)!!
ويظل نداؤهم ذاك معلقاً دون جواب .. فهم أتفه وأحقر من أن يُستجاب لندائهم.. من أن يردّ عليهم مجرد ردّ.. ولو بالنفي!! وتلك لفتة مقصودة في كتاب الله .. تُستكمل بها الصورة (الكاريكاتيرية)، ونحن نتخيل هؤلاء .. بل نراهم ونسمعهم يرفعون النداء تلو النداء.. فلا يردّ عليهم أحد!!
(5)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)(6)..
إن القرآن الكريم ـ هنا ـ يتعمد أن يختار أصغر الحشرات وأحطها شأناً، لكي يضرب بها المثل، ويتحدى طواغيت بني آدم وآلهتهم وأربابهم وأكبرهم حجماً، أن يخلقوا مثلها: الذباب!!
إنه يذهب في تجسيم التناقض، وفق الأسلوب (الكاريكاتيري) إلى حده الأقصى لكي يهز الناس ويضحكهم في الوقت نفسه!!
فهنا يطرح القرآن نداءه المتحدي، الساخر: أيها الأرباب الذين رفعوا قاماتهم إلى السماء، يريدون أن يخرقوا الأرض، وأن يبلغوا الجبال طولاً.. أيتها الآلهة التي ورمت غروراً فجاوزت حجمها الحقيقي مئات المرات.. أيها الوضاعون الذين يحتكرون المعرفة العليا لأنفسهم فيفكرون للناس ويشرعون لهم ..
هاأنذا أتحداكم .. أن تخلقوا بعوضاً أو ذباباً.. أكثر من ذلك، أتحداكم أن تستردوا هباءة تافهة سلبكم الذباب إياها..
أيها الأرباب، أيتها الآلهة، أيها الوضاعون.. اخلقوا ـ إن استطعتم مجتمعين ـ ذباباً.. استردوا منه ما سلبكم إياه.. ضعف الطالب، أيها الأرباب، والمطلوب.. ضعف الطالب والمطلوب..
إن القرآن الكريم، هاهنا، لا يضحكنا فحسب، ولكنه يبكينا.. يقينا.. إنه ينتزع الدموع من أعيننا..
ونعرف .. ونحن نتقلب بين الضحك والبكاء.. لماذا اختار الله -جل وعلا- أن يتحدى الآلهة والأرباب.. بالبعوض والذباب!!
________________________________________
(1) غافر 29.
(2) الزخرف 54 .
(3) الاسراء 37.
(4) فصلت 29.
(5) الحج 73 .(/3)
الكبائر والمعاصي
أولاً: المعاصي:
أ- تعريفها لغة وشرعاً.
ب- ألفاظ تدخل في معنى العصيان.
ج- أسباب الوقوع في المعاصي.
د- أقسام الذنوب والمعاصي.
ثانياً: الكبائر:
أ- تعريفها لغة وشرعاً.
ب- حكم مرتكب الكبيرة.
ثالثاً: الصغائر:
أ- تعريفها لغة وشرعاً.
ب- لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار.
رابعاً: آثار الذنوب والمعاصي:
أ- أثر الذنوب والمعاصي على الفرد.
ب- أثر الذنوب والمعاصي على المجتمع.
خامساً: مكفرات الذنوب والمعاصي:
أ- الفرق بين تكفير السيئات ومغفرة الذنوب.
ب- محو الذنوب.
1- الذنوب والسيئات تحت مشيئة الله.
2- هل الحسنات تمحو الكبائر.
ج- الذنوب التي لا يغفرها الله تعالى
أولاً: المعاصي:
أ- تعريفها:
لغة:
قال أبو عبيد: "وأصل العصا الاجتماع والائتلاف. ومنه قيل للخوارج: قد شقوا عصا المسلمين: أي فرّقوا جماعتهم".
وقال ابن منظور: "العصيان خلاف الطاعة، عصى العبد ربه إذا خالف أمره. وعصى فلانٌ أميره يعصيه عصياً وعصياناً ومعصية إذا لم يطعه فهو عاص وعَصِيّ".
وشرعاً:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المعصية هي مخالفة الأمر الشرعي، فمن خالف أمر الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه فقد عصى".
وقيل: "المعاصي: هي ترك المأمورات، وفعل المحظورات، أو ترك ما أوجب وفُرض من كتابه أو على لسان رسول صلى الله عليه وسلم وارتكاب ما نهى الله عنه أو رسوله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأعمال الظاهرة أو الباطنة".
ب- ألفاظ تدخل في معنى العصيان:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لفظ (المعصية) و(الفسوق) و(الكفر): فإذا أطلقت المعصية لله ورسوله دخل فيها الكفر والفسوق، كقوله: {وَمَن يَّعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}، وقال تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود:59]، فأطلق معصيتهم للرسل بأنهم عصوا هوداً معصية تكذيب لجنس الرسل، فكانت المعصية لجنس الرسل".
وقد جاء معنى العصيان بألفاظٍ كثيرة في الكتاب والسنة، ومنها في القرآن:
1- الذنب: قال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت:40].
قال الراغب رحمه الله: "والذنب في الأصل: الأخذ بذنب الشيء، ويُستعمل في كل فعلٍ يُستوخم عقباه اعتباراً بذنب الشيء، ولهذا يسمّى الذنب تبعة، وعقوبة اعبتاراً لما يحصل من عاقبته".
2- الخطيئة: قال تعالى عن إخوة يوسف: {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف:97].
3- السيئة: قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ} [هود:114].
قال الراغب الأصفهاني: "والخطيئة والسيئة يتقاربان، لكن الخطيئة أكثر ما تُقال فيما لا يكون مقصوداً إليه في نفسه".
4- الحُوب: قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء:2].
قال الراغب الأصفهاني: "الحُوب: الإثم".
5- الإثم: قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْى} [الأعراف:33].
قال الراغب رحمه الله: "الإثم والآثام: اسمٌ للأفعال المبطئة عن الثواب".
والأثيم: "الكثير ركوب الإثم".
6- الفسوق والعصيان: قال تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7].
قال الراغب رحمه الله: "فسق فلانٌ: خرج عن حجر الشرع".
7- الفساد: قال جل وعلا: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ} [المائدة:32].
قال الراغب رحمه الله: "الفساد: خروج الشيء عن الاعتدال. قليلاً كان الخروج عنه أو كثيراً، ويُضادّه الصلاح".
8- العُتوّ: قال تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:166].
قال الراغب رحمه الله: "العتُوّ: النبوّ عن الطاعة. يُقال: عتا يعتو عتواً وعتياً".
9- الإصر: قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157].
قال ابن سيده رحمه الله: "الإصر: الذنب والثّقل".
ج- أسباب الوقوع في المعاصي:
1- الابتلاء بالخير والشرّ:
قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ} يقول: (نبتليكم بالشدّة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال).
2- الابتلاء بالمال والولد:
قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15].
قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى: {إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} أي: اختبار وابتلاء من الله تعالى لخلقه ليعلم من يطيعه ممن يعصيه".(/1)
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (لا يقولن أحدكم: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، فإنه ليس منكم أحدٌ إلا وهو مشتمل على فتنة لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} فأيكم استعاذ فليستعذ بالله تعالى من مضلاّت الفتن).
3- فتنة الشرك وهي أشرّ الفتن وأطغاها وأخبثها:
قال الله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ} [الأنفال:39]، فبيّن تعالى بأن الدين غير الفتنة وهما متغايران.
4- فتنة العشق والافتتان بالنساء والمردان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم:
قال عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} [التوبة:49].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما تركت بعدي فتنةً أضرّ على الرجال من النساء)).
وكان الجدُّ بن قيس يتهرّب من القتال بهذا العذر، قال عنه ابن القيم رحمه الله: "فالفتنة التي فرّ منها بزعمه هي فتنة محبة النساء، وعدم صبره عنهن، والفتنة التي وقع فيها هي فتنة الشرك والكفر في الدنيا والعذاب في الآخرة".
أما الفتنة بالأمرد فإنها أشدّ.
قال الهيتمي رحمه الله: "وحرّم كثير من العلماء الخلوة بالأمرد في نحو بيت أو دكان كالمرأة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما خلا رجلٌ بامرأة إلا دخل الشيطان بينهما)) بل في المرد من يفوق النساء بحسنه، فالفتنة به أعظم، ولأنه يمكن في حقه من الشرّ ما لا يمكن في حق النساء".
قال الحسن بن ذكوان: "لا تجالس أولاد الأغنياء، فإن لهم صوراً كصور العذارى، وهم أشدّ فتنةً من النساء".
ودخل سفيان الثوري الحمام، فدخل عليه صبيٌ حسن الوجه، فقال: أخرجوه عني، أخرجوه عني، فإني أرى مع كل امرأة شيطاناً، ومع كل صبي بضعة عشر شيطاناً.
5- الفتنة بالمال:
عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)).
والمال والأولاد سبب لنسيان ذكر الله تعالى: قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر:19]: "أي: لا تنسوا ذكر الله تعالى فينسيكم العمل الصالح الذي ينفعكم في معادكم. فإن الجزاء من جنس العمل، ولهذا قال تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الخارجون عن طاعة الله، الهالكون يوم القيامة، الخاسرون يوم معادهم كما قال تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9]".
6- شبهات أهل البدع:
قال سفيان الثوري رحمه الله: "البدعة أحبّ إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها"؛ ذلك لأن صاحبها يظن نفسه على الحق فلا يتوب أبداً، أو لأن البدعة أكبر من كبائر أهل السنة.
لذلك تواتر عن أئمة السلف في التحذير من البدعة والمبتدع. قال المرّوذي: قلت لأبي عبد الله يعني إمامنا الإمام أحمد بن حنبل - ترى للرجل أن يشتغل بالصوم والصلاة، ويسكت عن الكلام في أهل البدع؟ فكلح في وجهه. وقال: إذا هو صام وصلى واعتزل الناس؛ أليس إنما هو لنفسه؟ قلت: بلى. قال: فإذا تكلم. كان له ولغيره. يتكلم أفضل".
د- أقسام الذنوب والمعاصي:
1- تقسيمها من حيث من وقعت في حقه:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الذنوب ثلاثة أقسام:
أحدها: ما فيه ظلم الناس: كالظلم بأخذ الأموال، ومنع الحقوق والحسد، ونحو ذلك.
والثاني: ما فيه ظلم للنفس فقط كشرب الخمر والزنا إذا لم يتعدّ ضررهما.
والثالث: ما يجتمع فيه الأمران، مثل أن يأخذ المتولّي أموال الناس يزني بها ويشرب بها الخمر، ومثل أن يزني بمن يرفعه على الناس بذلك السبب ويضرّهم كما يقع ممن يحب بعض النساء والصبيان".
2- تقسيمها من حيث نوعها:
ويمكن أن تقسّم باعتبارٍ آخر وهو:
1- معاصي في الاعتقاد كالشرك والنفاق وغيرهما.
2- معاصي في الأخلاق كالزنى وشرب الخمر وغيرهما.
3- معاصي في العبادات كترك الصلاة أو التهاون بها، ومنع الزكاة وغيرها.
4- معاصي في المعاملات كعقود الربا والرشوة وشهادة الزور والسرقة وغيرها.
3- تقسيمها من حيث عظمها:
وجمهور أهل السنة يرون أن المعاصي تنقسم إلى قسمين: كبائر وصغائر.
قال ابن القيم رحمه الله: "والذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، بنصّ القرآن والسنة، وإجماع السلف، وبالاعتبار".(/2)
وأنكرت طائفة تقسيم المعاصي إلى كبائر وصغائر، واستدلوا على قولهم هذا بأن كل مخالفة بالنسبة لجلال الله وعظمته كبيرة، فكرهوا تسمية أي معصية صغيرة؛ لأنها إلى كبرياء وعظمة الله كبيرة. ويؤيد هذا قول أنس بن مالك رضي الله عنه: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا نعدّها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات!).
وقول جمهور أهل السنة أصوب، إذ دلّ الكتاب عليه، قال تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، ففي هذه الآية بيان أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر.
وقوله جل جلاله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} [النجم:32] في الآية استثناء منقطع، لأن اللمم من صغائر الذنوب، ومحقرات الأعمال، فهو استثناء من عامة الكبائر.
ومن السنة حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات بينهن إن اجتنبت الكبائر)) وفي رواية ((ما لم تغش الكبائر)).
يقول الغزالي رحمه الله: "لا يليق إنكار الفرْق بين الكبائر والصغائر، وقد عُرف من مدارك الشرع".
انظر: تهذيب اللغة للأزهري (3/77).
لسان العرب (4/2981) مادة: عصى.
مجموع الفتاوى (8/269).
المعاصي وآثارها لحامد المصلح (ص 30).
مجموع الفتاوى (7/59).
مفردات الراغب (ص 331). وانظر المخصص لابن سيده (4/78).
مفردات الراغب (ص 287).
مفردات الراغب ( 261).
مفردات الراغب (ص 63).
المخصص لابن سيده (4/80).
مفردات الراغب (ص 637).
مفردات الراغب (ص 636).
مفردات الراغب (ص 546).
المخصص لابن سيده (4/80).
جامع البيان (17/25).
تفسير القرآن العظيم (4/376).
رواه الطبري في تفسيره (9/219)، وانظر: والتمهيد لابن عبد البر (12/186) وإغاثة اللهفان لابن القيم (2/160).
انظر: المعاصي وآثارها (ص 56).
رواه البخاري في النكاح باب ما يتقى من شؤم المرأة (5096)، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب أكثر أهل الجنة الفقراء (2740).
انظر ترجمته في الإصابة (1/238-239).
إغاثة اللهفان (2/158).
ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (4/326) وقال: رواه الطبراني، وفيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف جداً، وفيه توثيق. وذكره المنذري في الترغيب (3/39) وقال: حديث غريب رواه الطبراني. والحديث رواه الترمذي بلفظ: (لا يخلونّ رجلٌ بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) كتاب الرضاع، باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات (1171) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1/343).
الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/310).
انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/310).
انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/311).
رواه البخاري في الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب (3158) ومسلم في الزهد والرقائق برقم (2961).
تفسير القرآن العظيم (4/342).
رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/132). وانظر: مجموع الفتاوى (11/472).
طبقات الحنابلة (2/216).
الاستقامة لابن تيمية (2/245-246)، وانظر: مجموع الفتاوى (28/145).
المعاصي وآثارها (ص 39).
مدارج السالكين (1/342).
انظر: الزواجر (1/13)، وشرح صحيح مسلم (2/84-85).
رواه البخاري في الرقاق باب ما يتقى من محقرات الذنوب (6492).
انظر: المعاصي وآثارها (ص 35).
المعاصي وآثارها (ص 35).
رواه مسلم في الطهارة، باب الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة مكفرات ما بينهن (233).
انظر: الزواجر (1/14).
ثانياً: الكبائر:
أ- تعريفها:
الكبيرة لغةً: من الكبر، قال ابن منظور رحمه الله: "الكبر: الإثم الكبير، وما وعد الله عليه النار، والكبرة كالكبر: التأنيث للمبالغة، وفي التنزيل العزيز: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَواحِشَ} [الشورى:37]. وفي الأحاديث ذكر الكبائر في غير موضع، واحدتها كبيرة: وهي الفعلة القبيحة من الذنوب المنهي عنها شرعاً لتعظيم أمرها".
شرعاً: "اختلف في تحديدها على أقوال:
1- أنها ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيدٌ شديد بنص كتاب أو سنة.
2- أنها كل معصية أوجبت الحدّ. وبه قال البغوي وغيره.
3- أنها كل ما نص الكتاب على تحريمه، أو وجب في جنسه حدّ، وترك فريضة تجب فوراً، والكذب في الشهادة والرواية واليمين.
4- أنها كل جريمة.
5- أنها كل ذنب ختمه الله تعالى بنارٍ أو غضبٍ أو لعنةٍ أو عذاب، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما.
6- وقال القرطبي في المفهم: "الراجح أن كل ذنبٍ نصّ على كبره أو عظمه، أو توعّد عليه بالعقاب، أو علّق عليه حدّ، أو اشتدّ النكير عليه فهو كبيرة، وهذا الكلام في غير ما قد ورد النصّ الصريح فيه أنه كبيرة من الكبائر، أو أكبر الكبائر.
ب- حكم مرتكب الكبيرة:
1- ذهبت الخوارج إلى أن مرتكب الكبيرة كافر، وحكمه في الآخرة الخلود في النار.(/3)
2- وذهب المعتزلة إلى أن مرتكب الكبيرة خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فهو بمنزلة بين المنزلتين، أما في الآخرة فحكمه الخلود في النار، فخالفوا الخوارج في الاسم، ووافقوهم في الحكم.
3- وذهبت المرجئة إلى أنه لا يضر مع الإيمان معصية، فمرتكب الكبيرة عندهم مؤمن كامل الإيمان، ولا يستحق دخول النار.
4- وذهب أهل السنة والجماعة إلى أن مرتكب الكبيرة مؤمنٌ ناقص الإيمان، قد نقص من إيمانه بقدر ما ارتكب من معصية، فلا يسلب اسم الإيمان بالكلية، ولا يعطى اسم الإيمان بإطلاق، فهو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وحكمه في الآخرة أنه تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء غفر له ابتداء وأدخله الجنة، وإن شاء عذّبه بقدر معصيته، ثم يخرجه ويدخله الجنة .
لسان العرب لابن منظور (6/443) مادة: كبر.
انظر: الزواجر لابن حجر الهيتمي (1/14-25).
انظر: شرح الطحاوية (ص 371)، وشرح صحيح مسلم للنووي (2/85)، ومجموع الفتاوى (11/650).
انظر: نيل الأوطار للشوكاني (10/243)، ومجموع الفتاوى (11/654-655)، وفتح الباري (12/184).
انظر: شرح العقيدة الواسطية للهراس (ص190-192).
ثالثاً: الصغائر:
أ- تعريفها:
الصغائر لغة:
قال ابن منظور رحمه الله: "الصغر: ضد الكبر. قال ابن سيده: الصغر والصغارة خلاف العِظم، وقيل: الصِّغَر في الجرم، والصَّغارة في القدْر".
والصغائر شرعا:
1- قيل: إنها ما لم يقترن بالنهي عنها وعيد أو لعن أو غضب أو عقوبة.
2- وقيل: ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو صغيرة.
3- وقيل: هي ما دون الحدّين: حدّ الدنيا، وحد الآخرة.
4- وقيل: هي كل ما ليس فيها حدٌّ في الدنيا ولا وعيدٌ في الآخرة، والمراد بالوعيد: الوعيد الخاص بالنار أو اللعنة أو الغضب.
ب- لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار:
عن سعيد بن جبير قال: إن رجلاً قال لابن عباس رضي الله عنهما: كم الكبائر أسبع هي؟ قال: (إلى سبعمائة أقرب منها إلى السبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار).
ويؤيد ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما، ما روى سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قومٍ نزلوا بطن وادٍ فجاء ذا بعودٍ، وجاء ذا بعودٍ، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه)).
قال ابن القيم رحمه الله: "وها هنا أمرٌ ينبغي التفطّن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف، والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر. وقد يقترن بالصغيرة من قلّة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر. بل يجعلها في أعلى المراتب. وهذا أمرٌ مرجعه إلى ما يقوم بالقلب. وهو قدر زائد على مجرّد الفعل. والإنسان يعرف ذلك من نفسه ومن غيره" .
لسان العرب (7/351) مادة: صغر.
انظر قواعد الأحكام للعزّ (ص 38).
الجواب الكافي (ص 136).
انظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص 371). ومجموع الفتاوى (11/650).
شرح العقيدة الطحاوية (ص 371).
جامع البيان (1/41)، وانظر: فتح الباري (12/183) ومختصر منهاج القاصدين (ص 257).
رواه أحمد في المسند (5/331)، وصححه الألباني في الصحيحة (389).
مدارج السالكين (1/356).
رابعاً: آثار الذنوب والمعاصي:
أ- أثر الذنوب والمعاصي على الفرد:
1- تضعف في القلب تعظيم الربّ جل وعلا ووقاره وهيبته وكبرياءه:
قال ابن القيم رحمه الله: "فإن عظمة الله تعالى وجلاله في قلب العبد تقتضي تعظيم حرماته، وتعظيم حرماته تحول بينه وبين الذنوب، والمتجرئون على معاصيه ما قدروا الله حقّ قدره، وكيف يقدره حق قدره أو يعظمه ويكبره؛ ويرجو وقاره، ويجلّه من يهون عليه أمره ونهيه؟ هذا من أمحل المحال، وأبين الباطل، وكفى بالمعاصي عقوبة أن يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله، وتعظيم حرماته، ويهون عليه حقه".
2- تُذهب حياء القلب وغيرته:
عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)).
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله لهذا الحديث تفسيرين:
أحدهما: أنه على التهديد والوعيد، والمعنى: من لم يستح فإنه يصنع ما شاء من القبائح، إذ الحامل على تركها الحياء، فإذا لم يكن هناك حياء يردعه عن القبائح فإنه يواقعها، وهذا تفسير أبي عبيدة.
والثاني: أن الفعل إذا لم تستح منه من الله فافعله، وإنما الذي ينبغي تركه هو ما يستحي منه من الله، وهذا تفسير الإمام أحمد في رواية.
وحقيقة الحياء كما نقل النووي عن العلماء: "خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي حق".
3- تنكس القلب وتزيغه، فلا يطمئن إلا بها:(/4)
إن القلب إذا غرق في أوحال المعاصي والآثام، وركن إليها واطمأن بها؛ فإن القبيح يكون لديه حسناً، والحسن قبيحاً، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، فما وافق هواه فهو الصواب الحلال، وما خالفه فهو الخطأ الحرام... حينئذٍ تضعف عنده إرادة التقوى، بل قد تموت لاستمراره على ما حرّم الله.
قال تعالى: عن المنافقين: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة:7].
قال البغوي رحمه الله: "طبع الله على قلوبهم فلا تعي خيراً ولا تفهمه، وحقيقة الختم الاستيثاق من الشيء كيلا يدخله ما خرج منه ولا يخرج عنه ما فيه، ومنه الختم على الباب. قال أهل السنة: أي حكم على قلوبهم بالكفر، لما سبق من علمه الأزلي فيهم".
4- توهن القلب وتظلمه:
قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} [النور:40].
قال ابن كثير رحمه الله: "فهذا قلب الكافر الجاهل البسيط المقلد، الذي لا يعرف حال من يقوده، ولا يدري أين يذهب، بل كما يقال في المثل للجاهل أين تذهب؟ قال: معهم. قيل: فإلى أين يذهبون؟ قال: لا أدري.. فالكافر يتقلّب في خمسة من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات إلى النار".
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (إن للحسنة ضياء في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاناً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق).
5- حصول خيانة القلب واللسان عند ساعة الاحتضار عن النطق بالشهادة:
قال ابن القيم: "يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار، والانتقال إلى الله تعالى، فربما تعذّر عليه النطق بالشهادة، كما شاهد الناسُ كثيراً من المحتضرين أصابهم ذلك. حتى قيل لبعضهم: قل: لا إله إلا الله، فقال: آه... آه... لا أستطيع أن أقولها. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فقال:
يا رُبّ قائلةٍ يوماً وقد تعبت كيف الطريق إلى حمام منجاب
ثم قضى. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء، ويقول: تاتنا تنتنا... حتى قضى".
ب- أثر الذنوب والمعاصي على المجتمع:
1- أنها سبب هلاك الأمم:
كإغراق قوم نوحٍ عليه السلام، وفرعون وقومه، وإهلاك قوم عاد بالريح العقيم، وثمود بالصيحة، وقوم لوط بجعل عاليها سافلها. إلى غير ذلك.
قال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40]، وقال: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءاخَرِينَ} [الأنعام:6].
إن هذا النصّ في القرآن: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} وما يماثله يقرّر حقيقة، ويقرّر سنة، إنه يقرّر حقيقة أن الذنوب تهلك أصحابها، وأن الله هو الذي يهلك المذنبين، وأن هذه سنة ماضية - ولو لم يرها فرد في عمره القصير - ولكنها سنة تصير إليها الأمم حين تفشو فيها الذنوب، وحين تقوم حياتها على الذنوب.. كذلك هي جانب من التفسير الإسلامي للتأريخ: فإن هلاك الأجيال، واستخلاف الأجيال؛ من عوامله، فعل الذنوب في جسم الأمم، وتأثيرها في إنشاء حالة تنتهي إلى الدمار؛ إمّا بقارعة من الله عاجله - كما كان يحدث في التاريخ القديم - وإمّا بالانحلال البطيء الفطري الطبيعي، الذي يسري في كيان الأمم - مع الزمن - وهي توغل في متاهة الذنوب.
2- أنها تزيل النعم بمختلف أنواعها وأشكالها، وتحلّ النقم والمحن والفتن مكانها:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ...} [الرعد:11].
فالله تعالى لا يسلب نعمةً أنعمها على قومٍ أو مجتمع أو أمةٍ حتى يحدثوا تغيير ما هم عليه من الخير والهداية إلى الشرّ والضلالة. وكذلك لا يغيّر ما حلّ بقومٍ جزاء عصيانهم من عذاب ونكال وذل وخذلان إلى نعمةٍ ورخاء، وسلامة وإخاء حتى يغيروا ما بأنفسهم من الشر والآثام إلى توبةٍ خالصة، وطاعة للملك العلام.
3- أنها تسلب نعمة العافية في الأبدان:(/5)
جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لم تظهر الفاحشة في قومٍ قطّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)).
وعن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من النوم محمراً وجهه وهو يقول: ((لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وعقد سفيان (تسعين أو مائة) قيل: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم إذا كثُر الخبث)).
قال النووي رحمه الله: "والخبث هو بفتح الخاء والباء، وفسّره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل المراد: الزنا خاصة، وقيل أولاد الزنا، والظاهر أنه المعاصي مطلقاً".
4- أنها سبب في حلول الهزائم في الحرب:
ففي أُحدٍ أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرماة بملازمة الجبل قائلاً: ((لا تبرحوا إن رأيتمونا ظَهرْنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا)) لكنهم خالفوا أمره ونزلوا من على الجبل فحلّت بهم الهزيمة.
قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:166]، أي: بسبب عصيانكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمركم أن لا تبرحوا من مكانكم فعصيتم، يعني بذلك: الرماة.
5- سبب لوقوع الخسف:
عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، إذا ظهرت القيان والمعازف، وشُربت الخمور)).
وكما حصل لذلك الرجل الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ((بينما رجلٌ يجرّ إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)).
6- يؤثّر حتى في الدواب:
قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَاكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} [فاطر:45].
قال القرطبي رحمه الله: "{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ} يعني: من الذنوب {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} قال ابن مسعود رضي الله عنه: يريد جميع الحيوانات مما دبّ ودرج، قال قتادة: وقد فعل ذلك زمن نوح عليه السلام".
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده إن الحُبارى لتموت هزلاً في وكرها بظلم الظالم).
وعكرمة كان يقول: (دواب الأرض وهوامها حتى الخنافس والعقارب يقولون: منعنا القطر بذنوب بني آدم).
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص 74).
رواه البخاري في الأنبياء، باب حديث الغار (3484).
الجواب الكافي ص (73)، وانظر: فتح الباري (6/523).
رياض الصالحين (ص 307).
المعاصي وآثارها (ص 108-109).
تفسير البغوي (1/64-65).
تفسير القرآن العظيم (3/296).
انظر: الجواب الكافي (ص 58).
الجواب الكافي (ص 97-98).
في ظلال القرآن لسيد قطب (2/1038).
المعاصي وآثارها (ص 141).
رواه ابن ماجه في الفتن باب العقوبات (4019) قال البوصيري: "هذا حديث صالح للعمل به وقد اختلفوا في ابن أبي مالك وأبيه"، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (3/316) والصحيحة (106).
رواه البخاري في الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب)) (7095)، ومسلم في الفتن وأشراط الساعة، باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج (2880).
شرح صحيح مسلم (3/18).
رواه البخاري في المغازي، باب غزوة أحد (4043).
انظر: تفسير القرآن العظيم (1/401).
رواه الترمذي في الفتن، باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف (2212) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2/242).
رواه البخاري في اللباس، باب من جرّ ثوبه من الخيلاء (5789)، ومسلم في اللباس والزينة، باب تحريم التبختر (2088).
الجامع لأحكام القرآن (7/361).
الجامع لأحكام القرآن (7/361)، وانظر: الجواب الكافي لابن القيم (ص 62).
رواه الطبري في تفسيره (2/55)، وانظر الجواب الكافي (ص 62).
خامساً: مكفرات الذنوب والمعاصي:
1- التوبة:
قال تعالى: {وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
وعن الأغرّ المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيها الناس: توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة)).
معنى التوبة:
التوبة: عبارة عن ندمٍ يورث عزماً وقصداً، وذلك الندم يورث العلم بأن تكون المعاصي حائلاً بين الإنسان وبين محبوبه.
وحقيقة التوبة كما ذكرها ابن القيم فقال: "هي الندم على ما سلف منه في الماضي، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على أن لا يعاوده في المستقبل".
حكم التوبة:(/6)
نقل النووي عن أهل العلم فقال: "اتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبةُ، وأنها واجبةٌ على الفور لا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة، والتوبة من مهمات الإسلام وقواعده المتأكدة، ووجوبها عند أهل السنة بالشرع".
شروط التوبة:
قال النووي رحمه الله: "إن للتوبة ثلاثة أركان:
1- الإقلاع.
2- والندم على فعل تلك المعصية.
3- والعزم على أن لا يعود إليها أبداً. فإن كانت المعصية لحقّ آدمي فلها ركن رابع وهو:
4- التحلّل من صاحب ذلك الحقّ. وأصلها الندم، وهو ركنها الأعظم".
قال الشيخ عثمان بن قائد النجدي رحمه الله:
شروط توبتهم إن شئت عدتها ثلاثة عُرفت فاحفظ على مهل
إقلاعه ندمٌ وعزمه أبداً أن لا يعود لما فيه جرى وقل
إن كان توبته عن ظلمِ صاحبه لا بدّ من ردّه الحقوق على عجل
وزاد ابن المبارك على ما سبق من الشروط للتوبة فقال: "الندم، والعزم على عدم العود، وردّ المظلمة، وأداء ما ضيّع من الفرائض، وأن يعمد إلى البدن الذي رباه بالسحت فيذيبه بالهم والحزن حتى ينشأ له لحم طيبٌ، وأن يذيق نفسه ألم الطاعة كما أذاقها لذّة المعصية".
فزاد رحمه الله الآتي:
1- أداء ما ضيّع من الفرائض.
2- إذابة البدن الذي رباه بالسحت بالهم والحزن.
3- الجدّ في الإكثار من الطاعات.
2- الاستغفار:
قال تعالى: على لسان نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح:10].
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سيّد الاستغفار أن يقول أحدكم: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت)) قال: ((ومن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقنٌ بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة)).
قال ابن حجر نقلاً عن بعض أهل العلم: "لما كان هذا الدعاء جامعاً لمعاني التوبة كلها؛ استعير له اسم السيّد، وهو في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج، ويرجع إليه في الأمور".
3- عمل حسناتٍ تمحوها، فإن الحسنات يذهبن السيئات:
قال تعالى: {إ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذكِرِينَ} [هود:114].
قال ابن كثير رحمه الله: "إن فعل الخيرات يكفّر الذنوب السالفة".
وقال صلى الله عليه وسلم: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها)).
وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً أصاب من امرأة قُبلةً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، قال: فنزلت: {أَقِمِ الصلاةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذكِرِينَ} قال: فقال الرجل إليّ هذه يا رسول الله؟ قال: ((لمن عمل بها من أمتي)).
قال النووي رحمه الله: "هذا تصريحٌ بأن الحسنات تكفّر السيئات".
4- دعاء إخوانه المؤمنين والملائكة، واستغفارهم له حياً أو ميتاً:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ} [الحشر:10].
وعن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك مُوكَّل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل)).
وكذا دعاء الملائكة له:
قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً} [غافر:7].
يقول ابن كثير رحمه الله: "{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} أي: من أهل الأرض ممن آمن بالغيب، فقيّض الله تعالى ملائكته المقربين أن يدعوا للمؤمنين بظهر الغيب، ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم السلام كانوا يؤمّنون على دعاء المؤمنين بظهر الغيب".
5- ابتلاء الله تعالى إياه بمصائب تكفّر عنه:
عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يصيب المسلم من نصبٍ ولا وصبٍ ولا همٍ ولا حزنٍ ولا أذىً ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة)).
6- إهداؤه ثواب الأعمال الصالحة بعد الموت:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).(/7)
وعن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت، تصدقت، أفلها أجرٌ إن تصدقت عنها؟ قال: ((نعم، تصدق عنها)).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي حديث الباب من الفوائد: جواز الصدقة عن الميت، وأن ذلك ينفعه بوصول ثواب الصدقة إليه ولا سيما إن كان من الولد".
7- رحمة أرحم الراحمين:
جاء في حديث الشفاعة قال: ((فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حُمماً فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة)).
وهذا الحديث دلالة على شفاعة أرحم الراحمين.
8- شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل نبي دعوة قد دعا بها فاستجيب، فجعلت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة)).
قال ابن الجوزي رحمه الله: "هذا من حسن تصرفه صلى الله عليه وسلم لأنه جعل الدعوة فيما ينبغي، ومن كثرة كرمه لأنه آثر أمته على نفسه، ومن صحة نظره لأنه جعلها للمذنبين من أمته لكونهم أحوج إليها من الطائعين".
9- يبتليه الله في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من صاحب ذهب، ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه، وجبينه، وظهره، كلما بردت أعيدت له في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار)).
10- إسباغ الوضوء:
عن حمران بن أبان مولى عثمان. قال: دعا عثمان بوضوء في ليلةٍ باردةٍ، وهو يريد الخروج إلى الصلاة، فجئته بماء فأكثر ترداد الماء على وجهه ويديه، فقلت: حسبك! قد أسبغت الوضوء والليلة شديدة البرد. فقال: صُبّ! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يسبغُ عبدٌ الوضوء إلاّ غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر)).
11- الصلوات الخمس:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يومٍ خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟)) قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)).
وهناك غير ما ذُكر من المكفرات.
أ- الفرق بين تكفير السيئات ومغفرة الذنوب:
قال ابن القيم رحمه الله: "فالذنوب المراد بها: الكبائر، والمراد بالسيئات: الصغائر. وهي ما تعمل فيه الكفارة، ومن الخطأ وما جرى مجراه، ولهذا جعل لها التكفير. ومنه أخذت الكفارة، ولهذا لم يكن لها سلطان ولا عمل في الكبائر في أصحّ القولين.
والدليل على أن السيئات هي الصغائر، والتكفير لها: قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31].
ولفظ "المغفرة" أكمل من لفظ "التكفير" ولهذا كان مع الكبائر، والتكفير مع الصغائر. فإن لفظ "المغفرة" يتضمن الوقاية والحفظ. ولفظ التكفير، يتضمن الستر والإزالة. وعند الإفراد: يدخل كلٌ منها في الآخر، فقوله تعالى: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ} [محمد:2] يتناول صغائرها وكبائرها، ومحوها ووقاية شرّها، بل التكفير المفرد يتناول أسوأ الأعمال كما قال تعالى: {لِيُكَفّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُواْ} [الزمر:35]".
ب- محو الذنوب:
1)- الذنوب والسيئات تحت مشيئة الله تعالى:
قال الشوكاني رحمه الله: "وأما غير أهل الشرك من عصاة المسلمين فداخلون تحت المشيئة يغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء. قال ابن جرير: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عز وجل، إن شاء عذّبه، وإن شاء عفا عنه ما لم تكن كبيرته شركاً بالله عز وجل. وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلاً منه ورحمة، وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن كان من أهل الكبائر فأمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له".
2)- هل الحسنات تمحو الكبائر:
قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] هل تدخل فيها الكبائر، أم لا؟ فيه خلاف بين أهل العلم.
ولعل الراجح عدم دخول الكبائر فيها، وقد ردّ ابن عبد البر على من قال: إن الكبائر تمحوها الحسنات، فقال: "وهذا جهلٌ بيّن، وموافقة للمرجئة فيما ذهبوا إليه من ذلك، وكيف يجوز لذي لبٍ أن يحمل هذه الآثار على عمومها وهو يسمع قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا}، وقوله تبارك وتعالى: {وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، في آي كثيرة من كتابه.(/8)
ولو كانت الطهارة والصلاة وأعمال البرّ مكّفرة للكبائر، والمتطهر المصلي غير ذاكر لذنبه الموبق، ولا قاصد إليه، ولا حضره في حينه ذلك أنه نادم عليه، ولا خطرت خطيئته المحيطة به بباله لما كان لأمر الله عز وجل بالتوبة معنى، ولكان كل من توضأ وصلى يُشهد له بالجنة بأثر سلامه من الصلاة، وإن ارتكب قبلها ما شاء من الموبقات الكبائر، وهذا لا يقوله أحدٌ ممن له فهمٌ صحيح.
وقد أجمع المسلمون أن التوبة على المذنب فرضٌ، والفروض لا يصحّ أداء شيء منها إلا بقصدٍ ونيّة، واعتقاد أن لاعودة، فأما أن يصلي وهو غير ذاكر لما ارتكب من الكبائر، ولا نادم على ذلك فمحال".
ج- الذنوب التي لا يغفرها الله تعالى:
1- الشرك الأكبر:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء:48]، وقال: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)).
قال القرطبي رحمه الله: "إن من مات على الشرك لا يدخل الجنة، ولا يناله من الله رحمة، ويخلد في النار أبد الآباد، من غير انقطاع عذاب، ولا تصرم آماد".
ونقل ابن حزم والقرطبي والنووي الإجماع على أن المشرك يخلد في النار.
2- الشرك الأصغر:
وقد اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه تحت المشيئة، وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كما يظهر ميل الإمام ابن القيم إليه في الجواب الكافي.
القول الثاني: أنه تحت الوعيد، وهو الذي مال إليه بعض أهل العلم.
3- حقوق الآدميين:
أ- أنواع المظالم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أُخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه)).
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل ما لهذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طُرح في النار)).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وحقّ غير الله يحتاج إلى إيصالها لمستحقها، وإلا لم يحصل الخلاص من ضرر ذلك الذنب، لكن من لم يقدر على الإيصال بعد بذله الوسع في ذلك فعفو الله مأمول، فإنه يضمن التبعات، ويبدل السيئات حسنات".
ب- القتل:
ذلك لأن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق:
1- حقّ الله.
2- حق الولي والوارث.
3- حق المقتول.
فحق الله يزول بالتوبة، والوارث مخير بين ثلاثة أشياء: القصاص، والعفو إلى غير عوض، والعفو إلى مال.
ويبقى حق المقتول، عن جندب رضي الله عنه قال حدثني فلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يجيء المقتول بقاتله يوم القيامة، فيقول: سل هذا فيم قتلني؟ فيقول: قتلته على ملك فلان)) قال جندب: فاتَّقِها.
قال ابن القيم رحمه الله: "فالصواب والله أعلم أن يقال: إذا تاب القاتل من حق الله، وسلم نفسه طوعاً إلى الوارث، ليستوفي منه حق موروثه: سقط عنه الحقان. وبقي حق الموروث لا يضيّعه الله. ويجعل من تمام مغفرته للقاتل: تعويض المقتول. لأن مصيبته لم تنجبر بقتل قاتله، والتوبة النصوح تهدم ما قبلها. فيعوض هذا عن مظلمته. ولا يعاقب هذا لكمال توبته. وصار هذا كالكافر المحارب لله ولرسوله إذا قتل مسلماً في الصف، ثم أسلم وحسن إسلامه؛ فإن الله سبحانه يعوّض هذا الشهيد المقتول، ويغفر للكافر بإسلامه، ولا يؤاخذه بقتل المسلم ظلماً. فإن هدم التوبة لما قبلها كهدم الإسلام لما قبله. وعلى هذا إذا سلّم نفسه وانقاد، فعفا عنه الوليّ، وتاب القاتل توبةً نصوحاً، فالله تعالى يقبل توبته، ويعوض المقتول" .
رواه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب الاستغفار (2702).
مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة (ص 259).
مدارج السالكين (1/182).
شرح صحيح مسلم (17/59).
شرح صحيح مسلم للنووي (17/59)، وانظر رياض الصالحين (ص 10-11).
لوامع الأنوار البهيّة للسفاريني (1/372).
فتح الباري (11/103).
انظر: المعاصي وآثارها (ص 332).
رواه البخاري في الدعوات، باب أفضل الاستغفار (6306).
فتح الباري (11/99).
تفسير القرآن العظيم (2/462).
رواه أحمد (5/153) والترمذي في البر، باب ما جاء في معاشرة الناس (1987) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (96).
رواه البخاري في تفسير القرآن، باب قوله: {وأقم الصلاة طرفي النهار...} (4687)، ومسلم في التوبة، باب قوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} (2763).
شرح صحيح مسلم (17/79).(/9)
رواه مسلم في الذكر والدعاء، باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب (2733).
تفسير القرأن العظيم (4/71).
رواه البخاري في المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض (5642)، ومسلم في البر، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن (2572).
رواه الترمذي في الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء (2401) وقال: حديث حسن صحيح.
رواه مسلم في الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631).
رواه البخاري في الوصايا، باب ما يستحب لمن توفي فجأة أن يتصدقوا عنه (2760)، ومسلم في الزكاة، باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه (1004).
فتح الباري (5/458).
رواه مسلم في الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية (183).
المعاصي وآثارها (ص 359).
رواه البخاري في الدعوات، باب لكل نبي دعوة مستجابة (6305) واللفظ له، ومسلم في الإيمان، باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته (200).
فتح الباري (11/100).
رواه مسلم في الزكاة، باب إثم مانع الزكاة (987).
رواه البزّار كما في كشف الأستار (262)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (1/237)، وقال: رواه البزار ورجاله موثوقون، والحديث حسن إن شاء الله. وحسّنه المنذري أيضاً في الترغيب والترهيب (1/103).
رواه البخاري في مواقيت الصلاة، باب: الصلوات الخمس كفارة (528)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تُمحى به الخطايا (667) واللفظ له.
انظر: المرض والكفارات لابن أبي الدنيا ومعرفة الخصال المكفّرة لابن حجر العسقلاني، و، وغيرهما. وانظر أيضاً: منهاج السنة (6/205-238)، وشرح العقيدة الطحاوية (ص 327-330).
مدارج السالكين (1/338-339) باختصار.
وهي قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.
فتح القدير للشوكاني (1/718)، وانظر: روح المعاني للآلوسي (4/240) (13/196).
مجموع الفتاوى (8/271).
انظر: تنوير الحوالك شرح موطأ الإمام مالك للسيوطي (1/53-54).
التمهيد (4/44-45).
رواه مسلم في الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئاً (93).
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/290).
انظر: مراتب الإجماع لابن حزم (ص 173)، والمفهم للقرطبي (1/290)، وشرح صحيح مسلم للنووي (1/277، 430) (2/20).
انظر: تفسير آيات أشكلت لابن تيمية (1/361-365).
الجواب الكافي (ص 317)، وانظر: عقيدة المسلمين للبليهي (1/339)، والشرك في القديم والحديث (1/176) لأبي بكر محمد زكريا.
انظر: ما قاله ابن تيمية في تلخيص كتاب الاستغاثة (1/301)، وما قاله الشيخ عبد العزيز السلمان في الكواشف الجلية (ص 322).
رواه البخاري في الرقاق، باب القصاص يوم القيامة (6534).
رواه مسلم في البر والصلة والآداب باب تحريم الظلم (2581).
أورد الحافظ ابن حجر في كتابه قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج حديثاً في فضائل الحج بأن الله يتحمّل حتى التبعات وهو حسنٌ بطرقه.
فتح الباري (11/103).
انظر: مدارج السالكين (1/430).
رواه النسائي في تحريم الدم، باب تعظيم الدم (3998)، والترمذي في تفسير القرآن باب ومن سورة النساء (3029)، وصححه الألباني كما في صحيح النسائي (3/840)، وانظر: جامع الأصول (2/97-98).
مدارج السالكين لابن القيم (1/430-431)، وانظر: تفاصيل الكلام على قاتل العمد هل له توبة؟ في العواصم والقواصم لابن الوزير (9/21-68)، فقد أطال الكلام عليه ومدارج السالكين (1/424-431) وفتح الباري (3/269) والكلام على حقيقة الإسلام والإيمان لابن تيمية بتحقيق د.محمد حسن الشيباني (ص241).(/10)
الكبيرة تجر إلى ما هو أكبر ...
05-12-2005
كثيراً تلك القصص التي نسمعها وتهتز لها نفوسنا ، فكم من قصة مؤثرة احتار العقل أمام أبطال أحداثها ، بل منها ما يشك العاقل بآدمية أصحابها لفظاعة الموقف التي تقشعر منه الأبدان ، وتشيب لهوله الولدان ، إلا أن أحداث قصتنا هذه مغايرة لكل القصص التي سمعت، إذ يعتقد السامع لها أنها قصة من وحي الخيال ، فإن أحداثها تكاد لا تخطر على قلب بشر يعرف ماهية الحياة خيرها وشرها، لكنها قصة واقعية حصلت على مسمع ومرأى كثير من الناس وتتلخص أحداثها فيما يلي :
بينما كان الطفل الذي لم يبلغ سبع سنين من عمره يلعب مع أصحابه في غيابة كاملة عن أولئك الوحوش البشرية ، يلعبون وبراءة الطفولة تحجب عن أذهانهم أطماع البائسين ، واستغلال الذئاب البشرية التي تنهش لحوم الأبرياء والضعفاء من غير رحمة أو شفقة ، إذ يعتزل هذا الطفل البريء أصحابه ، ويمضي على قارعة الطريق وحيداً يردد تلك الأغنيات الجميلة التي جعلته يحسن الثقة بمن حوله من الناس خاصة أقرباءه وجيرانه وأهل حارته ،إذ يقف رجل يبلغ السابعة والخمسين من عمره بسيارته جانب الطفل ويطلب منه الصعود إلى السيارة ، ينظر الطفل إلى هذا الرجل ذي الابتسامة العريضة ، ويمتلئ فرحاً برؤيته ، إنه جاره العزيز المحب للخير وأهله ، فهو بمنزلة أبيه إن لم يكن جده ، يصعد الطفل إلى السيارة بكل فرح وثقة وثبات ، دون أن يخطر بباله الخبث العظيم الذي يخبئه له ذلك الرجل اللئيم ميت القلب ، بل حقيقة لا أجد كلاماً مناسباً أعبر به عن وحشية ذلك الرجل الشرير ، يصعد الطفل السيارة وقد ملء القلب بهجة وسروراً ، كيف لا وهو يصاحب رجلاً عزيزاً على قلبه يصاحب جاره ، وصاحب أبيه ، يصعد الطفل إلى السيارة ثم ينظر الرجل يميناً ويساراً هل من أحد يراه ، ثم يطمئن أن لا أحد ، ينطلق بسيارته التي جمعت براءة الطفولة والنية الصادقة ، والخبث والخساءة والدناءة ، تنطلق السيارة بعيداً عن أعين الناس ، تنطلق إلى حرش كبير تسهل فيه الرذيلة ، وتنقطع فيه الفضيلة ، تقف السيارة ويخرج الرجل الشرير منها طالباً من الطفل النزول ، ينزل الطفل من السيارة متسائلا أين أنا؟ ما هذا المكان الموحش؟ لماذا جاء بي هذا الرجل إلى هنا؟ أسئلة كثيرة تدور في خلد الطفل ، لكنه لم يصل إلى حقيقة مراد ذلك الرجل الأثيم ، وبينما كان الطفل يجول بفكره مستغرباً الأمر ، إذ سمع صوتاً أفظع من صوت الرعد في الليلية المطيرة ، صوتاً كأنما يزلزل الأرض لهوله ، صوتاً أذهل الطفل وأبدل سروره حزناً ، وأمنه خوفاً ، صوتاً يحمل أدنى دركات الحقارة والخبث ، يقول له : اخلع ثيابك ، الطفل ولمَ يا عم ؟ اخلع هيا لا تضيع الوقت ، الطفل يتوسل : أرجوك يا عماه أرجوك خذ بي إلى أمي ، اخلع قلت لك لا وقت لدي هيا اخلع ثيابك واقفل فمك ، الطفل يصيح ويصيح يستنجد ويستنجد ولكن لا حياة لمن ينادي ، الرجل الشرير يأخذ يضرب بالطفل البريء ويمزق عليه ثيابه حتى أصبح الطفل عارياً لا ثوب يستره ، ولا قلب يشفق عليه، وهكذا يستلقي الطفل في أحضان هذا الرجل العجوز الذي لم يرقب فيه إلاً ولا ذمة ، يستلقي في أحضان هذا الرجل البشع ولا يعلم أيصيح من شدة الألم ، أم يرتجف من شدة الخوف ، ولكنه لا زال يهاتف الرجل : أرجوك يا عماه ، أتوسل إليك أعدني إلى أمي أرجوك يا سيدي أرجوك كفى ، إلا أن ذلك الرجل البشع يواصل جريمته النكراء غير مبال بتلك الاستنجادات الضعيفة التي تخرج من فم طفل بريء لا ذنب له إلا أنه أطاع رجلاً حقيراً بل في أدنى دركات الحقارة ، ولم يستفق ذلك الرجل إلا على حرارة الدماء التي تسيل من دبر الطفل كأنها سيل ، يستفيق الرجل ويحتار في الأمر ماذا يفعل ، يأخذ يطبب الطفل عسى الدماء أن تنقطع ولكن سيل الدماء أعظم من تلك المحاولات البائسة ، ماذا يصنع الرجل ليخفي جريمته ، فقد كاد يفضح أمره ، يفكر الرجل ، فلا يجد إلا أن يرضخ رأس الطفل في صخرة قريبة منه ليتخلص من الطفل إلى الأبد ، وهكذا ترتقي روح الطفل إلى بارئها ، يموت الطفل بأبشع جريمة عرفتها البشرية ، يموت الطفل ويبقى مسجى في ذلك الحرش دون رفاق ، ويذهب الرجل الشرير إلى حاله ، وفي المساء يزداد قلب الأم لوعة وخوفاً على طفلها تصرخ بالأب : أين ابنك ؟اذهب وابحث عنه ، الأب حائراً أين طفلي ؟ أين ذهب ؟ لا جواب ، يخرج الأب من منزله حائراً لا يعرف ماذا يفعل ، أين يبحث عن طفله ؟ من يسأل ؟ وإذا به بذلك الرجل الشرير ، يقول له الرجل : ماذا بك ؟ أراك قلقاً .
الأب : نعم : لقد تأخر طفلي كثيراً وأصبحت وأمه قلقين عليه .
الرجل الشرير : وهل من عادة طفلك التأخر إلى هذا الوقت ؟
الأب : كلا طبعاً ، إنها المرة الأولى ولذلك أنا قلق عليه .
الرجل الشرير ، لعله عند أحد أقاربه ؟
الأب : ربما.
الرجل الشرير : ما رأيك أن نذهب معاً بسيارتي للبحث عنه ؟
الأب : ولكن أخاف أن أثقل عليك .(/1)