الغفلة المهلكة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.. أما بعد:
يقول الله تعالى: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ) [ الأنبياء: 1]،. والذي يتأمل أحوال الناس في هذا الزمن يرى تطابق الآية تماماً مع واقع كثير منهم وذلك من خلال ما يرى من كثرة إعراضهم عن منهج الله وغفلتهم عن الآخرة وعن ما خلقوا من أجله، وكأنهم لم يخلقوا للعبادة، وإنما خلقوا للدنيا وشهواتها، فإنهم إن فكروا فللدنيا وإن أحبوا فللدنيا، وإن عملوا فللدنيا، فيها يتخاصمون ومن أجلها يتقاتلون وبسببها يتهاونون أو يتركون كثيرأ من أوامر ربهم، حتى أن بعضهم مستعد أن يترك الصلاة أو يؤخرها عن وقتها من أجل اجتماع عمل أو من أجل مباراة أو موعد مهم ونحو ذلك !! كل شيء في حياتهم له مكان ! للوظيفة مكان، للرياضة مكان، للتجارة مكان للرحلات مكان، للأفلام والمسلسلات وللأغاني مكان، للنوم مكان، للأكل والشرب مكان، كل شيء له مكان إلا القرآن وأوامر الدين، تجد الواحد منهم ما أعقله وأذكاه في أمور دنياه، لكن هذا العاقل المسكين لم يستفد من عقله فيما ينفعه في أُخراه، ولم يقدة عقله إلى أبسط أمر وهو طريق الهداية والاستقامة على دين الله الذي فيه سعادته في الدنيا والآخرة، وهذا هو والله غاية الحرمان (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) ! من يرى أحوالهم وما هم عليه من شدة جرأتهم على ارتكاب المعاصي وتهاونهم بها يقول: إن هؤلاء إما أنهم لم يصدقوا بالنار، أو أن النار قد خلقت لغيرهم، نسوا الحساب والعقاب وتعاموا عن ما أمامهم من أهوال وصعاب ( لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ) ![ الحجر: 72.] انشغلوا براحة أبدانهم وسعادتها في الدنيا الفانية وأهملوا سعادتها وراحتها في الأخرى الباقية.
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته
أقبل على الروح واستكمل فضائلها
أتعبت جسمك فيما فيه خسران
فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
ما أحرصهم على أموالهم وما أحرصهم على وظائفهم، وصحتهم، لكن أمور دينهم والتفقه فيها وتطبيقها والتقيد بها فهي آخر ما يفكرون فيه إن هم فكروا.
أوقاتهم ضائعة بلا فائدة، بل إن أغلبها قد تضيع في المحرمات وإضاعة الواجبات يبحثون بزعمهم عن الراحة والسعادة، وهم بعملهم هذا لن يجدوا إلا الشقاء والتعاسة، شعروا بذلك أم لم يشعروا لقوله تعالى: ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى) [طه: 124]، حتى أصبح حال الكثيرين من هؤلاء كما قال الشاعر:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة
وشغلك فبما سوف تكره غبه
وليلك نوم والردى لك لازم
كذلك في الدنيا تعيش البهائم
ولقد مات عند الكثير من هؤلاء الشعور بالذنب، ومات عندهم الشعور بالتقصير، حتى ظن الكثير منهم أنه على خير عظيم، بل ربما لم يرد على خاطره أنه مقصر في أمور دينه، فبمجرد قيامه بأصول الدين ومحافظته على الصلوات ظن في نفسه خيرأ عظيماً، وأنه بذلك قد حاز الإسلام كله وأن الجنة تنتظره في نهاية المطاف، ونسي هذا المسكين مئات بل آلاف الذنوب والمعاصي التي يرتكبها صباحاً ومساءً من غيبة أو بهتان أو نظرة إلى الحرام أو شرب لحرام أو حلق لحية أو إسبال ثوب أو غير ذلك من المعاصي والمخالفات التي يستهين بها ولا يلقي لها بالاً ويظن أنها لا تضره شيئاً وهي التي قد تكون سبباً لهلاكه وخسارته في الدنيا والآخرة وهو لا يشعر لقوله صلى الله عليه وسلم : "إياكم ومحقرات الذنوب فإنها إذا اجتمعت على العبد أهلكته " ، ناهيك عن ما يرتكبه البعض من كبائر وموبقات من ربا وزنا ولواط ورشوة وعقوق ونحو ذلك..وإن المرء ليعجب والله أشد العجب! ألم يمل أولئك هذه الحياة؟ ألم يسألوا أنفسهم؟ ثم ماذا في النهاية؟ ماذا بعد كل هذه الشهوات والملذات ؟ ماذا بعد هذا اللهو والعبث؟ ماذا بعد هذه الحياة التافهة المملوءة بالمعاصي والمخالفات؟ هل غفل أولئك عما وراء ذلك.. هل غفلوا عن الموت والحساب والقبر والصراط، والنار والعذاب، أهوال وأهوال وأمور تشيب منها مفارق الولدان، ذهبت اللذات وبقيت التبعات، وانقضت الشهوات وأورثت الحسرات، متاع قليل ثم عذاب أليم وصراخ وعويل في دركات الجحيم، فهل من عاقل يعتبر ويتدبر ويعمل لما خلق له ويستعد لما أمامه.
تا الله لو عاش الفتى في عمره
متلذذاً فيها بكل نعيم
ما كان ذلك كله في أن يفي
ألفاً من الأعوام مالك أمره
متنعماً فيها بنعمى عصره
بمبيت أول ليلة في قبره(/1)
إن مثل هؤلاء المساكين الغافلين السادرين في غيّهم قد أغلقت الحضارات الحديثة أعينهم وألهتهم الحياة الدنيا عن حقائقهم ومآلهم، ولكنهم سوف يندمون أشد الندم إذا استمروا في غيهم ولهوهم وعنادهم ولم يفيقوا من غفلتهم وسباتهم ويتوبوا إلى ربهم. يقول تعالى عن مثل هؤلاء: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ) [الحجر: 3] أي دعهم يعيشوا كالأنعام ولا يهتمون إلا بالطعام والشراب واللباس والشهوات!؟. ألم يأن لكل مسلم أن يعلم حقيقة الحياة والغاية التي من أجلها خلق ؟
أما والله لو علم الأنام
لقد خلقوا لما لو أبصرته
ممات ثم قبرثم حشر
لما خلقوا لما غفلوا وناموا
عيون قلوبهم تاهوا وهاموا
وتوبيخ وأهوال عظام
أخي الحبيب:
يا من تقرأ هذه الرسالة قف قليلا مع هذه الأسطر وراجع نفسك وحاسبها وانظر كيف أنت في هذه الحياة، هل أنت من أولئك اللاهين الغافلين أم لا؟ وهل أنت تسير في الطريق الصحيح الموصل إلى رضوان الله وجنته، أم أنك تسير وفق رغباتك وشهواتك حتى ولو كان في ذلك شقاؤك وهلاكك، انظر أخي في أي الطريقين تسير فإن المسألة والله خطيرة وإن الأمر جد وليس بهزل، ولا أظن أن عندك شيء أغلى من نفسك فاحرص على نجاتها وفكاكها من النار ومن غضب الجبار، انظر أخي الحبيب كيف أنت مع أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ، هل عملت بهذه الأوامر وطبقتها في واقع حياتك أم أهملتها وتجاهلتها وطبقت ما يناسبك ويوافق رغباتك وشهواتك.
إن الدين أخي الحبيب كلٌ لا يتجزأ؛ لأن الالتزام ببعض أمور الدين وترك الأمور الأخرى يعتبر استهتار بأوامر الله وتلاعب بها، وهذا لا يليق بمسلم أبداً وقد نهى الله عن ذلك وتوعد من فعله بوعيد شديد فقال عز من قائل: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) [البقرة: 85]. إن المسلم الحق وقته كله عبادة والدين عنده ليس شعائر تعبدية فحسب يؤديها ثم يعيش بعد ذلك فيما بين الشعيرة والشعيرة بلا دين ولا عبادة!! فيأكل الحرام ويشرب الحرام ويسمع الحرام ويشاهد الحرام ويعمل الحرام ويتكلم بالحرام!! إن من يفعل ذلك لم يفهم حقيقة الإسلام الذي يحمله وينتمي إليه.
أخي الحبيب:
يا من تعصي الله إلى متى هذه الغفلة؟ إلى متى هذا الإعراض عن الله؟ ألم يأن لك أخي أن تصحو من غفلتك؟ ألم يأن لهذا القلب القاسي أن يلين ويخشع لرب العالمين (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ) [الحديد: 16]، أعلنها أخي توبةً صادقةً وكن شجاعاً، وكن حقاً عبداً لله تعالى، وهل يكون الإنسان عبداً حقيقياً لله وهو متمرداً على مولاه أينما يوجهه لا يأتي بخير.. ألم يأن لك أخي أن تسير في قافلة التائبين؟ هل أنت أقل منهم؟ حاشاك ذلك؟ ألا تريد ما يريدون؟ هل هم في حاجة إلى ما عند الله من الثواب وأنت في غنى عنه؟ هل هم يخافون الله وأنت قوي لا تخافه؟
ألا تريد الجنة يا أخي؟ تخيّل يا أخي النظر إلى وجه ربك الكريم في الجنة وتخيّل أنك تصافح نبيك محمداً صلى الله عليه وسلّم وتقبله وتجالس الأنبياء والصحابة في الجنة، قال تعالى: ( ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً) [النساء: 69]، وتخيّل أخي نفسك وأنت في النعيم المقيم في جنات عدن بين أنهار من ماء وأنهار من لبن وأنهار من خمر وأنهار من عسل مصفى وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، ولك فيها ما تشتهيه نفسك وتلذ عينك، تخيّل كل هذا النعيم في جنة عرضها السماوات والأرض، وتخيّل في مقابل ذلك النار وزقومها وصديدها وحرها الشديد وقعرها البعيد، وعذاب أهلها الدائم الذي لا ينقطع قال تعالى: (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍ أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق) [الحج: 22]، تخيّل كل ذلك لعله أن يكون عوناً لك على التوبة والإنابة والرجوع إلى الله، ووالله إنك لن تندم على التوبة أبداً، بل إنك سوف تسعد بإذن الله في الدنيا والآخرة سعادة حقيقية، لا وهمية زائفة، فجرّب يا أخي هذا الطريق من اليوم ولا تتردد، ألست تقرأ في صلاتك كل يوم (اهدنا الصراط المستقيم) [الفاتحة: 6]، فما دمت تريد الصراط المستقيم فلماذا لا تسلكه وتسير فيه!!
أخي الحبيب:(/2)
إياك إياك أن تغتر بهذه الدنيا وتركن إليها وتكون هي همك وغايتك، فإنك مهما عشت فيها ومهما تنعمت بها فإنك راحل عنها لا محالة، فيا أسفاً لك أخي إذا جاءك الموت ولم تتب ويا حسرةً لك إذا دعيت إلى التوبة ولم تجب، فكن أخي عاقلا فطناً واعمل لما أنت مقدم عليه فإن أمامك الموت بسكراته، والقبر بظلماته، والحشر بشدائده وأهواله، وهذه الأهوال ستواجهها حتماً وحقاً وستقف بين يدي الله وستسأل عن أعمالك كلها صغيرها وكبيرها فأعد للسؤال جواباً (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) [الحجر: 92، 93،]. ووالله إنه لا يليق بعاقل أبداً أن يلهو ويلعب في هذه الدنيا ويعصي الله وأمامه مثل تلك الأهوال العظيمة، ووالله إنها لأكبر فرصة أن أمهلك الله وأبقاك حياً إلى الآن وأعطاك فرصة للتوبة والإنابة والرجوع إليه فاحمد الله على ذلك ولا تضيع هذه الفرصة وتب إلى الله ما دمت في زمن المهلة قبل النقلة، وتذكر أولئك الذين خرجوا من الدنيا ووالله لتخرجن أنت منها كما خرجوا، لكنك أنت الآن في دار العمل وتستطيع التوبة والعمل، وأما هم فحال الكثيرين منهم يتمنى الرجوع والتوبة ولسان حالهم يقول كما في قوله تعالى: (يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون ) [الأنعام: 31]. فاحذر أخي أن تغلط غلطتهم فتندم حين لا ينفع الندم. أنقذ نفسك من النار ما دام الأمر بيدك قبل أن تقول: (رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت ) [المؤمنون: 100]، فلا تجاب حينها لذلك. فإني والله لك من الناصحين وعليك من المشفقين.
إذا ما نهاك امرؤ ناصح
إن دنيا يا أخي من بعدها
لا تساوي حبة من خردل
عن الفاحشات انزجر وانتهي
ظلمة القبر و صوت النائحي
أو تساوي ريشة من جانحي
وفقني الله وإياك لما يحب ويرضى وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إعداد المكتب التعاوني للدعوة و الإرشاد(/3)
الغفلة
إن الله تعالى خلق الخلق لعبادته، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض، ورغَّبهم في الجنة، ورهَّبهم من النار، وذكرهم بما هم مقبلون عليه بعد الموت من أهوال وكربات عظام، لكن الكثير من الناس ينسى هذه الحقائق ويغفل عنها: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)[الأنبياء:1- 2]، حتى إن المرء لو نظر لأحوال هؤلاء لوجد جرأة عجيبة على الله، وسَيْرًا في طريق المعاصي والشهوات، وتهاونًا بالفرائض والواجبات، فيتساءل: هل يُصدِّق هؤلاء بالجنة والنار؟ أم تراهم وعدوا بالنجاة من النار وكأنها خلقت لغيرهم؟ يقول الله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون:115].
إن حال هؤلاء يصدق فيه قول القائل:
نهارك يا مغرور سهو وغفلةٌ.. ... ..وليلك نومٌ والردى لك لازمٌ
وشغلك فيما سوف تكره غبه ... .... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
**بين الغفلة وصاحبها
الغفلة تستحكم في القلب حين يتبع المرء هواه؛ فيوالي أوامر الشيطان، وينسى هدي الرحمن. قال سبحانه: "وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا".
تمر الجنائز بالناس يجهزونها ويصلون عليها ويسيرون خلفها يشيعونها محمولة إلى مثواها الأخير. فتراهم يلقون عليها نظرات عابرة، وربما طاف بهم طائف من الحزن يسير. أو أظلهم ظلال من الكآبة خفيف. ثم سرعان ما يغلب على الناس نشوة الحياة وغفلة المعاش.
أهل الغفلة أعمارهم عليهم حجة، وأيامهم تقودهم إلى شقوة. كيف ترجى الآخرة بغير عمل ؟ أم كيف ترجى التوبة مع الغفلة والتقصير وطول الأمل؟.
يا أهل الغفلة: هذه الدنيا كم من واثق فيها فجعته؟ وكم من مطمئن إليها صرعته؟؟ وكم من محتال فيها خدعته؟ وذي نخوة أردته ذليلا؟ سلطانها دول، وحلوها مر، وعذبها أجاج، وعزيزها مغلوب، العمر فيها قصير، والعظيم فيها يسير، وجودها إلى عدم، وسرورها إلى حزن، وكثرتها إلى قلة، وعافيتها إلى سقم، وغناها إلى فقر. دارها مكارة، وأيامها غرارة، ولأصحابها بالسوء أمارة. الأحوال فيها إما نعم زائلة وإما بلايا نازلة وإما منايا قاضية. عمارتها خراب، واجتماعها فراق، وكل ما فوق التراب تراب.
أهل الغفلة لا يشبعون مهما جمعوا، ولا يدركون كل ما أملوا، يجمعون ولا ينتفعون، ويبنون ما لا يسكنون. ويأملون ما لا يدركون: ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3].
يا أهل الغفلة أيها المسلمون أيها المسلمات: (أكثروا من ذكر هادم اللذات)[2] بهذا أوصى نبيكم محمد . كلام مختصر وجيز، قد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة؛ فمن ذكر الموت حق ذكره حاسب نفسه في عمله وأمانيه ولكن النفوس الراكدة والقلوب الغافلة – كما يقول القرطبي رحمه الله – تحتاج إلى تطويل الوعاظ وتزويق الألفاظ.
أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات، (فما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه، ولا سعة إلا ضيقها)[3].
وايمْ الله ليوشكن الباقي منا ومنكم أن يبلى، والحي منا ومنكم أن يموت وأن تدال الأرض منا كما أدلنا منها، فتأكل لحومنا وتشرب دماءنا، كما مشينا على ظهرها وأكلنا من ثمرها وشربنا من مائها، ثم تكون كما قال الله: وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاواتِ وَمَن فِى الأرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ [الزمر:68].
لقد وقف نبيكم محمد على شفير قبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال: (يا إخواني لمثل هذا فأعدوا)[4]، وسأله عليه الصلاة والسلام رجل فقال: من أكيس الناس يا رسول الله؟ فقال: (أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم استعدادا له، أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة)[5].(الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت)[6].
يقول الحسن رحمه الله: إن الموت قد فضح الدنيا فلم يدع لذي لبٍّ بها فرحا.
ويقول يونس بن عبيد: ما ترك ذكر الموت لنا قرة عين في أهل ولا مال.
ويقول مطرِّفٌ: إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا نعيما لا موت فيه. لقد أمِنَ أهل الجنة الموت فطاب لهم عيشهم وأمنوا الأسقام فهنيئا لهم طول مقامهم.
اللحود مساكنهم، والتراب أكفانهم، والرفات جيرانهم لا يجيبون داعيا، ولا يسمعون مناديا. كانوا أطول أعمارا وأكثر آثارا، فما أغناهم ذلك من شيء لما جاء أمر ربك، فأصبحت بيوتهم قبورا، وما جمعوا بورا، وصارت أموالهم للوارثين، وأزواجهم لقوم آخرين. حلَّ بهم ريب المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].(/1)
هل تفكرت يا عبد الله يوم المصرع، يوم ليس لدفعه حيلة، ولا ينفع عند نزوله ندم. أزِلْ عن قلبك غشاوة الغافلين، فإنك واقف بين يدي من يعلم وسواس الصدور، ومن يسأل عن لحظات العيون، ويحاسب على إصغاء الأسماع: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].
تذكر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، ويمنع الركون إلى الدنيا، ويهون المصائب.
تذكروا الموت لعلكم تسلمون من حسرة الفوت.
**إن من أعظم أسباب الغفلة:
1.الجهل بالله عز وجل وأسمائه وصفاته. والحق أن كثيرًا من الناس لم يعرفوا ربهم حق المعرفة، ولو عرفوه حق المعرفة ما غفلوا عن ذكره، وما غفلوا عن أوامره ونواهيه؛ لأن المعرفة الحقيقية تورث القلب تعظيم الرب ومحبته وخوفه ورجاءه، فيستحي العارف أن يراه ربه على معصية، أو أن يراه غافلاً. فأُنس الجاهلين بالمعاصي والشهوات، أما أُنس العارفين فبالذكر والطاعات.
2. الاغترار بالدنيا والانغماس في شهواتها. قال الله عز وجل: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)[الحجر:3].
إن حال هؤلاء هو سُكْر بحب الدنيا وكأنهم مخلدون فيها، لن يخرجوا منها، مع أن القرآن يهتف بنا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[فاطر:5].
إن سكران الدنيا لا يفيق منها إلا في عسكر الموتى نادما مع الغافلين.
3. صحبة السوء، فقد قيل: الصاحب ساحب، والطبع يسرق من الطبع، فمن جالس أهل الغفلة والجرأة على المعاصي سرى إلى نفسه هذا الداء : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً)[الفرقان:27-29].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "المرء على دين خليله ...." الحديث.
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: إن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين، فليتخير العبد أعجبهما إليه وأَولاهما به، فهو مع أهله في الدنيا والآخرة.
يقول الله تعالى: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ) [ الأنبياء: 1] ،
** فلو نظرت إلى أحوال الخلق من مرقب عال، وسَبَرت حالهم في مجمله؛ لم تميز بين مجتمعهم، وبين مجتمع المغضوب عليهم والضالين إلا في بعض المظاهر والشعارات:
لهث وراء المادة في غير اقتصاد
اكتساب من غير احتساب
سهر في غير طاعة..عمل بغير نية.. تجارة في لهو عن ذكر الله..
ولاء لعدو الله.. حرفة في جهل بدين الله.. وظيفة في الإخلاص لغير الله.
. أحكام في مشاقة الله.. شغلٌ في ضلالة.. قعود في بطالة..
حياة في غفلة وجهالة وشتات وفرقة. أمة لم تتميز.
فهي والأحداث تستهدفها تعشق اللهو وتهوى الطربا
أمة قد فت في ساعدها بغضُها الأهلَ وحبُّ الغُرَبا
والذي يتأمل أحوال الناس في هذا الزمن يرى كثرة إعراضهم عن منهج الله وغفلتهم عن الآخرة وعن ما خلقوا من أجله وكأنهم لم يخلقوا للعبادة، وإنما خلقوا للدنيا وشهواتها، فإنهم إن فكروا فللدنيا وإن أحبوا فللدنيا.وإن عملوا فللدنيا، فيها يتخاصمون ومن أجلها يتقاتلون وبسببها يتهاونون أو يتركون كثيرا من أوامر ربهم، حتى أن بعضهم مستعد أن يترك الصلاة أو يؤخرها عن وقتها من أجل اجتماع عمل أو من أجل مباراة أو موعد مهم ونحو ذلك !! كل شيء في حياتهم له مكان ! للوظيفة مكان، للرياضة مكان، للتجارة مكان للرحلات مكان، للأفلام والمسلسلات وللأغاني مكان، للنوم مكان، للأكل والشرب مكان، كل شيء له مكان إلا القرآن وأوامر الديان، تجد الواحد منهم ما أعقله وأذكاه في أمور دنياه، لكن هذا العاقل المسكين لم يستفد من عقله فيما ينفعه في أُخراه، ولم يقده عقله إلى أبسط أمر وهو طريق الهداية والاستقامة على دين الله الذي فيه سعادته في الدنيا والآخرة، وهذا هو والله غاية الحرمان (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) ! من يرى أحوالهم وما هم عليه من شدة جرأتهم على ارتكاب المعاصي وتهاونهم بها يقول: إن هؤلاء إما أنهم لم يصدقوا بالنار، أو أن النار قد خلقت لغيرهم، نسوا الحساب والعقاب وتعاموا عما أمامهم من أهوال وصعاب ( لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ) ![ الحجر: 72.]. انشغلوا براحة أبدانهم وسعادتها في الدنيا الفانية، وأهملوا سعادتها وراحتها في الأخرى الباقية. ما أحرصهم على أموالهم وما أحرصهم على وظائفهم، وصحتهم، لكن أمور دينهم والتفقه فيها وتطبيقها والتقيد بها فهي آخر ما يفكرون فيه إن هم فكروا.(/2)
أوقاتهم ضائعة بلا فائدة، بل إن أغلبها قد تضيع في المحرمات وإضاعة الواجبات؛ يبحثون بزعمهم عن الراحة والسعادة، وهم بعملهم هذا لن يجدوا إلا الشقاء والتعاسة، شعروا بذلك أم لم يشعروا لقوله تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى) [طه: 124]، ولقد مات عند الكثير من هؤلاء الشعور بالذنب، ومات عندهم الشعور بالتقصير، حتى ظن الكثير منهم أنه على خير عظيم، بل ربما لم يرد على خاطره أنه مقصر في أمور دينه، فبمجرد محافظته على الصلوات ظن في نفسه خيرا عظيماً، وأنه بذلك قد حاز الإسلام كله وأن الجنة تنتظره في نهاية المطاف، ونسي هذا المسكين مئات الذنوب والمعاصي التي يرتكبها صباحاً ومساءً: من غيبة أو بهتان أو نظرة إلى الحرام أو شرب لحرام أو غير ذلك من المعاصي والمخالفات، التي يستهين بها ولا يلقي لها بالاً ويظن أنها لا تضره شيئاً وهي التي قد تكون سبباً لهلاكه وخسارته في الدنيا والآخرة وهو لا يشعر لقوله صلى الله عليه وسلم : "إياكم ومحقرات الذنوب فإنها إذا اجتمعت على العبد أهلكته "، ناهيك عن ما يرتكبه البعض من كبائر وموبقات من ربا وزنا ولواط ورشوة وعقوق ونحو ذلك.
وإن المرء ليعجب والله أشد العجب! ألم يمل أولئك هذه الحياة؟ ألم يسألوا أنفسهم؟ ثم ماذا في النهاية؟ ماذا بعد كل هذه الشهوات والملذات؟ ماذا بعد هذا اللهو والعبث؟ ماذا بعد هذه الحياة التافهة المملوءة بالمعاصي والمخالفات؟ هل غفل أولئك عما وراء ذلك؟ هل غفلوا عن الموت والحساب والقبر والصراط، والنار والعذاب، أهوال وأهوال وأمور تشيب منها مفارق الولدان، ذهبت اللذات وبقيت التبعات، وانقضت الشهوات وأورثت الحسرات، متاع قليل ثم عذاب أليم وصراخ وعويل في دركات الجحيم، فهل من عاقل يعتبر ويتدبر، ويعمل لما خلق له ويستعد لما أمامه مثل هؤلاء المساكين الغافلين السادرين في غيّهم قد أغلقت الحضارات الحديثة أعينهم، وألهتهم الحياة الدنيا عن حقائقهم ومآلهم، ولكنهم سوف يندمون أشد الندم إذا استمروا في غيهم ولهوهم وعنادهم ولم يفيقوا من غفلتهم وسباتهم ويتوبوا إلى ربهم. يقول تعالى عن مثل هؤلاء: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ) [الحجر: 3] أي دعهم يعيشون كالأنعام ولا يهتمون إلا بالطعام والشراب واللباس والشهوات!؟. ألم يأن لكل مسلم أن يعلم حقيقة الحياة والغاية التي من أجلها خلق ؟
تا الله لو عاش الفتى في عمره ألفاً من الأعوام مالك أمره
متلذذاً فيها بكل نعمة متنعماً فيها بنعمى عصره
ما كان ذلك كله في أن يفي بمبيت أول ليلة في قبره
أخي الحبيب:
قف قليلأ وراجع نفسك وحاسبها وانظر كيف أنت في هذه الحياة، هل أنت من أولئك اللاهين الغافلين أم لا؟ وهل أنت تسير في الطريق الصحيح الموصل إلى رضوان الله وجنته، أم أنك تسير وفق رغباتك وشهواتك حتى ولو كان في ذلك شقاؤك وهلاكك، انظر أخي في أي الطريقين تسير فإن المسألة والله خطيرة وإن الأمر جد وليس بهزل، ولا أظن أن عندك شيء أغلى من نفسك فاحرص على نجاتها وفكاكها من النار ومن غضب الجبار، انظر أخي الحبيب كيف أنت مع أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ، هل عملت بهذه الأوامر وطبقتها في واقع حياتك أم أهملتها وتجاهلتها وطبقت ما يناسبك ويوافق رغباتك وشهواتك.
* إن المسلم الحق وقته كله عبادة والدين عنده ليس شعائر تعبدية فحسب يؤديها ثم يعيش بعد ذلك يأكل الحرام ويشرب الحرام ويسمع الحرام ويشاهد الحرام ويعمل الحرام ويتكلم بالحرام!! إن من يفعل ذلك لم يفهم حقيقة الإسلام الذي يحمله وينتمي إليه.
أخي الحبيب:
إلى متى هذه الغفلة؟ ألم يأن لك أخي أن تصحو من غفلتك؟ ألم يأن لهذا القلب القاسي أن يلين ويخشع لرب العالمين (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) [الحديد: 16]، أعلنها أخي توبةً صادقةً وكن شجاعاً، وكن حقاً عبداً لله تعالى، وهل يكون الإنسان عبداً حقيقياً لله وهو متمرد على مولاه أينما يوجهه لا يأتي بخير. ألم يأن لك أخي أن تسير في قافلة التائبين؟ هل أنت أقل منهم؟ ألا تريد ما يريدون؟ هل هم في حاجة إلى ما عند الله من الثواب وأنت في غنى عنه؟ هل هم يخافون الله وأنت قوي لا تخافه؟
* ألا تريد الجنة يا أخي؟ تخيّل يا أخي النظر إلى وجه ربك الكريم في الجنة وتخيّل أنك تصافح نبيك محمداً صلى الله عليه وسلّم وتجالس الأنبياء والصحابة في الجنة، قال تعالى: (ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً) [النساء: 69]، وتخيّل أخي نفسك وأنت في النعيم المقيم في جنات عدن بين أنهار من ماء وأنهار من لبن وأنهار من خمر وأنهار من عسل مصفى وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، ولك فيها ما تشتهيه نفسك وتلذ عينك، تخيّل كل هذا النعيم في جنة عرضها السماوات والأرض.(/3)
* وتخيّل في مقابل ذلك النار وزقومها وصديدها وحرها الشديد وقعرها البعيد، وعذاب أهلها الدائم الذي لا ينقطع قال تعالى: (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍ أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق) [الحج: 22]، تخيّل كل ذلك لعله أن يكون عوناً لك على التوبة والإنابة والرجوع إلى الله، ووالله إنك لن تندم على التوبة أبداً، بل إنك سوف تسعد بإذن الله في الدنيا والآخرة سعادة حقيقية، لا وهمية زائفة، فجرّب يا أخي هذا الطريق من اليوم ولا تتردد، ألست تقرأ في صلاتك كل يوم (اهدنا الصراط المستقيم)، فما دمت تريد الصراط المستقيم فلماذا لا تسلكه وتسير فيه!!
أخي الحبيب:
* إياك إياك أن تغتر بهذه الدنيا وتركن إليها وتكون هي همك وغايتك، فإنك مهما عشت فيها ومهما تنعمت بها فإنك راحل عنها لا محالة، فيا أسفاً لك أخي إذا جاءك الموت ولم تتب ويا حسرةً لك إذا دعيت إلى التوبة ولم تجب، فكن أخي عاقلا فطناً واعمل لما أنت مقدم عليه فإن أمامك الموت بسكراته، والقبر بظلماته، والحشر بشدائده وأهواله، وهذه الأهوال ستواجهها حتماً وحقاً وستقف بين يدي الله وستسأل عن أعمالك كلها صغيرها وكبيرها فأعد للسؤال جوابأ (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) [الحجر: 92، 93،].
* ووالله إنها لأكبر فرصة أن أمهلك الله وأبقاك حياً إلى الآن وأعطاك فرصة للتوبة والإنابة والرجوع إليه فاحمد الله على ذلك ولا تضيع هذه الفرصة وتب إلى الله ما دمت في زمن المهلة، وتذكر أولئك الذين خرجوا من الدنيا. ووالله لتخرجن أنت منها كما خرجوا، لكنك أنت الآن في دار العمل وتستطيع التوبة والعمل، وأما هم فحال الكثيرين منهم يتمنى الرجوع والتوبة ولسان حالهم يقول كما في قوله تعالى: (يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون) [الأنعام: 31]. فاحذر أخي أن تغلط غلطتهم فتندم حين لا ينفع الندم. وأنقذ نفسك من النار ما دام الأمر بيدك قبل أن تقول: (رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت) [المؤمنون: 100]، فلا تجاب حينها لذلك. فإني والله لك من الناصحين وعليك من المشفقين.
إن دنيا يا أخي من بعدها ظلمة القبر و صوت النائحي
لا تساوي حبة من خردل أو تساوي ريشة من جانحي
أنواع الغفلة:
يُلبِس الشيطان على الإنسان بطرقٍ شتَّى كي يصل به إلى الغفلة، ويستخدم هوى الإنسان ليقوم بهذا الدور، وأبرز ما تكون الغفلة في أمرين:
* الجهر بالمعصية:
من أبرز النقاط التي يتعامل فيها الشيطان مع الناس، هو جعلهم يجاهرون في المعصية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "كلُّ أمَّتي معافى إلا المجاهرين، وإنَّ من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثمَّ يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه، ويصبح يكشف ستر الله عنه"رواه البخاري.
وما ذاك إلا لأنَّ المجاهرة تكون حائلاً كبيراً أمام التوبة، وفيها معاندةٌ ظاهرةٌ لله تعالى، وهذا من أكبر أنواع الغفلة.
* الاغترار بالحسنة:
من أخطر أنواع الغفلة، حيث يدخل الشيطان من الطاعة ليصل بالعبد إلى الغفلة، وذلك بتكبير هذه الطاعة، وتعظيمها في عين العبد، فيظنُّ أنَّه بطاعته تلك قد ضمن الجنَّة ومفاتيحها، ولم يعد في حاجةٍ إلى طاعاتٍ أخرى، ولا يزال الشيطان بالعبد حتى يرديه المهالك، وتقتله الغفلة.
**الدواء
إن الغفلة حجاب عظيم على القلب يجعل بين الغافل وبين ربه وحشة عظيمة لا تزول إلاَّ بذكر الله تعالى. وإذا كان أهل الجنة يتأسفون على كل ساعة مرت بهم في الدنيا لم يذكروا الله فيها، فما بالنا بالغافل اللاهي؟!!
(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[المؤمنون:99، 100].
إنهم عند نزول الموت بساحتهم يتمنون أن يؤخروا لحظات قلائل، والله ما تمنوا عندها البقاء حبًّا في الدنيا ولا رغبة في التمتع بها، ولكن ليتوبوا ويستدركوا ما فات، لكن هيهات (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ)[سبأ:54].
فيا أخي: لقد خُلقنا في هذه الدار لطاعة الله وليست الدنيا بدار قرار:
أما والله لو علم الأنام.. ... .. لم خلقوا لما غفلوا وناموا
لقد خلقوا لما لو أبصرته.. ... ..عيون قلوبهم تاهوا وهاموا
مماتٌ ثم قبرٌ ثم حشرٌ.. ... .. وتوبيخ وأهوالٌ عظامُ
هيا بنا نُقْبِلُ على طاعة الله مكثرين من ذكره، مستفيدين من الأوقات فيما يقربنا من جنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر:
إن لله عبادًا فُطَنًا.. ... .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا.. ... ..أنها ليست لحيٍّ وطنًا
جعلوها لُجَّةً واتخذوا.. ... .. صالح الأعمال فيها سُفُنا
اللهم اجعلنا منهم بمنِّك وكرمك يا رب العالمين.(/4)
.. ولا ينكشف حجاب الغفلة عنه إلا بالانزعاج الناشئ عن انبعاث ثلاثة أنوار في القلب:
1- نور ملاحظة نعمة الله - تعالى - في السر والعلن، حتى يغمر القلب محبته جل جلاله. فإن القلوب فطرت على حب من أحسن إليها.
2- نور مطالعة جناية النفس، حتى يوقن بحقارتها،وتسببها في هلاكه؛ فيعرف ربه جل جلاله بصفات الجمال والكمال،ويحمل على نفسه في عبادة الله. لشكره وطلبه رضاه.
3- نور الانتباه لمعرفة الزيادة والنقصان من الأيام، فيدرك أن عمره رأس ماله؛ فيشمر عن ساعد الجد حتى يتدارك ما فاته في بقية عمره، فيهب لطاعة الله ويدخل نور الله القلب فيستضيء.
* تذكُّر الله تعالى دائما، ورقَّة القلب عند الاستماع للقرآن الكريم.
* بقاء اللسان يلهج باستمرارٍ بذكر الله تعالى، وبالاستغفار.
* النظر في الطاعات، هل أحدنا مفرِّطٌ فيها، أم يؤدِّيها في وقتها، وإن كان يؤدِّيها في وقتها، فهل يستشعرها ويحنُّ إليها، أم هي ثقيلةٌ على قلبه يقوم إليها كسلانا، أو يؤدِّيها وفكره مشغولٌ عنها؟
* النظر في أخلاقنا، هل نلتزم بحسن الخلق، وعدم الغضب، والحِلم، والصبر، وعدم الكذب، وما إلى ذلك من أخلاق، أم لا؟
* النظر في نموذج حياتنا، هل هي تسير وفق ما يرضي الله تعالى، أم أنَّ حياتنا أمام الناس جميلةٌ برَّاقة، فإذا ما خلونا بمحارم الله تعالى انتهكناها؟ وهل نربِّي أهلنا وأولادنا على الإسلام أم نتركهم تتنازعهم وسائل الغواية من كلِّ مكان؟
* النظر في معاملاتنا مع الآخرين، هل نراعي الله تعالى فيها، فلا نغشَّ، ولا نسرق، ولا نرفع الأصوات ونكثر الحلف، ونكون كما أراد رسولنا صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى"رواه البخاري، أم لا؟
رابعا: طرق علاج الغفلة:
* المشارطة:
أي أن يشرط العقل على النفس ألا تقع في المعاصي والذنوب، وأن تقوم بالطاعات.
فـ"إنَّ المؤمنين قومٌ أوثقهم القرآن، وحال بينهم وبين هَلَكتهم، إنَّ المؤمن أسيرٌ في الدنيا، يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عزَّ وجلّ، يعلم أنَّه مأخوذٌ عليه في سمعه، وفي بصره، وفي لسانه، وفي جوارحه، مأخوذٌ عليه في ذلك كلِّه".
* المراقبة:
"إذا أوصى الإنسان نفسه، وشرط عليها، لم يبقَ إلا المراقبة لها وملاحظتها، وفي الحديث الصحيح في تفسير الإحسان، لما سئل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك"رواه البخاريُّ ومسلم، أراد بذلك استحضار عظمة الله ومراقبته في حالة العبادة".
* المحاسبة بعد العمل:
"ومعنى المحاسبة أن ينظر في رأس المال، وفي الربح، وفي الخسران لتتبيَّن له الزيادة من النقصان، فرأس المال في دينه الفرائض، وربحه النوافل والفضائل، وخسرانه المعاصي، وليحاسبها أوَّلاً على الفرائض، وإن ارتكب معصيةً اشتغل بعقابها ومعاقبتها ليستوفي منها ما فرَّط".
* معاقبة النفس على تقصيرها:
"اعلم أنَّ المريد إذا حاسب نفسه فرأى منها تقصيرا، أو فعلت شيئاً من المعاصي، فلا ينبغي أن يهملها، فإنَّه يسهل عليه حينئذٍ مقارفة الذنوب، ويعسر عليه فطامها، بل ينبغي أن يعاقبها عقوبةً مباحةً كما يعاقب أهله وولده".
* المجاهدة:
"وهو أنَّه إذا حاسب نفسه، فينبغي إذا رآها قد قارفت معصيةً أن يعاقبها كما سبق، فإن رآها تتوانى بحكم الكسل في شيءٍ من الفضائل، أو وردٍ من الأوراد، فينبغي أن يؤدِّبها بتثقيل الأوراد عليها، كما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه أنَّه فاتته صلاةٌ في جماعة، فأحيا الليل كلَّه تلك الليلة، وإذا لم تطاوعه نفسه على الأوراد، فإنَّه يجاهدها ويُكرِهها ما استطاع.
وقال ابن المبارك: "إنَّ الصالحين كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفوا، وإنَّ أنفسنا لا تواتينا إلا كرها".
وممَّا يستعان به عليها أن يُسمِعها أخبار المجتهدين، وما ورد في فضلهم، ويصحب من يقدر عليهم منهم، فيقتدي بأفعاله".
* في معاتبة النفس وتوبيخها:
"قال أبو بكرٍّ الصدِّيق رضي الله عنه: "من مقت نفسه في ذات الله آمنه الله من مقته"، وقال أنس رضي الله عنه: سمعت عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه -ودخل حائطا- فسمعته يقول وبيني وبينه جدار: عمر بن الخطَّاب أمير المؤمنين، بخٍ بخٍ، والله لتتقيَّنَّ الله بني الخطَّاب أو ليعذِّبنَّك.
واعلم أن أعدى عدوٍّ لك نفسك التي بين جنبيك، وقد خُلِقت أمَّارةً بالسوء، ميَّالةً إلى الشرّ، وقد أُمِرْتَ بتقويمها وتزكيتها وفطامها عن مواردها، فإن أهملتها جمحت، وشردت، ولم تظفر بها بعد ذلك، وإن لزمتها بالتوبيخ، رجونا أن تصير مطمئنَّةً فلا تغفلنَّ عن تذكيرها".
2- تطبيقات العلاج:
* المداومة على ذكر الله تعالى:
أهمُّ ما يُضعِف الشيطان، ويمحو قسوة القلب، هو ذكر الله تعالى كثيرا، بكلِّ أنواع الأذكار المختلفة، صباحاً ومساء، وفي سائر الأحوال، مثل أذكار الدخول والخروج واللبس والخلع والطعام والشراب ودخول الحمام، وما إلى ذلك.(/5)
فعن عبد الله بن بسر أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، إنَّ شرائع الإسلام قد كثرت عليّ، فأخبرني بشيءٍ أتشبَّث به، قال: "لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله "رواه الترمذيُّ وابن ماجه وصحَّحه ابن حبَّانٍ والحاكم.
* قراءة القرآن الكريم:
فمع تكرار القراءة، والاستماع للقرآن الكريم، يأتي الخشوع، وينجلي الصدأ عن القلب، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى، فإنَّ كثرة الكلام بغير ذكر الله تعالى قسوةٌ للقلب، وإنَّ أبعد الناس من الله القلب القاسي"رواه الترمذيُّ بسندٍ حسن.
* المواظبة على الطاعات:
عن عبد الملك بن عمير قال: كان غلامٌ بالمدينة يكنَّى أبا مصعب، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وبين يديه سنبل، ففرك سنبلة ثمَّ نفخها ثمَّ دفعها إليه فأكلها، وكانت الأنصار تعيِّر من يأكل فريكة السنبل، فلمَّا دفعها النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليه لم يردَّها عليه، قال أبو مصعب: ثمَّ قمت من عنده غير بعيد، ثمَّ رجعت إليه فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني معك في الجنَّة، قال: "من علَّمك هذا؟"، قلت: لا أحد، قال: "أفعل"، فلمَّا ولَّيت دعاني، قال: "أعنِّي على نفسك بكثرة السجود"رواه البزَّار بسندٍ صحيح.
* الإكثار من الدعاء:
قال صلى الله عليه وسلم لمعاذٍ بن جبل رضي الله عنه: "يا معاذ، والله إنِّي لأحبُّك، أوصيك يا معاذ: لا تدعن في دبر كلِّ صلاةٍ أن تقول: اللهمَّ أعنِّي على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك"رواه أحمد وأبو داود والنسائيُّ والحاكم وغيرهم بسندٍ صحيح.
* ملاحظة نِعم الله تعالى:
ملاحظة نعم الله الباطنة والظاهرة، وواجبنا تجاهها، وهو القيام بشكرها، قال تعالى: "ياأيُّها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنَّى تُؤفَكون".
* طرد العُجب والرياء بعد العمل الصالح:
فإذا دخل على الإنسان عجبٌ بعد العمل الصالح، أو خوفٌ من الرياء، فعليه أن يطرده ويحاربه، ويستعيذ منه، ومثل هذا الشعور ينتاب كلَّ إنسان، لكن عليه أن يستحضر الإخلاص، ويستغفر الله تعالى، ويتذكَّر أنَّه لا حول ولا قوة إلا بالله تعالى، فلولا أنَّ الله تعالى أعانه على أداء هذا العمل ما أطاق فعله، فلله الحمد أوَّلاً وآخرا.
فاستذكرن آثارك الخوالدا ومجدك الفذ الصريح التالدا
واقتبس الأصول منه والسننْ ولتسمون بها الهضاب والفُننْ
وكن أخي في الرأي والإعدادِ من عصبة الزبير و المقدادِ
ومن أسف أن أمتنا الآن غافلة عما يحييها:
أمتي من بعد طول النوم صارت غفلويه
صدَّقت كل خِداعٍ من غوي وغوية
واستكانت لخداع الذْ ئب من غير رويه
نزلت من حصنها العا لي إلى أرض دنيه
لترى ما لدى النا صح من دنيا هنيه
ضحك الباغي عليها بأخاديع ذكيه
فاستجابت بغباء عمل الشاة الضحيه
ثم جاء الذئب فانقـ ضَ بأنياب قوية
كيف ينقض عليها؟ كيف يرميها ضحيه؟
وكتاب الله يهديها ألا هيا إِلَيَّه
كيف تمسي بخبيث المكر لقمات هنيه
فرأى تقسيم أوصا لٍ لها في الجاهليه
ورمى أقوامها الكُثْر بداء الفوضويه
وبأفكار زُيوفٍ محدثات زخرفيه
بقي الحصن ولا حرْ اس يحمون الرعيه
ساقها الجزار للذ بح إلى أرض قصيه
وقف الباغي ينادي القوم هل ثم بقيه؟
سوف لا أترككم إلا شقياً أو شقيه
هذه روح القضية هل سنصحو للبليه؟
بِمَ نصحو؟
بكتاب الله والسنْنَة والأيدي القويه
بولاءٍ وبراءٍ ومبادٍ عقديه
وجيوش تهزم الباغي وتسقيه المنية
عباد الله: من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب.
إن ربكم لم يخلقكم عبثا ولم يترككم سدى، فتزودوا من دنياكم ما تحرزون به أنفسكم غدا. فالأجل مستور، والأمل خادع. أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].
يقول الحسن رحمه الله: اتق الله يا بن آدم، لا يجتمع عليك خصلتان: سكرة الموت وحسرة الفوت.
احذر السكرة والحسرة يفجأك الموت وأنت على غرة فلا يصف واصف قدر ما تلقى ولا قدر ما ترى.
احذر لا يأخذك الله على ذنب فتلقاه ولا حجة لك.
أيها الإخوة: أين الخائف من قلة الزاد؟ وأين المتخفف من أثقال الدنيا ؟ أين الوجل من بعد السفر ووحشة الطريق ؟ اكتفى من الدنيا بطِّمريه (الطِّمر: بالكسر الثوب الخلق البالي) ، ومن طعامه بقرصيه. استعان على دنياه بالعفة والسداد فكفاه في دنياه القليل من الزاد. لقد استحيا من ربه حق الحياء تذكر الموت والبلى فحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى أراد الآخرة فترك زينة الحياة الدنيا. آثر ما يبقى على ما يفنى ذلكم هو كيِّس الأكياس.
أيها المسلمون: توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، (بادروا بالأعمال قبل أن تشغلوا، فهل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو غنى مطغيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو موتا مجهزا أو الدجال فشرٌّ غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمرُّ).(/6)
لا تكونوا – رحمكم الله – ممن يرجو الآخرة بغير عمل ويؤخر التوبة لطول الأمل. وقد علمتم أن الموت يأتي بغتة. أكثروا من زيارة القبور فإنها تذكر الآخرة. اعتبروا بمن صار تحت التراب وانقطع عن أهله والأحباب، جاءه الموت في وقت لم يحتسبه وهول لم يرتقبه.
وليتأمل الزائر حال من مضى من أقرانه، أكثَروا الآمال وجمعوا الأموال انقطعت آمالهم ولم تغن عنهم أموالهم، محا التراب محاسن وجوههم، وتفرقت في القبور أشلاؤهم، وترملت من بعدهم نساؤهم وقسمت أموالهم ومساكنهم: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94].
اتقوا الله رحمكم الله وارجوا الدار الآخرة فتلك دار لا يموت سكانها، ولا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبابها، ولا يبلى نعيمها، ولا يتغير حسنها وإحسانها وحِسانُها، يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين: دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ [يونس:10].
قال مالك بن دينار: سمعت الحجاج وكان شيخا عالما يخطب وهو يقول: رحم الله إمرءاٍ حاسب نفسه قبل أن يصير الحساب إلى غيره, رحم الله إمرءاٍ أخذ بعنان عمله, فنظر ماذا يريد به, رحم الله إمرءاٍ نظر في مكياله, رحم الله إمرءاٍ نظر في ميزانه. فما زال يقول حتى أبكاني .
وذكر عن ابراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى أنه أراد أن يدخل الحمام فمنعه صاحب الحمام وقال: لا تدخل إلا بالأجرة, فبكى إبراهيم وقال: اللهم لا يؤذن لي أن أدخل بيت الشياطين مجانا فكيف لي بدخول بيت النبيين والصديقين مجانا
قبورنا تُبنى قبل أن نتوب ياليتنا تُبنا قبل أن نموت
إذا أغلقت بابك, وأظلمت الغرفة التي أنت فيها .. لا تقل أنك وحدك .. لأن الله هناك , ونفسك هناك .. ولا حاجة بهما إلى النور ليرينا ما نفعل بيدينا
قال أبو الليث رحمه الله: إن لله ملائكة في السماء السابعة سجدا منذ خلقهم الله تعالى إلى يوم القيامة, ترتعد فرائصهم من مخافة الله تعالى, وإذا كانوا يوم القيامة رفعوا رؤوسهم فقالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك, وذلك قوله تعالى:"يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون" يعنى لايعصون الله تعالى طرفة عين. وانظر إلى حالنا من الغفلة, هل نخاف الله مثلهم؟
* قيل لجعفر بن محمد: الرجل تكون له الحاجة يخاف فوتها, أيخفف الصلاة؟
قال: أولا يعلم أن حاجته إلى الذي يصلى إليه؟
ورُوِي أن سليمان بن داود عليهما السلام مرّ في موكبه, والطير تظله والجن والإنس عن يمينه وشماله, فمرّ بعابد من بني إسرائيل فقال: والله ياابن داود لقد آتاك الله ملكا عظيما. فسمع سليمان وقال: لتسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما أعطي ابن داود, فإن ما أعطي ابن داود يذهب, والتسبيحة تبقى.
وإذا الحبيب أتي بذنب واحد ******** أتت محاسنه بكل شفيع(/7)
الغناء من علل المجتمع المسلم
بقلم فضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم
تحت عنوان "فتوى شرعية.. من عالم بالأزهر".. "الغناء المحتشم.. ليس حراما" وإلى جوار صورة إحدى الفتيات.. نشرت جريدة الأخبار القاهرية - كلاما نسبته لعالم أعرفه حريصا على أن يقول الحق.. ولهذا أبادر فأنكر نسبة هذا الكلام إليه إن لم يكن قد سقط بعضه أو أضيف إليه ما ليس منه.
إن صوت المرأة في المعاملات الضرورية لا بأس به في دين الله، إن لم تتكلف المرأة اللين في كلامها من جهة وحين لا يكون في صوتها من جهة أخرى ما يغري بها رقاق الدين ومرضى الأفئدة.. والله تعالى يقول لأمهات المؤمنين وهو أدب معهن لمن وراءهم من بنات حواء: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} الأحزاب 32، قولا لا تنكره الشريعة ولا يجافي التصون والكمال فإن كان صوتها مما يطمع فإنها مأمورة بالغض منه والتصرف فيه عما يوقع في الإثم على غير إرادة منها والله تعالى يقول: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} الإسراء 29.
والكلام الذي نشر على أنه فتوى "عالم من الأزهر" يكاد بعضه يصرع بعضا، وليس فيه بصيص من نور الشريعة وحتى يكون القراء على علم به، أنقل منه بأمانة هذه الفقرات.. "إن الغناء الذي لا يثير الفتن ولا يحرك الشهوات ولا يصد عن الواجبات لم يحرمه حديث شريف ولا سنة نبوية قال القاضي أبو بكر العربي – هكذا لم يصح في تحريم الغناء شيء !!.
ثم يردف قائلا: "ولا شك أن الغناء المحرم هو المقترن بمجالس الخمر والسهر الحرام.. وهناك قيود لابد من مراعاتها لكي يكون الغناء مباحا، منها: ضرورة احتشام المغنية ! وألا يخالف موضوع الغناء آداب الإسلام وأن يؤدي الغناء بطريق وقورة لا تميع فيها ولا إغراء ولا إثارة ! ! ولابد أن تكون المعنية مرتدية الزي الشرعي الفضفاض السميك الذي لا يظهر غير الوجه والكفين ثم تجنبها التزين !!.
ومعذرة فقد أكثرت من علامات التعجب التي تغني كل واحدة منها على كلام وكلام في هذا الكلام.
ثم تقول الفتوى "هذا هو الرأي الشرعي في الغناء" مع التأكيد بأن معظم الغناء الذي تسمعه اليوم هو من النوع المحظور الحرام، وعلى المجتمع أن يتذكر قول الله تعالى "وذكرت الفتوى البسملة" ولو أنها تعوذت بالله لعصمها من هذا اللهث في غير طائل وكان ذلك هو الحق في القراءة، ثم ذكرت الفتوى بعد البسملة المقحمة في غير موضعها كما أقحم هذا الكلام كله على الدين باسم "عالم من الأزهر" قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} اه
تلك هي الفتوى بقضها وقضيضها – كما يقولون – لا كما قلت: إنني أنقل منها فقرات إنصافا لما قيل وللقارئ حتى يكون على بينة من الأمر..
ثم أتساءل: أوكل دين الله – أيها الناس – هو الكلمة التي أوردتها الفتوى من كلام ابن العربي رحمه الله؟ ! وإذا سلمنا جدلا أنها من كلامه أهي كل ما قال ابن العربي في الغناء؟ وغناء المرأة بخاصة على ما يعرف الناس من مظاهر أمر المغنيات وأغانيهن وما يكون عليه الإيقاظ وغير الإيقاظ بين أيديهن في الاحفال التي يقذف فيها الشيطان بكل ضلاله.
سكران: ... سكر هوى وسكر مدامة ... ومتى إفاقة من به سكران؟
وليتنا نعي أقوال المفسرين لقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً..} لقمان 6.
فإن فيما قالوا هدى لشداة الحلال وشريف الخصال، وشداة لأنفس الذين يؤثرون الحق على ممالأة الرجال، وقد قرأ ابن مسعود هذه الآية ثم قال: "الغناء والله الذي لا إله إلا هو" يرددها ثلاثا..(/1)
وروى عنه القرطبي رحمه الله قوله "الغناء ينبت النفاق في القلب" وابن عمر وجمع غفير من الصحابة والتابعين وتابعيهم هم أعلا كعبا من أبي بكر ابن العربي على جلالته مع ابن مسعود فيما ذهب إليه من تفسير "لهو الحديث" بالغناء غناء الرجال أيها الرجال.. وإن القرطبي ليذكر من كلام ابن العربي "الغناء المعتاد الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل والمجون و..، لا يختلف في تحريمه لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق فأما ما سلم من ذلك – والكلام لابن العربي – فيجوز القليل منه في أوقات الفرح كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة كما كان في حفر الخندق.. فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإمعان على سماع الأغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام" اه ابن العربي.. ولقد ترجم البخاري – أيها الناس – باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله ومن قال لصاحبه تعال أقامرك وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً}.
وأود أن ينظر طالب المزيد المسألة الثالثة من تفسير القرطبي رحمه الله للآية.. ففيها غنية وكفاية في الموضوع وفيها:
- الغناء على الدوام - والكلام في غناء الرجال وليس منه غناء النساء بحال - سفه، ترد به الشهادة فإن لم يدم لا ترد.
- أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال: إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب ذلك – أيها الناس – في الجارية بعيبها وهو مذهب أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعد.
- أما مذهب أبي حنيفة فإنه يكره الغناء، ويجعل سماعه من الذنوب وهو مذهب سائر أهل الكوفة بإجماع ولا يعرف لأهل البصرة خلاف في ذلك إلا ما روي عن أبي الحسن العنبري.
- وأما مذهب الشافعي فقال: الغناء مكروه يشبه الباطل ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته.
- وذكر ابن الجوزي عن إمامه ابن حنبل ثلاث روايات: قال: وقد ذكر أصحابنا عن الخلال وصاحبه عبد العزيز إباحة الغناء وإنما أشاروا إلى ما كان في زمانهما من شعر الزهد قال.. وعلى هذا يحمل ما لم يكرهه الإمام أحمد.. ويدل عليه أنه سئل عن رجل مات وخلف ولدا وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها فقال: تباع على أنها ساذجة لا على أنها مغنية فقيل له: إنها تساوي ثلاثين ألفا ولعلها عن بيعت ساذجة تساوي عشرين ألفا ؟ فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة قال ابن الجوزي: وإنما قال أحمد هذا لأن هذه الجارية المغنية لا تغني بقصائد الزهد بل بالأشعار المطربة المثيرة إلى العشق وإني ههنا لأسترعي انتباه القارئ على ما ذكر بعد من كلام ابن العربي من سماع القينات فلا ستكمل كلام أبي الفرج في قول القرطبي وهذا دليل على أن الغناء محظور إذ لو لم يكن محظورا ما جاز تفويت المال على اليتيم.
- قال الطبري: فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد والعنبري وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالسواد الأعظم ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية" وأورد أبو الفرج قول القفال برد شهادة المعني والرقاص.
وقد استخلص القرطبي من هذه الأقوال حكما فقال "وقد ثبت أن هذا الأمر - غناء الرجال - لا يجوز، فأخذ الأجرة عليه لا يجوز وقد ادعى أبو عمر بن عبد البر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك ولفت الأنظار إلى تفسيره رحمه الله الآية {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} الأنعام" وقال "وحسبك".
ومن عجب أن أهل هذه الصناعة من الرعاية على المستويات العليا ما لا يجد كثيرون من البناة والدعاة والضرائب في بعض الأقطار تخفض عنهم بينما تتضاعف على إنتاج العلماء والمفكرين والصحف اليومية تذكر هذه الأيام أن متوسط دخل فلان من المغنيين في بعض أقطارنا الكبرى هو عشرون ألف جنيه شهريا!! {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} الشورى36.
وكنت على موعد مع القارئ أن أذكر له قول ابن العربي في غناء القينات فخذه من قول القرطبي "الرابعة: قال القاضي أبو بكر بن العربي: وأما سماع القينات فيجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته – جاريته هو أيها الناس – إذ ليس شيء منها عليه حراما لا من ظاهرها ولا من باطنها فكيف يمنع من التلذذ بصوتها؟ أما أنه لا يجوز انكشاف النساء للرجال ولا هتك الأستار ولا سماع الرفث فإذا أخرج ذلك إلى ما لا يحل ولا يجوز منع من أوله واجتث من أصله.(/2)
أما سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم فإن أصحاب الشافعي قالوا: لا يجوز.. سواء كانت حرة أو مملوكة وقال الشافعي وصاحب الجارية إذا جمع عليها الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته، ثم ذكر وصفا غليظا.. وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها" اه أيبقى مجال لتصديق ما أوردت الفتوى من القول المنسوب لابن العربي "لم يصح في تحريم الغناء شيء" وقول الذي أفتى "أن الغناء لم يحرمه حديث شريف و لا سنة نبوية"؟ ومع هذا فلا بأس بأن أورد لمن قالوا "الغناء المحتشم ليس حراما" من أصح كتابين بعد القرآن الكريم - البخاري ومسلم - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: أمزمار الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال دعهما، فلما غفل غمزتهما فخرجتا".
أن الرسول لم ينكر على أبي بكر قوله عن الغناء – غناء جاريتين عند سيدة بما لا فحش فيه ولا شبهه –: "مزمار الشيطان" وإنما أقرهما الرسول لأنهما جاريتان غير مكلفتين تغنيان بغناء الأعراب الذي قيل يوم بعاث من الشجاعة والحرب، وكان اليوم يوم عيد.
وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة فليرجع من شاء إلى فتاويه في ذلك ينتهي معه إلى قوله.. "ومن يتتبع ما اختلف فيه العلماء أو أخذ بالرخص من أقاويلهم تزندق أو كاد" اه
وقال أبو سليمان الدراني "لو أخذت برخصة كل عالم، وزلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله" وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه "إغاثة اللهفان": "قد تواتر عن الإمام الشافعي رضي الله عنه قوله" خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير – وهو كما قال ابن دريد – تهليل أو ترديد صوت بقراءة وغيرها – يصدون به الناس عن القرآن فإذا كان قول الشافعي في التغبير – وهو من الرجال أيها الناس – وتعليله له أنه يصد عن القرآن وهو شعر مزهد في الدنيا يغني به مغن ويضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو حجرة على توقيع غناء فليت شعري ما يقول في سماع – التغبير عنده كنقطة في بحر – قد اشتمل على كل مفسدة وجمع كل محرم فالله بين دينه وبين كل متعلم مفتون وعابد جاهل وقد كتب خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز لمؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب في الماء" ذكره الإمام ابن القيم.
ولابن القيم رحمه الله تنبيهان، في كتابه "إغاثة اللهفان" يصف في أولهما المعكوف على السماع بما يشمئز به عن السماع ذووا القلوب وساق المذاهب الأربعة في السماع.. ويذكر في ثاني التنبيهين في "إغاثة اللهفان" أن السماع من الأجنبيات من أعظم المحرمات وأشدها إفسادا للدين.. وقال فيه: وما خالف في الغناء إلا رجلان إبراهيم بن سعيد والعنبري فإن الساجي حكى عن الأول أنه كان لا يرى به بأسا أما الثاني فهو مطعون فيه" اه.
لقد أرخيت للقلم العنان وما يزال للإفاضة في الغناء مكان فلا اجتزئ راضيا بقول أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: "ما ساح السياح وخلوا ديارهم وأولادهم إلا لمثل ما نزل بنا حين رأوا الشر قد ظهر والخير قد اندرس ورأوا الفتن ولم يؤمنوا أن تغيرهم وأن ينزل العذاب بأولئك القوم فلا يسلمون منه فرأوا أن مجاورة السباع وأكل البقول خير من مجاورة هؤلاء في نعيمهم ثم قرأ {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} الذاريات 50".
قال: "فر قوم فلولا ما جعل الله جل ثناؤه في النبوة ما جعل لقلنا ما هم بأفضل من هؤلاء فمما بلغنا أن الملائكة لتلقاهم وتصافحهم والسحاب والسباع تمر بأحدهم فيناديها فتجيبه ويسألها أين أمرت ؟فتجيبه وليس بنبي".
والله المسؤول أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه وأن لا يجعله ملتبسا علينا فنضل ونهلك وطوبى لمن آثر الحق فظاهره وآثره وإن تركه وما له من صديق.
معوض عوض إبراهيم
الباحث العلمي برئاسة البحوث
العلمية والإفتاء(/3)
الغناء ودره في القضاء على الأمة الإسلامية
محمد محمود عبد الخالق
يلعب الغناء في هذه الأيام دورا هاما في القضاء على هذه الأمة سواء شعر أفرادها بذلك أم لم يشعروا ويكفي للاستدلال على ذلك تشجيع الغرب على انتشار الغناء وذيوعه بين أوساط المسلمين ولا سيما الشباب منهم وكذلك ما يفعله أذناب الغرب في بلاد المسلمين الدعاة على أبواب جهنم الذين يهدفون إلى إفساد المسلمين وانتشار الفاحشة بينهم وإلهائهم عن قضاياهم المصيرية وفصل دينهم عن حياتهم وإلى غير ذلك من الأهداف القبيحة التي ترمي إلى الإفساد والتي يستخدمون الغناء كوسيلة لتحقيق ذلك.
إن للغناء أهمية كبرى لدى هؤلاء المفسدين في تلك البلاد فهي أحدى أدواتهم المهمة في تنفيذ مخططاتهم وما يرمون إلى تحقيقه ولذلك رأينا هؤلاء يقيمون محطات متخصصة وقنوات تلفزيونية متخصصة في الغناء تستمر في بثها وإذاعة ما ترمي إليه مدة اليوم بكامله وبذلك تضمن إقبال غالب المسلمين عليها لتغطيتها لجميع الأوقات وللأسف الشديد رأينا هذا الإقبال من أبناء هذه الأمة على تلك المحطات والقنوات الأمر الذي يعد انتكاسة كبيرة , فهذه المحطات والقنوات الغنائية لا تهدف في المقام الأول إلا إلى إيقاظ الفتنة وإشعال الشهوة في النفوس و صرفها عن الإيمان والقرآن وغرس قيم فاسدة وأفكار متدنية في عقول المسلمين وهذا بلا شك أمر في غاية الخطورة يحتاج إلى وقفة من علماء الأمة ومصليحها وإلا ستكون النتائج على غير ما يرام ووقتها سيندم الجميع سواء العصاة أو الطائعين فلقد روي عن أم سلمة رضي الله عنها فيما معناه أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا ظهرت المعاصي في أمتي أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده فقلت يا رسول الله: أما فيهم يومئذ أناس صالحون, قال: بلى ولكن يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان " وهذا يدل على أن العقاب بسب كثرة المعاصي سيصيب الجميع ولقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم:" أنهلك وفينا الصالحون, قال: نعم إذا كثر الخبث " ولذلك على علماء الأمة وأهل الطاعة أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويأخذوا بأيدي الناس إلى الله لعلى الله يخفف عنا ذلك العقاب.
ولعلا الكثير من المسلمين ممن يشاهدون تلك الأغاني يظنون أنه لا بأس من سماعها ومشاهدتها فبعضهم يروا فيها وسيلة للخروج من حالات الإحباط التي يعيشونها والبعض الأخر يرى فيها وسيلة لقضاء الوقت وقتله والبعض الأخر يرى فيها تسلية للنفس وإنعاشها والبعض الأخر يسمعها ويشاهدها لأنه يعيش قصة حب مع محبوب له والبعض الأخر يسمعها لأن الآخرين يسمعونها وغير ذلك من الأعذار التي يوردها لك مشاهدي الأغاني ومستمعيها بل إن بعضهم يسمعها ظنا بحلها وأنه لا حرمة فيها وبعضهم يعرف حرمتها ومخالفتها للشرع ومع ذلك يسمعها , وهنا أتساءل ألم يفكر هؤلاء في حكم ما يشاهدونه أو ما يسمعونه وهل يوافق دينهم أم لا ؟ وهل في ذلك طاعة لله أم معصية له سبحانه وتعالى؟ , وهل الغناء ضد القرآن أم أنه لا علاقة بينهما ؟ وهل الغناء حق أم باطل ؟, وهل هو في ميزان الحسنات أم في ميزان السيئات ؟ وغير ذلك من الأسئلة التي من المفترض أن ترد في ذهننا قبل الإقبال على تلك الأغاني فلو أن الواحد أقبل مثلا على أكل طعام ما فإنه يسأل عنه وعن مصدره طالما أنه يشك في صانعه فلماذا إذا نعطي قلوبنا وأنفسنا إلى أناس لا نعرف عنهم خيرا قط ولماذا في أمور الدنيا نسأل ونستفسر وإذا جئنا في أمور الآخرة نأخذ الأمور هكذا دون أي اهتمام.
إنني أنادي من يشاهد ويسمع تلك الأغاني إلى أن يفكر ألف مرة قبل أن يقبل على تلك الأغاني فعلى المسلم ألا يبتغي السعادة لنفسه بمعصية الله فما فعل المسلم منا من معاص ظن أنها ستسعده إلا وانقلبت تلك المعاصي إلى حسرة وندامة في الدنيا والآخرة طالما لم يتب هذا المسلم ويعود إلى ربه ويعلم أن السعادة الحقيقية في طاعة ربه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه, واحذر هؤلاء الذين يفرحون بالمعصية وهم يفعلونها بأن الفرح بفعل المعصية وتمني فعلها أشد وأعظم من فعل المعصية ذاتها , وخوفك أخي المسلم من رؤية الناس لك وأنت تفعل المعصية أشد من فعلها كذلك فإياك أن تكون من هؤلاء الذين يجاهرون خالقهم ومولاهم بالمعصية ويفرحون بفعلها واحرص على ما ينفعك في دنياك وآخرتك فإنما العيش عيش الآخرة والسعادة الحقيقية في رضا الله سبحانه وتعالى.
وأوجه ندائي إلى العلماء بأن يتحدثوا عن ذلك الأمر ويكثروا من الحديث عنه وأن يقتربوا من أفراد هذه الأمة ويكونوا أسوة وقدوة حسنة لهم وأن يبينوا لهم طريق الرشاد والصلاح والنجاح وأن يقوموا بممارسة دورهم الحقيقي وأن يتقربوا أكثر من مجتمعاتهم ويجالسوا الناس ويعملوا على إزالة الحواجز التي بينهم وإلا فإن الأمور ستدهور أكثر فأكثر مما هي عليه الآن ولا شك أن العلماء سيكونون أحد أسباب ذلك التدهور.(/1)
ويكفيني في الختام أن أذكر ما قاله أحد علمائنا عندما كان يسأل عن حكم الغناء فكان يقول " حتى لو قلنا بأن الغناء حلال فهل واقع الأمة يحتمل لها أن تغني " وهذا الكلام قد قيل منذ أكثر من عشرين سنة قبل مذابح صبرا وشاتيل وقبل مذبحة جنين وقبل المذابح المستمرة في أرض فلسطين وقبل اجتياح الشيشان وقبل غزو أمريكا لأفغانستان والعراق وقبل التهديدات التي تتلقاها الأمة بكاملها من حين لآخر من أعداءها الذين لا يتوقفون عن معاداتها ومحاربتها بكافة الوسائل وعلى كافة الأصعدة والميادين , فبالله ماذا لو رأى الشيخ حالنا في تلك الأيام ماذا كان سيقول ؟ فلنستيقظ يا أخوة قبل فوات الأوان فلا يعقل أن يذبح ويقتل إخواننا وتهدم المنازل والمساجد وتغتصب النساء المسلمات ونحن نغني ونضحك ونمرح وكأن الأمر لا يعنينا لا من قريب ولا من بعيد وكأن هؤلاء ليسوا مسلمين لهم حقوق وواجبات علينا , فلنحرص من الآن على نصرة ديننا ونصرة المسلمين ولنبذل كل ما نملك في سبيل رفع راية التوحيد خفاقة وإلا فالحساب سيكون عسيرا أمام الله عز وجل طالما لم نعمل على نصرة الإسلام فالله نسأل أن ينصر الإسلام ويعز المسلمين وأن يجعلنا أهلا لنصرته أنه على كل شيء قدير وهو حسبنا ونعم الوكيل , والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/2)
الغيبة حكمها وطرق التخلص منها]
محمد إسماعيل السيد أحمد(*) 29/8/1425
13/10/2004
الغيبة كلمة توبق صاحبها في النار وتورثه العار والشنار؛ لأنه أعطى نفسه هواها, فأوردته المهالك وما اشتهاها, ولكن للأسف، فإن المؤمن الذي انحسر الإيمان من قلبه, حتى أصبح ذبالة كذبالة المصباح الذي كاد ينطفئ, وضع الشيطان خرطومه على قلبه، فلم يبق له رادعا من ضمير. قال عليه الصلاة والسلام: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب". وفي رواية :"يهوي بها في نار جهنم."
إنها كلمة: يصف بها أخاه المسلم وصفا ذميما: إشارة أو عبارة, ينفس بها الشيطان عن نفسه فيوقعه في الخسران المبين! وأي خسارة أعظم من أن يتكلم الإنسان بكلام لا يعود عليه إلا بنقص حسناته حتى إذا فنيت حسناته أُخذ من سيئات من اغتابه فطرحت عليه فطرح في النار.
إنها كلمة يلفظها اللسان بعد أن يلوكها ولا يفكر فيها ولا يتدبرها ولا يظن أنه مؤاخذ بها إذ إنها تغيب عن أذهان كثير من الناس, فهذا سيدنا معاذ بن جبل -رضي الله عنه-, يقول له النبي- صلى الله عليه وسلم- :" ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟" قال معاذ-رضي الله عنه-: قلت بلى يا رسول الله, قال فأخذ بلسان نفسه وقال: "كف عليك هذا" فقلت: يا نبي الله, وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال:" ثكلتك أمك يا معاذ, وهل يكبُّ النَّاس َ في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم".
وفي حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- يقول النبي – صلى الله عليه وسلم-:"من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة"، ما بين لحييه عبارة عن الكلام الذي ينطق به: فلا ينطق إلا بما يرضي الله -عز وجل- وما بين رجليه كناية عن الجماع, فلا يقرب الحرام الذي حرمه الله من الفواحش.
والغيبة: كلمة أو كلام تذكر بها أخاك المسلم بسوء أو مكروه, وسميت غيبة لأنك تتكلم عنه وتذمه في حالة غيابه، وقد عرفها النبي – صلى الله عليه وسلم-، ولا أفضل من تعريفه لها , قال صلى الله عليه وسلم :" أتدرون ما الغيبة؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذكرك أخاك بما يكره"، قال الإمام النووي -رضي الله عنه-, في الأذكار: (ذكر المرء بما يكرهه سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو خَلْقِه أو خُلُقِه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به سواء ذكرته باللفظ أو الإشارة أو الرمز ... إلى أن قال: ومنه قولهم عند ذكره :"الله يعافينا, الله يتوب علينا، نسأل الله السلامة, ونحو ذلك، فكل ذلك من الغيبة).
وقد بين النبي – صلى الله عليه وسلم- الفرق بين الغيبة والبهتان في تتمة للحديث السابق حيث قيل: أرأيت يا رسول الله إن كان فيه ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته, وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته".
والبهتان قول عظيم النكارة باطل الدلالة، متحمل صاحبه إثما وعذابا أليما، قال تعالى:
"والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا" [الأحزاب: 58].
قال الحسن البصري -رحمه الله-: (الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله: الغيبة والإفك والبهتان، فأما الغيبة فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه، وأما الإفك فأن تقول ما بلغك عنه، وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه.
حكم الغيبة:
الغيبة حرام بإجماع أهل العلم كما نقل ذلك الإمام النووي، وقد نقل القرطبي الاتفاق على أنها من الكبائر, لما جاء فيها من الوعد والوعيد الشديد في القرآن والسنة.
أدلة تحريم الغيبة:
أولاً - من كتاب الله تعالى:
أ - قال تعالى: "ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم" [الحجرات:12]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-:(حرم الله أن يُغتاب المؤمن بشيء كما حرم الميتة).
وقال القاضي أبو يعلى عن تمثيل الغيبة بأكل لحم الميت: (وهذا تأكيد لتحريم الغيبة, لأن أكل لحم الميت محظور، ولأن النفوس تعافه من طريق الطبع، فينبغي أن تكون الغيبة بمنزلته في الكراهة).
ب - وقال تعالى: "ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان" [الحجرات: 11]، قال الحافظ ابن كثير: "لا تلمزوا أنفسكم" أي لا تلمزوا الناس, والهماز واللماز من الناس مذموم ملعون, كما قال الله: "ويل لكل همزة لمزة" [الهمزة:1], فالهمز بالفعل واللمز بالقول.
قال الشنقيطي: (الهمز يكون بالفعل كالغمز بالعين احتقاراً أو ازدراءً, واللمز باللسان وتدخل فيه الغيبة).
ج – وقال تعالى: "ويل لكل همزة لمزة" [الهمزة:1]، وقد سبق بيان معناها وفيها: الويل: وهي كلمة زجر ووعيد بمعنى الخزي والعذاب والهلكة، أو واد في جهنم أعده الله للعصاة المعاندين والكفرة الفاسقين.(/1)
د – وقال تعالى:"ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم" [القلم:10-11]، قال الشوكاني: (الهماز: المغتاب للناس)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فلا يطاع المكذب والحلاف ولا يعمل بمثل عملهما.. فإن النهي عن قبول قول من يأمر بالخلق الناقص أبلغ في الزجر من النهي عن التخلق به..).
ثانياً: من السنة المطهرة:
أ - قال صلى الله عليه وسلم: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"، قال ابن المنذر: (قد حرم النبي- صلى الله عليه وسلم- الغيبة مودعا بذلك أمته, وقرن تحريمها إلى تحريم الدماء والأموال, ثم زاد تحريم ذلك تأكيدا بإعلامه بأن تحريم ذلك كحرمة البلد الحرام في الشهر الحرام).
ب - وقال صلى الله عليه وسلم: "من أربى الربى الاستطالة في عرض المسلم بغير حق"، وفي رواية لأبي داود: (إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق)، قال العظيم آبادي في شرحه لأبي داود:(الاستطالة: أي إطالة اللسان في عرض المسلم) أي في احتقاره والترفع عليه والوقيعة فيه .
ج - وعن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: قلت للنبي – صلى الله عليه وسلم-: "حسبك من صفية أنها قصيرة, فقال: "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته" ومعنى لو مزجت: لو خلطت بماء البحر على فرض تجسيدها وكونها مائعة، ومعنى لمزجته: أي غلبته وغيرته وأفسدته، قال المبارك فوري:(المعنى أن الغيبة لو كانت مما يمزج بالبحر لغيرته عن حاله مع كثرته وغزارته, فكيف بأعمال نزرة خلطت بها؟!).
د - ولما رجم الصحابة ماعزا -رضي الله عنه-, سمع النبي- صلى الله عليه وسلم- رجلين يقول أحدهما لصاحبه:(ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه, فلم تدعه نفسه حتى رُجم رَجم الكلب، فسار النبي- صلى الله عليه وسلم- ثم مر بجيفة حمار, فقال :" أين فلان وفلان؟ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار!" فقالا: يا نبي الله من يأكل هذا؟ قال: "ما نلتما من عِرْض أخيكما آنفا أشد من أكلٍ منه"، والنيل من العرض السباب والقول بما يكرهه ذلك الغائب.
ثالثاً: من أقوال السلف:
-كان عمرو بن العاص –رضي الله عنه- يسير مع أصحابه, فمر على بغل ميت قد انتفخ, فقال: (والله لأن يأكل أحدكم من هذا حتى يملأ بطنه خير من يأكل لحم مسلم).
-وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه: (الغيبة مرعى اللئام).
-وعن كعب الأحبار: (الغيبة تحبط العمل).
-ويقول الحسن البصري : (والله للغيبة أسرع في دين المسلم من الآكلة في جسد ابن آدم).
-قال سفيان بن عيينة: (الغيبة أشد من الدَّيْن, الدين يقضى والغيبة لا تقضى).
-وسمع علي بن الحسين رجلا يغتاب, فقال: (إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس).
رابعاً – أسباب التخلق بخلق الغيبة:
1- ضعف الورع ونقص الإيمان يجعلان الإنسان يستطيل في أعراض الآخرين من غير روية ولا تبصر، جاء في حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-, في قصة الإفك, أن زينب بنت جحش, لما سئلت قالت: (يا رسول الله أحمي سمعي وبصري, ما علمت إلا خيراً," تقول عائشة- رضي الله عنها-:وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فعصمها الله بالورع)، قال الفضيل بن عياض: (أشد الورع في اللسان).
2- ومن أسباب التمادي في الغيبة موافقة الأقران والجلساء ومجاملتهم، قال الله على لسان أهل النار: "وكنا نخوض مع الخائضين" [المدثر:45]، قال قتادة: (كلما غوى غاوٍ غوينا معه).
3- ومن الأسباب: الحنق والحقد على المسلمين وحسدهم والغيظ منهم: قال ابن تيمية:(ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة فيجمع بين أمرين قبيحين: الغيبة والحسد)، وقال ابن عبد البر: (والله لقد تجاوز الناس الحد في الغيبة والذم..."، وهذا كله بحمل الجهل والحسد.
4- ومنها حب الدنيا والحرص على السؤدد فيها: قال الفضيل بن عياض : ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغى وتتبع عيوب الناس وكره أن يذكر أحد بخير.
خامسا – كيف نتخلص من هذا الخلق الذميم؟
1- بتقوى الله -عز وجل- والاستحياء منه: ويحصل هذا بكثرة التمعن بآيات الوعيد التي جاءت في كتاب الله -عز وجل- وأحاديث المصطفى – صلى الله عليه وسلم- التي رغبت في التوبة وحذرت من مثل هذه القبائح. قال تعالى: "أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون" [الزخرف:80 ] وقال –صلى الله عليه وسلم: "استحيوا من الله حق الحياء, قلنا يا رسول الله إنا نستحي والحمد لله، قال: "ليس ذاك, ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما حوى وليحفظ البطن وما وعى، وليذكر الموت والبِلى".
2- لنتذكر مقدار الخسارة التي نخسرها كلما اغتبنا أحدا , قال صلى الله عليه وسلم:(/2)
"أتدرون من المفلس؟" قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع, قال: "المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام, وقد شتم هذا وضرب هذا وأكل مال هذا, فيأخذ هذا من حسناته, وهذا من حسناته, فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار".
3- ومما ينفع في علاج هذه الآفة أن يتذكر عيوبه وينشغل بها عن عيوب غيره, وأن يخاف من الابتلاء بالشيء الذي يغتاب أخاه فيه، قال الحسن البصري:(كنا نتحدث أن من عير أخاه بذنب قد تاب منه, ابتلاه الله -عز وجل- به)، وقال أبو هريرة رضي الله عنه:
(يبصر أحدكم القذى في عين أخيه ولا يبصر الجذع في عين نفسه).
4- ومما ينفع أيضا مجالسة الصالحين والبعد عن مجالس أهل الغفلة المعرضين: قال صلى الله عليه وسلم: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير, فحامل المسك إما أن يحذوك (يمسح لك بشيء منه) أو أن تبتاع منه, وصاحب الكير إما أن يحرق ثيابك أو أن تجد منه ريحا خبيثاً"، قال الإمام النووي في فوائد هذا الحديث: (فيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ... والنهي عن مجالسة أهل الشر والبدع ومن يغتاب الناس أو يكثر فجوره وبطالته).
5- وفي قراءة سير الصالحين والنظر في سلوكهم وكيفية مجاهدتهم لأنفسهم دروس وعبر تقوي العزيمة على البعد عن ذلك الشر والإثم.قال أبو عاصم النبيل:(ما اغتبت مسلما منذ علمت أن الله حرّم الغيبة) وقال محمد بن المنكدر:(كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت).
6- وعلى من تطاولت نفسه في الغيبة واستشرفت لها أن يحزم أمره ويجزم على معاقبتها، قال حرملة: (سمعت رسول ابن وهب يقول: "إني نذرت أني كلما اغتبت إنسانا أن أصوم يوما, فأجهدني, فكنت أغتاب وأصوم, فنويت أني كلما اغتبت إنسانا أني أتصدق بدرهم, فمن حُبِّ الدراهم تركت الغيبة"). قال الذهبي: (هكذا والله كان العلماء, وهذا ثمرة العلم النافع).
وبهذا القدر نكتفي في الكلام على الغيبة ومساوئها ومصائبها وما تعمل من تفرقة وما تنشر من عداوة وبغضاء بين المسلمين في أي مجتمع كان.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحمي أسماعنا وأبصارنا ونساءنا وأولادنا وبناتنا وسائر أعراض المسلمين من شر هذا الخطر العظيم والخلل الجسيم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
(*) باحث بهيئة الإغاثة الإسلامية بمكة المكر(/3)
الغيرة على الأعراض
صالح بن عبدالله بن حميد
دار الوطن
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
إن هزائم الأمم وانتكاسات الشعوب لا ترجع إلى الضعف في قواها المادية ولا إلى الضعف في معدات الحربية، من يظن هذا الظن ففكره قاصر ونظره سقيم، إن الأمم لا تعلو - بإذن الله - إلا بضمانات الأخلاق الصلبة في سير الرجال. بل إن رسالات الله ما جاءت إلا بالأخلاق وإتمام الأخلاق بعد توحيد الله وعبادته، "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق "، الأخلاق الفاضلة يضعف أمامها العدو، وينهار بها أهل الشهوات.
حينما يكون المجتمع صارما في نظام أخلاقه وضوابط سلوكه، غيورا على كرامة فرده وأمته، مؤثرا رضا الله على نوازع شهواته، حينئذ يستقيم مساره في طريق الحق والصمود والرفعة والإصلاح.
والأخلاق - أيها الأخوة - ليست شينا يكتسب بالقراءة والكتابة، ولا بالمواعظ والخطابة، ولكنها درجة بل درجات لا تنال - بعد توفيق الله ورحمته - إلا بالتربية والتهذيب، والصرامة والحزم، وقوة الإرادة والعزم.
أخي الفاضل: وبين يديك في هذه النشرة حديث عن مقياس دقيق من مقاييس الأخلاق، ومعيار جلي من معايير ضبط السلوك..
إنه حديث الغيرة، الغيرة يا أخي رعاك الله. الغيرة، الغيرة على الأعراض، وحماية حمى الحرمات.
يا أيها الغيور: كل امرئ عاقل بل كل شهم فاضل لا يرضى إلا أن يكون عرضه محل إلغاء والتمجيد، ويسعى ثم يسعى ليبقى عرضه حرما مصونا لا يرتع فيه اللامزون ولا يجوس حماه العابثون.
إن كريم العرض ليبذل الغالي والنفيس للدفاع عن شرفه، وإن ذا المروءة الشهم يقدم ثروته ليسد أفواها تتطاول عليه بألسنتها أو تناله ببذيء ألفاظها. نعم إن الشهم ليصون عرضه بالمال فلا بارك بمال لا يصون عرضا، بل لا يقف الحد عند هذا فإن صاحب الغيرة ليخاطر بحياته ويبذل مهجته ويعرض نفسه لسهام المنايا عندما يرجم بشتيمة تلوث كرامته. يهون على الكرام أن تصاب الأجسام وتسيل الدماء،؟ لتسلم العقول وتحفظ الأعراض. وقد بلغ ديننا في ذلك الغاية حين أعلن نبينا محمد : { من مات دون عرضه فهو شهيد }.
أخي حماك الله: بصيانة العرض وكرامته يتجلى صفاء الدين وجمال الإنسانية، وبتدنسه وهوانه ينزل الإنسان إلى أرذل الحيوانات البهيمية.
يقول ابن القيم رحمه الله: "إذا رحلت الغيرة من القلب ترحلت المحبة بل ترحل الدين كله".
ولقد كان أصحاب رسول الله من أشد الناس غيرة على أعراضهم. روي عن رسول الله أنه، يوما لأصحابه: { إن دخل أحدكم على أهله ووجد ما يريبه أشهد أربعا }، فقام سعد بن معاذ متأثرا فقال: يا رسول الله: أأدخل على أهلي فأجد ما يريبني، أنتظر حتى أشهد أربعا لا والذي بعثك بالحق!! إن رأيت ما يريبني في أهلي لأطيحن بالرأس عن الجسد ولأضربن بالسيف غير مصفح وليفعل الله بي بعد ذلك ما يشاء، فقال!! { أتعجبون من غيرة سعد!! والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن } الحديث وأصله في الصحيحين.
من حرم الغيرة حرم طهر الحياة، ومن حرم طهر الحياة فهو أحط من بهيمة الأنعام، ولا يمتدح بالغيرة إلا كرام الرجال وكرائم النساء.
إن الحياة الطاهرة تحتاج إلى، عزائم الأخيار، وأما عيشة الدعارة فطريقها سهل الانحدار والانهيار، وبالمكاره حفت الجنة، وبالشهوات حفت النار.
أخي المسلم: إن الأسف كل الأسف والأسى كل الأسى فيما جلبته مدنية هذا العصر من ذبح صارخ للأعراض ووأد كريه للغيرة.. تعرض تفاصيل الفحشاء من خلال وسائل نشر كثيرة، بل إنه ليرى الرجل والمرأة يأتيان الفاحشة وبواعثها ومثيراتها، يشاهدان وهما يعانقان الرذيلة غير مستورين عن أعين المشاهدين والنظارة، لقد انقلب الحال عند كثير من الأقوام بل الأفراد والأسر حتى صار الساقطون الماجنون يمثلون الأسوة والقدوة ويجعلون من فكرهم وسلوكهم وحركاتهم وسام افتخار وعنون رجولة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
تصوروا - رعاكم الله وحماكم - خبيثا وخبيثة يقفان على قارعة الطريق ليمارسا الفاحشة علانية كما تفعل البهائم من الحمير والخنازير - أعز الله مقامكم ونزه أسماعكم -. هل غارت من النفوس الغيرة؟ وهل غاض ماؤها؟ وهل انطفأ بهاؤها؟ هل في الناس دياثة؟ هل فيهم من يقر الخبث في أهله أ لا يدري الغيور من يخاطب ! ! هل يخاطب الزواني والبغايا وإلا فأين الكرام والحرائر؟!
إعلان للفحشاء بوقاحة، وإغراق في المجون بتبجح.
أغان ساقطة، وأفلام آثمة، وسهرات فاضحة، وقصص داعرة، وملابس خالعة، وعبارات مثيرة، وحركات فاجرة، ما بين مسموع ومقروء ومشاهد في صور وأوضاع يندى لها الجبين في كثير من البلاد والأصقاع إلا من رحم الله. على الشواطئ والمنتزهات، وفي الأسواق والطرقات. ولا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل.
حسبنا الله من أناس يهشون للمنكر، يودون لو نبت الجيل كله في حماة الرذيلة، وحسبنا الله من فئات تود لو انهال التراب على الفطرة المستقيمة والحشمة الرفيعة.(/1)
ما هذا البلاء؟ كيف يستسيغ ذو الشهامة من الرجال والعفة من النساء لأنفسهم ولأطفالهم ولفتيانهم ولفتياتهم هذا الغثاء المدمر من ابتكارات البث المباشر وقنوات الفضاء الواسع؟
أين ذهب الحياء؟ وأين ضاعت المروءة؟ أين الغيرة من بيوت هيأت للناشئة أجواء الفتنة، وجرتها إلى مستنقعات التفسخ جرا وجلبت لها محرضات المنكر تدفعها إلى الإثم دفعا، وتدعها إلى الفحشاء دعا؟
اطلعت امرأة شريفة على الخمر ثم سألت: هل تشرب هذا نساؤكم؟ قالوا: نعم. قالت: زنين ورب الكعبة.
أيها الاخوة: إن طريق السلامة لمن يريد السلامة - بعد الإيمان بالله ورحمته وعصمته - ينبع من البيت والبيئة. فهناك بيئتان: واحدة تنبت الذل وأخرى تنبت العز. وثمت بيوتات تظللها العفة والحشمة، وأخرى ملؤها الفحشاء والمنكر. لا تحفظ المروءة ولا يسلم العرض إلا حين يعيش الفتى وتعيش الفتاة في بيت محتشم محفوظ بتعاليم الإسلام وآداب القرآن ملتزم بالستر والحياء، تختفي فيه المثيرات وآلات اللهو والمنكر، ويتطهر من الاختلاط المحرم. الغيرة الغيرة يا مسلمون، فالحمو الموت، واحذروا السائق والخادم وصديق العائلة وابن الجيران، ناهيك بالطبيب المريب، والممرض المريض،وإياكم واحذروا الخلوة بالبائع والمدرس في البيت، حذاري أن يظهر هؤلاء وأشباههم على عورات النساء. فذلكم اختلاط يتسع فيه الخرق على الراقع، وتصبح فيه الديار من الأخلاق بلاقع. هل تأملتم - وفقكم الله - لماذا توصف المحصنات بالغافلات.
الغافلات: وصف لطيف محمود، وصف يجسد المجتمع البرئ والبيت الطاهر الذي تشب فتياته زهرات ناصعات لا يعرفن الإثم. إنهن غافلات عن لوثات الطباع السافلة.
وإذا كان الأمر كذلك فتأملوا كيف تتعاون الأقلام الساقطة، والأفلام الهابطة، لتمزق حجاب العفة، هذا، ثم تتسابق وتتنافس في شرح المعاصي وفضح الأسرار وهتك الأستار وفتح عيون الصغار قبل الكبار، ألا ساء ما يزرون.
أخي المسلم أختي المسلمة: الغيرة الغيرة، إن لم تغاروا فاعلموا أن ربكم يغار: فلا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش.
يا أمة محمد: ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. وربكم يمهل ولا يهمل. وإذا ضيع أمر الله فكيف تستنكر الخيانات البيتية، والشذوذات الجنسية، وحالات الاغتصاب، وجرائم القتل وألوان الاعتداء؟
إذا ضيع أمر الله طفح المجتمع بنوازع الشر، وامتلأ بدوافع الأثرة، وتولدت فيها مشاعر الحسد والبغضاء، ومن ثم، قل ما ينجو من فساد وفوضى وسفك دماء، فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم، أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [محمد:22- 24].
يا صاحب الغيرة: كم للفضيلة من حصن امتنع به أولاد النخوة فكانوا بذلك محسنين، وكم للرذيلة من صرعى أوردتهم المهالك فكانوا هم الخاسرين.
في ظلال الفضيلة عفة وأمان، وفي مهاوي الرذيلة ذلة وهوان، والرجل هو صاحب القوامة في الأسرة، وإذا ضعف القوام فسد الأقوام؟ وإذا فسد الأقوام خسروا الفضيلة وفقدوا العفة وتاجروا بالأعراض وأصبحوا كالمياه في المفازات يلغ فيها كل كلب ويكدر ماءها كل وارد.
{ جاء شاب إلى النبي فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا، فاقبل عليه الناس يزجرونه، وأدنى رسول الله مجلسه ثم قال له: " أتحبه لأمك؟ " قال لا، والله، جعلني الله فداك، قال رسول الله : " ولا الناس يحبونه لأمهاتهم " قال: " أتحبه لأبنتك؟ " قال: لا، قال: " ولا الناس يحبونه لبناتهم"، ولم يزل النبي يقول للفتى أتحبه لأختك، أتحبه لعمتك، أتحبه لخالتك، كل ذلك والفتى يقول: لا، والله، جعلني الله فداك. فوضع النبي يده عليه وقال: " اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه "، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء }. أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
أيها الغيورون أيتها الغيورات: هذه هي الغيرة وهذا هو حال الكثير، ألم يأن لأهل الإسلام أن يراجعوا أنفسهم، ويخشوا ربهم، ويعوا مسئولياتهم بنينا وبنات نساء ورجالا؟. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه وأصلح أحوالنا، وجمع كلمة المسلمين على الحق وهدانا ووفقنا إلى الحق والطريق المستقيم(/2)
الداعية بين الابتلاء والتمحيص والفتنة
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
الداعية المسلم حامل رسالة الله إلى الناس كافة، حامل أشرف رسالة، يقوم بأكرم مهمة، ويمضي على أعز نهج، على صراط مستقيم مشرق بالحق، جلي الدرب قوي الثقة بالله، وحسبه شرفاً أنه يقوم بتكليف من الله سبحانه وتعالى، تكليف لكل مسلم قادر، لا يعذر إلا من عذره الله، وحسبه كذلك أنه يحمل دعوة ورسالة هي حاجة كل إنسان، وهي حاجة البشرية كلها على مدى العصور والأجيال. إنها دعوة الناس إلى الله ورسوله، إلى الإيمان والتوحيد، دعوة وبلاغ وبناء، وتعهُّدٌ وتدريب وإِعداد.
والداعية أول ما يدعو نفسه، من خلال التذكير المستمر، والمحاسبة الدائمة، ومجاهدة النفس حتى تستقيم على أمر الله. والشعائر والدعاء وتلاوة كتاب الله وتدارس منهاج الله وتدبره، ثم الدعوة إلى الله ورسوله، دعوة الناس وتعهدهم حتى يستقيموا على أمر الله وينجوا من فتنة الدنيا وعذاب الآخرة. هذه كلها تكاليف ربانية.
وحين يبلِّغ الداعية رسالة ربه إلى الناس استجابة لأمر الله، ووفاءً بالأمانة التي يحملها، والخلافة التي جُعِلَتْ له، والعبادة التي أُمِرَ بها، فإن عليه أن يتعهد من يدعوه كما أمر الله. والدعوة والتعهد رفقة ومصاحبة ولقاء. إنها مدرسة تقوم على منهاج الله، تنطلق من مدرسة النبوة الخاتمة، لتظل ممتدة مع الدهر كله. إنها دعوة وبلاغ، وتعهد وبناء، وتدريب على الممارسة الإيمانية وإِعداد، حتى تتدافع أجيال الإيمان تملأ العصور لتنقذ الناس وتخرجهم من الظلمات إلى النور، إلى مسيرة على الصراط المستقيم ممتد إلى الهدف الأكبر والأسمى لكل مؤمن صادق ـ الجنة والدار الأخرة ورضوان الله ـ على صراط مستقيم يجمع المؤمنين.
الدعوة إذن : بلاغ وتذكير، ومصاحبة ولقاء، وتربية وتعهد وبناء، وأهداف ربانية، تكليف من الله سبحانه وتعالى، مضت بها سنة النبوة الخاتمة ومدرستها الخالدة، وسيرة الصحابة والأئمة الأعلام.
وقضت سنة الله سبحانه وتعالى أن تكون الدنيا دار ابتلاء وتمحيص للناس بعامة وللمؤمنين بخاصة.
وأن يكون المؤمن أشد بلوى، والمؤمن الداعية الصادق اشد ابتلاءً وتمحيصاً، حتى يظل الصف المؤمن نقياً من المنافقين والضعفاء، وحتى يحمي الله المؤمنين من الفتنة وأبوابها، وحتى ترتفع درجة المؤمن بذلك عند ربه.
( ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أُوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كُنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين )
[ العنكبوت : 10 ]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ? قال : " مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل الكافر كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد"
[ رواه الشيخان والترمذي ]
وعن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنهما قال : " قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال : الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقّة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح يشتد البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وماله خطيئة"
[ رواه أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم ] (1)
والآيات والأحاديث كثيرة حول ذلك، لتؤكد وتذكر وتوقظ القلوب، حتى تعي قلوب المؤمنين ما هم مقبلون عليه.
ولا يزال الابتلاء يمضي ويشتد، ليكون من حكمته تمحيص المؤمنين، وكشف ما في صدور العالمين، حتى يكون ذلك حجة لهم أو عليهم يوم القيامة :
( إِن يمسسكم قَرحٌ فقد مَس القوم قَرْحٌ مثله وتلك الأيام نُداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شُهداء والله لا يُحبُّ الظالمين. وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين )
[ آل عمران : 141،140 ]
إنه الابتلاء والتمحيص الذي يمضي على سنن لله ثابتة، وقضاء نافذ، وقدر غالب، وحكمة بالغة. فما كان الله ليذر المؤمنين على ما هم عليه، حتى يميز الخبيث من الطيب، والقوي من الضعيف، وحتى يعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين :
( آلم. أحسب الناس أن يتركوا أَن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين. )
[ العنكبوت : 1-3 ]
حكمة لله بالغة ! حتى يرى الناس يوم القيامة أن الحقّ لله، وأن كل إنسان يُعرض عليه كتابه فيقرؤه بنفسه :
( اقرأْ كِتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً )
[ الإسراء : 14 ]
هناك مصير الإنسان، إما إلى جنة وإما إلى نار. ولا يغادر الإنسان الحياة الدنيا إلا وقد قامت الحجة له أو عليه. فالدار الآخرة هي الهدف الأكبر والأسمى للمؤمن، ولا يبلغ الإنسان الجنة إلا إذا صدق إيمانه وعمله وبذله في الحياة الدنيا، وجهاده وصبره على الابتلاء، ومضيُّه على الصراط المستقيم :
( أم حسِبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين )
[ آل عمران : 142 ]
وكذلك :(/1)
( أم حسبتم أن تُتركُوا ولمَّا يعلم الله الذين جاهدوا مِنكم ولم يتَّخذُوا من دُون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجةً والله خبير بما تعملون )
[ التوبة : 16 ]
وكذلك :
( أم حسِبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراءُ وزُلزِلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إِن نصر الله قريب )
[ البقرة : 214]
وكذلك :
( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبِوا جاءهم نصرنا فَنجِّيَ من نَّشاء ولا يُردُّ بأسُنا عن القوم المُجرمين )
[ يوسف : 110 ]
وأثناء الابتلاء يوسوس الشيطان ما يشاء في النفوس، ليزين الوهن والخوف والفتنة والانحراف. فأما الضعفاء فقد يقعون في شَرك الشيطان، وأما المتقون الأقوياء فيعصمهم الله برحمته، فيثبتون ويصبرون ويمضون على صراط مستقيم إلى الهدف الأكبر والأسمى ـ الجنة ـ. واستمع إلى هذه الآيات الكريمة التي تدخل أغوار النفس، وتكشف ما يدور بها :
( وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين. وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أوادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون. الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قُتِلوا قُل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين )
[ آل عمران : 166-168 ]
واستمع كذلك إلى هذه الآيات الكريمة وهي تذكر وتعظ :
( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سُوء واتّبعوا رضوان الله والله ذُو فضل عظيم. إنما ذلكم الشيطان يُخوف أولياءه فلا تخافُوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين. )
[ آل عمران : 173-175 ]
نعم ! "... فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " ! فقل أيها المؤمن عند الابتلاء " حسبنا الله ونعم الوكيل " !
نعم : " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه... " ! تذكير من عند الله حتى لا يخاف المؤمن عند الابتلاء، ولا يخشى إلا الله، ولا يجعل للشيطان إلى نفسه سبيلاً ! وليذكر الله : " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " ! وليطمئن ! فإنه على حق، وإنه لا يرتكب إثماً ولا جريمة، إنما يقوم بعمل صالح تحتاجه الأمة والبشرية كلها، وإنه ليحمل أشرف رسالة، ويقوم بأكرم دعوة، تصلح ولا تفسد، تعين ولا تؤذي. إنك أيها الداعية إن صدقت الله كنت موضع احترام الجميع، وتقدير العدو والصديق. إنك تعطي الناس حياة بعد موت، ونوراً بعد ظلام :
( أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زُين للكافرين ما كانوا يعملون )
[ الأنعام : 122 ]
( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأنَّ به وإن أصابته فِتنة انقلب على وجهه خَسِر الدنيا والآخرة ذلك هو الخُسران المُبين )
[ الحج : 11 ]
وكذلك :
( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مُّصيبة قالوا إِنَّا لله وإنَّا إِليه راجعون. أُولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون. )
[ البقرة : 155-157 ]
وقد يحدث أن تُضعف الزوجة والأولاد عزيمة الرجل المؤمن، ومن أجل ذلك جاء قوله سبحانه وتعالى :
( يا أيها الذين آمنوا إِن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم. إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم. فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يُوق شُحَّ نفسه فأولئك هم المُفلحون. إن تُقرضُوا الله قرضاً حسناً يُضاعفهُ لكم ويغفر لكم والله شكُور حليم. عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم. )
[ التغابن : 14-18 ]
حقيقة يمر بها المؤمنون في جميع العصور. ومروا بها أيام النبوة الخاتمة، فنزل بها القرآن الكريم ليعلم المؤمنين قواعد الإيمان ونهج التوحيد، ولتكون عظة ماضية مع الدهر كله.
نعم ! " فاتقوا الله ما استطعتم " : في أزواجكم وأولادكم وأموالكم، ولكن : " واسمعوا وأطيعوا " : أمر الله ورسوله، فإنكم على عهد مع الله لا يحل نقضه أبداً " وأنفقوا خيراً لأنفسكم"!
والداعية أجدر من يتذكر عهده مع الله الذي أقامه في الدنيا، عهداً نابعاً من العهد مع الله في بنوده ومبناه ومعناه. وتذكر العهد والوفاء به يبعث في نفس المؤمن الطمأنينة والسكينة، والمضي على صراط مستقيم، ويرفع من نفس المؤمن الخوف والفزع والهلع، حين يشعر أنه في حمى الله وملجأ إلى الله. فالوفاء بالعهد والأمانة محور حياة المؤمن، وأساس صدقه وصلاحه، حتى لا يكون من المنافقين ولا المفسدين :(/2)
( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون. ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمةٍ إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون )
[ النحل : 91-92 ]
فإذا انطلق الداعية المسلم يدعو الناس إلى الحقيقة الكبرى في الكون والحياة، وإلى أخطر قضية في حياة كل إنسان، على نهج محدد جلي، فإنه يكون قد بدأ بالقضية الحق، ومضى على صراط مستقيم بيَّنه الله وفصَّله وأمر عباده المؤمنين أن يتبعوه ولا ينحرفوا عنه، ولا يتوقفوا ولا يتراجعوا . فيكسب الداعية بصدقه وبذله ووفائه النجاة من فتنة الدنيا وعذاب الآخرة، ويمضي إلى الجنة بإذن الله وعفوه ورحمته.
ليست القضية قضية تلاوة لكتاب الله أو حفظه أو دراسة السنة، أو حركات السجود والركوع، أو الجوع الناتج من مظاهر الصيام، أو غير ذلك ! إن الأمر أعمق من هذا، إنه أمر تقوم عليه تلاوة منهاج الله وتدبره، وتقوم عليه الشعائر، وتصدق به الصلاة والصيام، إنه أمر يقوم عليه كل عمل ابن آدم فَيُقْبَلْ عند الله إن صح هذا الأمر، ولا يُقْبَلْ إن لم يصح.
إن هذا الأمر هو الحقيقة التي تستقر في أعماق النفس المؤمنة، إنه الصفاء والصدق والوعي في الإيمان والتوحيد. إنها الفطرة السليمة، والقلب الطاهر، القلب الذي يشعر بالعبودية الكاملة لله رب العالمين، بالولاء الأول له، والعهد الأول معه، والحب الأكبر لله ولرسوله، فيقبل على الآخرة بشوق صادق، ويأخذ زاده الطاهر من الدنيا في رحلته هذه، زاداً طاهراً من عمل طاهر، وجهاد طاهر، ماض على صراط مستقيم، صراط مستقيم يجمع المتقين، وينفي المنافقين المفسدين الذين لن تنفعهم مظاهر صلاتهم وصيامهم وقد خانوا وكذبوا وخدعوا.
ومهما طال أمرهم في الدنيا، فإن مردهم إلى الله، لا يفلتون أبداً من عقابه. وإن الله ليملي للظالم حتى يأخذه أخذاً أليماً. والشرك أشد أنواع الظلم، والنفاق أشد أنواع الشرك وأبعده فساداً، حتى كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار.
وأشد أنواع النفاق هو طلب الدنيا تحت شعار الإسلام، وإخفاء ذلك في الصدور، وإشعار الناس أنه يطلب الآخرة كذباً ومكراً.
ومن أخطر مطالب الدنيا : الجاه والسمعة، والنساء، والمال. فتكاد تكون هذه أهم منافذ الشيطان إلى الإنسان، إلى قلبه وفكره، حتى يُفْتَنَ. ولذلك جعل الإسلام ميزاناً يُكشف به المنافقون، ميزاناً دقيقاً يكشف به ظاهر المنافقين، وأما باطنهم فلا يعلمه إلا الله، ليذيقهم العذاب الأنكى والأشد في الدرك الأسفل من النار.
فعن ابن عمر رضي الله عنه عن الرسول ? أنه قال : " من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار ".
[رواه الترمذي وابن ماجه ] (2)
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن الرسول ? أنه قال : " إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه ".
[ رواه مسلم ] (3)
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن الرسول ? قال : " ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء ".
[ رواه مسلم ] (4)
عن ابن عباس رضي الله عنه عن الرسول ? أنه قال : " من سمَّع سمّع الله به، ومن راءى راءى الله به ".
[رواه مسلم ] (5)
وفي كتاب الله وسنة نبيه ? أمثلة كثيرة من آيات وأحاديث تكشف أبواب الفتن ومسالك النفاق ودروب الشيطان ليحذرها المؤمن لا ليقع فيها.
لقد كان بين المؤمنين أيام الرسول ? منافقون، يسعون لدفع المؤمنين إلى الانحراف عن الصراط المستقيم، فرد الله كيدهم في نحورهم وأخزاهم، وقد عرف المؤمنون أساليبهم ومكائدهم، فحذروا منهم أشدَّ الحذر، حتى صار المنافق يعرف بسمات النفاق ولو لم يعرف اسمه : ( ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم )
[ محمد : 30 ]
فكيف حالنا اليوم ؟! وقد اختل الميزان بأيدي الناس، واضطربت المكاييل، وامتدت الفتن بكل أشكالها : حب السمعة والجاه، وطلب المركز ذي السلطة والنفوذ، والجري اللاهث وراء المال ووراء النساء.
لابد أن يصدق الميزان اليوم بأيدي المؤمنين، حتى لا تصب جهودهم في ساحة المنافقين أو أعداء الله وهم لا يشعرون. وقد يكشفون ذلك بعد عشرات السنين، وفوات الفرصة ووقوع البلاء وغلبة الأعداء !
فَلْنُغَيِّرْ ما بأنفسنا كلنا أيها المسلمون حتى ننجو من الفتنة والابتلاء، وحتى يغير الله حالنا إلى النصرة والعزة والتمكين.
(1) الفتح الرباني : أحمد : 19/127. الترمذي : 37/56/2398، النسائي : في الكبرى الطب. ابن ماجه : الفتن ـ باب الصبر على البلاء.
(2) صحيح الجامع الصغير وزيادته : ( ط : 3 ) ( رقم : 6382، 6383 ).
(3) المصدر السابق : ( رقم : 4292 ).
(4) مسلم : 48/26/274.
(5) مسلم : 53/5/2986.(/3)
الزهد
دار القاسم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الزاهدين وإمام العابدين، أما بعد:
فإن الدنيا دار سفر لا دار إقامة، ومنزل عبور لا موطن حبور، فينبغي للمؤمن أن يكون فيها على جناح سفر، يهيئ زاده ومتاعه للرحيل المحتوم، فالسعيد من اتخذ لهذا السفر زاداً يبلغه إلى رضوان الله تعالى والفوز بالجنة والنجاة من النار.
إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريق
والليالي متجر الإنسان والأيام سوق * تعريف الزهد في الدنيا:
تعددت عبارات السلف في تعريف الزهد في الدنيا وكلها تدور على عدم الرغبة فيها وخلو القلب من التعلق بها.
قال الإمام أحمد: الزهد في الدنيا: قصر الأمل.
وقال عبدالواحد بن زيد: الزهد في الدينار والدرهم.
وسئل الجنيد عن الزهد فقال: استصغار الدنيا، ومحو آثارها من القلب.
وقال أبو سليمان الداراني: الزهد: ترك ما يشغل عن الله.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة، واستحسنه ابن القيم جداً.
قال ابن القيم: والذي أجمع عليه العارفون: أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا، وأخذ في منازل الآخرة !!.
فأين المسافرون بقلوبهم إلى الله؟
أين المشمرون إلى المنازل الرفيعة والدرجات العالية؟
أين عشاق الجنان وطلاب الآخرة؟
الزهد في القرآن:
قال الإمام ابن القيم: والقرآن مملوء من التزهيد في الدنيا، والإخبار بخستها، وقلتها، وانقطاعها وسرعة فنائها، والترغيب في الآخرة والإخبار بشرفها ودوامها.
* ومن الآيات التي حثت على التزهيد في الدنيا:
1ـ قوله تعالى: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان ? وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ? [ الحديد:20] .
2ـ وقوله سبحانه: ? زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ? [ آل عمران:14] .
3ـ وقوله تعالى: ? مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ? [ الشورى:20] .
4ـ وقوله تعالى: ? قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ? [ النساء:77] .
5ـ وقوله تعالى: ? بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَ? 16 ?وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ? [ الأعلى:16-17] .
* أحاديث الزهد في الدنيا:
أما أحاديث النبي التي رغبت في الزهد في الدنيا والتقلل منها والعزوف عنها فهي كثيرة منها:
1ـ قول النبي لابن عمر رضي الله عنهما: ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) [ رواه البخاري] . وزاد الترمذي في روايته: ( وعد نفسك من أصحاب القبور ) .
2ـ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر )[ رواه مسلم] .
3ـ وقال- صلى الله عليه وسلم- مبيناً حقارة الدنيا: ( ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع )[ رواه مسلم] .
4ـ وقال : ( مالي وللدنيا،إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال ـ أي نام ـ في ظل شجرة، في يوم صائف، ثم راح وتركها )[ رواه الترمذي وأحمد وهو صحيح].
5ـ وقال : ( لوكانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة ماء )[ رواه الترمذي وصححه الألباني] .
6ـ وقال : ( ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس ) [ رواه ابن ماجه وصححه الألباني] .
7ـ وقال : ( اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصاً، ولا يزدادون من الله إلا بعداً ) [ رواه الحاكم وحسنه الألباني] .
* حقيقة الزهد في الدنيا:
الزهد في الدنيا هو ما كان عليه رسول الله وأصحابه، فهو ليس بتحريم الطيبات وتضييع الأموال، ولا بلبس المرقع من الثياب، ولا بالجلوس في البيوت وانتظار الصدقات، فإن العمل الحلال والكسب الحلال والنفقة الحلال عبادة يتقرب بها العبد إلى الله ، بشرط أن تكون الدنيا في الأيدي، ولا تكون في القلوب، وإذا كانت الدنيا في يد العبد لا في قلبه، استوى في عينه إقبالها وإدبارها ، فلم يفرح بإقبالها، ولم يحزن على إدبارها.
قال ابن القيم في وصف حقيقة الزهد: وليس المراد ـ من الزهد ـ رفضها ـ أي الدنيا ـ من الملك، فقد كان سليمان وداود - عليهما السلام- من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء مالهما.
وكان نبينا من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة.(/1)
وكان علي بن أبي طالب، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير وعثمان - رضي الله عنهم- من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال.
ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن أو غيره: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك.
جاء رجل إلى الحسن فقال: إن لي جاراً لا يأكل الفالوذج، فقال الحسن: ولم؟ قال: يقول: لا أؤدي شكره، فقال الحسن: إن جارك جاهل، وهل يؤدي شكر الماء البارد؟.
* أهمية الزهد:
إن الزهد في الدنيا ليس من نافلة القول، بل هو أمر لازم لكل من أراد رضوان الله تعالى والفوز بجنته، ويكفي في فضيلته أنه اختيار نبينا محمد وأصحابه، قال ابن القيم - رحمه الله- لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان، وإما من فساد في العقل، أو منهما معاً.
ولذا نبذها رسول الله وراء ظهره هو وأصحابه، وصرفوا عنها قلوبهم، وهجروها ولم يميلوا إليها، عدوها سجناً لا جنة، فزهدوا فيها حقيقة الزهد، ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب، ولوصلوا منها إلى كل مرغوب، ولكنهم علموا أنها دار عبور لا دار سرور، وأنها سحابة صيف ينقشع عن قليل، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى أذن بالرحيل.
* أقسام الزهد:
قال ابن القيم - رحمه الله- الزهد أقسام:
1 زهد في الحرام وهو فرض عين.
2 وزهد في الشبهات، وهو بحسب مراتب الشبهة، فإن قويت التحق بالواجب، وإن ضعفت كان مستحباً.
3وزهد في الفضول، وهو زهد فيما لا يعني من الكلام والنظر والسؤال واللقاء وغيره.
4 وزهد في الناس.
5 وزهد في النفس، بحيث تهون عليه نفسه في الله.
6 وزهد جامع لذلك كله، وهو الزهد فيما سوى الله وفي كل ما يشغلك عنه.
وأفضل الزهد إخفاء الزهد.. والقلب المعلق بالشهوات لا يصح له زهد ولا ورع.
* أقوال السلف في الزهد:
قال على بن أبي طالب - رضي الله عنه-: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل، ? وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ?[ البقرة:197] .
وقال عيسى بن مريم- عليه السلام-: اعبروها و لا تعمروها.
وقال: من ذا الذي يبني على موج البحر دارا؟! تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا.
وقال عبدالله بن عون: إن من كان قبلنا كانوا يجعلون للدنيا ما فضل عن آخرتهم، وإنكم تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم.
قلت: هذا كان في زمان عبدالله بن عون، أما اليوم فإن أكثر الناس قد زهدوا في الآخرة حتى بالفضلة !!
* الأسباب المعينة على الزهد في الدنيا:
1 النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها ونقصها وخستها وما في المزاحمة عليها من الغصص والنغص والأنكاد.
2 النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات.
3 الإكثار من ذكر الموت والدار الآخرة.
4 تشييع الجنائز والتفكر في مصارع الآباء والإخوان وأنهم لم يأخذوا في قبورهم شيئاً من الدنيا ولم يستفيدوا غير العمل الصالح.
5 التفرغ للآخرة والإقبال على طاعة الله وإعمار الأوقات بالذكر وتلاوة القرآن.
6 إيثار المصالح الدينية على المصالح الدنيوية.
7البذل والإنفاق وكثرة الصدقات.
8 ترك مجالس أهل الدنيا والاشتغال بمجالس الآخرة.
9الإقلال من الطعام والشراب والنوم والضحك والمزاح.
10 مطالعة أخبار الزاهدين وبخاصة سيرة النبي وأصحابه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/2)
الشهوة الخفية!
يتناول الدرس فتنة تتساقط تحتها كرامة الرجال، وتنكشف أمامها كمائن القلوب، تغلغلت داخل بعض التجمعات الدعوية، وتسيطر على بعض النفوس المريضة، وهذه الفتنة هي حب الرئاسة، وحبّ الظهور والعلو وهذا بداية السقوط والانحراف والفشل .
أواخر الخلافة العثمانية كثر صراع السلاطين على الزعامة والنفوذ، وانتشر السجن والقتل بينهم، حتى إنّ أحد الخلفاء قتل تسعة من إخوانه لتثبيت حكمه وحكم ولده من بعده..!
أليست هذه الحادثة جديرة بالتأمل والنظر..؟! غريب هذا الإنسان.. ألهذا الحدّ يبلغ به بريق الزعامة..؟! ألهذا الحد يطغى ويتجبر من أجل الوصول إلى القمة..؟!
? وليس هذا المثال نشازاً لا نظير له؛ فكتب التاريخ ـ في قديم الدهر وحديثه ـ طافحة بنظائره، بل إنّ التاريخ الحديث يُرينا إبادة وإذلال شعوب بأكملها، فحبّ الزعامة والظهور يُعمي ويصم، ويجعل الإنسان يبيع كل شيء من أجل الوصول إليها..!
? وليس عجيباً أن تتواتر النصوص النبوية في التحذير من السعي إلى الإمارة، فهي فتنة تتساقط تحتها كرامة الرجال، وتنكشف أمامها كمائن القلوب..! لقد اعتدنا ذلك من الساسة وطلاب الدنيا، وأصحاب المغانم الفانية.
?ولكن الغريب كل الغرابة أن ينتقل الداء داخل بعض التجمعات الدعوية، ويسيطر على بعض النفوس المريضة، من حيث تشعر حيناً، ومن حيث لا تشعر أحياناً أخرى! حتى يصبح همّ المرء أن يسوّد على خمسة أو عشرة ـ أو أقل أو أكثر ـ دون أن يُفكر بورع صادق في تبعات ذلك في الدنيا والآخرة، فهي أمانة.. وإنها يوم القيامة خزي وندامة، قال يوسف بن أسباط:' الزهد في الرياسة أشد من الزهد في الدنيا' .
? إنّ ضباباً كثيفاً يطغى على بصر الإنسان حينما يرى لمعان القيادة يطل عليه من بعيد، وتظل نفسه تحدّثه، ويُمنيه هواه بالوصول إليها، فتراه ينسى نفسه ويلهث من أجل الوصول إليها، والعض عليها بالنواجذ، ثم تجد التسابق والتنافس، بل الكيد والكذب أحياناً للوصول إلى المطلوب، فالغاية تبرّر الوسيلة! وصدق الفضيل بن عياض عندما قال:' ما من أحد أحبّ الرياسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير'.
? بئست الدعوة حينما تكون مغنماً وجاهاً وشرفاً، ينتفخ فيها المرء ويتيه ويتبختر..!
? وبئس الداعية حينما يسعى لاهثاً وراء زخرف عاجل، وعرض قريب، وما أجمل قول الحافظ الذهبي:'ما أقبح بالعالم الداعي إلى الله الحرص وجمع المال' .
? إنّ حبّ الظهور والعلو بداية السقوط والانحراف والفشل، وما أحكم رسول الله حينما يقول: [مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ] رواه الترمذي وأحمد وإسناده صحيح.
? قال شدّاد بن أوس رضي الله عنه: [ يَا بَقَايَا الْعَرَبِ.. يَا بَقَايَا الْعَرَبِ! إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُم: الْرِّيَاءُ، والْشَّهْوةُ الْخَفِيّةُ] قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرئاسة!.
? وإنّ نصر الله عز وجل، وتأييده لا يتنزل إلا على عباده المخلصين، الأخفياء الأتقياء، الذين تشرئب أعناقهم وتتطلع قلوبهم إلى النعيم المقيم، في مقعد صدق عند مليك مقتدر؛ قال تعالى:}تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[83]{ [سورة القصص].
من رسالة:'في البناء الدعوي' للشيخ/ أحمد عبد الرحمن الصويان(/1)
الشهيد
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
تألّقي يا جِنَان الخُلْد كم بطلٍ ... ... إليك في زهْوةٍ الأشواق قد نفرا
مُضمخّاً بزكيّ الطّيب ينشرهُ ... ... مجلّلاً بهُدى الإحسان مُؤْتزرا
يَحُفُّهُ في جلالٍ من شهادته ... ... نُورٌ ويُلقي عليه سُندساً خَضِرا
خفّت إليه طيوف من منائرها ... ... عينٌ كواعِبُ تَجْلو الحُسْنَ والحَوَرا
ما كان يَخْطو خُطاً إلا يهزّ بها ... ... داراً من الظّلم أو يرمي بها جُدُرا
وما خَطا للهدى إلا أنَار به ... ... دَرْباً وشَقَّ سبيلاً أو جلا ظفرا
كُلُّ الرِّياحين من أنفاسه عبقت ... ... وكُلُّ مِسْكٍ على جولاته انتشرا
يكاد يَسكب في كلّ الدروب دماً ... ... يروي به الأرض أو يروي به العصرا
إنّ الشَّهيد حياةُ النَّاس كُلِّهم ... ... فيه وكلّ رُواء الأرض مِنْهُ جَرى
يُعلّم الناس قول الحق أين مضوا ... ... ويجتلي في ميادين التّقى الخبرا
لولاه لم يبق للإحسان منزلةٌ ... ... في النَّاس أو صادقٌ يقْفُو له أثرا
هي الشَّهادة أعْراسٌ يُزفُّ لها ... ... رجالها ومعالي المجد حيث ترى
تزاحموا في دروب الحقّ واستبقوا ... ... إلى مناهلها الأحداث والغيرا
تنافسوا في ميادين الهُدى شرفاً ... ... وأقبلوا وثباتٍ بينها زُمرا
وآية الله فيهم أنَّهم سَبَقُوا ... ... راضين ، كلٌّ على إحسانه ظفرا
وخلّفوا في وحول الأرض من علقت ... ... قلوبهم بِهَوى منها ومن قصرا
تنافسوا شهوة الدُّنيا فما ربحوا ... ... إلا الهلاك ولم يلقوا بها وَطَرا
لمَّا انتهى أجلٌ قالوا : إذن خَسِرَتْ ... ... تِجَارةٌ ، ويْلَهم ، يَا ذُلَّ من خَسِرا
*(/1)
الطوفان تسونامي
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
زَلْزِلي يا " بِحَار " وابْتَلِعي الأرْ ... ... ضَ وأَلْقي مِنْ جَوْفِكَ الأَهْوالا
أطْلقي الموْجَ كالجبال تَدَافعْـ ... ... ـنَ جِبالاً تَعْلُو وتَهْوي جِبالا
واعْصفي يا " بِحَارُ " بالموتِ هُبِّي ... ... بالأعاصير تَسْحقُ الأجْْيالا
هاهُنا أمْسِ كان خلْقٌ كثيرٌ ... ... أينَ غابوا ؟! فكلّ شيءٍ زالا
* * * ... ** ... * * *
فاجَأتْهُمْ عواصِفٌ فاسْتَداروا ... ... لِنَجاةٍ فَمَا أَصَابُوا مَنَالا
والتطامُ الأمْواج ! يَجْرُفُ دُنْيَا ... ... هُمْ ! وعَصْفُ الآفاق هاجَ وجالا
ودويٌّ تَراهُ يَزْحَفُ بالْمَوْ ... ... تِ فَيُلْقِي الهلاكَ والأَوْجالا
أيّ زَحْفٍ تَرَاُه يَقْتَلِعُ البُنْيَـ ... ... ــانَ والأهْلَ ! يَخْطَفُ الآجَالا
يا لَهَوْلٍ تَرَاهُ يَجْتَاحُ أَقْطا ... ... راً وَيَمْتدّ فِتْنَةً ونَكَالا
مَلأَ الهَوْلُ كُلَّ دارٍ أَتَاها ... ... أَنْدُنِسْيا والهِنْدَ والصُّومالا
ورَوابِي سِرْلَنْك ! تيْلندَ ! تَبْكِي ... ... كُلُّها الدَّارَ والرُّبَى والرِّجالا
فُجِّرَتْ تِلْكُمُ البِحارُ وجُنَّتْ ... ... غَضَباً جَاوزَ الرُؤى والخَيالا
ورَمَى جَوْفُها القذائِفَ أَمْوا ... ... جاً تَوالَتْ وَ أَعْوَلَتْ إِعْوالا
وَعَلَتْ في الفضاءِ أيّ عُلوٍّ ... ... حَمَلتْ في عُلُوِّها الأحْمَالا
وَهَوَتْ تَنْشُر البلاء بَلاءً ... ... حيث تَهْوي وتَنْثُُرُ الأطْلالا
وتَراها كَأنَّها البَرْقُ مرَّت ... ... تَخْطفُ الخَلْقَ والنُّفوسَ اغتيالا
تَنْزِعُ النَّاسَ للفضاءِ وترميْ ... ... يا لَهْولٍ يُرَوِّعُ الأهْوالا
مُزِّقِوا ثُمَّ غُيِّبِوا بين أَطْلا ... ... لٍ يُنَاجُون تِلْكُمُ الأطلالا
وأَمَانٍ تَنَاثَرَتْ وتَنَاءَتْ ... ... وهي تَبْكي دِيَارها والآلا
وطُلُولٍ مَن المنازِل ألْقَتْ ... ... بَيْنها ما حَوتْه والأثْقَالا
وبَقاياالأجسام! واخْتَلط الشـ ... ... ـيء مع الشيء ! لا ترى أَشْكالا
وزوايا مِن الأثاث ، وأحْْجَا ... ... رٌ ، وشيء تَظَنُّه أَسْمالا
مِنْظر يَخْطَفُ النُّفوس ويُلْقي ... ... بين أحَنَائها أسىً وابْتهالا
وخُشَوعاً وخَشْيةً يَرْجفُ القلـ ... ... ـبُ لديْها وعَبْرةً تَتَوالى
* * * ... ** ... * * *
لَهفَ نفسي ! على المناظِرِ تَطْوي ... ... شَبَحَ الموتِ رَهْبَةً وجَلالا
هَا هُنا كَانت الدُّروب ضَجيجاً ... ... بيْنَها النَّاس يَلْهثُون عِجالا
ويحَ نفسي كَأنَّهمْ في سباقٍ ... ... أَطْلقوا فيه للهوى الآمالا
ها هنا كانت العمائر تَعْلُو ... ... ناطحاتٍ تَتِيهُ فيه اختيالا
جَهِلوا أنَّ في الحياة غيوباً ... ... تفجأُ النَّاسَ رهْبَةً ووَبَالا
كلُّ أَمْرٍ يدورُ في الكَوْن يَمْضي ... ... قَدراً غَالِباً وأوفى منَالا(1)
* * * ... ** ... * * *
ها هُنا كانتِ الحياةُ رِغَاباً ... ... هَائِجَاتٍ وشَهْوَةً تَتَوالى
مُتَعٌ في الحياةِ هَيَّجْنَها أشـ ... ... ـعَلْنَ فيها أَشواقَها إشعالا
أسْكَرتْهُمْ مَعَ الهَوى شَهَواتٌ ... ... وَرَمَتْهمْ في تِيِهها جُهَّالا
فَنَسُوا غايةَ الحياة وضجُّوا ... ... بَيْنَ سَاحاتِ لَهْوِهمْ أَرْتَالا
فإذا حُمَّ في الدِّيارِ قَضاءٌ ... ... أَخذَ الصَّالحين والضُّلالا
أخذَ الصَّالحين لمَّا تغَافَوْا ... ... عن وَفاءٍ وَأَغْفَلُوا إِغْفَالا
* * * ... ** ... * * *
أَقْبلَ المَوْجُ بالهلاك وضَجّتْ ... ... مِنهُ سَاحٌ وزُلْزِلَتْ زِلْزالا
لَمْ يَدَعْ دونَه على الأرض شيئاً ... ... خَلَّفَ الأرضَ كَوْمةً وَتِلالا
ودَنَا زَحْفُهُ هُنالكَ حَتَّى ... ... بَان لله مِسْجدٌ يَتَعالى
مِسْجدٌ مُشْرِقٌ على الأرض آيٌ ... ... يَنْشُر النُّور والهُدى والجَمالا
كُلُّ شَيءٍ سِواه أَضْحَى يَبَاباً ... ... وهُو بالحقِّ نُورُه يتَلالا
هَدَأتْ دونه الأعاصيرُ والمَوْ ... ... جُ وأَهْوَتْ أَمَاَمَه إجْلالا
وتنحَّتْ عَنْه هُنَاك وَ غَابَتْ ... ... ثُمَّ رَاحَتْ تُحدِّثُ الأَجْيالا
إنَّها آيةٌ من الله حقَّاً ... ... صَدقَتْ عِبْرَةً وصَحَّتْ مقالا
* * * ... ** ... * * *
حَدَِّثي " إتشُ " ما دهاكِ فَأْلقى ... ... فيك شرَّاً يَسْتفْحِل استفحالا
أَينَ أبْناؤكِ الذين تَولَّوا ... ... ثُمَّ غَابُوا واسْتُؤْصِلوا اسْتِئْصالا
أَمِئاتُ الألوف غَابُوا مَعَ الموْ ... ... جِ شُيوخاً ونِسْوةً ورجالا
وشَباباً ! والموت يَبْتلعُ النَّا ... ... سَ ويُرْدِي الشَّباب والأطْفَالا
كَمْ يتيمٍ يتيهُ في الأرض يَلْقَى ... ... دونَهُ يُتَّماً قَضَوْا وثكالى
* * * ... ** ... * * *
وَرَضيعٌ مَضى تَقاذَفَهُ الموْ ... ... جُ ! وأُمُّ تُصَارِعُ الأَهْوالا
حَمَلَتْه الأَمْواجُ حتَّى رَمَتْه ... ... فوقَ لوحٍ فَظلََّ آمَنَ حالا
ثُمَّ أَلْقَتْهُ للشَّواطئ ! لا يَدْ ... ... ري أَيَلْقى أُمَومةً أو آلا(/1)
قد رَعَتْهُ عِنايةُ الله ! تَرْعَى ... ... كُلُّ شيءٍ إذا غَفَا أو جَالا
إنَّها آيةٌ من الله تُلْقِي ... ... نُذُرَاً لِلْوَرَى وتُوقِظُ بالا
* * * ... ** ... * * *
لو تَرى الطَّفلَ كَيْف يَقْذِفُه الموْ ... ... جُ فَيَلْقى من الحياة مَجالا
حَمَلتْهُ عِنايةُ الله حَتَّى ... ... أَسْكَنَتْهُ بينَ الغُصونِ ظِلالا
آيةٌ بعدَ آيةٍ في السَّموا ... ... تِ وفي الأرض لم تَزَلْ تَتَوالى
قَدَرٌ غالبٌ وحكمةُ خَلا ... ... قٍ وعدْلٌ يُقَدِّرُ الأحْوالا
سُنَّةُ اللهِ في الحياة تراها ... ... كَمْ تسوقُ الآياتِ والأمثالا
* * * ... ** ... * * *
ذِكْرياتُ الطُّوفان غابتْ كأنْ لَمْ ... ... يَذُقِ النَّاسُ عِنْدَها الأنْكالا
خَدَرٌ في العُروقِ يُنْسِي ولَهْوٌ ... ... يَطْرَحُ النَّاسَ نُوَّماً وكُسَالى
يَنْزِعُ العَزْمَ مِنْ نُفوسٍ ويُبْقي ... ... بَيْنَ أَحْنائِها الهَوانَ وَبَالا
أيُّ شيءٍ أشَدُّ هَوْلاً أَطُوْفا ... ... نٌ يَبُثُّ الدَّمارَ والأطلالا ؟!
أمْ تُراه الطُّوفانُ يَنْشُر في الأرْ ... ... ضِ فَسَاداً وفِتْنَةً وضَلالا ؟!
فِتْنَةُ النَّاسِ عن هُدى اللهِ تُلْقي ... ... فيهِمُ فِتْنَةً أشدَّ نَكَالا
* * * ... ** ... * * *
مَنْ تُرَاهُ يَهُبُّ للنَّاس يُلْقي ... ... فَيْضَ أَحْنَائِهِ يَداً ونَوالا
مَنْ يُغيثُ الملْهُوفَ في خَشْيَةٍ للّـ ... ... ـهِ يَرْجُو إلى النَّجَاةِ مَآلا
مَنْ تُراهُ يَردُّ دَمْعةَ طِفْلٍ ... ... أوْ يَتيمٍ مُشَرَّدٍ قَدْ عَالا
مَنْ تُراهُ يَسُدُّ جوع فَقيرٍ ... ... أَوْ يُدَواي القلُوبَ والأحْوالا
ليسَ كالمؤمن التقيِّ مُغيثاً ... ... لِعيال الرَّحْمَنِ يُصْلِحُ بَالا
إِنَّما الخَلْقُ كُلُّهُمْ أَيُّها النَّا ... ... سُ عِيالٌ للهِ فَارْعَوْا عِيالا
كَيْفَ تدعو للهِ تُغْدِقُ بالْوَعْـ ... ... ـظِ ولا تُوهِبُ النُّفوسَ وِصَالا
كَيْفَ لا تكْسب القلوبَ بِمَعْرُو ... ... فٍ وإِحْسَانٍ يَفْتَحُ الأقْفَالا
أَيُّها المؤمنونَ أَنْتُمْ أَحَقُّ النْـ ... ... ـناسِ أوفُوا العُهودَ والآمالا
* * * ... ** ... * * *
... ... الرياض
1/1/1426هـ
10/2/2005م(/2)
الزواج الميسر " زواج فريند"
الحمد لله والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد: -
فقد تناقلت وسائل الاتصال فتوى للشيخ عبد المجيد الزنداني تجيز زواجا سماه البعض زوج فريند، ودار حوله خلاف كبير وفي هذا البحث سأسلط الضوء على هذا النكاح مبينا ماهيته وحكمه الشرعي.
أولا: نظرة لواقع الزواج:
اشتهر في الغرب ما يسمى بالعشيق والعشيقة، وهو الصديق المعاشر معاشرة الأزواج وعم هذا وطم حتى أصبح أمرا عاديا بل أصبح الفتى أو الفتاة الذين ليس لهم عشيق أو عشيقة يعد مريضا نفسيا يطاف به في العيادات والمستشفيات.
و من الأسباب التي تسببت في انتشار وباء الزنا ، الجو الجنسي السائد من إعلام بكافة صورة وبيئة تمتلئ بمشاهد الإثارة الجنسية، وتعليم جنسي تحت مسمى الثقافة الجنسية مما أحال الحياة الغربية إلى حياة جنسية تظهر آثارها المدمرة في كل زاوية من زواياها.
ومن المعلوم أن كثيرا من الجاليات الإسلامية تعيش في بلدان غربية وهي بلا شك قد تتأثر ببعض قيم وأخلاقيات هذه المجتمعات الموبوءة أخلاقيا، وخاصة الجيل الناشئ في تلك الديار، فإنه سيرى المغريات والمشاهد الجنسية تحيط به من كل اتجاه مما قد يضعفه وتخور قواه إذا ما استمر في كبت هذه الغريزة ونفس الكلام يقال في الفتاة.
وإن كان الزواج في مثل هذه الحالات واجبا لمن قدر عليه إلا أن هؤلاء القادرين حين تبحث عنهم تجدهم قلة قليلة جدا، ذلك أن القدرة تعني: المهر وتكاليف العرس، والسكن وما يحمله من كماليات نزلها بعضهم منزلة الضروريات ونفقة وغيرها مما يعجز عنها الكثير من شباب اليوم، زد على ذلك جشع بعض الآباء الذي جعل من ابنته مغنما وسلعة يساوم ويزايد عليها ويدفعها لمن يدفع أكثر مما جعل الزواج أمرا بعيد المنال إن لم يكن مستحيلا وهذه يفضي إلى مفاسد خطيرة جدا تؤدي إلى خراب المجتمع ولعل من أبرزها وأهمها انتشار الفاحشة بكل أشكالها، فعندما يحاط الفتى أو الفتاة بالجو الجنسي المشحون ويأخذه اليأس ولا يستطيع على زواج يستر به نفسه ويجتنب هذا الوباء ولضعف في الوازع الديني فإنه غالبا ما يقع فيما حرم الله.
ثانيا: تصوير زواج فريند:
خروجا من مفاسد العشق وأن يفاجأ الأب بصديق ابنته في غرفتها ومواجهته بالحرية الشخصية، ومن أن يفاجأ بابنته تدخل عليه مثقلة البطن أو اليدين بطفل لا يدري مصدره.
وتعاملا مع الواقع المتأزم الذي يصعب فيه تكوين أسرة مستقرة في بيت يتولى الزوجان فيه مباشرة أعمالهما المنوطة بهما، وبذل كامل الحقوق التي عليه للطرف الآخر.
جاءت فكرة الزواج بين الفتى والفتاة ولكن بدون أن يلتزم الزوج بتبعات الزواج المالية كالنفقة والسكنى، إذ يعقد بين الزوجين ثم إذا ما أرادا المعاشرة فلهما أن يذهبا إلى أي مكان يطمئنان فيه إما منزل الأبوين أو الأقارب أو صديق أو أي مكان آخر.
ثالثا: تعريف الزواج وأركانه:
قبل أن ندلف لبيان حكم هذا الزواج لا بد أولا من معرفة ماهية عقد الزواج وأركانه التي لا يصح نكاح إلا بها وأنه إذا انخرم ركن منها فإن النكاح يكون باطلا ولا يجوز إنفاذه، كي يتسنى لنا معرفة حكم هذا الزواج معرفة جلية.
يعرف العلماء عقد الزواج بعدة تعاريف منها:
• عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ إنكاح أو تزويج أو ترجمة(1).
• عرف بعضهم النكاح بأنه عقد يفيد ملك المتعة قصدا ومعنى ملك المتعة اختصاص الرجل ببضع المرأة . وسائر بدنها من حيث التلذذ
• عقد بلفظ إنكاح أو تزويج على منفعة الاستمتاع(2)
و وهو حقيقة في العقد مجاز في الوطء كما جاء به في القرآن(3).
أما أركان النكاح فهي: الإيجاب والقبول، والولي -عند الجمهور خلافا لأبي حنيفة-، وشاهدان، ورضا الزوجة، والصداق.
فهذا هو تعريف النكاح وبيان أركانه، فإذا ما اكتملت الأركان صح النكاح وحل الاستمتاع بإجماع أهل العلم.
ونلاحظ هنا أن وجود السكن وتوابعه ليس من أركان العقد بتاتا، ذلك لأن السكن من نتائج وثمرات عقد النكاح إذ إنه لا يتوجب تجهيز السكن حتى يصح النكاح وهذا أمر معلوم بداهة.
رابعا: تنازل الزوجة عن الحقوق:
هنا نطرح سؤالا مهما تعرض له الفقهاء قديما وحديثا وهو هل يجوز للزوجة أن تتنازل عن حقوقها الزوجية؟وأجيب على هذا السؤال في النقاط التالية:
1- يجوز للمرأة أن تتنازل عن المهر كله أو بعضه لزوجها بإجماع لقوله تعالى: ?وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ? [النساء:4] ، أي فإن طابت أنفسهن لكم عن شيء من الصِداق فوهبنه لكم فكلوه طيباً محمود العاقبة لا ضرر فيه عليكم في الآخرة ، وقد نزلت رداً على من كرَّه ذلك(4)، (5)ولكن هذا التنازل لا يكون قبل العقد لأن فيه حقا لله غالب، وإنما يجوز لها التنازل بعد العقد، وليس لها الرجوع بعد ذلك.(/1)
2- للزوجة التنازل عن النفقة والذي منها السكن، ولكن لا يصح هذا التنازل إلا بعد العقد لا قبله، لعدم وجود سببه حينئذ فتسقط نفقتها المستقبلية عند المالكية(6)، وخالفهم الجمهور وذهبوا إلى عدم صحة الإبراء، ولكن ليس معنى كلامهم وجوب مطالبة الزوجة لزوجها بالنفقة بل الأمر عائد إليها إن شاء طالبت وإن لم تشأ فلا شيء عليها، كما ذهب الجمهور إلى صحة التنازل عن النفقة الماضية(7)، بل نقل عن الإمام أحمد في الرجل يتزوج المرأة على أن تنفق عليه في كل شهر خمسة دراهم أو عشرة دراهم أن النكاح جائز ولها أن ترجع في هذا الشرط(8).
3- اتفق الفقهاء على صحة إسقاط الزوجة حقها في القسم في المبيت إذا رضي الزوج بذلك لأن الحق لها فلها أن تستوفي ولها أن تترك(9).
خامسا: حكم زواج فريند أو الزواج الميسر:
بعد أن تناقلت وسائل النشر الالكتروني وغيرها فتوى الشيخ عبد المجيد الزنداني بجواز هذا الزواج اختلف علماء العصر اختلافا شديدا حول هذه الفتوى، وعارضه بعضهم بشدة لدرجة التهكم والتجهيل وغيرها مما دعا شيخي الشيخ عبد المجيد الزنداني إلى أن يصدر بيانا يبين فيه وجهة نظره وفي هذه النقطة استعرض للقولين ووجهات نظرهم.
القول الأول صحة هذا النكاح، ودلل بما يلي:
1- توافر كل أركان وشروط عقد النكاح والذي يعني صحة هذا العقد بإجماع أهل العلم.
2- من حق المرأة أن تتنازل عن حقها في المبيت والنفقة، والمأوى كما سبق بيانه.
3- فيها علاج مشكلة كبيرة وهي: تجاوز تكاليف الزواج قدرة الشباب والفتيات، والذي أدى في نهاية المطاف إلى بروز ظاهرة العنوسة مع ما تحمله من مفاسد جمة، يقول الشيخ علي أبو الحسن رئيس لجنة الفتوى في الأزهر الشريف السابق: إن الفكرة التي دعا إليها الزنداني هي الحل الأمثل لاختفاء الرقم الأخير من الملايين التسعة الذين بلغوا سن الثلاثين، ولم يتزوجوا بعد في مصر وحدها ، فضلا عن قوائم شبيهة من الشباب والفتيات الذين فاتهم القطار في جميع الدول العربية والإسلامية بسبب البطالة وارتفاع تكاليف الزواج وفشل الشباب في توفير بيت الزوجية(10) .
4- أنه يحقق مقصد من مقاصد النكاح وهو (العفة).
القول الثاني: فقد شن حملة شعواء على القول الأول ورفض الفتوى جملة وتفصيلا واستند إلى ما يلي:
1- ومن مقاصد الزواج الأساسية السكن والمودة بين الزوجين ، فإذا لم تتحقق هذه المقاصد فقد الزواج قيمته الأساسية ، وأصبح مجرد شهوة يتساوى فيها الإنسان والحيوان .
2- ويؤدي إلى الإفساد وخلط الأنساب . ومخالفة الشرع وارتكاب الفواحش وكثير من الجرائم والمفاسد الاجتماعية والأخلاقية .
3- تشبهه بنكاح المتعة الذي نهى عنه الرسول نهيا قطعيا ، حيث المقصود الأصلي منها هو مجرد قضاء الوطر دون الاستمرار في السكنى والمودة والرحمة.
وعقد الزواج الأصل فيه الاستمرارية والاستقرار، ولذلك،فإن كل عقد مقيد بمدة معينة، هو عقد باطل، والعقد الصحيح مطلوب فيه تحقيق الآثار الشرعية المترتبة عليه في الحال، فلا يوجد في الإسلام زواج موقوف،ولكن زواج نافذ وجائز مستمر(11).
المناقشة والترجيح:
من خلال العرض السابق للقولين أود أن أسجل هنا جملة ملاحظات على القول الثاني وهي:
1- يلاحظ على المانعين استخدام العبارات الثقافية والوعظية المطاطة التي لا تدل على مراد معين بل قرأت لبعضهم مقالات حول هذا الموضوع لا يخرج بمجمله عن هذا الإطار، والمسألة ليست وعظية صحفية إنما هي قضية فقهية تستدعي النظر في تكييفها والحكم الشرعي عليها.
2- نتيجة لما سبق لم يتضح لي مراد المانعين من هذا المنع فهل يقصدون حرمة وبطلان العقد كما يظهر من تشبيه بعضهم له بنكاح المتعة، أم يريدون صحة العقد مع الإثم إذ إن هناك فرقا كبير بين المسألتين.
3- إذا كان المراد بطلان العقد فهذا مما لا يقوله عالم بل من له أدنى معرفة بالعلم الشرعي، ذلك أن العقد إذا توفرت أركانه فهو صحيح بالإجماع، ولا يملك أحد أيا كان أن يحكم ببطلانه بل لو حكم به لظهرت قلة معرفته، ثم ما ذا نفعل من وجهة نظره بهذا العقد المكتمل والموثق وما مصير آثار هذا العقد، ثم أين يذهب بإجماع أئمة الإسلام!!!
4- وإن كان المراد صحة العقد مع الإثم فهذا يمكن أن يقال لو كان مجال لهذا الإثم ، والذي يظهر هنا أن هذا العقد ليس فيه تغرير ولا تزوير ولا نية طلاق لو قلنا بصحة العقد فيه وهو كذلك، ولا نقصان بعض الشروط أو زيادتها على العقد والتي لا تبطله، كما أن الزوجين لا يأثمان بإسقاط بعض حقوقهما.
5- إذا تنازل الزوجان عن بعض حقوقهما الخاصة بهما فما دخل الآخرين في ذلك إنه في حقيقته فضول ليس إلا.(/2)
6- تسرع بعض المانعين في المنع دون أن يتصورها، كما أن بعضهم لم يتأن لمراجعة كلام العلماء فبعضهم ظنه نكاح المتعة وليس الأمر كذلك بتاتا كما سبق بيانه، ومن هذا أيضا القول بأنه ليس في الإسلام نكاح مقيد بصفة أو اسم ومع أن هذا ليس على إطلاقه، إلا أننا نقول هنا بأن تسميته جاءت من بالبديهة فعندما سئل الشيخ عبد المجيد الزنداني عن علاقة جيرل فرند قال لماذا لا تكون زوج فريند فأخذه السائل في موقع الكتروني تحت هذا الاسم ثم سماه الشيخ بعد ذلك بالزواج الميسر وسواء سمي بهذا الاسم أو ذاك فالتسمية كما هو معروف لا تؤثر في الحكم وإنما العبرة بالمضمون والماهية، ولهذا كان الأصل لمن يردون ويشنعون في مجالس فتوى تحيطها بعض الهالة الإعلامية أو غيرها أن يترووا قليلا وكان الأحرى بهم أن يؤخروا الإجابة حتى تتضح الصورة ثم ليقولوا بعد ذلك ما شاءوا ومن شيم العالم قول لا أدري.
7- من يسمع بعض كلام المانعين عن هذا النكاح المجمع على صحته من أنه يؤدي إلى الإفساد وخلط الأنساب ، ومخالفة الشرع وارتكاب الفواحش وكثير من الجرائم والمفاسد الاجتماعية والأخلاقية ، يظن أنه يتكلم عن الزنا والسفاح والعياذ بالله، فهل النكاح المتوفرة شروطه والمترتبة آثاره عليه والمجمع على صحته كالزنا سبحانك ربي هذا بهتان عظيم.
8- يظن البعض أن الفقه هو القول بأن مقاصد الشريعة تحرم كذا أو تبيحه، ومن المعلوم أن الرجوع إلى مقاصد الشريعة إنما يكون في غير ما دلت الأدلة على صحته وجوازه ،فما حرمه الله فهو حرام فهو حرام وما أباحه فهو مباح قال تعالى:?وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ? (12)[النحل:116]
9- من المعلوم أصوليا أن الحكم لا يربط بحكمته وإنما بعلته وهي الوصف الظاهر المنضبط...الخ على ما هو مبين في كتب الأصول والعلة هنا وجود الإيجاب والقبول(13)وبمجرد وجود الإيجاب والقبول صح العقد وترتبت عليه آثاره.
10- لا شك أن للنكاح مقاصد متنوعة، ولا شك أن منها الإعفاف إن لم يكن المقصد الأعظم على الصعيد الفردي، ذلك لما تجره العزوبة والعطش الجنسي من معاناة قد تفضي إلى العنت أو غيره وها نحن نرى بوادر أزمة صعوبة الزواج على الصعيد الدولي والمحلي، من فاحشة وشذوذ وسرقة أحداث ومعاكسات وجرائم ما كان لأحد أن يصدق وقوعها أو أن بشرا يفعلها، وزادت التكنلوجيا على يد بعض الفارغين والمغرضين الطين بلة.
11- وبسبب هذه المفاسد التي تجرها العزوبة والعطش الجنسي أجاز الشرع للحر نكاح الأمة عند العجز عن نكاح الحرة رغم أن الأمة فيه تبقى طوال الوقت في خدمة سيدها ولا تلقى زوجها إلا لماما في أوقات محددة أو غير محددة، إلا أن الشارع أجازها لما في معاناة الغريزة من متاعب ومشاق عظمت اليوم على الشباب أكثر من ذي قبل رغم أنها جائزة بإجماع لقوله تعالى: ? وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? [1لنساء: 25] فإيهما فيه ضياع للأسرة والأولاد وانعدام المودة كما يقولون في ردهم لهذا الزواج أهو نكاح الأمة أم ما نحن فيه والذي ليس فيه رق للأطفال وليس فيه قيود على حريق التقاء الزوجين فيمكنهما قضاء ما شاءا من الوقت معا نقول هذا تنزلا وإلا فهذا العقد لا غبار عليه أصلا.
12- ليس شرطا في العقد أن يحقق كل حكمه ومقاصده بل يكفي فيه تحقيق بعضها إذ إن العاقد قد لا يريدها جميعا، والإعفاف من مقاصد النكاح فيكفي النكاح أن يحقق هذا المقصد.
13- بسبب كبر سن المانعين واستقرارهم الغريزي إما لضعفه أو لاكتفائه ينسون مقدار المعاناة التي يعاني منها الشباب والتي هي على كثيرين منهم أشد من وقع النبل، فإذا ما جاز له أن يطفئ هذه الغريزة الملتهبة بعقد حلال جاء هؤلاء وقالوا لا تفعل يجب عليك أن توفر الشقة والأثاث والمهر المرتفع...الخ فإلى متى؟
من هنا يظهر صحة القول الأول وأنه قول علماء الأمة وإئمتها وأن مخالفة بعض الدكاترة بفعل العاطفة أو غيرها لا يغير من المسألة شيئا.
فهد عبد الله
(1) مغني المحتاج3/123
(2) انظر هذه التعاريف وغيرها في الفقه على المذاهب الأربعة 4/6
(3) مغني المحتاج3/123
(4) انظر تفسير الجلالين 98(/3)
(5) انظر حاشية ابن عابدين 5/635، وحاشية الجمل 3/381
(6) انظر أحكام الإلتزام للحطاب 1/322
(7) انظر رد المحتار 2/653، وحاشية قليوبي 3/282، والفروع 4/195
(8) المغني 7449
(9) انظر البدائع 2/333، وحاشية الدسوقي 2/341، والمغني 10/250.
(10) زواج فريند، موقع إسلام أن لاين
(11) المرجع السابق.
(12) يكثر الكلام اليوم حول المقاصد مما جعل البعض يستغني عن معرفة النصوص بل قد يردها وقد يقول على الله بغير علم ويكفي بالاستدلال بالمقاصد،ومن المهازل أن يلج هذه المعمة كل من عرف رصف الكلام وتنميقه من الصحفيين والمثقفين وغيره، مع أن الرجوع إلى المقاصد والعمل بموجبها يتطلب إمكانات معرفية واستنباطية كما أن له قواعده وضوابطه التي يجب معرفتها ومراعاتها.
(13) هذه قاعدة جملية أغلبية وإن ذهب البعض إلى جواز ربط الحكم بالحكمة إلا أنه لا يقول به ولا يصح في مسألتنا هذه.(/4)
الفتور المظاهر – الأسباب – العلاج
ملاحظة: نظرا لأهمية الموضوع رأينا أن نتحف به زوارنا الكرام، إلا أن طول المحاضرة اضطرنا للتصرف فيها باختصار لا يخل بمحتواها ومضمونها
للأستاذ الدكتور:ناصر بن سليمان العمر
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد، أيها الأخوة المؤمنون: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته:
تعريف الفتور
أقول مستعينا بالله -جل وعلا- ومتوكلا عليه ومصليا ومسلما على رسوله صلى الله عليه وسلم
ما هو الفتور؟
قبل أن أعرفه من الناحية اللغوية، أريد أن أنبه أن تركيزي في هذه الدروس يتعلق بالفتور في طلب العلم، والدعوة إلى الله، وسيدخل في ذلك تبعا وضمنا بقية أنواع الفتور، كالفتور في العبادة ونحوها، ولكن التركيز ينصبُّ على هذين الأمرين، كما ستلاحظون بإذن الله عند الحديث في مظاهر الفتور وأسبابه وعلاجه.
ما هو الفتور؟
عرف علماء اللغة الفتور بعدة تعريفات متقاربة، يكمل بعضها بعضا، ويوضح بعضها بعضا.
قال في مختار الصحاح: الفترة: الانكسار والضعف، وطرف فاتر: إذا لم يكن حديدا، أي قويا، وقال ابن الأثير: والمفتر الذي إذا شرب أي الذي إذا شرب أحمى الجسد، وصار فيه فتور، وهو ضعف وانكسار؛ ولذلك يسمى الخمر من المفترات، وبعض الحبوب، وبعض المسكرات التي يستخدمها بعض الناس تسمى من المفترات؛ لأنها تحدث في الجسم ضعفا وخورا وفتورا.
يقال: أفتر الرجل فهو مفتر: إذا ضعفت جفونه، وانكسر طرفه وقال الراغب: الفتور، تعريف جميل للراغب -رحمه الله- الراغب الأصبهاني في مفردات القرآن قال: الفتور: سكن بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ)() أي سكون حال عن مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلموقوله: لا يفترون، أي لا يسكنون عن نشاطهم في العبادة.
وقال ابن منظور: وفتر الشيء، والحر، وفلان يفتر فتورا وفتارا: سكن بعد حدة، ولان بعد شدة.
ونخلص من هذا: إلى أن الفتور: هو الكسل والتراخي، والتباطؤ بعد الجد، والنشاط والحيوية.
نخلص بعد هذا من هذه التعريفات إلى أن الفتور: هو الكسل والتراخي والتباطؤ بعد الجد والنشاط والحيوية.
قال ابن حجر -رحمه الله، ورحم من سبقه-: الملال استثقال الشيء، ونفور الناس عنه بعد محبته، وهو داء يصيب بعض العباد والدعاة وطلاب العلم، فيضعف المرء ويتراخى ويكسل، وقد ينقطع بعد جد وهمة ونشاط.
أقسام المصابين بداء الفتور
المصابون بداء الفتور ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قسم يؤدي بهم الفتور إلى الانقطاع كلية، وهم كثير، يكون من العباد فيترك العبادة، يكون من طلاب العلم الجادين فيترك طلب العلم، يكون من الدعاة المعروفين فينقطع نشاطه.
النوع الثاني: قسم يستمر في حالة الضعف والتراخي دون انقطاع، وهم الأكثر، أكثر من يصاب بالفتور يبقى معه بعض الأثر من جده ونشاطه، ولكن ينخفض نشاطه وعلمه وجده كثيرا إلى أكثر من نسبة سبعين أو ثمانين بالمائة، إذا أردنا أن نستخدم نسبة الأرقام.
النوع الثالث: قسم يعود إلى حالته الأولى، أو بعبارة أصح إلى قرب حالته الأولى؛ لأنه قليل أو نادر أن يعود إلى حالته الأولى، قسم يعود إلى قرب حالته الأولى وهم قليل جدا؛ لأن أثر الفتور قد يبقى، ويؤثر في الإنسان.
وأريد أن أشير قبل أن أتجاوز أقسام الناس في الفتور إلى أن هناك قسم بعض الناس يؤدي به الفتور -والعياذ بالله- إلى الانحراف، ولكن لم أتحدث عن هذا النوع؛ لأن غالبا النوع الذي يؤدي به الفتور إلى ترك العمل هم منهم قسم كبير يؤدي بهم الأمر إلى الانحراف -والعياذ بالله- فقد رأينا أناسا كانوا في غاية النشاط، والعبادة والصلاح، ورأيناهم بعد حين، وقد انحرفوا عن الجادة -والعياذ بالله-.
أنا لا أتحدث هنا عن الانحراف، ولكنني أنبه إلى أن الفتور من أعظم أبواب الانحراف.
إن الفتور مرحلة وسطية بين العبادة والدعوة والعلم والانحراف، قل أن تجد إنسانا عابدا وداعية ومعلما أو متعلما وينحرف مباشرة، أقول: موجود، ولكنه قليل جدا.
إن ما يحدث أن يفتر أولا، أن يضعف أولا، ويعيش سنوات في ضعف، ثم الإنسان لا يستقر على حالة واحدة، إن لم يتداركه الله برحمته، ويعود يستمر في الانحدار حتى يقع في الانحراف -والعياذ بالله-.
أدلة الفتور من القرآن
ورد لفظ الفتور، ومعناه في عدة آيات وأحاديث من الكتاب والسنة، وسأذكر بعض هذه النصوص، لإلقاء مزيد من الضوء حول معنى الفتور، وسيكون ذكري لها باختصار، دون تعليق طويل، وإن كنت سأفصل فيها -بإذن الله- عند ذكر الأسباب(/1)
قال الله -تعالى- مثنيا على الملائكة: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ)().
أي لا يضعفون ولا يسأمون، وجاء في آية مشابهة:
(يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ)() والسأم هو الفتور، وقال سبحانه -مما يدل على معنى الفتور-: (وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ)() كتابة الديون يفتر الإنسان عنها؛ ولذلك نبه الله -جل وعلا- قال: (وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ)().
لو سألت الأخوة، قد تجد كل واحد من الموجودين، أو بعبارة أصح أن أغلب الموجودين إما له دَين أو عليه دَين، ولكن كم منهم يكتب هذا الدَّين؟ قليل جدا، قليل من يسجل ما له، وما عليه؛ ولذلك تلاحظون في الإعلانات بعد أن يتوفى بعض الناس يعلن أهله وورثته: من له عليه أو من له على فلان دين فليأت، ما معنى هذا؟ أنه لم يسجل ولم يقيد؛ فلذلك نبه الله إلى هذه النقطة الخفية، التي أقول: إن أغلبنا قد وقع فيها (وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ)().
السأم هو الفتور، قد يتحمس الآن الواحد، ويخرج ويكتب مرة ويكتب مرتين، ويكتب ثلاثا ثم بعدين -إن شاء الله- غدا بعد غدٍ ثم ينسى ويسأم، ثم تقع المشكلات بعد ذلك، ويقع الخلاف ويقع الخصام.
أيضا يقول -جل وعلا-: (لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ)() صحيح نعم، وهو قول الباري -جل وعلا- الإنسان لا يفتر من دعاء الخير لنفسه، دائما يدعو الله -جل وعلا- فيما يخصه من الخير، أما غير ذلك من العبادات، فالسأم والفتور موجود.
وقال -جل وعلا- عن أهل النار: (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)() النار مستعرة شديدة لا يمكن أن تقل أو تضعف لحظة واحدة (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ)() لا تنقطع ولا تضعف ولا تخبو لحظة واحدة (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)() وقال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ)() وقال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ)() أي انقطاع، ومما يدل في معنى قوله تعالى يصف المؤمنين: (وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)().
أدلة الفتور من السنة
أما الأحاديث: فهي كثيرة جدا، وأذكر بعض هذه الأحاديث، وهي نص في الموضوع، أو في معناه عن أنس رضي الله عنه قال: " دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين ساريتين " () دخل المسجد، فإذا حبل ممدود بين ساريتين " فقال: ما هذا الحبل؟ " يقول صلى الله عليه وسلم" قالوا: هذا حبل لزينب " () زينب: هي زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم من أمهات المؤمنين " هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به " () تقوم تصلي، فإذا فترت وكسلت تعلقت بالحبل حتى تنشط.
الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: لماذا هذا الحبل؟ قالوا: لزينب فإذا فترت تعلقت به، أنشط لها ولإذهاب الفتور، قال صلى الله عليه وسلم" لا، حلوه، ليُصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد " ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر وتعب وكسل فلينم، وهذه من رحمة الله -جل وعلا-.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استمعوا يا شباب، استمعوا يا أصحاب الجد، انظروا كيف يخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وكيف يدلنا على العلاج، يقول صلى الله عليه وسلم" إن لكل شيء شرة، ولكل شرة فترة، فإن صاحبها سدد وقارب فأرجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه " ().
وأذكر أن أحد الأخوة يقول: كان في غاية نشاطه، هذا الكلام منذ ثلاث سنوات، كان قويا ونشيطا، وكنت وكنا وقوفا، فجاء أحد الأخوة وسلم عليه، وقال: يا فلان -فلان من كبار العلماء، لا أريد أن أذكر اسمه- أحد كبار العلماء يبلغك السلام، ويقول لك: إنني أدعو لك بالتوفيق، ولكنني أذكرك بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم" إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة " ().
يقول هذا الأخ: لما انصرف المُبلغ، يقول: صحيح بلغ الحديث، لكن هل يمكن أن أفتر؟ يقول -عن نفسه-: كان في غاية النشاط، ما مر على هذا الكلام إلا سنتان، فإذا هو قد فتر قليلا، وخف نشاطه.
إذا " لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة " () وفي الحديث الآخر عن ابن عباس رضي الله عنه في نفس نص الحديث، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-أنه قال: " لكل عالم شرة، ولكل شرة فترة، فمن فتر إلى سنتي فقد نجا، وإلا فقد هلك " ().
وقال صلى الله عليه وسلمعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " كانت مولاة للنبي صلى الله عليه وسلم تصوم النهار، وتقوم الليل، فقيل له: إنها تصوم النهار، وتقوم الليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلمإن لكل عمل شرة، والشرة إلى فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك، فقد ضل " وفي رواية: " فقد هلك " .(/2)
وعن عبد الله بن عمرو قال: " ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم قوم يجتهدون في العبادة اجتهادا شديدا فقال: تلك ضراوة الإسلام وشرته، ولكل عمل شرة، فمن كانت فترته إلى اقتصاد فنعماه، ومن كانت فترته إلى المعاصي، فأولئك هم الهالكون " ().
" وعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسل مدخل عليها وعندها امرأة فقال: من هذه؟ قالت: هذة فلانة تذكر من صلاتها فقال: مه " () عائشة -رضي الله عنها- أثنت عليها ثناء كثيرا، أنها تصلي، وتقوم الليل، فقال الرسول صلى الله عليه وسلممه أي اسكتي، كفى عن هذا المدح " مه: عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا " ().
وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه.
وأختم بهذا الحديث: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فتركه " ().
إذا -أيها الأخوة-نخلص من هذه الأحاديث إلى:
أن كل إنسان يصاب بالفترة -وبالفتور-، لكن هناك من يصاب بالفتور قليلا، ثم يعود كما كان أو أحسن، وهناك من يصاب بالفتور، وهو الهلاك، وهو الذي نقصده في هذا الحديث.
ليس حديثي عن الذي يصاب بالفتور قليلا ثم ينشط، هذا ليس هو مجال حديثي، ولا يخلو منه أحد، ولا يسلم منه أحد، كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم لكنني أتحدث عن النوع الآخر من الفتور؛ أولئك الذين يفترون عن العمل، ويضعفون ثم يهلكون -والعياذ بالله-.
آثار عن السلف في الفتور
انظروا بعض الآثار عن السلف:
قال ابن مسعود: لما بكى في مرض موته رضي الله عنه إنما قيل له: ما يبكيك؟ قال: إنما أبكي؛ لأنه أصابني في حال فترة، ولم يصبني في حال اجتهاد، لما أصابه مرض الموت بكى قال: لأنه أصابني المرض، وكنت في حال فترة، ضعف، ويا ليت المرض أصابني وأنا في حال اجتهاد، وفرق بين من يصاب بمرض وهو في حال نشاط واجتهاد، وبين من يصاب بمرض وهو في حال فتور؛ لأن المريض والمسافر يكتب له ما كان يعمل في حال صحته، فبكى رضي الله عنه.
وعنه رضي الله عنه قال: " لا تغالبوا هذا الليل فإنكم لن تطيقوه، فإذا نعس أحدكم فلينصرف إلى فراشه، فإنه أسلم له " .
وقال الإمام النووي شارحا لحديث عائشة -رضي الله عنها-:
فيه الحث، الذي هو حديث عائشة، عندما قال لها الرسول صلى الله عليه وسلممه، فيه الحث على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمق، والأمر بالإقبال عليه بنشاط، وأنه إذا فتر فليقعد حتى يذهب الفتور.
قال ابن القيم، خذوا هذه الكلمات من الإمام ابن القيم -رحمه الله-:
تخلل الفترات للسالكين أمر لا بد منه، السالكين العباد طلاب العلم تخلل الفترات للسالكين أمر لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم رجي له أن يعود خيرا مما كان.
ابن القيم وضع لنا حدا قال: إذا أصيب أحدكم بفتور، لا بد أن يصاب بالفتور، المهم ألا توصله حدا وضعه ابن القيم -رحمه الله-، وهو من معنى الأحاديث السابقة لا توقعك في محرم، ولا تجعلك تتخلى عن فرض.
ولذلك ورد عن علي رضي الله عنه أنه قال: إن النفس لها إقبال وإدبار، لاحظوا كلام جميل من الإمام علي رضي الله عنه النفس لها إقبال وإدبار، فإذا أقبلت فخذها بالعزيمة والعبادة، وإذا أدبرت فأقصرها على الفرائض والواجبات، أو كما قال رضي الله عنه لاحظتم هذه القاعدة وهي مهمة ستأتي -إن شاء الله- في أسباب الفتور لكنني أؤكدها هنا.
بعض الناس تكون نفسه منصرفة، فيه ثقل، فيجبر نفسه على ماذا؟ على النوافل ما الذي يحدث؟ يبدأ يحس بثقل شديد في النوافل، حتى بعد فترة طويلة، لا، إذا قصرت نفسه وثقلت، فاتركها لكن لا تتخلى عن الفرائض والواجبات، وإذا أقبلت نفسك، انشرحت فخذها بالعزيمة.
أحيانا تجد من نفسك رغبة في الصلاة، العبادة، فإذا وجدت هذه الرغبة، خذ النفس فيها، وأحيانا تحس بثقل، فأقصرها على الأقل، ولو تقصرها على الوتر ثلاث ركعات، أو ركعة واحدة.
أحيانا تجد عندك النفس مقبلة لقراءة كتاب الله -جل وعلا- فخذها، ولو تقرأ في اليوم عشرة أجزاء، وأحيانا تجد ثقلا فأقصرها على وردك اليومي، وحتى لو تركت الورد، وإن كان هذا يحدث خللا كما ذكر ابن تيمية، فإنك تعود أقوى -بإذن الله- إلى ذلك.
النفقة: أحيانا تجد في نفسك إقبالا على النفقة في سبيل الله، فخذها دون إفراط، وأحيانا تجد ثقلا فأقصرها على ما تستطيع وترغب ولا تكرهها؛ لأن هذا تكون آثاره خطيرة بعد ذلك.
مظاهر الفتور
التكاسل عن العبادات والطاعات
أبرز مظهر من مظاهر الفتور هو التكاسل عن العبادات والطاعات، مع ضعف وثقل أثناء أدائها، ومن أعظم ذلك الفتور عن تأدية الصلاة، قال -سبحانه وتعالى- واصفا المنافقين (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً)().(/3)
وقال -جل وعلا-: (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)() هذا مظهر يا أخي إذا كنت تجد وأنت تقوم إلى الصلاة الفريضة ثقلا، فأنقذ نفسك، تدارك نفسك؛ لأن هذه صفة من صفات المنافقين -والعياذ بالله-.
الشعور بقسوة القلب وخشونته
من مظاهر الفتور: الشعور بقسوة القلب وخشونته، فلم يعد يتأثر بالقرآن والمواعظ، ورانت عليه الذنوب والمعاصي، قال سبحانه: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)() ويكاد يصدق عليه وصف الله لقلوب اليهود (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً )().
ويصل من قسوة قلبه ألا يتأثر بموت، ولا ميت، ويرى الأموات، ويمشي في المقابر وكأن شيئا لم يكن، وكفى بالموت واعظا، وأعظم من ذلك عدم تأثره بآيات الله -جل وعلا- وهي تتلى عليه، ويسمع آيات الوعد والوعيد فلا خشوع ولا إخبات، والله -جل وعلا- يقول: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)() ويقول -جل وعلا-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً)().
إلف الوقوع في المعاصي والذنوب من مظاهر الفتور:
ويصل الفتور إلى درجة أبعد، إذا ألف الوقوع في المعاصي والذنوب وقد يصر على بعضها ولا يحس بخطورة ما يفعل، ويقول: هذه صغيرة، وتلك أخرى وهلم جرا، وقد يصل به الأمر إلى المجاهرة. والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: " كل أمتي معافى إلا المجاهرين " () وأشير هنا إلى أن هناك فرقا بين الفتور والانحراف، ولكنني قد بينت هذا قبل قليل.
عدم استشعار المسئولية الملقاة على عاتقه
ومن أبرز مظاهر الفتور: عدم استشعار المسئولية الملقاة على عاتقه، والتساهل والتهاون بالأمانة التي حمله الله إياها، فلا تجد لديه الإحساس بعظم هذه الأمانة، والله -سبحانه وتعالى- يقول: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)().
أرأيتم -أيها الأخوة- هذا المظهر هو مما نشكو منه الآن، وهذا من أخطر الأدواء: عدم إحساس كثير من الناس بالمسئولية التي ألقيت على عاتقهم، يسمع أخبار المسلمين فلا يتأثر، يسمع أحوال أمته فلا يتحرك قلبه، قد يرى مظاهر تحدث في الشوارع من بعض السفهاء ولا يقشعر قلبه.
استوحاش الأصحاب الصالحين
من علامات الفتور: أن الإنسان يكون له أصحاب صالحون، إذا وجدهم فرح بهم، إذا كلموه بالهاتف لمس أهله السرور على وجهه، وبعد فترة وبعد زمن فإذا هو يتوحش ويستوحش منهم، إذا قيل له: إن فلانا على الهاتف قال: اصرفوه، إذا قيل له: إن فلانا عند الباب قال: اعتذروا منه، إن لاقاه في الشارع أو في مناسبة من المناسبات فإذا بينهما وحشة، ومجاملة وثقل ويتمنى متى ينصرف عنه، هذه من علامات الفتور.
الاهتمام بالدنيا والانشغال بها عن العبادة وطلب العلم
من مظاهر الفتور: الاهتمام بالدنيا، والانشغال بها عن العبادة، وطلب العلم والدعوة إلى الله، والدنيا حلوة خضرة، فقلّ أن ينجو منها أحد.
عرفنا أناسا بطلب العلم، عرفناهم بالدعوة إلى الله، عرفناهم بالنشاط، عرفناهم في مكتبات المساجد، عرفناهم في جمعيات المدارس، الآن ما هي أخبارهم؟ اللهاث وراء الدنيا، نحن لا نقول: إن طلب الدنيا حرام، لا، لكن بدلا إن كان يكتفي من الدنيا بالكفاف فإذا هو يلهث وراء هذه الدنيا، وإذا هو قد ترك العمل الذي هو فيه، وإذا هو حتى قد ترك العلم، وما بقي معه من العلم إلا قليلا، أو لم يبق معه شيء، وإذا هو يكتفي بالحوقلة والاستعاذة، هذا مظهر من مظاهر الفتور.
كثرة الكلام دون عمل يفيد الأمة وينفع الأجيال
من مظاهر الفتور: كثرة الكلام دون عمل يفيد الأمة، وينفع الأجيال، فتوجد هذا النوع يتحدثون عما عملوا سالفا وكنا وكنا، وكنت وكنت، ويتسلون بهذا القول عن العمل الجاد المستمر، والله -جل وعلا- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)() وهذا مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم" ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل " ().
الغلو والاهتمام بالنفس
من مظاهر الفتور: الغلو والاهتمام بالنفس، مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومركبا، فبعد أن كان لا يلقي لهذه الأشياء بالا إلا في حدود ما شرع الله، فإذا هو قد أصبح يبالغ فيها، يبالغ في ثيابه، يبالغ في مسكنه، بدل ما كان لا يبالي إلا في حدود الشرع (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)()
انتفاء الغيرة، وضعف الإيمان، وعدم الغضب إذا انتهكت محارم الله(/4)
أيضا: انتفاء الغيرة، وضعف الجذوة -الإيمان- وعدم الغضب إذا انتهكت محارم الله، فيرى المنكرات ولا تحرك فيه ساكنا، ويسمع عن الموبقات وكأن شيئا لم يكن، وقد يكتفي بالحوقلة والاسترجاع إن كان فيه بقية
أختم هذه المحاضرة بهذه المظاهر السريعة من مظاهر الفتور:
• ضياع الوقت وعدم الإفادة منه، وتسجيته بما لا يعود عليه بالنفع، وتقديم غير المهم على الأهم، والشعور بالفراغ الروحي وعدم البركة في الأوقات، وتمضي عليه الأيام لا ينجز فيها شيئا يذكر.
• عدم الاستعداد للالتزام بشيء والتهرب من كل عمل جدي
• عدم الاستقرار على عمل معين.
• النقد لكل عمل إيجابي
• التسويف والتأجيل وكثرة الأماني
- سورة المائدة آية : 19 .
- سورة الأنبياء آية : 20 .
- سورة فصلت آية : 38 .
- سورة البقرة آية : 282 .
- سورة البقرة آية : 282 .
- سورة البقرة آية : 282 .
- سورة فصلت آية : 49 .
- سورة الزخرف آية : 75 .
- سورة الزخرف آية : 75 .
- سورة الزخرف آية : 75 .
- سورة آل عمران آية : 64 .
- سورة المائدة آية : 19 .
- سورة آل عمران آية : 146 .
- البخاري : الجمعة (1150) ومسلم : صلاة المسافرين وقصرها (784) والنسائي : قيام الليل وتطوع النهار (1643) وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1371) وأحمد (3/101) .
- البخاري : الجمعة (1150) .
- البخاري : الجمعة (1150) .
- الترمذي : صفة القيامة والرقائق والورع (2453) .
- أحمد (2/210) .
- أحمد (2/210) .
- أحمد (2/188) .
- أحمد (2/165) .
- البخاري : الإيمان (43) والنسائي : قيام الليل وتطوع النهار (1642) وابن ماجه : الزهد (4238) وأحمد (6/51) .
- البخاري : الإيمان (43) ومسلم : صلاة المسافرين وقصرها (785) والنسائي : قيام الليل وتطوع النهار (1642) والإيمان وشرائعه (5035) وابن ماجه : الزهد (4238) .
- البخاري : الجمعة (1152) ومسلم : الصيام (1159) .
- سورة النساء آية : 142 .
- سورة التوبة آية : 54 .
- سورة المطففين آية : 14 .
- سورة البقرة آية : 74 .
- سورة ق آية : 45 .
- سورة الأنفال آية : 2 .
- البخاري : الأدب (6069) ومسلم : الزهد والرقائق (2990) .
- سورة الأحزاب آية : 72 .
- سورة الصف آية : 2-3 .
- الترمذي : تفسير القرآن (3253) وابن ماجه : المقدمة (48) .
- سورة الأعراف آية : 31 .
أقرأ أيضا:
• ... السياسي المسلم
• ... مسؤولية العلم وواقع العلماء
• ... نحن والشباب
• ... المرء مرهون بعمله
• ... التيارات العقائدية المعاصرة والاختيار الأصيل
• ... العقل والقلب بين الغيب والشهود
• ... أمة القرآن من القرآن
السياسي المسلم
لفضيلة الشيخ محمد الحمداوي رحمه الله تعالى
انظر ترجمة حياته في نافذة " سير وصور"
لو أن ( بارتيليمي سانتهيلير Barthelemy St Hilair) الذي صرح بحق قائلا (1): " إن السياسة وهي مستغرقة في مشاكل الساعة، لا يسعها أن تسمو إلى المبادئ، وإن رجل السياسة بما أنه يرعى المصالح، ويخدم الشهوات، ويسعى للتوفيق بينها – ولو أنه قد شارك في أمرها – يتزلزل رأيه، ويعمى بصره، وتوقعه المنازعات اليومية في الحيرة في أن يقول بأي نور سام ينقاد ؟ " .
هذا العلامة الفرنسي – إذ يئس من أن السياسي الراغب في النجاح القريب والمطمع الخاص، يطابق سلوكه المبادئ الأساسية التي قامت عليها دعوته أول الأمر – لو أنه جعل من بعض دراساته السياسية والأخلاقية، البحث عما يمكن أن يجده من النماذج الحية للسياسة التي تجعل الصلة محكمة بين المبادئ والغايات، ولا تبالي بعدد النتائج المحصلة إلا إذا كانت وفق تلك المبادئ وضمن حدودها، لو أنه فعل ذلك لوجد في تاريخ ( السياسي المسلم ) المثل الأعلى للسياسة التي حددت (فكرة)، وعملت على أن تبني عليها كيان المجتمع بأسره، ولكان قد أضاف بذلك إلى دراساته السياسية والأخلاقية والفلسفية الزاخرة بالعلم والفائدة وبالعمق حقا، شيئا من العلم وشيئا من الفائدة.(/5)
غير أن مترجم أرسطو وناقد الفلاسفة، قد حصر الثقة في العقل البشري المجرد، وفي المنهج العقلي ، وبالتالي في (السياسي الفيلسوف)، فوقع في شيء من التهافت، على حين قد وقع في شيء من التحيز القومي أيضا، فهو بالرغم من أنه صرح بأن الفيلسوف على استقلاله الشخصي لا يخلص تماما من تأثير القرن الذي يعيش فيه، وأنه عبثا يحاول التجرد، بما أنه دائما يتصل بزمانه، وأن الدولة المثالية التي يرسمها أفلاطون يتسنم فيها روح السياسة الإغريقية ، وأن حكومة الفرد التي كان يحلم بها (منتسيكيو) هي حكومة الفرد الوحيدة المقيدة في كل أوربا، وأن أعمال الفلاسفة مهما يظهر عليها أنها شخصية فإنها أيضا مظاهر اجتماعية؛ إنه بالرغم من إدراكه لهذه الحقائق واعترافه بها، يناقض نفسه ويعلن "أن الأولى باسترعاء النظر من بين جميع الأعمال المختلفة الأنواع ، والتي كلها باعتراف الإنسانية هي أعمال الفلاسفة، فإنها قد ساعدت على بلوغ النتيجة العامة". وهو في الوقت الذي يقرر فيه " أن هدى رجال السياسة ينطفئ نوره غالبا في سجلات التاريخ " "يطالب الفيلسوف السياسي بأن يعتمد في تحديده لمبادئ السياسة العليا على السيكولوجيا ويجعل دراسة التاريخ مراقبة لهذه الإدراكات السيكولوجية".
إنه إذا كان لابد لنا من أن نعتمد على العقل بدل الهوى بما أنه القبس الإلهي الذي خصصت الحكمة الإلهية به إنسان هذه الأرض من بين سائر المخلوقات، وكان لابد لنا من أن نجعل على هذا العقل (مراقبة) تقيه التلف في متاهات الشهوات والشبهات، فإن هذه المراقبة لا يحق أبدا أن تكون للتاريخ. إنها للدين، الدين الذي جعله خالق الإنسان لأعمال الإنسان عصمة و(حدودا). يقول (الدوس هكسلي Aldous Huxley) : "إن العقل الناقد قوة محررة إلى حد ما،غير أن الوسيلة التي بها يصير ذا فائدة تتوقف على الإرادة، وحيثما لا تكون الإرادة نزيهة وغير متحيزة، فإن العقل يصبح وسيلة لتحكيم الأهواء والأوهام وتبرير المصالح الخاصة، وهذا هو السبب الذي من أجله كان أولئك الفلاسفة الأذكياء الذين حرروا أنفسهم بكيفية تامة من السجن الضيق لعصرهم وبلدهم، من القلة بحيث لا يذكرون"(2) .
والدين بما أنه الخاصة الإنسانية التي لم يستطع الإنسان أن يستغني عنها في أي حقبة من أحقاب تاريخه المتعاقب، فإنه هو وحده القوة التي تستطيع أن تمسك بزمام العقل وتربطه برباط الإرادة الطيبة التي هي شرط في أن يكون العقل أداة بناء لا أداة هدم ، وأداة إصلاح لا أداة إفساد.
أما إذا كانت هناك قيمة يجب أن تعطى للتاريخ، فهي قيمة العبرة والتأييد والاستشهاد والاستئناس، لا الاعتماد العلمي، والمراقبة الأساسية؛ ولقد تفطن لهذا المعنى العلامة ابن قيم الجوزية حين قال : "إن الانسان يجب عليه لتتميم سعادته وفلاحه أن يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير ويكون له نصيره في ذلك ما شهده في العالم وما جربه في نفسه وغيره، ومن أنفع ذلك تدبر القرآن، فإنه كفيل بذلك على أكمل الوجوه فيه أسباب الخير والشر جميعا مفصلة مبينة؛ ثم السنة، فإنها شقيقة القرآن وهي الوحي الثاني، ومن صرف إليهما عنايته اكتفى بهما عن غيرهما، وهما يريانك الخير والشر وأسبابهما حتى تعاين ذلك، فإذا تأملت أخبار الأمم وأيام الله في أهل طاعته وأهل معصيته طابق ذلك ما علمته من القرآن والسنة"، ثم قال : "فالتاريخ تفصيل لجزئيات ما عرفنا الله ورسوله من الأسباب الكلية للخير وللشر"(3)وهو في كتاب السياسة الشرعية يثبت "أن من له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالاتها وأنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها لغاية العدل الذي يفصل بين الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، وعرف أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها ووضعها مواضعها وحسن فهمه فيها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة، فإن السياسة نوعان سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر بعين الشريعة، علمها من علمها وجهلها من جهلها ".(/6)
وفي الدراسات الاجتماعية والسياسية المعاصرة، الرامية إلى تحديد المثل والأهداف العليا للإنسانية نجد أن الكاتب الإنجليزي الذكي (الدوس هكسلي Aldous Huxley)، الذي أدرك أن الأنانية السياسية هي أسباب الفساد في السياسات الحاضرة، وأنه لا سبيل إلى الاصلاح الصحيح إلا بالرجوع إلى الدين الصحيح،هو الذي أدرك الداء في مكمنه، والحقيقة في أصلها، لقد أدرك (هكسلي) عن وعي أن جميع الأمثلة التي رسمت في عصره ومن قبل عصره لأن تكون المثال المحتذى لعالم أفضل، وحياة مثلى، غير حرية بأن تكون ذلك المقام المطلوب أن تتبوأه الجماعة البشرية فوق هذه الأرض، وهي أسعد ما تكون، وأعدل ما تكون، وأكثر جمعا لعناصر الخير والحب الأخوي، ذلك أن جميع الهيئات والجمعيات وأكثر الفلاسفة والمفكرين الذين رسموا تلك الأمثلة وخططوا الطرق الموصلة إليها كانوا عرضة لتأثير البيئات والظروف المحيطة، كما أن الهوى والتعصب كان الديدن والشيمة المسيطرة على هؤلاء، وعلى من أطاعهم طاعة عمياء. واتبعهم تبعية تقليدية جازمة بغير دليل ولا برهان. وبخصوص الخطط السياسية للقرن العشرين – القرن الذي سمى العالم السياسي والاقتصادي (جستاف شتلبر) ما بعد سنة 1914 منه (عصر الخرافة) وقال(4) : "إن الجماهير الجاهلة ورجال العلم والمال والفن والأدب كل أولئك استووا في التعلق بخرافاته" – بخصوص هذا القرن، وبخصوص ساسته الذين حملوا علم السياسة زاعمين أنهم سائرون بالإنسانية إلى أهدافها العليا قال (هكسلي) : "إن أكثر شعوب العالم اليوم، أبعد ما تكون عن المثل العليا والاهتداء بهديها" " إنه لا شك أن التقدم العلمي والفني يسير بخطى حثيثة، ولكن تبادل الحب بين القلوب لا يسير مع هذا التقدم جنبا لجنب، وإذن فليس من وراء التقدم العلمي والفني فائدة بل إنه من بواعث التأخر والتدهور في كرم النفوس وطيب الأخلاق".
"إن الدكتاتوريين الاقتصاديين والسياسيين في العصر الحاضر، يخترعون الأكاذيب بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، وهم يبثون أكثر هذه الأكاذيب في الدعاية المنظمة التي تنفث الكراهية والغرور في صدور الناس".
"إن تبادل الحب لا يمكن أن يتمكن من القلوب إلا إذا عاد الناس إلى الدين الصحيح والعقيدة في إله واحد ولكن العامة اليوم تعبد آلهة متعددة، فهي تعبد الأمة، أو تعبد طبقة معينة من الناس، أو تقدس الفرد".
"إن أهداف الإنسانية هي بعينها فبي كل زمان ومكان" "وإن الذين استطاعوا أن يدركوها حق الإدراك وأن يخطوا لتنفيذها خططا متشابهة، إنما هم أولئك الذين حرروا أنفسهم من تأثير البيئة والظرف والزمان، ومن دواعي الهوى والتحيز والتعصب، وأولئك – كما يقول هكسلي- ليسوا إلا الأنبياء ورجال الدين ومن اتبعهم من بعض الفلاسفة الأحرار.
لم يضع (هكسلي) إذن الثقة في (السياسي الفيلسوف) بعد أن فقدها من السياسي الأناني المراوغ كما فعل (بارتيليمي) ولكنه وضعها في "السياسي المتدين".
لقد وضع (بار تيليمي سانتهيلرBarthelemy St Hilair ) مقياسا تاريخيا فسيحا وعادلا حقا كما يقول، يجب أن تؤسس عليه (محكمة قضاء) يمكن أن ترد إليها جميع أعمال الجمعيات القديمة والحديثة وجميع أعمال رجال السياسة والمقننين في كل الأزمان، وديانة الشرك، وديانة المسيحية، هذا المقياس هو "أن كل جمعية أيا كانت صورتها السياسية يجب عليها أن تحترم (حقوق الانسان) وتكفلها بمقدار معرفتها إياها، تحترمها وتكفلها أولا في ذاتها ثم في جميع النتائج المترتبة عليها" وعلى هذا المقياس التاريخي ناقش (بارتيلمي سانتهيلر Barthelemy St Hilair) أعمال أفلاطون وأرسطو وأعمال من سبقه هو من فلاسفة السياسة ورجالها العمليين، فأثبت منها ما أثبت، وزيف منها ما زيف، غير أن العالم الفرنسي كان أبلغ في التناقض، وأظهر عرضة لتأثير البيئة والظرف والعرق الدساس، وأبعد عن تحكيم مقياسه التاريخي الذي وضعه لمحاكمة الناس وآراء الناس عندما حكم بـ "أن الجمعية التأسيسية الفرنسية قد فاقت في عملها جميع من سبقها من الحكماء بإعلانها حقوق الإنسان" "وأن الفلسفة ذاتها لم تكن محيطة بها علما، وأن الديانات الأقدس ما تكون لم تستطع أن توحيها!!" "وأنه إذا كان بين الأمم الحديثة أمة تستحق قصب السبق فهي أمتنا…" حقا إن العلامة والسياسي الفرنسي كان أكثر عرضة لتأثير الوطنية الضيقة وأبعد عن الاستجابة لنداء الحق عند ما حكم بأن السياسة الفرنسية والتي تمثلت صورتها في الجمعية التأسيسية الفرنسية هي وحدها السياسة التي خرجت بريئة أمام محكمة القضاء التاريخية لأعمال الجمعيات السياسية والدينية التي تكفلت بالعمل لخير الإنسان وحقوقه.(/7)
ولنضع نحن أمامنا الآن على ضوء هذا المقياس التاريخي الذي وضعه (بارتيلمي سانتهيلر Barthelemy St Hilair) وحكم به للجمعية الفرنسية، أعمال الجمعية الإسلامية أي أعمال (السياسي المسلم)، لنر إلى أي حد استطاع أن يحرر نفسه، ويحرر الإنسانية، أي إلى أي حد استطاع أن يأخذ بزمام الإنسانية للتمكن من حقوقها الطبيعية التي كرمها بها ربها، وخلقها من أجل التمتع بها.
لقد كان محمد – صلى الله عليه وسلم – هو السياسي الأول في الجمعية الإسلامية، وبما أن السياسة تعني في أصدق معناها الإشتقاقي، قيادة الإنسانية إلى الخير والصلاح والفلاح والحياة السعيدة، فقد كان محمد سياسيا مسلما بأصدق ما تكون هذه الكلمة، علما وعملا، مبدءا وخلقا، وتحقيقا في عالم الواقع التاريخي، وهو – صلى الله عليه وسلم – وإن لم يكن بدعا من الرسل قبله في مبادئ هذه السياسة وأصولها، وأغراضها وغايتها، - فجميع رسل الله من قبله كانوا ساسة لأممهم بهذا المعنى الشريف والأقدس للسياسة، فمحمد – صلى الله عليه وسلم – هو القائل "كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم كلما هلك نبي خلفه نبي" – فقد كانت سياسته القرآنية مهيمنة على كل سياسات الرسل من قبله، بما أنه كان سياسيا (عالميا)على حين كان الرسل من قبله ساسة (قوميين) " (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ ) (لأعراف:59) (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً) (الأعراف: من الآية65) (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحا) (الأعراف: من الآية73) (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ) (سبأ: من الآية28)
إن محمدا كعقل إنساني كلف من قبل رب البشرية بهدايتها إلى طريق تمتعها بحقوقها وقيامها بواجباتها، كان يستمد علمه بقوانين هذه الهداية من السماء، من الوحي، ولكي يسلم هذا العلم بشؤون هداية الناس وأساليب سياستهم وقيادتهم من الضلالات والانحرافات، وتأثيرالظروف والبيئات، وكل أنواع المؤثرات على العقل وعلى العاطفة، منع الوحي محمدا أن يصغي لغير نداء هذا العلم الذي هو وحده الحق وغيره الضلال، والذي هو وحده العلم وغيره الجهل، ذلك أنه وحده العلم الصادر عمن خلق العقل وغير العقل من أشياء يتأثر بها العقل مهما كان مبلغ طبيعته من الاستقلال في التفكير وفي الادراك وفي الحكم، ومن ثم جاء الوحي ينهى محمدا أن يتبع أهواء الذين لا يعلمون، أوأن يتخذ من ظنون الناس وتخرصاتهم بديلا " ( قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة: من الآية120)
(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الأنعام:116) (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثية:18) وبما أن علم محمد – صلى الله عليه وسلم - بقوانين سياسة الناس وهدايتهم إلى الخير كان مستمدا من الوحي فقد كان محمد – صلى الله عليه وسلم - ينطق في كل شئ بالعلم لا بالهوى، وتصدر جميع أعماله وسلوكه السياسي في كل ذلك تبعا لمقتضيات هذا العلم (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:3-4).
وفي هذا جاء حديث عائشة أنه – صلى الله عليه وسلم - "كان خلقه القرآن" (6)، ومن ثم أيضا لم يقل محمد – صلى الله عليه وسلم - في شئ من العلم بالأشياء أنه أوتيه من عنده، بل كان دائما شعاره "اللهم إنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر وأنت علام الغيوب".
ومن ثم أيضا كانت سياسة محمد – صلى الله عليه وسلم - للناس وقيادتهم سياسة (المبدأ قبل الغاية) لا (الغاية تبرر الوسيلة)، ومن ثم كانت سياسة محمد لا تحفل بالمنافع الحاضرة ولا تتبع أسلوب الدوران واللف، ومن ثم وفقت سياسة محمد – صلى الله عليه وسلم - في الأخذ بزمام الإنسانية للتمتع بحقوقها، وجعل هذه الحقوق محققة الوجود العملي في كل ميادين الحياة الإنسانية، والحجة ثابتة والتاريخ شاهد.
اعتبر (بارتيليمي سانتهلير Barthelemy St Hilair) أن وثيقة (حقوق الإنسان) الفرنسية هي أول صك مكنته الجمعية التأسيسية الفرنسية للإنسان ليخوله التمتع بما لم يتمتع به من حقوقه الطبيعية من قبل إعلان هذه الوثيقة، ولقد غفل (بارتيليمي سانتهيلير) عن أن التاريخ أثبت أنه كان من قبل (وثيقة حقوق الإنسان الفرنسية) (وثيقة حقوق الإنسان القرآنية).(/8)
وإذا كانت الوثيقة الفرنسية قد أعلنت سنة 1789 في أول مبادئها الأساسية "أن الناس قد ولدوا أحرارا متساوين في الحقوق" فإن الوثيقة القرآنية قد هدمت من قبل ذلك بما يزيد على ألف ومائة سنة كل اعتبار للحسب والنسب واللون والطبقة والجنس، وأعلنت في العبارة القدسية على لسان النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – أن الحرية الإنسانية والمساواة الإنسانية مكفولة لكل من ولد من بني آدم من ذكر وأنثى، وأنه لا فضل لإنسان على إنسان إلا بالتقوى، بالعمل الصالح للفرد وللجماعة في المجتمع الإنساني بأسره (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13).
ولئن كانت الوثيقة الفرنسية قد أعلنت في مبدئها الثاني "أن الناس يمكنهم أن يفعلوا ما لا يضر بالغير، ويمكنهم بناء على ذلك أن يفكروا و يكتبوا وأن يطبعوا في حرية" فإن الوثيقة القرآنية قد أعلنت من قبل بمئات السنين، أن الناس أحرار في أن يفعلوا ما يشاؤون وأن يتمتعوا بما خلقهم الله للتمتع به بما يشاؤون، ما لم يتعدوا حدود شريعة الله، أو يعتدوا بغير حق على حقوق عباده :
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف:32)
(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف:33)
(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الشورى:42)
أما عن حرية القول والكتابة والنشر فإن الوثيقة القرآنية تعتبر أن الناس ليسوا فقط أحرارا في أن يقولوا باللسان أو بالقلم، من حسن القول وطيبه ما يشاؤون، بل هم فوق ذلك مطالبون بأن يعلنوا باللسان أو بالقلم ما يرونه كفيلا بإصلاح المجتمع، بإرشاد الضال، وإقامة المعوج، وإرجاع الظالم إلى الحق إرجاعا:
• (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104).
• (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110).
• (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنا) (البقرة: من الآية83).
• (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:114).
ولئن أعلنت الوثيقة الفرنسية في مبدئها الأساسي الثالث "أن للمواطنين الذين تتكون منهم الأمة الحق المطلق في إدارتها" فإن الوثيقة القرآنية قد أعلنت من قبل ذلك بمئات السنين: أن صاحب الحق في إدارة شؤون الأمة عليه أن يشاورها في الأمر كله، وأن لا يستبد بالأمر دونها، وأن الأمة لها الحق في أن تنازعه، وأن توقفه عند حده فيما لم تره من التصرفات يجري على غير ما تقتضيه مصلحتها المرسلة، ومنفعتها العامة:
• (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159) .
• (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59).
ولئن أعلنت الوثيقة الفرنسية في مبدئها الأساسي الرابع "أنه يجب على الأمة صاحبة السلطان أن تضع نصب عينها دائما حقوق الأفراد من جهة، والمصلحة العامة من جهة أخرى" فإن الوثيقة القرآنية قد كفلت كل حقوق الأفراد والجماعات، وأوصت بالمحافظة عليها، والضرب على يد من يريد الإساءة إليها والتعدي عليها:
• (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ)(النحل: من الآية90).(/9)
• (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء:58).
• (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة:33) .
بل إن الوثيقة القرآنية فوق ذلك قد أوجبت القتال في سبيل الدفاع عن حقوق المستضعفين في الأرض:
• (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (النساء:75).
• (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (النساء:98) .
لقد كفلت الوثيقة القرآنية للإنسان كل حقوقه بالجملة وبالتفصيل وهدته إلى مثله العليا، وإلى السبل التي حققت له بالفعل هذه المثل، وجعلتها حية تمشي على الأرض في شخص رجل الدولة وفي شخص رجل الشارع معا.
اعترف (بارتيليمي سانتهيلير Barthelemy St Hilair) أن رجل السياسة الفرنسي اضطره التطبيق العملي، ومراعاة العواطف والميول والأغراض في الميدان السياسي، إلى نسيان المبادئ التي أعلنتها الوثيقة الفرنسية ولقد زعم زاعم (7) "أن النبي لما صار رئيسا سياسيا تغير عما كان عليه لما كان لا يزال طامحا في الرئاسة، وأن الحكومة التيوقراطية من حيث السياسة الفعلية تغيرت عنها لما كانت فكرة، وعلى هذا صار الطابع السياسي يزداد بروزا والطابع الديني يزداد تراجعا".
غير أن تاريخ الرسول – صلى الله عليه وسلم - وتاريخ رجال السياسة الإسلامية من بعد الرسول، يدل دلالة قاطعة على أن هذا الزاعم لم يعتمد في دعواه على حجة علمية بالغة، وسند تاريخي قوي.
كان محمد – صلى الله عليه وسلم - أول قيامه بالدعوة الإسلامية النبي المسلم، والرسول المكافح في سبيل نشر المبادئ الإسلامية ومثلها العليا، وتركيزها وغرسها في نفوس الناس ، وعندما أصبح نبي الله، نبيا سياسيا كرجل للدولة وكقائد مظفر، فهل فتنته نعمة الحكم عن الذي أوحي إليه؟ هل أخرجته عن مبادئه التي كان يكافح من أجلها من قبل أن يكون حاكما؟ هل أصبح بعد الحكم القائد الصلف، والحاكم المستعلي، والسياسي المداور؟ هل استغل أو انتهز أو تكبر وتجبر؟ هناك الأمثلة الرائعة تحتويها شمائل الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم - ، وهي حجة قاطعة على أن رجل الدولة في الجماعة الإسلامية، ظل بعد الحكم نبيا، كما كان قبل الحكم نبيا، وظل بعد الحكم إنسانا، كما كان قبل الحكم إنسانا، وظلت جملة (إنما أنا بشر) تتصدر كل كلماته الشريفة التي يلقيها على الناس في الحياة وشئون الحياة.
أنصتوا – إن شئتم – إلى هذا المثل الرائع الذي يدل دلالة قاطعة على أن المثل العليا للسياسة الإسلامية – التي قررت الاعتراف بحق المطالبة بالحقوق من أي من كان مهما علت منزلته في الجماعة وأوجبت إعطاء الحقوق لأي من كان مهما نزلت منزلته في الجماعة – ظلت تحتل مكانه في نفس النبي محمد – صلى الله عليه وسلم - وهو القائد المظفر كما كانت تحتل مكانتها في نفسه وهو الرجل الضعيف يكافح مع زمرة قليلة من المستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس، كان الرسول – صلى الله عليه وسلم - وهو يقوم بوظيفة القائد العسكري في إحدى غزواته يسوي الصفوف، فانحرف جندي عن الصف فطعنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقدح كان في يده يعدل به القوم آمرا له أن يقف مستويا في الصف فقال الجندي الصغير للقائد الأعلى: " يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني "، فهل تغطرس محمد أو تجبر أو أخذته عزة القائد العسكري فقدم جنديه للمحاكمة العسكرية بتهمة إساءة الأدب ومخالفة الأوامر؟ كلا، بل كشف عن بطنه قائلا للجندي البسيط: (استقد) _ أي اقتص وخذ حقك _، وهنا سرت الإحساسات الشريفة بالعدل وبالحق وبالتسامح وبالحب من نفس الرسول القائد إلى نفس الجندي المأمور، فقبل بطن قائده بعد أن أعطاه الحق في طعنه بالقصاص العادل.(/10)
وهذا مثل آخر من الأمثال العديدة على أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يتزحزح عن مقتضيات المبادئ الإسلامية التي قامت عليها دعوته الأولى، ولم يستعمل أسلوب الوصولية والانتفاع الخاص مما شاع اليوم في أخلاق ساسة الدنيا وقادتها. انتصر محمد – صلى الله عليه وسلم – في إحدى غزواته فغنم غنائم من الخدم والمتاع ما جعل بنته فاطمة تتشوف إلى نيل بعض ما يخفف عنها آلام الحياة وصعوبة العيش، وشدة ما تقاسي من تعب الخدمة البيتية وذهبت إلى أبيها المنتصر الغانم تطلب إليه أن يمنحها خادما يخفف عنها ما تلقاه من آلام الطحن في الرحى فلقنها محمد – صلى الله عليه وسلم – كلمات من الذكر ضبط بها نفسها، وأوقفها عند حدود العفة، وعرفها أنها مخطئة في اعتبار الغنائم غنائم أبيها، إنها غنائم الأمة وأن الأحق بها هم مساكين الأمة وضعفاؤها وأراملها قائلا: "والله لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع ولكن أبيعهم وأنفق عليهم" (8).
أسس محمد – صلى الله عليه وسلم - للجماعة الإسلامية قواعدها وثبت أركانها، وبنى أسس الحياة الإنسانية فيها على قاعدة: العبودية لله، والأخوة للإنسان، والكرامة للتقوى، والكلمة للعدل، ثم خير فاختار، اختار الرفيق الأعلى، وانتقل إلى رحمة ربه راضيا مرضيا، وخلفه في سياسة الجماعة الإسلامية من بعده أبوبكربن أبي قحافة فكان سلوكه السياسي في القوم سلوك صاحبه لا يحيد ولا يند، وبنى القاعدة الأساسية لخلافته على أساس أنه مطلق (إنسان) كلف بواجب من الأمر، فلا استئثار ولا استبداد، ولا تحكم ولا استغلال، إنه ليس إلا فردا من الجماعة، فإذا كلفته الجماعة بواجب القيام بشؤونها، فعلى الجماعة أن تقوم بواجبها في النصح والتسديد والتصويب ورده إلى جادة الحق إذا هو خرج عنها، أليس هو القائل في أول كلمة في القوم "أما بعد فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم، ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له الحق، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق"
ومن بعد أبي بكر جاء الخليفة عمر، ذلك السياسي (العبقري) (9) المسلم، الذي جعلته مبادؤه الإسلامية يحس بعناصر الحرية تحيى في نفسه كإنسان، فأدرك بوعيه الإسلامي أنها في نفس الآخرين كذلك، وبذلك كان مضرب الأمثال في تمكين الضعفاء المحكومين، من أخذ حقوقهم من الحكام الأقوياء، عمر الذي هتك ستر (البريستيج) القيصري والكسروي في الحكومة الإسلامية وأوقف العمال أبناء الأكرمين أمامه تصفعهم بالقصاص العدل أكف المواطنين المظلومين قائلا للأولين كلمته الخالدة في سجل (حقوق الإنسان) وفي تاريخ السياسة الإسلامية "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
إن الأمثلة كثيرة وغزيرة في تاريخ السياسة الإسلامية وهي كلها تشهد على أن هذه السياسة كانت سياسة المبادئ لا الأشخاص، فعندما أشيع في غزوة أحد أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد مات خشي الناس أن يكون شخص الرسول – صلى الله عليه وسلم – قد فقد فنزل القرآن (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران:144)
إن (السياسي المسلم) كانت قاعدته في السلوك السياسي (المبدأ قبل الغاية) لا (الغاية تبرر الوسيلة) كان يزن سلوكه السياسي بمبدئه فيضع هذا في كفة وذاك في كفة أخرى، فإن تعادلا فذاك، وإلا فما كان لينقص من مبدئه ليخف، وتصير المبادئ العليا لا قيمة لها في واقع الحياة.
وبعد، فإن أي سياسة لا تقوم على هذا الأساس (المبدأ قبل الغاية) سواء في ذلك سياسة الهيئات والأحزاب، أو سياسة الحكومات والأمم، فهي سياسة معرضة إلى الانزلاق، ومحكوم عليها بالفشل قطعا، وإن كانت هناك كلمة معاصرة هي أصدق وصفا للهيئات حين تنحرف عن خطتها الأصلية فهي تلك الكلمة التي وصف بها المفكر المسلم الأستاذ مالك بن نبي، جمعية العلماء الجزائريين حين زجت بنفسها في مهاوي السياسة الوضعية قال(10) :"إن الحكمة قد تركت مكانها للانتهازية السياسية…" وانقلبت الحركة الاصلاحية على عقبها، وأصبحت تمشي على قمة رأسها، وما كان الأمر خاصا بالجزائر، بل كان العالم الإسلامي مصابا بمثل ما أصاب الجزائر، فقد نشأت فيه التيارات الحزبية وانعكست فيه روح السمو، وقوة الصعود، إلى عاطفة سفلية وجاذبية سفلية".
فإذا "كانت الوسائل المستعملة تحدد طبيعة الغاية المنجزة"، كما يقول الدوس هكسلي Aldous Huxley عن حق، فإن مبدأ (السياسي المسلم) كان دائما، ويجب أن يبقى، "الغايات الشريفة لا تنال إلا بالوسائل الشريفة".(/11)
وإذا كان برتراند رسل، رأى فيما رأى، وهو يضع القواعد لعالم أفضل: "أن ديانة سديدة سوف تؤدي بنا إلى التلطيف من عدم المساواة في محبتنا للناس بحبنا للعدالة، وبجعل أهدافنا عالية لتحقيق أغراض البشر المشتركة"، فإن القاعدة القرآنية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) كانت دائما، ويجب أن تبقى أساس سلوك الحكم والسياسة لدى "السياسي المسلم".
(1) - جميع ما يدور عليه موضوع المقال من كلام (بار تيليمي) هو منقول من مواضع مختلفة، وببعض التصرف اللفظي، من مقدمته على كتاب السياسة لأرسطو.
(2) - نقلت هذه الفقرات من الأصل الإنجليزي لكتاب (الغايات والوسائل) لهكسلي، حيث لم يترجمها مترجمه الأستاذ محمد محمود، أما ما سأنقله من كلامه بعد، فهو منقول من الترجمة العربية للكتاب
(3) الجواب الكافي.
(4)- عصر الخرافة، تعريب محمد علي أبودرة ص29 ، ج 1
(5) - البخاري.
(6) - مسلم وأبو داوود وأحمد.
(7) - يوليوس فلهوزن في كتابه تاريخ الدولة العربية، ترجمة الأستاذ محمد عبدالهادي أبوريدة.
(8) - من حديث البخاري وأحمد.
(9) - في الصحيحين وصف النبي – صلى الله عليه وسلم – عمر بقوله " … فلم أر عبقريا في الناس يفري فريه".
(10) - في كتابه شروط النهضة ، ص 26-27- الترجمة العربية.
________________________________________
مسؤولية العلم وواقع العلماء
لفضيلة الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين
تعيش الأمة في مشار ق الأرض ومغاربها محنة عظيمة، وفتنة عمياء مظلمة تدع الحليم حيران. من جهة حشدت أمم الكفر قوات للعدوان تداعت علينا كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، مدججة بأسلحة للدمار لم يسبق أن عرفت البشرية لها نظيرا، وكانت حشودها بدعوة صريحة وعلنية ومتحدية لكل القيم والمبادئ يعلنها ملوك عرب وأمراء مسلمون، مصحوبة بما لا يحصى من الرشاوي تكال لمن هب ودب كي يشارك في الإجهاز على هذه الأمة.
ومن جهة نجد شعوبا إسلامية مفتونة ومحكومة بأخس ما تفتت عنه ذهنية القسوة والشرك والشذوذ، من أساليب يندى لها الجبين، أساليب أدناها الضرب والتعذيب والخنق والاغتيال والتحريق والاختطاف والتسميم، أما أعلاها فلا حد له.
شعوبا لا حول لها ولا قوة ولا قدرة على أن تساهم في الدفاع عن نفسها أو عقيدتها أو وطنها.
شعوبا في يدها القيد، وفي رجلها الكبل، وفي عنقها النير، وعلى فمها الكمامة، وعلى عينها الغشاوة، وهي لذلك مهيأة للتسخير والذبح في كل آن...
ومن جهة أخرى نجد العلماء والدعاة ـ إلا من رحم ربي ـ منشغلين عن الإصلاح، منصرفين عن النصح، معرضين عن الإرشاد والتذكير، متنكرين لدعوة الحق بالكلمة الصريحة وموقف الرجولة الصادق وأداء الشهادة المنزهة عن المجاملة وقول الزور.
فإن سأل سائل عما دهاهم وفتنهم، اكتشف بيسر أن القوم – العلماء – غشيتهم غاشية من الرشاوى، وخلبت أعينهم أضواء من الفنادق، واستحلبت ريقهم روائح أطعمة من القصور.
فإن سئل أحدهم عن سر تناقض علمهم وعملهم أجاب بأنه يؤلف قلوب الجميع بما لا يضر من الفتاوى والأحكام. حتى إننا أخذنا نسمع طرائف ونكتا يتناقلها أصحاب الجاه وبطانتهم عن هؤلاء العلماء، يغضي لها المرء خجلا...
فهل بعد ذل العلماء هذا مجال لذل أكبر، وهل بعد خزيهم هذا مجال لخزي أشد؟
هذه الأوضاع المتردية التي تخيم على الأمة ليس لها إلا أن تنتج ثمارها الطبيعية. وثمارها الطبيعية هي أن تغتال الأمة الصادقين من أبنائها، وهي تفعل ذلك الآن باستمرار، ومن لم يصدق فليسأل منظمات العفو الدولية ولجان حقوق الإنسان العالمية، التي ليست عربية وليست مسلمة، عن عدد ما لدينا من القتلى، والمعدومين، والذين ينتظرون تنفيذ أحكام الإعدام، والمساجين والمخطوفين، والذين اغتيلوا في ظروف غامضة والذين أصبح صبح فلم يوجد لهم أثر.
وثمارها الطبيعية أن تغتال هذه الأمة عناصر القوة والشوكة والمنعة فيها، وهي تفعل ذلك باستمرار، وبتعاون وثيق مع سائر أمم الاستعمار.
ليس لنا أن ندعي الإحاطة التامة بأسباب هذا التردي الرهيب، ولكن لنا من إشارات الرسول – صلى الله عليه وسلم – ما ينير السبيل في قوله: كيف أنتم إذا طغى نساؤكم ، وفسق شبابكم ، وتركتم جهادكم؟( مسند أبي يعلى رقم6420 عن أبي هريرة، والفردوس بمأثور الخطاب عن أبي أمامة الباهلي).
ذلك أن الذلة والمسكنة والضياع نتيجة حتمية لفسق الشباب وانحلالهم، وفسق الشباب نتيجة حتمية لطغيان النساء وتمردهن عن القيام بواجبهن الطبيعي في تربية الرجال، سواء كن من سجينات البيوت والجهل والخرافة، أو من هائمات الشوارع أسيرات العرى والتحلل والإباحية، أو من سائبات العقول والأفئدة والتصرفات...(/12)
إن مدرسة تخريج الرجال قد فسدت لدينا، ففسق الشباب، وصغرت نفوسهم، وماتت الغيرة في قلوبهم، وتهربوا من مسؤولية جهادهم... ومن لا يغار على عرض أمه وأخته وبنته كيف يغار على عرض أمته ووطنه؟
هذا التردي الفظيع الذي آل إليه أمر المسلمين مسؤؤلية من ؟
هل هو مسؤولية الحكام ؟.
نعم، ولكن مسؤولية الحكام محدودة، لأن أي حاكم معرض للانحراف إن لم يكن له رادع من تقوى، أو رقيب من أمة لا تهاب أن تقف في وجهه.
هذا التردي الرهيب، هل هو مسؤولية الأمة ؟
نعم، ولكنها مسؤولية محدودة، لأن أي أمة يترك فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعم فيها الجهل والانحلال والفساد، تخضع لكل جبار، وتركن إلى كل ظالم، وتذل لدى من يوفر لها العلف تبنا كان أو شعيرا...
هذا التردي الرهيب...هل هو مسؤولية العلماء؟
نعم، ولكنها مسؤولية كاملة شاملة مطلقة؛ لأن العلماء هم صمام الأمان لدى الأمة، وضمان الوعي والجدية والوحدة والقوة فيها، فإن فسدوا ضعفت واستخف بها وذهبت ريحها...
وما فساد العلماء إلا بأحد سببين هما الجهل والهوى.
أما الجهل، فلا نقصد به الجهل بأصول الدين، أو الفقه أو الأحكام الشرعية؛ لأن هذه العلوم كثيرا ما يتقنها أيضا وعاظ السلاطين ومتشيطنة القصور. وإنما نقصد به الجهل بالآخرة. (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُون) النمل 66،( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) الروم : 7 .
أما الهوى فمحبة الدنيا والتعلق بالجاه والمنصب والشهرة والأضواء، والقرب من أرباب المال والجاه والسلطة، لذلك يتورطون في الكذب على الله وتحريف آياته (ِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) آل عمران: 78. وكان حريا بهم أن يمتثلوا لقوله تعالى: ( وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) آل عمران: 79؛ لأن العلم مجرد مقدمة لا بد لها من نتيجة...ونتيجته الطبيعية هي الربانية، أي أن يكون العالم ربانيا، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت: 69، فالمجاهدة بالعلم والعمل، والهداية التي تقرب من الله وتجعل المرء ربانيا، هبة منه سبحانه وتعالى لمن علم إخلاصه وصدقه وصواب عمله.
إن اتخاذ الهوى إلاها والجهل دليلا يؤديان بالعلماء إلى الفساد، وفساد العلماء تأثيره الأخطر، وضرره الأكبر بكتمان العلم، سواء أكان كتمانهم بإخفاء الأحكام ، أم بالزيادة فيها ، أم بتحريف معانيها وتوظيفها لغير أهدافها أم بتأويلها إلى غير مقاصد الشريعة.
سأل معاذ بن جبل وسعد بن معاذ وخارجة بن زيد نفرا من أحبار اليهود عما في التوراة ، فكتموهم إياه ، وأبوا أن يخبروهم عنه فأنزل الله تعالى فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ): 159/160 البقرة .
وعن قتادة: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى..) أولئك أهل الكتاب، كتموا الإسلام وهو دين الله وكتموا محمدا – صلى الله عليه وسلم – وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.
وعلى هذا فإن معنى الآيتين الكريمتين: أن أحبار اليهود ورهبان النصارى إذا كتموا الآيات الشاهدة على أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – وما جاء به من الهدى من بعد ما بينه الله لهم في كتبهم بصفة لم يبق معها إشكال أو لبس، فإن عليهم لعنة الله والملائكة والمؤمنين من الثقلين – الجن والإنس – وكل من يتأتى منهم اللعن عليهم.
ويستثني الله سبحانه وتعالى في هذه اللعنة الذين تابوا منهم وأصلحوا ما أفسدوا من أحوالهم، وتداركوا ما فرط منهم وبينوا للناس ما أوضحه الله لهم في كتابه، وأعلنوا توبتهم ليدفعوا عن أنفسهم سمة الكفر.
وبالرغم من سبب النزول هذا وارتباط الآية الكريمة به ونزولها في خاصة من الناس فإن أسلوبها جاء مطلقا ينال حكمه اليهود والنصارى وينال كذلك علماء المسلمين.
ذلك أن الله سبحانه يخبر فيها أن عموم الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى ملعونون.
ويدخل في هذا العموم كل العلماء المسلمين الكاتمين للحق والعلم، وكل فرد مسلم يعرف آية أو حديثا أو حكما ويكتمه، كما ينال الحكم (اللعنة) كل ساكت عن الحق، أو محرف له، أو كاتم له بسبب الخوف من حصول مضرة أو ضياع منفعة أو رغبة أو رهبة . وهذا المعنى أكده قوله تعالى:(/13)
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) البقرة 74
(وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ )آل عمران 187.
وكل هذه الآيات متصلة باليهود الذين كتموا أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – وكتموا نعته، وكفروا به، وتاجروا بدينهم واشتروا به ثمنا قليلا.
قال الحسن وقتادة: هي في كل من أوتي علم شيء من الكتاب، فمن علم شيئا فليعلمه، وإياكم وكتمان العلم، فإنه هلكة.
قال محمد بن كعب: لا يحل للعالم أن يسكت على علمه ولا للجاهل أن يسكت على جهله.
قال أبو هريرة: (لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئا(إن الذين يكتمون..الآية، وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب...الآية...)
قال القرطبي: وهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول من فعل فعلهم، فمن أخذ رشوة على تغيير الحق أو إبطاله أو امتنع عن تعليم ما وجب عليه أو أداء ما علمه وقد تعين عليه حتى يأخذ عليه أجرا دخل في مقتضى الآية.
وقال أيضا: إن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى.
وقال عند شرحه لقوله تعالى: (من البينات والهدى): هذه الآية تعم المنصوص عليه والمستنبط لشمول اسم الهدى للجميع.
والأحاديث في كتمان العلم كثيرة منها ما أخرجه ابن ماجة: حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ بْنُ حِبَّانَ بْنِ وَاقِدٍ الثَّقَفِيُّ أَبُو إِسْحَقَ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دَابٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَتَمَ عِلْمًا مِمَّا يَنْفَعُ اللَّهُ بِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ أَمْرِ الدِّينِ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنَ النَّار
وأخرج أيضا: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ حَدَّثَنَا عِمَارَةُ بْنُ زَاذَانَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ حَدَّثَنَا عَطاَءٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ رَجُلٍ يَحْفَظُ عِلْمًا فَيَكْتُمُهُ إِلَّا أُتِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنَ النَّارِ
فالعالم الحق الذي يعنيه قوله تعالى:( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) فاطر28، هو الذي تعلم العلم ولم يكتمه وتعلمه ليبثه بين الناس لوجه الله، ومن أجل نفع عباد الله في دينهم ودنياهم. وقد روى البخاري في صحيحه: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ
وآفة كتمان العلم غالبا ما تتناول الذين يتعلمون العلم من أجل الدنيا والتقرب من أصحاب الجاه والسلطة، فيضطرون حفاظا على مصالحهم إلى أن يكتموا، ويحرفوا ويؤولوا بينات الله والهدى.
أخرج الترمذي: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْهُنَائِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ عَنْ خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا لِغَيْرِ اللَّهِ أَوْ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ(/14)
وروى الإمام أحمد: 8103 حَدَّثَنَا يُونُسُ وَسُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَا حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبِي طُوَالَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وكتمان العلم جريمة كبرى وإساءة بالغة يرتكبها العلماء في حق الإسلام والمسلمين. ويفهم من الكتمان أنهم يسكتون عن الحق ولا يبينونه، فيستفيد الظالمون من هذا السكوت ويستولون على حقوق الرعية ومصالح العباد، ويصادرون حرياتهم ويلجمون أفواههم، كما وقع في الحقب المتعاقبة طيلة التاريخ الإسلامي بعد سقوط الخلافة وتمكن الملك العضوض والملك الجبري.
إلا أن علماء اليوم يتجاوزون الكتمان الذي هو مساعدة على الظلم غير مباشرة إلى جريمة أكبر وخيانة لدين الله أعظم، هي تزكية الظلم والدفاع عنه جهارا وعلانية بإصدار الفتاوى التي تؤيد الباطل والأحكام التي تزكي الفساد وترسخه، فتراهم يلوون للآيات أعناقها، ينقصون من معانيها أو يزيدون فيها، ويكذبون على الله بغير علم، وغايتهم واحدة ووحيدة هي نيل رضى الناس بإغضاب الله تعالى، وتخريب آخرتهم، ناسين أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال:
- مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ – الترمذي -
- إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ - الترمذي-
- إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا ظَالِمًا فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْه - الترمذي –
- إِذَا رَأَيْتَ أُمَّتِي لَا يَقُولُونَ لِلظَّالِمِ مِنْهُمْ أَنْتَ ظَالِمٌ فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ – أحمد-
- تَكُونُ أُمَرَاءُ تَغْشَاهُمْ غَوَاشٍ أَوْ حَوَاشٍ مِنَ النَّاسِ يَظْلِمُونَ وَيَكْذِبُونَ فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَيُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَيُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْه - أحمدُ -
إن علماء هذا الزمان- إلا قلة قليلة - قد صدقوا أمراء السوء بكذبهم وأعانوهم على ظلمهم، وكتموا ما أنزل الله من البينات والهدى، كتموه بالإخفاء، وكتموه بالتحريف، وكتموه بالزيادة والنقص، واشتروا بآيات الله ثمنا قليلا...والمسلمون ينتظرون أن يبرز من بينهم من ينصر الحق ويعلى رايته، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ
هؤلاء العلماء وإن اختلفت صفاتهم سواء، منهم من لا يبين إلا أحكام العبادات، وتعمى عينه عن أحكام المعاملات التي يحكم فيها بغير ما أنزل الله ، والله يقول : (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) المائدة : 44 ).
ومنهم من يتحدث أحيانا عن أحكام المعاملات ولكنه يسكت عن أحكام العلاقات والمودات مع أعداء الله وأعداء الأمة، والله تعالى يقول : (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المجادلة : 22 .
ومنهم من يتحدث بحياء عن هذه القضايا ولكنه يختم خطبته بالدعاء للظلم وأهله وبالقوة والتمكين لتسلطه وتجبره.
ومنهم من يتحرج ويعتذر بعد هذا الدعاء ويزعم أن ما فعله كان من أجل التقية وخشية الفتنة، وأن في دعائه تورية، وإشارة خفية، فإذا تلقى دعوة إلى حفلة رسمية أو مساعدة مالية ، أو تظاهرة تزلفية ، أو خطبة عصماء ، أو مؤامرة على الصادقين عمياء ، شد إليها الرحال ، واشرأب إليها عنقه ومال ...(/15)
إن هؤلاء العلماء – وقد خبرت أكثرهم – لم يدفعهم إلى خياناتهم لله خوف من القتل ، فهم أحرار طلقاء آمنون لا يعاديهم ذو سطوة أو سلطان، ولا خوف من الجوع فهم أغنياء بأموال جمعوها من وظائفهم العلمية تدريسا وتأليفا ...
ولا خوف من السجن فهم لم يقفوا وقفة عز أبدا.
وكانوا يستطيعون أن يتفرغوا لشؤونهم الشخصية طاعمين كاسين ولكنه النهم – قاتله الله – يدفعهم إلى الوقوف في طوابير الخدمة الذليلة وأعتاب الاستجداء المقيت.
إن هؤلاء العلماء – وقد خبرت أكثرهم – برغم ما حشيت به أدمغتهم من علوم قد فقدوا نور البصيرة الذي يميزون به وضعهم فيعرفونه، فأمرهم مفتضح على رؤوس الأشهاد وهم يعتقدون أنه مستور، وشطحاتهم تتندر بها ألسنة الأعداء في كل ناد، وتدمع لها أعين الصادقين في كل البلاد، وهم غير آبهين أو منتبهين ...
فإن جوبه أحدهم بالنصح، ودعي إلى التوبة والرشد أصر على تصويب قوله وموقفه، منتحلا شتى أساليب التبرير والجدل والمراء مدججا بأغلظ الأيمان، على أن ولاءه لله فقط، وأن ما يقوم به ليس إلا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) المجادلة : 14 – 15 .
هؤلاء العلماء هم الذين حذر منهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – فيما رواه الإمام أحمد قال: حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَنْبَأَنَا دَيْلَمُ بْنُ غَزْوَانَ الْعَبْدِيُّ حَدَّثَنَا مَيْمُونٌ الْكُرْدِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ إِنِّي لَجَالِسٌ تَحْتَ مِنْبَرِ عُمَرَ رَضِي اللَّهم عَنْهم وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ .
________________________________________
نحن والشباب
[ هذه المحاضرة ألقاها فضيلة الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي، في ندوة " مشاكل الشباب المعاصر " التي نظمتها في طرابلس بالجماهيرية العربية الليبية العظمى، كلية الدعوة الإسلامية]
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين
أيها السادة الحضور
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لقد أصبح شباب العصر الحديث موضوع اهتمام الدارسين، وتوجس المتوجسين، ومادة بحث الباحثين، متنورين ومتكلسين، من كل اتجاه ولكل غاية وهدف... والشباب هو الشباب، يشق طريقه، يبحث عن نفسه، لا تثنيه عن محاولاته فداحة التضحيات، ولا ترده عن طريقه أعنف التهديدات؛ لأنه صادق مع نفسه وأهدافه، متوهج في عواطفه وأحاسيسه وطموحه. فهو- وعلى فرض خطأ اختياراته - يظن نفسه مجتهدا، وكل مجتهد مصيب أو مخطئ، وليس غير ذلك.
في فترة الستينات طغت على شبابنا موجة من التذبذب العقدي المشوب بالتمرد على الأنظمة السياسية، فانعقدت المؤتمرات والندوات، وشجبت الظاهرة فقط، لما رافقها من ثورة وإرادة تحرر، ووصمت بالردة والمروق؛ ثم انجلت هذه الموجة، جلاها الشباب عن أنفسهم بأنفسهم، بتوفيق من الله تعالى، وهداية منه لهم إلى المحجة البيضاء.
ومع بداية السبعينات ظهرت موجة التدين الذي سمي تطرفا، فقامت قيامتنا، دولا وحكومات ومؤسسات رسمية وأوصياء تدين، وغشيتنا الحيرة من أمر هذا الشباب، لا ندري ما نفعل به، أنمسكه على هون أم ندسه في التراب؟
والغريب في الأمر أننا لا نتحرك عادة إلا إذا ظهرت على السطح تيارات شبابية لها توجهات تهدد ما لدينا من نظم وقوالب اجتماعية أو سياسية أو ثقافية غير سوية؛ أما التيارات التي تدعم هذه القوالب والنظم، أو لا تهددها على الأقل، فنحن نزكيها أو نوقرها أو نتجاهلها على أقل تقدير؛ هذا إذا لم نمهد لها السبيل ونمكنها من وسائل التحرك، كما هو الحال مع تيارات تطرف بعض الشباب في خدمة الأجنبي، أو تطرف بعض الشباب في الانحراف الخلقي والتنكر للقوم والدين.
والأدهى أننا عندما نقصر اهتمامنا وجهودنا على مناقشة مشاكل الشباب المتطرف ماركسيا أو إسلاميا ومكافحته، ننسى مبدأ أساسيا في القضية... مبدأ قررته الأديان السماوية والوضعية، وأقرته الفلسفات الإنسانية، وأكدته علوم الطبيعة والاجتماع.
هذا المبدأ هو أن الشباب غرسة مجتمعه وبيئته، فهو ثمرة الوسط الذي نشأ فيه، بيتا وشارعا ومدرسة، ونتاج طرائق التربية والتعليم التي اعتمدت لتكوينه، وأساليب الحكم التي سِيسَ بها وفيها ومن أجلها.(/16)
فإن يكن متطرفا نحو الإسلام أو نحو الإلحاد، فذلك ثمرة من مجتمعه؛ وإن يكن متطرفا في اللهو والميوعة والعربدة واللامبالاة، فذلك ثمرة من مجتمعه. وما أصدق الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- حين قال: ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم تلا :" فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم" ).
والله عز وجل يقول: ( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) الأعراف 58
إنه إذا كان أمر الشباب هكذا، فلماذا نلومه وحده إذا انحرف ذات اليمين أو ذات الشمال؟
حري بنا- إذا لم نرض عن أفكاره وتصرفاته- أن نغضب من أنفسنا، لأن الشباب ثمرة عملنا.
لنحاكم أنفسنا قبل أن نحاكم الشباب.
لنبحث مشاكلنا قبل أن نبحث مشاكل الشباب... فنحن الحقل الذي نشأ فيه الشباب، ولابد من إصلاح الحقل قبل استنبات الفسائل.
إن شبابنا المسلم اليوم هو" موءودة " عصر الجاهلية الأولى...
إذا نشأ خانعا مستكينا استعبد وأذل...
وإذا نشأ متمردا مشاكسا قتل...
وإذا نشأ سويا قهر أو هُجِّر أو اغتيل...
ثم بعد ذلك نحمله المسؤولية، ونعده مشكلة، في حين نحن المشكلة... نعيب شبابنا والعيب فينا، وما لشبابنا عيب سوانا.
إن شباب اليوم بكل فئاته محروم من نبع العقيدة الربانية الصافية، وسبيل المحجة البيضاء، إنه لا يستقي إلا من ثلاثة منابع:
- نبع التراث البشري، وقد اختلط فيه الرباني الأصيل بالبشري العليل، والغيبي الإسلامي السليم بالخرافي السقيم، والصحيح بالضعيف والموضوع والمنكر؛ وطغي فيه على تاريخ نضال العقيدة الإسلامية ضد الشرك والكفر والظلم والقهر والتزييف، تاريخ لحكام وفراعنة وملوك وأباطرة.
- ونبع نظم الحكم القائمة على العسف والظلم والقهر ومصادرة الحريات والاستخفاف بالعقول.
- ونبع المجتمع برعونته وانحرافاته وطرائق حياته وعلاقاته.
وإذا كانت هذه هي الألبان التي يرتضعها الشباب، فمن أين لنا أن نجد شبابا سويا؟ بل من أين لنا أن نتفق على تعريف سوي لمعنى " السواء " ؟
ذلك أنه إذا كان السواء قيمة مجردة، فلابد أن تبنى هذه القيمة على أساس عقدي أو فكري سوي، ومادام هذا الأساس مغيبا فمن المتعذر في ظل هذه الظروف تعريف مفهوم " الشباب السوي ".
فالسوي في دولة الحزب الواحد ليس هو السوي في دولة التعددية الحزبية؛ والسوي لدى الدولة العلمانية ليس هو السوي لدى الدولة المذهبية؛ والسوي لدى الدولة الملكية ليس هو السوي لدى الدولة الجمهورية؛ والسوي لدى الدولة الاشتراكية ليس هو السوي لدى الدولة الرأسمالية؛ والسوي لدى هذه الطائفة ليس هو السوي لدى الطائفة الأخرى... وكل من خرج عن سواء هذه الدولة أو تلك، أو هذه الطائفة أو تلك، وجد نفسه تحت طائلة التصفية المادية أو المعنوية.
لذلك لابد أن نبدأ بالنقطة الطبيعية الأولى وهي أنفسنا ومجتمعنا ونظمنا السياسية ومقاييسنا الفكرية ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ).
إن من أغرب المتناقضات التي نقع فيها أن نتهم الشباب بالتعصب ورفض الحوار وعدم الإقبال على التغير والتحرر، وبالتطرف ماركسيا ودينيا، في حين يتهمنا الشباب أيضا بالتعصب وعدم الإقبال على التطور، وبالرجعية والتخلف والولاء للظلم وأهله.
وكل من الطرفين ينطلق من يقين جازم بأنه هو وحده الذي يملك الحق المطلق... العلماني ذيلا كان أو رأسا، والمذهبي ذيلا كان أو رأسا، والحزبي ذيلا كان أو رأسا، والتعددي ذيلا كان أو رأسا، والطبقي ذيلا كان أو رأسا.
إننا بكل ركام الماضي وتناقض الحاضر، نجثم على صدور شبابنا، نكبل قدراتهم، ونصادر حقهم في التفكير والتقرير، تحت طائلة السجن أو الإعدام أو التكفير.
وما على شبابنا إلا أن يشحذوا ذاكرتهم فقط، ليحفظوا أجوبتنا فقط. ويا ليت أجوبتنا على ما بها من خلط وغموض، كانت مجردة ومحايدة، ولكنها في الأغلب الأعم ظهير ونصير للظلم وأهله.
إنه إذا كانت هناك إجابات مقدسة تفهم وتطبق ولا تناقش، فهي الإجابات الربانية في القرآن والسنة، لأنها الحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ أما إجابات الآباء والحكام والمفكرين والأعراف والتقاليد والتراث البشري فيجب أن تخضع للتحليل والنقاش وأن تجرد من كل قدسية، وأن يقاس الصواب فيها والخطأ بمدى تجاوبها مع الشريعة الغراء.
هذا أولا، أما القضية الأخرى التي تواجه شبابنا فهي مصادرة حقهم في السلطة، سلطة اتخاذ القرار وتنفيذه.
ونحن إذا ما أجرينا إحصاء حول أعمار المسؤولين وانتمائهم العائلي في دولنا الإسلامية، وجدنا أن فئة أبناء الأعيان والأعوان والمقربين من سفهاء الشباب والشيوخ، هم الذين يحتكرون ويتوارثون السلطة السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية. أما ما عداهم من أبناء الأسر الشعبية الفقيرة والمستضعفة فيحتكرون السجون والمعتقلات... والمشانق والمهاجر.(/17)
بل إنه حتى في بعض الحركات الدينية وضع الشباب تحت سطوة زعماء عاملوهم معاملة شيوخ الصوفية المتشيطنين، الذين يقنعون تابعيهم بأن يكونوا كالميت بين يدي غاسله، فصادروا بذلك كل معالم الرشد والفطنة والجسارة والإباء لديهم، وحولوهم إلى كتل لحمية لا عصب فيها ولا عظم ولا دماغ.
لا شك في أن هناك خللا أساسيا وخطيرا في نظمنا لمختلف أوجه النشاط الإنساني...
لماذا كان كل أنصار محمد – صلى الله عليه وسلم – من أحرار الشباب والمستضعفين، وكان أكثر أعدائه من شيوخ المترفين وملأ المتجبرين؟ ولماذا انقلب الوضع فصار نفايات المجتمع من المترفين والمارقين والفسقة في الحكم، وصار أباة الشباب وحكماء الرجال والشيوخ في السجون والمنافي وعلى أعواد المشانق؟
إن لدينا خللا خطيرا في نظمنا للحكم والاجتماع والاقتصاد والثقافة، ينبغي أن نصلحه.
علينا أن نكف عن مصادرة الحريات، حريات الفكر والإبداع وممارسة السلطة بكل أنواعها.
علينا أن نصحح الماضي الذي نبني عليه، بتاريخه وتراثه، وأن نميز المقدس من البشري فيه.
علينا أن نصحح الحاضر ونقومه، سواء كان الحاضر نظام حكم أو اجتماع واقتصاد.
علينا أن نفسح المجال للشباب كي يشارك في تحمل مسؤولية بناء أمته، بصفتها حقا طبيعيا له، لا صدقة تُصُدِّقَ بها عليه.
علينا أن نخاطب الشباب من موقع كرامة يليق بشرف العلم ومكانة العلماء، لا من موقع الشحاذ المتذلل على الأعتاب.
بهذا تعود لأبوة جيلنا صفتها الأساسية كنقطة انطلاق من الحاضر نحو المستقبل، وتعود لبنوة الشباب صفتها الأساسية كامتداد أصيل وطبيعي لنا وللحاضر نحو المستقبل، وتنتفي بذلك المفاهيم الضالة الفاسدة، مفاهيم صراع الأجيال، وتحل محلها مفاهيم التعاون والتواصل والتكامل بين الأجيال،لأن هذا هو النظام الطبيعي للاستخلاف البشري في الأرض، إذ كل جيل يعد تكملة للجيل السابق وخليفة له، ولبنة في بناء الأجداد... حتى النبوات نفسها ليست إلا امتدادا لبعضها. وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ( إنما بعثني الله لتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال ) أي لتمامها لا لتأسيسها.
وقال أيضا: ( مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه، ترك منه موضع لبنة، فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنيانه، إلا موضع تلك اللبنة، فكنت أنا سددت موضع اللبنة، ختم بي البنيان وختم بي الرسل ) ، وفي رواية: ( فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ) – متفق عليه-
________________________________________
المرء مرهون بعمله
محاضرة لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن إدريس أول شهداء الدعوة الإسلامية
في عهد الاستقلال
انظر ترجمة حياته في نافذة " سير وصور"
{ بمناسبة حلول يوم 25 أبريل ، وهو الذكرى الرابعة والأربعون لجريمة الاغتيال البشعة التي نفذتها عصابة المهدي بن بركة في تحناونت قرب مدينة مراكش ، وقتلت فيها العالم الجليل فضيلة الشيخ عبد العزيز بن إدريس يوم الجمعة 25 شوال 1378هجرية موافق 25أبريل 1959 م ، ننشر هذه المحاضرة التي ألقاها الشهيد في عدة مناطق من المغرب باللغة العربية وباللهجة الدارجة وبست لهجات أمازيغية كان يتقنها بحكم انتمائه إلىقبائل زمور زايان.
كما ننشر في نهاية هذه المحاضرة ترجمة موجزة لحياة هذا العالم الجليل والداعية الإسلامي الخبير والسلفي الجدير بكل احترام وتقدير ، هذه الحياة الحافلة بالجهاد والتضحية ، والتي عتم عليها قتلته من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لأسباب عقائدية ، كما عتم عليها حزب الاستقلال لأسباب عنصرية تتعلق بالمحافظة على زعامات فيه عائلية ، وعتمت عليها بعض الجهات الرسمية من بقايا النفوذ الاستعماري ،فلم يتابع المجرمون ومحرضوهم الذين ما زال أكثرهم على قيد الحياة ، لأسباب تتعلق بالحرص على أن لا يحمل علماء الأمازيغ راية الدعوة الإسلامية الصادقة والوحدة الوطنية العقدية المتينة اللتين كان يدعو إليهما الشيخ الشهيد.}
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين.
من المعلوم أن الدين الإسلامي مجموعة نظم روحية واقتصادية واجتماعية وخلقية ، لا يمكن أن يعد المسلم مسلما بالمعنى الصحيح الكامل إلا إذا مارسها ونظم حياته على أساسها.
ولست أعني بهذا أن الدين الإسلامي لا يعد المرء مسلما إلا إذا طبق جميع تعاليمه بدقة ولم يخرج عنها قيد شعرة، وإنما قصدي أن الإسلام ليس دينا سطحيا اسميا يكتفي من الإنسان بمجرد الانتساب إليه، ولا يطالبه بممارسة نظم معينة، فالإسلام يمتاز من دون بقية الأديان بكونه وضع حلولا واقعية لمشاكل الإنسان، وعلاجات عملية لجميع الأدواء التي تتخبط فيها البشرية منذ عرفت الحياة، وقد برهنت التجربة على أن الإنسانية تشقى على قدر بعدها منها وتسعد بمقدار قربها منها.(/18)
واليوم تبدو لنا في كثير من مجتمعاتنا ظاهرة من ظواهر البعد عن الإسلام ، وصورة من صور الانحراف في فهمه، ذلك أنك تجد أشخاصا يفيضون عصبية وحماسا للإٍسلام ، ويطفحون غضبا وحنقا على أعدائه، بحيث يعتقد من رآهم لأول وهلة أنهم قد أشربوا مبادئ دينهم ودرسوها حق الدرس، وعرفوا لها قيمتها واعترفوا بسموها؛ ولكنك لا تلبث بعد أن تخبرهم قليلا أن تكتشف أنهم بعيدون أشد البعد عن روح الإسلام ، وأنهم لا يعرفون أبسط مبادئه، ولا يمارسون أبسط قواعده الأساسية، بل ربما أقدموا في اطمئنان على مخالفته وارتكاب ما نهى عنه، وتلبسوا في هدوء بجرائم تحريمها معلوم من الدين بالضرورة، فما هي علة هذه الظاهرة يا ترى؟
إن قرائن أحوال هذه الطائفة تدل على أنهم قد أعطوا لكلمة الدين معنى غير معناها الحقيقي ، فقد أرادوا أن تكون لها صفة الفكرة العنصرية ، وطابع العقيدة الجنسية ، التي تقتضي من الإنسان أن يتعصب لها تعصبا أعمى ، غير مفكر في معناها ولا ناظر في حقيقة أمرها ولا مطبق لتعاليمها.
لقد كان هذا النوع من الانحراف في مفهوم كلمة الدين معروفا إبان نزول القرآن ، وكان اليهود والنصارى يكتفون من أتباعهم بمجرد الانتساب الاسمي، والقيام ببعض الشعائر السطحية ، ويجعلون الحظوة عند الله والنجاة من عقابه مرتبطتين بالانتساب لهذا الدين أو ذاك، مهما كان نصيب المنتسب إليه من الأعمال الصالحة ضئيلا. وسرت هذه الظاهرة إلى بعض المسلمين إبان التنزيل، فجعلوا – هم بدورهم – يعتقدون أن الانتساب إلى الإسلام كاف للنجاة من العذاب الأليم ، وللحظوة بالنعيم.
وقد رد الله جل علاه هذا الأمر إلى نصابه، وصحح هذا الوضع الخاطئ، وذلك في عدة آيات من كتابه الكريم، بين فيها بصراحة ووضوح وبصرامة أحيانا، أن الحظوة لدى رب العالمين والنجاة من عذابه، مقرونتان بحظ المؤمن من الأعمال الصالحة. بمعنى أن الانتساب لدين من الأديان لا أثر له مطلقا في مصيره. وإنما مصيره مرتبط أشد الارتباط بدرجة تطبيقه لمبادئ الدين ونظمه في الحياة. وهذه الحقيقة تبدو واضحة جلية لكل من تتبع نصوص الشريعة ، واستقرأ أهدافها وعرف ما ترمي إليه، اقرأ قوله تعالى في سورة البقرة ، وهي السورة التي تكاد تكون خاصة بجدال اليهود وكشف عيوب رؤسائهم، وبيان انحرافهم عن أهداف دين الله الحقيقي:
- ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) البقرة62
فقد جعلت هذه الآية فوز الإنسان بالأجر عند الله واطمئنانه على مصيره ، متوقفين على الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وذلك بالنسبة إلى جميع طوائف الأديان المعروفة إذ ذاك، ومنهم المسلمون الذين عبرت عنهم الآية بالذين آمنوا، فهذا صريح في أن الألقاب مهما كانت لامعة فلا أثر لها في الدرجة عند الله تعالى.
واقرأ قوله تعالى في سورة المائدة التي عنيت عناية كبرى بجدال أهل الكتاب وخاصة النصارى:
- ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )المائدة69 ؛ واقرأ قوله تعالى في سورة البقرة جوابا لليهود الذين قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات:
- (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة81
وأصرح من هذه الآيات قوله تعالى في سورة النساء:
- (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ) النساء123 ، فقد جعلت هذه الآية الاعتماد على الألقاب والانتساب إلى الدين الفلاني في النجاة من العقاب بمنزلة الأماني، أي ما يتمناه الإنسان ويحبه من دون أن يتخذ الوسائل العادية للحصول عليه. وصرحت كذلك بأن الإنسان مهما كان الدين الذي ينتسب إليه ، مرهون بآثامه وسيئاته، معرض لأن يجازى عليها.
ويطول بنا الأمر لو أردنا أن نتعرض للآيات التي عرضت لهذا المعنى، ويكفي أن نعرف أن الإسلام بني على الصراحة والوضوح واعتبار عمل الإنسان دون نسبه أو انتسابه، (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) الحجرات 13 ، أي إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى أعمالكم وقلوبكم أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ويوضح ما دلت عليه هذه الآيات الأمور الآتية:(/19)
1 – مدلول كلمة الإسلام كما تقدمها الآيات الكريمة، فإن معناها إسلام الوجه لله، والخضوع التام والانقياد الكامل، قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) النساء 125 وقال أيضا : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) آل عمران 20 .
وهذا المدلول لكلمة الإسلام يتفق تماما مع مدلوله اللغوي. ومعنى هذا أن من دخل في الدين الإسلامي فقد عقد مع الله عقدا على أن يتنازل عن هواه، ويخضع نفسه لله، ويحيى حياة مطابقة للنظام الذي سن له.
2 – إن الله لا يقبل أنصاف الحلول ، ولا يريد من المؤمن إلا أن يكون مخلصا لله بجميع قلبه لا تشوبه شائبة (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) البينة 5 (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ )النساء 135
3 – حمل القرآن الكريم للمؤمن مسؤولية نفسه، وجعله رقيبا عليها، وذلك في قوله تعالى: (بَلْ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14)وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15) القيامة
4 – عد القرآن الكريم النفاق من أعظم الرذائل التي يستحق الإنسان عليها أقسى العقاب ، قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ) النساء 145
ومن الواضح أن إعراض المؤمن عن تطبيق النظام الذي شرعه له الله ، والانصراف عنه إلى نظام آخر يخالفه في المبادئ والأهداف، ليس إلا ضربا من النفاق العملي، لأنه تناقض بين ظاهر الإنسان وباطنه ، وسره وعلانيته.
ثم إن ظاهرة الاكتفاء بالانتساب إلى الدين دون عمل به ، أصبحت واضحة في كثير من المجتمعات والأوساط الإسلامية، ولا سيما أولئك الذين أخذوا يعيشون حياة عصرية أو تقدمية كما يسمونها، أو كما يحلو لهم أن يسموا أنفسهم، فيطبقون هذه الفكرة بصفة عادية، أسوة بالأروبيين الذين يسمون الأمور الدينية بالأمور الشخصية التي لا يجمل بالإنسان أن يتدخل فيها.
وقد تسربت هذه الفكرة بطريق العدوى إلى غير الأوساط الثقافية ، وأصبحنا نرى الأوساط التي كانت فيما مضى معروفة بالاهتمام والتشبث بأهداف الدين ، أصبحت أقل اكتراثا وأضعف عناية.
وليس استقرار هذه الظاهرة في أوساطنا إلا نموذجا ناطقا للاستعمار الفكري الذي أشربته قلوبنا وشغفنا به حبا، وهي بعد ذلك النتيجة التي أسفرت عنها الحرب المريرة التي قامت في أوربا بين دعاة الفكر المستقلين وبين رجال الكهنوت في فجر النهضة الغربية الحديثة، فقد اضطرت الكنيسة إلى الاستسلام والخضوع دون قيد أو شرط أمام تيار الأفكار المادية الجارفة، ولولا أن الخضوع لقوة غيبية أمر غريزي في الإنسان ، لما بقي للكنيسة ظل في كثير من الأقطار.
نعم، اضطرت الكنيسة تحت ضغط الظروف إلى أن ترضى من الغنيمة بالإياب، وأن تكتفي من أتباعها بأقل علاقة مهما كانت واهية ، فتعدهم مسيحيين ، ولو كانوا لا يطبقون أبسط القواعد الكنسية، فنتج عن ذلك أن انطبعت الأجيال التي عاشت في هذا الوسط بطابع اللامبالاة ، واعتبار الدين شيئا تافها في الحياة لا تتوقف عليه أية حاجة من حاجات الإنسان.
وهذه الحالة تسربت إلينا في جملة ما جاءتنا به المدنية الغربية من مساوئ، وصرنا نعد الدين عقيدة دون عمل، وفكرة دون تطبيق، وكلمة يلوكها المرء بلسانه ويفخر بها بملء فيه ، من غير أن تظهر سلوكا واقعيا في حياته.
على أن ضحايا الاستعمار الفكري ذهبوا في تطبيق مبدأ اللامبالاة مذهبا أبعد مدى مما ذهب إليه أساتذتهم الأوربيون،ذلك أنك تجد كثيرا من الأوربيين ممن يزعمون أنهم ماديون ، أو يزعم الناس لهم ذلك، قلما يتأخرون عن الذهاب إلى الكنيسة كل يوم أحد، لسماع وعظ الراهب وإن لم يكن له وقع في نفوسهم ، وذلك لملء الفراغ الذي في باطنهم من جراء ابتعادهم عن فكرة التدين، ومحاولتهم الحياة بدون عقيدة، بينما لا تكاد تجد من شبابنا من النوع الذي ذكرنا ، من يذهب إلى المساجد ولو في يوم الجمعة، بدعوى أن الخطيب جامد أو غير فصيح أو بدعوى كثرة الأشغال.
والخلاصة أن الإسلام يريد من المؤمن أن يعيش حياة متزنة في نفسه، وألا يكون ظاهره يخالف باطنه ، وعمله يعاكس قوله، وذلك مدعاة لجلب الاطمئنان النفسي والهناء الباطني ، والفوز برضى الله الذي هو أكبر غاية يهدف إليها الإنسان.
________________________________________
التيارات العقائدية والاختيار الأصيل(/20)
محاضرة لفضيلة الشيخ محمد الحمداوي رحمه الله تعالى في ندوة التيارات العقائدية المعاصرة بالرباط
انظر ترجمة حياته في نافذة " سير وصور"
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وبعد:
فيم التباحث أيها المجتمعون ؟ ولم التساؤل أيها المؤتمرون ؟ لم التساؤل عن التيارات العقائدية المعاصرة التي أنتم فيها مختلفون ؟ عن أيها تختارون ؟ عن أيها تتبعون ؟ لما التساؤل ؟ وأنتم المسلمون ، وأنتم المؤمنون ، وأنتم الموحدون ؟ لم التساؤل ؟ ومن قبل قد اختار الله، وخاطب رسوله قائلا : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم " - المائدة49-. لم التساؤل ، ومن قبل قد خط رسول الله إلى الناس كافة (خطوطه) وتلا قول ربه : " وأن هذا صراطي مستقيما ، فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله "- الأنعام153- .
لا ، لا ، لا ، لا ضرورة للاختيار ، فمن قبل قد اختار الله ، ومن أحسن من الله اختيارا ؟ ومن قبل كان من سنة الله الرفض للتيارات العقائدية القائمة على غير ما اختار الله .
أجل من قبل قد اختار الله : " وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة "- القصص 68- ، ومن قبل قد اختار الله : " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " - الأحزاب36- .
ومن قبل ، وفي الأزل ، قد اختار الله حين : " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ، شهدنا "- الأعراف 172- .
ومن قبل قد اختار الله ، حين " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " - البقرة 213-.
ومن قبل قد اختار الله حين أخذ الله الميثاق على جميع أنبيائه أن يلتزموا دين الفطرة الذي عهد لهم به ولمن يأتي بعدهم من رسله : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لما أتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال : ءآقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال : فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين "- آل عمران81- .
ومن قبل قد اختار الله حين خاطب خاتم أنبيائه قائلا : " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " –الشورى 13- . وقائلا : " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون " – الروم 30-.
وبالفعل قد اختار الله حين سار جميع أنبياء الله عبر عهود نبواتهم وتعاقب رسالاتهم على نهج (دين الفطرة) الذي اختار الله .
وقد ضرب خاتم أنبياء الله محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه المثل لهذا المعنى الفطري في الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء " ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه : " فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " . وكذلك في الحديث الذي يرويه الإمام مسلم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال ذات يوم فيما قال في خطبته " … وإني خلقت عبادي حنفاء وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا … " .
فلئن كانت هناك إذن ضرورة للاختيار فهي ضرورة دائمة أبدية خالدة ، متأصلة في الطبيعة البشرية لا تقبل النقض ، وإنما تحتم الإبرام ، وعلى مر الدهور والأعصار ، تلك هي ضرورة اختيار الفطرة . أما مايعترض هذه الضرورة الفطرية من تيارات فإنما ذلك شبهات وضلالات وانحرافات تثيرها وساوس شياطين الإنس والجن في النفس الإنسانية لتعوقها عن السير في طريقها الفطري إلى نهاية السعادة الأبدية الموعودة .
وليست هذه الضلالات والانحرافات العائقة التي تثيرها شبهات وشهوات ، والتي تتلقفها العقول الإسفنجية على حين غفلة من رقابة الدين والعقل ، والتي دعاها ربنا من قبل في كتابه الخالد (الأهواء) والتي تدعى اليوم في لسان العصر ، (التيارات العقائدية) ليست هذه الضلالات والانحرافات بالجديدة على بني الإنسان وإنما هي تيارات قديمة شاءت حكمة الباري جل جلاله ، أن تنشأ بجانب (فطرة الله) فتنة لرسل الله وأنبيائه ، ولمن تبعهم من عباده المؤمنين: " وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ، ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون "- الأنعام 112-، وإن الآيات في الكتاب في هذا المعنى لأكثر من أن تتلى في هذا المقام.(/21)
وكما شاء الله أن تتوزع هذه الضلالات وهذه الانحرافات ، وهذه التيارات أمم الأنبياء من قبل أمة محمد ، كذلك شاء الله أن يبتلي أمة النبي محمد بها وقد عبر النبي – صلى الله عليه وسلم – عن هذا الابتلاء في الحديث الثابت عنه من أكثر من طريق * حين قال " إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة ، كلهم في النار إلا واحدة وهي الجماعة " وفي رواية " وهي ما أنا عليه وأصحابي " وأنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ، فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ، والله يامعشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد لغيركم أحرى أن لايقوم به " – ابن حنبل وأبوداوود والترمذي وابن ماجة-.
وكما كان في أمم الأنبياء من قبل محمد صلى الله عليه وسلم من اتبعوا سننهم واقتدوا بأوامرهم وقاوموا الانحرافات والضلالات والتيارات التي قعد أصحابها بكل صراط يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، كذلك كان وسيكون وسيبقى في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يكون له في رسول الله إسوة حسنة ، فيأخذ بسنته ويقتدي بأمره ، ويكافح في سبيل نصر دينه الذي هو دين الفطرة التي فطر الناس عليها ، ولقد صدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين عبر عن هذه السنة الإلهية الثابتة فقال في الحديث الذي يرويه الإمام مسلم " ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له في أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ، ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان " .
فالإسلام إذن هو دين الفطرة الخالدة الذي اختاره رب الإنسان لإنسان الأرض ، حين شاءت حكمته أن يكون الإنسان خليفة في هذه الأرض ، وهو بهذه الصفة الفطرية غير قابل لأن يوضع موضع اختيار بين الإسلام وبين غيره من المذاهب والتيارات العقائدية قديمها وحديثها؛ ذلك لأنه دين ، إنساني ، طبيعي ،اقتصادي، أدبي ، ومن نصر الله للإسلام أنني– وأنا والحمد لله أحد أبنائه – لست أنا الذي أصفه بهذا الوصف الرباعي ، وإنما وصفه به أحد أعدائه الذي أبلى البلاء – غير الحسن – في حرب الإسلام في الجزائر من أرض الإسلام ، ولكنه مع ذلك درسه ، وجربه ، وحكم له ، ذلك العدو الذي أدى هذه الشهادة في الإسلام – والحق ما شهدت به الأعداء – هو المسمى (ليون روش) الذي رووا عنه ، أن الحكومة الفرنسية ندبته ليكون جاسوسا على الأمير عبد القادر الجزائري وأوعزت إليه أن يتظاهر بالإسلام وأن يتوصل إلى أن يكون موضع ثقته ومحل أمانته ففعل ذلك ونجح وأقام في ديار المسلمين ثلاثين عاما ، تعلم في أثنائها اللغة العربية وفنونها ، والإسلام وعلومه واختبر الأوطان الإسلامية المهمة ، الجزائر ، تونس ، مصر ، الحجاز ، القسطنطينية ، ثم ألف كتابا أسماه (ثلاثون سنة في الإسلام) قال فيه : (( اعتنقت دين الإسلام زمنا طويلا لأدخل عند الأمير عبد القادر دسيسة من قبل فرنسا ، وقد نجحت في الحيلة فوثق بي الأمير وثوقا تاما ، واتخذني سكرتيرا له ، فوجدت هذا الدين – الذي يعيبه الكثير منا – أفضل دين عرفته ، فهو دين إنساني ، طبيعي ، اقتصادي ، أدبي ، ولم أذكر شيئا من قوانيننا الوضعية إلا وجدته مشرعا فيه ، بل إنني عدت إلى الشريعة التي يسميها (جول سيمون) (الشريعة الطبيعية) فوجدتها كأنها أخذت عن الشريعة الإسلامية أخذا ، ثم بحثت عن تأثير هذا الدين في نفوس المسلمين فوجدته قد ملأها شجاعة وشهامة ووداعة وجمالا وكرما ، بل وجدت هذه النفوس على مثال ما يحلم به الفلاسفة من نفوس الخير والمعرفة والمعروف ، في عالم لم يعرف الشر واللغو والكذب ، فالمسلم بسيط لايظن بأحد سوءا ، ثم هو لايستحل محرما في طلب الرزق لذلك كان أقل مالا من الإسرائليين ، ومن بعض المسيحيين ، (ولقد وجدت في الإسلام حلا للمسألتين الاجتماعيتين اللتين تشغلان العالم طرا ، الأولى قول القرآن " إنما المؤمنون إخوة " فهذا أجمل مبادئ الاشتراكية ، والثانية في فرض الزكاة على كل ذي مال وتخويل الفقراء حق أخذها غصبا إن امتنع الأغنياء عن دفعها طوعا وهذا دواء الفوضاوية ، إن الإسلام دين المحامد والفضائل ، ولو أنه وجد رجالا يعلمونه الناس حق التعليم ، ويفسرونه تمام التفسير ، لكان المسلمون أرقى العالمين ، وأسبقهم في كل الميادين ، ولكن وجد بينهم شيوخ يحرفون كلمه ، ويمسخون جماله ويدخلون عليه ما ليس منه ، وإني تمكنت من استغواء بعض هؤلاء الشيوخ في القيروان والاسكندرية ومكة فكتبوا إلى المسلمين في الجزائر يفتونهم بوجوب الطاعة للفرنسيين ، وأن لاينزعوا إلى الثورة ، وبأن فرنسا خير دولة أخرجت للناس ، وكل ذلك لم يكلفني غير بعض الآنية الذهبية)). تلك هي شهادة ليون روش للإسلام ، ولتعاليم الإسلام ، والحق ما شهدت به الأعداء .(/22)
ولئن أبى البعض ممن أعمتهم شبهات التقليد ، وأضلتهم دعوات التيارات والأهواء التي سموها – تقليدا لغيرهم – أسس التقدم والتجديد لئن، أبى هذا البعض قبول هذه الشهادة التي لم يدع صاحبها إلى آدائها تحيز ولا جمود ، مدعيا أن صاحبها عاش في ظروف قد أكل عليها الدهر وشرب ، وأنه لم يشهد اليوم ما أدته إلى إنسان الأرض (ليبيرالية) العم سام ، ولا (جدلية) صاحب (رأس المال) ، فإني أدعوه إلى أن ينصت معي إلى شهادة أخرى ، واختيار آخر في دين الفطرة ، الإسلام ، وصاحب هذه الشهادة وهذا الاختيار لا يزال حيا يرزق ، وقد شاعت مؤلفاته وشهرته العلمية على كل لسان ، وهو لا يزال يدرس اليوم أحوال العالم الحاضر عن علم ، وعن كثب وفي عين المكان ، وقد خبر كلا من مبادئ المعسكرين اللذين يتنازعان اليوم السيادة على أرض الله ، ذلك هو المؤرخ الشهير (أرنولد توينبي) {عندما ألقيت هذه المحاضرة كان توينبي ما زال حيا}، فلنستمع إليه وهو يؤدي هذه الشهادة ، ويختار هذا الاختيار للإسلام ، في حديثه عن المأزق الذي وصلت إليه الحضارة الغربية ، قال : " إن فلك الحضارة الذي مضى يشق عباب التاريخ خمسة أو ستة آلاف سنة أخذ يندفع نحو شعب صخور يعجز بحارتها عن الطواف حولها … " " أما إذا انتقلنا – صعودا أو هبوطا – من الصعيد التكنولوجي إلى صعيد الطبيعة البشرية ألفينا الفردوس الأرضي الذي أقامه حذق الإنسان الصانع في مهارة فائقة قد أحالته ضلالة الإنسان السياسي إلى جنة للحمقى.." - مختصردراسة التاريخ لتوينبي4/195-
قال ….." والآن وبعد أن طويت المسافات بتقدم التقنية الغربية ، وفي الوقت الذي تتنافس فيه طرق الحياة الغربية مع طريقة الحياة الروسية لكسب ولاء البشرية كلها ، الآن …. يظهر أن التقليد الإسلامي في أخوة الإنسان للإنسان ، هو مثل أعلى يوافق حاجات العصر الاجتماعية ، وهو أفضل من التقليد الغربي الذي أدى إلى قيام عشرات الدول الصغيرة ذات السيادة على أساس الاختلاف القومي ، ثم يختم توينبي كلامه قائلا " فإذا سبب الوضع الدولي حربا عنصرية يمكن للإسلام أن يتحرك ليلعب دوره التاريخي مرة أخرى " - الإسلام والغرب والمستقبل لتوينبي 28و73-
ولئن أنطق الله توينبي ، فأدى الشهادة الحق ، واختار الاختيار الحق ، لدين الفطرة ولدين الحق ، فإن العرق مع ذلك دساس ، فلقد غلبت توينبي انجليزيته أو غلبته نصرانيته – لست أدري – حين ختم كلمته عن شهادة الحق هذه قائلا : (وأرجوا أن لا يتحقق ذلك) وأنا لا أختار في الجواب عن رجائه غير المرضي هذا ، إلا ما اختار الله في الجواب عن الذين يرجون رجاء غير مرضي من أمثاله حين قال : " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا "- النساء 123- وبعد فلئن كانت هناك من ضرورة تدعونا نحن المسلمين اليوم إلى اختيار شيء ، فإنما تلك الضرورة هي ضرورة اختيار العمل بما اختار الله وصدق الله " وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته " –الأنعام 115-.
ولئن تقدم غيرنا وتأخرنا نحن ، فإنما ذلك كان لأن غيرنا أخذ بسنة الله في السيطرة على الكون ، وأخلدنا نحن إلى الأرض واتبعنا هوانا ، وكنا كذلك الذي ضل الطريق فضرب الله له المثل حين قال : " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون "-الأعراف175- . وهاهو ربنا قد قص علينا القصص فهل من معتبر ؟.
وهاهو ربنا قد يسر لنا القرآن للذكر فهل من مذكر ؟ وصدق الله : "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم "-الإسراء 9- ، وصدق أسلافنا الأولون الذين علموا القرآن وبه عملوا ، وعاشوا سادة في كل أرض وعزوا ، وعشنا نحن في مواطننا عبيدا ، ورضي الله عنهم ورضوا عنه حين علموا ، وحين عملوا ، وحين عزوا ، وحين قالوا : " كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن " .
وبعد فقد اختار الله ومن أحسن من الله اختيارا .
________________________________________
العقل و القلب
بين الغيب و الشهود
لفضيلة الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي
لا شك أن طريق الدعوة محفوف بالمحن، وطريق الإيمان محفوف بالمخاطر، والحياة الدنيا كلها مؤدية إلى الآخرة، وكل الأنام ما بين خلود في الجنة، وخلود في النار. وبين داري الدنيا والآخرة طريق سيار يؤدي بمن صفت عقيدته وسلمت موازينه وقبلت أعماله إلى الجنة، ويقذف بمن اختلت عقيدته وموازينه وردت عليه أعماله في جهنم.
وركوبتنا في الطريق هي أعمالنا التي تضبط بأداتين وحيدتين، إن صلحتا قادتا إلى الجنة، وإن فسدتا قادتا إلى النار، وهما القلب العقل...
لذلك أمدنا الله تعالى ـ رحمة منه ـ بميزان للقلب و العقل يضبط حركتيهما، ويرشد تصرفاتهما.(/23)
هذا الميزان هو العقيدة السوية التي تعد نواة تدور حولها حركتا القلب و العقل.
وكما أن القمر والأرض يدوران حول الشمس، ويستمدان منها النور، كذلك القلب والعقل يدوران حول العقيدة ويستمدان منها النور و الرشد و الصواب.
وكما أن للقمر والأرض مدارين مرسومين حول الشمس، إن حادا عنهما كان الكسوف و الخسوف، وحل الظلام ( لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) يس 40، كذلك القلب و العقل، لكل منهما مجال خاص به فإن حادا أو زاغا عن مداريهما الطبيعيين حول العقيدة فسد الإنسان، وارتكس في الظلام... ظلام الجهل و الضلال و الغواية...
إن قضية العقيدة و دورتي القلب و العقل حولها من أخطر ما يجب على المسلم أن يبدأ به، ونعني بالعقيدة... تلك التي جاء بها الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ بيضاء نقية، مستمدة من الكتاب والسنة، لا شيء معهما ولا شيء غيرهما... العقيدة التي تمشي على الأرض تعاملا مع الواقع، سلوكا اجتماعيا، و اقتصاديا، و سياسيا، في الأسرة، والمجتمع، و الدولة، وساحة العمل وميدان البحث العلمي، واستخداما لقناتي القلب العقل، أداتي المعرفة لدى الإنسان في تعامله مع الغيب والشهود، مع المادة والروح، مع الوجود الآني والوجود الموعود، مما يمثل منهجا متماسكا متكاملا متميزا.
ولئن كانت البشرية قد اكتشفت فساد المناهج البدائية والخرافية التي استندت في تعاملها مع البيئة - إنسانا وطبيعة – إلى وجود أرواح وشياطين وآلهة، تتحكم في نفوس الناس وحركاتهم الجسمية وسلوكهم اليومي، فإن العلم الحديث بدوره قد اكتشف فساد المناهج الميتافيزيقية والفلسفية التي وضعت بديلا للمناهج الخرافية في القرون المتأخرة والعصر الحديث؛ واعتمد فيها لتفسير طبيعة الكون وسلوك الإنسان على ما زعموه جوهرا وماهية وهيولى وصورة، وقوة فاعلة وطاقة حيوية وقوة كيميائية، وإرادة حياة وغرائز للدفاع والاستطلاع وبقاء النوع.
ولئن كان العلم الحديث قد استبدل أسلوبا جديدا غيرها، عده حلا سحريا لمشاكل الإنسان، وسماه " المنهج العلمي "، اعتمد فيه على نظرية دارون، والمادية الجدلية التي تختصرها الآية الكريمة( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) الجاثية 24، فإنه قد اكتشف أخيرا عجز هذا المنهج العلمي عن الوفاء بما كلف به من مهام، وما نيط به من تكاليف، فظل يراوح مكانه تبريرا وتخبطا ومحاولة ترقيع وتلفيق.
اكتشف العلم الحديث ذلك بعد أن تبين له علميا فساد نظريته المادية التي جعلها قاعدة لمنهجه، وخطل تفسيره السلوك البشري بكونه مجردَ ظاهرة طبيعية لا تحتمل أي غموض أو إبهام أو غيبية، ومحضَ نشاط محتوم في مواجهة البيئة من أجل البقاء، لا فرق في ذلك بين انقباض عضلة أو إفراز غدة أو اختيار عمل أو ملبس أو زوجة أو علبة سجائر، ونتيجة ًمنطقيةً لأسباب مادية محضة لا علاقة لها بحرية الإنسان أو مسؤوليته عن أفعاله وتصرفاته، أو مساواته مع بني جنسه؛ وبعد أن اتضح له أن اعتبارَ السلوك البشري وسلوك أي كائن حي مجردَ استجابة لظروف البيئة، يلغي حرية الإنسان، ويجعل جميع تصرفات البشر مهما ساءت، طبيعية ومقبولة ومشروعة، وغيرَ مسؤولة قانونا وشرعا، مثلهم في ذلك مثل الكلب الذي يعض المارة فلا يتحمل أي مسؤولية؛ مما عصف بكل مبادئ حرية الإنسان وكرامته وحقوقه التي تتبجح بها الحضارة الغربية الحديثة.
ولئن كانت بعض الديانات والمذاهب الضالة تدعي أن الإنسان فاقد لكل حرية في الاختيار، فإنها على الأقل زعمت أن الله تعالى هو الذي سلبه هذه الحرية، وفرض عليه جميع تصرفاته الخيرة والسيئة، ترشيدا لفطرته وتدريبا له على الخضوع والاستسلام، على ما في هذا الادعاء من بطلان.
أما " المنهج العلمي" فإنه قرر أن الذي سلب الإنسانَ حريتَه وفرض عليه سلوكه هو الطبيعة وحرصُه على البقاء فيها، فتجاوز بذلك أشدَّ المذاهب إغراقا في التخلف والغباء، لأنه راهن على إلغاء الفطرة بدل العمل على ترشيدها وإعلائها وبلورتها وتوجيهها؛ فكانت النتيجة الوحيدة أن صمدت الفطرة وسقط " المنهج العلمي "، معلنا إفلاسه في جميع الميادين الإنسانية، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وفكريا.
اجتماعيا بانهيار مختلف القيم الأخلاقية والأسرية والقومية والثقافية والمعرفية، لدى الدول التي تبنته في مجال العلوم الإنسانية تربية وتعليما وعلم نفس واجتماع، وبنت على أسسه أساليبها الخاصة بضبط الشعوب وتوجيهها والتحكم فيها.
واقتصاديا بالانهيار المالي والتردي الحضاري والضعف البنيوي والعجز الاقتصادي، والمشاكل الغذائية التي تعاني منها هذه الشعوب.(/24)
وسياسيا بالهزيمة المنكرة التي تجرعها المعسكر الشيوعي أخيرا في مواجهة جميع المبادئ البشرية المعاصرة، وضعية كانت أو سماوية؛ والتَّفَتُّتِ الذي آل إليه مجتمع" جنة الأرض" التي هرب منها سكانها - ولم يطردوا - بالملايين.
إن مصدر الخلل في جميع المناهج البشرية بدائية كانت أو فلسفية أو مادية " علمية" يكمن في أربع:
1 ـ اعتبار بعض الوجود المادي من الغيب وإخضاعه لمقاييس غيبية وضعية لا طاقة لها بفهمه وتحليله، كما هو الحال لدى التفكير الخرافي في تعامله مع الظواهر الطبيعية برقا و رعدا و زلازل ولدى التفكير الميتافيزيقي والفلسفي في تعامله مع بعض الطاقات البشرية المادية التي دعاها غرائز وقدرات وملكات، والتفكير اللاهوتي المنحرف مثلما لدى اليهود و النصارى الذين ادعوا بنوة المسيح وعزير لله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
2 ـ افتقار المناهج التي تعترف بالغيب إلى مصدر محدد وموثوق به تستقي منه معارفها الغيبية وتتحاكم إليه إذا وقعت في اللبس والاختلاف وسقطت في التناقض والغموض والاضطراب.
3 ـ اعتبار الغيب غير موجود وإخضاعه ـ بدعوى أنه محض مادة متطورة ـ لمقاييس مادية لا قدرة لها على استيعابه أو الإحاطة به.
4 ـ اعتبار أصحاب المنهج العلمي الكونَ محضَ مادة لا خالق لها، وتفاعلا ماديا بنوا عليه أساليبهم في البحث والاستقراء والتفكير، ثم عندما أعياهم القفز والنط وجابههم جدار الغيب، اعترفوا بمحدودية وسائلهم وقصور طرائقهم. ولكنهم لم يفكروا في مراجعة ركائز منهجهم ومنطلقاتهم، بل أخذوا ـ يقترحون بلسان الحال ـ أن تتوقف البشرية عن التطور ومعالجة قضاياها الإنسانية إلى أن يكتمل " المنهج " ويكتشفوا الحلول...!
إن هذا الوضع الذي تعيشه البشرية اليوم بإفلاس جميع المناهج الوضعية في ميدان العلوم الإنسانية، وعجزها وافتضاح أمر تبجحها وادعائها، يفرض إعادة النظر في قضيتين أساسيتين من قضايا المعرفة هما:
1 ـ مجال المعرفة وهو الغيب والشهود، ومصادر البحث فيهما.
2 ـ أداة المعرفة وهي العقل والقلب، وكيف يعملان تعاونا أو تنافيا، ترادفا أو توازيا...
وهذا يجعل المنهج الإسلامي بكل موضوعية وتجرد وثقة البديل الطبيعي والحل الأمثل، لأنه بكل عفوية ويسر المنهج الوحيد الذي عالج هاتين القضيتين بوضوح، ووضع لهما ما يناسب من الأسس والمبادئ والضوابط... فبنى بذلك قيما، وأخلاقا، ومجتمعا وحضارة؛ ذلك أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ مستهل الدعوة، وقد بعث بشيرا ونذيرا ليخرج الناس من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة، ومن ضنك الضلال إلى رحابة التعبد لله، والتحرر مما سواه، مؤيدا بالوحي معززا بالرسالة المنزلة كتابا من لدنه تعالى، وبالملائكة رسلا مبلغين، ومدافعين، ومشاركين في المعارك، وبالمعجزات المتعددة تترى من ضمير الغيب، لم يستغن في دعوته عن محوري العقل والقلب، بل اتخذهما قناتين أساسيتين للتبليغ، وأداتين فعالتين للتربية والترشيد.
العقل للإدراك والتدبير، والقلب للإيمان بالغيب الذي يقصر العقل عن ارتياد آفاقه، لذلك أعطت الدعوة الإسلامية أجدى النتائج، وأوفى الثمار ولكن ( لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) ق 37.
لقد زاوج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين العقل والقلب طيلة دعوته، بشكل متوازن ودقيق لا يرقى إليه الخلل، فهما لديه متوازيان مترافقان في حالات، ومستقلان عن بعضهما في مجالات، ومتعاونان أو متداخلان بنسب معينة، أو مترا دفان، يقف أحدهما حينا ليتابع الآخر المسيرة، كفرسي رهان، بينهما برزخ لا يبغيان.
إن القرآن الكريم يلح على ضرورة توقير الغيب وتناوله بالقلب السليم، المليء بالإيمان الذي لا يناقش ولا يجادل ولا يسأل، مؤكدا حقائق متناهية في المطلق، لا يحيط بها العقل المجرد:
- (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) الشورى 52
- ( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) هود 123
- ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ) آل عمران 179
- ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) البقرة3
كما يلح أيضا في مواطن أخرى على ضرورة استخدام العقل، وينعي على من جمد عقله وعطله، بلادته وغباءه وضلاله:
ـ (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ) الأنفال 22
ـ (وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) المؤمنون 80(/25)
ـ (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (الصافات 137- 138
ـ (وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) العنكبوت 35
كذلك أعطى الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ من نفسه المثل تعليما لأصحابه وتربية، عندما مر بجماعة وهم يؤبرون النخل ( يلقحونه ) فقال: " ما تصنعون ؟ “. قالوا: " كنا نصنعه “، قال: " لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا " فتركوه فنقصت ثمار النخل، فذكروا ذلك له ـ صلى الله عليه و سلم ـ فقال: " إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر "
بمثل هذه الدقة والوضوح ميز الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ بين ما هو ديني من قضايا الوحي، وما هو دنيوي من قضايا الرأي والتفكير، بين ما يتنزل أحكاما من ضمير الغيب يسلم به يقينا، وبين ما هو مادي محض من الأمور المتعلقة بمعاش الناس، ونشاطهم وكدحهم ومصالحهم، يرجع فيه إلى العقل والتجربة والخبرة والتمييز المبني على المحاكمات المنطقية، بين ما هو قلبي لا يدرك إلا في إطار قوله تعالى:
( أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ ) البقرة 140.
( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) الأنبياء 23.
( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ) الجن 26.
وبين ما هو عقلي حدد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ معالمه بقوله: " إنما أنا بشر... “، وبَيَّنَ القرآن الكريم مجاله في قوله تعالى:
(قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) الحديد 17
(وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) العنكبوت 43.
(وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) الملك 10.
بذلك برزت في الحقل الثقافي الإسلامي أداتان للمعرفة هما القلب و العقل، برزتا متكاملتين ومتوازيتين في اتجاه واحد يهتدي بهما الإنسان إلى الحق فيتبعه ويستبين بهما الباطل فيجتنبه.
كما برزت تبعا لذلك معرفتان: معرفة ربانية مبنية على مصدر واحد هو القرآن الكريم و السنة، مجالها ما يجب وما يحرم من الأعمال، وما يجوز وما لا يجوز من التصرفات و الأفعال، ومعرفة إنسانية تعتمد على العقل مجالها المادة وبعض تصرفات الإنسان، واختياراته التي لم ينظمها الشرع؛ وبرز التعبيران القرآنيان:" المعروف" و"المنكر"، أي: ما تعرفه القلوب والعقول وما تنكره القلوب و العقول، وهما وعاءا العبادات الإسلامية التي لا تكاد تخرج عنهما، رحمة من الله ولطفا وتيسيرا (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) الحج 41.
ولئن كان "المعروف" هو المقبول اجتماعيا و دينيا لكونه موافقا للعادة و العبادة شاملا كل ما تعارف عليه الناس من المباحات والفضائل والمعاملات التي لا تضر المجتمع، ولا تتعارض مع الدين، وكل التكاليف الدينية إتيانا وتركا، أمرا ونهيا، كما يفهم من قوله تعالى:
(يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ ) الأعراف 157
(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) البقرة 263
(تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ) آل عمران 110.
(وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) النساء 25.
(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) البقرة 234.
ولئن كان المنكر هو ما لا يقبل اجتماعيا ولا دينيا كما يفهم من قوله تعالى:
(وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ ) العنكبوت 29.
(وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا ) المجادلة 2.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس" ـ مسلم والترمذي ـ، فإن هذا المعروف وهذا المنكر بشقيهما الغيبي والشهودي، لا يعرفان إلا بالعقل والقلب مسترشدين بالوحي الإلهي، والتوجيه القرآني، وبالتفكير في مصالح المجتمع ومعاشات الناس والتمييز بين النافع والضار من التصرفات.(/26)
العقل أداة للتفكير، والتحليل، والملاحظة، والمقارنة، والتجريد، والتعميم، والتجربة، والاستدلال، والمحاجة، والمجادلة، والمحاكمات المنطقية، واستقراء الجزئي وصولا إلى الكلي، ومعالجة الخاص والمحدود والمقيد لاستكناه العام والمطلق، مجاله الكون المادي الفسيح اكتشافا واختراعا وتطويرا وتسخيرا، وميدانه المعاملات البشرية المتنوعة التي لم ينزل فيها الشرع أحكاما معينة... يعتبر بالأدلة، ويعتد بالمقابلات والمقارنات والنتائج والمقاصد والغايات، يحسن ويقبح فيما ترك له أمر تحسينه وتقبيحه، ويميز المواقف السلوكية المناسبة لأقدار الرجال وظروف الزمان والمكان...
هذه العمليات العقلية هي التي يطلق عليها القرآن مصطلحي" تفقه" و" تفكير" ليميز بذلك بين عقل نبيه نير يعرف مجاله وحدوده وطاقته، وبين عقل غبي بليد قاصر عن مجاله وحدوده وطاقته، وبين عقل أهوج طائش يحلو له تجاوز مجاله وحدوده وطاقته، قال تعالى:
ـ ( وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) آل عمران: 191
ـ ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) الحشر: 21
ـ ( قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) الأنعام: 98
ـ ( فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) النساء: 78
ـ ( لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) المائدة: 101
وهذه المجالات هي التي فتح الله آفاقها للناس، وحثهم على ارتيادها وتسخيرها، وخاطبهم في شأنها قائلا:
ـ ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فصلت: 53
ـ (وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) المؤمنون 80.
ـ ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) البقرة: 164
هذه المجالات لم يحجبها الله عن أي من البشر كافرا أو مؤمنا إذا ما استخدم عقله واتبع السنن الكونية في البحث والتنقيب (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) الإسراء 20
إن العقل إذا ما استخدم في مجاله وحدوده وطاقته ـ فهما و تدبيرا وتخطيطا وتنفيذا ـ كان نورا وهداية وتوفيقا، كما كان خير طاقة تقوي القلوب وتشد أزرها وتطمئنها وتساعدها على الثبات ووضوح الرؤية، مثلما هو شأن إبراهيم ـ عليه السلام ـ في حواره مع نفسه أثناء تأمله السماء بعقله في لحظة صفاء قلبي وشفافية روحية: ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِين فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّين فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يا قوم إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون ( الأنعام76-77-78
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ أحاديث كثيرة في تمجيد العقل ورفع شأنه والحث على التمسك به، كلها ما بين ضعيف وموضوع، مثل:
ـ " يا أيها الناس اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به وما نهيتم عنه".
ـ " يا أيها الناس إن لكل شيء مطية، ومطية المرء العقل وأحسنكم دلالة ومعرفة بالحجة أفضلكم عقلا".
ـ "إن الأحمق يصيب بجهله أكثر من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غدا في الدرجات الزلفى عند ربهم بقدر عقولهم "
ـ " وما تم إيمان عبد ولا استقام دينه حتى يكمل عقله “.
ـ "لا عقل كالتدبير ولا ورع كالكف ولا حسب كحسن الخلق “.
وهي أقوال أقرب إلى الحكم والمواعظ منها إلى الحديث النبوي الشريف.(/27)
ولكن لنا في القرآن الكريم من الآيات الدالة على أهمية العقل ومكانته في مجال المسؤولية الفردية والجماعية، الدنيوية والأخروية ما يغني المسترشد والمستهدي. إذ وردت لفظة "العقل" ومشتقاتها في تسع وأربعين آية ، من أروعها دلالة ، وأبلغها حجة وأوضحها هديا وإعجازا ، قوله تعالى في سورة الروم : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُون وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون) الروم : 20 / 24
أما القلب فهو القناة الخاصة بتلقي الغيب والثبات عليه واليقين والاطمئنان والسكينة به والاستشهاد في سبيله.
ـ (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) البقرة 4
ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ )الرعد: 28
ـ ( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) الرعد 22
القلب مركز العواطف والشعور، ومحضن المحبة والإيثار والتراحم والتآزر والتوادد والتعاون، ومنبت الغرائز والفطر الراقية إذا ما تعهد بالرعاية صدقا وإخلاصا وشفافية وسلامة توجيه، ومكمن الحقد والحسد والبغضاء والجحود والكفران، ومنبع النوازع الشريرة والأحاسيس الوضيعة إذا ما أهمل شأنه، وترك للقذى يغذيه، والكدر يتشربه؛ لذلك هو متأرجح بين الخير والشر حسب سعي صاحبه ونواياه وأهدافه ومؤثرات الغيب والشهود فيه؛ يبتعد عن الخير نحو الشر كلما اكتسب صاحبه الإثم والبغي والعدوان. ويقترب من الخير والرضوان، ما التزم صاحبه الهدى والرشاد، وتقرب من رب العباد، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن رب العزة قال: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه... )
القلب معقد الإيمان ـ وإن كان تمام الإيمان بالتصديق اللساني وعمل الجوارح ـ لذلك نرى الإيمان بالقلب لا يزيد ولا ينقص، فهو إما يقين وإما كفر، وما عرف بالزيادة والنقص في الإيمان متعلق بأعمال الإيمان التي بها يزيد وينقص، أي بتطبيق مقتضياته فرائض و سننا ونوافل وتطوعا.
القلب وعاء الفطرة ونبعها صافيا كان أو كدرا، حيا كان أو ميتا، به يتعلق الرضى والسخط والسكينة والقلق والخضوع والثورة والاستسلام والتمرد:
ـ ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام 122
ـ ( لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) يس 69 ـ 70
وما أضمر امرؤ شيئا في قلبه إلا ظهر على صفحة وجهه أو في فلتات لسانه:
ـ ( فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُون) النحل 22.
ـ ( فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ ) التوبة 77
ـ ( فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) محمد 30(/28)
وما خالج قلب المرء من قناعات وأحاسيس انعكس في سلوكه مواقف حدية، أو اندفاعات استشهادية، أو تصرفات معتدية، أو كفريات متردية؛ لأن ذلك نابع من مصدر يمثل كل ما في الإنسان من طاقة وعنفوانية، فالإيمان ومحبة الخير والعمل الصالح فطرة أعلي شأنها ورشدت، وقناعة قلبية امتزجت بأحاسيس المرء وشعوره، فصارت جزءا منه، وطاقة كامنة في وجدانه تبرمج مواقفه وتوجه سلوكه، وتفجر لديه كل عناصر المواجهة والتحدي والمجابهة، لذلك تجد ذوي الميول القلبية للمثل والقيم متحمسين لها إلى حد التطرف والبالغة أحيانا، متمسكين بها إلى حد التضحية من أجلها بالأرواح؛ أما المواقف العقلية المبنية على القناعات الفكرية والحسابات النفعية والحجج المادية، والأدلة المنطقية فلا تتحول إلى طاقة تصد ومواجهة إلا إذا أمدها القلب بالحماس والقوة وشحذها وأججها بشحنه العاطفية المخزنة، فإن ظهرت سلوكا وتصرفات كانت مجرد إيماءات ميتة ورياضات غبية، وعبادات شكلية لا تنهى عن فحشاء ولا تحض على معروف، ولا تحفز إلى تآزر، أو تراحم، أو تعاون على بر، أو دفاع عن مثل وقيم ومبادئ، عبادات وصفها الله سبحانه بقوله: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ) الأنفال 35
لذلك تجد العالم ميت القلب ينهى عن المنكر ويغشاه، ويأمر بالمعروف ولا يأتيه، يبشر بالتميز وهو غارق في التحيز، يشتم الظالمين سرا ويواليهم ويخدمهم جهارا، وعظه وإرشاده بهرج خطابي زائف، واحتراف لمصلحة من يدفع، كل همه قرب من الأمراء، ومماراة للسفهاء، وصرف لوجوه الناس إليه، كما هو حال بعض العلماء المعاصرين المعروفين لدى الخاص والعام ممن لم ينج من مدحهم وتزلفهم حاكم، ولم يخل من اقعائهم وانبطاحهم مجلس سلطان.
وهذا يكشف عن خطأ جسيم وقعت فيه بعض الحركات الإسلامية المعاصرة التي ركزت على الجانب التعليمي دون الجانبين الأخلاقي والروحي، وبدل أن تكون منارات لتخريج الدعاة الصادقين والمؤثرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، تحولت إلى معاهد يلتحق بها إلى جانب الطالب الصادق الطالب البارد والخبيث والجبان والخائن، والوصولي والمرتزق والنذل والوضيع، لا يكاد يتميز أحدهم عن غيره إلا بما يحفظه من نصوص، وما يتقنه من فنون القول والحذلقة والتفيهق، حتى إذا جاءت ساعة الرجولة والشهامة والنجدة ارتكسوا في الفتن (صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَة ) الحاقة 7 ـ 8
وهذا أيضا يشير إلى إحدى نقاط ضعف المبادئ الوضعية والمناهج المادية كالشيوعية مثلا، لأنها باقتصارها على مخاطبة العقول عجزت عن إثارة حماس الأتباع والمريدين ودفعهم إلى مجابهة خصومها والموت في سبيلها، رغم ما اتخذته من أساليب للإقناع والتشجيع، حوارا وجدلا وتحليلا وأدلة عقلية وإغراء ورشوة، فلجأت إلى "الحقد الطبقي"، وهو عاطفة قلبية، تستثيره ضد المستغلين؛ ولكنه لم يكن كافيا لحمل الناس على التضحية والفدائية والموت. وكانت نهاية المطاف إعلان الهزيمة أمام المعسكر الرأسمالي الذي وظف أخس العواطف البشرية الدنيئة المتعلقة بالمال واللذة وشهوات النفس.
لكن استعمال القناة القلبية ـ وإن كانت هذه وظيفتها ـ ينبغي أن يضبط طاقة ومجالا؛ لأن الإسراف في الاعتماد عليها وتعميم استخدامها، وتسيب توجهاتها يؤدي إلى مخاطر جسيمة على الفرد والمجتمع والأمة والإنسانية كافة.
أول هذه المخاطر الخروج عن السواء الذي هو المعبر الرئيسي إلى الدروشة والخرافة والشعوذة، ثم الشرك والكفر والخيانة، كما هو ملاحظ لدى بعض الطرقيين والمبتدعة والقبوريين والعملاء طيلة عهود الانحراف والذلة والخضوع للأجنبي. لذلك كان لزاما أن يضبط القلب وما يصدر عنه بثلاثة ضوابط: الكتاب، والسنة الصحيحة، والعقل.
بالكتاب والسنة الصحيحة ينجو المرء من الانحراف العقدي والفكري والعبادي والسلوكي، لأنه يقتصر في تلقي الغيبيات والأحكام والعبادات على مصدرين وحيدين لا ثالث لهما. فكل ما لم يرد في القرآن الكريم ولم يرو صحيحا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يؤخذ به. وكل ما أفتى به شيخ أو رآه أو أمر به فقيه أو عالم من غير الكتاب والسنة الصحيحة لا يعتد به. وكل ما رئي في المنام، أو ألقي في أمنية امرئ مما دعي إشراقا، أو إلهاما، أو إضافة إلى التشريع أو العبادة أو ما شابه ذلك، ليس إلا تلبيسا وشيطنة وضلالا. وكل ما سكت عنه القرآن الكريم والسنة النبوية يكون الاحتكام فيه إلى العقل، ولكنه العقل الرباني الرشيد الذي ينظر بنور الشرع في حدود مجاله وطاقته، مؤثرا المصلحة العامة على الخاصة، وبقاء الأمة على بقاء الفرد، وعلو شأن الجماعة على علو شأن الأفراد والطوائف.(/29)
إننا بالقلب موجها بالكتاب والسنة والعقل الرباني، وبالعقل مضبوطا بالكتاب والسنة والقلب الحي، ننفي عن الإسلام وحركته الحضارية العالمية، وعقيدته الربانية السمحة، وشريعته الفذة العادلة كل شائبة تشين نظامه ومناهجه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ). ومعلوم أن الغلو والانتحال والإبطال والتأويل الجاهل بالعقل السائب والقلب الميت.
إن كل خلط أو خلل في استخدام قناتي القلب والعقل، كاستعمال احداهما مكان الثانية، أو استخدام واحدة فقط في مجال لا بد من اشتراكهما فيه يؤدي بالضرورة إلى خلل في المفاهيم و التصورات، وفساد في النوايا والمنطلق والأهداف والغايات، وانحراف في الأعمال والتصرفات، فيضطرب بذلك المجتمع وتهتز أركانه ويرتكس في الفتن.
إن استخدام العقل والقلب في مجاليهما وحدود طاقتيهما وبضوابطهما الشرعية، يعصم من الانحراف ذات اليمين وذات الشمال، فيحفظ للأمة تماسكها ويوجه طاقتها نحو العزة والمنعة، ويثبت أقدامها على الصراط المستقيم ويحفظها من أخطر مرضين ينخران المجتمع ويوهنان الصف، هما الدروشة والشيطنة.
الدروشة وهي نتيجة طبيعة لدى من يلغي عقله، ويتخذ لتلقي الغيب وأحكام السلوك والعبادة مصادر غير الكتاب والسنة أو معهما؛ تبدأ أولا طيبة وصفاء وثقة عمياء في الناس والنصوص المروية، ثم تستفحل لتتحول إلى بلادة وغباء، ثم إلى خرافة وشعوذة، يشرف على توجيهها واستثمارها متشيطنون هم شيوخ الصوفية والقبورية الذين يوظفون كل غيبي لمصالحهم وأهدافهم، أو عملاء الأجهزة السريون منهم والعلنيون...
أما الشيطنة فهي الثمرة الخبيثة لدى من يعتمد على العقل وحده وبدون ضوابط من كتاب أو سنة، وهي مدرسة أسسها بنوإسرائيل فأتعبوا بها أنبياء الله وطاردوهم وقتلوهم وحرفوا كلامهم وشرائعهم كما هو مفصل في القرآن الكريم.
إن أساس مدرسة الشيطنة الاعتداد بالعقل وحده متمردا على كل القيود، متجردا من كل الضوابط، لذلك ترى بعض الدعاة المتشيطنين ـ قادة وأتباعا ـ يرتكبون كل كبيرة ويأتون كل إثم ويتعاملون مع كل ظالم ويتزلفون إلى كل حاكم، ويعينون على كل خيانة من أجل تحقيق مكسب أو احتلال موقع، أسلوبهم المقايضة والمتاجرة، وترسهم التبرير العقلي نفيا للشمس في رابعة النهار، وإثباتا لدخول الجمل في سم الخياط
ـ ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) البقرة 9.
لقد وظفت الشيطنة عبر التاريخ الإسلامي للأهواء والمصالح الفردية، وخدمة الأجنبي والتكالب على السلطة، والجاه واللذة ففتحت على الأمة أبوابا للفتن والتناحر والتقاتل مازالت مشرعة إلى الآن منذ قتل الأئمة الراشدون بشيطنة المتكالبين على الحكم ودهائهم.
هذا الانحراف الذي أوقع بعض الدعاة في الدروشة أو الشيطنة، هو الذي يدفع حاليا بعض الشيوعيين إلى محاولة الالتفاف على الإسلام، بعد أن سقطت أحلامهم التي كانت معلقة بالمعسكر الشيوعي، وبدلا من أن يعودوا إلى أمتهم، وإلى دينهم بقلب حي مفعم بالمحبة والصدق والإخلاص والإيمان، آثروا التعامل مع القضية بشيطنة دعوها دهاء وحنكة، محاولين " أسلمة " الماركسية بحذلقات لغوية يمجها الذوق السليم، وتبريرات ديماغوجية تافهة ترفضها العقول السوية، دون أن يتجشموا مشقة تغيير ما بأنفسهم وسلوكهم؛ وبذلك بقي الماركسيون كما كانوا... لم يتغير لديهم إلا مواضيع الشقشقة التي كانت بالماركسية السافرة فأصبحت بالماركسية المحجبة، وسلاحهم في كل هذه المجالات الجدل والمراء، واتباع المتشابه والمعضل والمشكل، (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) آل عمران 7.
لقد فات هؤلاء الشيوعيين " المتأسلمين الجدد" أن العقل وحده لا يرتاد آفاق الغيب؛ لأنه محدود بالزمان والمكان، والمحدود لا يحيط بالمطلق، وأن الدين الذي هو أهم قيمة لدى الإنسان مصدره الغيب، ومحضنه الدافئ القلب، ثم بعد ذلك يأتي العقل للدعم والتوجيه والترشيد.
فاتهم أن الدين انحياز أولا وأخيرا، انحياز قلبي وجداني لأمة وعقيدة وشريعة كما قال تعالى:
ـ (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) الأنفال 63.
ـ (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) آل عمران 31،(/30)
وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به )، ( إن أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله، والحب في الله والبغض في الله )، ( وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله )، ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ).
وما فات الشيوعيين من هذا الأمر هو عين ما فات بعض المسلمين الذين امتلأت قلوبهم خوفا وطمعا، وحرصا وهلعا، فتردوا في مهاوي الشيطنة تبريرا وتحريفا وتأويلا، فقست قلوبهم قسوة لم ينصروا معها مظلوما، أو يغيثوا ملهوثا، ولم يتذكروا معها أرملة لشهيد، أو ولدا لمهاجر، أو أسرة لمعتقل، بل لم يعودوا معها مستعدين حتى لاستماع الحق، والحوار حوله أو معه، كما هو شأن قوم نوح الذين لم تزدهم دعوته إلا فرارا، ولم يزيدوا عند سماعهم إياها على أن (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ) نوح 7.
وهو ما فات أيضا بعض شباب الحركة الإسلامية الذين استعجلهم حب الظهور والزعامة، فحاولوا شق الصف وفتنة الجماعة والتجسس عليها والكذب عليها، بتأويل الأقوال والتصرفات، وتبرير الأعمال والتوجهات، مدججين بكل ما يخطر وما لا يخطر على بال من مكر، غير متورعين عن استعمال أخس أساليب الكيد والشيطنة، فكان عاقبة أمرهم أن ارتكسوا في الفتن أو قبعوا في مزابل الخزي والنسيان، أو اضطروا إلى التذلل والاعتذار لملاحدة العصر وشيوعييهم والتملق حتى لداعراتهم، لعَلَّ توبتهم من سابق انتمائهم الإسلامي تقبل، ومكاسبهم الدنيوية تحفظ، أو شغلوا عن فتنة الدعوة وأهلها بما اقتضته حكمة العلي القدير، نسأل الله العفو والعافية.
إن الشطط في الاعتماد على القلب والعقل يخرج عن دائرة السواء، كما أن العدل في الاعتماد عليهما والمزاوجة بينهما بالضوابط التي تنظم حركتهما، يضمن السواء في جميع الميادين، ويجعل الإنسان مستويا على ساقين سليمتين، والدين ميسرا واضحا لكل ذي عينين، والعلم الطبيعي متطورا مزدهرا في خدمة الإنسانية، ومن أجل سعادتها.
ولقد حققت العقول عندما سخرت في مجالها وحدودها، ما نراه من تقدم وريادة وتطور في مختلف العلوم، صناعة، وزراعة، وطبا، وفلكا، وفضاء، وذرة...
كما أنشأت القلوب الحية الربانية نماذج من الرجال الأفذاذ الذين غيروا وجه التاريخ، ورفعوا شأن الأمة، وحققوا مجتمع السعادة والطمأنينة والرخاء والحرية...
كما تورطت العقول والقلوب عندما تجاوزت حدودها وهي تعالج قضايا الغيب والشهود في متاهات من الأخطاء هبطت بها إلى مستوى تساؤلات الصبية والحمقى، دون أن تحقق أدنى نتيجة.
ومع ذلك فإن الخطأ في استعمال العقل والقلب ليس بالأمر الخطير إذا توفر الإخلاص والموضوعية والصدق في البحث عن الحق، والإرادة الصلبة للنقد الذاتي، والتحكم الواعي في السلوك والاختيارات، إذ سرعان ما يتراجع المخطئ إلى الصواب كلما اكتشفه.
لكن إذا رافق الخطأ نية فاسدة، أو حرص على مصلحة ذاتية، تعذر الإصلاح واستحال الرجوع، مثلما هو الحال لدى الماركسيين الذين تأبى أهواؤهم الثورة على الذات وتقتضي مصالحهم ركوب الموجة الإسلامية فيرفعون شعار " الدين عقل فقط ". أو لدى وعاظ السلاطين الذين يتخذون يدا في جيب الحاكم ويدا في جيوب العامة، محاولين استغفال الطرفين واحتلابهما. أو لدى شيوخ الصوفية الذين تقتضي مصالحهم استغفال الأتباع، وتحويلهم إلى موتى بين أيدي غاسليهم، أو عجين في قصعة بين أيديهم فيرفعون شعار " الدين قلب فقط ".
هذه الفئات لا يجدي لديها نصح، ولا ينفع معها حوار أو تذكير، لأن بينها وبين الحق سدا متينا من هوى الأنفس ومصلح الدنيا، وقد ضرب الله تعالى لهؤلاء ومن على شاكلتهم مثلا من قوم ثمود فقال:( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) فصلت 17.
أمة القرآن من القرآن
لفضيلة الشيخ محمد الحمداوي رحمه الله تعالى
انظر ترجمة حياته في نافذة " سير وصور"
كانت الغاية الشريفة الأولى التي قصدت إليها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، من توجيه الدعوة إلى من وجهت إليهم من علماء المغرب، للمشاركة في موسم المحاضرات الدينية التي تلقى عادة تحت إشرافها بواسطة الإذاعة والتلفزة، بمناسبة حلول شهر رمضان في كل سنة: "أن تعم الفائدة مختلف الأوساط المغربية".
وكانت الغاية الثانية من دعوتها تلك " أن يكون علماء الدين قاموا بواجب الإرشاد والتوجيه الإسلامي".(/31)
وعندما تلقيت الدعوة للمشاركة، أخذ خاطري يجول فيما عسى أن يكون أوجب واجبات الإرشاد والتوجيه في هذا الظرف بالخصوص، هذا الظرف الذي وجهت فيه (لأمة القرآن) ضربة لم يسبق أن وجه إليها مثلها في جميع مختلف الظروف العصيبة التي مرت عليها خلال تاريخها المتعاقب، ولم يسبق إلى ذهني أن يكون أوجب من أي واجب من واجبات التوجيه والإرشاد غير تنبيه المستمعين من (أمة القرآن) في هذا البلد، إلى مكمن الداء، وأصل البلاء، فيما نزل من المحن والمصائب التي كانت آخرها في موطن الإسراء والمعراج أجدر بأن يقال فيها ما قيل في أخرى سبقتها.
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
عن نقطة البدء التي كانت مبدأ ظهورهم على وجه الأرض كمسلمين ، هادين ومهتدين ، وغالبين لا مغلوبين ، وأعزاء لا أذلاء ، وفاتحين لا مفتوحين ، وحاكمين لا محكومين .
وما كانت نقطة البدء تلك، ولا تكون، ولن تكون أبدا سوى (القرآن )، القرآن الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد بن عبدالله في شهر رمضان ، "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ " البقرة 185، بينات من الهدى إلى الخير العام ، خير الجسد وخير الروح ، خير الفرد وخير المجتمع ، خير الدنيا وخير الآخرة . بينات من الفرقان بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال، بين الطيب والخبيث، بين المنجي والمهلك.
كان الإنسان قبل نزول القرآن على الحالة التي وصفها القرآن حين قال الله تعالى: " تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " النحل 63ِ، وقد وصف النبي –صلى الله عليه وسلم- غضب الرب على إنسان ما قبل نزول القرآن حين قال في الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه: "إن الله نظر إلى الخلق فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ) ولكن رحمة الله التي سبقت غضبه تجلت في أن بعث محمدا للعالمين بشيرا ونذيرا، وصدق الله : "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ " الأنبياء 107 ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وصف هذه الرحمة التي حبا الله بها خلقه برسالته فقال : "إنما أنا رحمة مهداة" أبو داوود.
ولقد كانت نقطة البدء في التوجيه الإلهي للرسول المبعوث إلى العالمين بالقرآن ، أن نبهه إلى ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه ، فقال جل وعلا يخاطبه :" إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا" المزمل 6، ولم يكن ثقل القرآن إلا العمل بما جاء به كما جاء ذلك عن الحسن البصري وقتادة ، وأخبره سبحانه وتعالى بأنه ليس بدعا من الرسل السابقين في أن جعل لكل منهم عدوا من المجرمين يحاول صده عما أنزل إليه بكل وسائل الإغراء والإيذاء ، وأن عليه أن يتمسك بالذي أوحي إليه ، وحذره أن ينفلت أو ينحرف أو ينخدع أو ينصاع وإلا فإن الله هو العلي الكبير الذي لا نصر لمن خالف أمره ولا ناصر لمن خذله، فقال تعالى :" وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ " الأنعام116، وقال تعالى :" وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ " البقرة 120، وقال سبحانه :" وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ " البقرة 145، وقال تعالى:" وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ " المائدة49، وقال عز من قائل :" وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا " الإسراء 73-74-75.(/32)
وما كان لمحمد، وهو الرسول الذي اختاره من يعلم حيث يجعل رسالاته لتحمل أعباء الرسالة إلى الإنسانية عامة، إلا أن يعد نفسه إعدادا لتحمل هذه المسؤولية العظمى، وما ذلك إلا أن أسلم وجهه لله وهو محسن مستمسك بعروة (القرآن) الوثقى، حتى أصبح القرآن نورا له يمشي به على الأرض في جميع أعماله الخاصة والعامة، مع نفسه ومع الناس، مع الأقربين إليه والأبعدين، مع الأصدقاء والأعداء، في السياسة وفي الحكم ، وفي السلم وفي الحرب، ومن ثم صح قول عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن خلق رسول الله – صلى الله عليه وسلم- :"كان خلقه القرآن"، وقد جاء القرآن يشهد على هذا الوصف القرآني حين قال : "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ " القلم .
والمسلمون الأولون الذين عاشروا الوحي وكانت آذانهم أسبق الآذان إلى سماع نداء القرآن فلبوا النداء، هؤلاء المسلمون الذين سمعوا نبي القرآن وهو يتلو عليهم من أمثال قول الله :" وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِين أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة " الأنعام 155- 156- 157، هؤلاء المسلمون الذين آمنوا بمحمد وعزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه لم يفهموا أول ما فهموا أي معنى لنزول القرآن سوى العمل بما جاء به أمرا ونهيا، وإلا أن يصبح القرآن خلقا لهم كما كان خلقا لصاحبهم، وفي ذلك جاء قول ابن مسعود رضي الله عنه :"كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن" .(/33)
ونحن إذا تأملنا الآيات الكريمة التي يوجه فيها الرب الكريم الخطاب إلى الأمة الإسلامية على سبيل الأمر أو النهي، على سبيل الأمر كقوله تعالى :" يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ "الأنفال 24، وكقوله تعالى :" يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102)وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا " آل عمران 103، وقوله : " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ " الحجرات 10، "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ " الأنفال 1، "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى " المائدة 2، أو على سبيل النهي كقوله تعالى :" وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ " الأنفال 8، " وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ " هود 113، "وَلَا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِين مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ " الروم 32، "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ " الممتحنة 1، إلى غير ذلك من آيات الخطاب القرآني الموجه إلى الأمة الإسلامية ، أقول : إذا تأملنا هذه الآيات نجد أن المجتمع الإسلامي لا يمكن أن يتصور لشخصيته المعنوية والواقعية أي وجود إلا على معنى وجود متطلبات هذه الآيات في تصرفات أفراده ، وسلوك إنسانه في جميع مجالات الحياة الخاصة والعامة ، ومهما تقسو الظروف أو تلين، فإن هذا التصور الصحيح للأمة الإسلامية على أنها العالمة العاملة بالقرآن هو التصور الذي ينبغي أن لا يغيب عن أذهاننا حين نتلو قول الله تعالى : "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ " المنافقون 8، وقوله تعالى :" وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا " النساء 14، وحين نقرأ تاريخ الذين أعزهم الله فما أذلهم، ونصرهم فما خذلهم، ورمى لهم حين رموا، في أكثر المعارك، وأغلب الحروب، وأرهب المواقف، فإذا انعكست الآية، ونكست الراية، ورجع الجنود على أعقابهم خاسرين، فاعلموا أن القرآن لم يتل حق تلاوته، ولم تمتثل أوامره ونواهيه، ولم تطبق تعاليمه في شؤون الفرد وفي شؤون المجتمع، وصدق الله :" أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ " الجاثية 21، " وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ " الحج 40.
فإذا كان لأمة القرآن شرف خطاب القرآن لها بأنها خير أمة أخرجت للناس، فإن ذلك لم يكن لها لأنها تسكن مشرق الأرض دون مغربها، أو شمالها دون جنوبها، أو لأن ربك زاد لها بسطة في الجسم على باقي سكان الأرض ، وإنما كان لها ذلك بشرط شرطه عليها القرآن، وهو أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فالقرآن لم يقل " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس " آل عمران110، وسكت، ولكنه علق ذلك على الصفة حين قال :" تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ " آل عمران110، فإذا أخلت بذلك الشرط، وخالفت ما أخذ الله عليها من العهد، انعدمت فيها صفة الأفضلية، واستحقت أن ينزل بها ما أنزل بغيرها من الأمم التي خالفت أمر الله، واستمعوا معي إن شئتم إلى هذا الحديث الذي رواه أصحاب السنن عن نبي القرآن قال عليه الصلاة والسلام :"إن من كان قبلكم كان إذا عمل العامل فيهم جاءه الناهي تعذيرا فقال يا هذا، اتق الله، فإذا كان من الغد جالسه وواكله وشاربه كأن لم يره على خطيئة بالأمس، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم" واستمعوا معي أيضا إلى هذا الحديث الآخر الذي يرويه الإمام أحمد وأبوداوود عن نبي القرآن قال صلوات الله وسلامه عليه : "إذا ضن الناس بالدرهم والدينار وتبايعوا بالعينة، وتبعوا أذناب البقر ضرب الله عليهم ذلا فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم".(/34)
في القرآن يا أمة القرآن آية تعدكم بالخلافة في الأرض والتمكين في الدين والأمن بدل الخوف، فراجعوا أعمالكم واسألوا أنفسكم، هل أخلفتم أم أخلفت الآية؟ ألم يقل الله :" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا " النور 55،
القرآن كله دعوة إلى الإصلاح لا إلى الإفساد، والقرآن كله دعوة إلى التقوى لا إلى الفجور والقرآن كله دعوة إلى العدل لا إلى الظلم، والقرآن كله دعوة إلى القوة لا إلى الضعف.
قالوا لكم : إنكم غلبتم لأنه ينقصكم العلم، قولوا لهم : إنما فقدنا العلم لأننا فقدنا أنفسنا، ألم يقل الله :" إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ " الرعد 11.
أفما آن لكم بعد أن تردوا القلوب إلى رباط القرآن بعد أن انفلتت، وإلى صراط الله السوي بعد أن حادت، واعلموا أن الله الذي سبقت رحمته غضبه فبعث للعالمين نبي القرآن، ضمن لأمة القرآن أن يهديها سبيل النجاة، ومعالم النصر، إذا هي رجعت إلى تعاليم القرآن، فكما أنه سبحانه يحيي الأرض بالمطر بعد موتها، كذلك يحيي القلوب بالقرآن بعد غفلتها، فاستمعوا إلى نداء القرآن حين يقول :" أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا " الحديد 16، ويقول :" فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ " الزمر 1.
وبعد فإذا كان من واجب الأمة الإسلامية أن لا ينقطع فيها واجب التوجيه والإرشاد والتنبيه والإيقاظ، على ممر الأزمان، ومختلف الأحوال فإن الأكبر إثما والأخسر عاقبة، والأجلب لغضب الله وسخطه أن يسمع الناس في الليل أو في النهار آيات الكتاب الذي لا يغسله الماء، وأحاديث الرسول الذي لا ينطق عن الهوى، ثم يتفرقون، في الليل أو في النهار، مقبلين على الآثام يرتكبونها ولسان حالهم يقول " سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا " البقرة 93.(/35)
الفجر الدامي
جريمة مجزرة
في المسجد الإبراهيمي
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
دَوّى الأَذَانُ ! فَيَا منَابِرُ أَوِّبي ... ... شَوقاً إلى خُضْرِ الجِنَانِ وَرَدّدي
... ...
خَشَعَتْ لَهُ الدّنيا ! فَيا لَجَلالِهِ ... ... وجَمَاله وجَلالِ ذاكَ المشْهَدِ
... ...
كلُّ المرابعِ أَخْبتَتْ لِلّه خا ... ... شِعَةً فمِنْ وَادٍ يَرفُّ وأَنْجُدِ
... ...
ونَسَائم الفَجْر البَليل سَرَتْ به ... ... عَبَقاً وأَنداءً وآيَ محمَّد
... ...
وكأَنَّ شقشقَة الطيور ِ نَدَاوَةٌ ... ... رفَّتْ وتسْبيحُ الرُّبى والأوهُدِ
... ...
وكأَنَّ شقشقَة الزهور تظلَّ تَسْـ ... ... ـأَلُ ما يُخبَّأُ يا مَرابعُ في غدِ
... ...
وتنفَّسَ الورْدُ الغَنِيُّ كَأَنّهَ ... ... عَبَقٌ يجودُ بِعطره المُتَورِّدِ
... ...
يُلْقي عَلى السَّاحَات مِنْ دَمِه دَماً ... ... لِيَقُول : يا دُنْيا أَطِلِّي واشُهَدي
... ...
فَهُنا مَيَادينُ الجهادِ نَمْدُّها ... ... دَفْقاً بأمواجِ الدَّم المتجدِّدِ
... ...
وهنا رباطُ المؤمنينَ وسَاحَةٌ ... ... لجِهادِهمْ أو آيةٌ للمهتدي
... ...
تَتَلَفَّتُ الآفَاقُ ، لا تَلْقَى سِوَى ... ... سَاعٍ يُجيبُ نِدَاءَهُ أو مُغْتد
* * * ... * ... * * *
وتَنفَّسَ الصُّبحُ النَّديُّ و حَوَّمَتْ ... ... بَيْنَ الدّيار مُنى وطلعةُ شُهَّدِ
... ...
يَسْعَون للبَيْتِ المنَوَّر بالهُدى ... ... مُستبْشِرين بِجَولةٍ أو مَوِعِدِ
... ...
فرُبُوعُها سَاحُ الرّباط لمؤمِنٍ ... ... متَواثِبٍ أَو مؤمِنٍ مُتَهجِّدِ
... ...
يتواصَل التَّاريخُ في سَاحاتِها ... ... بنُبُوة الإسْلاَم و العَهْد النَّدي
... ...
يَسْعَون للحَرمِ الطّهور خُطاهُمُ ... ... نُورٌ يشُقُّ ظلامَ لَيْلٍ أَسُودِ
... ...
نِعمَ البُكورُ وتِلْك َ عَزْمة مؤمِنٍ ... ... والجُمْعَةُ الزَّهراءُ لهْفَةُ أَرْشدِ
... ...
والنورُ مِنْ رَمَضَان مُنبَلجٌ عَلى ... ... سَاحاتِهَا فَيْضاً غَنيَّ المورِدِ
... ...
يَا للفضَائل ! كُلّها قَدْ جُمّعَتْ ... ... للصَّائمين القائمينَ السُّهَّدِ
* * * ... * ... * * *
لِلّه درُّ البَيْتِ بَيْتِ نُبُوَّةٍ ... ... وَشَهادَةٍ صَدَقَتْ وطَلْعةِ رُوَّدِ
... ...
وكَأَنّ إبراهيمَ ، يا لَدُعَائِه ! ... ... نادَى وقالَ : هُنَا وَفَاءُ مُحَمَّدِ
... ...
الصّائِمون العَابدون خُطاهُمُ ... ... شَوقٌ يُلحُّ ولهفَةُ المُتعَبِّدِ
... ...
فَكّأَنّها أَبدَاً تحِنُّ لجَنَّةٍ ... ... خَضْراءَ زاهِيةٍ وبِرٍّ أخلدِ
... ...
وأَتَوالِبَيْتِ اللهِ يَخْشَعُ عِنْدهَ ... ... قَلْبٌ أَبَرُ وخفْقَة مِنْ أَكبُدِ
... ...
فَتَرى مَواكِبَهمْ هُناكَ كأَنّهم ... ... زُهْرُ الكَواكِبِ أَو مَطَالِعُ فَرقَدِ
... ...
رُفِعُ الأَذَان فأقْبَلُوا وصُفُوفُهمْ ... ... مَرْصُوصَةٌ وَ قلوبُهُمْ شَوْقُ الغَدِ
... ...
اللَّهُ أَكْبَرُ ! فانْحَنَوا لرِكُوعِهمْ ... ... واللَّهُ يَسْمعُ خَفْقَةَ المتَوَجِّدِ
... ...
رَفَعُوا وأهْوَوا للسُّجودِ فلا تَرَى ... ... إلا خُشَوعَ العابِدين السُّجَّدِ
... ...
دَوَّى الرّصَاصُ! وخلف كلِّ رصاصةٍ ... ... عاتٍ تمرَّسَ في الضّلال الأنْكدِ
... ...
المجرمون ! فيا لِهَوْلِ جَريمةٍ ... ... كُبْرَى ! ويا لِلْمُجْرِمِ المتَرصِّدِ
... ...
كمْ مُجْرِمٍ في الأَرض لم يَقْنُتْ ولمْ ... ... يخشعْ لخَالِقِهِ وَ لمْ يتَعبَّدِ
... ...
دَوَّى الرصاصُ فمن شَهيدٍ فُجِّرتْ ... ... أَضلاعُهُ و مُجنْدل لم يُرْفَدِ
... ...
تَتَطايَرُ الأَشْلاءُ كُلُّ ضحية ... ... تَشْكُو لِبَارئِهَا هوانَ الهُجَّدِ
... ...
وتلاقَتِ الأَشلاَءُ عَبْرَ فَضَائِهَا ... ... مِنْ كُلِّ ناحِيَةٍ تُبَاحُ لمُعْتَدِي
... ...
مِنْ أرض " كَشميرٍ " نداءُ دِمَائِها ... ... مِنْ أَرض " بُوسْنة" صرخَةٌ لم تُنْجَدِ
... ...
مِنْ كُلِّ مَجْزَرَةٍ بَقَايا أُمَّةٍ ... ... تُلْقَى وتُنْشَر في الفَضْاء الأَربدِ
... ...
أضْحتْ دِمَاءُ المسْلمينَ مُباحَةً ... ... لِلمُجْرمين ! لِكُلِّ عَادٍ مُفْسِدِ
... ...
وديارُنا أضحتُ مُفتَّحةً لَهُمْ ... ... وقلوبُنَا فُتِحَتْ لفِتْنة مُلْحِدِ
... ...
المُجْرِمُونَ عِصَابةٌ مُمْتَدَّةٌ ... ... في الأَرْض عَنْ جَشَعِ الهَوى المُتَمرِّدِ
... ...
يا لِلْيهَودِ ! وخَلْفِ كُلِّ مُصِيبةٍ ... ... فِتَنُ لَهُمْ ويَدٌ ! فَيا شَرَّ اليَدِ !
... ...
جَمَعُوا مِنَ الأَحلافِ بينَ حِبَالهمْ ... ... دُوَلاً فماجُوا بِالبَلاءِ المُرْعِدِ
... ...
مَنْ كّانَ يَحْلُم بالسَّلاَمِ مَعَ اليَهو ... ... دِ فَذاكَ حُلْمُ الجَاهِلِ المتزَيِّدِ
... ...
طَمِعُوا ،كما طَمِعَ الضَّلالُ جَميعُه ، ... ... بِالمُسْلِمين ، بِدَارِهِمْ ، بالأَنْجُدِ
... ...
لا ! لا يُريدون السَّلامَ ولا يُريـ ... ... دُ الأَمْرِكانُ ولا طبائع مُعْتَدي
... ...(/1)
جَعَلُوا السَّلام خَديعةً نَصَبُوا بِهَا ... ... شركاً يُمَدُّ لحائِرٍ مُتَردِّدِ
* * * ... * ... * * *
أَيْنَ النّظامُ العالميُّ وأَيْن يا ... ... دُنيا حُقوقُ مُقَتَّلٍ ومطَرَّدِ ؟!
... ...
أَينَ العَدَالةُ والوُعُودُ وكَيفَ يُرْ ... ... جىالعَدْلُ منْ ذئْبٍ يَجُولُ وأَسْودِ؟!
... ...
يا أُمَّتي إنْ لَمْ تُفِيقي فَاشُهَدي ... ... أَمْواجَ لَيلٍ زَاحِفٍ مُتَمَدِّدِ
... ...
لُمِّي صُفَوفَك ، أَمّة الإِسلام ، كالـ ... ... بُنْيانِ مَشْدوداً بِعَهْدٍ آكَدِ
... ...
خُوضِي مَيَادينَ الجهادِ وَرَجِّعي ... ... شَوْق الشَّهادة دونَ ذلك وانْهَدِي
... ...
يا أُمَّةَ الإسلام تلك أَمانَةٌ ... ... وشَهادةٌ للَّهِ ! قُومي فاشْهَدي
... ...
يا أُمّةَ الإِسلامِ يا أمَلَ الشّعو ... ... بِ جَميعِها ! أَوفي بَعْهدِكِ ! أَنْجدي
... ...
لا ! لَنْ يُقيمَ العدْلَ إلا مُؤمِنٌ ... ... صَدَق الإِلهَ وقال: يَا نَفْسي رِدِي
* * * ... * ... * * *
دارَ الخليل تحيّةٌ مِنْ مُهْجَةٍ ... ... عَرفَتْ جَلال جِهادِك المُتوقِّدِ
... ...
قد كُنتِ بالأَمس القريب غَنيّةً ... ... بالبذْل زاهيَةً بِجُودِكِ واليَدِ
... ...
طَهَّرتِ أَرْضَكِ مِنْ تَدفُّقِ رجْسِهِمْ ... ... ورَوَيْتِها بالطُّهر من دَمِكِ النَّدي
... ...
واليومَ أَعْلَيْتِ الوفَاءَ فهذه ... ... زُمَرٌ تَواثَبُ للشَّهادة فاسْعَدي
... ...
وَغداً تَرَيْنَ مَوَاكِباً مَوْصُولةً ... ... للّه زاحفةً وطلْعَةَ رُوَّدِ
... ...
والنَّصْرُ كالفجْرِ المُنوِّرِ مُقْبِلٌ ... ... بُشرى إليكِ و آيةً للمُهْتَدِي
... ...
ميلي إِلى الأقْصَى ! حَنينُكِ لمْ يَزَلْ ... ... صَفْواً وعَهْدُك لَمْ يَزَلْ أَمَلَ الغَدِ
... ...
مِيلي هُناكَ وَجَدِّدا عَهْداً أَبَرَّ ... ... لجِوْلَةٍ تُوفي بِصدْق الموعِدِ
* * * ... * ... * * *
الثلاثاء
19رمضان 1414هـ
1آذار 1994م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· من ديوان عبر وعبرات .(/2)
القدس في خطر
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
القُدْسُ في خَطرٍ؟! وَيْحي ! ويُفزِعُني ... ... طولُ الشكاةِ وطولُ العَتْبِ والصّخَبُ
فالناسُ بيْنَ مغاني اللّهو تَصْرَعهمْ ... ... أهواؤُهم وأماني العجْزِ و الرّغَبُ
أنّى تلفّتَّ أنغامٌ مُخَدٍّرَةً ... ... ونشوَةٌ وليالٍ هَزّها الطّرَبُ
والقومُ في غفْوَةٍ ! في التيه ! في ظُلَم ... ... يَلقُّهمْ مِنْ دياجيرِ الهوى حُجُبُ
عواصِفٌ مِنْ شتاتِ الأمرِ نازلةٌ ... ... فيهمْ وثائرةُ الإعصار تقتربُ
تمزَّقوا فِرَقاً شتّى يَدور بِهمْ ... ... مرُّ الصِّراع وهوْلُ الشرِّ والحَرَبُ
أَلقَى العَدُوُّ فُتَاتاً فَانْبَرَوْا فِرقاً ... ... تَنَافَسُوهَا فأَلهَاهُمْ هَوىً كَذِبُ
مَاليْ أَلومُ عَدوّي كُلّما نَزَلتْ ... ... بِيَ الهَزَائِمُ أو حَلّتْ بِنا النُّوَبُ
نحنُ الملومون ! عَهْدُ اللهِ نَحْملهُ ... ... وقد تَخَلَّفَ منا العَزْمُ و السببُ
* * *
القُدْسُ في خَطَرٍ؟! الآن ؟! واعجباً ... ... أيْنَ السّنُونَ التي مَرّت بها الكُرَبُ ؟!
أَين المواعظُ دوّت في مسامِعنا ؟ ... ... أين النَّذير و أين الآيُ و الكُتُبُ ؟!
أَيْنَ القَوارع هزّتْ كُلَّ ذي صَممٍ ... ... ولمْ يُهَزَّ لنا عزْمٌ و لا قُضُبُ ؟!
وخُطّةُ القوِم تَمضي بَيْنَنَا زَمناً ... ... تَطولُ فيهِ دَواعي المكْرِ و الرّيَبُ
ونَحنُ نمضي على أحْلامِنا وَهَناً ... ... تُنازُلاً في دُروبِ التّيهِ نَضْطَربُ
مسلسلٌ ! كمْ نزلْنا فيه مُنْحَدَراً ... ... يَهْوي بنا ! هان فيه العزْم والطّلَبُ
دوَّتْ شِعَاراتُنا ! بُحَّتْ حَناجِرُنا! ... ... جُنّتْ عواطِفُنَا! تَعْلو وتلْتَهبُ
ضجّتْ شِكايتُنَا في كُلِّ مُعْتَرَكٍ ... ... مَعَ الهَزيمة تُطْوَى ثمَّ تَحْتَجِبُ
لهَيْئةٍ مُزِّقتْ في ساحِها أمُمٌ ... ... يا سوءَ ما فَعلوا في الأرض و ارتكبوا
لقد ركنّا لكيْدِ الظالمينَ ولمْ ... ... نَزَلْ على كَيْدهم نشْقَى و نَنْقَلبُ
لم نشْكُ لله ! لم نلجأ ْلرحمتِه ... ... فما استقام على نهجِ الهُدى أرَبُ
أعطاكُمُ اللهُ ما يُرْجى بهِ أمَلٌ ... ... وَمَا يُعَزُّ به الإحسانُ و الدأبُ
هذي الملايينُ فَوْقَ الأرض قد نُثِروا ... ... وَوَفْرةٌ من كنوزِ الأرض والذهبُ
وموقعٌ وَسَطٌ في الأرضِ متّصلٌ ... ... يَضمُّ ذلك حَبْلُ الدِّينِ والسببُ
فبدَّلوا بعطاء الله ما قَذَفَتْ ... ... به أيادي عدّوٍ جودُه عَطَبُ
وبَدّلوا العهدَ ! ويحي ! لم يعدْ لهمُ ... ... إلا الشِعارات دوّتْ عندها العُصَبُ
فأصبحوا شِيَعاً شتَّى ممزَّقة ... ... وساحُها في يد الأعداء تُنْتَهَبُ
* * *
القدسُ في خَطَرٍ ؟! ما زال يُذهِلُني ... ... حقّاً ويُفزِعُني من أمرِنا عَجَبُ
القدسُ يا أُمّتي ليْسَتْ بِمنْعَزَلٍ ... ... عن الديار ، ولا الخطْبُ الذي خَطبُوا
القُدْسُ يا أمّتي موصولةٌ بِعُرا ... ... وبالحبالِ التي يزكو بها النَّسَبُ
بالبيتِ , بالكعبة الغرّاء ! عُروَتُها ... ... شُدَّت بِها ، بِغَنيِّ النّور تأتَشِبُ
وبالمدينة حَبْلٌ غير منفَصمٍ ... ... عَهْداً مع الله حّقاً ليس ينقَضِبُ
عَهْداً إلى أُمَّةِ الإسلام ما صدقت ... ... أمانةَ العهدِ والحقِّ الذي يَجِبُ
* * *
من مكة وظلالِ الكعبةِ انطلقتْ ... ... ركائبُ الحقِّ يحدوها الهوىالعَذِبُ
مَسْرى الرسولِ ! وجِبريلُ الأمينُ به ... ... ودفقةُ النّور في الآفاقِ تنسِكبُ
يَطْوي البُراقُ على أشواقه أملاً ... ... إليك يا قُدْسُ يهفو قلبُه الوَجِبُ
تطوي الزّمانَ وتطوي البيَد وْثبَتُه ... ... تراجَعَتْ دونه الساحات ُوالحقَبُ
المصطفى ! وجلال الوحي يَحْرُسُه ... ... والكونُ من حوله يرنو و يرتَقِبُ
أرخى البراقُ جَناحيه بساحته ... ... فانشَقَّ فجْرٌ مع الأيام مُرْتَقَبُ
هذا النبيُّ ! وهبَّ الأنبياء له ... ... من عالم الغيب ! تُغضي عنده الهُدُبُ
هنا التقي عالَم الغيبِ الذي طلَعتْ ... ... رؤاه والمشهَدُ الحقُّ الذي صَحِبوا
فأمَّهم ! وجنودُ الحقّ شاهِدةٌ ... ... بأن تلك الرّبى للحقّ تنتسبُ
أمانةً في رِقاب المسلمين لهمْ ... ... يوم الحساب أمور غير ما احتسبوا
مَضى البُراقُ يَشقُّ الأُفْق منطلقاً ... ... بومضة للسموات العُلا يَثبُ
ومن رُبى طيبَةٍ فوحُ العصور سَرى ... ... مسكاً غنيّاً ونشراً ليس يُجْتلَبُ
* * *
يا قُدسُ ! يالَهْفَةَ الأكْبَاد صادقةً ... ... ولهفَةً عمَّها الإعصارُ والغَضَبُ
يا طلعةَ الشوق والأقْصى يُرَجّعُها ... ... مع العصورِ وحدٌّ صارِم ذرِبُ
القدْسُ يا أُمَّتي فوحُ العصور بها ... ... صَبّتْ مجامِرها الساحاتُ والحِقَبُ
القدس يا قومُ تاريخ تجودُ به ... ... أرضُ الرسالاتِ ! ما أزكى الذي تَهَبُ !
أرض الرسالات كم مدّت ملاحمها ... ... دماً على ساحِها بالمسكِ ينسكبُ
القدسُ زَهْرةُ تاريخ مُعَطَّرةٌ ... ... جُذورها في بطون الأرض تحتجبُ(/1)
فإن تقَطّعت الأحبال و انفصَمتْ ... ... تلك العرا جَفّت العيدان والقَصَبُ
وإن تُرى قُطّعَتْ تلك الجُذُورُ فهلْ ... ... تظلَّ تَعبقُ في ساحاتها الكُثُبُ
تقول : كلاّ ! فقد خبّأت كلَّ شذى ... ... عندي لكل شهيد كنتُ أرتَقِبُ
خبّأت كلَّ عطوري في مجامِرها ... ... نديَّةً لزحوفٍ ليسَ تنْقَلبُ
* * *
يا قومُ ! كلُّ رَوابينا عَلى خَطَرٍ ... ... وقد تَكسَّرَتِ الأسياف والقُضُبُ
وسدَّ كلَّ سبيل للجهاد بها ... ... أين السبيل ؟! واين الفتية النُجُبُ
المجرمون طغاةُ الأرض قد زحفوا ... ... زحفاً يموجُ به جَيْشٌ لهمْ لَجِبُ
* * *
القدسُ في خطر ؟! ويحي ! أَيرفَعُه ... ... عنّا القصيد ويشفي صدرنا الخُطَبُ
كم مهرجان وكم من ندوةٍ طَلَعَتْ ... ... يدورُ فيها بيانُ الشعر والأدبُ
ما أجمل الأدب الفوّاح تتطلقه ... ... حُمْرُ النِّصالِ وفي الميدانِ يَخْتضِبُ
ولليهودِ ميادين القنا فُتِحتْ ... ... كلٌّ بأُهبَتِه في ساحها يَثِبُ
شادُوا من العلم ما هَابَتْهُم أُمَمَ ... ... بِه وما عزّ فيه القاطع الذربُ
عزائم ٌ لم تزلْ تبني مصانِعَها ... ... من السلاحِ الذي يُرْجى به الغَلَبُ
فهذه الصين تَسعى في مودَّتِهمْ ... ... مهابةً ، وسواها مُقْبِل حَدِبُ
قوموا إلى ساحها ياقوم وانتصروا ... ... لله في جولة يُجلَى الدمُ السَّرِبُ
الاثنين
12 محرّم 1421هـ
17/4/2000م ... ... ...(/2)
المسلمون بين تقيٍّ صالح وضعيف منافق وبين عدوٍّ مجرم
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
المجْرمونَ عِصَابَةٌ جَمَعَ الهَوى مِنْ كُلِّ غَدّارٍ يُضِلُّ وأَحْيلِ (1) ... ...
بَاعُوا نفوسَهُمُ لشيطانٍ يَقُو دُهُمُ لشَرٍّ في المنازِل مُقْبِلِ ... ...
رَغِبُوا إلى الدُّنيا وصَدّوا عن سبيـ ــل الله صَدَّ الفَاجِر المُتَهوِّلِ (2) ... ...
المجرمون عِصَابةٌ قَدْ صَاغَها كَيْدُ " الدُّلارِ" بِهِمْ ومَكْرُ " المِنجَل " ... ...
والمسْلِمُون تَراهُمُ ما بَيْن وَا هٍ في مُناهُ وتائِهٍ و مُكَبَّلِ ... ...
وعصابَةٌ للهِ صَابِرَةٌ تُجا هِدُ في سَبِيل الله لم تَتَحَوَّلِ ... ...
يَمْضُون والرَّاياتُ لم تَتَبَدَّلِ هي أُمّةٌ لله يَصْدُق عَهْدُها
ليظلَّ شَرْعُ اللهِ أَعْلى رَايَةٍ و تَظَلُّ رَاياتُ الملاحِمِ تَعْتَلي ... ...
كَيْ يَسْعَدَ الإِنْسَانُ ! كُلٌُّ حُقُوقِه تُرْعى بِميزَانٍ أَبَرَّ وأَعْدَلِ ... ...
* ... * ... *
سيظلُّ بين المسلمين مُنَافِقٌ وهَوى ضعيفٍ بَيْنَهُمْ مُتَرَهِّلِ ... ...
ويظلّ بَيْنَهُمُ تقيٌّ صِالحٌ أبداً وطائفةٌ تجودُ وتَجْتَلي ... ...
أو لم يُبَشِّرْنا الرسولُ بِعُصْبةٍ بالله ظاهِرةٍ وحَشْدٍ بُذَّلِ ... ...
حَمَلتْ خَصَائِصَها مِنَ الإيمان والتَّو حِيدِ و النهْجِ النّقيِّ المُنْزَلِ ... ...
صَدَقَتْ ! فلا عصبيّةٌ جَهْلاءُ فيـ ــها ! لا يُبالي صِدْقُها بمُخَذِّلِ ... ...
صَدَقَ الوَلاءُ لِرَبِّها وتبرَّأَتْ مِنْ كُلِّ شِرْكٍ في الحياةِ مُزَلزِلِ ... ...
جُمِعَتْ قُلوبُ المؤمِنين بعُرْوَةٍ وُثْقَى وعَهْدٍ في النفوِسِ مُؤَصَّلِ ... ...
تتواصَل الساحات حَبْلاً واحداً صَفّاً يُشَدُّ وأُمّةً لم تَغفُلِ ... ...
صَدقَتْ ! فَلاَ حِزْبِيَّةٌ فَتَنَتْ ولا ءَ المُسْلِمين رَمَتْ بأَمْرٍ مُعضِلِ ... ...
كَمْ مَزّقَتْ من سَاحَةٍ ! كَمْ فَرَّقَتْ من عزْمَةٍ وهَوىً يَتِيهُ مُخَبَّلِ ... ...
حَمَلَتْ لنا عصبيّةً أشْقى ، عَلى ذُلٍّ و شَرِّ هزائمٍ لم تَنْجَلِ ... ...
سَتَظَلُّ طائفَةٌ تَمسَّكُ بالهُدى بِولائِها لله والعَهْدِ الجَليْ ... ...
بهُدَى الكِتابِ وسُنّةٍ نوراً يَشُـ ــقُّ مِن الظلام إلى صِراطٍ أَعْدَلِ ... ...
هذا الصِّراطُ المسْتَقيمُ هو الذي حقّاً يَضُمَّ شَتاتَ قومٍ عُذَّلِ (3) ... ...
* ... * ... *
ما بالُ اُمَّتِنا تَفرَّقَ أمْرُها بَدَداً فَما من مُنْقِذٍ ومُعُوَّلِ ... ...
سُبُلاً مُفَرَّقَةً تَنَاثَرُ بَيْنَها فَتَتِيْهُ بَيْنَ هَوَىً وسُوْءِ تَعَلُّلِ ... ...
مَا بيْنَ جَهْلٍ قَاتِلٍ و هوى تَحَـ ـكَّمَ في النفُوس ، هوى الغفاة الجُهَّلِ ... ...
فَتَفَتّحتْ للمجْرمِين مَنافِدٌ شتّى لوثْبَةِ ماكِرٍ مستأصِلِ ... ...
ما بَيْنَ عَادٍ بالزِّحوفِ مُجَاهِرٍ أو بَيْنَ غَدّارٍ مَضى مُتَسَلِّلِ ... ...
ظنّوا بأنّ لهمْ طَريقاً موصِلاً كمْ مِنْ طريقٍ للجَرائِمِ مُوصِل ؟! ... ...
جَشَعٌ يَهيجُ مَعَ النُّفوسِ وشَهْوَةٌ تغْلي و حِقْدٌ ثَائِرٌ كالمِرْجَلِ ... ...
بَذَروا على السّاحَاتِ بِذْرَةَ فِتْنَةٍ مِن كُلِّ شَكْلٍ بينَنَا مُتَغَوِّلِ (4) ...
وكأَنّما خَدَرٌ يُصَبُّ وغَفْوةٌ تطغَى على تِلْكَ القُلوب الغُفَّلِ ... ...
وإذا دِيارُ المُسْلمين تناهبَتْـ ــها شَهْوَهٌ من كلِّ باغٍ حُوَّلِ (5) ... ...
والموتُ يختطفُ النفوسَ ومجْرمٌ يَهْوي على تلك الديّار بمِعْوَلِ ... ...
تتفجَّرُ الساحات ! مِنْ أهْوالِهَا نارٌ تَلَظىَّ في دَوِيٍّ مُذْهِلِ ... ...
وترى الغُفاةَ الغافلين وإِنَّهُمْ شُغِلوا بِسفْسَافِ الأُموِر خُزَعْبَلِ ... ...
شُغِلوا وأُلْهُوا بالفُتاتِ و ضُيِّعُوا مَا بين مَفتونٍ يُضِلُّ وأرعَلِ (6) ... ...
شُغِلُوا عن الحَدَثِ المُهِمِّ وضَيَّعُوا ساحاً وأُلْقوا في خِضَمٍّ مُسْفِل
(1) أحيل : أكثر حيلة .
(2) المتهوِّل : المتشبه بالسبع .
(3) عذَّل : أي كلُّ يلوم الأخر ، ويدَّعي الفضل له و حدَه .
(4) مُتَغَوِّل : متلوِّن .
(5) حُوَّلِ : كثير الحيلة والخداع
(6) أرعل : مضطرب العقل أحمق .(/1)
الهند تقاوم الاحتلال البريطاني
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
المُجْرمون اسْتَكْبروا في الأرض مَنْ
سَيَرُدُّ كَيْدَ المُجْرِمِينَ الجُحَّدِ
فِئةٌ مُعَطَّرَةُ الجِهَادِ غَنِيَّةٌ
لله تَنْهَجُ بِالسَّبيل الأَقْصَد
لله ظاهِرةُ تُقاتِلُ مَنْ طَغَى
في الأرضِ أَو تُعْلي لِواءَ مُحَمَّدِ
مِنْ كُلِّ أَرْوعَ في الجِهَادِ مُجَرَّبٍ
مَاضٍ وكُلِّ مُصَدِّقٍ مُتَجَرِّدِ
أَغْنى الحَيَاةَ بصدْقِه وَوَلائِهِ
لله ، لم يُشْرِكْ وَلَمْ يَتَردَّدِ
مَنَحَ الحَيَاةَ جَمَالها بوفائِهِ
وَرَوَى المرابع بالدَّم المتَوَقِّدِ
وَمضَى لإِحْدَى الحُسْنَيَيْن يَشُدُّه
شَوْقُ إِلى أَوفى النَّعيم وأخلدِ
*
*
*
المُجْرمُون اسْتَكْبَروا في الأرضِ مَنْ
سَيَرُدُّ مَكْرَ المُجْرِم المُترَصِّدِ
سَتَرُدُّه فِئةُ وَفَاءُ رِجَالِهَا
بِرُ وإِحْسَانُ وخفقُ مُهَنَّدِ
فِئةٌ تُقِيمُ عَلَى الزَّمانِ مَنَائِراً
مِنْ هَدْيِهَا ومَلاَحِماً مِنْ أَزْنُدِ
وتُعِيدُ للإِنسَانِ عِزَّتَهُ التي
ديسَتْ وتُوقُظ شَوْقَه مِنْ مَرْقدِ
وتُحَطّمُ الأغلالَ عَنْهُ فَكَمْ مَضَى الإِ
نْسَان بَيْنَ مُضَلَّلٍ و مُصَفَّدِ
وَتَمدُّ للمُسْتَضْعَفين يَدَ الهُدَى
مَدَداً ونَجْدَة صَادِقٍ مُتَوجِّدِ
فِئةٌ كأنَّ المِسْكَ مِنْ أنفاسِهَا
مَلأَ الزَّمَانَ وَعطَّرَ الأُفقَ النَّدِي
تمضي فَيَهْتَزُّ الرَّبيعُ بها إِذا
طَلَعتْ ويغنى كُلُّ وادٍ أجْرَدِ
يُشْرَى رَسُولِ الله آية رَبِّهِ
للعَالمينَ رَحْمة للمُجْهَدِ
*
*
*
لله دَرُّ الهِنْدِ ! كَمْ مِنْ عالِمٍ
دَفَعَتْ لسَاحَتِها وَكَمْ مِنْ مُنْجِدِ
بَذَلوا مِنَ العِلْمِ الزَّكيِّ ونُورِهِ
مُهَجاً إلى صِدقِ العَزِيمةِ واليَدِ
ومَضَوا يَحثُّونَ الخُطى لَهباً عَلى
دَرْبٍ إلى صِدْقِ الجِهَادِ مُمَهَّدِ
عَبَقُ الأئمَّةِ والمُلُوكِ عَلَى الرُّبى
نَفْحُ الجِنَانِ وعِطرِها المُتَجَدِّدِ
يمضي " مُعِينُ الدِّين " في جَوْلاتِهِ
نُوراً أَطَلَّ لُمدْلجٍ وَمُشَرَّدِ (1)
ويَظلُّ " بختيارٌ " أَعزَّ فتنحَني
هامُ الملوكِ له وكِبْرُ الأَصْيَدِ (2)
و" الدَّهلويُّ " وَيَا لَعزَّةِ دينه
ردَّ الملوكَ ويَا هَوانَ السُؤدُدِ (3)
والعالمُ " السّرْ هَندِ " يَا لجِهَادِه
بَذْلاً وَيَا لَلزَّاهِدِ المتَعَبِّدِ
ردَّ الزّنادِقَةَ العُصَاةَ وكَيْدَهُمْ
ردّا وأخمدَ فِتنَةً مِنْ مُلحدِ (4)
وانْظر " لعرفانَ الشَّهِيدِ " كأنَّهُ
جيشٌ تواثَبَ في الذُّرا والأوهُد
فَتَحَ القُلوبَ بِغَيْر سَيْف مُصْلتٍ
فَهَوى الفسادُ وسَيفه لَمْ يُغمد (5)
يا " ندوةَ العُلماءِ " ! يا نَفْحَ الشَّذا
يا لَهْفَةَ القُصَّادِ شَوْقَ العُوَّدِ (6)
نَسَبُ أَبَرُّ عَلى التُقَى فكأنَّه
رَحِمُ يَصونُ ولُحمةُ مِنْ مَولِدِ
زَكَتَ الرِّجالُ عَلَى الجِهَادِ ونُورِهِ
يَا عزَّ مُنْتَسبٍ وَعِزَّة مَحِتْدِ
*
*
*
لله دَرُّ الهِنْدِ ! نورُ كواكِبٍ
زُهْرٍ ودفقُ مجاهدٍ ومُسدِّدِ
دُرَرُ مِنْ العُلمَاءِ كَيف أَعُدُّهم
أَعيتْ حُشُودُهمُ خَيَالَ مُعدِّدِ
مَهَدوا الدُّروب لكلِّ يومٍ أبلجٍ
دَامٍ و يَومِ شهادةٍ متفرِّدِ
*
*
*
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ملحمة الإسلام في الهند .
(1) الشيخ معين الدين الجشتي من أبرز علماء الإسلام في الهند ، كان زمن السلطان شهاب الدين الغوري وقائده قطب الدين أيبك . وكان قطب الدين يفتح البلاد بسيفه ومعين الدين بدعوته ، ياوي إليه وإلى نور دعوته التائهون .
(2) الشيخ العالم بختيار الكعكعي كان من عظم منزلته أن السلطان شمس الدين التمش من سلاطين المماليك في الهند ، ومن أشهرهم علماً وتقي وقوة ، كان يستأذن حتى يستطيع الدخول على الشيخ بختيار .
(3) الشيخ الدهلوي لم يأذن للسلطان العظيم علاء الدين الخلجي .
(4) الشيخ أحمد السرهندي : كان له فضل عظيم في ردّ الناس عن الكفر إلى الإسلام ، بعد أن أضلّهم السلطان " أكبر " الذي كَفر آخر أيام حكمه . والشيخ أحمد السر هندي هو الذي تعَّهدَ السلطان الراشد أورانك زيب منذ طفولته .
(5) الشيخ أحمد عرفان الشهيد من أجل العلماء المجاهدين الذين تنقلوا يدعون الناس إلى الإسلام وإلى مقاومة الإنجليز . وهو من رجال القرن الثالث عشر الهجري .
(6) ندوة العلماء : أسسها الشيخ محمد علي المونكيري سنة ( 1312هـ ) . ويرأسها اليوم الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي . وكل من ينتسب لهذه الندوة أو يتخرج منها سمي " الندوي " .(/1)
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .هذه ليلة الاثنين الموافق الثامن والعشرين من الشهر التاسع ؛شهر رمضان المبارك للعام الخامس عشر بعد الأربع مائة والألف وفي هذا المكان الطيب المبارك في مدينة <الرس> نلتقي بهذه الوجوه في هذا المجلس وعنوان هذا الموضوع هو: الفائزون في رمضان؛ يوم أو يومان ثم تعلن النتائج وتوزع الجوائز فيفرح الفائزون برمضان سبق قوم ففازوا وتخلف آخرون فخابوا بعد غد يفوز المحسنون ويخسر المخسرون غدا تُوَفَّى النفوس ما كسبت ويحصد الزارعون ما زرعوا إن أحسنوا فقد أحسنوا لأنفسهم وإن أساءوا فبئس ما صنعوا من هذا الفائز منا فنهنيه ومن هذا الخاسر فنعزيه أيها الفائز برمضان هنيئا لك أيها الخاسر جبر الله مصيبتك بعد غد تعلن أسماء الفائزين برمضان في مسليات الأعياد يوم رجعوا إلى بيوتهم كيوم ولدتهم أمهاتهم اللهم اجعلنا من الفائزين برمضان ، ولعلكم أيها الأخيار تتساءلون عن هؤلاء الفائزين برمضان من هم ؟ وما صفاتهم ؟ وما أعمالهم؟ تعالوا لنحلق اليوم وإياكم إلى عالم الفائزين برمضان إلى عالم الحب والإخاء عالم المجتهدين والمتهجدين والمستغفرين عالم الرقة والخشوع والذلة والخضوع عالم الحرص والاستزادة والتمرغ بأنواع العبادة كأني بك تقول هذه صفات عرفناها في سلفنا الصالح فَنِعْمَ العالم عالمهم ونِعْمَ الصفات صفاتهم فأقول: أي والله فأنا معك ولكن عالمنا اليوم هم فئة من أهل زماننا وأحباء لنا فبهم تفرح قلوبنا وبالنظر إلى وجوههم تكتحل عيوننا وبمجالستهم تأنس نفوسنا وبالحديث معهم تحلو ساعاتنا إنهم من آبائنا وإخواننا وهن من أمهاتنا وأخواتنا إنهم التالون لكتاب الله الراكعون والساجدون المتأثرون الباكون المتصدقون المنفقون المتحدثون الناصحون العاملون المخلصون ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) من قال أيها الأحبة من قال إن أعمال الخير والبر وقف على السلف فقط ؟ من قال إن الرقة والبكاء حكر على [بشر الحافي] و[مالك بن دينار] و[رابعة العدوية] ؟! رحمة الله عليهم أجمعين من قال إن المتصدقين هم فقط أبو بكر وعمر وعائشة وفاطمة ـ رضي الله عنهم ـ أجمعين انظروا لبيوت الله هذه الأيام صلاة وقيام ،ركوع وسجود إطعام للطعام بر وإحسان تذكير بأطيب الكلام تدبر وترتيل وأزيز وخنين عندها تذكرت قول النبي -صلي الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ذلك الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الطهارة من حديث [أبي هريرة] " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أنا قد رأينا إخواننا وددت أنا قد رأينا إخواننا قالوا أولسنا إخوانك يا رسول الله قال أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد فقالوا كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله قال أرأيتم لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل بُهْم تهم ألا يعرف خيله قالوا: بلى يا رسول الله، قال فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض أي قائدهم ألا ليزادن رجال عن الحوض كما يزاد البعير الضال أناديهم ألا هلم فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك فأقول سحقا سحقا أي بعدا بعدا " اللهم اجعلنا من إخوان نبيك الذين ذكرهم في هذا الحديث اللهم اجعلنا ممن يرد حوضه ويشرب منه شربة هنية لا نظمأ بعدها أبدا أيها الأحبة إن الذي دعاني لمثل هذا الحديث مواقف وصور رأيتها بأم عيني هذه الأيام وما لم أر أكثر وما لا نعلمه لا يحصر فأسوقها إليكم لأسباب منها لأعطر الأسماع ولنعلم أن لصالح زماننا سِيَرٌ ومواقف ومنها تنبيه الأمة لعلو الهمة وقوة الإرادة وصدق العزيمة ومنها ذكر الفضل لأهل الفضل والإحسان فحرام أن يُبْخَسَ حقهم أو يُنْقَصَ قدرهم ومنها تنبيه وتذكير لإخواننا معلمي الخير وصناع الحياة ألا يبخس حق المحسنين فمن العدل أن نقول للمحسن أحسنت كما نقول للمسيء أسأت ثم أيضا من واجبنا أن نتلمس الخير في صفوف الخير بين الناس فينشر ويشكر فهو نسمة الصباح الذي ننتظره وبريق الأمل الذي نرجوه بمثل هذا تكسب النفوس التعامل مع النفوس فن يجب أن نتعلمه لماذا ننسى خير الخيرين وصلاة العابدين وصدقة المنفقين وبكاء المخبتين لماذا نغفل عن جهد العاملين و تضحية المخلصين الصالحين وصدق المخلصين ودمعة التائبين لماذا لا نذكر صلاح المؤمنات وقيام القانتات وصدق الصادقات وصبر الصابرات لماذا لا نتحدث عن عطاء المتصدقات وعفاف الحافظات ودعاء الذاكرات وبكاء الخاشعات لماذا ننسى الحديث عن هؤلاء وما أعد الله لهم من الأجر والثواب وقد أعلن الرحيم الرحمن ذلك في القرآن فقال جل وعز وهو الكريم المنان ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين(/1)
والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرةً وأجرا عظيما ) نسأل الله عز وجل أن نكون منهم0 هذه الصور أيها الأحبة وهذه المواقف وقفت عليها بأم عيني فإلى هذه الصور:
الأولى :
في صلاة التراويح والقيام كنت في طريقي إلى أحد المساجد لصلاة التراويح وقبل الأذان بدقائق مررت بمسجد آخر ورأيت ذلك الرجل الكبير يَتَّكِئ على عكازتين ويدب على الأرض بمهلٍ شديد يسحب قدميه فتخط في الأرض خطا كان واضحا أن المرض قد أنهكه وأن التعب بلغ منه مبلغه ومع ذلك خرج لماذا خرج كل ذلك من أجل صلاة الجماعة ومن أجل صلاة التراويح فذكرت عندها قول [ابن مسعود] رضي الله تعالى عنه عند [مسلم] وفيه: ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف، ولا أنسى تلك العجوز مُحْدَوْدِبَة الظهر متقاربة الخطى متسارعة الأنفاس وهى تزحف إلى المسجد زحفا والعجب أنها صلت واقفة رفضت الجلوس إيهٍ أيتها النفوس أليس لكي بهذا معتبر فما ملكت نفسي إلا ودمعة تسيل على الخد وأنا أردد اللهم أعنها اللهم يسر عليها اللهم تقبل منها اللهم إن لم يكن هؤلاء من الفائزين برمضان فمن ؟ نحن الكسالى نحن الشباب أصحاب السواعد الفتية أين أنت يا ابن العشرين أين أنت يا ابن الثلاثين والأربعين من هؤلاء هذه صورة وما أكثر صور الآباء والأمهات الذين نعجب من حرصهم رغم الأيدي المرتعشة والأقدام المهتزة والعظام الواهنة والله إن الإنسان ليحتقر نفسه وعمله وهو يرى هؤلاء الكبار من رجال ونساء وكيف يتحاملون على أنفسهم على عجز وثقل ومرض ولأواءٍ وقد عذرهم الله ورغم ذلك قلوبهم متعلقة بالمساجد فهم إن شاء الله في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله كما في حديث السبعة ربما أصاب الإنسان منا التعب والإرهاق في صلاة التراويح أو القيام فإذا شاهد حال هؤلاء الآباء ونشاطهم على ما هم فيه كأنما نشط من عقال أفلا تُسَجَّل مواقفهم وتسطر لتعيها الأجيال اللهم تقبل منهم واجعلهم من الفائزين برمضان.(/2)
صورة أخرى : رجل وَسَّع الله عليه بماله وحسن سمته ودماسة خلقه فهو ينفق إنفاق من لا يخشى الفقر بحثت عنه عصرا من رمضان توجهت إلى محلاته فلم أجده سألت عنه فلم أجد جوابا غير أن أحد العاملين قال: ربما وجدته في الجامع دخلت الجامع فوجدت العجب وجدت الموائد ممدودة، ممدودة بالطول والعرض حتى أنك لا تجد مكاناً لموضع قدميك وفيها ما لذا وطاب من أنواع المأكولات والمشروبات بحثت عن صاحبي فوجدته يصول ويجول لحظات قبل الغروب فإذا بمئات العمالة تتوافد على الجامع من كل صوب ألفاً أو يزيدون قلت: سبحان الله في الوقت الذي انشغل أهل الأموال ببيعهم وشرائهم ففي رمضان موسم تجاري لا يعوض أما هذا الرجل فهو في تجارة أخرى تجارةٍ مع الله فلم يكفه أن دفع المال في تفطير الصائمين بل وقف بنفسه وعمل بيده ولم يعتذر يوم أن دُعِي إلى الإنفاق في مشروع ثان بل وفي مشروع ثالث وربما في رابع وخامس وعاشر فيما لا نعلمه ولكن الله يعلمه عندها ذكرت حديث [أبي كبشة عمر ابن سعد الأنماري] أنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول "ثلاثة أقسم عليهن فأحدثكم حديثا فاحفظوه ما نقص مال عبد من صدقه ما نقص مال عبد من صدقه " رواه [الترمذي] وقال حسن صحيح حدثت صاحبي والأُنْس والبِشْر على مُحَيَّاه يعلم الله ما فقدت الابتسامة في وجهه يوما من الأيام، الجميع يشهد له بالفضل والإحسان والورع وحسن الخلق وكثرة العبادة هكذا نحسبه ولا نُزَكِّي على الله أحدا خرجت من الجامع بصعوبة بالغة لكثرة المتوافدين من الصائمين والمتوافدين من المساكين خرجت وأنا أردد عند الغروب اللهم تقبل منه اللهم وسع عليه من ماله وولده اللهم بارك له وزده وأعطه ولا تحرمه فإن لم يكن هذا من الفائزين برمضان فمن أيها الأحبة ؟ أولئك الذين يكنزون الأموال ويقبضون أيديهم ؟عندها ذكرت قول الحبيب صلى الله عليه وسلم لـ[أسماء بنت أبي بكر] "لا توقي فيوقي الله عليك" أي: لا تمنعي ما في يدك فيقطع الله عليك مادة الرزق وذكرت قول الملكين الذين ينزلان في كل صباح فيقول أحدهما "اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا" كما في الحديث المتفق عليه، و ذكرت قول الحق عز وجل كما في الحديث القدسي " انفق يا ابن آدم ينفق عليك " وهو متفق عليه فقلت في نفسي الموفق من وفقه الله مع علمي أن هناك من تذهب نفسه حسرات أن لو كان يملك فينفق ويتصدق ولكنه لا يجد أو يجد القليل القليل فينفقه مع أنه أحوج الناس إليه وبعضهم يسمع عن هذه الفضائل فلا يجد ما يتصدق به سوى الدمعة تسيل على الخدين هل لو كان ذا مالٍ فيتصدق عند هذا تذكرت قول الحق جل وعلا (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون) اللهم اجعلنا وإياهم من الفائزين برمضان ومن عتقائك من النار برحمتك يا رحيم يا رحمن.
صورة ثالثة : تصلي التراويح والقيام فتسمع آيات القرآن وتسمع الخنين والبكاء ينبعث في جنبات المسجد فيسجد المصلون فإذا بأزيز كأزيز المرجل ينبعث من الصدور، غلبهم خوف الله وخشيته فوجلت القلوب وذرفت العيون عندها تذكرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع " رواه [الترمذي] وقال حسن صحيح0 في صلاة القيام وفي ثلث الليل الأخير يرفعون ويسجدون ويدعون ويتضرعون يبكون ويتأثرون منكسرة قلوبهم دامعة عيونهم شاحبة وجوههم هجروا الفراش ولذة النوم من أجل أي شيء ؟ طلبا لمرضاة الله طلبا لرحمة الله (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لها من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) القانتون المقنتون لربهم الناطقون بأصدق الأقوال يحيون ليلهم بطاعة ربهم بتلاوة وتضرع وسؤال وعيونهم تجرى بفيض دموعهم مثل انهمال الوابل الهطال بوجوههم أثر السجود لربهم وبها أشعة نوره المتلالي إن لم يكن هؤلاء من الفائزين برمضان فمن؟ الذين ينامون أو يذهبون ويجيئون أم أولئك الذين يلعبون ويلهون اللهم لا تحرمنا أجر الصيام والقيام واجعلنا ممن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا اللهم اجعلنا من الفائزين المقبولين يا رحمن .
صورة رابعة :(/3)
رأينا وسمعنا حرص بعض النساء على الصدقة ورمضان الخير يشهد للنساء بحسن السخاء والبذل والعطاء سمعت عن تلك التي جمعت رواتبها فتصدقت بها دفعة واحدة وسمعت عن تلك التي كفلت يتيما وأعطت مسكينا ووزعت شريطا وفَطَّرَتْ صائما حتى قلت في نفسي ماذا بقى لها فأجابت بلسان حالها تقول ( وما عند الله خير وأبقى ) فذكرت قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ"يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار" فقلت أبشرن أيتها الصالحات فإن هذا لمن أكثرت السب واللعن ونسيت نعمة الله عز وجل عليها أما أنتي فإني أحسبك إن شاء الله من الفائزين برمضان ثُلَّة فتيات عرفت فيهن الخير كله الهاجس في نفوسهن إصلاح الأخريات ودعوتهن يسألن وبكثرة عن المواضيع والعناصر والمسائل الرمضانية المناسبة للطرح في مثل هذا الشهر يسألن وبإلحاح عن المناسب من الأشرطة والرسائل والإهداء للتوزيع انتهت المكافأة الشهرية اقترضن حتى لا ينقطع هذا الخير يا سبحان الله تركن اللباس والموديلات وآخر الصيحات وأدوات الزينة لا لعدم الرغبة فهي جِبِلَّة المرأة بل لأن هَمَّ الإصلاح والغيرة على الدين كان أكبر ولسان حالهن يقول: رمضان فرصة لا تعوض فالقلوب منكسرة والشياطين مصفدة والإيمان يزيد وعلمت أنهن يجتمعن لقراءة القرآن وبحث بعض مسائل الصيام ويحرصن على النوافل والسنن الرواتب وصلاة القيام ويقمن ببر الوالدين وصلة الأرحام وخدمة الأهل والإخوان وإعداد الطعام هذا كله بعد صلاة الفرض في وقتها والقيام بحق زوجها فنالت رضا ربها وفازت بشهرها فهنيئا لها ثم هنيئا لها الحياة يبنيها صناع كل منهم يؤثر في جانب منها ومن جد وجد وإما أنا وإما الفاسق فإن الفاسق يصنع الحياة على طريقته إن الفاسق يصنع الحياة على طريقته وكل منا له موهبة يحبها فيجب أن ينميها ويبرع فيها ويبتكر لها لكي يستطيع أن يجمع الناس حوله في تخصصه ومهارته. رمضان هذا العام رأيت إقبال الشباب والفتيات من صناع الحياة ودُلاَّل الخير ودعاة الهدى وكل منهم على خير هؤلاء يصولون ويجولون من حي إلى حي ومن مسجد إلى مسجد لإرشاد الناس وتذكيرهم حرموا أنفسهم لذة العبادة خلف إمام واحد تذهب أنفسهم حسرات لختم القرآن مرات ومرات لكن هيهات هيهات فالوقت ينصرف في البحث والاطلاع لتفسير آية أو شرح حديث أو بحث مسألة فلسان حالهم يقول رمضان فرصة للتوبة وموسم للإقبال على الله والندم على ما فات فكم من ضال فرح بكلمته وكم من جاهل اهتدى بعبارته وكم من تائب نَوَّرَ الله به بصيرته وهؤلاء قاموا على تخفيض العمالة في مسجدهم حرموا أنفسهم فرحة الإفطار مع أهلهم وأزواجهم ضاعت اللغات وتلاشت الجنسيات لا كفيل ولا مكفول (إنما المؤمنون اخوة) اخوة في توادهم اخوة في تراحمهم وتعاطفهم
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة
فعند اللقا بالكد يصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي
ويصبح ذو الأحزان فرحانا جابلا
وأولئك يجمعون المال لشراء الأشرطة والرسائل والمطويات وتوزيعها على المصلين والمصليات وآخرون حملوا الطعام والأرزاق وقطعوا الفيافي والمسافات وهم صيام تحت حرارة الشمس المحرقة والرمال الملتهبة ليقفوا مع المحتاجين والمساكين والأرامل واليتامى فيطعم الطعام ويلبس اللباس مع كلمة طيبة وشريط نافع .
من كان حين تصيب الشمس جبهته
أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشته
فسوف يثقل يوما راغما جدثا
في ظل مقفرة قفراء مظلمة يطيل
تحت الثرى في ضيقها اللبسا
تجهزي بجهاز تبلغين به
يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا(/4)
أما حراس الفضيلة وأعداء الرذيلة رجال الحسبة الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر فحدث ولا حرج فنحن في صلاة وقيام وتدبر للقرآن أما هم ففي أعظم الأيام تبرج وسفور ومشكلات ومعاكسات ومنكرات وسيئات وكأني بهم والألم يعصر قلوبهم على ليالي رمضان ولكن أبشر أيها الأخ الحبيب فأنت على خير عظيم إن لم تكن للحق أنت فمن يكون؟ إن لم تكن للحق أنت فمن يكون؟ والناس في محراب لذات الدنايا عاكفون أبشر أيها الأخ الحبيب أبشر فأنت على خير ولن يضيع الله جهدك أبدا فإن شاء الله أنت من الفائزين برمضان ذكرت حينها بعض هذه الصور ذكرت حينها حديث [أبي ذر] ـ رضي الله تعالى عنه ـ عند [ابن حبان] في صحيحه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:" ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس قيل يا رسول الله ومن أين لنا صدقة نتصدق بها قال إن أبواب الخير لكثيرة التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتميط الأذى عن الطريق وتُسْمِع الأصم وتَهْدِى الأعمى وتَدُل المستدل على حاجته وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف هذا كله صدقة منك على نفسك" فأبواب الخير كثيرة فلله در شبابنا وفتياتنا فلسان حالهم يردد في كل لحظة أنا مسلم أنا مسلمة فلما لا أكون محور حق ومركز إشعاع ومشعل هداية عندها قلت إن لم يكن أمثال هؤلاء من الفائزين برمضان فمن إذن؟ ذلك الذي لا يفكر إلا في وظيفته ونفسه وماله وولده (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين)
صورة أخرى : في العشر الأواخر وفي صلاة القيام في آخر الليل وفي جلسة الاستراحة انظر للمصلين وأحوالهم هذا يقرأ القرآن وهذا لسانه يلهث بالذكر والاستغفار وذاك رفع يديه بالدعاء وعلامات الانكسار والتذلل على محياه ورابع قد سالت دموعه على خديه وخامس يركع ويسجد وسادس يغالب النوم هجر فراشه وحرم عينيه .
أرواحهم خشعت لله في أدب
قلوبهم من جلال الله في وجل
نجواهم ربنا جئناك طائعة
نفوسنا وعصينا خاضع الأمل
إذا سجى الليل قاموه وأعينهم
من خشية الله مثل الجاهد الهضل
هم الرجال فلا يلهيهم لعب
عن الصلاة ولا أكذوبة الكسل
رياح الأسحار تحمل أنين المذنبين وأنفاس المحبين وقصص التائبين شابٌّ في زاوية من المسجد وقد عرفته بفسقه وشدة غفلته وضع وجهه بين يديه والدمع يسيل على خديه وقد أجهش بالبكاء لعله تلطخ بمعصية أو تذكر ما سلف من الذنوب والمعاصي
أثار التذكر أحزانه
فسار وأبدى لنا شانه
وقام وستر الدجى مسبل
فأسبل بالدمع أجفانه
وبَكَّى ذنوبا له قد مضت
فأبكى عداته وخلانه
ومن لم يكن قلبه جمرة
فهذا لعمرك قد كانه
ومن ذا أحق بها من
جهول تحقق لله عصيانه
وأخلق في اللهو جثمانه
كما أخلق الذنب إيمانه
فلولا تفضل من فضله
عرفناه قدما وعرفانه
لَعَنَّ على وجهه آية
تكون على الخزي عنوانه
{لَعَنَّ: أي ظهر}
شدني إليه شدة مناجاته لربه علم أن له ربا يغفر الذنب فاستغفره سارع يقرع الباب لعلمه أن الله سريع الحساب فذل وانكسر لغافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب تمنيت لو ضممته فقلت له هنيئا لك بالتوبة والاستغفار هنيئا لك بعينيك اللتين ذرفتا بالدمع لله هنيئا لك بصيامك وقيامك وأسأله وهو صاحب الفضل والمَنّ أن يلحقك بركاب الفائزين برمضان تمنيت لو ذكرته بقول الحق جل وعلا ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم)
يا رب عبدك قد أتاك
وقد أساء وقد هفا
يكفيك منه حياؤه
من سوء ما قد أسلفا
حمل الذنوب على الذنوب
الموبقات وأسرفا
وقد استجار بذيل عفوك
من عقابك ملحفا
يا رب فاعف وعافه
فلأنت أولى من عفا(/5)
صورة أخرى : حريصة على صغارها فهي معهم ترقبهم وتلحظهم تعلم هذا وتوجه ذاك ومع هذا فقلبها يهفو لصلاة التراويح مع المسلمين ولكن هيهات هيهات فتصلي في بيتها تريد أن تخشع وأن يرق قلبها وأن تشعر بلذة المناجاة لربها لكن الأصوات والضحكات والتعلق بثوبها من صغارها حرمها كل ذلك فما ملكت سوى الدمعات والعبرات على ليالي رمضان ثم جاءت العشر الأخيرة فإذا بها تهدهد صبيانها وتخادع صغارها حتى ناموا ثم قامت فانسلت في هدوء وحظر فجهزت سحورها ورتبت أمورها ثم توضأت وتلحفت في جلبابها ثم سارت إلى مسجد حيها الظلام يلفها فركعت وسجدت وقامت فبكت وخشعت وربما تذكرت صغارها فخافت عليهم فوجلت فلا تدري قلبها لصلاتها أو على صغارها فرجعت وصلت في بيتها بجوار صغارها وهي تسمع صوت الإمام يردد ( أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ) فانخرطت في البكاء أن لو كانت من السابقين فقلت لها أبشري أيتها الصالحة فأنت على خير لكن احرصي وأخلصي واحتسبي الأجر على الله ولن يخيب ظنك وهو أعلم بحالك ثم إني أهمس إليك بهذا الحديث المتفق عليه " من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كُنَّ له سترا من النار" فأسأل الله اللطيف المنان أن يجعلك من الفائزين برمضان فإن لم تكوني أنت فمن؟ تلك الولاجة الخراجة الجوالة في الأسواق التي لم ترع حق ولد، أم تلك السافرة الساهرة أمام الأفلام والمسلسلات العاهرة ؟
فكم بين مشغول بطاعة ربه
وآخر بالذنب الثقيل مُقَيَّدُ
فهذا سعيد بالجنان مُنَعَّم
وذاك شقي في الجحيم مُخَلَّدُ
كأني بنفسي في القيامة واقف
وقد خاب دمعي والمفاصل ترعد
فيا لتلك المرأة الصالحة التي عرفتها أو التي عرفت فضائل هذا الشهر فحرصت على استغلال ساعاته فهي محافظة على الصلوات في أوقاتها جالسة بعد الصلوات في مصلاها تقرأ القرآن وقد تنتقل إلى الذكر والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير. وتقدير لها يوم أن كانت خلف كل عمل صالح في بيتها كانت خلف كل عمل صالح في بيتها فهي خلف أولادها وإخوانها بالمحافظة على الصلوات فتوقظ هذا وتنبه ذاك وهى خلفهم لتشجيعهم ودفعهم لقراءة القرآن وصلاة القيام واستغلال رمضان، تلهب الحماس وتقوى العزائم بالكلمة الطيبة تارة وبالشريط النافع تارة وبالهدية المشجعة تارة أخرى ووفاء لتلك الزوجة الوفية يوم أن كانت لزوجها حقا وفية أصبحت وجه سعد على زوجها أنارت جنبات بيتها فهي وراء زوجها بالتذكير والتنبيه إن نام أو غفل وهى معينة له إن ذكر فلا تقطع عليه ساعات الطاعة في الشهر بكثرة طلباتها ولا تُعَرِّضه لفتن المتبرجات السافرات في شهر الفضل والإحسان وفي أعظم الأيام العشر الأواخر بكثرة دخولها وخروجها للأسواق وهى وفية لزوجها يوم أن قالت إن الذكر وقراءة القرآن واستغلال رمضان لا يجتمعان أبدا في بيت مع ملاهي الشيطان فقم وتوكل على الله وطهر البيت لتحل علينا ملائكة الرحمن ويرحل مردة الجان وما هي إلا عزيمة و إرادة و خوف و توبة ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيرا منه، إعجاب وإكبار لكي أيتها الصالحة وأنت في المدرسة والعمل فها أنت قد حرصت كل الحرص على إتقان العمل وإخلاصه لله ليتم صومك فأنت تخافين من خيانة الأمانة التي وكلها الله لك فكلنا إعجاب وإكبار يوم أن جاءت بناتنا وأخواتنا ليحدثنا أنك تحدثت عن فضائل هذا الشهر وكيفية استغلاله والحرص عليه وأنك قمت بوضع مسابقة رمضانية لتفقيه الطالبات بأحكام الصيام وأنك أهديت لكل واحدة منهن شريطا لتعليم آداب الصيام وأحكامه وأنك ما زلت تذكرين ثمرة الصيام وسره العظيم و تقوى الله ومراقبته في السر والعلن وأنها العبادة الوحيدة التي خصها الله لنفسه لأنها عبادة خفية بينك و بينه فلا أحد يعلم عن حقيقة صومك إنك أيتها المخلصة لا تتصورين عظيم فرحتي عندما أسمع مثل هذه الكلمات إعجاب أسطره لك أيتها المعلمة وأنا أرى أختي وابنتي وقد حرصن على رمضان وعلى الصلاة والقيام وكثرة الأعمال فيحضرني قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ" الدال على الخير كفاعله " وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "ولأن يهد الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" وأنا لا أملك إلا أن أرفع يدي إلى السماء قائلا: اللهم لا تحرم تلك المعلمة أجر تلك الأعمال فتتوارد الأدعية لك أنت أيتها الصادقة وتفيض تلك الدمع لحسن رعايتك للأمانة وحملك هم إصلاح الأخريات فشكر الله سعيك وبارك فيك وأجزل الصبر والمثوبة لك فأنت أهل لذلك فابشري بالقبول بإذن الله قبول الصيام والقيام والعتق من النيران والبحور الجنان والفوز برمضان كل ذلك بفضل ورحمة من الكريم المنان ثم بفضل ما قدمت وفعلت ابتغاء وجه الله وهكذا فلتكن المرأة المسلمة في رمضان .(/6)
صورة أخيرة : رأيته، سلمت عليه وفجاءة أجهش بالبكاء وفاضت عيناه بالدمع أوجست في نفسي خيفة قلت: ابتلي بموت قريب أو حبيب له أصيب فقال بصوت كئيب جبر الله مصيبتك بخروج رمضان انكسر قلبه وهطل دمعه وانتحب صوته وقلت يا سبحان الله لكل محب حبيب ورمضان حبيب الصالحين
يا شهر رمضان ترفق دموع المحبين تدفق قلوبهم من ألم الفراق تشقق
بين الجوانح في الأعماق سكناه
فكيف أنسى ومن في الناس ينساه
في كل عام لنا لقيا محببة
يهتز كل كياني حين ألقاه
بالعين والقلب بالآذان أرقبه
وكيف لا وأنا بالروح أحياه
ألقاه شهرا ولكن في نهايته
يمضى كطيف خيال قد لمحناه
في موسم الطهر في رمضان الخير
تجمعنا محبة الله لا مال ولا جاه
من كل ذي خشية لله ذي ولع
في الخير تعرفه دوما بسيماه
قد قدروا موسم الخيرات فاستبقوا
والاستباق هو المحمود عقباه
صاموه قاموه إيمانا ومحتسبا
أحيوه طوعا وما في الخير إكراه
فالأذن سامعة والعين دامعة
والروح خاشعة والقلب أواب
وكلهم بات بالقرآن مندمجا
كأنه الدم يسرى في خلاياه
فوداعا يا رمضان وإلى أن نلقاك في عام قادم إن شاء الله اللهم تقبل منا رمضان واجعلنا من الفائزين برمضان هذه صور ومواقف للفائزين برمضان ولعلها تكفي لضيق الوقت وخشية الإملال وإنما هي على سبيل المثال، والحصر يصعب وهى أيضا من الخير ومحبو الخير كثر وأبواب الخير كثيرة ولكنها مشاهد ومواقف لبعض الصالحين والصالحات ذكرناها لأسباب سبقت فيا باغي الخير أقبل فرمضان فرصة قد لا تتكرر وموسم قد لا يعوض فالبدار البدار قبل فجأة موت أو مصيبة مرض وعندها لا ينفع الندم (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) السعيد أيها الأحبة من أدرك رمضان فغفر له (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) وقبل الختام أذكر لكم أمورا تعينكم على الفوز برمضان واستغلال أيامه ولياليه أعددها لكم تعدادا بدون تعليق للذكرى فإن الذكرى تنفع المؤمنين
أولا : المجاهدة قال تعالى ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) تريد الهداية تريدين الهداية نريد الاستقامة لنجاهد هذه النفس لنقبل على الأسباب فإن أقبلنا أقبل الله عز وجل علينا .
ثانيا : الهمة والعزيمة قال ابن الجوزي من علامة ثمار العقل علو الهمة والراضي بالدون ذليل
ولا أرى في عيوب الناس
عيبا كنقص القادرين على التمام
ثالثا : معرفة فضائل الشهر ومزاياه فإن من عرف شيئا اهتم به وحرص عليه ولو لم يكن فيه سوى ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر لكفى .
رابعا : قلة أيامه وسرعة ذهابه وصدق الله عز وجل يوم أن قال ( أياما معدودات) بالأمس القريب نهنئ بعضنا بعضا بدخول الشهر واليوم نعزي بعضنا بعضا بخروجه، هكذا هي الأيام البدار البدار انتبه للعمر أيها الحبيب .
خامسا: التنافس؛ الصالحون يتنافسون للخيرات ففازوا بالحسنات وأنت أيها المسكين ما زلت أسيرا للشهوات وعبدا للذات وصدق الله يوم أن قال ( فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق للخيرات) .
سادسا : تذكر الموت والجذع من مفاجأته فقد لا تدرك رمضان آخر فانتبه لنفسك هذه مناجاة متهجد ونفسات صدر ونشجات قلب وخلجات نفس وكلمات ناصح ودمعات محب وهى حديث أنس وصدقة قائم ومشاعر صائم بل هي والله آهات متوجع وأنات مذنب وزفرات مقصر سبحانك خالقي فأنا تائب إليك فاقبل توبتي واستجب دعائي وارحم شبابي وأقم لي عسرتي وارحم طول عبرتي ولا تفضحني بالذي قد كان مني اللهم لا تفضحني بالذي كان منى اللهم استر على عيوبي يا حي يا قيوم اللهم ارحمنا برحمتك واجعلنا من الفائزين برمضان واجعلنا ممن قام رمضان إيمانا واحتسابا فغفرت له ما تقدم من ذنبه اللهم اجعلنا ممن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا وغفرت له ما تقدم من ذنبه اللهم اجعلنا من الفائزين برمضان سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله ألا أنت نستغفرك ونتوب إليك وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.(/7)
الفاتحة ثناءٌ ودُعاء
د. محمد عمر دولة*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولِنا الأمينِ المبعوثِ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فلو أنَّ المسلمَ تَدبَّرَ معانِيَ سورةِ الفاتحةِ؛ لأدركَ عظمةَ حَمدِ الله عز وجلَّ وتمجيدِه والثناءِ عليه؛ فإنَّ سورةَ الفاتحةِ أعظمُ سُوَرِ القرآنِ الكريم، كما جاء في حديثِ أبي سعيد بن المُعَلَّى رضي الله عنه: (قلتُ: يا رسولَ الله إنك قلتَ: لأعلمنَّك أعظمَ سورة في القرآن، قال: نعم: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هي السَّبعُ الْمَثانِي والقرآنُ العَظيمُ الذي أُوتِيتُه)![1]
وقد قَرَّرَ العلماءُ أنَّ "هذه السورةَ اشتملَتْ على أُمَّهاتِ المطالبِ العاليةِ أتَمَّ اشتِمالٍ وتَضَمَّنَتْها أكْمَلَ تَضَمُّنٍ"،[2] وأنَّ "هذه السورة على إيجازها, قد احتوَتْ على ما لَم تَحْتَوِ عليه سورةٌ من سُوَرِ القرآن".[3] وأنَّ "في الفاتحة ما ليس في غيرِها؛ حتى قيل: إنَّ جميعَ القرآنِ فيها"؛[4] ولذلك أكَّدُوا أنَّ "مَن تحققَ بمعاني الفاتحة عِلماً ومعرفةً وعَملاً وحالاً؛ فقد فاز مِن كَمالِه بأوفَرِ نَصِيبٍ، وصارتْ عُبوديَّتُه عُبوديةَ الخاصَّة الذين ارتفعَتْ درجتُهم عن عوامِّ المتعبِّدين".[5]
1) فليس الحمدُ قاصِراً على تسمِيةِ الفاتحة بسورة (الحمد)؛ بل الحمدُ يكتنفُ السورةَ كلَّها مِن مَطلَعِها إلى خِتامِها؛ ويمثل مع الدعاء مِحْوَرَين مُتكامِلَين للسورةِ؛ ولذلك ذكر النووي رحمه الله أنها سُمِّيَتْ: "سورة الحمد؛ لأنَّ فيها الحمد".[6] فقد اختصَّ الحمدُ والثناءُ والتمجيدُ بالنصف الأولِ من السورة، وكان ذلك تمهيداً للنصفِ الآخر؛ وهو الدعاء.
فـ(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ)[7] تَعنِي افتِقارَ العَبدِ إلى رحمةِ الله عزَّ وجلَّ، ولله دَرُّ الرازي رحمه الله حيث قال: "إنَّ قولَه: (بسم الله الرحمن الرحيم) يتعلَّقُ بِفِعلٍ لا بُدَّ مِن إضْمارِه. والتقديرُ: بإعانةِ اسمِ اللهِ اشْرَعُوا في الطاعات ـ أو ما يجري مجرى هذا المُضْمَر ـ ولا شك أن استماعَ هذه الكلمة يُنبِّه العقلَ على أنه لا حولَ عن معصيةِ اللهِ إلا بعِصْمةِ الله، ولا قوةَ على طاعةِ الله إلا بتوفيقِ الله. ويُنبِّه العقلَ على أنه لا يتمُّ شيءٌ مِن الخيراتِ والبركاتِ إلا إذا وقعَ فيه الابتداءُ بذِكرِ اللهِ. ومِن المعلومِ أنَّ المقصودَ من جميعِ العباداتِ والطاعاتِ حُصُولُ هذه المعاني في العُقول؛ فإذا كان له هذه الكلمة يُفيدُ هذه الخيرات الرفيعة والبركات العالية؛ دخل هذا القائلُ تحت قولِه: (كنتم خيرَ أُمةٍ أُخرِجَتْ للناسِ تأمُرون بالمعروفِ وتنهَوْنَ عن المُنكَرِ)؛ لأن هذا القائلَ بسبب إظهارِ هذه الكلمةِ أمر بما هو أحسن أنواعِ الأمرِ بالمعروفِ، وهو الرُّجوعُ إلى الله بالكُلِّيَّةِ والاستعانةِ به في كلِّ الخيرات".[8]
ورَحِمَ الله ابن عبد الوهاب حيث قال: "أما البَسمَلةُ فمَعناها: أدخُلُ في هذا الأمرِ مِن قِراءةٍ أو دُعاءٍ أو غيرِ ذلك (بسم الله) لا بِحَوْلِي ولا بِقُوَّتِي, بل أفعلُ هذا الأمرَ مُستَعِيناً بالله, ومُتبرِّكاً باسمِه تبارك وتعالى, هذا في كل أمرٍ تُسَمِّي في أوَّلِه مِن أمرِ الدِّينِ أو أمرِ الدنيا, فإذا أحْضَرتَ في نفسِك أنَّ دُخولَك في القراءةِ بالله مُستعيناً به, مُتبرِّئاً مِن الحولِ والقوةِ؛ كان هذا أكبرَ الأسبابِ في حُضُورِ القَلبِ, وطَردِ الموانِعِ مِن كلِّ خَير".[9](/1)
ولهذا المعنى جاءت البسملة مُصاحبةً لكثيرٍ من أعمالِ المسلم وسلوكِه، مما يؤكِّد افتقارَ المسلمِ إلى رحمةِ مولاه في كلِّ حينٍٍ، كما قال القرطبي رحمه الله: "نَدَبَ الشرعُ إلى ذِكْرِ البسملةِ في أولِ كلِّ فعلٍ: كالأكلِ والشُّربِ والنَّحرِ والجِماعِ والطهارةِ ورُكوبِ البحرِ إلى غيرِ ذلك من الأفعالِ قال الله تعالى: (فكُلُوا مما ذُكِرَ اسمُ الله عليه)، وقال: (ارْكَبُوا فيها بسم الله مجريها ومرساها)، وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (أغلِقْ بابَك واذكُرِ اسمَ الله، وأطفىءْ مِصباحَك واذكُرِ اسمَ الله، وخَمِّرْ إناءك واذكُرِ اسمَ الله، وأوْكِ سِقاءك واذكُرِ اسمَ الله). وقال: (لو أنَّ أحدَكم إذا أرادَ أن يأتِيَ أهلَه قال: بسم الله؛ اللهم جَنِّبْنا الشيطانَ وجَنِّبْ الشيطانَ ما رزقتَنا؛ فإنه إنْ يُقدَّرْ بينهما ولدٌ في ذلك؛ لم يضرَّهُ شيطانٌ أبداً). وقال لعُمَر بن أبي سلمة: (يا غلامُ سَمِّ اللهَ، وكُلْ بِيَمينِك، وكُلْ مِما يَلِيك)، وقال: (إنَّ الشيطانَ لَيَسْتَحِلُّ الطعامَ ألا يُذكَرَ اسمُ الله عليه)، وقال: (مَنْ لم يذبحْ فلْيذبحْ باسم الله)، وشكا إليه عثمان بن أبي العاص وَجَعاً يجده في جسدِه منذ أسلم؛ فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (ضعْ يدَك على الذي تألم من جسدِك وقلْ: (بسم الله) ثلاثاً، وقلْ سبعَ مرات: أعُوذُ بعزةِ الله وقُدرتِه مِن شرِّ ما أجِدُ وأحاذِرُ). هذا كلُّه ثابتٌ في الصحيح".[10]
وما أحسنَ قولَ الرازي رحمه الله: "إنَّ نُوحاً عليه السلام لما ركبَ السفينةَ قال: (بسم الله مجراها ومرساها)؛ فوجدَ النجاةَ بنصفِ هذه الكلمة؛ فمَن واظبَ على هذه الكلمةِ طُولَ عُمرِه كيفَ يَبقَى مَحروماً مِن النجاة؟ وأيضاً إنَّ سليمان عليه السلام نالَ مملكةَ الدنيا والآخرة بقولِه: (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم)؛ فالْمَرْجُوُّ أنَّ العبدَ إذا قاله فاز بمُلكِ الدنيا والآخرة".[11]
2) وأما (الرحمن الرحيم) فاسمان يقتضيان حمدَ الله عزَّ وجلَّ؛ لأنهما ينطِقان بنعمةِ الله ورحمتِه؛ فكلما أثْنَى به العبدُ على مولاه؛ تعرَّضَ لمزيدِ رحمتِه وعنايتِه، كما قال السعدي رحمه الله: "اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمةِ الواسِعةِ العظيمةِ التي وَسِعَتْ كلَّ شَيءٍ, وعَمَّتْ كلَّ حيٍّ، وكَتبَها لِلمُتقِين المتبِعِين لأنبيائه ورُسُلِه؛ فهؤلاء لهم الرحمةُ المطلقة، ومَن عَداهم فلهم نصيبٌ منها".[12] ومعلومٌ أنه "مِن القَواعِدِ المتفَقِ عليها بين سَلَفِ الأمةِ وأئمتِها: الإيمان بأسماءِ الله وصفاتِه, وأحكامِ الصفات؛ فيؤمِنون مثلاً بأنه (رحمن رحيم), ذو الرحمةِ التي اتَّصَفَ بها, المتعلِّقة بالمرحومِ؛ فالنِّعَمُ كلُّها أثَرٌ مِن آثارِ رَحمتِه, وهكذا في سائرِ الأسماء".[13]
ورَحِمَ الله صاحبَ الظلالِ حيث قال: "والبَدْءُ باسْمِ الله هو الأدَبُ الذي أوْحَى الله لِنَبيِّه في أولِ ما نَزَلَ مِن القرآنِ باتفاقٍ، وهو قولُه تعالى: (اقرأ باسمِ ربِّك). وهو الذي يتفقُ مع قاعدةِ التصوُّرِ الإسلامي الكبرى: مِن أنَّ اللهَ (هو الأوَّلُ والآخِرُ والظاهِرُ والباطِنُ). فهو سبحانه الموجودُ الحقُّ الذي يَسْتَمِدُّ منه كلُّ مَوجودٍ وُجُودَه، ويبدأ منه كل مبدوء بدأه؛ فبِاسْمِه إذن يكونُ كلُّ ابتداء، وباسْمِه إذن تكونُ كلُّ حركةٍ وكلُّ اتجاه. ووَصْفُه سبحانه في البدءِ بـ(الرحمن الرحيم) يَستَغرِقُ كلَّ معاني الرَّحمةِ وحالاتها... وإذا كان البدءُ (بسم الله) وما ينطوي عليه من توحيدٍ للهِ وأدبٍ معه يمثل الكليةَ الأولى في التصوُّرِ الإسلامي؛ فإنَّ استِغراقَ معاني الرَّحمةِ وحالاتها ومجالاتها في صِفَتَيْ (الرحمن الرحيم) يُمثِّلُ الكليةَ الثانية في هذا التصوُّرِ، ويقرِّرُ حقيقةَ العلاقةِ بين اللهِ والعِباد".[14]
3) ثم مِن بعد ذلك يجيء التصريحُ بالحمد،[15] وهو ـ مع الدعاء ـ المحورُ الذي تدور عليه سورة الفاتحة: (الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).[16] ورَحِم الله سيد قطب حيث قال: "وعَقِبَ البدءِ (بسم الله الرحمن الرحيم) يجيء التوجُّهُ إلى الله بـ(الحمد) ووَصْفُه بالرُّبُوبِيةِ المطلَقةِ للعالَمِين: (الحمد لله رب العالمين). والحمد لله هو الشعور الذي يفيضُ به قلبُ المؤمنِ بمجرَّدِ ذِكرِه لله؛ فإنَّ وُجودَه ابتداءً ليس إلا فَيضاً مِن فُيوضاتِ النِّعمةِ الإلهيةِ التي تَسْتَجِيشُ الحمدَ والثناءَ. وفي كلِّ لَمْحةٍ وفي كلِّ لَحظةٍ وفي كلِّ خطوةٍ تتوالى آلاءُ الله وتتواكبُ وتتجمَّعُ وتغمُرُ خَلائقَهُ كلَّها، وبخاصةٍ هذا الإنسان؛ ومِن ثَمَّ كان (الحمد لله) ابتداء، وكان (الحمد لله) خِتاماً قاعِدةً مِن قواعِدِ التصوُّرِ الإسلامي المباشِر: (وهو الله لا إله إلا هو له الحمدُ في الأولى والآخرة)".[17](/2)
ولله دَرُّ ابن عاشور رحمه الله ما أحسنَ قولَه: "لما لُقِّنَ المؤمنون هاته المناجاةَ البديعة التي لا يهتدي إلى الإحاطةِ بها في كلامِه غيرُ عَلاَّمِ الغُيوبِ سبحانه قُدِّمَ (الحمد) عليها؛ لِيضعَه المناجُون كذلك في مُناجاتِهم جرياً على طريقةِ بُلَغاءِ العربِ عند مُخاطبةِ العظماءِ أنْ يَفْتَتِحُوا خِطابَهم إياهم وطِلْبَتَهم بالثناءِ والذِّكرِ الجميل. قال أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان:
فكان افتتاحُ الكلامِ بالتَّحميدِ سُنَّةَ الكتابِ المجيدِ لِكلِّ بَلِيغٍ مُجِيدٍ؛ فلم يَزَلْ المسلمون مِن يومِئذ يُلَقِّبُون كلَّ كلامٍ نَفِيسٍ لم يَشتمِلْ في طالعِه على الحمدِ بالأبْتَر".[18]
4) فالابتداءُ بالحمدِ شهادةٌ لله جلَّ جَلالُه بجميعِ المحامدِ، كما قال الرازي رحمه الله: "الذي يُحمَدُ ويُمدَح في الدنيا؛ إنما يكون كذلك لِوُجوهٍ أربعةٍ: إما لكونِه كامِلاً في ذاتِه وفي صِفاتِه مُنَزَّهاً عن جميعِ النقائصِ والآفات، وإن لم يكنْ منه إحسانٌ إليك، وإما لكونِه مُحْسِناً إليك ومُنْعِماً عليك، وإما لأنك تَرْجُو وُصُولَ إحْسانِه إليك في المستقبَل مِن الزمان، وإما لأجْلِ أنك تكونُ خائفاً مِن قَهرِه وقُدرتِه وكمالِ سَطوتِه؛ فهذه الحالاتُ هي الجِهاتُ الموجبةُ للتعظيم؛ فكأنه سبحانه وتعالى يقول: إنْ كنتم ممن تُعظِّمون الكمالَ الذاتيَّ؛ فاحمدوني فأني إلهُ العالمين، وهو المرادُ من قوله: (الْحَمْدُ لله)، وإنْ كُنتم ممن تُعظِّمون الإحسانَ؛ فإني (رب العالمين)، وإنْ كنتُم تُعظِّمون للطمعِ في المستقبل؛ فأنا (الرحمن الرحيم)، وإن كنتم تُعظِّمون للخوفِ؛ فأنا (مالك يومِ الدين)".[19]
5) والحمدُ زِينةُ الفَضائلِ وعَلامةُ الفِقهِ بِصِفاتِ الله عزَّ وجلَّ، ولله درُّ ابن عاشور حيث قال: "إنَّ الذي لَقَّنَ أهلَ القرآنِ ما فيه جِماعُ طَرائقِ الرُّشدِ بوجهٍ لا يُحِيطُ به غيرُ علامِ الغُيوب؛ لم يُهْمِلْ إرشادَهم إلى التحلِّي بزينةِ الفضائلِ وهي أن يقدروا النِّعمةَ حقَّ قَدرِها بشُكرِ المنعِم بها؛ فأراهم كيف يُتوِّجُون مُناجاتِهم بحمدِ واهبِ العقلِ ومانِحِ التوفيقِ؛ ولذلك كان افتِتاحُ كلِّ كلامٍ مُهِمٍّ بالتحمِيدِ سُنةَ الكتابِ المجيدِ".[20]
قال الرازي رحمه الله: "اعلمْ أنَّ تربيتَه تعالى لخلقِه مُخالِفةٌ لتربيةِ غيرِه، وبيانُه مِن وجوهٍ: الأول: ما ذكرناه أنه تعالى يُربِّي عبيدَه لا لغرضِ نفسِه؛ بل لغرضِهم، وغيرُه يربُّون لغرضِ أنفسِهم؛ لا لغرضِ غيرِهم. الثاني: أنَّ غيرَه إذا ربَّى فبقدرِ تلك التربيةِ يظهرُ النقصانُ في خزائنِه وفي مالِه وهو تعالى مُتعالٍ عن النقصانِ والضرر، كما تعالى: (وإنْ مِن شيءٍ إلا عندَنا خَزائنُه وما نُنَزِّلُه إلا بِقَدَرٍ مَعلُوم). الثالث: أنَّ غيرَه من المحسنين إذا ألحَّ الفقيرُ عليه أبغضَه وحرَمَه ومنَعَه؛ والحقُّ تعالى بخلافِ ذلك، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنَّ الله تعالى يحب الملحِّين في الدعاء). الرابع: أنَّ غيرَه من المحسنين ما لم يُطلَبْ منه الإحسانُ لم يُعطِ؛ أما الحقُّ تعالى فإنه يُعطي قبلَ السؤال؛ ألا ترى أنَّه ربَّاك حالَ ما كنتَ جنيناً في رَحِمِ الأمِّ وحالَ ما كنتَ جاهِلاً غيرَ عاقلٍ، لا تُحْسِن أن تسألَ منه ووقاك وأحسنَ إليك مع أنك ما سألتَه وما كان لك عقلٌ ولا هدايةٌ. الخامس: أنَّ غيرَه مِن المحسنين ينقطعُ إحسانُه إما بسببِ الفقرِ أو الغَيبةِ أو الموت؛ والحقُّ تعالى لا يَنقطعُ إحسانُه البتة. سادساً: أنَّ غيرَه مِن المحسنين يختصُّ إحسانُه بقومٍ دون قومٍ، ولا يُمكِنُه التعميم؛ أما الحقُّ تعالى فقد وَصَلَ تَربيتَه وإحسانَه إلى الكُلِّ، كما قال: (ورَحْمَتي وَسِعَتْ كلَّ شيء)؛ فثبت أنه تعالى ربُّ العالمين، ومُحْسِنٌ إلى الخلائقِ أجمعين؛ فلهذا قال تعالى في حقِّ نفسِه: (الحمد لله ربِّ العالمين)".[21]
قال سيد قطب رحمه الله: "ومع هذا يَبلُغُ مِن فضلِ اللهِ سبحانه وفَيضِه على عَبدِه المؤمن، أنه إذا قال: الحمد لله كتبها له حسنة ترجح كل الموازين. في سنن ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَدَّثهم أنَّ عبداً من عباد الله قال: (يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك)؛ فعضلت الملكين فلم يدريا كيف يكتبانها. فصعدا إلى الله فقالا: يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها. قال الله وهو أعلم بما قال عبده: وما الذي قال عبدي؟ قالا: يا رب، إنه قال: لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها".[22](/3)
6) فالحمدُ شهادةٌ لله عز وجلَّ بالربوبيةِ؛ فإنَّ "الرَّب: هو المُربِّي جميعَ العالمين، وهم مَن سِوى اللهِ بِخَلْقِه لهم, وإعدادِه لهم الآلاتِ, وإنعامِهِ عليهم بالنِّعَمِ العظيمة, التي لو فَقَدُوها لم يُمْكِن لهم البقاء, فما بهم مِن نعمةٍ فمنه تعالى".[23] ومن هنا تظهر أهميةُ الحمدِ من الناحيةِ العَقَدية، كما قال قال سيد قطب رحمه الله: "الرُّبوبيةُ المُطلَقة هي مَفْرِقُ الطريقِ بين وُضوحِ التوحيدِ الكامِلِ الشامِلِ، والغَبَشِ الذي يَنشَأ مِن عدمِ وُضوحِ هذه الحقيقةِ بصورتِها القاطعة. وكثيراً ما كان الناسُ يجمعون بين الاعترافِ بالله بِوَصْفِهِ الْمُوجِد الواحِد للكونِ، والاعتقادِ بتعدُّدِ الأربابِ الذين يَتحكَّمُون في الحياة... فإطلاقُ الرُّبُوبيةِ في هذه السورةِ وشمولُ هذه الربوبيةِ للعالمين جميعاً: هي مَفرِقُ الطريقِ بين النظامِ والفَوْضَى في العقيدة؛ لتتَّجِهَ العَوالِمُ كلُّها إلى ربٍّ واحدٍ تُقِرُّ له بالسيادةِ المُطلَقة... ثم ليطمئن ضَمِيرُ هذه العوالمِ إلى رِعايةِ اللهِ الدائمةِ ورُبُوبيَّتِه القائمة، وإلى أنَّ هذه الرِّعايةَ لا تنقطِعُ أبداً ولا تفترُ ولا تَغيب".[24]
قال سيد قطب رحمه الله: "التوجُّهُ إلى اللهِ بالحمدِ يُمثِّلُ شُعورَ المؤمنِ الذي يَستَجِيشُه مُجرَّدُ ذِكرِه للهِ... والله سُبحانَه لم يخلُقْ الكونَ ثم يتركُه هملاً؛ إنما هو يَتصرَّفُ فيه بالإصلاحِ ويرعاهُ ويُربِّيهِ. وكلُّ العوالِمِ والخلائقِ تُحفَظُ وتُتعهَّد برعايةِ الله (رب العالمين). والصِّلةُ بين الخالِقِ والخلائقِ دائمةٌ مُمْتَدةٌ قائمةٌ في كلِّ وَقتٍ وفي كلِّ حالة".[25]
7) ولو تأملنا هذه الرُّبوبيةَ المذكورةَ في الآية مُقترنةً بالحمدِ ومَشفوعةً بالرحمة؛ لأدركنا أنَّ الحمدَ ينبع مِن الشعورِ برحمةِ الله وتربيتِه للخلقِ، كما قال السعدي رحمه الله: "تربيتُه تعالى لِخَلقِه نوعان: عامةٌ وخاصةٌ. فالعامة: هي خَلقُه للمخلوقين, ورِزقُهم, وهِدايتُهم لما فيه مَصالِحُهم, التي فيها بقاؤهم في الدنيا. والخاصة: تربيتُه لأوليائه, فيربِّيهم بالإيمانِ, ويُوفِّقُهم له, ويُكمِّلُه لهم, ويدفعُ عنهم الصوارفَ والعوائقَ الحائلةَ بينَهم وبَينَه. وحقيقتُها: تربيةُ التوفيقِ لكلِّ خيرٍ, والعصمةِ مِن كلِّ شَرٍّ؛ ولعلَّ هذا المعنَى هو السِّرُّ في كَوْنِ أكثرِ أدعيةِ الأنبياءِ بلفظِ الربِّ؛ فإنَّ مَطالِبَهم كلَّها داخِلةٌ تحت رُبوبِيَّتِه الخاصَّة. فدلَّ قولُه: (ربّ العالمين) على انفرادِه بالخلقِ والملكِ والتدبيرِ والنِّعَمِ, وكمالِ غِناه, وتمامِ فقرِ العالمين إليه بكلِّ وَجهٍ واعْتِبارٍ".[26]
8) فالحمدُ في غايةِ الأهمية لِلعبدِ لِتعلُّقِه بِصِفاتِ الله جلَّ جلالُه وأثر هذه الصفاتِ على الخلقِ؛ وقد أحسنَ سيد قطب حيث أوضحَ ذلك بقولِه: "كانت عِنايةُ الإسلامِ الأُولى مُوَجَّهةً إلى تحريرِ أمرِ العقيدة، وتحديدِ التصوُّرِ الذي يستقرُّ عليه الضميرُ في أمرِ اللهِ وصِفاتِه، وعلاقتِه بالخلائقِ، وعلاقةِ الخلائقِ به على وجهِ القطعِ واليقينِ؛ ومِن ثَمَّ كان التوحيدُ الكاملُ الخالصُ المُجرَّدُ الشامل، الذي لا تَشوبُه شائبةٌ مِن قريبٍ ولا من بعيدٍ هو قاعدة التصوُّر التي جاء بها الإسلام، وظَلَّ يَجْلُوها في الضَّمير، ويتتبعُ فيه كلَّ هاجِسةٍ وكلَّ شائبةٍ حولَ حقيقةِ التوحيد؛ حتى يُخلِّصَها مِن كلِّ غَبَشٍ، ويَدَعَها مَكِينَةً راكِزةً لا يَتطرَّقُ إليها وَهْمٌ في صُورةٍ مِن الصُّوَر... والذي يراجع الجهدَ المتطاول الذي بذله الإسلامُ لتقريرِ كلمةِ الفصلِ في ذاتِ اللهِ وصِفاتِه وعَلاقتِه بمخلوقاتِه، هذا الجهد الذي تُمثِّلُه النصوصُ القرآنية الكثيرة، الذي يراجعُ هذا الجهدَ المتطاول دون أن يُراجعَ ذلك الرُّكامَ الثقيلَ في ذلك التِّيهِ الشامِلِ الذي كانت البشريةُ كلُّها تَهِيمُ فيه؛ قد لا يُدْرِك مدى الحاجةِ إلى كلِّ هذا البيانِ المؤكَّد المُكرَّر، وإلى كلِّ هذا التدقيقِ الذي يتتبعُ كلَّ مَسالكِ الضَّمِير. ولكن مراجعة ذلك الرُّكام تكشِفُ عن ضرورةِ ذلك الجهدِ المتطاول، كما تكشفُ عن مدى عَظمةِ الدَّوْرِ الذي قامَت به هذه العقيدةُ وتقومُ في تحريرِ الضميرِ البشري وإعْتاقِه وإطْلاقِه مِن عناءِ التخبُّطِ بين شتَّى الأرْبابِ وشتَّى الأوْهامِ والأساطِيرِ! وإنَّ جَمالَ هذه العقيدةِ وكمالَها وتناسُقَها وبَساطةَ الحقيقةِ الكبيرةِ التي تُمثِّلُها. كلُّ هذا لا يَتجلَّى للقلبِ والعقلِ كما يَتجلَّى مِنْ مُراجعةِ رُكامِ الجاهليةِ مِن العقائدِ والتصوُّراتِ والأساطيرِ والفلسفاتِ! وبخاصة موضوع الحقيقة الإلهية وعلاقتها بالعالم. عندئذ تبدو العقيدةُ الإسلامية رحمةً، رحمةً حقيقيةً للقلبِ والعقلِ، رحمة بما فيها مِن جَمالٍ وبساطةٍ ووُضوحٍ وتناسُقٍ وقُرْبٍ وأُنْسٍ وتَجاوُبٍ مع الفِطرةِ مُباشِرٍ عَميقٍ" في ظلال القرآن 1/23-24.(/4)
9) ثم يأتي ذِكْرُ الرحمةِ مؤكَّداً مِن جَديدٍ في صِفَتَيْ: (الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ).[27] قال سيد قطب رحمه الله: "(الرحمن الرحيم) هذه الصفة التي تستغرقُ كلَّ معاني الرحمةِ وحالاتِها ومَجالاتِها تتكرَّرُ هنا في صُلْبِ السورةِ في آيةٍ مُستقلةٍ؛ لتؤكِّدَ السِّمةَ البارِزةَ في تلك الرُّبوبية الشامِلة؛ ولِتُثْبتَ قَوائمَ الصِّلةِ الدائمةِ بين الرَّبِّ ومَرْبُوبِيه، وبين الخالقِ ومَخلوقاتِه. إنها صلةُ الرحمةِ والرِّعايةِ؛ التي تَستجِيشُ الحمدَ والثناءَ. إنها الصِّلةُ التي تقومُ على الطمأنينةِ وتنبضُ بالمودةِ؛ فالحمدُ هو الاستجابةُ الفِطريةُ للرَّحمةِ النَّدِيةِ. إنَّ الربَّ الإلهَ في الإسلامِ لا يُطارِدُ عِبادَه مُطارَدةَ الخصومِ والأعداءِ كآلهةِ (الأولمب) في نَزَواتِها وثَوْراتِها كما تُصوِّرُها أساطِيرُ الإغريق. ولا يُدبِّرُ لهم المكايدَ الانتقاميَّة كما تزعُمُ الأساطيرُ المزوَّرة في (العهدِ القديم) كالذي جاء في أسطورةِ بُرج بابل في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين".[28]
قال الشنقيطي رحمه الله: "قوله تعالى: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) هما وَصفان للَّهِ تعالى، واسمان من أسمائه الحسنى، مُشتَقان مِن الرحمةِ على وجهِ المبالغة، و(الرحمن) أشدُّ مُبالغةً من (الرَّحِيم)؛ لأنَّ (الرحمن) هو ذو الرحمةِ الشامِلة لجميعِ الخلائقِ في الدنيا، وللمؤمنين في الآخرة، و(الرحيم) ذو الرحمةِ للمؤمنين يومَ القيامة. وعلى هذا أكثرُ العلماء. وفي كلامِ ابنِ جرير ما يُفهَمُ منه حكايةُ الاتفاقِ على هذا. وفي تفسيرِ بعضِ السلفِ ما يدلُّ عليه، كما قاله ابنُ كثير".[29]
ولله دَرُّ ابنِ القيم حيث قال: "قد جَمَعَت الفاتحةُ الوَسِيلَتَيْن: وهما التوسُّلُ بالحمدِ والثناءِ عليه وتَمْجيدِه، والتوسُّلُ إليه بِعُبُودِيَّتِهِ وتَوحِيدِهِ. ثم جاء سؤالُ أهَمِّ المطالِبِ وأنْجَحِ الرغائب: وهو الهدايةُ بعد الوَسِيلَتَين؛ فالدَّاعي به حَقِيقٌ بالإجابة. ونظيرُ هذا: دُعاءُ النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعُو به إذا قام يُصلِّي من الليل، رواه البخاري في صحيحِه من حديث ابن عباس: (اللهم لك الحمد؛ أنتَ نُورُ السمواتِ والأرضِ ومَن فِيهِنَّ. ولك الحمدُ؛ أنتَ قَيُّومُ السمواتِ والأرضِ ومَن فِيهِنَّ. ولك الحمدُ؛ أنتَ الحقُّ، ووَعْدُك الحقُّ، ولقاؤك حَقٌّ، والجنة حقٌّ، والنارُ حَقٌّ، والنبيُّون حقٌّ، والساعةُ حَقٌّ، ومحمد حقٌّ. اللهم لكَ أسلمتُ، وبك آمَنتُ، وعليكَ توكَّلْتُ، وإليكَ أنَبْتُ. وبك خاصَمتُ، وإليك حاكَمْتُ؛ فاغْفِرْ لي ما قَدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسْرَرْتُ وما أعْلَنْتُ، أنتَ إلهي لا إلهَ إلا أنتَ)؛ فذَكَرَ التوسُّلَ إليه بِحَمْدِه والثناءِ عليهِ وبعُبوديَّتِه له. ثم سألَهُ المغفرة".[30]
وما أحسنَ ما قاله البيضاوي رحمه الله: "إنما خَصَّ التسميةَ بهذه الأسماء؛ لِيَعلمَ العارفُ أنَّ المستحِقَّ لأنْ يُسْتَعانَ به في مَجامِعِ الأُمور، هو المعبودُ الحقيقيُّ الذي هو مَوْلَى النِّعَمِ كلِّها عاجِلِها وآجِلِها جَلِيلِها وحَقِيرِها؛ فيتوجَّهُ بشَراشِرِه إلى جَنابِ القُدُس،[31] ويَتمسَّكُ بِحَبْلِ التوفيقِ، ويَشغلُ سِرَّه بِذِكْرِهِ والاسْتِعْدادِ به عن غيرِه".[32]
10) وأما الآية الرابعة: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فتمثل إشارةً إلى يومِ الجزاء: حيث الجنة للسعداء، والنار للأشقياء. قال الشنقيطي رحمه الله: "(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) لم يُبَيِّنْهُ هنا، وبَيَّنَهُ في قولِه: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّينِ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً). والمرادُ بالدِّين في الآيةِ الجزاء. ومنه قولُه تعالى: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ)، أي جزاء أعمالهم بالعدل".[33](/5)
فذِكرُ يومِ الدِّينِ قَطْعٌ لأماني الجاحِدِين الذين يعرفون نعمةَ الله ثم يُنكِرُونها ولا يشكرون الله عليها، كما قال سيد قطب رحمه الله: "(مالك يوم الدين) تُمثِّلُ الكلِّيَّةَ الضَّخمةَ العميقةَ التأثيرِ في الحياةِ البشريةِ كلِّها: كُلية الاعتقادِ بالآخرة. والمُلْكُ أقصَى درجاتِ الاستيلاءِ والسيطرةِ. و(يوم الدين) هو يومُ الجزاءِ في الآخرة. وكثيراً ما اعتقدَ الناسُ بألُوهِيةِ اللهِ وخَلْقِه للكونِ أولَ مَرةٍ؛ ولكنَّهم مع هذا لم يَعتقدُوا بيومِ الجزاءِ. والقرآنُ يقولُ عن بعضِ هؤلاء: (ولئن سَألْتَهم مَن خَلَقَ السماواتِ والأرضَ لَيَقُولن الله)، ثم يحكي عنهم في موضع آخر: (بل عَجِبُوا أنْ جاءهم مُنْذِرٌ مِنهم فقال الكافرون: هذا شيءٌ عَجِيبٌ أئذا مِتْنا وكُنا تُراباً ذلك رَجعٌ بَعِيد)"![34] وقال السعدي رحمه الله: "(المالك) هو مَن اتَّصَفَ بصفةِ الملك التي مِن آثارِها أنه يأمُرُ ويَنْهَى, ويُثِيبُ ويُعاقِب, ويَتصرَّفُ بِمَمالِيكِه جميعَ التصرُّفات. وأضاف الملك لـ(يوم الدين), وهو يوم القيامة, يومَ يُدَان الناسُ فيه بأعمالِهم خَيْرِها وشَرِّها؛ لأنَّ في ذلك اليومِ يظهرُ للخلقِ تمامَ الظُّهورِ كَمالُ مُلْكِهِ وعَدْلِهِ وحِكْمَتِهِ, وانقطاعُ أملاكِ الخلائقِ؛ حتى إنه يستوي في ذلك اليومِ الملوكُ والرَّعايا والعبيدُ والأحرارُ. كلُّهم مُذْعِنُون لِعَظَمَتِه، خاضِعُون لِعِزَّتِه, مُنْتَظِرُون لِمُجازاتِه, راجُون ثَوابَه, خائفُون مِن عِقابِه؛ فلذلك خَصَّه بالذِّكْرِ, وإلا فهو المالكُ لِيَومِ الدِّينِ ولغيرِه من الأيام".[35]
ورَحِمَ الله ابن عبد الوهاب حيث قال: "فمن عَرفَ تفسيرَ هذه الآية, وعَرَفَ تخصيصَ الملكِ بذلك اليوم, مع أنه سبحانه مالكُ كلِّ شيءٍ ذلك اليومَ وغيره, عرفَ أنَّ التخصِيصَ لهذه المسألة الكبيرة العظيمة التي بسبب مَعرفتِها دَخلَ الجنةَ مَن دَخَلَها, وبسببِ الجهلِ بها دَخلَ النارَ مَن دَخَلَها؛ فَيالَهَا مِن مسألةٍ لو رَحَلَ الرجلُ فيها أكثرَ مِن عشرين سنةً لم يُوَفِّها حَقَّها".[36] وقال البغوي رحمه الله: "إنما خَصَّ (يوم الدِّين) بالذِّكْرِ مع كَوْنِهِ مالِكاً للأيامِ كلِّها؛ لأنَّ الأملاكَ يومَئذٍ زائلةٌ فلا مُلكَ ولا أَمرَ إلا له، قال الله تعالى: (الملكُ يومَئذٍ الحقُّ للرحمن)،[37] وقال: (لِمَن الملكُ اليومَ للهِ الواحِدِ القَهار)،[38] وقال: (والأمْرُ يومَئذ لله)[39]".[40]
11) وقد بَيَّنَ العلماء أنَّ ذِكْرَ رُبُوبِيةِ الله للعالَمِين ورحمتِه ومُلكِه يوم الدينِ لبيانِ أنه جلَّ جلاله أحَقُّ بالحمد؛ بخلافِ غيرِه ممن لا يستحقُّ ذلك. قال النسفي رحمه الله: "هذه الأوصافُ التي أُجْرِيَتْ على اللهِ سُبحانه وتعالى مِن كَوْنِهِ رَباًّ أي مالِكاً للعالمين ومُنعِماً بالنِّعَمِ كُلِّها ومالِكاً للأمرِ كلِّه يوم الثواب والعقاب بعد الدلالة على اختصاصِ الحمد به في قولِه: (الحمْدُ للَّهِ)؛ دليلٌ على أنَّ مَنْ كانت هذه صفاته لم يكنْ أحدٌ أحقَّ منه بالحمدِ والثناءِ عليه".[41] وذكر البيضاوي أنه "للإشْعارِ مِن طريقِ المفهومِ على أنَّ مَنْ لم يَتصِفْ بتلك الصفاتِ لا يستأهِلُ أنْ يُحْمَدَ فضلاً عن أن يُعبَدَ".[42]
12) وفي الآية الخامسة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تأتي العبادةُ والاستِعانةُ ثَمرَتين لذلك الحمدِ المتقدِّم، والمعنى: يا أيها المحمودُ بكلِّ صِفاتِ الحمدِ والثناءِ نتوجهُ إليك يا ربَّنا بالعبادة ونستمد منك الإعانة، كما قال البغوي رحمه الله: "قوله: (نعبد): أي نُوَحِّدُك ونُطيعُك خاضِعِين، والعبادةُ: الطاعةُ مع التذلُّلِ والخضوع؛ وسُمِّيَ العبدُ عبداً لِذِلَّتِه وانقيادِه، يقال: طريقٌ مُعبَّدٌ أي مُذَلَّل".[43] وقال السعدي رحمه الله: "أي نَخُصُّك وَحدَك بالعبادةِ والاستِعانة".[44] وقال النسفي رحمه الله: "المعنى نخصُّك بالعبادة وهي أقصَى غايةِ الخضوعِ والتذلُّلِ، ونَخُصُّك بِطَلبِ المَعُونة؛ وعَدَلَ عن الغَيْبةِ إلى الخطابِ للالتفات... ومما اختصَّ به هذا الموضعُ أنه لما ذكَرَ الحقيقَ بالحمدِ والثناء، وأجْرَى عليه تلك الصِّفاتِ العِظامَ تعلَّقَ العِلمُ بِمَعلومٍ عظيمِ الشأنِ حقيقٍ بالثناءِ وغايةِ الخضوعِ والاستعانةِ في المهماتِ؛ فخُوطِبَ ذلك المعلومُ المتميِّزُ بتلك الصفاتِ فقيل: إياك يا مَن هذه صفاتُه نَعبد ونستعينُ لا غيرك. وقُدِّمَت العبادةُ على الاستعانة لأنَّ تقديمَ الوسيلةِ قبلَ طلبِ الحاجةِ أقربُ إلى الإجابة".[45](/6)
13) فهذا مقامٌ عَظيمٌ لِمَعرفةِ الله عزَّ وجلَّ بِصفاتِ الكمال وإدراكِ حقيقةِ النفسِ؛ "فإنَّ الحامِدَ لما حمد الله تعالى ووَصفَه بعظيمِ الصفاتِ بلغَتْ به الفكرةُ مُنتهاها؛ فتخيَّلَ نفسَه في حَضرةِ الرُّبُوبِيَّة؛ فخاطَبَ ربَّه بالإقبالِ".[46] ورحمَ الله ابن القيم حيث قال: "لله درُّ أبي مَدْيَن حيث يقول: مَنْ تحقَّقَ بالعُبودية؛ نظرَ أفعالَه بعينِ الرِّياءِ، وأحوالَه بعينِ الدَّعْوى، وأقوالَه بعينِ الافتِراء. وكلَّما عَظُمَ المطلوبُ في قلبِك؛ صَغرتْ نفسُك عندك، وتضاءلَت القِيمةُ التي تبذُلها في تحصيلِه، وكلَّما شَهِدْتَ حَقِيقةَ الرُّبوبية وحَقيقةَ العُبودية وعَرفتَ اللهَ وعَرفتَ النَّفسَ؛ وتَبيَّنَ لك أنَّ ما معك مِن البضاعةِ لا يصلُحُ للمَلِكِ الحقِّ، ولو جِئتَ بِعَمَلِ الثَّقَلَين خَشِيتَ عاقِبتَه؛ وإنما يَقْبَلُه بِكَرَمِه وجُودِه وتَفضُّلِه ويُثِيبُك عليه أيضاً بِكَرمِه وجُودِه وتَفضُّلِه".[47]
14) ومن لطائفِ المعاني وبدائعِ النظمِ القرآني هاهنا: اقترانُ العِبادةِ بالاستِعانة؛ فإنَّ الحامِدَ يعلم يقيناً أنَّ العِبادةَ لا تتيسرُ إلا بإعانةِ الله وتوفيقِه وفضلِه؛ كما قال الشنقيطي رحمه الله: "(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أي لا نطلب العونَ إلا منك وحدك؛ لأنَّ الأمرَ كلَّه بِيدِك وحدَك لا يملك أحدٌ منه معك مثقالَ ذرةٍ. وإتيانه بقولِه: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بعد قولِه: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فيه إشارةٌ إلى أنه لا ينبغي أن يتوكَّلَ إلا على مَنْ يَستحقُّ العبادة؛ لأنَّ غيرَه ليس بِيدِهِ الأمرُ. وهذا المعنى المشارُ إليه هنا جاء مبينًا واضِحًا في آياتٍ أُخَر كقولِه: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)، وقولِه: (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)، وقولِه: (رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً)، وقولِه: (قُلْ هُوَ الرَّحْمَانُ ءامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا)، وإلى غيرِ ذلك مِن الآيات".[48]
وقال السعدي رحمه الله: "ذكر (الاستعانة) بعد (العبادة) مع دُخولِها فيها؛ لاحتياجِ العبدِ في جميعِ عِباداتِه إلى الاستعانةِ بالله تعالى؛ فإنه إنْ لم يُعِنْهُ الله, لم يَحصُلْ له ما يُرِيدُه مِن فِعْلِ الأوامِرِ واجتنابِ النَّواهي".[49] وما أحسنَ تعبيرَ البيضاوي عن هذا المعنى بقولِه: "لما نَسَبَ المتكلِّمُ العِبادةَ إلى نفسِه؛ أوْهَمَ ذلك تبجُّحاً واعتِداداً منه بما يَصْدُر عنه، فعقَّبَه بقولِه: (وإياك نستعين)؛ ليدلَّ على أنَّ العبادة أيضاً مما لا يتم ولا يستتب له إلا بمعونةٍ منه وتوفيقٍ".[50]
ورحمَ الله ابنَ القيم حيث قال: "إنَّ القلبَ يعرض له مَرَضان عظيمان؛ إنْ لم يَتدارَكْهما تَرامَيا به إلى التَّلَفِ ولا بُدَّ، وهما: الرِّياءُ والكِبْرُ. فدواءُ الرياءِ بـ(إياك نعبد)، ودواءُ الكِبْر بـ(إياك نستعين)؛ وكثيراً ما كنتُ أسمعُ شيخَ الإسلام ابنَ تيمية قدَّسَ اللهُ روحَه يقول: (إياك نعبد) تدفع الرياء، و(إياك نستعين) تدفع الكبرياء؛ فإذا عُوفِيَ من مرضِ الرياء بـ(إياك نعبد)، ومن مرضِ الكِبْر والعُجبِ بـ(إياك نستعين)، ومن مرضِ الضلالِ والجهلِ بـ(اهْدنا الصراطَ المستقيم)؛ عُوفِيَ من أمراضِه وأسقامِه، ورَفَلَ في أثوابِ العافية، وتمَّتْ عليه النعمة؛ وكان من المنعَمِ عليهم".[51](/7)
15) وأما الآيةُ السادسة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، فتتضَمَّنُ الاستِعانةَ بالله في تحصِيلِ أعْظمِ النِّعَم: وهي الهداية؛ وهي من رحمةِ الله التي يختصُّ الله بها الشاكِرِين، ويصرف عنها بِعَدْلِه الجاحِدِين. قال ابن القيم رحمه الله: "قوله: (اهدنا الصراطَ المستقيم) يتضمن طلبَ الهداية ممن هو قادرٌ عليها؛ وهي بيده إن شاء أعطاها عبدَه، وإن شاء منعه إياها. والهدايةُ: معرفةُ الحقِّ والعَملُ به؛ فمَن لم يَجْعَلْه اللهُ تعالى عالِماً بالحقِّ عامِلاً به؛ لم يكنْ له سَبِيلٌ إلى الاهتِداء؛ فهو سُبحانه المُنْفَرِدُ بالهدايةِ الموجِبةِ للاهتداءِ التي لا يتخلَّف عنها، وهي جعلُ العبدِ مُريداً للهدى مُحِباً له مُؤثِراً له عامِلاً به. فهذه الهدايةُ ليسَتْ إلى مَلَكٍ مُقَرَّبٍ ولا نبيٍّ مُرْسَلٍ، وهي التي قال سبحانه فيها: (إنك لا تَهْدِي مَن أحْبَبتَ ولكنَّ اللهَ يَهدِي مَن يشاء)،[52] مع قولِه تعالى: (وإنك لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُستقيم).[53] فهذه هدايةُ الدعوةِ والتعليمِ والإرشادِ. وهي التي هَدَى بها ثمودَ فاستَحَبُّوا العَمَى عليها، وهي التي قال الله تعالى فيها: (وما كان اللهُ لِيُضِلَّ قوماً بعد إذْ هَداهم حتى يُبَيِّنَ لهم ما يتقون)؛[54] فهداهم هُدَى البَيانِ الذي تقومُ به حُجَّتُه عليهم، ومَنَعَهم الهدايةَ الموجِبةَ للاهتداءِ التي لا يَضِلُّ مَن هَداه اللهُ بها؛ فذلك عَدْلُه فيهم، وهذه حِكْمَتُه فأعْطاهم ما تقومُ به الحجةُ عليهم، ومَنعَهم ما ليسوا له بِأهْلٍ ولا يَلِيقُ بهم"![55]
وما أحسنَ تَعبِيرَ الرازي رحمه الله عن ذلك بقولِه: "لما رأينا الأكثَرِين غَرِقُوا في بَحْرِ الضَّلالات؛ عَلِمْنا أنَّ الوُصولَ إلى الحقِّ ليس إلا بهدايةِ اللهِ تعالى؛ ومما يُقوِّي ذلك أنَّ كلَّ الملائكةِ والأنبياءِ أطبَقُوا على ذلك. أما الملائكةُ فقالوا: (سُبْحانَك لا عِلمَ لنا إلا ما علَّمْتَنا إنك أنتَ العَلِيمُ الحكيم)، وقال آدمُ عليه السلام: (وإنْ لم تَغفِرْ لنا وتَرْحَمْنا لَنكونَنَّ من الخاسِرِين)، وقال إبراهيم عليه السلام: (لئنْ لم يَهْدِني ربِّي لأكُونَنَّ مِن القومِ الضالِّين)، وقال يوسف عليه السلام: (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وألْحِقْني بالصالِحِين)، وقال موسى عليه السلام: (رَبِّ اشْرَحْ لي صَدري) الآيات، وقال محمد عليه السلام: (ربَّنا لا تُزِغْ قلوبَنا بعد إذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لنا مِن لَدُنْكَ رَحمةً إنك أنتَ الوهَّاب)".[56]
16) فهِدايةُ الصراطِ المستقيم غايةٌ يسعى إليها الحامِدُون، ومَن حَصَّلَها طلبَ منها المزيد، كما قال البغوي رحمه الله: "هذا الدعاءُ مِن المؤمنين مع كَوْنِهم على الهدايةِ بمعنى التثبيتِ وبمعنى طَلَبِ مَزيدِ الهدايةِ؛ لأنَّ الألطافَ والهداياتِ مِن الله تعالى لا تتناهَى على مذهبِ أهلِ السنة... وقوله: (صراطَ الذين أنعمتَ عليهم) أي مَنَنْتَ عليهم بالهدايةِ والتوفيق، قال عكرمة: مَنَنْتَ عليهم بالثباتِ على الإيمانِ والاستقامةِ، وهم الأنبياءُ عليهم السلام، وقيل: هم كلُّ مَنْ ثَبَّتَهُ اللهُ على الإيمانِ مِن النبيِّين والمؤمنين الذين ذَكَرَهم الله تعالى في قولِهِ: (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين)[57]".[58]
17) وتأمَّلْ ما ألْطَفَ العِبارةَ القُرآنية: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)! فسُلُوكُ طريقِ الهدايةِ نِعمةٌ من ربِّ العالَمين، وانخراطٌ في دَربِ الأنبياء والمصلِحين على مرِّ التاريخ، قال الشنقيطي رحمه الله: "لم يُبيِّنْ هنا مَن هؤلاء الذين أنعمَ عليهم. وبيَّنَ ذلك في موضعٍ آخر بقوله: (فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)".[59]
18) فالعَبدُ الحامِدُ يتوجهُ إلى الله بسؤالِ الهدايةِ في الدنيا والآخرة، كما قال السعدي رحمه الله: "أي: دُلَّنا وأرْشِدْنا ووَفِّقْنا للصراط المستقيم: وهو الطريقُ الواضحُ الموصِلُ إلى اللهِ وإلى جنَّتِه, وهو مَعرفةُ الحقِّ والعَملُ به. فاهْدِنا إلى الصراطِ، واهْدِنا في الصراطِ. فالهدايةُ إلى الصراطِ: لزومُ دينِ الإسلام, وترك ما سواه مِن الأديان, والهدايةُ في الصراطِ تشمل الهدايةَ لجميعِ التفاصيلِ الدينيةِ عِلماً وعملاً. فهذا الدعاءُ مِن أجمعِ الأدعيةِ وأنفعِها للعبد؛ ولهذا وَجَبَ على الإنسانِ أن يدعوَ الله به في كلِّ ركعةٍ مِن صلاتِه لضرورته إلى ذلك".[60](/8)
ورَحِمَ الله ابنَ القيم حيث قال: "لَما كان طالِبُ الصراطِ المستقيم طالِبَ أمْرٍ أكثرُ الناسِ ناكِبُون عنه، مُريداً لسلوكِ طريقٍ مُرافِقُه فيها في غايةِ القلةِ والعزةِ. والنفوس مجبولةٌ على وِحشةِ التفردِ، وعلى الأُنْسِ بالرفيقِ؛ نبَّهَ اللهُ سبحانه على الرَّفيقِ في هذه الطريق، وأنهم هم الذين (أنعمَ الله عليهم من النبيِّين والصدِّيقين والشهداءِ والصالحين وحَسُنَ أولئك رَفِيقا)؛ فأضاف الصراطَ إلى الرفيقِ السالكين له. وهم (الذين أنعَمَ الله عليهم)؛ ليزول عن الطالبِ للهدايةِ وسُلوكِ الصراطِ وِحشةُ تفرُّدِه عن أهلِ زمانِه وبني جِنسه، وليعلم أنَّ رفيقَه في هذا الصراط: هم (الذين أنْعَمَ الله عليهم)؛ فلا يكترث بمخالفةِ الناكِبِين عنه له؛ فإنهم هم الأقلُّون قَدْراً، وإن كانوا الأكثَرِين عَدَداً، كما قال بعضُ السلف: عليك بطريق الحقِّ، ولا تستوحش لقلِةِ السالِكين؛ وإياك وطريقَ الباطل، ولا تغترَّ بكثرةِ الهالكين؛ وكلما استوحشتَ في تفرُّدِك فانظرْ إلى الرفيقِ السابق، واحرص على اللحاقِ بهم. وغُضَّ الطَّرفَ عمَّن سِواهم؛ فإنهم لن يُغنُوا عنك مِن الله شيئاً. وإذا صاحُوا بك في طريقِ سيرِك، فلا تلتفت إليهم؛ فإنك متى التفتَّ إليهم أخَذُوك وعاقُوك".[61]
19) وأما الآية السابعة: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ) فقد تضمَّنَت الاستعاذةَ مِن حالِ مَن أضَلَّه الله أو غَضِبَ عليه. قال الشنقيطي رحمه الله: "قال جماهيرُ من علماءِ التفسير: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ): اليهود، والضالون: النصارى. وقد جاء الخبر بذلك عن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه. واليهود والنصارى وإن كانوا ضالِّين جميعًا مغضوبًا عليهم جميعًا؛ فإنَّ الغضبَ إِنما خصَّ به اليهود وإنْ شارَكَهم النصارى فيه لأنهم يعرفون الحقَّ ويُنكِرُونه ويأتون الباطل عمدًا؛ فكان الغضبُ أخصَّ صفاتهم. والنصارى جَهَلةٌ لا يعرفون الحقَّ؛ فكان الضلالُ أخصَّ صِفاتِهم".[62]
20) وقد وَرَدَ في صحيح مسلم ما يوضح ما في الفاتحة من الحمدِ والثناءِ والتمجيدِ، وثمرة ذلك مِن الفوزِ بنعيمِ الدنيا والآخرة التي تتمثل في الهداية إلى طريقِ الذين أنعمَ عليهم والنجاةِ مِن مَصِيرِ الذين أضلَّهم وغَضبَ عليهم. فقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصفين. فنصفُها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل.. إذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين). قال الله: حمدني عبدي. وإذا قال (الرحمن الرحيم). قال الله: أثنى عليَّ عبدي. فإذا قال: (مالك يوم الدين). قال الله: مجَّدني عبدي. وإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين). قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: (اهدنا الصراطَ المستقيمَ صراطَ الذين أنعمتَ عليهم غيرِ المغضوبِ عليهم ولا الضالِّين). قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل).[63] فانظرْ هذه الصلة الوثيقة بين هذين النصفين؛ لتعيَ جلالةَ حق الله في الحمد والثناء، وفوزَ العبدِ المقبلِ على ربِّه بالدعاء!
وقد سَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم للقارىء والمأمومين بعد الثناءِ والدعاء أن يقولوا (آمين) في آخرِ الفاتحة؛ طلباً لقبولِ الدعاءِ، كما روى البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قال الإمام (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقولوا: آمين؛ فمَنْ وافَقَ تأمينُه تأمينَ الملائكةِ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه). قال البغوي: "معناه: اللهم اسمعْ واستجِبْ".[64]
ورحِمَ الله ابنَ القيم؛ ما أحسنَ قولَه: "لَما كان سؤالُ اللهِ الهدايةَ إلى الصراطِ المستقيم أجلَّ المطالبِ، ونيلُه أشرفَ المواهب؛ علَّمَ اللهُ عِبادَه كيفيةَ سؤالِه، وأمرَهم أن يُقدِّمُوا بين يديهِ حمدَه والثناءَ عليه، وتمجيدَه. ثم ذكَرَ عُبودِيَّتَهم وتوحيدَهم. فهاتان وسيلتان إلى مَطلوبِهم: توسُّلٌ إليه بأسمائه وصِفاته، وتوسُّلٌ إليه بعبوديته. وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء. ويؤيِّدُهما الوسيلتان المذكورتان في حَدِيثَي الاسم الأعظم اللذين رواهما ابن حبان في صحيحه والإمام أحمد و الترمذي. أحدهما: حديث عبد الله بن بُرَيدة عن أبيه قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو، ويقول: اللَّهم إني أسألك بأني أشهدُ أنك الله الذي لا إله إلا أنتَ الأحدُ الصمدُ الذي لم يَلِدْ ولم يُولَدْ ولم يكنْ له كُفواً أحد. فقال: والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا دُعِيَ به أجاب، وإذا سئل به أعطى، قال الترمذي: حديثٌ صحيحٌ. فهذا توسُّلٌ إلى اللهِ بتوحيدِه، وشهادةُ الداعِي له بالوحدانية... وهذه ترجمة عقيدة أهل السنة، والتوسل بالإيمان بذلك، والشهادة به هو الاسم الأعظم".[65]
----------(/9)
[1] رواه البخاري 4/1704، 1913. في كتاب التفسير، باب (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون) حديث 4370، وفي كتاب فضائل القرآن، باب (فضل فاتحة الكتاب)، حديث 4720. ورواه أبو داود 2/71، في باب فاتحة الكتاب، حديث 1457. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 2/368، حديث 3746.
[2] مدارج السالكين لابن القيم 1/7.
[3] تيسير الكريم الرحمن للسعدي ص 39-40.
[4] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/110-111.
[5] الفوائد لابنِ القيم ص26-28.
[6] المجموع شرح المهذب للنووي 3/277، دار الفكر بيروت، ط1، 1417 هـ.
[7] الفاتحة 1.
[8] التفسير الكبير للرازي 1/210.
[9] في تفسير الفاتحة والمعوذتين.
[10] الجامع لأحكام القرآن 1/97-98.
[11] التفسير الكبير 1/175.
[12] تيسير الكريم الرحمن ص 39.
[13] تيسير الكريم الرحمن ص 39.
[14] في ظلال القرآن لسيد قطب 1/21.
[15] قال النسفي رحمه الله: "(الْحَمْدُ) الوَصفُ بالجميلُ على جِهَةِ التفضِيل". مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 1/3. وقال الشنقيطي رحمه الله: "الألف واللام في (الْحَمْدُ)؛ لاستغراقِ جميع المحامِد. وهو ثناءٌ أثنَى به تعالى على نَفسِه؛ وفي ضِمْنِه أمْرُ عِبادِه أن يُثْنُوا عليه به" أضواء البيان 1/5. وقال ابن عبد الوهاب في (تفسير الفاتحة): "الألفُ واللامُ في قولِه: (الْحَمْدُ) للاستغراق أي جميعُ أنواعِ الحمدِ لله لا لغيرِه, فأما الذي لا صُنعَ للخلقِ فيه مثل خَلقِ الإنسانِ, وخلقِ السمعِ والبصرِ والسماءِ والأرضِ والأرزاقِ وغيرِ ذلك فواضحٌ, وأما ما يُحمَد عليه المخلوقُ مثل ما يُثنَى به على الصالحين والأنبياءِ والمرسَلين, وعلى مَن فَعَلَ مَعروفاً خُصوصاً إنْ أسْداه إليك, فهذا كلُّه لله أيضاً بمعنى أنه خلقَ ذلك الفاعلَ, وأعطاه ما فعلَ به ذلك, وحبَّبَه إليه وقوَّاه عليه, وغير ذلك من أفضالِ اللهِ الذي لو يختلُّ بعضُها؛ لم يُحمَدْ ذلك المحمودُ؛ فصارَ (الْحَمْدُ لله) كلُّه بهذا الاعتبار". وقال السعدي رحمه الله: (الْحَمْدُ لله) "هو الثناءُ على الله بصفاتِ الكمال, وبأفعالِه الدائرة بين الفَضلِ والعَدلِ؛ فله الحمدُ الكامِلُ بجميعِ الوُجُوه" تيسير الكريم الرحمن ص 39.
[16] الفاتحة 2.
[17] في ظلال القرآن 1/22.
[18] التحرير والتنوير 1/154.
[19] التفسير الكبير 1/235.
[20] التحرير والتنوير 1/152-153.
[21] التفسير الكبير 1/234-235.
[22] في ظلال القرآن 1/22.
[23] تيسير الكريم الرحمن ص 39.
[24] في ظلال القرآن 1/22-23.
[25] في ظلال القرآن 1/22.
[26] تيسير الكريم الرحمن ص 39. فالْمُوَفَّقُ من وَفَّقَه اللهُ لِطَلَبِ التوفيقِ؛ فـ"إنَّ موسى عليه السلام ذهبَ يحتطِبُ النارَ؛ فعادَ كَلِيمَ الواحِدِ القهَّار!" كما قال ابنُ القيم رحمه الله، ومَن الذي يَأمَنُ مَكْرَ اللهِ واللهُ يَحُولُ بين المرء وقلبه؟! ومَن الذي لا يخشى أن يكونَ ممن قال فيه ربُّ العالمين: (ولكنْ كَرِهَ اللهُ انبعاثَهم فثبَّطَهم وقيل اقعُدُوا مع القاعدين) التوبة 46.
[27] الفاتحة 3.
[28] في ظلال القرآن 1/24.
[29] أضواء البيان 1/5-6. قال: ويدلُّ له الأثرُ المروي عن عيسى كما ذكره ابن كثير وغيره أنه قال عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام: الرَّحْمانِ رحمان الدنيا والآخرة، والرَّحِيم رحيم الآخرة. وقد أشار تعالى إلى هذا الذي ذكرنا حيث قال: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ)، وقال: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)؛ فذكرَ الاستواءَ باسمه الرحمان لِيَعُمَّ جميعَ خَلقِه برحمتِه، قاله ابن كثير. ومِثلُه قولُه تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ)؛ أي: ومِن رَحْمانِيَّتِهِ: لُطْفُهُ بالطَّيْرِ، وإمْساكُهُ إياها صافاتٍ وقابضاتٍ في جَوِّ السماء. ومِن أظهرِ الأدلةِ في ذلك قولُه تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ) إلى قوله: (فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذّبَانِ)، وقال: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) فخَصَّهم باسْمِه (الرحيم).
[30] مدارج السالكين 1/24.
[31] قولُه رحمه الله: (فيتوجَّهُ بشَراشِرِه إلى جَنابِ القُدس) كِنايةٌ عن شدةِ الإقبالِ، قال ابنُ فارس: "يقال: ألْقَى عليه شَراشِرَه: أي جَمَعَ ما انتشرَ مِن هِمَمِه لهذا الشيء، وشَغلَ هُمومَه كلَّها به". معجم مقاييس اللغة لابن فارس 3/181. نسأل الله أن يجعلَ همومَنا تعلُّمَ العلمِ النافعِ والإقبالَ على العملِ الصالح.
[32] أنوار التنزيل للبيضاوي 1/3.
[33] أضواء البيان 1/6.
[34] في ظلال القرآن 1/24.
[35] تيسير الكريم الرحمن ص 39.
[36] تفسير الفاتحة والمعوذتين لابن عبد الوهاب.
[37] الفرقان 26.
[38] غافر 16.
[39] الانفطار 19.
[40] معالم التنزيل للبغوي 1/53.
[41] مدارك التنزيل 1/4.(/10)
[42] أنوار التنزيل للبيضاوي 1/4.
[43] معالم التنزيل 1/53.
[44] تيسير الكريم الرحمن ص 39. قال: لأنَّ تقديمَ المعمولِ يُفيد الحصر, وهو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه, فكأنه يقول: نعبدك ولا نعبد غيرك, ونستعين بك، ولا نستعين بغيرك.
[45] مدارك التنزيل 1/5.
[46] التحرير والتنوير 1/179.
[47] مدارج السالكين 1/176.
[48] أضواء البيان 1/7-8.
[49] تيسير الكريم الرحمن ص 39.
[50] أنوار التنزيل 1/4.
[51] مدارج السالكين 1/54.
[52] القصص 56.
[53] الشورى 52.
[54] التوبة 115.
[55] شفاء العليل ص52-53. نقلا عن بدائع التفسير 1/108 جمع يسري السيد.
[56] التفسير الكبير1/277.
[57] النساء 69.
[58] معالم التنزيل 1/54.
[59] أضواء البيان 1/8.
[60] تيسير الكريم الرحمن ص 39.
[61] مدارج السالكين 1/21-22.
[62] أضواء البيان 1/9. وقد نصَّ على ذلك كثيرٌ من المفسِّرين، كالبيضاوي في أنوار التنزيل 1/5، والبغوي في معالم التنزيل 1/55، والسعدي في تيسير الكريم الرحمن ص 39.
[63] قال محمد شمس الحق العظيم آبادي: "حقيقة هذه القسمة منصرفة إلى المعنى لا إلى اللفظ؛ وذلك أنَّ سورة الحمد نصفها ثناء ونصفها مسألة دعاء، والثناء لله، والدعاء لعبده... (فنصفها لي) وهو (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين)، (ونصفها لعبدي) وهو من (اهدنا الصراط المستقيم) إلى آخرها، (ولعبدي ما سأل) أي يعينه".عون المعبود 3/28، دار الكتب العلمية بيروت، ط2، 1415 هـ.
[64] معالم التنزيل 1/55. وقال البيضاوي رحمه الله: "ليس مِن القرآن وِفاقاً، لكنْ يُسَنُّ خَتْمُ السورةِ به". أنوار التنزيل 1/5، وقال البغوي رحمه الله: "السنةُ للقارئ أنْ يقولَ بعد فراغِهِ مِن قراءةِ الفاتحةِ (آمين) بِسَكتةٍ مَفصُولةٍ عن الفاتحة". معالم التنزيل 1/55.
[65] مدارج السالكين 1/23-24.(/11)
الفاتحة ثناءٌ ودُعاء
د. محمد عمر دولة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولِنا الأمينِ المبعوثِ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فلو أنَّ المسلمَ تَدبَّرَ معانِيَ سورةِ الفاتحةِ؛ لأدركَ عظمةَ حَمدِ الله - عز وجل - وتمجيدِه والثناءِ عليه؛ فإنَّ سورةَ الفاتحةِ أعظمُ سُوَرِ القرآنِ الكريم، كما جاء في حديثِ أبي سعيد بن المُعَلَّى - رضي الله عنه -: (قلتُ: يا رسولَ الله إنك قلتَ: لأعلمنَّك أعظمَ سورة في القرآن، قال: نعم: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هي السَّبعُ الْمَثانِي والقرآنُ العَظيمُ الذي أُوتِيتُه)! [1]
وقد قَرَّرَ العلماءُ أنَّ "هذه السورةَ اشتملَتْ على أُمَّهاتِ المطالبِ العاليةِ أتَمَّ اشتِمالٍ وتَضَمَّنَتْها أكْمَلَ تَضَمُّنٍ"، [2] وأنَّ "هذه السورة على إيجازها، قد احتوَتْ على ما لَم تَحْتَوِ عليه سورةٌ من سُوَرِ القرآن". [3] وأنَّ "في الفاتحة ما ليس في غيرِها؛ حتى قيل: إنَّ جميعَ القرآنِ فيها"؛[4] ولذلك أكَّدُوا أنَّ "مَن تحققَ بمعاني الفاتحة عِلماً ومعرفةً وعَملاً وحالاً؛ فقد فاز مِن كَمالِه بأوفَرِ نَصِيبٍ، وصارتْ عُبوديَّتُه عُبوديةَ الخاصَّة الذين ارتفعَتْ درجتُهم عن عوامِّ المتعبِّدين". [5]
1) فليس الحمدُ قاصِراً على تسمِيةِ الفاتحة بسورة (الحمد)؛ بل الحمدُ يكتنفُ السورةَ كلَّها مِن مَطلَعِها إلى خِتامِها؛ ويمثل مع الدعاء مِحْوَرَين مُتكامِلَين للسورةِ؛ ولذلك ذكر النووي - رحمه الله - أنها سُمِّيَتْ: "سورة الحمد؛ لأنَّ فيها الحمد". [6] فقد اختصَّ الحمدُ والثناءُ والتمجيدُ بالنصف الأولِ من السورة، وكان ذلك تمهيداً للنصفِ الآخر؛ وهو الدعاء.
فـ(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ)[7] تَعنِي افتِقارَ العَبدِ إلى رحمةِ الله - عز وجل -، ولله دَرُّ الرازي - رحمه الله - حيث قال: "إنَّ قولَه: (بسم الله الرحمن الرحيم) يتعلَّقُ بِفِعلٍ لا بُدَّ مِن إضْمارِه. والتقديرُ: بإعانةِ اسمِ اللهِ اشْرَعُوا في الطاعات ـ أو ما يجري مجرى هذا المُضْمَر ـ ولا شك أن استماعَ هذه الكلمة يُنبِّه العقلَ على أنه لا حولَ عن معصيةِ اللهِ إلا بعِصْمةِ الله، ولا قوةَ على طاعةِ الله إلا بتوفيقِ الله. ويُنبِّه العقلَ على أنه لا يتمُّ شيءٌ مِن الخيراتِ والبركاتِ إلا إذا وقعَ فيه الابتداءُ بذِكرِ اللهِ. ومِن المعلومِ أنَّ المقصودَ من جميعِ العباداتِ والطاعاتِ حُصُولُ هذه المعاني في العُقول؛ فإذا كان له هذه الكلمة يُفيدُ هذه الخيرات الرفيعة والبركات العالية؛ دخل هذا القائلُ تحت قولِه: (كنتم خيرَ أُمةٍ أُخرِجَتْ للناسِ تأمُرون بالمعروفِ وتنهَوْنَ عن المُنكَرِ)؛ لأن هذا القائلَ بسبب إظهارِ هذه الكلمةِ أمر بما هو أحسن أنواعِ الأمرِ بالمعروفِ، وهو الرُّجوعُ إلى الله بالكُلِّيَّةِ والاستعانةِ به في كلِّ الخيرات". [8]
ورَحِمَ الله ابن عبد الوهاب حيث قال: "أما البَسمَلةُ فمَعناها: أدخُلُ في هذا الأمرِ مِن قِراءةٍ أو دُعاءٍ أو غيرِ ذلك (بسم الله) لا بِحَوْلِي ولا بِقُوَّتِي، بل أفعلُ هذا الأمرَ مُستَعِيناً بالله، ومُتبرِّكاً باسمِه تبارك وتعالى، هذا في كل أمرٍ تُسَمِّي في أوَّلِه مِن أمرِ الدِّينِ أو أمرِ الدنيا، فإذا أحْضَرتَ في نفسِك أنَّ دُخولَك في القراءةِ بالله مُستعيناً به، مُتبرِّئاً مِن الحولِ والقوةِ؛ كان هذا أكبرَ الأسبابِ في حُضُورِ القَلبِ، وطَردِ الموانِعِ مِن كلِّ خَير". [9](/1)
ولهذا المعنى جاءت البسملة مُصاحبةً لكثيرٍ من أعمالِ المسلم وسلوكِه، مما يؤكِّد افتقارَ المسلمِ إلى رحمةِ مولاه في كلِّ حينٍٍ، كما قال القرطبي - رحمه الله -: "نَدَبَ الشرعُ إلى ذِكْرِ البسملةِ في أولِ كلِّ فعلٍ: كالأكلِ والشُّربِ والنَّحرِ والجِماعِ والطهارةِ ورُكوبِ البحرِ إلى غيرِ ذلك من الأفعالِ قال الله - تعالى -: (فكُلُوا مما ذُكِرَ اسمُ الله عليه)، وقال: (ارْكَبُوا فيها بسم الله مجريها ومرساها)، وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: (أغلِقْ بابَك واذكُرِ اسمَ الله، وأطفىءْ مِصباحَك واذكُرِ اسمَ الله، وخَمِّرْ إناءك واذكُرِ اسمَ الله، وأوْكِ سِقاءك واذكُرِ اسمَ الله). وقال: (لو أنَّ أحدَكم إذا أرادَ أن يأتِيَ أهلَه قال: بسم الله؛ اللهم جَنِّبْنا الشيطانَ وجَنِّبْ الشيطانَ ما رزقتَنا؛ فإنه إنْ يُقدَّرْ بينهما ولدٌ في ذلك؛ لم يضرَّهُ شيطانٌ أبداً). وقال لعُمَر بن أبي سلمة: (يا غلامُ سَمِّ اللهَ، وكُلْ بِيَمينِك، وكُلْ مِما يَلِيك)، وقال: (إنَّ الشيطانَ لَيَسْتَحِلُّ الطعامَ ألا يُذكَرَ اسمُ الله عليه)، وقال: (مَنْ لم يذبحْ فلْيذبحْ باسم الله)، وشكا إليه عثمان بن أبي العاص وَجَعاً يجده في جسدِه منذ أسلم؛ فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: (ضعْ يدَك على الذي تألم من جسدِك وقلْ: (بسم الله) ثلاثاً، وقلْ سبعَ مرات: أعُوذُ بعزةِ الله وقُدرتِه مِن شرِّ ما أجِدُ وأحاذِرُ). هذا كلُّه ثابتٌ في الصحيح". [10]
وما أحسنَ قولَ الرازي - رحمه الله -: "إنَّ نُوحاً - عليه السلام - لما ركبَ السفينةَ قال: (بسم الله مجراها ومرساها)؛ فوجدَ النجاةَ بنصفِ هذه الكلمة؛ فمَن واظبَ على هذه الكلمةِ طُولَ عُمرِه كيفَ يَبقَى مَحروماً مِن النجاة؟ وأيضاً إنَّ سليمان - عليه السلام - نالَ مملكةَ الدنيا والآخرة بقولِه: (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم)؛ فالْمَرْجُوُّ أنَّ العبدَ إذا قاله فاز بمُلكِ الدنيا والآخرة". [11]
2) وأما (الرحمن الرحيم) فاسمان يقتضيان حمدَ الله - عز وجل -؛ لأنهما ينطِقان بنعمةِ الله ورحمتِه؛ فكلما أثْنَى به العبدُ على مولاه؛ تعرَّضَ لمزيدِ رحمتِه وعنايتِه، كما قال السعدي - رحمه الله -: "اسمان دالان على أنه - تعالى -ذو الرحمةِ الواسِعةِ العظيمةِ التي وَسِعَتْ كلَّ شَيءٍ، وعَمَّتْ كلَّ حيٍّ، وكَتبَها لِلمُتقِين المتبِعِين لأنبيائه ورُسُلِه؛ فهؤلاء لهم الرحمةُ المطلقة، ومَن عَداهم فلهم نصيبٌ منها". [12] ومعلومٌ أنه "مِن القَواعِدِ المتفَقِ عليها بين سَلَفِ الأمةِ وأئمتِها: الإيمان بأسماءِ الله وصفاتِه، وأحكامِ الصفات؛ فيؤمِنون مثلاً بأنه (رحمن رحيم)، ذو الرحمةِ التي اتَّصَفَ بها، المتعلِّقة بالمرحومِ؛ فالنِّعَمُ كلُّها أثَرٌ مِن آثارِ رَحمتِه، وهكذا في سائرِ الأسماء". [13]
ورَحِمَ الله صاحبَ الظلالِ حيث قال: "والبَدْءُ باسْمِ الله هو الأدَبُ الذي أوْحَى الله لِنَبيِّه في أولِ ما نَزَلَ مِن القرآنِ باتفاقٍ، وهو قولُه - تعالى -: (اقرأ باسمِ ربِّك). وهو الذي يتفقُ مع قاعدةِ التصوُّرِ الإسلامي الكبرى: مِن أنَّ اللهَ (هو الأوَّلُ والآخِرُ والظاهِرُ والباطِنُ). فهو - سبحانه - الموجودُ الحقُّ الذي يَسْتَمِدُّ منه كلُّ مَوجودٍ وُجُودَه، ويبدأ منه كل مبدوء بدأه؛ فبِاسْمِه إذن يكونُ كلُّ ابتداء، وباسْمِه إذن تكونُ كلُّ حركةٍ وكلُّ اتجاه. ووَصْفُه - سبحانه - في البدءِ بـ(الرحمن الرحيم) يَستَغرِقُ كلَّ معاني الرَّحمةِ وحالاتها...وإذا كان البدءُ (بسم الله) وما ينطوي عليه من توحيدٍ للهِ وأدبٍ معه يمثل الكليةَ الأولى في التصوُّرِ الإسلامي؛ فإنَّ استِغراقَ معاني الرَّحمةِ وحالاتها ومجالاتها في صِفَتَيْ (الرحمن الرحيم) يُمثِّلُ الكليةَ الثانية في هذا التصوُّرِ، ويقرِّرُ حقيقةَ العلاقةِ بين اللهِ والعِباد".[14]
3) ثم مِن بعد ذلك يجيء التصريحُ بالحمد، [15] وهو ـ مع الدعاء ـ المحورُ الذي تدور عليه سورة الفاتحة: (الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). [16] ورَحِم الله سيد قطب حيث قال: "وعَقِبَ البدءِ (بسم الله الرحمن الرحيم) يجيء التوجُّهُ إلى الله بـ(الحمد) ووَصْفُه بالرُّبُوبِيةِ المطلَقةِ للعالَمِين: (الحمد لله رب العالمين). والحمد لله هو الشعور الذي يفيضُ به قلبُ المؤمنِ بمجرَّدِ ذِكرِه لله؛ فإنَّ وُجودَه ابتداءً ليس إلا فَيضاً مِن فُيوضاتِ النِّعمةِ الإلهيةِ التي تَسْتَجِيشُ الحمدَ والثناءَ. وفي كلِّ لَمْحةٍ وفي كلِّ لَحظةٍ وفي كلِّ خطوةٍ تتوالى آلاءُ الله وتتواكبُ وتتجمَّعُ وتغمُرُ خَلائقَهُ كلَّها، وبخاصةٍ هذا الإنسان؛ ومِن ثَمَّ كان (الحمد لله) ابتداء، وكان (الحمد لله) خِتاماً قاعِدةً مِن قواعِدِ التصوُّرِ الإسلامي المباشِر: (وهو الله لا إله إلا هو له الحمدُ في الأولى والآخرة)". [17](/2)
ولله دَرُّ ابن عاشور - رحمه الله - ما أحسنَ قولَه: "لما لُقِّنَ المؤمنون هاته المناجاةَ البديعة التي لا يهتدي إلى الإحاطةِ بها في كلامِه غيرُ عَلاَّمِ الغُيوبِ - سبحانه - قُدِّمَ (الحمد) عليها؛ لِيضعَه المناجُون كذلك في مُناجاتِهم جرياً على طريقةِ بُلَغاءِ العربِ عند مُخاطبةِ العظماءِ أنْ يَفْتَتِحُوا خِطابَهم إياهم وطِلْبَتَهم بالثناءِ والذِّكرِ الجميل. قال أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان:
أأذكُرُ حاجتي أم قدْ كفاني =حَياؤك إنَّ شِيمَتَك الحياءُ
إذا أثْنَى عليكَ المرءُ يوماً =كفاه عن تعرُّضِهِ الثناءُ!
فكان افتتاحُ الكلامِ بالتَّحميدِ سُنَّةَ الكتابِ المجيدِ لِكلِّ بَلِيغٍ مُجِيدٍ؛ فلم يَزَلْ المسلمون مِن يومِئذ يُلَقِّبُون كلَّ كلامٍ نَفِيسٍ لم يَشتمِلْ في طالعِه على الحمدِ بالأبْتَر". [18]
4) فالابتداءُ بالحمدِ شهادةٌ لله جلَّ جَلالُه بجميعِ المحامدِ، كما قال الرازي - رحمه الله -: "الذي يُحمَدُ ويُمدَح في الدنيا؛ إنما يكون كذلك لِوُجوهٍ أربعةٍ: إما لكونِه كامِلاً في ذاتِه وفي صِفاتِه مُنَزَّهاً عن جميعِ النقائصِ والآفات، وإن لم يكنْ منه إحسانٌ إليك، وإما لكونِه مُحْسِناً إليك ومُنْعِماً عليك، وإما لأنك تَرْجُو وُصُولَ إحْسانِه إليك في المستقبَل مِن الزمان، وإما لأجْلِ أنك تكونُ خائفاً مِن قَهرِه وقُدرتِه وكمالِ سَطوتِه؛ فهذه الحالاتُ هي الجِهاتُ الموجبةُ للتعظيم؛ فكأنه - سبحانه وتعالى - يقول: إنْ كنتم ممن تُعظِّمون الكمالَ الذاتيَّ؛ فاحمدوني فأني إلهُ العالمين، وهو المرادُ من قوله: (الْحَمْدُ لله)، وإنْ كُنتم ممن تُعظِّمون الإحسانَ؛ فإني (رب العالمين)، وإنْ كنتُم تُعظِّمون للطمعِ في المستقبل؛ فأنا (الرحمن الرحيم)، وإن كنتم تُعظِّمون للخوفِ؛ فأنا (مالك يومِ الدين)". [19]
5) والحمدُ زِينةُ الفَضائلِ وعَلامةُ الفِقهِ بِصِفاتِ الله - عز وجل -، ولله درُّ ابن عاشور حيث قال: "إنَّ الذي لَقَّنَ أهلَ القرآنِ ما فيه جِماعُ طَرائقِ الرُّشدِ بوجهٍ لا يُحِيطُ به غيرُ علامِ الغُيوب؛ لم يُهْمِلْ إرشادَهم إلى التحلِّي بزينةِ الفضائلِ وهي أن يقدروا النِّعمةَ حقَّ قَدرِها بشُكرِ المنعِم بها؛ فأراهم كيف يُتوِّجُون مُناجاتِهم بحمدِ واهبِ العقلِ ومانِحِ التوفيقِ؛ ولذلك كان افتِتاحُ كلِّ كلامٍ مُهِمٍّ بالتحمِيدِ سُنةَ الكتابِ المجيدِ". [20]
قال الرازي - رحمه الله -: "اعلمْ أنَّ تربيتَه - تعالى -لخلقِه مُخالِفةٌ لتربيةِ غيرِه، وبيانُه مِن وجوهٍ:
الأول: ما ذكرناه أنه - تعالى -يُربِّي عبيدَه لا لغرضِ نفسِه؛ بل لغرضِهم، وغيرُه يربُّون لغرضِ أنفسِهم؛ لا لغرضِ غيرِهم.
الثاني: أنَّ غيرَه إذا ربَّى فبقدرِ تلك التربيةِ يظهرُ النقصانُ في خزائنِه وفي مالِه وهو - تعالى -مُتعالٍ عن النقصانِ والضرر، كما - تعالى -: (وإنْ مِن شيءٍ إلا عندَنا خَزائنُه وما نُنَزِّلُه إلا بِقَدَرٍ مَعلُوم).
الثالث: أنَّ غيرَه من المحسنين إذا ألحَّ الفقيرُ عليه أبغضَه وحرَمَه ومنَعَه؛ والحقُّ - تعالى -بخلافِ ذلك، كما قال - عليه الصلاة والسلام -: (إنَّ الله - تعالى -يحب الملحِّين في الدعاء).
الرابع: أنَّ غيرَه من المحسنين ما لم يُطلَبْ منه الإحسانُ لم يُعطِ؛ أما الحقُّ - تعالى -فإنه يُعطي قبلَ السؤال؛ ألا ترى أنَّه ربَّاك حالَ ما كنتَ جنيناً في رَحِمِ الأمِّ وحالَ ما كنتَ جاهِلاً غيرَ عاقلٍ، لا تُحْسِن أن تسألَ منه ووقاك وأحسنَ إليك مع أنك ما سألتَه وما كان لك عقلٌ ولا هدايةٌ.
الخامس: أنَّ غيرَه مِن المحسنين ينقطعُ إحسانُه إما بسببِ الفقرِ أو الغَيبةِ أو الموت؛ والحقُّ - تعالى -لا يَنقطعُ إحسانُه البتة.
سادساً: أنَّ غيرَه مِن المحسنين يختصُّ إحسانُه بقومٍ دون قومٍ، ولا يُمكِنُه التعميم؛ أما الحقُّ - تعالى -فقد وَصَلَ تَربيتَه وإحسانَه إلى الكُلِّ، كما قال: (ورَحْمَتي وَسِعَتْ كلَّ شيء)؛ فثبت أنه - تعالى -ربُّ العالمين، ومُحْسِنٌ إلى الخلائقِ أجمعين؛ فلهذا قال - تعالى -في حقِّ نفسِه: (الحمد لله ربِّ العالمين)". [21]
قال سيد قطب - رحمه الله -: "ومع هذا يَبلُغُ مِن فضلِ اللهِ - سبحانه - وفَيضِه على عَبدِه المؤمن، أنه إذا قال: الحمد لله كتبها له حسنة ترجح كل الموازين. في سنن ابن ماجه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثهم أنَّ عبداً من عباد الله قال: (يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك)؛ فعضلت الملكين فلم يدريا كيف يكتبانها. فصعدا إلى الله فقالا: يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها. قال الله وهو أعلم بما قال عبده: وما الذي قال عبدي؟ قالا: يا رب، إنه قال: لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها". [22](/3)
6) فالحمدُ شهادةٌ لله - عز وجل - بالربوبيةِ؛ فإنَّ "الرَّب: هو المُربِّي جميعَ العالمين، وهم مَن سِوى اللهِ بِخَلْقِه لهم، وإعدادِه لهم الآلاتِ، وإنعامِهِ عليهم بالنِّعَمِ العظيمة، التي لو فَقَدُوها لم يُمْكِن لهم البقاء، فما بهم مِن نعمةٍ فمنه تعالى". [23] ومن هنا تظهر أهميةُ الحمدِ من الناحيةِ العَقَدية، كما قال سيد قطب - رحمه الله -: "الرُّبوبيةُ المُطلَقة هي مَفْرِقُ الطريقِ بين وُضوحِ التوحيدِ الكامِلِ الشامِلِ، والغَبَشِ الذي يَنشَأ مِن عدمِ وُضوحِ هذه الحقيقةِ بصورتِها القاطعة. وكثيراً ما كان الناسُ يجمعون بين الاعترافِ بالله بِوَصْفِهِ الْمُوجِد الواحِد للكونِ، والاعتقادِ بتعدُّدِ الأربابِ الذين يَتحكَّمُون في الحياة... فإطلاقُ الرُّبُوبيةِ في هذه السورةِ وشمولُ هذه الربوبيةِ للعالمين جميعاً: هي مَفرِقُ الطريقِ بين النظامِ والفَوْضَى في العقيدة؛ لتتَّجِهَ العَوالِمُ كلُّها إلى ربٍّ واحدٍ تُقِرُّ له بالسيادةِ المُطلَقة... ثم ليطمئن ضَمِيرُ هذه العوالمِ إلى رِعايةِ اللهِ الدائمةِ ورُبُوبيَّتِه القائمة، وإلى أنَّ هذه الرِّعايةَ لا تنقطِعُ أبداً ولا تفترُ ولا تَغيب". [24]
قال سيد قطب - رحمه الله -: "التوجُّهُ إلى اللهِ بالحمدِ يُمثِّلُ شُعورَ المؤمنِ الذي يَستَجِيشُه مُجرَّدُ ذِكرِه للهِ... والله - سبحانه - لم يخلُقْ الكونَ ثم يتركُه هملاً؛ إنما هو يَتصرَّفُ فيه بالإصلاحِ ويرعاهُ ويُربِّيهِ. وكلُّ العوالِمِ والخلائقِ تُحفَظُ وتُتعهَّد برعايةِ الله (رب العالمين). والصِّلةُ بين الخالِقِ والخلائقِ دائمةٌ مُمْتَدةٌ قائمةٌ في كلِّ وَقتٍ وفي كلِّ حالة". [25]
7) ولو تأملنا هذه الرُّبوبيةَ المذكورةَ في الآية مُقترنةً بالحمدِ ومَشفوعةً بالرحمة؛ لأدركنا أنَّ الحمدَ ينبع مِن الشعورِ برحمةِ الله وتربيتِه للخلقِ، كما قال السعدي - رحمه الله -: "تربيتُه - تعالى -لِخَلقِه نوعان: عامةٌ وخاصةٌ. فالعامة: هي خَلقُه للمخلوقين، ورِزقُهم، وهِدايتُهم لما فيه مَصالِحُهم، التي فيها بقاؤهم في الدنيا. والخاصة: تربيتُه لأوليائه، فيربِّيهم بالإيمانِ، ويُوفِّقُهم له، ويُكمِّلُه لهم، ويدفعُ عنهم الصوارفَ والعوائقَ الحائلةَ بينَهم وبَينَه. وحقيقتُها: تربيةُ التوفيقِ لكلِّ خيرٍ، والعصمةِ مِن كلِّ شَرٍّ؛ ولعلَّ هذا المعنَى هو السِّرُّ في كَوْنِ أكثرِ أدعيةِ الأنبياءِ بلفظِ الربِّ؛ فإنَّ مَطالِبَهم كلَّها داخِلةٌ تحت رُبوبِيَّتِه الخاصَّة. فدلَّ قولُه: (ربّ العالمين) على انفرادِه بالخلقِ والملكِ والتدبيرِ والنِّعَمِ، وكمالِ غِناه، وتمامِ فقرِ العالمين إليه بكلِّ وَجهٍ واعْتِبارٍ". [26](/4)
8) فالحمدُ في غايةِ الأهمية لِلعبدِ لِتعلُّقِه بِصِفاتِ الله جلَّ جلالُه وأثر هذه الصفاتِ على الخلقِ؛ وقد أحسنَ سيد قطب حيث أوضحَ ذلك بقولِه: "كانت عِنايةُ الإسلامِ الأُولى مُوَجَّهةً إلى تحريرِ أمرِ العقيدة، وتحديدِ التصوُّرِ الذي يستقرُّ عليه الضميرُ في أمرِ اللهِ وصِفاتِه، وعلاقتِه بالخلائقِ، وعلاقةِ الخلائقِ به على وجهِ القطعِ واليقينِ؛ ومِن ثَمَّ كان التوحيدُ الكاملُ الخالصُ المُجرَّدُ الشامل، الذي لا تَشوبُه شائبةٌ مِن قريبٍ ولا من بعيدٍ هو قاعدة التصوُّر التي جاء بها الإسلام، وظَلَّ يَجْلُوها في الضَّمير، ويتتبعُ فيه كلَّ هاجِسةٍ وكلَّ شائبةٍ حولَ حقيقةِ التوحيد؛ حتى يُخلِّصَها مِن كلِّ غَبَشٍ، ويَدَعَها مَكِينَةً راكِزةً لا يَتطرَّقُ إليها وَهْمٌ في صُورةٍ مِن الصُّوَر... والذي يراجع الجهدَ المتطاول الذي بذله الإسلامُ لتقريرِ كلمةِ الفصلِ في ذاتِ اللهِ وصِفاتِه وعَلاقتِه بمخلوقاتِه، هذا الجهد الذي تُمثِّلُه النصوصُ القرآنية الكثيرة، الذي يراجعُ هذا الجهدَ المتطاول دون أن يُراجعَ ذلك الرُّكامَ الثقيلَ في ذلك التِّيهِ الشامِلِ الذي كانت البشريةُ كلُّها تَهِيمُ فيه؛ قد لا يُدْرِك مدى الحاجةِ إلى كلِّ هذا البيانِ المؤكَّد المُكرَّر، وإلى كلِّ هذا التدقيقِ الذي يتتبعُ كلَّ مَسالكِ الضَّمِير. ولكن مراجعة ذلك الرُّكام تكشِفُ عن ضرورةِ ذلك الجهدِ المتطاول، كما تكشفُ عن مدى عَظمةِ الدَّوْرِ الذي قامَت به هذه العقيدةُ وتقومُ في تحريرِ الضميرِ البشري وإعْتاقِه وإطْلاقِه مِن عناءِ التخبُّطِ بين شتَّى الأرْبابِ وشتَّى الأوْهامِ والأساطِيرِ! وإنَّ جَمالَ هذه العقيدةِ وكمالَها وتناسُقَها وبَساطةَ الحقيقةِ الكبيرةِ التي تُمثِّلُها. كلُّ هذا لا يَتجلَّى للقلبِ والعقلِ كما يَتجلَّى مِنْ مُراجعةِ رُكامِ الجاهليةِ مِن العقائدِ والتصوُّراتِ والأساطيرِ والفلسفاتِ! وبخاصة موضوع الحقيقة الإلهية وعلاقتها بالعالم. عندئذ تبدو العقيدةُ الإسلامية رحمةً، رحمةً حقيقيةً للقلبِ والعقلِ، رحمة بما فيها مِن جَمالٍ وبساطةٍ ووُضوحٍ وتناسُقٍ وقُرْبٍ وأُنْسٍ وتَجاوُبٍ مع الفِطرةِ مُباشِرٍ عَميقٍ" في ظلال القرآن 1/23-24.
9) ثم يأتي ذِكْرُ الرحمةِ مؤكَّداً مِن جَديدٍ في صِفَتَيْ: (الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ). [27] قال سيد قطب - رحمه الله -: "(الرحمن الرحيم) هذه الصفة التي تستغرقُ كلَّ معاني الرحمةِ وحالاتِها ومَجالاتِها تتكرَّرُ هنا في صُلْبِ السورةِ في آيةٍ مُستقلةٍ؛ لتؤكِّدَ السِّمةَ البارِزةَ في تلك الرُّبوبية الشامِلة؛ ولِتُثْبتَ قَوائمَ الصِّلةِ الدائمةِ بين الرَّبِّ ومَرْبُوبِيه، وبين الخالقِ ومَخلوقاتِه. إنها صلةُ الرحمةِ والرِّعايةِ؛ التي تَستجِيشُ الحمدَ والثناءَ. إنها الصِّلةُ التي تقومُ على الطمأنينةِ وتنبضُ بالمودةِ؛ فالحمدُ هو الاستجابةُ الفِطريةُ للرَّحمةِ النَّدِيةِ. إنَّ الربَّ الإلهَ في الإسلامِ لا يُطارِدُ عِبادَه مُطارَدةَ الخصومِ والأعداءِ كآلهةِ (الأولمب) في نَزَواتِها وثَوْراتِها كما تُصوِّرُها أساطِيرُ الإغريق. ولا يُدبِّرُ لهم المكايدَ الانتقاميَّة كما تزعُمُ الأساطيرُ المزوَّرة في (العهدِ القديم) كالذي جاء في أسطورةِ بُرج بابل في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين". [28]
قال الشنقيطي - رحمه الله -: "قوله - تعالى -: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) هما وَصفان للَّهِ - تعالى -، واسمان من أسمائه الحسنى، مُشتَقان مِن الرحمةِ على وجهِ المبالغة، و(الرحمن) أشدُّ مُبالغةً من (الرَّحِيم)؛ لأنَّ (الرحمن) هو ذو الرحمةِ الشامِلة لجميعِ الخلائقِ في الدنيا، وللمؤمنين في الآخرة، و(الرحيم) ذو الرحمةِ للمؤمنين يومَ القيامة. وعلى هذا أكثرُ العلماء. وفي كلامِ ابنِ جرير ما يُفهَمُ منه حكايةُ الاتفاقِ على هذا. وفي تفسيرِ بعضِ السلفِ ما يدلُّ عليه، كما قاله ابنُ كثير". [29](/5)
ولله دَرُّ ابنِ القيم حيث قال: "قد جَمَعَت الفاتحةُ الوَسِيلَتَيْن: وهما التوسُّلُ بالحمدِ والثناءِ عليه وتَمْجيدِه، والتوسُّلُ إليه بِعُبُودِيَّتِهِ وتَوحِيدِهِ. ثم جاء سؤالُ أهَمِّ المطالِبِ وأنْجَحِ الرغائب: وهو الهدايةُ بعد الوَسِيلَتَين؛ فالدَّاعي به حَقِيقٌ بالإجابة. ونظيرُ هذا: دُعاءُ النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يدعُو به إذا قام يُصلِّي من الليل، رواه البخاري في صحيحِه من حديث ابن عباس: (اللهم لك الحمد؛ أنتَ نُورُ السمواتِ والأرضِ ومَن فِيهِنَّ. ولك الحمدُ؛ أنتَ قَيُّومُ السمواتِ والأرضِ ومَن فِيهِنَّ. ولك الحمدُ؛ أنتَ الحقُّ، ووَعْدُك الحقُّ، ولقاؤك حَقٌّ، والجنة حقٌّ، والنارُ حَقٌّ، والنبيُّون حقٌّ، والساعةُ حَقٌّ، ومحمد حقٌّ. اللهم لكَ أسلمتُ، وبك آمَنتُ، وعليكَ توكَّلْتُ، وإليكَ أنَبْتُ. وبك خاصَمتُ، وإليك حاكَمْتُ؛ فاغْفِرْ لي ما قَدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسْرَرْتُ وما أعْلَنْتُ، أنتَ إلهي لا إلهَ إلا أنتَ)؛ فذَكَرَ التوسُّلَ إليه بِحَمْدِه والثناءِ عليهِ وبعُبوديَّتِه له. ثم سألَهُ المغفرة". [30]
وما أحسنَ ما قاله البيضاوي - رحمه الله -: "إنما خَصَّ التسميةَ بهذه الأسماء؛ لِيَعلمَ العارفُ أنَّ المستحِقَّ لأنْ يُسْتَعانَ به في مَجامِعِ الأُمور، هو المعبودُ الحقيقيُّ الذي هو مَوْلَى النِّعَمِ كلِّها عاجِلِها وآجِلِها جَلِيلِها وحَقِيرِها؛ فيتوجَّهُ بشَراشِرِه إلى جَنابِ القُدُس، [31] ويَتمسَّكُ بِحَبْلِ التوفيقِ، ويَشغلُ سِرَّه بِذِكْرِهِ والاسْتِعْدادِ به عن غيرِه". [32]
10) وأما الآية الرابعة: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فتمثل إشارةً إلى يومِ الجزاء: حيث الجنة للسعداء، والنار للأشقياء. قال الشنقيطي - رحمه الله -: "(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) لم يُبَيِّنْهُ هنا، وبَيَّنَهُ في قولِه: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدّينِ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً). والمرادُ بالدِّين في الآيةِ الجزاء. ومنه قولُه - تعالى -: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ)، أي جزاء أعمالهم بالعدل". [33]
فذِكرُ يومِ الدِّينِ قَطْعٌ لأماني الجاحِدِين الذين يعرفون نعمةَ الله ثم يُنكِرُونها ولا يشكرون الله عليها، كما قال سيد قطب - رحمه الله -: "(مالك يوم الدين) تُمثِّلُ الكلِّيَّةَ الضَّخمةَ العميقةَ التأثيرِ في الحياةِ البشريةِ كلِّها: كُلية الاعتقادِ بالآخرة. والمُلْكُ أقصَى درجاتِ الاستيلاءِ والسيطرةِ. و(يوم الدين) هو يومُ الجزاءِ في الآخرة. وكثيراً ما اعتقدَ الناسُ بألُوهِيةِ اللهِ وخَلْقِه للكونِ أولَ مَرةٍ؛ ولكنَّهم مع هذا لم يَعتقدُوا بيومِ الجزاءِ. والقرآنُ يقولُ عن بعضِ هؤلاء: (ولئن سَألْتَهم مَن خَلَقَ السماواتِ والأرضَ لَيَقُولن الله)، ثم يحكي عنهم في موضع آخر: (بل عَجِبُوا أنْ جاءهم مُنْذِرٌ مِنهم فقال الكافرون: هذا شيءٌ عَجِيبٌ أئذا مِتْنا وكُنا تُراباً ذلك رَجعٌ بَعِيد)"! [34] وقال السعدي - رحمه الله -: "(المالك) هو مَن اتَّصَفَ بصفةِ الملك التي مِن آثارِها أنه يأمُرُ ويَنْهَى، ويُثِيبُ ويُعاقِب، ويَتصرَّفُ بِمَمالِيكِه جميعَ التصرُّفات. وأضاف الملك لـ(يوم الدين)، وهو يوم القيامة، يومَ يُدَان الناسُ فيه بأعمالِهم خَيْرِها وشَرِّها؛ لأنَّ في ذلك اليومِ يظهرُ للخلقِ تمامَ الظُّهورِ كَمالُ مُلْكِهِ وعَدْلِهِ وحِكْمَتِهِ، وانقطاعُ أملاكِ الخلائقِ؛ حتى إنه يستوي في ذلك اليومِ الملوكُ والرَّعايا والعبيدُ والأحرارُ. كلُّهم مُذْعِنُون لِعَظَمَتِه، خاضِعُون لِعِزَّتِه، مُنْتَظِرُون لِمُجازاتِه، راجُون ثَوابَه، خائفُون مِن عِقابِه؛ فلذلك خَصَّه بالذِّكْرِ، وإلا فهو المالكُ لِيَومِ الدِّينِ ولغيرِه من الأيام". [35]
ورَحِمَ الله ابن عبد الوهاب حيث قال: "فمن عَرفَ تفسيرَ هذه الآية، وعَرَفَ تخصيصَ الملكِ بذلك اليوم، مع أنه - سبحانه - مالكُ كلِّ شيءٍ ذلك اليومَ وغيره، عرفَ أنَّ التخصِيصَ لهذه المسألة الكبيرة العظيمة التي بسبب مَعرفتِها دَخلَ الجنةَ مَن دَخَلَها، وبسببِ الجهلِ بها دَخلَ النارَ مَن دَخَلَها؛ فَيالَهَا مِن مسألةٍ لو رَحَلَ الرجلُ فيها أكثرَ مِن عشرين سنةً لم يُوَفِّها حَقَّها". [36] وقال البغوي - رحمه الله -: "إنما خَصَّ (يوم الدِّين) بالذِّكْرِ مع كَوْنِهِ مالِكاً للأيامِ كلِّها؛ لأنَّ الأملاكَ يومَئذٍ زائلةٌ فلا مُلكَ ولا أَمرَ إلا له، قال الله - تعالى -: (الملكُ يومَئذٍ الحقُّ للرحمن)، [37] وقال: (لِمَن الملكُ اليومَ للهِ الواحِدِ القَهار)، [38] وقال: (والأمْرُ يومَئذ لله)[39]". [40](/6)
11) وقد بَيَّنَ العلماء أنَّ ذِكْرَ رُبُوبِيةِ الله للعالَمِين ورحمتِه ومُلكِه يوم الدينِ لبيانِ أنه جلَّ جلاله أحَقُّ بالحمد؛ بخلافِ غيرِه ممن لا يستحقُّ ذلك. قال النسفي - رحمه الله -: "هذه الأوصافُ التي أُجْرِيَتْ على اللهِ - سبحانه وتعالى - مِن كَوْنِهِ رَباًّ أي مالِكاً للعالمين ومُنعِماً بالنِّعَمِ كُلِّها ومالِكاً للأمرِ كلِّه يوم الثواب والعقاب بعد الدلالة على اختصاصِ الحمد به في قولِه: (الحمْدُ للَّهِ)؛ دليلٌ على أنَّ مَنْ كانت هذه صفاته لم يكنْ أحدٌ أحقَّ منه بالحمدِ والثناءِ عليه". [41] وذكر البيضاوي أنه "للإشْعارِ مِن طريقِ المفهومِ على أنَّ مَنْ لم يَتصِفْ بتلك الصفاتِ لا يستأهِلُ أنْ يُحْمَدَ فضلاً عن أن يُعبَدَ". [42]
12) وفي الآية الخامسة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) تأتي العبادةُ والاستِعانةُ ثَمرَتين لذلك الحمدِ المتقدِّم، والمعنى: يا أيها المحمودُ بكلِّ صِفاتِ الحمدِ والثناءِ نتوجهُ إليك يا ربَّنا بالعبادة ونستمد منك الإعانة، كما قال البغوي - رحمه الله -: "قوله: (نعبد): أي نُوَحِّدُك ونُطيعُك خاضِعِين، والعبادةُ: الطاعةُ مع التذلُّلِ والخضوع؛ وسُمِّيَ العبدُ عبداً لِذِلَّتِه وانقيادِه، يقال: طريقٌ مُعبَّدٌ أي مُذَلَّل". [43] وقال السعدي - رحمه الله -: "أي نَخُصُّك وَحدَك بالعبادةِ والاستِعانة". [44] وقال النسفي - رحمه الله -: "المعنى نخصُّك بالعبادة وهي أقصَى غايةِ الخضوعِ والتذلُّلِ، ونَخُصُّك بِطَلبِ المَعُونة؛ وعَدَلَ عن الغَيْبةِ إلى الخطابِ للالتفات... ومما اختصَّ به هذا الموضعُ أنه لما ذكَرَ الحقيقَ بالحمدِ والثناء، وأجْرَى عليه تلك الصِّفاتِ العِظامَ تعلَّقَ العِلمُ بِمَعلومٍ عظيمِ الشأنِ حقيقٍ بالثناءِ وغايةِ الخضوعِ والاستعانةِ في المهماتِ؛ فخُوطِبَ ذلك المعلومُ المتميِّزُ بتلك الصفاتِ فقيل: إياك يا مَن هذه صفاتُه نَعبد ونستعينُ لا غيرك. وقُدِّمَت العبادةُ على الاستعانة لأنَّ تقديمَ الوسيلةِ قبلَ طلبِ الحاجةِ أقربُ إلى الإجابة". [45]
13) فهذا مقامٌ عَظيمٌ لِمَعرفةِ الله - عز وجل - بِصفاتِ الكمال وإدراكِ حقيقةِ النفسِ؛ "فإنَّ الحامِدَ لما حمد الله - تعالى -ووَصفَه بعظيمِ الصفاتِ بلغَتْ به الفكرةُ مُنتهاها؛ فتخيَّلَ نفسَه في حَضرةِ الرُّبُوبِيَّة؛ فخاطَبَ ربَّه بالإقبالِ". [46] ورحمَ الله ابن القيم حيث قال: "لله درُّ أبي مَدْيَن حيث يقول: مَنْ تحقَّقَ بالعُبودية؛ نظرَ أفعالَه بعينِ الرِّياءِ، وأحوالَه بعينِ الدَّعْوى، وأقوالَه بعينِ الافتِراء. وكلَّما عَظُمَ المطلوبُ في قلبِك؛ صَغرتْ نفسُك عندك، وتضاءلَت القِيمةُ التي تبذُلها في تحصيلِه، وكلَّما شَهِدْتَ حَقِيقةَ الرُّبوبية وحَقيقةَ العُبودية وعَرفتَ اللهَ وعَرفتَ النَّفسَ؛ وتَبيَّنَ لك أنَّ ما معك مِن البضاعةِ لا يصلُحُ للمَلِكِ الحقِّ، ولو جِئتَ بِعَمَلِ الثَّقَلَين خَشِيتَ عاقِبتَه؛ وإنما يَقْبَلُه بِكَرَمِه وجُودِه وتَفضُّلِه ويُثِيبُك عليه أيضاً بِكَرمِه وجُودِه وتَفضُّلِه". [47]
14) ومن لطائفِ المعاني وبدائعِ النظمِ القرآني هاهنا: اقترانُ العِبادةِ بالاستِعانة؛ فإنَّ الحامِدَ يعلم يقيناً أنَّ العِبادةَ لا تتيسرُ إلا بإعانةِ الله وتوفيقِه وفضلِه؛ كما قال الشنقيطي - رحمه الله -: "(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أي لا نطلب العونَ إلا منك وحدك؛ لأنَّ الأمرَ كلَّه بِيدِك وحدَك لا يملك أحدٌ منه معك مثقالَ ذرةٍ. وإتيانه بقولِه: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بعد قولِه: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فيه إشارةٌ إلى أنه لا ينبغي أن يتوكَّلَ إلا على مَنْ يَستحقُّ العبادة؛ لأنَّ غيرَه ليس بِيدِهِ الأمرُ. وهذا المعنى المشارُ إليه هنا جاء مبينًا واضِحًا في آياتٍ أُخَر كقولِه: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)، وقولِه: (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)، وقولِه: (رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً)، وقولِه: (قُلْ هُوَ الرَّحْمَانُ ءامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا)، وإلى غيرِ ذلك مِن الآيات". [48]
وقال السعدي - رحمه الله -: "ذكر (الاستعانة) بعد (العبادة) مع دُخولِها فيها؛ لاحتياجِ العبدِ في جميعِ عِباداتِه إلى الاستعانةِ بالله تعالى؛ فإنه إنْ لم يُعِنْهُ الله، لم يَحصُلْ له ما يُرِيدُه مِن فِعْلِ الأوامِرِ واجتنابِ النَّواهي". [49] وما أحسنَ تعبيرَ البيضاوي عن هذا المعنى بقولِه: "لما نَسَبَ المتكلِّمُ العِبادةَ إلى نفسِه؛ أوْهَمَ ذلك تبجُّحاً واعتِداداً منه بما يَصْدُر عنه، فعقَّبَه بقولِه: (وإياك نستعين)؛ ليدلَّ على أنَّ العبادة أيضاً مما لا يتم ولا يستتب له إلا بمعونةٍ منه وتوفيقٍ". [50](/7)
ورحمَ الله ابنَ القيم حيث قال: "إنَّ القلبَ يعرض له مَرَضان عظيمان؛ إنْ لم يَتدارَكْهما تَرامَيا به إلى التَّلَفِ ولا بُدَّ، وهما: الرِّياءُ والكِبْرُ. فدواءُ الرياءِ بـ(إياك نعبد)، ودواءُ الكِبْر بـ(إياك نستعين)؛ وكثيراً ما كنتُ أسمعُ شيخَ الإسلام ابنَ تيمية قدَّسَ اللهُ روحَه يقول: (إياك نعبد) تدفع الرياء، و(إياك نستعين) تدفع الكبرياء؛ فإذا عُوفِيَ من مرضِ الرياء بـ(إياك نعبد)، ومن مرضِ الكِبْر والعُجبِ بـ(إياك نستعين)، ومن مرضِ الضلالِ والجهلِ بـ(اهْدنا الصراطَ المستقيم)؛ عُوفِيَ من أمراضِه وأسقامِه، ورَفَلَ في أثوابِ العافية، وتمَّتْ عليه النعمة؛ وكان من المنعَمِ عليهم". [51]
15) وأما الآيةُ السادسة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، فتتضَمَّنُ الاستِعانةَ بالله في تحصِيلِ أعْظمِ النِّعَم: وهي الهداية؛ وهي من رحمةِ الله التي يختصُّ الله بها الشاكِرِين، ويصرف عنها بِعَدْلِه الجاحِدِين. قال ابن القيم - رحمه الله -: "قوله: (اهدنا الصراطَ المستقيم) يتضمن طلبَ الهداية ممن هو قادرٌ عليها؛ وهي بيده إن شاء أعطاها عبدَه، وإن شاء منعه إياها. والهدايةُ: معرفةُ الحقِّ والعَملُ به؛ فمَن لم يَجْعَلْه اللهُ - تعالى -عالِماً بالحقِّ عامِلاً به؛ لم يكنْ له سَبِيلٌ إلى الاهتِداء؛ فهو - سبحانه - المُنْفَرِدُ بالهدايةِ الموجِبةِ للاهتداءِ التي لا يتخلَّف عنها، وهي جعلُ العبدِ مُريداً للهدى مُحِباً له مُؤثِراً له عامِلاً به. فهذه الهدايةُ ليسَتْ إلى مَلَكٍ مُقَرَّبٍ ولا نبيٍّ مُرْسَلٍ، وهي التي قال - سبحانه - فيها: (إنك لا تَهْدِي مَن أحْبَبتَ ولكنَّ اللهَ يَهدِي مَن يشاء)، [52] مع قولِه - تعالى -: (وإنك لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُستقيم). [53] فهذه هدايةُ الدعوةِ والتعليمِ والإرشادِ. وهي التي هَدَى بها ثمودَ فاستَحَبُّوا العَمَى عليها، وهي التي قال الله - تعالى -فيها: (وما كان اللهُ لِيُضِلَّ قوماً بعد إذْ هَداهم حتى يُبَيِّنَ لهم ما يتقون)؛[54] فهداهم هُدَى البَيانِ الذي تقومُ به حُجَّتُه عليهم، ومَنَعَهم الهدايةَ الموجِبةَ للاهتداءِ التي لا يَضِلُّ مَن هَداه اللهُ بها؛ فذلك عَدْلُه فيهم، وهذه حِكْمَتُه فأعْطاهم ما تقومُ به الحجةُ عليهم، ومَنعَهم ما ليسوا له بِأهْلٍ ولا يَلِيقُ بهم"! [55]
وما أحسنَ تَعبِيرَ الرازي - رحمه الله - عن ذلك بقولِه: "لما رأينا الأكثَرِين غَرِقُوا في بَحْرِ الضَّلالات؛ عَلِمْنا أنَّ الوُصولَ إلى الحقِّ ليس إلا بهدايةِ اللهِ تعالى؛ ومما يُقوِّي ذلك أنَّ كلَّ الملائكةِ والأنبياءِ أطبَقُوا على ذلك. أما الملائكةُ فقالوا: (سُبْحانَك لا عِلمَ لنا إلا ما علَّمْتَنا إنك أنتَ العَلِيمُ الحكيم)، وقال آدمُ - عليه السلام -: (وإنْ لم تَغفِرْ لنا وتَرْحَمْنا لَنكونَنَّ من الخاسِرِين)، وقال إبراهيم - عليه السلام -: (لئنْ لم يَهْدِني ربِّي لأكُونَنَّ مِن القومِ الضالِّين)، وقال يوسف - عليه السلام -: (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وألْحِقْني بالصالِحِين)، وقال موسى - عليه السلام -: (رَبِّ اشْرَحْ لي صَدري) الآيات، وقال محمد - عليه السلام -: (ربَّنا لا تُزِغْ قلوبَنا بعد إذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لنا مِن لَدُنْكَ رَحمةً إنك أنتَ الوهَّاب)". [56]
16) فهِدايةُ الصراطِ المستقيم غايةٌ يسعى إليها الحامِدُون، ومَن حَصَّلَها طلبَ منها المزيد، كما قال البغوي - رحمه الله -: "هذا الدعاءُ مِن المؤمنين مع كَوْنِهم على الهدايةِ بمعنى التثبيتِ وبمعنى طَلَبِ مَزيدِ الهدايةِ؛ لأنَّ الألطافَ والهداياتِ مِن الله - تعالى -لا تتناهَى على مذهبِ أهلِ السنة... وقوله: (صراطَ الذين أنعمتَ عليهم) أي مَنَنْتَ عليهم بالهدايةِ والتوفيق، قال عكرمة: مَنَنْتَ عليهم بالثباتِ على الإيمانِ والاستقامةِ، وهم الأنبياءُ - عليهم السلام -، وقيل: هم كلُّ مَنْ ثَبَّتَهُ اللهُ على الإيمانِ مِن النبيِّين والمؤمنين الذين ذَكَرَهم الله - تعالى -في قولِهِ: (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين)[57]". [58]
17) وتأمَّلْ ما ألْطَفَ العِبارةَ القُرآنية: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)! فسُلُوكُ طريقِ الهدايةِ نِعمةٌ من ربِّ العالَمين، وانخراطٌ في دَربِ الأنبياء والمصلِحين على مرِّ التاريخ، قال الشنقيطي - رحمه الله -: "لم يُبيِّنْ هنا مَن هاؤلاء الذين أنعمَ عليهم. وبيَّنَ ذلك في موضعٍ آخر بقوله: (فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)". [59](/8)
18) فالعَبدُ الحامِدُ يتوجهُ إلى الله بسؤالِ الهدايةِ في الدنيا والآخرة، كما قال السعدي - رحمه الله -: "أي: دُلَّنا وأرْشِدْنا ووَفِّقْنا للصراط المستقيم: وهو الطريقُ الواضحُ الموصِلُ إلى اللهِ وإلى جنَّتِه، وهو مَعرفةُ الحقِّ والعَملُ به. فاهْدِنا إلى الصراطِ، واهْدِنا في الصراطِ. فالهدايةُ إلى الصراطِ: لزومُ دينِ الإسلام، وترك ما سواه مِن الأديان، والهدايةُ في الصراطِ تشمل الهدايةَ لجميعِ التفاصيلِ الدينيةِ عِلماً وعملاً. فهذا الدعاءُ مِن أجمعِ الأدعيةِ وأنفعِها للعبد؛ ولهذا وَجَبَ على الإنسانِ أن يدعوَ الله به في كلِّ ركعةٍ مِن صلاتِه لضرورته إلى ذلك". [60]
ورَحِمَ الله ابنَ القيم حيث قال: "لَما كان طالِبُ الصراطِ المستقيم طالِبَ أمْرٍ أكثرُ الناسِ ناكِبُون عنه، مُريداً لسلوكِ طريقٍ مُرافِقُه فيها في غايةِ القلةِ والعزةِ. والنفوس مجبولةٌ على وِحشةِ التفردِ، وعلى الأُنْسِ بالرفيقِ؛ نبَّهَ اللهُ - سبحانه - على الرَّفيقِ في هذه الطريق، وأنهم هم الذين (أنعمَ الله عليهم من النبيِّين والصدِّيقين والشهداءِ والصالحين وحَسُنَ أولئك رَفِيقا)؛ فأضاف الصراطَ إلى الرفيقِ السالكين له. وهم (الذين أنعَمَ الله عليهم)؛ ليزول عن الطالبِ للهدايةِ وسُلوكِ الصراطِ وِحشةُ تفرُّدِه عن أهلِ زمانِه وبني جِنسه، وليعلم أنَّ رفيقَه في هذا الصراط: هم (الذين أنْعَمَ الله عليهم)؛ فلا يكترث بمخالفةِ الناكِبِين عنه له؛ فإنهم هم الأقلُّون قَدْراً، وإن كانوا الأكثَرِين عَدَداً، كما قال بعضُ السلف: عليك بطريق الحقِّ، ولا تستوحش لقلِةِ السالِكين؛ وإياك وطريقَ الباطل، ولا تغترَّ بكثرةِ الهالكين؛ وكلما استوحشتَ في تفرُّدِك فانظرْ إلى الرفيقِ السابق، واحرص على اللحاقِ بهم. وغُضَّ الطَّرفَ عمَّن سِواهم؛ فإنهم لن يُغنُوا عنك مِن الله شيئاً. وإذا صاحُوا بك في طريقِ سيرِك، فلا تلتفت إليهم؛ فإنك متى التفتَّ إليهم أخَذُوك وعاقُوك". [61]
19) وأما الآية السابعة: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ) فقد تضمَّنَت الاستعاذةَ مِن حالِ مَن أضَلَّه الله أو غَضِبَ عليه. قال الشنقيطي - رحمه الله -: "قال جماهيرُ من علماءِ التفسير: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ): اليهود، والضالون: النصارى. وقد جاء الخبر بذلك عن رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه -. واليهود والنصارى وإن كانوا ضالِّين جميعًا مغضوبًا عليهم جميعًا؛ فإنَّ الغضبَ إِنما خصَّ به اليهود وإنْ شارَكَهم النصارى فيه لأنهم يعرفون الحقَّ ويُنكِرُونه ويأتون الباطل عمدًا؛ فكان الغضبُ أخصَّ صفاتهم. والنصارى جَهَلةٌ لا يعرفون الحقَّ؛ فكان الضلالُ أخصَّ صِفاتِهم". [62]
20) وقد وَرَدَ في صحيح مسلم ما يوضح ما في الفاتحة من الحمدِ والثناءِ والتمجيدِ، وثمرة ذلك مِن الفوزِ بنعيمِ الدنيا والآخرة التي تتمثل في الهداية إلى طريقِ الذين أنعمَ عليهم والنجاةِ مِن مَصِيرِ الذين أضلَّهم وغَضبَ عليهم. فقد روى أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يقول الله - تعالى -: قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصفين. فنصفُها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل.. إذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين). قال الله: حمدني عبدي. وإذا قال (الرحمن الرحيم). قال الله: أثنى عليَّ عبدي. فإذا قال: (مالك يوم الدين). قال الله: مجَّدني عبدي. وإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين). قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: (اهدنا الصراطَ المستقيمَ صراطَ الذين أنعمتَ عليهم غيرِ المغضوبِ عليهم ولا الضالِّين). قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل). [63] فانظرْ هذه الصلة الوثيقة بين هذين النصفين؛ لتعيَ جلالةَ حق الله في الحمد والثناء، وفوزَ العبدِ المقبلِ على ربِّه بالدعاء!
وقد سَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - للقارىء والمأمومين بعد الثناءِ والدعاء أن يقولوا (آمين) في آخرِ الفاتحة؛ طلباً لقبولِ الدعاءِ، كما روى البخاري - رحمه الله - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قال الإمام (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقولوا: آمين؛ فمَنْ وافَقَ تأمينُه تأمينَ الملائكةِ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه). قال البغوي: "معناه: اللهم اسمعْ واستجِبْ". [64](/9)
ورحِمَ الله ابنَ القيم؛ ما أحسنَ قولَه: "لَما كان سؤالُ اللهِ الهدايةَ إلى الصراطِ المستقيم أجلَّ المطالبِ، ونيلُه أشرفَ المواهب؛ علَّمَ اللهُ عِبادَه كيفيةَ سؤالِه، وأمرَهم أن يُقدِّمُوا بين يديهِ حمدَه والثناءَ عليه، وتمجيدَه. ثم ذكَرَ عُبودِيَّتَهم وتوحيدَهم. فهاتان وسيلتان إلى مَطلوبِهم: توسُّلٌ إليه بأسمائه وصِفاته، وتوسُّلٌ إليه بعبوديته. وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء. ويؤيِّدُهما الوسيلتان المذكورتان في حَدِيثَي الاسم الأعظم اللذين رواهما ابن حبان في صحيحه والإمام أحمد و الترمذي. أحدهما: حديث عبد الله بن بُرَيدة عن أبيه قال سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو، ويقول: اللَّهم إني أسألك بأني أشهدُ أنك الله الذي لا إله إلا أنتَ الأحدُ الصمدُ الذي لم يَلِدْ ولم يُولَدْ ولم يكنْ له كُفواً أحد. فقال: والذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا دُعِيَ به أجاب، وإذا سئل به أعطى، قال الترمذي: حديثٌ صحيحٌ. فهذا توسُّلٌ إلى اللهِ بتوحيدِه، وشهادةُ الداعِي له بالوحدانية... وهذه ترجمة عقيدة أهل السنة، والتوسل بالإيمان بذلك، والشهادة به هو الاسم الأعظم". [65]
-----
[1] رواه البخاري 4/1704، 1913. في كتاب التفسير، باب (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون) حديث 4370، وفي كتاب فضائل القرآن، باب (فضل فاتحة الكتاب)، حديث 4720. ورواه أبو داود 2/71، في باب فاتحة الكتاب، حديث 1457. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 2/368، حديث 3746.
[2] مدارج السالكين لابن القيم 1/7.
[3] تيسير الكريم الرحمن للسعدي ص 39-40.
[4] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/110-111.
[5] الفوائد لابنِ القيم ص26-28.
[6] المجموع شرح المهذب للنووي 3/277، دار الفكر بيروت، ط1، 1417 هـ.
[7] الفاتحة 1.
[8] التفسير الكبير للرازي 1/210.
[9] في تفسير الفاتحة والمعوذتين.
[10] الجامع لأحكام القرآن 1/97-98.
[11] التفسير الكبير 1/175.
[12] تيسير الكريم الرحمن ص 39.
[13] تيسير الكريم الرحمن ص 39.
[14] في ظلال القرآن لسيد قطب 1/21.
[15] قال النسفي - رحمه الله -: "(الْحَمْدُ) الوَصفُ بالجميلُ على جِهَةِ التفضِيل". مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 1/3. وقال الشنقيطي - رحمه الله -: "الألف واللام في (الْحَمْدُ)؛ لاستغراقِ جميع المحامِد. وهو ثناءٌ أثنَى به - تعالى -على نَفسِه؛ وفي ضِمْنِه أمْرُ عِبادِه أن يُثْنُوا عليه به" أضواء البيان 1/5. وقال ابن عبد الوهاب في (تفسير الفاتحة): "الألفُ واللامُ في قولِه: (الْحَمْدُ) للاستغراق أي جميعُ أنواعِ الحمدِ لله لا لغيرِه، فأما الذي لا صُنعَ للخلقِ فيه مثل خَلقِ الإنسانِ، وخلقِ السمعِ والبصرِ والسماءِ والأرضِ والأرزاقِ وغيرِ ذلك فواضحٌ، وأما ما يُحمَد عليه المخلوقُ مثل ما يُثنَى به على الصالحين والأنبياءِ والمرسَلين، وعلى مَن فَعَلَ مَعروفاً خُصوصاً إنْ أسْداه إليك، فهذا كلُّه لله أيضاً بمعنى أنه خلقَ ذلك الفاعلَ، وأعطاه ما فعلَ به ذلك، وحبَّبَه إليه وقوَّاه عليه، وغير ذلك من أفضالِ اللهِ الذي لو يختلُّ بعضُها؛ لم يُحمَدْ ذلك المحمودُ؛ فصارَ (الْحَمْدُ لله) كلُّه بهذا الاعتبار". وقال السعدي - رحمه الله -: (الْحَمْدُ لله) "هو الثناءُ على الله بصفاتِ الكمال، وبأفعالِه الدائرة بين الفَضلِ والعَدلِ؛ فله الحمدُ الكامِلُ بجميعِ الوُجُوه" تيسير الكريم الرحمن ص 39.
[16] الفاتحة 2.
[17] في ظلال القرآن 1/22.
[18] التحرير والتنوير 1/154.
[19] التفسير الكبير 1/235.
[20] التحرير والتنوير 1/152-153.
[21] التفسير الكبير 1/234-235.
[22] في ظلال القرآن 1/22.
[23] تيسير الكريم الرحمن ص 39.
[24] في ظلال القرآن 1/22-23.
[25] في ظلال القرآن 1/22.
[26] تيسير الكريم الرحمن ص 39. فالْمُوَفَّقُ من وَفَّقَه اللهُ لِطَلَبِ التوفيقِ؛ فـ"إنَّ موسى - عليه السلام - ذهبَ يحتطِبُ النارَ؛ فعادَ كَلِيمَ الواحِدِ القهَّار! " كما قال ابنُ القيم - رحمه الله -، ومَن الذي يَأمَنُ مَكْرَ اللهِ واللهُ يَحُولُ بين المرء وقلبه؟! ومَن الذي لا يخشى أن يكونَ ممن قال فيه ربُّ العالمين: (ولكنْ كَرِهَ اللهُ انبعاثَهم فثبَّطَهم وقيل اقعُدُوا مع القاعدين) التوبة 46.
[27] الفاتحة 3.
[28] في ظلال القرآن 1/24.(/10)
[29] أضواء البيان 1/5-6. قال: ويدلُّ له الأثرُ المروي عن عيسى كما ذكره ابن كثير وغيره أنه قال عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام: الرَّحْمانِ رحمان الدنيا والآخرة، والرَّحِيم رحيم الآخرة. وقد أشار تعالىا إلى هذا الذي ذكرنا حيث قال: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ)، وقال: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)؛ فذكرَ الاستواءَ باسمه الرحمان لِيَعُمَّ جميعَ خَلقِه برحمتِه، قاله ابن كثير. ومِثلُه قولُه - تعالى -: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ)؛ أي: ومِن رَحْمانِيَّتِهِ: لُطْفُهُ بالطَّيْرِ، وإمْساكُهُ إياها صافاتٍ وقابضاتٍ في جَوِّ السماء. ومِن أظهرِ الأدلةِ في ذلك قولُه - تعالى -: (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ) إلى قوله: (فَبِأَيِّ ءالاء رَبِّكُمَا تُكَذّبَانِ)، وقال: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) فخَصَّهم باسْمِه (الرحيم).
[30] مدارج السالكين 1/24.
[31] قولُه - رحمه الله -: (فيتوجَّهُ بشَراشِرِه إلى جَنابِ القُدس) كِنايةٌ عن شدةِ الإقبالِ، قال ابنُ فارس: "يقال: ألْقَى عليه شَراشِرَه: أي جَمَعَ ما انتشرَ مِن هِمَمِه لهذا الشيء، وشَغلَ هُمومَه كلَّها به". معجم مقاييس اللغة لابن فارس 3/181. نسأل الله أن يجعلَ همومَنا تعلُّمَ العلمِ النافعِ والإقبالَ على العملِ الصالح.
[32] أنوار التنزيل للبيضاوي 1/3.
[33] أضواء البيان 1/6.
[34] في ظلال القرآن 1/24.
[35] تيسير الكريم الرحمن ص 39.
[36] تفسير الفاتحة والمعوذتين لابن عبد الوهاب.
[37] الفرقان 26.
[38] غافر 16.
[39] الانفطار 19.
[40] معالم التنزيل للبغوي 1/53.
[41] مدارك التنزيل 1/4.
[42] أنوار التنزيل للبيضاوي 1/4.
[43] معالم التنزيل 1/53.
[44] تيسير الكريم الرحمن ص 39. قال: لأنَّ تقديمَ المعمولِ يُفيد الحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، فكأنه يقول: نعبدك ولا نعبد غيرك، ونستعين بك، ولا نستعين بغيرك.
[45] مدارك التنزيل 1/5.
[46] التحرير والتنوير 1/179.
[47] مدارج السالكين 1/176.
[48] أضواء البيان 1/7-8.
[49] تيسير الكريم الرحمن ص 39.
[50] أنوار التنزيل 1/4.
[51] مدارج السالكين 1/54.
[52] القصص 56.
[53] الشورى 52.
[54] التوبة 115.
[55] شفاء العليل ص52-53. نقلا عن بدائع التفسير 1/108 جمع يسري السيد.
[56] التفسير الكبير1/277.
[57] النساء 69.
[58] معالم التنزيل 1/54.
[59] أضواء البيان 1/8.
[60] تيسير الكريم الرحمن ص 39.
[61] مدارج السالكين 1/21-22.
[62] أضواء البيان 1/9. وقد نصَّ على ذلك كثيرٌ من المفسِّرين، كالبيضاوي في أنوار التنزيل 1/5، والبغوي في معالم التنزيل 1/55، والسعدي في تيسير الكريم الرحمن ص 39.
[63] قال محمد شمس الحق العظيم آبادي: "حقيقة هذه القسمة منصرفة إلى المعنى لا إلى اللفظ؛ وذلك أنَّ سورة الحمد نصفها ثناء ونصفها مسألة دعاء، والثناء لله، والدعاء لعبده... (فنصفها لي) وهو (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين)، (ونصفها لعبدي) وهو من (اهدنا الصراط المستقيم) إلى آخرها، (ولعبدي ما سأل) أي يعينه". عون المعبود 3/28، دار الكتب العلمية بيروت، ط2، 1415 هـ.
[64] معالم التنزيل 1/55. وقال البيضاوي - رحمه الله -: "ليس مِن القرآن وِفاقاً، لكنْ يُسَنُّ خَتْمُ السورةِ به". أنوار التنزيل 1/5، وقال البغوي - رحمه الله -: "السنةُ للقارئ أنْ يقولَ بعد فراغِهِ مِن قراءةِ الفاتحةِ (آمين) بِسَكتةٍ مَفصُولةٍ عن الفاتحة". معالم التنزيل 1/55.
[65] مدارج السالكين 1/23-24.
http://216. 55. 137. 18/new المصدر:(/11)
الفاتحة و الإخلاص و المعوذتين
الإمام محمد بن عبد الوهاب
تفسير سورة الفاتحة
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: اعلم أرشدك الله لطاعته، وأحاطك بحياطته، وتولاك في الدنيا والآخرة، أن مقصود الصلاة وروحها ولبها هو إقبال القلب على الله تعالى فيها، فإذا صليت بلا قلب فهي كالجسد الذي لا روح فيه، ويدل على هذا قوله تعالى: ? فويل للمصلين *الذين هم عن صلاتهم ساهون ? [الماعون 4-5]، ففسر السهو بالسهو عن وقتها، أي إضاعته- والسهو عن ما يجب فيها، والسهو عن حضور القلب، ويدل على ذلك الحديث الذي في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً لايذكر فيها إلا قليل ) [رواه مسلم].
فوصفه بإضاعة الوقت بقوله: ( يرقب الشمس ) وبإضاعة الأركان بذكره النقر ، وبإضاعة حضور القلب بقوله: ( لا يذكر الله فيها إلا قليل ). إذا فهمت ذلك فافهم نوعا واحدا من الصلاة ، وهو قراءة الفاتحة لعل الله أن يجعل صلاتك في الصلوات المقبولة المضاعفة المكفرة للذنوب.
ومن أحسن ما يفتح لك الباب في فهم الفاتحة حديث أبي هريرة الذي في صحيح مسلم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد ( الحمد لله رب العالمين ) قال الله: حمدني عبدي ، فإذا قال: ( مالك يوم الدين ) قال الله: مجدني عبدي ، فإذا قال: ( إياك نعبد وإياك نستعين ) قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال: ( اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) انتهى الحديث. [اخرجه مسلم].
فإذا تأمل العبد هذا، وعلم أنها نصفان: نصف لله وهو أولها إلى قوله: ( إياك نعبد ) ونصف للعبد دعاء يدعو به لنفسه ، وتأمل أن الذي علمه هذا هو الله تعالى ، وأمره أن يدعو به ويكرره في كل ركعة ، وأنه سبحانه من فضله وكرمه ضمن إجابة هذا الدعاء إذا دعاه بإخلاص وحضور قلب تبين له ما أضاع أكثر الناس.
قد هيئوك لأمر لو فطنت له فأربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وها أنا أذكر لك بعض معاني هذه السورة العظيمة لعلك تصلي بحضور قلب ، ويعلم قلبك ما نطق به لسانك ، لأن ما نطق به اللسان ولم يعقد عليه القلب ليس بعمل صالح كما قال تعالى: ? يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ?[الفتح:11]. وأبدأ بمعنى الاستعاذة ، ثم البسملة ، على طريق الاختصار والإيجاز، فمعنى ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) ألوذ بالله وأعتصم بالله وأستجير بجنابه من شر هذا العدو ، أن يضرني في ديني أو دنياي ، أو يصدني عن فعل ما أمرت به ، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه ، لأنه أحرص ما يكون على العبد إذا أراد عمل الخير من صلاة وقراءة أو غير ذلك ، وذلك أنه لا حيلة لك في دفعه إلا بالاستعاذة بالله لقوله تعالى: ? إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ?[الأعراف:27]، فإذا طلبت من الله أن يعيذك منه ، واعتصمت به كان هذا سببا في حضور القلب فاعرف معنى هذه الكلمة ولا تقلها باللسان فقط كما عليه أكثر الناس.
وأما البسملة فمعناها أدخل في هذا الأمر من قراءة أو دعاء أو غير ذلك ( بسم الله ) لا بحولي ولا بقوتي ، بل أفعل هذا الأمر مستعينا بالله ، ومتبركا باسمه تبارك وتعالى ، هذا في كل أمر تسمى في أوله من أمر الدين أو أمر الدنيا ، فإذا أحضرت في نفسك أن دخولك في القراءة بالله مستعينا به ، متبرئا من الحول والقوة كان هذا أكبر الأسباب في حضور القلب ، وطرد الموانع من كل خير.
? الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ?[الفاتحة:3] اسمان مشتقان من الرحمة أحدهما أبلغ من الآخر، مثل العلام والعليم، قال ابن عباس: هما اسمان رقيقان احدهما أرق من الآخر أي أكثر من الآخر رحمة.
وأما الفاتحة فهي سبع آيات: ثلاث ونصف لله ، وثلاث ونصف للعبد ، فاولها? الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? [الفاتحة:2] فاعلم أن الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري ، فأخرج بقوله الثناء باللسان الثناء بالفعل الذي يسمى لسان الحال فذلك نوع من الشكر.
وقوله على الجميل الاختياري أي الذي يفعله الإنسان بإرادته ، وأما الجميل الذي لا صنع له فيه مثل الجمال ونحوه فالثناء به يسمى مدحا لا حمدا.(/1)
والفرق بين الحمد والشكر: أن الحمد يتضمن المدح والثناء على المحمود بذكر محاسنه سواء كان إحسانا إلى الحامد أو لم يكن ، والشكر لا يكون إلا على أحسان المشكور ، فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر ، لأنه يكون على المحاسن والإحسان ، فإن الله يحمد على ما له من الأسماء الحسنى ، وما خلقه في الآخرة والأولى، ولهذا قال: ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ?[الاسراء:111] ، وقال: ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ?[الأنعام:1] ، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الشكر فإنه لا يكون إلا على الإنعام، فهو أخص من الحمد من هذا الوجه، لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، ولهذا قال تعالى: ? اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً ?[سبأ:13]، والحمد يكون بالقلب واللسان، فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه، والحمد أعم من جهة أسبابه.
الألف واللام في قوله: ( الحمد ) للاستغراق أي جميع أنواع الحمد لله لا لغيره ، فأما الذي لا صنع للخلق فيه مثل خلق الإنسان، وخلق السمع والبصر والسماء والأرض والأرزاق وغير ذلك فواضح، وأما ما يحمد عليه المخلوق مثل ما يثني به على الصالحين والأنبياء والمرسلين، وعلى من فعل معروفاً خصوصاً إن أسداه إليك، فهذا كله لله أيضاً بمعنى أنه خلق ذلك الفاعل، وأعطاه ما فعل به ذلك، وحببه إليه وقواه عليه، وغير ذلك من أفضال الله الذي لو يختل بعضها لم يحمد ذلك المحمود فصار الحمد لله كله بهذا الاعتبار.
وأما قوله: ? لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? فالله علم على ربنا تبارك وتعالى، ومعناه: الإله أي المعبود لقوله: ? وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ?[الأنعام:3]، أي المعبود في السموات والمعبود في الأرض: ? إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ?[مريم:93]، وأما الرب فعناه المالك المتصرف، وأما ( العالمين ) فهو اسم لكل ماسوى الله تبارك وتعالى فكل ماسواه من ملك ونبي وإنسي وجني وغير ذلك مربوب مقهور يتصرف فيه، فقير محتاج كلهم صامدون إلى واحد لاشريك له في الدين، وهو الغني الصمد، وذكر بعد ذلك ( مالك يوم الدين ) وفي قراءة أخرى ( ملك يوم الدين ) فذكر في أول هذه السورة التي هي أول المصحف الألوهية والربوبية والملك، كما ذكره في آخر سورة من المصحف ? قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ? 1 ? مَلِكِ النَّاسِ ?[الناس:1 ـ 2]
فهذه ثلاثة أوصاف لربنا تبارك وتعالى ذكرها مجموعة في موضه واحد في أول القرآن، ثم ذكرها مجموعة في موضع واحد في آخر القرآن ما يطرق سمعك من القرآن. فينبغي لمن نصح نفسه أن يعتني بهذا الموضوع، ويبذل جهده في البحث عنه، ويعلم أن العليم الخبير لم يجمع بينهما في أول القرآن ثم في آخره إلا لما يعلم من شدة حاجة العباد إلى معرفتها، ومعرفة الفرق بين هذه الصفات، فكل صفة لها معنى غير معنى الأخرى، كما يقال: محمد رسول الله ، وخاتم النبيين، وسيد ولد آدم فكل وصف له معنى غير ذلك الوصف الآخر.
إذا عرفت أن معنى الله هو الإله، وعرفت أن الإله هو المعبود، ثم دعوت الله أو ذبحت له أو نذرت له فقد عرفت أنه الله ، فإن دعوت مخلوقاً طيباً أو خبيثاً، أو ذبحت له أو نذرت له فقد زعمت أنه هو الله ، فمن عرف أنه قد جعل شمسان أو تاجا ( شمسان وتاج - ومثلهما يوسف - رجال كان الناس في عصر الشيخ يعتقدون فيهم الولاية، ويرفعون لهم من العبادة والدعاء ونحوها ما لا ينبغي أن يرفع إلا لله عز وجل) (راجع رسالة كشف الشبهات للشيخ) برهة من عمره هو الله، عرف ماعرفت بنو إسرائيل لما عبدوا العجل، فلما تبين لهم ارتاعوا، وقالوا ماذكر الله عنهم: ? وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ?[الأعراف:149].
وأما الرب فمعناه المالك المتصرف، فالله تعالى مالك كل شئ وهو المتصرف فيه، وهذا حق، ولكن أقر به عباد الأصنام الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكر الله عنهم في القرآن في غير موضع كقوله تعالى: ? قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ? [يونس:31].(/2)
فمن دعا في تفريج كربته وقضاء حاجته، ثم دعا مخلوقاً في ذلك خصوصاً إن اقترن بدعائه نسبة نفسه إلى عبوديته مثل قوله في دعائه (فلان عبدك) أو قول (عبد علي) أو (عبد النبي أو الزبير) فقد أقر له بالربوبية، وفي دعائه علياً أو الزبير بدعائه الله تبارك وتعالى وإقراره له بالعبودية، ليأتي له بخير أو ليصرف عنه شراً مع تسمية نفسه عبداً له، قد أقر له الربوبية، ولم يقر لله رب العالمين كلهم بل جحد بعض ربوبيته، فرحم الله عبداً نصح نفسه، وتفطن هذه المهمات، وسأل عن كلام أهل العلم، وهم أهل الصراط المستقيم، هل فسروا السورة بهذا أم لا؟.
وأما الملك فيأتي الكلام عليه، وذلك أن قوله: ( مالك يوم الدين ) وفي القراءة الأخرى (ملك يوم الدين) فمعناه عند جميه المفسرين كلهم ما فسره الله به في قوله: ? وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ?17? ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ?18? يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ? [الانفطار:17ـ19].
فمن عرف تفسير هذه الآية، وعرف تخصيص الملك بذلك اليوم، مع أنه سبحانه مالك كل شئ ذلك اليوم وغيره، عرف أن التخصيص لهذه المسألة الكبيرة العظيمة التي بسبب معرفتها دخل الجنة من دخلها، وبسبب الجهل بها دخل النار من دخلها، فيالها من مسألة لو رحل الرجل فيا أكثر من عشرين سنة لم يوفها حقها، فأين هذا المعنى والإيمان بما صرح به القرآن، مع قوله صلى الله عليه وسلم: ( يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً ) [أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة].
من قول صاحب البردة:
ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم
فإن لي ذمة منه بتسميتي محمداً وهو أوفي الخلق بالذمم
إن لم تكن في مادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
فليتأمل من نصح نفسه هذه الأبيات ومعناها، ومن فتن بها من العباد، وممن يدعي انه من العلماء، واختاروا تلاوتها على تلاوة القرآن.
هل يجتمع في قلب عبد التصديق بهذه الأبيات والتصديق بقوله: ? يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئٍذ لله ? وقوله: ( يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً ) لا والله ، لا والله ، لا والله إلا كما يجتمع في قلبه أن موسى صادق، وأن فرعون صادق، وأن محمداً صادق على الحق، وأن أبا جهل صادق على الحق. لا والله ما استويا ولن يتلاقيل حتى تشيب مفارق الغربان.
فمن عرف هذه المسألة وعرف البردة، ومن فتن بها عرف غربة الإسلام، وعرف أن العداوة واستحلال دمائنا وأموالنا ونسائنا، ليس عند التكفير والقتال، بل هم الذين بدءونا بالتكفير والقتال، بل عند قوله: ? فلا تدعوا مع الله أحداً ? [الجن:18]، وعند قوله: ? اولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ?[الإسراء:57]، وقوله: ? له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ ? [الرعد: 14]، فهذه بعض المعاني في قوله: ( مالك يوم الدين ) بإجماع المفسرين كلهم، وقد فسرها الله سبحانه في سورة - إذا السماء انفطرت - كما قدمت لك.
واعلم أرشدك الله أن الحق لا يتبين إلا بالباطل كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء.
فتأمل ما ذكرت لك ساعة بعد ساعة، ويوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة لعلك أن تعرف ملة أبيك إبرهيم ودين نبيك فتحشر معهما، ولا تصد عن الحوض يوم الدين، كما يصد عنه من صد عن طريقهما ، ولعلك أن تمر على الصراط يوم القيامة، ولا تزل عنه كما زل عن صراطهما المستقيم في الدنيا من زل، فعليك بإدامة دعاء الفاتحة مع حضور القلب وخوف وتضرع.
وأما قوله: ? إياك نعبد وإياك نستعين ? فالعبادة كمال المحبة وكمال الخضوع، والخوف والذل، وقدم المفعول وهو إياك، كرر للاهتمام والحصر أي لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين، فالأول التبرؤ من الشرك، والثاني التبرؤ من الحول والقوة فقوله: ( إياك نعبد ) أي إياك نوحد، ومعناه أنك تعاهد ربك أن لا تشرك في عبادته أحداً، لا ملكاً ولا نبياً ولا غيرهما، كما قال للصحابة: ? ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبين أرباباً أيامركم بالكفر بعذ إذ أنتم مسلمون ?[ال عمران: 80]، فتأمل هذه الآية واعرف ما ذكرت لك في الربوبية، أنها التي نسبت إلى تاج ومحمد بن شمسان، فإذا كان الصحابة لو يفعلوها مع الرسل كفروا بعد إسلامهم فكيف بمن فعلها في تاج وأمثاله؟
وقوله: ( وإياك نستعين ) هذا فيه أمران أحدهما سؤال الإعانة من الله وهو التوكل والتبرئ من الحول والقوة. وأيضاً طلب الإعانة من الله كما مر أنها من نصف العبد.(/3)
وأما قوله: ? اهدنا الصراط المستقيم ? فهذا هو الدعاء الصريح الذي هو حظ العبد من الله ، وهو التضرع إليه والإلحاح عليه أن يرزقه هذا المطلب العظيم، الذي لم يعط أحد في الدنيا والآخرة أفضل منه، كما من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بقوله: ? ويهديك صراطاً مستقيماً ?[الفتح: 2]، والهداية هم هنا التوفيق والإرشاد، وليتأمل العبد ضرورته إلى هذه المسألة، فإن الهداية إلى ذلك تتضمن العلم والعمل الصالح على وجه الاستقامة والكمال والثبات على ذلك إلى أن يلقى الله.
والصراط: الطريق الواضح والمستقيم الذي لا عوج فيه، والمراد بذلك الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو ? صراط الذين أنعمت عليهم ? وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنت دائماً في كل ركعة تسأل الله أن يهديك إلى طريقهم، وعليك من الفرائض أن تصدق الله أنه هو المستقيم، وكلما خالفه من طريق أو علم أو عبادة، فليس بمستقيم، بل معوج. وهذه أول الواجبات من هذه الآية، وهو اعتقاد ذلك بالقلب، وليحذر المؤمن من خدع الشيطان، وهو اعتقاد ذلك مجملاً وتركه مفصلاً، فإن أكفر الناس من المرتدين يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق وإن ما خالفه باطل، فإذا جاء بما لا تهوى أنفسهم فكما قال تعالى: ? فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون ? [الآية:70].
وأما قوله: ? غير المغضوب عليهم ولا الضآلين ? فالمغضوب عليهم هم العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم، والضالون العاملون بلا علم، فالأول صفة اليهود، والثاني صفة النصارى، وكثير من الناس إذا رأي في التفسير أن اليهود مغضوب عليهم وأن النصارى ضالون، ظن الجاهل أن ذلك مخصوص بهم، وهو يقر أن ربه فارض عليه أن يدعو بهذا الدعاء، ويعوذ من طريق أهل هذه الصفات، فياسبحان الله كيف يعلمه الله ويختار له، ويفرض عليه أن يدعو به دائماً مع ظنه أنه لا حذر علي منه، ولا يتصور أنه يفعله، هذا من ظن السوء بالله ، والله أعلم هذا آخر الفاتحة.
أما آمين فليست من الفاتحة، ولكنها تأمين على الدعاء، معناها اللهم استجب، فالواجب تعليم الجاهل لئلا يظن أنها من كلام الله.
مسائل مستنبطة من سورة الفاتحة
الأولى: ( إياك نعبد وإياك نستعين ) فيها التوحيد.
الثانية: ( اهدنا الصراط المستقيم ) فيها المتابعة.
الثالثة: أركان الدين الحب والرجاء والخوف. فالحب في الأولى والرجاء في الثانية والخوف في الثالثة.
الرابعة: هلاك الأكثر في الجهل بالآية الأولى أعني استغراق الحمد واستغراق ربوبية العالمين.
الخامسة: أول المنعم عليهم وأول المغضوب عليهم والضالين.
السادسة: ظهور الكرم والحمد في ذكر المنعم عليهم.
السابعة: ظهور القدرة والمجد في ذكر المغضوب عليهم والضالين.
الثامنة: دعاء الفاتحة مع قوله لا يستجاب الدعاء من قلب غافل.
التاسعة: قوله (صراط الذين أنعمت عليهم) فيه حجة الإجماع.
العاشرة: مافي الجملة من هلاك الإنسان إذا وكل إلى نفسه.
الحادية عشر: مافيها من النص على التوكل.
الثانية عشر: مافيها من التنبية على بطلان الشرك.
الثالثة عشرة: التنبيه على بطلان البدع. الرابعة عشرة: آيات الفاتحة كل آية منها لو يعلمها الإنسان صار فقيهاً، وكل آية أفرد معناها بالتصانيف.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
تفسير سورة الإخلاص
قال رحمه الله تعالى في تفسير سورة الإخلاص: عن عبد الله بن حبيب قال: ( خرجنا في ليلة ممطرة فطلبت النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي لنا فأدركناه، فقال: قل، فلم أقل شيئا، قال: قلت يا رسول الله ما أقول ؟ قال: ? قل هو الله أحد ? و المعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك كل شيء ) قال الترمذي حديث حسن صحيح.
والأحد الذي لا نظير له، والصمد الذي تصمد الخلائق كلها إليه في جميع الحاجات، وهو الكامل في صفات السؤدد.
فقوله ? أحد ? نفي النظير والأمثال، وقوله ? الصمد ? إثبات صفات الكمال، وقوله ? لم يلد ولم يولد ? نفي للصاحبة والعيال، ? ولم يكن له كفوا أحد ? نفي الشركاء لذي الجلال.
تفسير سورة الفلق
قال رحمه الله في تفسير سورة الفلق: بسم الله الرحمن الرحيم ? قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفثت في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد ?.
فمعنى ? أعوذ ?: أعتصم والتجي ء وأتحرز، وتضمنت هذه الكلمة مستعاذا به ومستعاذا منه ومستعيذا. فأما المستعاذ به: فهو الله وحده رب الفلق الذي لا يستعاذ إلا به.
وقد أخبر الله عمن استعاذ بخلقه، أن استعاذته زادنه رهقا ( وهو الطغيان )، فقال: ? وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهق ? [الجن].
و ? الفلق ?: هو بياض الصبح، إذا انفلق من الليل، وهو من أعظم آيات الله الدالة على وحدانيته.
وأما المستعيذ: فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل من اتبعه إلى يوم القيامة.
وأما المستعاذ منه فهو أربعة أنواع:(/4)
الأول: قوله: ? من شر ما خلق ? وهذا يعم شرور الأولى والآخرة، وشرور الدين والدنيا.
الثاني: قوله: ? ومن شر غاسق إذا وقب ? والغاسق: الليل، إذا وقب: أي أظلم ودخل في كل شيء، وهو محل تسلط الأرواح الخبيثة.
الثالث: قوله: ? ومن شر النفثت في العقد ? وهذا من شر السحر، فإن النفاثات: السواحر التي يعقدن الخيوط وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يردن من السحر، والنفاثات: مؤنث، أي الأرواح والأنفس، لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة.
الرابع: قوله: ? ومن شر حاسد إذا حسد ? وهذا يعم إبليس وذريته لأنهم أعظم الحساد لبني آدم أيضا. وقوله: ? إذا حسد ? لأن الحاسد إذا
أخفى الحسد ولم يعامل أخاه إلا بما يحبه الله، لم يضر المحسود.
تفسير سورة الناس
قال رحمه الله في تفسير سورة الناس: بسم الله الرحمن الرحيم: ? قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس ?.
قوله: ? قل أعوذ برب الناس ? فقد تضمنت أيضا ذكر ثلاثة:
الأول: الإستعاذة وقد تقدمت.
الثاني: المستعاذ به.
الثالث: المستعاذ منه.
فأما المستعاذ به: فهو الله وحده لا شريك له رب الناس الذي رزقهم ودبرهم، وأوصل إليهم مصالحهم ومنع عنهم مضارهم.
? ملك الناس ? أي المتصرف فيهم وهم عبيده ومما ليكه، المدبر لهم كما يشاء، الذي له القدرة والسلطان عليهم، فليس لهم ملك يهربون إليه إذا دهمهم أمره، يخفض ويرفع ويصل ويقطع ويعطي ويمنع.
? إله الناس ? أي معبودهم الذي لا معبود لهم غيره، فلا يدعى ولا يرجى ولا يخلق إلا هو، فخلقهم وصورهم وأنعم عليهم وحماهم مما يضرهم بربوبيته، وقهرهم وأمرهم ونهاهم، وصرفهم كما يشاء بملكه، واستعبدهم بالهيبة الجامعة لصفات الكمال كلها.
وأما المستعاذ منه: فهو الوسواس، وهو الخفي الإلقاء في النفس.
وأما الخناس: فهو الذي يخنس ويتأخر ويختفي، وأصل الخنوس: الرجوع إلى الوراء، وهذان وصفان لموصوف محذوف وهو: الشيطان، وذلك أن العبد إذا غفل جثم على قلبه وبذل فيه الوساوس التي هي أصل الشر، فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به خنس.
قال قتادة: (الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب، فإذا ذكر العبد ربه خنس). ويقال رأس كرأس الحبة يضعه على ثمرة القلب ويمنيه ويحدثه، فإذا ذكر الله خنس، وجاء بناؤه على الفعال الذي يتكرر منه، فإنه كلما ذكر الله انخنس، وإذا غفل عاد.
وقوله: ? من الجنة والناس ?: يعني أن الوسواس نوعان: إنس وجن، فإن الوسوسة: الإلقاء الخفي، لكن إلقاء الإنس بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إليها، ونظير اشتراكهما في الوسوسة اشتراكهما في الوحي الشيطاني في قوله: ? وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ? [الأنعام].
والله أعلم، والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(/5)
الفارعة ترثي أخاها
شعر: الفارعة
بتلِّ نهاكي رسمُ قبرٍ كأنهُ على جبلٍ فوق الجبال منيفِ(1)
تضمّن مجداً عدْ ملياً وسؤدداً وهمةَ مقدامٍ ورأسَ حصيف(2)
فيا شجر الخابورِ مالكَ مورقا.. كأنك لم تحزنْ على ابن طريف
فتى لا يحب الزادَ إلا من التقى ولا المالَ إلا من قناً وسيوف
ولا الذخر إلا كلَّ جرداء صلدمٍ مُعاودةٍ للكرتين صفوف(3)
كأنك لم تشهدْ هناك ولم تقمْ مقاماً على الأعداء غيرَ خفيف
ولم تستلمْ يوماً لردّ كريهةٍ من السرْدِ في خضراءَ ذاتِ رفيف(4)
ولم تسعَ يوم الحربِ والحربُ لاقحٌ وسمرُ القنا ينكْزنها بأنوف(5)
حليفُ الندى ماعاش يرضى به الندى فإن مات لايرضى الندى بحليف
فقدناكَ فُقدانَ الربيعِ وليتنا فديناكَ من فتياننا بألوف
وما زال حتى أزهق الموتُ نفسه شجاً لعدوٍّ أو نجاً لضعيف(6)
ألا يا لَقومي للنوائبِ والردى ودهرٍ ملحٍ بالكرام عنيف
ألا يا لقومي للنوائب والردى وللأرضِ همّت بعده برجوف
وللبدرِ من بين الكواكب قد هوى وللشمس همّتْ بعده بكسوف
وللَيث كلّ الليثِ إذ يحملونه إلى حفرةٍ ملحودةٍ وسقيف
ألا قاتلَ اللهُ الحشى حيث أضمرت فتىً كان للمعروف غير عيوف
فإن يكن أرداهُ يزيدُ بنُ مزيدٍ فربَّ زحوفٍ لفّها بزحوف(7)
عليه سلامُ الله وقْفاً فإنني أرى الموتَ وقّاعاً بكلِّ شريف
ـــــــــــــ
(1) تل نهاكي: الموضع الذي دفن فيه الوليد بن طريف الشاري
(2) عدملي: نسبة إلى عدمل جد الوليد.
(3) الصلدم: الفرس القوية، والصَّفُوف: الكثيرة اللبن.
(4) السرد: الدرع أو حلق الدرع.
(5) ينكزنها: يغرزنها.
(6) الشجا: عظم يعترض في حلق الإنسان ويكنى به عن الألم.
(7) يزيد بن مزيد: قائد الرشيد في محاربة الخوارج أتباع الوليد.(/1)
الفتاة المسلمة والزينة
مفكرة الإسلام : الزينة بالنسبة للمرأة أمر فطري جبلها الله عليه ، وقد اهتم الإسلام بهذا الأمر اهتمامًا كبيرًا، وأباح لها من الزينة ما لم يبح للرجل كالحرير، والذهب، وذلك لتلبية نداء الأنوثة لديها، ولكن مع اهتمام المرأة بالزينة فإنه لم يتركها بدون وضع القيود والضوابط، التي تحقق لها أنوثتها وتحفظها من شرور الخطر ومزالق الطريق.
ولكن مما يؤسف له اليوم، أن بعض فتياتنا المسلمات لم يعدن متقيدات بتعاليم الإسلام في موضوع الزينة واللباس، وأصبحت قضية التقليد للكافرات والفاسقات طريقًا سارت عليه بعض الفتيات المسلمات وهناك من قواعد الإسلام وتوجيهاته، وآداب الشريعة الربانية في زينة المرأة المسلمة ما يكفل لها الجمال وفق شرع الله.
ولنا مع الزينة وقفات متعددة:
أولا: الزينة وأحكام الشريعة:
فزينة المرأة من حيث استعمالها لها ثلاثة أقسام:
أـ زينة مباحة: وهي كل زينة أباحها الشرع وأذن فيها للمرأة لكل ما فيه إظهار جمالها، ويدخل في ذلك لباس الحرير، والحلي، والطيب [العطر]، وغير ذلك, وفاعل المباح لا يثاب بفعله ولا يعاقب بتركه، إلا أن يكون المباح وسيلة لغيره من الواجب أو الحرام فيأخذ حكمه.
ب ـ زينة مستحبة: وهي كل زينة رغب فيها الشارع، وحث عليها، ويدخل في هذا القسم سنن الفطرة كالسواك، ونتف الإبط، والاغتسال ونحو ذلك. والمستحب هو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.
ج ـ زينة محرمة: وهي كل ما حرم الشارع، وحذر منه ونهى عنه وزجر فاعله، ومما تعتبره النساء زينة، كالنمص والوصل للشعر، ومشابهة الكافرات أو الرجال ونحو ذلك , والحرام هو ما يعاقب فاعله ويثاب تاركه امتثالاً لحكم الشرع.
ثانيا: الزينة والإسراف:
الإسلام هو دين الاعتدال والوسطية في كل شيء, والمسلمة الواعية يقظة دائمًا وأبدًا على الاعتدال والتوازن، والمرأة وخصوصًا الشابة تميل بطبيعتها إلى الزينة والاعتناء بمظهرها ولكن يجب ألا يجرها ذلك إلى المبالغة والإفراط.
ويجب ألا يغيب عن بالها أو عن بال أوليائها أن الإسلام الذي حض على الزينة ورغب في الجمال، هو نفسه الذي حذر من الوقوع في براثن الإسراف والخيلاء يقول تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67] وقال صلى الله عليه وسلم: [[كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة]]. [أخرجه البخاري معلقًا كتاب اللباس, باب قول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ}]
وقد أصبحت نساء هذا العصر أسيرات بيوت الأزياء وخطوط الموضة ومؤامرات اليهود، حتى غدت الواحدة منهن وهي موسرة وسع الله عليها لا تلبس الثوب الثمين الغالي أكثر من مرة واحدة، وهن بهذا الفعل قد وقعن في العبودية التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم وأيضًا قد انصرفن عن الغاية التي خلقن من أجلها.
والذي يجب أن تعلمه جميع نساء الإسلام أن الله تعالى قد امتن على عباده بالمال، وجعله قيامًا لمصالحهم، ووضع الضوابط لاستعمال هذا المال، وقد وضع أيضًا القيود في إنفاقه، فصاحب المال ليس حرًا في غله أو تبذيره كيف يشاء، يقول تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء:29] والإسراف تصرف ينبئ عن الأنانية والأثرة وإذا كانت الزينة للتكبر والخيلاء على الضعفاء, فهذا حرام قد نهى عنه الشارع وزجر.
والمسلمة مطالبة بحفظ وقتها، ويجب عليها أن تحفظ عمرها فيما يعود عليها بالنفع في الدين والدنيا، وإضاعة الساعات الطوال أمام المرآة وتسريح الشعر، هذا مضيعة للوقت والعمر نهى الشارع عنه، لأن الإسلام جعل الزينة وسيلة وليست غاية، وسيلة لتلبية نداء الأنوثة في المرأة وللظهور أمام زوجها بالمظهر الذي يجلب المحبة ويديم المودة.
ثالثا: الزينة والزوج:
قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي النساء خير قال: [التي تسره إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره]. [أخرجه النسائي, ك / النكاح, رقم 3179 وهو حديث حسن صحيح]
إن تزيين المرأة نفسها لزوجها من العوامل المهمة التي تساعد على استقرار البيت،، وجلب المودة بين الزوجين ودوام المحبة والوئام ومما ينبغي للمرأة الالتزام به شرعا وهو واجب عليها، وحق للزوج لا يسقط، أن تتزين، وتتجمل في بيتها، وأن تستعمل ما شاءت من أدوات الزينة، والتجمل من ثياب وحلي، وعطور، وكحل، وصبغة، وغيرها.
وإهمال المرأة أمر الزينة للزوج يعد تقصيرًا فاحشًا وربما كانت المرأة لا تشعر به لاعتقادها ارتفاع الكلفة بينهما، ولكن ذلك له أسوء الأثر على الزوج وعلى العلاقة الزوجية.(/1)
وليس القصد من الزينة للزوج هو إضاعة وقت المرأة، وإنما القصد حثها على النظافة والترتيب، ويصاحب ذلك طلاقة الوجه وحسن العشرة، والنظافة أهم وألزم للمرأة من الجمال، والمرأة التي تهمل نظافة نفسها، أو منزلها، أو أطفالها تبعد زوجها عنها بإرادتها.
ومما ورد في وصية أمامة بنت الحارث: [فلا تقع عيناه منك على قبيح ، ولا يشم أنفه منك إلا أطيب الريح، واعلمي ـ أي بنية ـ أن الماء أطيب الطيب المفقود، وأن الكحل أحسن الحسن الموجود].
رابعا: الفتاة المسلمة .. والزي الشرعي:
إن الإسلام رفع ذوق المجتمع الإسلامي، إحساسه بالجمال، فلم يعد الطابع الحيواني للجمال هو المستحب بل الطابع الإنساني المهذب، وجمال الكشف الجسدي جمال حيواني يهفو إليه الإنسان بحس الحيوان، وأما جمال الحشمة فهو الجمال النظيف الذي يرفع الذوق الجمالي، ويجعله لائقًا بالإنسان، ويحيطه بالنظافة والطهارة في الحس والخيال وللزي الشرعي الذي لا بد أن تتعود عليه الفتاة عدة مواصفات:
أـ أن يستوعب جميع البدن:
وذلك لكي يكون ساترًا للعورة، وللزينة التي نهيت المرأة عن إبدائها، لأن القصد الأول من اللباس هو الستر ثم الزينة، ولباس المرأة لا بد أن يكون ساترًا لوجهها، وكفيها، وقدميها، ومواضع الزينة من بدنها مما يستلزم النظر إليه رؤية موضعه من بدن المرأة، وذلك إذا كانت بحضرة أجانب لقوله ـ تعالى ـ {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ...} [النور:31].
ومما ينبغي ملاحظته أنه إذا تعودت البنت على التعري في البيت فإن ذلك من شأنه أن يكسر في نفسها هول وخطورة التعري، فلا تجد فيه أمرًا ذا بال إذا ما خرجت خارج البيت، ومن ثم تلبس الملابس غير اللائقة وهي لا ترى في ذلك حرجًا.
والثوب الذي يتحقق به الستر هو الثوب غير الشفاف، لأن الثوب الشفاف يزيد من الزينة والفتنة، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: [صنفان من أهل النار لم أرهما ... ونساء كاسيات عاريات .. الحديث]. [أخرجه مسلم, ك / اللباس والزينة, ب/ النساء الكاسيات العاريات, رقم 2128]
يقول ابن عبد البر: [أراد اللواتي يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي يصف ولا يستر، فهن كاسيات بالاسم عاريات في الحقيقة]. [تنوير الحوالك شرح موطأ مالك 2/216].
ب ـ ألا يكون زينة في نفسه:
كما يحدث الآن من بعض الفتيات هداهن الله ـ باسم الموضة التي حلقت حتى بالحجاب الشرعي، وذلك بتزيينه بالقصب، والجلد، والفصوص، والخرز، وغير ذلك مما يغص به المجتمع المسلم، والمسلمة منهية عن الثبات اللافتة للأنظار وخصوصًا أنظار الرجال، لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] وحيث إنها منهية عن إبداء الزينة فكيف تلبس ما هو زينة؟! وهذا داخل في التبرج، ومن أكبر أسباب الفتنة، وعوامل الفساد والله سبحانه يقول: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، وقد ذكر العلماء أن كلمة التبرج إذا استعملت فلها ثلاثة معان:
1ـ أن تظهر للأجانب مفاتنها.
2ـ أن تظهر لهم محاسن ثيابها وحليها.
3ـ أن تظهر للأجانب نفسها في مشيتها وتمايلها.
وكون الزي زينة في نفسه فهو داخل في النوع الثاني من التبرج وهنا يجب الإشارة إلى أمر هام وهو أن يكون لبس المرأة ضافيًا على جميع بدنها يستره جميعًا، وأن تكون العباءة غليظة لا تكشف ما تحتها من شكل الثوب ولونه وأن تكون مضمومة، بحيث لا تترك للهواء أن يعبث بها هذا مع التنبيه في المقابل أن تخصيص الثواب ليس مقصودا شرعيا بل الصحيح أن ما اشترطه الشرع ألا يكون لافتا للأنظار.
ج ـ ألا يكون مبخرًا أو مطيبًا:
يقول الشيخ محمد صالح المنجد: [وهذا مما فشا في العصر الحاضر ـ والعياذ بالله ـ رغم التحذير الشديد من النبي صلى الله عليه وسلم: [أيما امرأة استعطرت ثم مرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية] [رواه أحمد في مسنده 2 ك/166، رقم 6811، وإسناده حسن]
وإذا كان تطيب المرأة عند خروجها من بيتها إلى المسجد بحجة تطيبها للصلاة ولحضور الملائكة أمر لا يرضاه رب العالمين، فإن تطيبها في غيره من الأماكن حرام من باب أولى، وذلك لأن تعطرها خارج دارها من أسباب تحريك الفتنة.
ويقول المودودي في شأن الطيب إذا أسيء استعماله: [والطيب أيضا رسول من نفس شريرة إلى نفس شريرة أخرى، وهو من ألطف وسائل المخابرة والمراسلة ومما تتهاون به النظم الأخلاقية عامة، ولكن الحياء الإسلامي يبلغ من رقة الإحساس ألا يحتمل حتى هذا العامل اللطيف من عوامل الإغراء، فلا يسمح للمرأة المسلمة أن تمر بالطرق، أو تغشى المجالس مستعطرة، لأنها وإن استتر جمالها وزينتها ينتشر عطرها في الجو، ويحرك العواطف].(/2)
ويلحق بالطيب إظهار الفتاة لصوت الزينة الخفية كلبس الخلخال بحضرة الرجال الأجانب، حيث يقول تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31]، يقول القرطبي [أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت لتسمع صوت خلخالها، فإسماع صوت الزينة كإبداء الزينة وأشد، والغرض التستر] والتلذذ كما يكون بالنظر، يكون بغيره كالسمع والشم.
[ء] ألا يكون ضيقًا يصف شيئًا من جسمها:
الغرض من اللباس هو الستر، ستر العورة ومواضع الزينة، وهذا لا يتحقق في الواقع إلا بالثوب الواسع، أما الثوب الضيق فإنه يصف جسم المرأة أو بعضه، وإنه من الواجب على المرأة أن تهتم بستر حجم بدنها، لأن التساهل في ذلك من أعظم أسباب الفساد ودواعي الفتنة حتى ولو كان ذلك أمام المحارم.
ومن معاني الكاسيات العاريات: أن تلبس المرأة ثوبًا ضيقًا يبدي مفاتن جسمها لأن التي تكتسي بما لا يسترها، فهي تسمى كاسية ولكنها في الحقيقة عارية، وإنما كسوة المرأة ما يسترها، فلا يبدي جسمها، ولا حجم أعضائها لكونه كثيفًا واسعًا , يقول الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى: [والضيق لا يجوز لا عند المحارم ولا عند النساء إذا كان ضيقًا شديدًا يبين مفاتن المرأة].
والثوب الضيق جدًا كما أنه لا يحصل به الستر التام فإنه أيضًا قد يكون مضرًا بالصحة، فيضر بالمشية، وقد يضغط على الأعضاء والأحشاء مما قد يسبب بعض الأمراض.
[هـ] ألا يشبه لباس الرجال، أو لباس الكافرات:
من الفطرة التي فطر الله عليها الرجال والنساء، أن يحافظ الرجال على رجولتهم التي خلقهم الله عليها، وأن تحافظ المرأة على أنوثتها التي خلقها الله عليها، وهذا من الأسباب التي لا تستقيم حياة الناس إلا بها، وتشبه الرجال بالنساء هو مخالفة للفطرة، وفتح لأبواب الفساد، وإشاعة للانحلال في المجتمع.
ومع ذلك فهو حرام شرعًا لا جدال في ذلك، لأن فاعله من الجنسين متوعد باللعن والطرد والإبعاد عن رحمة الله، كما ورد عن ابن عباس مرفوعًا: [لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال]. [أخرجه البخاري, ك اللباس,ب/ المتشبهون بالنساء والمتشبهات بالرجال, رقم 5885]
والتشبه يكون بالحركات والسكنات، والمشية، وقد يكون باللباس أيضًا، وعليه فإن الرجل لا يحل له أن يلبس القلائد، ولا الأساور، ولا الخلاخل، ولا الأقراط ونحوها، وكذلك لا يجوز للمراة أن تلبس ما اختص الرجل بلبسه من ثوب أو قميص ونحوه، بل ويجب أن تخالفه في الهيئة والتفصيل.
ومن أسوأ الفتن التي تهدد مجتمعات المسلمين التشبه بالكفار، حيث إن التشبه الظاهري يتسرب تدريجيًا إلى القلب والعياذ بالله فيكون كبيرة وقد يزيد عن ذلك والتشبه بالكافرات يدل على ضعف الهوية، وعدم الثقة بالنفس، ورؤية أن ما عند الكفار من الدنيا خير، وهو ليس كذلك.
ومن مظاهر هذا التشبه تتبع خطوط الموضة، وتقليدها حذو القذة بالقذة، ومن يتتبع أمر هذه الموضة من مبدئها إلى منتهاها يجدها شرًا في شر، وأن الهدف منها هو تحطيم المرأة ماديًا عن طريق استنزاف أموالها، وإضاعة وقتها فيما يضر ولا ينفع، وتحطيمها معنويًا، وذلك لغير القادرات، واللاتي لا يملكن من المال ما يحقق رغباتهن في الجري وراء الموضة، فيصبن بالإحباط، وبالعقد النفسية.
فضلاً عن أن فيها نوعًا من العبودية لغير الله سبحانه، لأنها تقود صاحبتها عند الإسراف فيها إلى عبودية شهواتها، وتقديس جسدها وهذا له أثر مدمر على الأسرة والمجتمع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: [من تشبه بقوم فهو منهم] [أخرجه أبو داود, ك/ اللباس, ب/ في لبس الشهرة, رقم 4031, وحسنه ابن حجر]
وهذا التشبه بالكفار دليل لهزيمة نفسية، وفيه معنى ذوبان الشخصية وفقدان الذاتية في بوتقة من يحب وفي كيان من يقلد، في حين يريد الإسلام من المسلمة أن تكون لها شخصيتها المستقلة.
وهذا التشبه يدفع إلى فتنة الحياة الدنيا ومظاهرها ويقعد المنساقين وراء عادات الأجنبي وأزيائه وأخلاقه عن كثير من الواجبات الدينية، والمسئوليات الاجتماعية.
وهو من العوامل التي تحط من مستوى الشخصية وتستأصل فضيلة الشرف والعفاف عندها ، لما يؤدي إليه من تفلت للغرائز، وانطلاق للشهوات والملذات.
[و] ألا يكون لباس شهرة:
ولباس أو ثوب الشهرة هو: [الثوب الذي يقصد بلبسه الاشتهار بين الناس، كالثوب النفيس الغالي الذي يلبسه صاحبه تفاخرًا بالدنيا وزينتها].
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة] [حسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، رقم 03399].(/3)
ولا بد أن تعي الفتاة المسلمة خطورة هذا الأمر وأن تراعى عند اختيارها ملابسها ألا تكون غريبة الألوان، غالية الأثمان، لافتة الأنظار، وكذلك في اختيار القصات والتسريحات فتختار ما يناسب أذواق المسلمين وعاداتهم، لأن مخالفة ملبوس الناس يدعو إلى التعجب، فيجعل اللباس لباس شهرة.
خامسا: الفتاة المسلمة .. والزينة الحسنة:
والزينة الحسنة كالخضاب بالحناء في يد الفتاة ورجلها ورأسها، والتكحل بالإثمد، لأنه زينة ودواء، والإثمد: هو حجر الكحل الأسود، والكحل أفضل من تلك الأقلام التي تلون بلون الثوب، وتوضع على الجفن وهذا مما له آثاره السلبية على الجفن، والكحل من الزينة الباطنة لأن رؤيته تستلزم رؤية موضعه، ولذا لا يجوز للفتاة أن تبدي هذه الزينة إلا للنساء وللرجال المحارم.
وللفتاة أيضا أن تتزين بالحلي مهما كان نوعه، وذلك في حدود المشروع، بلا إسراف ولا مباهاة، لقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] ويجب عليها أن تخفي حليها عن الرجال الأجانب، ولاسيما إذا كان في يدها وذراعها، ولأن الحلي زينة، والله تعالى يقول: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31].
وللفتاة المسلمة أيضا إكرام شعرها، لأن جمالها في شعر رأسها، وبه زينة وجهها، وأن ذلك لا بد أن يكون دون مبالغة ومن إكرام الشعر تنظيفه، وترجيله أي تسريحه، وفرقه، وخضابه بالحناء, ويجب أن تجتنب الصبغ بالسواد، ومن ذلك حديث جابر رضي الله عنه قال: أُتي بأبي قحافة والد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد] [أخرجه مسلم, ك/ اللباس والزينة, ب/ استحباب خضاب الشيب, رقم 2102]
ويجوز استخدام المساحيق وأدوات التجميل للزينة ولكن بعدة شروط:
1ـ ألا يكون بقصد التشبه بالكافرات.
2ـ ألا يكون هناك ضرر من استعمالها على الجسم.
3ـ ألا يكون فيها تغيير الخلقة الأصلية كالرموش الصناعية، أو الحواجب ونحوهما.
4ـ ألا يكون فيها تشويه لجمال الخلقة الأصلية المعهودة.
5ـ ألا تصل إلى حد المبالغة، لأن الإكثار منها يضر بالبشرة أو يدخل في دائرة الإسراف المذموم.
6ـ ألا تكون مانعة من وصول الماء إلى البشرة عند الوضوء أو الغسل، وهذا الشرط مفقود في أصباغ الأظافر.
7ـ ألا تتسبب في ضياع الوقت فتصرف فيها الساعات.
ومن الزينة المحرمة قص الشعر على وجه التشبه بنساء الكفار لأن هذا لا يجوز، لقوله صلى الله عليه وسلم: [من تشبه بقوم فهو منهم]. [أخرجه أبو داود/ اللباس / وحسنه ابن حجر]
وكذلك أن تجعله كهيئة الرجل، بأن تقصه إلى أقرب أصوله، أو تقصه إلى الأذنين، وتشبه المرأة بالرجل في قص الشعر من الكبائر, ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: [[أنه نهى أن تحلق المرأة رأسها]. [أخرجه الترمذي, ك/ الحج, ب/ ما جاء في كراهية الحلق للنياء, رقم 914]
ومن الزينة المحرمة أيضًا وصل الشعر والزيادة عليه، لما ورد في الصحيحين: [لعن الله الواصلة والمستوصلة] . [أخرجه البخاري ,ك/ اللباس, ب/ الوصل في الشعر, رقم 5934]
ولبس الشعر المستعار [الباروكة] يدخل في الحرمة، لأنها وإن لم تكن وصلاً لكنها تظهر شعر المرأة على وجه أطول من حقيقته، فهي أشد من الوصل، ولا فرق بين كون [الباروكة] شعرًا صناعيًا، أو شعر امرأة أخرى، أو شعر المرأة الأصلي الذي سبق قصه، لأن السبب واحد وهو تغيير خلق الله تعالى، والتزوير والتدليس، ويرى الشيخ العثيمين: أن المرأة إذا لم يكن على رأسها شعر أصلاً ـ وهي القرعاء ـ جاز لها لبس الباروكة لستر هذا العيب، لأنه إزالة العيوب جائزة، والممنوع إنما هو قصد التجميل لأن التجميل ليس إزالة العيب.
ومن الزينة المحرمة أيضًا والتي تعتبر من تغيير خلق الله تعالى النمص، وقد حرم الإسلام العبث بالحاجبين وأهداب العين، ولعن النامصة والمتنمصة، واللعن لا يكون إلا على شيء محرم، وما ابتلي به كثير من النساء اليوم من تهذيب الحواجب، أو تحديدها بقص جوانبها أو حلقها أو نتفها أو إزالتها والاستغناء عنها بحواجب صناعية ملونة بقصد الحسن وتغيير خلق الله يعتبر نمصًا ملعونة فاعلته لما فيه من تغيير الخلقة والأضرار الناجمة عنه.
وكذلك من الزينة المحرمة التي فيها تغيير لخلق الله، تفليج الأسنان ووشرها، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله]. والتفليج والوشر التوسعة بين الأسنان. [أخرجه البخاري 2ك / اللباس، ب/ المتفلجات للحسن، رقم 5931]
فالوشر تغيير لخلق الله، وانشغال بأمور تافهة لا قيمة لها في حياة المسلمة ،وإضاعة للوقت الذي يجب شغله بما ينفع الإنسان، كما أنه تزوير وتدليس، ويجوز وشر الأسنان للعلاج وإزالة العيوب كما سبق من فتوى الشيخ العثيمين رحمه الله.(/4)
الفتاة المسلمة ورمضان
مفكرة الإسلام : الحمد لله الذي من على عباده بمواسم الخيرات ليغفر لهم الذنوب ويكفر عنهم السيئات ويضاعف لهم الحسنات ويرفع الدرجات.
فتاتي المسلمة: إن بلوغ شهر رمضان رحمة مهداة, والسعيد من بلغه الله إياه وأعانه على صيامه وقيامه ثم قبل منه خالص أعماله.
فكم من أناس تمنوا بلوغه وحال بينهم الموت. فإلى فتاتي التي بلغها الله هذا الشهر الكريم أسأل: كيف تستقبلين شهر رمضان؟
هل تستقبل الفتاة شهرها العظيم بالنوم وإضاعة الوقت والكلام فيما لا يفيد، وبعد الإفطار السهر على التلفاز والأكل الكثير والخروج مع الصديقات إلى الأسواق.
لا يا صغيرتي فليس هذا حال من يشكر الله على هديته ونفحاته.
والصورة الجميلة التي يحب الله أن يراك عليها هي من تعزم على:
1ـ مضاعفة الجهد والإكثار من الطاعات المتنوعة كالبر والإحسان وقراءة القرآن والصلاة والذكر والاستغفار.
2ـ ترك الآثام والسيئات.
3ـ التوبة الصادقة مع الله، فرمضان شهر التوبة فمن لم تتب فيه فمتى تتوب؟
4ـ قراءة القرآن وتدبره لأن رمضان شهر القرآن.
5ـ الحمد والشكر لله على بلوغ شهر رمضان. فله الحمد وله الشكر.
ـ ومما يعين الفتاة على استغلال الوقت في شهر رمضان الإحاطة بفضائل هذا الشهر الكريم التي لو علمها لم يفرط فيها، والحرص على استثمار ساعات رمضان بل والدقائق ولا تستسلم لمرض 'التسويف' الذي يقطع أعمارنا ويكون سببًا في التفريط في هذه النفحات الربانية: 'لله في أيام دهره نفحات, فتعرضوا لنفحاته واسألوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم'.
فضائل شهر رمضان والصيام
رمضان شهر القرآن
يقول تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185].
ولم يذكر في القرآن شهر من الشهور غير شهر رمضان، فالقرآن شرف المكان 'مكة' والزمان 'رمضان', ومن الجميل أن القرآن والصيام يشفعان للعبد يوم القيامة، كما روى الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: 'الصيام والقرآن يشفعان للبعد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان'.
انقلاب في الكون
وذلك استعدادًا لهذا الشهر العظيم كما جاء في صحيح البخاري ومسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 'إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين'.
كنوز الحسنات
يضاعف الله فيه الحسنات ويرفع الدرجات، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه'.
وجزاء الصوم لا يعلمه إلا الله، فقد جاء في الحديث: 'كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به'. وقد خص الله من كرمه أيضًا للصائمين بابًا في الجنة يقال له: الريان كما جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 'إن في الجنة بابًا يقال له: الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة, لا يدخل منه أحد غيرهم, يقال: أين الصائمون؟ فيقومون فيدخلون, فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد'.
ألا تتمنين أن تكوني منهم فتاتي الصائمة؟
العتق من النار
لله عتقاء من النار في رمضان وذلك كل ليلة من رمضان، ومن فطر صائمًا كان عتقًا لرقبته من النار كما جاء في الحديث الصحيح.
وجاء في الحديث الطويل الذي رواه ابن خزيمة والبيهقي: 'أن أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار'، ولقد جاء في الحديث أيضًا أن من صام يومًا في سبيل الله باعد الله به وجهه عن النار سبعين خريفًا 'فكيف بمن صام أيام رمضان'؟
إجابة الدعاء
للصائم دعوة مستجابة عند فطرة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: 'عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 'إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد'.
وقال صلى الله عليه وسلم: 'ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر' رواه البيهقي.
غفران الذنوب السابقة
إن صيام رمضان وقيامه سبب لمغفرة ما تقدم من الذنوب كما جاء في الأحاديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 'من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه'.
'من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه'.
'من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه'.
وفي الحديث: 'رغم أنف من أدرك رمضان ولم يغفر له'.
فمن لم يغفر لها في رمضان فمتى ستكون فرصة المغفرة إذن؟
هدية ليلة القدر
في شهر رمضان ليلة القدر وهي خير من ألف شهر كما جاء في سورة القدر 'ما يقرب من أربع وثمانين سنة'. وفي الحديث الشريف: 'من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن حرم خير هذه الليلة فقد حرم خيرًا كثيرًا'.
اللهم لا تحرمنا أجرها وخيرها.
يفرح الله بعباده(/1)
ويزين جنته لعباده ويقول: 'يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليكِ'. [جزء من حديث أبي هريرة].
والملائكة أيضًا تستغفر للصائمين حتى يفطروا كما جاء في الحديث، ويباهي الله بعباده الملائكة ويقول: 'انظروا يا ملائكتي انظروا إلى عبدي ترك طعام وشرابه من أجلي', من أجل ذلك كان 'خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك'.
اسألي نفسك!!
فتاتي المسلمة
اسألي نفسك: ماذا سأفعل في رمضان؟
وإليك إشارات لتساعدك على ترتيب أفكارك قبل كتابة خطتك في رمضان:
1ـ أنا والقرآن [كم سأقرأ من القرآن اليوم؟].
2ـ أنا والصدقة [بكم أتصدق ولمن؟].
3ـ أنا والدعاء [اكتبي الأدعية التي تريدينها لتكون واضحة أمامك لتدعي بها في رمضان].
4ـ أنا وصلة الأرحام [اكتبي أسماء الأهل لتتصلي بهم أو تقومي بزيارتهم وابدئي بوالديك, فرمضان فرصة للتواصل الأسري].
5ـ أنا وقيام الليل [احرصي على صلاة القيام مهما كانت الظروف].
6ـ أنا والصلاة في المسجد [إن أمكن, واختاري المسجد القريب، وإن لم يكن فصلاتك في بيتك خير لك].
7ـ أنا والمدرسة [نظمي وقتك واجعلي للدراسة حظًا من اليوم، فرمضان شهر العمل والعبادة].
رمضان فرصة لاكتشاف النفس وبناء الذات
اجعلي من شهر رمضان شهر إعداد وتربية ذاتية ودينية فالأمة بحاجة إلى فتيات جادات تعيد مجد الأمة وعزها, يقول الشاعر:
شباب ذللوا سبل المعالي وما عرفوا سوى الإسلام دينا
فتاتي لا تعرضي عن هدي ربك ساعة, عضِّي عليه مدى الحياة لتغنمي.
فمن لم يدرك الإيمان في رمضان فمتى يدركه؟
ومن لم يدرك التوبة وإصلاح قلبه فمتى يدركه؟
ـ فتاتي: إن رمضان فرصة لبداية صداقة حقيقية مع النفس وكشف أغوارها، نكتشف فيه مواطن الضعف، ونربي أنفسنا على الأفضل، ننظر في كتاب الله، ونجلس جلسات رمضانية مع من نحب، ونتسلى في آخر الليل بنجوى خالقنا، وهنا نحب أنفسنا لأنها قادرة على فعل الخير في هذا الشهر، والتغلب على شهوات النفس، ومشاركة الآخرين مشاعر الود والرحمة, تلك فرصة, فهل ندعها تضيع منا قبل أن نستغل كل دقيقة فيها.
وقد قيل: 'من علامة المقت ضياع الوقت', وقال الشاعر:
إذا مر بي يوم لم أقتبس هدى ولم أستفد علمًا فما ذاك من عمري
اللهم يا من بلغتنا رمضان, أعنَّا على صيامه وقيامه واكتب لنا الأجر والثواب والعتق من النار, ولا تجعل حظنا من صيامنا الجوع والعطش.
فتاتي كوني مختلفة وامنحي نفسك رمضانًا مختلفًا هذا العام.(/2)
الفتات ؟! وأين الجَنى ؟ عجباً أنستجدي
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
عَجَباً ! أنسْتجدي فُتاتَ الفِكْرِ من أرْضٍ يَسُوءُ بِها جَناهُ ويَجْدُبُ ... ...
مُتَسوِّلين كَأنّنا الفُقَراءُ ! أرْ ضُ المُسْلمينَ هِيَ الأعزُّ وأَخْصَبُ ... ...
الله كَرَّمنا بِحَمْلِ رسَالةٍ كُبْرى إلى الدنيا تُنِيرُ وتُوهِبُ ... ...
لِنُبَلِّغ الدُّنيا رِسَالةَ ربِّنا هذا " الكتابَ " وسُنَّةً لا تَكْذِبُ ... ...
حقّاً بَيَاناً مُعْجزاً لا يَسْتَطيـ ـعُ الخَلْق أن يأتوا بِمَا هو يَقْربُ ... ...
ومُيَسَّراً لِلعالَمِيْنَ تَدَبُّراً ذِكْراً يَبيْنُ عَلى الفُؤَادِ ويُعْرِبُ ... ...
الله كَرَّمنا بِحَمْلِ رسَالةٍ لِلعَالَمين فَلاَ نَزِيغُ ونَحْجُبُ ... ...
عَهْداً مَعَ الرّحْمن حقّاً صَادِقاً يُوفِيه بَذْلٌ باليقينُ مُطيّبُ ... ...
لنَكُونَ أكْرْمَ أُمَّةٍ قَدْ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ إِنْ صَدَقَ الوفَاءُ الأنْجَبُ ... ...
*** ... ... ***
عَجباً أنسْتَجْدي الفُتَاتَ وعِنْدنَا خَيْرٌ أبَرُّ ومورِدٌ لا يَنْضَبُ ... ...
يا ويلنا ! ما بالنا صُغْنَا أَمَا نِيَنَا شِعَاراتٍ تَضِجُّ وتصْخَبُ ... ...
جَفَّ الشِّعارُ ! فَأَيُّ نَهْج يَحْتَو يْهِ وأيُّ دَرْبٍ يَجْتَلِيه المطْلَبُ ؟! ... ...
بُحَّتْ حناجِرُنا وأدْمَيْنا الأَكُـ ــفَّ وكم سَكبْنا أدْمُعاً تتَلَهَّبُ ... ...
ولكم بَذلنا المالَ والدَّمَ في الميا دِين التي فُتِحَتْ ! نَجُودُ ونَسْكَبُ ... ...
أيْنَ الجَنَى ؟! وَيْحي ! هَزائِمُ لم تَزَل تطْغَى وقَهرٌ والهَوانُ الأصْعَبُ ... ...
خَلَلٌ يَدُورُ بِنا ويُطْوى بَيْنَ أمْـ ـوَاج الشِّعاراتِ التي هي تُلْهِبُ ... ...
هذي " الرِّسالةُ " لمْ تَعُدْ إلاّ شِعَا راتٍ تُدَوِّي أَو أَمَانٍ تُغْلَبُ ... ...
طَالَ الصُّراخُ ! وحَلَّ بَيْنَ قُلوبِنَا فِكْرُ الغَرِيبِ وكلُّ ما هو أغْرَبُ ... ...
ويحي ! أخَذْنا منه ظُلْمَة فِكْره وفسَادَ أَخلاقٍ وقَهْراً يَصْحَبُ ... ...
وهُبوطَ فَنٍّ في المنَازِلِ دائرٍ وجُنونَ أَنْغَامٍ وسَكْرى تَطْربُ ... ...
كَمْ مِنْ " نُجوم الفَنّ " قَدْ صَعدوا على جُثَثٍ تَبَعْثَرُ أو دماءٍ تُسْكَبُ ... ...
الهابِطون إِلى الوُحُول ! فكم تَرَى " نجماً " هناكَ ! فَقِيل ذلك " كَوْكَبُ " ... ...
العَارِياتُ الراقِصَاتُ على الدِّما ءِ ذَهبْنَ في خَدرٍ يُذلُّ ويُذْهِبُ ... ...
كَثُرَتْ مَوَاخير الفسَادِ ولم تَزَلْ تَنْمُو وحَشْدُ الفَاسِقينَ يُؤَلِّبُ ... ...
و " الصَّالحونَ " كَأَنَّهُمْ في غَفوةٍ أو غَفَلةٍ ! وهوى يَضجُّ ويَصْخَبُ ... ...
طالَ الضَّجيج ! ولم نَزَلْ نَهْوي بِه خَدَرٌ يَشُلُّ عُقولَنا ويُغيِّبُ ... ...
ويَشُلُّ أسْماعاً فلا تَدْري الّذي يَجْري ! وكم يَغْشى العُيونَ ويَحجبُ ! ... ...
حَشدٌ هُناكَ يَزيدُ في غَلْوائِهِ بَذْلاً و يَنْشطُ للفَسادِ ويَجْلبُ ... ...
مُتَماسِكينَ على ضَلالٍ واسعٍ وعَلى مَناهِجَ للإبادَة تُسْحَبُ ... ...
وهُنا غُفاةٌ ، ويحَ نَفْسِيَ ، غُفَّلٌ مُتمزِّقين ! عَنِ الحقائقِ غُيَّبُ ... ...
ألْهَتْهُمُ الدّنْيا ! فَغَابُوا بَيْنَها شِيَعاً مُخَدَّرَةً تُذَلُّ وتُنْهَبُ ... ...
*** ... ... ***(/1)
الفتن وأسباب السقوط فيها
وقوع الفتن سنة ربانية لا تتبدل، كما في قوله- تعالى-: ((أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)) [العنكبوت:2]
وقد كتبها الله- عز وجل- على عباده لحكمٍ عظيمة: منها تمييز المؤمنين من غيرهم، ومنها تكفير السيئات ورفع الدرجات، ومنها غير ذلك مما لا نعلم.
فعن حذيفة- رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيُّ قلبٍ أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر مر باداً، كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه )) [1].
والحديث عن الفتن وأسبابها يتطلب إفراد كلمة (الفتن) بالتعريف، والشرح، وتوضيح الفرق بين مد لولاتها.
فالفتن : وهي بكسر الفاء وفتح التاء، جمع فتنة، قال الأزهري : (جامع معنى الفتنة في كلام العرب الابتلاء والامتحان،وأصلها مأخوذ من قولك: [" فتنت الفضة والذهب "] أذبتهما بالنار ليتميز الردئ من الجيد،
ومن هذا قول الله جل وعز: (( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ)) [ الذاريات:13] ،أي يُحرقون بالنار، وقال ابن الأنبا ري: [فتنت فلانة فلاناً، قال بعضهم: أمالته]. قال تعالى: (( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ)) [الإسراء: 73] .
أي يميلونك، فتنت الرجل عن رأيه أي أزلته عما كان عليه، والفتنة: الإثم في قوله تعالى : (( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ)) [التوبة:49] .
وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( إني أرى الفتن خلال بيوتكم )) [2] .
فإنه يكون القتل والحروب والاختلاف، الذي يكون بين فرق المسلمين إذا تحزبوا. ويكون ما يبلون به من زينة الدنيا وشهواتها؛ فيفتنون بذلك عن الآخرة والعمل لها، والفتنة الإضلال في قوله تعالى : (( مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ)) [الصافات:162] .
يقول: ما أنتم بمضلين إلا من أضله الله، والفتنة العذاب نحو تعذيب الكفار ضعفي المؤمنين في أول الإسلام ليصدوهم عن الإيمان. وأخبرني المنذري عن ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال: الفتنة الاختبار، والفتنة المحنة، والفتنة المال، والفتنة الأولاد، والفتنة الكفر، والفتنة اختلاف الناس بالآراء، والفتنة الإحراق، وقيل الفتنة: الغلو في التأويل المظلم، يقال: فلان مفتونٌ بطلب الدنيا، أي قد غلا في طلبها. وجماع الفتنة في كلام العرب: الابتلاء والامتحان) [3] ا.هـ.
مما سبق بيانه يتحصل لدينا أنَّ الفتنة تطلقُ ويرادُ منها معانٍ كثيرة يدلُ على كل معنى منها، ويعرف حسبما ورد بالسياق والقرائن،
ومن هذه المعاني :
ا- الابتلاء والامتحان.
2- الميل عن الحق.
3- الإثم.
4- القتل والحرب.
5- الاختلاف والفرقة.
6 - ا لإضلال.
7- الكفر.
8- العذاب.
9- الغلو. وغير ذلك من المعاني المذمومة.
والآن وبعد أن تبين لنا معنى الفتنة وما يتفرع عنها من المعاني، وبعد
أن تبين لنا خطرها وذم الشرع لها، وجب الحذر منها، والهرب والفرار والفزع إلى الله- عز وجل- من شرورها.
ومما يساعد على البعد عنها، أو النجاة منها إذا وقعت، معرفة أسبابها والطرق المؤدية إليها؛ لأنَّ معرفة أسباب السقوط فيها تعينُ على الوقاية منها قبل وقوعها، أو النجاة منها بعد وقوعها بإذن الله عز وجل.
أسباب السقوط في الفتن أعاذنا الله منها :
الأسباب المؤدية إلى ملابسة الفتن والسقوط فيها كثيرة، لكنها لا تخرج في مجموعها عن سببين هامين، يرجع إليهما جميع الأسباب.
وقد ذكر هذين السببين الإمامان الجليلان ابن تيمية وتلميذه ابن القيم- رحمهما الله تعالى- وعبرا عن ذلك بأسلوبين مختلفين لفظاً لكنهما متفقان في المعنى.
وأبدأ بما ذكره الإمام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- عن هذين السببين، ثم أثني بما ذكره الإمام ابن القيم- رحمه الله تعالى-. وأختم هذا المبحث إن شاء الله تعالى بما تلخص من كلام الإمامين حول هذه الأسباب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى-:
ولا تقع فتنة إلاَّ من ترك ما أمر الله به، فإنَّه سبحانه أمر بالحق وأمر بالصبر. فالفتنة : إما من ترك الحق، وإما من ترك الصبر.
فالمظلوم المحق الذي لا يقصر في عمله يؤمر بالصبر، فإذا لم يصبر فقد ترك المأمور.
وإن كان مجتهداً في معرفة الحق ولم يصبر، فليس هذا بوجه الحق مطلقاً، لكن هذا وجه نوع حق فيما أصابه، فينبغي أن يصبر عليه. وإن كان مقصراً في معرفة الحق، فصارت ثلاثة ذنوب: أنَّه لم يجتهد في معرفة الحق، وأنَّه لم يصبه، وأنَّه لم يصبر.(/1)
وقد يكون مصيباً فيما عرفه من الحق فيما يتعلق بنفسه، ولم يكن مصيباً في معرفة حكم الله في غيره؛ وذلك بأن يكون قد علم الحق في أصلٍ يختلف فيه بسماعٍ وخبر، أو بقياسٍ ونظر، أو بمعرفةٍ وبصر، ويظنُّ مع ذلك أن ذلك الغير التارك للإقرار بذلك الحق عاصٍ أو فاسق أو كافر. ولا يكون الأمر كذلك، لأنَّ ذلك الغير يكون مجتهداً، قد استفرغ وسعهُ، ولا يقدر على معرفة الأول؛ لعدم المقتضى، ووجود المانع.
وأمور القلوب لها أسبابٌ كثيرة، ولا يعرف كل أحد حال غيره من إيذاءٍ له بقولٍ أو فعل، قد يحسب المؤذى- إذا كان مظلوماً لا ريب فيه- أن ذلك المؤذي محض باغ عليه، ويحسب أنَّه يدفع ظلمه بكل ممكن. ويكون مخطئاً في هذين الأصلين، إذ قد يكون المؤذي متأولاً مخطئا، وإن كان ظالماً لا تأويل له فلا يحل دفع ظلمه بما فيه فتنة بين الأمة، وبما فيه شر أعظم من ظلمه. بل يؤمرُ المظلوم ها هنا بالصبر، فإنَّ ذلك في حقه محنة وفتنة. وإنَّما يقع المظلومُ في هذا لجزعه وضعف صبره، أو لقلة علمه وضعف رأيه. فإنَّهُ قد يحسب أنَّ القتل ونحوه من الفتن يدفع الظلم عنه، ولا يعلم أنَّه يضاعفُ الشر كما هو الواقع، وقد يكون جزعه يمنعه من الصبر.
والله سبحانه وصف الأئمة بالصبر واليقين، فقال: (( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)) [السجدة:24] .
وقال: ((وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) [العصر:3] [4]ا. هـ.
وهذا الكلام من شيخ الإسلام- رحمه الله تعالى- وإن كان متوجهاً
إلى فتنة البغي والاختلاف بين المسلمين، لكننا نجدهُ يعمم ذلك على كل فتنة، حيث يقول فيما سبق: (فالفتنة: إمَّا من ترك الحق، وإما من ترك الصبر).
أمَّا الإمام ابن القيم- رحمه الله تعالى- فيحيل أسباب الفتن إلى الشبهات أو الشهوات، وهما نفس ما ذكرهُ شيخ الإسلام من الأسباب. فالشبهةُ إنما تنشأ من ترك الحق والجهل به، بينما تنشأ الشهوةُ من ترك الصبر وضعفه.
يقول الإمام ابن القيم- رحمه الله تعالى-:
[ والفتنة نوعان : فتنة الشبهات. وهي أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات.
وقد يجتمعان للعبد. وقد ينفرد بإحداهما.
ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة، وقلة العلم، ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد، وحصول الهوى؛ فهنالك الفتنة العظمى، والمصيبة الكبرى، فقل ما شئت في ضلال سيئ القصد، الحاكم عليه الهوى لا الهدى، مع ضعف بصيرته، وقلة علمه بما بعث الله به رسوله، فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ)) . [النجم:23]
وقد أخبر الله سبحانه أن اتباع الهوى يضل عن سبيل الله، فقال:
(( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)) [صّ:26] .
وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع، على حسب مراتب بدعهم. فجميعهم إنما ابتدعوا من فتنة الشبهات التي اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل، والهدى بالضلال.
ولا ينجي من هذه الفتنة إلاَّ تجريد اتباع الرسول، وتحكيمه في دق الدين وجله، ظاهرة وباطنه، عقائده وأعماله، حقائقه وشرائعه، فيتلقى عنه حقائق الإيمان وشرائع الإسلام، وما يثبته لله من الصفات والأفعال، والأسماء، وما ينفيه عنه، كما يتلقى عنه وجوب الصلوات وأوقاتها وأعدادها، ومقادير نصب الزكاة ومستحقيها، ووجوب الوضوء والغسل من الجنابة، وصوم رمضان، فلا يجعله رسولاً في شيءٍ دون شيء من أمور الدين، بل هو رسولٌ في كل شيء تحتاج إليه الأمة في العلم والعمل، لا يتلقى إلاَّ عنه، ولا يؤخذ إلاَّ منه، فالهدى كله دائر على أقواله وأفعاله، وكل ما خرج عنها فهو ضلال.
فإذا عقد قلبه على ذلك وأعرض عما سواه، ووزنه بما جاءَ به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن وافقه قبله، لا لكون ذلك القائل قاله، بل لموافقته للرسالة، وإن خالفه رده، ولو قاله من قاله، فهذا الذي ينجيه من فتنة الشبهات، وإن فاته ذلك أصابه من فتنتها بحسب ما فاته منه.
وهذه الفتنة تنشأ تارةً من فهمٍ فاسد، وتارةً من نقلٍ كاذب، وتارةً من حقٍ ثابت خفي على الرجل فلم يظفر به، وتارةً من غرضٍ فاسد وهوى متبع، فهي من عمى في البصيرة، وفساد في الإرادة.
وأما النوع الثاني من الفتنة: ففتنة الشهوات.
وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتين في قوله: (( كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ)) [التوبة:69].
أي تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخلاق هو النصيب المقدر،(/2)
ثم قال: ((وخضتم كالذي خاضوا )) فهذا الخوض بالباطل، وهو الشبهات.
فأشار- سبحانه- في هذه الآية إلى ما يحصلُ به فسادَ القلوب والأديان، من الاستمتاع بالخلاف، والخوض بالباطل؛ لأنَّ فساد الدين: إمَّا أن يكون باعتقاد الباطل والتكلم به، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح.
فالأول: هو البدع وما والاها، والثاني: فسق الأعمال.
فالأول: فساد من جهة الشبهات، والثاني: من جهة الشهوات.
ولهذا كان السلف يقولون: [ احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنهُ هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه ].
وكانوا يقولون : [ احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون ].
وأصل كل فتنة إنَّما هو من تقديم الرأي على الشرع، والهوى على العقل.
فالأول : أصل فتنة الشبهة ، والثاني : أصل فتنة الشهوة.
ففتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر، ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطةً بهذين الأمرين ، فقال: (( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)) [السجدة:24] .
فدل على أنَّهُ بالصبر واليقين تنالُ الإمامةَ في الدين.
وجمع بينهما أيضاً في قوله: (( وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) [العصر:3] فتواصوا بالحق الذي يدفع الشبهات، وبالصبر الذي يكفُّ عن الشهوات، وجمع بينهما في قوله: (( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ)) [صّ:45] .
فالأيدي : القوى والعزائم في ذات الله، والأبصار: البصائر في أمر الله. وعبارات السلف تدور على ذلك.
قال ابن عباس: [أولي القوة في طاعة الله، والمعرفة بالله].
وقال الكلبي: [أولي القوة في العبادة، والبصر فيها].
وقال مجاهد: [الأيدي: القوة في طاعة الله، والأبصار: البصر في الحق].
وقال سعيد بن جبير: [الأيدي: القوة في العمل، والأبصار: بصرهم بما هم فيه من دينهم].
وقد جاء في حديثٍ مرسل: (( إن الله يحبُ البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات )) [5].
فبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة- والله المستعان " [6]ا. هـ.
وبعد هذا الكلام النفيس من هذين الإمامين الجليلين، والذي لا مزيدَ عليه في ذكر أسباب الفتن، نجد التطابق التام في كلاميهما من ناحية المعنى والمضمون، بل في بعض الألفاظ أحياناً.
ويمكن تلخيص هذه الأسباب فيما يلي :
1_ ترك الحق وعدم السعي للعلم به، أو عدم إصابته بسبب شبهة
أو تأول فاسد؛ ومن هنا تنشأ الفتنة بسبب الجهل أو الفهم الفاسد.
وهذا ما عبر عنه شيخ الإسلام- رحمه الله تعالى- بقوله : (ترك الحق)، وعبر عنه الإمام ابن القيم- رحمه الله تعالى- بقوله: (فتنة الشبهات من ضعف البصيرة وقلة العلم) وقوله في موطن آخر من النقل السابق: (وهذه الفتنة تنشأ تارةً من فهمٍ فاسد، وتارةً من نقلٍ كاذب، وتارةً من حقٍ ثابت خفي على الرجل فلم يظفر به) ويقول أيضاً عن هذه
الفتنة: (وأصل كل فتنة إنما هو تقديم الرأي على الشرع، والهوى على العقل. فالأول: أصل فتنة الشبهة، والثاني : أصل فتنة الشهوة).
2_ ترك الصبر: وهذا هو السبب الثاني من أسباب الفتن، ولكن أصل الفتنة هنا لم يأت من الجهل بالحق، أو تقديم الرأي على الشرع، أو الشبهة المشوشة على الحق، وإنَّما أصلُ الفتنة في هذا السبب هو عدمُ الصبر على الحق. فصاحب هذه الفتنة لا ينقصهُ العلم بالحق، بل يعلمه ولا يجهله، ولكنه تركه ضعفاً وشهوة وهو يعلم من نفسه أنَّه تاركٌ للحق، وهذا ما عبرَ عنه شيخ الإسلام بقوله: (فالمظلوم المحق الذي لا يقصرُ في علمه يؤمرُ بالصبر، فإذا لم يصبر فقد ترك المأمور) .
أما الإمام ابن القيم- رحمه الله تعالى- فعبر عن هذا السبب بقوله: (وأما النوع الثاني من الفتنة: ففتنة الشهوات) وقال عن هذه الفتنة أنَّها تدفع بالصبر، وقال عن أصل هذه الفتنة بأنَّه تقديم الهوى على العقل. ثم استدل كلا الإمامين على هذين الأصلين، وكيف يدفعان بقوله تعالى: (( وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) [العصر:3 ] أي تواصوا بالحق الذي يدفع الشبهات، وبالصبر الذي يكف عن الشهوات.
كما أنَّهما استدلا بقوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)) [السجدة:24] .
فبالصبر تدفع الشهوة والهوى، وباليقين تدفعُ الشبهة والجهل بالحق.(/3)
وبالتأمل في الفتن صغيرها وكبيرها، ما كان منها على مستوى الأفراد وما كان فيها على مستوى الطوائف، نجد أنَّها لا تخرج أبداً عن هذين السببين، بل لو تأمل الإنسان نفسه، وما يقعُ فيه من الآثام، فإنَّ ما وقعَ فيه لا يخرج في سببه عن شبهة أو شهوة، أو مزج بين شبهةٍ وشهوة، أعاذنا الله من ذلك كلهِ بمنهِ وكرمه، والشيطانُ لا يدخلُ على العبد إلاَّ من باب الشبهة أو الشهوة، ولا يُبالي من أيهما دخل.
---
[1] مسلم . ك . الإيمان (144).
[2] البخاري كتاب المناقب (3957).
[3] تهذيب اللغة 14/ 297- 299 (باختصار).
[4] الاستقامة 1/ 39، 40.
[5] ضعفه العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (3858).
[6] إغاثة اللهفان (1/ 165- 167).(/4)
الفتنة والبلاء
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
خلق الله الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويفردوه بالعبادة تلك هي الغاية من خلقهم، كما قال تعالى: ? وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ?[الذاريات:56 ]، ولم يشأ الله سبحانه أن يقهرهم على عبادته بل منحهم الإرادة والاختيار وأبان لهم الحق من الضلال وجعل هذه الحياة ميداناً للابتلاء والاختبار.. ومن رحمته تعالى وكرمه أنه لا يحاسب الخلق بعلمه الأزلي بما هو كائن وصادر منهم، بل يحاسبهم بما عملوا وما كسبت أيديهم وقد اقتضت سنة الله تعالى أن لا يترك الناس دون تمحيص واختبار، بل يبتليهم بالشر والخير فتنة حتى يتبين المؤمن من الكافر، والصادق من الكاذب .. وقد يتألم الكثير من الناس للفتن والشدائد التي تقع على أمة الإسلام ولو علم الحكمة في هذه الشدائد والغاية من تلك الفتن لعلم أنها تنطوي على حكم ومصالح لا غنى للأمة عنها، فالشدائد التي تقع على المسلمين من أعدائهم وخصومهم الكفار والحروب الطاحنة التي تدور رحاها بين جند الكفر وجند الإيمان تمحص من نفوس المؤمنين، وتطهر قلوبهم حتى يكون إيمانهم قوياً خالصاً ثابتاً، فلا يكون للشيطان حظ في تلك النفوس المؤمنة الطاهرة.
ومن ناحية أخرى فإن الله تعالى يريد أن يتطهر الصف الإسلامي مما يعلق به ويلتحق به من نفوس دنسة حقيرة لا تقوى على حمل الإيمان والنهوض بتكاليفه وإنما تخادع وتنافق، ولولا الشدائد والمحن لبقي الصف خليطاً مغشوشاً، يختلط فيه المؤمن بالكافر والحق بالباطل، فقضت حكمة أحكم الحاكمين أن يبتلينا بالشدائد ، ويفتننا بالمحن والخطوب، حتى تتمايز النفوس وتغربل الصفوف ، ويتضح كل على حقيقته، فلا يبقى لبس ولا غموض.
المنافقون السابقون الذين دخلوا في الإسلام مع من دخل من المسلمين ، وكثروا سواد المسلمين، لم يدعهم الله ويتركهم على غشهم وخداعهم وتضليلهم للمسلمين وإنما ابتلاهم بالفرائض والتكاليف والأوامر والنواهي وكان من أعظم الأمور وأكبرها على المنافقين هو الجهاد في سبيل الله ، فبعد أن فرض الله القتال على المسلمين ظهر ما عند المنافقين من ضعف وخور وانكشف ما انطووا عليه من كذب ونفاق.
وأخذوا يعتذرون عن الحرب والقتال مع المؤمنين والجهاد في سبيل الله ، لقد كان الجهاد فضيحة لهم وخزياً وعاراً.
ولا عجب في ذلك فإن بذل النفس لله تعالى لا يمكن أن يكون من منافق دعي، إنما تكون التضحية والبذل للمال والنفس من مؤمن صادق الإيمان، ولذلك كان أكبر دليل على الإيمان هو القيام بالجهاد في سبيل الله.
كما أن كراهية الجهاد والهروب من تكاليفه دليل النفاق ولهذا فقد أنزل الله في المنافقين آيات لا تحصى فضحهم بها وأبان جبنهم وخورهم ومن تلك الآيات الكريمات قوله تعالى: ? وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ?[ال عمران:166-168]. لقد جمعوا بين التخلف عن الجهاد وبين الاعتراض والتكذيب بقضاء الله وقدره.
والقيام بأعباء الجهاد في واقع الأمر لا يقدم أجلاً ولا يؤخره ترك الجهاد.(/1)
وقال سبحانه: ? وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ?[النساء:72-73].
وقال تعالى: ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ?[النساء: 77].
ويصور الله تعالى نفسيات المنافقين المملوءة جبناً وضعفاً وكراهية للإيمان والتضحية والبذل فيقول سبحانه: ?وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ?[التوبة: 56] –خوفاً وهلعاً- ? لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ?[التوبة: 57].
إن آيات القرآن الكريم تكشف ما في جنبات نفوسهم وتمزق عنهم أثواب النفاق الذي يتلفعون بها ويتدثرون.
أيها المؤمنون:
إن الفتن والتكاليف ، والمصائب التي تنزل بالمسلمين، كل ذلك من شأنه أن يمحص المؤمنين، ويخلصهم من الدخيل، ويبعدهم من الضعف ولهذا يقول الله تعالى مبيناً حِكَمَهُ وحُكْمَه : ? مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ...?[آل عمران:179]. وقال سبحانه: ? الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ?[العنكبوت:1-3].
إن الإيمان له تكاليف وأعباء وطريقه مليء بالأشواك والعقبات فهو جهد وجهاد يحتاج إلى الصبر والاحتمال. فلا يكفي مجرد الدعوى بأن يقول الناس نحن مؤمنون ثم يتركون لهذه الدعوى ، كلا، فإن سنة الله الجارية هي اختبار وتمحيص وفتنة وابتلاء فلا يثبت إلا من كان صادق الإيمان، وينكص الأدعياء الذين يخادعون الله والذين آمنوا ويزعمون أنهم مؤمنون إن الله يبتلي عباده، ويفتنهم كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به. وكذلك تفعل الفتن في القلوب حين يعرض لها أو تعرض عليه.
إن الفتن هي التي تكشف معادن النفوس، وطبائع القلوب ودرجة غشها وغبشها ومرضها، أو درجة صفائها وصحتها وصدقها مع الله وثقتها به.
ولقد ذكر الله عز وجل لنا في كتابه الكريم حقيقة هذا القانون وهذه السنة، سنة الفرز والابتلاء والتمحيص والتمايز، وذلك في قوله تعالى: ? ِ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ?[ آل عمران:140-141].
ثم يبين الله تعالى أن الوصول إلى رضوانه والجنة والفوز العظيم كل ذلك لا ينال إلا عبر هذا الطريق. طريق الإيمان والجهاد والتضحية والبذل ، إن طريق الجنة محفوف بالمخاطر والمكاره، وفي سؤال استنكاري يضع القاعدة ويصحح التصورات الخاطئة فيقول جل وعلا: ? أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ?[ آل عمران:142-143].
فاللهم إنا نعوذ بك من الشرك والكفر والنفاق والشقاق ، اللهم وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واعصمنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن. وتوفنا وأنت راض عنا، أنت الغني ونحن الفقراء، وأنت القوي ونحن الضعفاء أنت أهل التقوى وأهل المغفرة.
الخطبة الثانية:
قديماً قالوا: جزى الله الشدائد كل خير عرفت بها عدوي من صديقى
فإنها تبين الأعداء من الأصدقاء، وتظهر الصادقين من الأدعياء.
نعم إن الشدائد والفتن تفرز النفوس وتبين حقيقة ما تنطوي عليه القلوب.
قد يظهر المجتمع بأحزابه وتنظيماته وأفراده وتشكيلاته أنه مسلم مؤمن. الكل يدعي الإيمان والإسلام، ثم تقع فتنة تبين حقيقة هذا الادعاء وتظهر الصادقين من الكاذبين والكفار من المؤمنين.(/2)
قد تظهر الفتنة في صورة ما من الصور، ومن تلك الصور أن يقوم فرد أو جماعة فيعلن الكفر الصراح ويسب الله والرسول وينال من عقيدة الأمة وثوابتها جهرة، ويعلن ذلك على الملأ.. فتعصف هذه الفتنة بالمجتمع عصفاً وتتباين المواقف، وتتعدد ردود الأفعال.. وهنا يكون التمحيص والابتلاء ويظهر الصادقون من الأدعياء ، فأما المؤمنون الصادقون فإنهم يغضبون لربهم ودينهم وينكرون المنكر بأيديهم وألسنتهم وقلوبهم، ويتخذون كل الوسائل المتاحة لمجاهدة المارقين والمنافقين اللادينيين، إن المؤمنين أشد حباً لله من ذواتهم وأنفسهم وإن الله تعالى لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.
إن هذا الموقف المُنكر والرافض والمطالب بمعاقبة المارقين ، هو الحق الذي أمرنا الله به ورسوله، وهو دليل صدق الإيمان والغيرة على الحرمات والمقدسات ، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - حاثاً أمته على مجاهدة هؤلاء المارقين: "فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
وقال - صلى الله عليه وسلم - في شأن المنكرات التي تصدر عن الحكام : "إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون منهم وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضى وتابع".
وهناك طائفة أخرى لا تهتم بدينها ولا مقدساتها إنها حريصة على العيش والمداهنة لا يمثل الدين في حياتها أي اهتمام، إنهم يركضون خلف الدنيا وشهواتها إن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ، إنهم يسخطون لذواتهم وشهواتهم ولكنهم لا يغضبون لله ولا يغارون على حرماته وهؤلاء هم المنافقون الذين يتخذون دينهم هزواً ولعباً. ولكنهم لا يجاهرون بما في نفوسهم، وإنما يتسترون ويتظاهرون.
وهناك فريق ثالث: يقع في الفتنة ويكشف أمره وهو الذي يتبنى الكفر والإلحاد والردة، ويدافع عنها ويخاصم في ربه الذي خلقه من العدم وغذاه بالنعم ومنحه السمع والبصر والعقل والصحة والعافية، ثم يتطاول هذا الحقير على ربه وخالقه، ويسب الله عدواً ، ثم يدعي فضَّ الله فمه أن ذلك إبداعاً وثقافة وصدق الله القائل في هؤلاء: ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ َثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ?[ الحج:8-10].
إن الذين يتبنون الكفر ويدافعون عنه ويتضامنون مع الكفار الزنادقة ويحاربون الله ورسوله والمؤمنين هم شر البرية ، هم الكفرة الفجرة .
إنني أستغرب من أناس يتكلمون بألسنتنا ويدّعون أنهم مسلمون ثم يدافعون عن المنابر التي تتطاول على الله عز وجل وتشتمه جهاراً نهاراً، ثم يتشدقون بأن ذلك حجراً على الفكر والأدب. ولو أن كاتباً شتم زعيماً من زعمائهم أو صنماً من أصنامهم التي يقدسونها لقاموا وما قعدوا ولانتفخت أنوفهم وأقاموا الدعاوى وطالبوا بمعاقبة المتطاول وتطبيق الدستور .. الخ. أما أن يشتم الخالق جل وعلا فمسألة فيها نظر. لقد كان الأجدر بهم أن يسكتوا ويكتموا كفرهم ولكن أبى الله إلا ليفضحهم ليظهروا على حقيقتهم فتعرفهم الأمة وقد بدت سوآتهم ، فتتعامل معهم المعاملة التي تليق بهم.
أيها المؤمنون: إن الله عز وجل يبتلينا بمثل هذه الأمور وغيرها لينظر كيف نعمل . ولو أراد الله عز وجل أن يهلك هؤلاء عاجلاً لفعل ولكن حكمته تعالى اقتضت أن يؤجل الحساب والعقوبة إلى يوم لا ريب فيه ويمتحن بعضنا ببعض في هذه الحياة، ولهذا يقول الله تعالى: ?... وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ...?[محمد:4]. ويقول سبحانه: ? وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً ?[فاطر:45].
أيها المؤمنون: أنتم حماة الإسلام وحراس العقيدة والدين، إن لم تقوموا بواجبكم في الأخذ على أيدي السفهاء من سدنة الماسونية ورموزها الذين تحركهم أيدي الماسونية لتحطيم الدين والأخلاق والقيم وإفساد المجتمعات، إن لم تقوموا لله فإن الشر سينتشر، ويزداد الفساد وإذا كثر الخبث فإن عقاب الله سيعم الجميع، ? وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ?[الأنفال: 25].
ثم ينبغي أن لا يكون حماسكم مؤقت بل عليكم أن تتابعوا هذه القضية وغيرها من القضايا التي تسيء إلى الإسلام أو تسيء المجتمع المسلم. حتى ينفذ حكم الله في الجناة لا تبرأ ذمة أحدنا إلا بذلك. ولن يضيع حق ولن يفلت مجرم إذا كان وراءه من يطالب به.. أروا الله من أنفسكم خيراً.(/3)
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
صحيح مسلم: كتاب الإيمان: باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان. وأن الإيمان يزيد وينقص. وأن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجبان: الحديث رقم:(80) عن عبد الله بن مسعود .
صحيح مسلم: كتاب الإمارة: باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا، ونحو ذلك: الحديث رقم: (1854) عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها .(/4)
الفتور الزوجي.. هل يحتاج إلى عيد لإنعاشه؟!
مصطفى الأزهري 24/1/1427
23/02/2006
هناك حالة شبه عامة لا تكاد تخلو منها حياة زوجية، مهما تكون حالة الحب والتوافق والانسجام التي تظلل حياة الزوجين فيها، فهناك شكوى متكررة من حالة فتور أو خمول أو تراخٍ تصيب مشاعر الزوجين بعد مرور وقت على الزواج، طال هذا الوقت أم قصر، المهم أن هذا الإحساس يحدث بالفعل، وقد يهدد العلاقة الزوجية نفسها في بعض -أو ربما- في كثير من الأحيان. ومن هنا كان هذا التساؤل فإن الأمر يحتاج إلى وقفة تأمل وبحث في الأسباب المؤدية لهذا الفتور في حياة الأزواج، وكيف يمكن تدارك ذلك وعلاجه.
السعادة الزوجية بين مدّ وجزر
السعادة الزوجية هدف يسعى إليه كل من يفكر في الزواج؛ فالهدف من إنشاء هذه العلاقة أصلاً هو نشدان الاستقرار النفسي والوصول إلى حالة الأمن العاطفي، لكن في ذات الوقت علينا أن نعترف بأن السعادة الزوجية مفهوم نسبي لا يسهل قياسه وتعميمه.. وهو يعني فيما يعني رضا الزوجين عن حياتهما الزوجية بشكل عام وبدرجة عالية..
وتقييم العلاقات الزوجية بأنها سعيدة أو تعيسة، لابد له أن يرتبط بمرحلة زمنية معينة تمر فيها هذه العلاقة.. وبعض العلاقات تكون في قمة السعادة الزوجية في فترة معينة.. ثم تتغير الأمور والأحوال.. وهناك لحظات سعيدة جداً.. أو ساعات، أو أيام، أو أسابيع، أو سنوات.. أو العمر كله... وبالطبع كلما طالت المدة السعيدة كلما كان ذلك أفضل.
وترتبط السعادة الزوجية بنجاح العلاقة الزوجية في وظائفها ومهماتها والتي تتمثل في الجوانب التالية:
تأمين العيش المشترك، والسكن والحب، وتلبية الرغبات النفسية والعاطفية والجنسية للطرفين، وفي إنجاب الأطفال وتربيتهم، وفي تلبية متطلبات المنزل والمعيشة، وفي تحقيق المتطلبات والأدوار الاجتماعية المتنوعة، وغير ذلك.
وتتأثر السعادة الزوجية بالنجاح أو الإخفاق (النسبي) في تحقيق الوظائف السابقة بالنسبة للزوج أو الزوجة أو كليهما وبشكل مُرض ومقنع.. وبعض العلاقات تنجح في تحقيق عدد من الوظائف الزوجية، ولكنها تخفق في بعضها الآخر.. ولا بد من القول بأن العلاقة الزوجية هي مشروع طويل الأمد يتطلب الإعداد والجهد والجد، وفيه مسؤوليات متنوعة .. وكلما أُنجزت مهمات معينة ظهرت مهمات ومسؤوليات أخرى يجب إنجازها..
من أين يأتي الفتور الزوجي؟!
إذا قلنا إن السعادة الزوجية هدف نهائي ترمي إليه الأسرة بركنيها الأساسيين: الزوج والزوجة، فإن تلك السعادة تتأثر بعدد من المشكلات الحياتية التي يمكن أن تجعل من هذا الزواج زواجاً تعيساً أو مضطرباً..
فمثلاً الشخصية النكدية، أو الشخصية الأنانية، أو الشخصية العدوانية المضطربة، أو الشخصية ضعيفة المهارات، أو المفرطة في الحساسية نحو الآخر.. يمكن لها إذا كانت تنطبق على أحد الزوجين، أن تحوّل الحياة الزوجية إلى لغم موقوت، وإلى مشكلات لا تنتهي.
ويلعب الملل الزوجي أو الفتور الزوجي دوراً كبيراً سلبياً في التعاسة الزوجية.. وأسبابه متنوعة، وبعض أسبابه ترتبط بالمجتمع وثقافته، وتكوين الزوجين وثقافتهما وعقدهما النفسية وتاريخهما الأسري..
وفي حالات الملل الزوجي تزداد المشكلات الزوجية، ويزداد الخصام والصراخ والسلبية وابتعاد كل طرف عن الآخر في نشاطاته وأهدافه اليومية.. ويلجأ البعض إلى الاستغراق في العمل أو في هوايات أو نشاطات خاصة يهدف من خلالها أن يثبت نفسه، وأن يخفف من إحباطاته، وأن يعطي نفسه شيئاً من التوازن والمتعة والتجديد، ولكنه يضيف بذلك مزيداً من الضغوط على علاقته الزوجية، ويساهم بزيادة تسميم أجوائها، ومن ثم ينشأ في نفس طرفي هذه العلاقة "جدار عازل" يحول بين الأمل الجميل الذي كان، والواقع الجاف الكائن فعلاً،
ومن الممكن أن يتورّط أحد الزوجين ـ إن لم يكن هناك سياج حافظ من الدين والتقوى ـ في علاقة عاطفية مخفقة أو مزيفة أو متسرعة.. يمكنها أن تضيف إلى مشكلات العلاقة الأصلية المضطربة، وربما تؤدي إلى مرحلة اللا عودة أو الطلاق.
ترميم العلاقة وتجديدها
ومن الممكن بالطبع حدوث الترميم أو الإصلاح أو التجدد خلال مرحلة الملل الزوجي.. وربما يكون الملل والروتين والجمود دافعاً طبيعياً إلى تجدّد العلاقة، وإلى اقتراب الزوجين من بعضهما في كثير من الحالات..(/1)
وأخيراً.. لا بد من التأكيد على أن السعادة الزوجية والعلاقة الزوجية الناجحة ترتبط مفاتيحها بعدد من الأمور والصفات والسلوكيات، ومنها: المسؤولية، والتفاعل، والتعاون، والمشاركة، والحوار، و الصداقة، والحب، والحساسية للطرف الآخر، وعين الرضا، والتكيف، والتوافق، والتكامل، والمرونة، والواقعية، ولعل الحفاظ على نبع المودة والرحمة هو ما يضمن لهذه العلاقة الاستمرار والتجدّد حتى وإن وصلت إلى حد الفتور؛ فالعاطفة المشبوبة المتوهجة ليست أبدية، وجذوتها ليست مشتعلة باستمرار؛ لكن الأبقى هنا هو "المودة والرحمة"، وهي صفات إنسانية تمثل وقاية وحماية لمشاعر الزوجين من التآكل والانهيار. ولعل هذا ما أشارت إليه الآية الكريمة في قول الله تعالى:(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة..).
وأيضاً فإن العلاقة الزوجية تبدأ وتكبر وتنضج وتشيخ وتموت.. ولابد من التنبه لهذه الدورة الطبيعية والتدخل المستمر لرعايتها وتصحيح أخطائها ومشكلاتها وضمان حياتها لسنوات طويلة..
حساسية المشاعر وعدوى السعادة
وفي تشخيصه لأسباب إصابة الأزواج بالفتور العاطفي وكيفية علاج هذه المشكلة يقول د. إلهامي عبد العزيز ـ أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس ـ: إن هناك حقائق تتعلق بالعلاقة العاطفية لا يدركها الكثير من الناس ومنها: أن هذه المشاعر تتسم بالحساسية الشديدة وسرعة التأثر، فهي بالضبط كالزهور أو النباتات إذا لم تلق الاهتمام والعناية والمناخ الملائم سرعان ما تذبل وتموت.. وفي رأيي ـ يضيف د. إلهامي ـ فإن أول أسباب الفتور للعلاقة العاطفية بعد الزواج هو عدم وجود أحلام جديدة مشتركة بين الزوجين يسعيان لتحقيقها. فقبل الزواج كان لهما حلم وحيد هو الارتباط، فلا بد أن تستمر الأحلام بعد الزواج ومنها: الحفاظ على الحب وإنجاب أطفال ناجحين في الحياة وتحقيق نجاحات عملية في مجال العمل، وغير ذلك من الطموحات والأحلام المشروعة.
من جانبها، ترى د. سهير عبد العزيز ـ مدير مركز دراسات الأسرة بجامعة الأزهر ـ أن سعادة أحد الزوجين أو حزنه ينعكسان بشكل مباشر على الآخر، وصدق من يقول: إن السعادة عدوى والحزن عدوى أيضاً.. وعلى كل منهما أن يحرص على السعادة النفسية والانسجام الذاتي مع نفسه أولاً، وذلك بتحقيق علاقة طيبة مع الله، ومصارحة مع النفس والرغبة الحقيقية في إسعاد الزوج واعتباره طريقاً لإرضاء الله تعالى. . وتضيف د. سهير: إن من بين وسائل تحقيق السعادة الذاتية "الكلمة الطيبة" لما لها من أثر طيب في دعم المشاعر بين الزوجين، وفي تخفيف كل منهما عن الآخر؛ فالكلمة الطيبة ـ كما تؤكد د. سهير عبد العزيز ـ إلى جانب تأثيرها الطيب فهي في الآخرة صدقة باقية.. إلى جانب العناية بالنفس والتزين، وكلها أمور حث عليها الدين لدعم الرابطة العاطفية بين الزوجين.
والكلمة الطيبة لها دورها دائماً.. وكذلك الحوار والتفاهم ورفع الظلم وتعديله، وأخذ كل ذي حق حقه.. وتبقى السعادة الزوجية مطلباً وحلماً يسعى الجميع نحوه.(/2)
الفتور المظاهر، الأسباب، العلاج
مقدمة
أهمية الموضوع
تعريف الفتور و أقسامه.
مظاهر الفتور
أسباب الفتور
علاج الفتور
الخاتمة
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) (1) [سورة آل عمران، الآية: 102] .
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (2) [سورة النساء، الآية: 1] .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (3) [سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71].
أما بعد:
فقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: - إن لكل عمل شرة، والشرة إلى فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل - (4).
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: - لكل شيء شرة، ولكل شرة فترة، فإن صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه - (5).
وقد ورد مثل ذلك بروايات وطرق مختلفة، كلها تدل على أن الفتور مما يصاب به السائرون إلى الله من العباد، وطلاب العلم، والدعاة، وغيرهم.
وقد استعاذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الفتور في عدة أحاديث ورد فيها استعاذته من العجز والكسل، كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ ويقول: - اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم - (6).
وقد ذكر أنس - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرا يقول:
- اللهم إني أعوذ بك من الهرم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وغلبة الدين، وقهر الرجال - (7) .
ولأهمية هذا الموضوع - كما سيأتي بيانه - ولحاجة طلاب العلم والدعاة والمربين إليه، ولضرورة المحافظة على هذه اليقظة المباركة، وتجنيبها المزالق والمنعطفات، ومن أخطرها داء الفتور، فقد شغل بالي هذا الموضوع منذ عدة سنوات، فطفقت أجمع شتاته، وأقرأ ما كتب فيه، وأتأمل في حقيقته ومآله، من حيث المظاهر والأسباب وسبل الوقاية، وكنت أكتب وأدوّن ما وقع تحت يدي مما يدخل في هذا الموضوع، ثم أعرضه على إخواني من المشايخ وطلاب العلم، وأستمع إلى ملحوظاتهم، وأدون إضافاتهم، واستمر هذا الأمر بضع سنوات حتى شعرت أنه قد تجمع لدي ما آمل به النفع، فأعددت ترتيبه وتصنيفه، ثم ألقيته في دروس عامة على فترات مختلفة.
وقد طلبت من طلابي المساهمة في إثراء هذا الموضوع فتجاوبوا معي، وجاءتني عشرات الرسائل، فأفدت منها فائدة عظيمة (8) وأخيرا اقترح علي بعض الأحبة أن أخرج هذا الموضوع مكتوبا، بعد أن خرج مسموعا، فاستعنت بالله، وشرعت في تحقيق هذه الرغبة، وها هو -أخي الكريم- بين يديك، ولذلك فإني أنبه إلى ما يلي:
1- أن هذا الموضوع موضوع علمي تربوي، يلامس الواقع ويعالجه.
2- أنني لم أكتب هذا الموضوع لمن أصيب بداء الفتور، بل كتبته لطلاب العلم والدعاة والمربين وشباب هذه اليقظة المباركة، وأخيرا هو للفاترين.
ذلك أنني أرى أن من لوازم التربية أن يكون المربون والمتربون على معرفة وبينة بهذا الداء؛ حتى يقوا أنفسهم من غوائله؛ ذلك أن الوقاية أسهل من التخلص منه بعد وقوعه.
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 102.
(2) - سورة النساء آية: 1.
(3) - سورة الأحزاب آية: 70-71.
(4) - أخرجه أحمد في المسند (2/158، 165، 188، 210) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم 2152).
(5) - أخرجه الترمذي (4/548) كتاب القيامة رقم (2453) قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (2151).
(6) - أخرجه البخاري (7/159) كتاب الدعوات، باب [39] ومسلم (4/2079) كتاب الذكر رقم (589).
(7) - أخرجه البخاري (3/224) كتاب الجهاد، باب [74].
(8) - من أهمها بحث أعده الأخ فهد الحربي في الموضوع أفدت منه كثيرا، مع أنه لم يصلني إلا بعد إلقاء الموضوع وكتابته، فجزاه الله خيرا.(/1)
3- لقد بذلت ما استطعت؛ من أجل أن يخرج هذا الموضوع بالصورة التي تفي بالغرض، ولذلك مكثت عدة سنوات في إعداده وجمع أطرافه، وساهم معي عدد كبير من المشايخ وطلاب العلم والدعاة -وهم بالعشرات- وقرأت ما كتب في الموضوع مما وقع تحت يدي (1) ومع ذلك فالموضوع متجدد، وقابل للزيادة والإضافة والملاحظة؛ والنقص من طبيعة البشر، فجزى الله خيرا من ساعدني، وبارك الله فيمن سيساعدني في معلومة أو ملحوظة؛ للتعديل أو الإضافة في طبعة قادمة بإذن الله، وغفر الله لمن تجاوز عن الزلات والهنات، والتمس لي العذر في النقص والتقصير.
إن تجد عيبا فسدّ الخللا ... جل من لا عيب فيه وعلا
4- لم أراع -عند ذكر المظاهر والأسباب والعلاج- الترتيب حسب الأهمية، بل قصدت أن تخرج هكذا في تداخل بين الأهم والمهم؛ لأسباب فنية وتربوية.
5- قد يلحظ أن هناك بعض التكرار والتداخل بين المظاهر والأسباب، وكذلك بين الأسباب وسبل العلاج، وهذا أمر له أسبابه العلمية والدعوية؛ فإن التكرار ليس مذموما لذاته، فبعض القضايا كررت في القرآن عدة مرات لأسباب معتبرة.
وأخيرا:
فإنني أشكر الله -جل وعلا- وأثني عليه الخير كله، حيث وفق وأعان على إتمام هذا العمل، وأسأله أن ينفع به، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن يجعله عونا لي في الدنيا، وذخرا في الآخرة (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(2) [سورة الشعراء، الآيتان: 88، 89].
وأسأله أن يغفر لي خطيئتي وزللي، وكل ذلك عندي.
وأكرر شكري لكل من ساهم في هذا الموضوع، ومن خرّج أحاديثه حتى خرج مطبوعا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتب:
ناصر بن سليمان العمر
الرياض، يوم الخميس 27/ 5/ 1414 هـ
أهمية الموضوع
تنبثق أهمية الكتابة في موضوع الفتور من خلال ما يلي:
أن الله ذم المنافقين؛ لتثاقلهم عن الصلاة، وكسلهم فيها، ولا يخرجون الزكاة إلا وهم كارهون، وهذه أسوأ أنواع الفتور وأقسامه، قال سبحانه:
(وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ) (3) [سورة التوبة، الآية: 54] وقال: (وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) (4) [سورة النساء، الآية: 142] وقال: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ)(5) [سورة التوبة، الآية: 81].
وعاتب المؤمنين فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ) (6) [سورة التوبة، الآية: 38] والتثاقل هو الفتور بعينه.
2- أن الله دعا إلى نبذ الفتور والكسل؛ وذلك بالمسارعة إلى الخيرات والمسابقة إليها، وأثنى على المؤمنين الذين يسارعون في الخيرات، قال سبحانه: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (7) [سورة آل عمران، الآية: 133] وقال: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ) (8) [سورة المؤمنون، الآية: 61].
وأثنى على الأنبياء فقال: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (9) [سورة الأنبياء، الآية: 90].
وقال في سورة الواقعة مبيناً أجر السابقين إلى الخيرات والإيمان: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (10) [سورة الواقعة، الآية: 10-11].
فالمسابقة والمسارعة من لوازمهما وآثارهما نبذ الفتور والكسل والتراخي.
3- استعاذة الرسول - صلى الله عليه وسلم - منه، كما ورد في عدة أحاديث صحيحة، منها ما رواه البخاري ومسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ ويقول: - اللهم إني أعوذ بك من الكسل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من البخل - (11).
__________
(1) - مما اطلعت عليه وأفدت منه: "ظاهرة ضعف الإيمان" للمنجد، و "الفتور" لجاسم مهلهل، و "آفات على الطريق" لمحمد نوح، و "الفتور في حياة الدعاة".
(2) - سورة الشعراء آية: 88-89.
(3) - سورة التوبة آية: 54.
(4) - سورة النساء آية: 142.
(5) - سورة التوبة آية: 81.
(6) - سورة التوبة آية: 38.
(7) - سورة آل عمران آية: 133.
(8) - سورة المؤمنون آية: 61.
(9) - سورة الأنبياء آية: 90.
(10) - سورة الواقعة آية: 10.
(11) - أخرجه البخاري (7/160) كتاب الدعوات باب [42] واللفظ له ومسلم (4/2079) كتاب الذكر، رقم (2706).(/2)
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهؤلاء الدعوات: - اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم - (1).
وكان - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ من الكسل إذا أصبح وإذا أمسى، كما في حديث ابن مسعود عند مسلم (2). وذكر أنس - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرا يقول: - اللهم إني أعوذ بك من الهرم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وقهر الرجال - (3).
وعند مسلم، عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: - اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل - الحديث (4).
4-خطورة الفتور: حيث يؤدي بكثير من الناس إلى الانحراف، حيث إن الفتور مرحلة وسطية بين الالتزام وبين الانحراف. ولا أدل على خطورته من كثرة استعاذة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه في الصباح والمساء، وتعليمه لأصحابه أن يتعوذوا بالله منه، كما سبق.
5- أن الكسل والفتور لا يختص بطائفة معينة من الناس، بل إنه يسري في الناس على مختلف طبقاتهم وأعمارهم وأحوالهم، لا يكاد ينجو منه أحد إلا من سلم الله - وقليل ما هم - فهو يصيب العلماء والعباد والجهال، والشيوخ والشباب، والرجال والنساء، والأغنياء والفقراء، والأصحاء والمرضى، والمتقين والفساق، ولكن تختلف الإصابة قوة وضعفا؛ لأسباب وعوامل يأتي ذكرها.
6- أن طلاب العلم والدعاة والمربين بأمس الحاجة إلى رسالة تبين هذا الموضوع، وتكشف عن جوانبه من حيث المظاهر والأسباب وطرق الوقاية؛ لتكون معينة لهم في تربية طلابهم، (5) وتجنيبهم هذه المزالق، مع تخليص من وقع منهم في هذا البلاء، وهي كذلك رسالة لجميع الناس، على اختلاف أحوالهم وأوضاعهم.
وحيث إنني لم أجد رسالة تفي بالغرض، وتسد النقص، وتتصف بالشمول، وإنما هي رسائل تناولت بعض جوانبه، مع اختصار شديد، وهي رسائل نافعة ولها فضل السبق، وأفدت منها في هذه الرسالة، ولكن -كما قلت- لم تكن على مستوى حجم القضية وضخامتها، ولم تُجب على كثير من الأسئلة التي تلح على العاملين في حقل الدعوة والتربية، فجزى الله هؤلاء خير الجزاء.
ومع ذلك فلا أدعي أن هذه الرسالة ستغني عن غيرها - سواء مما سبق أو مما قد يأتي - وإنما هو جهد المقل، ومحاولة المجتهد، والكمال لله.
الفتور
تعريف الفتور
عرف علماء اللغة الفتور بعدة تعريفات متقاربة يكمل بعضها بعضا، ويوضح بعضها الآخر:
قال في مختار الصحاح: الفترة: الانكسار والضعف. و"طرف فاتر": إذا لم يكن حديدا (6).
وقال ابن الأثير: و"المفتِّر": الذي إذا شرب أحمى الجسد، وصار فيه فتور، وهو ضعف وانكسار.
يقال: "أفتر الرجل، فهو مفتر" إذا ضعفت جفونه وانكسر طرفه (7).
وقال الراغب: الفتور: سكن بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ) (8) [سورة المائدة، الآية: 19] أي: سكون حال عن مجيء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله: (لَا يَفْتُرُونَ) (9) [سورة الأنبياء الآية: 20] أي: لا يسكنون عن نشاطهم في العبادة (10).
وقال ابن منظور: وفتر الشيء والحر، وفلان يفتر فتورا، وفتارا: سكن بعد حدة، ولان بعد شدة (11).
ونخلص من هذا إلى أن الفتور هو: الكسل والتراخي والتباطؤ بعد الجد والنشاط والحيوية (12).
قال ابن حجر: الملال: استثقال الشيء، ونفور الناس عنه بعد محبته (13).
وهو داء يصيب بعض العبّاد والدعاة وطلاب العلم، فيضعف المرء ويتراخى ويكسل، وقد ينقطع بعد جد وهمة ونشاط.
والمصابون بهذا الداء ثلاثة أقسام:
1- قسم يؤدي بهم الفتور إلى الانقطاع كلية، وهم كثير.
2- وقسم يستمر في حالة الضعف والتراخي دون انقطاع، وهم الأكثر.
3- قسم يعود إلى قرب حالته الأولى، وهم قليل.
أقسام الفتور (14)
وينقسم الفتور إلى عدة أقسام، أهمها:
1- كسل وفتور عام في جميع الطاعات، مع كره لها وعدم رغبة فيها، وهذه حال المنافقين؛ فإنهم من أشد الناس كسلا وفتورا ونفورا.
__________
(1) - أخرجه البخاري (7/159) كتاب الدعوات، باب [39] ومسلم (4/2079) كتاب الذكر رقم (589).
(2) - صحيح مسلم (4/2089) كتاب الذكر، رقم (2723 [75]).
(3) - أخرجه البخاري (3/224) كتاب الجهاد، باب [24].
(4) - أخرجه مسلم (4/2088) كتاب الذكر رقم (2722).
(5) - وبخاصة أن البعض قد بدأ الفتور يدب في أوصاله.
(6) - انظر مختار الصحاح مادة (فتر).
(7) - انظر النهاية لابن الأثير 3/408.
(8) - سورة المائدة آية: 19.
(9) - سورة الأنبياء آية: 20.
(10) - انظر المفردات في غريب القرآن ص 371.
(11) - انظر لسان العرب مادة (فتر).
(12) - انظر آفات على الطريق 1/9.
(13) - انظر فتح الباري 1/126.
(14) - هذه الأقسام تختلف عما سبق، فتأمل.(/3)
قال الله -جل وعلا- فيهم: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) (1) [سورة النساء، الآية: 142] وقال: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ) (2) [سورة التوبة، الآية: 54] وقال: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (3) [سورة التوبة، الآية: 81].
وقال - صلى الله عليه وسلم - - أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما؛ لأتوهما ولو حبوا - (4).
ولفظ (أثقل) على صيغة (أفعل) يدل على أن غيرهما ثقيل، وليس الثقل مقتصرا عليهما.
2- كسل وفتور في بعض الطاعات، يصاحبه عدم رغبة فيها دون كره لها، أو ضعف في الرغبة مع وجودها، وهذه حال كثير من فساق المسلمين وأصحاب الشهوات.
وهذان القسمان سببهما مرض في القلب، ويقوى هذا المرض ويضعف بحسب حال صاحبه، فمرض المنافقين أشد من مرض الفساق وأصحاب الشهوات، فهم يتمتعون بصحة في أجسامهم وأبدانهم، قال سبحانه: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ) (5) [سورة المنافقون، الآية: 4] ولكن قلوبهم مريضة. قال سبحانه: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً) (6) [سورة البقرة، الآية: 10].
3- كسل وفتور عام سببه بدني لا قلبي؛ فتجد عنده الرغبة في العبادة، والمحبة للقيام بها، وقد يحزن إذا فاتته، ولكنه مستمر في كسله وفتوره، فقد تمر عليه الليالي وهو يريد قيام الليل، ولكنه لا يفعل -مع استيقاظه وانتباهه- ويقول: "سأختم القرآن في كل شهر" وتمضي عليه الأشهر ولم يتمه، ويحب الصوم، لكنه قليلا ما يفعل.
وهذه حال كثير من المسلمين الذين يصابون بهذا الداء، ومنهم أناس صالحون، وآخرون من أصحاب الشهوة والفسق.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ)(7) [سورة التوبة، الآية: 38].
وقد يؤدي هذا النوع إلى أن يشترك بعض المصابين به مع النوع الثاني، وهو الثقل القلبي في بعض العبادات.
4- كسل وفتور عارض يشعر به الإنسان بين حين وآخر، ولكنه لا يستمر معه، ولا تطول مدته، ولا يوقع في معصية، ولا يخرج عن طاعة. وهذا لا يسلم منه أحد، إلا أن الناس يتفاوتون فيه أيضا، وسببه -غالبا- أمر عارض، كتعب أو انشغال أو مرض ونحوها.
وهذا النوع هو الذي يذكره الصحابة - رضي الله عنهم - ومنه ما رواه مسلم في صحيحه عن حنظلة الأسيدي، وكان من كُتّاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: - لقيني أبو بكر فقال: "كيف أنت يا حنظلة؟" قال: قلت: "نافق حنظلة"، قال: "سبحان الله! ما تقول؟" قال: قلت: "نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرا".
قال أبو بكر: "فوالله إنا لنلقى مثل هذا" فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال له مثلما قال لأبي بكر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "والذي نفسي بيده أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة: ساعة وساعة - ثلاث مرات - - (8).
وروى أحمد عن عائشة - رضي الله عنها - قالت لعبد الله بن قيس: - لا تدع قيام الليل، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل؛ صلى قاعدا - (9).
ولهذا فإنني في هذه الرسالة لن أتحدث عن هذا النوع؛ لأنه طبيعي، ولا عن النوع الأول؛ لاختصاصه بالمنافقين أو من به خصلة من النفاق، وإنما سيكون التركيز على القسمين الثالث والثاني.
أدلة الفتور في الكتاب والسنة
__________
(1) - سورة النساء آية: 142.
(2) - سورة التوبة آية: 54.
(3) - سورة التوبة آية: 81.
(4) - أخرجه البخاري (1/160) كتاب الأذان، باب [34] ومسلم (1/451) كتاب المساجد، رقم (651 [252]).
(5) - سورة المنافقون آية: 4.
(6) - سورة البقرة آية: 10.
(7) - سورة التوبة آية: 38.
(8) - أخرجه مسلم (4/2106) كتاب التوبة رقم (2750).
(9) - أخرجه أبو داود (2/32) كتاب الصلاة رقم (1307). وأحمد في المسند (6/249) وصححه الألباني كما في صحيح أبي داود رقم (1180).(/4)
ورد لفظ الفتور ومعناه في عدة آيات وأحاديث في الكتاب والسنة، وسأذكر بعض هذه النصوص؛ لإلقاء مزيد من الضوء حول معنى الفتور، وسأذكرها باختصار؛ حيث إن أكثرها سيرد عند ذكر الأسباب مفصلا.
1- قال الله -تعالى- مثنيا على الملائكة: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) (1) [سورة الأنبياء، الآية: 20] أي: لا يضعفون ولا يسأمون.
2- وجاء في آية مشابهة: (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ) (2) [سورة فصلت، الآية: 38].
3- وقال سبحانه: (وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِه)ِ (3) [سورة البقرة، الآية: 282].
4- وقال تعالى: (لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ) (4) [سورة فصلت، الآية: 49].
5- وقال عن أهل النار من المجرمين: (لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (5) [سورة الزخرف، الآية: 75].
6- وقال جل وعلا: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ) (6) [سورة المائدة، الآية: 19] أي: انقطاع.
7- ومما يدخل في معناه قوله تعالى: (وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (7) [سورة آل عمران، الآية: 146].
أما الأحاديث؛ فهي كثيرة جدا، ومما ورد في ذلك ومعناه:
1- عن أنس - رضي الله عنه - قال: - دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد، فإذا حبل ممدود بين ساريتين، فقال: "ما هذا الحبل؟" قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال - صلى الله عليه وسلم - "حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد - (8).
2- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - إن لكل شيء شرة، ولكل شرة فترة، فإن صاحبها سدد وقارب؛ فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع؛ فلا تعدوه - (9).
وقد ورد بألفاظ وطرق أخرى، منها:
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: - كانت مولاة للنبي - صلى الله عليه وسلم - تصوم النهار وتقوم الليل، فقيل له: "إنها تصوم النهار وتقوم الليل" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن لكل عمل شرة، والشرة إلى فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل - (10). وفي رواية: "فقد هلك".
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: - لكل عالم شرة، ولكل شرة فترة، فمن فتر إلى سنتي؛ فقد نجا، وإلا؛ فقد هلك - (11).
وعن عبد الله بن عمرو قال: - ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قوم يجتهدون في العبادة اجتهادا شديدا، فقال: تلك ضرورة الإسلام وشرته، ولكل عمل شرة، فمن كانت فترته إلى اقتصاد؛ فنعم ما هو، ومن كانت فترته إلى المعاصي؛ فأولئك هم الهالكون - (12).
3- وعن عائشة - رضي الله عنها - - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها امرأة، فقال: من هذه؟ قالت: "هذه فلانة" تذكر من صلاتها.. قال: مه، عليكم بما تطيقون؛ فوالله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه - (13).
4- عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - يا عبد الله، لا تكن مثل فلان؛ كان يقوم الليل فتركه - (14).
5- عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان -رسول الله صلى الله عليه وسلم- يتعوذ يقول: - اللهم إني أعوذ بك من الكسل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من البخل - (15).
__________
(1) - سورة الأنبياء آية: 20.
(2) - سورة فصلت آية: 38.
(3) - سورة البقرة آية: 282.
(4) - سورة فصلت آية: 49.
(5) - سورة الزخرف آية: 75.
(6) - سورة المائدة آية: 19.
(7) - سورة آل عمران آية: 146.
(8) - أخرجه البخاري (2/48) كتاب التهجد باب [18] ومسلم (1/542) كتاب المسافرين رقم (784).
(9) - أخرجه الترمذي (4/548) كتاب القيامة رقم (2453) قال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وصححه الألباني - انظر صحيح الجامع رقم (2151).
(10) - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/261، 262) رواه البزار ورجال رجال الصحيح.
(11) - أخرجه أحمد في المسند (2/158).
(12) - قال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/262) رواه الطبراني في الكبير، وأحمد بنحوه، ورجال أحمد ثقات. اهـ. انظر المسند (2/165) ولفظه: "تلك ضراوة الإسلام وشدته".
(13) - أخرجه البخاري (1/16) كتاب الإيمان، باب [32] ومسلم (1/542) كتاب صلاة المسافرين رقم (785 [218]).
(14) - أخرجه البخاري (2/49) كتاب التهجد، باب [19] ومسلم (2/814) كتاب الصيام رقم (185).
(15) - أخرجه البخاري (7/160) كتاب الدعوات، باب ]42[ ومسلم (4/2079) كتاب الذكر رقم (2706) واللفظ للبخاري.(/5)
6- وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كنت أخدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكنت أسمعه يكثر أن يقول: - اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وقهر الرجال - (1).
والأحاديث في هذا الباب كثيرة معلومة.
وقد ورد عن بعض العلماء أقوال مهمة، أوجز بعضها:
قال ابن مسعود - رضي الله عنه - لما بكى في مرض موته: "إنما أبكي لأنه أصابني في حال فترة، ولم يصبني في حال اجتهاد ". وعنه - رضي الله عنه - قال: " لا تغالبوا هذا الليل؛ فإنكم لن تطيقوه، فإذا نعس أحدكم فلينصرف إلى فراشه؛ فإنه أسلم له " (2).
وقال الإمام النووي شارحا لحديث عائشة - رضي الله عنها -: فيه الحث على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمق، والأمر بالإقبال عليها بنشاط، وأنه إذا فتر فليقعد حتى يذهب الفتور (3).
قال ابن القيم: تخلل الفترات للسالكين أمر لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم؛ رجي له أن يعود خيرا مما كان.
مظاهر الفتور (4)
للفتور مظاهر نستطيع أن ندرك من خلالها أن الفتور قد دب في أوصال صاحبها، علما أن بعض هذه المظاهر يعرفها [الفاتر] نفسه؛ حيث قد لا يدركها غيره إلا بصعوبة وطول زمن.
وقد يجتمع في الفرد أكثر من مظهر من هذه المظاهر، علما أنها تتفاوت من حيث خطورتها وأثرها على صاحبها.
ومن أهم مظاهر الفتور ما يلي:
1- التكاسل عن العبادات والطاعات، مع ضعف وثقل أثناء أدائها، ومن أعظم ذلك الصلاة؛ قال -سبحانه- واصفا المنافقين: (وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى) (5) [سورة النساء، الآية: 142] وقال: (وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ) (6) [سورة التوبة، الآية: 5].
ويدخل في هذا الضعفُ عن قيام الليل وصلاة الوتر وأداء السنن والرواتب، وبخاصة إذا فاتته، فقلّ أن يقضيها.
ومن ذلك الغفلة عن قراءة القرآن وعن الذكر (7) ويجد ثقلا في ذلك، وانصرافا عنه.
2- الشعور بقسوة القلب وخشونته، فلم يعد يتأثر بالقرآن والمواعظ، ورانت عليه الذنوب والمعاصي، قال سبحانه: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(8) [سورة المطففين، الآية: 14] ويكاد يصدق عليه وصف الله لقلوب اليهود: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)(9) [سورة البقرة، الآية: 74].
ويصل من قسوة قلبه ألا يتأثر بموت ولا ميت، ويرى الأموات ويمشي في المقابر وكأن شيئا لم يكن، وكفى بالموت واعظا، وأعظم من ذلك عدم تأثره بآيات الله وهي تتلى عليه، ويسمع آيات الوعد والوعيد، فلا خشوع ولا إخبات، والله -جل وعلا- يقول: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ)(10) [سورة ق، الآية: 45] ومدح المؤمنين فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) (11) [سورة الأنفال، الآية: 2].
3- ويصل الفتور إلى درجة أبعد إذا ألف الوقوع في المعاصي والذنوب، وقد يصر على بعضها ولا يحس بخطورة ما يفعل، ويقول: "هذه صغيرة، وتلك أخرى" وهلم جرا.. وقد يصل به الأمر إلى المجاهرة، والمصطفى - صلى الله عليه وسلم - يقول: - كل أمتي معافى إلا المجاهرين - (12). وأشير هنا إلى أن هناك فرقا بين الفتور والانحراف، ولكن الفتور قد يصل بصاحبه إلى الانحراف إن لم يتداركه الله بمنة منه وفضل.
4- ومن أبرز مظاهر الفتور: عدم استشعار المسئولية الملقاة على عاتقه، والتساهل والتهاون بالأمانة التي حمّله الله إياها، فلا تجد لديه الإحساس بعظم هذه الأمانة، والله -سبحانه وتعالى- يقول: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (13) [سورة الأحزاب، الآية: 72].
وقد تحدثه ساعة ويحدثك أخرى، فلا تجد أن همّ الدعوة يجري في عروقه، أو يؤرق جفونه ويقضّ مضجعه.
ومما يلحق بهذا الباب أنك تجد هذا [الفاتر] أصبح يعيش بلا هدف أو غاية سامية، فهبطت اهتماماته وسفلت غاياته، وذلت مطامحه ومآربه.
__________
(1) - أخرجه البخاري (3/224) كتاب الجهاد، باب [24].
(2) - مجمع الزوائد 2/260.
(3) - شرح مسلم للنووي 2/73.
(4) - هذه المظاهر هي في الحقيقة بعض آثار الفتور، وهي آثار لها ما بعدها.
(5) - سورة النساء آية: 142.
(6) - سورة التوبة آية: 54.
(7) - وهذا الأمر سبب ومظهر.
(8) - سورة المطففين آية: 14.
(9) - سورة البقرة آية: 74.
(10) - سورة ق آية: 45.
(11) - سورة الأنفال آية: 2.
(12) - أخرجه البخاري (7/89) كتاب الأدب باب [60] ومسلم (4/2291) كتاب الزهد، رقم (2990).
(13) - سورة الأحزاب آية: 72.(/6)
وتبعا لذلك فلا قضايا المسلمين تشغله، ولا مصائبهم تحزنه، ولا شئونهم تعنيه، وإن حدث شيء من ذلك فعاطفة سرعان ما تبرد وتخمد ثم تزول.
5- ومن أسوأ المظاهر انفصام عرى الأخوة بين المتحابين، وضعف العلاقة بينهم، بل قد يصل الأمر إلى الوحشة بينهم، ومن ثم التهرب والصدود والبعد والجفاء.
وقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: - ما توادّ اثنان في الله - عز وجل - أو في الإسلام، فيفرق بينهما أول ذنب [وفي رواية: ففرق بينهما إلا بذنب] يحدثه أحدهما - (1).
فيميل الإنسان إلى العزلة، أو يستعيض بإخوانه السابقين آخرين يزجون وقته، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
فإذا التقى بإخوانه الصالحين؛ كان لقاء مجاملة واضطرارا، تمر ساعاته عليه ثقيلة، ولو أمكنه الهروب لفعل، وما هو من ذلك ببعيد.
ويا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك، واجعلنا من المتحابين في جلالك (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)(2) [سورة الزخرف، الآية: 67].
6- الاهتمام بالدنيا والانشغال بها عن العبادة وطلب العلم والدعوة إلى الله، والدنيا حلوة خضرة، فقل أن ينجو منها من يقع فيها، ولذلك كم رأينا من إنسان عرف بطلب العلم والنشاط في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم طلب الدنيا وولغ فيها، فتعلق قلبه بها، وأصبحت همه وشغله الشاغل، وآلت حاله إلى الحرص والشح والبخل (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(3) [سورة الحشر، الآية: 9].
7- كثرة الكلام دون عمل يفيد الأمة وينفع الأجيال، فتجد هذا النوع يتحدثون عما عملوا سابقا، وكنا وكنا، وكنت وكنت ويتسلون بهذا القول عن العمل الجاد المثمر، والله جل وعلا يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)(4) [سورة الصف، الآيتان:2،3] وتجد هذا الصنف يكثر من الجدل والمراء وطرح النظريات العقيمة، وهذا مصداق قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - - ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل - (5).
8- ومن المظاهر: الغلو في الاهتمام بالنفس مأكلا ومشربا وملبسا ومركبا، فبدل أن كان لا يلقي لهذه الأشياء بالا إلا في حدود ما شرع الله (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(6) [سورة الأعراف، الآية: 31] إذا هو ينفق الوقت والمال والاهتمام في هذه القضايا الجانبية، وهي أمور كمالية وتحسينية، ولكن هكذا يعمل الفراغ بأهله.
9- انطفاء الغيرة وضعف جذوة الإيمان، وعدم الغضب إذا انتهكت محارم الله، فيرى المنكرات ولا تحرك فيه ساكنا، ويسمع عن الموبقات وكأن شيئا لم يكن، وقد يكتفي بالحوقلة والاسترجاع إن كان فيه بقية.
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
10- وأختم مظاهر الفتور بهذه المظاهر التي آمل أن يتأملها القارئ جيدا؛ لأهميتها وصدقها في الدلالة على الفاترين:
أ- ضياع الوقت وعدم الإفادة منه، وتزجيته بما لا يعود عليه بالنفع، وتقديم غير المهم على المهم، والشعور بالفراغ الروحي والوقتي وعدم البركة في الأوقات، وتمضي عليه الأيام لا ينجز فيها شيئا يذكر.
ب- عدم الاستعداد للالتزام بشيء، والتهرب من كل عمل جدي؛ خوفا من أن يعود إلى حياته الأولى. هكذا يسوّل له شيطانه زخرف القول غرورا.
جـ- الفوضوية في العمل: فلا هدف محدد، ولا عمل متقن، أعماله ارتجالا، يبدأ في هذا العمل ثم يتركه، ويشرع في هذا الأمر ولا يتمه، ويسير في هذا الطريق ثم يتحول عنه، وهكذا دواليك.
د- خداع النفس؛ بالانشغال وهو فارغ، وبالعمل وهو عاطل، ينشغل في جزئيات لا قيمة لها ولا أثر يذكر، ليس لها أصل في الكتاب أو السنة، وإنما هي أعمال يقنع نفسه بجدواها، ومشاريع وهمية لا تسمن ولا تغني من جوع.
هـ- النقد لكل عمل إيجابي؛ تنصلا من المشاركة والعمل، وتضخيم الأخطاء والسلبيات؛ تبريرا لعجزه وفتوره، تراه يبحث عن المعاذير، ويصطنع الأسباب؛ للتخلص والفرار(وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)(7) [سورة التوبة، الآية: 81].
__________
(1) - أخرجه أحمد في المسند (2/68)، (5/71) قال الهيثمي في المجمع (10/278): إسناده حسن.
(2) - سورة الزخرف آية: 67.
(3) - سورة الحشر آية: 9.
(4) - سورة الصف آية: 2-3.
(5) - أخرجه الترمذي (5/353) كتاب التفسير رقم (3253). وابن ماجه (1/19) في المقدمة رقم (48) وأحمد في المسند (5/252، 256). قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(6) - سورة الأعراف آية: 31.
(7) - سورة التوبة آية: 81.(/7)
و- التسويف والتأجيل، وكثرة الأماني وأحلام اليقظة: يبني مشاريع من سراب، ويقيم أعمالا من خيال، عمل اليوم يؤخره أياما، وما يمكن أن يؤدى في أسبوع يمكث فيه أشهرا، وفي كل يوم يزداد إفلاسا وفتورا.
أسباب الفتور
للفتور أسباب كثيرة ومتنوعة، إذا سلم المسلم من بعضها؛ فقلّ أن يسلم من بعضها الآخر، وهذه الأسباب بعضها عامّ، وبعضها خاص، أي أن عددا من هذه الأسباب يؤدي إلى الفتور في العبادة وطلب العلم والدعوة إلى الله، وبعضها يكون خاصا في جانب دون آخر.
وسأركز في هذه الرسالة على الأسباب التي تؤدي إلى الفتور في الدعوة إلى الله، مع أن عددا من الأسباب التي سأذكرها توصل صاحبها إلى الفتور والكسل والتراخي في العبادة (1) وطلب العلم.
وسأشير عند بعض الأسباب إلى شيء من العلاج باختصار، مع أن العلاج سيأتي مفصلا في باب مستقل؛ وذلك لأن الإشارة للعلاج عند ذكر السبب لها وقع خاص، وتأثير لا ينكر.
1- عدم الإخلاص أو عدم مصاحبته
الإخلاص أحد ركني قبول العمل؛ فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا صوابا، قال سبحانه: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء)(2) [سورة البينة، الآية: 5] وقال: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)(3) [سورة الزمر، الآية: 3] وقال: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ)(4) [سورة الزمر، الآية: 11] والآيات في هذا الباب كثيرة.
وفي الحديث القدسي: - أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري؛ تركته وشركه - (5) .
والإخلاص يدفع المسلم إلى الجد والاجتهاد، وعدم الملل والسآمة؛ حيث إنه يرجو ما عند الله، ويخاف عقابه، قال سبحانه: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)(6) [سورة الكهف، الآية: 110].
أما إذا ضعف الإخلاص أو دب الرياء في قلب المسلم؛ فسرعان ما يخبو حماسه، وتضعف عزيمته.
وهذا الباب يدور على عدة حالات، أهمها حالتان:
أ- إما أن يكون أساس العمل غير مقرون بالإخلاص، كما قال الأول:
صلى وصام لأمر كان يطلبه ... لما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما
ب- أو يكون أساس العمل خالصا ثم جاءت بعض الصوارف فأضعفت الإخلاص: من رياء، وسمعة، وحب جاه، وطلب دنيا؛ فبدل أن كان العمل لله خالصا، إذ صاحبته أغراض أخرى طارئة، فذهبت بريحه، أو قضت عليه.
ومن هنا فعلى المسلم أن يتعاهد إخلاصه، وأن يجدده عند كل عمل يرجو به وجه الله؛ فإن هذا أبقى له وأنقى (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(7) [سورة غافر، الآية: 14].
2- ضعف العلم الشرعي
الجهل داء قاتل، ومما يزيد في خطورته أن صاحبه لا يدرك الأثر الذي يخلفه هذا المرض؛ لأنه جاهل، وفاقد الشيء لا يعطيه.
فكلما ضعف العلم الشرعي لدى المسلم، كان أكثر عرضة لأن يصاب بداء الفتور؛ وذلك أنه يجهل الأدلة الشرعية التي تحث على العبادة والعمل وطلب العلم، ولا يعلم الأثر المترتب على العمل؛ مما يضعف من عزيمته، كما أنه لم يحط بقيمة الصبر وأثره، وجزاء الصابرين؛ مما يقلل من احتماله، ويكثر من شكواه، ومن ثمّ ترك ما هو عليه.
وعند التأمل في قوله تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)(8) [سورة الزمر، الآية: 9] وفي قوله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)(9) [سورة فاطر، الآية: 28] ندرك هذه الحقيقة، ومن ثم نعرف العلاج.
3- تعلق القلب بالدنيا، ونسيان الآخرة
من أعظم أسباب الفتور: أن يطغى حب الدنيا على حب الآخرة، ومن ثم يتعلق القلب بها، ويضعف إيمانه شيئا فشيئا، حتى تصبح العبادة ثقيلة مملة، ويجد لذته وسلواه في الدنيا وفي حطامها، حتى ينسى الآخرة أو يكاد، ويغفل عن هاذم اللذات، ويبدأ عنده طول الأمل، وما اجتمعت هذه البلايا في شخص إلا أهلكته.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: - تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم - (10) وفي لفظ: - تعس عبد الدينار والدرهم - (11).
وواقع الناس اليوم ينذر بخطر، حتى رأينا عددا من طلاب العلم ضعفوا عن الطلب، وانشغلوا عنه بغيره، بجمع الحطام، والبحث عن المناصب والجاه.
__________
(1) - أقصد العبادة في معناها الخاص، وإلا فكل هذه الأشياء عبادة، فطلب العلم والدعوة إلى الله من أعظم أنواع العبادة، (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). [ سورة الذاريات، الآية: 56].
(2) - سورة البينة آية: 5.
(3) - سورة الزمر آية: 3.
(4) - سورة الزمر آية: 11.
(5) - أخرجه مسلم (4/2289) كتاب الزهد رقم (2985).
(6) - سورة الكهف آية: 110.
(7) - سورة غافر آية: 14.
(8) - سورة الزمر آية: 9.
(9) - سورة فاطر آية: 28.
(10) - أخرجه البخاري (3/223) كتاب الجهاد باب [70].
(11) - أخرجه البخاري (7/175) كتاب الرقاق، باب [10].(/8)
وهنا مسألة يحسن التنبيه عليها، وهي: أن بعض الدعاة قد يبدأ في الاشتغال بالدنيا؛ من أجل الكفاف والاستغناء عن الآخرين، وحتى لا يصبح أسيرا للوظيفة طول حياته. وهذا أمر محمود وغاية جليلة، ولكن سرعان ما تنفتح عليه الدنيا، وتبدأ المطامع تتحرك بين جنبيه، ويسوّل له الشيطان هذا الأمر؛ باسم الدعوة والمشاريع الإسلامية، وشيئا فشيئا، حتى يتعلق قلبه، وينشغل بها عن علمه ودعوته، وكان يكفيه الكفاف، كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - - إنما يكفي أحدكم ما كان في الدنيا مثل زاد الراكب - (1).
والدنيا حلوة خضرة، كما بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - - إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء.. - الحديث (2).
ومما يدخل في هذا الباب: التعلق بالمناصب والترقيات والعلاوات، والإكثار من الحديث عنها، وانشغال القلب بها عما هو أعظم منها، وصدق الله العظيم: (مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)(3) [سورة النساء، الآية: 134].
4- فتنة الزوجة والأولاد
طلبت من طلابي أن يشاركوني في ذكر أهم أسباب الفتور، فلفت نظري عشرات الرسائل التي أشارت إلى أن الزواج من أهم هذه الأسباب، وهؤلاء الطلاب يحكون عن تجربة رأوها في عدد من زملائهم وإخوانهم، وقد يكون البعض وقع في هذا البلاء فأنقذه الله منه.
وهنا تذكرت قوله تعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ)(4) [سورة الأنفال، الآية: 28] وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)(5) [سورة التغابن، الآية: 14].
وقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: - الولد محزنة مجبنة مجهلة مبخلة - (6) وقال: - إن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء - (7) .
إن الزوجة قد تكون عونا على العبادة وطلب العلم والدعوة إلى الله (8) وقد تكون بلاء وفتنة، وأشدها هي التي لا يحس الإنسان بخطورتها، بل قد يعتبرها نعمة وهبه الله إياها؛ لجمالها أو مالها أو دلالها، وهي مصيبة قد حلت في بيته وهو لا يعلم، فأخبث الأمراض أخفاها، وشر الأعداء أحلاها (9).
أما الأولاد: فالخطورة تأتي من الانشغال بهم عن دينه، والحرص على تأمين مستقبلهم، وما أمّن مستقبله، والخوف عليهم بعد وفاته، ولم يخف على نفسه -وهي الأحق بذلك- فيضيع عمره بين زوجة وولد، وصدق الله العظيم: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)(10) [سورة آل عمران، الآية: 14].
ومما يجدر التنبه له هنا: أن البعض قد تختلف حاله في العبادة وطلب العلم والدعوة بعد زواجه، فيحكم عليه الناس بالفتور والتراخي، وقد يهمزونه أو يلمزونه، وهذا الأمر فيه تفصيل، فإن كان اختلاف حاله بسبب قيامه بالحقوق الشرعية لأهله وأولاده، دون أن يصل إلى حد الإخلال والتفريط في عبادته وعلمه ودعوته، فهذا أمر طبيعي، ولا يمكن أن تكون حاله وقد التزم بمسئوليات جديدة كحاله عندما كان شابا حرا طليقا، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صدّق سلمان عندما قال لأبي الدرداء - رضي الله عنهما - - إن لربك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه - (11).
__________
(1) - أخرجه الترمذي (4/215) كتاب اللباس، رقم (1780) قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث صالح بن حسان قال: وسمعت محمدا يقول: صالح بن حسان منكر الحديث.
(2) - أخرجه مسلم (4/2098) كتاب الذكر، رقم (2742).
(3) - سورة النساء آية: 134.
(4) - سورة الأنفال آية: 28.
(5) - سورة التغابن آية: 14.
(6) - أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (1990).
(7) - أخرجه مسلم (4/2098) كتاب الذكر رقم (2742).
(8) - كما كانت خديجة رضي الله عنها، وسائر أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
(9) - لأن الحلاوة تذهل عن العداوة، وكم من الناس من فر بسبب زوجة أو مال أو ولد، فهم زينة وعدو وفتنة.
(10) - سورة آل عمران آية: 14.
(11) - أخرجه البخاري (2/243) كتاب الصوم باب [51].(/9)
أما إن كان الزواج ومن ثم الأولاد قد قعدوا به مع القاعدين فهنا الخطورة، وهذه حال المنافقين الذين قالوا: (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا)(1) [سورة الفتح، الآية: 11]. والناس في هذا الباب بين إفراط وتفريط، والعدل هو الوسط، وإعطاء كل ذي حق حقه من غير بخس ولا شطط، وأن يكون المسلم على حذر فـ: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(2) [سورة التغابن، الآية: 15]. و: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)(3) [سورة التغابن، الآية:14].
5- الحياة في الأجواء الفاسدة
وذلك بكون المسلم يعيش في وسط يعج بالمعاصي، ويتفاخرون في الآثام، حديثهم عن اللذات المحرمة، وسماعهم للأصوات الفاجرة، ورؤيتهم للمشاهد والمسرحيات والتمثيليات الفاسدة، تحيتهم السباب، وثناؤهم اللعان، وهلم جرا.
إن هذا المجتمع الصغير الذي يحيط بالمسلم يضعفه، وقد لا يستطيع المقاومة، فيدب الفتور في أوصاله، ويسري التراخي إلى عبادته وأعماله، وقد يصل إلى ما وصلوا إليه، وكما أُمر المسلم بالهجرة من بلاد الكفار صيانة لدينه وبعدا عن الفتنة، فإن المؤمن مطالب بالتحول عن جلساء السوء ورفقاء الفساد، حفاظا على صلاحه وتقواه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - - إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا منتنة - (4).
6- صحبة ذوي الإرادات الضعيفة والهمم الذاتية
هذا السبب من أكثر الأسباب تأثيرا، وهو يختلف عن السبب السابق، وذلك أن هؤلاء قد يكونون من أهل الخير والصلاح، ولكن هممهم ضعيفة وعزائمهم واهنة، وأهدافهم شخصية، فلا يحس المرء بأثرهم عليه، ويضعف شيئا فشيئا، حتى يتلاشى نشاطه أو يكاد، وتفتر همته، وتخور عزيمته، ولذلك قال الشاعر:
لا تصحب الكسلان في حالاته
عدوى البليد إلى الجليد سريعة ... كم صالح بفساد آخر يفسد
كالجمر يوضع في الرماد فيخمد
والإنسان سريع التأثر بمن حوله، وبخاصة إذا كان هو فردا وهم عددا، أو كان ينظر إليهم نظرة إعجاب واحترام، ولذلك لا بد من حسن اختيار الصاحب والجليس، فإنه يؤثر على مر الزمن، كما يؤثر الحبل في الحجر، على ضعف الحبل وقوة الحجر، ولكن مرور الزمن كفيل بذلك، وبخاصة أن الحبل متحرك والحجر جامد، والمتحرك أقوى تأثيرا من الساكن والراكد.
ومن هنا وجهنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الأمر فقال:
- الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل - (5).
ومن أسباب الفتور عدم الشعور بمسئولية هذه الأمة، وعدم حمل همها، بل همه ذاته، ومسئولياته حول شخصه، فلا يحس بآلامها، ولا يسعى لتحقيق آمالها، جراحاتها لا تؤرقه، وشجونها لا تحزنه.
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
فمن كانت هذه حاله، فأحسن الله العزاء فيه، ومخالطته تعدي كما يعدي الصحيحَ الأجربُ، ولا عدوى ولا طيرة.
7- المعاصي والمنكرات وأكل الحرام
الذنوب والمعاصي أثقال معنوية في الدنيا، تثقل قلب صاحبها ونفسه، ثم هي يوم القيامة أثقال حسية، يقول سبحانه: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ)(6) [سورة العنكبوت، الآية: 13]. وقال: (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ)(7) [سورة الأنعام، الآية: 31].
يقول ابن القيم - رحمه الله - مبينا أن المعاصي سبب للفتور: "ومن عقوباتها - أي المعاصي - أنها تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة، أو تعوقه وتوقفه وتعطفه عن السير، فلا تدعه يخطو إلى الله خطوة، هذا إن لم ترده عن وجهته إلى ورائه، فالذنب يحجب الواصل، ويقطع السائر، وينكس الطالب، والقلب إنما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي تسيّره، فإذا زالت بالكلية انقطع عن الله انقطاعا يبعد تداركه، والله المستعان" (8).
__________
(1) - سورة الفتح آية: 11.
(2) - سورة التغابن آية: 15.
(3) - سورة التغابن آية: 14.
(4) - أخرجه البخاري (3/16) كتاب البيوع، باب [38] ومسلم (4/2026) كتاب البر والصلة رقم (2628).
(5) - أخرجه الترمذي (4/509) كتاب الزهد، رقم (2378) وأبو داود (4/259) كتاب الأدب، رقم (4833). قال الترمذي: حسن غريب. وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (3545).
(6) - سورة العنكبوت آية: 13.
(7) - سورة الأنعام آية: 31.
(8) - انظر الجواب الكافي ص 48.(/10)
فالمعاصي لا تؤدي إلى الفتور فحسب، بل تؤدي في غالب الأحيان إلى الانحراف، فإن المسلم قد يكون نشيطا في عبادته أو دعوته أو طلبه للعلم، ولكنه يتساهل في بعض المعاصي، وبخاصة إذا كانت من الصغائر، أو لا يتورع عن أكل المتشابه، بل قد يأكل الحرام، وهنا ينحدر انحدارا، كصخر حطه السيل من عل. ولذلك فإن على المسلم أن يكون حذرا متيقظا، بعيدا عن المتشابه فضلا عن الحرام، يحفظ جوفه، وسمعه، وبصره، ولسانه، وعقله، وفؤاده (1).
ومن البلاء الذي قل أن يسلم منه أحد، النظر إلى الحرام، وهو سهم من سهام إبليس، يورث في النفس حسرة وألما، ثم يسري إلى القلب قسوة ووحشة، والعلاج بقوله تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ)(2) [سورة النور، الآية: 30 ].
وبقوله: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)(3) [سورة الإسراء، الآية: 36]. وبقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)(4) [سورة البقرة، الآية: 168].
ونجد العلاج الناجح والبلسم الشافي - أيضا - في هذا الحديث:
روى النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: - إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه - وفي آخر الحديث - ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب - (5).
والقاعدة المنجية في ذلك قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - - دع ما يريبك إلى ما لا يريبك - (6).
8- عدم وضوح الهدف
كثير من الناس يطلب العلم، وآخرون يدعون إلى الله، وتلحظ منهم الجد والنشاط، وقد تحقر نفسك عند هؤلاء، وبعد فترة من الزمن تفاجأ بأن هؤلاء لم يعودوا كما كانوا، ولو دققت النظر لوجدت أن من أهم الأسباب التي أوصلتهم إلى هذه الحالة أنهم كانوا يعملون دون أهداف واضحة أو محددة، ولكنهم رأوا الناس يعملون فعملوا، وقد تكون فترة طفرة أو حماس بعد سماع محاضرة، أو قراءة كتاب، أو تأثير صديق.
ويدخل في هذا الارتجالية والفوضى، فتجد الأعمال مع ضخامتها غير موجهة ولا مؤصلة، ناشئة عن تفكير آني، وردود أفعال، يبدأ في هذا العمل ولا يتمه، ويشرع في هذا الأمر ثم لا يستمر فيه و - أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل - (7). - وكان أحب العمل إليه ما داوم عليه صاحبه - (8).
إن وضوح الهدف وتحديده مطلب ملح، من أجل أن يسير العاملون بخطى وئيدة متزنة، أما أن تكون الأهداف ضبابية عائمة، والأعمال ارتجالية، فإن ذلك مدعاة لقعود الأفراد، وتسللهم واحدا تلو الآخر، لأنهم لا يعلمون أين يسيرون، وفيم يركضون، ولذلك سرعان ما ينقطعون.
9- ضعف الإيمان بالهدف أو الوسيلة
وهذا يختلف عما قبله، فإن الهدف هنا محدد واضح، والوسيلة كذلك، ولكنك تجد من لا يؤمن بهذا الهدف الذي تسعى إليه، أو لا يقتنع بالوسيلة المستخدمة، وفرق بين الأمرين.
وقد يسير الإنسان فترة من الزمن في هذا الطريق، مجاملة أو تجربة أو لسبب آخر، ثم يبدأ في الضعف والفتور، حتى يتخلى عما كان عليه.
وأوضح هذا السبب بمثال:
فقد يتفق شخصان أو أكثر على تشخيص الواقع، ويرى الأكثرون أن العلاج يجب أن يكون علاجا شموليا، بالدعوة العامة، والتربية، وطلب العلم، وغيرها من وسائل العلاج المشروعة، دون أن يطغى جانب على آخر، ولكن يراعى في كل جانب ما يناسبه.
ويرى آخرون أن العلاج بطلب العلم فقط.
وقد يرى البعض أن العلاج يكون بالتربية الفردية فقط، أو بالدعوة العامة، فإن من سار معهم وهو ليس مقتنعا بما هم عليه سيضعف، ويتخلى عاجلا أو آجلا، لأنه غير مقتنع بالوسيلة المتبعة، ويرى أنها لن تحقق الأهداف المتفق عليها.
__________
(1) - ومما يدل على ذلك قوله تعالى (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) ]سورة المؤمنون، الآية: 45[ فجمع بين أكل الطيبات والعمل الصالح مما يفيد أثر الأول في الثاني.
(2) - سورة النور آية: 30.
(3) - سورة الإسراء آية: 36.
(4) - سورة البقرة آية: 168.
(5) - أخرجه البخاري (1/19) كتاب الإيمان باب [39]. ومسلم (3/1219) كتاب المساقاة رقم (1599).
(6) - أخرجه الترمذي (4/577) كتاب القيامة رقم (2518) قال الترمذي: حسن صحيح.
(7) - أخرجه البخاري (7/182) كتاب الرقاق، باب [18]. ومسلم (1/541) كتاب صلاة المسافرين رقم (782 [216، 218]).
(8) - أخرجه البخاري (1/16) كتاب الإيمان، باب [32] ومسلم (1/542) كتاب صلاة المسافرين، رقم (785[221]).(/11)
والمشكلة أن مثل هؤلاء يصابون - غالبا - بفتور عام، فلا يتحولون إلى الوسيلة التي اقتنعوا بها، ومن ثم ينشطون في هذا الجانب ويبدعون فيه، لو كان الأمر كذلك لهان الأمر، وقد يكون في ذلك خير، ولكنهم يتخذون ما لم يقتنعوا به مبررا لترك ما اقتنعوا به، والمهزوم لا يرده شيء.
إذا كان الأمر كذلك في عدم القناعة بالوسيلة، فإن الأمر أشد فيما يتعلق بعدم القناعة بالأهداف، فإن الذي لا يقتنع بالأهداف لا يستطيع أن يسير طويلا، لأنه يسير إلى غاية لم يؤمن بها، وقد يكون قبل ذلك لم يكن يعرف هذه الأهداف، فإذا استبانت له سرعان ما يتخلى وينزوي، ولو لم يصرح بذلك.
10- عدم الواقعية
من خلال عنايتي بموضوع الفتور، ومن ثم سبري لأحوال كثير من الفاترين، وجدت أن ما يمكن أن أسميه بـ (عدم الواقعية) من أهم الأسباب التي أوصلت أولئك إلى الحالة التي آلوا إليها.
وعدم الواقعية قضية كلية، تتفرع عنها عدة صور وحالات، حيث لا يمكن حصرها في حالة أو حالتين.
وأقصد بعدم الواقعية عدم التناسب بين الإمكانات الذاتية، وبين مقدار العطاء من عبادة وعلم ودعوة.
وقد يكون عدم الواقعية ناشئا من الفرد، وقد يكون من المجموعة، أو المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان.
ومثلما أن عدم الواقعية يكون في الوسائل - غالبا - فإنه قد يكون في الأهداف.
وكما أن عدم الواقعية يكون في الزيادة في العمل فوق طاقة المسلم، فقد يكون في النقص، بحيث لا يتناسب العطاء مع الإمكانات.
ولنأخذ بعض الأمثلة والصور التي تزيد هذه القضية وضوحا:
أ-الغلو والتشدد صورة من صور عدم الواقعية، ولذلك جاءت الآيات والأحاديث زاجرة وناهية عنه:
قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ)(1) [سورة النساء، الآية: 171] وقال سبحانه: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)(2) [سورة الحديد، الآية: 27] وقال: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)(3) [سورة البقرة، الآية: 286] وقال: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(4) [سورة الحج، الآية: 78] وقال - صلى الله عليه وسلم - - إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين - (5). وقال - صلى الله عليه وسلم - - هلك المتنطعون ثلاثا - (6).
وقال: - إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه - (7).
- وعندما دخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - على عائشة وعندها امرأة سأل عنها فقالت عائشة- رضي الله عنها: هذه فلانة، تذكر من صلاتها وعبادتها، فقال - صلى الله عليه وسلم - مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا - " وكان أحب الدين ما داوم عليه صاحبه" (8).
- ولما دخل إلى المسجد ووجد حبلا بين ساريتين فسأل عنه، فقالوا: إنه حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال - صلى الله عليه وسلم - لا، حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد - (9) .
ب- ومن صور عدم الواقعية أن يكون الشاب نشيطا متحمسا، في الدعوة إلى الله، أو في طلب العلم، يواصل الليل بالنهار، والصيف بالشتاء، ولكنه متساهل، بل مهمل لحق أهله، غير عابئ بشئون نفسه، مقصر مع أقاربه وذوي رحمه، وبعد سنوات يكتشف الخلل، فيبدأ تأنيب الضمير يعاتبه على تقصيره، ثم يسيطر هذا الأمر على تفكيره، بل قد يدخل الشيطان - وهو متحفز للدخول دائما - ويقول له: انظر إخوانك وزملاءك قد تزوجوا وبنوا البيوت، وامتلكوا من الدنيا ما لم تملك بسبب حالتك الأولى، وهنا تبدأ الوساوس والهواجس، والمشاريع الوهمية، ويدب الخلل إلى أوصاله، والفتور إلى أعماله، ورويدا رويدا حتى لم يعد في العير ولا في النفير.
وهكذا تكون النتائج إذا كانت البدايات، فما كان خاطئا أورث باطلا، وقليل هم أولئك الذين يصححون أوضاعهم وفق المنهج الشرعي، وإنما هي أفعال تتلوها ردود أفعال، هكذا الحال غالبا.
جـ- ومن الصور غير الواقعية أن يحدد الفرد أو المجموعة أهدافا غير واقعية، مع أن هذه الأهداف في ذاتها قد تكون مشروعة، ولكن بالنظر لظروف الزمان أو المكان فإنها غير عملية، وليس هذا أوانها أو مكانها، ويصدق عليهم قول الشاعر:
__________
(1) - سورة النساء آية: 171.
(2) - سورة الحديد آية: 27.
(3) - سورة البقرة آية: 286.
(4) - سورة الحج آية: 78.
(5) - أخرجه النسائي (5/268) كتاب مناسك الحج رقم (3057) وابن ماجة (2/1008) كتاب المناسك رقم (3029). وأحمد (1/215، 347) وصححه الحاكم (1/466) ووافقه الذهبي، ووافقها الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم (1283).
(6) - أخرجه مسلم (4/2055) كتاب العلم رقم (2670).
(7) - أخرجه البخاري (1/15) كتاب الإيمان باب [29].
(8) - أخرجه البخاري (1/16) كتاب الإيمان، باب [32] ومسلم (1/542) كتاب صلاة المسافرين رقم (785 [218]).
(9) - أخرجه البخاري (2/48) كتاب التهجد باب [18] ومسلم (1/542) كتاب صلاة المسافرين رقم (784).(/12)
ونحن أناس لا توسط عندنا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر
ويستمر العمل وتبذل الجهود - دون اكتشاف للخطأ - وتمر الأيام والسنون دون تحقيق شيء ذي بال من هذه الأهداف، فيدب السأم والملل، وتتبخر الأحلام، ويصدّق الواقع مثالية هذه الأهداف، فيبدأ الأفراد يتساقطون واحدا تلو الآخر، ومعلّموهم لا يملكون الجرأة في استدراك ما يمكن استدراكه، والمحافظة على البقية الباقية من الجهد والزمن والأفراد، بل قد يكون أولئك من زمرة القاعدين بل الهاربين.
د- ومن الصور التي تخالف الواقعية أن يتحمس الشاب لطلب العلم، وينظر فإذا هو قد فاته الشيء الكثير، فيبدأ في طلب العلم جادا نشيطا، ولكنه بدل أن يبدأ الطريق من أوله، ويعلو السلم من أسفله، إذا هو يبدأ بالأمهات، ويقرأ المطولات، دون أن يكون ملما بالأصول والقواعد والمختصرات، بل قد لا يعرف بعض الأبجديات والبدهيات، وتمضي الأيام فإذا هو قد بنى على غير أساس، وشيد بلا قواعد، فيدرك الخطأ بعد حين، ويرى أن ما بناه كان على شفا جرف هار، فيتأثر ويتحسر، وقد مضى من العمر ما مضى، فيدركه الضجر، ومن ثم الانقطاع ثم يندثر.
وقد فسر العلماء "الربانيون" في قوله تعالى: (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ)(1) [سورة المائدة، الآية: 44] بأنهم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره.
هـ- ومن صور عدم الواقعية التي تؤدي إلى الفتور كثيرا: عدم العناية بمتطلبات الجسد من الأكل والشرب والنوم، وكذلك تعاهد الجسد من الناحية الصحية، والناس في هذا بين إفراط وتفريط، وكلاهما يؤديان إلى الفتور والضعف. إن العناية بمأكل الإنسان ومشربه وصحته ونومه وما يتعلق بحق بدنه مما أوصى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث سلمان: - ولبدنك عليك حقا - (2). وإهمال ذلك أو المبالغة فيه يؤدي إلى نتائج سلبية عاجلا أو آجلا.
ولنأخذ مثلا واحدا من حقوق البدن، وهو (النوم) ولندع ابن القيم يتحدث، حيث يقول (3) - رحمه الله -: "المفسد الخامس - يعني من مفسدات القلب - كثرة النوم، فإنه يميت القلب، ويثقل البدن، ويضيع الوقت، ويورث كثرة الغفلة والكسل، ومنه المكروه جدا، ومنه الضار غير النافع للبدن". ثم ذكر أنواعا من النوم الضار والمكروه، ومما قال: "ومن المكروه عندهم النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، فإنه وقت غنيمة". ثم قال:
"وبالجملة فأعدل النوم وأنفعه نوم نصف الليل الأول وسدسه الأخير، وهو مقادر ثمان ساعات، وهذا أعدل النوم عند الأطباء، وما زاد عليه أو نقص منه أثر عندهم في الطبيعة انحرافا بحسبه.
ثم قال: وكما أن كثرة النوم مورثة لهذه الآفات، فمدافعته وهجرة مورث لآفات أخرى عظام، من سوء المزاج ويبسه، وانحراف النفس، وجفاف الرطوبة المعينة على الفهم والعمل، ويورث أمراضا مختلفة، لا ينتفع صاحبها بقلبه ولا بدنه معها، وما قام الوجود إلا بالعدل، فمن اعتصم به فقد أخذ بحظه من مجامع الخير، والله المستعان".
وخلاصة الأمر فإن الصور كثيرة، والمشكلة كبيرة، ولذلك فإن العلاج قد جاء في الكتاب والسنة في غير موضع، (4) والوسطية هي العلاج الحاسم والدواء الناجع، والتوازن مع قضايا هذا الدين مطلب ملح، ومراعاة ظروف الزمان والمكان منهج شرعي، والإفراط والتفريط بلاء وشطط، والغلو والجفاء مهلكة محققة.
وأنبه إلى خطورة السلبية باسم الواقعية، وهذا هو الداء الذي نخشاه، فتجده يردد دائما: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)(5) [سورة البقرة، الآية: 286] و (لَا?يُكَلِّفُ?اللَّهُ?نَفْسًا إِلَّا?مَا?آتَاهَا) [سورة الطلاق، الآية: 7]. يضع هذه الآيات في غير موضعها، جهلا أو تجاهلا أو تخلصا، ولو صدق مع الله لفقه معنى الجهاد والمجاهدة، والصبر والمصابرة، وكل ذلك في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
11- العقبات والمعوقات
__________
(1) - سورة المائدة آية: 44.
(2) - أخرجه البخاري (2/243) كتاب الصوم باب [51].
(3) - انظر مدارج السالكين 1/459.
(4) - انظر رسالة المؤلف (الوسطية في ضوء القرآن).
(5) - سورة البقرة آية: 286.(/13)
طريق الدعوة إلى الله طريق مليء بالعقبات والأشواك، وليس طريقا مفروشا بالورود والرياحين، ولقد ركز القرآن الكريم على هذه القضية كثيرا تبصيرا للسائرين، وتثبيتا للعاملين، قال سبحانه: (الم أَحَسِب النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)(1) [سورة العنكبوت، الآيتان: 1، 2]. وقال جل وعلا: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)(2) [سورة البقرة، الآية: 214]. وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)(3) [سورة آل عمران، الآية: 142].
والآيات في هذا الباب كثيرة جدا، والأحاديث تؤكد هذه الحقيقة وتجليها، منها حديث خباب عندما " جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقال له: ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا.. " الحديث (4).
وكذلك عندما مر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بآل ياسر وهم يعذبون قال لهم: - صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة - (5).
هذه هي طبيعة هذا الطريق، بل هذه علاماته، ولذلك قال أحد الدعاة عندما سئل عما لاقاه في سبيل دعوته - وقد عذب وسجن عدة سنوات - قال: "لولا هذه العقبات والمعوقات لشككنا في طريقنا".
ومن هنا فإن بعض الناس يبدأ دعوته، ثم ينشط في ذلك، ولكنه لم يكن يتصور حقيقة الابتلاء والفتنة، وإن كان يعلم هذا من الناحية النظرية، بل قد يلقي دروسا في ذلك، وعندما يقطع مرحلة في مسيرته المباركة تبدأ بنيات الطريق، ثم تتبعها أمور لم يكن قد هيأ نفسه لها، ثم يبدأ في التفكير والتوقعات، وقد يرى بعض الدعاة يفتنون، ومن ثم يأتيه الشيطان فيوسوس له، وتبدأ هذه القضايا تعمل في تفكيره، وتؤثر على عمله، وسرعان ما يتحول من ذلك الرجل الذي عرفناه بالنشاط والدأب والحركة إلى رجل يتسلى بماضيه عن حاضره، ويصبح جزءا من التاريخ بعد أن كان تاريخا، بل بعد أن كان يكتب التاريخ، ويجيد صناعة الحياة.
إن الفقه في سنن الله، ومعرفة سنة الابتلاء والامتحان، وكثرة مدارسة القرآن ودراسة السنة، ومعايشة سير الأنبياء والمرسلين، والدعاة والمصلحين، سبيل للنجاة من داء الفتور بسبب ما يلقاه الداعية في طريقه إلى الله، وتأمل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(6) [سورة آل عمران، الآية: 200].
12- الفردية
دين الإسلام دين جماعي، لا مكان للفردية فيه، (7) ومظاهر الجماعية فيه لا تعد ولا تحصى، فالصلاة جماعية، والزكاة تعبير عن تضامن جماعي بين الأغنياء والفقراء، والصيام، والحج - صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون - الحديث (8).
__________
(1) - سورة العنكبوت آية: 1-2.
(2) - سورة البقرة آية: 214.
(3) - سورة آل عمران آية: 142.
(4) - أخرجه البخاري (4/179) كتاب المناقب باب [25].
(5) - أخرجه الحاكم في المستدرك (3/388، 389). وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/296): رواه الطبراني ورجاله ثقات. وفي لفظ: "أبشروا آل ياسر، موعدكم الجنة". قال الهيثمي في المجمع (9/296): رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح، غير إبراهيم بن عبد العزيز المقوم وهو ثقة.
(6) - سورة آل عمران آية: 200.
(7) - هناك بعض العبادات كقيام الليل والنوافل ونحوها قد تكون فردية، ولكن المراد أن الأعمال الجماعية أكثر وأعم.
(8) - أخرجه الترمذي (3/ 80) كتاب الصيام رقم (697). قال الترمذي: حسن غريب وحسنه الألباني كما في الإرواء رقم (905).(/14)
بل يصل الأمر إلى الأمور المألوفة عند الناس كالنسل، فهو نتاج تزاوج بين رجل وامرأة، مع أن الله قادر على أن يخرج النسل من أحدهما دون الآخر، كما خلق حواء من آدم، وأخرج عيسى من مريم، بل من دونهما كما خلق آدم من تراب، بل إن أمور العادات حث الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أدائها جماعية، كالأكل، قال - صلى الله عليه وسلم - - اجتمعوا على طعامكم يبارك لكم فيه - (1) والسفر حيث قال - صلى الله عليه وسلم - - والثلاثة ركب - ، (2) والنوم فقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الوحدة، أن يبيت وحده، أو يسافر وحده (3).
فإذا كان هذا أثر الاجتماع في أمور حياتنا ودنيانا، فكيف يكون أثره في حماية ديننا؟
ولقد جاءت الآيات والأحاديث تطرق هذا الباب وتؤصله:
(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) (4) [سورة آل عمران الآية: 103] (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)(5) [سورة المائدة، الآية: 2].
ونهى عن الفرقة والتفرق والاختلاف:
(وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ)(6) [سورة آل عمران، الآية:105] (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ)(7) [سورة الأنعام، الآية: 159] (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(8) [سورة الروم، الآية: 31، 32 ].
والأحاديث كثيرة جدا منها:
- عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة - (9).
وقال: - وآمركم بالسمع والطاعة والهجرة والجهاد والجماعة، فإن من فارق الجماعة شبرا فمات، إلا كانت ميتته ميتة جاهلية - (10).
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كدر الجماعة خير من صفو الفرد.
وقال المبارك ابن المبارك:
لولا الجماعة ما كانت لنا سبل ... ولكان أضعفنا نهبا لأقوانا
وبهذا يتضح لنا أن الجماعة هي الأصل، والمراد بذلك لزوم جماعة المسلمين، جماعة أهل السنة والجماعة، وهي الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية (11). وهي من كان على مثل ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
ومن هنا فإن من شذ عن هذا الأصل العظيم، وآثر الفردية، أو حياة العزلة والتفرد، فإنه منقطع أثناء الطريق، وستخور قواه وتضعف عزيمته، ويدركه الملل والسأم، وستكون حاله كالمنبت الذي لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى، وصدق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - - إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية - (12).
13- الجمود في أساليب العمل ومراحل الدعوة
المتتبع لسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومراحل دعوته يجد فيها التجديد، والانتقال من مرحلة إلى أخرى، مراعاة للزمان والمكان والأفراد.
ومما يلحظ على بعض الأفراد والجماعات الجمود على بعض الأساليب الاجتهادية، مع تغير الأحوال وتبدل الأزمان، وكذلك التقوقع على مرحلة دون التحول والانتقال عنها إلى غيرها، مع أن طبيعة المرحلة وظروف العمل تقتضي النقلة إلى مرحلة أخرى، وهذا مما يصيب الدعاة بالرتابة والملل، ومن ثم يبدأ التفلت والكسل.
__________
(1) - أخرجه أبو داود (2/346) كتاب الأطعمة رقم (3764) وابن ماجه (2/1093) كتاب الأطعمة، رقم (3286) وأحمد في المسند (3/501) والحاكم في المستدرك (2/103) قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (2/5) إسناده حسن.
(2) - أخرجه أبو داود (3/36) كتاب الجهاد، رقم (2607) وأحمد في المسند (2/186). وصححه الألباني انظر صحيح الجامع رقم (3524).
(3) - أخرجه أحمد في المسند (2/91) قال الهيثمي في المجمع (8/107): رجاله رجال الصحيح.
(4) - سورة آل عمران آية: 103.
(5) - سورة المائدة آية: 2.
(6) - سورة آل عمران آية: 105.
(7) - سورة الأنعام آية: 159.
(8) - سورة الروم آية: 31-32.
(9) - أخرجه الترمذي (4/404) كتاب الفتن، رقم (2165) وأحمد في المسند (1/18) والحاكم في المستدرك (1/114) وصححه، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، وصححه الألباني في تخريجه للسنة لابن أبي عاصم رقم (88).
(10) - أخرجه أحمد في المسند (5/344) قال الهيثمي في المجمع (5/220): رواه أحمد ورجاله ثقات رجال الصحيح خلا علي بن إسحاق السلمي وهو ثقة. وأخرجه أحمد أيضا انظر المسند (4/130، 202).
(11) - من الأخطاء المعاصرة أن بعض الجماعات اعتبرت نفسها هي جماعة المسلمين، واستدلت بهذه الآيات والأحاديث على نفسها فحجرت واسعا، وضيقت رحبا.
(12) - أخرجه أبو داود (1/150) كتاب الصلاة رقم (5047) والنسائي (2/107) كتاب الإمامة رقم (847). وأحمد في المسند (5/196) (6/446) قال الألباني في تعليقه على المشكاة رقم (1067): إسناده حسن وأشار إلى أن النووي قد صححه.(/15)
ولذلك فإن على الدعاة أن يولوا هذا الجانب أهمية قصوى، وأن يدرسوا منهج القرآن والسنة في ذلك، ويروا الفرق بين العهد المكي والعهد المدني، بل يروا التجديد في العهد المكي نفسه، وقل مثل ذلك في العهد المدني، فتجد التجديد في المراحل، والتنوع في الأساليب، وتلحظ البعد عن الرتابة والجمود.
إن النفس البشرية كالماء إذا وقف أسن، وكالشجرة إذا لم يجدد لها الهواء ذبلت.
والداعية نفسه يحتاج إلى التجديد والابتكار، مع المحافظة على الأصل والمنهج، ولنأخذ هذا المثال: لو أن رجلا سافر من بلده لأداء العمرة والمسافة طويلة، فلما عاد إلى بلده طلبت المجموعة نفسها العودة مرة أخرى لأداء العمرة ثانية، هل سيكون هذا الرجل بالنشاط والحماس نفسه كالمرة الأولى؟
الجواب طبعا: لا، ولكنه لو وجد مجموعة أخرى وغيرت الوسيلة، فبدل السفر في السيارة يكون السفر بالطائرة أو العكس، سيجد نشاطا وحماسا قد يفوق الرحلة الأولى، وبخاصة إذا كان هؤلاء أفضل من أولئك.
وأيضا، مما تجب مراعاته أن الإنسان في مراحل عمره يناسبه في كل مرحلة ما لا يناسبه في المرحلة الأخرى، وذلك تبعا لتغير السن والظروف الاجتماعية، والمستوى العلمي وغيرها، ولهذا فإنه يجب أن يمارس من الأعمال ما يناسب واقعه وظروفه وسنه، وتحسن المبادرة في تحوله من عمل إلى آخر قبل أن يملّ ويفتر، لأن الانتظار حتى يتعب ويكل، ثم ينتقل إلى مجال آخر، سيترك أثره على عمله الجديد.
إن مجالات الدعوة ليست محصورة في جانب واحد، وأصحاب الهمم الضعيفة هم أولئك الذين يحجرون واسعا، ويجمدون كالماء في برد الشتاء. ومن المعلوم أن من سمات هذه الأمة (التجديد) وهم أولئك الذين يبعثهم الله على رأس كل قرن يجددون لهذه الأمة أمر دينها على منهاج النبوة، وفرق كبير بين التجديد والتجميد، فتأمل.
وهنا قضية لا بد من الإشارة إليها، وهي أنه مع أهمية التجديد والتنويع في الأساليب، يجب أن يكون هذا في حدود مقتضيات طبيعة الدعوة والحاجة التي تدعو إلى ذلك، أما إذا أصبح التجديد مرادا لذاته، والتغيير والتبديل سمة من سمات العمل، فقدت الدعوة استقرارها، ففي كل فترة خطة، ينتقلون عن هذه، ثم يعودون إلى تلك، وكأن الدعوة ميدان للتجارب ومركز للأبحاث، في هذه الحالة ستكون النتائج سلبية، وسيكون التفلت وعدم الثقة والفتور أشد وأنكى.
والمنهج الصحيح هو التوسط، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فلا إفراط ولا تفريط، وما يعقلها إلا العالمون.
وقل مثل ذلك في حالة الفرد الذي لا يستقر على منهج، ولا يثبت على عمل من الزمن، كثير التجوال والترحال حسا ومعنى، وهذا هو المنبت الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.
14- الانحراف عن مسار الهدف الصحيح
قد تنشأ جماعة إسلامية في بلد من البلدان، وتكون نشأتها على هدي النبوة ومنهج السلف الصالح، وتنطلق قوية نشيطة مؤثرة في المجتمع، ومن ثم تستقطب آلاف الناس، وبخاصة الشباب منهم، وتبدأ في الانتقال من مرحلة إلى مرحلة، وتواجه ظروفا جديدة في الحياة تتطلب قدرا من الشجاعة في اتخاذ القرار الصحيح، المستمد من الكتاب والسنة، وقد تزاحمها جماعات أخرى، مما يدخلها في مرحلة من الابتلاء والامتحان.
وتبعا لهذه الظروف والأوضاع قد تجد هذه الجماعة نفسها عاجزة عن المضي في طريقها الذي رسمته، وعلى أصولها التي قامت عليها، فيبدأ الخلل، ويتوسع في قاعدة المصلحة المرسلة أو (مصلحة الدعوة)، وتأخذ الاجتهادات (غير المؤصلة) طريقها إلى التنفيذ، وتستسلم للضغوط الداخلية والخارجية.
ومن هنا يتلفت الأتباع، وبخاصة المخلصون منهم والبعيدون عن التعصب والحزبية، فلا يجدون الأمر كما عهدوا، ولا الشأن كما عرفوا، وقد تكون الصورة غير واضحة بالنسبة لهم، فيحدث في نفوسهم نوع من القلق والتوتر، وتحسر على ما مضى من عمر هذه نهايته.
وتعمل هذه الأفكار والهواجس عملها في النفوس، فيؤثرون حياة العزلة والانطواء، ويستسلمون للدعة والراحة، حيث إنهم لا يملكون الشجاعة على استئناف حياة جديدة، تحافظ على العهد وتبقي على الأصل، فإن الدعوة ليست ملكا لزيد أو عمرو، وإنما هذا دين الله، لا توقفه أهواء البشر، ولا قعود القاعدين (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)(1) [سورة محمد، الآية: 38].
15- عدم استشعار التحدي
من الأسباب المؤثرة في حياة الدعاة وطلاب العلم عدم إدراكهم لواقعهم، ومن ثم عدم إدراكهم للتحدي الكبير الذي تواجهه هذه الأمة، من أعدائها من خارجها ومن داخلها.
__________
(1) - سورة محمد آية: 38.(/16)
وحقيقة التحدي عبر عنها القرآن في أكثر من موضع، قال تعالى: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)(1) [سورة البقرة، الآية: 120] (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ)(2) [سورة النساء، الآية: 89] وقال: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ)(3) [سورة التوبة، الآية: 32] وقال: (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ)(4) [سورة المنافقون، الآية: 4] (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً)(5) [سورة النساء، الآية: 102].
إن شعور المسلم بالتحدي من قبل أعدائه يجعله متيقظا، جادا في مواجهة هذا التحدي، وغفلته عنه تؤدي به إلى حياة الدعة والراحة والسكون، بل إلى حياة التهلكة كما عبر القرآن: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(6) [سورة البقرة، الآية: 195].
وانظر إلى ما قاله أبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - حولها تعرف الحقيقة، قال: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنما لما أعز الله دينه وكثر ناصريه، قلنا فيما بيننا بعضنا لبعض سرا من رسول الله: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله يرد علينا ما هممنا به (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(7) [سورة البقرة، الآية: 195]. بالإقامة التي أردنا أن نقيم في الأموال ونصلحها، فأمرنا بالغزو. فما زال أبو أيوب غازيا في سبيل الله حتى قبضه الله. (الطبري 2/204).
إن أي دولة تحس بالخطر على حدودها تستنفر جيشها وشعبها لمواجهة الخطر الجديد، بل إن الحيوانات إذا أحست بالخطر استنفرت قواها، وتحفزت للدفاع عن نفسها، فإذا زال الخطر عادت إلى حالتها الأولى، ومن الأمثال العربية المعروفة "لو ترك القطا ليلا نام" فإحساس القطا بالخطر أذهب عنه النوم.
وهكذا المسلم، فإن شعوره بالتحدي يجعله بعيدا عن حياة الكسل والخمول والخور، وفقدانه لهذا الشعور يؤدي به إلى التثاقل والفتور، أرأيت لو أحس أحدنا باللصوص حول بيته هل ينام ساعة من الليل، أم يظل متيقظا مستعدا متحفزا، فكيف إذا كان اللصوص لصوص دين لا دنيا؟
ولكن:
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
16- ضعف التربية
يحتاج المسلم إلى تربية طويلة، مؤصلة، شاملة، وبخاصة في الجانب العبادي والعلمي.
ولقد ربى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابته خير تربية عرفتها البشرية، ولم يكن هذا بالأمر السهل والهين، بل مكث سنوات طويلة في مكة، وبعد ذلك في المدينة، يتعاهد صحابته، ويربيهم على عينيه - صلى الله عليه وسلم -.
وتطلب هذا الأمر جهودا مضاعفة وسنوات متوالية، حتى تخرج على يديه الكريمتين تلك الصفوة المباركة، التي ما عرف التاريخ ولن يعرف مثلها، سجلوا أمجادهم بمداد من نور، واجهوا المشكلات والعقبات، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ذلوا، وما استكانوا، وما ضعفوا.
وشباب الأمة اليوم بأمس الحاجة إلى التربية الشاملة المتوازنة، المستمدة من الكتاب والسنة، وعلى هدي سلف الأمة.
والحقيقة التي لا يمكن إنكارها، أن هناك ضعفا ظاهرا في تربية رجال الأمة وشبابها، بل ونسائها، وأصبح الالتزام مظهرا عاما في داخله دخن عند كثير من الملتزمين، قد لا يثبت عند مواجهة الشدائد والمحن.
فالصلة بالله ضعيفة، والعلم قليل، والتجربة محدودة، بينما المشاعر فياضة، والحماس طاغ، وقد يسر الناظرين، كالسراب " يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا " إلا من عصم الله ووفق وثبت.
وقد كثرت الشكوى هذه الأيام من أولئك الذين ضعفوا بعد استقامة، وأصبحت تكوّن ظاهرة تحتاج إلى علاج، ووجدت أن من أبرز أسبابها ضعف التربية، مع كثرة الشهوات والشبهات، فعلى العلماء وطلاب العلم والمربين المبادرة قبل فوات الأوان، وتمني أن الذي كان ما كان.
ومما تجب الإشارة إليه في باب ضعف التربية ما يلي:
1-ضعف البدايات، وعدم بناء الشخصية المسلمة على أسس قوية مؤصلة، مما يجعلها هزيلة غير متمكنة، تميل إلى ما قامت عليه وتحن إليه، مما يجعل صاحبها يعاني أيما معاناة.
ب- عدم التدريب على المبادرة، بل أحيانا تربية الفرد على السلبية وانتظار التكاليف، فهو إمعة ومقلد.
ج-ضعف الثقة بالنفس، والخوف من الإحباط والفشل، والتهيب من كل جديد.
د- الغفلة عن مبدأ الثواب والعقاب، أو إساءة استخدامه.
هـ-التعنيف في المحاسبة، وتضخيم الأخطاء، وكثرة العتاب، وعدم مراعاة الفروق الفردية، والظروف الاجتماعية، مما يسبب للشاب نفورا ووحشة وإحباطا.
__________
(1) - سورة البقرة آية: 120.
(2) - سورة النساء آية: 89.
(3) - سورة التوبة آية: 32.
(4) - سورة المنافقون آية: 4.
(5) - سورة النساء آية: 102.
(6) - سورة البقرة آية: 195.
(7) - سورة البقرة آية: 195.(/17)
و- إبراز الشخص وتحميله مسئوليات كبيرة قبل نضجه وإعداده وتربيته، وهذا بلاء عواقبه وخيمة في العاجل أو الآجل.
17- عدم التجانس بين الموهبة والعمل
من الأخطاء التي يقع فيها بعض الدعاة أن يقوم بمزاولة عمل لا يناسبه، ويختلف مع طبيعته ومواهبه، كأن يزاول الكتابة وهو لا يجيدها، أو الخطابة وهو ليس من أهلها، وهلم جرا.
ويستمر الصراع في داخله بين قدراته وإمكاناته، وبين ما كلف نفسه به، وتزداد معاناته شيئا فشيئا، وبخاصة عندما يهم القيام بهذا الأمر، حتى يصبح هذا العمل عبئا ثقيلا على نفسه، يفرح بالأسباب الظاهرة التي يتخلص فيها من أداء هذه المهمة- مؤقتا- كتوقف الدروس والمحاضرات بسبب الإجازة أو الامتحان، ونحو ذلك.
وفي النهاية تنتصر النفس، وتظهر على حقيقتها، ويتغلب الأصل على الفرع، ومن ثم يمل ويفتر، ويضعف ويتوقف.
وقد كان في سعة من أمره، ومجالات الدعوة ليست محصورة في مجال أو مجالين، فإذا اكتشف أن مواهبه لا تساعده للقيام في هذه المهمة انتقل إلى مهمة أخرى، دون أن يضيع الجهود والعمر، بل والنية أحيانا، والشاعر يقول:
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
وفرق بين أن يزاول المرء عملا مؤقتا ولو لم يجد نفسه فيه، حيث لكل حالة ما يناسبها، وبين أن يستمر في هذا العمل ويعرف من خلاله، وهو لا ناقة له فيه ولا جمل، وإنما كلف نفسه شططا، وأمر الله واسع (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)(1) [سورة البقرة، الآية: 286]، ويقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: - عليكم بما تطيقون - (2).
ومن هذا المنطلق فإن على العلماء والمربين أن يكتشفوا مواهب طلابهم- مبكرا- حتى يربوهم على القيام بما يحسنون، وما ترتاح له نفوسهم، ويجدون القدرة على الإبداع والتفوق فيه، وبخاصة أن بعض الطلاب قد يجامل شيخه، ولا يصرح له بثقل هذا الأمر عليه، وعدم ارتياحه له، لضعف مواهبه فيه.
وهنا أنبه إلى أمرين:
أ- أن بعض الأعمال يمكن التعويض عن نقص الموهبة بالتدريب والتعليم والمران، حتى تصبح أمرا عاديا، ويلجأ إلى هذا الأمر، مع ما يتطلبه من جهد ووقت في حالة عدم وجود من يقوم بهذا الأمر رغبة وموهبة، مع الحاجة الماسة إليه.
ب- كل ما سبق في الأمور الاختيارية من فروض الكفاية والمستحبات، أما الواجب العيني فلا خيار، ما لم يكن هناك عذر شرعي معتبر.
18- اختلاف البيئة
بعض الدعاة وهبهم الله قدرة فائقة للقيام بالدعوة في مختلف البيئات والمجتمعات، يتكيفون حسب الحال والزمان، علمهم واسع، ونفسياتهم رحبة، وقدراتهم متعددة، هؤلاء غير معنيين بحديثنا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وإنما هناك آخرون ينشطون في مكان دون آخر، ويبدعون في بيئة دون سواها، ويتفوقون في مجتمع معين، فإذا تحولوا عنه تغيروا. وبعض الطلاب إذا كان مع مجموعة من زملائه يرتاح لهم ويرتاحون له تجد فيه الحيوية والنشاط، فإذا انتقل أو نقل إلى آخرين سرعان ما تخبو مواهبه، وتضعف عزيمته، وتلحقه السآمة والملل، ولو أعدته إلى بيئته الأولى لعاد كما عهدناه يتدفق حيوية ونشاطا، وهذا مصداق حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - - الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف - (3).
ومما يلحق في هذا الباب الانقطاع عن العمل فترة طويلة، مما يصعب عليه العودة إليه، وإذا عاد فإذا هو ليس كما كان، لاختلاف الأحوال والأزمان، مما يرهقه ومن ثم يفتره.
ولذلك يحسن التنبيه على أن من اضطر إلى التوقف عن العمل لسبب عارض، ألا ينقطع عنه كلية، بل عليه أن يجاهد نفسه، لتسهل عليه العودة، وحتى لا تكون بينه وبين العمل أو إخوانه وحشة.
19- طول الأمد وقلة المعين والناصر
وقد ورد في هذا نص في كتاب الله، فتأمل معي هذه الآية في سورة الحديد: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)(4) [سورة الحديد، الآية: 16].
فإذا أضيف إلى طول الأمد طول الأمل لدى الإنسان، ازداد حجم المشكلة، وضعفت إرادة المرء وقوته، وقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن الإنسان مجبول على طول الأمل، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - لا يزال قلب الكبير شابا في اثنين في حب المال وطول الأمل - (5).
__________
(1) - سورة البقرة آية: 286.
(2) - أخرجه البخاري (1/ 16) كتاب الإيمان، باب [32] ومسلم (1/ 542) كتاب صلاة المسافرين رقم (785 ]218[).
(3) - أخرجه البخاري (4/ 104) كتاب الأنبياء، باب [2] ومسلم (4/ 2031) كتاب البر والصلة رقم (2638).
(4) - سورة الحديد آية: 16.
(5) - أخرجه البخاري (7/ 171) كتاب الرقاق، باب [5] ومسلم (2/ 724) كتاب الزكاة، رقم (1046، 1047).(/18)
إن طول الطريق مع ما فيه من عقبات ومشاق يصيب الكثيرين بالضعف والوهن، فإذا أضيف إليه قلة المعين والناصر، وتخلي الأحباب والأصحاب، مما يجعل الإنسان يعيش في غربة مزدوجة، كل ذلك مدعاة للتراجع والفتور، والتماس الأعذار، والبحث عن مبررات القعود.
إن تذكر الآخرة، وزيارة القبور، وقوة الصلة بالله، وكثرة الطاعات، وتوقع زيارة ملك الموت بدون سابق موعد، والبحث عن الرفقة الصالحة التي تعينه على الطاعات، كل هذا ينجيه من هذا الداء، مع التخلص من الآمال العريضة الكاذبة، التي أودت بمن قبلنا: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(1) [سورة الحجر، الآية: 3]. وما أحسن قول الشاعر:
تزود من التقوى فإنك لا تدري
فكم من سليم مات من غير علة
وكم من فتى يمسي ويصبح آمنا ... إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
إن تجديد الإيمان وتعاهده، ومحاسبة النفس، والتأمل في سير من خلا، من العوامل المساعدة في التغلب على طول الطريق ومنعطفاته. وثقته بالله واعتماده عليه يغنيه عن تخلي رفاق الطريق، وقد قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عند قول لوط - عليه السلام - لقومه: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)(2) [سورة هود، الآية: 80 ]. قال - صلى الله عليه وسلم - - رحمة الله على لوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد، إذ قال لقومه: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [سورة هود الآية: 80]. ما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه - والثروة: الكثرة والمنعة (3).
20- الأوهام
مما يفسد العمل ويضعفه، بل ويقضي عليه: كثرة الأوهام والوساوس.
والشيطان له قصب السبق في هذا المجال، بل إن هذا مجاله، كما قال - صلى الله عليه وسلم - - الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة - (4).
فكم من الدعاة من كان نشيطا ومؤثرا، وبدأت الأوهام تخترق تفكيره، فمرة يتذكر أولاده، ومن لهم بعده ؟ ومرة يتصور السجن وما يجري فيه، وثالثة حب الوظيفة وما قد يعتريها، وأخرى مراقبة البشر وملاحقتهم له، وتستمر الأوهام والتخيلات والوساوس، حتى لا يقف عند حد، بل قد يصل الأمر إلى عقيدته، حيث يخشى من الناس والله أحق أن يخشاه.
ولنقف مع هذه الآيات متدبرين متفكرين: (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ)(5) [سورة الزمر، الآية: 36]. (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(6) [سورة آل عمران، الآية: 175]. (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(7) [سورة آل عمران، الآية: 173]. (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)(8) [سورة المائدة، الآية: 44 ]. (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ)(9) [سورة الناس، الآيات: 1- 6].
وهذه السورة خير علاج لقطع الوساوس والأوهام، مع العمل الجاد المثمر، وعدم إطلاق العنان للأوهام والهواجس التي لا تستند إلى حقيقة، بل هي ضرب من الخيال، ومدعاة للإرجاف والخذلان، ورحم الله الصديق حيث قال: " اطلبوا الموت توهب لكم الحياة ".
والمنهج الصحيح يبينه قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ)(10) [سورة الأعراف، الآية: 201]. وقوله: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(11) [سورة فصلت، الآية: 36].
21- أسباب أخرى
وهنا جملة أخرى من الأسباب التي توصل إلى الفتور، وتؤدي إلى الكسل والتراخي، وهي تختلف في التأثير قوة وضعفا، وسأذكرها مختصرة، ليكون طلاب العلم والدعاة على حذر من الوقوع فيها، والحر تكفيه الإشارة.
أ- أمراض القلوب، كالحسد وسوء الظن والغل، ومن أسوأ أمراض القلوب الحزبية، فهي مجمع الأمراض، ومواطن الأدواء، وصاحبها يحسب أنه يحسن صنعا (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا)(12) سورة فاطر، الآية: 8].
__________
(1) - سورة الحجر آية: 3.
(2) - سورة هود آية: 80.
(3) - انظر تفسير الطبري 13/87: وانظر الدر المنثور (3/ 621) فقد عزاه السيوطي لابن جرير.
(4) - أخرجه أبو داود (4/329) كتاب الأدب رقم (5112) وأحمد في المسند (1/ 340).
(5) - سورة الزمر آية: 36.
(6) - سورة آل عمران آية: 175.
(7) - سورة آل عمران آية: 173.
(8) - سورة المائدة آية: 44.
(9) - سورة الناس آية: 1-6.
(10) - سورة الأعراف آية: 201.
(11) - سورة فصلت آية: 36.
(12) - سورة فاطر آية: 8.(/19)
إن القلب إذا أصيب بهذه الأمراض وأمثالها انشغل بالخلق عن الخالق، وزادت همومه، وخارت قواه، يحزن لفرح أخيه المسلم، ويسر لما يحزنه:
اصبر على مضض الحسود
النار تأكل بعضها ... فإن صبرك قاتله
إن لم تجد ما تأكله
ب- الشهوة الخفية (1) وهذه قل أن يسلم منها أحد، إلا من عصم الله ورحم، فيبدأ الداعية وطالب العلم بإخلاص وتجرد، ثم يزداد العلم، ويتجمع الناس، ويعطى فصاحة وقوة تأثير، فتبدأ المطامع تتحرك بين جنبيه، فيحب أن يجلس الناس إليه، وأن يقوموا- أيضا- ويتطلع إلى الدنيا وزينتها، والرفعة والمكانة، لا يرضى إلا أن يتصدر في المجالس، ويحزنه ألا ينادى بأحسن الألقاب - وإن لم يظهر ذلك -، ولذلك كانت شهوة خفية، وقد تتأصل حتى تصبح معلنة، وعندما سئل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الشهوة الخفية قال: - هو الرجل يتعلم العلم يحب أن يُجلس إليه - (2) نعوذ بالله من الخذلان.
ومن كانت هذه حاله فمآله إلى التحول عما هو عليه، لأنه تعلق بالمخلوقين دون الخالق، والله جل وعلا يقول: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا)(3) [سورة القصص، الآية: 83].
ج- التقصير في العبادة، (4) وبخاصة في عمل اليوم والليلة، فالأوراد لا يتعاهدها، والنوافل لا يشهدها، وتصل به الحال إلى عدم المواظبة على السنن الرواتب، بل قد يمر عليه عدة أيام لم يقرأ ورده من القرآن - إن كان له ورد - - والذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب - ، (5) وقد كان لشيخ الإسلام جلسة بعد صلاة الفجر حتى الضحى يذكر الله فيها، يقول عنها: هذه غدوتي لو لم أفعلها لخارت قواي.
أولئك (أسلافي) فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا (نضير المجالس)
د- الحزبية والتعصب: وذلك أن بعض الأشخاص يتحزبون لبعض الجماعات، أو يتعصبون لبعض الأفراد من العلماء والدعاة، ويصل هذا الأمر، إلى حد الغلو- المنهي عنه- وتمر الأيام والسنون وهذا المسكين على حاله غاليا متعصبا متحزبا، فيكتشف الخلل، ويتضح له موطن الزلل، فإذا هو بسبب الحزبية قد وقع في مصائب كان يحسبها عبادة وقربة، وبسبب غلوه بهؤلاء الأشخاص وتعصبه لهم عادى أمما، وحارب أخيارا، ونابز أصحابا ورفاقا، فتزداد آلامه وأحزانه على ما مضى من عمره، وما سلف من عمله، فتعمل هذه الآلام والأحزان عملها فيه، حتى تخور قواه، ويدركه الوهن والضعف، ويستسلم للهموم واجترار الماضي، فيضيف إلى المصيبة بلية، وإلى المرض سقما.
وكان الأحرى به أن يعوض ما فات بالتوبة والعمل، والجد والاجتهاد، فإن التوبة تجب ما قبلها، - وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن - (6).
هـ - المجاملة وعدم المناصحة والمصارحة، وهذه قريبة من تلك، ولكنها قد لا تكون ناشئة من تعصب أو حزبية، وإنما من ضعف ومحاباة، فتكثر الأخطاء، وتتسع الهوة، والمجاملة لها حدود، والسكوت عن مواطن الزلل له مدى، فتصل الأمور إلى نهايتها بعد حين، ويؤثر السلامة والعافية، وما سلم وما تعافى، وهو كمن هرب من القوم ووقع في السرية.
ويدخل في هذا الباب عدم الاستجابة للناصحين، وعدم سماع نداء المخلصين، فتكون العزلة هي الطريق، وما هي بطريق، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
و- عدم تحقق الأهداف، (7) وتأخر النصر، والشعور بعدم الإنتاج، وضعف الثمرة، كل هذه أمور تفت في عضد الرجال، ولا يتحملها إلا أولو العزم- وقليل ما هم-، والإنسان ضعيف، فإذا رأى الأيام تمضي، والسنين تتعاقب، والناس معرضين، والشرور تزداد، والثمرة محدودة، داخله اليأس والقنوط، وبدأ في الشك وعدم الثقة في النفس، ثم يصاب بالإحباط، ويؤثر حياة العزلة والقعود.
ولو علم (حقيقة الانتصار) ودرس سير الأنبياء والمرسلين، وأنه ليس إلا مبلّغا، لما وقع في اليأس والفتور.
__________
(1) - مع أن هذا السبب يرجع إلى الإخلاص، ولكن لأهميته وعموم البلوى به أفردته.
(2) - أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 233) بسند مرسل وفيه ابن لهيعة سيء الحفظ.
(3) - سورة القصص آية: 83.
(4) - هذا السبب من أعظم الأسباب أثرا، وكثير من الناس يعلل ضعفه في العبادة لانشغاله بالدعوة إلى الله، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الداعية الأول، وعبادته لربه وصلته به مما تتقاصر دونه الهمم، فكن على حذر قبل استفحال الداء ومن ثم تعسر الدواء (فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب). ]سورة الشرح، الآيتان: 7، 8[.
(5) - أخرجه الترمذي (5/162) كتاب فضائل القرآن رقم (2913) وأحمد في المسند (1/223). قال الترمذي: حسن صحيح.
(6) - أخرجه الترمذي (3/313) كتاب البر والصلة رقم (1987) وقال: حسن صحيح. وأحمد في المسند (5/153، 158).
(7) - انظر رسالة (حقيقة الانتصار) للمؤلف تجد الكلام مفصلا.(/20)
(فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(1) [سورة النحل، الآية: 35]. (وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ)(2) [سورة يس، الآية: 17]. (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ)(3) سورة البقرة، الآية: 272]. (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)(4) [سورة يوسف، الآية:103]. (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا)(5) [سورة يونس، الآية: 99]. وليتأمل الحديث الصحيح: - يأتي النبي وليس معه أحد - الحديث (6).
ز- عدم الاستقرار على برنامج أو عمل، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، ولكن لأهميته وغفلة الناس عنه أفردته، فبعض الناس يبدأ في العمل ثم يتحول عنه، ويتعرف على مجموعة من طلاب العلم ثم يهجرهم إلى غيرهم، ويقرأ على شيخ ثم ينقطع عنه بعد حين، يشرع في الكتاب ولا يتمه، وتستمر حاله هكذا، منبتا، لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، لا هو مع العير ولا مع النفير. وهذا سرعان ما يخبوا حماسه، وتقف أنفاسه، ويعود كما كان، ضعفا بعد قوة.
إن من أسباب هذا السبب سرعة تغير القَناعات، وعدم بناء قناعاته على أصول وثوابت يركن إليها، ودون دراسة علمية جادة ينطلق منها، بل هي عواطف غير مؤصلة، ومواقف حماسية لا تستند إلى برهان، فتقذفه يمنة ويسرة، فهو كما قال الأول:
يمانيا إن لاقيت ذا يمن ... وإن لاقيت معدا فعدنان
ووصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنافق بقوله: - مثل المنافق مثل الشاة العاثرة بين الغنمين، تصير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة، لا تدري أيهما تتبع - رواه مسلم (7).
ح - الخلاف بين طلاب العلم، والخصام بين الدعاة، يقطع الظهور، ويدمي القلوب، ويورث فيها حسرة وألما، ثم تبدأ مرحلة الشك والريبة، ويتدخل الهوى ليؤدي دوره، فيقع المحبون في حيرة، لا يدركون سر الخلاف، ولا يقدرون على الوفاق، فيقول له القائل: انج بنفسك، وما نجا، وما هكذا يا سعد تورد الأبل.
وأصدق مثال على ذلك عصرنا الحاضر، والخلاف بين طلاب العلم على أشده، والنزاع بين الدعاة قد علا سهمه، وراج سوقه، ونفقت بضاعته، فأصبح المخلصون حيارى، والمحبون ثكالى، حتى بدءوا في التواري، وشرعوا في الانزواء والانطواء، بعد أن فقدوا الثقة، وتعطلت ملكة التفكير، ولم يملكوا القدرة على الإصلاح أو التغيير.
ط - التشكيك وإرجاف المنافقين، بلية من البلايا، ورزية من الرزايا، لا ينكر أثره، ولا تتجاهل عواقبه.
فترى الحديث في النيات والأهداف، وتصيد الأخطاء، وتتبع العثرات، وكيل التهم والافتراءات، حتى يصبح الحليم حيرانا، والعاقل أحمقا، ويتكلم الرويبضة، ولا يقف الأمر عند حد، بل هو كل يوم بين جزر ومد، وهم آخذون بالقاعدة النازية: اكذب اكذب حتى تُصدَّق، فيرتاب بعض الأتباع والمحبين، وقد يصل الأمر إلى ذات المعنيين، فيؤثرون العافية، ويتراجعون طلبا للسلامة، وما علموا أنهم استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولو صدقوا لقالوا: (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(8) [سورة آل عمران، الآية: 173].
ي- الغفلة عن السنن الإلهية في الأمم والأفراد، مما يجعل الإنسان لا يستطيع أن يفسر بعض الظواهر والأحداث، ولذلك قد يصاب نتيجة لذلك بالإحباط والقنوط.
ولو درس سنن الله في الأمم والمجتمعات والأفراد، من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية، لعلم الحكمة مما يرى ويسمع: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)(9) [سورة الفتح، الآية:23]. (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)(10) [سورة فاطر، الآية:43]. (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)(11) [سورة الأحزاب، الآية: 62].
كـ- النظر إلى من هو دونه في الطاعة والعبادة والدعوة، وبخاصة إذا كان هذا المرأي له مكانة، ووصل إلى درجة من العلم، فيوسوس له الشيطان: هل أنت أفضل من هذا ؟ إنه يفعل كذا وكذا، بل قد يرتكب بعض المعاصي الظاهرة، أو يدخل بيته شيئا من آلات اللهو، فيكون فتنة عظيمة، وهذا يستمر في الهبوط، بحجة أن فلانا عمل كذا، أو لم يعمل كذا، فإذا انتهى من فلان انتقل إلى غيره ممن هو دونه، حتى يصل إلى درجة لا تسر الناظرين، والمهزوم لا يرده شيء.
ومن يتهيب صعود الجبال ... يعش أبد الدهر بين الحفر
__________
(1) - سورة النحل آية: 35.
(2) - سورة يس آية: 17.
(3) - سورة البقرة آية: 272.
(4) - سورة يوسف آية: 103.
(5) - سورة يونس آية: 99.
(6) - أخرجه مسلم (1/ 199) كتاب الإيمان، رقم (220).
(7) - صحيح مسلم (4/2146) كتاب صفات المنافقين، رقم (2784).
(8) - سورة آل عمران آية: 173.
(9) - سورة الفتح آية: 23.
(10) - سورة فاطر آية: 43.
(11) - سورة الأحزاب آية: 62.(/21)
ل- وقوع الشخص في معصية تحرجه أمام أقرانه، وذلك أن هذا الأمر يحدث أثرا عظيما في نفس العاصي، مما يسبب له النفور من زملائه وإخوانه، وبخاصة إذا كانت هذه المعصية كبيرة في حقه، وتستغرب من مثله، فيستوحش منهم، ويتحاشى مجالسهم، وقد يصل به الأمر إلى الانحراف، والعيش في مجتمع يألف المعصية ولا ينكرها.
ولذلك فإن على من وقع في معصية أن يتقي الله، وأن يتوب إليه، وعلى إخوانه أن يترفقوا به، وأن يدعوه إلى التوبة وعمل الصالحات (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)(1) [سورة هود، الآية: 114]. وأن يكون لهم في معاملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاطب- رضي الله عنه- أسوة حسنة، وأن لا يعينوا الشيطان على أخيهم.
م - الدخول على أهل الدنيا (2) ومخالطتهم، وهذا باب يغفل عنه الكثيرون، وبخاصة أن البدايات تكون بنية صالحة، كالنصح، وإبعاد البطانة السيئة، ونحو ذلك، ثم يسمع منهم ما يضعف حماسه، وقد يفتن فيما يرى ويسمع، بل قد تتغير قناعاته ويدخله الشك، وشيئا فشيئا حتى نراه غير ما كنا نعرفه.
ومنهج السلف في هذا الأمر معروف، ولهذا تحاشى بعض السلف الدخول عليهم خوفا على دينهم، وهم من هم في الورع والتقوى، ولذلك فإن الدخول على هؤلاء له ضوابط ليس هذا مكان بيانها، حيث إن الأمر ليس متاحا لكل فرد، ولا في كل حين، وعلى من ذهب لغرض شرعي أن يكون حذرا متيقظا، حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها.
ن- الجهل بفقه الأولويات:
إن عدم إدراك فقه الأولويات يجعل طالب العلم والداعية في حيرة من أمره، فتتزاحم أمامه مجموعة من المصالح والأهداف، حتى تبدو متعارضة يصعب القيام بها جميعا (3) فيقدم هذه ويؤخر تلك دون ضابط أو قيد، ومن ثم تنشأ عن هذه مجموعة من المشكلات ينوء بحملها، سببها تقديم المهم على الأهم، والتكميلي على الضروري، والمندوب على الواجب. والإنسان له طاقة، ولقدراته حدود، فيصاب بالتعب والإرهاق والملل، وقد يستوحش ثم ينقطع.
س- أحاديث النفس ووساوس الشيطان:
من الأسباب الخفية أن يعمل الإنسان فترة طويلة، فيأتيه الشيطان ويقول له: إنك قد قمت بما يجب عليك، وقدمت الكثير، وغيرك لم يقدم نصف ما قدمت، فلو تفرغت لنفسك ولأهلك، وأنت أفضل من غيرك، فيحدث نفسه في هذا الأمر كثيرا.
فتعمل فيه هذه الوساوس، ويفتر شيئا فشيئا، ثم ينصرف عن العلم والدعوة، وهذا يُخشى عليه من حبوط العمل؛ لأن مبعث هذا الأمر قد يكون إعجابا بما قدم، أو منّة على الله بما عمل (قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)(4) [سورة الحجرات، الآية: 17]. وقل مثل ذلك في كثير من أحاديث النفس ووسائس الشيطان، وخطورتها عندما يتكلم أو يعمل.
ع- الفتور في علاج الفتور، وذلك أن الفتور مرض من الأمراض تكون بداياته -غالبا- يسيرة، فإذا تساهل فيه المسلم، ولم يبادر إلى علاجه، والبحث عن أسبابه، سرعان ما يزداد ويتأصل، وهنا يصبح علاجه أشد وأقسى، ويحتاج إلى جهد مضاعف ووقت أطول.
وقل أن يسلم أحد من فتور عارض، ولكن يختلف الناس في مواجهة هذا الفتور، فمنهم الحازم اليقظ، الذي يبادر إلى تلافي هذا المرض واستدراكه، وآخرون يماطلون ويسوفون حتى يقع ما كنا منه نحاذر.
ومع ذلك فعلى المسلم ألا يستسلم للنهاية حتى ولو كان فرط في البداية، فبعض الشر أهون من بعض، وليتذكر قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - - ألا إن لكل شيء شرّة ولكل شرّة فترة، فإن صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدّوه - (5).
علاج الفتور
" ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله".
والفتور من أشد الأمراض المعنوية، وتتأكد خطورته حينما لا يحس الإنسان به، فيقضي عليه، كما تقضي بعض الأعراض على أصحابها حينما لا يدركون خطورتها، فيتساهلون في علاجها أول الأمر، فيصعب بعد ذلك تلافيها والقضاء عليها.
والفتور طريق الانحراف والضلال - غالبا- ذلك أن كثيرا من المنحرفين بعد استقامة والتزام مروا بمرحلة الفتور قبل انحرافهم وضلالهم.
__________
(1) - سورة هود آية: 114.
(2) - هناك من العلماء وطلاب العلم من يدخل عليهم لأغراض شرعية، وبخاصة فيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد ثبتهم الله، ومنهم من يزداد إيمانا، ولكن هؤلاء قلة بالنسبة لغيرهم، والعبرة بالأعم الأغلب.
(3) - من أدلة ذلك كثرة الأسئلة عن التوفيق بين العلم والدعوة، مع أنه لا تعارض بينهما، بل هما متلازمان.
(4) - سورة الحجرات آية: 17.
(5) - أخرجه الترمذي (4/548) كتاب القيامة رقم (2453) وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (2151).(/22)
ومن هنا تتأكد أهمية المبادرة إلى علاج الفتور، وعلاجه إما باتخاذ سبل الوقاية منه ابتداء، وإما بعمل الأسباب التي تذهبه بعد وقوعه. وأهم سبل العلاج تلافي أسبابه، ذلك أننا إذا تلافينا أسباب الفتور استطعنا بإذن الله أن نسلك المنهج الصحيح للنجاة منه.
وقد أشرت عند ذكر كثير من الأسباب إلى طرق العلاج باختصار، ولذلك فسأحاول عدم التكرار هنا، إلا لما أعتبره أصلا في العلاج وركنا من أركانه.
ولأنني أعتبر تلافي أسباب الفتور أهم وسيلة للنجاة منه، فسأذكر وسائل وطرق العلاج بما يناسب المقام، ذلك أن هذه الوسائل والعوامل واضحة لا لبس فيها ولا غموض، مما يكفينا مؤونة الشرح والتطويل، مما قد يصيب القارئ بالملل والفتور.
وبادئ ذي بدء أقول: إن القناعة بخطورة الفتور، ووجوب التخلص منه وقاية وعلاجا، ضمانه معتبرة للإفادة من سبل العلاج وطرق الخلاص.
وقد يرى البعض فيما ذكرته وما سأذكره أن هناك شيئا من التكرار، أو إغفال بعض الأسباب والوسائل، فأقول: إنني لا أدعي الكمال أو السلامة من النقص والتقصير، ولكن قد أكرر سببا أو وسيلة، وذلك لأهميته واشتماله على زيادة لم يتضمنها في الموضع الذي ورد فيه أولا.
أما إغفال ذكر بعض الأسباب والعوامل، فذلك إما لوروده ضمنا فيما ذكر، أو لأنني لا أرى أهميته وقوة تأثيره، وقد يكون ذهولا وتقصيرا، والكمال لله وحده.
والآن حان وقت الشروع في ذكر سبل وعوامل السلامة والنجاة من الفتور، ومن الله نستمد العون، ونسأله التوفيق والسداد.
1- تعاهد الإيمان وتجديده
روى الحاكم والطبراني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: - إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم - (1).
وفي حديث آخر قال - صلى الله عليه وسلم - - ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينا القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم، إذ تجلت عنه فأضاء - (2).
إن تعاهد الإيمان وتجديده وقاية بإذن الله من كثير من الأمراض ومنها الفتور، ولذلك ذكر شيخ الإسلام أنه دائما يتعاهد إيمانه ويجدده.
وعلى هذا الباب يحمل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)(3)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ)(4) [سورة الأعراف، الآية: 201]. ومن هذا المنطلق زيادة الإيمان وصيانته: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ)(5) [سورة الفتح، الآية:4 ]. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا)(6) [سورة التوبة، الآية: 124].
ومما يزيد الإيمان كثرة العبادة، والمحافظة على السنن والرواتب، وتعاهد قيام الليل وصلاة التهجد، وعدم ترك الوتر لا في حضر ولا سفر. وكذلك صيام النوافل وظمأ الهواجر، وتحري الأيام الفاضلة للمبادرة إلى صيامها.
ومما يزيد في الإيمان صدقة السر، وصلة الرحم والبر بالوالدين، والعطف على الفقراء والمساكين والأيتام، والإحسان إليهم، وتفقد أحوالهم. وقل مثل ذلك في العمرة، والحج، والتبكير إلى المساجد، والاعتكاف.
إن هذه العبادات تعطي المؤمن دفعة إيمانية، وزادا في الطريق، وتخفف عنه ما يجده من مصائب ومصاعب، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكان يقول: - أرحنا يا بلال بالصلاة - (7).
2- مراقبة الله والإكثار من ذكره
حقيقة المراقبة: - أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك - (8). ومراقبة الله تستلزم عدة أمور:
1- خوفه وخشيته.
2- تعظيمه جل وعلا.
3- الإيمان المطلق بعلمه وإحاطته وقدرته.
4- محبته ورجاؤه.
إن الذي يستصحب هذه الأركان الإيمانية لا يمكن أن يفتر لحظة عن مراقبة الله وعبادته، وما يعين المسلم على ذلك كثرة ذكر الله، وتحميده وتمجيده سبحانه وتعالى، ولذلك جاءت الآيات والأحاديث آمرة بذكر الله:
__________
(1) - أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 4) وقال الهيثمي في المجمع (1/57) رواه الطبراني وإسناده حسن.
(2) - أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/196) وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (2268).
(3) - سورة البقرة آية: 104.
(4) - سورة الأعراف آية: 201.
(5) - سورة الفتح آية: 4.
(6) - سورة التوبة آية: 124.
(7) - أخرجه أبو داود (4/296) كتاب الأدب رقم (4985، 4986) وأحمد في المسند (5/364، 371) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (7892).
(8) - جزء من حديث جبريل الطويل. أخرجه مسلم (1/36) كتاب الإيمان رقم (8) والبخاري مختصرا (6/ 20، 21) كتاب التفسير سورة لقمان.(/23)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا)(1) [سورة الأحزاب، الآية: 41]. (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)(2) [سورة العنكبوت، الآية: 45]. (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)(3) [سورة الكهف، الآية: 24]. (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(4) [سورة الرعد، الآية:28]. ووصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأذان بـ " الدعوة التامة"، (5) وكان لا يفتر لسانه عن ذكر الله، ولذلك قال: - لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله - (6).
وقراءة القرآن من أفضل الذكر، ولذلك فعلى المسلم أن يكون له ورد يومي من كتاب الله، وليحذر أن يكون ممن يهجر القرآن، فيدخل فيمن يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيهم: (يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)(7) [سورة الفرقان، الآية:30]. والهجر يكون في العمل والتلاوة. ويجب أن يتدبر القرآن ويتفكر فيه، ليكون له الأثر في علمه وعمله، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(8) [سورة محمد، الآية: 24].
ومما يلحظ على بعض الدعاة وطلاب العلم في هذا العصر التساهل في هذا الباب والغفلة عنه، حتى إن بعضهم قد لا يتم أذكار ما بعد الصلوات، وأوراد الصباح والمساء، بحجة الانشغال بالدعوة والعلم، وهذا من الشيطان، وكان السلف يواظبون على ذكر الله كما وصفهم الله بقوله: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ)(9) [سورة آل عمران، الآية: 191]. وتأمل هذه الآية: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)(10) [سورة البقرة، الآية: 152]. وهل يضعف أو يهن من كان الله له ذاكرا ؟.
يقول ابن القيم- رحمه الله-: (11) إن الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يطق فعله بدونه، وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في مشيته وكلامه وإقدامه وكتابته أمرا عجيبا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرا عظيما.
وقال في موضع آخر عن فوائد الذكر: إنه قوت القلب والروح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته، وحضرت شيخ الإسلام مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إلي فقال: هذه غدوتي، ولم لم أتغد هذا الغداء سقطت قوتي (12).
وقد روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: - يا عبد الله بن قيس، قال: قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ألا أدلك على كلمة من كنز من كنوز الجنة، قلت: بلى يا رسول الله فداك أبي وأمي قال: لا حول ولا قوة إلا بالله - (13).
وفي رواية: - يا عبد الله بن قيس، قل: لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة - (14).
قال ابن القيم:
وهذه الكلمة لها تأثير عجيب في معاناة الأشغال الصعبة، وتحمل المشاق، والدخول على الملوك، ومن يخاف ركوب الأهوال (15).
3- الإخلاص والتقوى
كما أن ضعف الإخلاص سبب من أسباب الفتور، فإن الإخلاص وتعاهده وتجديده من أعظم أسباب الوقاية من الفتور، ذلك أن المخلص المتقي يجعل الله في قلبه نورا وفرقانا، (إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً)(16) [سورة الأنفال، الآية: 29]. (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا)(17) [سورة الأنعام، الآية: 122]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(18) [سورة الحديد، الآية: 28].
__________
(1) - سورة الأحزاب آية: 41.
(2) - سورة العنكبوت آية: 45.
(3) - سورة الكهف آية: 24.
(4) - سورة الرعد آية: 28.
(5) - أخرجه البخاري (1/153) كتاب الأذان، باب [8].
(6) - أخرجه الترمذي (4/427) كتاب الدعوات رقم (3375) وابن ماجة (2/1246) كتاب الأدب رقم (3793) قال الترمذي: غريب من هذا الوجه وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (7700).
(7) - سورة الفرقان آية: 30.
(8) - سورة محمد آية: 24.
(9) - سورة آل عمران آية: 191.
(10) - سورة البقرة آية: 152.
(11) - انظر الوابل الصيب ص155.
(12) - انظر الوابل الصيب ص85.
(13) - أخرجه البخاري (5/ 75) كتاب المغازي، باب [38] ومسلم (4/2076) كتاب الذكر رقم (2704).
(14) - انظر صحيح مسلم (4/2076، 2067) كتاب الذكر، رقم (2704).
(15) - انظر الوابل الصيب ص 157.
(16) - سورة الأنفال آية: 29.
(17) - سورة الأنعام آية: 122.
(18) - سورة الحديد آية: 28.(/24)
والمزالق في طريق الداعية وطلب العلم كثيرة جدا، كالشهوة الخفية، والعجب، والتعلق بالدنيا، وهذه مهلكات علاجها الإخلاص والتقوى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(1) [سورة العنكبوت، الآية:69]. ولقد رأينا وعاصرنا علماء بلغوا فوق الثمانين وهم في قمة نشاطهم، وكأنهم في سن الثلاثين، وسر ذلك تقواهم وإخلاصهم - هكذا نحسبهم والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحدا -، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
4- تصفية القلوب
امتن الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن شرح(2) له صدره (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)(3) [سورة الشرح، الآية: 1]. ووصف أهل الجنة (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ)(4) [ سورة الأعراف، الآية:43]. وأثنى على المؤمنين الذين يقولون في دعائهم: (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا)(5) [سورة الحشر، الآية: 10]. ووصف المؤمن والكافر في آية واحدة فقال: (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء)(6) [سورة الأنعام، الآية: 125].
إن تصفية القلوب من الأحقاد والحسد وسوء الظن من أعظم أسباب شرح الصدر، بل إن شرح الصدر وسلامة القلب مقترنان، وليس أقسى على المرء ولا أثقل من قلب مليء بالغل والهوى وسائر الأدناس، يقعده عن العمل ولا يهنأ بعيش، أما صاحب القلب السليم، والصدر المنشرح الحليم، فإنه يتجدد ويزداد نشاطا وإشراقا، وهكذا كان أبونا إبراهيم - عليه السلام – (إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(7) [سورة الصافات الآية: 84].
ومما يساهم في تصفية القلوب، وتنقيتها من الضغائن ما يلي:
أ- استمرار الصلة بين العاملين في حقل الدعوة إلى الله، وفتح باب المناقشة وتقريب وجهات النظر، لأن البعد جفاء، والخلاف شر.
ب- التماس الأعذار، وحمل الناس على أحسن المحامل، ودفع السيئة بالحسنة (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(8) [سورة فصلت، الآية: 34]. والعفو زينة الرجال (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)(9) [سورة الشورى، الآية: 40].
جـ- المصارحة بين المسلم وإخوانه، وعدم الاستماع إلى الأقاويل والوشايات، والمبادرة إلى إزالة ما يقع، والتحقق مما تسمع، لأن التأخر والتسويف يزيد الأمر سوءا وفتورا.
د- تذكر دائما قصة الصحابي الذي شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، وكان من صفاته: أنه ما بات ليلة وفي قلبه غل على مسلم.
ومن صفات المؤمنين أنهم يقولون: (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا)(10) [ سورة الحشر، الآية: 10]. فكن منهم وفقك الله.
5- طلب العلم والمواظبة على الدروس وحلق الذكر والمحاضرات
العلم نور يرفع صاحبه إلى الدرجات العلى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)(11) [سورة المجادلة، الآية: 11]. والعلماء هم الذين يخشون الله لأنهم يعرفونه (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)(12) [سورة فاطر، الآية: 28]. وشتان بين عالم وجاهل: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)(13) [سورة الزمر، الآية: 9].
إن العالم الرباني يزداد عطاؤه يوما بعد يوم، فعلى قدر زيادة علمه يزيد عمله، لأنه يزداد معرفة بالله وبحقه وما أعده للعاملين، ولذلك كان " فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ".
والمواظبة على الدروس والمحاضرات تزيد العلم، وتنميه وتدفعه إلى الأمام، وحلق الذكر تجلوا ما يلحق المؤمن من صدأ وضعف وفتور، وتبث فيه نشاطا وحيوية وحماسا.
ومما يدخل في باب العلم:
العلم بفضل ومكانة العمل:
مما يزيد في إيمان المسلم، ويدفعه إلى العمل والإنتاج، ويبعد عنه الكسل والفتور، معرفة فضل العمل الذي يقوم به ومكانته الشرعية.
ولذلك قال الخضر لموسى - عليه السلام -: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا)(14) [سورة الكهف، الآية 68].
__________
(1) - سورة العنكبوت آية: 69.
(2) - وشرح الصدر حسا ومعنى حيث إن الشرح المعنوي أثر من الحسن.
(3) - سورة الشرح آية: 1.
(4) - سورة الأعراف آية: 43.
(5) - سورة الحشر آية: 10.
(6) - سورة الأنعام آية: 125.
(7) - سورة الصافات آية: 84.
(8) - سورة فصلت آية: 34.
(9) - سورة الشورى آية: 40.
(10) - سورة الحشر آية: 10.
(11) - سورة المجادلة آية: 11.
(12) - سورة فاطر آية: 28.
(13) - سورة الزمر آية: 9.
(14) - سورة الكهف آية: 68.(/25)
إنه لا يستوي رجلان: رجل يؤدي العبادة وهو يعلم أنها عبادة، لكنه لا يعلم فضلها وما أعده الله للعاملين، وآخر قد فقه ما ورد فيها من نصوص تبين منزلتها، وما أعده الله من أجر عظيم لمن قام بها.
ولذلك لما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثقل الصلاة على المنافقين قال: - ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا - (1) فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معرفة الأجر سببا لنبذ الفتور والكسل، حتى لو كان من أسوأ أنواع الفتور، وهو فتور المنافقين. فإذا كانت معرفة الأجر والمثوبة ستؤثر في المنافقين، فلا شك أن تأثيرها في المؤمنين أقوى وأرجى.
وكذلك فضل الصبر على الطاعة وعن المعصية، العلم به يعطي المسلم قوة وقدرة على التحمل، ولو تأمل قوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)(2) [سورة الزمر، الآية: 10] لكان حصنا عن الضعف والتراجع.
وكذلك التذكير بفضل الأعمال، والتحذير من عواقب الإهمال والتقصير والتفريط، مما يسهم في علاج هذا المرض والوقاية منه، فكم من إنسان سمع موعظة فزادته إيمانا (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(3) [سورة الأنفال، الآية: 2].
وكم من إنسان سمع موعظة فأقلع عما هو فيه، وجدد إيمانه ونشاطه، ونبذ الفتور خلفه ظهريا، وصدق الله العظيم: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)(4) [سورة الذاريات، الآية: 55].
6- فقه الواقع
وهو من فروع العلم، ولكن لأهميته وعلاقته المباشرة بهذا الموضوع أفردته تنويها بأثره في علاج الفتور.
ذلك أن إدراك المسلم لواقعه وما يجري فيه، وفقهه لهذا الواقع، بما فيه من مآس، وما يتطلبه من جهود وعمل متواصل، يبعد عنه أي فتور أو تراخٍ إن كان في القلب إيمان وإسلام. فكيف يركن المسلم للدعة وهو يرى أمته يحيط بها الأعداء، ويتنادون من كل حدب وصوب للإجهاز عليها، والعبث في أرضها وخيراتها؟
كيف يتراخى وهو يشاهد بلاد المسلمين مستباحة من قبل اليهود والنصارى، فمن أفغانستان، إلى البوسنة والهرسك، إلى الصومال، وقبل ذلك فلسطين، والفلبين، وأرتيريا، وزنجبار.
هل يمكن لطبيب محترم أن ينام ملء جفونه وهو يرى رجلا مضرجا بدمائه، يحتاج إلى نجدة وإسعاف؟
هل يمكن لجيش جاد يرى العدو على حدود بلده ثم يلهو ويعبث، دون أن يعلن حالة استنفار ومرابطة؟
هل يمكن لعالم رباني أن ينزل بلدا يعيش أهله بين أمية وجهل فينزوي وينطوي، دون أن ينصب نفسه معلما هاديا؟
كل ذلك لا يكون، فكذلك من يفقه واقع أمته وحالها، كيف يجد الفتور إلى قلبه طريقا، وإلى عمله سبيلا؟ هذا بعيد كبعد عاد وثمود، إلا من عاش الهوان، ورضع الذل والعبودية، وفقد الإحساس (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ)(5) [سورة الحج، الآية: 18].
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
أما إذا جهل واقعه، فأبشر بطول سلامة يا مربع.
7- سلامة المنهج وتأصيل المنطلقات والعناية بمنهج التلقي
مما يجب أن يعنى به طالب العلم والداعية سلامة المنهج الذي يسلكه في طلب العلم والدعوة إلى الله، ذلك أننا في زمن كثرت فيه المدارس الدعوية، والمناهج العلمية، واختلط الحابل فيها بالنابل، وكل يدعي وصلا بليلى.
إن سلامة المنهج يقي الداعية التذبذب والحيرة والارتياب، ويعطيه الطمأنينة والثقة والثبات، ذلك أنه إذا اتبع منهجا فيه خلل فلن يحقق الأهداف الشرعية التي يسعى إليها، ثم إنه- غالبا- سيكتشف الخلل في منهجه بعد أن يكون بذل جهودا حسية ومعنوية في هذا الطريق المعوج، مما يورث حسرة وألما على ما مضى من زمن، وما بذلت من جهود، ثم قد يصاب بنوع من الإحباط واليأس، وقد يصل إلى مرحلة الشك، ويقول له شيطانه: وما يدريك أن هذا المنهج صحيح.
إن الالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة، والسير على هدي السلف الصالح عامل مؤثر في الاستقرار والاستمرار، ويشيع في النفس راحة وهدوءا، وكلما مرت الأيام ازداد رسوخا ويقينا.
وسلامة الأسلوب- أيضا- له أثره الفعال في تحقيق الأهداف وجني الثمار، وهذا الأمر دافع لمزيد من العطاء والتفاؤل الذين يساهمان في الثبات والبقاء. وعلى طلاب العلم والدعاة التأكد من سلامة المنهج والأسلوب، ديانة أولا، ونتيجة ثانيا، والحذر من المناهج المنحرفة والبدعية، و - من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد - (6) و:
من غرس الحنظل لا يرتجي ... أن يجتني السكر من غرسته
__________
(1) - أخرجه البخاري (1/ 160) كتاب الأذان باب [34] ومسلم (1/ 451) كتاب المساجد رقم (651 [252]).
(2) - سورة الزمر آية: 10.
(3) - سورة الأنفال آية: 2.
(4) - سورة الذاريات آية: 55.
(5) - سورة الحج آية: 18.
(6) - أخرجه البخاري (3/167) كتاب الصلح، باب [5]. ومسلم (3/1343) كتاب الأقضية، رقم (1718).(/26)
إن تأصيل المنطلقات والأعمال، وربطها بالكتاب والسنة، وقاية بإذن الله من الحيرة والتذبذب، وعامل من أهم عوامل الثبات والاستقرار والاستمرار. وكل ما مضى يدور على أصل عظيم وهو العناية بمنهج التلقي، (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)(1) [سورة الحشر، الآية: 7].
8 -الوسطية
يقول الله سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)(2) [سورة البقرة، الآية:143]. والوسطية من سمات هذه الأمة، كالخيرية (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(3) [سورة آل عمران، الآية: 110]. والوسطية كما تكون في العقيدة تكون في الأعمال، والذين يجانبون هذا المنهج كالغلاة والمتشددين سرعان ما يفترون، وبخاصة الغلو والتشدد في الأعمال من العبادة، وطلب العلم، والدعوة إلى الله، وقد سبق تفصيل ذلك في الأسباب.
وقد تظافرت نصوص الكتاب والسنة بلزوم منهج الوسطية، والبعد عن التكلف والتشدد والتنطع فمن ذلك قوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)(4) [سورة البقرة، الآية: 286]. (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(5) [سورة الحج، الآية:78]. (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)(6) [سورة الشرح، الآيتان: 5، 6]. (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ)(7) [سورة الإسراء، الآية: 29]. (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)(8) [ سورة الأعراف، الآية: 32]. (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ)(9) [سورة النساء، الآية: 171]. (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(10) [سورة الأعراف، الآية: 31].
ومن السنة والأثر - هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون - (11) - عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا - (12) - وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو - (13) - إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه - (14). - يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا - (15). - أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل - (16) - وكان أحب العمل إليه ما داوم عليه صاحبه - (17) .
إن الوسطية منهج حياة، وهي من فقه هذا الدين، ذلك أن الالتزام بها ضمانة لتجاوز المحن والابتلاءات، فيصبح لدى المسلم قدرة عجيبة لتجاوز المحن والشدائد، وذلك بإعماله النصوص الشرعية في مواضعها، ومراعاة تغير الأمكنة والأزمان والأحوال، دون إخلال بأصول هذا الدين، اضطرابا أو جمودا، و - من يرد الله به خيرا، يفقهه في الدين - (18).
وإن أردت مزيد بيان لتربية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابته على منهج الوسطية، فاقرأ ما يلي وتأمل:
1- روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو أنه - تزوج امرأة من قريش فكان لا يأتيها، كان يشغله الصوم والصلاة، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: صم من كل شهر ثلاثة أيام، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، فما زال به حتى قال له: صم يوما وأفطر يوما، قال له: اقرأ القرآن في كل شهر، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: اقرأ في كل خمس عشرة، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال اقرأه في كل سبع، حتى قال: اقرأ في كل ثلاث - (19).
__________
(1) - سورة الحشر آية: 7.
(2) - سورة البقرة آية: 143.
(3) - سورة آل عمران آية: 110.
(4) - سورة البقرة آية: 286.
(5) - سورة الحج آية: 78.
(6) - سورة الشرح آية: 5-6.
(7) - سورة الإسراء آية: 29.
(8) - سورة الأعراف آية: 32.
(9) - سورة النساء آية: 171.
(10) - سورة الأعراف آية: 31.
(11) - أخرجه مسلم (4/2055) كتاب العلم رقم (2670).
(12) - أخرجه البخاري (1/ 16) كتاب الإيمان، باب [32] ومسلم (1/ 542) كتاب صلاة المسافرين رقم(785 [218]).
(13) - أخرجه النسائي (5/268) كتاب مناسك الحج، رقم (3057). وابن ماجة (2/1008) كتاب المناسك، رقم (3029). وأحمد (1/ 215، 347) وصححه الحاكم (1/ 466) ووافقه الذهبي، ووافقهما الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم (1283).
(14) - أخرجه البخاري (1/ 15) كتاب الإيمان، باب [29].
(15) - أخرجه البخاري (5/108) كتاب المغازي ومسلم (3/ 1359) كتاب الجهاد، رقم (1733).
(16) - أخرجه البخاري (7/ 182) كتاب الرقاق، باب [18] ومسلم (1/541) كتاب صلاة المسافرين رقم (782 [216، 218]).
(17) - أخرجه البخاري (1/ 16) كتاب الإيمان، باب [32] ومسلم (1/ 542) كتاب صلاة المسافرين رقم (785 [218]).
(18) - أخرجه البخاري (1/25) كتاب العلم، باب]10] ومسلم (3/ 1524) كتاب الإمارة، رقم (1037 [175]).
(19) - أخرجه البخاري (2/ 245، 246) كتاب الصيام، باب ]56، 58[. ومسلم (2/812، 813) كتاب الصيام، رقم (1159).(/27)
2- قصة الثلاثة نفر الذين سألوا أزواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السر، فكأنهم تقالوها، فقال أحدهم.. " الحديث (1) - وهو مشهور ومعروف، وفيه من الدروس والعبر والتربية على المنهج ما يحتاج إليه كل مسلم (2).
9- تنظيم الوقت ومحاسبة النفس (3) .
مما يساعد في إنجاز الأعمال وأدائها الدقة في تنظيم الوقت، أرأيت الصلوات الخمس لو لم تكن محددة بوقت معلوم، وترك للناس اختيار الوقت المناسب لأدائها، كم من الناس سيصلي في كل يوم خمس صلوات دون تأجيل أو تسويف؟ بينما تحديد وقتها يجعل المسلم يمضي عمره وهو يؤديها بيسر وسهولة وراحة، حتى إنه يألفها ويجد سلوته فيها، وذلك على قدر إيمانه وتقواه ( } - قرآن كريم ( - - ((- رضي الله عنه - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - - ( - - - ( - ( - - قرآن كريم فهرس - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( (4) [سورة البقرة، الآية: 45]. - يا بلال أرحنا بالصلاة - (5).
وكذلك الصيام، لو طلب من المسلمين صيام ثلاثين يوما دون تحديد شهر معين، يا ترى كيف تكون حال الناس في ذلك؟
بينما تحديده في شهر معين في السنة جعل له ميزة وخاصية، والمسلمون ينتظرون قدومه بشوق ولهفة، ويتطلعون إليه بمحبة ورغبة. وقل مثل ذلك في جميع الأمور التي حددها الإسلام ووقتها.
فإذا نظم المسلم وقته، وحاسب نفسه على ذلك بورك له فيه، وكلما مضت الأيام إذا هو يزداد عملا ونشاطا، حتى يصبح هذا الأمر إلفة وسجية، لو ضاعت عليه ساعة من حياته لوجد لها أثرا وحسرة، فمثل هذا كيف يضيع يوما أو شهرا، أو يتراخى عن عمل ذي بال، هذا لا يكون.
واسأل التاريخ عن سلفنا الصالح كيف كانوا يعيشون، وانظر إلى ما قدموا لهذه الأمة من أعمال عظيمة في سنين قليلة، وذلك لتقواهم ودقتهم في أوقاتهم، ومحافظتهم عليها، ومن ثم محاسبة النفس على ذلك (6) فسجلوا صفحات بيضاء في جبين التاريخ، فهم رهبان بالليل أسود بالنهار، لا يعرفون خمولا أو تسويفا أو فتورا.
10- لزوم الجماعة
مما أوصى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - حذيفة - رضي الله عنه - وهو يسأله عن المخرج عند حدوث الفتن، أن قال له- عندما قال حذيفة فما تأمرني- قال: - تلزم جماعة المسلمين وإمامهم - (7).
وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر يوصي أمته: - عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة - (8).
قال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: - وآمركم بالسمع والطاعة والهجرة والجهاد والجماعة، فإن من فارق الجماعة شبرا فمات، إلا كانت ميتته ميتة جاهلية - (9).
إن الجماعة هنا، هي جماعة أهل السنة والجماعة، وهي الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، وهي أعم من الجماعة الخاصة، حيث إن بعض الناس ينزلون هذه الأحاديث على جماعاتهم الخاصة، وإن كانت هذه الجماعات داخلة في جماعة المسلمين الواردة في النصوص، إذا كانت ملتزمة بالمنهج الصحيح، بعيدة عن الابتداع والانحراف والضلال.
إن التزام المسلم بجماعة المسلمين، واختياره الرفقة الصالحة والوسط الطيب سبب للنجاة من كثير من الشرور، ومن ذلك التراخي والفتور، حيث إن إخوانه يشدون من عضده، ويعينونه على تجاوز بنيات الطريق، ويحملونه على الجد والنشاط، ويبثون فيه روح التنافس والمسابقة: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ)(10) [سورة الحديد، الآية: 21].
ولا يتصورنَّ أحد منا أنه يمكن أن يعيش وحده، فذلك هو الهلاك بعينه، إلا وقت أوان العزلة الشرعية، وتلك لم يحن وقتها بعد، " وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية"
11- تعاهد الفاترين
__________
(1) - أخرجه البخاري (6/ 116) كتاب النكاح، باب [1] ومسلم (2/ 1020) كتاب النكاح رقم (1401).
(2) - انظر كتاب الغلو لعبد الرحمن اللويحق فقد أجاد وأفاد.
(3) - ويدخل في ذلك نقد النفس، وتقبل نقد الآخرين، فالمسلم مرآة أخيه المسلم، دون مبالغة أو غلو: ومن دعا الناس إلى ذمة ذموه بالحق وبالباطل.
(4) - سورة البقرة آية: 45.
(5) - أخرجه أبو داود (4/296) كتاب الأدب، رقم (4985، 4986) وأحمد في المسند (5/364، 371) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (7892).
(6) - فقد ورد عن الفاروق قوله: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.
(7) - أخرجه البخاري (8/93) كتاب الفتن، باب [11] ومسلم (3/1475) كتاب الإمارة رقم (1847).
(8) - أخرجه الترمذي (4/ 404) كتاب الفتن، رقم (2165) وأحمد في المسند (1/18) وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه وصححه الألباني في تخريجه لأحاديث السنة لابن أبي عاصم.
(9) - أخرجه البخاري (8/87) كتاب الفتن، باب [2] ومسلم (3/1477) كتاب الإمارة رقم (1849).
(10) - سورة الحديد آية: 21.(/28)
مما يلحظ على كثير من طلاب العلم والدعاة أنه إذا فتر أحد إخوانهم تخلوا عنه وأهملوه، ومن ثم يزداد تقصيرا وفتورا، وقد يهلك وهم لا يشعرون. وقد شكى كثير ممن مر بهذه الحالة من هذا الواقع.
والواجب أن يتفقد الدعاة وطلاب العلم إخوانهم، ويتعاهدوهم، فإذا علموا أن أحدهم قد دب الفتور في أوصاله كثفوا زياراتهم له، واستنهضوا همته، وشدوا من أزره، وخوفوه بالله، وبحثوا عن سبب فتوره ونفوره، فإن كانت مشكلة حلوها، أو قضية عالجوها، أو رفقه سيئة أبعدوها، ويستمروا على ذلك حتى تعود المياه إلى مجاريها، أو يعذروا أمام الله (وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)(1) [سورة البقرة، الآية: 96].
وعليهم بالرفق وحسن الصحبة، "فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه"، مع عدم تضخيم الأخطاء والسلبيات، مما يسبب الوحشة والفتور.
12- التربية الشاملة المتكاملة
لا يخفى ما للتربية من أثر في حياة الإنسان، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - - كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه - (2).
وقد اختلفت المدارس التربوية المعاصرة، ونتيجة لذلك رأينا الاختلاف والتباين في سلوك الناس وتفكيرهم.
وقد غلب على كثير من المدارس التربوية الدعوية تغليب جانب على جانب، والعناية به دون سواه.
والمنهج السليم المستقى من الكتاب والسنة هو المنهج الشامل المتكامل، الذي يوازن بين جميع الحقوق والمتطلبات الشرعية، ويربي المسلم على حسن أدائها وإتقانها.
إن تربية الشخصية المتوازنة يعطيها قوة في الانطلاقة، وقدرة على الاستمرار، وبعدا عن التراجع والاضطراب، ذلك أنه يسير والأمور واضحة لديه، يعطي كل جانب ما يستحقه من رعاية واهتمام، دون إهمال أو تجاوز.
ثم إن تربية النشء على العبادة والعلم والدعوة منذ الصغر يجعل هذه الأمور جزءا من حياته، يألفها وتألفه، يستوحش حال فقدها، ويحزن إن حرم منها، حتى إنه إذا مرض فحال المرض بينه وبينها كان أشد ألما لمفارقتها منه لمرضه، بخلاف غيره ممن يسر بالمرض والسفر وسائر الأعذار التي تبرر له التراخي والانقطاع، وكلما كانت التربية أشمل وأكمل كانت أبقى وأنقى وأدوم، وعلى قدر الخلل يكون التقصير.
ومن جوانب التربية التي تقي من الفتور بإذن الله:
أ-التربية على المبادرة الذاتية ونبذ الاتكالية والاعتماد على الآخرين، على أن يلحظ أهمية التوازن في هذا الأمر.
ب- التربية على الشعور بالمسئولية، والقيام بما أوجبه الله عليه، والتخلص مما يحول دون ذلك.
ومن تربية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصحابته أن رباهم على الاعتماد على أنفسهم، دون الاتكال على الآخرين، حتى إنه بايع بعضهم على ذلك، كما روى الإمام مسلم في حديث أبي مسلم الخولاني عن عوف بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بايعهم - أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا والصلوات الخمس وتطيعوا- وأسر كلمة خفيفة-: ولا تسألوا الناس شيئا - (3).
وروى النسائي عن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - من يضمن لي واحدة وله الجنة؛ ألا يسأل الناس شيئا - (4).
وهذه الأحاديث وإن كانت في سؤال الناس أموالهم ونحو ذلك، إلا أن الصحابة فهموا أنها في كل شيء، أو تركوا ذلك تورعا حماية للعهد والبيعة، فكان أحدهم يسقط سوطه فينزل من دابته ويأخذه ولا يسأل الناس أن يعطوه إياه، فلله درّهم.
13- تنويع العبادة والعمل
النفس ملولة تكره الرتابة والجمود، وتحب التجديد والتنويع، ومراعاة النفس أمر مطلوب شرعا، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتخول صحابته بالموعظة مخافة السآمة عليهم، وابن مسعود - رضي الله عنه - كان يمنعه من أن يحدث أصحابه كل يوم لئلا يملهم، وعلي بن أبي طالب- رضي الله عنه- يقول: "إن للنفس إقبالا وإدبارا، فإذا أقبلت فحزها بالعزيمة وإذا أدبرت فاقصرها على الفرائض".
ولذلك فإن التجديد والتنويع في حدود ما شرع الله، يعطي النفس دفعة وحيوية ونشاطا، فكم مارس الإنسان من عمل حتى إذا أدركه الفتور فيه وثقل عليه انتقل إلى غيره، فيتجدد نشاطه، وتقوى عزيمته، ويجد فيه لذة ومتعة، ولو استمر في العمل الأول لخارت قواه ووهنت عزيمته، وربما أدى به إلى كرهه والنفور منه.
__________
(1) - سورة البقرة آية: 96.
(2) - أخرجه البخاري (2/ 104) كتاب الجنائز، باب [93] ومسلم (4/2047) كتاب القدر، رقم (2658).
(3) - أخرجه مسلم (2/ 721) كتاب الزكاة، رقم (108).
(4) - أخرجه أبو داود (2/ 121) كتاب الزكاة رقم (1643) وابن ماجة (1/588) كتاب الزكاة، رقم (1837) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (6603).(/29)
وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إذا عجزوا عن عمل أن ينتقلوا إلى غيره من الأعمال التي يستطيعونها، فقد روى البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم عن أبي ذر- رضي الله عنه- قال: - قلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيله، قال: قلت: أي الرقاب أفضل، قال: أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا. قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعا أو تصنع لأخرق. قال: قلت يا رسول الله: أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك - (1).
وكذلك نجد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما يذكر عددا من الأعمال الفاضلة كما في حديث: - ذهب أهل الدثور بالأجور - (2) وذلك ليكون أمام المسلم فرصة للتنويع حسب الحال والزمان، دون ملل أو فتور.
ولكن يجب التنبه إلى أن التنويع في العمل لا يعني الفوضى وعدم الاستقرار، فإن هذا من أسباب الفتور كما أشرت سابقا، والذي يبدأ العمل ولا يتمه، ويقيم المشروع ثم يتخلى عنه، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة.
ولذلك يكون التنويع في الأعمال والعبادات التي يقتصر نفعها على صاحبها، والتنويع فيها لا يعني ترك العمل بالكلية، وإنما يعمل العمل فإذا تعب تحول عنه إلى غيره، ثم يعود إليه مرة أخرى، كمن يكون في الحرم مثلا: يصلي من الليل ما شاء، ثم يقرأ في كتاب الله، أو يذهب ليطوف بالبيت، أو يذكر الله قائما أو قاعدا أو على جنب. وهكذا في بقية الأعمال والعبادات.
ويكون التنويع أيضا في الأعمال التي لا يكون ترك العمل والتحول عنه سببا لفشله وذهابه، كأن يجد من يحل محله دون أي خلل أو تقصير، مما هو من فروض الكفايات، أما ما سوى ذلك فعليه أن يجاهد نفسه ويتقي ربه، فسيجعل الله له من أمره يسرا (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)(3) [سورة الطلاق، الآية: 4]. (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا)(4) [سورة الطلاق، الآية: 2]. (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)(5) [سورة العنكبوت، الآية: 69].
14- القدوة الصالحة
للقدوة الصالحة تأثير عجيب في استنهاض الهمم والأخذ بالعزيمة.
وكثير من النفوس أو أكثرها لا تؤثر فيها المواعظ والترغيب والترهيب، كما يؤثر فيها أن تذكر قصة رجل عصامي أو علم من الأعلام، ولنأخذ هذا المثال:
تحدثت في أكثر من مناسبة عن أهمية الوقت، ووجوب المحافظة عليه، واستدللت لذلك من الكتاب والسنة وسير السلف الصالح وأقوالهم، ثم كنت أختم الحديث بذكر حياة علم من أعلامنا وشيخ من مشايخنا المعاصرين، وكيف يفيد من وقته، وأنه لا يعرف عنه أنه أضاع بضع دقائق في يومه، أو أنه أخذ إجازة في عامه أو أسبوعه، فكل حياته عمل وجد ونشاط، عبادة وعلم ودعوة، وقيام بحقوق الخلق والخالق. فكنت أجد أن تأثير هذه القدوة أعظم من تأثير بقية الكلام على أهميته وموضوعيته.
ولذلك فإنني أنبه الدعاة وطلاب العلم والمربين إلى أهمية المكانة التي يتبوؤنها، وأن طلابهم ومحبيهم بل وعامة الناس يتأثرون بأفعالهم، أكثر مما يتأثرون بأقوالهم.
ولما ذكر الله جل وعلا أنبياءه ورسله في سورة الأنعام ختم ذلك بقوله:
(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(6) [سورة الأنعام، الآية: 90]. وقال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(7) [سورة الأحزاب، الآية: 21]. ولذلك فإن ذكر حياة العلماء القدوات - وبخاصة المعاصرين منهم - يشد من أزر العاملين، ويوقظ الكسالى والنائمين، ويكون حجة على المتخاذلين التبريريين، الذين يحتجون بتغير الزمان، وفساد الأحوال.
نعيب زماننا والعيب فينا
ونهجو ذا الزمان بغير حق ... وما لزماننا عيب سوانا
ولو نطق الزمان بنا هجانا
ولنقرأ هذه الكلمات لنعرف أثر القدوة في استنهاض الهمم وشد العزائم
قال ابن الجوزي: لقيت مشايخ أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه، ولقيت عبدالوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف، لم يسمع في مجلسه غيبة، ولا كان يطلب أجرا على سماع الحديث. ولقيت أبا منصور الجواليقي، فكان كثير الصمت، شديد التحري لما يقول، متقننا محققا، وربما سئل عن المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض علمائه، فيتوقف فيها حتى يتيقن.
فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما، ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول (8).
ومما يلحق في باب القدوة وتأثيرها:
__________
(1) - أخرجه البخاري (3/117) كتاب العتق، باب [2] ومسلم (1/ 89) كتاب الإيمان، رقم (136).
(2) - أخرجه البخاري (1/ 205) كتاب الأذان، باب [155] ومسلم (1/ 416) كتاب المساجد، رقم (595).
(3) - سورة الطلاق آية: 4.
(4) - سورة الطلاق آية: 2.
(5) - سورة العنكبوت آية: 69.
(6) - سورة الأنعام آية: 90.
(7) - سورة الأحزاب آية: 21.
(8) - انظر صيد الخاطر 443.(/30)
دراسة سير الأنبياء والمصلحين:
إن دراسة سير الأنبياء والمرسلين- عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- وذلك من خلال القرآن الكريم وما ورد في السنة النبوية، وأخذ العبر من حياتهم ومواقفهم مع قومهم، وما واجهوه من مشكلات وعقبات.
إن ذلك كله يجعل المسلم يسعى جادا للحاق بهم واقتفاء آثارهم، ويزيد من صبره وثباته، فكلما واجهته مشكلة ثم قارنها بما لاقاه أولئك احتقرها وسهل عليه تجاوزها، فإن آذاه الناس قال: لقد أوذي من هو خير مني، وإن كذبه الناس قال: لقد كذب من هو أفضل مني، وهكذا: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(1) [سورة الأنعام، الآية: 90 ]. ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ)(2) [سورة الأنعام، الآية: 34]. (وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ)(3) [سورة الأنعام، الآية: 34].
وقال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في سورة الأعراف: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(4) [سورة الأعراف، الآية: 176]. وقال في سورة يوسف: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ)(5) [سورة يوسف، الآية: 111].
ومما يزيد من حماس المسلم ويشد من عضده معرفة تاريخ المصلحين، وسيرهم مع مجتمعاتهم، وما لاقوه من عنت ومشقة، وكيف صبروا وثبتوا، إن هذا الأمر له تأثير عجيب في حياة الداعية وطالب العلم، كم يصاب الإنسان بحالة من الكسل أو الملل من طلب العلم فيتذكر أولئك الأعلام، وكيف جدوا واجتهدوا فسرعان ما يعود نشيطا قويا.
سئل الشعبي من أين لك هذا العلم كله؟ فقال: "بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وبكور كبكور الغراب، وصبر كصبر الجماد".
وقل مثل ذلك في الداعية إذا واجهته مشكلة أو مصيبة، ثم تذكر أسلافه وما لاقوه كالإمام أحمد، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، وغيرهم، فيعلم أنهم أخذوا بقوله تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ)(6) [سورة آل عمران، الآية: 139 ].
15- علو الهمة ونبل المقصد والأخذ بالعزيمة
وذلك بأن يكون هم الإنسان الدار الآخرة، والفوز بالجنة، ومقصده رضا الله جل وعلا، فمن كانت هذه حاله فلن يستقر له قرار حتى ينال مراده، وسيجد في الطلب حتى يحصل على بغيته (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)(7) [سورة الحجر، الآية: 99]. ولما قال أحد الصحابة للرسول - صلى الله عليه وسلم - إني أحب مرافقتك في الجنة، قال له المصطفى - صلى الله عليه وسلم - - أعني على نفسك بكثرة السجود - (8).
وإذا علا مقصد الإنسان وشرفت غايته، زهد في الدنيا وشهواتها، ولو كانت بين يديه، فضلا عن أن يسعى لتحصيلها، ويقضي عمره جامعا لحطامها، على حساب دينه وعقيدته. ولذلك لما علت همة عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه- وجعل لقاء الله غايته وأشرف مقاصده، كان أزهد الناس في الدنيا، وهو خليفة المسلمين، لا يملك إلا ثوبا واحدا، ولا يأكل من الطعام إلا الكفاف دون تقتير أو إسراف، والمال بين يديه، والثمرات من كل مكان تجبى إليه.
إن دنو الهمة وتواضع المقصد يؤدي بالإنسان إلى الدعة والاسترخاء، أما علوها، وبعد مرادها ومرامها، فدونه الجد والاجتهاد والسهر والعنا:
وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام
وصدق من قال:
أأبيت سهران الدجى وتبيته ... نوما وتبغي بعد ذاك لحاقي?!
ومن علامات علو الهمة أخذ النفس بالعزيمة والجد، وحملها على التضحية، وشغلها بالحق، فإن النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.
وعمر- رضي الله عنه- استعاذ من جلد الفاجر وضعف المؤمن.
ومن يتهيب صعود الجبال ... يعش أبد الدهر بين الحفر
16- الإكثار من ذكر الموت والخوف من سوء الخاتمة
قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - - أكثروا ذكر هاذم اللذات - (9) يعني الموت.
وقال - صلى الله عليه وسلم - - كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها ترق القلب، وتُدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هجرا" - (10).
إن تذكر الموت والخوف من سوء الخاتمة يبعثان في النفس نشاطا وجدا، وخوفا ووجلا، والخائف لا يفتر.
(ومن أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء:
تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء:
__________
(1) - سورة الأنعام آية: 90.
(2) - سورة الأنعام آية: 34.
(3) - سورة الأنعام آية: 34.
(4) - سورة الأعراف آية: 176.
(5) - سورة يوسف آية: 111.
(6) - سورة آل عمران آية: 139.
(7) - سورة الحجر آية: 99.
(8) - أخرجه مسلم (1/353) كتاب الصلاة، رقم (489).
(9) - أخرجه النسائي (3/4) كتاب الجنائز، رقم (1824) وابن ماجة (2/ 1422) كتاب الزهد، رقم (4258)، والترمذي (4/ 479) كتاب الزهد رقم (2307) قال الترمذي: حسن غريب وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع، رقم (1210).
(10) - أخرجه الحاكم في المستدرك (1/376) وانظر صحيح الجامع رقم (4584).(/31)
تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة) (1).
وسوء الخاتمة أمر غفل عنه الكثيرون، مع أنه ورد في الحديث الصحيح: قوله - صلى الله عليه وسلم - - فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها - (2).
وقد ذكر ابن القيم في كتابيه الداء والدواء وطريق الهجرتين قصص عدد من الذين ختم لهم بخاتمة سيئة، حتى إنهم لم يستطيعوا أن يقولوا: (لا إله إلا الله) وهم يلقنونها، وقالوا غيرها مما تعلقت به قلوبهم في الحياة الدنيا.
ومما يدفع إلى العمل والنشاط رؤية المحتضرين حال النزع، فقد يبقى أثره على الفرد حتى يموت. دخل الحسن البصري على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: الطعام يرحمك الله، فقال: يا أهلاه، عليكم بطعامكم وشرابكم، والله لقد رأيت مصرعا لا أزال أعمل له حتى ألقاه (3).
17- الصبر والمصابرة
طريق العلم والعبادة والدعوة إلى الله طريق شاق، تحفّه المصاعب والمشاق، (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)(4) [سورة العنكبوت، الآية:1، 2 ] (أَمْ حَسِبْتُمْ?أَن?تَدْخُلُواْ?الْجَنَّةَ?وَلَمَّا ?يَعْلَمِ? اللّهُ? الَّذِينَ ?جَاهَدُواْ مِنكُمْ ?وَيَعْلَمَ ?الصَّابِرِينَ) (5) [سورة آل عمران، الآية: 142]. ولما للصبر من عظيم الأثر في الثبات على الطريق، والعصمة من الزلل والانحراف والاستعجال والفتور، جاءت الآيات الكثيرة تبين أهميته، وتوصي به، وتحث عليه، ويصعب حصرها في هذا المختصر، ولكن أذكر بعضا منها:
(وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(6) [سورة الشورى، الآية: 43].
(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ)(7) [سورة الأحقاف، الآية: 35]. (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(8) [ سورة البقرة، الآية: 155]. (سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)(9) [سورة الرعد، الآية: 24]. (أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا)(10) [سورة القصص، الآية: 54]. (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)(11) [ سورة السجدة، الآية: 24].
(وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)(12) [ سورة آل عمران، الآية: 186]. (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(13) [سورة لقمان، الآية: 17]. (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)(14) [ سورة الأنفال، الآية: 46]. (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ)(15) [سورة مريم، الآية: 65]. (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)(16) [سورة طه، الآية: 132]. (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ)(17) [سورة البقرة، الآية: 45]. (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)(18) [ سورة البقرة، الآية: 250]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(19) [سورة آل عمران، الآية: 200].
إن هذه الآيات وأمثالها تدل على منزلة الصبر والمصابرة وأثرهما في حمل الدعوة، وأداء العبادة وبذل العلم.
ومما يعين المسلم على الصبر ويشد أزره، قراءة سير الأنبياء والمرسلين مع أممهم، وما واجهو من مصاعب ومشاق، وكذلك أتباعهم، فلم يهنوا ولم يضعفوا ولم يستكينوا وصبروا: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)(20) [سورة آل عمران، الآية: 146].
__________
(1) - ظاهرة ضعف الإيمان للمنجد ص 59.
(2) - أخرجه البخاري (7/210) كتاب القدر، باب [1]، ومسلم (4/2036) كتاب القدر، رقم (2643).
(3) - التذكرة ص 17 وظاهرة ضعف الإيمان ص 59.
(4) - سورة العنكبوت آية: 1-2.
(5) - سورة آل عمران آية: 142.
(6) - سورة الشورى آية: 43.
(7) - سورة الأحقاف آية: 35.
(8) - سورة البقرة آية: 155.
(9) - سورة الرعد آية: 24.
(10) - سورة القصص آية: 54.
(11) - سورة السجدة آية: 24.
(12) - سورة آل عمران آية: 186.
(13) - سورة لقمان آية: 17.
(14) - سورة الأنفال آية: 46.
(15) - سورة مريم آية: 65.
(16) - سورة طه آية: 132.
(17) - سورة البقرة آية: 45.
(18) - سورة البقرة آية: 250.
(19) - سورة آل عمران آية: 200.
(20) - سورة آل عمران آية: 146.(/32)
ولو لم يكن في الصبر إلا منزلة المحبة لكفى بها شرفا وعز بها مطلبا، (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا)(1) [سورة المعارج، الآية: 5]. وأكثروا من هذا الدعاء: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)(2) [سورة الأعراف، الآية: 126]. ولا تتمنوا لقاء العدو، ولكن وطنوا أنفسكم على إذا لقيتموهم أن تصبروا.
18- الدعاء والاستعانة
ونختم الوسائل المعينة على التخلص من الفتور والنجاة منه بوسيلة من أعظم الوسائل وأقواها تأثيرا، ألا وهي "الدعاء" سهام الليل، وقذائف النهار.
إن الدعاء هو العبادة، وهو صلة بين العبد وربه، يظهر فيه ضعف المخلوق، وقدرة الخالق، وربوبيته، وعظمته.
ولذلك جاءت الآيات آمرة بالدعاء والتضرع إلى الله، وقد وعد سبحانه بالإجابة: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(3) [سورة غافر، الآية: 60]. وقال سبحانه: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)(4) [سورة النمل، الآية: 62]. وأيهما أعظم اضطرارا: المصاب ببدنه أم المصاب بدينه؟ وأيهما أشد سوءا: بلاء الدنيا أم بلاء الدين ؟ والفتور بلاء في الدين تهون عنده مصائب الدنيا.
وقال جل وعلا: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)(5) [سورة الأعراف، الآية: 55]. وقال: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(6) [سورة البقرة، الآية: 186].
وقد أرشدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الدعاء في حال الفتور فقال: - إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم - (7) .
وهل الفتور إلا وجه من أوجه ضعف الإيمان؟
وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - استعاذ من الفتور، والاستعاذة نوع من الدعاء، فقد روى أنس- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ يقول: - اللهم إني أعوذ بك من الكسل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من البخل - (8).
وعنه قال: كنت كثيرا أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: - اللهم إني أعوذ بك من الهرم والحزن والعجز والكسل - الحديث (9).
وعن زيد بن أرقم- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: - اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل - الحديث (10).
بل كان - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه هذه الدعوات، فقد روى النسائي بعد أن ذكر الحديث عن زيد بن أرقم قوله: - كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمناهن ونحن نعلمكموهن - يريد بذلك هذه الدعوات ونحوها.
فعلى المسلم: أن يلح على الله في حال نشاطه وفتوره، وأن يكون صادقا مخلصا موقنا بالإجابة، فإن عمر- رضي الله عنه- يقول: " والله إنني لا أحمل هم الإجابة، ولكنني أحمل هم الدعاء".
ومما يدخل في باب الدعاء الاستعانة بالله تعالى، وهي مطلوبة في كل أمر وفي كل حين، ولأهميتها فإننا نكررها في كل ركعة من صلاتنا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(11) [سورة الفاتحة، الآية: 5]. ولا يمكن للعبد أن يفعل شيئا إلا بعونه تعالى، فإن حرم من ذلك خاب وخسر:
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده
ولهذا قال الله سبحانه في سورة النور: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(12) [ سورة النور، الآية 21].
وقد علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنته فاطمة أن تسأل الله إذا أصبحت وإذا أمست ألا يكلها إلى نفسها طرفة عين، وهذه حقيقة الاستعانة، فقد روى الحاكم والنسائي والبزار وغيرهم عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة- رضي الله عنها-: - ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به ؟ أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفس طرفة عين أبدا - (13).
__________
(1) - سورة المعارج آية: 5.
(2) - سورة الأعراف آية: 126.
(3) - سورة غافر آية: 60.
(4) - سورة النمل آية: 62.
(5) - سورة الأعراف آية: 55.
(6) - سورة البقرة آية: 186.
(7) - أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 4) وقال الهيثمي في المجمع (1/57) رواه الطبراني بإسناد حسن.
(8) - أخرجه البخاري (7/ 160) كتاب الدعوات، باب [42] ومسلم (4/ 2079) كتاب الذكر رقم (2706) واللفظ للبخاري.
(9) - أخرجه البخاري (3/ 224) كتاب الجهاد، باب [24].
(10) - سنن النسائي (8/ 260) كتاب الاستعاذة، رقم (5458).
(11) - سورة الفاتحة آية: 5.
(12) - سورة النور آية: 21.
(13) - أخرجه النسائي في اليوم والليلة رقم (570) وابن السني رقم (48) وصححه الألباني كما في صحيح الترغيب رقم (654).(/33)
وأودعك أخي الكريم بهذا الدعاء (1) .
بقيت مدى الدهر وعلمك راسخ
يود سناك البدر والبدر زاهر
وهنئت أياما توالي نشاطها ... وخيرك ممدود وليلك عامر
ويقفو نداك البحر والبحر غامر
كما تتوالى في العقود الجواهر
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين...
وبعد:
فقد عرفنا من خلال الصفحات التي مضت خطورة الفتور، وآثاره على الفرد والمجتمع، وهذا يتجلى من معرفة المظاهر والأسباب، ثم اتضحت لنا وسائل الوقاية والعلاج.
وفي هذه الخاتمة أوضح مسألة قد تغيب عن كثير من الناس ألا وهي أهمية المبادرة إلى العلاج، بل وجوب ذلك تبعا لوجوب الدعوة، ووجوب حماية النفس من سبل الانحراف.
إن الكثير منا قد يكتشف أنه وقع في داء الفتور، ومن ثم عرف السبب والعلاج، ولكنه لا يسارع إلى طريق النجاة وسبل الخلاص.
والله سبحانه وتعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)(2) [سورة التحريم، الآية: 6]. ومما هو مقرر في قواعد الشريعة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والله أمرنا بالمسارعة والمسابقة إلى الخيرات، فقال سبحانه: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)(3) [سورة آل عمران، الآية: 133]. وقال جل وعلا: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (4) [ سورة الحديد، الآية: 21]. وأثنى على المؤمنين فقال: (أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)(5) [سورة المؤمنون، الآية: 61].
والذي يتأمل في كثير من مظاهر الفتور وأسبابه يجد أن كل واحد منها يمثل ذنبا، ومعصية تجب التوبة منها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا)(6) [سورة التحريم، الآية: 8]. وقال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة النور، الآية:31]، وقال: (وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [سورة الحجرات، الآية:11]. والنجاة من الفتور والسلامة منه لا يعدو إما أن يكون إقلاعا من ذنب أو مسارعة إلى خير، وكلاهما أمران مشروعان يدوران بين الوجوب والندب.
ومن هنا فإني أوجه عناية طلاب العلم والدعاة للعناية بموضوع الفتور بيانا وتشخيصا وتحذيرا من آثاره وعواقبه، وكذلك عليهم أن يحثوا الناس للمبادرة إلى تلافيه والخلاص منه.
وأخص المربين بأن يوجهوا اهتمامهم لدراسة مظاهر الفتور وأسبابه، ومن ثم سبل الوقاية منه، وذلك حماية لتلاميذهم من الوقوع فيه؛ حتى لا تذهب الجهود هدرا.
وأخيرا فإن على الشباب بصفة خاصة أن يولوا هذا الموضوع حقه صيانة لأنفسهم، ومعرفة للشر قبل وقوعه، ويتأكد هذا وهم في فترة النشاط والحماس، فإن لكل عمل شرّة ولكل شرّة فترة، كما أخبرنا الصادق المصدوق - - صلى الله عليه وسلم - (7).
إن هذه اليقظة المباركة والصحوة الرائدة تحتاج إلى حماية من داخلها وخارجها، ومن أعظم ما يهددها من الداخل أن يسري الفتور إلى جسدها، ويدب في أوصالها ومفاصلها، هنالك يهون على الأعداء تحقيق مآربهم، والوصول إلى غاياتهم، وعندئذ ستجد من يلقي باللائمة عليهم، وكأنه لم يفقه قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ) [سورة آل عمران، الآية:165].
ومن هذا المنطلق جاءت هذه الرسالة؛ تبليغا وتنبيها وتذكيرا وتعليما وتحذيرا.
اللهم هل بلغت.. اللهم فاشهد.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) - انظر جواهر الأدب 2/ مع تغيير الكلمات لتناسب المقام.
(2) - سورة التحريم آية: 6.
(3) - سورة آل عمران آية: 133.
(4) - سورة الحديد آية: 21.
(5) - سورة المؤمنون آية: 61.
(6) - سورة التحريم آية: 8.
(7) - تقدم تخريجه مرارا.(/34)
الفتور
يتناول الدرس الكسل، أو التراخي،أو الانقطاع بعد النشاط الدائب، والحركة المستمرة، وماهي أسباب ذلك، وأثر الفتور على العاملين وعلى العمل الإسلامي، وما هي مظاهر الفتور، وأهم الوسائل المعينة على علاجه .
معناه:
لغة : يطلق الفتور لغة على معنيين: الانقطاع بعد الاستمرار، أو السكون بعد الحركة. والكسل، أو التراخي، أو التباطؤ بعد النشاط والجد.
اصطلاحا: ' هو داء يمكن أن يصيب بعض العاملين، بل قد يصيبهم بالفعل، أدناه : الكسل، أو التراخي، أو التباطؤ، وأعلاه: الانقطاع، أو السكون بعد النشاط الدائب، والحركة المستمرة'. قال تعالى عن الملائكة :} وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ[19]يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ[20]{ [سورة الأنبياء”] أي: [ أنهم في عبادة دائمة ينزهون الله عما لا يليق به، ويصلون، ويذكرون الله ليل نهار، لا يضعفون ولا يسأمون] .
أسباب الفتور:
1- الغلو والتشدد في الدين : بالانهماك في الطاعات، وحرمان البدن حقه من الراحة والطيبات؛ فإن هذا من شأنه أن يؤدي إلى الضعف، أو الملل؛ إذ للإنسان طاقة محدودة، فإذا تجاوزها اعتراه الفتور، فيكسل أو ينقطع؛ ولعل ذلك هو السر في تحذير الإسلام الشديد، ونهيه الصريح عن الغلو، والتنطع، والتشديد:
إذ يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [...إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ] رواه النسائي وابن ماجه. ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلَاثًا” رواه مسلم وأبوداود وأحمد. يعني: المتعمقين المجاوزين الحدود في أقوالهم، وأفعالهم.
وَعَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: [ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي] رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد.
وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ قَالَ: [مَنْ هَذِهِ] قَالَتْ: فُلَانَةُ تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا قَالَ: [ مَهْ عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا] وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَادَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ. رواه البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجه والنسائي وأحمد.
2- السّرف ومجاوزة الحد في تعاطي المباحات : وهذا من شأنه أن يؤدي إلى السمنة وضخامة البدن، وسيطرة الشهوات، وبالتالي التثاقل، والكسل، والتراخي- إن لم يكن الانقطاع، والقعود- ولعل ذلك هو السر في نهي الله ورسوله، وتحذيرهما من السرف:
قال تعالى:} يَابَنِي ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ[31]{ [سورة الأعراف].
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ...] رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد .
وقد أدرك سلف الأمة ما يصنعه السّرف، والتوسع في المباحات بصاحبه؛ فحذروا منه، إذ يقول عمر رضي الله تعالى عنه: [ إياكم والبطنة في الطعام والشراب، فإنها مفسدة للجسد، مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة، وعليكم بالقصد فيهما؛ فانه أصلح للجسد، وأبعد من السرف، وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين، وإنّ الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه ] .(/1)
3- مفارقة الجماعة، وإيثار حياة العزلة والتفرد: ذلك أن الطريق طويلة الأبعاد، متعددة المراحل، كثيرة العقبات، في حاجة إلى تجديد، فإذا سارها المسلم مع الجماعة؛ وجد نفسه دوماً متجدد النشاط، قوي الإرادة، صادق العزيمة، أما إذا شذ عن الجماعة وفارقها، فإنه سيفقد من يجدد نشاطه، ويقوي إرادته، ويحرك همته، ويذكره بربه؛ فيسأم ويمل، وبالتالي يتراخى ويتباطأ، إن لم ينقطع ويقعد .. ولعل هذا بعض السر في حرص الإسلام وتأكيده على الجماعة، وتحذيره من مفارقتها، والشذوذ عنها:
إذ يقول الله تعالى:} وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا...[103]{ [سورة آل عمران]. }وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ... [2] {[سورة المائدة]. } وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[46] {[سورة الأنفال] .
و يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [...عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ...] رواه الترمذي وأحمد . ويقول: [الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ ] رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد .
وقد أدرك سلف الأمة ذلك، فلزموا الجماعة، ورغبوا فيها، وأكدوا عليها،يقول علي رضي الله تعالى عنه: [ كدر الجماعة خير من صفو الفرد]. ويقول عبد الله بن المبارك:
لولا الجماعة ما كانت لنا سبل ولكان أضعفنا نهبا لأقوانا
4- قلة تذكر الموت والدار الآخرة: وهذا من شأنه أن يؤدي إلى فتور الإرادة، وضعف العزيمة، وبطء النشاط والحركة، بل قد يؤدي إلى الوقوف والانقطاع. ولعلنا - في ضوء هذا - نفهم الحكمة من أمره صلى الله عليه وسلم بزيارة القبور بعد النهي والتحذير، إذ يقول: [ إِنِّي نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّ فِيهَا عِبْرَةً...] رواه أحمد .كما نفهم الحكمة من حضه صلى الله عليه وسلم على تذكر الموت، وانتهاء الأجل، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ] قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَ: [ لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ] رواه الترمذي وأحمد.
5- التقصير في عمل اليوم والليلة : مثل: النوم عن الصلاة المكتوبة بسبب السمر الذي لا مبرر له بعد العشاء، ومثل: إهمال بعض النوافل الراتبة، وترك قيام الليل، أو صلاة الضحى، أو تلاوة القرآن، أو الذكر أو الدعاء، أو الاستغفار، أو التخلف عن الذهاب إلى المسجد، أو عدم حضور الجماعة بدون عذر، فكل ذلك وأمثاله له عقوبات، وأدنى هذه العقوبات : الفتور بأن يكسل ويتثاقل أو ينقطع ويتوقف. وقد أشار النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذَلِكِ بِقَولِهِ: [ يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ ثَلَاثَ عُقَدٍ إِذَا نَامَ بِكُلِّ عُقْدَةٍ يَضْرِبُ عَلَيْكَ لَيْلًا طَوِيلًا فَإِذَا اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ وَإِذَا تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عَنْهُ عُقْدَتَانِ فَإِذَا صَلَّى انْحَلَّتْ الْعُقَدُ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجه والنسائي ومالك وأحمد.
6- دخول جوفه شيء محرّم أو به شبهة:إما بسبب تقصيره وعدم إتقانه للعمل اليومي الذي يتعيش منه، وإما بسبب تعامله فيما نسميه شبهة.. وإما بسبب غير ذلك، فمثل هذا يعاقب من سيده ومولاه، وأدنى عقاب في الدنيا : أن يفتر؛ فيقعد ويرقد عن الطاعات، أو على الأقل يكسل ويتثاقل فلا يجد للقيام لذة، ولا للمناجاة حلاوة . ولعل هذا هو سر دعوة الإسلام إلى أكل الحلال وتحريه، والابتعاد عن الحرام، وما كانت به أدنى شبهة:
إذ يقول الله عز وجل:} يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[168]{“سورة البقرة”.(/2)
ويقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ] رواه أبو نعيم في'حلية الأولياء' والبيهقي في 'شعب الإيمان' .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ وَمَنْ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنْ الْإِثْمِ أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ وَالْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبوداود وابن ماجه والدارمي وأحمد .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ...] رواه الترمذي والنسائي والدارمي وأحمد. ويربي النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عمليا على ذلك حين يجد تمرة في الطريق ويرفض أكلها قائلا: [ قَالَ لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا] رواه البخاري ومسلم أبودواد وأحمد .
وعلى هذا المنهج سار سلف الأمة، فكانوا يفتشون، ويتحرون عن كل ما يتعلق بحياتهم، وإذا وجدوا شيئا شابته شائبة، أو أدنى شبهة؛ اجتنبوه مخافة أن يجرهم إلى الحرام، فتفسد قلوبهم، فيحرموا العمل، أو يحرموا قبوله:
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: [ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَا هُوَ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ. فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ] رواه البخاري.
7- اقتصار العامل على جانب واحد من جوانب الدين : كأن يجعل الشعائر التعبدية، تاركاً كل ما سواها، أو يقتصر على فعل الخيرات، ورعاية الآداب الاجتماعية، غاضاً الطرف عما عداها، فكل هؤلاء وأمثالهم تأتي عليهم أوقات يصابون فيها لا محالة بالفتور؛ نظراً لأن دين الله موضوع لاستيعاب الحياة كلها، فإذا اقتصر واحد من الناس على بعضه؛ فكأنما أراد أن يحيا بعض الحياة، لا كل الحياة، ثم إذا بلغ الذروة في هذا البعض يتساءل: وماذا بعد؟ فلا يجد جوابا سوى الفتور: إمَّا بالعجز، وإمَّا بالكسل. ولعل ذلك هو أحد أسرار الدعوة إلى أخذ منهج الله كلاً بلا تبعيض:
إذ يقول الله عز وجل: }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[208]{ [سورة البقرة] أي: اعملوا بجميع شعب الإيمان، وشرائع الإسلام، ولا تسيروا خلف الشيطان؛ لما يكنه لكم من العداوة والبغضاء، فيصرفكم عن منهج الله بالكلية، أو عن بعضه؛ فتفتروا، وتضيعوا.
8- الغفلة عن سنن الله في الكون والحياة : فإننا نرى صنفاً من العاملين لدين الله يريد أن يغير المجتمع كله -أفكاره، ومشاعره، وتقاليده، وأخلاقه، وأنظمته: الاجتماعية، والسياسة، والاقتصادية - في يوم وليلة، بأساليب ووسائل هي إلى الوهم والخيال أقرب منها إلى الحقيقة والواقع، غير واضعين في حسابهم سنن الله في الكون والحياة: من ضرورة التدرج في العمل، ومن أن الغلبة إنما تكون للأتقى، فإذا لم يكن فللأقوى، ومن أن لكل شيء أجلاً مسمى لا يقدم ولا يؤخر... إلخ،
فإذا ما نزلوا إلى أرض الواقع، وكان غير ما أملوا، وما أرادوا، وما عملوا؛ فتروا عن العمل: إما بالكسل والتواني والتراخي، وإما بالقعود والانسلاخ والترك.
9- التقصير في حق البدن بسبب ضخامة الأعباء وكثرة الواجبات، وقلة العاملين : ذلك أننا نجد بعض العاملين ينفقون كل ما يملكون من جهد ووقت وطاقة في سبيل خدمة هذا الدين، ضانين على أنفسهم بقليل من الراحة والترويح، فهؤلاء وأمثالهم، وإن كانوا معذورين بسبب ضخامة الأعباء، وكثرة الواجبات وقلة العاملين، إلا أنه تأتي عليهم أوقات يفترون عن العمل لا محالة. ولعل هذا هو سر تأكيده صلى الله عليه وسلم على حق البدن، مهما تكن الأعذار والمبررات؛ إذ لما قال سلمان لأبي الدرداء رضي الله عنهما: [ إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ] قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ صَدَقَ سَلْمَانُ] رواه البخاري والترمذي.(/3)
10- عدم الاستعداد لمواجهة معوقات الطريق : فبعض العاملين يبدءون السير في الطريق دون أن يقفوا على معوقاته، من زوجة أو ولد، أو إقبال دنيا، أو امتحان، أو ابتلاء، أو نحو ذلك، وبالتالي لا يأخذون أهبتهم، ولا استعدادهم، وقد يحدث أن يصدموا أثناء السير بهذه المعوقات، أو ببعضها، فإذا هم يعجزون عن مواجهتها، فيفترون عن العمل: إما بالكسل والتراخي، وإما بالوقوف والانقطاع. وهذا سر تنبيه القرآن الكريم، وتحذيراته المتكررة من معوقات الطريق:
إذ يقول سبحانه:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[14]إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ[15]{ [سورة التغابن] .
وقال سبحانه:} مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ...[179]{ [سورة آل عمران].
وقال سبحانه:} الم[1]أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[2]وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[3]{ [سورة العنكبوت].
وقال سبحانه:} وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ[31]{ [سورة محمد].
11- صحبة ذوي الإرادات الضعيفة، والهمم الدانية: فقد يحدث أن يصحب العامل نفراً ممن لهم ذيوع وشهرة، وحين يقترب منهم ويعايشهم، يراهم خاوين فاترين في العمل، كالطبل الأجوف، فإن مضى معهم؛ أعدَوْه بالفتور والكسل. وهذا هو سر تأكيده صلى الله عليه وسلم على ضرورة انتقاء واصطفاء الصاحب:
إذ يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ] رواه أبوداود والترمذي وأحمد .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا] رواه البخاري ومسلم وأحمد.
12- العفوية في العمل سواء على المستوى الفردي أو الجماعي : فيمارس العمل لدين الله بصورة عفوية لا تتبع منهجاً، ولا تعرف نظاماً، فيقدمون الأمور الثانوية، أو التي ليست بذي بال، ويؤخرون بل ويهملون الأمور الرئيسة، والتي لابد منها من أجل التمكين لدين الله، وهذا يؤدي إلى أن تطول الطريق، وتكثر التكاليف والتضحيات، فيكون الفتور غالبا، إن لم يتدارك الله العبد بالرعاية والتأييد والثبات. ولعلنا في ضوء هذا نفهم سر وصيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ إذ قال له: [ إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبوداود وابن ماجه والنسائي والدارمي وأحمد. إن الحديث قاعدة رئيسة في منهجية العمل، وترتيبه، ودقته .(/4)
13- الوقوع في المعاصي والسيئات لا سيما صغائر الذنوب مع الاستهانة بها:فإن ذلك ينتهي بالعامل لا محالة إلى الفتور، وصدق الله الذي يقول:} وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ[30] {[سورة الشورى]. وصدق رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يقول: [ إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا فَأَجَّجُوا نَارًا وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا]رواه أحمد.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ فَإِنْ زَادَ زَادَتْ فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ:} كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[14]{ [سورة المطففين] ] رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد .
آثار الفتور على العاملين:
قلة رصيدهم - على الأقل - من الطاعات، وربّما قبض أحدهم وهو فاتر كسلان : فيلقى الله مقصراً مفرطاً؛ لذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: [اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبوداود والنسائي وأحمد. وكان من بشرياته لأمته: [إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ ] فَقِيلَ كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: [يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ الْمَوْتِ] رواه الترمذي وأحمد . وكان من وصيته لأمته: [لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَعْجَبُوا بِأَحَدٍ حَتَّى تَنْظُرُوا بِمَ يُخْتَمُ لَهُ...] رواه أحمد .
آثار الفتور على العمل الإسلامي:
طول الطريق، وكثرة التكاليف والتضحيات : إذ مضت سنته سبحانه: ألا يعطي النصر والتمكين للكسالى، والغافلين، والمنقطعين، وإنما للعاملين المجاهدين الذين أتقنوا العمل، وأحسنوا الجهاد:} إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا[30]{ [سورة الكهف]
} إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ[128] {[سورة النحل] } وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[69] {[سورة العنكبوت] .
علاج الفتور:
1- البعد عن المعاصي والسيئات كبيرها وصغيرها: فإنها نار تحرق القلوب، وتستوجب غضب الله، ومن غضب ربه عليه فقد خسر خسراناً مبيناً:}...وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى[81]{ [سورة طه].
2- المواظبة على عمل اليوم والليلة: من ذكر، أو دعاء وضراعة، أو استغفار، أو قراءة قرآن، أو صلاة ضحى، أو قيام ليل ومناجاة، لاسيما في وقت السحر، فإن ذلك كله مولد إيماني جيد، ينشط النفوس، ويحركها ويعلي الهمم، ويقوي العزائم، قال تعالى:} وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا[62] {[سورة الفرقان] }يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ[1]قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا[2]نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا[3]أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا[4]إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا[5] {[سورة المزمل]
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجه والنسائي والدارمي وأحمد.
3- ترصُّد الأوقات الفاضلة والعمل على إحيائها بالطاعات: فإن هذا مما ينشط النفوس، ويقوي الإرادات، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [...فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ] رواه البخاري والنسائي .(/5)
4- التحرر من التشدد والغلو في دين الله: فإن ذلك مما ينشط، ويساعد على الاستمرار،وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصِيرٌ وَكَانَ يُحَجِّرُهُ- أي:يتخذه حجرة - مِنْ اللَّيْلِ فَيُصَلِّي فِيهِ فَجَعَلَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَثَابُوا ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ ] وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا أَثْبَتُوهُ. رواه مسلم وأحمد.
ولا جرم أن نشير هنا إلى أن التحرر من التشدد والغلو لا يعني الترك والإهمال، بل يعني الاقتصاد والتوسط، مع المحافظة على ما اعتاده من العمل، ومع اتباع السنة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَكُنْ بِمِثْلِ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ] رواه البخاري ومسلم وابن ماجه والنسائي.
5- دفن النفس في أحضان الجماعة، وعدم اعتزالها أو الشذوذ عنها بحال من الأحوال :
وحسبنا قوله صلى الله عليه وسلم: [...الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ ] رواه عبد الله في' زوائد المسند' .
وقوله: [يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ] رواه الترمذي. وقول علي رضي الله تعالى عنه- المذكور آنفا-:' كدر الجماعة خير من صفو الفرد'.
6- الانتباه إلى سنن الله في الإنسان والكون: من استفراغ الطاقة، وبذل الجهد }ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ... [4]{ [سورة محمد] والتدرج في العمل كما قالت أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ: [...إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا وَلَوْ نَزَلَ لَا تَزْنُوا لَقَالُوا لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا...] رواه البخاري . وكما عبر عنه عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه خامس الخلفاء الراشدين، فقد أراد أن يعود بالحياة إلى هدي الخلفاء الأربعة، لكن بعد أن يتمكن ويمسك الخيوط في يديه، وكان له ابن يقال له: عبد الملك، فيه فتوّة، وحماس، وحيوية وتقى، فأنكر على أبيه البطء، وعدم الإسراع في إزالة كل بقايا الانحراف والمظالم، حتى تعود الحياة إلى سيرتها الأولى أيّام الراشدين، إذ قال له يوما:'مالك يا أبت لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي، لو أن القدور غلت بي وبك في الحق'. فكان جواب الأب الفقيه:' لا تعجل يا بني، فإن الله ذمَّ الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة، فيدعوه جملة، فيكون من ذا فتنة... ' .
7- الوقوف على معوقات الطريق من أوّل يوم في العمل:حتى تكون الأهبة، ويكون الاستعداد لمواجهتها، والتغلب عليها، فلا يبقى مجال لفتور أو انقطاع.
8- الدقة والمنهجية في العمل:على معنى مراعاة الأولويات، وتقديم الأهم، وعدم الدخول في معارك جانبية، أو مسائل جزئية هامشية.
9- صحبة الصالحين المجاهدين من عباد الله : إذ إن هؤلاء لهم من الصفاء النفسي، والإشراق القلبي، والإشعاع الروحي ما يسبي، ويجذب، بل ما يحرك الهمم والعزائم، ويقوي الإرادات، وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم الأنظار إلى ذلك حين قال: [أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ] قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِينَ إِذَا رُءُوا ذُكِرَ اللَّهُ تَعَالَى...] رواه ابن ماجه وأحمد .
10- إعطاء البدن حقه من الراحة، والطعام والشراب مع الاعتدال في ذلك :فإن هذا مما يجدد نشاط الجسم، ويعيد إليه قوته وحيويته. وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك: فقد دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَسْجِدَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ: [ مَا هَذَا الْحَبْلُ] قَالُوا هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجه والنسائي وأحمد .(/6)
11- الترفيه عن النفس بالمباحات، من مداعبة الأهل، أو ملاعبة الأولاد، أو القيام ببعض الرّحلات : فإن هذا مما يطرد السأم والملل، ويقضي على الفتور والكسل، بحيث يعود المسلم إلى ممارسة نشاطه وكأنما ولد من جديد، أو صار خلقا آخر .
فَعَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ- وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا تَقُولُ؟! قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَمَا ذَاكَ] قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ] رواه مسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد.
12- دوام النظر و المطالعة في كتب السيرة، والتاريخ والتراجم : فإنها مشحونة بكثير من أخبار العاملين المجاهدين، أصحاب العزائم القوية، والإرادات الصادقة، التي تسري عن النفس وتسليها، وتولد فيها حب الاقتداء والتأسّي، وصدق الله سبحانه:} لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ...[111] {[سورة يوسف] .
13- تذكر الموت وما بعده من سؤال القبر، وظلمته ووحشته والبعث والحشر... إلخ :
فإن هذا مما يوقظ النفس من نومها، ويوقظها من رقدتها، وينبهها من غفلتها، فتنشط وتتابع السير، وخير وسيلة لتذكر الموت الذهاب إلى القبور - ولو مرة في كل أسبوع - وزيارتها والاعتبار بأحوال أهلها، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّ فِيهَا عِبْرَةً...] رواه أحمد .
14- تذكر الجنة والنار وما فيهما من النعيم والعذاب : فإن ذلك مما يذهب النوم عن الجفون، ويحرك الهمم الساكنة والعزائم الفاترة، جاء عن هرم بن حيان أنه كان يخرج في بعض الليالي، وينادي بأعلى صوته:' عجبت من الجنة كيف ينام طالبها، وعجبت من النار كيف ينام هاربها، ثم يقول:
} أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ[97] { [سورة الأعراف] .
15- حضور مجالس العلم : إذ العلم حياة القلوب، وربما سمع العامل كلمة من عالم صادق مخلص، فنشطته سنة كاملة، بل الدهر كله، وصدق الله:} إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ[28] {[سورة فاطر] }...وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[114] {[سورة طه”].
16- أخذ هذا الدين بعمومه وشموله، دون التخلي عن شيء منه : فإن ذلك يضمن الدوام والاستمرار، حتى تنقضي الحياة، ونلقى الله.
17- محاسبة النفس، والتفتيش فيها دائما: فإن ذلك مما يبصر بالعيوب في بدايتها، فتسهل معالجتها:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[18] { [سورة الحشر] .
من كتاب:' آفات على الطريق' للدكتور/ السيد نوح(/7)
الفتوى بين التشدد والتساهل
محمد حسن يوسف
</TD
كثرت الفتاوى من حولنا، ودخل حلبتها كل من يريد سواء عن علم أو بجهل، وتعدد المفتون، حتى ليمكننا أن نسمي العصر الذي نعيش فيه الآن بعصر مهرجان الفتاوى. وأصبح للناس مواسم للفتاوى: ففي رمضان، تكثر الفتاوى عن الصوم والزكاة وزكاة رمضان، وفي أشهر الحج تكثر الفتاوى عن مناسك الحج والعمرة وآداب الزيارة، وفي بقية شهور العام تكون أسئلة الصلاة والطهارة هي المادة الرئيسية للفتاوى.
وكل هذه الأسئلة للأسف هي في مبادئ العبادات وأصولها، مما يدل على ضحالة علم المستفتين بالعلوم الشرعية. وحيث إن جميع هذه الأسئلة تدور حول العبادات، فإن النذر اليسير منها يتجه إلى المعاملات!! ونحاول هنا أن نرصد هذه الظاهرة، حتى يمكن أن نضع لها سبل العلاج الملائمة التي تقضي عليها وتمنع تفشيها.
مدخل لغوي:[1]
الفتوى لغة: اسم مصدر بمعنى الإفتاء، والجمع الفتاوى والفتاوي. يقال: أفتيته فَتْوى وفتيا، إذا أجبته عن مسألته. والفتيا: تبيين المشكل من الأحكام. وتفاتوا إلى فلان: تحاكموا إليه وارتفعوا إليه في الفتيا. والتفاتي: التخاصم. ويقال: أفتيت فلاناً رؤيا رآها، إذا عَبَرَتها له،[2] ومنه قوله تعالى حاكياً عن ملك مصر: ? يَا أَيُّهَا الْمََلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي ? ] يوسف: 43 [.
والاستفتاء لغة: طلب الجواب عن الأمر المشكل، ومنه قوله تعالى: ? وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ? ] الكهف: 22 [. وقد يكون بمعنى مجرد السؤال، ومنه قوله تعالى: ? فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا ? ] الصافات: 11 [، قال المفسرون: أي اسألهم.[3]
والفتوى في الاصطلاح: تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه،[4] وهذا يشمل السؤال في الوقائع وغيرها.
والمفتي لغة: اسم فاعل أفتى، فمن أفتى مرة فهو مفتٍ، ولكنه يحمل في العرف الشرعي بمعنى أخص من ذلك، قال الصيرفي: هذا الاسم موضوع لمن قام للناس بأمر دينهم، وعَلِم جُمَل عموم القرآن وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، وكذلك السنن والاستنباط، ولم يوضع لمن عَلِم مسألة وأدرك حقيقتها، فمن بَلَغ هذه المرتبة سمّوهُ بهذا الاسم، ومن استحقه أفتى فيما اُستفتي فيه.[5]
وقال الزركشي: المفتي من كان عالماً بجميع الأحكام الشرعية بالقوة القريبة من الفعل وهذا إن قلنا بعدم تجزؤ الاجتهاد.[6]
أسباب تراجع أثر الفتوى من النفوس:
كانت الناس فيما مضى تقيم وزنا كبيرا لعلمائها، وكان لآراء هؤلاء العلماء وزنا كبيرا في حياتهم. أما الآن فلم يعد لفتاوى العلماء تأثير كبير في نفوس الناس. ولا شك أن لضياع هيبة الفتوى من النفوس أسباب متعددة، نذكر منها:
@ ضياع الهيبة والنفوذ للشيوخ من نفوس الناس: وهذا العامل يعد في حد ذاته سببا ونتيجة في نفس الوقت. بمعنى أن ضياع الهيبة والنفوذ التي كان يحتلها الشيوخ من نفوس الناس قد أدى إلى عدم تمسك الناس بالفتاوى التي تصدر عن هؤلاء الشيوخ. كما أن عدم تمسك الناس بالفتاوى التي تصدر عن الشيوخ قد زاد من ضعف مكانة وتأثير الشيوخ في نفوس الناس. ويحكي لنا التاريخ عن المكانة السامقة التي كان يحتلها الشيوخ من نفوس العامة. ونذكر في هذا الصدد على سبيل المثال قصة سلطان العلماء: الشيخ العز بن عبد السلام. سار الشيخ إلى مصر فأكرمه ملكها، وولاه الخطابة والقضاء. وكان الحكم في مصر في ذلك الوقت للمماليك، فنظر الشيخ فرآهم لا يزالون في نظر الشرع عبيدا، لم يتحرروا هم، فضلا عن أن يحكموا الأحرار. فأعلن بوصفه القاضي، أنهم سيباعون بالمزاد العلني. وكان نائب السلطنة من المماليك، الذين حكم الشيخ ببيعهم!! وحسبوه يهزل، فإذا هو جاد. فشكوه إلى السلطان، فنهاه فلم ينته. فقال له السلطان كلمة فيها غلظة، فما كان من الشيخ إلا أن حمل أمتعته على حمار، وأركب أهله على حمار آخر. وخرج من مصر. فماذا حدث؟!! لقد صنع بفعلته هذه العجائب!! لقد خرج أهل مصر جميعا، بالضجيج والعويل، يسيرون خلفه. وارتجف البلد، وزلزلت مصر!! وأسرعوا إلى السلطان يقولون له: تدارك ملكك لئلا يذهب بذهاب الشيخ!! فلحقه فأرجعه وأجابه إلى طلبه.[7]
@ تضارب فتاوى المفتين: فتجد للموضوع الواحد أكثر من فتوى متعارضة، مما أضاع أثر الفتوى من النفوس. فقد يسأل أحد الأشخاص عن شيء ما، فيُفتي فيه برأي معين. فإذا ما بدأ في العمل به عن اقتناع، يفاجأ بعد حين بمن يتعجب من هذا العمل، بل ويأتيه برأي آخر قد يكون مضاد للرأي الذي بدأ في العمل به. ولذلك نجد هذا الشخص يتهاون بعد ذلك في السؤال عن أي شيء، أو يعمل بأيسر الآراء دون مراجعة أيٍ من المفتين.(/1)
@ خروج التقدم الإنتاجي والتقني من يد المسلمين: كان المسلمون أصحاب حضارة، وكان التقدم الإنتاجي في أيديهم. فلم يكن العرب يقومون بإنتاج أي شيء إلا لما يوافق الشرع. ثم حدثت الانتكاسة التي للأسف خرج بموجبها المسلمون من الحضارة ومن التاريخ!! وانتقلت الحضارة إلى يد الغرب، فأصبح الغرب ينتج ما هو حلال وما هو حرام، وأصبح علينا ملاحقة هذا الإنتاج المادي بالفتاوى. وبالطبع ضاعت هيبة الفتوى أمام بريق المنتج الجديد وإغرائه.
@ التصدي للفتوى ممن ليس بأهل لها: فإذا كان المريض بالقلب يتخير أفضل الأطباء في هذا التخصص، ولا يلجأ لتخصص آخر كالمخ مثلا، فلماذا يقول بالفتوى كل من هب ودب؟ وللأسف فقد أصبح للإعلام من صحافة وقنوات فضائية سطوة كبيرة في توجيه رأي الناس إلى ما تريده، بغض النظر عن الرأي الصحيح للشرع. كما أصبح لبعض الإعلاميين فتاوى كثيرة في موضوعات شتى، بغض النظر عن خلفيتهم الشرعية!!
@ الهزيمة النفسية للمفتين: وهذا عامل في غاية الخطورة. فمعظم المفتين أمام ضغط العوامل السياسية التي تمر بها الأمة الإسلامية، وكثرة دعاوى المستشرقين المغرضة وطعونهم في الإسلام، ومحاولة منهم لكي يبرروا للناس الواقع الذي يعيشون فيه، تجدهم أمام هذه الضغوط يتهاونون في أمر الدين، ويحاولون إضفاء صفات ومعاملات وأحوال جديدة عليه لكي يبرهنون على أنه دين متطور ومناسب لهذا العصر.
الإفتاء بين تهيب السلف وتجرؤ الخلف:
الذي ينبغي للعالم أن يكون متهيباً للإفتاء، لا يتجرأ عليه إلا حيث يكون الحكم جليا في الكتاب أو السنة، أو يكون مجمعا عليه. أما فيما عدا ذلك مما تعارضت فيه الأقوال والوجوه وخفي حكمه، فعليه أن يتثبت ويتريث حتى يتضح له وجه الجواب، فإن لم يتضح له توقف.
أما الإفتاء بغير علم فهو حرام ومن الكبائر، لأنه يتضمن الكذب على الله تعالى ورسوله، ويتضمن إضلال الناس. قال تعالى: ? قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَاْلإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا َلا تَعْلَمُونَ ? ] الأعراف: 33 [، فقرن سبحانه وتعالى القول على الله بغير علم بالفواحش والبغي والشرك. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً، ينتزعه من العباد. ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضّلوا وأضلوا.[8]
من أجل ذلك كثر النقل عن السلف أنهم كانوا إذا سئل أحدهم عما لا يعلم أن يقول للسائل: لا أدري، على ما سنرى. وينبغي للمفتي أن يستعمل ذلك في موضعه ويعوّد نفسه عليه. ثم يجب عليه أن يعلم يقينا أنه إذا فعل المستفتي بناء على الفتوى أمراً محرّماً أو أدّى العبادة المفروضة على وجه فاسد، حمل المفتي بغير علم إثمه، إن لم يكن المستفتي قصّر في البحث عمن هو أهل للفتيا، وإلا فالإثم عليهما، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أُفتي بغير علم، كان إثمه على من أفتاه.[9] ومن هنا فلا مجال للمستفتي للتعلق بمقولة: " علقّها في رقبة عالم " التي شاعت وراجت بين العامة. فيظن المستفتي أنه قد نجا بسؤاله للمفتي وتحليل الأخير أو تحريمه للمسألة.
ولذلك قال العلامة ابن القيم: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى، فهو آثم عاص، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضا. قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم! وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟!![10]
قال العلامة ابن جماعة في كتابه العظيم الماتع " تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم ": وإذا سئل – أي العالم – عن ما لم يعلمه قال: لا أعلمه، أو لا أدري، فمن العلم أن يقول: لا أعلم. وعن بعضهم: لا أدري نصف العلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا أغفل العالم " لا أدري " أصيبت مقاتله. وقيل: ينبغي للعالم أن يورث أصحابه لا أدري لكثرة ما يقولها. قال محمد بن عبد الحكم: سألت الشافعي رضي الله عنه عن المتعة أكان فيها طلاق أو ميراث أو نفقة تجب أو شهادة؟ فقال: والله ما ندري.[11]
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول. وفي رواية: ما منهم من يحدّث بحديث إلاَّ ودّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يُستفتى عن شيء إلاَّ ودّ أن أخاه كفاه الفتيا.[12](/2)
وقال عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه: إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون.[13] وقال محمد بن المنكدر: العالم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم.[14] وقال سفيان: أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا، حتى لا يجدوا بدا من أن يفتوا. وقال: أعلم الناس بالفتيا أسكتهم عنها، واجهلهم بها أنطقهم فيها.[15]
ونُقل عن سفيان وسحنون: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً. وعن الشافعي وقد سئل عن مسألة فلم يجب، فقيل له، فقال: حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب. وعن الأثرم قال: سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول: لا أدري. وعن الهيثم بن جميل: شهدت مالكا سُئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري. وقد نُقل عن الإمام مالك أيضا أنه ربما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها، وكان يقول: من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف خلاصه، ثم يجيب. وسئل عن مسألة، فقال: لا أدري. فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة! فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف.[16]
وقال الشافعي: ما رأيت أحدا جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة، أسكت منه عن الفتيا. وقال أبو حنيفة: لولا الفَرَق من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت، يكون لهم المهنأ وعليّ الوزر.[17] وسئل محمد بن القاسم عن شيء، فقال: إني لا أحسنه. فقال له السائل: إني جئتك لا أعرف غيرك. فقال له القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه! فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها! فوالله ما رأيناك في مجلس أنبل منك اليوم!! فقال القاسم: والله لأن يُقطع لساني أحب إليّ من أن أتكلم بما لا علم لي به.[18] وأقوالهم في هذا كثيرة معروفة.
وقد رأى رجل ربيعة بن أبي عبد الرحمن يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: اُستفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم. ثم قال: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السُراق. قال بعض العلماء: فكيف لو رأى ربيعة زماننا، وإقدام من علم عنده على الفتيا، وتوثبه عليها، ومد باع التكلف إليها، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب، ولا يبدي جوابا بإحسان.[19]
وقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه بسنده عن محمد بن سيرين، قال: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم.[20] وقيل: لا تأخذ القرآن من مصحفي، ولا تأخذ العلم من صُحفي.[21]
تتبُّع الرخص:
ذهب عامة العلماء إلى أنه ليس للمفتي تتبع رخص المذاهب، بأن يبحث عن الأسهل من القولين أو الوجهين ويفتي به. ذلك أن الراجح في نظر المفتي هو في ظنه حكم اللّه تعالى، فتركه والأخذ بغيره لمجرد اليسر والسهولة استهانة بالدين، شبيه بالانسلاخ منه، ولأنه شبيه برفع التكليف بالكلية. إذ الأصل أن في التكليف نوعاً من المشقة، فإن أخذ في كل مسألة بالأخف لمجرد كونه أخف، فإنه ما شاء أن يسقط تكليفاً ـ من غير ما فيه إجماع ـ إلا أسقطه. وإن أفتى كل أحد بما يشتهي انخرم قانون السياسة الشرعية، الذي يقوم على العدالة والتسوية، وهذا يؤدي إلى الفوضى والمظالم وتضييع الحقوق بين الناس.
قال الإمام أحمد رضي الله عنه: لو أن رجلاً عمل بكل رخصة: يعمل بمذهب أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع ( يعني الغناء )، وأهل مكة في المتعة، لكان فاسقاً.[22] وقال الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام.[23] وقال سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم، أو قال: زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله.[24]
قال ابن سريج: سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول: دخلت على المعتضد، فدفع إليّ كتاباً نظرت فيه وكان قد جمع فيه الرخص من زَلَلِ العلماء، وما احتج به كل منهم لنفسه، فقلت له: يا أمير المؤمنين! مؤلف هذا الكتاب زنديق، فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه. فأمر المعتضد فأحرق ذلك الكتاب.[25](/3)
هذه الأقوال تعني كذلك أن العامي المقلد، أي الذي ليس لديه علم شرعي ويقلد مذهب مفتيه، يمكن أن يتخذ شيخا واحدا له يفتيه في كل أموره وشئونه. ذلك أن تتبع المفتين والعمل برخصهم سيفضي بالمستفتي إلى الخروج من ملة الإسلام، كما حذر هؤلاء الأفذاذ. وهذا ما نشاهده واضحا جليا في حياتنا المعاصرة. فمع قلة عدد المتفرغين لتلقي العلم الشرعي، وضحالة هذا العلم أساسا، اعتمد معظم الناس في أمور دينهم على استفتاء بعض الأفراد. ونتج عن هذا انتشار الآراء الضعيفة في المذاهب الفقهية بين الناس. كما أصبحت فتاوى الدين تأتي ممن ليس لهم أدنى علم بأمور الشرع، بل كان لمناصبهم أكبر الأثر في انتشار آرائهم، كأن يكونوا رؤساء لتحرير الصحف والمجلات أو محررين فيها أو مذيعين في الفضائيات.
على أن الذاهبين إلى هذا القول لم يمنعوا الإفتاء بما فيه ترخيص إن كان له مستند صحيح. قال ابن القيم: لا يجوز للمفتي ... تتبع الرخص لمن أراد نفعه ... فإن حسن قصده في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخليص المستفتي بها من حرج جاز ذلك، بل استُحبّ، وقد أرشد الله نبيه أيوب عليه السلام إلى التخلص من الحنث: بأن يأخذ بيده ضغثاً فيضرب به المرأة ضربة واحدة ... فأحسن المخارج ما خلص من المآثم، وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم.[26]
تشدد المفتي وتساهله:
قال النووي: يحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به حرم استفتاؤه. فمن التساهل ألا يتثبت، ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر. فإن تقدمت معرفته بالمسئول عنه فلا بأس بالمبادرة، وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة. ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة، والتمسك بالشبه طلبا للترخيص لمن يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره. وأما من صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها، لتخليص من ورطة يمين ونحوها، فذلك حسن جميل. وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا، كقول سفيان: إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد.[27]
قال الشاطبي: المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يَحمِل الناس على الوسط المعهود فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال. والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة ... بلا إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين ... وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم ( على عثمان بن مظعون رضي اللّه عنه ) التبتل.[28] وقال لمعاذ رضي اللّه عنه لما أطال بالناس الصلاة: أفتّان أنت يا معاذ؟[29] ... ورد عليهم الوصال، وكثير من هذا ... ولأنه إذا ذهب بالمستفتي مذهب العنت والحرج بُغّض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة ... وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة.[30]
اطمئنان قلب المستفتي قبل العمل بالفتوى:
قال ابن القيم: لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله ... ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: من قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو فليتركها.[31] والمفتي والقاضي في هذا سواء، ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه ... سواء تردّد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي، أو محاباته في فتواه، أو عدم تقييده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرُّخص المخالفة للسُّنة، أو غير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه وسكون النفس إليها. فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي، يسأل ثانياً وثالثاً حتى تحصل له الطمأنينة، فإن لم يجد فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة.[32]
سبل العلاج
نستعرض فيما يلي أهم سبل العلاج:
1- إبعاد مجامع البحوث الفقهية عن السيطرة الحكومية، بحيث يُترك أمر انتخاب أعضائها إلى العلماء الذين يختارون أفضلهم وأعلمهم وأورعهم. ثم التزام جميع المفتين بما يصدر عن هذه المجالس الفقهية من فتاوى والتقيد بها. ولنا في السلف الصالح أسوة، حيث جاء في ترجمة سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب – أحد فقهاء المدينة السبعة رحمه الله تعالى – أن ابن المبارك قال: كانوا إذا جاءتهم المسألة دخلوا فيها جميعا فنظروا فيها، ولا يقضي القاضي حتى يرفع إليهم، فينظرون فيها، فيصدرون.[33] لذا يحسن إصدار فتاوى جماعية في النوازل التي تحدث للأمة، وهي للأسف كثيرة في عصرنا هذا، فيكون الناس على بينة من أمرهم.(/4)
2- كثرة القراءة في تراجم المفتين، وكثرة الإطلاع على أخبار المستفتين، ومعرفة كيف كان ورعهم وتقواهم في أمور الدين. وهذه الأخبار مبسوطة في كتب أصول الفقه في مباحث الاجتهاد والتقليد، وكتب آداب الفتوى، وكتب آداب طلب العلم، وبعض الكتب الفقهية في كتب القضاء فيها.
3- تخلي المفتين عن حب الظهور فإنها مهلكة، والتجرد لله تعالى فيما يصدر عنهم من فتاوى، ومعرفة أنهم بمثابة موقعين عن الله تعالى إلى خلقه، فليخشوا الله وليتقوه، وليعلموا أنهم موقفون بين يديه سبحانه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، فليقدروا لهذا اليوم قدره.
4- العمل على نشر العلم الشرعي بين أفراد الأمة، وتشجيع الناس على تلقي هذه العلوم، وتبصير الناس بأهميتها، حتى لا تقع الناس فريسة لمن يتلاعبون بالدين، وتستطيع أن توقفهم عند حدودهم.
5- تيقن أن هذا العلم دين، فليس معنى إحاطة أصحاب العلوم التجريبية ببعض العلوم الشرعية أو نبوغهم في مجالهم أن هذا يعطيهم الحق للتصدي للإفتاء بين الناس. وبحسب أصحاب العلوم التجريبية النبوغ في تخصصاتهم والإبداع فيها والاشتهار بذلك، لكي يفيدون الأمة الإسلامية التي هي أحوج ما تكون إليهم في هذه التخصصات.
26 من ربيع الثاني عام 1426 من الهجرة ( الموافق في تقويم النصارى 3 من يونيو عام 2005 ).
--------------------------------
الهوامش :
[1] وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت، الإدارة العامة للإفتاء والبحوث الشرعية، مجموعة الفتاوى الشرعية، ( 1397 ـ 1405هـ )، الجزء الأول.
[2] لسان العرب والقاموس المحيط.
[3] تفسير القرطبي، وتفسير ابن كثير.
[4] شرح المنتهى، 3/456؛ وابن حمدان، صفة الفتوى والمستفتي، ص 4.
[5] بدر الدين الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، 6/305.
[6] البحر المحيط، 6/306.
[7] بتصرف من: علي الطنطاوي، رجال من التاريخ، ص ص: 252-253.
[8] متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان، 1712.
[9] حسن. صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني: 6068.
[10] ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، 4/199-200.
[11] بدر الدين محمد بن جماعة، تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، ص: 49.
[12] الإمام النووي، المجموع شرح المهذب، 1/72-73؛ ومحمد بن مفلح المقدسي، الآداب الشرعية، 2/158.
[13] الآداب الشرعية، 2/155.
[14] الآداب الشرعية، 2/159.
[15] الآداب الشرعية، 2/160.
[16] المجموع شرح المهذب، 1/73.
[17] المجموع شرح المهذب، 1/73. والفَرَق: الخوف.
[18] إعلام الموقعين عن رب العالمين، 4/201.
[19] إعلام الموقعين عن رب العالمين، 4/190.
[20] صحيح مسلم بشرح النووي، 1/119.
[21] أي من لا يتلقى العلم الشرعي عن طريق الشيوخ، وإنما عن طريق الكتب ( أي: الصحف ).
[22] العلامة الشيخ محمد السفاريني، لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية، 2/466.
[23] السنن الكبرى للبيهقي، 10 : 356، [ ح: 20918 ].
[24] لوامع الأنوار البهية، 2/466.
[25] السنن الكبرى للبيهقي، 10 : 356-357، [ ح: 20921 ].
[26] إعلام الموقعين عن رب العالمين، 4/205.
[27] المجموع شرح المهذب، 1/79-80.
[28] متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان، 886. من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[29] متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان، 266. من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
[30] أبي إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، 4/607-608.
[31] متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان، 1114. من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
[32] إعلام الموقعين عن رب العالمين، 4/236-237.
[33] عبد الله بكر أبو زيد، التعالم وأثره على الفكر والكتاب، 50.(/5)
الفتوى في الحج والاجتهاد الفردي
د. فهد بن سعد الجهني(*) 27/1/1425
18/03/2004
إن "الحج" من شعائر الله العظمى التي أمر الله بتعظيمها، وإن من تعظيمها -والله أعلم- بيان أحكامه للناس، وتبصير الأمة بسنة نبيهم وإمامهم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وليس هناك شعيرة تجمع المسلمين في مكان واحد وزمان واحد -بل وتلزمهم بذلك - مثل الحج، لذلك والله تعالى أعلم ختم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه شعائر الدين العظمى بالحج، ختم به وختم فيه، ختم به: بأن كان آخر الشعائر والأركان التي يبينها للناس عمليا "لتأخذوا مناسككم" مسلم (1297)، وختم فيه: بأن جمع له الناس من كل مكان في المدينة ومن حولها من هجر الإسلام وقراه، حتى بلغوا مائة ألف أو يزيدون!! فخطبهم في مواضع متعددة وسمع الناس صوته على كثرتهم حتى سمعه أهل البيوت في بيوتهم! ولا عجب فهو نبي الله!! لذلك – والله أعلم- لما فرض الحج عليه في السنة التاسعة لم يحج إلا في العاشرة تحصيلاً لمصلحة اجتماع الناس ليسمعوا منه قواعد الدين وأحكام الإسلام وليأخذوا عنه مناسكهم ،وأمرٌ آخر عظيم وجليل أن يتحصل لكثيرٍ منهم فضل وشرف الصحبة!! وأعظم به من شرف وفضل ،وهو فضل الله يؤتيه من يشاء.
لذلك أقول: أن الحج ومناسكه ومسائله مما يتعلق بمجموع الأمة وأفرادها، ولا يختص به أحدٌ دون أحد، وقد كثر الحديث بل ويتكرر في كل موسم عن الكثير من مسائل الحج، ومع مجالسة الناس ومخالطتهم بمختلف تخصصاتهم ومشاربهم ومستوياتهم العلمية والاجتماعية تسمع آراء كثيرة، تصدر من توجهات ومنازع مختلفة منها الغث ومن السمين ومنها المتشدد ومنها المتساهل ومنها ما يستحق الوقوف والتأمل ومنها ما يستوجب البيان والنصح ،ولكل وجهة ومع كل -فيما يظن - دليل، والصد عن هذا كله من قبل المعنيين على مختلف مستوى المسؤلية (الشرعية والرسمية) مما لا ينبغي؟ بل لا يجوز لأن الأمر يتعلق بشعائر الله ودينه، ومن خلال استقراء – غير تام وهو محقق لغلبة الظن – لكثير من هذه الأراء أستطيع إلى حدٍ ما تلخيصها أو تقسيمها وباعتبارات مختلفة إلى عدد من الأقسام المعينة على ضبط الموضوع بحول الله وما توفيقي إلا به:
أولاً: من حيث نظرة المختصين الشرعيين وغيرهم إلى مسائل الحج من خلال النظر الفقهي وجانب الفتوى فهي على ثلاث توجهات في الجملة:
التوجه الأول: الذي ينظر إلى جانب الأدلة والنصوص ويغلب جانب الاحتياط، وينصح باتباع سنة النبي – صلى الله عليه وسلم - في الحج كما جاءت، ولا يترخص إلا في ما ورد فيه نص، ولا يتعدى بالرخصة مواضعها،بمعنى أنه لا يعمل القياس أو يعمم مناط الترخص ليشمل شريحةً أكبر من المكلفين.
التوجه الثاني: من يغلب جانب النظر إلى مقاصد الشريعة والقواعد العامة في الفقه الإسلامي من حيث نظرتها لرفع الحرج ودفع الضرر والتيسير ،ويحكم على النصوص من خلال هذه النظرة العامة.
التوجه الثالث: من يعمل الأمرين معا: النظر الفاحص في النصوص الواردة في المناسك ،مع عدم عزلها عن مقاصد الشرع وقواعده العامة ،والاجتهاد في تلمس مناط الحكم بدقة وحسن تصور.
ولاشك أن الوسط بين الطرفين هو المطلوب، وهو الجادة التي ينبغي العض عليها، فالنظرة الأولى فيها احتياط وحملٌ للناس على الأكمل والأفضل ولا شك، ولكن نحن نتحدث اليوم في واقعٍ مختلف ،وظروف تفرض نفسها، ومن عايش مناسك الحج فعلياً واختلط بالضعفاء وكبار السن والجهلة وأهل الآفاق البعيدة، علم مدى الصعوبة في حمل هؤلاء ومن ارتبط بهم ممن ليس في حكمهم حقيقة ولكنه لا يستطيع أن ينفك عنهم أو يتركهم، على التقيد بالسنة كما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفتوى لابد لها – كما قرر أهل الاختصاص – من مقدمتين لازمتين: العلم بالواقع من خلال المشاهدة والمعايشة وسؤال أهل الشأن والجلوس معهم، ومن ثم العلم بما يجب شرعاً في هذا الواقع، عندها فقط تنزل الفتوى منزلتها الصحيحة وتقترب بإذن الله من إصابة الحق ونفع الخلق، مما لا يؤدي بهم إلى الحرج والضيق، والمشقة تجلب التيسير.(/1)
أما التوجه الثاني فهو مع وجاهته إلا أن الحديث عن مقاصد الشريعة وقواعدها العامة وطلب أن تصدر الفتوى أو أن يوجه الناس بناءً على هذا التصور، مهيع واسع ومظنة التخليط وعدم الدقة ، ويحتاج فيه الأمر إلى نوعية متميزة من أهل العلم المختصين الذين وهبهم الله ملكة الاستناط وحسن التصور وكثرة النظر والبحث في مقاصد الشارع، وسبر العلل، ومعرفة شروط القياس وضوابطه، مع دراية كافية بالنصوص من الكتاب والسنة وفتاوى الصحابة وعلماء الأمة، وهذا ليس لأي أحدٍ أن يخوض فيه، سواء كان من طلاب العلم أو غيرهم ممن لا يحسنه وليس من أهله!! ويجب مع ذلك كله لكل فقيه أو مفت أن يضع مقاصد الشارع نصب عينيه لتضيء له الطريق، وتضبط له المسائل وتقربه من الحق والعدل، فهذه المقاصد والمصالح المعتبرة بمثابة المحكمات التي ترد إليها المتشابهات والكليات التي ترد إليها الجزئيات.
ومن هنا يعرف التوجه والنظرة الصحيحة للمسائل الفقهية في الحج وغيره، والتي تتلخص في تعظيم النصوص الشرعية وعدم عزلها عن مقاصدها العامة وفق المنهج العلمي الدقيق الذي توافر على وضعه وسبره علماء الملة الراسخين في العلم الذين أفنوا أعمارهم في طلبه من أصوليين وفقهاء وغيرهم رحم الله الجميع.
وأما التقسيم الثاني للآراء باعتبار نظرة البعض لجهة الفتوى ومصدرها بالضم أو الفتح !
وهم على ضربين:
الضرب الأول : من يرى-وهم قلة فيما أحسب- الإكتفاء بفتاوى علماء البلد الذي تقام الشعائر على أرضه، سواء كانت الفتوى بالمذهب السائد أو بالاجتهاد.
الضرب الثاني: وهم الكثرة يرى أن الحج شعيرة تهم المسلمين عموماً، ومتعلقة بهم جميعاً، وأنه ليس من الصحيح علمياً ولا شرعياً أن يستقل بهذه الأمور التي تعم بها البلوى علماء بلدٍ معين مهما أوتوا من علم وفضل ودراية.
وهذا هو الحق بلا ريب، لعدة أمور منها ماهو ظاهر ومنها ما هو أقل ظهوراً، ومن ذلك: أن العلم ليس له بلد أو نسب ،بل هو فضل الله يؤتيه من يشاء،ومن تأهل للنظر والبحث أو وصل مرتبة الفتوى وحصل القدر الكافي من شروطها واتقى الله عز وجل، فهو من أهل الذكر الذين أمرنا الله بسؤالهم!
كذلك فإن الفتوى الفردية في الأمور الكلية وما يعم به البلوى، غير صحيح أيضاً، وهو مظنة للخطأ ومثار للنزاع والاختلاف، وتشتيت للناس.
لهذا أقول وأسجل هذا الاقتراح لعله يجد القبول والحظ من النظر والتأمل من قبل المختصين والمعنيين على كافة المستويات :ويتلخص في (إنشاء هيئة شرعية مختصة بكل ما يتعلق بمسائل الحج وفتاويه) وتكون.
1. هيئةً عالمية موسعة ينتخب في عضويتها علماء من بلدان مختلفة، لتتمثل فيها المذاهب الفقهية الأربعة.
2. يختار لعضويتها المؤهلين من العلماء وأساتذة الجامعات المعروفين بالبحث والتدقيق والنصح للأمة.
3. من الممكن اقتراح أن تنبثق هذه الهيئة عن مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة،توحيداً للجهود وتوفيراً للوقت.
4. ضمن آلية معينة :تفتح هذه الهيئة جسور التعاون المستمر والمنظم، مع الجهات المعنية بأمور الحج، حتى تتحق المقدمة الأولى التي سبق ذكرها "العلم بالواقع" ومن أبرز هذه الجهات: الجهات الأمنية ، ومعهد خادم الحرمين لأبحاث الحج، وهذا المعهد على وجه الخصوص ومن خلال مشاهدة مباشرة ،فيه من البحوث والدراسات الشيء العظيم والتي توافرت عليها نخبة متميزة من الباحثين الجادين، وصرفت عليها أموال طائلة، فهذه البحوث وهؤلاء الباحثين خير معين لأهل الفتوى والاجتهاد على تلمس الحكم الصحيح والمناسب لظروف المكان والزمان بحول الله. ومن غير المعقول أن تكون هذه البحوث حبيسة الأدراج وفي معزلٍ عن تنزيلها على أرض الواقع، بل إن الاستفادة منها مطلب ملح وأمر متعين لا ينبغي تجاهله أو التقليل من أهميته.
5. بعد الدراسة والتمحيص الذي يقتضيه النظر الفقهي في مثل هذه الأمور العامة والكلية تصدر الفتوى وتعلن على عموم المسلمين ،وتبلغ بها بعثات الحج، حتى يحصل البيان وتقوم الحجة.
المصالح المترتبة على هذا الإقتراح:
أولاً: أنه من باب البيان الذي أمر به القادرون ،وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ثانياً: أن في تشكيل هذه الهيئة تضييق لدائرة الاختلاف،وجمع لكلمة الأمة،وكون الفتوى تصدر بصورةٍ جماعية ومن هيئة تمثل فقهاء الأمة فهي أدعى للقبول، وفيه قطع لتذرع البعض من أنه لايقتنع بالفتوى الآحادية !! وكأن الحق يعرف بكثرة القائلين!! وإنما يعرف الحق بعرضه على الكتاب والسنة ،ولكن صدور الفتوى العامة من هيئة يشارك فيها قدر كبير من المتخصصين أدعى للقبول وأقوى في الحجة والله
أعلم.
ثالثاً: أن تخصيص هذه الهيئة بمسائل الحج والمناسك ،يعطي المشاركين قدراً أكبر من التركيز والبحث والتأمل، والسماع من أهل الخبرة والاختصاص في أمور الحج. وكما تنشئ الدولة مشكورة لجانا وهيئات مستقلة تتخصص في أمور معينة، فإن أحكام المناسك هي قطب الرحى الذي تدور حوله كل هذه الجهود.(/2)
وإن هناك العديد من المسائل الفقهية ما زالت معلقة ،أو يفتي فيها بصورة فردية، والناس بحاجةٍ ماسة لبيان القول الصحيح فيها.
رابعاً: ضبط الفتوى من الأمور المهمة،والفقه الرخصة من ثقة، فإعمال المقاصد والنظر في المصلحة أو الضرورة أو رفع الحرج كل ذلك قواعد شرعية علمية دقيقة لا يحسنها كل أحد وليست من السطحية بالقدر التي يظنه البعض ،ومن تعلم عرف! وإني مع كثرة ما أسمع من الحديث حول هذه القواعد ووجوب الفتوى من خلالها أصبحت أخشى أن يأتي على الناس يوم يحجون فيه وقد إندثرت بينهم سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وكأنه لم يقل لأمته في كل زمان" لتأخذوا مناسككم" (سبق تخريجه)!! وأخشى أن يأتي يوم يتجاوز فيه النقاش السنن والواجبات إلى الأركان!!
لذلك فإن الفقهاء لابد أن يتدخلوا ويجتمعوا ويبينوا للناس، ولا يكفي موقف النقد والحوقلة والاستغراب! فهي لا تحل إشكالاً ولا تنفع سائلاً يريد أن يكون حجه مبروراً لأنه يريد وعد الله : جنة عرضها السماوات والأرض!!
ختاماً أقول –والله المعين- :إن الله تعالى أمر عباده بالحج، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم - حج في مائة ألف، وقال: "لتأخذوا مناسككم" وهو أمر والأمر عند الجمهور يقتضي الوجوب إلا بقرينةٍ تصرفه، وفي رأيي –المتواضع- أن مسائل الحج تدور حول هذا الأصل، وقد اختلف الأصوليون قديماً في مسألة "البيان بالفعل المجرد عن القرينة" على ما ذا يحمل على الأمر أو غيره؟ كذلك القياس في الرخص الواردة في النصوص يحتاج إلى تحرير وضبط لمناط الحكم، حتى لا نرخص على الحاج ما لا يجوز الترخص فيه، أو نلزمه بما لا يلزم ثم نفتيه بإراقة الدماء!! وقد تحدث الأصوليون قديماً في آداب وشروط الفتوى ومنها: مسألة"ضمان المفتي" إذا غرم المستفتي مالاً بغير دليل أو استفراغ الوسع في الاجتهاد، هل يضمن أم لا؟ قال اللقاني المالكي في "منار أصول الفتوى"ص295(قال علماؤنا:من أفتى رجلاً فأتلف بفتواه مالاً،فإن كان مجتهداً فلا شيء عليه، وإلا فقال المازري، يضمن ما تلف بسبب فتواه..)، وإيجاب ما لم يجب على العباد كتحريم ما لم يحرم، بل قد يكون أشد! لإشغال ذمة العبد بما لم يوجبه الله عليه بغير دليلٍ بين.
فهذه دعوة لدراسة هذا الاقتراح من قبل الإخوة المختصين وطلبة العلم، لعل الله ينفع بما قلت،وما توفيقي إلا بالله، ولكن لا يظن ظان أن ما يحتاجه موسم الحج من حلول لبعض القضايا متوقف على الفتوى الشرعية فقط! فهناك أمور أخرى مساندة ومساعدة كثيرة تعنى بها جهات أخرى كثيرة، ولله الحمد فإن جهود الدولة جبارة في هذا المجال ولا ينكرها إلا جاحد أو غير منصف، ولكن هذا لا يمنع من المشورة أولاً ثم إعطاء كل رأي جيد حقه من التقدير والنظر ،لنصل بحول الله إلى ما يحقق أكبر قدرٍ من النجاح الذي ينعكس أثره الحميد على حجاج بيت الله ويعينهم على طاعة ربهم، وتحقيق الحج المبرور بإذن الله.
أستاذ أصول الفقه بجامعة أم القرى ووكيل عمادة شؤون الطلاب بالطائف(/3)
الفتوى والاستفتاء في البَرَامِجِ الإعلامية المُبَاشِرَةِ
فريد بن عبد العزيز الزامل السُّليم جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية/فرع القصيم 6/1/1424
09/03/2003
إن الله تعالى أمر العباد بطاعته وعبادته فيما شرع لهم ، وأمرهم أن يتعلموا ما تستقيم به عبادتهم ، متابعين سنة نبيهم محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وقد جعل بعض العلم فرضًا عينيًا ، يجب على كل فرد ، وهو ما يحتاجه في تأدية عبادته الواجبة .
والفتوى من أهم سبل التعلم ، إذ إن جميع فئات المجتمع المسلم تشترك في اتخاذها سبيلاً له ، فإن الفتوى مشروعة للعامي ، وطالب العلم الصغير والمتوسط ، والعالم المقلد ، وهذه الأصناف تشكل غالب المجتمع ، أما العلماء المجتهدون فقد نُصَّ على عدم جواز تقليدهم مع علمهم بالأدلة (1) .
ولهذه المكانة التي تبوأتها الفتوى عُنيَ بها العلماء عناية عظيمة ، فبحثوا مسائلها في أبواب أصول الفقه ، كما صنفوا فيها التصانيف المختلفة ، المطولة والمختصرة .
ولهذه الأهمية العظمى ، وشديد التصاقها في حياة الناس خصص لها في الوقت الحاضر برامج خاصة في قنوات الأعلام المختلفة ، المقروءة والمسموعة والمرئية ، وقد اختلفت مناهج تلك البرامج اختلافًا ظاهرًا ، مما أوجد لكل منهج سلبيات وإيجابيات ، كما أحدث تفاعلاً متفاوتًا من الجماهير ، محمود وغير محمود ، سأحاول في هذه الصفحات –بإذن الله تعالى- عرض ذلك ، منظرًا ومناقشًا.
- برامج الفتوى :
برامج الفتوى في الإعلام المعاصر تظهر في نوعين من الإخراج :
الأول :برامج الفتوى المسجلة : تستقبل هذه البرامج أسئلة الجمهور قبل بث الحلقة ، وتعرض على المفتي ، يتفحصها ويعد الإجابات والتوجيهات ، ثم تعرض الحلقة على شكل أسئلة وأجوبة ، يلقيها المفتي أو تلقى عليه الأسئلة ويتولى هو الإجابة .
ويتسم هذا الشكل بميزات عديدة ، من أهمها عدم ارتجالية المفتي التي قد تؤدي إلى الغلط . وهذا النوع ليس موضع الحديث .
الثاني : البرامج المباشرة ، التي يلقى فيها السؤال على المفتي أثناء عرض الحلقة ، ويتولى الإجابة على الفور . وهذا موضع حديثنا ..
- برامج الفتوى المباشرة :
والواقع أن هذا الشكل من برامج الفتاوى هو صاحب القدح المعلى في الفترة الأخيرة .. لكثرة القنوات الفضائية التي تتسابق لكسب أكبر عدد ممكن من المشاهدين ، مع كونها تتحرك في حرية تامة أو شبه تامة فيما تبث ، فهذا الشكل هو الأوسع انتشارًا ، والأكثر قبولاً ، لما فيه من ميزات كثيرة ، فهو يستجيب لداعي العجلة المغروس في كل فرد .. ويكفي المستفتي عناء الانتظار والارتقاب لحين عرض مسألته في البرامج المسجلة ، كما أن المستفتي يختار بنفسه العالم الذي يطرح عليه أسئلته ، وهذا يتخلف في البرامج التي تعرض الأسئلة فيها على أكثر من عالم .
ولهذه البرامج صورتان تقدم فيهما الأسئلة ، الأولى : أن يستقبل مقدم البرنامج مجموعة من الأسئلة ، ثم يعرضها على العالم بعد ذلك واحدًا واحدًا ، والثانية : أن يستقبل المعد كل سؤال على حدة ، ويعرضه على العالم مباشرة ، وربما حاور العالم السائل ، ولكل من الصورتين محاسن ومساوئ ، أعرضه لها فيما بعد إن شاء الله تعالى .
- مع اختلاف الفقهاء :
لكل عالم مذهب معين ينتمي إليه ، كما أن له اجتهادات خاصة يفتي فيها بما ترجح عنده من الأدلة ، لهذا يحدث الاختلاف بين المذاهب ، كما يحدث بين أقوال العلماء الخاصة المبنية على اجتهاداتهم . وكل بلد من البلدان الإسلامية يعتمد مذهبًا تعمل فيه مؤسساته الشرعية على اختلافها ، ويفتي فيه علماؤه ، أو يكون منطلقًا لاجتهاداتهم الشخصية ، وعلى ذلك انبنت أعراف وتقاليد تلك البلدان ، وعلى تلك الفتاوى سار أبناؤها ، وتوارثوا عاداتهم جيلاً بعد جيل ..(/1)
وكان الإفتاء بغير المذهب السائد يعد أمرًا غير مرغوب فيه ، ويفضي إلى النزاع والاختلاف والتفرق ، ولذا أشار إليه العلماء المتقدمون ، وبينوا خطره وما يحدثه ، قال الشاطبي رحمه الله ، في معرِض حديثه عما في تتبع رخص المذاهب من المفاسد ( أنه يفضي إلى ترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم ؛ لأن المذاهب الخارجة عن مذهب مالك في هذه الأمصار مجهولة ) "(2). وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي عليه رحمة الله في رسالته عن حكم شرب الدخان : (( والعوام تبع للعلماء ، فلا يسوغ ولا يحل للعوام أن يتبعوا الهوى ويتأولوا ، ويتعللوا أنه يوجد من علماء الأمصار من يحلله (يعني الدخان) فإن هذا التأويل من العوام لا يحل باتفاق العلماء ، فإن العوام تبع لعلمائهم ليسوا مستقلين ، وليس لهم أن يخرجوا عن أقوال علمائهم .. وما نظير هذا التأويل الفاسد الجاري على ألسنة بعض العوام اتباعًا للهوى لا اتباعًا للحق والهدى إلا كما لو قال بعضهم يوجد بعض علماء الأمصار من يبيح ربا الفضل فلنا أن نتبعهم ، أو يوجد من لا يحرم أكل ذوات المخالب من الطير فلنا أن نتبعهم ، ولو فتح هذا الباب فتح على الناس شر كبير ، ، وصار سببًا لانحلال العوام عن دينهم . وكل أحد يعرف أن تتبع مثل هذه الأقوال المخالفة لما دلت عليه الأدلة الشرعية ، ولما عليه أهل العلم من الأمور التي لا تحل ولا تجوز ))(3). والواقع المعاصر لا يعترف بالحدود الجغرافية والأعراف الإقليمية ، وهذه إشكالية كبيرة ، إذ يفتي المفتي بفتوى تبيح أمرًا قد استقر في أذهان فئة معينة تحريمه ، فهذا يحدِثُ إشكالاً كبيرًا ، فمن أمثلة ذلك : أن سائلة سألت مفتيًا في إحدى القنوات الفضائية ، عن حكم كشف الوجه ، فأفتاها أن النقاب هو الأفضل ، لا سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن ، وأن كشفت وجهها وكفيها فقط فلا بأس .
هذه الفتاوى صالحة لمجتمعات معينة ، لكنها لو عمل بها في مجتمعات أخرى مثل مجتمعنا السعودي ، لأحدثت فوضى كبيرة ، إذ إن أولياء الأمور ، ورجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمجتمع بأسره لا يقبل كشف الوجه ، بل يعاقب على ذلك ، بل إن كثيرًا من النساء الحريصات على العفة والستر في مجتمعنا ، لا يرضين بالظهور أمام الأجانب إلا بالعباءة السوداء ، الساترة لجميع البدن ، ولا يرضين بغيرها من الأغطية التي قد تستخدمها بعضهن أمام غير المحارم من الأقارب .
فمثل هذه الفتوى لو تعامل المجتمع معها بالرفض التام والتجاهل ، لكان الوضع مقبولاً طبعيًا ، إذ يستفيد منها غيره ، لكن الواقع أن مثل هذه الفتاوى تجر وراءها محظورات متعددة ، منها :
1-التطلع إلى آراء العلماء الآخرين ، ومتابعتها ، لأنها وافقت هوى في نفوس البعض ، وإن كان أولئك العلماء أقل علمًا وورعًا .
2-ضعف الثقة بعلماء البلد ، الذين هم أعلم الناس بأحوال المجتمع وعاداته وتقاليده .
3-العمل ببعض هذه الفتاوى دون رضاً من المجتمع والسلطة ، مما يسبب خللاً ظاهرًا ، كالعمل بفتوى من جعل الطلاق الثلاث في مجلس واحد طلقة واحدة ، أو العمل بفتوى من أباح كشف الوجه ، في مجتمع كل نسائه يغطينه .
4-إنكار هذه الفتاوى ، ورميها بالخطأ من قبل محافظي المجتمع ، مع أنها قد تكون أقوى دليلاً مما تمسك به ذلك المجتمع .
5-رمي المفتين بهذه الفتاوى بالضعف ، وقلة العلم والورع ، واتباع الهوى ، مع أنهم قد يكونون على خلاف ذلك تمامًا ، فقد صدرت بعض الكتب في نقد بعض العلماء نقدًا لاذعًا ، بسبب فتاويهم المخالفة لآراء هؤلاء المؤلفين .
6-أن المسارع للعمل بالفتاوى المُيَسِّرة المخالفة لمذهب البلد ، هم من الفئة المتساهلة ، التي يقل عندها جانب الورع الواجب ، فتكون هذه الفتاوى سبيلاً للوصول إلى المحرم المتفق على تحريمه ، أما محافظو المجتمع فالغالب أنهم لا يعملون بهذه الفتاوى إلا في حالة الضرورة أو الحاجة الملحة .
ولعل المسلك القويم ، الذي ينبغي اتباعه ، يتلخص في :
1-أن على المفتي إذا سئل عن مسألة من هذه النوع ، أن يبين أقوال العلماء فيها ، ووجاهة كل رأي ، وأن يربط كل مجتمع بعلمائه ، بحثهم على اتباع علمائهم ، وعدم تتبع أقوال العلماء بدافع من الهوى ، ثم يفتي بما يراه هو ، إذ إنه بذلك يعطي كل مستمع ثقة بمفتيه الأول ، ووجاهة رأيه ، ويكون المحظور منتفيًا أو قريبًا من الانتفاء في هذه الحال ، وخاصة إذا جعل هذا منهجًا له ، وعرف به ، أما أن يعمد بعض العلماء إلى تقليل أهمية الأقوال الأخرى ، ووصم الخلاف بالضعف ، مع قوته ، فهذا خلاف الواجب ، قال بعضهم : ‘‘هذه مسألة اتفق عليها العلماء ، إلا واحدًا أو اثنين ، وهذا لا يشكل شيئًا أمام إجماع الأمة’’ ، مع أن المسألة قد قال بها كثير من المتقدمين قبل المعاصرين الذين لم يأبه برأيهم .(/2)
2-أن يعمد علماء كل بلد (أو مجتمع) إلى بث برامج للفتاوى على غرار العلماء الآخرين ، حتى يسهل توصل المستفتي إلى العالم الذي يحسن أن يستفتيه ، ولا يضطر إلى علماء آخرين ، قد يشوشون ثوابته" "(4).
- المفتي والهوى :
من المؤسف حقًا أن يكون بعض المفتين على غير ما يجب أن يتمثلوه من تحري الصواب ، واتباع الحق ، إن فئة منهم تتحرك بدافع من الهوى والشهوة ، فتنجر إلى الإفتاء بما يتوافق مع الأهواء لمقاصد سياسية أو مالية ، أو لكسب قبول الجمهور ، أو غير ذلك ،قال د. يوسف القرضاوي : ’’ومن أشد المزالق خطرا على المفتي أن يتبع الهوى في فتواه، سواء هوى نفسه أو هوى غيره، وبخاصة أهواء الرؤساء وأصحاب السلطة، الذين ترجى عطاياهم، وتخشى رزاياهم، فيتقرب إليهم الطامعون والخائفون، بتزييف الحقائق، وتبديل الأحكام، وتحريف الكلم عن مواضعه، اتباعا لأهوائهم، وإرضاء لنزواتهم، أو مسايرة لشطحاتهم ونطحاتهم. ومثل ذلك اتباع أهواء العامة، والجري وراء إرضائهم، بالتساهل أو بالتشدد، وكله من اتباع الهوى المضل عن الحق‘‘(5)
لقد عمد بعضهم إلى التقاط شواذ الأقوال ، وأفتوا بها الناس ، غير خائفين ولا وجلين من عواقب ذلك وما يترتب عليه ، إن ترجيح آراء العلماء بدافع من الهوى مضاد لما أمر الله به ، من الرجوع إلى الله ورسوله عند التنازع ، قال الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله : ‘‘.. ولم يفلح من جعل من هذا الخلاف سبيلاً إلى تتبع رخص المذاهب ، ونادر الخلاف ، وندرة المخالف ، واللتقاط الشواذ ، وتبني الآراء المهجورة ، والغلط على الأئمة ، ونصبها للناس دينًا وشرعًا .. ومنها إصدار الفتاوى الشاذة الفاسدة ، مثل الفتوى بجواز الفوائد الربوية ، وشهادات الاستثمار ، وسندات الخزينة ، وفتوى إباحة التأمين ، وفتوى إباحة السفور ، وفتوى إباحة الاختلاط ، وكلها فتاوى شاذة فاسدة ، تمالئ الرغبات ، وبعض التوجهات ..’’(6).
- المَلَكات الاستقبالية للمفتي :
أهم الأركان التي يقوم عليها برنامج الإفتاء ، هو المفتي ، وبمقدار علو مرتبته (على المستويات كافة) يكون نجاح البرنامج ، ويجب أن يتمتع المفتي بصفاتٍ تمكنه من دخول قلوب الناس ، وبلوغ ثقتهم فيه ، والغالب أنه لا يتقدم لمثل هذه البرامج إلا من كان فيه من تلك الصفات .
ولكن هناك أمور تعرض ، خارجة عن حد السيطرة ، يفرضها جو البرنامج ، من كونه مباشرة على الهواء ، وكون المستفتين على فئات شتى من الثقافة والعلم والأخلاق .. هذه الأمور قد ينتُج عنها سلبيات كثيرة ، تجر وراءها ما تجر ، سببها فقدان بعض الملكات التي يجب توفرها عند المفتي .
إن البرامج المباشرة ، تتطلب من المفتي سرعة الاستحضار للأحكام الفقهية وأدلتها ، وهذه السرعة لا يمكن أن تتحقق إلا بعد أن يمارس المفتي الإفتاء لفترات طويلة ، تكفل له الدربة على مثل ذلك ، والمفتي يستقبل في هذه البرامج فئات متنوعة من الناس ، فمنهم من انخفض مستوى العلم عنده إلى درجات البدائية ، فيستفتي عن فروض الوضوء وشروط الصلاة ، ومنهم من يشكل عليه أمور غامضة ، يكثر فيها بين العلماء الاختلاف ، ويتجاذب حكمها أدلة متعارضة ظاهريًا ، أو مختلفة الصحة والصراحة ، أو غير ذلك ، فيجب على المفتي أن يكون مستعدًا لكل هذا ..
ومثل ما تحتله سرعة الاستحضار من المكانة ، تحتل قوة الإدراك ، والتمكن من فهم السؤال ، إن إدراك المفتي للسؤال لتنبني عليه الفتوى ، وتتضاعف خطورة الإفتاء بفتوى غير ما سأل عنه السائل في مثل هذه البرامج ، إذ إن المستمعين يربطون بين سؤال المستفتي وفتوى المفتي ، وقد حصل من هذا القبيل مراتٍ متعددة في هذه البرامج ، منها :
1-أن أحد المستفتين سأل عن حكم من ترك شيئا من رمي الجمرات ، فقال المفتي : عليه عن كل واحدة دم ، وكان المفتي يقصد عن كل جمرة ، فظن المستفتي وبعض المشاهدين أنه عن كل حصاة ، ثم كرر السؤال ، فقال : (عن كل واحدة يا شيخ ؟) قال : (نعم ، عن كل واحدة) !
2-وحادثة أخرى ، أظهر خطأً وأشد نتيجة ، وهي أن سائلة قالت : إني أحرمت للعمرة ، ثم لما وصلت مكة حضتُ ، فلم أخبر أهلي بذلك حياءً ، وأديت مناسك العمرة معهم ، وأنا حائض ، ثم تزوجت بعد عدة سنوات ، وأنجبت أولادًا ، فماذا عليَّ الآن ؟ فرد الشيخ : يجب ألا يقربك زوجك ، حتى ترجعين إلى مكة ، وتؤدين العمرة ، لأنك ما زلت محرمة ، ثم إذا قضيت مناسكها ، تعيدون عقد النكاح ؛ لأنه عقد عليك وأنت محرمة ، ولا ينعقد النكاح حال الإحرام . فقالت : هل أؤدي العمرة أولاً أم أعيد عقد النكاح ؟ فأجاب إجابة يفهم منها أن الأمرين مستويان !!.. انظر كيف أدى عدم الإدراك والسهو إلى مثل هذا الخطأ .(/3)
ومما يجب أن يتحلى به المفتي ، ضبطُ النفس ، وعدم الاندفاع وراء أي محاولة استفزاز من المستفتين ، سواءً كانت متعمدة أم عفويةً ، وقد حصل مثلُ هذا ، وأدى إلى عواقب سيئة ، فقد سأل سائل مفتيًا في برنامج مباشر مسألة تتعلق بأمور سياسية ، وعرض بعلماء بلد ذلك المفتي ، وانتقدتهم انتقادًا ظاهرًا ، وإن لم يكن صريحًا ، فما كان من المفتي إلا أن أجاب إجابةً جيدة منضبطة ، لكنه لما وصل إلى موضع الانتقاد من السؤال ، تغير نمط الإجابة جذريًا ، حتى وصل إلى كلام مبهم ، فهم منه الدعاء على ذلك السائل .
إن هذا الموقف أفرز سلبيات كثيرة ، من أهمها :
1-اقتناع الجمهور بانتقاد السائل ، وإن لم يكن صوابًا ، تعاطفًا معه، وتمكن في أذهان كثيرٍ أن استفزاز المفتي دليل على صحة ما ادعاه .
2-لقد صار تصرف ذلك المفتي مرتعًا خصبًا لمن يصطاد في الماء العكر، واستغل استغلالاً سيئًا ، وحلل تحليلات متعددة ، أكثرها مجانب للصواب.
3-كما عد ذلك التصرف منقصًا من قدر ذلك المفتي ، مؤثرًا على مكانته في قلوب الناس ، لأن كثيرًا من الجمهور لا يعمل العقل والمنطق في حياته ، بل يتعلق بالظواهر الخادعة ، ويبني تصورًا لا يغيره على موقف واحد ، وربما يكون ذلك الموقف نتيجة أشياء عارضة ، ولا ينم عن شيء من شخصية صاحبه .
إن ضبط النفس ، يدفع - بعد عون الله تعالى - عواقب سيئة .. إنه سبيل إلى الوصول إلى قلب المجادل ومؤيديه ، وإلى إقناعهم بما يُرى حقًا وصوابًا .
ومما ينقص بعض المفتين في هذه البرامج ، النظرُ إلى حال المستفتي ، وقت الفتوى ، وإلى التغيرات التي طرأت في العصر ، وإلى مناحي تفكير الناس ، وقوة إيمانهم وورعهم من عدم ذلك ، إن غفلة المفتي عن ذلك ، تؤدي به إلى الفتوى بما يكون سببًا لانفتاح الناس على بعض المعاصي ، واتخاذ تلك الفتوى ذريعة لمعاصٍ كثيرة ، وقد حدث مثل هذا ، إذ سئل أحد المفتين عن عورة المرأة للمرأة ، فأجاب أنها من السرة إلى الركبة ، وهذا الجواب ، عين الصواب ، نص على ذلك الفقهاء(7)، ولكن الأمر أبعد من ذلك ، فإن السائلة التي سألت هذا المفتي ، كانت تسأل عن لباس النساء العاري ، الذي يستر ما بين السرة إلى الركبة ، ويظهر كثيرًا مما عداه ، وهذا اللباس لا يقره ولا يبيحه من تأمل عظيم خطره ، وكبير فتنته ..
لقد انتشرت هذه الفتوى بين الناس انتشارًا عظيمًا ، وتناقلها الناس على اختلاف نياتهم ، فبعضهم نقلها استبشارًا بها ، وبعضهم استغرابًا ، وبعضهم نقلها بقصد الإنقاص من قدر ذلك المفتي ، وقد اتصل بالمفتي جمع كبير جدًا من طلبة العلم وغيرهم ، يطلبون منه توضيح فتواه ، والتفصيل فيها ، وما كان منه –جزاه الله خيرًا – إلا أن علق على تلك الفتوى في اللقاء الذي يليه ، وبين خطر تلك الملابس العارية ، وما قصد وراء السؤال من مقاصد .
- مقدم البرنامج ودوره :
إن برامج الفتوى -وخاصة المباشرة- تستلزم أن تتظافر فيها الجهود لأن يصل شرع الله تعالى إلى الناس بطريقة سليمة ، فإن لها أهمية خاصة بسبب هذا الجانب ، ولذا فهي تسلتزم الدقة والانضباط ، ومقدم البرنامج يتحمل مسؤولية كبيرة ، فهو حلقة الوصل بين المستفتين والمفتي ، ويضطلع بدور كبير في إدارة الحلقة ، وتوجيه الأسئلة ، وانتقاء الموضوعات الأهم والأكثر قبولاً لدى الناس ، كما أن له دور ظاهر في توجيه المفتي إن وهم ، أو فهم خطأً ، أو أجاب إجابة موهمة ..
إن كثيرًا من المقدمين لا يعدو عمله أن يكون آليًا صرفًا ، لا يتدخل في أي عمل جوهري للبرنامج إلا إلقاء الأسئلة ، مع أن الحاجة إليه شديدة ، وكثير من المستمعين يعلقون الرجاء عليه في أوقات متعددة ، منها :
1-إذا سئل المفتي سؤالاً طويلاً ، يتضمن فقرات عدة ، فكثيرًا ما نسي المفتي بعض الفقرات ، أو استطرد ، حتى نسي عجُز السؤال ، أو بدأ بآخر السؤال ونسي أوله ، في هذه الأوقات يجب على مقدم البرنامج التدخل ، ليأتي المفتي على كل فقرة .
2-وإذا أجاب المفتي إجابةً عائمة ، أو عامة ، فيجب على المقدم التدخل ، ليحدد الإجابة .. أما إذا عمد المفتي إلى الإجابات العامة ، وهو مضطر لذلك ، فيجب على المقدم عدم التدخل إلا بما يعزز هدف المفتي من صرف النظر عن السؤال ، لأن بعض الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها ، إما لأغراض شرعية ، أو سياسية ، أو اجتماعية ، أو ربما تكون الإجابة غائبة عن المفتي ، فهنا يجب على مقدم البرنامج صرف النظر عن السؤال ، لذا عليه أن يكون فطنًا عارفًا حال المفتي وأسلوبه .
3-وإذا فهم المفتي السؤال خطأً ، أو حاوره السائل ، فاتضح أن السائل لم يفهم الإجابة ، فعلى مقدم البرنامج إزالة الالتباس .
- المستفتي وما عليه :
والركن الآخر لعملية الفتوى هو المستفتي ، وهو في الحقيقة ، ركن هام ، ويدور حوله أمور خطيرة ، من أكثرها أهمية وتأثيرًا : اتباع الهوى ، وتتبع الرخص ...(/4)
إن اتباع الهوى قضية خطيرة ، غفل عنها كثير من الناس ، ورأوا أنه إذا وجدت الفتوى في إباحة محظور فقد حل ، دون نظر إلى المفتي ، ولا إلى وقت الفتوى ، ولا إلى الملابسات التي قد تكتنف الأمر ، ودون نظر إلى ضوابط الفتوى التي نص عليها العلماء ..
فمن الصور الخاطئة التي تنتشر بين الناس :
1-أن ينتشر بين الناس أن في المسألة رأيين ، فيعمد بعض الناس إلى أخذ الرأي الأقرب إلى هواه ، دون استفتاء . وهذه الصورة من أكثر الصور تساهلاً ، فربما تكون المسألة المختلف فيها لا تنطبق تمامًا على مسألة الشخص الخاصة ، مثال ذلك : أن هناك رأيين في زكاة الحلي المعد للاستعمال ، فيأخذ بعض الناس بقول من رأى أنه لا زكاة فيه ، دون أن يستفتي ويوضح حال ذلك الحلي الذي عنده ، وقد يكون ذلك الحلي غير مستعمل ولا معد للتجارة ، بل هو قد احتفظ به ادخارًا وكنزًا.. فهنا يتغير الحكم ، والغالب أنه لم يختر هذا القول مع ترك السؤال إلا لتساهله.
2-أن ينتشر أن في المسألة رأيين ، فيعمد المستفتي إلى القائل بالرأي الأقرب إلى هواه ، فيستفتيه ، دون نظر إلى علمه ولا إلى ورعه ، ولا إلى دليله ، وهذا أيضًا حَكَّم الهوى في دينه .
3-أن يجهل حكم مسألة ما ، فيستفتي عالمًا يثق به ، ثم يفتيه بما لا يرغب ، فيبحث عن عالم آخر ليفتيه بما يريد ، وهذا أيضًا محكم للهوى في دينه .
وهذا هو عين تتبع الرخص المنهي عنه ، وذلك لأنه يفضي إلى مفاسد كبيرة جدًا، مفاسد على الفرد ذاته ، تفسد عليه دينه وعبادته وتعامله ، ومفاسد يتعدى ضررها إلى المجتمع ، فيحدث الفرقة والاختلاف ، ويفضي إلى النزاع والتباغض ، كما يضيع الحدود المعروفة المتفق عليها عُرفًا ، ومعلوم أن للأعراف ميزان كبير في كثير من الأحكام ، إذ إنه ضابط لجانب منها .
وقد ذكر العلماء جملةً كبيرة من مفاسد تتبع الرخص ، ونُقل الإجماع على تحريم تتبع الرخص ، وروي عن الإمام أحمد تفسيق فاعل ذلك(8)، ومما ذكر من تلك المفاسد :
1-الانسلاخ من الدين بترك العمل بالدليل إلى اتباع الخلاف (9)، والعبد مأمورٌ عند التنازع بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}(10) .إن ‘‘الذي يلتمس التخفيفات ، ويتتبع مواطن الرخص ورفع الحرج ، بعيدًا عن الغاية الحقيقية ، من تمام العبودية ، وخالص الخضوع والطاعة لله وحده ، والسعي في جلب المصالح ودرء المفاسد …مدعيًا أن لا حرج في الدين فقد أخطأ وضل السبيل ، فلا يجوز أن تنقلب الوسائل غايات..(11).
2-قال الإمام ابن القيم رحمه الله : ‘‘.. ثم ذلك الخلاف قد يكون قولاً ضعيفًا ، فيتولد من ذلك القول الضعيف الذي هو خطأ بعض المجتهدين ، وهذا الظن الفاسد الذي هو خطأ بعض الجاهلين : تبديل الدين ، وطاعة الشيطان ، ومعصية رب العالمين ، فإذا انضافت الأقوال الباطلة إلى الظنون الكاذبة ، وأعانتها الأهواء الغالبة فلا تسأل عن تبديل الدين بعد ذلك ، والخروج عن جملة الشرائع بالكلية (12).
3-إن تتبع الرخص قد يؤدي إلى خرق إجماع الأمة ، بتلفيق قول من مجموعة رخص ، مثال ذلك : أن بعض العلماء لا يشترط الولي في النكاح ، وبعضهم لا يشترط الشهود ، وبعضهم لا يشترط الصداق ، فلو جمع بين هذه الأقوال لتولد قول آخر ، بجواز النكاح بلا ولي ولا شهود ولا صداق ، وهذا لم يقل به أحد ، فهو مخالف لإجماع الأمة (13). نُقل عن إسماعيل القاضي أنه قال : دخلت على المعتضد أحد خلفاء بني العباس ، فدفع إليَّ كتابًا ، فنظرت فيه ، فإذا قد جُمع له فيه الرخص من زلل العلماء ، فقلت : مصنف هذا زنديق ، فقال : ألم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت : بلى ، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء ، وما من عالم إلا وله زلة ، ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه . فأمر بالكتاب فأحرق ، وقال الأوزاعي : من أخذ بقول المكيين في المتعة ، والكوفيين في النبيذ ، والمدنيين في الغناء ، والشاميين في عصمة الخلفاء ، فقد جمع الشر (14).
4- إن تتبع الرخص إسقاط التكليف في عامة مسائل الخلاف ، فيعد كل أمر مختلف في وجوبه ليس واجبًا ، وكل أمر مختلف في تحريمه مباحًا ، ومعلوم كثرة المسائل المختلف فيها ، فإذا اعتبر الخلاف في كل مسألة فسد دينه ؛ لأنه لم يجعله ضابطًا له ومانعًا ، وغير خافٍ ما في هذا الفعل من الاستهانة بالدين ، والتلاعب بحدوده ، والخلود إلى آراء البشر ، المعرضة للزلل والخطأ والضلال .
إلى غير ذلك من مفاسدها العظيمة .
إن هناك ضوابط كثيرة يجهلها كثير من الناس ، وإلى الجهل بها يرجع التساهل في شأن تتبع الرخص ، حتى إن بعضهم يراه أمرًا سائغًا جائزًا ، لا يشك في حله ، وأنا أريد أن أشير هنا إلى بعض تلك الضوابط
باختصار شديد ، فمن ذلك :
1-أنه لا يجوز للمستفتي أن يستفتي إلا العالم الثقة المجتهد ، ولا يجوز أن يستفتي من كان دون ذلك إلا أن يكون ناقلاً عن مجتهد .(/5)
2-فإذا وجد أكثر من مجتهد اختار أيهم شاء(15).
3-فإذا سأل مجتهدًا فلا يسأل غيره ، إلا إن وجد أوثق منه ، فلا بأس أن يستفتيه .
4-وإذا تعارض عنده فتوى مجتهدين وجب عليه الترجيح بينهما ، بأن يختار فتوى أفضل المجتهدين علمًا وورعًا وتقوى . كذا فصل العلماء ، وفرقوا بين هاتين المسألتين ، وهما إذا لم يكن عنده علم بالحكم فله أن يستفتي من شاء بشرط أن يكون من أهل الاجتهاد، أما إذا علم أن مسألته قد أفتى فيها مجتهدان ، وكان حكمهما مختلفًا ، فأحدهما يحرم والثاني يبيح ، مثلاً ، أو أحدهما يوجب والثاني لا يوجب ، وجب عليه أن يأخذ بفتوى أوثقهما علمًا وورعًا وتقوى(16).. وهذه المسألة من أكثر مسائل الفتوى اضطرابًا بين الناس ، فقد أخطأ كثير ، وظنوا أن المسائل الخلافية للعبد أن يختار أي الأقوال يوافق هواه ، وهذا خطأ محض ، بل يجب عليه أن يتقي الله فيما يأخذ وما يدع ، قال الشاطبي رحمه الله : ((ومتى خير المقلدون في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم ، لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة))(17)
5-كما أنه لا يجوز له أن يعمل بالفتوى دون أن يطمئن لها قلبه ، فإن بعضهم يعمل بما وافق هواه ، وإن اعتقد أن القول الآخر هو الصواب ، قال الإمام ابن القيم رحمه الله : ‘‘لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه ، وحاك في صدره من قبوله ، وتردد فيها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ‘‘استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك’’(18)فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولاً ، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله ، إذا كان يعلم أن في الأمر الباطن بخلاف ما أفتاه … ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه ، إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن ، سواء تردد أو حاك في صدره ، لعلمه بالحال في الباطن ، أو لشكه فيه ، أو لجهله به ، أو لعلمه جهل المفتي ، أو محاباته في فتواه ، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة ، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة أو غير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه’’(19)
- نتيجة :
بعد هذا العرض السريع ، والإشارات العابرة ، أحب أن أذكر عددًا من النقاط ، يمكن أن تضاف لتلك البرامج ، لعلها تؤدي نتيجة أفضل ، فمن ذلك :
1-أن يختار لهذه البرامج أفاضل العلماء ، وأكثرهم علمًا وورعًا ، وأخلاقًا وسمتًا وسكينةً وانضباطًا ، وألا ينظر في ذلك إلى المصالح الدنيوية ، كما يجب على هؤلاء العلماء أن يستجيبوا إذا دعوا لهذه البرامج وأمثالها ، وأن يحتسبوا في ذلك ، وأن لا يجعلوا الباب مشرعًا لغيرهم ممن هم دونهم .
2-أن يختار مقدمو هذه البرامج من طلاب العلم ، الذين يضعون بصمات حسنة مفيدة على البرنامج ، ولا يكون دورهم سلبيًا .
3-أن يستقبل المقدم الأسئلة على شكل مجموعات ، ثم يفرقها على المفتي ، حتى يتمكن المفتي من استحضار جوانب الفتوى لكل سؤال حال استقبال بقية الأسئلة ، وهذه الطريقة تجنب المفتي بعض المفاجآت ، وإن كانت تفوت محاورة السائل .
4-أن يبين المفتي عند المسائل الخلافية بعض جوانب الخلاف ، باختصار دون إسهاب ، وأن يثني على العلماء الآخرين ، ويبين وجاهة أقوالهم ، ثم يفتي بما يراه هو ، وهذا يكفل غرس الثقة في أقوال العلماء الآخرين ، ويقلص من خطورة تضارب الآراء .
5-أن يبين المفتي خطورة اتباع الهوى ، وما ينتج عن تتبع الرخص من مفاسد ، ويبين حرمة ذلك ، كما يجب أن يبن ضوابط الفتوى العامة ، أو يتولى ذلك مقدم البرنامج على مسمع من المفتي ، وأن يكرر ذلك بعد كل عدد من الحلقات ، حتى يستقر ذلك في أذهان الناس .
هذا .. واسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لكل خير ، وان يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا ، وأن يزيدنا علمًا ، إنه جواد كريم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
(1) - نهاية الوصول إلى علم الأصول 2/687 ، والإبهاج في شرح المنهاج 3/271 ، ومجموع الفتاوى 19/261.
(2) - الموافقات 5/102 . (بتصرف يسير) .
(3) - حكم شرب الدخان : 10-11.
(4) - هي ثوابت باعتبار المستفتي لا باعتبار الواقع الفقهي .
(5) - الفتوى بين الانضباط والتسيب : عن موقع المؤلف على الشبكة العنكبوتية .
(6) - المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب 1/ 107،108.
(7) - شرح منتهى الإرادات 5/106 .
(8) - الموافقات 5/102 (هامش : 1) .
(9) - الموافقات 5/94 ، 96 ، 99 ، 102.
(10) - سورة النساء من الآية : 59 .
(11) - رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ضوابطه وتطبيقاته : 14.
(12) - إغاثة اللهفان 2/146.
(13) - الموافقات 5/ 103 (هامش : 2) .
(14) - التعالم وأثره على الفكر والكتاب : 108.(/6)
(15) - هذه مسألة خلافية ، فيها أقوال ، منها أنه يأخذ بالأخف ؛ لأنه أيسر والله تعالى يقول : {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقال بعضهم : يأخذ بالأثقل لأنه الأحوط ، وبعضهم قال يأخذ بفتوى الأعلم والأوثق ، وبقال آخرون : يسأل مفتيًا آخر ويأخذ بفتوى من وافقه منهما . ينظر : آداب المفتي والمستفتي لابن الصلاح :164 ، ووالفتوى نشأتها وتطورها – أصولها وتطبيقاتها 2/630 ، والخلاف بين العلماء : أسبابها وموقفنا منه :35-36.
(16) - ينظر في هذه المسائل روضة الطالبين 11/104 ، والمستصفى 1/373 ، وإرشاد الفحول 1/452 ، وغيرها.
(17) -الموافقات 5/78.
(18) - مسند الإمام أحمد 4/227.
(19) - أعلام الموقعين 4/208.(/7)
الفجر الصادق
المحتويات
مقدمة
مظاهر الانحراف في واقع المسلمين
مؤيدات النصر والتمكين للأمة
مكانة هذه الأمة
نصوص القرآن
نصوص السنة
تاريخ الأمة
السنن الربانية
الواقع المعاصر
روافد أخرى للصحوة
أمور لابد منها
مقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك لك وأشهد أن محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ، أما بعد:
قبل أن نتحدث عن بشائر هذا الفجر وخيوطه ا لتي بدأت تلوح في الأفق لابد أن نلقي نظرة ولو سريعة على الظلمة والليل الحالك الذي ينتظر أن يعقبه هذا الفجر بإذن الله ومشيئته ، إنني لا أبالغ عند ما أقول إن الأمة الإسلامية الآن تمر بمرحلة من أسوأ مراحلها التاريخية ،وإننا الآن نعيش صفحة كالحة من تاريخ هذه الأمة، لقد بدأ هذا الليل وتوج بسقوط الخلافة ، وهي الرمز السياسي الذي كانت تلتقي حوله الأمة -مع ما كان فيها من ضعف ومن جوانب انحراف لم تكن يسيرة -ولكنها مع ذلك كله كانت رمزاً يلتقي عليه المسلمون جميعاً ،وكان سقوط الخلافة إيذاناً ببدء عصر من التمزق و التفرق السياسي، والتخلف العقدي، فتحولت تلك الأمة التي كانت تجمعها قيادة واحدة وخلافة واحدة من المشرق إلى المغرب، تحولت إلى أمم ودويلات يناحر بعضها بعضاً ويلعن بعضها بعضاً، وأعقب ذلك ألوان من التخلف والانحراف عن منهج الله سبحانه وتعالى .
مظاهر الانحراف في واقع المسلمين
الانحراف في الجانب العقدي : ويتمثل في تلك المكفرات التي انتشرت في أوساط الأمة، فإن الكثير من المسلمين أصبحوا يعكفون على القبور والأضرحة و أعادوا بها مجد اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ،وعلى مستوى أعلى من ذلك فإن الكثير من المسلمين يحتكمون إلى غير شرع الله سبحانه وتعالى ويشرّعون أنظماً تبيح ما حرّم الله وتحرم ما أباح الله ، أعادوا بها مجد التتار وباسقهم السابق ، وانحراف آخر أيضاً في قضية أساسية من قضايا العقيدة يتمثل في الولاء السافر الذي منحته الأمة لأعدائها وقد تعبدّها الله سبحانه وتعالى ببغضهم و البراءة منهم ،وما كانت هذه البراءة من هؤلاء الأعداء بدعة ابتدعتها هذه الأمة، بل هي عقيدة ورثتها من أبيها إبراهيم عليه السلام الذي سمانا المسلمين ( قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والذين معه إذا قالوا لقومهم إنّا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم ا لعداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ) .
أما الانحرافات في الجوانب الأخرى فحدث عن ذلك ولا حرج : ففي مجال الاقتصاد لعلنا نعرف جميعاً أن الدول الإسلامية أصبحت تنافس اليهود فصار الربا جزءاً لا يتجزأ من حياة الأمة الإسلامية ، ولم يعد مجرد عمليات يمارسها فلان وفلان من الناس أو فرد أو فردان، إنما أصبح جزءاً لا يتجزأ قلما تخلو منه مؤسسة مالية فردية أو رسمية، وقد توعد الله سبحانه وتعالى آكليه بالحرب فقال: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وأن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ) .
أما الجانب الاجتماعي فالفساد الأخلاقي وانتشار الرذيلة وانتشار الفواحش والمحرمات في مجتمعات الأمة أمر ليس بحاجة إلى بيان .
إنني لا أريد أن أسهب في الحديث عن هذه المظاهر ولا أريد أن أزعجكم فأنقب عن ما يحرص المرء أن لا يتذكره من هذا الواقع المتعفن الذي تعيشه الأمة، فإنني جئت لأبعث الأمل إليكم ولم آتِ لإبكائكم..
وإضافة إلى هذه الصورة السوداء الكالحة من داخل هذه الأمة ، فهي تعيش أيضاً تآمراً دوليًّا يمارس تارة باسم النظام الدولي، وتارة باسم المؤسسات الدولية ، بأسماء ولافتات تختلف،ولكنها تتفق تحت هدف واحد ألا وهو القضاء على الأمة الإسلامية ومحاربة الإسلام، ومع هذا التآمر الدولي الذي تقف وراءه القوى الدولية مع ذلك كله يوجد هناك طابور خامس منتشر في صفوف المسلمين الذين يمنحون ولاءهم لأعداء الله عز وجل ، والذين حذرنا منهم صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أنهم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ،وصفهم لنا صلى الله عليه وسلم أنهم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ، ومع ذلك كله أيضاً بدأت الرايات السوداء ترتفع وبدأ أحفاد القرامطة و العبيديين يتطلعون مرة أخرى إلى إعادة تلك المجازر التي اقترفوها في حق الأمة ، وما نسيت الأمة الآلاف الذين قتلوا في بيت الله على يد أولئك القرامطة، وما نسيت الأمة الآلاف بل الملايين الذين قتلهم التتار وكانوا نتيجة خيانة هؤلاء الباطنيين ،هاهم هؤلاء أيها الأخوة بدأوا مرة أخرى يرفعون رؤوسهم وبدأوا يسعون إلى تصدير ثورتهم ،بل تصدير رفضهم وبغضهم لخير الأمة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ،وتحركُ هؤلاء أمرٌ لا يخفى عليكم أيها الأخوة.(/1)
ومع هذه الصورة الكالحة التي تعيشها الأمة، مع هذا التآمر الذي يمارس ضد الأمة ، ومع هذا التآمر الدولي العالمي، ومع الطابور الخامس الذي يؤيد هؤلاء وأولئك، ومع بروز رؤوس الأفاعي من الطوائف الباطنية والرافضية وغيرها، مع ذلك كله نقول ونجزم أن النصر لابد أن يتم ويتحقق لهذه الأمة ، ولابد أن ترتفع راية لا إله إلا الله الراية الحقيقية التي تقوم على منهج خير القرون منهج النبي صلى الله وسلم وأصحابه ، وأينما تلفت المرء يمنة ويسرة رأي خيوط الفجر بدأت تلوح لكل ذي عينين، إن هذا الحديث وهذه الدعوى ليست مجازفة ولا أمنيات ، إنها حقيقة وقناعة لم تعد مجرد آمال ولم تعد مجرد أمان، بل هي حقيقة لا مساومة عليها، وحقيقة عندنا لا تقبل الشك أو النقاش ، أن النصر سيكون لهذه الأمة بإذن الله ، وأن هذا الدين سيتبوأ المكانة التي اختارها الله سبحانه وتعالى إليه.
مؤيدات النصر والتمكين للأمة
هذه الدعوى التي نقولها تؤيدها مؤيدات عدة أولها ومن أهمها :
مكانة هذه الأمة
هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )، هذه الأمة شهيدة على الناس في الدنيا وشهيدة على الناس في الآخرة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت ؟فيقول نعم ، فيقال لقومه: هل بلغكم ؟ فيقول له :ما جاءنا من نذير وما جاءنا من أحد ،فيقول الله :من يشهد لك؟ فيقول : محمد وأمته فأشهد وتشهدون بأن نوحاً قد بلغ الرسالة " ، فهذه الأمة ستشهد يوم القيامة ستشهد لنوح وستشهد لهود ولصالح ولسائر الأنبياء كما أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) وكما أخبرنا صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة من أن هذه الأمة ستشهد لأنبياء الله سبحانه وتعالى .
هذه الأمة هي خاتمة الأمم المؤمنة بشرع الله سبحانه وتعالى ،هذه الأمة اختصها الله سبحانه وتعالى بأفضل كتاب ، واختصها بأفضل رسله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم هذه الأمة شطر أهل الجنة، لا بل إنهم كما قال صلى الله عليه وسلم ثلثي أهل الجنة فأهل الجنة عشرون ومائة صف منهم ثمانون صفًّا من هذه الأمة ، ويصورالنبي صلى الله عليه وسلم لنا أتباعه عندما عرضت عليه الأمم فرأى النبي ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان والنبي ومعه الرهط ،فرفع له سواد عظيم فظن أنه أمته فقيل هذا موسى وقومه، ثم رفع له سواد قد سد الأفق فقيل هذه أمتك ومعها سبعون ألفاً يدخلون الجنة بدون حساب ولا عذاب .
أتظنون أن هذه الأمة التي تحمل هذه المزايا وهذه الفضائل أتظنون قد اختارها الله لتعيش هذه المرحلة من الذل ولتكون في مؤخرة القافلة ؟ معاذ الله أن يكون هذا هو واقع هذه الأمة، ومعاذ الله أن يكون هذا قدر الله لخير أمة أخرجت للناس ، إنه لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يستمر هذا الواقع ، إن الأمة الآن تعيش مرحلةً من الذل والتأخر، وتعيش الآن في ذيل القافلة، ولكن لن يستمر هذا الليل فلابد لهذه الأمة التي اختارها الله سبحانه وتعالى وخصها بهذه الخصائص من أن تتبوأ مكانتها ، ولابد لها من أن تأخذ مكانها الطبيعي الذي خلقها الله من أجله ،وجعلها وصية بعد ذلك على الناس لا لكرامة جنسية أو عرقية إنما لأنها تحمل دين الله سبحانه وتعالى الذي هو خاتمة الأديان وخاتمة الشرائع .
نصوص القرآن(/2)
إن نصوص القرآن الكريم المتضافرة التي تدل على ذلك قال عز وجل :( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً) ، وقال تعالى :( وليظهره على الدين كله ولوكره الكافرون )، وقال سبحانه :( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ) ،إن الذين يحملون هذا الدين هم جند الله سبحانه وتعالى وقد وعدهم الله عز وجل وأخبر أن كلمته سبقت بنصرهم وغلبتهم وتمكينهم وحاشا لله أن يتخلف هذا الوعد وأخبر تعالى بأنه ينصر من ينصره فقال: ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين )، ووعد سبحانه وتعالى هذه الأمة بالتمكين والنصر فقال :( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكن لهم دينهم الذين ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ) ومن ذلك أيضاً إخباره تعالى أنه مكن الأمم السابقة ، ومن تلك الأمم بنو إسرائيل يقول الله عز وجل :( طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفةً منهم يذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) ،لقد تسلط فرعون على قومه وكان شعاره ودستوره ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) وبلغ بهم غاية الذل والاستعباد حتى أنه يعتقد أنه عند ما يأذن لموسى بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ،وبتعبيد بني إسرائيل لله عز وجل، ويعد هذه منّة يمنّها على موسى فيقول له موسى ( وتلك نعمة تمنُّها عليّ على أن عبدت بني إسرائيل ) بل يبلغ من حمق فرعون وتسلطه أن يشترط على الناس أن يستأذنوه حين يؤمنون ؛فيقول للسحرة عندما آمنوا :( آمنتم له قبل أن آذن لكم إن هذا لمكرٌ مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها)، ويستعمل فرعون كل وسائل الإرهاب الفكري ووسائل البطش والتشويه الإعلامي،فيصور موسى u أمام الناس على أنه إرهابي يريد أن يفسدهم ( وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد ) ،ويصور هؤلاء السحرة الذين آمنوا وتابوا إلى الله سبحانه أنهم يريدون الفساد ( إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون ) ،ويمارس ألواناً من البطش حتى البدني فيقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف ويصلبهم في جذوع النخل ومع ذلك يقول الله سبحانه و تعالى :( وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) ، فمهما بلغ أعداء الأمة لن يبلغوا كبطش فرعون واستبداده إن بني إسرائيل ليسوا أكرم على الله ولا أبر من هذه الأمة التي فضلها واختارها سبحانه وتعالى وخصها بخاتمة الشرائع والأديان فإذا مكن الله لبني إسرائيل ودمر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون فإن هذه الأمة أولى وأحرى بالتمكين كما أن عدو هذه الأمة مهما بلغ من البطش ومهما بلغ من التمكين لن يبلغ ما وصل إليه فرعون وهامان وغيره ووزرائه وأعوانه .
نصوص السنة
وهي كثيرة متضافرة لعلي أشير إلى بعضها ، فمنها ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم من أنه لابد أن تبقى طائفة من أمته على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم يقول صلى الله عليه وسلم : " إذا فسد أهل الشام فلا خير منكم ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يظهرهم من خذلهم و لا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " ، وقد حكى جمع من المحدثين أن هذا الحديث قد بلغ درجة التواتر
ويخبر صلى الله عليه وسلم أيضاً " أنه على رأس كل مائة سنة يبعث الله لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها " ويعد النبي صلى الله عليه وسلم بملحمة لابد أن تكون قادمة ، ملحمة تكون بين جنود الله بين المؤمنين وبين إخوان القردة والخنازير " تقاتلون اليهود فتقتلونهم حتى يختبئ اليهودي وراء الشجر والحجر حتى يقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي فتعال فاقتله" .
ويخبر صلى الله عليه وسلم أن جنود الإسلام ستصل وسط معقل النصرانية وستحرر روما والقسطنطينية، تلك البلاد التي يصدَّر منها الحقد على هذه الأمة والتي تصدر منها إرساليات التبشير، وأصبحت وكر التآمر على هذه الأمة ، إنها ليست خيالات وليست أماني بل هي وعد صادق من المعصوم صلى الله عليه وسلم ( الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي ) .(/3)
ومن أجمع ذلك أيضاً ما أخبر به صلى الله علية سلم من قوله: " ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يدع الله بيتاً مروه ولا وبراً إلا أدخله الله هذا الدين "، فيخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنه لن يبقَ مكان تشرق عليه الشمس ولن يبقَ مكان يبلغه الليل والنهار إلا دخله هذا الدين ولن يبقَ بيت من طين أو بيت من شعر أو وبرٍ إلا دخله هذا الدين، إن ذاك الأعرابي الذي ضرب قبته في فلاة بعيدة لابد أن يدخل بيته وخلاءه هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزًّا يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر ، إنها إرادة الله أكبر من إرادة البشر، وقوة أكبر من قوة البشر، ومهما تآمر الأعداء فلابد أن يتحقق وعد النبي صلى الله عليه وسلم ,ولابد من أن يتم هذا الدين ويظهر هذا الدين ،بل يقول النبي صلى الله عليه وسلم " لو لم يبقَ إلاّ يوم واحد لبعث الله رجلاً من أمتي أو(أهل بيتي) يواطئ اسمه اسمي واسه أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملأت ظلماً وجوراً " .
وفي حديث يعرض فيه عرضاً وجيزاً لتاريخ هذه الأمة يقول صلى الله عليه وسلم: " تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبريًّا ثم تكون ملكاً عاضاً ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة " ، فلابد أن تعود هذه الخلافة على منهاج النبوة مرة أخرى كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم .
تاريخ الأمة
فلنقرأ تاريخ هذه الأمة التي وصلت جيوشها إلى أقصى المشرق و المغرب ،زَحَف عُقْبة بجيوش حتى وقف على مشارف البحر وقال:" اللهم إني لوكنت أعلم أن وراء هذا البحر أقواماً لخضته حتى انشر دينك" الذين دخلوا إلى أوروبا وفتحوا بلاد الأندلس ،والذين وقفوا على حدود فيينا الذين ملكوا المشرق والمغرب حتى كان هارون الرشيد ـ رحمه الله ـ ينظر إلى السحابة فيقول : " أمطري حيث شئت فسيأتي خراجك " هذا النصر الذي وقع للأمة من أين وكيف كانت الأمة قبل ذلك ؟
لقد كانوا كما قال جعفر رضى الله عنه: " كنافي جاهلية نأتي الفواحش ويقتل بعضنا بعض ويأكل بعضنا بعضاً ونأكل الخنافس والجعلان حتى أرسل الله إلينا محمد صلى الله عليه وسلم"… لقد كانوا قبائل متناحرة في جزيرة العرب لا يقيم لهم أحد وزناً ولا يعرف لهم خطر ، وكان الفرس لا يمكن أن يواجهوا العرب مواجهة مباشرة وما كانوا يستحقون أن تواجههم قوات الفرس بل كانوا عند ما يتمرد هؤلاء العرب يرسلون إليهم بعض القبائل الموالية لهم، والتي كانت تدور في فلكهم فتقوم بمهمة تأديبهم ،وعندما بدأت جيوش المسلمين واقتربت من الفرس، ظن الفرس أن الذي أخرجهم الجوع فعرضوا عليهم بعض المساعدات المالية وبعض العطاءات،غير أن الذي أخرجهم شيء آخر إنه إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها كما قال ربعي بن عامر في خطابه لرستم،وما هي إلا برهة قصيرة حتى استطاع أولئك الحفاة العراة، استطاع أولئك الفقراء المتناحرون الذين جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم تحت كلمة لا إله إلا الله استطاعوا أن يدكوا عرشي كسرى وقيصر وأن ينشروا الإسلام في مشرق الأرض ومغربها .
كما ابتدأ الإسلام من هذه المرحلة ألا يمكن أيضاً أن يعود مرة أخرى؟ فالذي صار مرة سابقة يمكن أن يقع كذلك ونحن مع ذلك أيضاً نملك تلك التجارب التي خاضتها أمتنا, نملك أن نقنع الناس ,لقد كان صلى الله عليه وسلم يقول لخباب بن الأرت وهو في مكة مستضعف: " والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه وما بقي الأمر كذلك بل لقد كان الراكب يسير من هناك من بلاد ما وراء النهر إلى بلاد المغرب ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه " كما حدث في عهد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله .
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك في مكة وحيداً كان يقوله لخباب عندما جاء يشتكي ويطلب منه أن يدعو الله سبحانه وتعالى ، وفي غزوة الخندق كان الرجل لا يستطيع أن يذهب إلى الغائط وحده من الخوف الشديد والهلع ( إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً )، ومع ذلك كله يعدُ صلى الله عليه وسلم بفتح كنوز كسرى وقيصر وما هي إلا أيام ويتم ما وعد به صلى الله عليه وسلم ، فهذه الأمة التي انتصرت وقد بدأت من لاشيء ألا يمكن أن تنتصر مرة أخرى ؟(/4)
ولقد مرت هذه الأمة بعصور متفاوتة من الانحطاط والتأخر أصاب المسلمين فيها الأسى وكانوا يتصورون ألا يعود فيه للأمة مكانتها ، لقد زحف التتار بجهود و مباركة الرافضة – عليهم من الله ما يستحقون –على بلاد الإسلام حتى قتلوا في بلاد المسلمين مليوناً و 800ألف من المسلمين حتى أن المسلمين في بلاد الشام تأذوا من روائح إخوانهم الذين ماتوا في بغداد ، وارتكبوا مجازر بشعة كان بطلها الأول قبل أن يكون التتار هم الرافضة نصير الدين الطوسي وابن العلقمي , أعقب تلك المجازر شعورٌ بالهزيمة ولشدة هذا الشعور أصبحت حقيقة لا تقبل النزاع ولا الجدل أن التتار شبح لا يمكن أن يهزم ، ولا يتصور أحد منهم أنه يستطيع أن يواجه التتار فضلاً عن أن يهزمهم وعادت الأمة مرة أخرى وهزمت أولئك .
مثال آخر كان وراءه أولئك الأنذال العبيديون الباطنيون عند ما مكنوا لجيوش النصارى والصليبين فداسوا مقدسات المسلمين وبقي المسجد الأقصى في أيدهم إحدى وتسعين سنة وارتكبوا فيه من المجازر ما لا يخفى عليكم جميعاً ، وتخيل المسلمون بعد ذلك أن لن تقوم للإسلام قائمة ، فيقوم الإسلام ويقوم المسلمون ، ويعود للأمة مكانتها وتمكينها. وتجربة أخرى من التجارب ليست بعيدة ، عنا لقد كانت هذه البلاد التي نعيشها تمر بمرحلة من الوثنية أشبه ما تكون بالوثنية الجاهلية ،كان الناس فيها يعكفون على القبور والأحجار،إضافة إلى التخلف والتمزق السياسي فقد كانت كل قبيلة وحدة واحدة ينتشر فيها النهب والسرقة والفوضى ، فقيّض الله لهذه الأمة مجدداً ومصلحاً هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله -.
وما هي إلا بضع سنوات وتخضع تلك الجزيرة من اليمن إلى تخوم الشام ، ومن الخليج إلى البحر الأحمر ، كل هذه الجزيرة تخضع تحت إمام واحد حتى يأتي مجموعة من الأعراب كاد أن يقتلهم الجوع وقت خلافة عبد العزيز بن محمد ـ رحمه الله ـ فيرون ماعزاً تمشى في الطريق ، فيبحثون عمن يعلق الجرس ليأخذها فما يجرأ أحدهم أن يأخذها حتى قال أحدهم دعوها : فإن الإمام عبد العزيز يحرسها .
لقد وحد الله تلك البلاد على يد الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ وعلى أولئك الأفراد الأوائل حتى انتشرت فيها كلمة التوحيد وحتى أصبح الرجل يسير آمناً ، يأتي ا لرجل يحج على دابته من الشام إلى بيت الله الحرام لا يخشى إلا الله سبحانه وتعالى بعد أن كانت تلك البلاد موئلاً للفتن والاضطرابات ، ومرت هذه الدعوة المباركة وعمت أرجاء العالم الإسلامي فيتأثر بها صديق حسن خان في بلاد الهند ويتأثر بها رشيد رضا في بلاد مصر وفي بلاد المغرب العربي .. وفي بلاد جنوب أفريقيا وفي جميع بلاد المسلمين تجد من تأثر بهذه الدعوة واستجاب لها وقام يدعو لها وينافح عن أصحابها .
هذه الأمة التي استقامت تلك الاستقامات بعد أن هزمها التتار والصليبيون ، ويوم أن دُنّسَ بيتُ المقدس ، وبعد أن عشنا وأدركنا آثار هذه التجربة القريبة ومالها إلا ثلاثة قرون أو قرنين من الزمان تلك التجارب تعطينا دلالة أن الأمة قادرة عندما ترجع إلى دينها و عند ما ترجع إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قادرة أن تعيد مرة أخرى صفحات تاريخها المشرق .
السنن الربانية
إن هذا الكون أيها الإخوة إنما يسير بتقدير الله سبحانه وتعالى فكل شئ بقدر ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر)، والله سبحانه وتعالى قد رتب سنناً تحكم حركة التأريخ وسيره ومن هذه السنن سنة المدافعة فالله سبحانه وتعالى يقول: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) ، أتظنون الآن أن ذلك التفرد الذي يتمتع به الغرب بعد سقوط المعسكر الشرقي ، أتظنون أن هذا سيستمر ؟
لا يمكن أبداً بحال أن يستمر فإن من سنة الله سبحانه وتعالى المدافعة والمداولة فلابد أن تبرز قوة تدفع هذه القوة ، قد يكون الإسلام وقد تكون قوة أخرى فيبرز الإسلام في مرحلة لاحقة ، ولكن لن يستمر هذا الغرب بتسلطه وتفرده .
سنة أخرى أيها الإخوة من سنة الله سبحانه وتعالى : من اجتهد وبذل الأسباب أوصله الله سبحانه وتعالى إلى ما يريد في الحياة الدنيا ، انظروا الآن إلى العالم الغربي الذي يتحكم في العالم كيف كان أيام ما كانوا يسمى لديهم الوسطى ألم يبدأوا من تخلف وانحطاط ؟ يوم كان أولئك الغربيون يفدون على مدارس المسلمين في الأندلس ليتعلموا منها ألم يبدأوا من نقطة الصفر ؟ كيف استطاع هؤلاء بل كيف استطاعت الشيوعية خلال سنوات محدودة أن تقيم حكماً استبدادياً ينتشر في العالم حتى تصبح قوة ثانية تهدد العالم ؟ وسرعان ما هوت هذه الشيوعية وانهارت في عهد جيل واحد .(/5)
إنهم قد بذلوا الأسباب فالله سبحانه وتعالى من حكمته أن ييسر للإنسان عندما يبذل أسباب التمكين ، انظروا إلى الأمم السابقة كيف ارتقت إنها قد ارتفعت من الصفر حتى وصلت إلى ما وصلت إليه ، وهذه الأمة عندما تبذل الأسباب فما الذي يحول بينها وبين النصر والتمكين ؟ إذا كانت هذه الأمم متحكمة في العالم الآن إنما وصلت إلى ما وصلت إليه لأنهم بذلوا الأسباب الدنيوية فما الذي يحول بين الأمة وبين ذلك .!؟
وهل النصر والتمكين وقف على هؤلاء ؟؟! إن بعض المسلمين من فرط تأثير الواقع يتخيل أن هذه الأمم خلقت ممكنة وستبقى كذلك إلى قيام الساعة وهذه الأمة شأنها شأن الأمم الأخرى .. ولو بذلت هذه الأمة الأسباب فإنها جديرة بالتمكين كما مكن غيرها , إن هذه الأمة تملك ما لا يملك غيرها ، تملك المنهج الذي يفتقد إليه الناس الذين يعيشون الآن ألوانا من القلق والاضطراب النفسي والضلالات البشرية ، تملك المنهج الذي يتسق مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها
ومن السنن نصر الله سبحانه وتعالى :
إن هذه الأمة لا تعتمد على جهدها وحدها ، لا تعتمد على الأسباب المادية ... إنها مؤيدة من الله سبحانه وتعالى واسمعوا قول الله عز وجل : (قَاتِلُوهُم يُعذِّبَهُم اللّه بِأَيدِيكُم)، فالنصر إنما هو من عند الله سبحانه وتعالى:( فَلَم تَقتُلوُهُم وَلَكِنَّ اللّه قَتَلَهُم وَما رَمَيتَ إِذ رَمَيتَ وَلَكِنَّ اللّه رَمَى )، فمع أن الأمة الإسلامية شأنها شأن الأمم الأخرى عندما تبذل الأسباب وتجتهد فهي جديرة بالتمكين وجديرة بالنصر ، فهي مع ذلك تملك المنهج الذي تتطلع إليه البشرية التي تعاني الآن من الركام الهائل من ضلال الجاهلية المعاصرة ومع ذلك أيضا فهي تملك نصر الله ومدد الله عز وجل وتأييده وتوفيقه .
ومن سنن الله سبحانه وتعالى المداولة (وَتِلكَ الأَيامُ نُداوِلُها بَينَ النَّاس) ،لقد عرف الناس وعرف التاريخ أمماً سارت ومكن الله لها في الأرض ، فأين ما شاده شداد في إرم ؟ وأين ما ساساه في الفرس ساسان ؟ وأين عاد وثمود ؟ وأين فرعون وهامان وقارون وأبو جهل ؟ أين التتار؟ أين الصليبيون ؟ أين الروم ؟ أين الفرس ؟ أين أولئك الذين مكن لهم وتمكنوا ؟ لقد زالت دولتهم وما هي إلا حقبة ومرحلة حتى تسقط هذه الأمة فتنهض من بعدها أمم أخرى , فالتمكين ليس وقفا على أمة من الأمم .
قبل الحرب العالمية الثانية كانت الإمبراطورية التي كما يقال عنها ( لا تغيب عنها الشمس ) ، وكان يتصدر العالم بريطانيا وفرنسا ثم تحولت الصورة مرة أخرى . تحولت إلى معسكرين آخرين وسقط المعسكر الشرقي ، وهانحن نرى بوادر احتضار المعسكر الغربي.
الواقع المعاصر
ومن المؤيدات الواقع الذي نعيش فيه ومن ذلك الصحوة الإسلامية ، فهي الآن لم تعد ممثلة في دعاة منتشرين في أنحاء العالم الإسلامي ، ولم تعد ممثلة في جماعات أو أحزاب أو جبهات إسلامية ، بل لقد أصبحت الصحوة تيارا متدفقا يملأ بلاد المسلمين ، وانظروا إلى آثارها ونتائجها ، وانظروا إلى واقع العالم الإسلامي الآن ، وواقعه قبل عقدين من الزمان ، كيف كانت الصورة ؟ فالأمة الآن قد أقبلت واتجهت إلى الله سبحانه وتعالى ومهما تآمر المتآمرون فالصحوة لم تعد رجلا واحداً ولم تعد فرداً أو فردين ، ولم تعد جماعةً أو حزباً أو جبهة ، بل هي تيار متدفق فقد أقبلت الجموع إلى الله سبحانه وتعالى .
المؤيد الثاني من مؤيدات الواقع حال الشعوب الآن فهي تقبل الإسلام وتريد الإسلام, قبل مرحلة من الزمن كانت الأمة تسير وراء الناصريين والقوميين والاشتراكيين ، وتسير وراء أبطال الهزائم والنكسات التي مرت بالأمة ، لكن الآن الأمة أصبحت تريد الإسلام وانظروا مؤشرا واحدا يعطيكم دلالة على أن الشعوب أصبحت تريد الإسلام .
تلك الدول التي يجري فيها انتخابات عندما يسمح للدعاة إلى الله عز وجل أن يشاركوا في هذه الانتخابات ما هي النتيجة التي يصل إليها هؤلاء ؟من كان يصدق أن ثلثي برلمانات إحدى الدول الإسلامية سيكون من الإسلاميين ! من كان سيصدق أن الإسلاميين سيحصلون على أكثر من 80% من أصوات الشعب مع تلك الحرب والتشويه لتاريخ أولئك الدعاة ، إن هذا يعطينا دلالة أيها الإخوة على أن الأمة تريد الإسلام ، وعلى أن الشعوب اتجهت إلى الإسلام وقد لفظت عنها أولئك .
لقد لفظت عنها العلمانيين والبعثيين وغيرهم ، وعرفت أن شعارات أولئك لم تبقَ فعلاً ولم يبقَ إلا أولئك الدعاة ، وحين تصبح الصحوة تيارا كهذا التيار لا يستطيع أحد أبدا أن يقف في وجهه ولا يرده .(/6)
أيضا من مؤيدات الواقع سقوط الإمبراطورية الشرقية التي كانت تتحكم في نصف العالم ، التي كانت تمارس القتل والاستبداد والمجازر ، الشرق الذي كان يخشاه الغرب ويعتبره قوة تنافسه وتهدده , بين عشية وضحاها سقط وانهار وتمزق إلى دويلات ، والذي جعل المشرق يسقط سيسقط الغرب أيضاً، ولئن كان الغرب يملك قدرا من الثبات أكثر من المشرق لكنه أيضاً يملك من داخله مقومات الفناء . وقد بدأت عوامل الانهيار والفناء تنخر في جسد الغرب أيضا .
روافد أخرى للصحوة
هناك روافد لهذه الصحوة تؤيد بروزها وتحتم ظهورها . منها :
1- كون المسجد الأقصى بيد اليهود . وقد يستغرب ذلك ، نعم أقول أن ذلك يكون دافعا للأمة أن تعود إلى الله سبحانه وتعالى ، لأن الأمة كلها بل كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله يتطلع لليوم الذي يحرر فيه الأقصى اليوم الذي يطرد فيه اليهود ، وحينئذ تعلم الأمة وقد جرب التاريخ أنه لن يخلص هذه البلاد الطاهرة إلا الدعاة الصادقون ، الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم :" يقول الحجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله".
إن وجود الأقصى في يد اليهود مما يبعث على الأمل أيضاً لأن ذلك يشعرها بالذل والحاجة إلى أن تعود إلى دينها والحاجة إلى أن تلتف وراء القادة الصادقين .
2- التمزق الذي تعيشه الأمة ، مع أنه ظاهره مرضية لكنه مما يعين الأمة للرجعة إلى الله عز وجل، لأن المريض لا يتشجع للعلاج إلا عندما يدرك خطورة المرض ، لقد أدركت الأمة فشل الشعارات الأرضية ، لقد أدركت أن ولاءهم ليس للإسلام إنما ولاؤهم لأعداء الإسلام وإنه لن ينقذها مما هي فيه أبطال البعث ولا الناصريون ولا القوميون ولا غيرهم ، لن ينقذها سوى الدعاة إلى الله سبحانه تعالى .
3- التآمر الدولي على الإسلام باسم النظام العالمي الجديد ، وباسم المؤسسات الدولية بكافة الأسماء والمسميات ويكفي أن نعلم أنه في عام 1983م أي قبل 9سنوات من الآن وقد تغيرت الصورة كثيرا قامت الاستخبارات الأمريكية بتمويل 120 ندوة لدراسة الصحوة الإسلامية ، أي بمعدل ندوة كل 3 أيام ، وهذا التآمر بحد ذاته بشرى خير لانتصار الإسلام وقد تستغربون ذلك ، أقول نعم إن هذا دليل على أنهم أصبحوا يشعرون أن الإسلام خطر يهدد حياتهم ، والأمر الثاني أيضا أن المسلم عندما يشعر أنه يُتآمر ضده سرعان ما يعود إلى دين الله سبحانه وتعالى ويلتف حول القادة الذين يدعونه إلى الله عز وجل والعودة إلى دينه سبحانه ، ومهما كاد هؤلاء فإنهم كما قال الله سبحانه وتعالى: (وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال) ، ( وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ، ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون ، فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاويةً بما ظلموا) أتظنون أيها الإخوة أن هؤلاء أكرم عند الله من قوم نوح ؟ أتظنون أن هؤلاء أكرم عند الله من قوم عاد (إرم ذات العماد ) ؟ أتظنون أنهم أكرم من قوم فرعون وزبانيته ؟ أتظنون أنهم أكرم على الله من أبي جهل وشيبة وعتبة وغيرهم ؟ إن الذي نصر محمداً صلى الله عليه وسلم ونصر نوحاً وهوداً عليهما السلام هو الذي يلجأ إليه المسلمون الآن ليطلبوا النصر ، إن الذي أزال الدولة عن فرعون وعن قوم نوح وعن أبي جهل وعتبة وشيبة ، هو الذي أيضاً يحاربه هؤلاء وهو الذي سيزيل الدولة عليهم مرة أخرى .
4- سقوط الحضارة الغربية فهي مؤذنة بالسقوط الآن ، ولنشر إلى بعض الإحصائيات السريعة -وهي إحصائيات قديمة وقد تغيرت الصورة الآن- :
- من الإحصائيات في الولايات المتحدة في كل 6دقائق تحصل جريمة اغتصاب وكل 28 دقيقة يسقط قتيل ، وكل 8 ثواني جريمة سرقة بالإكراه
- في عام 1981م بلغ عدد الجرائم في الولايات المتحدة ثلاثة عشر مليوناً وثلاثمائة وتسعون ألف جريمة أي بمعدل 9 جرائم لكل مواطن ، وقامت أيضا الولايات المتحدة -كما نشرت جريدة الرياض - باعتماد مبالغ كبيرة لتمويل وتأمين أجهزة لاسلكي للمعلمين والمعلمات حتى يتصلوا بالأمن نظراً لأنهم يهددون من قبل الطلبة والطالبات ، وأيضا ذكرت جريدة الرياض أن نوع النظارات الجديدة والغالية الثمن تسببت في جرائم كثيرة نظراً لأن اللصوص يسرقون النظارات ثم يذهبون يبيعونها ، وقد سقط في وقت قصير ثلاثة أشخاص قتلى لأجل هذه النظارات .
- وفي عام واحد فقط اختطف في الولايات المتحدة 100ألف طفل .
أما الانهيار الاقتصادي فيكفي أنكم تعلمون جميعاً أن أكبر شركتي سيارات قد أعلنت خسارات كبيرة تبلغ المليارات .
فشركة جنرال موتورز قد قامت بإغلاق 50 مصنعاً وقد تجاوزت خسارتها أكثر من 4 مليارات دولار وقد قامت بتسريح آلاف العمال ، وتلاها في الخسارة ثاني أكبر شركة في الصناعات وهي شركة فورد وقد خسرت مليارين وثلاثمائة ألف دولار ..(/7)
هذه ليست خسارة لشركة واحدة إنما نكسة اقتصادية يعيشها هؤلاء ... ويكفي الوضع الاقتصادي أن تحصل نكبة أو هزة اقتصادية فهي كفيلة أن تهز هؤلاء وأن تقضي عليهم كما قضت على المعسكر الشرقي .
على كل حال هذه الحضارة الغربية الآن تحمل في طياتها بذور الانهيار ولا أريد أن أستطرد وأطيل في هذه النقطة لأصل بعدذلك إلى قضايا مهمة أود أن أنبه عليها .
أمور لابد منها
بعد هذه الأمور السبعة أظن أنكم توافقونني جميعاً على أننا نجزم ونعتقد أنه بعد هذا الليل لابد أن يبزغ الفجر الصادق ولابد أن تنتصر هذه الأمة ولابد أن تعود هذه الأمة إلى المكانة التي اختارها الله عز وجل إليها خير أمة أخرجت للناس ، لكن مع ذلك كله لابد من الإشارة إلى أمور سريعة :
أولاً : مع كل هذه القضايا ومع هذا الوعد الصادق من الله عز وجل ومن النبي صلى الله عليه وسلم فيجب أن نعلم أن من سنة الله سبحانه وتعالى أن النصر والتمكين إنما يتم بجهود البشر أنفسهم وهذا من كرامة الله لهذه الأمة ، فلقد كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي بعث الله إليهم نبيا . أما هذه الأمة فمن كرامتها على الله عز وجل أنه كان يقودها العلماء والمصلحون والطائفة المنصورة الذين لا يأتيهم وحي من الله سبحانه وتعالى . أقول أيها الأخوة مع أن الله تكفل لهذه الأمة بالنصر ومع أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال :" بشر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين " ومع ذلك كله لابد أن يتم ذلك بجهد البشر .(/8)
الفجور في الخصومة محمد أبو بكرالرحمنو*
إن الخصومة سلوك مشين لا يؤدي إلى خير , بل فيه فشل و ضعف و تفكيك للبناء , قال تعالى (و لا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) , و الحديث عن الخصومة له درجات و مستويات و هو من علامات النفاق :
1- الخصومة بين الأفراد :
و ينتج عادة عن التنازع في الأموال و الحقوق بصورة عامة , و كثيرا ما يؤدي الفجور إلى تعدي بعض الأفراد على بعض هذا إذا كان الأفراد فيهم ورع و دين , و قد تحدث الخصومة نتيجة الظلم و التعدي و القهر و الإستعلاء من بعض الناس على بعض .
إن أول علاج لمثل هذا النوع من الخصومة هو ألا تتجاوز الخصومة حدود موضوعها و ألا يشتط الأفراد في تحصيل الإنتقام أو السعي للإهانة و تدمير الطرف الآخر تنفيسا للغضب و إثباتا للإستعلاء و تحقيقا لمصلحة النفس . فإذا كبح الإنسان جماح نفسه عن تحصيل ذلك كانت الخطوة التالية هي تحديد نقاط الخصومة و أسبابها , فإذا إنحصرت سهل بعد ذلك تأطير الخصومة في إطارها و النأي بها عن أسباب العداوة و البغضاء , و التي هي في الأساس ناتجة عن النأي عن شرعة الله و منهاجه , قال تعالى ( فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة و البغضاء إلى يوم القيامة ) .
إن الفجور في الخصومة بين الأفراد تتجاوز آثاره طرفي الخصومة إذ يدخل فيها أطراف كثر , و تتراكم فيها المشكلات و تتوالد و تتباعد فيها الشقة و يعز فيها الإصلاح .
2- الخصومة بين الجماعات :
إن الفجور في الخصومة بين الجماعات له أثر عجيب و غريب , و حيث أن الناس كانوا أمة واحدة كما قال الله تعالى ( كان الناس أمة واحدة ) , فإن النظر إلى الخصومات الحديثة في الجماعة الواحدة و تداعياتها حتى يحصل الإنشقاق ثم متابعة ذلك حتى تتوسع هوة الخلاف ينبىء عن دور الفجور في الخصومة و أثرها على الجماعات .
كم من جماعة كانت متسقة الرؤى و التوجهات حدثت فيها خصومات بسيطة بين زعمائها في أمور ليست جوهرية ثم إنشقت من أجل ذلك , و كال كل طرف للآخر التهم و وسمه بأقذع الألفاظ , و قد كان بالأمس له حليفا و ناصرا و ممجدا .
إن مشكلة الإنشقاق في الجماعات غالبا ما تنتج عن عدم وضوح الرؤية بل و ربما عدم الإتفاق حولها و من ضبابية الأهداف و هلاميتها , و من حب بعض القيادات للسيطرة و التنفذ و من الإتجاه الفاجر في خصومتهم .
لا بد لمعالجة هذه المشكلة من التالي :
أ- تحديد رؤية واضحة و أهداف محددة .
ب- تربية الأفراد على قبول الرأي الآخر و التواضع و خفض الجناح .
ج- تحجيم المتهجمين الفاجرين في الخصومة .
3- الخصومة بين الأمم :
إن الفجور في الخصومة بين الأمم يؤدي إلى تداعيات تؤثر على قطاع واسع من الناس و الأمم و الجماعات و الإتجاهات , بل و يؤدي إلى حراك عنيف و عراك محتدم ليس حول حول المشكلة التي كانت شرارة النزاع , بل إن الفجور يؤدي إلى سعي الحكومات إلى الإقصاء أو السيطرة أو التدمير أو التحجيم , و السعي لتأليب المصائب و وضع العقبات و المصاعب في وجه الطرف الآخر .
إن تأطير المشكلات في إطارها صعب للغاية في مستوى الأمم و الدول ذلك أن المؤثرات الفاجرة فيها عادة ما تكون كثيرة و متباينة و تحتاج إلى حكمة و جلد و سيطرة من القادة , و هذا ما تفتقده الكثير من الأمم و التي ترسم سياساتها و تتخذ قراراتها في ضوء الضغوط من الجهات المتنفذة , و متطلبات الصراع حول السلطة .
و أول قيادة تفتقد السيطرة هي القيادة الناتجة عن التوجه الديمقراطي الحديث , فإنها تتوجه وفق إملاءات الحواشي المتنفذة , و تستجيب لرغبات الجهات التي تؤثر في بقاء القيادة في السلطة , و خير مثال لذلك الولايات المتحدة الأمريكية و التي تؤثر في توجهاتها العالمية دوائر غاية في الضيق لكنها تمثل طوق البقاء في القيادة .
إن حلول مثل هذه الخصومات صعب للغاية – كما أسلفت – و أول خطوات يمكن أن تقوم بها قيادة رشيدة لأمة هي :
أ- ضمان الجبهة الداخلية للأمة :
إن ضمان الجبهة الداخلية لا يتم بالإقناع الفكري أو التجميل الشكلي لمظهر المعيشة و بيئتها , بل يتم و يتحقق بالآتي :
(1) العدالة في معاملة الأفراد و الجماعات بصورة عامة : رؤساء و مرئوسين , نظاميين و مدنيين .
(2) العدالة و المعقولية في الجباية ( إن يسألكموها فيحفكم و يخرج أضغانكم ).
(3) جعل الإنسان في أولويات القيادة , أكله و مشربه و ملبسه و مأواه . إن كل واحد من هذه النقاط يحتاج الحديث عنه إلى تفصيل و إطناب ربما نتكلم عنه لاحقا إن شاء الله .
ب- تحديد نقاط الخصومة و العوامل التي أدت إليها :
و هو أمر صعب للغاية إذا تركت الأمور تتداعى عبر الأمن و التصعيد و التدخل , و الذي يؤدي إلى توليد المشكلات و تراكمها , و خروج قضايا ساكنة إلى السطح , فلا بد من السرعة في تحديد نقاط الخلاف و عواملها و السعي المباشر إلى النقاش و التحاور حولها و عدم الخروج عنها مهما فجر الطرف الآخر إلا ردا أو تقويما .
ج- حسم الملعونين :(/1)
إن الملعونين يعدون دوما لإشعال الفتنة و تأجيج نيرانها ( الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها ) , و ينبغي حسم مثل هؤلاء نقدا و تنبيها و تأديبا , فإذا كانوا ( كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها ) فينبغي أن يحصروا و يرصدوا حتى يفيقوا .
إن الفجور في الخصومة سوء أدب و تعد و طيش , و قد قال تعالى ( و لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى ) .(/2)
الفحص قبل الزواج
د.عبدالرشيد قاسم 16/9/1424
10/11/2003
مع تطور الهندسة الوراثية وانتشار الإيدز قامت دعوة قوية لإلزام الناس بالفحص الطبي قبل الزواج وتقديم الاستشارة الوراثية اللازمة للزوجين ، وأخذت بعض الدول العربية مثل سوريا وتونس والمغرب والإمارات والسعودية ...الخ بهذه الإجراءات ودعت إليه ، بل إن البعض جعلها أمراً لازماً (1).
فهناك أمراض وراثية تنتشر في بعض المجتمعات وحامل الجين المعطوب لا يكون مريضاً بالضرورة إنما يحمل المرض وتعاني ذريته ( أو بعض ذريته ) إذا تزوج من امرأة تحمل الجين المعطوب ذاته ، فهناك احتمال أن يصاب ربع الذرية بهذا المرض الوراثي حسب قانون مندل .
وبما أن عدد حاملي هذه الصفة الوراثية المعينة كثيرون في المجتمع فإن احتمال ظهور المرض كبير ، خاصة عند حدوث زواج الأقارب كابن العم وابنة العم وابن الخال وابنة الخال .
وتكمن فائدة الفحص قبل الزواج :
1 - أن المقدمين على الزواج يكونون على علم بالأمراض الوراثية المحتملة للذرية إن وجدت فتتسع الخيارات في عدم الإنجاب أو عدم إتمام الزواج .
2 - تقديم النصح للمقبلين على الزواج إذا ما تبين وجود ما يستدعي ذلك بعد استقصاء التاريخ المرضي والفحص السريري واختلاف زمر الدم .
3 - أن مرض ( التلاسيميا ) هو المرض الذي ينتشر بشكل واسع وواضح في حوض البحر المتوسط وهو المرض الذي توجد وسائل للوقاية من حدوثه قبل الزواج.
4 – المحافظة على سلامة الزوجين من الأمراض ، فقد يكون أحدهما مصاباً بمرض يعد معدياً فينقل العدوى إلى زوجه السليم.
5 – إن عقد الزواج عقد عظيم يبنى على أساس الدوام والاستمرار ، فإذا تبين بعد الزواج أن أحد الزوجين مصاب بمرض فإن هذا قد يكون سبباً في إنهاء الحياة الزوجية لعدم قبول الطرف الآخر به .
6 – بالفحص الطبي يتأكد كل واحد من الزوجين الخاطبين من مقدرة الطرف الآخر على الإنجاب وعدم وجود العقم ، ويتبن مدى مقدرة الزوج على المعاشرة الزوجية .
7 – بالفحص الطبي يتم الحد من انتشار الأمراض المعدية والتقليل من ولادة أطفال مشوهين أو معاقين والذين يسببون متاعب لأسرهم ومجتمعاتهم(2).
أما السلبيات المتوقعة من الفحص تكمن في :
1 – إيهام الناس أن إجراء الفحص سيقيهم من الأمراض الوراثية وهذا غير صحيح لأن الفحص لا يبحث في الغالب سوى عن مرضين أو ثلاثة منتشرة في مجتمع معين.
2 – إيهام الناس أن زواج الأقارب هو السبب المباشر لهذه الأمراض المنتشرة في مجتمعاتنا وهو غير صحيح إطلاقاً .
3 – قد يحدث تسريب لنتائج الفحص ويتضرر أصحابها لا سيما المرأة فقد يعزف عنها الخطاب إذا علموا أن زواجها لم يتم بغض النظر عن نوع المرض وينشأ عن ذلك المشاكل .
4 – يجعل هذا الفحص حياة بعض الناس قلقة مكتئبة ويائسة إذا ما تم إعلام الشخص بأنه سيصاب هو أو ذريته بمرض عضال لا شفاء له من الناحية الطبية .
5 – التكلفة المادية التي يتعذر على البعض الالتزام بها وفي حال إلزام الحكومات
بجعل الفحوص شرطاً للزواج ستزداد المشاكل حدة ،وإخراج شهادات صحية من المستشفيات الحكومية وغيرها أمر غاية في السهولة فيصبح مجرد روتين يعطى مقابل مبلغ من المال(3).
الحكم الشرعي للفحص قبل الزواج :
هل يجوز للدولة أن تلزم كل من يتقدم للزواج بإجراء الفحص الطبي وتجعله شرطاً لإتمام الزواج ؟ أم هو اختياري فقط ؟
اختلف العلماء والباحثون المعاصرون في هذه المسألة ويمكن تلخيص آرائهم على النحو التالي :
القول الأول :يجوز لولي الأمر إصدار قانون يلزم فيه كل المتقدمين للزواج بإجراء الفحص الطبي بحيث لا يتم الزواج إلا بعد إعطاء شهادة طبية تثبت أنه لائق طبياً وممن قال به:محمد الزحيلي وناصر الميمان وحمداتي ماء العينين شبيهنا(4)،وعبد الله إبراهيم موسى(5)،ومحمد شبير(6)،وعارف علي عارف،(7)وأسامة الأشقر(8).
القول الثاني: لا يجوز إجبار أي شخص لإجراء الاختبار الوراثي ويجوز تشجيع الناس ونشر الوعي بالوسائل المختلفة بأهمية الاختبار الوراثي وممن قال به: عبد العزيز بن باز(9)، وعبد الكريم زيدان(10)،ومحمد رأفت عثمان(11)،ومحمد عبد الستار الشريف(12).
الأدلة :
استدل القائلون بالجواز :
1 – قوله تعالى : ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم )(13).
وجه الدلالة :
أن المباح إذا أمر به ولي الأمر المسلم للمصلحة العامة يصبح واجباً ويلتزم المسلم بتطبيقه .
2 – قوله تعالى :( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة )(14).
وجه الدلالة :
أن بعض الأمراض المعدية تنتقل بالزواج فإذا كان الفحص يكون سبباً في الوقاية تعين ذلك .
3 – قوله تعالى : (قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء )(15).
وجه الدلالة :
أن المحافظة على النسل من الكليات الست التي اهتمت بها الشريعة فلا مانع من(/1)
حرص الإنسان على أن يكون نسله المستقبلي صالحاً غير معيب ، ولا تكون الذرية صالحة وقرة للعين إذا كانت مشوهة وناقصة الأعضاء متخلف العقل وكل هذه الأمراض تهدف لتحقيقها عملية الفحص الطبي .
4 – حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا توردوا الممرض على المصح "(16).
وجه الدلالة :
أن النص فيه أمر باجتناب المصابين بالأمراض المعدية والوراثية ومثله حديث " فر من المجذوم فرارك من الأسد "(17) وهذا لا يعلم إلا من الفحص الطبي(18).
5 – إن الفحص الطبي لا يعتبر افتئاتاً على الحرية الشخصية ، لأن فيه مصلحة تعود على الفرد أولاً وعلى المجتمع والأمة ثانياً ، وإن نتج عن هذا التنظيم ضرر خاص لفرد أو أفراد فإن القواعد الفقهية تقرر وأنه " يرتكب أهون الشرين " وأنه " يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام " .
6 – قاعدة " الدفع أولى من الرفع "(19) حيث أنه إذا أمكن رفع الضرر قبل وقوعه فهذا أولى وأسهل من رفعه بعد الوقوع(20).
7 – " الوسائل لها حكم الغايات "(21).
فإذا كانت الغاية هي سلامة الإنسان العقلية والجسدية فإن الوسيلة المحققة لذلك مشروعة ، وطالما أن الفحص الطبي قبل الزواج يحقق مصالح مشروعة للفرد الجديد وللأسرة والمجتمع ويدرأ مفاسد اجتماعية ومالية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي وهذه من الأسباب المأمور بها شرعاً (22).
واستدل المانعون على إجبار الشخص للفحص الوراثي بما يلي :
1 – إن أركان النكاح وشروطه التي جاءت بها الأدلة الشرعية محددة وإيجاب أمر على الناس وجعله شرطاً للنكاح تَزيّد على شرع الله وهو شرط باطل وقد صح قوله عليه الصلاة والسلام (كل شرط ليس في كتاب الله فهوباطل ...).
2 – إن النكاح لا يلزم منه الذرية ، فقد يتزوج الرجل لأجل المتعة فقط فلا وجه لإلزامه بالفحص الوراثي كما هو الحال في كبار السن .
3 – إن الفحص غالباً سيكون على مرضين أو ثلاثة أو حتى عشر والأمراض الوراثية المعلومة اليوم أكثر من 8000 مرض وكل عام يكتشف أمراً جديداً ، فإذا ألزمنا الناس بالفحص عنها جميعاً فقد يتعذر الزواج ويصعب وينتشر الفساد .
4–قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه."(23).
وجه الدلالة :
لم يقل صلى الله عليه وسلم ( وصحته ) والأصل أن الإنسان سليم ، وقد اكتفى بالأصول الدين والخلق .
5 – إن تصرفات ولي الأمر في جعل الأمور المباحة واجباً إنما تجب الطاعة إذا تعينت فيه المصلحة أو غلبت للقاعدة الفقهية " تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة "(24).
ولقوله صلى الله عليه وسلم : " إنما الطاعة في المعروف "(25) وإلزام الناس بالكشف قبل الزواج فيه مفاسد عظيمة تزيد عن المصالح المرجوة – وقد تقدم بيانها -(26).
6 –ما جاء في الحديث القدسي : " أنا عند حسن ظن عبدي بي "(27).
وجه الدلالة :
أن المتقدم للزواج ينبغي أن يحسن الظن بالله ويتوكل على الله ويتزوج ، والكشف يعطي نتائج غير صحيحة أحياناً(28).
الترجيح :
1-لولي المرأة أن يشترط من المتقدم للخطبة إجراء الفحص إذا كانت هناك قرائن تدل على احتمال الإصابة بالمرض سواء للمخطوبة أو للذرية مستقبلا لاسيما في هذا الزمان الذي انتشرت فيه الأمراض المختلفة مثل نقص المناعة المكتسب ( الإيدز ) والزهري والسيلان وغيرها، فانتشار الإيدز بشكل مخيف حسب الإحصائيات غير المعلنة وكما قرره أهل الاختصاص بين أوساط الشباب في الأزمنة المتأخرة والأمانة الملقاة على عاتق ولي المرأة تجعل القول باشتراط الفحص إن أحب الخاطب الاقتران من الأمور المؤكدة إذا ظهرت القرائن التي تدل على احتمال الإصابة ، والخاطب بالخيار إن شاء رضي بذلك وإلا اختار غيرها وقد جاء في فتاوى اللجنة الشرعية بوزارة الأوقاف بالكويت " يستحب ، بل يجب في بعض الحالات إخبار الراغبين في الزواج بما تكشف عنه الفحوصات ، سواء كان حصول التشويه بالحمل مؤكداً أو محتملاً لقوله صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة " والله أعلم "(29).
2-إذا انتشر مرض معين في منطقة معينة وكان المتزوجين من أهل المنطقة وهم معرضون غالباً لانتقال الأمراض الوراثية للذرية فلا بأس من طلب الفحص قبل الزواج وليس ذلك على النطاق العام ففي السعودية ينتشر مرض (المنجلية) في منطقة جازان فقط فيقتصر الحكم عليه .
3- تعميم اشتراط الفحص الطبي على الكل وإجبار الناس عليه بلا موجب لا يظهر لي جوازه وقد انتهت المناقشات الطبية الفقهية لموضوع الفحص الطبي قبل الزواج التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت والتي ضمت نخبه من الأطباء والفقهاء من بلدان عديدة بجملة توصيات جاء فيها :
" 2 – تشجيع إجراء الاختبار الوراثي قبل الزواج وذلك من خلال نشر الوعي عن طريق وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والندوات والمساجد .(/2)
3 – تناشد السلطات الصحية بزيادة أعداد وحدات الوراثة البشرية لتوفير الطبيب المتخصص في تقديم الإرشاد الجيني وتعميم نطاق الخدمات الصحية المقدمة للحامل في مجال الوراثة التشخيصية والعلاجية بهدف تحسين الصحة الإنجابية .
4 – لا يجوز إجبار أي شخص لإجراء الاختبار الوراثي "(30).
والواقع يشهد أن نتائج الفحص إذا خلصت لعدم صلاحية الزواج للمتقدمين للفحص فإن الاتهامات تنصب على المرأة المسكينة ويكون سببا لعزوف الشباب عنها وربما عاشت حياتها بلا زواج مما يزيد في شيوع العنوسة وانتشار الفساد كما حصل في بعض البلدان التي ألزمت بالفحص والله اعلم.(1)-انظر : الفحص قبل الزواج للبار ص 16 – 17.
(2)- انظر : التدابير الشرعية للعناية بالجنين لمحمود العمري ص 20 – 21 .
(3)- انظر : الفحص قبل الزواج للبار ص 30 – 35 ، أيضاً : الوراثة والهندسة الوراثية بحث نظرة فاحصة للفحوصات الطبية للبار 2 / 643 – 646 بحث الاسترشاد الوراثي لمحسن الحازمي 2/ 682 .
(4)- انظر : الوراثة والهندسة الوراثية 2 / 781 ، 821 ، 956 .
(5)- انظر : المسؤولية الجسدية في الإسلام لعبد الله إبراهيم ص 302 .
(6)- انظر:مجلة الحكمة العدد السادس صفر 1416هـ ص 210 بعنوان موقف الإسلام من الأمراض الوراثية.
(7)-انظر : مستجدات فقهية لأسامة الأشقر ص 92 .
(8)- انظر : المصدر السابق ص 93 .
(9)- انظر : جريدة المسلمون العدد 597 بتاريخ 12 يوليو 1996م .
(10)- من خلال سماعي لرأيه في مناقشات مجمع الفقه الإسلامي بالرابطة عام شوال 1422هـ - 2001م
(11) انظر : بحث نظرة فقهية في الأمراض التي يجب أن يكون الاختبار الوراثي فيها إجبارياً كما ترى بعض الهيئات الطبية ص 926 – ضمن الوراثة والهندسة الوراثية – مطبوعات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية
(12) انظر : بحث حكم الكشف الإجباري عن الأمراض الوراثية ص 971 – ضمن الهندسة الوراثية – مطبوعات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية.
(13)- سورة النساء : 59 .
(14)- سورة البقرة : 195 .
(15)- سورة آل عمران : 38 .
(16)- أخرجه البخاري ( 56 ) كتاب الطب ( 53 ) باب لا عدوى برقم 57 .
(17)- أخرجه البخاري تعليقاً ( 56 ) كتاب الطب ( 19 ) باب الجذام .
(18)- انظر : مستجدات فقهية لأسامة الأشقر ص 94 – 95 ، تحفة العروس لمحمود مهدي الاستانبولي ص 38 – 39 .
(19)- انظر القاعدة : الأشباه والنظائر للسيوطي ص 138 ، المنثور للزركشي 2 / 155 ، الإبهاج لابن السبكي 2 / 227 .
(20)-انظر : بحث الإرشاد الجيني لمحمد الزحيلي ص 780 ، 782 ، بحث الإرشاد الجيني لناصر الميمان ص
814 ، 821 ، الأمراض التي يجب أن يكون الاختبار الوراثي فيها إجبارياً لحمداني ماء العينين ص 956
ضمن الوراثة والهندسة الوراثية – مطبوعات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية - ، المسؤولية الجسدية في الإسلام لعبد الله إبراهيم ص 302 .
(21) انظر : طريق الوصول إلى العلم المأمول للسعدي ص 238 .
(22) انظر : مستجدات فقهية لأسامة الأشقر ص 96 .
(23) أخرجه الترمذي ( 8 ) كتاب النكاح ( 3 ) باب ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه برقم 1084 ، وابن ماجه ( 10 ) كتاب النكاح ( 46 ) باب الأكفاء برقم 1967 وإسناده صحيح . والاستدلال للشيخ عبد الله بن منيع .
(24) انظر : الأشباه والنظائر للسيوطي ص 121، قواعد الفقه للبركتي ص 70 ، المنثور للزركشي 1/ 309 ، بحوث فقهية لعبد الستار أبو غدة ص 32 .
(25)- أخرجه البخاري ( 73 ) كتاب الأحكام ( 4 ) باب السمع والطاعة للإمام مالم تكن معصية برقم 7145 ، ومسلم ( 34 ) كتاب الإمارة ( 8 ) باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية برقم 1840 .
(26)- انظر : الوراثة والهندسة الوراثية – المناقشات الفقهية ص 833 ، 840 ، 850 .
(27)- أخرجه البخاري ( 77 ) كتاب التوحيد ( 15 ) باب قول الله تعالى } ويحذركم الله نفسه { برقم 7405 ، ومسلم ( 49 ) كتاب الذكر والدعاء ( 1 ) باب الحث على ذكر الله تعالى برقم 2675 .
(28)- انظر : جريدة المسلمون العدد 597 بتاريخ 12 يوليو 1996 م والاستدلال للشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله .
(29)- انظر : مجموعة الفتاوى الشرعية 2 / 307؛ نقص المناعة المكتسبة الإيدز لسعود الثبيتي ص 72 ، وهكذا بدأ مرض الإيدز لفهمي مصطفى ص 79 ، الإيدز وباء العصر لمحمد علي البار ومحمد صافي ص 305
(30) انظر : الفحص قبل الزواج للبار ص 78 .(/3)
الفخ في صراع الحضارات فاطمة عبد الله*
في حركة لولبية ومتصاعدة اتخذت مسألة نشر الصحف الأوروبية لصور ورسوم تسيء للنبي صلى الله عليه وسلم منعرجا خطيرا؛ ليس أقلّه أن هناك من يدفع باتجاه تأجيج صراع مفتعل، وفخّ مهيأ سلفا من دعاة صراع الحضارات أسوة بما كان (بشّر) به جزافا المفكر الأمريكي (صموئيل هنتنغتون) في كتابه (صراع الحضارات) الذي نشره منذ عشرية ونصف.
وعندما نتفحّص في نسق العملية - عملية النشر التي ترد تباعا من عاصمة أوروبية إلى أخرى تحت تعلّة حرية التعبير - نعي تماما أن في الأمر حثّا نحو مخطط، أو فخ أفصح عنه، وحذّر منه وزير الخارجية الإسباني ميغل موراتينوس حين دعا العالم الغربي إلى عدم الوقوع في فخّ من أسماهم دعاة حرب الحضارات..
لكن عندما نستعرض وسائل الإعلام التي نشرت ولا تزال تعيد النشر، والبلدان التي تنتمي إليها نجد طرفا حاضرا غائبا في المشهد وهو الطرف الأمريكي.
إذ أن التعلة - التي تتخذها العواصم الغربية، وصحفها الكبرى التي نشرت، أو أعادت نشر الرسوم المشار إليها - هي حرية التعبير.. في حين أن الصحافة الأمريكية لم تنخرط إلى حدّ هذه اللحظة في هذا الجدل الذي أريد له أن يكون في ميدان العرب والمسلمين، وبوسائل الغرب من الأوروبيين.
هنا يطرح سؤال الحيرة نفسه: من هو الطرف أو الأطراف التي لها مصلحة في اشتعال النار بين الشرق والغرب، وتحديدا بين أوروبا والعالم الإسلامي المتاخم لها جغرافيا، والساكن بين ظهرانيها من خلال ملايين المسلمين الذين يعيشون في قلب أوروبا.
لقد تسارعت الأحداث بدرجة لم يعد معها التحاور ممكنا بالفكرة، والفعل أضحى فيه الكثير من الاستفزاز، وردّ الفعل صار مغمورا بالمشاعر والأحاسيس؛ وهنا لبّ المشكل؛ إذ أن التاريخ علّمنا أن مسّ مقدسات أو محرّمات مجموعة بشرية ما من شأنه أن يؤجج المشاعر، ويجعل المجموعة في حلّ من أي حوار.
الملفت في كل هذا الذي حدث من ردّة فعل شعبية غاضبة أنها لا تعني مفهوم الصراع في شيء، وهي كذلك لا تعني مفهوم الحوار في شيء أيضا.
عندما نتفحص جيدا هذه الأحداث المستجدة على الساحتين الأوروبية والعربية الإسلامية لا بد أيضا من أن نتساءل عن معاني عدة منها: ما معنى هذا التوقيت؟ وما علاقة تلك الرسوم المشينة والمسيئة لمشاعر المسلمين بأحداث العالم اليوم من حروب، واحتلال، وهيمنة؟.. وهي أحداث تسيء لكل من العربي، والمسلم الذي يقع عليه أثرها في حين أن من أصدرت صحفه، ووسائل إعلامه تلك الرسوم، هو الأطراف التي تتحرك، وتقوم بتلك الأفعال التي منها الاستعمار، والسيطرة على مقدرات الغير..
ما أشار إليه الوزير الأسباني كفيل بأن يفتّح أعين الكثيرين ممن اتخذوا من المسألة مجرّد ردّ فعل متخلف من أمة كفّ عطاؤها للحضارة الإنسانية منذ زمن.
إنه الفخّ الذي سارع عدد من الغربيين للوقوع فيه، في حين أن المسألة تتجاوز كونها حرية رأي تمسّ حرية المعتقد، وقدسية المقدَّس للمسلمين قاطبة.. وكما شدد وزير الخارجية الإسبانية فالوضع العالمي لا يحتمل صراعا حضاريا؛ وعلى الغرب أن يعمل على خفض التوتر.. لأن الوضع كما نعلم جميعا متوتر لأسباب يعرف الغربيون جيدا أنها خارجة عن نطاق الاعتداء بالصورة أو بالكلمة ضد العرب والمسلمين لتتعداها إلى مشهد مشحون بالغضب جراء الهيمنة الاقتصادية، والغزو العسكري، وسفك دماء الاستقلال الوطني.
ما هو مطلوب من الغرب اليوم هو التعامل بمسؤولية تجاه أحداث فيها فخاخ للجميع.. فلا العرب والمسلمون طلاّب صراع حضاري، ولا هم أيضا جادلي الغرب في مقدّساته، وحريته الفكرية، وحرية التعبير في بلدانهم.
إنّ تحذير موراتينوس جاء في وقته؛ لأن الغضب والاستفزاز بدآ يسريان كالنار في الهشيم، في حين أن التريّث والانتباه إلى ما يحمله فخّ صراع الحضارات من كوارث على البشر أجمعين من شأنه أن يجنّب البشرية شرّ البليّة.(/1)
الفرار إلى الله .. حقيقته والسبيل إليه
إن الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أما بعد :
فإن الناظر اليوم بعين البصر والبصيرة في واقع الأمة الإسلامية وما حل بها من مصائب وويلات وفتن عظيمة على مستوى كثير من الأفراد والمجتمعات ليأخذ به الأسى والتوجع مأخذاً بعيداً حتى إن اليأس ليوشك أن يحيط به لولا عظيم الأمل في وعد الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه : (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) [1] .
ومما يُذهب اليأس ويعزي النفوس أيضاً معرفة المسلم بسنن الله عز وجل ، في عباده ، وإدراك أن ما أصابنا من المصائب والفتن العظيمة إنما هو من عند أنفسنا، وبسبب ذنوبنا ، وبما طرأ على حياتنا من بُعد عن الله عز وجل ، ونسيان للآخرة ، وانغماس في الملذات، وإقبال على الدنيا والجري وراءها والانغماس في متاعها ، مما انتشر بسببه كثير من المعاصي والفتن التي انجرف فيها الكثير إلا من شاء الله .
وما دام أن الداء قد عرف والمرض قد شُخّص فلا يبقى أمام من ينشد النجاة لنفسه ولأمته إلا مباشرة العلاج ؛ وذلك بالفرار إلى الله عز وجل ، والإنابة إليه، والاعتصام به سبحانه كما أمر في كتابه العزيز بقوله : ( فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) [الذاريات : 50]، وهذا الفرار يعني ترك أسباب سخطه إلى أسباب مرضاته ، والفرار من عقوبته إلى معافاته، ومنه إليه سبحانه كما جاء ذلك في دعاء سيد المرسلين والمتقين صلى الله عليه وسلم حيث قال : (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك ، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك) [2] .
من أجل ذلك جاءت فكرة الاهتمام بهذه القضية المهمة من الوقفات التربوية القرآنية ، وعلى هدي من تلك الآية الكريمة . ودافعي لذلك أسباب لعل من أهمها :
1- انفتاح الدنيا الشديد ، وتغلب الجانب المادي على حياة أكثر الناس وما ترتب على ذلك من لهث وتكالب على حطامها دون تمييز بين حلال وحرام، وطيب وخبيث؛ فحصل التنافس الشديد على حطامها ، وصار الحب والبغض من أجلها ، بل والقتال عليها. نسأل الله السلامة .
وحصلت الغفلة الشديدة عن الآخرة والغاية التي من أجلها خلقنا ، وتحولت هذه الدنيا الفانية من كونها خادمة ومملوكة إلى أن تكون مالكة مخدومة. لذا فمن موجبات النصيحة التحذير من فتنة الدنيا وغرورها ، والفرار منها إلى الله عز وجل والدار الآخرة ، وتنبيه الغافلين وحثهم على التوبة والاستعداد للرحيل إلى دار البقاء والحياة السرمدية .
2- ظهور المنكرات في أغلب البلدان، وانتشار الفساد بشكل ينذر بالخطر والعقوبة إن لم يتدارك الله عز وجل عباده ويرحمهم بالرجوع إليه وإحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ وذلك ببعث الناصرين لدينه والصابرين على ما أصابهم في ذلك ابتغاء رضوان الله عز وجل .
3- ظهور الفتن المتلاطمة في هذا الزمان والتي يرقق بعضها بعضاً، ورؤية المتساقطين فيها ما بين هالك فيها بقلبه أو بلسانه أو بيده ؛ حتى أصبح المسلم يخشى على نفسه في أي لحظة أن يزل فيها ويسقط ، وصار هجيراه قولَ : (ربّ سلّمْ سلّمْ) و( لا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إلاَّ مَن رَّحِمَ ) [هود : 43] وغدت هذه الفتن من الكثرة بحيث أصبح من يريد لنفسه النجاة لا يدري بأيها يبدأ بالمقاومة ، أم مِن أيها يفر إلى الله عز وجل : أمِن فتنة الدنيا وزينتها ومناصبها، أم من الفتنة بالعلم وآفاته ومبطلاته ، أم من فتنة البدع والمعاصي التي طمت وعمت، أم من الفتنة العمياء التي تدور رحاها اليوم بين المسلمين حيث دب فينا داء الأمم من الفرقة والشحناء والأهواء والحزبيات الكريهة ، حتى صار كل حزب بما لديهم فرحين ؟ وإن مما يزيد هذه الفتنة عمًى وشدة أنها في صفوف الطائفة المنصورة : طائفة أهل السنة والجماعة . وإن لم يتداركنا الله برحمته ، ويسعى المخلصون من أهل السنة في إخماد هذه الفتنة فإن أمام الأمة ليلَ فتنةٍ طويلاً ثقيلاً يفرح به أعداء الإسلام ويستبشرون بذلك في مزيد من التسلط والاستعلاء . ولعل في طرح هذا الموضوع إسهاماً متواضعاً في التماس أسباب النجاة من هذه الفتنة الصماء والداهية الدهماء ، وغيرها من الفتن .
4- الغربة الشديدة على الإسلام وأهله في أكثر بلدان المسلمين ، حيث نُحّيَ شرع الله ، وتسلط الأعداء على أهل الغربة بالنكال والأذى ؛ فقلّ النصير والمعين ، ونجم النفاق ؛ حتى استوحش أهل الغربة من هذه الحال ؛ فكان لا بد من التواصي معهم على الحق والصبر، لعل الله عز وجل ، أن يثبت القلوب ، وينجي من الفتن ، ويكشف الكربة ، وينصر حزبه المؤمنين .(/1)
5- التأكيد على الرجوع إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في التماس سبل النجاة من الفتن والمهلكات ، ولفت الأنظار إليهما بعد أن ابتعد كثير من الناس عنهما ، والتأكيد أنه ما من خير إلا دلاّ عليه ، وما من شر إلا حذّرا منه . قال تعالى : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) [الأنعام : 38] ، كما أن السنة النبوية ما تركت من فتنة ولا شر يأتي على هذه الأمة إلى قيام الساعة إلا وألمحت إليه ، وحذرت منه ، وحددت سبيل النجاة منه ؛ فلا عذر لنا في ترك ما
فيه حياتنا وسبيل نجاتنا : كتابِ الله عز وجل وسنةِ نبيه .
وشيء آخر يتعلق بهذا الأمر ألا وهو لفت الأنظار إلى ذلك الانقياد العظيم من سلفنا الصالح لهدي الكتاب والسنة في الفرار من الشرور والفتن وضرورة الاطلاع الدائم على تلك المواقف العملية الموفقة من سلفنا الصالح إزاء الفتن ، والزوابع ، وضرورة الاقتداء بهم في تلك المواقف النبيلة المهتدية بالكتاب والسنة ، وهذا ما سيرد ذكره في ثنايا هذا البحث إن شاء الله تعالى .
وقفة مع تفسير قوله تعالى : ( فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ ) :
قال الله عز وجل في سورة الذاريات : ( فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) [الذاريات : 50] يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية : لما تقدم ما جرى من تكذيب الأمم لأنبيائهم وإهلاكهم ؛ لذلك قال الله تعالى لنبيه : قل لهم يا محمد ؛ أي قل لقومك : (فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) أي فروا من معاصيه إلى طاعته .
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى معلقاً على الآية نفسها :
(فلما دعا العباد إلى النظر إلى آياته الموجبة لخشيته ، والإنابة إليه ، أمر بما هو المقصود من ذلك ، وهو الفرار إليه . أي : الفرار مما يكرهه الله ، ظاهراً وباطناً ؛ إلى ما يحبه ، ظاهراً وباطناً ، فرار من الجهل إلى العلم ، ومن الكفر إلى الإيمان ، ومن المعصية إلى الطاعة ، ومن الغفلة إلى الذكر . فمن استكمل هذه الأمور ؛ فقد استكمل الدين كله ، وزال عنه المرهوب ، وحصل له غاية المراد والمطلوب) .
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (منزلة الفرار) :
قال الله تعالى : (فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ ) فحقيقة الفرار: الهرب من شيء إلى شيء . وهو نوعان :
فرار السعداء : الفرار إلى الله عز وجل . وفرار الأشقياء : الفرار منه لا إليه) [3] .
وأغلب أقوال المفسرين لا تخرج عن تلك المعاني السابقة في تفسير الآية ، فكلها ترجع إلى معنى واحد في أن المقصود هو : الفرار من المعصية إلى الطاعة ؛ أي : الفرار من أسباب غضب الله تعالى إلى أسباب رحمته . والمراد منه الفرار من غضب الله عز وجل وما يترتب عليه من العقوبة ، إلى رحمته وما يترتب عليها من المعافاة .
ومن الآيات التي تدخل في معنى الفرار واللجوء إلى الله عز وجل :
- قوله تعالى عن الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك : -
( حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأََ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ ) [التوبة : 118] .
• وقوله تعالى عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (وَقَالَ إنِّي ذَاهِبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) [الصافات : 99] .
• وقوله تعالى : ( وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) [آل عمران : 133] .
فاللجوء إليه سبحانه والذهاب والهجرة إليه ، والمسارعة إلى مغفرته وجناته : كلها من معاني الفرار والهجرة إليه سبحانه ؛ وذلك بتوحيده والسعي إلى مرضاته وجنته هرباً من سخطه وعقوبته ؛ وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (وله في كل وقت هجرتان : هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل والإنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاء والإقبال عليه وصدق اللجأ والافتقار في كل نفس إليه . وهجرة إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفصيل محاب الله ومرضاته) [4] . 1هـ .
ومن الأحاديث الواردة : في معنى الفرار إلى الله عز وجل واللجوء إليه:
قوله : (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناءً عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك) [5] .
ومنها أيضاً : ما رواه الإمام البخاري ، رحمه الله تعالى ، في صحيحه عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أنه قال : قال رسول الله : (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن) [6] .
وسيأتي شرح الحديث عند الكلام عن العزلة وضوابطها إن شاء الله تعالى .
الفتن وأسباب السقوط فيها :(/2)
وقوع الفتن سنة ربانية لا تتبدل كما في قوله تعالى : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) [العنكبوت : 2] . وقد كتبها الله عز وجل على عباده لحكم عظيمة : منها تميز المؤمنين من غيرهم ، ومنها تكفير السيئات ورفع الدرجات ، ومنها غير ذلك مما لا نعلمه . فعن حذيفة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : (تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً ؛ فأي قلب أُشربها نكتت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين : أبيض مثل الصفا ، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ، والآخر مرباداً ، كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) [7] . والحديث عن الفتن وأسبابها يتطلب إفراد كلمة (الفتن) بالتعريف والشرح ، وتوضيح الفرق بين مدلولاتها .
(فالفتن) : وهي بكسر الفاء وفتح التاء ، جمع فتنة ، قال الأزهري : جماع معنى الفتنة في كلام العرب الابتلاء والامتحان ، وأصلها مأخوذ من قولك : (فتنت الفضة والذهب) أذبتهما بالنار ليتميز الرديء من الجيد ، ومن هذا قول الله عز وجل : ( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) [الذاريات : 13] .
أي يحرقون بالنار ، وقال ابن الأنباري : فتنت فلانة فلاناً ، قال بعضهم : أمالته .. قال تعالى : (وَإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ) [الإسراء : 73] أي يميلونك .. فتنت الرجل عن رأيه أي أزلته عما كان عليه .... والفتنة : الإثم في قوله تعالى :
( وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا ) [التوبة : 49] وأما قول النبي : (إني أرى الفتن خلال بيوتكم) [8] فإنه يكون القتل والحروب والاختلاف
الذي يكون بين فرق المسلمين إذا تحزبوا ، ويكون ما يبلون به من زينة الدنيا وشهوتها فيفتنون بذلك عن الآخرة والعمل لها . والفتنة الإضلال في قوله تعالى : -
( مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ) [الصافات : 162] يقول ما أنتم بمضلين إلا من أضله الله .. والفتنة العذاب نحو تعذيب الكفار ضعفة المؤمنين في أول الإسلام ليصدوهم عن الإيمان، والفتنة الاختبار ، والفتنة المحنة ، والفتنة المال ، والفتنة الأولاد ، والفتنة الكفر، والفتنة اختلاف الناس بالآراء ، والفتنة الإحراق ، وقيل : الفتنة : الغلو في التأويل المظلم . يقال : فلان مفتون بطلب الدنيا أي قد غلا في طلبها . وجماع الفتنة في كلام العرب : الابتلاء والامتحان) [9] اهـ .
مما سبق بيانه يتحصل لدينا أن الفتنة تطلق ويراد منها معان كثيرة تدل على كل معنى منها ، ويعرف حسبما ورد بالسياق والقرائن ، ومن هذه المعاني :
1- الابتلاء والامتحان .
2- الميل عن الحق .
3- الإثم .
4- القتل والحرب .
5- الاختلاف والفرقة .
6- الإضلال .
7- الكفر .
8- العذاب ، وغير ذلك من المعاني المذمومة .
والآن وبعد أن تبين لنا معنى الفتنة وما يتفرع عنها من المعاني ، وبعد أن تبين لنا خطرها وذم الشرع لها ، وجب الحذر منها والهرب والفرار والفزع إلى الله عز وجل من شرورها . ومما يساعد على البعد عنها والنجاة منها إذا وقعت معرفة أسبابها والطرق المؤدية لها؛ لأن معرفة أسباب السقوط فيها تعين على النجاة منها بإذن الله عز وجل .
أسباب السقوط في الفتن :
الأسباب المؤدية إلى ملابسة الفتن والسقوط فيها كثيرة ؛ لكنها لا تخرج في مجموعها عن سببين هامين يرجع إليهما جميع الأسباب . وقد ذكر هذين السببين الإمامان الجليلان ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، رحمهما الله تعالى، وعبرا عن ذلك بأسلوبين مختلفين لفظاً لكنهما متفقان في المعنى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
(ولا تقع فتنة إلا من ترك ما أمر الله به ، فإنه سبحانه أمر بالحق وأمر بالصبر . فالفتنة إما مِنْ تَرْك الحق ، وإما من ترك الصبر) [10] .
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (الفتنة نوعان : فتنة الشبهات . وهي أعظم الفتنتين ، وفتنة الشهوات . وقد يجتمعان للعبدِ . وقد ينفردُ بإحداهما) .
وهما ما ذكره شيخ الإسلام نفسه من الأسباب . فالشبهة إنما تنشأ من ترك الحق والجهل به ، بينما تنشأ الشهوة من ترك الصبر أو ضعفه .
ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة ، وقلة العلم ، ولا سيما إذا اقترن بذلك فسادُ القصد ، وحصول الهوى .
وهذه الفتنة تنشأ تارة من فَهْمٍ فاسدٍ ، وتارةً من نقلٍ كاذب ، وتارةً من حق ثابت خَفيَ على الرجل فلم يَظْفر به ، وتارةً من غرض فاسد وهوى مُتبع ، فهي من عمى في البصيرة ، وفسادٍ في الإرادة .
وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتين في قوله : ( كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاقِكُمْ ) [التوبة : 69] .(/3)
أي تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها . والخلاق هو النصيب المقدر ، ثم قال : ( وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ) [التوبة : 69] فهذا الخوض بالباطل ، وهو الشبهات .
فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان ، من الاستمتاع بالخلاق ، والخوضِ بالباطل ؛ لأنّ فساد الدين إما أن يكون باعتقادِ الباطل والتكلم به ، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح .
فالأول : هو البدع وما والاها ، وهو فساد من جهة الشبهات .
والثاني : فسقُ الأعمال ، وهو فساد من جهة الشهوات .
ولهذا كان السلف يقولون : (احذروا من الناس صنفين : صاحب هوى قد فتنه هواه ، وصاحب دنيا أعمته دنياه) وكانوا يقولون : (احذروا فتنة العالم الفاجر ، والعابد الجاهل ؛ فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون) [11] .
ويمكن تلخيص هذه الأسباب فيما يلي :
1- ترك الحق وعدم السعي للعلم به أو عدم إصابته بسبب شبهة أو تأويل فاسد ؛ ومن هنا تنشأ الفتنة بسبب الجهل أو الفهم الفاسد .
وهذا ما عبر عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بقوله : (ترك الحق) ، وعبر عنه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله : (فتنة الشبهات من ضعف البصيرة وقلة العلم) .
2- ترك الصبر : وأصل الفتنة في هذا السبب هو عدم الصبر على الحق ؛ فصاحب هذه الفتنة لا ينقصه العلم بالحق بل يعلمه ولا يجهله ؛ ولكنه تركه ضعفاً وشهوة ، وهو يعلم من نفسه أنه تارك للحق .
________________________
(1) البخاري (6/632) الفتح ، مسلم (13/66) النووي .
(2) أبو داود في الصلاة (1427) والترمذي في الدعوات .
(3) مدارج السالكين : (1/469) .
(4) مقدمة طريق الهجرتين : ص 9 ط دار الحديث .
(5) رواه مسلم (486) في الصلاة ، باب ما يقال في الركوع والسجود .
(6) البخاري في كتاب الفتن (7088) .
(7) مسلم : كتاب الإيمان (144) .
(8) البخاري كتاب المناقب (3597) .
(9) تهذيب اللغة (14/297 299) (باختصار) .
(10) الاستقامة (1/39) .
(11) إغاثة اللهفان 1/165-167 (باختصار) .
مجلة البيان / العدد (117) التاريخ - جمادى الأولى / 1418هـ .(/4)
الفرزدق
(20 – 114) هـ
هو أبو فراس، همام بن غالب، من قبيلة دارم التميمية، لقب بالفرزدق لغلظ وجهه.
وهو شاعر أموي في الطبقة الأولى، نشأ نشأة بدوية، ومدح خلفاء بني أمية تكسباً.
وهو صاحب الأخبار والمهاجاة مع جرير والأخطل.
وكان شريفاً في قومه، عزيز الجانب.
يمتاز شعره بالقوة والجزالة وكثرة الغريب.
وغلب فخره على جميع فنونه الشعرية حتى أدخله في مدائح بني أمية ، إلا أنه شديد الإقذاع في هجائه. وله أشياء تستجاد في الوصف البدوي، كوصف الذئب في الأبيات التالية:
- وأطلس عسال، وما كان iiصاحباً
2- فلما دنا قلت: ادنُ دونك iiإنني
3- فبت أسوّي الزاد بيني وبينه
4- فقلت له، لما تكشَّر iiضاحكاً
5- تعشَّ، فإنْ عاهدتني لا iiتخونني
6- وأنت امرؤ، يا ذئب، والغدرُ كنتما
7- ولو غيرَنا نبَّهتَ تلتمس iiالقِرى
8- وكلُّ رفيقَيْ كلِّ رحلٍ- وإنْ iiهما ... دعوت بناري مَوْهناً، iiفأتاني
وإياك، في زادي، iiلمشتركان
على ضوء نار مرة iiودخان
وقائم سيفي من يدي iiبمكان
نكن مثلَ مَنْ –يا ذئب- iiيصطحبان
أُخيين كانا أُرضِعا iiبلبان
رماك بسهم، أو شباةِ iiسِنان
تعاطى القنا قَوْماهُما- iiأخوان
الهوامش
(1) أطلس: ذئب أغبر –عسّال: يمشي مشياً خفيفاً- موهناً: عند منتصف الليل.
(3) أسوّي: أَقسم بالسوية.
(4) قائم السيف: مقبضه.
(6) سمَّى الذئب امرأً، تنزيلاً له منزلة العاقل، لخطابه إياه. وربما سمُّوا الذئب نفسه امرأً. واللبان (بكسر اللام): الرضاع، اللبن.
(7) الشباة: الحد- السنان: نصْل الرمح وحديدته.
(8) رفيقا الرحل: المسافران معاً. والرحل: ما يوضع على ظهر البعير المركوب.(/1)
الفرق بين التقاعد والتأمين
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/التأمين
التاريخ ... 5/1/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ما حكم نظام التقاعد؟ وهل هو عقد ربوي؟ وأرجو بيان الفرق بينه وبين نظام التأمين، وإذا أراد الإنسان أن يتقاعد فهل هناك فرق من ناحية شرعية بين أن يصفي الموظف حقوقه أو أن يستلم راتب التقاعد؟ أرجو البيان الشافي؛ حيث أن الأمر اشتبه علي منذ أن تكلم العلماء في إنكار التأمين وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم إلى السداد والصواب والإخلاص والتوفيق في الدنيا والآخرة إنه سميع قريب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب
نظام التقاعد ليس عقداً ربوياً وليس من التأمين المحرم وإنما استدل من يرى جواز التأمين التجاري بجواز نظام التقاعد، ولا أعرف أحداً من أهل العلم حرم (معاش التقاعد) بدليل معتبر، وإنما جاء اللبس على بعض الناس من العامة حيث كل من عقدي (التأمين والتقاعد) يدفع فيه الشخص أو الموظف مبلغاً من المال مقسطاً ثم يأخذ بعد زمن مبلغاً أكثر مما دفع مقسطاً أيضاً.
ووجه جواز معاش التقاعد أن الموظف منحته الدولة مكافأة (9%) تضم مع ما يخصم من راتبه الشهري وهو (9%) ثم يعطى الموظف مجموع النسبتين بعد تقاعده، لأن الدولة ممثلة بولي الأمر مسؤولة عن أسرته تبرعت له بذلك ووضع لصرفها له نظام روعي فيه مصلحته ومصلحة أقرب الناس إليه فنظام التقاعد من عقود (التبرعات)، أما عقد التأمين فهو من عقود (المعاوضات) ولو فرض أن (التقاعد) فيه جهالة أو غرر فهما قليلان، بخلاف عقد المعاوضة (التأمين) ففيه من الجهالة والغرر وأكل الأموال بغير حق ما هو ظاهر بيَّن، والقاعدة عند أهل العلم يغتفر في عقود التبرعات من الجهالة والغرر ما لا يغتفر في عقود المعاوضات علاوة على أن (9%) المقتطعة من راتب الموظف ليس حقاً خالصاً له بدليل أنه لو أراد ألا تقتطع من راتبه لما قبل قوله وهو داخل في عقده مع الدولة على هذا راضياً، وليس هناك فرق شرعي بين التصفية أو أخذ أقساط التقاعد، والله أعلم.(/1)
الفرق بين الرجل والمرأة في المتعة
مفكرة الإسلام: إن الله خلق الذكر والأنثى من بني البشر وجعل كل منهما خصائص نفسية وعضوية تختلف في كل منهما عن الآخر، وذلك لكي يكمل بعضهما الآخر، وإن كانت الصفات في أصلها تتشابه ولكنها تختلف في الخصائص والممارسات، فمثلاً الحب والاحتياج إلى الآخر في كل منهما موجود ولكن كيف يعبر كل منهما عن الحب ؟ هذا أمر مختلف في كل جنس، وكذلك كل منهما يحتاج إلى الآخر للمتعة الجنسية ولكن كل واحد له طريقته وأحاسيسه للوصول على الشبع والارتواء.
ولئن كان هذا الموضوع من المواضيع الشائكة في المجتمع المسلم إلا أن الجهل به قد أورث بيوت الإسلام شقاقا ونفورا وأنتج بيوتا يقف أصحابها فاغرين أفواههم من الابتسام أمام الناس ثم هم بعد ذلك يندبون حظهم واستسلامهم لما يرونه أقدارهم في الحصول على رفيق في الزواج لا يحسن إشباع رغباتهم والوصول بها للتعبير عن الحب الصادق بينهما وتبدأ العلاقة تذوى ويبدأ الرجل ينظر للخارج والمرأة ترضى بنصيبها وتنشغل بأطفالها لذا كان لزاما ولوج هذا الباب ونحن نعلم أننا فيه كأننا ندوس على الأشواك ولكنه حوار لا بد من فتحه وعلم لا بد من تعلمه للأزواج حتى يحفظ البيوت المسلمة من الهدم والسقوط.
بث الله تعالى في كل جنس حبًا وميلاً للجنس الآخر، حتى غدا كل منهما يشتهي الآخر، ويتطلع إلى اللقاء به, ووفقاً لسنة الله في الطبيعة، كان لا بد أن يختلف الجنسان في طبائعهما، خاصة في طبيعة الشهوة الجنسية، فشهوة الرجل بطبيعة وظيفته تتميز بالشهوة الجامحة الجريئة، حتى إنه ليذهب يبحث عن المرأة مدققًا في طبائعها المختلفة، وعندما يهتدي إلى شريكة مناسبة لذوقه ، وكلما ازداد اقترابًا منها زاد نشاط الهرمون في المخ واشتدت شهوته ورغبته فيها.
والإحساس الجنسي عند الرجل يختلف بعض الشيء عنه عند المرأة، فالرجل سريع بطبعه، أي يستطيع أن ينجز العملية الجنسية خلال دقائق أو أقل، بينما يختلف الأمر عند المرأة فإنها تحتاج إلى وقت كافٍ حتى تصل إلى الإحساس الجنسي المشابه لمتعة الرجل, فمنحنى الشهوة عند الرجل يعلو بسرعة ويهبط بسرعة، بينما منحنى الشهوة عند المرأة يرتفع في هدوء ويستوي ثم يهبط في هدوء.
ومما قال الإمام الغزالي رحمه الله في هذا الشأن في كتابه الشهير [إحياء علوم الدين]: [ إذا قضى الرجل وطره فليتمهل على أهله حتى تقضي هي أيضًا نهمها، فإن إنزالها ربما يتأخر فتهيج شهوتها، والقعود عنها إيذاء لها، والاختلاط في طبع الإنزال يوجب التنافر كلما كان الزوج سابقًا إلى الإنزال والتوافق في وقت الإنزال ألذ عندها ليشتغل الرجل بنفسه عنها، فإنها ربما تستحي].
الارتواء من الشهوة:
إن الشهوة التي خلقها الله في الإنسان سواء كان ذكرًا أم أنثى تحتاج إلى الارتواء والشبع ولذلك شرع الله الزواج وحبب ذلك وزينه إلى كل من الرجل والمرأة، وذلك للحفاظ على النوع وبقاء البشرية، فجعل ذلك الأمر عميقًا في النفوس محببًا إليها، ولكن لما كان الإنسان مستخلفًا في هذه الأرض وقد كرمه الله، جعل ذلك اللقاء وتلك المتعة في حدود المشروع من خلال مؤسسة الزواج، وغلف ذلك بإطار من الحياء يرقى بالإنسان عن درجة البهيمية الحيوانية إلى مرتبة الإنسانية.
والشهوة الجنسية هي نوع من الشوق الشديد إلى الآخر يخلق معه سلسلة من التغيرات في كل جزء من أجزاء البدن تقريبًا، فإذا اشتاق الرجل واشتاقت المرأة تتسارع ضربات القلب، ويرتفع ضغط الدم ويزداد اندفاع الدم إلى الأعضاء الجنسية وهو يندفع في حالة المرأة إلى البظر والشفرين الداخليين وجدران المهبل وحلمة الثديين، وفي الوقت نفسه يشتد التوتر العصبي فيؤثر في الجسم كله، وباشتداد هذا الاشتياق , تشتد هذه التغيرات وتصبح أكثر اتضاحًا حتى تأتي لحظة الاسترخاء المفاجئ وتعرف هذه اللحظة باسم الارتواء، ويصاحب لحظة الارتواء عند الرجل إنزال السائل المنوي ويقذف السائل المنوي على دفعات نتيجة للتقلصات المنتظمة.
أما بالنسبة للمرأة فالوضع مختلف فالوصول إلى لحظة الارتواء هو محصلة عملية متكاملة وليست حدية كالرجل، ولقد وصفت بعض النساء إحساسهن بهذه اللحظة بهذه العبارات إحساس بالإتمام .. رعدة تسري في البدن كله .. أمواج تتلاحق بعضها في إثر بعض في دوائر تتسع وتتسع.
والعلامات البدنية لهذه اللحظة عند المرأة تتمثل في سرعة النبض والتقلصات حول المنطقة الجنسية وأسفل البطن، وهي تقلصات مرتبة غير إرادية تتركز في منطقة الأعضاء الجنسية والمهبل والبظر وقد تمتد هذه التقلصات إلى أجزاء أخرى من الجسم.
وقد تكون هذه التقلصات من الشدة بحيث تحس بها المرأة، وقد تكون ضعيفة لا تحس بها المرأة إلا إحساسا ضعيفًا، وتنتهي فترة الارتواء عند المرأة ببطء أكبر وتدرج أطول، وهذا هو الخلاف الحيوي الأساسي بين الرجل والمرأة.(/1)
وتخضع الأحاسيس العاطفية والشقية وكذلك السلوك خلال لحظة الارتواء سواء للرجل أو المرأة لعوامل فردية منها قوة الحساسية وشدة الاستجابة العاطفية(/2)
الفرق بين الرشوة و ما يُعرَف بالإكراميّة
السؤال :
مبلغ أعطاه والدي بإرادته للموظف المسئول عن تخليص المعاش الخاص به ، و الذي هو حقه ، فهل يعتبر ما يدفعه رشوة ؟
و هل الفلوس المستحقة ( فلوس المعاش ) لا دخل لها بذلك ( أي لا تعتبر حراماً ) و الوزر فقط علي المبلغ المدفوع لتسهيل ذلك . أفيدونا ما العمل ؟
الجواب :
إذا كان المبلَغ المدفوع للموظّف المسئول عن إنجاز المعاملة ، ليس له علاقةٌ بتيسيرها أو التعجيل فيها ، أو إعطاء صاحبها ( والدك ) أكثر من حقّه ، أو تقديمه على من هو أولى أو أحقّ منه ، و لم يكن الدفع مشترطاً ( من الموظف أو من يمثّله ) صراحةً أو عُرفاً ، فليس من الرشوة المحرّمة .
أمّا إن كان فيه بعضُ ما تقدّم أو كلّه فهو من الرشوة ، و هي من كبائر الذنوب .
قال تعالى : ( وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [ البقرة : 188 ] .
و روى الترمذي و أحمد و ابن حبّان بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ الرَّاشِيَ و َالْمُرْتَشِيَ ) ، و في بعض الروايات ( و الرائش ) و هو الوسيط بين الطرفين ، و في رواية ( فِي الْحُكْمِ ) أي في القضاء و فصل الخلاف بين الناس .
و إذا رشا للوصول إلى حقٍّ شرعيٍ له ، و لكن بتقديمه على غيره ، أو التعجيل في إنجاز معاملته ، فعليه إثم الرشوة ، و لا يَحرُم ماله بسببها ، لأنّه حلال له في الأصل ، فيبقى على ما كان عليه .
و على صلة بالموضوع مسألة يحسن التذكير بها ، و هي أنّه ينبغي لمن يقوم بعملٍ عامٍ أن لا يفتح على نفسه باب قبول الهدايا ، و ما يُعرف اليوم بالإكراميّات ( في اللهجة الشامية ) ، فإنّها لا تكاد تخلو من دَخَنٍ و شُبهةٍ ، إذ إنّه لو لَم يكُن في منصِبِه ذلك لما أهديَ إليه شيءٌ ، و هذا دليل على ارتباط الهديّة بالمصلحة المرجوّة من ورائها .
روى الشيخان و غيرهماعن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ قَالَ : اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ رَجُلاً مِنْ بَنِي أَسْدٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الأتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَةٍ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ : هَذَا لَكُمْ ، وَ هَذَا أُهْدِيَ لِي ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : ( مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ هَذَا لَكَ وَ هَذَا لِي ، فَهَلا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَ أُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا ؟! وَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ أَلا هَلْ بَلَّغْتُ ثَلاثًا ) .
قال الحافظ ابن حجر : ( في الحديث من المسائل المهمّة منع العُمّال من قبول الهدية ممن له عليه حكم ) .
قلتُ : و يُستثنى من التحريم ما يدفعه المسلم مضطراً للذود عن نفسه أو ماله ، أو للحصول على حقّه الشرعي و حَسْب ، إذ ليسَ في هذا أكل لحقّ الغير ، و لا إدلاء للحكام بغير حقّ ، و لا توصّلٌ إلى محظور .
قال ابن الأثير في كتاب الغريب : ( فأما ما يُعطى توصلاً إلى أخذ حق أو دفع ظلم فغير داخل فيه ، روي أن ابن مسعود أُخِذَ بأرض الحبشة في شيءٍ ، فأعطى دينارين حتى خُلِّي سبيلُه ، و رُوي عن جماعةٍ من أئمة التابعين قالوا : لا بأس أن يُصَانع الرجل عن نفسه ، و ماله إذا خاف الظلم ) .
و قال صاحب ( المرقاة شرح المشكاة ) : ( قيل : الرشوة ما يعطى لإبطال حق أو لإحقاق باطل ، أما إذا أعطى ليتوصل به إلى حق أو ليدفع به عن نفسه ظلما فلا بأس به ) .
فليتّق الله عبادُه ، و ليكفوا أيديهم عن الحرام ، ففي الحلال غُنية و بُلغة ، و من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ، و الله الموفِّق .(/1)
الفرق بين السحر والمعجزة والكرامة
د/ علي مشاعل
قد يختلط على البعض الفرق بين السحر والمعجزة والكرامة، حتى يظنوا أنها شيء واحد.
وفي هذا المقال نحاول أن نبين أهم الفروق بين تلك الأمور،
فالمعجزة: أمر خارق للعادة يظهره الله على يد نبي أو رسول تحدياً للمنكرين، وعظة للمؤمنين ودلالة على صدق النبي ورسالته.
مثل: سلب صفة الإحراق من النار التي ألقي فيها نبي الله إبراهيم - عليه السلام -، حيث قال الله - عز وجل -: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء: 69). ومثل عصا موسى - عليه السلام - التي حولها الله إلى حية تسعى تبطل سحر سحرة فرعون.
{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}(طه: 69).
وأما السحر فقد عرفنا في مقال سابق أنه تمويه وتخييل ورقى وعزائم وصلة بالجن والشياطين وخداع للأعين وتدجيل.
وأما الكرامة فهي مثل المعجزة إلا أنها غير مقرونة بدعوى النبوة وغير واقعة من نبي، بل من عبد صالح، وصاحبها يحرص على إخفائها.
والمعجزة باقية إلى قيام الساعة، و تتقبلها النفوس المنصفة غير المعاندة طواعية بغير إكراه، باقتناع وعقلانية بخلافة السحر وما يأتي به الساحر باطل وزائل وخداع منكشف ومفضوح.
ومن الكرامات الثابتة بالقرآن الكريم: قصة الكهف التي فصلها القرآن في سورة سميت باسم (الكهف)
وقصة مريم بنت عمران حيث ذكرها القرآن في أكثر من سورة ومنها سورة مريم.
وقصة عزير التي أوضحها القرآن في سورة البقرة {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} (البقرة: 259).
وغيرها من القصص القرآني والنبوي الكثير الكثير..
وقد ورد في السنة كرامات كثيرة، ففي صحيح البخاري وغيره، في كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل كرامات كثيرة وفي كتب السير والتاريخ والعقائد أيضا كرامات كثيرة، و لابن تيمية كتاب الفرقان بين أوليا ء الرحمن وأولياء الشيطان.
و قد حدثت كرامات للصحابة والتابعين ومن بعدهم.
فمن كرامات الصحابة ما ورد في الصحيح أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - ذهب بثلاثة ضيوف معه للبيت فجعلوا لا يأكلون لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، فشبعوا والطعام أكثر مما كان فرفعها أبو بكر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكل منها أقوام كثيرون.
ونداء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث كان له جيش في نهاوند من بلاد العجم وكان أميره سارية وكان العدو كامنا في أصل الجيل ولا يعلم به جيش المسلمين فنادي عمر وهو على المنبر في المدينة يخطب يوم الجمعة: يا سارية الجبل الجبل فسمعوا صوته فنجاهم الله. [الإصابة لابن حجر].
17/06/2002
http://www.islamweb.net المصدر:(/1)
الفرق بين النبي والرسول
السؤال :
ما الفرق بين النبي والرسول ؟
الجواب :
للعلماء في التفريق بين النبيّ و الرسول أقوال أشهرها اثنان :
• أوّلهما : أنّ النبيّ هو من أوحيَ إليه بشرعٍ و لم يُؤمَر بتبليغه ، أمّا الرسول فهو من أوحيَ إليه بشرعٍ و أُمِرَ بتبليغه ، و هو اختيار ابن أبي العزّ الحنفي [ في شرح العقيدة الطحاويّة ، ص : 158 ].
• و ثانيهما : أنّ الرسولَ هو من بُعِثَ بشريعة خاصّةٍ به و بأمّته ، أمّا النبيُّ فيُبلّغ شريعة رسولٍ قَبلَه . و هذا أرجح الأقوال .
و على كلا القولين فإنّ الرسول أخصّ من النبي ، إذ إنّ كلّ رسولٍ نبيّّّ ، و ليس كلّ نبيٍّ رسولاً ، و الله أعلم .(/1)
الفرق بين النصيحة والتعيير
يتناول الدرس كلمات مختصرة جامعة في الفرق بين النصيحة والتعيير، والأمور الجامعة بينهما، وضوابط النصيحة وعلامات صدق مقدمها، وثوابه وفضله، وعقوبات المغتابين المشهرين، وما ينتظرهم في الدنيا من خزي وفي الآخرة من عذاب وهوان .
الحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على إمام المتقين، وخاتم النبيين، وآله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد: فهذه كلمات مختصرة جامعة في الفرق بين النصيحة والتعيير، فإنهما يشتركان في أن كلاً منهما: ذِكْرُ الإنسان بما يكره ذِكْرَه ، وقد يشتبه الفرق بينهما عند كثير من الناس .
ذِكر الإنسان بما يكره محرم إذا كان المقصود منه مجرد الذمِّ والعيب والنقص: فأما إن كان فيه مصلحة لعامة المسلمين، خاصة لبعضهم، وكان المقصود منه تحصيل تلك المصلحة؛ فليس بمحرم بل مندوب إليه .وقد قرر علماء الحديث هذا في كتبهم في الجرح والتعديل، وذكروا الفرق بين جرح الرواة وبين الغيبة، وردُّوا على من سوَّى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتسع علمه .
ولا فرق بين الطعن في رواة الحديث ولا التمييز بين من تقبل روايته منهم ومن لا تقبل، وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة: وتأوَّلَ شيئاً منها على غير تأويله، وتمسك بما لا يتمسك به؛ ليحذر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه، وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضاً . ولهذا نجد كتبهم المصنفة في أنواع العلوم الشرعية ممتلئة بالمناظرات، وردِّ أقوال من تُضَعَّفُ أقواله من أئمة السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم .
ولم يترك ذلك أحد من أهل العلم، ولا ادعى فيه طعناً على من ردَّ عليه قولَه، ولا ذمَّاً، ولا نقصاً، إلا أن يكون المصنِّف ممن يُفحش في الكلام، ويُسيءُ الأدب في العبارة، فيُنكَر عليه فحاشته، وإساءته دون أصل ردِّه ومخالفته.
وسبب ذلك : أن علماء الدين كلُّهم مجمعون على:
? قصد إظهار الحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولأنْ يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمته هي العليا.
?وكلُّهم معترفون بأن الإحاطة بالعلم كله من غير شذوذ شيء منه ليس هو مرتبة أحد منهم، ولا ادعاه أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين.
فلهذا كان أئمة السلف المجمع على علمهم وفضلهم يقبلون الحق ممن أورده عليهم، وإن كان صغيراً، ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحق إذا ظهر في غير قولهم :
? كما قال عمر رضي الله عنه في مهور النساء، وردَّت المرأة بقوله تعالى:} وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا[20]{ [سورة النساء]. فرجع عن قوله، وقال:' أصابتِ امرأةٌ ورجلٌ أخطأ' وروي عنه أنه قال:' كل أحد أفقه من عمر' .
? وكان بعض المشهورين إذا قال في رأيه بشيء يقول:' هذا رأينا فمن جاءنا برأي أحسنَ منه قبلناه'.
? وكان الشافعي يوصي أصحابه باتباع الحق، وقبول السنة إذا ظهرت لهم على خلاف قولهم وأن يضرب بقوله حينئذٍ الحائط، وكان يقول في كتبه:'لا بد أن يوجد فيها ما يخالف الكتاب والسنة؛ لأن الله تعالى يقول:} أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا[82]{ [سورة النساء] وأبلغ من هذا أنه قال:'ما ناظرني أحد فباليت أظهرت الحجة على لسانه، أو على لساني'.
? وهذا يدل على أنه لم يكن له قصد إلا في ظهور الحق ولو كان على لسان غيره ممن يناظره أو يخالفه، ومن كانت هذه حاله؛ فإنه لا يكره أن يُردَّ عليه قولُه، ويتبين له مخالفته للسنة لا في حياته ولا في مماته .
? وهذا هو الظن بغيره من أئمة الإسلام من السلف والخلف، ولم يكونوا يكرهون مخالفة من خالفهم أيضاً بدليل عَرَضَ له، ولو لم يكن ذلك الدليل قوياً عندهم بحيث يتمسكون به، ويتركون دليلهم له؛ ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله يذكر إسحاق بن راهويه، ويمدحه، ويثني عليه، ويقول:'وإن كان يخالفنا في أشياء فإن الناس لم يزل بعضهم يخالف بعضا'. وكان كثيراً يُعرَضُ عليه كلام إسحاق وغيره من الأئمة، ومأخذهم في أقوالهم، فلا يوافقهم في قولهم، ولا يُنكِر عليهم أقوالهم.
? وقد استحسن الإمام أحمد ما حكي عن حاتم الأصم أنه قيل له: أنت رجل أعجمي لا تفصح، وما ناظرك أحد إلا قطعته، فبأي شيء تغلب خصمك؟ فقال:' بثلاث: أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوؤه' فقال أحمد:'ما أعقله من رجل'.(/1)
فحينئذٍ فرد المقالات الضعيفة وتبيين الحق في خلافها بالأدلة الشرعية ليس هو مما يكرهه أولئك العلماء بل مما يحبونه ويمدحون فاعله ويثنون عليه ... والواجب على المسلم أن يحب ظهور الحق، ومعرفة المسلمين له سواءٌ كان ذلك في موافقته، أو مخالفته . وهذا من النصيحة، وذلك هو الدين كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما بيان خطأ من أخطأ من العلماء قبله إذا تأدب في الخطاب، وأحسن في الرد والجواب؛ فلا حرج عليه ولا لوم يتوجه إليه: وقد بالغ الأئمة الوَرِعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء وردِّها أبلغ الردِّ كما كان الإمام أحمد ينكر على أبي ثور وغيره مقالات ضعيفة تفردوا بها ويبالغ في ردها عليهم هذا كله حكم الظاهر .
وأما في باطن الأمر: فإن كان مقصوده في ذلك مجرد تبيين الحق، ولئلا يغتر الناس بقالات من أخطأ في مقالاته؛ فلا ريب أنه مثاب على قصده، ودخل بفعله هذا بهذه النية في النصح لله، ورسوله، وأئمة المسلمين، وعامتهم .
وسواء كان الذي بين الخطأ صغيراً أو كبيراً فله أسوة:
? بمن رد من العلماء مقالات ابن عباس التي يشذ بها، وأُنكرت عليه من العلماء، مثل: المتعة، والصرف، والعمرتين، وغير ذلك .
?ومن ردَّ على سعيد بن المسيب قوله: في إباحته المطلقة ثلاثاً بمجرد العقد، وغير ذلك مما يخالف السنة الصريحة.
? وعلى الحسن في قوله: في ترك الإحداد على المتوفى عنها زوجها.
?وعلى طاووس قوله في مسائل متعددة شذَّ بها عن العلماء ، وعلى غير هؤلاء ممن أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم ومحبتهم والثناء عليهم . ولم يعد أحد منهم مخالفيه في هذه المسائل ونحوها طعناً في هؤلاء الأئمة، ولا عيباً لهم .
وأما إذا كان مرادُ الرادِّ بذلك إظهارَ عيب من ردَّ عليه، وتنقصَه، وتبيينَ جهله وقصوره في العلم ونحو ذلك كان محرماً سواء كان ردُّه لذلك في وجه من ردِّ عليه أو في غيبته وسواء كان في حياته أو بعد موته: وهذا داخل فيما ذمَّه الله تعالى في كتابه، وتوعد عليه في الهمز واللمز، وداخل أيضاً في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ] رواه أبوداود وأحمد. وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين، فأما أهل البدع والضلالة، ومن تشبه بالعلماء وليس منهم؛ فيجوز بيان جهلهم، وإظهار عيوبهم؛ تحذيراً من الاقتداء بهم .
أنواع النصيحة:
? من عُرف أنه أراد بردِّه على العلماء النصيحة لله ورسوله؛ فإنه يجب أن يُعامَل بالإكرام، والاحترام.
? ومن عرف أنه أراد برده عليهم التنقص والذم، وإظهار العيب؛ فإنه يستحق أن يقابل بالعقوبة؛ ليرتدع هو، ونظراؤه عن هذه الرذائل المحرمة . ويُعرف هذا القصد تارة: بإقرار الرادِّ واعترافه، وتارة: بقرائن تحيط بفعله وقوله ، فمن عُرف منه العلم والدين وتوقير أئمة المسلمين واحترامهم لم يَذكر الردَّ وتبيين الخطأ إلا على الوجه الذي يراه غيره من أئمة العلماء .
كيفية النصيحة: ومن هذا الباب:
? أن يقال للرجل في وجهه ما يكرهه: فإن كان هذا على وجه النصح؛ فهو حسن، وقد قال بعض السلف لبعض إخوانه:'لا تنصحني حتى تقول في وجهي ما أكره'. فإذا أخبر أحد أخاه بعيب ليجتنبه كان ذلك حسناً لمن أُخبر بعيب من عيوبه أن يعتذر منها إن كان له منها عذر، وإن كان ذلك على وجه التوبيخ بالذنب، فهو قبح مذموم، وقيل لبعض السلف: أتحبُّ أن يخبرك أحد بعيوبك ؟ فقال:' إن كان يريد أن يوبخني فلا'.
? فالتوبيخ والتعيير بالذنب مذموم: وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تُثَرَّبَ الأمة الزانية مع أمره بجلدها، فتجلد حداً، ولا تعير بالذنب، ولا توبخ به. قال الفضيل:'المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويُعيِّر' . فهذا الذي ذكره الفضيل من علامات النصح والتعيير، وهو: أن النصح يقترن به الستر، والتعيير يقترن به الإعلان . وكان يقال:' من أمر أخاه على رءوس الملأ فقد عيَّره' .وكان السلف يكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الوجه، ويحبون أن يكون سراً فيما بين الآمر والمأمور؛ فإن هذا من علامات النصح فإن الناصح ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له، وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها .
? وأما إشاعة وإظهار العيوب، فهو مما حرمه الله، ورسوله، قال تعالى:} إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [19]{ [سورة النور] والأحاديث في فضل السر كثيرةٌ جدَّاً .
? وقال بعض العلماء لمن يأمر بالمعروف:'واجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور عوراتهم وهن في الإسلام أحقُّ شيء بالستر: العورة' .(/2)
? فلهذا كان إشاعة الفاحشة مقترنة بالتعيير، وهما من خصال الفجار؛ لأن الفاجر لا غرض له في زوال المفاسد، ولا في اجتناب المؤمن للنقائص والمعايب، إنما غرضه في مجرد إشاعة العيب في أخيه المؤمن، وهتك عرضه، فهو يعيد ذلك ويبديه، ومقصوده تنقص أخيه المؤمن في إظهار عيوبه ومساويه للناس ليدخل عليه الضرر في الدنيا .
وأما الناصح فغرضُه بذلك إزالة عيب أخيه المؤمن، واجتنابه له، وبذلك وصف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال:} لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[128]{ [سورة التوبة] . ووصف بذلك أصحابه، فقال:} مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ...[29]{ [سورة الفتح]. ووصف المؤمنين بالصبر والتواصي بالمرحمة .
? وأما الحامل للفاجر على إشاعة السوء وهتكه فهو:الغلظة، ومحبته إيذاء أخيه المؤمن، وإدخال الضرر عليه، وهذه صفة الشيطان الذي يزيِّن لبني آدم الكفر، والفسوق، والعصيان؛ ليصيروا بذلك من أهل النيران .
? فشتان بين من قصده النصيحة، وبين من قصده الفضيحة، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلا على من ليس من ذوي العقول الصحيحة .
عقوبة من أشاع السوء على أخيه المؤمن، وتتبع عيوبه، وكَشَفَ عورته: أن يتبع الله عورته، ويفضحه، ولو في جوف بيته كما رُوي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه . وأخرج الترمذي من حديث وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيكَ] وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وقال الحسن:' كان يقال: من عيَّر أخاه بذنب تاب منه لم يمت حتى يبتليه الله به'. ولما ركب ابن سيرين الدَّيْن، وحبس به قال:' إني أعرف الذنب الذي أصابني هذا عيَّرت رجلاً منذ أربعين سنة فقلت له: يا مفلس' .
من أَظهر التعيير، وزعم أنه إنما يحمله على ذلك العيوب، وكان في الباطن إنما غرضه التعيير والأذى؛ فهو من إخوان المنافقين: الذين ذمهم الله في كتابه، فإن الله ذم من أظهر فعلاً، أو قولاً حسناً، وأراد به التوصل إلى غرض فاسد يقصده في الباطن، وعدَّ ذلك من خصال النفاق:
? كما في سورة براءة التي هتك فيها المنافقين، وفضحهم بأوصافهم الخبيثة:} وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ[107]{ [سورة التوبة].
? وقال تعالى:} لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[188]{ [سورة آل عمران]. وهذه الآية نزلت في اليهود لما سألهم النبي صلى اله عليه وسلم عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره، وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك عليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانه، وما سألهم عنه . كذلك قال ابن عباس، وحديثه بذلك مخرّج في الصحيحين، وغيرهما .
? وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:' أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَنَزَلَتْ:} لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[188]{ [سورة آل عمران]'.
? فهذه خصال اليهود والمنافقين، وهو أن يظهر الإنسان في الظاهر قولاً أو فعلاً، وهو في الصورة التي ظهر عليها حسن، ومقصوده بذلك التوصل إلى غرض فاسد، فيحمده على ما أظهر من ذلك الحسن، ويتوصل هو به إلى غرضه الفاسد الذي هو أبطنه، ويفرح هو بحمده على ذلك الذي أظهر أنه حسن، فتتم له الفائدة وتُنَفَّذُ له الحيلة بهذا الخداع .(/3)
ومن كانت هذه همته فهو داخل في هذه الآية ولا بد، فهو متوعد بالعذاب الأليم ، ومثال ذلك: أن يريد الإنسان ذمَّ رجل، وتنقصه، وإظهار عيبه؛ لينفر الناس عنه: إما محبة لإيذائه، أو لعداوته، أو مخافة من مزاحمته على مال، أو رئاسة، أو غير ذلك من الأسباب المذمومة، فلا يتوصل إلى ذلك إلا بإظهار الطعن فيه بسبب ديني مثل: أن يكون قد ردَّ قولاً ضعيفاً من أقوال عالم مشهور، فيشيع بين من يعظِّم ذلك العالم أن فلاناً يُبغِضُ هذا العالم، ويذمُّه، ويطعن عليه؛ فيغرُّ بذلك كل من يعظِّمه، ويوهمهم أن بغض الراد وأذاه من أعمال القرب؛ لأنه ذبٌّ عن ذلك العالم، ورفع الأذى عنه، وذلك قُربة إلى الله، فيجمع هذا المظهر للنصح بين أمرين قبيحين محرَّمين:
? أحدهما: أن يحمل ردّ العالم القول الآخر على البغض، والطعن، والهوى، وقد يكون إنما أراد به النصح للمؤمنين، وإظهار ما لا يحل له كتمانه من العلم .
? والثاني: أن يظهر الطعن عليه؛ ليتوصل بذلك إلى هواه، وغرضه الفاسد في قالب النصح والذب عن علماء الشرع.
العلاج: ومن بُلي بشيء من هذا المكر: فليتق الله، ويستعن به، ويصبر؛ فإن العاقبة للتقوى:
?كما قال تعالى- بعد أن قصَّ قِصَّة يوسف، وما حصل له من أنواع الأذى بالمكر والمخادعة- :} وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ...[21] { [سورة يوسف] .
? وقال تعالى- حكاية عنه- أنه قال لإخوته:} قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا...[90]{ [سورة يوسف] .
? وقال تعالى في قصة موسى عليه السلام، وما حصل له ولقومه من أذى فرعون وكيده قال لقومه:} اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا...[128]{ [سورة الأعراف] .
? وقد أخبر الله تعالى أن المكر يعود وباله على صاحبه:}وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ[43]{ [سورة فاطر] .
? وقال تعالى:}وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا[123]{ [سورة الأنعام] .
والواقع يشهد بذلك: فإن من سبر أخبار الناس، وتواريخ العالم؛ وقف على أخبار من مكر بأخيه، فعاد مكره عليه، وكان ذلك سبباً في نجاته وسلامته على العجب العجاب . ولو ذكرنا بعض ما وقع من ذلك؛ لطال، والله الموفق للصواب؛ وعليه قصد السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم تسليماً .
من رسالة:' الفرق بين النصيحة والتعيير' للحافظ/ ابن رجب الحنبلي .(/4)
الفرق بين النقد والهدم
الكاتب: الشيخ د.سعيد بن ناصر الغامدي
كثرت دعوات (الإصلاح) في عصرنا هذا، و خاض فيها من يجيدها ويعرف آلياتها الحقيقية، ومن يتوهم، ومن لا يعرف، ومن ينطلق من إرادة خير ونصح ومن ينطلق من احتقان ونفسية متوترة، الشيء الوحيد الذي يجمع هؤلاء هو دعوى(الإصلاح) الذي يتوجه مرة نحو الأوضاع السياسية باسم المشاركة الشعبية والدستورية، ومرة نحو الأوضاع الاقتصادية باسم اقتسام الثروة وعدالة التوزيع ،ومرة نحو الدين باسم ثقافة التغيير والقراءة المعاصرة للنص، ومرة نحو العلماء باسم تكلس المؤسسة الدينية الرسمية وكسر احتكارها،ومرة نحو الدعاة باسم جمود الصحوة و دكتاتوريتها وتصحرها عدم جدواها ،ومرة نحو الثقافة العامة ومرة نحو المناهج التعليمية ومرة نحو المرأة والأوضاع الاجتماعية، والقائمة تطول، وستزداد طولا كلما ازداد عدد المتعالمين و المتحاذقين ومدعي العلم والثقافة والسياسة والكياسة،كما هو واضح في بعض الكتابات الصحفية والانترنتية0
ولا ريب أن النقد –في أصله- ظاهرة جيدة إذا اشتمل على شروط النقد الصحيح
ومنها - في تقديري-:
1- العلم بالشيء المنتقد، لأن من جهل شيئا عاداه ،والجهل رأس الأدواء البشرية،وليست العبرة بادعاء العلم فكلٌ معجب بعقله وعلمه بل العبرة بوجوده حقيقة .
2- الصدق في النقد، و إلا تحول إلى تصفية حسابات وأحنٍ شخصية أو فئوية، وأصبح نوعا من التشاجر والمراء المذموم .
3- العدل، و إلا أصبح النقد نوعا من الظلم، بل ربما تحول إلى استبدال وضع وحال بما هو أشد فسادا وأعظم سوءاً .
4- مناسبة الحال زمانا ومكانا للنقد، لئلا ينحرف النقد عن طريقه الصحيح إلى طرائق قدداً، لا يحصل منها إلا الهدم والضرر والفساد .
5- استبعاد الحظ النفسي والاحتقان الذاتي والغضب الشخصي حتى يصبح النقد موضوعيا محققا للمصلحة، لا ذاتياً يناقر عن الذات المحمومة،وما أصعب هذا على النفوس0
وبسبب انعدام هذه الشروط أو بعضها،نرى قائمة الناقدين تطول وتطول، ونرى أن أكثرهم يلبس نظارة سوداء لا يرى العالم إلا بها، كما نرى أن نقد البعض لأوضاعنا لا يزيدنا إلا وهناً وفرقة وشحناء، كما يحدث على أيدي بعض المحتقنين والمترصدين الذين لا يعجبهم العجب ،ولا يؤمنون بمبدأ النسبية فيما يقبل النسبية، بل يتمددون على أرائكهم الذاتية يمارسون الانتقائية الذبابية، و يقومون بتلطيخ مالا يروق لهم من الأعمال والأشخاص، كما جاء في الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول( لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال أن يكثر لهم من الدنيا فيتحاسدون، وأن يفتح لهم الكتاب يأخذه المؤمن يبتغي تأويله، ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب، وأن يروا ذا علمهم فيضيعونه ولا يبالون ) رواه الطبراني في الكبير0
وفي الختام لابد من التمييز بين النقد البناء والنقد الانتقائي الهدام وان تسمى باسم المصلحة و(الإصلاح) وإرادة الخير، وخير ما يميز بين الأمرين ما أشار إليه الحديث الشريف المروي عنه صلى الله عليه وسلم ،عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(مثل الذي يسمع الحكمة فيحدث بشر ما يسمع مثل رجل أتى راعيا فقال يا راعي أجزرني شاة من غنمك فقال اذهب فخذ بأذن خيرها شاة فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم) هذا مثال النقد الترصدي المتوتر، أما النقد العاقل البناء المثمر فمثاله الدعاء النبوي الشريف (وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا) ودليله قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)
ولا ريب أن المتشنج المتوتر المتقلب المزاج سيخسر من مواصفات العدل والإنصاف والموضوعية والمصلحة بقدر تشنجه وتوتره وتقلبات مزاجه، والله المستعان(/1)
الفرق بين بناء وبناء … آية وعبرة !
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
من الحقائق المسلم بها اليوم وجود أخطاء في واقع المسلمين وواقع العمل الإسلامي، ووجود خلل كان له أكبر الأثر فيما حلَّ بنا من تفسُّخٍ وهوانٍ وهزائم متوالية في بلاد متعددة في عالمنا الإسلامي. لعل من أظهرها سقوط طالبان وبغداد !
لقد صرَّح عبد السلام ضعيف سفير أفغانستان السابق في باكستان أنَّ من أهم أسباب انهيار طالبان هو خيانة الصف الأمامي من قادتها في الجبهة وسقوطهم عملاء لأمريكا والتحالف الشمالي.
والسؤال لماذا هُزمت طالبان ؟
لماذا هُزمتْ وهي تَحْمل رسالة الله وتدعو إلى تحكيم الإسلام ؟!
لماذا هُزمتْ والنّصر والهزيمة بيد الله، والأمر كلُّه لله ؟!
الأسباب كثيرة. وأولها أنّ المعركة بين دولة ضعيفة العدّة والعدد، وبين دولة هي أكبر دولة في الأرض، غزت البلاد بأخطر أنواع أسلحة الدمار وأفتكها وأحدثها، وغزا معها وأيّدها غير قليل من الدول النصرانيّة العلمانيّة. فالمعركة محسومة النتائج في جولتها هذه بكل ميزان. ودولة طالبان تَخلّى عنها الكثيرون وبقيت وحدها في الميدان .
كان يُمْكن لطالبان أن تصمد مدّة أطول وتقلّل من خسائرها لولا خيانة عدد غير قليل من قادتها في الجبهة الأماميّة. هذا ما صَرّح به سفيرها في باكستان عبد السلام ضعيف وما أعلنه صريحاً بليغاً.
وأَعْلن أحد المسؤولين في إحدى الدول الإسلامية أنّه على أمريكا أن تعلم أنّه لولا تدخّل جيشها ما كان بإمكان أمريكا تحطيم طالبان. فجيشها وتدخّله لصالح أمريكا حقّق هذه النتيجة. وقد نشرت صحيفة الشرق الأوسط هذا التصريح في أحد أعدادها.(1)
وظنّ هؤلاء أنّ مثل هذه الخدمات تقرّبهم ممّنْ كانوا يُسمّونه قبل حين بالشيطان الأكبر ـ أمريكا ـ ولقد سبق هؤلاء آخرون ظنّوا أنّ تنازلهم ومراءاتهم للشيطان الأكبر يقرّبهم إليه. وجاء التاريخ يُعَلّمنا أنّ كل الذين تنازلوا عن دينهم ورسالتهم كانوا أوّل ضحايا من تنازلوا إليهم ومن خضعوا لهم ذلّة ومراءاة وطلباً للدنيا.
ذلك أنّ سُنّة الله ماضية فيمن يُمَاري ويتنازل، فيفقد رضا الله وعونه، ويفقد احترام مَنْ والاهم.
وصرّح بوش قائلاً : " إنّنا حَطّمنا طالبان بسبعين مليون دولار " وهذا يعني أنهم اشتروا الذمم والنفوس بالدولار.
وهُنا نحتاج إلى وقفة طويلة. فالعمل الإسلاميُّ في أفغانستان له مدّة غير قليلة لم يَبْنِ خلالها " الجيل المؤمن المتماسك " الذي لا يُشْترى بالدّولار ولا بغيره إلا في فئة قليلة. لقد كان بناء المسلمين ضعيفاً في بعض نواحيه وبعض أفراده. فقد غلبت العصبية الجاهلية كثيراً من المسلمين في أفغانستان وكثيراً من القادة، فتفرقوا شيعاً وأحزاباً يُصارع بعضها بعضاً، ففتحت بذلك ثغرات يتسلّل منها أعداء الله ليزيدوا المسلمين فتنة وتمزقاً وليشتروا ذمة الضعفاء.
وهذه الظّاهرة لم تكن محصورة في أفغانستان، ولكنّها ممتدّة في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي، بالرّغم من وجود الأقوياء الصّادقين التائبين، إلا أنّ هؤلاء الضعفاء، في جسم الأمة وميدانها، يكونون عادة سبباً رئيساً للهزيمة.
إنّ خوض معركة مع صفٍّ متساند من الأعداء لا يَصْلحُ بصفوف ممزّقة بعضها معزول عن بعض، وبعضها يُحارب بعضاً، مما يساعد على سقوط العملاء وانتشار بذور الخيانة.
إنّ البناء يجب أن يكون متيناً، لا يَخترقه الأعداء بالمال والزخرف وشهوات الدنيا.
لقد استطاعت أمريكا وغيرها أيضاً أن يشتروا نفوساً كثيرة بوسائل مختلفة من الإغراءات والفتنة في عالمنا اليوم.
فانظر كم من قادة العمل الإسلامي في أفغانستان أصبحوا عملاء في يد أمريكا وغيرها لضعف في النفوس وتفرق الصفوف.
انظر كم تبيَّن لنا بشكل واضح وجود عناصر عميلة لإسرائيل في فلسطين، تعتمد عليهم في كثير من مهام الاغتيالات والتدمير والحصار والاعتقال.
وكم تكشَّف لنا من وجود عملاء لإسرائيل ولأمريكا بأعداد كبيرة في العراق، مما كتبت عنه الصحف وبعض وسائل الإعلام عن هذه الظاهرة.
فقد كتبت الصحف أنه لما زحف صدام حسين إلى شمال العراق استطاعت أمريكا أن تنقذ آلاف العائلات من عملائها هناك، خلاف الذين اعتقلهم صدام حسين.
ولا يقف الأمر عند هذه المناطق وحدها، ولا عند وجود عملاء لأمريكا وللموساد الإسرائيلي، فالأمر ممتدٌّ في العالم الإسلامي، ووجود الضعفاء الذين يسقطون عملاء في أيدي الأعداء أمر وارد. فكثير من الدول تسعى لشراء الضمائر بالمال والنساء والمناصب وزخارف الدنيا.
إنها أخطر مظهرٍ من مظاهر الضعف في واقع المسلمين اليوم ولقد كان الثبات على الحقِّ وموالاة الله ورسوله هي مصدر قوة المسلمين وتماسكهم، وسبب انتصاراتهم وعزتهم متمسكين بالكتاب والسنة إيماناً وعلماً، ليكون الولاء الأول لله والعهد الأول مع الله والحب الأكبر لله ولرسوله.(/1)
فقُوى الإجرام أيّام النبوّة الخاتمة لم تستطع أنْ تخترق صفّ المؤمنين المتّقين، ولا أن تشتري أحداً منهم. وحسبك أن ترى موقف كعب بن مالك رضي الله عنه، وكان أحد الثلاثة الذين خُلّفوا عن غزوة تبوك، وممّنْ مُنع المسلمون أن يُكلِّموهم واشتدّ عليهم الأمر. ويقول كعب : " … ثمّ جاء نبطيٌّ من أنباط الشام يسأل عن كعب بن مالك، فأشار الناس إليّ حتى يدلّوه ولا يُكلِّموني. فدفع إليّ كتاباً من ملك غسّان. فقرأته، فإذا فيه : " أمّا بعد فقد بلغنا أنّ صاحبك قد جفاك، وأنّ الله لم يجعلك في دار هوان ولا مضيعة ، فالْحقْ بنا نواسك " فقال كعب : " وهذا أيضاً من البلاء ". قال : فتيمّمتُ به التنّور فسجرْتُه به. حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني يقول : يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتزل امرأتك. قال فقلت : أُطّلقها أم ماذا أفعل ؟ فقال : بل اعتزلها ولا تَقربْها. قال وأرسل إلى صاحبيّ ( من الثلاثة الذين خُلِّفوا ) بمثل ذلك. فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله …" إلى آخر القصّة …
ولم تكن هذه هي المحاولة الوحيدة، فلا شكَّ أن روما وفارس كان كلّ منهما يحاول شراء ضمائر المؤمنين، مستفيدين من علاقاتهم القديمة ونفوذهم الممتدِّ بين العرب. إلا أن صدق الإيمان وصلابة النفوس في مدرسة النبوّة الخاتمة حال دون سقوط أحد من الصحابة عملاء للأعداء. إنه البنيان المتين الذي بناه محمد صلى الله عليه وسلّم، ما كان لأحد من المفسدين أو المنافقين أن يخترقه.
هذه مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو الجيل المؤمن الذي بناه، وهذه هي أمّة الإسلام التي قال عنها الله سبحانه وتعالى :
( كنتم خيرَ أمّة أخرجتْ للنَّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمنَ أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون )
[ آل عمران : 110 ]
هذه هي الأمّة المسلمة الواحدة، تكونُ خيرَ أُمّة أُخْرجت للناس حين تَحْمل الخصائص الإيمانية الربّانيّة، وحين تكون صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، وحين يكون أبناؤها وجنودها حملة لرسالة الله، يَعْرضونها للبشريّة كُلِّها بياناً وبلاغاً، وتعهّداً، وسلوكاً ومواقِفَ وممارسةً إيمانية.
هذه هي الأُمّة المسلمة الواحدة، اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم، وتمّت الصفقة وثمنها الجنّة، وتوثّق البيع والشراء بعهد عظيم وميثاق صادق مفصّل، فما عاد أحد من الناس يستطيع أن يشتريهم بزخرف من الدنيا زائل، أو يضلّهم عن سبيل الله.
هذه هي الأمّة المسلمة الواحدة صفّاً كالبنيان المرصوص، الولاء الأوّل لله وحده، والعهد الأوّل لله، والحبّ الأكبر لله ورسوله، ومن هذا الولاء الأوّل والعهد الأوّل والحبّ الأكبر تَنبع كُلُّ موالاة في الحياة الدنيا، وكلّ عهد وكل حبّ.
فلنقارن حالاً بحال، وواقعاً بواقع، وبناء ببناء، وجيلاً بجيل. ومن مثل هذه المقارنة في وقفة إيمانية تقوم على ميزان أمين، ميزان منهاج الله، نعرف أخطاءنا ونعرف وسائل العلاج.
نعرف من ذلك، من الوقفة الإيمانية والمقارنة الإيمانيّة، أنّ المعالجة لا تكون بالشّعارات ولا بالأعمال الارتجالية، ولكنّها تتمُّ بالنّهج المتكامل والخُطّة المدروسة، حين يَنْبع النهج والخُطّة من منهاج الله، ونَردّه إلى منهاج الله.
إلى هذا النهج ندعو، ونُقدّم له الدّراسات المفصّلة الجامعة التي تقوم كُلّها على ما أُسمّيه : " النظريّة العامّة للدّعوة الإسلاميّة " ببنودها وعناصرها وخطّتها وأهدافها.
وكذلك ليكون هذا النهج النابع من منهاج الله والملبيّ لحاجة الواقع قاعدة للقاء المؤمنين المتّقين الذين يرجون الله والدّار الآخرة.
إنّ هذا التمزّق الذي نعيشه، وعدم ردّ الأمور إلى منهاج الله، يُضْعِف المسلمين إضْعافاً كبيراً، ويَفْتح ثغرات واسعة يَدْخل منها الأعداء والمنافقون، ويأخذون المسلمين الممزّقين قطعةً قطعةً، وبلداً بلداً، قِطعاً متناثرة يَسْهل أخذها، ودياراً متفرّقة يَسْهل غزوها. إنّهم ينتقلون عندئذ من بلد إلى بلد مُسْتعينين ببلد على آخر، على خُطّة مدروسة لديهم، لا يكاد يشعر هذا البلد أو ذاك أنّ المعركة قادمة إليه !
إن هذا التمزق يفتح ثغرات لأعداء الله ليشتروا من خلالها ضمائر ونفوساً ليكونوا لهم عملاء، وليخونوا بلادهم تحت ادِّعاءات كثيرة لا يقبلها الله ورسوله، ولا يقبلها المؤمنون فهو مرض خطير حين يتساقط بعض الناس موالاة ومودة وخدمة لأعداء الله.
إنَّها أكبر مشكلة نُجابهها اليوم وإنها تتطلب الدراسة والحل وبذل الجهود. ومن أجل ذلك، من أجل معالجة أمراض الواقع، ومن أجل قيام لقاء المؤمنين وقيام الأمة المسلمة الواحدة نقدم هذا النهج لكل مسلم وأسرة وحركة ومجتمع ليكون قاعدة اللقاء.(/2)
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عَدوِّي وعدوّكم أولياء تُلْقون إليهم بالمودّة وقد كفروا بما جاءكم من الحقِّ يُخرجون الرسول وإيّاكم أن تؤمنوا بالله ربِّكم إنْ كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تُسرّون إليهم بالمودّة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفْعلْهُ منكم فقد ضلَّ سواء السبيل )
[ الممتحنة : 1 ]
( لا تجدُ قوماً يُؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادَّ الله ورسولَهُ ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتبَ في قلوبهم الإيمانَ وأيّدهم بروحٍ منه ويُدخلهم جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إنَّ حزب الله هم المفلحون )
[ المجادلة : 22 ]
(1) العدد ( 8474 ) السبت 26/ذو القعدة 1422هـ، 9/2/2002م. بعنوان : " رفسنجاني : قواتنا قاتلت طالبان وأنقذت أمريكا من المستنقع الأفغاني "(/3)
الفرق بين سماع الموسيقى و الاستماع إليها
السؤال :
أحب مشاهدة البرامج الدينية و الثقافية و بعض المسابقات الترفيهية و لكن في أثناء عرض هذه البرامج تكون هناك بعض مقاطع الموسيقى التصويرية فما حكم سماعها ؟
و إذا اضطررتُ إلى سماع بعض الموسيقى ( و ليس الأغاني ) كالتي تُعزَف في السلام الوطني في المدرسة ، أو أثناء مروري أمام تلفاز ، أو عند رنين الهاتف المتحرّك فما حكم هذا كلّه ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إنّ ما ذكره السائل ليسَ سواءً في الحُكم ، فإذا فُرِض وُجود برنامج دينيٍ أو سياسيٍ أو علميٍ خال من المحرّمات تماماً ( و منها الموسيقى و صور النساء السافرات و غير ذلك ) فلا بأسَ في مشاهَدَته .
هذا مع صعوبة ، بل نُدرة وجود برامج تخلو تماماً من المحرّمات ، و إن كان المنكر في بعضها أخفّ ممّا هو عليه في البعض الآخر .
أمّا برامج المسابقات فلم يُروَ لي أن شيئاً منها يخلو من المحذور ، و لا أظنّه يخلو منه سواءً كان من الموسيقى أو غيرها .
و الموسيقى محرّمة على ما ذَهَب إليه جمهور العلماء ( و منهم أئمّة المذاهب الأربعة ) على ما هو مقرّر في كتبهم ، و أدلةُ التحريم أشهر من أن يُذكّر بها في عُجالة .
أما ما ذكره الأخ السائل من الاضطرار إلى سماع بعض الأنغام الموسيقيّة بدون قصد ، فليس عليه إثمٌ في ذلك ، لأنّ الأمور بمقاصدها كما هو مقرر في القواعد الفقهيّة ، و قد فرّق العلماء بين :
• السماع : و هو ما لا يقصد من وقع فيه الإصغاء إلى المعازف ، و لكن أنغامها تصل إلى سمعه بدون إرادته ، كما لو سمِع شيئاً منها أثناء مروره بمكان عام ، أو ركوبه في وسيلة نقلٍ عامّة ، أو نحو ذلك .
• و الاستماع : و هو الإصغاء إلى المعازف بنيّةِ الطرب أو الإثارة أو الشعور بالنشوة أو نحو ذلك ، عن قصدٍ و إرادةٍ إلى الفِعل ، و هذا هو المحرّم الذي تضافرت الأدلة في ذمّه و النهي عنه .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله ( و أما من سمع ما يناسبه بغير قصد فلا بأس ، فإن النهي إنما يتوجه إلى الاستماع دون السماع ، و لهذا لو مر الرجل بقوم يتكلمون بكلام محرم لم يجب عليه سد أذنيه ، لكن ليس له أن يستمع من غير حاجة ، و لهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه و سلم ابن عمر بسد أذنيه لما سمع زُمَّارة الراعي لأنه لم يكن مستمعاً بل سامعاً ) [ مجموع الفتاوى : 11 / 630 ] .
هذا ، و بالله التوفيق .(/1)
الفروسية الروحية
د . علي جمعة / إسلام أون لاين
أشارت الأديبة الإيرانية ليلى بختيار إلى مفهوم "الفروسية الروحية" في كتابها (God's Will be done) ، وهي فكرة من الأفكار الإبداعية التي تصدر عندما يمتلئ القلب إيمانا حقيقيا. ويختلف هذا الإيمان عن الهواجس التي تشوش على العقل بأشكال وصور لا علاقة لها بالإيمان.
وتكمن فكرة الفروسية الروحية في أن الإنسان في نفسه هو الفارس ، وهو العدو وهو أرض المعركة في آن واحد .
فقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في أحسن تقويم ، وهذا يجعله مهيأ لأن يكون فارسا نبيلا ، ويصل إلى مرحلة الكمال في خلقه ، وفي سلوكه ، وفي رؤيته ، وفي علاقاته بنفسه ، وبالكون من حوله وبالآخرين ، وأصل ذلك كله علاقته بخالقه .
فالله فطره مهيأ لذلك ، قال تعالى : {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [ الروم :30]، وقال تعالى : {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [ البلد :10]، وقال تعالي : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10] .
لا فروسية إلا بالإيمان
وحقيقية الفروسية الروحية هي الإحسان ، وحقيقة الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، ويبدو من هذا ألا فروسية إلا بالإيمان .
ويحتاج الفارس إلى تدريب حتى يصل إلى مرتبة الفروسية ؛ لأنه لا يقتصر على الخلق الكريم ، بل إنه سيكون حماية للآخرين وملاذا لهم ، وهو الأمر الذي يحتاج مع الخلق إلى قوة لا تتأتى بالأماني ، وإنما تتأتى ببذل المجهود في تدريب قد يكون شاقًّا ومستمرًا .
ولا تغيب عينا الفارس عن عدوه ؛ لأنه يستشعر دائما حاجته إلى النصر على ذلك العدو ، لكن اللطيف في الموضوع أن عدوك هو نفسك التي بين جنبيك ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك". فالعدو إذن ليس بعيدا عنك ، ولذلك نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول".
ويقاتل الفارس عدوه الأقرب قبل أن يشتغل بعدوه الأبعد ؛ لأن الخطر كامن في الأقرب أكثر مما هو كامن في الأبعد .
معرفة أرض المعركة
وأرض المعركة هي ذات الإنسان أيضا ، فطالما أن الإنسان له نجدان ، وفيه طريق الخير وطريق الشر ، وفيه الفارس والعدو ، فإن أرض المعركة هي الإنسان نفسه أيضا .
ويحتاج الفارس دائما إلى معرفة طبيعة أرض المعركة؛ حتى يستطيع الفوز على عدوه ، ولذلك فإن معرفة تضاريس النفس مهمة في هذا المجال ، وكما قالوا قديما من عرف نفسه فقد عرف ربه .
عندما تشعر الروح أنها قد دخلت في نطاق الفروسية؛ تزداد حاجتها الشديدة إلى الإيمان بالله ، وسترى حينئذ أن الذين لم يؤمنوا بالله ، والذين أرادوا أن يمحوا الإله من حياتهم ومن حياة الناس ، والذين نسوا الله -وإن اعترفوا به في عقولهم أو احتاجوه بين الفينة والفينة في نفوسهم- لا يمكن أن يكونوا من الفرسان النبلاء ، ولا أن يمارسوا الفروسية الروحية .
والغريب، أن الإنسان وقتها؛ سيفقد الكفاءات المهارية والروحية معا ، ويترتب على ذلك مزيد من الصراع في هذا الكون الذي نحياه ، صراع غيبي يجعل سلوك الإنسان من نوع الجهاد من غير وعي .
وهنا يدخل الإنسان في الوهم الكبير ، قال تعالى : {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف: 103- 104).
ولكن لتكن مشيئة الله عنوانا على الفروسية الروحية ، فهي التي تلهم الفارس الصبر الجميل ، الذي يرجع كل ما في كون الله إلى خلقه سبحانه ، فيؤدي ذلك إلى الرضا القلبي ، والاطمئنان الروحي ، وشفافية العقل والنفس .(/1)
________________________________________
الفسق ـ معناه وأقسامه
رئيسي :أخلاق :
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين،أما بعد،،،
فتظهر أهمية دراسة موضوع 'الفسق' عندما نعلم أن أول نزاع ظهر في الإسلام كان في مسألة الفاسق الملي، فقد أحدث الخوارج القول بتكفير عصاة الموحدين وتخليدهم في النار، وزعمت المرجئة أن أولئك العصاة كاملو الإيمان، وقالت المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين في الدنيا، مع التخليد في النار في الآخرة.
وهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فقالوا عن أولئك العصاة: إنهم مؤمنون، ناقصو الإيمان، أو مؤمنون بإيمانهم، فاسقون بمعاصيهم، وأنهم تحت مشيئة الله في الآخرة، إن شاء عذبهم بعدله، وإن شاء غفر لهم برحمته.
كما أن الفسق من الوعيد الذي يترتب عليه نتائج وتبعات، كما قال ابن تيمية:'اعلم أن مسائل التكفير والتفسيق هي من مسائل 'الأسماء والأحكام' التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة، وتتعلق بها الموالاة والمعاداة ...'. إضافة إلى ذلك فقد حذر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الحكم بالفسق على شخص ما دون بينة، وإقامة للحجة، فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [لَا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالْفُسُوقِ وَلَا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ] رواه البخاري.
ومما يؤكد أهمية دراسة هذا الموضوع، أن الفسق اسم عام يشمل الكفر، والكبائر، وبقية المعاصي، ولذا يتعين العلم بحد الفسق وإطلاقه، ولعل في الصفحات التالية ما يحقق شيئًا من ذلك.
معنى الفسق
الفسق لغة: الخروج عن الشيء، أو القصد، وهو الخروج عن الطاعة، والفسق: الفجور.
وأما المقصود بالفسق اصطلاحًا:فقد تنوعت عبارات العلماء في ذلك، ومنها:
يقول ابن عطية:'الفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله ـ عز وجل ـ فقد يقع على من خرج بكفر، وعلى من خرج بعصيان' [ تفسير ابن عطية 1/155]. وكذا قال القرطبي[تفسير القرطبي 1/245].
وقال الألوسي:'الفسق شرعًا: خروج العقلاء عن الطاعة، فيشمل الكفر ودونه من الكبيرة والصغيرة، واختص في العرف والاستعمال بارتكاب الكبيرة، فلا يطلق على ارتكاب الآخرين إلا نادرًا بقرينة'[ تفسير الألوسي 1/210].
أقسام الفسق وإطلاقاته: الفسق له عدة أقسام باعتبارات مختلفة، فهو ينقسم إلى:
فسق يخرج عن الإسلام.
وفسق لا يخرج عن الإسلام، قال محمد بن نصر المروزي رحمه الله:'والفسق فسقان: فسق ينقل عن الملة، وفسق لا ينقل عن الملة، فيسمى الكافر فاسقًا، والفاسق من المسلمين فاسقًا'.
وفسق الكفر هو المذكور في غالب آيات القرآن الكريم، وكما قال ابن الوزير:'قد ورد في السمع ما يدل على أن الفاسق في زمان النبي، صلى الله عليه وسلم، يطلق على الكافر كثيرًا، كقوله تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[67] } . [سورة التوبة] وقوله تعالى: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ[99] } . [سورة البقرة]... وذكر آيات كثيرة ثم قال:'فهذه الآيات دالة على أن الفاسق في العرف الأول يطلق على الكافر، ويسبق إلى الفهم'[ العواصم والقواصم 2/160، 161 ـ باختصار].
أقسام الفسق الذي لا يخرج من الملة:
الفسق الذي لا يخرج من الملة يمكن تقسيمه إلى فسق الاعتقاد، وفسق العمل.
ومثال فسق الاعتقاد ها هنا: ما قاله ابن القيم :'فسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر، ويحرمون ما حرم الله، ويوجبون ما أوجب الله، ولكن ينفون كثيرًا مما أثبت الله ورسوله، جهلاً وتأويلاً، وتقليدًا للشيوخ، ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله ...'[ مدارج السالكين 1/362].
فالفسق أعم من البدعة، حيث يطلق الفسق على البدعة وغيرها؛ ولذا قال ابن الصلاح:'كل مبتدع فاسق، وليس كل فاسق مبتدعًا'[ فتاوى ابن الصلاح ص28 [ضمن مجموعة الرسائل المنيرية جـ4].].
وأما فسق العمل فأمثلته كثيرة: وإطلاقاته متعددة، كما جاء ذلك في النصوص الشرعية، وآثار أهل العلم، ولعل ما يضبط ذلك ما قاله النووي رحمه الله:'وأما الفسق فيحصل بارتكاب الكبيرة، أو الإصرار على الصغيرة'[ فتاوى النووي ص261].
فأما ضابط الكبيرة: فأصح الأقوال أن الكبيرة: هي ما فيها حد في الدنيا، أو وعيد خاص في الآخرة، كالوعيد بالنار، والغضب، واللعنة، وأن الصغيرة ما ليس له حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة.
وهذا المأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وابن عيينة، وأحمد بن حنبل، وأبي عبيد القاسم بن سلام [مجموع فتاوى ابن تيمية 11/ 650، وشرح الطحاوية 2/526، وأضواء البيان للشنقيطي 7/199].
جملة من النصوص والآثار من الاطلاقات على هذا الفسق العملي:(/1)
فيسمى القاذف فسقًا، كما جاء في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[4] } [سورة النور].
ويطلق على الكاذب فاسقًا، كما في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[6] } [سورة الحجرات].
وتسمى محظورات الإحرام فسوقًا، حيث يقول تعالى: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ...[197] } [سورة البقرة] فالفسوق ها هنا محظورات الإحرام كما اختاره ابن جرير وغيره.
ويعد التنابز بالألقاب فسوقًا، كما في قوله تعالى: { وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ...[11] } [سورة الحجرات].
وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الرويبضة فويسقًا، فقال عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ أَمَامَ الدَّجَّالِ سِنِينَ خَدَّاعَةً يُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيَتَكَلَّمُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ] قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ: [ الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ]رواه أحمد، وقال ابن كثير في النهاية 1/57] عن هذا الحديث:'وهذا إسناد جيد تفرد به أحمد من هذا الوجه'.
والرويبضة تصغير الرابضة، وهو العاجز الذي ربض عن معالي الأمور، وقعد عن طلبها.
وفي الجملة، فقد يقال: عن هذه المعاصي التي سميت فسقًا عمليًا أعظم ممن دونها من معاصٍ لم تسم فسقًا، وكما قال البيضاوي:'والفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي دل على عظمته كأنه متجاوز عن حده'[ تفسير البيضاوي 1/72].
ضرورة عدم الخلط بين مفهوم الفسق عند أهل السنة، ومخالفيهم:
فمرتكب الكبيرة عند أهل السنة مع أنه فاسق بكبيرته، إلا أنه لا يخرج من الإيمان بالكلية، فيمكن اجتماع الإيمان مع هذا الفسق الأصغر ـ كما هو مقرر عند أهل السنة ـ، ومن ثم فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وأمره إلى الله تعالى، إن شاء غفر له برحمته، وإن شاء عذبه بعدله، ومآله إلى الجنة فيما بعد؛ فأهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة ـ وإن دخلوا النار، أو استحقوا دخولها ـ فإنهم لابد أن يدخلوا الجنة.
يقول ابن تيمية ـ مقررًا هذه المسألة ـ:'ومن أصول أهل السنة والجماعة: أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان،وعمل القلب والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ...[178]} } [سورة البقرة]. وقال سبحانه { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[9]إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ...[10] } [سورة الحجرات].
ولا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية، ولا يخلدونه في النار، كما تقول المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ...[92] } [سورة النساء] وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً...[2] } [سورة الأنفال].
وقوله صلى الله عليه وسلم: [لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ] رواه البخاري ومسلم. ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، فلا يعطي الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم'[ العقيدة الواسطية [بشرح محمد خليل هراس] ص152 ـ 156].
وإذا تقرر مفهوم الفسق عند أهل السنة، فإننا نورد مفهومه عند المخالفين:
فأما الأشاعرة: فنجد فيهم من يجعل الفاسق الملي مؤمنًا بإطلاق، ويعتبرونه مؤمنًا حقًا.(/2)
وقد سبق أن ذكرنا أن مرتكب الكبيرة ـ عند أهل السنة ـ لا يعطي الإيمان المطلق، فلا يقال عن الزاني، أو شارب الخمر ـ مثلًا ـ: إنه مؤمن بإطلاق، ولكن نقيده، فنقول: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان.
ومقالة أولئك الأشاعرة متفرعة من قول جمهورهم بأن الإيمان هو التصديق، حيث أخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان.
أما المعتزلة: فمفهوم الفسق عندهم على عكس المقالة السابقة، فالفاسق عندهم ليس مؤمنًا، كما أنه ليس كافرًا، بل هو في منزلة بين المنزلتين، ولم يقل أحد من المعتزلة بإيمان مرتكب الكبيرة سوى الأصم. ولما كان مرتكب الكبيرة ـ عندهم ـ فاسقًا غير مؤمن، لذا حكموا عليه بالخلود في النار.
هذا ما تيسر جمعه في هذا المبحث، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من رسالة:'الفسق- معناه وأقسامه' للشيخ /عبدالعزيز آل عبد اللطيف(/3)
الفطام النفسي
تقول إحدى الفتيات:
[ أنا ضعيفة الشخصية والسبب أهلي لأنهم يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة في حياتي فتعودت الاعتماد عليهم في شئوني اليومية وفي أخذ قراراتي ].
وتقول أخرى: [ أشعر باليتم رغم وجود أمي فأنا أفعل كل شيء بمفردي وأتحمل نتائج قراراتي وبالتالي دائمًا أشعر بالقلق وعدم الاطمئنان ].
عزيزتي الأم الصديقة القارئة:
هناك من الأهل من يتدخل تدخلاً مباشرًا في كل صغيرة وكبيرة في حياة أبنائهم فيرتبون لهم مواعيد مذاكرتهم، ويحددون لهم أوقات راحتهم، وطريقة الإنفاق، ويختارون لهم شكل ولون الملابس التي يرتدونها. ويعينون لهم الأصحاب والأصدقاء الذين يتعاملون معهم إلى ذلك.
والأبناء الذين ينشئون على هذا الشكل من التربية يكبرون وقد اتصفوا بالتردد وضعف الشخصية وعدم القدرة على اتخاذ القرار، لأنهم لم ينالوا التدريب الكافي على القطع برأي من تلقاء أنفسهم، إذ هناك على الدوام من يفكر لهم.
والفريق الثاني من الأهل من يرى ترك الأبناء يتعلمون كل شيء بأنفسهم دون أدنى تدخل من جانب الأهل وذلك عن طريق التجربة [الفشل والنجاح] وتحمل نتيجة العمل الذي قاموا به والسؤال هنا:
ما هي حدود التدخل في حياة الأبناء؟
وكيف يتم تعويد المراهق على الاستقلال وتحمل المسؤولية؟
وما معنى الفطام النفسي؟
وبداية قبل التطرق إلى إجابات هذه الأسئلة لا بد أن نقر ونتفق على عدة نقاط وهي:
1ـ أن الابنة المراهقة لم تعد طفلة بل أصبحت كائنًا جديدًا يعاند ويعارض وينتقد.
2ـ أن من حاجات مرحلة المراهقة إثبات الذات وتأكيد الهوية والحاجة إلى الاستقلال.
3ـ بالرغم من احتياج المراهق للاستقلال إلا أنه أيضًا في ذات الوقت يحتاج إلى مساعدة والديه أكثر من أي وقت مضى وقد نرى من مظاهر التمرد والعصيان والعناد وما يبديه المراهق من سلوك قد يبدو في ظاهره عداوة للأسرة إلا أنه في حقيقة الأمر يحب والديه ويحتاج للعطف والحب والاهتمام من قبلهم. ويمكننا القول أن المراهق يمر بمواقف تناقض فهو يحب ويكره ويحترم ويحتقر ويطيع ويعاند.وبعد فهمنا لهذه الأمور هيا بنا لنتعرف معًا على معنى الفطام النفسي.
الفطام النفسي:
يقول د. فؤاد البهي في كتابه الأسس النفسية للنمو من الطفولة إلى المراهقة، عن الفطام النفسي ما يلي:
يتخفف الفرد المراهق من علاقته بالأسرة واتصاله المباشر بها، ويتصل اتصالاً قويًا بأقرانه وزملائه، ثم يتخفف من علاقته بهم ليتصل من قريب بالمجتمع القائم ولهذا كان لزامًا على أهله وذويه أن يساعدوه على هذا التحرر ويتخففوا من سيطرتهم عليه شيئًا فشيئًا، حتى يمضي قدمًا في طريق نموه، وللمغالاة في رعاية المراهق وحمايته من كل أذى وكل خبرة شاقة أثر ضار على إعاقة عظامه النفسي، وخير للمراهق أن يعتمد على نفسه في شراء لوازمه وحاجياته وملابسه وفي اختيار أصدقائه، وفي قضاء أوقات فراغه، والاستمتاع بهواياته، وتأكيد مكانته بين إخوته بما يتناسب ومستواه ونشاطه، وخير للأسرة أن تمهد للمراهق الوسيلة الفعالة للاشتراك الإيجابي في مناقشة بعض المشاكل العائلية المباشرة وأن تحترم آرائه، وأن تدربه على التعاون مع والديه في بعض أمورهما، وعلى تكوين صداقة قوية بينه وبينهما. وهكذا يتحرر المراهق من خضوع طفولته وخنوعها، ويشعر بأهميته ويتدرب على حياته المقبلة في المجتمع الكبير.
حدود التدخل في حياة الأبناء:
هناك قاعدتان لتدخل الأهل في حياة الأبناء:
الأولى: مبدأ {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]
الثانية: مبدأ [[ لاعبه لسبع وأدبه لسبع وصاحبه لسبع ثم اترك حبله على الغارب ]].
والمرحلة العمرية التي نحن بصدد الحديث عنها هي مرحلة المصاحبة فإن الأبناء في أشد الاحتياج إلى الصديق الوفي والناصح المخلص، والصاحب المتفاهم، وليس هناك أحد في الوجود كله أوفى وأخلص من الوالد لابنه ولا أوفى وأخلص من الأم لابنتها.
يقول صاحب كتاب تربية المراهق في رحاب الإسلام:
[ فالتدخل من الأبوين ينبغي أن يكون في الأمور التي تستحق التدخل، وفي الأمور التي تكون فيها معرفة المراهق محدودة أو عندما تعرضه قراراته لخطورة ما، مع إهمال الأمور الهامشية الصغيرة التي لا تضر، والأمور التي يستطيع المراهق اتخاذ قرارات ناضجة فيها, والتوسط مطلوب في هذه الأحوال، ونساعد بذلك المراهق في الاعتماد على نفسه وفي أخذ القرارات ونتعامل معه بمرونة في حدود الأطر الدينية والقيم السليمة، وبذلك يعد المراهق ليكون شابًا له دوره في المجتمع وتعد المراهقة لتكون شابة لها دورها كذلك ] اهـ..
فالأم مثلاً تتيح لابنتها فرصة دخول المطبخ والعمل فيه، وعلى الأم أن تثني عليها، وتتقبل خطأها بنفس راضية، إذ تعد الفتاة لمرحلة الرشد والقيام بمهام جديدة والأب ينبغي أن يُسر بعمل ابنته، ولا يعتب على زوجته عند تكليفها بأي عمل.(/1)
وقد ثبت من خلال الأبحاث والإحصاءات أن الأبناء المراهقين الذين يتدخل الآباء في شئونهم بشكل إيجابي ويشعرونهم بالحب والاحترام كانوا أقل تعرضًا للأمراض النفسية ومشاكل الانحراف.
وانظري عزيزتي الأم إلى رأي د. سيد محمود الطواب في كتابه النمو الإنساني حيث يقول:
[يؤكد كل من جونالز وكلوز [وهم من علماء النفس] أن الآباء الأكفاء المثاليين الذي يشعون أفضل أنواع الاستقلال الذاتي هم أولئك الذين يدركون أن المراهقين هم أفراد مستقلون،ولهم كيان خارجي بهم، ويظهرون اهتمامًا حقيقيًا بأبنائهم، ولكن ليس لدرجة التدخل الزائد عن الحد].
كيف يتم تعويد المراهق على الاستقلال:
عزيزتي الأم القارئة:
إذا كان المراهق مكلفًا شرعًا وائتمنه ربه على الصلاة والصيام والحج وهي أعظم العبادات فلماذا لا يُؤتمن على وجوه الصرف المالي، وبعض مهارات الأسرة؟
لماذا لا يتدرب المراهقون، ولو بالتدريج من الأقل إلى الأكثر لينسجم مع طبيعة المراهق؟ ويتحدد بعدها دوره الجديد وإثبات ذاته وقيمته.
فإننا إذا منعنا المراهق من تحمل المسؤولية فسوف يوظف طاقاته في أمور أخرى غير مجدية كالانشغال بمشاهدة التلفاز ومتابعة المجلات وتضييع الأوقات.
ولا بد أن يراعى التدريج في تعويد الأبناء على التمتع بالاستقلال والحرية خلال مراحل نموه المختلفة، أما منح الحرية فجأة فقد يؤدي بالأبناء إلى إساءة فهم دوافع آبائهم وإحساس المراهقة بأنه قد فقد العون والسند الذي كان يعينه أيام الطفولة.
ومن الضروري أن يقتنع الأهل بأن المراهق يريد أن يشق طريقه بنفسه وأن ينظم حياته بنفسه فإذا ما حاول الآباء الاستمرار في السيطرة عليه ووضع القيود والقوانين متجاهلين نموه الطبيعي فإنه سيقاوم هذه القيود ويخرج عليها. وإن التدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياة المراهق إما أن يدفعه إلى التمر أو إلى الخنوع والقلق , وبلغة علم النفس فإن المراهق يلجأ قد إلى العدوان أو إلى الانطواء والانسحا(/2)
الفراغ عند الشباب وخطورته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:-
أيها المسلمون: اعلموا أن أيامكم التي تمر بكم تقربكم من ربكم، وتدنيكم من أجلكم، وتسرع بكم إلى قبوركم، وكم من مضيع لأوقاته! ماضٍ في غفلاته! فلم يُفقْ ولم يَصْحَ إلا في معسكر الموتى! فندم على ما قصر في الحياة الدنيا!
الوقت هو حياة الإنسان ولا بد من استغلاله فيما يعود على الإنسان بالنفع، وفيما يدفع عنه الضر، ولعمري! كم من أناس يقضون أوقاتهم في غير فائدة تذكر، أو منفعة تسطر!! ولما كان الفراغ قاتلاً للأوقات، خاصة وقت الشباب الذي هو أغلى من كل شيء؛ كان الاهتمام به أبلغ وأشد..
إن الفراغ في حياة الشباب أمره خطير، وشره مستطير، لما خص به الشباب من خصوصيات كثيرة تختلف عن بقية مراحل عمر الإنسان.
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
عباد الله: فالشباب مفسدة للمرء إن لم يوجه في الخير ومن هنا عني الإسلامي بهذه المرحلة العمرية أيما عناية، ووجه الشباب إلى ما يقضون به أوقاتهم.
والفراغ مفسدة للمرء إن لم يستغل فيما يعود على المرء بالنفع في حياته وبعد مماته لاتزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن شبابه فيا أبلاه...
والجدة والمال والغنى أيضاً من أسباب فساد الإنسان ما ينتظر أحدكم إلا غنى مطغياً، أو فقرا منسيا، أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا، أو الدجال – فالدجال شر غائب ينتظر -، أو الساعة – والساعة أدهى وأمر –قال الألباني فيه نظر
ومن أسباب التفريط في الوقت في حياة الشباب:
1. الرفقة السيئة التي لا يسلم منها كثير من الشباب إلا من سلمه الله - تعالى- الرفقة السيئة التي ليس لهم هم إلا تضييع الأوقات في أي أمر كان! وإذا اجتمع مع هذا السعة والجدة والمال فإنه الوبال والخبال؛ جريمة وفاحشة وفساد عريض. والله المستعان
2. مرحل المراهقة وما يرتبط بها من انفعالات، وهي مرحلة الانتقال من عالم الطفولة إلى عالم الكبار، ولذلك ترتبط بها بعض التغيرات العضوية والنفسية في حياة الشباب وبالتالي يجد نفسة مضطراً للتفكير في أمور مثل الزواج؛ والمستقبل المأمول وغير ذلك، والانشغال به مما يضيع الكثير من أوقاتهم.
3. عدم اهتمام كثير من الأسر بأبنائهم وبناتهم في هذه المرحلة، وتوجيه أفكارهم التوجيه الصحيح ومراقبة تحركاتهم وتصرفاتهم من غير مبالغة وإشغالهم بأعمال تساعد في بناء شخصياتهم وأهدافهم في المستقبل .
4. عدم تقدير قيمة الوقت، من قبل بعض الآباء والأبناء فلا يعرف كثير منهم قيمة الوقت وأنه رأس مال الانسان، كما قال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ)رواه البخاري.
وقال الحسن البصري: (يا ابن آدم إنما أنت أيام إذا ذهب يومك ذهب بعضك)
والوقت أعظم ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع
إلى غير ذلك من الأسباب..
يا شباب الإسلام: إن الفراغ في حياتكم إذا لم يستغل فإنه يسبب مشاكل كثيرة؛ ولذا لا بد أن تملؤوا أوقاتكم بما يفيدكم ويفيد أمتكم..
إن المشاكل التي تترتب على فراغ الشباب عديدة:
منها: ضعف الأمة وهوانها؛ لأن النصرة والمنعة والبناء والتفكير والإبداع لا يكون إلا بسواعد الشباب؛ فالشباب قوة وحيوية ونشاط، فإذا أهملت هذه الطاقات والقدرات ذبلت المجتمعات، وقرب انقراضها من ذاكرة الأجيال.. إن الشباب هم عماد الأمم، وإذا تعطل هؤلاء ولهو وتركوا الواجب عليهم -كما هو الحال اليوم في كثير من المجتمعات- فويلٌ ثم ويلٌ لأمتهم المنتمين إليها!!
ومن المشاكل: انصراف الشباب من النافع إلى الضار.. ومن الطاعة إلى المعصية، فإن المغريات والمفتنات في هذا الزمن كثيرة وكثيرة؛ وإن الشهوات قد ضجت منها الأرض، واسودّ بها الزمن! فإذا انصرف الشباب إليها نتيجة لفراغهم، فسدت أخلاقهم، وانتكست فطرهم، وشوهت سمعتهم.
أيها الشباب: إن الفراغ الذي تجدونه في حياتكم مع وجود الشهوات ليعد أمراً خطيراً على حاضركم ومستقبلكم، يقول بعض الصالحين:
(فراغ الوقت من الأشغال نعمة عظيمة، فإذا كفر العبد هذه النعمة، بأن فتح على نفسه باب الهوى، وانجر في قياد الشهوات، شوش الله عليه نعمة قلبه، وسلبه ما كان يجده من صفاء قلبه).
وقال بعض السلف: (الخذلان كل الخذلان أن تتفرغ من الشواغل، ثم لا تتوجه إليه، وتقل عوائقك ثم لا ترحل إليه). يعني: الله جل جلاله.
أيها المسلمون! لقد كان سلفكم الصالح يكرهون من الرجل أن يكون فارغاً، لا هو في أمر دينه، ولا هو في أمر دنياه، وهنا تنقلب نعمة الفراغ نقمة على صاحبها، ولهذا قيل: الفراغ للرجال غفلة، وللنساء غلمة، أي: محرك للغريزة والتفكير في أمر الشهوة! وهل كان تعلق امرأة العزيز بيوسف- عليه السلام- وشغفها، وتدبير المكايد لإيقاعه في شباكها، إلا نتيجة الفراغ الذي تعيشه!!(/1)
ويشتد خطر الفراغ إذا اجتمع مع الفراغ الشباب الذي يتميز بقوة الغريزة والجدة، أي القدرة المالية التي تمكن الإنسان من تحصيل ما يشتهي... وفي هذا يقول الشاعر:
لقد هاج الفراغ عليه شغلاً وأسباب البلاء من الفراغ
والفراغ: منه الفراغ العقلي.. هذا العقل إذا لم يستخدمه الإنسان في ما خلق له؛ فإنه يعد كالبهيمة؛ لأنه بهذا (الفراغ العقلي) ساوى الأنعام في كونها لا تعقل{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (22) سورة الأنفال.
فلا بد من إدراك أهمية ملء الذهن بما ينفع، فإذا عاش الشباب في فراغ عقلي فإنما كتب على حياته الفناء، كما أنه قد كتب على آخرته البوار، لذلك يعترف أهل النار يوم القيامة بفراغ عقولهم حينما يقولون { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (10) سورة الملك. فهذا مصير من عاش منعوتاً في (فراغ عقلي) وأما من ملأ عقله بما ينفعه في دنياه وآخرته، فإنه يفوز فوزاً عظيماً في الدنيا والآخرة.
ومن أنواع الفراغ: الفراغ القلبي: إن القلب مضغة، بحياتها يحيى الجسد، وبموتها يموت؛ فهو وعاء الإيمان كما أنه وعاء الهوى.قال تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } (7) سورة الحجرات.
يا معشر الشباب: إن فراغ القلوب من الإيمان، يلزم منه امتلاؤها بالهوى والعصيان، من ملأ قلبه بحب الله ورسوله، فرغ القلب من الهوى والزيغ والضلال، ومن ملأه بالشهوة فقد فرغ من تقوى الله مرضاته، فيا له من فراغ قاتل، ويا له من تدبير سافل، أتظن أيها الشاب! أنك بترك قلبك للهوى والشيطان سوف تكون غداً من الناجين!! ما أظنك ستبلغ تلك المرتبة وتلك المنزلة! إن بلوغ المنزلة العالية يكون لمن ألزم نفسه عبودية الله وملأ قلبه بحبه وتقديسه!
ومن أنواع الفراغ: الفراغ النفسي:
إن النفس إذا لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وشغلها بالحق يكون بتزكيتها، وتهذيبها، وإلجامها عن الباطل.. وإلا تعودت على السوء، واستمرت بالانحراف فخاب بذلك صاحبها (قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وتاب علىَّ وعليكم إنه هو التواب الرحيم
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي حقق الإسلام قولاً وعملاً، وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين، أما بعد:-
أيها الناس: إن المخاطر التي تترتب على الفراغ إذا لم يستغل الوقت فيما ينفع الانسان في دنياه وأخراه، وخصوصاً وقت الشباب، كثيرة جدا ، ولكن نأتي الآن على بيان الأمور التي يقضي بها الشباب أوقاتهم حتى يفوزوا بالرضى والجنان..
إن أهم ما يشغل به الشاب وقته فيما يعود عليه بالخير في أمر الدنيا والآخرة، ولا بد من ذلك؛ فإن انصرفت النفس إلى غير ذلك، فقد جانبت خير المسالك، ودخلت طريق المهالك.
ومن الأمور المعينة على حفظ الوقت وطرد الفراغ القاتل:-
1. الحركة الهادفة: فعلى الشاب أن يكون داعية رحالاً سائحاً في محلات مدينته، ومدن قطره، يبلغ دعوة الإسلام.. أنظر أيها الشاب مثلاً كيف كانت رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم – تسيح في البوادي تبلغ الأعراب كلمة الإسلام وتبشر به، ولم يكن ثَمَّ انتظار ورودهم إلى المدينة،
وهذا يعد مجالاً خصباً لاستغلال وقت الإنسان فيه حيث يكون الإنسان رحالاً حركياً يحمل كلمة الله إلى كل مكان (منزله، ومدرسته، وظيفته، بلدته قريته..) وإذا بلغ الشاب المسلم هذه المرتبة فلا يجد الفراغ إليه سبيلاً..
2. حب المساعدة وقضاء الحاجات: إننا عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود!! أما عندما نعيش لغيرنا، فإن الحياة تبدو طويلة عميقة! تبدأ من حيث بدأت الإنسانية، وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض.
يقول أبو عثمان شيخ البخاري - رحمه الله -: (ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تم وإلا قمت له بمالي، فإن تم وإلا استعنا له بالإخوان، فإن تم وإلا استعنت له بالسلطان!!).
هكذا أيها الشباب ويا معشر الناس جميعاً: كان السلف يعرفون بماذا يستغلون أوقاتهم، وكيف يقضون حاجات الناس بسعة صدر ورضى نفس!!
هذا هو إسلامنا.. دين معايش للواقع.. لا دين نظريات ومُثُل!!
دين حركة وجهاد.. لا دين خيال وافتراض!!(/2)
لهذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم – موجهاً البشرية على التحرك في قضاء الحاجات..((أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه ديناً، أو يطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخٍ في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد ( يعني : مسجد المدينة ) شهراً ، ومن كف غضبه ستر الله عورته ، ومن كظم غيظه _ ولو شاء أن يمضيه أمضاه _ ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام ، وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل ))1. وقال: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة))2.
3. ومما يستغل به الشباب وجميع الناس أوقاتهم: القراءة.. قراءة القرآن، وقراءة كل ما ينفع! {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (9) سورة الإسراء.
أيها الشباب أخرجوا من ضيق الذاتية إلى رحابة الحياة.. لقد ضيع الكثير أوقاتهم، وقتلوا أعمارهم، وخسروا حضهم!! فبئس الثمن وبئست البضاعة! أين أنتم يا شباب الإسلام هاكم القرآن فاقرؤوه، ورتيلوا آياته الحسان!! هاكم مجدكم وعزتكم وسؤددكم!
لا تضيعوا الأوقات!! هل استغنت الأمة المجروحة عن الطاقات حتى تضيع!؟ وهل ارتفعت الأمة بقدراتها حتى لا تحتاج إلى الشاب الرفيع!؟
أين أنتم من القراءة والتفكير والإبداع والتنوير!؟ لا أراكم يبطء بكم الهوى عن المسير! وتقعدتكم الأماني والآمال عن الإنجاز والتعمير! لاتتكلوا على آبائكم ومن يقيت نفوسكم ويشبع بطونكم. ولم تعرفوا خطورة الاتكال! فإنه ما بددت الأوقات ومزقت اللحظات إلا من سوء التدبير وقلة التفكير!
4. مما يشغل به الشاب وقته: كيف يكون نافعاً لأمته؟ فهو يدرس ليفيد ويستفيد، وينهي دراسته ليبدع ويخترع.. ويكون قدوة في ذلك الفعل الجميل.. وهذا كله بعد أداء فرائض الله - تعالى- وشرائع دينه، كالصلاة والمحافظة عليها في أوقاتها ، والصيام، وغير ذلك لانه لا يمكن أن يخدم أمته أو ينفع مجتمعه قاطع لحبل الله. فمن قطع حبل الله قطعه الله.. ولذلك فإن الذين يحاولون أن يخدموا أمتهم بدون مبادئ ولا شرائع ولا دين يفسدون أكثر مما يصلحون...
فيا شباب الإسلام أنتم عماد الأمة وأملها المنشود؛ فإياكم وإهدار الأوقات وتبديد الطاقات..
5. مما يستغل به الإنسان وقت فراغه: الرياضة والألعاب الرياضية: وهذا مصرف من مصارف الوقت النافعة.. ولنا أصل في الشريعة يدل على ذلك حيث كان السلف الصالح يدربون أنفسهم وأولادهم على القوة والشجاعة، وقد أوصى عمر فقال: (علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل). وفي رواية: (وأن يثبوا على الخيل وثباً) أي قفزاً..
ولا يعني هذا أن يصرف الشاب كل وقته في الرياضية، فإن في ذلك تضييعاً للحقوق الأخرى: حقوق الله، وحقوق نفسه ومن لهم عليه حق، ولكن تكون مقداراً بمقدار..
نسأل الله أن يصلح شباب المسلمين وشاباتهم ورجالهم ونسائهم جميعاً.. اللهم أصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين يا رب العالمين... هذا والله أعلم.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
-------------------------
1- حسنه الألباني ( انظر السلسلة الصحيحة رقم: 906 )
2- رواه مسلم.
المصدر موقع امام المسجد www.alimam.ws(/3)
الفكر الإسلامي الحديث في البوسنة و الهرسك
و تأثره بالسنة النبوية
كما يظهر من مؤلّفات الرئيس علي عزّب بيكوفيتش و أنصاره
تأليف الدكتور : أحمد عبد الكريم نجيب
أستاذ الحديث النبوي و علومه في كلّية الدراسات الإسلاميّة بسراييفو ، و الأكاديميّة الإسلاميّة في زينتسا
و مدرّس العلوم الشرعيّة في معهد قطر الديني سابقاً
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله كما ينبغي لجلاله ، و الصلاة و السلام على نبيّه محمّد و آله ، و بعد
فمصطلح الفكر الإسلامي أحد المصطلحات الحديثة ، التي لم ترد في كتب السابقين كمصطلح يدل على مُحدَّد ، و قد شاع هذا الاصطلاح للدلالة على
(( كلِّ ما أنتج فكر المسلمين منذ مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المعارف الكونية العامة المتصلة بالله سبحانه و تعالى و العالَم و الإنسان ، و الذي يُعبِّر عن اجتهادات العقل الإنساني لتفسير تلك المعارف العامَّة في إطار المبادئ الإسلامية عقيدةً ، و شريعةً و سلوكاً )) (1) 0
فالفكر الإسلامي إذن هو النتاج الفكري للمسلمين ذوي المنطلقات و الأهداف الإسلامية ، و بناءً على هذا القيد يُستثنى من اصطلاح الفكر الإسلامي نتاج غير المسلمين الفكري و إن عالج قضايا تخصُّ الأمة الإسلامية كأنظمة الحكم و الاقتصاد و الإعلام و غيرها 0
كما يُستثنى من هذا الاصطلاح أيضاً النتاج الفكري لأولئك
المنتسبين للإسلام الذين يتبنون دعاوى خارجة عن مفاهيمه ، و مضادة
لشرائعه و تعاليمه ، مما قد ينفي عن صاحبه الإيمان مُطلَقاً ؛ فيكون
صاحبها كافراً مرتداً و العياذ بالله ، أو يكون مؤمناً فاسقاً أو عاصياً ، كالحكم
بغير ما أنزل الله (2) ، أو الدعوة إلى الأنظمة الوضعية كالاشتراكيَّة (3)،
و العلمانية (4)، و الديمقراطية (5)، بمفهومها الغربي ، فهذه الدعاوى الفكرية و و نحوها خارجة عن الإسلام ، و لا يمكن تصنيفها ضمن دائرة الفكر الإسلامي ، حتى و إن انطلقت من حناجر المنتسبين إليه ، أو وردت في كُتبهم و مُصنَّفاتهم ، إذ إن (( كلَّ فكرٍ بشريٍ نتج عن فكر مستقلٍ ، و لم ينطلق من مفاهيم الإسلام الثابتة القاطعة في القرآن الكريم و السنة النبوية الصحيحة ، لا يمكن وصفه بأنه فكر إسلامي ، بل هو فكرٌ عام )) (6) 0
و من المؤسف أنَّ بعض الكتاب في عالمنا العربي اليوم لم يقفوا عند حد التجرُّد من المفاهيم الإسلامية في فكرهم و كتاباتهم ، بل بالغوا في تنكرهم للإسلام و مفاهيمه ، حتى زجُّوا به في قفص الاتهام ، و اعتبروه السبب في تخلُّف المسلمين عن ركب الحضارة المعاصرة .
و الأنكى من ذلك و الأشد ، أنّ بعض الكتاب المسلمين – و منهم بشانقةٌ بارزون – قاموا يدافعون عن خصوم الفكر الإسلامي ، بدعوى التسامح و الحوار تارة ، و التؤدة و التأني تارة أخرى .
__________
(1) ... محسن عبد الحميد : تجديد الفكر الإسلامي ، ص : 45 .
(2) ... الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرأً مُخرجاً من الملَّة ، و قد يكون كفراً دون كُفر ، و لا يخرج صاحبه من الملَّة ، و لا يجوز تعميم أحد الحُكمين مالم تستبين حال الحاكم بغير ما أنزل الله و تُقم عليه الحُجة .
للتفصيل في هذه المسألة انظر : كتابنا : جلاء الظلمة في التحذير من سيادة الشعب و الأمة ، ص 77-85 0
(3) ... الاشتراكية Socialsim : هي نظام اجتماعي ، خال من الملكية الشخصية .
(4) ... العلمانية : ترجمة خاطئة لكلمة Secularite الإنجليزية ، أو Secularismالفرنسية ، و هي كلمة لا صلة لها بلفظ العلم و مشتقاته على الإطلاق ، و الترجمة الصحيحة للكلمة هي
) اللادينية ( ، أو ) الدنيوية ( ، بمعنى ما لا صلة له بالدين ، أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضادّ 0
انظر : الدكتور :عبد الرحمن الحوالي : العلمانية ، نشأتها و تطورها و آثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة ( الطبعة الأولى ، دار مكة ، مكة المكرمة 1402هـ/1982م ) ص :21
(5) ... الديمقراطية : مُصطلح مشتق من الأصل اليوناني لكلمة Dimocracy التي تعني : حُكم الشعب للشعب ، و للاستزادة حول الديمقراطية بمفهومها الغربي ، انظر : كتابنا : جلاء الظُلمة ، ص : 15 و ما بعدها 0
(6) ... عيسى عبد الحميد : تجديد الفكر الإسلامي ، ص : 55 .(/1)
يقول الشيخ حسين جوزو (1) : (( ينبغي أن لا نضيق ذرعاً ببعض الكتَّاب في الدول الإسلامية ، الذين ينكرون إسهام الفكر الإسلامي في بناء الفكر الإنساني العام و تطويره ، و يجعلونه السبب في تخلُّف المسلمين … و منهم من يجاهر بالقول : إنَّ الإسلام عاجز عن التقدم بالمسلمين ، لأنه السبب فيما هم عليه الآن … و إننا لن نخدم الفكر الإسلامي بتكفير هؤلاء ، و الحكم بردَّتهم ، و عدائهم للإسلام ، أو المطالبة بحظر كتبهم و محاكمتهم ، بل يجدر بنا أن ندرس هذه الظاهرة ، و نسعى لكشف جذورها ، بدلاً من ذلك )) (2) .
و لتسليط الضوء على مدى تأثير السنة النبوية في الفكر الإسلامي الحديث في البوسنة سأعمد في المبحثين التاليين إلى تحديد معالم هذا الفكر ، ثم عرضه على نصوص السنة للوقوف على ما بينهما من توافق أو تعارض – إن وجد ـ و الله الموفق .
المبحث الأول
الفكر الإسلامي الحديث في البوسنة
في الوسط الفكري الحديث لمسلمي البوسنة و الهرسك لا توجد أعمال فكريَّة لاقت من الشهرة و النجاح و القبول ما لاقته أعمال الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، الذي ملأت كتاباته الأرجاء ، و طوّفت البلدان ، و ترجمت إلى لغاتٍ أوروبيَّة و شرقيّةٍ عديدة ، حتى اعتبر نتاجه في البوسنة خاصَّة و منطقة البلقان عامَّة مدرسة فكريَّة إسلاميَّة لها دعاتها و معارضوها و طلاَّبها .
و هذا ما دفعني إلى تتبُّع عبارات الرئيس و كتاباته الفكريَّة ، و جمع مقالاته من مظانِّها ، ثمَّ استخلاص فحواها ، و عرضها مجرَّدة عن أي تعليقٍ أو تحليل فيما يلي :
يدور فكر الرئيس علي عزّت بيكوفيتش السياسي حول ستة محاور هي :
وجوب تحكيم الإسلام و تطبيق أحكام الشريعة في جميع أمور الحياة .
اعتبار الخلافة الإسلامية النموذج المنشود في سياسة الأمة الإسلامية ، و وجوب العمل على إقامتها .
التأكيد على سبق الإسلام في شتى مجالات الإصلاح و تفوقه على الأنظمة الوضعيّة .
ضرورة العمل على توحيد الأمَّة الإسلاميَّة في كيانٍ واحد .
العمل الجماعي من أجل نهضة المسلمين .
الجهاد في سبيل الله هو الوسيلة الوحيدة الكفيلة بإعادة العزة و التمكين للمسلمين .
و فيما يلي نتناول كلاً من هذه المحاور على حدة ، مستأنسين بما ورد من كلام الرئيس فيما نحن بصدده :
أولاً : وجوب تطبيق الشريعة :
فيما يخص أول هذه المحاور ، و هو تطبيق الشريعة الإسلاميَّة ، يرى الرئيس أن الإسلام دين و دولة (3) ، و (( أن التطور الإسلامي لا يمكن أن يقوم إلا على أساس ديني . و لا يمكن أن يكتب له النجاح بدون الثورة الإسلامية )) (4) .
و يعلل تردي واقع المسلمين في العصر الحاضر بإقصاء الدين عن المجتمع ، و لا يفتأ يؤكد أن ( التفسير الديني المحض للإسلام ، الذي حصر الإسلام في دائرة رسالة دينية ، مهملاً و منكراً دوره في تنظيم و تغير العالم الخارجي ، عامل إضعاف داخلي لقوة و مناعة الأمة الإسلامية ) (5) .
و يعيب الرئيس على بعض المسلمين ما يعتبره مغالطة في تفسير الإسلام ، حين يبررون ـ أو يدعون إلى ـ فصل الدين عن الدولة فيقول :
(( لقد أكد المتصوفة باستمرار على الجوانب الدينية فقط للإسلام ، بينما أكد العقلانيون على الجانب الآخر ، و كلا الفريقين لم يكن طريقه مع الإسلام
ميسراً )) (6).
و إذا جاز أن يُقال : إنَّ الإسلام جاء ليحض على العبادة و تقويم السلوك ، و ليس لتقديم نظام سياسي ، فإنَّما يجوز ذلك عند من يرى الإسلام من خلال مرحلته المكيَّة ، و يجهل أو يتجاهل المرحلة المدنيَّة من تاريخ الدعوة الإسلامية ، حيث شُرع الجهاد و قامت دولة الإسلام ، و هذا يدُلُّ على تطوُّر الإسلام ، لا على جموده الذي يروِّجُ له دعاة فصل الدين عن الدولة فلقد (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء صائماً متنكساً متصوفاً حنيفاً ، و كان في مكة داعياً إلى فكرة دينية ، أما في المدينة ، فقد أصبح داعية إلى الفكرة الإسلامية … فهناك و ليس في مكة بداية و مصدر النظام الإسلامي الاجتماعي كله … لقد بدأ الإسلام صوفياً و أخذ يتطور حتى أصبح دولة )) (7).
__________
(1) ... حسين جوزو ، هو : كبير علماء يوغسلافيا السابقة ، و رئيس المشيخة الإسلامية في سراييفو حتى عام 1980 م ، له نشاط واسع في الدعوة ، عرف بتأثره بمدرسة التجديد في مصر ، و سيأتي ذكر بعض آرائه لاحقاً إن شاء الله . ( الباحث ) .
(2) ... حسين جوزو : الإسلام و العصر ، ص : 167، 168 .
(3) ... و هذا هو الشعار الذي رفعه الأستاذ حسن البنا و جماعته ( الإخوان المسلمون ) من بعده . فتأمل ، و قارن بما سيأتي عند البحث العمل الجماعي في فكر الرئيس .
(4) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .
(5) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 8 .
(6) ... الإسلام بين الشرق و الغرب ، ص : 35 .
(7) ... المرجع السابق ، ص : 279 .(/2)
و بسبب هذا التفسير الخاطئ للإسلام تم إقصاء الشريعة عن الحكم ، مما أدى إلى تردي أحوال الأمة و تأخرها ، ( و مع ذلك فإن المسلمين المخلصين يجدون السلوى في إدراكهم بأن الوضع القائم ليس نتيجة لتطبيق الإسلام ، بل هو على العكس من ذلك نتيجة لرفض الإسلام و إقصائه ، و ليس نتيجة لحضوره ، بل هو نتيجة لغيابه )(1). و بعد هذا الطرح يتساءل الرئيس : إذا كان تغييب الإسلام قد أدى بالمسلمين إلى التخلف و الفوضى و الفساد ، فهل تعني عودته إشراق روح جديدة و بزوغ عهد مشرق في حياة الشعوب الإسلامية (2) ؟
و الجواب بالإيجاب طبعاً و هو ما حفز الرئيس على السعي الدؤوب و العمل على إعادة الإسلام إلى الحياة .
ثانياً : الخلافة الإسلاميَّة :
أما عن الخلافة الإسلامية و كونها المنارة المفقودة (3) ، التي أجمع المسلمون على وجوب العمل على إقامتها ، كما اتفق المفكرون و العلماء على أن سقوطها هو النكسة الكبرى التي تعرضت لها الأمة الإسلامية عبر التاريخ ، فهذا أمر يقر به الرئيس و يتألم له أشد التألم ، و لكنه يجد بعض العزاء في أن الخلافة التي سقطت كانت متردية في دركات الانحطاط و الفساد مما أساء إلى سمعة الإسلام و إلى الخلافة الإسلامية الحقيقية .
فرغم أن ( الإسلام وضع نظام الخلافة … انقلب الخليفة إلى ملك الملوك … و أصبح الخلفاء يلهون في قصورهم بالحريم و الخدم خلف أسوار منيعة ، و بدلاً من رفع راية الجهاد صاروا يخططون للمداهمات و حروب السلب و النهب ) (4) .
و مع أن سقوط الخلافة يعتبر انحطاطاً رهيباً في مسيرة الأمة الإسلامية ، بل غاية ما يمكن تصوره من انحطاط و تخلف ، حيث لم تعد للمسلمين دولة تجمعهم و لا قيادة تسوسهم ، لم يخفف من وقع المصاب على الأمة غير أمل بعض رجالاتها – و منهم الرئيس علي عزت – في أن يكون زوال الخلافة قد أزال معه الاعتقاد بأن كلمات الذل و الهوان و العازة و البؤس و الجهل ترادف كلمة الإسلام
و المسلمين (5) .
إلا أنه عاد ليقرر أنَّ ما أصاب الأمة بفقد الخلافة ، و ما ترتب على ذلك من فساد في أنظمة الحكم البديلة ، إنمَّا هو نتاج ما كسبته أيدي الشعوب ، فكل أمور الشعب تنبني على قاعدة ( كما تكونوا يُوَّلَّ عليكم ) ، و في ذلك يقول : (( إن طريقة حكم بعض الرؤساء و الملوك و الأمراء و أعوانهم من الذين عشعشت فيهم أنواع الفساد ، لتُؤَكِّد أن شيئاً ما قد تعفَّن جداً داخل الشعب نفسه ، لأنَّ السعادة حليفة الشجعان ، و لا يستحق غير الشعوب الصالحة و الطاهرة أن تنعم بالحكام الصالحين )) (6) .
ثالثاً : سبق نظام الإسلام للأنظمة الوضعيَّة في مجالات الإصلاح :
فيما يخصُّ ثالث المحاور التي يدور حولها فكر الرئيس ، و هو سبق الإسلام للأنظمة الوضعية في مجالات الإصلاح ، نجده تارةً يسعى جاهداً للانتصار لمقولة ( اشتراكية الإسلام ) أو ( الاشتراكية الإسلامية ) تلك المقولة التي ترددت قبل نصف قرن من الزمن ، و انتصر لها غير واحد من دعاة الإسلام البارزين في تلك الحقبة (7) ، و تارة يحاربها ، و يرى في النظام الإسلامي البديل المناقض لها .
و يبدو ذلك جليَّاً حينما ينسب الرئيس إلى الإسلام ركنين – هما المساواة بين الناس ، و تأميم موارد الثروة – من أركان الاشتراكية الثلاثة ، بينما يجند قلمه و فكره لتفنيد الركن الثالث و هو الإلحاد و إنكار الخالق ، و فيما يلي أبين موقفه من كل ركن من أركانها الثلاثة على حدة :
الركن الأوَّل : المساواة بين الناس :
يرى الرئيس علي عزت أن المساواة بين الناس مبدأ سام سعى الإسلام إلى تقريره ، و قرره النبي - صلى الله عليه وسلم - بأوجز و أبلغ عبارة حيث قال - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الوداع :
( أيها الناس كلكم لآدم و آدم من تراب ، لا فضل لعربي على أعجمي ، و لا لأبيض على أسود إلا بالتقوى ) (8)
__________
(1) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 24 .
(2) ... المرجع السابق ، ص : 24 .
(3) ... للدكتور عبد الله عزام شهيد الجهاد الأفغاني رحمه الله كتاب بعنوان ( المنارة المفقودة ) يتناول فيه قضية الخلافة و أبعادها السياسية و العقدية و ما يتعلق بها من أحكام فقهية ، و ما حيك لها من مؤامرات أدت إلى سقوطها و هو نفيس في بابه لذلك استعرت عبارة ( المنارة المفقودة ) من عنوانه .
(4) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 22 .
(5) ... المرجع السابق ، ص : 20.
(6) ... المرجع السابق ، ص : 22 .
(7) ... انظر على سبيل المثال كتاب : ( اشتراكية الإسلام ) للأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله .
(8) ... هذا الحديث ملفق من حديثين ، أحدهما من خطبة حجة الوداع كما قال :
أولا : حديث حجة الوداع ، و هو حديث صحيح ، و لفظه :
" يا أيها الناس ، ألا إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ، و لا لأحمر على أسود ، و لا أسود على أحمر إلا بالتقوى ، أبلغت ؟ " قالوا : بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - – ثم ذكر الحديث في تحريم الدماء و الأموال و الأعراض .
أخرجه بهذا اللفظ أحمد في " مسنده " 5 / 411 ، و الطبري في " آداب النفوس " كما في تفسير القرطبي 16 / 342 – 343 ، عن إسماعيل ، حدثنا سعيد الجريري ، عن أبي نضرة ، قال : حدثني من شهد خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى في أوسط أيام التشريق ، و هو على بعير له – فذكره .
وهذا إسناد رجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في " المجمع " 3 / 266 .
إسماعيل هو : ابن علية . و سعيد الجريري ، هو : ابن إياس . و أبو نضرة ، هو : المنذر بن مالك .
و تابع إسماعيل : عبد الوهاب بن عطاء الخفاف عند الحارث في " مسنده " ( 1 / 193 رقم 51 –
زوائد ) .
و جهالة الصحابي لا تضر ؛ فكلهم عدول ، و جاء مصرحا باسمه بسند فيه ضعف ، فيما أخرجه أبو نعيم في " الحلية " 3 / 100 ، و البيهقي في " الشعب " 4 / 289 ( 5137 ) من طريق العلاء بن مسلمة الهذلي البصري ، قال : حدثنا شيبة أبو قلابة القيسي ، عن الجريري بالإسناد السابق ؛ لكن فيه تسمية الصحابي : جابر بن عبدالله ( .
قال أبو نعيم : ( غريب من حديث أبي نضرة ، عن جابر ، لم نكتبه إلا من حديث أبي قلابة ، عن الجريري عنه ) .
و قال البيهقي : ( في هذا الإسناد بعض من يجهل ) .
قلت يشير إلى العلاء بن مسلمة ، لم يوثقه أحد ، قال فيه ابن حجر : " مقبول " . و إلى شيخه : شيبة أبو قلابة القيسي ، لم أجد من ترجمه .
ثانيا : حديث ( أنتم بنو آدم ، و آدم من تراب ) :
روي من حديث أبي هريرة ( بإسناد حسن ، و من حديث حذيفة ( بإسناد ضعيف :
1 - حديث أبي هريرة ( :
أخرجه أبو داود ( 5116 ) في الأدب ، باب : التفاخر بالأحساب ، من طريق ابن وهب ، و المعافى بن عمران ؛ و الترمذي ( 3956 ) في المناقب من طريق موسى بن أبي علقمة ، و الخطيب البغدادي , في " تاريخه " 6 / 187 من طريق المعافى ؛ ثلاثتهم عن هشام بن سعد ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه عن أبي هريرة ( مرفوعا : ( إن الله عز و جل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية و فخرها بالآباء، مؤمن تقي و فاجر شقي ، و الناس بنو آدم ، و آدم من تراب ) . =
= ... و هشام بن سعد صدوق حسن الحديث . انظر : تهذيب الكمال 30 / 208 .
و قد اختلف في إسناده على هشام بن سعد اختلافا لايضر ، حيث رواه سفيان الثوري و غيره ، عن هشام عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ( به ، فلم يذكروا ( عن أبيه ) . وذلك فيما أخرجه أحمد 2 / 361 و 523-524، و الترمذي أيضا ( 3955 ) ، و ابن سعد في " الطبقات " 1 / 5 ، و الحاكم في " علوم الحديث " ص 195 ، و البيهقي في " السنن الكبرى " 10 / 232 ، و في " الشعب " ( 5127 و
5128 ) .
و لفظ ابن سعد مختصر على : ( الناس ولد آدم ، و آدم من تراب ) .
قال الترمذي : ( حسن غريب ) . ثم قال معلقا على رواية موسى ابن أبي علقمة : ( و هذا أصح عندنا من الحديث الأول – يعني طريق الثوري و من تابعه - ، و سعيد المقبري قد سمع أبا هريرة ( ، و يروي عن أبيه أشياء كثيرة عن أبي هريرة ( ) . و انظر : علل الدارقطني 8 / 157-159 (1478 ) .
و قال المنذري في " الترغيب " 3 / 375 : ( رواه أبو داود و الترمذي ، و حسنه ، و البيهقي بإسناد حسن أيضا ) .
و أورد السيوطي لفظ ابن سعد في " الجامع الصغير " ( 9303 ) و رمز له بالحسن .
2 - حديث حذيفة ( ، و لفظه : ( كلكم بنو آدم ، و آدم خلق من تراب ، لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان ) .
أخرجه البزار في " مسنده " 7 / 340 ( 2938 ) من طريق الحسن بن الحسين ، أخبرنا قيس يعني ابن الربيع عن شبيب بن غرقدة ، عن المستظل بن حصين عنه .
قال الهيثمي في " المجمع " 8 / 86 : ( رواه البزار ، و فيه الحسن بن الحسين العرني ، وهو ضعيف ) .
و قال ابن حجر في " مختصر زوائد البزار " 2 / 224 ( 1746 ) بعد أن ذكر قول الهيثمي : ( وشيخه لين ) . قلت : يعني قيس بن الربيع .
و رمز له السيوطي في " الجامع " بالحسن ، فتعقبه المناوي في " فيض القدير " 5 / 48 بقوله : ( ليس كما ذكر فقد أعله الهيثمي بأن فيه الحسن بن الحسين العرني ، وهو ضعيف ) .(/3)
.
و قد أحسن الرئيس حين وصف هذه الكلمات بأنها أبسط و أخلص و أروع ميثاق في حقوق و مساواة بني الإنسان (1) .
و في هذا المجال يرى الرئيس علي عزت أن الغاية من إرسال الرسل لم تكن ( محصورةً في جانب إحياء الدين و تعاليمه المهجورة ، بل كان هدفها الأول إصلاح الخلل الذي نخر في النظام الأخلاقي و الاجتماعي ) (2) .
و عماد هذا الإصلاح هو تحقيق المساواة و القضاء على الرق و الطبقية في المجتمعات التي بعث فيها الرسل و أرسلت إليها الرسالات .
و لتعزيز هذا التصور يسوق عدة أمثلة مستوحاة من آيات القرآن الكريم :
فهو يرى أن رسالة كل من نوح و موسى و هارون جاءت بالحرب على الطبقية المستحكمة في نفوس أقوامهم ، حيث كان مجتمع قوم نوح مقسماً تقسيماً طبقياً لا يمكن قبوله ، و هو ما يدل عليه قول الملأ الذين كفروا من قومه : { ما نراك إلا بشراً مثلنا و ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } [ هود :88 ] .
و أما قوم موسى و هارون فكان فيهم الرق ، و استعباد الإنسان للإنسان ، قال تعالى : { ثم أرسلنا موسى و أخاه هارون بآياتنا و سلطان مبين - إلى فرعون و ملئه فاستكبروا و كانوا قوماً عالين - فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا و قومهما لنا عابدون } [ المؤمنون : 45-47 ].
و قد أفلح الإسلام في تطبيق مبدأ المساواة على أكمل وجه ، محرزاً بذلك قصب السبق في هذا المضمار . قال تعالى : { يا أيُّها الناس إنَّا خلقناكم من ذكرٍ و أنثى و جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم
خبير } [ الحجرات : 13 ] .
فلم تعد المساواة مجرد نصوصٍ تتلى أو بيانات تنشر ، و لكنها تحولت إلى سلوك اجتماعي فريد ، فبينما تكرس الديانات المحرفة والأنظمة الوضعية الطبقية التفرقة العنصرية و الاستعباد – بطريقة أو بأخرى – نرى المسلمين يصطفون كالبنيان المرصوص في المساجد و غيرها ، حيث يستطيع (( الفقير و الأعمى أن يقفا جنباً إلى جنب مع ملك أو نبيل و قد يكونا عند الله أفضل منهما )) (3) .
الركن الثاني : تأميم مصادر الثروة :
يذهب الرئيس إلى القول بأن الإسلام قد أمَّم مصادر الثروة في المجتمع ، فيقول : (( أعلن الإسلام صراحة أن ملكية الأرض تعود إلى المجتمع – أو الشعب – أي أن لجميع المسلمين حقا فيها ، و لكن الأقلية من الأثرياء و الوجهاء سطت على غالبية الأراضي ، تاركة ملايين الفلاحين لا يملكون قيد شبر من الأرض )) (4) .
و لا يخفي إعجابه ببعض إنجازات الثورة ( الإسلامية ) في إيران ، و يستشهد بها على أن تأميم مصادر الثروة هو أحد معالم النظام الاقتصادي الإسلامي ، ( أو ما يسمى باشتراكية الإسلام ) ، فيقول :
(( لا يمكننا . . . أن ننسى ذكر دولة إيران . . . لقد تم في هذه الدولة التي تعرض كافة أحكامها و قوانينها على مجلس الفقهاء المتشدد ، تأميم البنوك ، و تأمين المناجم و مصانع الصلب و السيارات والأغذية و الأدوية . . . هذه التغييرات الكبيرة لم تجر باسم (ماركس ) و لكنها طبقت باسم القرآن الكريم )) (5) .
الركن الثالث : الأساس العقدي لكلٍ من الإسلام و الاشتراكية -
بقيت الإشارة إلى النقطة الفاصلة بين نظام الإسلام و الاشتراكية بحسب رأي الرئيس و هي التي يتعذر أي التقاء حولها ، و هي العقيدة المحركة لكل من النظامين .
و مادام الإسلام ديناً يقوم على الاعتراف بوجود الله ، و تعيُّن تسيير أمور الحياة بحسب شرعه و هداه ، و يناقض فلسفة الإلحاد التي قامت عليها الاشتراكية ، فليس ثمة مبرر لإطلاق مصطلح ( الاشتراكية الإسلامية ) باعتبارها ممكنة ، فضلاً عن كونها واقعاً معاشاً ، لأن هذين النظامين قد بنيا على أساس فلسفتين
متناقضتين (6) .
و هنا يجد الباحث نفسه أمام ثلاث نظرات إلى العلاقة بين الاشتراكية و الإسلام في فكر الرئيس علي عزّت بيكوفيتش تتباين في بعض وجوهها و تتكامل من بعض الوجوه .
فتارة ينظر إلى الاشتراكية و الإسلام على أنهما (( نظامان شاملان
متشابكان )) (7) ، بحسب ما نادى به كل منهما من قبيل المساواة و القضاء على الطبقية و الاستعباد ، و عدالة توزيع الثروة .
و تارة ينظر إليهما نظرة (( لا يبقى معها مجال للمقارنة بين النظامين )) (8) باعتبار ما يستند إليه كل منهما من الفلسفة الوجودية لدى الاشتراكية ، و عقيدة التوحيد في الإسلام .
__________
(1) ... انظر : مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 26 .
(2) ... المرجع السابق ، ص : 110 .
(3) ... الإسلام بين الشرق و الغرب ، ص : 87 .
(4) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 21 .
(5) ... المرجع السابق ، ص : 158 . قلت : و ما ذكره من شمولية التأميم في إيران يخالف الحال القائمة الآن منها !!
(6) ... انظر : المرجع السابق ، ص : 158.
(7) ... المرجع السابق ، ص : 158 .
(8) ... المرجع السابق ، ص : 159 .(/4)
و تارة ثالثةً ينظر بترقب و تساؤل حول إمكانية التقاء النظامين في المستقبل ، إذا كان هذا اللقاء قد تعذر و لا يزال متعذراً فيقول : (( لا ندري هل ستقدر الأيام المقبلة على إيجاد ملتقى بين الدين و الاشتراكية ، لقيام نوع من اشتراكية متدينة ، أو اشتراكية إسلامية !!… لعل بعض مستحيلات اليوم تغدو في المستقبل ممكنة
جداً )) (1) .
و مع أنَّ الرئيس يرى بأنَّ الإسلام هو النظام السبَّاق في نواحي الإصلاح كافَّة فهو لا يقلل من إنجازات الآخرين ، بل على العكس من ذلك نراه يسعى للإفادة من تجاربهم ، و بخاصَّة في المجالات المادِّيَّة . و بحسب رأيه (( ينبغي للعالم الإسلامي أن يأخذ من الغرب روح العمل و التنظيم و الانضباط ، و أساليب البحوث العلمية ، و تطوير التقنية ، مع التأكيد على أن الغرب ليس قدوة فيما يتعلّق بالنظرة إلى الحياة و الأخلاق و الحياة الأسرية ، لأنَّ نمط الحياة الغربية في معظم هذه الأمور مثال لما يجب أن نتحاشاه في حياتنا )) (2) .
و يضرب مثالاً لما يُمكننا محاكاة الأعداء فيه ، بل و التفوق عليهم و إن كانوا ـ بحسب الزمن ـ قد سبقونا إليه ، بالتضامن و الوحدة ، و لا يُخفي إعجابه من تضامن اليهود و تكاتفهم ، الأمر الذي كنَّا أولى منهم بالأخذ به ، و أحوج منهم إلى التضامن و الوحدة التي فقدناها منذ قرون (3) .
إنها إذاً الحِكمة ( ضالَّة المؤمن ) التي يتعيَّن عليه تلمُّسها و المسارعة إليها ، و التقاطها ، و لو من تجارب الآخرين ، و ( لنتعلَّم من أعدائنا ) (4) .
رابعاً : ضرورة توحيد الأمَّة في كيانٍ واحد :
على صلةٍ بقضيَّة الخلافة الإسلاميَّة التي سبق و تناولناها في ضوء الفكر الإسلامي لدى روَّاد هذا الفكر من البشانقة تقع قضيَّة الوحدة الإسلاميَّة ، بصفتها مطلباً لشعوب العالم الإسلامي ، التي ما فتئت تعاني من الفرقة و التمزق ، منذ سقوط الخلافة العثمانيَّة و حتى اليوم ، و لتجاوز المصاعب الحالية ، لا بد أن ينتظم مئات ملايين المسلمين في وحدة جامعة متينة (5) ، لأنَّ أمَّةً ممزَّقة لا سيادة لها ، و علينا اليوم (( أن نتقدم بخطواتٍ واثقةٍ على طريق العودة إلى سيادة أنفسنا و مستقبلنا … و إقامة مجتمع إسلاميٍّ موحَّدٍ من المغرب إلى إندونيسيا )) (6) .
و ـ بحسب البيان الإسلامي ـ إنَّ إقامة المجتمع الإسلامي الموحد ليست فكرة أحد من البشر ، و ليست رغبة جامحة لأي كائن . و إنما هي دعوة تقوم على ما ورد في القرآن بأن المسلمين أخوة ، قال تعالى : ( إنَّما المؤمنون اخوةٌ )
[ الحجرات : 10 ] ، بل هي ضرورة يحتِّمها الواقع فالعالم الإسلامي اليوم رغم كونه متعدد الشعوب و الجنسيات و القوانين التي تحكمه ، يربطه شيء واحد هو القرآن الكريم ، الذي يقرأ في كل أصقاع العالم الإسلامي ، من الهند إلى الجزائر إلى نيجيريا 00 حيث يشعر الجميع بانتمائهم الإسلامي (7) .
و ليتنا ـ إذ لم نستفد من تراثنا العريق في هذا المجال ـ نستفيد من تجارب الأمم الأخرى التي تغلَّبت علينا بوحدتها و فُرقتنا ، و في هذا السياق لا يُخفي الرئيس إعجابه من تضامن اليهود و تكاتفهم ، الأمر الذي كنَّا أولى منهم بالأخذ به ، و أحوج منهم إلى التضامن و الوحدة التي فقدناها منذ قرون (8) .
و يرى الرئيس أن أي وحدة بديلة عن الوحدة الإسلاميَّة التي ينشدها المسلمون و يدعوا إليها علماؤهم فهي دعوة دخيلة ، و إن نادى بها بعض من ينتسب إلى الإسلام ، أو ينطق بلسان أهله ، سواءٌ في ذلك الدعوات القوميَّة أو الإقليميَّة أو الوطنيَّة ، و يضرب على ذلك مثلاً بالدعوة إلى القوميَّة العربيَّة في الدول الإسلامية ، و يعتبرها (( فكرة دخيلة أجنبية ، جاء بها عدد من المثقفين السوريِّين الذين أنهوا تعليمهم في أوروبا و أمريكا ، و سبقتهم بذلك تركيا ، على يد كمال أتاتورك … إن هذه الفكرة القومية غريبة عنا ، بينما يظلُّ مفهوم الأمة الإسلامية هو
الأصيل )) (9) .
__________
(1) ... المرجع السابق ، ص : 159 .
(2) ... المرجع السابق ، ص : 44 .
(3) ... انظر : المرجع السابق ، ص : 83 .
(4) ... انظر : المرجع السابق ، ص : 23 و 114 .
(5) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .
(6) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .
(7) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .
(8) ... انظر : مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 83 .
(9) ... انظر : انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .(/5)
و (( أمة الإسلام هي الوحدة الكبرى التي تتجاوز التجمعات البشرية كلها لتضم كل المسلمين في كل مكان )) (1) .
و الحق أن الأستاذ محمد فيليبوفيتش ، أستاذ الفلسفة و علم الاجتماع في جامعة سراييفو هو رائد و مؤصّل فكرة ( القوميَّة الإسلاميًّة ) ، و قد وضع قواعدها انطلاقاً من تجربة الشعب المسلم في البوسنة ، حيث أن الأصول العرقية لهؤلاء المسلمين – كما هو معروفٌ – سلافية إيليرية ،شأنهم في ذلك شأن الشعوب المجاورة لهم .
لكنهم بعد أن امتن الله عليهم بالإسلام أخذوا يتخلون عن ثقافاتهم القومية السابقة ، و ينسحبون من مجتمعاتهم ، رافضين التقاليد الاجتماعية و العادات التي تربوا عليها ، لأنها تتناقض مع الإسلام ، و لأن الدين الجديد الذي اختاروه بإرادتهم الحرة ، يعلمهم تقاليد و عادات بديلة ، و يكسبهم ثقافة مختلفة .
ويرى فيليبوفيتش أيضاً أن هؤلاء المسلمين الذين كانو متباينين عرقياً و قومياً ، حتى أضحى الإسلام يقربهم ، و أضحت تقاليدهم تختلف عن تقاليد الأقوام الأخرى و مع الصراعات السياسية و العرقية بينهم و بين الشعوب المجاورة التي اضطهدتهم و حاولت ردهم عن الإسلام ، نشأت مصالح و آمال و آلام عمَّقت و حدتهم و ترابطهم ، و قوَّت وشائج الأخوة بينهم ، و جعلت أساسها الوحيد هو الإسلام (2) .
لقد أصبح الإسلام أخيراً في هذه البقعة من العالم الإسلامي ، قوميَّةً لشعبٍ جديد لم يكن له وجود يذكر من قبل ، كما يرى فيليبوفيتش و الرئيس علي عزت من بعده ، بل و جلُّ المثقفين المسلمين في البوسنة و الهرسك .
و هم بذلك يوافقون العلامة محمد الخانجي الذي يُعتبر أبرز علماء البوسنة في العصر الحديث ، و قد قال رحمه الله : (( و من خصال مُسلمي تلك البلاد حبُّهم لسائر المسلمين حباً بالغاً ، و اعتقادهم أن كلَّ مُسلمٍ و إن نأت به البلاد أخٌ لهم … و لكلِّ جمعية أين كانت و متى كانت رابطةٌ ، و رابطة المسلمين هي الرابطة الإسلاميَّة وحدَها ، لا يعرفُ الإسلام قوميَّة و لا عصبيَّة جاهليَّة )) (3) .
فلنعد إلى أصولنا ، كي نرقَ بأمَّتنا .
خامساً : العمل الإسلامي الجماعي :
يدرك الرئيس علي عزّت أن العمل الجماعي المنظم أبلغ أثرا و أجدى نفعاً في عالم تتجاذبه التكتلات ، و ما للأفراد – و إن نشطوا – فيه من حول و لا قوة تذكر في مواجهة التيارات الجارفة ، مما يجعل المشاركة الحقيقيَّة في الحدث تعني مشاركةً في المجتمع ، و أيَّ نضالٍ هو النضال الجماعي المنظم (4) .
و لعل قناعة الرئيس بضرورة العمل الجماعي الإسلامي ، و دور الجماعات الإسلامية الريادي في الحرب المنتظرة ، هو الذي حدا به في وقت مبكر إلى الإنخراط في صفوف جماعة الشبان المسلمين (5) في البوسنة ، ذلك التنظيم الريادي الذي يعتبر امتداداً للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين الذي تأثر به الرئيس ، و دان له بالفضل ، و قال عنه : (( كان البرنامج الاجتماعي الاقتصادي الذي وضعته حركة الإخوان المسلمين برنامجاً ثورياً بتمام معنى الكلمة )) (6) .
__________
(1) ... الإسلام بين الشرق و الغرب ص : 283، 284 .
(2) ... انظر : محمد خليفة : الإسلام و المسلمون في بلاد البلقان ، ص : 125 ، 126 و 449 ، 450.
(3) ... الجوهر الأسنى ، للشيخ الخانجي ، ص : 19 .
(4) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19 / 3 / 1412 هـ الموافق 16 / 9 / 1992 م ) .
(5) ... حركة الشبان المسلمين : حركة خيرية إنسانية سياسية دينية أسسها قبل الحرب العالمية الثانية بعض علماء البوسنة الذين تلقوا العلم في الأزهر الشريف ، و تأثروا بالحركة الإسلامية في مصر ، و في مقدمتهم الشيخ محمد الخانجي ، و الشيخ قاسم دوبراجا ، و قد عملا على نقل تجربة الحركة الإسلاميَّة ( و خاصَّة جماعة الإخوان المسلمين ) في مصر إلى الشبان المسلمين في البوسنة ، و بعد الحرب العالمية استولى الحزب الشيوعي ، بقيادة ( تيتو ) على السلطة ، و كان أول أعماله نصب المحاكم العسكرية لعلماء الإسلام البارزين و أعضاء الجمعيات الإسلامية ، و بالأخص أعضاء حركة الشبان المسلمين ، حيث حظرت و اعتقل جميع أعضائها ، و أعدم عدد من أبرز قادتها ، و كان نصيب علي عزّت بيكوفيتش من أحكامها السجن خمس سنوات .
انظر : مقدمة الترجمة العربية لكتاب : الاسلام بين الشرق و الغرب ، ص : 13، 14.
و : الدكتور عبد الحي فرماوي : الصربيُّون خنازير أوروبا ، ص :141.
و : الدكتور رشدي عزيز محمد : المسلمون في البوسنة بين الماضي و الحاضر ، ص : 142 .
(6) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ص157 .
و قد أقضَّت جماعة ( الشبَّان المسلمين ) مضاجع الشيوعيين ، و تنبهوا إلى تأثُّرها بتنظيم ( الإخوان ) في مصر الأمر الذي صرَّح به تيتو في أحد لقاءاته مع صديقه الحميم جمال عبد الناصر .
انظر : صحيفة ( المساء ) بتاريخ 6/6/1992م .(/6)
و إذا كان لجماعة أو لشخصية ما أن تؤثر في فكر الرئيس علي عزت ، فإن أبلغ الأثر في فكره كان للأستاذ الشهيد سيد قطب رحمه الله و مدرسته الفكرية ، التي كثيراً ما كان يشيد بها و يقتبس منها الرئيس و خاصةً في باب : ( الحاكمية ) ، و من ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر قوله : (( إن الشعارين الأساسين في الإسلام :
( الله أكبر ) و ( لا إله إلا الله ) هما أعظم القوى الثورية في الإسلام ، و يرى سيد قطب بحق أنهما ثورة ضد السلطة الدنيوية التي تغتصب الحق الإلهي في حكم العالم ، و يذهب سيد قطب إلى أنهما يعنيان ، انتزاع السلطة من الكهان و زعماء القبائل و الأغنياء و الحكام ، و إعادتها إلى الله )) (1) .
أما على أرض الواقع فلعلّ الإحباط كان يلاحق الرئيس علي عزَّت على صعيد العمل الإسلامي الجماعي لأن غالبية المسلمين البوشناق كانت بعيدة عن الفهم الصحيح للإسلام ، أو العمل السياسي الناضج من أجل استعادة دوره الإصلاحي الريادي في مجتمع قوضته معاول الشيوعية و التغريب خلال عشرات السنوات ، و هو ما حال دون قيام حزبٍ إسلامي يتبنى مبادئ الإسلام و منهجه في الإصلاح ، و يدعو إلى تحكيمه و إقامة دولته .
و كان البديل أمام الرئيس علي عزَّت و رفاقه تأسيس حزب يمثل المسلمين أكثر من تمثيل الإسلام نفسه ، و تمخض هذا الطرح عن تأسيس حزب العمل الديمقراطي برئاستة نفسه عام 1411هـ/1990م .
و طرح حزب العمل الديمقراطي التعددية العرقية و الدينية و المساواة بين الأعراق و الأجناس إلى جانب العلمانية و الديمقراطية في برامجه باعتبارها دعائم رئيسة لدولة عصرية متحضرة .
و نظراً إلى الثقة التي يحظى بها الرئيس علي عزَّت لدى غالبية أبناء شعبه فقد استطاع أن يقود من خلال حزبه البلاد إلى الاستقلال ، و يقود حكومتها خلال السنوات العشر الأولى بعد الاستقلال بما فيها سنوات الحرب العجاف .
إلا أن الحزب بدأ في التقهقر بعد ذلك ، و بالتحديد في الانتخابات البلدية التي أجريت في ربيع العام 1421 هـ / 2000 م ، و أسفرت عن عودة الشيوعيين من جديد ، حيث تقدموا على حزب العمل الديمقراطي في مناطق المسلمين خاصة ، الأمر الذي يرجع – كما يبدوا لي و الله أعلم – إلى بُعد الشقة بين مبادئ الإسلام و ما يتبناه الحزب في برامجه السياسية و الاجتماعية من المبادئ العلمانية ، التي لم يكن لها أن تدوم طويلاً (2).
هذا علاوةً على سببين ماديين كان من شأنهما الحط من أسهم المسلمين ، و دعم منافسيهم من الشيوعيين و غيرهم ، و هذان السببان هما :
أولاً : التصدع في صفوف المسلمين ، و التنافس فيما بينهم على المناصب ، و لعل من هذا القبيل انحياز حارث سيلابجيتش بأكثر من عشرةٍ بالمئة من أصوات المسلمين ، صوتوا لحزبه الجديد المعروف باسم من أجل البوسنة و الهرسك . و ما دخلت الفرقة في أمة إلا أوهنتها ، و حطت من هيبتها أمام أعدائها .
ثانياً : ضعف الوازع الديني في نفوس المسلمين ، الذين تربوا تربية مادية أبعدتهم كثيراً عن الإسلام الذي لم يعد في نظر كثيرٍ منهم سوى قاموساً للأسماء ، و قومية ينتسبون إليها و يتباهون بها ، و جعلتهم أقرب إلى المادية الجوفاء .
و من شأن هؤلاء أن يميلوا إلى من يعدهم برغد العيش ، و طيب المقام ، و هو ما دفعهم إلى إيثار العودة إلى حكم الشيوعية على حكم حزب يمثل المسلمين ، و إن لم يكن الفارق بينه و بين غيره كبيراً ، كما أن الكثير من الشباب المنسلخ من الدين و الآداب يرى في حزب المسلمين ( و إن لم يكن حزباً إسلامياً ) حجر عثرة في طريق تحرره و تحضره ، بالمفهوم الغربي الغريب .
و أمام هذا الواقع ظل العمل الإسلامي الجماعي فكرة رائعة دعا إليها و عجز عن تطبيقها الرئيس علي عزَّت ، و ظلت متعذرة التطبيق في مجتمع تتنازعه الأهواء ، و لا يزال أبناؤه يسيرون في طريق العودة إلى الإسلام الطويلة .
فلعل بوادر الصحوة التي أعقبت مسيرة الجهاد البوسنوي في سبيل الله ، أن تكون إحدى المبشرات ببعث إسلامي ترفده تجمعات المسلمين و أفرادهم في البوسنة.
سادساً : الجهاد في سبيل الله :
__________
(1) ... الإسلام بين الشرق و الغرب ص : 281 .
(2) ... كان في لوائح الحزب للانتخابات البلدية عام 1421 هـ/2000 م عدد من العلمانيين ، الذين قدموا على قدم المساواة جنباً إلى جنبٍ مع ثلة من المسلمين الأجلاء المعروفين في أوساط مسلمي البوسنة و الهرسك ، كما كانت نسبة النساء ظاهرة في اللوائح ، ففي محافظة سراييفو : رشح الحزب ثماني نسوة – ليس بينهن محجبة – إلى جانب ثمانية عشر مرشحاً من الرجال ، و في محافظة زينتسا ( ثاني محافظات المسلمين ) : رشح الحزب إحدى عشرة امرأةً بينهن محجبة واحدة هي الدكتورة عذراء عمرغاغيتش ، إلى جانب ثلاث و عشرين مرشحاً من الرجال ، و كان الفشل الذريع أقرب إلى قوائم الحزب الذي تراجع أمام عودة الاشتراكيين .(/7)
مع مرور الزمن و إرساء مبادئ الشيوعيَّة في يوغسلافيا ، اطمأنَّ الشيوعيُّون إلى أن مجرد التفكير في الجهاد في سبيل الله لم يعد موجوداً في أذهان المسلمين البوسنويين ، الذين أخذوا عن عدد من علمائهم القول بانتهاء عصر الجهاد ، و رفع حكمه .
فقد ظلَّ علماء المشيخة الإسلاميَّة المعيَّنون من قبل السلطات الشيوعيَّة في يوغسلافيا ، يدعون إلى التسامح الديني ، و التعايش مع الأعداء دون غضاضة ، و كان من أشهر هؤلاء الكتَّاب عثمان نوري حاجيتش ، الذي دعا في كتابه المسمى ( محمد و القرآن ) (1) إلى التسامح ، و نفى فرضيَّة الجهاد في سبيل الله ، و دعا إلى تخلي المرأة المسلمة عن حجابها و جلبابها لتقف إلى جانب أخواتها اليوغسلافيَّات على قدم المساواة .
كما قام بعض الكتاب الآخرين بتفريغ الجهاد من مضمونه ، حينما جعلوا الغاية منه تحقيق رغد العيش ، و رفاهية المجتمع ، و ليس إقامة شرع الله ، و لا التمكين لدينه و عباده في أرضه .
يقول الشيخ حسين جوزو : (( إن المعنى العام للجهاد في الإسلام هو بذل الوسع و الجهد بالقدر الممكن من أجل تحقيق تقدُّم و رفاهية الفرد و المجتمع ، و هذا هو المعنى الحقيقي للجهاد ، لأنَّ كلمة الجهاد ، أصلها من الفعل جَهَد فلا بد لنا من إعداد الإنسان لبذل الجهد في سبيل ذلك )) (2) .
لكن هذه النظرة إلى الجهاد ، و التوجُّه إلى تعطيله لم يكن عليها عموم المسلمين في البوسنة ، بل كانت فيهم قلة ممن يكتب و يؤسس و يعد ليوم يعود فيه الجهاد إلى حياة المسلمين ، و إلى هذه القلَّة كان ينتمي الرئيس علي عزَّت .
لا شك أن الرئيس كان يدعو إلى الثورة على الواقع الذي يعيشه عموم المسلمين ، و بخاصة الواقعون منهم تحت السيطرة الشيوعية المباشرة ، كما هو حال المسلمين في البلقان ، و يسعى لغرس فكرة ( الجهاد ) في أذهان بني قومه ، و خاصة أجيالهم الشابة التي يعول عليها في الانتقال بالجهاد من مرحلة التنظير إلى مرحلة التطبيق العملي بالثورة في وجوه الكفرة المتسلِّطين ، ليصلوا الحاضر بالماضي ، و يقارعوا الجاهليَّة من جديد ، و يقدموا الدماء و الشهداء في سبيل ذلك (( لأن جذور الجهاد الإسلامي قديمة و تاريخية ، و قد سقطت قوافل الشهداء و هي تقابل
الجاهلية )) ، و إذا عادت الجاهلية اليوم فلتعد قوافل الشهداء أيضاً .
و الجهاد في فكره مبدأ سياسي و اجتماعي ، و ليس مجرَّد فكرة أو نظرية يرددها ، و في ذلك يقول : (( عندما أقرّ القرآن القتال ، بل أمر به بدلاً من الرضوخ للمعاناة و الظلم ، لم يكن يقرر مبادئ دين و أخلاق ، و إنما كان يضع قواعد سياسية و اجتماعية ، لقد كان محمد - صلى الله عليه وسلم - مقاتلاً ، فقد ذكر في سيرته أنه كان له تسعة سيوف ، و ثلاثة رماح ، و سبعة دروع ، و ثلاثة تروس ، و أسلحة
أخرى )) (3) .
و هو – و إن كان في الغالب يحجم عن الدعوة إلى الجهاد ، علانية قبل اندلاع الحرب الأخيرة في بلاده – يحرص في أبحاثه و مقالاته و خطاباته على إحياء الروح الجهادية في نفوس من يخاطبهم ، و ذلك بالتركيز على عدة أمور :
أوَّلها : تربية الأجيال منذ الطفولة على الجهاد في سبيل الله ، حيث إن الأمة – أياً كانت هذه الأمة – و هي تسعى إلى التحرر و الرقي ، و تبوئ أسمى المراتب بين الأمم لا بد أن ينهض فيها المربون الصادقون ، الذين يغرسون الفضائل و القيم في أجيالها الصاعدة ، و يعدونهم للمعركة الفاصلة .
و بحسب ما يقرره الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ثمَّة ثلاثة أمور تجب مراعاتها عند تربية الأجيال و هذه الأمور هي :
أولاً : الانتقال من التغني بالتاريخ و الماضي – على ما فيه من سلبيات – إلى الحث على العمل و العطاء ، و هنا ينكر الرئيس على أولئك الذين يحدثون الشباب عما كان عليه الإسلام في التاريخ ، و ليس عما يجب أن يكون عليه المسلمون اليوم فيقول : ( يعرف شبابنا الكثير عن قصور الحمراء و الفتوحات الماضية و بغداد – مدينة ألف ليلة و ليلة – و مكتبات سمرقند و قرطبة الزاخرة … إن التاريخ مهم بلا شك ، و لكن ترميم مسجد بجوار بيتك أنفع للإسلام من معرفتك بأسماء جميع المساجد الشهيرة التي أقامها أسلافنا ) (4) .
ثانياً : تربية الشباب على الشجاعة و الإقدام ؛ بدلاً من التخاذل و الخضوع و الطاعة العمياء .
__________
(1) ... ظهر هذا الكتاب لأوَّل مرَّةٍ في بلغراد سنة 1349 هـ / 1931 م ، أي قبيل قيام الحكم الشيوعي في بلاده ، ثم أعيد طبعه في سراييفو سنة 1387 هـ / 1968 م .
(2) ... حسين جوزو : الإسلام و العصر ، ص : 115 .
(3) ... الإسلام بين الشرق و الغرب , ص : 286 .
قلت : ذكر العلاَّمة ابن القيم في زاد المعاد : 1/90، 91 عدد أسياف النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و دروعه ، و تروسه ، وكلُّ ذلك موافق لما ذكره الرئيس ، أمَّا عدد رماحه - صلى الله عليه وسلم - فقد ذكر ابن القيِّم أنَّها خمسة .
(4) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 103 .(/8)
و في هذا المعنى يتساءل الرئيس مستنكراً : ( حينما كان أعداء الإسلام يستولون على الدول الإسلامية دولةً دولة . . . كنا نربي أجيالنا بأن يكنُّوا الخير للجميع ، و يستسلموا لطوارق القدر ، و يتحلوا بالطاعة العمياء لولي الأمر . . . لا أعرف بالضبط مصدر فلسفة الطاعة الكئيبة هذه ، و لكني على يقين أنها ليست من الإسلام في شيء . . . لأنها تميت الأحياء و تحشد حول الإسلام أجيالاً ماتت قبل أن تبدأ حياتها ) (1) .
ثم يتأمل الرئيس واقع عالمنا الإسلامي اليوم ، فيجد قادة الشعوب الإسلامية رجالاً تربوا في الإسلام ، و لكنهم لم يفلحوا في قيادة شعوبهم ( لسبب واحد هو أنهم قد ربوا ليكونوا أتباعاً لا قادة ) (2) .
فإذا أردنا للأجيال القادمة أن تكون أحسن حالاً منا ، فلنرب أبناءنا على الشجاعة و القيادة ، لا الخضوع و الإذعان للواقع ، أو الاستسلام و التبعية للخصوم و على المربين أن ( يربوا رجالاً كاملين ، و ليحدثوهم عن العزة أكثر من الطاعة ، و عن الشجاعة أكثر من التواضع ، و عن العدالة أكثر من الشفقة ، ليخرجوا لنا جيل العزة و المهابة الذي يقف على قدميه ، و يمضي بثبات في طريقه . . . إن تقدم الإسلام سيتحقق على أيدي الشجعان الثائرين لا على أيدي الوديعين الخانعين ) (3) .
و إن لم ينهض المربون بهذا الواجب فسيكونون ( مشاركين في استعباد و اضطهاد شعوبهم في عالم يموج بالفتن و الرذائل و الملهيات و الرق و الظلم ) (4) .
ثالثاً : التحذير من الخلط بين الحقائق ، أو نسبة المفاهيم الخاطئة للإسلام تحت أي مبرر ، لأن ( من صريح التناقض أن تقدم لنا تربية الذل و الانصياع و الطاعة باسم القرآن ) (5) .
و في هذا من التغرير بالأجيال الصاعدة ، و الشبيبة الواعدة ، ما لايخفى لأن القرآن الكريم الذي يقرر مبدأ الجهاد و مقاومة الظلم في أكثر من خمسين موضعاً ، قد حرم الطاعة العمياء تحريماً قاطعاً ، و ( أقر نوعاً واحداً من الطاعة المطلقة ، هو طاعة الله وحده . . . و رتب على هذه الطاعة المطلقة حرية الإنسان و تحرره ) (6) .
و ثانيها : التذكير الدائم بحقيقة أن الإسلام و خصومه في حالة حرب شبه دائمة ، و أن المعركة الفاصلة لما تأت بعد ، و التذكير بالعداء الشديد الذي يكنه المستعمر الصليبي للمسلمين ، و هو ما أدى إلى اندلاع الحروب و قيام الثورات في أنحاء العالم الإسلامي ، حيث ( سجل التاريخ في القرنين الميلاديين التاسع عشر و العشرين قيام أكثر من ستين حرباً بين الدول الأوربية الاستعمارية التي حاولت فرض سيطرتها الكاملة على الدول الإسلامية و بين الشعوب الإسلامية التي دافعت عن حريتها ) (7) .
و الرسالة التي يوجهها الرئيس إلى شعبه من خلال كلامه هذا ، منصبة في الدرجة الأولى على تهيئتهم لحرب قادمة ، لا يعلم مداها و لا أوانها إلا الله ، و على البشانقة أن يدافعوا عن حريتهم ليلحقوا بالشعوب الإسلامية التي دافعت عن حريتها في أكثر من ستين حرباً خاضتها في مواجهة الدول الأوربية الاستعمارية .
و ثالثها : التركيز على البعد الديني عند تناول حروب التحرر التي خاضتها الشعوب الإسلامية في وجه الغزاة ، حيث تصدَّر كتائبَ المجاهدين العلماءُ و الأئمةُ و الدعاةُ و بالاستقراء نجد ( أن جميع الحروب التي خاضها المسلمون لتحرير دولهم ، ابتداءً من رأس القرن الميلادي التاسع عشر ، و حتى الحرب الأفغانية ، كانت تحت راية الجهاد )(8) .
و يؤكد الرئيس على هذه الحقيقة بقوله : (( إنَّ العمل و الجهاد أساسان متينان من أسس الحياة الإنسانيَّة ، و تبقى كلُّ عبادةٍ أو وعظ – بدونهما – شكليَّة قريبة من النفاق )) (9) .
ثمَّ يسوق عدَّة أمثلة واقعية و شهادات تاريخية على دعواه هذه ، منها : انضمام المتطوعين و أغلبهم من العلماء و مدرسي الدين إلى الأمير الإندونيسي ديبونجارا . . . في مواجهة الاحتلال الهولندي لجزيرة جاوة ، ثم نشوب حرب المقاومة في جزيرة سومطرة تحت اسم ( حرب العلماء ) و في مقاطعة جبربون تحت قيادة بعض رؤوس الصوفية ، ثم قيام رابطة الإسلام ، و تنظيم الحزب المحمدية و غيرها من التنظيمات الإسلامية التي قادت حروب التحرير في إندونيسيا و أفغانستان
و غيرهما (10) .
__________
(1) ... المرجع السابق ، ص : 102 .
(2) ... المرجع السابق ، ص : 102 .
(3) ... المرجع السابق ، ص : 104 .
(4) ... المرجع السابق ، ص : 105 .
(5) ... المرجع السابق ، ص : 103 .
(6) ... المرجع السابق ، ص : 88 ، 103 .
(7) ... المرجع السابق ، ص147 .
(8) ... المرجع السابق ، ص148 .
(9) ... المرجع السابق ، ص : 66 .
(10) ... انظر : المرجع السابق ، ص148-149 .(/9)
و إن كان المثال الأكثر وضوحاً ، على دور الحركات الإسلامية في قيادة الشعوب الثائرة هو المستخلص من تجربة الجزائر ، حيث ( كانت حركة الأمير عبد القادر الجزائري (1)حركة إسلامية أصيلة . . . و كان الأمير عبد القادر يبدو دائماً أنه لا يقود حرباً جزائرية و لا عربية ، بل يقود حرباً إسلامية . . . على مدى مائة و أربعين سنة ) (2) .
فإذا أحسن المربون القيام بواجبهم ، فإنَّ الأجيال المتخرِّجة على أيديهم ، ستحقق الكثير و الكثير من آمال الأمَّة التي يعتمد في تحقيقها على الأجيال الصاعدة .
و في هذا المعنى ، يقول الرئيس علي عزت : (( نحن نرى بأن ذلك يعتمد على الأجيال المسلمة المقبلة ، هذه الأجيال التي تشكل مائة مليون شاب و شابة ولدوا في الإسلام ، و تربوا في مرارة الهزيمة التي تربض فيما بينهم و هم الذين سيرفضون العيش على ذكريات الأمجاد القديمة . . . لأنهم يحملون في داخلهم القوة و الطاقة القادرة على تحقيق المستحيل و سيواجهون بها الصعاب )) (3) .
و رغم أنَّ الرئيس قد طرح دعوته إلى الجهاد بطريقة مبسطة ـ تحاشى فيها الصدام مع المتخاذلين من المنتسبين إلى هذه الأمَّة ـ رجاء أن تلقى القبول ممَّن بلغته و لو بعد حين ، فإنه حرصَ على تبصير القارئ الواعي بحقيقة خصوم الاتجاه الجهادي الذي يدعو إليه ، و يُصنِّفُهم إلى صنفين لا ثالث لهما :
الصنف الأول : المتصوفة ( و غالباً ما يسميهم بالدراويش جرياً على عادة مسلمي البلقان ) (4) الذين جردوا الدين من بعده السياسي ، و حصروه في الزوايا و التكايا ، و قصروا تعاليمه على الأذكار و الأوراد ، و كثير من البدع و الخرافات و الانحرافات ، و عليه فإن (( الفلسفة الصوفية و المذاهب الباطنية تمثل بالتأكيد نمطاً من أكثر الأنماط انحرافاً . و لذلك يمكن أن نطلق عليها ( نصرنة ) الإسلام . إنها انتكاسة بالإسلام من رسالة محمد إلى عيسى عليهما السلام )) (5) .
والصنف الثاني : علماء السلاطين ، الذين يبررون انحرافاتهم باسم الإسلام ، و يقفون باسمه في وجه الجهاد و المجاهدين في سبيل الله ، و عن هؤلاء يقول الرئيس : (( إننا وجدنا خصوماً ينتمون إلى الدين الرسمي فقط )) (6) .
و يجمع الرئيس بين هذين الصنفين و عموم الواقفين في وجه الإسلام فيقول محذراً : (( لقد انشطرت وحدة الإسلام على أيدي أناس اختزلوا الإسلام إلى دين مجرد أو إلى صوفية … ذلك لأن المسلمين عندما يهملون دورهم في هذا العالم … تصبح الدولة قوة عريانة لا تخدم إلا نفسها ، في حين يبدأ الدين ( الخامل ) يجر المجتمع نحو السلبية و التخلف ، و يشكل الملوك و الأمراء و العلماء الملحدون ، و رجال الكهنوت و الفرق الصوفية ، و الشعراء السكارى الوجه الخارجي للانشطار الداخلي الذي أصاب الإسلام )) (7) .
__________
(1) ... عبد القادر الجزائري ، هو : عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى الحسني ، أمير ، مجاهد ، عالم ، أديب ، ناظم ، ناثر ، صوفي ، حج مع أبيه فزار المدينة و دمشق و بغداد ، لما دخل الفرنسيون الجزائر بلاد الجزائر بايعه الجزائريون ، فقاتل الفرنسيين و صارعهم خمسة عشر عاما ، ثم نفوه إلى طولون ، و منها إلى أنبواز ، ثم أطلق سراحه ، فزار باريس و القسطنطينية ، و استقر في دمشق ، و مات بها سنة 1300هـ / 1883 م عن 77 عاما .
انظر ترجمته في : الأعلام للزركلي 4 / 170 ، اليواقيت الثمينة للأزهري 1 / 216-218 ، معجم المؤلفين 5 / 304 – 305 .
(2) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 149 .
(3) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .
(4) ... ليسوا سواءً ، فمن الصوفيَّة في البوسنة من له في الجهاد في سبيل الله مواقف لا ينكرها إلاَّ مكابر ، أو متجاهل فقد كان بعضهم يشارك في الحروب و الفتوحات الكبرى أيَّام الدولة العثمانيَّة ، و يكفي للتمثيل على ذلك أن في سراييفو زاوية يرتادها المتصوِّفة للذكر و العبادة ، و هي معروفة باسم ( زاوية الغزاة ) و أخرى اسمها
( زاوية الغازي جمجي ) ، مما يدلُّ على اقتران التصوف بالجهاد في بعض مراحل تاريخ البوسنة .
انظر : نياز شكريتش : انتشار الإسلام في البوسنة و الهرسك ، ص : 158 .
(5) ... الإسلام بين الشرق و الغرب ص : 287، 288 .
(6) ... المرجع السابق ، ص : 115 .
(7) ... المرجع السابق , ص : 287 .(/10)
و يُدرك الرئيس أنَّ هناك فئة ثالثةً تناهض دعوته ، و تقتبس من كلامه ما يُمكن أن تستشهد به على وصم فكره بالتطرف ، و دعوته بالإرهاب ، و لذلك نراه يتحاشى ذكر الجهاد صراحةً في كثير من مقالاته ، و يستبدل مصطلح الجهاد بمصطلحاتٍ أخرى ( كالثورة و التجديد ) ، و لا يفتأ يستنكر الفِعال التي تُؤلِّبُ أعداء الإسلام عليه ، مُنطلقاً في ذلك من مبدأ (( الغاية لا تبرر الوسيلة )) (1) ، و عليه فإنَّ (( الجهاد في سبيل الإسلام يسمح باستعمال كل الوسائل الممكنة . ما عدا جريمة الإرهاب ، و من غير المسموح به لأحد أن يلطخ وجه هذا الجهاد باستعمال القوة لإخضاع الآخرين باسم الإسلام )) (2) .
و رغم المعارضة الواقعة و المتوقعة ، تبقى شخصيَّة المجاهد هي الشخصيَّة المثالية التي يسعى الرئيس لبنائها ، و لا يرى شخصيَّة تفوقها في المكانة و السمو إلاَّ شخصيَّة الشهيد ، لأنَّ (( أعظم شخصيَّة في الإسلام هي شخصيَّة الشهيد المجاهد في سبيل الله فهو راهبٌ ، و جُنديٌّ في شخصٍ واحد )) (3) ، و (( المواطن في الدولة الإسلاميَّة يجب أن يكون قبل كلِّ شيءٍ مسلماً مؤمناً ثمَّ مجاهداً )) (4) .
و أخيراً : هذه هي المعالم الأساسية لفكر الرئيس علي عزّت بيكوفيتش الإسلامي ، الذي يعيش من أجله ، و يجاهد من أجله في كتاباته و مقالاته ـ على الأقل ـ و ينطلق منه فيخاطب هيئة المحكمة التي قضت بإعدامه ، من وراء القضبان يوم محاكمته سنة 1404 هـ / 1984 م ، إلى جانب تسعة من رفاقه المتهمين بمحاولة إقامة دولة إسلامية في البوسنة تكون الدولة الإسلاميّة الأولى في أوروبا (5) قائلاً : (( إنني مسلمٌ و الحمد لله ، و سأعيش مسلماً ، و أموت مسلماً ، و لا أرى شيئاً يستحقُّ أن يعيش الإنسان من أجله ، و يموت من أجله سوى الإسلام )) (6) .
المبحث الثاني
تأثر فكر الرئيس علي عزّت بالسنة النبوية
لا بد لنا ابتداءً من الوقوف عند حقيقة منطقية ثابتة و هي أن الرئيس ليس متبحراً في العلوم الشرعية ، و ليس مُحدِّثاً من باب أولى .
بل هو مفكر ينطلق في فكره ، و معالجة قضايا أمته من فهمه للإسلام ، أصاب في ذلك أم أخطأ ، رغم أنه يعتبر العلم الشرعي أحد الأمور واجبة التحصيل على المفكر ، ليكون فكره إسلامياً .
و بناءً على ما يقرره ، فإن (( كل مفكر إسلامي هو عالم دين )) (7) ، و إننا (( نرى غالبية رجال الفكر الديني الكبار في الإسلام قد ألفُّوا كتباً في الفقه
و أصوله )) (8) ، بمعنى أنهم كانوا يجمعون بين الفكر و الفقه في آن واحد .
و في مؤلفات الرئيس ؛ لا مجال للمقارنة بين عطائه الفكري الفيَّاض ، و المسائل الفقهية التي يتعرَّض لها أحياناً و هي معدودة و نادرة .
المطلب الأول - مصادر التلقي المؤثرة في فكر الرئيس :
غالباً ما يصدر الرئيس في مواقفه عن آيات من القرآن الكريم الذي تعمق في علومه ، و شغف بسماعه كثيراً ، رغم أنه لم يكن ليفهم معانيه ما لم تكن مترجمة إلى اللغة البوسنوية .
و هاهو يحدث عن الحالة التي اعترته ـ و كثيراً ما كانت تعتريه ـ أثناء سماع آيات القرآن الكريم من أحد القرَّاء في أحد المؤتمرات التي شارك فيها قبل أكثر من عشرين سنة ، فيقول :
(( بعد لحظات من شروع القارىء في تلاوة الآيات القرآنية توقفت الحركة فجأة ، و هيمن الهدوء ، و أثناء توقف القارئ للتنفس لم يكن يسمع شيء ، بل خيل إلي أن الحاضرين قد توقفوا حتى عن التنفس 000 و كانت كلمات القرآن أشبه بنهر جار ، يجري هادئاً و صامتاً حيناً ، ثم لا يلبث أن يتحول إلى شلالات تأتي لتأخذك و تحملك بعيداً و لكن قمَّة الحدث الذي لا يوصف كانت في اليوم الأخير عندما 000 اختار القارىء تلاوة سورة الرحمن 000 أظنني إلى الآن عاجز عن وصف الحالة التي كنت فيها ، لم أكن أعرف معنى آيات هذه السورة ، ما عدا الآية المتكررة : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) [ الرحمن : 13 و غيرها ] .
__________
(1) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .
(2) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .
(3) ... الاسلام بين الشرق و الغرب ، ص : 305 .
(4) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .
(5) ... انظر : المجزرة في يوغسلافيا ، ص : 35 .
(6) ... للمزيد من تفاصيل هذه المحاكمة ، انظر : عادل ذو الفقار باشا ، و الفاتح حسنين : الطريق إلى فوتشا ، من محن المسلمين في يوغسلافيا .
(7) ... الإسلام بين الشرق و الغرب ، ص : 282 .
(8) ... المرجع السابق ، ص : 334 .(/11)
و لكنني شعرت بأني أفهم آياتها تماماً ، أنا و جميع المنصتين ، وبعد الانتهاء من التلاوة في كل مرة من أيام المؤتمر أجد نفسي أقترب أكثر فأكثر من الآخرين و كنت أقرأ هذا الإحساس في وجوههم ، كأنهم يريدون القول : ألا ترون ؟ ألسنا أخوة في الإسلام ؟ ) (1) .
فلا غرو إذن في أن يكون القرآن الكريم المورد الأول الذي ينهل منه الرئيس فكره ، و يقتبس منه الشواهد و الأدلة ، بل و الأمثلة في كتاباته و مقالاته و
خطاباته .
و مع ذلك فلا يمكننا القول : إن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد الذي استقى منه الرئيس فكره ، و أودعه مقالاته و كتاباته ، فهو يشير إلى السنة النبوية باعتبارها مصدراً ملازماً للمصدر الأول ، بحيث لا يمكن الفصل بينهما ، فيقول : (( يوجد للإسلام مصدران أساسيان هما : القرآن و السنة النبوية ، يمثلان معاً الإلهام و الخبرة ، الخلود و الزمن ، التفكير و الممارسة ، الفكرة و الحياة ، و الإسلام طريقة حياة أكثر منه طريقة تفكير ، و تشير جميع تفاسير القرآن إلى أنه بدون السنة النبوية ـ أي بدون حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ يتعسر فهم القرآن فهماً صحيحاً )) (2) .
و يقول أيضاً : (( في الانبعاث الإسلامي علينا إدراك أمرين مهمين : الأول جاء في القرآن الكريم : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ] الرعد : 11 [ و الثاني : لنا قدوة في تجربة الإسلام الأولى و كفاح محمد - صلى الله عليه وسلم - )) (3) .
و يظهر من كلامه هذا ، و من الشواهد التي يسوقها في أبحاثه ، أنه لا يكاد يتجاوز معنى السيرة النبوية في فهمه للسنة و تعامله معها ، فهو يستشهد و يستدل بالأحداث أكثر من استدلاله بالأحاديث ، و هو ما سنمثل له لا حقاً إن شاء الله .
و هو بذلك يوافق دعاة المدرسة العقلية الحديثة في مصر في تقديم السنة الفعلية على القولية من حيث الأخذ بها .
يقول الشيخ محمد رشيد رضا (4) : (( إن سنته التي يجب أن تكون أصل
القانون هي ما كان عليه هو و خاصة أصحابه عملاً و سيرة )) (5) .
و يقول أيضاً : (( العمدة في الدين هو القرآن و سنة الرسول المتواترة ، و هي السنة العملية ، و منها الصلاة و المناسك مثلاً ، و بعض الأحاديث القولية التي أخذ بها جمهور السلف )) (6) .
أما عن الإجماع ، فيتذرع الرئيس بخلاف العلماء في حدِّ الإجماع المنضبط لتبرير عدم الاعتداد به ، و هو ما يصرفه عن الاحتجاج و الاستدلال به ـ في حال ثبوته _ فيقول : (( إذا أضفنا إلى تحليلنا لهذين المصدرين ـ أي الكتاب و السنة ـ فكرة الإجماع فإننا نبقى في موقعنا و لا نبرحه ، فالإجماع عند الإمام الشافعي يعني : اتفاق جميع الآراء (7)
__________
(1) ... مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 124 .
(2) ... الاسلام بين الشرق و الغرب ، ص : 304 .
(3) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19/3/1412هـ/16/9/1992م ) .
(4) ... محمد رشيد رضا ، هو : القلموني ، البغدادي الأصل ، الحسيني ، محدث ، مفسر ، مؤرخ ، أديب ، سياسي ، ولد بقلمون من أعمال طرابلس الشام سنة 1282هـ / 1865 م ، و تعلم فيها و في طرابلس و بيروت ، ثم رحل إلى مصر ، فاتصل بمحمد عبده المصري و تتلمذ عليه ، و أصدر مجلة المنار ، ثم قصد سورية أيام فيصل بن الحسين ، و غادرها على إثر دخول الفرنسيين إليها ، فأقام بمصر مدة ، ثم رحل إلى الهند و العراق و الحجاز و أوربا ، و عاد فاستقر بمصر ، توفي فجأة بالقاهرة سنة 1865 هـ / 1935 م .
انظر ترجمته في : الأعلام للزركلي 6 / 361 ، المجددون للصعيدي 539 - 544 ، معجم المؤلفين
9 / 310.
(5) ... مجلة المنار ، العدد التاسع و العشرون ، ص : 104، 105 .
(6) ... مجلة المنار ، العدد العاشر ، ص : 852 .
(7) ... قال الشافعي في " الرسالة " ص 471 – 476 : ( فقال لي قائل : ...فما حجتك في أن تتبع ما اجتمع الناس عليه ، مما ليس فيه نص حكم لله ، و لم يحكوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ ) . فاستدل رحمه الله ببعض الأحاديث ، مثل : (.. فمن سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ) ، إلى أن قال : ( و من قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم ، و من خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها ) .
و انظر أيضاً : نفس الكتاب ، ص 402 و 403 .(/12)
، و عند الطبري و الرازي (1) يعني اتفاق غالبية الفقهاء (2) ، و لم يكن الإسلام ليكون على ما هو عليه لو لم يجمع في ثنائيته بين مبدأ الصفوة و مبدأ العدد معاً ، ففي الإجماع توجد الصفوة النوعية : الأرستقراطية (3) ، و يوجد في الجانب العددي : الديمقراطية )) (4) .
أما بقية مصادر التشريع الإسلامي ، فلا نكاد نجد لها أثراً في كتاباته ، حيث إنه لم يكتب قط في الفقه و مسائله ليستدل بالقياس أو الاستصحاب أو غير ذلك من مصادر التشريع .
المطلب الثاني : الاستدلال بالحديث النبوي في كتابات الرئيس
... سبقت الإشارة إلى أن الرئيس ليس محدِّثاً ، بل و ليس فقيهاً أو عالماً في الشريعة ، و إنَّما هو مفكر يخاطب بكتاباته العامّة ـ غير المتخصصين في العلوم الشرعيَّة – فيستعمل اصطلاحات الفلاسفة ، و يسلك مسالكهم في الاستدلال في الدرجة الأولى لكونه يخاطب العقل المجرَّد غالباً .
... أمَّا الأدلَّة الشرعيَّة في كلامه فقليلة جداً ، و تتصدر هذه القلة آيات من القرآن الكريم يسردها الرئيس سرداً بدون أيِّ تعليق في الغالب ، ثم تغيب عن كتاباته بالكلية فلا تكاد ترد في ثنايا كلامه (5) .
... و فيما يخص الحديث النبوي فهو في كلام الرئيس من الندرة بمكان ، و حول وروده في كتاباته يلاحَظ ما يلي -
... أوّلاً : لا يكاد الرئيس يشير إلى شيءٍ من الأحاديث إلاّ في معرِض حديثه عن محاسن الإسلام ، و سبق النظام الإسلامي للأنظمة الوضعية في إرساء مبادئ المساواة و العدالة الاجتماعيّة .
... ثانياً - غالباً ما ترد الأحاديث النبوية في كتابات الرئيس مدرجة في عباراته ضمن أقواسٍ تحدّها ، أو كمبادئ و حكم لا تقترن بأيّ إشارة إلى كونها أحاديث تروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
... ثالثاً - لا تقترن الأحاديث النبوية المصرَّح برفعها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الواردة في كلام الرئيس بأيٍ من التخريجات ، أو الإشارة إلى حالها من حيث الصحة و الضعف .
... رابعاً - تتميز أحداث السيرة النبويّة بين ما يورده الرئيس من أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بكثرتها نسبيّاً .
... و هذه الأمور الأربع تمكن ملاحظتها بوضوح في مجموعة مقالات الرئيس ، التي تقصّيتُ ما فيها ممّا له صلة بالسنّة النبوية فوجدته محصوراً في التالي -
- من قوله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } ] الحجرات : 10 [ و مجموع ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في رابطة الأخوّة الإسلامية التي جمع الله المسلمين عليها كقوله - صلى الله عليه وسلم - - (( المسلم أخو المسلم. )) (6) يستخلص الرئيس مبدءاً سامياً يدعوا إليه ، و يبين بعد الطبقات المستغلة في المجتمعات المادية عنه ، فيقول - (( يقرر الإسلام مبدأ { إنما المؤمنون إخوة } ] الحجرات : 10 [ و لكننا نعلم علم اليقين أن الإقطاعي ليس أخاً للفلاّح . لقد قرر الإسلام وجود حق للفقراء في أموال الأغنياء ، و لو طبق هذا المبدأ لأدى بكل تأكيد إلى إزالة الفوارق الاجتماعية في مجتمعات المسلمين )) (7) .
- و يستنكر الرئيس النظام الطبقي القائم على عمق الهوّة بين الأغنياء و الفقراء في مجتمعات مسلمي العصر الحاضر في مقال يدرج فيه حديثاً نبويّاً ، فيقول : (( يقرر الإسلام أنه ( لا يؤمن من بات شبعان و جاره جائع ) (8)
__________
(1) ... الطبري ، هو محمد بن جرير بن يزيد . و الرازي ، هو أحمد بن علي الحنفي ، المعروف بالجصاص : تقدمت ترجمتهما .
(2) ... قال ابن حزم في " الإحكام " 4 / 575 : ( ذهب محمد بن جرير الطبري إلى أن خلاف الواحد لا يعد خلافا و حكى أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي أن أبا حازم عبد العزيز بن عبد الحميد القاضي الحنفي فسخ الحكم بتوريث بيت المال ما فضل عن ذوي السهام ، وقال : إن زيد بن ثابت لا يعد خلافا على أبي بكر ، و عمر ، و عثمان ، و علي - رضي الله عنهم - ) .
و قال أيضا في 4 / 538 : ( و قالت طائفة إذا اتفق الجمهور على قول خالفهم واحد من العلماء فلا يلتفت إلى ذلك الواحد ، و قول الجمهور هو إجماع صحيح ، و هذا قول محمد بن جرير الطبري ) .
(3) ... الأرستقراطية : طبقة خاصة ذات امتيازات .
(4) ... الإسلام بين الشرق و الغرب ، ص : 304 .
(5) ... انظر مثلاً : الإسلام بين الشرق و الغرب ، ص : 305 – 308 .
... و : مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 54 – 67 و 92 – 94 .
(6) ... الحديث : أخرجه البخاري ( 2442 ) في المظالم ، باب : لا يظلم المسلمُ المسلمَ ، و لا يسلمه ، و مسلم
( 2580 ) في البر و الصلة والآداب ، باب : تحريم الظلم .
(7) ... من مقال بعنوان : ما سبب تخلف المسلمين ، نشر سنة 1387 هـ / 1967 م باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 21 .
(8) ... و هو حديث حسن بشواهده :
روي من حديث ابن عباس ، و أنس ، و عائشة - رضي الله عنهم - ، و مرسل محمد بن علي الباقر ، بأسانيد فيها مقال ، بعضها أصلح من بعض :
أولا : حديث ابن عباس ( ، و له عنه طريقان :
الطريق الأولى : أخرجها ابن نصر المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 628 ) ، و ابن عدي في " الكامل " 2 / 219 من طريقين عن علي بن مسهر ، عن الأعمش ، عن حكيم بن جبير ، عنه مرفوعا ، و لفظه عند ابن عدي : ( ما آمن بي من بات شبعان و جاره جائع ) . و لفظ ابن نصر : ( إن المسلم الذي يشبع و يجوع جاره ليس بمؤمن ) .
و فيه حكيم بن جبير ، و هو : ضعيف رمي بالتشيع ، كما في " التقريب " ( 1468 ) .
الطريق الثانية : أخرجها البخاري في " الأدب المفرد " ( 112 ) ، و في " التاريخ الكبير " 3 / 375 ، و ابن أبي شيبة في " المصنف " 6 / 164 ( 30359 ) ، و أبو يعلى في " مسنده " ( 2699 ) ، و عبد بن حميد ( 694 – المنتخب ) ، و ابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق " ( 346 ) ، و ابن نصر المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " ( 629 ) ، و الطحاوي في " شرح معاني الآثار " 1 / 27 و 28 ، و الطبراني في " الكبير " 12 / 154 ( 12741 ) ، و تمام الرازي في " الفوائد " 2 / 105 ( 1263 ) ، و البيهقي في " السنن الكبرى " 10 / 3 ، و في " الشعب " ( 3389 و 5660 و 9536 ) ، و الخطيب في " تاريخ بغداد " 10 / 392 ، من طرق عن سفيان الثوري ، عن عبد الملك بن أبي بشير ، عن عبد الله بن المساور ، قال : سمعت ابن عباس ( فذكره مرفوعا بلفظ : ( ليس المؤمن الذي يبيت شبعان وجاره جائع ) .
و رجاله ثقات سوى ابن المساور ، فإنه مجهول لم يرو عنه غير عبد الملك كما قال علي بن المديني ، و الذهبي و انفرد ابن حبان فذكره في " الثقات " . انظر : تهذيب التهذيب 6 / 27 ، و الميزان 2 / 502 ترجمة ( 4598 ) .
و قال الحاكم : ( صحيح الإسناد ) .
و قال المنذري في " الترغيب " 3 / 234 ، و تبعه الهيثمي في " المجمع " 8 / 167 : ( رواه الطبراني و البزار و رواته ثقات ) .
ثانيا : حديث أنس ( ، و له عنه طريقان أيضا:
الطريق الأولى : أخرجها البزار في " مسنده " ( 1 / 76 رقم 119 – كشف ) ، عن محمد بن عثمان بن كرامة ، ثنا حسين بن علي الجعفي ، ثنا سفيان بن عيينة ، عن علي بن زيد ، عن أنس ( فيما أعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ليس المؤمن الذي يبيت شبعان و جاره طاوي ) .
قال البزار : ( لا نعلمه يروى عن أنس إلا من هذا الوجه ) .
قلت : بل له وجه آخر يأتي . =
= وقال الهيثمي في " المجمع " 8 / 167 : ( إسناد البزار حسن ) .
و قال ابن حجر في " القول المسدد " ص 21 : ( رواه الطبراني و البزار بإسناد حسن ) .
قلت : بل فيه علي بن زيد ، و هو ابن جدعان ، قال ابن حجر في " التقريب " ( 4734 ) : ( ضعيف ) .
الطريق الثانية : أخرجها الطبراني في " الكبير" 1 / 259 ( 751 ) من طريق محمد بن سعيد الأثرم ، ثنا همام ثنا ثابت البناني ، عن أنس ( به مرفوعا .
قال ابن أبي حاتم في " العلل " 2 / 226 ( 2294 ) : ( قال أبي : هذا حديث منكر جدا ، و محمد بن زياد الأثرم لين الحديث ) .
و قال البرذعي : ( قلت لأبي زرعة : محمد بن سعيد الأثرم ؟ قال : ليس ، كأنه يقول : ليس بشيء . قلت : أي شيء أنكر عليه ؟ قال : عن همام و أبي هلال ، عن قتادة ، عن أنس ( ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) . انظر : " تاريخ بغداد " 5 / 306 و " العلل المتناهية " 2 / 527 – 528 ( 873 )
ثالثا ... : حديث عائشة رضي الله عنها :
أخرجه الحاكم في " المستدرك " 2 / 15 من طريق عبد العزيز بن يحيى ، حدثنا سليمان بن بلال ن عن علقمة بن أبي علقمة ، عن أمه عنها به مرفوعا .
قلت : و هذا إسناد موضوع ، فيه عبد العزيز بن يحيى ، و هو المدني نزيل نيسابور ، قال البخاري : ( ليس من أهل الحديث ، يضع الحديث ) . انظر : تهذيب الكمال 18 / 218 – 220 .
رابعا : مرسل محمد بن علي بن الحسين الباقر :
أخرجه الحسين بن الحسن المروزي في زوائده على " البر و الصلة " ( 264 ) قال : أخبرنا الفضل بن موسى : حدثنا الوصافي عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به .
و هو مرسل ضعيف ، الوصافي ، هو : عبيد الله بن الوليد " ضعيف " كما في " التقريب " ( 4350 ) .
· ... و في الباب من حديث عمر بن الخطاب ( مرفوعا بلفظ : ( لا يشبع المؤمن دون جاره ) .
أخرجه أخرجه ابن المبارك في " الزهد " ( 474 ) ، و أحمد في " المسند " 1 / 54 - 55 ، و الحاكم 4 / 167 ، و القضاعي في " مسنده " ( 895 و 896 ) ، و أبو نعيم في " الحلية " 9 / 26 .
قال الهيثمي في " المجمع " 8 / 167 : ( رجاله رجال الصحيح إلا أن عباية بن رفاعة لم يسمع من عمر ( )(/13)
و لكن الاحصائيات تشير إلى أن نسبة المسلمين الذين يعانون من سوء التغذية تصل في بعض الدول الإسلامية إلى 20 بالمئة من مجموع سكانها ، و في الوقت نفسه ينام ( إخوانهم في الدين ) على الحرير و المخمل و الإستبرق ، من غير أن يؤرق نومهم – على الأقل – تأنيب الضمير من أجل معاناة إخوانهم )) (1) .
- و حينما يتناول الرئيس نظام الحكم في الإسلام ، و ما آلت إليه حال ولاة المسلمين من الفساد و الجور و الاستبداد يورد أثراً و ينطلق منه في نقد الواقع فيقول : (( إن أمور الشعوب تنبني على : ( كما تكونوا يولّ عليكم ) (2). و إن طريقة حكم بعض الرؤساء و الملوك و الأمراء ، و أعوانهم من الذين عشعشت فيهم أنواع الفساد لتؤكد أن شيئاً ( تعفن جداً ) داخل الشعب نفسه ، لأن السعادة حليفة الشجعان ، و من حق الشعوب الصالحة و الطاهرة فقط أن تنعم بالحكام الصالحين )) (3) .
- و يرى الرئيس أن في الالتزام بالأخلاق و الآداب الإسلامية وقاية من فساد الحكم الذي يشيع في القضاة و لا سبيل لمقاومته إلا بالإيمان بالله ، و يستدل على ذلك بحديث نبوي يحكم بمقتضاه ، بدون أن يصرح بكونه من السنة النبوية ، فيقول : (( يذكرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الحكم العام على نظام القضاء هو : قاضيان في النار ، و قاضٍٍٍ في الجنة (4)
__________
(1) ... من مقال بعنوان : ما سبب تخلف المسلمين ، نشر سنة 1967 م / 1386 هـ باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 21 .
(2) و هو حديث ضعيف جدا :
أخرجه الحاكم في " التاريخ " – كما في الدر المنثور 3 / 46 - ، و من طريقه الديلمي في " مسنده " – كما في المقاصد الحسنة ص 326 – من حديث يحيى بن هاشم حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبيه أظنه عن أبي بكرة مرفوعا .
و أخرجه البيهقي في " الشعب " 6 / 22 - 23 ( 7391 ) من طريق الحاكم أيضا لكن بدون شك و بحذف أبي بكرة . و قال : ( هذا منقطع ، و رواية يحيى بن هاشم ، وهو ضعيف ) . كذا في نسخة " الشعب " المطبوعة ، و الذي في " المقاصد " : ( و راويه في عداد من يضع ) .
قلت : و يحيى هذا ، يسرق الحديث ، كذبه ابن معين ، و غيره . انظر : لسان الميزان 7 / 347 – 349 .
· ... وله طريق أخرى شديدة الضعف : أخرجها ابن جميع في " معجمه " ص 149 ، و القضاعي في " مسنده " ( 577 ) ، من جهة الكرماني بن عمرو حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن أبي بكرة مرفوعا بدون شك .
و نقل المناوي في " فيض القدير " 6 / 61 عن ابن طاهر قال : ( و المبارك و إن ذكر بشيء من الضعف ؛ فالعهدة على من رواه عنه ، فإن فيهم مجاهيل ) .
و قال ابن حجر في " تخريج الكشاف " 4 / 25 ، و تبعه السخاوي في " المقاصد " : ( في سنده إلى مبارك مجاهيل ) .
(3) ... من مقال بعنوان : ما سبب تخلف المسلمين ، نشر سنة 1967م باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 22 .
(4) ... و هو حديث صحيح ، روي من حديث بريدة بن الحصيب ، و ابن عمر - رضي الله عنهم - ، و عجلان مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعا ، ومن حديث علي بن أبي طالب ( موقوفا ، و له حكم الرفع :
أولا : حديث بريدة بن الحصيب ( ، رواه عنه ابنه عبد الله و له عنه طرق ، و هي :
أخرجه أبو داود ( 3575 ) في الأقضية ، باب : في القاضي يخطئ ، و النسائي في " السنن الكبرى " 3 / 461 ( 5922 ) في القضاء ، باب : ثواب الإصابة في الحكم بعد الاجتهاد لمن له أن يجتهد ، و ابن ماجه ( 2315 ) في الأحكام ، باب : الحاكم يجتهد فيصيب الحق ، و وكيع محمد بن خلف في " أخبار القضاة " 1 / 14-15 ، و البيهقي في " السنن " 10 / 116 ، و في " المدخل " ( 183 ) ، و ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " ( 1657 ) ، و ابن حزم في " الإحكام " 6 / 214 من طرق عن خلف ابن خليفة ، حدثنا أبو هاشم الرماني ، حدثني ابن بريدة ، عن أبيه ( ، مرفوعا ، و لفظه : ( القضاة ثلاثة ؛ واحد في الجنة ، و اثنان في النار ؛ فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ، و رجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ، و رجل قضى للناس على جهل فهو في النار ) . هذا لفظ أبي داود.
قال أبو داود : ( و هذا أصح شيء فيه ) . يعني : في طرق حديث ابن بريدة .
و قال الطبراني : ( لم يرو هذا عن أبي هاشم إلا خلف بن خليفة ) .
قلت : و خلف بن خليفة صدوق اختلط في الآخر ، كما في " التقريب " ( 1731 ) .
و أخرجه الترمذي ( 1322 ) في الأحكام ، باب : ما جاء عن رسول الله في القاضي ، و وكيع في " أخبار القضاة 1 / 14 ، و الطبراني في " الكبير " 2 / 20 ( 1154 ) ، و ابن الأعرابي في " معجمه " ( 336 ) ، و الروياني في " مسنده " 1 / 94 ( 66 ) ، و ابن عدي في " الكامل " 2 / 459 ، و الحاكم 4 / 90 ، و البيهقي في " السنن الكبرى " 10 / 117 ، و في " الشعب " 6 / 73 ( 7531 ) من طرق عن شريك ، عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن ابن بريدة ، عن أبيه ( به .
و ( سعد ) صحف في بعض المصادر إلى ( سهل ) .
قال الحاكم : ( صحيح على شرط مسلم ) .
قلت : بل فيه شريك ، وهو النخعي ، لم يحتج به مسلم ، و إنما أخرج له في المتابعات . و هو كما قال ابن عدي : ( الغالب على حديثه الصحة و الاستواء ، و الذي يقع في حديثه من النكرة إنما أتي فيه من سوء حفظه لا أنه يتعمد ) . و قال الدارقطني : ( ليس بالقوي فيما ينفرد به ) . انظر : تهذيب الكمال 12 / 462 – 473 .
3- و أخرجه محمد بن خلف في " أخبار القضاة " 1 / 15 ، و الحاكم 4 / 90 ، و ابن عبد البر في " جامع
بيان العلم " ( 1658 ) من طريق عبد الله بن بكير الغنوي ، عن حكيم بن جبير ، عن عبد الله بن بريدة
عن أبيه به .
قال الحاكم : ( صحيح الإسناد و لم يخرجاه ) . =
= ... قلت : ثم روى الطريق السابق . فتعقبه الذهبي بقوله : ( ابن بكير الغنوي منكر الحديث ) .
قلت : بل ضعفوه و لم يترك ، كما قال الذهبي نفسه في " الضعفاء " .
و فيه أيضا حكيم بن جبير ضعيف رمي بالتشيع ، تقدم كلامنا عليه .
4 – و أخرجه الطبراني 2 / 21 ( 1156 ) من طريق عبادة بن زياد الأزدي ، عن قيس بن الربيع ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه به .
و قيس بن الربيع : ضعيف يعتبر به في الشواهد و المتابعات . راجع ترجمته في " تهذيب الكمال " 24 / 25 - 37 .
و عبادة بن زياد : متكلم فيه ، لكن قال الذهبي في " الميزان " 2 / 381 : ( لا بأس به ) .
5 – و أخرجه ابن عدي في " الكامل " 6 / 151 من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل ، ثنا محمد بن جابر ، عن أبي إسحاق ، عن ابن بريدة ، عن أبيه به .
قال ابن عدي : ( و هذا لا أعلم رواه عن أبي إسحاق غير محمد بن جابر ) .
قلت : و هو الحنفي اليمامي ضعيف ، ضعفه غير و احد . انظر ترجمته في " تهذيب الكمال " 24 / 564 – 569 .
6 – و أخرجه محمد بن خلف وكيع في " أخبار القضاة " 1 / 15 أخبرنا إسحاق بن عبد الرحمن لؤلؤ : قال أخبرنا داود بن عبد الحميد ، قال : حدثنا يونس بن خباب أبو حمزة ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه به .
و حديث بريدة قال فيه الذهبي في " الكبائر " ص 103 : ( إسناده قوي ) .
و قال ابن حجر في " التلخيص " 4 / 185 : ( له طرق غير هذه قد جمعتها في جزء مفرد ) .
ثانيا : حديث ابن عمر ، و له عنه طرق :
1 – أخرجه الترمذي ( 1322 ) ، و أبو يعلى ( 5727 ) ، و الطبراني في " الكبير " 12 / 351 ( 13319 ) ، و " الأوسط ) ( 2750 ) ، و ابن حبان ( 5056 ) ، و ابن عبد البر تعليقا في " العلم " ( 1660 ) من طرق عن المعتمر بن سليمان ، عن عبد الملك بن أبي جميلة ، أنه سمعه يحدث عن عبد الله بن موهب ، أن عثمان بن عفان قال لابن عمر ، و فيه قصة ذكر فيها ابن عمر الحديث .
قال الترمذي : ( و حديث غريب ، و ليس إسناده عندي بالمتصل ، و عبد الملك الذي روى عنه المعتمر هذا هو عبد الملك بن أبي جميلة ) .
و عقب المنذري في " الترغيب " 3 / 132 على قول الترمذي بقوله : ( و هو كما قال ؛ فإن عبد الله بن موهب لم يسمع من عثمان ( ) .
و قال أبو حاتم كما في " العلل " لابنه 1 / 468 : ( عبد الملك بن أبي جميلة مجهول ، و عبد الله بن موهب هو الرملي على ما أرى ، و هو عن عثمان مرسل ) .
2 – و أخرجه أحمد 1 / 66 ، من طريق عفان ، قال حدثنا حماد بن سلمة ، نا أبو سنان ، عن يزيد بن موهب أن عثمان ( قال لابن عمر ( – فذكره .
قال الهيثمي في " المجمع " 5 / 200 : ( رواه أحمد ، و يزيد لم أعرفه ، و بقية رجاله رجال الصحيح ) . =
= ... 3 – و أخرجه محمد بن خلف في " أخبار القضاة " 1 / 15 ، و القضاعي في " مسنده " ( 317 ) عن الفضل بن يوسف – و عند القضاعي : ابن يزيد - الجعفي ، ثنا إبراهيم بن الحكم بن ظهير ، ثنا أحمد بن الفرات ، عن محارب ، عن ابن عمر ( به مرفوعا .
قلت : و فيه إبراهيم بن الحكم بن ظهير ، قال أبو حاتم : ( كذاب ، روى في مثالب معاوية فمزقنا ما كتبنا عنه ) . و قال الدارقطني : ( ضعيف ) . و قال الذهبي : ( شيعي جلد ) . انظر : لسان الميزان 1 / 136 .
و له عن محارب طريق أخرى : أخرجها محمد بن خلف أيضا 1 / 16 حدثني عبد الله بن زكريا بن يحيى ، حدثني ابن وكيع ، حدثنا ابن فضيل ، عن أبيه عن محارب بن دثار به .
و فيه ابن وكيع و هو محمد : متكلم فيه .
رابعا : حديث عجلان مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - :
أخرجه عبد الصمد بن سعيد في " طبقات الحمصيين " من طريق عمرو بن شرحبيل الخولاني ، سمعت ابن عجلان ، عن أبيه به . قاله ابن حجر في " الإصابة " 4 / 464 .
خامسا: أثر علي بن أبي طالب :
أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " 4 / 540 ( 22963 ) ، و البخاري في " التاريخ الكبير " 3 / 326 ، و " الصغير " 1 / 225 ، و وكيع محمد بن خلف في " أخبار القضاة 1 / 18 ، و البيهقي في " السنن الكبرى " 10 / 117 ، و ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " ( 1659 ) ، و البغوي في " شرح السنة " ( 2497 ) ، و في " الجعديات " ( 989 ) ، و ابن حزم في " الإحكام " 6 / 214 من طرق عن شعبة ، عن قتادة ، سمع أبا العالية ، عن علي به .
و تابع شعبة همام عند وكيع محمد بن خلف .
قلت : و هذا إسناد صحيح غاية .
و له عن علي طرقٍ أخرى .
انظر : التاريخ الكبير للبخاري 7 / 21 ، و الجرح و التعديل 6 / 408 ، و أخبار القضاة لوكيع 1 / 16، 19 .
سادسا : من قول كعب :
و له عنه طريقان : ابن بريدة عنه ، و عتبة بن عبد الله بن مسعود عنه . أخرجهما محمد بن خلف في " أخبار القضاة " 1 / 16 .(/14)
. و ليس هناك شيء يمكنه مقاومة فساد الحكم و تأثيره التدميري في الشعب غير الإيمان بالله ، و الإحياء المتواصل للأخلاق الإسلامية السامية ، لذلمك يجب على الشعب أن يملك وسائل التمييز ليفك الأغلال ، و يضرب على القاضيين من أهل النار )) (1) .
- و حينما يتطرق الرئيس إلى قضية تعليم المسلمين باعتبارها ضرورة للنهوض بالأمة و جعلها في مصافّ الأمم المتقدمة ، يؤيّد دعوته إلى التعليم بحدث من السيرة النبويّة ، و حدثٍ من التاريخ الإسلامي المجيد له ما يبرره من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول :
(( كان النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - يهتم بتعليم المسلمين حتى في أيام الحروب الضروس ، إذ يجعل تعليم عشرة من أبناء المسلمين فدية للأسير من أسرى معركة بدر (2) )) (3) .
و يقول في موضعٍ آخر مقارناً بين عناية حكام المسلمين الأوائل بالعلم ، و صدِّ متأخّريهم عنه : (( إن المسلمين الأوائل قد عملو جاهدين على ترجمة مكتبات كاملة من اللغتين اليونانينية و اللاتينية ، دونما خوف من كون هذه الكتب أصول الحضارة الوثنية ، لأن قاعدتهم في ذلك هي حديث ( الحكمة ضالة المؤمن ، أينما وجدها فهو أولى بها ) (4)
__________
(1) ... من مقال بعنوان : ما سبب تخلف المسلمين ، نشر سنة 1967م باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 22 .
(2) ... و هو حديث صحيح :
أخرجه أحمد في " مسنده " 1 / 247 ، و البيهقي في " السنن الكبرى " 6 / 124 عن علي بن عاصم ، عن داود بن أبي هند عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة .
قال الهيثمي في " المجمع " 4 / 96 : ( رواه أحمد ، عن علي بن عاصم ، وهو كثير الغلط و الخطأ ، و قد وثقه أحمد ) .
قلت : علي بن عاصم تابعه خالد بن عبد الله الطحان عند الحاكم في " المستدرك " 2 / 140 وصححه ، و عنه البيهقي في " السنن الكبرى " 6 / 322 . و باقي رجاله ثقات .
و أخرجه ابن سعد في " الطبقات " 2 / 26 عن عكرمة مرسلا ، بلفظ آخر مطولا ، قال : أخبرنا سليمان بن حرب ، أخبرنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، و فيه : ( حتى إن كان الرجل يحسن الخط ففودي على أن يعلم الخط ) . و رجاله كلهم ثقات ، و أيوب هو السختياني .
و رواه ابن سعد في " الطبقات " 2 / 22 عن الشعبي مرسلا من ثلاث طرق . و جاء في إحداها بيان سبب اختيار أولاد الأنصار ، و لفظه : ( و كان أهل مكة يكتبون ، و أهل المدينة لا يكتبون ، فمن لم يكن له فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة فعلمهم ، فإذا حذقوا فهو فداؤه ) .
(3) ... من مقال بعنوان : ما سبب تخلف المسلمين ، نشر سنة 1967م باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 22 .
(4) و هو حديث ضعيف جدا ، و إنما جاء في بعض الآثار :
روي هذا الحديث مرفوعا عن أبي هريرة ، و زيد بن أسلم مرسلا ، و علي بن أبي طالب ، و بريدة ، بأسانيد مدارها على المتروكين و المتهمين .
حديث أبي هريرة ( :
أخرجه الترمذي ( 2687 ) في آخر كتاب العلم ، و ابن ماجه ( 4169 ) في ، باب : الحكمة ، و العقيلي في " الضعفاء "1 / 60-61 ، و ابن حبان في " المجروحين " 1 / 105 ، و القضاعي في " مسنده " ( 52 ) و ابن الجوزي في " العلل المتناهية " 1 / 95-96 من طريق إبراهيم بن الفضل المخزومي ، عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ( مرفوعا : ( الكلمة الحكمة ضالة المؤمن ، فحيث و جدها فهو أحق بها ) .
قال الترمذي : ( هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، و إبراهيم بن الفضل المدني المخزومي يضعف في الحديث من قبل حفظه ) .
قلت : بل هو متروك ، قال البخاري و أبو حاتم و النسائي : ( منكر الحديث ) . و قال ابن حبان : ( فاحش الخطأ ) .
و قال ابن الجوزي : ( لا يصح ، قال يحيى : ليس بشيء ) . و عدّ العقيلي ، و ابن حبان ، و الدارقطني هذا الحديث من مناكيره . انظر : تهذيب التهذيب 1 / 131 .
مرسل زيد بن أسلم :
أخرجه القضاعي ( 146 ) أخبرنا أبو الحسن عبد العزيز بن محمد بن داود ، قال حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبي قال : حدثنا أبو قرصافة محمد بن عبد الوهاب ، حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا الليث بن سعد ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، مرفوعا : ( الحكمة ضالة المؤمن ، حيثما وجد المؤمن ضالته فليجمعها إليه ) .
قلت : فيه أبو قرصافة ، وهو العسقلاني ، ذكره الطبراني في " معجمه الصغير" 2 / 69 ضمن شيوخه بحديث قال : إنه تفرد به . و ذكره الذهبي في " الكنى "( 5128 ) ، و لم أجده في موضع آخر !!و من فوقه معروفون .
أما من دونه فلم أقف لأحد منهم على ترجمة بعد طول بحث !
و الصحيح الثابت : أنه من قول زيد بن أسلم ، وهذا يدل على نكارة الرواية المرفوعة ، حيث أخرجه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 19 / 289 من طريق أحمد بن عمرو بن السرح ، عن عبد الله بن وهب ، حدثني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، أنه قال : ( نعم الهدية كلام الحكمة يهديها لأخيه ، و الحكمة ضالة المؤمن إذا وجدها أخذها ) .
و تابع هشام بن سعد على وقفه على زيد بن أسلم : عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، رواه عن أبيه من قوله . فيما أخرجه ابن المبارك عنه في " الزهد " ( 1079 ) .
حديث علي بن أبي طالب ( : =
= ... أخرجه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 7 / 381 من طريق أبي الدنيا الأشج عثمان بن الخطاب ، عن علي بن أبي طالب ( به مرفوعا .
قلت : و هذا موضوع على علي ، فأبو الدنيا الأشج ، قال فيه الذهبي في " الميزان " 3 / 33 : ( طير طرأ على بغداد ، و حدث بقلة حياء بعد الثلثمائة ، عن علي بن أبي طالب ( ، فافتضح بذلك ، و كذبه النقاد ) .
حديث بريدة ( :
أخرجه الروياني في " مسنده " 1 / 75 ( 33 ) حدثنا ابن إسحاق ، حدثنا ابن حميد ، حدثنا تميم بن عبد المؤمن الكوفي ، حدثنا صالح بن حيان ، عن أبي بردة ، عن أبيه ( مرفوعا به .
قلت : فيه ابن حميد ، وهو محمد الرازي ، حافظ ضعيف ، كذبه أبو زرعة و ابن وارة . انظر : التهذيب 9 / 131 .
و صالح بن حيان هو القرشي الكوفي ، متفق على ضعفه . انظر : تهذيب الكمال 13 / 33 .
وروي من قول ابن عباس بسند ضعيف عند البيهقي في " المدخل " ( 843 ) . و من قول كعب الأحبار بسند حسن عند أبي نعيم في " الحلية " 5 / 367 ، 6 / 26 .(/15)
، بينما ينادي أحد حكام المسلمين في هذا العصر – و باسم
الإسلام ! – بوضع حد لتعليم شعبه )) (1) .
- و على صلةٍ بالعلم و التعليم يشير الرئيس إلى معاناة الإسلام من جهل أبنائه و فساد علمائه ، بقوله : (( إن الفلّاح الجاهل الفقير يحب الإسلام ، و قد لا يفهمه ، و الغني يظهر ولاءه للإسلام نفاقاً ، و يظل المثقف معادياً له أو غير مبالٍ به ، و قد صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال : إن أخوف ما أخاف على أمتي عابد جاهل ، و عالم
فاجر (2) )) (3) .
- أمّا عن مبدأ المساواة في الإسلام ، فلا يرى الرئيس أبلغ في تقريره من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته الشهيرة أثناء حجة الوداع : (( أيها الناس ! كلكم لآدم ، و آدم من تراب ، لا فضل لعربي على أعجمي ، و لا فضل لأبيض على أسود ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) .
ثمّ يتساءل قائلاً : هل هناك أفضل مكاناً و أحسن لحظة من تلك التي اختارها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليوجه هذه الكلمات العظيمة التي هي أبسط و أخلص و أروع ميثاق في حقوق و مساوات الإنسان إلى أمته (4) .
- و في طريق العمل الإسلامي - الذي نذر الرئيس نفسه له - عقباتٌ و عقباتٌ تعترض طريق السائرين ، مصداقاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( حُفَّت الجنة بالمكاره ، و حفّت النار بالشهوات )) (5) ، و هذا أمر غير خافٍ على الرئيس ، و خاصّة في ساعات الابتلاء الذي تعرّض له ، و ذكّره فحوى الحديث السابق الذي خاله أثراً يروى حينما قال - ( أدركت معنى القول المأثور : إن الطريق إلى النار ممهد بالنوايا الحسنة ) (6) .
لكن ما يكتنف طريق العاملين للإسلام يهون عند من يستحضر نُصرة الله لأوليائه ، و يستلهم العبر من سيرة نبيه - صلى الله عليه وسلم - و أصحابه ، و هو ما يزيد المؤمن ثقة في نصر الله تعالى ، إصراراً على السير في سبيله قُدُماً .
و من معين السنّة النبوية يستقي الرئيس الشواهد لهذين الأمرين فيقول -
(( عندما اتخذت العنكبوت بيتها على مدخل غار حراء (7)، ثم وضعت الحمامة عشها لكي تعمي الطريق على المطاردين (8)
__________
(1) ... من مقال بعنوان : ما سبب تخلف المسلمين ، نشر سنة 1967م باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 23 .
(2) ... لم أعثر على الحديث بهذا اللفظ !! و إنما جاء بلفظ آخر بإسناد موضوع ، لفظه : ( رب عابد جاهل ، و رب عالم فاجر ، فاحذروا الجهال من العباد ، و الفجار من العلماء ؛ فإن أولئك فتنة الفتناء ) .
أخرجه ابن عدي في " الكامل " 2 / 15 و 6 / 441 بإسنادين ، في الأول : بشر بن إبراهيم الأنصاري ، قال ابن عدي : ( هو عندي ممن يضع الحديث ) . و قال ابن حبان : ( كان يضع الحديث ) . و في الثاني : عمر بن موسى بن وجيه ، قال فيه البخاري : ( منكر الحديث ) . و قال ابن معين : ( كذاب ليس بشيء ) . انظر : لسان الميزان 5 / 322 .
و فيه أيضا محفوظ بن بحر ، قال فيه أبو عروبة : ( كان يكذب ) .
(3) ... من مقال بعنوان : ما سبب تخلف المسلمين ، نشر سنة 1398 هـ / 1967 م باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 23 .
(4) ... من مقال بعنوان : ما سبب تخلف المسلمين ، نشر سنة 1398 هـ / 1967 م باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 21 .
(5) ... الحديث أخرجه مسلم ( 2822 ) في صحيحه ، في أول كتاب الجنة و صفة نعيمها و أهلها .
(6) ... من مقال بعنوان : هل نربي مسلمين أم جبناء ؟ نشر سنة 1391 هـ / 1971 م باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 101 .
(7) ... قصة نسج العنكبوت على الغار ؛ إسنادها حسن :
أخرجها عبد الرزاق في " المصنف " 5 / 389 ، و من طريقه أحمد في " المسند " 1 / 348 ، و الطبري في " التفسير " 9 / 228 ، و أبو نعيم الأصبهاني في " دلائل النبوة " ص66 ، والخطيب في " تاريخ بغداد " 13 / 191 عن معمر ، قال : أخبرني عثمان الجزري ، أن مقسماً مولى ابن عباس أخبره ، عن ابن عباس به .
قال ابن كثير في " البداية و النهاية " 3 / 181 : ( و هذا إسناد حسن ، و هو أجود ما زوي في قصة نسج العنكبوت على فم الغار ) .
قال الهيثمي في " المجمع " 7 / 27 : ( رواه أحمد و الطبراني ، و فيه عثمان بن عمرو الجزري ، و ثقه ابن حبان و ضعفه آخرون ، و بقية رجاله ثقات ) .
و حسنه أيضا الحافظ ابن حجر في " الفتح " 7 / 18 .
و جاءت قصة نسج العنكبوت أيضا عن الحسن مرسلا بإسناد لا بأس به : أخرجه أبو بكر المروزي القاضي في " مسند أبي بكر الصديق " رقم ( 73 ) .
و جاءت من حديث أنس ( أيضا لكن بإسناد ضعيف ، وهو الآتي تخريجه في التعليق الذي عقبه .
(8) ... قصة الحمامتين ضعيفة :
أخرجها الطبراني في " الكبير " 20 / 443 ، و بحشل في " تاريخ واسط " ص 257 ، و ابن سعد في " الطبقات " 1 / 229 ، و البزار في " مسنده " ( 2 / ق 231 ) ، و العقيلي في " الضعفاء " 3 / 422 ، و الفاكهي في " أخبار مكة " ( 2416 ) ، و خيثمة الطرابلسي في " فضائل أبي بكر " ص 136 ، و أبو نعيم في " دلائل النبوة " 2 / 419- 429 ، البيهقي في " الدلائل " 2 / 481 .
قال البزار : ( لا يعلم أحد رواه إلا عوين بن عمرو ، و هو رجل من أهل البصرة مشهور ، و أبو مصعب فلا نعلم حدث عنه هذا الحديث إلا عوين بن عمرو ) .
قلت : و هو مشهور بالضعف ، قال ابن معين : ( لا شيء ) . و قال البخاري : ( منكر الحديث مجهول ) . انظر : لسان الميزان 5 / 377 .
قال العقيلي : ( عوين بن عمرو القيسي لا يتابع عليها ، و أبو مصعب رجل مجهول ) .
و قال ابن كثير في " البداية و النهاية " 3 / 182 : ( و هذا حديث غريب جدا من هذا الوجه ) .
و قال الهيثمي في " المجمع " 6 / 53 : ( رواه البزار و الطبراني ، و فيه جماعة لم أعرفهم ) . ثم أعاده في 6 / 52 وقال : ( مصعب المكي ، و الذي روى عنه ، وهو عوين بن عمرو القيسي لم أجد من ترجمهما ، و بقية رجاله ثقات ) .(/16)
، في تلك اللحظات المصيرية قال النبي - صلى الله عليه وسلم -
كلماته العجيبة لرفيقه أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - : لا تحزن إن الله معنا ) (1) .
و يقول أيضاً : (( يروى أن أبا طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أشار عليه بعدم تحدي أكابر قومه ، لأن ذلك يعرض حياته للمخاطر ، و يسبب المكاره لأقاربه ... و لم يكن منه - صلى الله عليه وسلم - إلا أن قال : يا عم ! و الله لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه ، ما تركته (2) ) (3) .
و من مجموع ما تقدّم تظهر ندرة اعتماد الرئيس علي عزَّت على نصوص السنة النبويّة و قلّة استشهاده بها في كتاباته ، فضلاً عن ضعف ضبطه لما يورده منها .
و قد يكون لهذا ما يبرّره من كون الرئيس يخاطب في مقالاته و كتبه مجتمعاً بضاعته في العلم الشرعي مزجاة ، و مثقفوه أكثر اعتماداً على الحجج العقليّة ، و اقتناعاً بالفلسفة الماديّة من النصوص و الأدلة النقليّة .
فضلاً عن كون الرئيس – كما يظهر من كتاباته – أحد أنصار المدرسة العقليَّة الحديثة ، و أتباع منهجها في التعامل مع نصوص السنة النبويَّة ، و لذلك نراه يرد من الأحاديث ما لا يوافق عقله ، و ينسجم مع تفكيره ، كأحاديث المهدي ، حيث يقول : (( و نحن على ثقة بأنه لا يوجد هناك شيء اسمه ( أرض الميعاد ) أو
( زمن المعجزات ) و لا يوجد المهدي الذي ننتظر و عده ) (4) .
أمّا أنصار الرئيس فما فتئوا يدافعون - و ينفون - عنه ردّ الأحاديث معلّلين ذلك بأنّه يهدف إلى شحذ الهمم على البذل و العطاء و العمل على تحرير المسلمين و إقامة دولتهم في الأرض بدلاً من التعلّق بالمغيّبات و إن كانت ممّا ورد في الآثار بغض النظر عن صحته أو عدمها .
و مهما يكن المسوّغ لما ذهب إليه الرئيس ، فإنه لا ينفي بعده عن الاعتماد على نصوص السنة النبوية في كتاباته ، بل و إعراضه عنها أحياناً .
لكن عدم التصريح بالاستشهاد بنصوص السنة النبوية في كتابات الرئيس الفكرية لا يمكن اعتباره دليلاً على بعده عن السنة ، كما أن مجرّد إيراد نصوصها ضمن مؤلّّفٍ ما لا يعني بالضرورة تأثُّر مؤلفه بها إذ (( ربّ حامل فقه غير فقيه )) (5).
__________
(1) من مقال بعنوان : تأملات في الهجرة النبوية ، نشر سنة 1398 هـ / 1978م باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 129 .
(2) ... إسناده ضعيف :
أخرجه ابن إسحاق في " المغازي " – كما في سيرة ابن هشام 2 / 101 – و من طريقه ابن جرير الطبري في " التفسير 2 / 67 ، قال حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس ، أنه حدثه أن قريشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة – فذكره مع قصته .
و هذا إسناد معضل ، فإن يعقوب بن عتبة من ثقات أتباع التابعين ، ليست له رواية عن أحد من الصحابة .
و الثابت : ما أخرجه أبو يعلى في " مسنده " 12 / 176 ( 6804 ) ، و البخاري في " التاريخ الكبير " 7 / 50 ، و البزار في " مسنده " 6 / 115 ( 2170 ) ، و الطبراني في " الكبير " 17 / 191-192 ( 511 ) و " الأوسط " 8 / 252-253 ( 8553 ) ، و الحاكم في " المستدرك " 3 / 668 ، و البيهقي في " دلائل النبوة " 2 / 186-187 ، و ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 41 / 4-5 ، 66 / 315 من طريقين : يونس بن بكير ، و عبد الواحد بن زياد ، كلاهما عن طلحة بن يحيى ، عن موسى بن عقبة ، حدثني عقيل بن أبي طالب قال :
( جاءت قريش إلى أبي طالب فقالت : إن ابن أخيك يؤذينا في نادينا و مسجدنا فانهه عن إيذائنا ، قال : يا عقيل : ائت محمدا فادعه ، فذهبت ، فأتيته به ، فجاء في نصف النهار يتخلل الفيء ، فجلس عند أسكفة الباب ، و قريش عند أبي طالب ، فقال : يا ابن أخي ، إن بني عمك يزعمون أنك تؤذيهم في ناديهم و مسجدهم ، فانته عن ذلك ، قال : فحلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء ثم قال : هل ترون هذه الشمس ؟ قالوا : نعم ، قال : ما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا لي منها شعلة . قال : فقال أبو طالب : ما كذبنا ابن أخي ، فارجعوا . قال : فرجعوا ) .
قال البزار : ( هذا لا نعلمه يروى عن عقيل إلا من هذا الوجه ) .
و قال الهيثمي في " المجمع " 6 / 15 : ( رواه الطبراني في الأوسط و الكبير ، و أبو يعلى باختصار يسير من أوله ، و رجاله رجال الصحيح ) .
قلت : و هذا إسناد حسن لأجل يحيى بن طلحة فإنه " صدوق " كما قال الذهبي .
(3) ... من مقال بعنوان : رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، نشر سنة 1401 هـ / 1981م باللغة البوسنوية ، و نشرت ترجمته باللغة العربية ضمن مجموعة مقالات الرئيس علي عزّت بيكوفيتش ، ص : 141 .
(4) ... انظر : النص العربي للبيان الإسلامي ، تعريب : جميل روفائيل ( جريدة الحياة ، لندن ، عدد 10812 الأربعاء : 19 / 3 / 1412 هـ / 16/ 9 / 1992 م ) .
(5) ... قطعة من حديث صحيح : تقدم تخريجه .(/17)
و لذلك يحسن عرضُ المحاور الرئيسة لفكر الرئيس علي عزَّت على ما قرّرته السنة النبويّة ، و إن لم يستشهد بها صراحة ، للوقوف على مدى تأثره فكره الإسلامي بها من خلال المطلب التالي -
المطلب الثالث ( المحاور الرئيسة لفكر الرئيس في ميزان السنة النبوية:
سأعرض في المقاصد الستة المدرجة تحت هذا المطلب – إن شاء الله – المحاور الرئيسية لفكر الرئيس على ما جاء في السنة النبوية الشريفة ؛ للوقوف على مدى تأثره بها في انطلاقته الفكرية على النحو التالي :
المقصد الأول - وجوب تحكيم الإسلام و تطبيق أحكام الشريعة في جميع أمور الحياة
إن التحاكم إلى شرع الله من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله ، و أن محمد عبده ورسوله ؛ فإن التحاكم إلى الطواغيت , و الرؤساء , وآراء و تشريعات الرجال و العرافين , و نحوهم ينافي الإيمان بالله عز وجل , و هو كفر و ظلم و فسق , يقول الله تعالى : { و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ]المائدة : 44 [ .
و يقول : { و كتبنا عليهم فيها أ ن النفس بالنفس و العين بالعين و الأنف بالأنف و الأذن بالأذن و السن بالسن و الجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } ] المائدة : 45 [ .
و يقول : { و ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } ] المائدة : 47 [ .
... إن عبادة الله تعالى - و التي هي مقصد الخلق - تقتضي الإنقياد التام لله تعالى و قولا و عملا ، و أن تكون حياة المرء قائمة على شريعته ، يحل ما أحل الله و يحرم ما حرم الله ، و يخضع في سلوكه و أعماله و تصرفاته كلها لشرع الله ، متجردا من حظوظ نفسه ، و نوازع هواه ؛ يستوي في هذا الفرد و الجماعة و الرجل و المرأة ، فلا يكون عابدا لله من خضع لربه في بعض جوانب حياته ، و خضع للمخلوقين في جوانب أخرى .
و هذا المعنى يؤكده قول الله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }
] النساء : 65 [ .
و قوله سبحانه : { أفحكم الجاهلية يبغون و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } ] المائدة : 50 [ .
و قال تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به و يريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا } ] النساء : 60 [ .
فمن خضع لله سبحانه و أطاعه و تحاكم إلى وحيه ؛ فهو العابد له ، ومن خضع لغيره و تحاكم إلى غير شرعه ؛ فقد عبد الطاغوت و انقاد له .
و قد حكى الله عن اليهود أنهم اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله ؛ لما أطاعوهم في تحليل الحرام و تحريم الحلال ، قال تعالى : { اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح ابن مريم و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } ] التوبة : 31 [ .
و قد جاء هذا المعنى في السنة ، فقد روي عن عدي بن حاتم ( (1)و كان نصرانيا فأسلم ، أنه ظن أن عبادة الأحبار إنما تكون في الذبح ، و النذر ، و السجود و الركوع لهم فقط ، و ذلك عندما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلما ، و سمعه يقرأ هذه الآية : { اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح ابن مريم و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } ] التوبة : 31 [ ، فقال : يا رسول الله ! إنا لسنا نعبدهم ، قال - صلى الله عليه وسلم - أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ، و يحلون ما حرم فتحلونه )) قال : بلى . قال : (( فتلك عبادتهم )) (2)
__________
(1) ... عدي بن حاتم - رضي الله عنه - ، هو : الأمير الشريف ، أبو وهب و أبو طريف الطائي ، صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولد حاتم طي الذي يضرب بجوده المثل ، وفد عدي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في سنة سبع للهجرة / 628 م ، فأكرمه - صلى الله عليه وسلم - و احترمه . نزل الكوفة مدة ، ثم خرج منها مع جرير البجلي و حنظلة الكاتب ، فنزلوا قرقيساء من بلاد الشام ، و قالوا : ( لا نقيم في بلد يشتم فيها عثمان - رضي الله عنه - ) . مات سنة 67 هـ / 687 م . =
= ... انظر ترجمته في : طبقات ابن سعد 6 / 22 ، تاريخ بغداد 1 / 189 ، أسد الغابة 3 / 392 ، تهذيب الأسماء و اللغات 1 / 327 ، سير أعلام النبلاء 3 / 162 .
(2) ... حسن بشواهده :
أخرجه الترمذي ( 3095 ) في التفسير ، باب : و من سورة التوبة ، و البخاري في " التاريخ الكبير " 7 / 106 ، و ابن جرير الطبري في " تفسيره " ( 16631 و 16632 و 16633 ) ، و السهمي في " تاريخ جرجان " ص 541 ( 1162 ) ، و البيهقي في " السنن الكبرى " 10 / 166 ، و في " المدخل " ( 261 ) و ابن حزم في " الإحكام " 6 / 283 ، و المزي في " تهذيبه " 23 / 119 من طرق عن عبد السلام بن حرب ، أخبرنا غطيف بن أعين الجزري ، عن مصعب بن سعد ، عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - به .
و أورده السيوطي في " الدر المنثور " 3 / 230 و زاد في عزوه : ابن سعد ، و عبد بن حميد ، و ابن أبي حاتم و أبي الشيخ ، و ابن مردويه .
قال الترمذي : ( حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب ، و غطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث ) .
قلت : رجاله كلهم ثقات سوى غطيف بن أعين الجزري ، تقدم فيه قول الترمذي ، وذكره ابن حبان في " الثقات " 7 / 311 .
و نقل ابن حجر في " تهذيبه " 8 / 251 تضعيف الدارقطني له .
قلت : لكن قال الذهبي في " ميزان الاعتدال " 3 / 336 ( 6668 ) عن غطيف الذي ضعفه الدارقطني : ( أظن ذا آخر ) .
قلت : قد جاءت آثار صحيحة ، تشهد لحديث عدي - رضي الله عنه - ؛ عن حذيفة بن اليمان ، و ابن عباس - رضي الله عنهم - في تفسير هذه الآية بهذا المعنى ، و هي موقوفة ؛ لكنها في حكم المرفوع ، لكونها في " تفسير القرآن " ، و لذلك اشترط الحاكم في " المستدرك " 1 / 55 أن يخرج فيه التفاسير عن الصحابة .(/18)
.
قال ابن كثير رحمه الله : (( و لهذا قال تعالى : { و ما أمروا إلا ليعبدوا إله واحدا } أي : الذي حرم الشيء فهو الحرام ، و ما حلله فهو الحلال ، و ما شرعه أتبع ، و ما حكم به نفذ . { لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } أي : تعالى و تقدس و تنزه عن الشركاء و النظراء و الأعوان و الأضاد و الأولاد ، لا إله إلا هو و لا رب سواه )) . (1)
و بناء على ما تقدم كان الحكم بما أنزل الله ، و خلع ما سواه أصلاً من أصول الدين مقرراً بنصوص الكتاب و السنة الصحيحة ، و التي انطلق منها الرئيس علي عزت في بناء فكره و دعوته .
المقصد الثاني - اعتبار الخلافة الإسلامية النموذج المنشود في سياسة الأمة الإسلامية
لقد أوجب الله تعالى الإمارة على جماعة المؤمنين ،قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم } ] النساء : 59 [.
و قال تعالى : { و إذا جائهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به و لو ردوه إلى الله و الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } ] النساء : 83 [ .
قال أبو المعالي الجويني (2): (( الذي صار إليه جماهير الأئمة أن وجوب نصب الإمام مستفاد من الشرع المنقول ، غير متلقى من قضايا العقول )) (3).
فالإمارة من أعظم واجبات الدين ، بل لا قيام للدين و لا الدنيا إلا بها ؛ لأن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ، و لا بد لهم عند الاجتماع من رأس (4)
و إذا تعددت الإمارة تحت إمام و احد (5)جاز ذلك بالاتفاق ، أما إذا تعددت الإمارة ، و ليس ثمّة هناك إمام يرجعون إليه ، و نظر متحد رابط يجمعهم ، فعندها تتفرق الآراء ، و تتجاذب الأهواء ، و يتحزب الأمراء ، فيصير الخلاف و الفرقة و النزاع ، كما هو واقع المسلمين الآن ، و هو ما نهى الله عنه في آيات كثيرة ، منها قوله تعالى : { و اعتصموا بحبل الله جميعاً و لا تفرقوا } ] آل عمران : 103 [ .
و جاء ت في السنة أحاديث كثيرة ، بمنع تعدد الأئمة ، و التصريح بأن ذلك يفضي إلى الفرقة و الاختلاف ، منها :
عن عرفجة - رضي الله عنه - (6)، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( من أتاكم و أمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه )) (7).
و في رواية : (( إنه ستكون هنات و هنات ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة و هي جميع فاضربوه بالسيف ، كائناً من كان )) (8).
و عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي ، و إنه لا نبي بعدي ، و ستكون خلفاء فتكثر )) قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : (( فُوا ببيعة الأول فالأول ، و أعطوهم حقهم ، فإن الله سائلهم عما استرعاهم )) (9).
__________
(1) ... تفسير ابن كثير 2 / 349 .
(2) ... أبو المعالي الجويني ، هو : الملقب بإمام الحرمين ، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف ، الطائي ، السنبسي ، الجويني ثم النيسابوري ، ضياء الدين ، الإمام الكبير ، شيخ الشافعية ، صاحب التصانيف ، ولد سنة 419 هـ / 1028 م . اشتغل بعلم الكلام ، و وقعت منه هفوات ، نفي بسببها ، فجاور بمكة و تعبد و تاب منها ، و رجع إلى مذهب السلف في الصفات و أقره ، و قال : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اشتغلت بعلم الكلام ) ، توفي سنة 448 هـ / 1056 م .
انظر ترجمته في : ذيل تاريخ بغداد لابن النجار ص 85 – 95 ، وفيات الأعيان 3 / 167 – 170 ، الطبقات الكبرى للسبكي 5 / 165 – 222 ، سير أعلام النبلاء 18 / 468 ، العقد الثمين 5 / 507 .
(3) ... انظر : غياث الأمم في التياث الظلم ، للجويني ص 24 ، فقرة ( 20 ) .
(4) ... انظر : مجموع الفتاوى ، لابن تيمية 28 / 390 .
(5) ... الإمام ، هو : الواحد الذي به ارتباط المسلمين أجمعين . كما في " غياث الأمم " للجويني ص 177 ، فقرة ( 259 ) .
(6) ... عرفجة - رضي الله عنه - ، هو : عرفجة بن شريح ، أو شراحيل ، أو شريك الأشجعي ، صحابي ، اختلف في اسم أبيه .
انظر ترجمته في : طبقات ابن سعد 6 / 30 ، أسد الغابة 3 / 40 ، تهذيب الكمال 19 / 555 .
(7) ... الحديث : أخرجه مسلم ( 1852 ) ( 59 ) في الإمارة ، باب : حكم من فرق أمر المسلمين و هو مجتمع ، و أبو داود ( 4762 ) في السنة ، باب : في قتل الخوارج ، و النسائي 7 / 93 في تحريم الدم ، باب : قتل من فارق الجماعة .
(8) ... أخرجه مسلم أيضاً ( 1852 ) ( 60 ) .
(9) ... الحديث : أخرجه البخاري ( 3455 ) في أحاديث الأنبياء ، باب : ما ذكر عن بني إسرائيل ، و مسلم
( 1842 ) في الإمارة ، باب : وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول ، و ابن ماجه ( 2871 ) في الجهاد باب : الوفاء بالبيعة .(/19)
قال النووي في شرح هذا الحديث : (( و في هذا الحديث معجزة ظاهرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و معنى هذا الحديث إذا بويع لخليفة بعد خليفة فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها ، و بيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها ، و يحرم عليه طلبها ، سواء عقدوا للثاني عالمين بعقد الأول أو جاهلين ، و سواء كانا في بلدين أو بلد ، أو أحدهما في بلد الإمام المنفصل ، و الآخر في غيره ، هذا هو الصواب الذي عليه أصحابنا ، و جماهير العلماء ، و قيل : تكون لمن عقدت له في بلد الإمام ، و قيل : يقرع بينهم ، و هذان فاسدان ، و اتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد ، سواء اتسعت دار الإسلام أم لا )) (1).
و استطرد النووي فنقل قول إمام الحرمين أبو المعالي الجويني ، و تعقبه فيه فقال : (( و قال إمام الحرمين في كتابه الإرشاد (2): قال أصحابنا لا يجوز عقدها لشخصين ، قال – أي إمام الحرمين – و عندي أنه لا يجوز عقدها لاثنين في صقع واحد ، و هذا مجمع عليه ، قال : فإن بعد ما بين الإمامين ، و تخللت بينهما شسوع فللاحتمال فيه مجال ، قال : و هو خارج من القواطع )) (3).
قال النووي : (( و هو قول فاسد مخالف لما عليه السلف و الخلف ، و لظواهر إطلاق الأحاديث )) (4).
و قال الماوردي (5) في " الأحكام السلطانية " : (( و الصحيح في ذلك أن الإمامة لأسبقهما بيعة و عقداً )) (6).
و قال أبو يعلى (7) في " الأحكام السلطانية " : (( و إن كان العقد لكل واحد منهما على الإنفراد ، نظرت ، فإن علم السابق منهما بطل عقد الثاني )) (8).
و رحم الله عبد الله بن المبارك إذ يقول ، و كأنه ينظر إلى حالنا :
لولا الخلافة لم تؤمن لنا سبل و كان أضعفنا نهباً لأقوانا (9)
فهذا هو ذهب إليه أهل السنة ، و قالوا به معتمدين على نصوص الوحيين ، و هو ما سار عليه الدعاة الصادقين في كل عصر و مصر ، و منهم رواد الفكر الإسلامي الحديث في البوسنة .
المقصد الثالث - التأكيد على سبق الإسلام في شتى مجالات الإصلاح و تفوقه على الأنظمة الوضعيّة .
لقد ختم الله موكب النبوة في تاريخ البشرية بمحمد - صلى الله عليه وسلم - { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم و لكن رسول الله و خاتم النبيين } ] الأحزاب : 40 [ .و قال - صلى الله عليه وسلم - : (( أنا العاقب فلا نبي بعدي )) (10).
و جعل الله تعالى رسالته - صلى الله عليه وسلم - للإنسانية كلها قال تعالى : { قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً } ] الأعراف : 158 [ .و يقول - صلى الله عليه وسلم - : (( كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة ، و بعثت إلى الناس كافة )) (11).
__________
(1) ... شرح صحيح مسلم ، للنووي 12 / 231 – 232 .
(2) ... الإرشاد ، هو : الإرشاد في أصول الدين كتاب للجويني في علم الكلام ، و هو مطبوع عدة طبعات .
(3) ... المرجع السابق : 12 / 232 . و قال إمام الحرمين هذا الرأي بمعناه أيضاً في " غياث الأمم " فقرة ( 256 ) .
(4) ... المرجع و الصفحة السابقين .
(5) ... الماوردي ، هو : علي بن محمد بن حبيب البصري ، الماوردي ، الشافعي ، ولي القضاء ببلدان شتى ، ثم سكن بغداد ، له مصنفات كثيرة في الفقه و التفسير و أصول الفقه و الأدب ، قال عنه ابن الصلاح : ( متهم بالاعتزال ، و كنت أتأول له ، و أعتذر عنه ، حتى وجدته يختار في بعض الأوقات أقوالهم ) . توفي سنة 450 هـ / 1058 م ، عن 86 سنة .
انظر ترجمته في : تاريخ بغداد 12 / 102 ، المنتظم 8 / 199 ، معجم الأدباء 15 / 52 ، وفيات الأعيان 3 / 282 ، ميزان الاعتدال 3 / 155 ، سير أعلام النبلاء 18 / 64 .
(6) ... الأحكام السلطانية ، للماوردي ، ص : 9 .
(7) ... أبو يعلى ، هو : محمد بن الحسين بن محمد بن خلف البغدادي ، ابن الفراء ، شيخ الحنابلة ، القاضي ، صاحب التصانيف المفيدة في المذهب ، كان متعففاً ، نزيه النفس ، كبير القدر ، ثخين الورع ، توفي سنة 458 هـ / 1066 م .
انظر ترجمته : تاريخ بغداد 2 / 256 ، طبقات الحنابلة 2 / 193 – 230 ، سير أعلام النبلاء 18 / 89 ، البداية و النهاية 12 / 94 .
(8) ... الأحكام السلطانية ، لأبي يعلى ، ص : 25 .
(9) ... انظر : التمهيد لابن عبد البر 21 / 275 .
(10) ... الحديث : أخرجه البخاري ( 3532 ) في المنافب ، باب : ما جاء في أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و ( 4896 ) في تفسير سورة الصف ، و مسلم ( 2354 ) في الفضائل ، باب : أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، من حديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - .
(11) ... الحديث : أخرجه البخاري ( 335 ) في التيمم ، باب : التيمم ، و ( 438 ) في الصلاة ، باب : قو النبي - صلى الله عليه وسلم - ( جعلت لي الأرض مسجداً و طهوراً ) ، و ( 3122 ) في الجهاد ، باب : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أحلت لكم
الغنائم ) ، و مسلم ( 521 ) في أول كتاب المساجد ، من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - .(/20)
و هذا و ذاك يقتضيان بالضرورة كفالة مصادر الشريعة لحل مشكلات الحياة في العصور كلها ، حيث لن تأتي رسالة سماوية أخرى تسد حاجة البشرية ، و تفي بمطالبها المتجددة .
و من كمال الشريعة أنها لم تحوج إلى وجود محدثين و ملهمين كالذين كانوا في الأمم قبلنا بكثرة , و إنما تحتاج إلى فقهاء يغوصون في أسرارها , ويجتهدون في استنباط الأحكام للمسائل المستجدة من النصوص و قواعدها ، بعد أن استيقنوا بأن كتاب الله و سنة رسوله قد و سعا كل ما يحتاج إليه البشر من هداية في أمور الدين و مصالح الدنيا ، فقد قال تعالى : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } ] الأنعام : 38 [ و قال أيضاً : { و نزلنا عليك الكتاب تبيناً لكل شيء } ] النحل : 89 [
قال الأوزاعي ، في تفسير هذه الآية : (( أي بالسنة )) (1).
و قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لقد تركتكم على مثل البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك )) (2).
... و قد جاء الإعلان الصريح في آخر نزول الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإكمال هذا الدين ؛قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام ديناً } ] المائدة : 3 [
قال ابن كثير : (( هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة ، حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره ، و لا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله و سلامه عليه ، و لهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء ، و بعثه إلى الجن و الإنس )) (3).
... و عن طارق بن شهاب - رضي الله عنه - (4)، قال : قالت اليهود لعمر - رضي الله عنه - : إنكم تقرؤن آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ، قال : أي آية ؟ قالوا : { اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام
ديناً } ] المائدة : 3 [ قال عمر : و الله إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و الساعة التي نزلت فيها ، نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشية عرفة في يوم جمعة (5).
و قد صدّق سلمان الفارسي - رضي الله عنه - يهودياً قال له : (( قد علمكم نبيكم كل شيءٍ حتى الخراءة )) أي : آداب قضاء الحاجة ، فقال سلمان : (( أجل ، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول )) (6).
فأي دليل أبلغ من هذا في الدلالة على شمولية الإسلام و سبقه إلى كل خير فيه صلاح الأفراد و الجماعات ، و نقضه كل شر يضر بهم ، و هذا ما قرره – أسوة بغيره من الكتاب و المفكرين المصلحين – علي عزت بيكوفيتش .
المقصد الرابع - ضرورة العمل على توحيد الأمَّة الإسلاميَّة في كيانٍ واحد :
لقد سما الإسلام فوق الأجناس و الألوان ، و خاطب جميع القبائل و الشعوب ابتغاء توحيدها في أمة واحدة متآخية ، لا فضل فيها لعربي على عجمي ، و لا لأبيض على أسود إلا بالتقوى و العمل الصالح ، قال تعالى : { يا أيها الناس إنا جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ] الحجرات : 13 [
... و دعا القرآن الكريم إلى وحدة إسلامية قوامها أخوة المسلمين ، فقال سبحانه : { إن هذه أمتكم أمة و احدة و أنا ربكم فاعبدون } ] الأنبياء : 92 [ .
... و ربط سبحانه بينهم برباط الأخوة الإيمانية قال تعالى : { إنما المؤمنون
إخوة } ] الحجرات : 10 [ .
و أوجب عليهم الولاء و النصرة ، قال تعالى : { و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض } ] التوبة : 71 [ .
و أمرهم بالاعتصام بحبله ، و نهاهم عن الفرقة في أكثر من موضع من كتابه قال تعالى : { و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم } ] الأنفال : 46 [ ، و قال تعالى : { و اعتصموا بحبل الله جميعاً و لا تفرقوا } ] آل عمران : 103 [ .
قال الطبري في تفسير هذه الآية : (( و تمسكوا بدين الله الذي أمركم به ، و عهده الذي عهده إليكم في كتابه من الألفة و الاجتماع على كلمة الحق و التسليم لأمر الله تعالى )) (7).
و بمثل هذا جاءت نصوص السنة النبوية القولية و الفعلية مؤكدة أهمية الوحدة بين المؤمنين ، و حذرت تحذيراً شديدا من الفرقة بينهم .
__________
(1) ... تفسير ابن كثير 2 / 502 .
(2) ... صحيح : تقدم تخريجه .
(3) ... تفسير ابن كثير :2 / 14 .
(4) ... طارق بن شهاب - رضي الله عنه - ، هو : الأحمسي البجلي الكوفي ، رأى النبي ، و غزا في خلافة أبي بكر و عمر ، و مع كثرة جهاده كان معدوداً من العلماء .
انظر ترجمته في : مشاهير علماء الأمصار ترجمة ( 319 ) ، أسد الغابة 3 / 70 ، تهذيب الأسماء و اللغات
1 / 251 ، البداية و النهاية 9 / 51 .
(5) ... الحديث : أخرجه البخاري ( 4606 ) في تفسير سورة المائدة ، و مسلم ( 3017 ) في أول كتاب التفسير .
(6) ... صحيح : تقدم تخريجه .
(7) ... تفسير الطبري 3 / 378 .(/21)
فكان أول ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد بناء المسجد ؛ أن آخى بين المهاجرين و الأنصار على اختلاف قبائلهم ، و ذلك ليذهب عن المهاجرين و حشة الغربة ، و يؤنسهم عن مفارقة الأهل و العشيرة ، و ليشد أزر بعضهم ببعض ، فقويت بذلك عصبة المسلمين ، و هابهم القريب و البعيد ، و شعر المهاجرون بالسكينة و الطمأنينة و أحبوا المدينة و أهلها ، و صاروا جميعاً في إخاء و صفاء ، و تفانى الأنصار في حب إخوانهم المهاجرين و إكرامهم .(1)
و مما جاءت به السنة القولية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب قوله : (( مثل المؤمنون في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر و الحمى )) (2).
و قال - صلى الله عليه وسلم - : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً )) و شبك بين أصابعه (3).
و قال - صلى الله عليه وسلم - : (( المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يسلمه ، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، و من فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ، و من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة )) (4).
و نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الاختلاف ، فمما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - قوله : (( لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا )) (5).
فهذه النصوص ، و غيرها كثير مما لم نورده خشية الإطالة ، توجب على المسلمين العمل على توحيد المسلمين ، و جمعهم على الحق ، و تأليف قلوبهم عليه ، و إصلاح ذات بينهم .
و إذا جمعنا النصوص الآمرة بالوحدة ، المحذرة من الفرقة و الاختلاف إلى ما تقدم من النصوص الدالة على وجوب تنصيب الخليفة و إقامة دولة الإسلام : اتضحت صورة النظام السياسي الذي ننشده ، و نسير في سبيل إقامته خلف كل مخلص ، و هذا ما ألفيت عليه الرئيس علي عزت و العصبة المناصرة له روّاد الفكر الإسلامي الحديث في البوسنة و الهرسك .
المقصد الخامس - العمل الجماعي من أجل نهضة المسلمين .
إن التعاون بين المسلمين إذا كان على فعل الخير ـ و دفع الشر ، و القيام بما يفيد الأمة و يصلح أمرها ، و يبعد الأذى عنها و الضرر عنها ؛ فهو حياة الأمة و سبب قوتها و تقدمها و سعادتها ، و انتصارها على أعدائها ، و المحافظة على مجدها و استقلالها ، و لذلك أوجبه الله على هذه الأمة ، و ألزمها به ، فقال تعالى : { و تعاونوا على البر و التقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان و اتقوا الله إن الله شديد العقاب } ] الأحزاب : 60 و 61 [ .
... وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً )) و شبك بين أصابعه (6).
... و قال - صلى الله عليه وسلم - أيضاً : (( يد الله على الجماعة )) (7)
__________
(1) ... انظر : الروض الأنف لأبي القاسم السهيلي , ص 242 .
(2) ... الحديث : أخرجه البخاري ( 6011 ) في الأدب ، باب : رحمة الناس و البهائم ، و مسلم ( 2586 ) في البر و الصلة ، باب : تراحم المؤمنين و تعاطفهم و تعاضدهم ، من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - .
(3) ... الحديث : أخرجه البخاري ( 481 ) في الصلاة ، باب : تشبيك الأصابع في المسجد و غيره ، و ( 6026 ) في الأدب ، باب : تعاون المؤمنين بعضهم بعضا ، و مسلم ( 2585 ) في البر و الصلة ، باب : تراحم المؤمنين و تعاطفهم و تعاضدهم ، و النسائي 5 / 79 في الزكاة ، باب : الخازن إذا تصدق بإذن مولاه ، من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - .
(4) الحديث : أخرجه البخاري ( 2442 ) في المظالم ، باب : لا يظلم المسلم المسلم و لا يسلمه ، و مسلم ( 2580 ) في البر و الصلة ، باب : تحريم الظلم ، و الترمذي ( 1426 ) في الحدود ، باب : ما جاء في الستر على المسلم ، من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - .
(5) ... الحديث أخرجه البخاري ( 2279 ) في الخصومات ، باب : ما يذكر في الأشخاص و الخصومة بين المسلمين و اليهود ، و ( 3476 ) في الأنبياء ، باب : ما ذكر عن بني إسرائيل ، و ( 5062 ) في فضائل القرآن ، باب : اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ، من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - .
(6) ... صحيح : تقدم تخريجه .
(7) ... صحيح :
روي هذا الحديث عن عبد الله بن عمر ، و ابن عباس ، و عرفجة الأشجعي ، و أبو سعيد الخدري ، و عمر بن الخطاب و خباب بن الأرت ، و سمرة ، و أسامة بن شريك - - رضي الله عنهم - :
1 – حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - : و لفظه : (( إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة ، و يد الله مع الجماعة ، و من شذ شذ في النار )) .
2 – حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - : و لفظه : (( لا يجمع الله أمتي على الضلالة أبداً ، ويد الله مع
الجماعة )).
و قد تقدم تخريج حديث ابن عمر و ابن عباس من هذه الرسالة و الكلام على رواتهما .
3 - حديث عرفجة الأشجعي - رضي الله عنه - : و لفظه : (( سيكون بعدي هنات و هنات ، فمن رأيتموه فارق الجماعة ، أو يريد أن يفرق بين أمة محمد و أمرهم جميع فاقتلوه كائناً من كان ، يد الله على الجماعة ، و إن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض )) . =
= ... أخرجه النسائي 7 / 92 – 93 ، و ابن حبان في " صحيحه " ( 4577 ) ، و الطبراني في " الكبير " 17 / 144 ( 362 و 368 ).
قال الهيثمي في " المجمع " 5 / 221 : ( رجاله ثقات ) .
4 – حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : و لفظه : (( لا تبدوا فإن في البدو الجفاء ، يد الله مع الجماعة ، و لا يبالي شذوذ من شذ )) .
أخرجه الخطيب البغدادي في " الموضح " 2 / 441 . ...
5 - حديث عمر - رضي الله عنه - : و لفظه (( احفظوني في أصحابي ... فمن سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ؛ فإن يد الله على الجماعة ... )) .
أخرجه الطبراني في " الأوسط " ( 7249 ) ، و الضياء في " المختارة " ( 157 ) .
و قال الهيثمي في " المجمع " 5 / 225 : ( إبراهيم بن خالد المصيصي ، وهو متروك ) .
و رواه الطبراني في " الأوسط " من وجه آخر عن عمر بلفظ : (( إن يد الله على الجماعة ، و الفذ مع الشيطان ، و إن الحق أصله في الجنة ، و إن الباطل أصله في النار )) .
قال الهيثمي في " المجمع " 5 / 225 : ( فيه جماعة لم أعرفهم ) .
6 – حديث خباب بن الأرت - رضي الله عنه - : و لفظه فيه طول .
أخرجه الطبراني في " الكبير " 4 / 80 ( 3709 ) .
7 – حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - : و لفظه : (( طعام الواحد يكفي الاثنين ، و طعام الاثنين يكفي الأربعة ، و يد الله تعالى على الجماعة )) .
أخرجه البزار في " مسنده " ( 2874- كشف ) .
و قال الهيثمي في " المجمع " 5 / 21 : ( رواه البزار و فيه أبو بكر الهذلي ، و هو ضعيف جداً ) .
8 – أسامة بن شريك - رضي الله عنه - :
أخرجه الطبراني في " الكبير " 1 / 225 ، و ابن أبي عاصم في " السنة " ( 81 ) .
قال الهيثمي في " المجمع " 5 / 218 : ( فيه أسامة بن أبي المساور و هو ضعيف ) .
و لا ريب أن الحديث بمجموع طرقه و شواهده يرتقي إلى درجة الصحة .(/22)
.
و قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من خرج من الطاعة و فارق الجماعة فمات مات ميتة
جاهلية )) (1).
... و قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله ، و
مناصحة ولاة الأمر ، و لزوم الجماعة ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم )) (2).
قال ابن عبد البر القرطبي : (( قوله : لا يغل عليهن قلب مؤمن . معناه : لا يكون القلب عليهن و معهن غليلاً ، يعني : لا يقوى فيه مرض و لا نفاق إذا أخلص العمل لله و لزم الجماعة ، و ناصح أولي الأمر ، أما قوله : فإن دعوتهم تحيط من ورائهم . فمعناه عند أهل العلم : أن أهل الجماعة في مصر من أمصار المسلمين إذا مات إمامهم ، و لم يكن لهم إمام ، فأقام أهل ذلك المصر الذي هو حضرة الإمام (3)و موضعه إماماً لأنفسهم ، اجتمعوا عليه و رضوه ؛ فإن كل من خلفهم و أمامهم من المسلمين في الآفاق يلزمهم الدخول في طاعة ذلك الإمام ، إذا لم يكن معلناً بالفسق و الفساد ، معروفاً بذلك ، لأنها دعوة محيطة بهم ، يجب إجابتها ، و لا يسع أحداً التخلف عنها ، لما في إقامة إمامين من اختلاف الكلمة ، و فساد ذات البين )) (4).
فبذلك و جب على الأمة أن تتحد كلها استجابة لتعاليم ربها ، على هدي نبيها - صلى الله عليه وسلم - ، حتى ينصرها الله على أعدائها .
... و إن في و حدة المسلمين الأولين بقيادة الرسول الكريم أسوة و قدوة لمن بعدهم ، و لقد بارك الله و حدة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، و صحبه و أثنى عليها و بين قوتها و فضلها ، بقوله عز وجل : { و إن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين و ألف بين قلوبهم لم أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم و لكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم } ] الأنفال : 62 و 63 [ .
... هذه هي الجماعة الأم ، جماعة المسلمين التي توافرت الأدلة و أقوال العلماء في الدعوة إلى لزومها و عدم الخروج عليها .
__________
(1) ... الحديث : أخرجه مسلم ( 1848 ) في الإمارة ، باب : وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن ، و في كل حال ، و تحريم الخروج على الطاعة و مفارقة الجماعة ، من حديث أبي هريرة .
(2) ... صحيح :
روي من حديث زيد بن ثابت ، و جبير بن مطعم ، و عبد الله بن مسعود ، و أنس بن مالك ، و غيرهم - رضي الله عنهم - .
أولاً : حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - :
أخرجه أبو داود ( 3660 ) في العلم ، باب : فضل نشر العلم ، و الترمذي ( 2656 ) في العلم ، باب : ما جاء في الحث على تبليغ السماع ، و حسنه ، و أحمد 5 / 183 ، و الدارمي ( 229 ) ، و ابن حبان في " صحيحه " ( 67 ) ، و ابن أبي عاصم في " السنة " ( 94 و 1087 ) ، و الطبراني في " الكبير " ( 4890 و 4891 ) ، و ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " ( 184 ) .من طرق عن شعبة بن الحجاج ، حدثني عمر بن سليمان بن عاصم ، عن عبد الرحمن بن أبان ، عن أبيه ، عنه .
قلت : و هذا إسناد صحيح ، رجاله كلهم ثقات .
قال ابن عبد البر في " التمهيد " 21 / 275 : ( هذا حديث ثابت ) .
ثانياً : حديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - :
أخرجه ابن ماجه ( 3056 ) في المناسك ، باب : الخطبة يوم النحر ، و أحمد 4 / 80 و 82 ، و الدارمي ( 227 و 228 ) ، و أبو يعلى في " مسنده " ( 7413 ) ، و الطبراني في " الكبير " ( 1541 ) ، و ابن أبي حاتم في " الجرح و التعديل " 2 / 10 ، و الحاكم 1 / 86 – 87 ، و صححه على شرطهما .
و حسنه المنذري في " الترغيب و الترهيب " 1 / 62 .
ثالثاً : حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - :
أخرجه الترمذي ( 2657 و 2658 ) في العلم ، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع ، و الحميدي في " مسنده " ( 88 ) ، و ابن أبي حاتم في " الجرح و التعديل " 2 / 10 ، و ابن أبي عاصم في " السنة " ( 1086 ) ، و الحاكم في " معرفة علوم الحديث " ص 322 ، و الخطيب في " الكفاية " ص 29 و 173 ، و البغوي في " شرح السنة " 1 / 233 .
قال الترمذي : ( هذا حديث حسن صحيح ) .
و قال ابن حجر في " موافقة الخبر الخبر في تخريج أحاديث المختصر " 1 / 364 : ( هذا حديث صحيح ) .
رابعاً : حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - :
أخرجه الطبراني في " مسند الشاميين " ( 87 ) ، و ابن أبي حاتم في " الجرح و التعديل " 2 / 11 ، و الحاكم في " المدخل " 1 / 85 – 86 ، و ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " ( 198 ) .
و قال ابن حجر في " موافقة الخبر الخبر في تخريج أحاديث المختصر " 1 / 375 : ( هذا حديث حسن ) .
(3) ... حضرة الإمام : أي المكان الذي يقيم فيه .
(4) ... التمهيد لابن عبد البر 21 / 277 – 278 .(/23)
... أما ما نجده في كلام بعض المعاصرين – و منهم مفكروا البوسنة – من الاستدلال بما تقدم على ضرورة العمل الجماعي الذي يريدون به تشكيل الأحزاب و الجماعات و التنظيمات التي كثرت في العصر الحاضر ، و تعددت أنماطها ، و تباينت مناهجها ، و اختلفت مسمياتها ، فلا نقر من يقول بوجوب الانضواء تحت أي منها مهما كانت حجته ، و غاية ما يمكن الذهاب إليه أن الانتساب إلى بعضها بغية إقامة واجب شرعي قد يكون مشروعاً و حسب .
... فإن قيل : إن إقامة الخلافة فرض ، و لا سبيل إليها إلا بعمل جماعي منظم
( حزبي ) سرّاً أو علناً ، قلنا : إن ذلك غير مسلّم ، و لم يقل به أو يذهب إليه أحد ممن يعتد بقوله من العلماء السابقين ، و إن سلِّم كونه ضرورة في هذا الزمان ، فالضرورة تقدر بقدرها ، و لا تصير أصلاً بحال .
... و ما عرفناه من تأثر الرئيس علي عزت بيكوفيتش و رفاقه بدعوة ( الإخوان المسلمين ) في مصر ، و النسج على منوالهم في تشكيل تنظيم مناسب في البوسنة فقد كان ما يبرره – بحسب رأي – قبل حصول البوسنة على استقلالها المحدود ، و تحرر أبنائها إلى حد بعيد من قيود حكم الفرد و الحزب الشيوعي ، و لذلك دعوت و أدعو إلى توسيع قاعدة التعاون بين مسلمي البوسنة و المهتمين بشأنها من غير أبنائها ( مجاهدين و دعاة و إغاثيين ) ، و خلع الولاءات الضيقة ، إيثاراً للحق على الخلق ، و تقوية لشوكة المسلمين ، ففي الجماعة العزة و التمكين ، و في التحزب و التشرذم الضعف و الهوان ، و الله المستعان .
المقصد السادس - الجهاد في سبيل الله هو الوسيلة الوحيدة الكفيلة بإعادة العزة و التمكين للمسلمين .
... لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، و أيده الله بنصره و بالمؤمنين ، أذن الله لهم في القتال .
قال الشوكاني : (( أول ما شرع الجهاد بعد الهجرة النبوية إلى المدينة
اتفاقاً )) (1).
فكان أول ما نزل قوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر و لله عاقبة الأمور } ] الحج : 39 و 40 و 41 [ .
و قد بين الله في هذه الآيات أنه أذن للمؤمنين في القتال بسبب الظلم الواقع عليهم و إخراجهم من ديارهم و أموالهم بغير موجب إلا أنهم يدينون بدين الله .
قال ابن كثير في قوله تعالى : { و إن الله على نصرهم لقدير } : (( أي هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال و لكنه يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته )) .
ثم بين سبحانه من حكمة الإذن في القتال أنه لولا أن الله يدفع أهل الباطل و الشرك بأهل الإصلاح و الخير لغلب أهل الفساد ، و بغوا على الصالحين و أهلكوهم و صار لهم السلطان في الأرض ، و لهدموا المعابد التى يذكر فيها اسم الله كثيرا , فكان من رحمة الله بعباده , و فضله عليهم أن أذن لأهل دينه الحق المصلحين في الأرض بقتال المفسدين فيها من الكافرين ,و البغاة الظالمين .
ثم بين الله أنه لا ينصر بمقتضى سنته إلا من ينصر دينه و يتقيه , و من إذا مكن لهم في الأرض و حكموها أطاعوا الله , فأقاموا الصلاة و آتوا الزكاة , و كانوا دعاةَ خير و معروف , و نهاةً عن كل منكر و فساد , و الله يعلم المفسد من المصلح و إليه مرد الأمور و نهايتها .
... ففي الجهاد في سبيل الله رد للاعتداء ، و دفع للظلم و الإيذاء قال تعالى : { و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } ] البقرة : 190 [ .
... و ذكر التمكين في الأرض بعد الإذن بالقتال ، إشارة إلى أن إقامة فريضة الجهاد في سبيل الله سبب للنصرة و التمكين فيها .
و في السنة الثانية من الهجرة فرض الله القتال بقوله تعالى : { كتب عليكم القتال و هو كره لكم و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم و الله يعلم و أنتم لا تعلمون } ] البقرة : 216 [ .
... و أصبح الجهاد فرضاً للدفاع عن الدعوة الإسلامية ، و مقاومة من يحاول فتنة أهلها ، أو الوقوف في طريقها ، قال تعالى : { و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } ] البقرة : 193 [ .
و فُرض أيضاً لمقاومة من ينكثون العهد و ينقضون المحالفات ، و لا يحترمون ما بينهم و بين المسلمين من معاهدات و يشوهون حقائق الإسلام ، و ينفرون الناس منه ، قال تعالى : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } ] التوبة : 12 [ .
__________
(1) ... نيل الأوطار ، للشوكاني : 7 / 174 .(/24)
... و فرض أيضاً لتخليص المستضعفين من المؤمنين من الضيم ، و الذل ، و الهوان ، قال تعالى : { و ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله و المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها و اجعل لنا من لدنك و لياً و اجعل لنا من لدنك نصيراً } ] النساء : 75 [ .
... و لقد كانت حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - سلسة متصلة من الجهاد في سبيل الله ، فقد غزا من حين هجرته إلى حين و فاته سبعاً و عشرين غزوة ، و بعث من السرايا قريباً من سبع و أربعين سرية (1).
... و جائت نصوص السنة القولية متظاهرة متضافرة على عظم فضل المجاهد ، و ما أعده الله له من الثواب ، و حسن الجزاء ، نذكر طرفا ًمنها :
- عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أي الناس
أفضل ؟ فقال : (( مؤمن يجاهد بنفسه و ماله في سبيل الله )) (2).
- و عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال : قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز و جل ؟ قال : (( لا تستطيعوه )) قال : فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً . كل ذلك يقول : (( لا تستطيعوه )) و قال في الثالثة : (( مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله ، لا يفتر من صيام و لا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى )) (3).
- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( تضمن الله لمن خرج في سبيله ، لا يخرجه إلا جهاداً في سبيلي ، و إيماناً بي ، و تصديقاً برسلي ، فهو ضامن أن أدخله الجنة ، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه ، نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة )) (4) .
- و عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا و ما فيها )) (5) .
... وكما أن من أهم أسباب النصر و العزة و التمكين الجهاد في سبيل الله ، فإن من أهم أسباب الذل و الهوان ترك الجهاد في سبيل الله ، و الركون إلى الدنيا ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا تبايعتم بالعينة ، و أخذتم أذناب البقر ، و رضيتم بالزرع ، و تركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم )) (6)
__________
(1) ... الغزوة : في اصطلاح المؤرخين ، و كتّاب السيرة تطلق على جيش قاده الرسول بنفسه ، سواء حصل فيه قتال أو لم يحصل . =
= ... أما السرية : فتطلق على طائفة مختارة من الجيش ، يرسلها النبي لإرهاب أعدائه ، أو لاستكشاف أحوالهم ، أو لغير ذلك ، قال ابن الأثير في " النهاية " 2 / 363 : ( هي طائفة من الجيش ، يبلغ أقصاها أربعمائة ، تبعث إلى العدو ،سموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر و خيارهم ) .
قال النووي في " شرح مسلم " 12 / 195 : ( اختلف أهل المغازي في عدد غزواته و سراياه ، فذكر ابن سعد ، و غيره عددهن مفصلات على ترتيبهن فبلغت سبعاً و عشرين غزوة ، و ستاً و خمسين سرية ، قالوا : قاتل في تسع من غزواته ، و هي : بدر ، و أحد ، و المريسيع ، و الخندق ، و قريظة ، و خيبر ، و الفتح و حنين ، و الطائف ) .
(2) ... الحديث : أخرجه البخاري ( 2786 ) في الجهاد ، باب : أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه و ماله في سبيل الله و ( 2786 ) في الرقاق ، باب : العزلة راحة من خلاط السوء ، و مسلم ( 1888 ) في الإمارة ، باب : فضل الجهاد و الرباط ، و أبو داود ( 2485 ) في الجهاد ، باب : في ثواب الجهاد .
(3) ... الحديث : أخرجه البخاري ( 2787 ) في الجهاد ، باب : أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه و ماله في سبيل الله مسلم ( 1878 ) في الإمارة ، باب : فضل الشهادة في سبيل الله تعالى ، و أحمد في " المسند " 2 / 459 .
(4) ... الحديث : أخرجه البخاري ( 2787 ) في الجهاد ، باب : فضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه و ماله في سبيل الله و ( 3123 ) في فرض الخمس ، باب : قول النبي ( أحلت لكم الغنائم ) ، و مسلم ( 1876 ) في الإمارة ، باب : فضل الجهاد و الخروج في سبيل الله ، و النسائي 6 / 16 في الجهاد ، باب : ما تكفل الله عز و جل لمن جاهد في سبيله .
(5) ... الحديث : أخرجه البخاري ( 2792 ) في الجهاد ، باب : الغدوة و الروحة في سبيل الله ، و ( 2796 ) باب : الحور العين و صفتهن ، و ( 6568 ) في الرقاق ، باب : صفة الجنة و النار ، و مسلم ( 1880 ) في الإمارة ، باب : فضل الغدوة و الروحة في سبيل الله .
(6) ... صحيح بمجموع طرقه :
روي هذا الحديث عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، و له عنه طرق :
الطريق الأول :
أخرجه أبو داود ( 3462 ) في البيوع ، باب : في النهي عن العينة ، و ابن عدي في " الكامل " 5 / 360 ، و الدولابي في " الكنى " 2 / 65 ، و أبو نعيم في " الحلية " 5 / 208-209 ، و البيهقي في " السنن الكبرى " 5 / 316 من طرق عن حيوة بن شريح ، عن إسحاق أبي عبد الرحمن ، أن عطاء الخراساني حدثه ، أن نافع حدثه ، عن ابن عمر - رضي الله عنه - به .
قال أبو نعيم : ( غريب من حديث عطاء ، عن نافع ، تفرد به حيوة ، عن إسحاق ) .
و قال المنذري في " مختصر السنن " 5 / 102-103 : ( في إسناده إسحاق بن أسيد أبو عبد الرحمن الخراساني ، نزيل مصر ، لا يحتج بحديثه ، و فيه أيضاً عطاء الخراساني ، و فيه مقال ) . =
= ... و قال ابن القيم في " تهذيب السنن " 5 / 104 بعد أن حسن إسناده : ( عطاء الخراساني ثقة مشهور ، و حيوة كذلك ، و أما إسحاق أبو عبد الرحمن فشيخ ، روى عنه أئمة المصريين ، مثل حيوة ، و الليث ، و يحيى بن أيوب ، و غيرهم ) .
و ضعف ابن حجر في " تخريج أحاديث الهداية " 2 / 151 إسناد الحديث من هذا الطريق .
و لهذا الطريق وجه آخر عن نافع ، فقد رواه فضالة بن حصين ، عن أيوب السختياني ، عن ، نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنه - . ذكره أبو نعيم في " الحلية " 3 / 319 ، و رواه ابن شاهين في " الأفراد " 1 / 1 – كما في " السلسلة الصحيحة " للألباني 1 / 16 - .
قال ابن شاهين : ( تفرد به فضالة ) .
قلت : و هو ضعيف ، قال البخاري و أبو حاتم الرازي : ( مضطرب الحديث ) .
انظر : لسان الميزان 6 / 14 .
الطريق الثاني :
أخرجه أحمد في " المسند " 2 / 28 ، و في " الزهد " – كما في " الوهم و الإيهام " 5 / 296 - ، و الطبراني في " الكبير " 12 / 432 ( 13583 ) ، و أبو أمية الطرطوسي في " مسند ابن عمر " ( 22 ) ، و البيهقي في " الشعب " ( 4224 ) ، من طرق عن أبي بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر - رضي الله عنه - به .
قال البيهقي : (( كذا قال : ( عطاء ) يعني : ابن أبي رباح ، و روي من وجه آخر ضعيف عن عطاء ، و هذا الحديث يعرف من حديث حيوة بن شريح ، عن إسحاق أبي عبد الرحمن ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن
عمر )) .
و قال ابن القطان في " الوهم و الإيهام " 5 / 295-296 بعد أن ذكر بعض طرقه : ( و للحديث طريق أحسن من هذا ؛ بل صحيح ، كل رجاله ثقات – فذكره ) .
قال ابن حجر في " تلخيص الحبير " 3 / 19 : ( و عندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحاً ؛ لأن الأعمش مدلس ، و لم يُنكر سماعه من عطاء ، و عطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني ، فيكون فيه تدليس التسوية ، بإسقاط نافع بين عطاء ، و ابن عمر فرجع الحديث إلى الإسناد الأول ، و هو المشهور ) .
قلت : احتماله بأن عطاء هنا هو الخراساني بعيد لأنه جاء منسوباً بابن أبي رباح .
و قال ابن حجر في " تخريج أحاديث الهداية " 2 / 151 عن هذا الطريق : ( إنه أجود و أمثل ) . يعني من الطريق الأول . و قال في " بلوغ المرام " ( 3 / 41 – مع السبل ) : ( رجاله ثقات ، و صححه ابن
القطان ) .
و قال ابن القيم في " تهذيب السنن " 5 / 104 عن هذا الطريق و الذي قبله : ( هذان إسنادان حسنان يشد أحدهما الآخر ) ، ثم تكلم عن هذا الطريق ، فقال : ( رجاله أئمة مشاهير ، و إنما يخاف أن لا يكون الأعمش سمعه من عطاء ، أو أن عطاء لم يسمعه من ابن عمر ) . =
= ... الطريق الثالث :
أخرجه أبو يعلى في " مسنده " ( 5659 ) ، من طريق ابن علية ؛ و الطبراني في " الكبير " 12 / 433
( 13585 ) ، و البيهقي في " الشعب " ( 10871) من طريق عبد الوارث بن سعيد ؛ كلاهما عن ليث ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، عن ابن عمر - رضي الله عنه - به .
قال البيهقي : ( رواه جرير بن عبد الحميد ، عن الليث ، عن عطاء ، عن ابن عمر ، و رواه جرير بن حازم ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : قال ابن عمر ) .
و رواية جرير بن عبد الحميد التي أشار إليها البيهقي أخرجها الروياني في " مسنده " ( 1422 ) ، و تابع جرير : أبو كدينة البجلي عند أبو نعيم في " الحلية " 1 / 313-314 و 3 / 318-319 .
و قال أبو نعيم : ( هذا حديث غريب من حديث عطاء ، عن ابن عمر ) .
قلت : هذا الاختلاف على الليث ، و هو ابن سليم ، اضطراب منه ، فإنه ضعيف .
قال ابن القطان : ( و إنما لم نقل لهذا : صحيح ؛ لمكان ليث ؛ فإنه ابن أبي سليم ، و لم يكن بالحافظ ، و هو صدوق ضعيف ) .
الطريق الرابع :
أخرجه أحمد في " المسند " 2 / 42 و 84 ، و الخطيب في " تاريخ بغداد " 4 / 307 ، من طريقين عن أبي جناب يحيى بن أبي حية ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عمر - رضي الله عنه - به .
و ( ابن عمر ) صحف عند ابن كثير في " التفسير " 2 / 344 ، إلى ( ابن عمرو ) ، قال ابن كثير : ( و هذا شاهد للذي قبله ) . قلت : يشير بـ ( الذي قبله ) إلى الطريق الأولى عندنا .
و قال ابن حجر في " الدراية في تخريج أحاديث الهداية " 2 / 151 : ( و من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد بإسناد ضعيف ) .
قلت : و لم أقف عليه في المسند لأحمد ، و لا لغيره عليه ، و أخشى أن يكون قوله ناتجاً عن تصحيف أيضاً .
و قال ابن القيم : بعد أن ذكر الطرق الثلاثة الأولى : ( و هذا يبين أن للحديث أصلاً ، و أنه محفوظ ) .
قلت : و للحديث شاهد من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - ، بدون ذكر الجهاد :
أخرجه ابن عدي في " الكامل " 2 / 22 من طريق بشير بن زياد الخراساني ، حدثنا ابن جريج ، عن عطاء ، عن جابر - رضي الله عنه - به .
قال ابن عدي : ( بشير بن زياد الخراساني غير مشهور ، في حديثه بعض النكرة ) .
و قال الذهبي في " الميزان " 1 / 328 : ( منكر الحديث ، و لم يترك ) .(/25)
.
... فلن يعود للأمة عزتها و كرامتها ، و يرفع عنها الذل إلا بالرجوع إلى دينها ، و إقامة ذروة سنامه ، و هو الجهاد في سبيل الله .
و أخيراًًً : فبعد عرض المحاور الرئيسية لفكر الرئيس علي عزت على ما قررته السنة النبوية فيها ، يتبين موافقته لها في الغالب ، و تأثره بها ، و إنْ ندر اعتماده عل نصوصها و استشهاده بها ، بل وقع منه الإعراض عنها أحياناً أخرى .
و في هذا القدر كفاية و الله أعلم .
و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّنا محمّد و آله و صحبه أجمعين
سبحانك اللهم و بحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك و أتوب إليك(/26)
الفكر الإسلامي والتحديات التي تواجهه في مطلع القرن الخامس عشر الهجري
الأستاذ أنور الجندي
لاريب في أن نشأة الفكر الإسلامي في حضانة الدعوة الإسلامية له جذوره العريقة وأصوله الأصلية المستمدة من القرآن الكريم والسنة المطهرة واللغة العربية وسيرة الرسول وتاريخ الإسلام والأدب العربي وقد اكتمل مفهوم الإسلام في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم "اليوم أكملت لكم دينكم" وقد كانت قواعد الفكر الإسلامي الأساسية قد بدأت ونمت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مستمدة من القرآن وأن هذه القواعد لم تغير من بعده ولم تجر أية إضافة إليه فظلت قيمتها الأساسية كما جاء بها وحي السماء والقرآن وسنن النبي في تفسيرها وتطبيقها. وإنما جرت حركة العمل من داخل الإطار الذي رسمه القرآن. ولقد كان اتصال المسلمين بالفلسفات اليونانية والفارسية والهندية تجربة قاسية انتهت بانتصار الإسلام بمفهوم "السنة الجامعة" وهزمت جميع محاولات السيطرة والاحتواء والغزو الفكري كما نسميه بلغة العصر وبقيت الحقائق الأساسية قائمة.
إن الإسلام ليس ديناً كسائر الأديان ولكنه حركة اجتماعية واسعة تشمل الاعتقاد والمجتمع والدولة ومختلف نظم الاقتصاد والسياسة والأخلاق وأن ميزة الإسلام أنه نظرية كلية شاملة وأنه لم يجزئ الحياة بل نظر إليها نظرة كلية كما نظر إلى الإنسان كوحدة نفسية وجسمية لا تنفصل.
وفي العصر الحديث وفي إبان الحملة الاستعمارية والصهيونية والماركسية واجه الإسلام تحديات خطيرة أبرزها:
أولاً: إثارة الشبهات حول حقيقة الإسلام والتشكيك في طبيعته الجامعة التي ميزته عن سائر الأديان وهو أنه منهج حياة ونظام مجمتع وإثارة الشبهات حول مفهوم الدين المنزل من السماء والوحي بصفة عامة والدعوة إلى هدم الأديان عن طريق ما يسمى (علم الأديان) المقارن أو القول بأن الأمم بدأت وثنية ثم عرفت التوحيد بعد ذلك. وهو قول معارض للحقيقة التي جاءت بها الكتب المنزلة والتي تثبتها كل الدلائل التاريخية والكشوف الأثرية، وهي أن البشرية بدأت موحدة ثم اعتراها التغير واستسلمت للفكر البشري الوثني والمادي وأن آدم أبو البشرية كان نبياً وهو موحداً. وهناك تلك الأطروحات الباطلة التي استمدها خصوم الإسلام من غير المسيحية بالقول بأن الإسلام دين عبادي وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نبياً روحياً وأنه لم يكن حاكماً وما أقام دولة وهو وهم باطل كشفت البحوث الصحيحة عن فساجه وعن أن الذين قالوا به إنما استمدوه من المسيحية ومن مفاهيم الاستشراق المعادية للإسلام كذلك فإن مفهوم التوحيد الذي عرفته بعض الأديان السماوية التي انحرفت تفسيراتها ليس هو مفهوم التوحيد الخالص الذي جاء به الإسلام، وأن هؤلاء القوم يدعون أن لهم إلهاً خاصاً بهم، أما الإسلام فيقرر أن الله تبارك وتعالى هو رب العالمين كذلك فإن ما يدعيه البعض من توحيد إخناتون لم يكن في الحقيقة هو التوحيد الصحيح الذي جاءت به أديان السماء وأن التوحيد كان دعوة أديان السماء المنزلة منذ آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولم تكن قاصرة على دين واحد هو الدين الذي أنزل على موسى عليه السلام كما تحاول أن تطرح ذلك نظريات فاسدة.
وقد تداولت البشرية التوحيد الذي جاءت به الأديان رسولاً بعد رسول ونبياً بعد نبي وفي خلال الفترات التي كانت تعود إلى الوثنية وإلى الفكر البشري ولكنها كانت تعرف التوحيد منذ نشأة الحياة الإنسانية.
وقد تميز الإسلام عما سبقته من مفاهيم حول الله تبارك وتعالى بأنه جمع بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وأنه غاير مفهوم الوثنية ومفهوم التعدد والتثليث والشرك وغيره بأن أقر المسلم بالله تعالى رباً خالقاً وبكل ما قدر الله من أمر وهو ما تمثله عبارة القرآن في فاتحة الكتاب "إياك نعبد وإياك نستعين".
ثانياً: إثارة الشبهات حول مفهوم الاجتماع الإسلامي، في شأن ثبات القيم الأخلاقية وارتباطها بالدين والدعوة إلى هدم الأخلاق عن طريق مذاهب الوجودية الفرويدية وهدم الأسرة عن طريق مذاهب تدعي أن الأسرة ليست الفطرة وتحاول هذه المذاهب التي عرفت باسم مدرسة العلوم الاجتماعية أن تشكك في ثبات القيم الأخلاقية وارتباطها بالإنسان والدعوة إلى أخلاق متطورة تختلف باختلاف البيئات والعصور.
ويدخل في هذا تلك النظريات التي طرحها فرويد وسارتر ودوركايم.(/1)
وأخطر ما يواجه المسلمين من هذه النظريات الوافدة المطروحة في أفق الفكر الإسلامي أن يظن البعض أنها علوم ومفاهيم علمية مقررة والحقيقة أنها مجموعة من الفروض التي قدمها بعض الفلاسفة والمفكرين وأن كثيراً منها ثبت فساده وفشله وأن أبرز ما يدلل على اضطرابها هو عجزها عن العطاء أو عن الثبات مع الزمن أو البيئة وعدم صلاحيتها للتطبيق بعد قليل مما جعل أصحابها ودعاتها يغيرونها بالحذف والإضافة ومع ذلك فهي من الفكر البشري الذي لا يثبت أمام المفاهيم الربانية الحقة التي قدمها الإسلام في مجال النفس والاجتماع والأخلاق.
بل لقد تبين أن هذه النظريات الداعية إلى التحرر من القيم الأخلاقية إنما هي مفاهيم تلمودية قد صنعت بدقة في أسلوب علمي براق زائف وأن بروتوكولات صهيون كشفت عن ذلك صراحة.
وأن أغلب هذه النظريات إنما كانت موجهة في الحقيقة ضد الدين الذي عرفته أوربا والذي لم يحقق لها استجابة صحيحة مع أشواق النفس الإنسانية فحال بينها وبين ممارسة الحياة الاجتماعية الطبيعية حين فرض عليها "الرهبانية" ومن ثم كانت هذه الموجة العاتية التي يطلقون عليها ثورة الجنس للوصول إلى أقصى الطرف الآخر في الإباحية وتحرير مفاهيمهم من أغلال المفاهيم المسيحية الجامدة. وهذه القضية بجملتها ليست مطروحة في أفق الفكر الإسلامي الذي دعا دينه إلى حق المتاع الدنيوي بالطعام والمرأة في أوضاع صحيحة وضوابط كاملة دون أن يحرم الإنسان منها شيئاً.
ولقد كانت نظرية فرويد بالتفسير الجنسي للتصرفات الإنسانية موضع نقد وتجريح من علماء النفس أنفسهم فضلاً عن معارضتها للفطرة الإنسانية وقد تبين في العصر الأخير أن العامل الجنسي ليس هو المصدر الأوحد للتصرف الإنساني ولمنه واحد من عوامل كثيرة منها تأكيد الذات ومركب النقص والإيمان بالعقيدة ذلك الدافع الخطير إلى الموت في سبيل الحق.
ومن منطلق حرب اليهودية للجوييم أو للأميين كانت محاولتهم لهدم كل قيم الأخلاق والاجتماع والأسرة على النحو الذي قام به فرويد ودوركايم الذي كانت نظريته في علم الاجتماع قائمة على إنكار القواعد الأخلاقية والدينية التي قررها الدين الحق وإنكار فطرة الدين والأسرة والزواج ودوركايم هو الذي روج للنظرية القائلة بأن الدين لم ينزل من السماء وإنما خرج من الجماعة نفسها وهو يدعو إلى ما يسمى بالعقل الجمعي الذي ينكر مسؤولية الإنسان عن عمله والتزامه الأخلاقي الذي هو مصدر الحساب والجزاء الأخروي، كما أنه ينفي القداسة عن الدين والأخلاق والأسرة ويشكك فيها ويدعو إلى تحطيم الدين لأنه يعوق التطور، هذه الأفكار المسمومة التي روجتها التلمودية والفقكر الغربي بعد أن سقط أسيراً للتلمودية، يحاولون الآن طرحها في أفق الفكر الإسلامي لإخراجه عن فطرته وذاتيته ومفهومه الرباني الجامع القائم على التوحيد والرحمة والإخاء البشري.
ولعل من أخطر ما يواجه اليقظة الإسلامية في مطلع القرن الخامس عشر الهجري هو هذه التحديات التي تتصل بالمجتمع والأسرة والطفل والمرأة، المستمدة من هذه النظرة المادية الخالصة التي يقوم علم الاجتماع وعلم النفس كما يدرس الآن في الجامعات حيث ينشئ أجيالاً تقوم عقليتها على أساس النظرة المادية الخالصة إلى الإنسان وحيث تنظر في سخرية وامتعاض إلى الأخلاق والدين والأسرة. ونرى أن هذا الذي تعلمه ليس مجرد نظريات لها مقابل في الفكر الإسلامي أكثر أصالة وأعمق نظرة بل هو من الحقائق العلمية والمسلمات التي لا مرد لها، بينما هي لا تعرف وجه الحقيقة بالنسبة لمفهوم الإسلام الحق الذي هو فطرة الله. فطرة الله التي فطر الناس عليها وهو المفهوم الذي يقرر أن الإنسان روح وجسد وعقل وقلب وأنه لا يمكن تفسيره عن طريق المذاهب المادية التي تعامله كالحيوان أو المناهج التجريبية التي تعامله كالمادة الصماء. ولاريب أن نظرية دوركايم في علم الاجتماع حين تلتقي بنظرية فرويد في علم النفس ونظرية ماركس في الاقتصاد من شأنها أن تشكل إنساناً مضطرباً مزعزع الوجدان.
ومن عجب أن تبرز هذه المفاهيم في مختلف مجالات الثقافة والتعليم والصحافة بينما تختفي مفاهيم الإسلام في النفس والأخلاق وتتضائل ولا تعرض حتى على أنها وجهة نظر الأمة التي تواجه تلك القضايا والتحديات بل لعله في الحقيقة ليس هناك مفهوم أعمق وأصدق من هذا المفهوم الإسلامي وأن مفهوم الغرب كان مصدر الكارثة التي تحل بالبشرية اليوم لا نفصاله عن الفطرة والعلم ودعوته إلى الانشطارية بين الروح والمادة والعقل والقلب وهو مصدر التمزق والغثيان والغربة التي هي أزمة الحضارة الغربية المعاصرة.
ثالثاً: من أخطر التحديات التي تواجه الفكر الإسلامي ما طرحه الوافد في أفقه من تفسيرات غربية وماركسية وصهيونية وهي جميعها تفسيرات مضللة مستمدة من التفسير المادي للتاريخ الذي طرحه إنجلز وماركس وهو مفهوم ناقص لأنه يتجاهل عوامل كثيرة لها أثرها في توجيه التاريخ.(/2)
إن تفسير التاريخ الإسلامي عن طريق مناهج التفسير الغربي هو بمثابة عجز عن النظرة الصحيحة لحركات ووقائع التاريخ الإسلامي فقد قاس الكتاب الغربيون الوقائع الإسلامية على ظروف الامبراطورية الرومانية وغيرها مع اختلاف الظروف والمقاييس.
كذلك فقد كانت نظرة الغربيين إلى تاريخ الإسلام ناقصة وقاصرة لأنها صدرت عن ذلك الاعتبار الخاطئ بأن تاريخ الغرب هو تاريخ البشرية وأن ما عدا ذلك ليس تاريخاً ولا يدخل إلى ساحة المقاييس أو الصورة العامة.
وأشد أنواع الخطأ هي فكرة "الحتمية" التاريخية و "الجبرية" الاجتماعية التي يجرى تطبيقها على التاريخ الأوربي، وأشد ما عجزت عنه تفسيرات الغربيين للإسلام هي عجزهم عن فهم ذلك الجانب المعنوي والروحي: والوحي والنبوة والرسالة السماوية وما يتصل بها من بناء القوة القادرة بإيمانها على هزيمة القوة المادية التي هي أكبر منها عدة وعدداً؟
وتتمثل المعالجة الغربية الظالمة لتاريخ الإسلام في أن علماء الغرب فرضوا التقسيم الغربي للعصور التاريخية على تاريخ العالم وتعميم مقايستهم فيها، فالعصور الوسطى مثلاً هي عصور الظلام في رأيهم ما دامت أوربا كانت في الظلام متجاهلين الحضارة العربية الإسلامية التي كانت متألقة في تلك العصور وتاريخ أفريقيا السوداء يبدأ عندهم حينما دخلها الرحالة الأوروبيون، أما قبل ذلك فليس لها تاريخ، وتمتد هذه النظرة إلى الفكر العالمي الذي هو عندهم الفكر الغربي.
وقد تجسدت هذه النظرة في نظريات ولدت في الغرب قسمت شعوب العرب إلى فئات: دماء بعضها نقية زرقاء، ودماء بعضها الآخر سوداء، وإلى أجناس عليا وأجناس دنيا.
ومن منطلق التفسير المادي للتاريخ عجز المؤرخون الأوروبيون عن تفسير الأحداث الكبرى في تاريخ الإسلام وخاصة تفسير سرعة انتشار الإسلام فما زالوا يقيسون ذلك بالمقياس المادي وكذلك انتصار المسلمين بالعدد الأقل على الروم والفرس بالأعداد الضخمة وهم يسقطون من حسابهم القوة المعنوية: قوة الإيمان التي هي في تقدير التفسير الإسلامي للتاريخ عامل مواز إن لم يكن أهم من القوة المادية.
كذلك فقد عجز كتاب الغرب ومؤرخوه عن ضبط النفس في تقدير المواقف المشتركة كمعركة بواتيه والحروب الصليبية والاستعمار الحديث فانحرفوا في تفسيرها مع أهوائهم ومع غرورهم واستعلائهم وبروح الاحتقار والانتقاص للشعوب الضعيفة والمستعمرة.
وكما حمل التفسير المسيحي للتاريخ روح الخصومة، كذلك حمل التفسير الصهيوني للتاريخ الإسلامي روح الحقد، وكان التفسير الماركسي للتاريخ أكثر حقداً وخصومة، وقد عملت هذه التفسيرات على إعلاء شأن الحضارات القديمة والأديان الوثنية السابقة للإسلام أو الإدعاء بأن العرب كانوا ناهضين ومتحضرين ولم يكن ينقصهم إلا قائد لينهضوا ونسوا أن العرب حاربوا الرسول ثلاثة عشر عاماً ووقفوا بالخصومة إزاء كلمة الإسلام حتى فتح الله لها أفقاً جديداً في يثرب.
رابعاً: الدعوة إلى إثارة العصبية والعنصرية وإعلاء الأجناس البيضاء وذلك في محاولة لفرض النفوذ الاستعماري الغربي على الأمم الملونة والقول بوصاية زائفة للجنس الأبيض على العالم والبشرية.
كما عمدوا إلى إذكاء رياح الدعوة إلى الإقليمات والقوميات الضيقة للقضاء على روح الوحدة الإسلامية الجامعة بين الدول الإسلامية والعربية والتي كانت تجمعها تحت راية الخلافة الإسلامية سواء منها ما كان تابعاً للدولة العثمانية (كالعرب والترك) أو بقية البلاد الإسلامية التي كانت تدين بالولاء للخليفة المسلم أمام المسلمين.
ولقد حملت دعوات الإقليمية والقومية رياح العصبية والعنصرية الغربية وكانت محاولة خطيرة لوضع الحواجز التي تجمعها رابطة العقيدة والثقافة والتوحيد.
ولقد استهدفت هذه الدعوة في البلاد العربية إلى إعلاء طابع الاستعلاء الجنسي المغلق في مواجهة الأمم الإسلامية، وخلق طابع الانعزال والانفصال الكاملين في التاريخ والتراث والمقومات الإسلامية واستهدفت كذلك خلق وجود معاصر منفصل تماماً عن الإسلام وعن العالم الإسلامي متصل بالغرب في تفسيراته وطوبعه.
لقد كان هدف هذه الدعوة إعلاء شأن القوميات حتى في الأمم الإسلامية ذاتها فضلاً عن فصل هذه الأمم عن الفكر الإسلامي وفصل العرب عن الامتداد الإسلامي.(/3)
خامساً: من أخطر التحديات التي واجهت الفكر الإسلامي إحياء الماضي السابق للإسلام في البلاد العربية والإسلامية جميعاً، كالدعوة إلى الفرعونية والفينيقية والآشورية والبابلية في البلاد العربية وإحياء تراث كورش في إيران أو الهندوكية في البلاد الهندية الإسلامية وغيرها في باقي أجزاء العالم الإسلامي. كمحاولة لإحياء تاريخ ما قبل الإسلام وحضارته وتراثه الوثني وتجديده. وقد جرت هذه الدعوات شوطاً في محاولة من النفوذ الأجنبي للقضاء على الذاتية الإسلامية ولكن الأمر لم يلبث أن تكشف عن عجز كامل في تحقيق عودة المسلمين إلى تاريخ ما قبل الإسلام على أي نحو من الأنحاء وتبين أن دعوة الإسلام بالتوحيد الخالص خلال أربعة عشر قرناً قد أنشأت كياناً فكرياً وروحياً واجتماعياً قوياً عميق الجذور لا يمكن هدمه أو النيل منه وأن هناك ما عرفه علماء التاريخ بالانقطاع الحضاري بين ما قبل الإسلام وما بعده في جميع البلاد التي دخلها الإسلام وأنه في مقابل هذا "الانقطاع الحضاري" فإن هناك ما يسمى بالاستمرارية الحنيفية الإبراهيمية القائمة الآن في البلاد العربية والإسلامية والممتدة منذ دعوة إبراهيم إلى دعوة محمد صلى الله عليه وسلم والممتدة عبر الديانتين المنزلتين على موسى وعيسى عليهما السلام وأن هذه الانقطاعية بين الدعوة الحنيفية في تلك المناطق جميعاً قد اشتملت على الفكر والثقافة والعقيدة بالرغم من معالم المدنية الحضارية المادية، وتؤكد المصادر كلها على وجود الأرضية العربية السابقة للإسلام في مصر والعراق وسوريا وأن الفينيقية والآشورية والفرعونية والبربرية وغيرها هي موجات خرجت من الجزيرة العربية واندلحت في هذه المنطقة شرقاً وغرباً وكانت توسيداً للموجة الإسلامية العربية الكبرى بعد الإسلام واستكمالاً لها.
وقد تبين لدعاة هذه الحضارات الفارسية والفرعونية والفينيقية وغيرها أنه لا توجد أرضية يمكن البدء منها سواء أكانت هذه الأرضية تراثاً ثقافياً أو لغوياً أو دينياً وأن هذه الجذور القديمة للغات السريانية والقبطية والعبرية وغيرها قد زالت وانتهت ولم يبق منها شيء وقد غلب عليها طابع التوحيد الخالص بمفاهيمه القرآنية الخالصة.
سادساً: جرت المحاولات لإحياء التراث الجاهلي والوثني تحت اسم الفلكور او الأدب الشعبي وهي إحدى المحاولات التي استهدفت التأثير في نصاعة الفكر الإسلامي وروحه وربانيته القرآنية الخالصة، بإعلاء تلك الصور الساذجة التافهة من الأزجال والأغاني والمواويل والأمثال العامية والوثنية البائدة التي تتعارض مع سمو التراث الإسلامي العربي القائم على البيان العربي البليغ والمضمون السامي وقد انتشرت هذه الدعوة في السنوات الأخيرة وشملت أقطاراً عربية وإسلامية عديدة وخدعت كثيراً من البسطاء والسذج والإغرار في مجال اللهو والتسلية في محاولة لخداع الجماهير بأساليب تحمل طابع الرقص والغناء والاستعراضات المسرحية لإحياء التراث الجاهلي والوثني الذي قضى عليه الإسلام قضاءً تاماً واعتبره من سقط المتاع وحطمه تحطيماً لأنه يتعارض مع مفهوم التوحيد الخالص ومن دعوة الإسلام للخروج من طفولة الإنسانية والمفاهيم الجاهلية والبدوية الجافة والساذجة القائمة على الأساطير والخرافات وحيل العرافين وأكاذيب الدجالين إلى مفهوم أصيل في الإيمان بالله والتعرف على آياته في الكون والثقة بأن الغيب لله تبارك وتعالى.
والهدف معروف هو تغليب العامية والأساطير والقصص الشعبي والأغاني الساذجة والأمثال العامية على البيان القرآني وبلاغة السنة والأدب الصادق والفن الرفيع والفكرة الإنسانية، ارتداداً بالعقول والنفوس التي رفعها التوحيد إلى ذروة الإيمان بالله إلى سذاجة الخرافة وفساد طفولة البشرية وابتعاداً عن الذوق العربي الإسلامي المتسامي بالقرآن الكريم والحديث النبوي والأدب العربي في بلاغته والحكمة الإسلامية في فصاحتها وارتفاعها عن التدني والحيوانية والفساد. نعم. إذابة الذوق الإسلامي العالمي في ألوان ضعيفة ساذجة وثنية تقلل من قدر بيان القرآن وترد الناس إلى مستوى ضعيف يقطع الصلة بمستوى الثقافة الرفيع الذي خلقه القرآن وخلقته السنة ولاريب أن هذا واحداً من أهداف الدعوة إلى العامية كما سيجيء.
سابعاً: العمل على تبني دعوات ضالة كالقاديانية والبهائية والإدعاء بأنها من حركات النهضة الإسلامية كذباً وبهتاناً واستعمالها لضرب الإسلام من الداخل.(/4)
وتعمل القوى التغريبية جميعاً ممثلة في الاستشراق والتبشير والغزو الثقافي عن طريق الصحافة والثقافة والمدرسة إلى تبني هذه الحركات الهدامة واحتضانها وخداع البلاد الإسلامية ومن يعالج هاتين الدعوتين المبطلتين البهائية والقاديانية يعرف أنهما استهدفتا ضرب حركة اليقظة الإسلامية التي كانت قد قطعت مرحلة كبيرة في طريق التماس المنابع الأصلية وجوهر الإسلامك بمفهوم التوحيد الخالص وإن كلا الحركتين قد نشأ في أحضان النفوذ الأجنبي واستهدف ضرب الإسلام في أعظم قيمه الأساسية وهي فريضة الجهاد. وقد كشفت الأبحاث التاريخية عن علاقة أكيدة بين هاتين الدعوتين وبينل الاستعمار والصهيونية والهندوكية.
وأنهما حاولتا بث الفتنة وزعزعة العقائد وإثارة الشبهات وإضعاف شوكة المسلمين وتثبيط عزائمهم في المكافحة ضد النفوذ الأجنبي والكيد للإسلام. وتضليل المسلمين عن حقيقة عقيدتهم وتفريق وحدتهم. ولم يعد هناك ريب في أن هذه الطوائف الدخيلة تلقى المعونة والتوجيه من المستعمرين والقوى المعادية للإسلام تحت اسم ما يسمونه "حرب الإسلام من الداخل".
وقد واجه رجال اليقظة الإسلامية كلتا الدعوتين منذ اليوم الأول وكشفوا عن فسادهما وزيف فكرهما وسمومهما التي خدعت بعض المسلمين ولاريب أن الدارس للبهائية يجد هدف تقويض الإسلام من الداخل واضحاً في مخططاتها وتاريخها كله، ويجدها واضحة العلاقة بالركام الباطني القديم مجددة إياه في أسلوب حديث براق. يغرري بعض السذج من أبناء أمتنا الذين لم يستكملوا تعليمهم الديني والخلقي. فضلاً عن الارتباط بالصهيونية التلمودية كثمرة من ثماء البروتوكولات ومن هنا كانت دعوتها إلى دين بشري تنصهر فيه الأديان السماوية.
ثامناً: محاولة إحياء الفكر الباطني والوثني والإباحي عن طريق إحياء الفلسفات اليونانية والمسرحية الإغريقية والأساطير البابلية والفكر الغنوصي وكانت بعض هذه الوثنيات قد ترجمت إبان العصر العباسي وأدخلت إلى مفهوم الإسلام كثيراً من البلبلة والاضطراب وقد واجهها الإسلام مواجهة صارمة وكشفوا زيفها وردوها وبينوا أن الفلسفات اليونانية ليست إلا علم الأصنام القديم وهاجموا كلا النظريتين:
اليونانية الهلينية القائمة على الحس وعبادة الجسد والإباحية.
الغنوصية الشرقية القائمة على الحدس والإشراق وغيرها.
وقد تجددي المحاولة في العصر الحديث مرة أخرى في النيل من الإسلام وإعادة طرح هذه المفاهيم مرة أخرى بإحياء هذا التراث وتجديد شبهات الفلسفات والفكر الباطني والتصوف الفلسفي والاعتزال والمجوسية وغيرها لإغراق شباب المسلمين في هذه السموم وحتى يحال بينهم وبين مفهوم التوحيد الخالص بما يؤدي إلى توهين روح الصمود في نفوس المسلمين وتفسيخ القيم الخلقية الإسلامية بادعوة إلى إذاعة المجون والمجاهرة بالخلاعة والانحراف الجنسي وهو نفس الأسلوب الذي اتخذته حركة احتواء الإسلام، كان ذلك في الماضي لحساب المجوسية الفارسية ولتمكين القرامطة والباطنية من السيطرة على الدولة الإسلامية واليوم يجرى نفس المخطط لحساب الصهيونية والاستعمار والشيوعية.
تاسعاً: محاولة إخراج اللغة العربية من مفهومها الذي تختلف فيه عن اللغات بوصفها لغة القرآن، وفرض مناهج في علم اللغات للتحكم فيها وتصويرها بأنها لغة قومية فحسب، أي لغة أمة، وإذا كان هذا كمنهج علمي لكل لغات العالم فإنه يعجز عن إقرار ذلك بالنسبة إلى اللغة العربية لأنها إلى جانب أنها لغة أمة، فهي لغة فكر وثقافة وحضارة ودين، وأنها تتصل بمليار من المسلمين يعبدون الله بها ويقرأون بها القرآن الحديث.
ولاريب أن هجف الحملة على اللغة العربية هو خلق عامية تقضي على لغة الفرآن وتمزق وحدة الفكر الإسلامي.
ومن هنا تسقط كل محاولات الفكر الوافد في إثارة الشبهات حول اللغة العربية ومقارنتها باللغة اللاتينية التي ماتت ودخلت المتحف، بعد أن تفرعت منها لهجات إقليمية. وليس مثل هذا يمكن أن يحدث للغة العربية التي ما زال القرآن يظاهرها ويجعل ما كتبت به منذ أربعة عشر قرناً مقروءاً إلى اليوم بينما لم يحدث ذلك مطلقاً لأية لغة من اللغات الحية التي تتغير كل بضعة قرون. فإمرؤ القيس السابق للإسلام نقرأه نحن الآن ونفهمه بينما شكسبير لا يفهمه قومه وقد مضى عليه ثلاثمائة عام تقريباً، وهذه الظاهرة تجعل اللغة العربية أكبر من أن تخضع لعلم اللغات الذي يحاول أن يحكم على كل اللغات بظواهر عامة مشتركة.(/5)
وقد كانت اللغة العربية بطبيعة تركيبها وتميزها بالقدرة على الاشتقاق والتوالد عاملاً هاماً في مكانتها. وقد وصفها (أرنست رينان) بأنها خلافاً لكل اللغات ظهرت فجأة في غاية الكمال غنية أي غنى بحيث لم يدخل عليها حتى يومنا هذا أي تعديل مهم فليس لها طفولة ولا شيخوخة وأنها ظهرت في أول أمرها تامة مستحكمة ومن خلال هذا بالفهم علينا أن نواجه التحديات التي يطرحها التغريب من القول بتطوير اللغة أو إعلاء شأن العاميات أو الإدعاء بأنها لغة خاصة بأصحابها ونفهم أن هذه كلها محاولات ترمي إلى:
أولاً: عزل المسلمين عن العرب وعزل العرب عن الوحدة الكاملة بينهم.
ثانياً: عزل المسلمين عن العرب على مستوى البيان في القرآن الكريم.
ولاريب أن اللغة العربية جديرة بأن تبقى دائماً في مستوى بيان القرآن الكريم وأن يرتفع الناس إليها ولاريب أن الدعوة إلى إقامة لغة وسطى بين الفصحى والعامية هي إحدى محاولات الغزو الكفري وليس لها هدف إلا إنزال اللغة العربية درجة عن كيانها الذي يرتبط ببلاغة القرآن وبذلك تنهدم ركيزة من ركائز الإسلام وهي حجب المسلمين وعن فهم القرآن واستيعابه وهو أمر خطير وهام ويحتاج إلى دوام المحافظة على بلاغة اللغة وروحها، فاللغة أساساً هي فكر الأمة والعربية الفصحى مرتبطة بذاتية الإسلام ومزاجه النفسي والاجتماعي.
عاشراً: الدعوة إلى إحياء الحضارات التي سبقت الإسلام وإعادة عرض الوثنيات والفسلفات والخرافات والأوهام. وتلك محاولة ماكرة مضللة ولكنها فاسدة فقد استطاع الإسلام خلال أربعة عشر قرناً أن يقيم منهجاً عقلياً وروحياً وأن ينشئ مزاجاً نفسياً وذوقاً خالصاً مرتبطاً بالتوحيد والقرآن ومتصلاً بأسباب الإيمان بالله له ضوؤه الباهر الذي لا تستطيع الظلمات أن تقهره.
حادي عشر: الدعوة إلى ما يسمى بالأدب العربي المعاصر، والفكر العربي المعاصر، والثقافة العربية المعاصرة، على أن تبدأ هذه الدراسات منذ حملة نابليون وربطها بالإرساليات والنفوذ الأجنبي كأنما هي من معطياته، وهي محاولة ماكرة تهدف إلى اجتثاث الفكر والأدب والثقافة (العربية والإسلام) من أصولها والفصل بين حاضر العرب والمسلمين وبين ماضيهم، وخلق ثقافة "لقيطة" لا جذور لها بل إن هناك محاولة مضللة تهدف إلى الحيلولة دون ربط الأدب أو الفكر أو الثقافة بتاريخها القديم وماضيها العريق.
ومن الحق أن اليقظة الإسلامية المعاصرة في الفكر والأدب والثقافة جميعاً بدأت من دائرة القرآن وأن جميع الحركات الوطنية والقومية إنما استمدت قوتها من مصادر الإسلام وأنه لا سبيل إلى بناء أدب حديث أو فكر أو ثقافة منفصلاً عن اللغة العربية والإسلام.
ثاني عشر: محاولة الإدعاء بأن منطقة البحر الأبيض المتوسط شهدت حضارة واحدة هي التي بدأها الفراعنة والفينيقيون ونماها الإغريق والرومان، ثم أتمها الأوروبيون المعاصرون وأن دور العرب في هذه الحضارة كان دوراً ثانوياً، والحقيقة أن هناك حضارتين لكل منهما طابعه المميز وهما حضارة التوحيد وحضارة الوثنية. وأن الإسلام هو صانع الحضارة التي استمت بهذا المفهوم في مواجهة حضارات بدأت بمفاهيم الوثنية وانتهت بمفاهيم المادية وكانت في مختلف مراحلها معارضة للحق والعدل والرحمة والأخلاق فكانت تضرب واحدة بعد الأخرى وتسقط لأنها تعارض سنن الله في الكون.
ثالث عشر: محاولة لقاء بذور الشبهات حول صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق في العصر الحديث والإدعاء بأنها شريعة صحراوية موقوتة بعصرها وبيئتها. وكل الدلائل العلمية والتاريخية تكذب هذا الإدعاء وأقربها مؤتمرات القانون الدولي 1931 م، 1937 م، 1952 م وكلها أشارت إلى أن الشريعة الإسلامية شريعة مستقلة لها كيانها الخاص وأنها تحمل منهجاً إنسانياً لم تصل إليها البشرية بعد وتجرى المحاولة التي يفرضها النفوذ الغربي بالدعوة إلى ما يسمى تطوير الشريعة ووضعها موضع الاحتواء من القانون الوضعي.
رابع عشر: استطاعت القوى الاستعمارية فرض نظام الاقتصاد الغربي في أغلب أجزاء العالم الإسلامي وهو نظام قائم على أساس الربا ومعارض أصلاً لمنهج الشريعة الإسلامية ولقد قامت حركة اليقظة الإسلامية بدراسات وساعة للكشف عن فساد نظام الربا والاقتصاد الغربي وجرت محاولات متعددة لإقامة المصرف الإسلامي على غير أساس الربا والعمل على وضع نظام تحرير المسلمين من قيود النظام الاقتصادي الوافد والكشف عن عظمة الفكر الاقتصادي الإسلامي.(/6)
الفكر البشري القديم
الأستاذ أنور الجندي
المؤامرة الخطيرة التي تواجه الفكر الإسلامي في العصر الحديث، هي محاولة قوى التغريب (الاستشراق والتبشير) إعادة طرح الفكر البشري القديم الوثني والإباحي مرة أخرى، لتزييف هذا الفكر الرباني وتمييعه واحتوائه.ولقد كان الفكر الإسلامي دائماً متفتحاً لثمرات الفكر الإنساني، ولكنه كان قادراً حتى في أشد مراحل الضعف والتخلف على المحافظة على ذاتيته، والحيلولة دون انصهاره في الفكر الأممي، ذلك لأن مقوماته الأصلية وقيامه أساساً على التوحيد، حال دائماً دون هذا الانصهار وهذا الاحتواء الذي فرضه الغزو الخارجي عليه.
بين جولتين:
وقد كان الفكر الإسلامي في الجولة الأولى (إبان ترجمة علوم اليونان والفرس والهنود) في نهاية القرن الأول وبدلية القرن الثاني وحتى الثالث، قادراً على أن يتوقف دون ترجمة الفسلفة والقانون والشعر أول الأمر، ثم لما ترجمت الفلسفات واجهها علماء المسلمين في قوة، وكشفوا أن منهجها لا يتفق مع منهج التوحيد.
أما في الجولة الثانية (هذا العصر) فقد استطاع النفوذ الأجنبي أن يفرض ترجمات كل ركام الفكر البشري ووثنياته وإباحياته، نمن أساطير وشعر وفلسفات مادية، دون أن يكون هناك حائل لذلك، وأن تمكن أعلام حركة اليقظة الإسلامية من كشف زيف هذا الركام البشري.
ولقد كان هدف دعاة الغزو الفكري من هذه الخطة إعادة الفكر إلى الإيمان بالجبر، وعودة الإنسان إلى الوثنية، والدعوة الملحة إلى الانطلاق من القيم والتحرر من الأخلاق إلى حيوانية الطعام والجنس.
أخطر ما طرح في أفق الإسلام:
ولعل أخطر ما طرح في الفكر البشري في أفق الإسلام في العصر الحديث:
النظريات المادية الماركسية.
الأخطار الفلسفية والوجودية.
الكشوف الأنثروبويولوجية التي دعت إلى استغلال الأسطورة في تفسير الحياة الإنسانية.
المذاهب الفلسفية التي ردت الإنسان إلى الحيوانية.
نظرية دارون.
مقارنات الأديان التي تقوم على أكذوبة أن البشرية كانت وثنية ثم اعتنقت التوحيد مع ظهور اليهودية.
ولقد دعا الإسلام معتنقيه إلى اليقظة تجاه الفكر الوافد وحرر أتباعه من التأثير الأجنبي بكل أنواعه، ودعا إلى الحرص إزاء محاولة إدعاء الإسلام تغيير المعالم الأصلية للعقيدة الإسلامية وللفكر والثقافة ومحاولة تزييف مزاج المسلمين النفسي.
وكان أعداء الإسلام يعلمون أن الطريق الوحيد إلى القضاء على "وحدة الفكر الإسلامي" هو ضرب الأمة من خلال قوائم فكرها بإثارة الشبهات وإدخال مفاهيم وتفسيرات غربية تختلف عن التفسيرات الأصلية.
وميزة الفكر الإسلامي:
كذلك كان من أكبر ميزات الفكر الإسلامي، هي قدرته الواضحة على التماس المنابع حين يفتقد النص القرآني أو التوجيه النبوي، فهو حين يتفتح على الثقافات العالية يأخذ منها بحذر ولا يأخذ كل شيء، ويرد الباقي من السيل المتدفق الذي يقدم إليه، فهو لا يأخذ إلا ما يتفق مع الأساليب والوسائل لا الأصول، وما يتفق مع طابعه وما يزيده قوة وكل ما يأخذه يصهره في بوتقته صهراً تاماً ويحيله إلى طابعه.
ولقد كان الفكر الإسلامي ولا يزال – وسيظل – قادراً على أن يعمل داخل الإطار الذي رسمه القرآن وحدده وأن يحكم المسلمون على كل ما يواجههم في ضوء القرآن والسنة لا يتعداهما إلى مصدر آخر.
وفي هذا بالمجال فرق الفكر الإسلاتمي بين المعرفة والثقافة، فالمعرفة عامة والثقافة خاصة، ولكل أمة ثقافتها المستمدة من عقيدتها وشريعتها وأخلاقها كذلك فرق بين العارض والأساسي، وبين لالمعارف الجوهرية والمعارف غير الجوهرية، ودعا إلى وحدة الفكر في قطاعاته المختلفة فلا سبيل لفهم قطاع من الفكر الإسلامي وحده منفصلاً عن قطاعاته الأخرى.
كما فرق بين مقاييس العلوم التجريبية، ومقاييس الدراسات الإنسانية التي لا يمكن أن تخضع لأساليب العلوم التجريبية والمادية، لأنها تتصل بالنفوس والأخلاق، كما رفض الفكر الإسلامي مبدأ التقليد الأعمى ومبدأ التبعية وأقر مبدأ الأصالة والتماس المنابع.
تكامل أبعاد الفكر الإسلامي:
وقد قام الفكر الإسلامي في تكامله على أبعاد ثلاثة:
أولاً: عمق زمني: يربط الإنسان بالتاريخ والزمن والواقع وقضايا الحياة.
ثانياً: اتساع مكاني: يربطه بالأحداث العالمية في العالم المحيط به "وهذا هو الشطر الذي يعتبره الفكر الغربي الحديث أساساً وحيداً للفكر" أما الإسلام فإنه يعترف بعلاقة البيئة ولكنه لا يراها العلاقة الوحيدة.
ثالثاً: تكامل موضعي بمعنى وضع الجزء في مكانه من النظرة الكلية الجامعة.
وقد عارض الفكر الإسلامي: "الجمود" الذي يزري بقيمة العقل ويحط من كرامة الإنسان.
وعارض التعصب: الذي يمنع الإنسان من تقليب وجهات النظر المختلفة.
كما عارض التقليد: الذي يجعل الإنسان تابعاً للقديم أو الوافد دون فحص أو تمحيص.(/1)
ثم إن الفكر الإسلامي يعارض كل ما يصادم قوانين الكون ونواميس الوجود والحياة ويرى أن كل شيء يبدأ من نقطة ثابتة وينتهي إليها (حركة في إطار الثبات) وأن كل شيء يبدأ صغيراً ثم ينمو حتى يكتمل ثم يعود مرة أخرى (كالطفل والقمر).
وقد رفض الفكر الإسلامي المنطق اليوناني الذي يقوم على القياس والاستدلال النظري وأقام منطقاً جديداً مستمداً من خصائصه وهو المنهج الحسي التجريبي، وأعلن أن القياس المنطقي ليس كافياً وحده في إقامة النظريات خاصة التي تعارضت مع واقع التاريخ، وان الاستشهاد بوقائع غامضة من التاريخ – كما فعلت نظرية ماركس المادية – هو أيضاً زيف.
بين الفكر واللغة:
وأسوأ انواع القياس: القياس الفاسد لا تؤيده حقيقة علمية وكشف الفكر الإسلامي عمق الارتباط بين الفكر واللغة وأن "منهج البحث" لأي فكر هو ما يطلق عيله لأنينا اسمن "الأورجانون" يستند أساساً إلى خصائص اللغة ولذلك فإن منهج المعرفة الإسلامي لا يمكن أن يستند إلى خصائص لغة غير اللغة العربية، ذلك لأن لكل لغة منهجها القائم على معانيها ومضامينها، وقد هاجم المسلمون المنهج الأسرسطي، وكشفوا عن أنه قائم على خصائص اللغة اليونانية التي تخالف اللغة العربية، ولذلك فهم لا يقبلون به.
كذلك الأمر بالنسبة إلى المنهج الغربي الوافد ذلك أن الفكر الإسلامي لا يستطيع أن ينطلق إلا من خلال منهج البحث الخاص به المستمد من اللغة العربية أولاً.
كما أعلن عن أن كل نظرية أو مذهب قامت أو قام في مجتمع ما. إنما أقامها أهلها على مقياس مجتمعهم. وفي ظل تحدياته الواقعية والتاريخية معاً. فهي ليست سوى استجابة ظرف وبيئة. وكذلك فهي سرعان ما تتحول مع مرور الزمن إلى أداة عاجزة عن تحقيق الهدف فيضاف إليها ويحذف منها. ولذلك فإن نقلها في حد ذاته إلى بيئات أخرى لا يحقق نتيجة ما، لأنها كالبذر الغريب، لا ينبت في غير تربته، ولقد كان المفكرون المسلمون على يقظة تامة إزاء هذا الملحظ الدقيق.
الديمقراطية والماركسية في أفق الإسلام:
ولقد كان لطرح المذهبين: الديمقارطي والماركسي في أفق الفكر الإسلامي، أبعد الأثر في الاضطرابات التي أصابت المجتمع الإسلامي خلال القرن الماضي؟، فقد اقتسم المذهبان مؤامرة الهدم.
فاحتضنت الماركسية هدم الدين والعقائد والتشكيك في القيم الإنسانية والنفسية والمعنوية.
واحتضنت الديمقراطية هدم الأخلاق ونشر الإباحية والتحلل وتوجيه السلوك توجيهاً يعلي شأن الغريزة وانطلاق العاطفة والشهوات والأهواء.
وقد تبين أن جميع أنظمة الغرب، لليهودية العالمية أصبع في وضعها أو في احتوائها أو تعديلها وتفسيرها وتشرها. وقد خضعت إما لمصلحة أصحاب رءوس الأموال، وإما لمصلحة طائفة أخرى من أهل النفوذ والسلطان. والنظام اليهودي، قائم على تبادل المنفعة، والقانون عندهم هو الذي يتمشى مع القانون ولا تعاقب عليه المحاكم. أما النظام الإسلامي فهو قائم على مبدأ "الإيثار المتقابل".
وقد تبين للفكر الإسلامي أن المذهبية الفردي والماركسي يتقاربان في عديد من وجهات النظر، بل إنهما يقومان فعلاً على مفهوم التفسير المادي للتاريخ الذي أوشك أن يكون أساساً للرأسمالية والماركسية معاً وإن كان الغرب لا يعتمدها وحدها في تفسير الوقائع ويضيف إليها التحليل النفسي الفرويدي (أي ماركس وفرويد معاً).
وقد ظهرت نزعات العنصرية تحت اسم القوميات، كمقدمة لظهور العنصرية اليهودية، وكانت اليهودية العالمية تحمل لواء الرأسمالية والاشتراكية معاً، وهي التي خلقت الصراعات والمعارك بين الأمم تحت هذا اللواء أو ذاك، وهي التي حملت النظرية المادية في الغرب والنظرية الإشراقية في الشرق، ومن وراء الهيبز والبوذيين في نفس الوقت، ودعوات العلمانية والبيوصوفية جميعاً.
وهي التي قامت من وراء الروحية الحديثة التي تدعو إلى ظهور إله جديد اسمه "سلفريرش" ومن وراء العقلانية التي تنكر كل ما وراء الحس، وهي التي دعت إلى أن الجنس عملية بيولوجية لا علاقة لها بالأخلاق، وأن الدين شخصي لا علاقة له بواقع الحياة، في محاولة لهدم الأسرة والأخلاق، وأن القول بأنه لا علاقة بين اللباس والأخلاق، أو أن المجرم مريض، وليس مذنباً، أو السخرية بعفاف المرأة والبكارة في محاولة لدفع البشرية كلها إلى الوثنية والإباحية.
وهكذا يطغي الفكر البشري في هذا العصر مكتسحاً مفاهيم الخلق والدين والرحمة والكرامة الإنسانية ولم تعد هناك قوة قادرة على مواجهته وصد موجته غير الإسلام: دين الله الحق الباقي، على حمل رسالة التوحيد الخالص إلى العالمين.
إثارة الشبهات حول الإسلام:
ولقد حاولت قوى التغريب والغزو الفكري إثارة الشبهات حول الفكر الإسلامي وانتقاصه بدعاوي عدة: منها... أولاً: وصف الفكر الإسلامي بالذرية (أي بالتجزئة والانفصال).(/2)
وهذا خطأ محض، لأن الإسلام إنما يقوم أساساً على التكامل وعلى التقاء العناصر المختلفة في كل موحد وهو في هذا يختلف عن الفكر الغربي القائم على الانشطارية أساساً وعلى الفصل بين الدين والدولة، بين الدين والآخرة، والذي يعلي من شأن المادية.
وقد استمد شبهة الذرية من إنتاج مرحلة الضعف والتخلف، حين علت نزعة جبرية الصوفية ومن قبلها علت نزعة عقلانية الاعتزال، وكلاهما لا يمثل السلام، وبحكم الإسلام بأحدهما وإنما يحاكم لمفهومه الأصيل في عصر قوته وهو المفهوم الجامع الذي يقوم عل أساس ترابط القيم والعناصر، وربما ارتبطت صفة الذرية بالعقل حين يعجز عن النظرة الكلية، التي تلتمس الأبعاد الكاملة ولكنها في الواقع تتعارض مع مفهوم الفكر الإسلامي المستمد من جوهر الإسلام والقائم على التكامل والسطية.
ثانياً: القول بأن الفكر الإسلامي فكر تجريدي..
وهذا خطأ محض، وأمامنا ثمرات الفقه والتشريع والعلوم كلها تكذب هذه النظرية فإن الأصول كلها ترينا واقعية الفكر الإسلامي، وكيف أنه يتناول كل حادث يقع في حينه، ثم يتناوله بالبحث ويضع له الحلول، بل إن الفكر الإسلامي أكثر إيغالاً في الواقعية من الفكر الغربي حيث يتناول الفقه مفردات الحياة اليومية ولا يقتصر على مسائل العبادات كما هو في بعض الأديان.
ثالثاً: وصفه بالضعف وأنه مثل التولستوية أو الغاندية ذات طابع الاستسلام، ولا ريب أن الإسلام بعيد عن طابع هذه الدعوة التي تقوم على القضاء على مفهوم الجهاد الإسلامي وإنما يقوم الإسلام على القوة والرحمة معاً، كل في موضعه، ودعاة هذا المذهب يحاولون تصور الإسلام معهم، أو هم يريدونه هكذا، وهم بذلك ينكرون جانباً هاماً من جوانبه فالإسلام يقوم على السلام والتسامح في نفس الوقت الذي يقوم فيه على المقاومة والقوة إذا انتهكت أرضه أو قيمه.
رابعاً: خطأ القول بديمقراطية الإسلام أو اشتراكية الإسلام، فالإسلام ليس منهجاً خاضعاً للأيديولوجيات البشرية وليس مبرراً لأوضاع المجتمعات العالمية المنحرفة الفاسدة، وقد تلتقي بعض الخيوط هنا وهناك مع العدل الاجتماعي الإسلامي او الشورى الإسلامية، ولكن يبقى للإسلام منهجه الكامل الجامع الرباني المصدر، الإنساني الوجهة، الذي يستطيع أن يعايش الأمم والحضارات والعصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، دون أن يعتوره نقص أو يحتاج إلى إضافة.
الحسم والفصل:
وبعد. فيجب أن يكون موقفنا من الفكر الغربي أو و(الفكر البشري بعامة) حاسماً فاصلاً، وقد آن الأوان أن تبدأ ؤرحلة المواجهة الفاصلة حتى يعرف كل دارس للفكر الغريب مدى صلته بالفكر الإسلامي أو بعده عنه ومدى سلامته أو عجزه، ومدى صلاحيته أو فساده، ونعجب أن نقرأ في بعض المجلات العربية الإسلامية دفاعاً عن الفكر البشري الوثني المادي.
ولقد بدأ مشرق القرن الخامس عشر "عصر المواجهة" أو عصر الرشد الفكري، وأمامنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين".
ولا ريب أن الغرب يخاف نهضة العالم الإسلامي من خلال الإسلام، ذلك أن الإسلام ليس مجرد نظام من العقائد والعبادات ولكنه منهج حياة ونظام مجتمع ومدنية كاملة.
ولما كان الفكر الإسلامي الأصيل (فكر أهل السنة والجماعة) لم يستسلم طوال أربعة عشر قرناً أمام الفكر الوافد الغريب فإنه لن يستسلم في هذا العصر وقد أعلن وجهة نظره واضحة في مختلف القضايا، وكشف زيف الدعوات الهدامة والأيدلوجيات الوافدة، وقد ظل دوماً وجيلاً بعد جيل يواجه هذه النظريات ويدلي برأيه فيها، لا يتوقف عن المعارضة ولا يتقبل كل شيء كما هو بل يرفض قبول كل ما لا يتفق مع أسسه وأصوله مع سماحته المعهودة في القبول والرفض.
عزة المسلم بالله واعتزازه بإسلامه:
يقول ستوك هروجينه: لا أعتقد أن الإسلام يسقط أمام النصرانية لأن المسلم محتاط الاحتياط لمقاومة النفوذ الأجنبي فهو يرى أن النصرانية شيء مضى ويرى تدينه بها خطوة إلى الوراء.
ويقول ولفرد كانتول سميث: ما من دين استطاع أن يوحي إلى المتدين به شعوراً بالعزة كالشعور الذي يخامر المسلم. إن الغربي لا يفهم الإسلام حق الفهم إلا إذا أدرك أنه "أسلوب حياة" تصطبغ به معيشة المسلم ظاهراً وباطناً وليس مجرد أفكار وعقائد يناقشها بتفكيره.
ويقول بارتلمي سان هيلر: أن الإسلام قد أحدث رقياً عظيماً جداً، فقد أطلق العقل الإنساني من قيوده التي كانت تأسره حول المعابد، وبين أيدي الكهنة فارتفع إلى الأولى واضطر العالم أن يرجع إلى نفسه وأن يبحث عن مستوى الاعتقاد بحياة وراء هذه الحياة وأن تحريم الإسلام للصور في المساجد قد خلص الفكر الإسلامي من وثنية القرون الأولى.. والعودة إلى خالقه".(/3)
وهكذا شهد علماء الغررب بأصالة الإسلام وفساد الفكر البشري ولكن القوى التي تستهدف السيطرة على العالنم بعد تدميره أخلاقياً هي التي تعمل على طرح الفسلفات والوثنيات والمذاهب الهدامة والماديةة في أفق الفكر الإسلامي باعتبار الإسلامك هو العقبة الوحيدة والصخرة الكبرى أمام تلك المؤامرة الخطيرة. وهذا كله إجمال له تفصيل.(/4)
الفكر السياسى فى كتابات أسد
فكر محمد أسد كما لا يعرفه الكثيرون (6)
الفكر السياسى فى كتابات أسد
أ.
د/إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
بعد أن أعلن محمد أسد إسلامه فى المملكة العربية السعودية عام 1926م قضى بضع سنوات فى تلك البلاد قريبا من الملك عبد العزيز آل سعود، ثم انتقل بعد ذلك إلى الهند حيث أصدر مجلة إسلامية بالاشتراك مع محمد مارمادوك بِكْثَلْ (وهو بريطانى أسلم مثل أسد، وترجم مثله أيضا القرآن الكريم إلى الإنجليزية)، إلى أن قامت دولة الباكستان فتولى بعض المناصب فيها. وكان قد شارك فى وضع دستور ذلك البلد عند نشأته وكتب أفكاره بهذا الشأن فى رسالة بعنوان "Making Islamic Constitution: صياغة دستور إسلامى"، وإن لم يؤخذ إلا بالقليل جدا من اقتراحاته فى ذلك الموضوع حسبما ذكر فى مقدمة كتابه "منهاج الإسلام فى الحكم"، الذى يُعَدّ تطويرا لما جاء فى تلك الرسالة من أفكار[1].
وفى هذا الكتاب يعرض محمد أسد رأيه فى الطريقة التى ينبغى أن تُسَاس بها الدولة الإسلامية فى العصر الحديث. والأساس الذى يجب بناء هذه الدولة عليه، كما جاء فى كلامه، هو أن يكون دستورها إسلاميا، وقوانينها إسلامية، ورئيسها كذلك مسلما، إذ ليس فى الإسلام ما يسمَّى بالفصل بين الدين والسياسة، كما أن الإسلام ليس عبادات فحسب، بل هو أيضا نظام اجتماعى غايته توفير التوافق والانسجام بين أفراد الأمة وطوائفها وتهيئة السبل للعيش الحر الكريم[2]. ومن هنا فإن الحكمومة العلمانية مرفوضة فى الإسلام، إذ هى تحصر الدين داخل ضمير الفرد، وإذا خرجت به إلى الدنيا فإنها تُلْزِمه ألا يبارح جدران دور العبادة، أما الأخلاق والتشريعات فإنها ترجع عندها إلى الأفكار والآراء البشرية، وهى تتغير حسب الظروف، على حين أن الأخلاق فى الإسلام هى أخلاق مطلقة لا يعتريها التبديل من عصر لعصر ولا من بلد لبلد، فضلا عن أن لهذا الدين منظومةً من الأسس التشريعية لا يمكن المِسَاس بها بحال[3].
وفى هذا المجال الأخير يميِّز مفكِّرنا بين النصوص القرآنية والحديثية وبين اجتهادات الفقهاء فى فهم هذه النصوص: فالأولى عنده مُلْزِِمَة ثابتة، أما الثانية فليست كذلك، إذ لا تمثل إلا فكر أصحابها داخل إطار زمانى ومكانى معين، ومن ثَمَّ فهى عرضة للتغير بتغير الظروف لأنها بشرية المصدر، بخلاف النصوص القرآنية والحديثية ذات المصدر السماوى. وهذه النصوص ينبغى، فى نظره، أن تقتصر على الأحكام المحددة التى لا تقبل اختلافا فى التفسير لبعدها عن أى غموض أو إبهام. وتتميز هذه الأحكام بأن عددها قليل ولا تتناول إلا الخطوط العامة، أما التفصيلات فمتروكة للاجتهاد البشرى، وتبعا لذلك فإنها عرضة للتغير لتواكب التطورات الاجتماعية والإنسانية المتلاحقة. وهذا، فى رأيه، معنى قوله عزَّت قدرته فى الآية 48 من سورة "المائدة": لكلٍّ جعلنا منكم شِرْعَةً ومنهاجا"[4].
لكن الملاحظ أنه لم يحدد لنا فى هذا الكتاب تلك الآيات والأحاديث المحتوية على المبادئ التشريعية العامة التى ينبغى الالتزام بها فى كل الظروف والعصور والبلدان[5]. لقد رأيناه مثلا ينفى أن يكون هناك حد للحرابة، لاويًا عنق آيَتَىْ سورة "المائدة" 33- 34 اللتين تنصّان على ذلك الحد. فإذا كان الأمر كذلك فأخشى أن تكون نقطة الانطلاق لدى أسد فى هذا الموضوع الخطير مفتقرة إلى المتانة المطلوبة. وبالمثل فإننا لا نعرف السبب الذى حدا بالمسؤولين فى الباكستان ألا يأخذوا إلا بأقل القليل مما اقترحه فى هذا الصدد. ثم إن قوله سبحانه: "لِكُلٍّ جعلنا منكم شِرْعَهً ومنهاجا" قد ورد فى سياق الكلام عن شرائع أهل الأديان المختلفة من مسلمين ويهود ونصارى، لكن أسد يفهمه على أنه إشارة إلى تغير التشريعات الإسلامية التفصيلية حسب تغير الظروف. أى أن الضمير "كم" فى "منكم" لا يرجع إلى اليهود والنصارى والمسلمين جميعا، بل إلى أجيال المسلمين المتعاقبة وحدها، وهو ما لا تقبله الآية بسهولة. أما فيما عدا هذا فإن مساحة الاختلاف مع أسد هى من أضيق ما يكون، بل ربما لم يكن هناك خلاف البتة.(/1)
والنظام الحكومى الذى يقترحه المؤلف يقترب من بعض النواحى من نظيره فى الديمقراطيات الغربية، فهو نظام يقوم على إرادة الشعب الحرة متمثلةً فى الانتخابات التى تأتى بأعضاء مجلس النواب وتختار هذا الرئيس أو ذاك لكرسى الحكم، كما يقوم على مسؤولية الحاكم أمام هؤلاء النواب، وعلى المداولات النيابية، وعلى حرية التعبير والنقد، وعلى حماية الدولة لأمن المواطنين وتوفيرها سبل العمل والعيش الكريم لهم... إلخ. ومع ذلك فهناك عدد من الاختلافات بين النظام السياسى فى الإسلام والنظام الديمقراطى الغربى: من ذلك مثلا مفهوم "الديمقراطية" نفسه، الذى يظن كثير من المسلمين أن الإسلام يرحِّب به ويصوغ نظامه فى الحكم على أساسه، مع أنه يعنى، فيما يعنيه عند الغربيين، حقَّ الشعب المطلق فى التشريع لجميع الأمور العامة بأغلبية أصوات نوابه. وهذا ما يسمى بإرادة الشعب، التى هى إرادة حرة لا تُسْأَل أمام سلطة غير سلطتها، وهو ما لا يقبله الإسلام، إذ يوجب على أتباعه إخضاع أفعالهم لتوجيهات الشريعة الإلهية التى نص عليها القرآن. ومعنى هذا أن إرادة الأمة الإسلامية ليست مطلقة السيادة بل محكومة بالإرادة الإلهية[6].
بيد أن لنا ملاحظتين على هذا: أولاهما أن هناك، حسبما قال أسد، جانبا واسعا فى مجال التشريع الإسلامى متروكا للمسلمين يستنبطونه من مبادئ الشريعة العامة، فضلا عن أنه لا يوجد ما يُلْزِم مسلمى عصر أو مجتمع ما بأن يأخذوا بما ارتآه مسلمو عصر أو مجتمع آخر. إذن فهناك مجال لحرية الإرادة البشرية فى مجال التشريع الإسلامى، وليس الأمر إلزاما مطلقا إذن. والثانية أن المؤلف لم يقل لنا ما الذى ينبغى عمله لو رأت إحدى الأمم الإسلامية أن تترك الشريعة الإسلامية. ولقد قال هو نفسه إن كثيرا من المثقفين المسلمين اليوم يُعْجَبون بالفكر السياسى والقانونى الغربى ويَرَوْن أنه هو السبيل الوحيد أمام المسلمين للتحرر مما هم فيه من تخلف. ولقد انتهى الأمر فى الباكستان إلى أن يهملوا بعض التشريعات الإسلامية رغم أن تلك الدولة قامت فى الأصل على أساس أنها أمة إسلامية متميزة عن أمة الهندوس وتريد أن تبنى حياتها ونظامها السياسى والاجتماعى على قواعد الإسلام. فما الذى ينبغى عمله هنا يا ترى؟ الواقع أن هذه هى إحدى النقاط الهامة التى أهمل أسد بحثها وتقديم مقترحاته بشأنها. إن أسد قد أقام بناء فكره السياسى على أساس أن الأمة المسلمة قد اجتمعت كلمتها حكومةً وشعبًا على تحكيم الإسلام فى كل شؤون حياتها، ولم يبق إلا البحث عن النظام الذى يكفل لها ذلك على أحسن وجه. ولكنْ كم شعبا من بين شعوب الإسلام التى تُعَدّ بالعشرات يصدق عليه هذا؟ إن كثيرا من هذه الشعوب تقول إنها تريد تطبيق الشريعة، فما الذى يمنعها من تنفيذ ذلك؟ وكيف تستطيع أن تتغلب على تلك العقبات؟ وما هى التضحيات التى ينبغى عليها أن تتحملها؟ وكم من الوقت يلزم لبلوغ هذه الغاية؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى جواب، إلا أن محمد أسد قد سكت عنها وكأنها غير موجودة!
وأغلب الظن أن السبب فى ذلك كله هو أنه تناول هذا الموضوع فى الأصل أيام بزوغ الدولة الباكستانية فى أفق الوجود، وهى دولة كان يُفْتَرَض فى حكومتها وشعبها أنهما يعملان بكل جِدًّ وإخلاص وتفانٍ على تحكيم الإسلام فى كل أمورها وأحوالها، وهو ما لم تصدقه الحوادث التى حدثت بعد ذلك. لكنه يخبرنا فى مقدمته للكتاب الذى نحن بصدده أنه ليس إلا تطويرا للأفكار التى كان قد طرحها أولا عند صياغة الدستور الإسلامى للباكستان[7]. وعلى هذا فما دام كتابه قد تطور عن ذى قبل وأصبح منفصلا عن مسألة الدستور ومشاكل وضعه، لقد كان ينبغى أن يوسع الأفق الذى يدور فيه كلامه بحيث يشمل العالم الإسلامى لا الباكستان فحسب.
وإذا كان هناك فرق بين الإسلام والغرب فى قضية الديمقراطية، فكذلك الأمر فيما يتعلق بالثيوقراطية. ذلك أن الإسلام، بمعنى من المعانى، هو دين ثيوقراطى، لكنه بمعنى آخر ليس كذلك، إذ لو كان المقصود بالثيوقراطية أن يقوم رجال الدين بتسيير دفة الحكم والسياسة فهو غير ثيوقراطى، أما إذا كان المقصود بها استمداد القوانين من مصدر سماوى (هو فى حالة الإسلام: القرآن والحديث) فهو ثيوقراطى[8]. وهذا أيضا مما يميز الإسلام عن الديمقراطيات الغربية التى ترفض الثيوقراطية رفضًا باتًّا بِكِلا المعنيين...وهكذا.
ومما يفترق به الإسلام عن الديمقراطيات الغربية أيضا أنه، وإن أوجب أن يجىء رئيس الدولة عن طريق الانتخابات، لم يحدد كيفية انتخابه ولا المدة التى يبقى فيها فى الحكم. وعلى هذا جاز أن يُنَصّ على مدة معينة لرئاسته أو أن يظل قابضا على زمام السلطان طيلة حياته ما دام يؤدى واجبه بكفاءة وإخلاص ولم تضق به الأمه[9].(/2)
كذلك يتميز الإسلام عن الديمقراطيات الغربية بأنه، رغم اعتماده الانتخابات سبيلا إلى اختيار رئيس الدولة، لا يقبل أن تُسْنَد الرئاسة إلى شخص غير مسلم، إذ من غير الطبيعى، بل ومن الظلم أيضا، أن ننتظر من مثل هذا الشخص التحمس لنشر الإسلام وتطبيق شرائعه. ومن رأى مؤلفنا أنه لابد من إعلان ذلك بوضوح وأن تُنَحَّى اعتبارات المجاملة فى مثل هذا الأمر جانبا لأن المسألة مسألة مبدإ، فلا تجوز فيها المواربة أو المواراة، وإن سارع فى ذات الوقت بالإشارة إلى أن عملية الانتخابات فى حد ذاتها من شأنها أن تحسم هذا الأمر، إذ لن تنتخب الأغلبية الإسلامية بطبيعة الحال رئيسا غير مسلم. كذلك نراه يسارع إلى تأكيد أن الالتزام بهذا المبدإ شىء، والتمييز بين المواطنين على أساس الدين شىء آخر، فالإسلام يكفل للأقليات الدينية كل حقوقها ولا ينصر المسلمين عليهم بالباطل فى حالة وجود خلاف بين الفريقين[10]. وفضلا عن هذا فهو لا يجد أى بأس فى أن يكون فى الحكومة الإسلامية وزراء غير مسلمين، ولكن بشرط ألا يكون المسؤول أمام نواب الشعب هم الوزراء بل رئيس الدولة نفسه، أما الوزراء فهم مجرد مساعدين له، وذلك كيلا يكون هناك صدام مع الشرط الذى وضعه القرآن المجيد بوجوب أن يكون أولو الأمر من المسلمين حسب قوله عز شأنه: "يا أيها الذين آمنوا، أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم"[11].
وهناك مسألة أخرى قريبة من هذه، ألا وهى أن أمام المواطنين غير المسلمين فى البلاد الإسلامية بالنسبة للتجنيد طريقين[12]: فبمستطاعهم الامتناع، إذا أرادوا، عن الانخراط فى الجيش، وعندئذ فعلى من يختار هذا السبيل منهم أن يؤدى الجِزْيَة للخزانه العامة لقاء إعفائه من التجنيد، وهو شىء مشابه لما كان يسمَّى فى مصر قبل يوليه 1952م بـ"البَدَليّة"، وبمستطاعهم أيضا، إذا شاؤوا، أن يشاركوا إخوانهم المسلمين فى الانخراط فى سلك الجندية، وحينئذ فلا جِزْيَة.
ولأسد، فى نظام الحكومة الإسلامية من حيث العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، اقتراح مهم يفترق به أيضا هذا النظام عن الديمقراطيات الغربية، وهو أن يجمع رئيس الدولة فى يده كُلاًّ من الأعمال التشريعية والأمور التنفيذية تجنبًا لحدوث تصادم بين السلطتين يوقف دولاب الحكم كما يقع أحيانا فى الدول الغربية فلا يستطاع فى بعض الظروف الحرجة البتّ فيما يراد الحسم فيه على وجه السرعة. على أن أسد يؤكد فى الوقت ذاته أن رئيس الدولة الإسلامية مُلْزَم رغم ذلك بأى قرار يحظى بموافقة الأغلبية من أعضاء مجلس الشورى بحيث لا تكون قرارات ذلك المجلس مجرد توصيات يأخذ بها الرئيس أو لا يأخذ، بل لابد أن تكون لها صفة الإلزام.
ومما يتمايز فيه النظامان أيضا أن النظام الإسلامى لا يقتصر على الجوانب السياسية والاقتصادية فقط كما هو الحال فى الديمقراطيات الغربية، بل يشمل كذلك نواحى العقيدة الأخلاق، فهو نظام متكامل يهتم بالإنسان بكل أبعاده.
على أن أسد لا ينسى مع ذلك أن ينبه إلى الصعوبات التى تواجه تطبيق النظام الإسلامى سواء من داخل صفوف المسلمين أنفسهم أو من بين صفوف أعدائهم: فهناك مسلمون جامدون مشدودو الأبصار إلى الماضى لا يستطيعون أن يكيّفوا أنفسهم مع الحاضر ولا أن يعيشوا فيه، فتراهم مثلا يعتقدون أن على الدولة الإسلامية محاربة الدنيا كلها حرب عدوان وتوسع، وأنه لا تجوز المساواة بين المسلمين والأقليات غير الإسلامية داخل هذه الدولة، وأن العادات والتقاليد التى ورثوها عن مجتمعاتهم هى من صميم الإسلام لا يجوز تغييرها ولا مِساسها مهما تكن مخالفة لروح الإسلام ومبادئه. وهناك من الناحية الأخرى أولئك المسلمون المتأثرون بالغرب وبثقافة الغرب وبنظام الغرب السياسى والتربوى والذين يرفضون أى حديث عن النظام الإسلامى ويَرَوْن فيه تخلفا ورجعيه، وبخاصة أن ذلك النظام قد ارتبط فى أذهانهم بذلك الفريق الجامد من المسلمين الذين يريدون إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وجعل الحاضر نسخة من الماضى دون زيادة أو نقصان أيا ما تكن المشاكل الناجمة عن ذلك. ثم هناك ثالثا القوى الكبرى المتربصة بالإسلام وأمته وحكومته والتى تخطط وتبذل جهودها بغية منع المسلمين من استعادة حيويتهم وقوتهم ومجدهم، إذ يَرَوْن فى البعث الإسلامى تهديدا لهم ولمصالحهم. ولا ننس كذلك من يعيش بين ظَهْرَانَىِ المسلمين من أقليات غير مسلمة لا يَرْحُب صدرها لتطبيق النظام الإسلامى، الذى يَرَوْن فيه مصادرة لحريتهم وعدوانا على ذاتيتهم.(/3)
والسبيل إلى مواجهة كل ذلك عند كاتبنا هو "أن نثبت[13] للعالم كله أننا قد عقدنا العزم صادقين على أن نحقق قول الله عز وجل: "كنتم خير أمة أُخْرِجَتْ للناس تأمرون بالمعروف وتَنْهَوْن عن المنكر وتؤمنون بالله". وإن أهليتنا لهذه المكانة تتوقف (كما يقول) على ما عندنا من الاستعداد للكفاح دائما وفى جميع الأحوال والظروف لإقامة معالم العدل ومحاربة الظلم فى كل صورة، وبالنسبة لجميع الناس. وهذا سوف يستبعد من الأذهان كل احتمال فى أن يُجْحِف المجتمع الإسلامى الحقيقى بحقوق المواطنين من غير المسلمين... (وعلينا أن نعالج) المبادئ السياسية التى جاء بها كل من القرآن والسنة بروح إبداعية مجددة، مستقلين فى ذلك عن كل السابقات التاريخية وكل النظائر التى سلمتها إلينا الأجيال المتقدمة لهذه المبادئ. (كذلك) علينا أن نثبت، على الرغم من معارضة الجامدين، أن شريعة الإسلام ليست مقصورة على ما تحويه كتب الفقة المطولة التى شغلت نفسها بتفاصيل التفاصيل، وليست هى موضوعا لخطب الجمعة فحسب، ولكنها منهاجٌ حىٌّ يدفع بموكب الحياة إلى الأمام... قابل للتطبيق والعمل فى كل العصور وفى كل الظروف، منهاج سوف لا يعوق[14] تطورنا الاجتماعى بل، على العكس من ذلك، سيساعدنا على التطور وسيجعل مجتمعنا الإسلامى أكثر المجتمعات فى العالم نشاطا وحيوية واعتمادا على نفسه"[15].
وهذا كلام رائع لا يختلف معه عاقل مخلص، إلا أن أسد لم يحاول (كما سبق أن قلنا) أن يجيب على السؤال الذى أثرتُه من قبل، ألا وهو: ما العمل إذا وجدت الأمة نفسها عاجزة عن تطبيق النظام الإسلامى بسبب تألب القوى الكبرى وأذنابها فى بلاد المسلمين ضدها مثلا؟ وها هى ذى الباكستان قد عجزت عن إقامة ذلك النموذج المبتغَى، ولم تتمكن حتى من توفير مستوى معيشة كريم لمواطنيها، إذ يسودها الفقر والفساد إلى حد كبير، كما أن الانقلابات العسكرية هى سمة من سمات حياتها السياسية بما يعنى العدوان على حق الأمة فى اختيار رئيسها وخلعه سلميا وقانونيا، فضلا عن دروانها إلى مدى بعيد فى فلك الولايات المتحدة الأمريكية. بل إنها فى حروبها مع الهند لم تستطع أن ترد عدوان جارتها اللدود عليها، وانتهت تلك الحروب حتى الآن بالهزيمة المذلة وانقسامها إلى بلدين وشعبين بعد أن كانت بلدا واحدا وشعبا واحدا.
وقد رأى المؤلف كثيرا من المسلمين مفتونين بالحضارة الغربية وتقليدها تقليدًا أعمى إيمانا منهم بأن أسلوبها هو أسلوب الحياة الأمثل وأن أمتهم إذا كانت تريد فعلا النهوض مما هى فيه من ركود وضعف وتخلف فليس أمامها إلا الضرب فى طريق هذه الحضارة واتباع خطوات أبنائها. ومن هنا وجدناه مهتما بالتحذير من مغبّة هذا الطريق والسير فيه. إنه يؤكد أشد التأكيد أن الأخذ بالمدنية الأوربية هو قَتْلٌ بالسم الزُّعَاف للثقافة الإسلامية المبنية بطبيعتها على القيم الدينية: فالإسلام يهتم أول ما يهتم بالرقى الخلقى، مع عدم إغفال الرقى المادى بطبيعة الحال، أما فى المدنية الغربية فالاهتمام منصب على اعتبارات النفع المادى وحده، أما الأخلاق المطلقة فليس لها مكان فى منظومة تلك المدنية. ذلك أن هذه الأخلاق إنما هى نتاج دينى أساسه الإيمان بالله والحياة الآخرة، على حين أن أوربا قد طلَّقت ذلك كله وعدَّته رجعيه وتخلفا. والسبب فى هذا أن المدنية الأوربية هى بنت المدنية الرومانية المادية ووريثتها، ولم تكن النصرانية التى اعتنقتها بعد ذلك إلا مجرد طلاء خارجى سرعان ما تخلصت منه حينما واتتها الفرصة فثارت على الكنيسة ورجال الدين، الذين كبلوها بالأغلال روحًا وجسدًا طَوال العصور الوسطى المظلمة ودفعوها بهذا التكبيل إلى مزيد من النفور من الدين.
وقد ترتب على هذا الوضع أن أضحت الأخلاق الأوربية أخلاقا نسبية قِوامها المنفعة واللذة والسيطرة وتكديس الثروات والاستحواذ على أسباب القوة لاستغلال الطبيعة وقهر الشعوب. ومن هنا لم تعد أوربا تجد فى ظلم الأمم الأخرى ولا فى الإباحية الجنسية أى حرج، إذ لم تعد تفكر لا فى الله ولا فى الحساب الأخروى بل فى مجد الدنيا فقط، تلك الدنيا التى اتخذتها معبودا لها من دون الله. والخلاصة التى يبرزها محمد أسد أمام عيون المسلمين هى أنه لا يوجد شىء من التجانس الروحى بين الإسلام والحضارة الغربية، وهو ما ينبغى أن يدفعهم إلى النفور والاشمئزاز منها والنجاة بأنفسهم من سمّها المهلك. وكل ما يستطيع المسلمون استفادته من المدنية الأوربية فى نظره هو منهج البحث العلمى وتقنياته، وهو ذات المنهج الذى سبق لأوربا استفادته من حضارة الإسلام حينما كانت هى الحضارة المتفوقة ثقافيا واقتصاديا وسياسيا وعسكريا[16].(/4)
بيد أن هناك سببا آخر لا يقل عن هذا أهميةً وخطرًا ينبغى أن ينفِّر المسلمين من أوربا، هو كراهية الغربيين للإسلام والمسلمين، تلك الكراهية التى ترجع إلى مصدرين مختلفين: أولهما استعلاء أسلاف الأوربيين (اليونان والرومان) على جميع الأمم والشعوب، وبخاصة تلك التى تسكن شرق البحر المتوسط، واحتقارهم لهم ونظرهم إليهم على أنهم برابرة متخلفون لا يمكنهم أن يتسامَوْا إلى مركز السيادة الذى يشغلونه هم عن جدارة واستحقاق. وثانيهما العداوة التى ينفخون فى نارها لتأريث الأحقاد على الإسلام وتاريخه ورجالاته وعقائده وتشريعاته وأخلاقه وكل ما يتصل به ضاربين بجميع قواعد البحث العلمى المحايد عُرْضَ الحائط، إذ تراهم يتجاهلون كل ما هو مضىء فيه، ويختلقون المعايب اختلاقا، ويمتلخون النصوص من سياقها، ويفسرونها تفسيرا منحرفا كى يصلوا إلى إثبات الدعاوَى المسبقة التى أقبلوا بها على موضوعهم، وهو ما لا يصنعونه عند دراستهم لأى دين أو ثقافة أخرى. ولا يقولَنّ أحد إن أوربا قد أدارت ظهرها للنصرانية، فكيف تظل محكومة بهذا الشعور العدائى الذى يرجع أصله إلى هذه الديانه؟ إذ يجيب أسد على ذلك بأن هذا الشعور قد اقتحم قلب أوربا فى طفولتها قبل نهضتها الحديثة، فاستكنّ فى طوايا ضميرها كالعُقَد النفسية التى تترسب فى الضمير أثناء فترة الطفولة، أو كالخرافات التى تبقى فى تلافيف النفس رغم تحرر العقل من الاعتقادات التى كانت تدور حولها تلك الخرافات...وهكذا.
وبالمثل ينبّه أسد المسلمين إلى أنهم لا ينبغى أن يؤمِّلوا الكثير من دخول بعض الأوربيين فى الإسلام. ذلك أن شعور العداوة عند الأوربيين تجاه هذا الدين وأتباعه هو من العُتُوّ بحيث لا يؤثر فيه اعتناق عدد قليل منهم له، فهؤلاء يمثلون قلة شاذة لا تأثير لها على مجريات الأمور. علاوة على أن ظاهرة اتجاه بعض الأفراد إلى البحث عن خلاص روحى فى خضم المادية العاتى هو أمر طبيعى، لكن العبرة فى مثل هذه الأحوال بالاتجاه العام لا باتجاه فرد هنا وفرد هناك، وبخاصة أن مثل هؤلاء الأفراد عندما يعتنقون الإسلام لا يفهمون فى الغالب تعاليمه حق الفهم. وفوق هذا فإن هناك أوربيين آخرين يُقْبِلون فى ذات الوقت على أديان الهند والصين أو يتجهون إلى الصوفية النصرانية. فالإسلام إذن ليس هو وحده الذى يُقْبِل عليه بعض الأفراد من الأوربيين، بل هو مجرد نِحْلَة من النِّحَل فى هذا السياق. وعلى أية حال فعدد الذين ينضمون إلى الفاشية والشيوعية مثلا يفوق (كما يقول) عدد الذين يعتنقون الإسلام بما لا يقاس. لكن ذلك الوضع قد يتغير، حسبما قال أيضا، إذا بلغت الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية الحد الذى يشعل حربا عالمية أخرى يذوق فيها الأوربيون من الفظائع ما لم يَخْبُروه من قبل وما قد يدفعهم إلى المطامنة من غرورهم والسعى بذلَّة وإخلاص وراء الحقيقة الروحية، أما الوضع الحالىّ الذى لا مُشَاحَّة فيه فهو أن أوربا هى التى تسيطر على العالم الإسلامى وتسيِّره كما تريد[17].
من أجل هذا يرفع محمد أسد عقيرته محذِّرًا المسلمين من الانسياق وراء الفكر الغربى ومُهِيبًا بهم أن يتمسكوا بالنظرة الإسلامية للحياة والمجتمع وينبذوا الفلسفة الأوربية التى لا تؤمن إلا بالمحسوسات ومتع الحياة الدنيا وتستعلى على الشعوب الأخرى وتخطط لاستعبادها واستنزاف ثرواتها، على أن يحرصوا فى ذات الوقت على اكتساب العلوم الطبيعية والرياضية ويتنبهوا إلى عظمة القيم الإسلامية بما تدعو إليه من التساوى بين البشر والتعاون بين الطبقات والشعوب والتواضع مع الآخرين والخضوع لمعانى الحق والعدل. ويَأْسَى كاتبنا أشد الأسى لما يلاحَظ بين قطاعات واسعة من المثقفين المسلمين من شيوع الإلحاد، أو على الأقل عدم المبالاة بالدين وقِيَمه بتأثير التعليم الغربى الذى تَلَقَّوْه، وهو ما يستتبع الإحساس بالذلة والدونية تجاه الأوربيين ويُفْقِد المسلم شخصيته وكرامته واستقلاله[18].(/5)
وعلى المسلمين كذلك أن يكافحوا فى أنفسهم الشعور باليأس والإحباط ووهم العجز فى مواجهة الحضارة الغربية وألا يظنوا، بسبب تخلف مجتمعاتهم، أن هذا التخلف مرجعه إلى الإسلام، إذ إن التَّفَصِّىَ من الإسلام هو السبب فى ذلك التخلف لا الإسلام نفسه. كذلك عليهم أن يكافحوا بكل طاقاتهم ما هو منتشر بينهم من النزوع إلى تقليد الأوربيين حتى فيما يُظَنّ عادةً ألا خطر من ورائه، كالتشبه بهم فى الملبس مثلا أو طريقة تناول الطعام[19]. فهذا التقليد يستتبع فى العادة الفناء فيهم وامّحاء الشخصية الإسلامية، وهو ما حذر منه الرسول عليه السلام حين قال: "من تشبَّه بقوم فهو منهم"[20]. ومن هنا يدعو أسد المسلمين إلى التمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ فيها تتجسد الشخصية الإسلامية، وبإهمالها تذوب وتضيع. وليست سنة النبى تشريعا فحسب، بل هى النموذج الراقى للسلوك الشخصى والاجتماعى أيضا. أما نفور المثقفين المسلمين المتأوْربين من التمسك بها ظنا منهم أنها لا تنسجم مع المدنية الحديثة فهو عنوان على التهافت النفسى الذى يعترى المغلوبين فيجعلهم يظنون أن نظام حياة الغالبين هو النظام الأمثل. وكيف يكون ذلك وقد قال الله تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهُوا"؟ ولقد حاول أعداء الإسلام، وبخاصة من المستشرقين، أن يشككوا فى السنة النبوية، غير أنهم لم يستطيعوا أن يقدموا برهانا على ما يقولون، وكانت غايتهم هى هدم هذا المصدر الثانى للتشريع والسلوك بعد القرآن لتخلو الساحة لعاداتهم وتقاليدهم وقوانينهم وأذواقهم وأسلوب معيشتهم، ولتضيع شخصية المسلم ويسهل خضوعه لهم[21].
لقد كان رسول الله هو أعظم الرجال، ومن ثَمَّ كانت سنته هى النموذج الكامل للحياة البشرية النبيلة، وليس فى الحرص على التمسك بسنته صلى الله عليه وسلم أىّ افتئات على فردية المسلم كما يزعم أعداء الإسلام ومن لف لفَّهم. إنها على العكس، تعوِّد المسلم النظام والانضباط واليقظة لكل ما يفعل، فلا يأتى شيئا أو يدعه إلا وهو واعٍ تماما لما يصنع! والحياة إذا خلت من الانضباط واليقظة أَسِنَتْ واضمحلَّت. والتمسك بسنة النبى عليه السلام من شأنه أن يطبع المجتمع المسلم بطابع واحد يقرِّب بين أفراده ويشد بعضهم إلى بعض بدلا من التشتت والتنافر تبعا لاختلاف الأمزجة وألوان السلوك والعادات والتقاليد من فرد إلى فرد، ومن جماعة إلى أخرى. ثم هو، من ناحية أخرى، يربطنا بالرسول ويجعلنا دائما على ذكْرٍ منه فيصير محورَ حياتنا ومثلَنا الأعلى، ويظلّ الإسلام بذلك حَيًّا فى نفوسنا[22].
وهنا يؤكد أسد أن ما نشهده من ضعف وتخلف بين المسلمين ليس سببه الإسلام، بل سببه المسلمون أنفسهم بسبب موات قلوبهم وكسلهم وحبهم للدنيا وانهزامهم الروحى والثقافى، أما الإسلام فهو أعظم منهج يمكن أن يتبعه البشر فى كل مجالات الحياة. وقد ثبت هذا ثبوتا قاطعا، فما من شىء يحذِّر الإسلامُ منه ومن شروره إلا تبين أنه شرٌّ فعلاً، وما من شىء دعا إليه الإسلام وإلى اجتناء ما فيه من خير إلا اتضح أنه خيرٌ حقًّا. ولابد للمسلمين أن ينفضوا عن أنفسهم روح الهزيمة والاستسلام والتشاؤم أمام المدنية الغربية، التى لا تسامى أو تساوى الإسلام، والتى ينبغى أن نجعل معيار القبول لأى شىء منها أو رفضه هو الإسلام وشريعته وأخلاقه وقيمه262.
وبعد، فهذا كلام رائع كما قلت، لكن يبقى السؤال: كيف، وما السبيل إلى توهج الجذوات القابعة تحت الرماد وهبوب المسلمين من رقدتهم هذه التى طالت ولم تستطع دعوات المصلحين رغم تعاقبها أن تضع حدا لها؟ نرى هل هناك قانون يحكم نهوض الأمم ورقودها أو اضمحلالها وفناءها؟ إذن ما هو؟ وهل لو عرفناه نستطيع استخدامه بحيث نوقظ به الراقدين ونبعث الموتى؟ إن المسلمين جميعا يَشْكُون من وضعهم المخزى، والأغلبية الساحقة منهم تدعو بدعوة العودة إلى الإسلام، ومع ذلك فلا رجعة حقيقية إلى الدين حتى الآن ولا هبوب من رقدة العدم! فما السر يا ترى؟ وما السبيل إلى البعث ونفض رداء المذلة والضعف والتخاذل والاستكانة أمام عدوهم، الذى لا يرقب فيهم إِلاًّ ولا ذمة، ولا تأخذه بهم شفقة، ولا يعرف فى تعامله معهم معنى الرحمة والإنسانية أو حتى الحياء؟ ذلك هو السؤال!
الهوامش:
[1] انظر محمد أسد/ منهاج الإسلام فى الحكم/ ترجمة منصور محمد ماضى/ ط 6/ دار العلم للملايين/ 1983م/ 7، 11.
[2] المرجع السابق/ 15- 20.
[3] السابق/ 21- 32.
[4] السابق/ 32- 42.
[5] وضع أسد فى آخر الكتاب مجموعة من الضوابط التى ينبغى أن تحكم تحديد هذه النصوص، ووكَل مهمة التحديد إلى طائفة من العلماء الذين يختارهم مجلس الشورى من المذاهب الفقهية المختلفة.
[6] السابق/ 45- 49.
[7] السابق/ 7.
[8] السابق/ 51- 52.
[9] السابق/ 62- 63، 85- 86.
[10] السابق/ 81- 85.
[11] النساء/ 59.(/6)
[12] وهنا أيضا يؤكد أسد أن الحرب المشروعة فى الإسلام (أو "الجهاد فى سبيل الله" كما تسمى) لا تجوز أن تكون إلا حربا دفاعية، وهو ما سبق أن تناولناه من قبل عند دراستنا لآرائه الفقهية.
[13] يقصد: "نحن مسلمى الباكستان".
[14] هكذا جاء فى الترجمة، وصوابه: "لن يعوق".
[15] ما تتضمنه الفقرتان السابقتان يجده القارئ فى ص165- 173 من المرجع السابق.
[16] يُرْجَع فى ذلك إلى الفصلين الأولين من كتاب أسد: "الإسلام على مفترق الطرق".
[17] انظر الفصل الثالث من الكتاب السابق، وعنوانه: "شبح الحروب الصليبية"/ 52- 66.
[18] انظر، فى ذلك، الفصل المسمَّى: "فى التربية" من الكتاب السابق/ 67- 78.
[19] كتناول مستعملى الشوكة والسكين من المسلمين طعامهم بيسراهم اقتداء بالأوربيين.
[20] انظر الفصل الخامس من كتاب "الإسلام على مفترق الطرق"، وعنوانه: "فى التقليد"/ 79- 86.
[21] هذا تلخيص شديد التركيز لما جاء فى الفصل السادس من الكتاب السابق بعنوان "الحديث والسنة"/ 87- 98.
[22] يجد القارئ هذه الأفكار مفصلة فى الفصل الذى عنوانه: "روح السنّة" 99- 110.(/7)
الفلُّوجة فجرٌ أطلّ
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
أَنيري سَبيلَ الحقِّ واسْتَقْبِلي العُلا ... ... وجُودي بأرواحٍ تُعَزُّ وبالدِّمِ
أَضَيئي لنا الأرضَ التي عمَّ فوقها ... ... ظلامُ طُغاةٍ أو جهالةُ مُجْرِمِ
وشُقِّي لنا دَربَاً ودوِّي بصيْحَةٍ ... ... تُزَلْزِلُ أركانَ الطّغاةِ وأقْدِمي
هنالك في " الفلُّوجَةِ " اليومَ آيةٌ ... ... مِن العزِّ ! من زحفٍ غنيّ ومن كَمِي
هنالك فجرٌ قد أطلّ وأُمّةٌ ... ... تَواثَبَ مِنْها كُلُّ حُرٍّ مُعَلِّمِ
يقينٌ من الإيمانِ أطْلق زَحْفَها ... ... وعزمٌ من التوحيد يَسْكبُ من دمِ
وحوْلكِ يا " فلُّوجةُ " اليومَ مُجرمٌ ... ... شقيٌّ وغازٍ في هوىً مُتوَهَّمِِ
ومستكبرٌ في الأرض ! ما بين ظالمٍ ... ... أصمَّ وباغٍ في الميادين أو عَمِي
فردّي صُفوفَ المجرمين وزلْزِلي ... ... قواعِدَهُمْ في كلِّ ساحٍ وحطّمي
ورُدِّي على الآفاقِ إشراقَ دَفْقَةٍ ... ... من الدّم ! من عَزْمِ الفَتَى المُتَوسِّمِ
أعيدي رُبى "الفلّوجةِ " اليومَ صيحةً ... ... لتُوقِظَ من غافٍ هناك ونُوَّمِ
أطلّي علينا ! أيقظي كلّ عزمةٍ ... ... وكلّ فؤادٍ للقنوطِ مُسَلّمِ
وصبّي دماً في الأرض يُنْبِتُ عَزْمَةً ... ... ويُحْيي نُفوساً أو أمَانيَّ أحزمِ
* * * ... ... * * *
أطلّي علينا كلّ يومٍ بجولةٍ ... ... أشدَّ وزحفٍ في الميادين مُلْهِمِ
جميعُ الرَّوابي في الدِّيارِ تلفّتتْ ... ... إليكِ على شوقٍ ولهفةِ مُسْلِمِ
تَحِنُّ ! وفي أحنائها عزّةُ المنى ... ... وخَفْقُ طيوفٍ من أمانيكِ حُوَّمِ
تكادُ إذا ما هاجها الشوقُ تَنْثَني ... ... إليكِ ! ودون الشوقِ أهوالُ مَعْلمِ
* * * ... ... * * *
أمامكِ يا " فلُّوجةُ " اليومَ عُصْبةٌ ... ... من الشرِّ هاجتْ في هوىً مُتَكَتِّمِ
فتُخْفي أمانيَّ الجريمة ! تَنْثَني ... ... لِزُخْرِفِ أهواءٍ وفتنةِ مَزْعَمِ
أَتَوْكِ بِزِحْفٍ كالجبالِ وأَقْبَلوا ... ... بآلاتهم تُلْقِي لهيبَ جَهَنَّمِ
أحاطوكِ من كلِّ النّواحي وأَطْبَقوا ... ... بِشَرِّ حصارٍ من حواليكِ مُحْكَمِ
وما تَرَكوا للمُسْتَجيرِ مَنَافِذاً ... ... ولا لضعيفٍ أو لشيخٍ ومُعْدَمِ
قذائفُ دوَّتْ والمنازِلُ أَطْبَقتْ ... ... على أهلِها بَيْنَ الَّلهيبِ المضرَّمِ
تناثَرَتِ الأشلاءُ في كلِّ ساحةٍ ... ... يُحيطُ بها صمتٌ ولَوْعةُ مأتمِ
وأرواحُها تَعْلو إلى الله تَرْتجي ... ... من الله طيبَ المنزلِ المُتوسَّمِ
فَيََحْنُو عليها في ظِلالٍ نديّةٍ ... ... من الله في عَفْوٍ أبَرّ وأرْحمِ
يَهيمُ بكِ الأطفالُ ! ما من منافذٍ ... ... ولا من سبيلٍ للنجاةِ مُحَتّمِ
يَهيمون ما بين الطُّلولِ فلا ترى ... ... سِوى دَمِ قَتْلى أو مَدامعِ يُتَّمِ
شيوخٌ على مُرِّ الأنينِ تَمزَّقُوا ... ... وشكوى الصبايا أين يا قَوْمُ نَحْتَمي؟!
وكَمْ من جريحٍ أَفْرَغُوا فوقَ جُرْحِهِ ... ... رصَاصَاً وكَمْ واهٍ من الجوعِ أو ظَمي
وكَمْ مَسْجدٍ قد دَمّروه و مَا رَعَوْا ... ... له حُرْمَةً ! يا ويْلَ باغٍ ومُجْرِمِ
لقدْ مَنَعُوا الذّكْرَ النديَّ وقَتَّلوا ... ... هُناك بقايا من مُصلِّين جُثَّمِ
أولئك أشقى الخَلْقِ ! ما كنْتَ تَلْتقي ... ... بأخْزى ولا أَعْتَى نُفُوساً وأظْلمِ
مشاهدُ ! ويْحي ! لا تزالُ كأنَّها ... ... على الدّهْر تَرْوي قصَّةً لم تُتَمَّمِ
لِتَكْشِفَ زيْفَ المجرمين جميعِهم ... ... وتُسْقِطَ عنهم من قِناعٍ مُنَمْنَمِِ
وتَكْشِفَ أطْماعاً وفتنةَ دعْوةٍ ... ... وفِرْيةَ وَهْمٍ أو ضَلالةَ مَزْعَمِ
لِتَلْقى مع الأيَّام حَسْرةَ ما جَنَتْ ... ... يَداها على ذلٍِّ من الله مُرْغِمِ
بلاءٌ سَيُرْدِيها على سُنَّةٍ مَضَتْ ... ... مِن الله في حقٍّ أجلَّ وأعظمِ
* * * ... ... * * *
سَيُشْرقُ في " الفلُّوجة " النصرُ زَاهياً ... ... ويُشْرِقُ في " بَعْقوبَةٍ " كُلُّ مَعْلَمِ
ويَطْلعُ في أرض " الرَّمادي " فوارسٌ ... ... يَشُقّون من دربٍ إلى الحقِّ أقْوَمِ
ومن أُفق " البصرا" وساحةِ " موصلٍ" ... ... ومن كُلِّ ميدانٍ تواثُبُ ضَيْغَمِ
جنودٌ إلى الرَّحمنِ هَبُّوا وأَقْبَلوا ... ... على فَوْحِ جنَّاتٍ أعزَّ وأكرمِ
وتَشْرقُ دارُ المسلمين جَميعُها ... ... مآذنُ تَكْبِيرٍ وعِزّةُ مُسْلِمِ
* * * ... ... * * *
... ... 9/10/1425هـ
22/11/2004م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/1)
الفلُّوجة"
فجرٌ أطلّ
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
أَنيري سَبيلَ الحقِّ واسْتَقْبِلي العُلا ... ... وجُودي بأرواحٍ تُعَزُّ وبالدِّمِ
أَضَيئي لنا الأرضَ التي عمَّ فوقها ... ... ظلامُ طُغاةٍ أو جهالةُ مُجْرِمِ
وشُقِّي لنا دَربَاً ودوِّي بصيْحَةٍ ... ... تُزَلْزِلُ أركانَ الطّغاةِ وأقْدِمي
هنالك في " الفلُّوجَةِ " اليومَ آيةٌ ... ... مِن العزِّ ! من زحفٍ غنيّ ومن كَمِي
هنالك فجرٌ قد أطلّ وأُمّةٌ ... ... تَواثَبَ مِنْها كُلُّ حُرٍّ مُعَلِّمِ
يقينٌ من الإيمانِ أطْلق زَحْفَها ... ... وعزمٌ من التوحيد يَسْكبُ من دمِ
وحوْلكِ يا " فلُّوجةُ " اليومَ مُجرمٌ ... ... شقيٌّ وغازٍ في هوىً مُتوَهَّمِِ
ومستكبرٌ في الأرض ! ما بين ظالمٍ ... ... أصمَّ وباغٍ في الميادين أو عَمِي
فردّي صُفوفَ المجرمين وزلْزِلي ... ... قواعِدَهُمْ في كلِّ ساحٍ وحطّمي
ورُدِّي على الآفاقِ إشراقَ دَفْقَةٍ ... ... من الدّم ! من عَزْمِ الفَتَى المُتَوسِّمِ
أعيدي رُبى "الفلّوجةِ " اليومَ صيحةً ... ... لتُوقِظَ من غافٍ هناك ونُوَّمِ
أطلّي علينا ! أيقظي كلّ عزمةٍ ... ... وكلّ فؤادٍ للقنوطِ مُسَلّمِ
وصبّي دماً في الأرض يُنْبِتُ عَزْمَةً ... ... ويُحْيي نُفوساً أو أمَانيَّ أحزمِ
* * * ... ... * * *
أطلّي علينا كلّ يومٍ بجولةٍ ... ... أشدَّ وزحفٍ في الميادين مُلْهِمِ
جميعُ الرَّوابي في الدِّيارِ تلفّتتْ ... ... إليكِ على شوقٍ ولهفةِ مُسْلِمِ
تَحِنُّ ! وفي أحنائها عزّةُ المنى ... ... وخَفْقُ طيوفٍ من أمانيكِ حُوَّمِ
تكادُ إذا ما هاجها الشوقُ تَنْثَني ... ... إليكِ ! ودون الشوقِ أهوالُ مَعْلمِ
* * * ... ... * * *
أمامكِ يا " فلُّوجةُ " اليومَ عُصْبةٌ ... ... من الشرِّ هاجتْ في هوىً مُتَكَتِّمِ
فتُخْفي أمانيَّ الجريمة ! تَنْثَني ... ... لِزُخْرِفِ أهواءٍ وفتنةِ مَزْعَمِ
أَتَوْكِ بِزِحْفٍ كالجبالِ وأَقْبَلوا ... ... بآلاتهم تُلْقِي لهيبَ جَهَنَّمِ
أحاطوكِ من كلِّ النّواحي وأَطْبَقوا ... ... بِشَرِّ حصارٍ من حواليكِ مُحْكَمِ
وما تَرَكوا للمُسْتَجيرِ مَنَافِذاً ... ... ولا لضعيفٍ أو لشيخٍ ومُعْدَمِ
قذائفُ دوَّتْ والمنازِلُ أَطْبَقتْ ... ... على أهلِها بَيْنَ الَّلهيبِ المضرَّمِ
تناثَرَتِ الأشلاءُ في كلِّ ساحةٍ ... ... يُحيطُ بها صمتٌ ولَوْعةُ مأتمِ
وأرواحُها تَعْلو إلى الله تَرْتجي ... ... من الله طيبَ المنزلِ المُتوسَّمِ
فَيََحْنُو عليها في ظِلالٍ نديّةٍ ... ... من الله في عَفْوٍ أبَرّ وأرْحمِ
يَهيمُ بكِ الأطفالُ ! ما من منافذٍ ... ... ولا من سبيلٍ للنجاةِ مُحَتّمِ
يَهيمون ما بين الطُّلولِ فلا ترى ... ... سِوى دَمِ قَتْلى أو مَدامعِ يُتَّمِ
شيوخٌ على مُرِّ الأنينِ تَمزَّقُوا ... ... وشكوى الصبايا أين يا قَوْمُ نَحْتَمي؟!
وكَمْ من جريحٍ أَفْرَغُوا فوقَ جُرْحِهِ ... ... رصَاصَاً وكَمْ واهٍ من الجوعِ أو ظَمي
وكَمْ مَسْجدٍ قد دَمّروه و مَا رَعَوْا ... ... له حُرْمَةً ! يا ويْلَ باغٍ ومُجْرِمِ
لقدْ مَنَعُوا الذّكْرَ النديَّ وقَتَّلوا ... ... هُناك بقايا من مُصلِّين جُثَّمِ
أولئك أشقى الخَلْقِ ! ما كنْتَ تَلْتقي ... ... بأخْزى ولا أَعْتَى نُفُوساً وأظْلمِ
مشاهدُ ! ويْحي ! لا تزالُ كأنَّها ... ... على الدّهْر تَرْوي قصَّةً لم تُتَمَّمِ
لِتَكْشِفَ زيْفَ المجرمين جميعِهم ... ... وتُسْقِطَ عنهم من قِناعٍ مُنَمْنَمِِ
وتَكْشِفَ أطْماعاً وفتنةَ دعْوةٍ ... ... وفِرْيةَ وَهْمٍ أو ضَلالةَ مَزْعَمِ
لِتَلْقى مع الأيَّام حَسْرةَ ما جَنَتْ ... ... يَداها على ذلٍِّ من الله مُرْغِمِ
بلاءٌ سَيُرْدِيها على سُنَّةٍ مَضَتْ ... ... مِن الله في حقٍّ أجلَّ وأعظمِ
* * * ... ... * * *
سَيُشْرقُ في " الفلُّوجة " النصرُ زَاهياً ... ... ويُشْرِقُ في " بَعْقوبَةٍ " كُلُّ مَعْلَمِ
ويَطْلعُ في أرض " الرَّمادي " فوارسٌ ... ... يَشُقّون من دربٍ إلى الحقِّ أقْوَمِ
ومن أُفق " البصرا" وساحةِ " موصلٍ" ... ... ومن كُلِّ ميدانٍ تواثُبُ ضَيْغَمِ
جنودٌ إلى الرَّحمنِ هَبُّوا وأَقْبَلوا ... ... على فَوْحِ جنَّاتٍ أعزَّ وأكرمِ
وتَشْرقُ دارُ المسلمين جَميعُها ... ... مآذنُ تَكْبِيرٍ وعِزّةُ مُسْلِمِ
* * * ... ... * * *
... ... 9/10/1425هـ
22/11/2004م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/1)
الفنون والمسرح
الأستاذ أنور الجندي
طرحت المستحدثات الوافدة في أفق فكرنا الإسلامي مفاهيم جديدة حاولت أن تكسبها طابعاً مغايراً للأصالة وللقيم والأعراف الإسلامية، وأخطر هذه المفاهيم ما يتصل بالفن والقصة والمسرح والموسيقى والغناء.
وقد اجتاحت بلاد الإسلام في السنوات المائة الأخيرة هذه الظواهر تحت اسم التسلية وتزجية الفراغ والترويح عن النفس، وبمفهوم إدخال السرور أو تخفيف متاعب الحياة أو ذهاب الغموم، دون أن تثبت في أعماق النفس الإسلامية قاعدة تهدف إلى تحويل الأعراف وتغيير القيم أو خلق طوابع جديدة من الإباحية والتحلل.
غير أن الزمن لم يلبث أن كشف عن أن تلك المسليات الساذجة إنما كانت تحمل في طياتها خطراً داهماً وتستبطن فلسفات خطيرة وتستهدف تحطيم مقومات أخلاقية وتستبطن فلسفات خطيرة وتستهدف تحطيم مقومات أخلاقية عريقة في العلاقات الاجتماعية بين الرجل والمرأة والشباب والفتيات والأسرة والمجتمع. وإنها تقوم على دعاوي مدمرة تسخر من كل الأصول الأصلية لفكرنا وعقائدنا. هذه التي قامت عليها مجتمعاتنا منذ أربعة عشر قرناً. وهي تستمد مفاهيمنا الأساسية من الفكر اليوناني الوثني القديم، بطابعه المادي القائم على التجسيم وعبادة الصور والإعجاب بالأجساد وتقديس مظاهر الجمال الحسي والقوة، والتي تدعو إلى إيقاد العواطف وإشعال الغرائز أو الإنطلاق وراء الذات، وهي في هذا كله تخالف مفهوم الإسلام الأصيل القائم على الإعجاب بالفكرة والجمع بين الروح والمادة، وتبريد العواطف وحماية الطبيعة الإنسانية من الصراع أو الانحلال.
هدف القصة:
ومنت هنا فقد تكشف بعد من خلال كلمات الأغنية ومن خلال حوار المسرحية ومن خلال أهداف القصة أن الغرض إنما يرمي إلى القضاء على الطبيعة الإسلامية للنفس البشرية وتحويلها إلى نفس أخرى وثنية إباحية لا هدف لها إلا المطامع والأهواء والاستجابة للغرائز.
وقد استشرى هذا الخطر فأصبحت تلك المفاهيم التي تضعها المسرحيات أو حوار القصة أو كلمات الأغنية وكأنها مسلمات تجري على الألسنة. وتحاكم بها الأمور والعلاقات سواء بالنسبة للأسرة أو بين الرجل والمرأة زأخذت تحل شيئاً فشيئاً مكان القيم الأساسية التي رسمتها العقيدة والأخلاق وقد واجه الفكر الإسلامي هذه الظاهرة الخطيرة كاشفاً عن وجهة نظر الإسلام: هذا المفهوم الذي يقوم على "استحالة التناقض مع الفطرة" فإذا كانت الفنون من روح الفطرة وجب ألا تخالف أو تناقض دين الفطرة: دين الإسلام في شيء، فإذا خالفت الفنون الدين في أصوله – كما يقول الدكتور محمد أحمد الغمراوي – ودعت صراحة أو ضمناً إلى رذيلة من أمهات الرذائل التي جاء الدين لمحاربتها، وعاقت الإنسان عن أن يفعل بالفضائل التي جاء الدين لإيجابها على الإنسان حتى يبلغ ما قدر له من الرقي في النفس والروح، إذا خالفت الفنون الدين في شيء من هذا أو في شيء غير هذا، فهي بالصورة التي تخالف بها الدين فنون باطلة، فنون جانبت الحق وأخطأت الفطرة التي فطر الله عليها الناس والخلق.
ومفهوم الفن في الإسلام مباين لمفهومه في الثقافات والحضارات الأخرى: قوامه الأخلاق وطابعه التوحيد، يتسامى بالغرائز بالنفس الإنسانية إلى الكمال دون أن يبعد عن الواقع.
الفن في الإسلام:
والفن في نظر الإسلام: أداة لبيان جمال الصنعة الإلهية ووسيلة الإسعاج الروحي والنفسي بتحرير الإنسان من عالم الأهواء والغرائز وإطلاقه في نظرة حرة إلى الكون والوجود يعرف فيها قدرة الله تبارك وتعالى وعظمته ويزداد بها إيماناً.
وقد كان الفن الإغريقي المادي الوثني جعل الأولوية للتماثيل المجسمة إعجاباً بالأجساد وعبادة لصور الجمال البدني ومظاهر القوة، ولكن الفن الإسلامي – مستمداً مقوماته الأساسية من القرآن والسنة – يجعل البيان والشعر والأدب في مقدمة قائمة الفنون، الكلمة البليغة، والفكرة الموجية، وفي ذلك انتقال من عالم المادة إلى عالم الفكر، والتأمل لأوسع العوالم، والتفكر في خلق الله أعظم معطيات العقل والروح: {ن والقلم وما يسطرون}.
وبذلك أصبح رائد الفن: البيان الذي يتمثل في أسمى صوره في القرآن الكريم وبذلك فقد دفع الإسلام الفكر البشري انتقالاً من مفهوم الماديات في الفن مفهوم المعنويات والماديات في إطار جامع متكامل وبذلك فقد حرر البشرية من مفهوم المادية الخالصة التي تقدس الجسد والشهوات والغرائز والوثنيات وتقيم لها المهرجانات والطقوس ودفع الإسلام البشرية إلى الانتقال من تجسيد البطولة في صورتها المادية إلى تكريم عمل الإنسان نفسه.
لا صراع بين الإله والإنسان:(/1)
ومن هنا فإن أبرز سمات الفن الغربي لا تجد في مجال الفكر الإسلامي مجالاً لها، فالمسلم لا يعبد الجسد عبادة وثنية بحيث تقدم له القرابين، وكل ما يتصل بذلك من أساطير الحب والجمال عند الإغريق، وهي حافلة بالمباذل لا تجد في أفق المجتمع الإسلامي قبولاً، كذلك فالإسلام لا يقر الصراع بين الإله والإنسان أو بين القدر والإنسان على النحو الذي يقوم عليه الفن الغربي، ولا يؤمن المسلم بأن الإنسان يثبت ذاتع بمصارعة القدر والإله ولا بأن البطل الصالح يتحطم على يد القدر والآلهة، وكل هذه المعاني الماساوية لا مصدر لها في الغسلام ولا في الفكر الإسلامي، لأنها مستمدة من فكرة الخطيئة النصرانية، وكذلك فإن المسلم لا يؤمن بتعدد الآلهة ولا تجسيد الإله في صورة وثن حسي ملموس كالتماثيل العديدة في العقائد العربية في ذلك الخليط العجيب بين النصرانية والهلينية، كما ان المسلم لا يؤمن بعبادة مادة الطبيعة أو المحسوسات.
ومن هنا فإن مفهوم الفن في الإسلام محرر من كل هذه القيم التي يقوم عليها الفن العربي والتي تتعارض أساساً مع الإيمان بالله الواحد، ومن ناحية أخرى فإن الإسلام لا يقر تجسيد البطولة في صورة مادية، ليس فقط حفاظاً على مفهوم التوحيد من خطر الاتصال بالتماثيل والأصنام التي كانت تعتبر عبادات ما قبل الإسلام، ولكنه ارتفاع بالنفس الإنسانية من أن تتمثل في مفهوم مادي بينما جاء الإسلام محرراً للبشرية من التجزئة بين الماديات والمعنويات.
الأمم لا تهزم:
هذه هي وجهة نظر الإسلام في الفن بصفة عامة ونحن نعرف أن الأمم لا تهزم إلا من انحراف فنونها وآدابها وخروجها على الضوابط والقيم، ولقد دمرت الفنون المحرمة حضارات اليونان والرومان والفرس والفراعنة، وستدمر الحضارة الغربية القائمة، فتلك سنة تبارك وتعالى التي لا تتخلف لكن المجتمعات التي تخرج عن الضوابط والحدود التي رسمها لها الدين الحق، وإن الفنون الغربية اليوم تسير في نفس الطريق الذي سار فيه الفن الروماني والوثني هادماً لكل القيم متحللاً من كل الضوابط قائماً على الإباحية والشذوذ والتشاؤم.
وقد ورثت الحضارة الغربية مفهوم الوثنية ومفهوم النصرانية المؤلهة للإنسان وورثت معها قيمها وأبرز هذه القيم نبذ "الأخلاقية" ومن ثم طغت فكرة الفن للفن على المفاهيم الأخلاقية السائدة، واشتدت الحرب عندما شرع حماة الفضائل في إدانة "الفن" على أنه لعب وحس شهواتي يحول بين الإنسان وبين الاستقامة، وفي مفهوم الإسلام أن الفن والأدب يقوم على الالتزام الأخلاقي ويتحرك في دائرة كاملة جامعة ولذلك لم يقم أي صراع في الفكر الإسلامي بين الفن والأخلاق أو بين وحدة الفن والأخلاق، أو انفصالهما لأن مفهوم الفكر الإسلامي قائم أساساً على التكامل الجامع، فلا الفن يستقل عن الأخلاق، ولا علاقة الفن بالأخلاق، علاقة خضوع أو قسر أو إيقاف له عن انطلاقته. وليس في تحرك الفن الإسلامي في دائرة الأخلاق ما يحول بيسنه وبين تحقيق هدفه من إبراز حقيقة الشر والخير، بل هو في التحرر من إبراز الصورة في قالب الإغراء بها والحض عليها المجتمع ولا يحاول أن يبرز الوذيلة أو يهدم نظم الدين والعدالة والتوحيد.
والفن الإسلامي متحرر من المادية الخالصة، جامع بين الروح والفكر، بعيد عن مفهوم الوثنية الإباحية.
ولما كانت الفنون المعاصرة تقوم في أساسها على القصة فإن هذا يقتضينا الكشف عن أن هذا الفن عربي خالص مستحدث، يختلف اختلافاً كبيراً عما عرف في الأدب العربي من فنون، وقد بدأت القصة في الأفق العربي والإسلامي مترجمة من الآداب الغربية تتغير فيها أسماء الأفراد والأماكن ويبقى مضمونها في الحوار والأحداث ولذلك فقد حملت مفاهيم غريبة عن النفس الإسلامية واستجابات مباينة لروح المفاهيم الإسلامية العربية، وخاصة في المسائل الكبرى كالخيانة الزوجية واضطراب الأسرة والموقف من اليتامى والفقراء وعلاقة الجنس بالمال، وعديد من هذه المسائل التي يقف منها المفهوم الإسلامي موقفاً مغايراً تماماً لتصرفات المجتمع الغربي القائم على الأنانية والحقد والإباحية.
القصة فن دخيل:(/2)
ولقد سارت القصة المكتوبة بالعربية في هذا الاتجاه فأكدت أنها فن دخيل لا يتفق والقيم العربية الإسلامية، وأن النفس العربية قد عبرت عن نفسها بأساليب أخرى ليست القصة واحدة منها، ولقد نقلت من آداب الأمم الغربية أسوأ آثارها ولم يرع المترجمون حالة البلاد ولا روح الثقافة، ولا الذوق الأدبي وكان لنقل هذه القصص أبعد الآثار في إفساد الأذواق والأخلاق لأجيال متعددة فقد طرح ركام مظلم فاسد من الحكايات الخرافية والإباحية والقصص البوليسية وكلها حديث عن بيوت الفساد وتجار الخمور، ذلك أن الكتاب المارون قد أغرقوا الأدب العربي بسيل من القصص يطفح بالإباحة والفساد أمثال نجيب الحداد وإلياس فياض وفرح أنطون وطانيوس عبده وإلياس أبو شبكة وخليل ببيدس وأمين الحداد، وقد ألقت هذه القصص إلى صغار المتعلمين وفتيات الأسر من وراء الجدران قدراً كبيراً من الرؤى الجنسية المسرفة وقدراً من اللذات الخيالية التي تتمثل في صور الترف وملامح القصور والرياش والعطور والخمور مما كان له أثره البعيد في خلق ظاهرة جديدة في المجتمع الإسلامي في ظاهرة وباء الحلم الكاذب الذي يشقي ويبعد عن الواقع وكان لهذه الأكاذيب أثرها السيء في نفوس الشباب الغريز والفتيات مما أفسد نظرتهم إلى الحياة وحال بينهم وبين رؤية الواقع وانتقلت هذه الرؤى من سطور المطبوعات إلى مشاهد مرئية على الشاشات في كل بيت.
ولاشك الآن أن هدف القصة في الآداب الغربية هو إعطاء الشعوب جرعة من الخيال للتعويض عن الواقع، وأن القصة الخرافية الوثنية هي اللذة الكاذبة التي تعطي الوهم بدلاً من إعطاء الحقيقة. أما المسلم فإنه لا يحتاج إليها لأنه يعيش في جو من الوضوح والصراحة بين أوامر الدين ونواهية.
لقد عرف الأدب الإسلامي العربي "الصدق" القصصي فيما رؤى القرآن من قصص، وما وجه إليه الفكر من التحرك داخل الإطار الواقع لا يغرق في إدخال الشر والإباحة. ولذلك فقد كان الإسلام حريصاً على أن يعيش المسلم في واقعه وأن لا يتخذ وسائل الخداع الكاذبة المخدرة سبيلاً إلى إخراجه إلى عالم الأوهام.
نحن نقص عليك نبأهم بالحق:
ولقد قدم القرآن الكريم للمسلم القصة الصادقة بعيداً عن الأسطورة والخيال الوثني والوهم. كذلك فقد حرص علماء المسلمين على تحرير سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من الأساطير والخرافات. التي من شأنها أن تحجب الحقيقة عن الناس. وما زال مفهوم القصة الإسلامي في اللغة العربية وهو الإخبار بالواقع المجرد، وتتبع الآثار الحقيقية، ولا يفهم منه تأليف الحكايات أو تلفيق الوقائع أو اصطناع الأخبار المكذوبة التي تصدر عن الكبت والظلم، وإذا كانت كلمة "القصة" في اللغة العربية تعني الواقع الملموس فإن معناها في اللغات الغربية مستمد من مدلول الخرافة التي عرفها العرب قبل الإسلام بقولهم أسطورة وأساطير، وقد أطلقت في القرآن الكريم على الخرافات التي ينكرها الإسلام في مقابل ما أمنوا به من أحسن القصص {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى} يوسف: 111، ولقد كشف كثير من الباحثين عن التعارض الواضح بين "الفطرة" التي هي سمة الأدب الإسلامي العربي وبين "القصة" التي عرفها الأدب الغربي وجرى تقليدها في الأدب العربي الحديث.
ومن هنا فإن النقد الأدبي الإسلامي المصر يرفض أمثال قصص شهرزاد وألف ليلة وليلة وغيرها من الأساطير لأنها لا تمثل مفهوم الإسلام الصحيح، وغاية ما يقال في هذا أن الإسلام عزل المجتمع الإسلامي عن الإباحيات والخياليات المغرقة والخرافات وطبع الفكر الإسلامي والمجتمع بطابع التوحيد والفطرة والواقعية بعيداً عن المغالاة أو الإسراف.
أما المسرح فإنه دخيل وافد وليس فناً أصيلاً لا في الأدب العربي ولا في المجتمع الغربي ولا في المجتمع الغربي الإسلامي. وقد صدق زكي طليمات حين قال: "أنه بالرغم من انقضاء قرن وربع قرن ما برح يبدو لرجل الشارع وكأنه بضاعة مستوردة من الخارج أو هو زي من أزياء التعبير لا عهد به. وبكنه يتعطاه من باب التظاهر بالإقبال على كل جديد، ولعل أبرز دوافع الاستجابة هي عامل التسلية وفضول المعرفة والتجربة، إلا أنها دوافع يجمع بينها مظهر واحد تلحظه العين وهو "قزقزة" ثمار الفول السوداني واللب.(/3)
وعندنا أنه ليس رجل الشارع فقط بل هي الطبيعة الأعمق التي ترى في المسرح شيئاً معارضاً لفطرتها المستعلنة في البيان العربي بغير حاجة إلى هذه الأساليب المعقدة ويقول أن أعمق العوامل لمعارضتها للفطرة الإنسانية وللطبية الإسلامية أنها صورة وهمية ليست من واقع الحياة وأنها تستعمل النصوص التاريخية بغير أمانة ويرى أصحاب هذا الشأن يأسهم من نجاح هذه المحاولة، ذلك أن القالب الشكلي للمسرحية "أجنبي" من كل نواحيه إذ أنه نقل نقلاً (فوتغرافياً) سريعاً من غير تمعن في المسرحية الغربية التي استوردناها مع كثير من النحل الغربية في أواسط القرن الماضي، وبالرغم من المحاولة التي جرت خلال أكثر من مائة سنة على استنبات المسرح في التربة العربية فقد بقيت المسرحية على قالبها: غريبة المذاق عن رجل الشارع.
ويقول زكي طليمات: أن من أبرز الأسباب التي تصرف الذعنية الإسلامية عن الأخذ بأسباب التعبير عن طريق المسرحية للدعاية والتفسير: هو أن العقيجة الإسلامية على وضوح أركانها وجلاء تعاليمها ومنطق أحكامها عقيدة لا يشوبها لبس ولا غموض يتطلبان تحايلاً في التفسير، فالواحدانية لا تقبل التأويل ولا تحتمل الشرك ولبس هناك أرباب ولا أنصاف أرباب كما هي الحال في الوثنية، كذلك لا توجد عقدة يتعذر فهمها إذ لا يوجد أب ولا ابن ولا روح قدس، كما هو الحال في العقيدة النصرانية، وشعائر الإسلام على بساطته غنية عن تقشف ظاهر فليس في حاجة إلى عازف يعزف على آلة موسيقية إذ منشد ينشد نداءات كهنوتية أو راقص يدور على نفسه، مثل هذه العقيدة القوية في معنوياتها البسيطة في شعائرها القائمة على مناهضة كل مظهر من مظاهر تعدد الأرباب وما يتصل به من فنون السحر لإحياء طقوسه ومناسكه، لا يمكن أن يتخصص عن فن تمثيلي.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن العرب بطبيعة عقلهم ينظرون إلى الكليات عرفنا إلى أي مدى نجد التباين الضخم بين الأدب العربي والآداب الأجنبية في مجال القصة والمسرح، ومن ناحية أخرى فإن الصراع الماساوي أو الدرامي الذي هو عقدة المسرحية أو القصة لا يجد بينه طبيعية في إيمان المسلمين العرب ومعتقداتهم، ذلك أن البطل الماساوي هو في صراع دائم مع الآلهة والقدر، أما المسلم بحكم وحدانيته فإنه لا يستطيع أن يتصور صراعاً مع القدر والآلهة على نحو ما كان تصوره اليونان الذين يؤمنون بقوى متعددة ويؤمنون الحرب مع القدر وإن كانت آخرتها الهزيمة المؤسية فإنها حرب تدل على تجبر الإنسان.
إن الصراع مع الآلهة لا يستقيم أصلاً مع التوحيد، أما الإنسان المسلم فهو في سلام مع الله الواحد الأحد. ولاريب أن رؤيا العربي المسلم واضحة غير مغيبة ولا يشوبها سحاب من الغمام وليست بين بين، وليست في صراع مع الطبيعة وكل هذه الرؤى تنعمس في الأدب الإسلامي العربي وهي مضادة لرؤية الغربي.
ويقول الأستاذ علي أحمد باكثير: إذا لم يوجد المسرح عند العرب في جاهليتهم فأحرى ألا يوجد لديهم بعد الإسلام الذي قضى على تلك الوثنية وأعاد إليهم دين التوحيد كأصفى ما يكون، وتقديس الأشخاص من مظاهر الوثنية، والإسلام ينهى عن ذلك نهياً تاماً مما أدى إلى عدم ظهور "الدراما" لألأن نشأة الدراما في عهودها الوثنية كانت قائمة على تقديس من كانوا ملوكاً أو أبطالاً ثم ألهوهم بعد وفاتهم.
ونقول: إن من أقوى عوامل التعارض بين مفهوم الفن في الإسلام وبين المسرح هو روح الإباحية الواضحة في الآداب اليونانية – حيث نشأ المسرح – والتي ورثها الأدب الغربي وهي مظاهر يصفها أنيس فريحة بأنها "تبلغ حد الفسق والعربدة ذات الطقوس، تحت شعار البغاء المقدس والذي يتضمن بيع النساء أجسادهن في أيام معدودات وشرائح وذبائح لعشتروت". هذه الصورة المقززة التي حاربتها الأديان وألغاها الإسلام إلغاء تاماً هي ثمرة الفنون المسرحية الغربية، هي تراث الأسطورة الذي تحاول أن تجدده المسرحية الغربية وهو بعيد كل البعد عن القيم التي قدمها الإسلام وحرر بها الإنسان من عبودية الوثن وعبودية الإباحية ورفعه إلى مستوى الكرامة، قد رفض العرب عندما ترجموا اليونانيات هذه الألوان من المسرحيات والملاحم. ولكن القوى الأجنبية استطاعت في العصر الحديث أن تزج بهذه السموم في الآداب العربية لتخلق ظاهرة القلق والتحلل التي ظهرت نتائجها في المجتمعات الإسلامية في العصر الحديث.
وبالجملة، فقد كانت هذه الفنون المختلفة ومنها القصة والمسرح دخيلة على الأدب العربي والفكر الإسلامي لأنها نتاج مجتمعات أخرى وقائمة على ظروف وأوضاع لم يتعرض لها المجتمع الإسلامي القائم على روح التوحيد الخالص والذي يعتبر الأخلاق جزءاً لا يتجزأ من العقيدة الدينية.(/4)
الفهم الصحيح للورع الزاهد
عبدالعزيز بن ناصر الجليل
إنَّ من المفاهيم التي أصابها الخلل عند بعض المتنسِّكة مفهوم الورع والزهد حتى جاوزوا فيها منهج سلف الأمَّة المهديين وأتوا بتصوُّرات ومواقف عدُّوها من الزهد والورع وهي ليست منها في شيء؛ لأنَّها إمَّا جانحة إلى الغلو والزيادة أو إلى التقصير والتفريط والتلبيس، كما أنَّ الشيطان قد صوَّر لبعضهم بأنَّه من أهل الورع والزهد بتركه لبعض المباحات أو الشبهات مع أنَّه متلبِّس ببعض المحرَّمات الواضحة أو تارك لبعض الواجبات الصريحة، وهو يعلم بذلك أو لا يعلم.
من أجل ذلك جاءت هذه المقالة السريعة في تحديد الفهم الصحيح للورع والزهد كما فهمه السلف الصالح رحمهم الله تعالى، مع التحذير من نزغات الشيطان وتلبيسه في هذا الباب.
جاء عن السلف عدَّة تعريفات للورع والزهد بعضها ذهب إلى مظهر أو نوع من أنواع الزهد والورع، وبعضها الآخر ذهب إلى مظهر أو نوع آخر، ولذلك فالاختلاف فيما بينها إنَّما هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد؛ لأنَّها تعود في جملتها إلى تعريف عام منضبط هو الذي اختاره الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى حيث يقول: "سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدَّس الله روحه ـ يقول: الزهد: هو ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع: ترك ما تخاف ضرره في الآخرة. وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها".
وبالتأمل في هذين التعريفين للزهد والورع وبالتدقيق في مدلولهما نخرج بالفوائد التالية:
1/ أنَّ مقام الزهد أعلى من مقام الورع؛ لأنَّ الزاهد لا تراه إلاّ محاسباً لنفسه شحيحاً بوقته لا يضيع عمره في شيء لا يقرِّبه إلى الله عزّ وجل ولا ينفعه في الآخرة، وإنَّما ينظر إلى ما يقوله ويفعله، فإن كان ممّا ينفعه عند الله عزّ وجل أخذ به وعلق همّته به، وإن كان لا يرجو نفعه في الآخرة زهد فيه وتركه ولو لم يكن منه ضرر في الآخرة، ولا يعني هذا أنَّ الزاهد لا يتمتَّع بالمباحات، بل إنَّه يتمتّع بها من غير توسُّع وينوي بها التقوِّي على طاعة الله عزّ وجل، وبهذا تنفعه في الآخرة.
أمَّا الورع فصاحبه يتجنَّب ما يخاف ضرره في الآخرة، فإذا خلا من الضرر فقد يأخذ به ولو لم ينتفع به في الآخرة، أي أنَّه يتجنَّب الحرام وشبهه ويفعل الواجب وشبهه، وما سوى ذلك فهو متوسِّع فيه تركاً أو فعلاً من دون استحضار نيّة التعبُّد بذلك.
وهذا مقام رفيع لكنّه دون مقام الزهد.
وبذلك نستطيع القول بأنّ كل زاهد فهو ورع، وليس كلّ ورع زاهدا.
2/ بالفهم الصحيح للزهد والورع حسب التعريفات السابقة نتخلَّص من الفهم الخاطئ والغلط الذي قد يقع فيه بعض النَّاس في موضوع الزهد والورع، ولذلك صور، منها:
* قصر الزهد على مظاهر معيَّنة في المأكل والمشرب والملبس والمسكن، أو ترك الاكتساب والتفرُّغ للذكر والقرآن ونوافل العبادات...إلخ، ونسيان ما هو أهم من ذلك، وهو زهد القلب وميله إلى الآخرة ومحبَّته وتوكله على الله عزّ وجل وترك ما يضرَّه من الآثام الباطنة والظاهرة، ولذلك فأوَّل ما ينبغي أن ينصبّ إليه اهتمام الزاهد بحق: زهده في ما حرَّم الله عزّ وجل وقيامه بما أوجب الله عزّ وجل، ويلي ذلك زهده في مشتبهات الحرام وفعله لمشتبهات الواجب، ثمَّ يصل بعد ذلك إلى زهده في المباحات التي لا تنفعه في الآخرة، وإن أخذ بها نوى بها التقوِّي على طاعة الله سبحانه فتتحوَّل المباحات في حقِّه إلى عبادات ينتفع بها في الآخرة.
* اعتقاد بعض النَّاس أنَّ الزهد والورع يختصَّان بجانب التروك فقط، فلا يرون الورع أو الزهد إلاَّ في ترك الحرام أو مشتبهاته، لا في أداء الواجبات ومشتبهاتها، مع أنَّنا لو أمعنَّا النظر في مفهوم (الترك) الوارد في تعريف الزهد والورع لرأيناه يشمل ترك المحرَّم ومشتبهاته وفعل الواجب ومشتبهاته، ومن قام بذلك فقد ترك ما يخاف ضرره في الآخرة.
ومن هذا الغلط تنشأ بعض الصور المتناقضة في حياة من يدَّعي الزهد أو الورع.
فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ يفصِّل هذه الحالة فيقول: "يقع الغلط في الورع على ثلاث جهات:
أحدها: اعتقاد كثير من النَّاس أنَّه من باب الترك، فلا يرون الورع إلاَّ في ترك الحرام، لا في أداء الواجب، وهذا ما ابتلي به كثيرٌ من المتدنية المتورِّعة، ترى أحدهم يتورَّع عن الكلمة الكاذبة، وعن الدرهم فيه شبهة؛ لكونه من مال ظالم، أو معاملة فاسدة، ويتورَّع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين، وذوي الفجور في الدُّنيا. ومع هذا يترك أموراً واجبة عليه؛ إمَّا عيناً أو كفاية وقد تعيّنت عليه، من: صلة رحم، وحقِّ جار، ومسكين، وصاحب، ويتيم، وابن سبيل، وحقّ مسلم، وذي سلطان، وذي علم، وعن أمر بمعروف، ونهي عن منكر، وعن الجهاد في سبيل الله.. إلى غير ذلك ممَّا فيه نفعٌ للخلق في دينهم ودنياهم ممَّا وجب عليه.. أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى؛ بل من جهة التكليف ونحو ذلك.(/1)
* قيام بعض النَّاس ببعض الأعمال التي قد تكون محرَّمة أو بترك بعض الأعمال التي قد تكون واجبة، اعتقاداً منهم أنَّ ذلك من الورع. وهذا يحصل في العادة عند تعارض المصالح والفساد وعدم الموازنة لما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية، ويشرح شيخ الإسلام رحمه الله تعالى هذه المسألة فيقول: "وتمام الورع أن يتعلَّم الإنسان خير الخيرين، وشرّ الشرّين، ويعلم أنَّ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها وإلاّ فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية، والمفسدة الشرعية؛ فقد يدع واجبات، ويفعل محرّمات، ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجمعة والجماعات خلف الأئمة الذين فيهم بدعة، أو فجور، ويرى ذلك من الورع، ويمتنع من قبول شهادة الصّادق، وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفيفة، ويرى ترك قبول سماع هذا الحقّ الذي يجب سماعه من الورع".
* جهل بعض المتورِّعة أو المتزهِّدة بالكتاب والسنَّة فيفعلون بعض الأفعال ظنَّاً منهم أنَّها واجبة أو شبه واجبة، ويتركون بعض الأعمال ظنَّاً منهم أنَّها محرَّمة أو شبه محرَّمة، ودافعهم إلى ذلك الورع والتديُّن، لكن جهلهم ببعض الحلال والحرام قد يؤدِّي بهم إلي فعل ما لم يدل الدليل علي وجوبه أو ترك ما لم يدلّ الدليل على أنَّه حرام أو مشتبه بالحرام، وإنَّما قد يكون هذا الورع مبنياً على الظنّ أو الميل النفسي فحسب.
وعن هذا يتحدَّث شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، فيقول: ".. إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرّم والمشتبه فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلّة الكتاب والسنّة، وبالعلم لا بالهوى، وإلاّ فكثير من النَّاس تنفر نفسه من أشياء لعادة ونحوها، فيكون ذلك ممَّا يقوِّي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة، فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد.. ومن هذا الباب: الورع الذي ذمَّه الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الذي في الصحيح لما ترخّص في أشياء فبلغه أنَّ أقواماً تنزَّهوا عنها، فقال: "ما بال رجال يتنزَّهون عن أشياء أترخص فيها؟ والله أنِّي لأرجو أن أكون أعلمهم بالله وأخشاهم".
ولهذا يحتاج المتديِّن المتورِّع إلى علم كثير بالكتاب والسنّة والفقه في الدين، وإلاّ فقد يفسد تورّعه الفاسد أكثر ممَّا يصلحه، كما فعله الكفَّار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم".
* إرادة الإنسان بورعه وزهده الدنيا من الشهرة أو الصدارة أو ثناء النّاس...إلخ.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "... واعلم أنَّ الورع لا ينفع صاحبه فيكون له ثواب إلا بفعل المأمور به من الإخلاص، أمّا الورع بفعل المأمور به فظاهر، فإنَّ الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، وأمَّا ترك المنهيُّ عنه الذي يسمِّيه بعض الناس ورعاً فإنَّه إذا ترك السيئات لغير وجه الله لم يثب عليها، وإن لم يعاقب عليها، وإن تركها لوجه الله أثيب عليها، ولا يكون ذلك إلاّ بما يقوم بقلبه من رجاء رحمة الله، أو خشية عذابه".
إنَّ الزهد في الدُّنيا قد يكون لطلب الراحة ممَّا يلحق من ضررها، أو لعدم حصول المطلوب منها، وهذا كلَّه ليس من الزهد في شيء، وليس بمحمود عند الله عزَّ وجل.
وإنَّما المحمود مِن ترك الدُّنيا وذمّها ما كان دافعه إرادة وجه الله عزّ وجل والدار الآخرة، ولكون الدنيا تشغل عن ذلك، ولولا كون الدنيا تشغل عن عبادة الله عزّ وجل والدار الآخرة لم يشرع الزهد فيها، فلينتبه من يدِّعي الزهد إلى هذا الأمر وليفتِّش عن نيَّته ولا يلبس الحقّ بالباطل.
(إنَّ قوماً زهدوا فيما ينفعهم بلا مضرَّة فوقعوا به في ترك واجبات أو مستحبَّات كمن ترك النساء وأكل اللحم ونحو ذلك).
وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: "لكنِّي أصوم وأفطر وأتزوَّج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنَّتي فليس مني".
وقد يوقع زهداً في فعل محظورات، كمن ترك تناول ما أُبيح له من المال والمنفعة، واحتاج إلى ذلك فأخذه من حرام، أو سأل النَّاس المسألة المحرَّمة، أو استشرف إليهم، والاستشراف مكروه..
ومن كان زهده زهد الكسل والبطالة والراحة لا لطلب الدّار الآخرة بالعمل الصالح والعلم النافع، فإنَّ العبد إذا كان زاهداً بطالاً فسد أعظم فساد، فهؤلاء لا يعمرون الدنيا ولا الآخرة، فمن ترك بزهده حسنات مأمور بها كان ما تركه خيرا من زهده.
.. ومن زهد فيما يشغله عن الواجبات أو يوقعه في المحرَّمات فهو من المقصِّرين أصحاب اليمين.
ومن زهد فيما يشغله عن المستحبّات والدرجات فهو من المقرَّبين السابقين.
المصدرhttp://www.lahaonline.com(/2)
الفهم الصحيح للورع والزهد
فإن من المفاهيم التي أصابها الخلل عند بعض المتنسكة مفهوم الورع والزهد حتى جاوزوا فيها منهج سلف الأمة المهديين وأتوا بتصورات ومواقف عدوها من الزهد والورع وهي ليست منها في شيء، لأنها إما جانحة إلى الغلو والزيادة أو إلى التقصير والتفريط والتلبيس كما أن الشيطان قد صوَّر لبعضهم بأنه من أهل الورع والزهد بتركه لبعض المباحات أو الشبهات مع أنه متلبس ببعض المحرمات الواضحة أو تاركًا لبعض الواجبات الصريحة وهو يعلم بذلك أو لا يعلم.
من أجل ذلك جاءت هذه المقالة السريعة في تحديد الفهم الصحيح للورع والزهد كما فهمه السلف الصالح رحمهم الله تعالى مع التحذير من نزغات الشيطان وتلبيسه في هذا الباب.
جاء عن السلف عدة تعريفات للورع والزهد بعضها ذهب إلى مظهر أو نوع من أنواع الزهد والورع وبعضها الآخر ذهب إلى مظهر أو نوع آخر، ولذلك فالاختلاف فيما بينها إنما هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، لأنها تعود في جملتها إلى تعريف عام منضبط هو الذي اختاره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حيث يقول:
سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه يقول: الزهد: هو ترك مالا ينفع في الآخرة، والورع: ترك ما تخاف ضرره في الآخرة. وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها)) [1]اهـ.
وبالتأمل في هذين التعريفين للزهد والورع وبالتدقيق في مدلولهما نخرج بالفوائد التالية:
* أن مقام الزهد أعلى من مقام الورع، لأن الزاهد لاتراه إلا محاسبًا لنفسه شحيحًا بوقته لا يضيع عمره في شيء لا يقربه إلى الله عز وجل ولا ينفعه في الآخرة وإنما ينظر إلى ما يقوله ويفعله فإن كان مما ينفعه عند الله عز وجل أخذ به وعلق همته به وإن كان لا يرجو نفعه في الآخرة زهد به وتركه ولو لم يكن منه ضرر في الآخرة، ولا يعني هذا أن الزاهد لا يتمتع بالمباحات بل إنه يتمتع بها من غير توسع وينوي بها التقوِّى على طاعة الله عز وجل وبهذا تنفعه في الآخرة.
أما الورع فصاحبه يتجنب ما يخاف ضرره في الآخرة فإذا خلا من الضرر فقد يأخذ به ولو لم ينتفع به في الآخرة، أي أنه يتجنب الحرام وشبهه ويفعل الواجب وشبهه، وما سوى ذلك فهو متوسع فيه تركًا أو فعلاً من دون استحضار نية التعبد بذلك.
وهذا مقام رفيع لكنه دون مقام الزهد.
وبذلك نستطيع القول بأن كل زاهد فهو ورع، وليس كل ورع زاهد.
* بالفهم الصحيح للزهد والورع حسب التعريفات السابقة نتخلص من الفهم الخاطئ والغلط الذي قد يقع فيه بعض الناس في موضوع الزهد والورع ، ولذلك صور منها :
أ- قصر الزهد على مظاهر معينة في المأكل والمشرب والملبس والمسكن أو ترك الاكتساب، والتفرغ للذكر والقرآن ونوافل العبادات... الخ، ونسيان ما هو أهم من ذلك وهو زهد القلب وميله إلى الآخرة ومحبته وتوكله على الله عز وجل وترك ما يضره من الآثام الباطنة والظاهرة، ولذلك فأول ما ينبغي أن ينصب إليه اهتمام الزاهد بحق: زهده في ما حرم الله عز وجل وقيامه بما أوجب الله عز وجل ويلي ذلك زهده في مشتبهات الحرام وفعله لمشتبهات الواجب ثم يصل بعد ذلك إلى زهده في المباحات التي لا تنفعه في الآخرة وإن أخذ بها نوى بها التقوى على طاعة الله سبحانه فتتحول المباحات في حقه إلى عبادات ينتفع بها في الآخرة.
ب- اعتقاد بعض الناس أن الزهد والورع يختصان بجانب التروك فقط فلا يرون الورع أو الزهد إلا في ترك الحرام أو مشتبهاته لا في أداء الواجبات ومشتبهاتها مع أننا لو أمعنا النظر في مفهوم الترك- الوارد في تعريف الزهد والورع لرأيناه يشمل ترك المحرم ومشتبهاته وفعل الواجب ومشتبهاته ومن قام بذلك فقد ترك ما يخاف ضرره في الآخرة.
ومن هذا الغلط تنشأ بعض الصور المتناقضة في حياة من يدعي الزهد أو الورع.
فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يفصل هذه الحالة فيقول : يقع الغلط في الورع على ثلاث جهات:
منها : اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام، لا في أداء الواجب، وهذا ما ابتلي به كثير من المتدينة المتورعة، ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة، وعن الدرهم فيه شبهة لكونه من مال ظالم، أو معاملة فاسدة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين، وذوي الفجور في الدنيا، ومع هذا يترك أمورًا ، واجبة عليه؛ إما عينًا أو كفاية وقد تعينت عليه، من: صلة رحم، وحق جار، ومسكين، وصاحب، ويتيم، وابن سبيل، وحق مسلم، وذي سلطان، وذي علم، وعن أمر بمعروف، ونهي عن منكر، وعن الجهاد في سبيل الله... إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه. أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى ؛ بل من جهة التكليف ونحو ذلك ))[2] أ هـ.(/1)
ج- قيام بعض الناس ببعض الأعمال التي قد تكون محرمة أو بترك بعض الأعمال التي قد تكون واجبة اعتقادًا منهم أن ذلك من الورع. وهذا يحصل في العادة عند تعارض المصالح والمفاسد وعدم الموازنة لما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية، ويشرح شيخ الإسلام رحمه الله تعالى هذه المسألة فيقول : »وتمام الورع أن يتعلم الإنسان خير الخيرين، وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية، والمفسدة الشرعية؛ فقد يدع واجبات، ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجمعة والجماعات خلف الأئمة الذين فيهم بدعة، أو فجور، ويرى ذلك من الورع، ويمتنع من قبول شهادة الصادق، وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفيفة، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع )) [3].
د- جهل بعض المتورعة أو المتزهدة بالكتاب والسنة فيفعلون بعض الأفعال ظنًّا منهم أنها واجبة أو شبه واجبة، ويتركون بعض الأعمال ظنًّا منهم أنها محرمة أو شبه محرمة، ودافعهم إلى ذلك الورع والتدين لكن جهلهم ببعض الحلال والحرام قد يؤدي بهم إلى فعل ما لم يدل الدليل على وجوبه أو ترك مالم يدل الدليل على أنه حرام أو مشتبه بالحرام، وإنما قد يكون هذا الورع مبني على الظن أو الميل النفسي فحسب.
وعن هذا يتحدث شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فيقول: ((.. إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرم والمشتبه فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة، وبالعلم لا بالهوى، وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه من أشياء لعادة ونحوها، فيكون ذلك مما يقوي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم فى أوهام وظنون كاذبة، فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد... ومن هذا الباب الورع الذي ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيح لما ترخص في أشياء فبلغه أن أقوامًا تنزهوا عنها، فقال: ((ما بال رجال يتنزهون عن أشياء أترخص فيها ؟ والله أني لأرجو أن أكون أعلمهم بالله وأخشاهم)) [4].
ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين، وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه، كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم« أهـ [5].
هـ- إرادة الإنسان بورعه وزهده من الدنيا الشهرة أو الصدارة أو ثناء الناس... إلخ.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : (( ... واعلم أن الورع لا ينفع صاحبه فيكون له ثواب إلا بفعل المأمور به من الإخلاص، أما الورع بفعل المأمور به فظاهر، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، وأما ترك المنهي عنه الذي يسميه بعض الناس ورعًا فإنه إذا ترك السيئات لغير وجه الله لم يثب عليها، وإن لم يعاقب عليها، وإن تركها لوجه الله أثيب عليها، ولا يكون ذلك إلا بما يقوم بقلبه من رجاء رحمة الله، أو خشية عذابه« أهـ [6].
و- إن الزهد في الدنيا قد يكون لطلب الراحة مما يلحق من ضررها. أو لعدم حصول المطلوب منها ، وهذا كله ليس من الزهد في شيء وليس بمحمود عند الله عز وجل.
وإنما المحمود من ترك الدنيا وذمها ما كان دافعه إرادة وجه الله عز وجل والدار الآخرة ولكون الدنيا تشغل عن ذلك، ولولا كون الدنيا تشغل عن عبادة الله عز وجل والدار الآخرة لم يشرع الزهد فيها، فلينتبه من يدعي الزهد إلى هذا الأمر وليفتش عن نيته ولا يلبس الحق بالباطل.
(أن قومًا زهدوا فيما ينفعهم بلا مضرة فوقعوا به في ترك واجبات أو مستحبات كمن ترك النساء وأكل اللحم ونحو ذلك.
وقد قال صلى الله عليه وسلم : (( لكني أصوم وأفطر وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني )) [7].
ز- وقد يوقع زهدًا في فعل محظورات، كمن ترك تناول ما أبيح له من المال والمنفعة، واحتاج إلى ذلك فأخذه من حرام، أو سأل الناس المسألة المحرمة، أو استشرف إليهم، والاستشراف مكروه.
ومن كان زهده زهد الكسل والبطالة والراحة لا لطلب الدار الآخرة بالعمل الصالح والعلم النافع، فإن العبد إذا كان زاهدًا بطالاً فسد أعظم فساد، فهؤلاء لا يعمرون الدنيا ولا الآخرة، فمن ترك بزهده حسنات مأمور بها كان ما تركه خير من زهده.
ومن زهد فيما يشغله عن الواجبات أو يوقعه في المحرمات فهو من المقصرين أصحاب اليمين.
ومن زهد فيما يشغله عن المستحبات والدرجات فهو من المقربين السابقين ) [8].
________________________________________
[1] مدارج السالكين 2 / 10 .5
[2] مجموع الفتاوى 20 / 139 .
[3] مجموع الفتاوى 10 / 512 .
[4] البخاري ( 6101 ) ، مسلم ( 2356 ) .
[5] مجموع الفتاوى : 20 / 141 ، 142 .
[6] المصدر السابق : 20 / 145 .
[7] البخاري كتاب النكاح (5063) ، مسلم ( 1401 ) .
[8] مجموع الفتاوى : 20 / 150 ، 151 (باختصار) .(/2)
الفهم الواضح للدعاة
________________________________________
إن تصرفاتنا السلوكية مبنية غالباً على قناعتنا الفكرية التي من أهم أسس بناءها الفهم الواضح ، والدعاة إلى الله أحوج ما يكونوا إلى فهم واضح إلى ما يدعوا إليه فكثيراً ما نجد دعاة ضلت أفها مهم ونسوا غايتهم في الحياة فركنوا إلى الدنيا وملذاتها حتى قعدوا عن سلوك طريق الآخرة والعمل لها ففسدت قلوبهم وطمعت نفوسهم إلى جمع المزيد من حطام الدنيا ،فتجد ظاهرهم الالتزام في صف الدعوة وباطنهم يأبى أن يضحى ساعة من اجل الدعوة لأن لديه أعمال خاصة ولا يستطيع التوفيق ولكن سرعان ما تجدهم يشاركون في صف الدعوة حتى يحصلوا على دعم الحركة الإسلامية وذلك لتحقيق المزيد من ملذات الشهرة والجاه ، وقد حجبت قلوبهم بالذنوب فلم يستطيعوا فهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
((مالي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح فتركها))
لذلك نجد الإمام ابن القيم -رحمه الله - يبين إن صحة الفهم ووضوحه من أفضل نعم الرب على العبد فيقول:
((صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي انعم بها على عبده بل ما أعطى عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما،وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم ،وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم ، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفها مهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة، وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمده (أي صحة الفهم) حسن القصد، وتحرى الحق، وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادته اتباع الهوى، وإيثار الدنيا، وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى)).
والفهم الواضح مبني على مدى قرب الداعية إلى الله ولا يكون ذلك إلا بمجاهدة النفس وتزكيتها والتدبر لمعاني القرآن الكريم والسنة النبوية و السعي الدائم إلى تحصيل العلوم حتى يكون عالما بما يدعوا إليه.
قال الله تعالى :
{ فاعلم انه لاإله إلا الله واستغفر لذنبك …) يقول الشيخ الدكتور عبد الكريم زيدان -رحمه الله -: (( فقدم العلم على العمل .والواقع أن تقديم العلم على أي عمل ضروري للعامل حتى يعلم ما يريد ليقصده ويعمل للوصول إليه وإذا كان سبق العلم لأي عمل ضرورياً فإنه أشد ضرورة للداعي الى الله لأن ما يقوم به من دين منسوب إلى رب العالمين )).
وفى الختام أسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقا ً ويرزقنا إتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.
والحمد لله رب العالمين.
المراجع:
*أصول الدعوة –عبد الكريم زيدان
* أعلام الموقعين عن رب العالمين –ابن القيم الجوزية
تأليف: عمر سالم المطوع(/1)
الفهم الواضح للدعاة
إن تصرفاتنا السلوكية مبنية غالباً على قناعتنا الفكرية التي من أهم أسس بناءها الفهم الواضح ، والدعاة إلى الله أحوج ما يكونوا إلى فهم واضح إلى ما يدعوا إليه فكثيراً ما نجد دعاة ضلت أفها مهم ونسوا غايتهم في الحياة فركنوا إلى الدنيا وملذاتها حتى قعدوا عن سلوك طريق الآخرة والعمل لها ففسدت قلوبهم وطمعت نفوسهم إلى جمع المزيد من حطام الدنيا ،فتجد ظاهرهم الالتزام في صف الدعوة وباطنهم يأبى أن يضحى ساعة من اجل الدعوة لأن لديه أعمال خاصة ولا يستطيع التوفيق ولكن سرعان ما تجدهم يشاركون في صف الدعوة حتى يحصلوا على دعم الحركة الإسلامية وذلك لتحقيق المزيد من ملذات الشهرة والجاه ، وقد حجبت قلوبهم بالذنوب فلم يستطيعوا فهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
((مالي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح فتركها))
لذلك نجد الإمام ابن القيم -رحمه الله - يبين إن صحة الفهم ووضوحه من أفضل نعم الرب على العبد فيقول:
((صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي انعم بها على عبده بل ما أعطى عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما،وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم ،وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم ، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفها مهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة، وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمده (أي صحة الفهم) حسن القصد، وتحرى الحق، وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادته اتباع الهوى، وإيثار الدنيا، وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى)).
والفهم الواضح مبني على مدى قرب الداعية إلى الله ولا يكون ذلك إلا بمجاهدة النفس وتزكيتها والتدبر لمعاني القرآن الكريم والسنة النبوية و السعي الدائم إلى تحصيل العلوم حتى يكون عالما بما يدعوا إليه.
قال الله تعالى :
{ فاعلم انه لاإله إلا الله واستغفر لذنبك …) يقول الشيخ الدكتور عبد الكريم زيدان -رحمه الله -: (( فقدم العلم على العمل .والواقع أن تقديم العلم على أي عمل ضروري للعامل حتى يعلم ما يريد ليقصده ويعمل للوصول إليه وإذا كان سبق العلم لأي عمل ضرورياً فإنه أشد ضرورة للداعي الى الله لأن ما يقوم به من دين منسوب إلى رب العالمين )).
وفى الختام أسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقا ً ويرزقنا إتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.
والحمد لله رب العالمين.
المراجع:
*أصول الدعوة –عبد الكريم زيدان
* أعلام الموقعين عن رب العالمين –ابن القيم الجوزية
تأليف: عمر سالم المطوع(/1)
الفوائد المترتبة على التقوى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،،، فإن وصية الله للأولين والآخرين من عباده؛ هي تقواه سبحانه وتعالى، قال عز وجل:} وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا[131]{ “سورة النساء “ وهي أيضًا وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: [ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ] رواه الترمذي وأحمد . وعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ:'كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا' رواه مسلم والترمذي وأبوداود وابن ماجه والدارمي وأحمد.
ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها في خطبهم، ومكاتباتهم، ووصاياهم عند الوفاة:
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى ابنه عبد الله:'أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل؛ فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده'.
وأوصى عليٌّ رجلاً قال:'أوصيك بتقوى الله عز وجل الذي لابد لك من لقائه، ولا منتهى لك دونه، وهو يملك الدنيا والآخرة'.
وكتب أحد الصالحين إلى أخ له في الله تعالى:'أما بعد: أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك، ورقيبك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كل حال في ليلك ونهارك، وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه لا تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم من حذرك، وليكثر وجلك، والسلام'.
معنى التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه وقاية تقيه منه، وتقوى العبد لربه: أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه، وسخطه وقاية تقيه من ذلك؛ بفعل طاعته، واجتناب معاصيه.
بعض عبارات سلفنا الصالح في توضيح معنى التقوى:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: [المتقون: الذين يحذرون من الله وعقوبته].
وقال طلق بن حبيب:'التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله؛ ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله؛ تخاف عقاب الله'.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: } اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ[102]{ “سورة آل عمران”: [أن يطاع فلايعصى، ويذكر فلاينسى، وأن يشكر فلايكفر].فاحرص يا أخي الكريم على تقوى الله عز وجل؛ فهو سبحانه أهل أن يخشى، ويجل، ويعظم في صدرك.
بيان الفوائد المترتبة على التقوى:
أولاً:الفوائد المترتبة على التقوى في الدنيا:
1 - التقوى سبب لتيسير أمور الإنسان: قال تعالى: }وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا[4]{ “سورة الطلاق”. وقال تعالى: }فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى[5]وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى[6]فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى[7]{ “سورة الليل “.
2 - التقوى سبب لحماية الإنسان من ضرر الشيطان:قال تعالى:}إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ[201] {“ سورة الأعراف”.
3 - التقوى سبب لتفتيح البركات من السماء والأرض: قال تعالى:} وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [96] {“ سورة الأعراف “.
4 - التقوى سبب في توفيق العبد في الفصل بين الحق والباطل ومعرفة كل منهما: قال تعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا[29]{ “سورة الأنفال”، وقال تعالى: }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ[28]{ “سورة الحديد”.
5 - التقوى سبب للخروج من المآزق وحصول الرزق والسعة للمتقي من حيث لا يحتسب: قال تعالى:}وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا[2]وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ[3]{“سورة الطلاق”.
6- التقوى سبب لنيل الولاية؛ فأولياء الله هم المتقون: كما قال تعالى: }إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ[34]{ “سورة الأنفال”، وقال تعالى:}وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ[19] {“سورة الجاثية”.(/1)
7 - التقوى سبب لعدم الخوف من ضرر وكيف الكافرين: قال تعالى:} وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [120]{ “سورة آل عمران”.
8 - التقوى سبب لنزول المدد من السماء عند الشدائد ولقاء الأعداء :قال تعالى:} وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[123]إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ ءَالَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ[124]بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ[125]{“سورة آل عمران”، وبنزول المدد تكون البشرى، وتطمئن القلوب، ويحصل النصر من العزيز الحكيم، قال تعالى بعد ذلك:} وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ[126]{ “سورة آل عمران”.
9 - التقوى سبب لعدم العدوان وإيذاء عباد الله: قال تعالى:} وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِِ[2] {“سورة المائدة”، وقال تعالى في قصة مريم: }فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا[17]قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا[18]{“سورة مريم”.
10- التقوى سبب لتعظيم شعائر الله، قال تعالى: }وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[32]{ “سورة الحج”.
11- التقوى سبب لصلاح الأعمال وقبولها ومغفرة الذنوب: قال تعالى: } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا[70]يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[71] {“سورة الأحزاب”.
12- التقوى سبب لغض الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان ذلك في حياته أو بعد وفاته عند قبره صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: } إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ[3] {“سورة الحجرات”.
قال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه محترم حيًا وفي قبره صلى الله عليه وسلم دائمًا.
13- التقوى سبب لنيل محبة الله عز وجل: وهذه المحبة تكون في الدنيا كما تكون في الآخرة، كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ...] رواه البخاري.قال تعالى:} بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ[76] {“سورة آل عمران” .
14- التقوى سبب لنيل العلم وتحصيله: قال تعالى:} وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ...[282]{ “سورة البقرة”.
15- التقوى سبب قوي تمنع صاحبها من الزيغ والضلال بعد أن منّ الله عليه بالهداية: قال تعالى:} وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[153]{ “سورة الأنعام”.
16- التقوى سبب لنيل رحمة الله، وهذه الرحمة تكون في الدنيا كما تكون في الآخرة: قال تعالى:} وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ[156]{ “سورة الأعراف”.
17- التقوى سبب لنيل معية الله الخاصة: فمعية الله لعباده تنقسم إلى قسمين:(/2)
معية عامة: وهي شاملة لجميع العباد، بسمعه وبصره وعلمه؛ فالله سبحانه سميع، وبصير، وعليم بأحوال عباده، قال تعالى:} وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ...[4]{ “سورة الحديد” وقال تعالى:} أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[7]{ “سورة المجادلة”.
معية خاصة:تشمل النصرة والتأييد والمعونة كما قال تعالى: }لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا[40]{“سورة التوبة” وقال تعالى:} لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى[46] {“سورة طه” ولا شك أن معية الله الخاصة تكون للمتقين من عباده؛ قال تعالى: }إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ[128]{ “سورة النحل” وقال تعالى: }وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[36]{“ سورة التوبة”.
18- إن العاقبة تكون لهم: قال تعالى: }وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[132]{“ سورة طه” وقال تعالى:} وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ[49]{ “سورة ص” وقال تعالى:} فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ[49] {“ سورة هود”.
19- التقوى سبب لحصول البشرى في الحياة الدنيا:سواء بالرؤيا الصالحة أو بمحبة الناس له والثناء عليه، قال تعالى:} الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ[63] {“ سورة يونس”. وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:} لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ[64] {“ سورة يونس” فَقَالَ: [ هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ] رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي وأحمد . وعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَال:َ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ فَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِن] رواه مسلم وابن ماجه وأحمد .
20- إن التقوى إذا أخذت النساء بأسبابها والتي من ضمنها عدم الخضوع بالقول فإنها تكون سببًا في ألا يطمع فيهن الذين في قلوبهم مرض: قال تعالى: }يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا[32]{“ سورة الأحزاب”.
21- إن التقوى سبب لعدم الجور في الوصية: قال تعالى:} كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ[180] {“ سورة البقرة”.
22- إن التقوى سبب في إعطاء المطلقة متعتها الواجبة لها: قال تعالى: }وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ[241]{ “سورة البقرة”.
23- إن التقوى سبب في عدم ضياع الأجر في الدنيا والآخرة: قال تعالى بعد أن منّ على يوسف عليه السلام بجمع شمله مع إخوته:} إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ[90]{“ سورة يوسف”.
24- إن التقوى سبب لحصول الهداية: قال تعالى:} الم[1]ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ[2]{ “سورة البقرة”.
ثانيًا: الفوائد المترتبة على التقوى في الآخرة:
1- التقوى سبب للإكرام عند الله عز وجل: قال تعالى: }إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[13]{ “سورة الحجرات”.
2- التقوى سبب للفوز والفلاح: قال تعالى: }وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[52] {“ سورة النور”.
3- إنها سبب للنجاة يوم القيامة من عذاب الله: قال تعالى: }وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا[71]ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا[72] {“ سورة مريم”، وقال تعالى:} وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى[17]{ “سورة الليل”.
4- إنها سبب لقبول الأعمال: قال تعالى: }إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ[27] {“ سورة المائدة”.
5- التقوى سبب قوي لأن يرثوا الجنة: قال تعالى:} تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا[63] {“ سورة مريم”.(/3)
6- إن المتقين لهم في الجنة غرف مبنية من فوقها غرف: قال تعالى:} لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ[20]{“ سورة الزمر” وعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَغُرَفًا يُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا فَقَامَ إِلَيْهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هِيَ لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ وَأَدَامَ الصِّيَامَ وَصَلَّى لِلَّهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ ] رواه الترمذي وأحمد .
7- إنهم بسبب تقواهم يكونون فوق الذين كفروا يوم القيامة: في محشرهم، ومنشرهم، ومسيرهم، ومأواهم، فاستقروا في الدرجات في أعلى عليين؛ قال تعالى:} زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ[212] {“ سورة البقرة”.
8- إنها سبب في دخولهم الجنة: وذلك لأن الجنة أعدت لهم، قال تعالى:} وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ[133]{ “سورة آل عمران”، وقال تعالى:} وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ[65]{ “سورة المائدة”.
9- إن التقوى سبب لتكفير السيئات والعفو عن الزلات: قال تعالى:}وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا[5] {“ سورة الطلاق” وقال تعالى:} وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ[65]{ “سورة المائدة”.
10- إن التقوى سبب لنيل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين: قال تعالى:} جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ[31]{“ سورة النحل”.
11- إن التقوى سبب لعدم الخوف والحزن وعدم المساس بالسوء يوم القيامة: قال تعالى:} وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[61] {“ سورة الزمر” وقال تعالى:} أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[62]الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ[63] {“ سورة يونس”.
12-إنهم يحشرون يوم القيامة وفدًا إليه تعالى: والوفد هم القادمون ركبانًا، وهو خير موفود، قال تعالى:} يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا[85] {“ سورة مريم” .
13-إن الجنة تقرب لهم، قال تعالى:} وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ[90]{ “سورة الشعراء” وقال تعالى:} وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ[31]{“ سورة ق” .
14- إن تقواهم سبب في عدم مساواتهم بالفجار والكفار: قال تعالى:} أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ[28]{“ سورة ص”.
15- إن كل صحبة وصداقة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة إلى عداوة إلا صحبة المتقين: قال تعالى:} الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ[67] {“ سورة الزخرف”.
16- إن لهم مقامًا أمينًا وجنات وعيونًا: كما قال تعالى:} إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ[51]فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ[52]يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ[53]كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ[54]يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ ءَامِنِينَ[55]لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ[56] {“سورة الدخان”.
17- إن لهم مقعد صدق عند مليك مقتدر: قال تعالى:} إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ[54]فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ[55] {“ سورة القمر”.(/4)
18- إن التقوى سبب في ورود الأنهار المختلفة: فهذا نهر من ماء غير آسن، وذلك نهر من لبن لم يتغير طعمه، وآخر من خمر لذة للشاربين، قال تعالى:} مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ[15] { “سورة محمد”. وفي الحديث عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ ... فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ[ رواه البخاري وأحمد .
19- إن التقوى سبب للسير تحت أشجار الجنة والتنعم بظلالها: قال تعالى:} إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ[41]وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ[42]كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[43] {“ سورة المرسلات”، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا] رواه البخاري وأحمد .
20- إن لهم البشرى في الآخرة بألا يحزنهم الفزع الأكبر وتلقي الملائكة لهم: قال تعالى:} أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[62]الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ[63]لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[64]{ “سورة يونس”. قال ابن كثير:'وأما بشراهم في الآخرة فكما قال تعالى:} لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ[103] {“سورة الأنبياء” '.
21- إن المتقين لهم نعم الدار: قال تعالى:} وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ[30] {“ سورة النحل”.
22-إن المتقين تضاعف أجورهم وحسناتهم: كما قال تعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[28] { “سورة الحديد”.(/5)
الفوائد والمعاني المستنبطة من الأحاديث الصحيحة
الحديث الثاني : قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تغضب )
بسم الله الرحمن الرحيم
مواصلة في بيان ما حوته السنة النبوية المطهرة من المعاني العظيمة والفوائد الغزيرة التي ينبغي على العلماء وطلبة العلم التصدي لها لاستخراج كنوزها وبث فوائدها وبيان أسرارها البديعة الصادرة من المشكاة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم .
فقد ألقى فضيلة الشيخ العلامة المحدث سليمان بن ناصر العلوان كلمة بتاريخ 1/2/1422هـ عن حديث من أحاديث الرسول الكريم التي جمعت بين البلاغة والإيجاز وعظيم النفع وكبير الفائدة واستنبط منه أكثر من خمسين فائدة فقال حفظه الله تعالى :-
أخرج البخاري والترمذي من طريق أبي حصين عثمان بن عاصم عن أبي صالح ذكوان السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أوصني قال : ( لا تغضب فردد مراراً قال : لا تغضب ) وروى هذا الحديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد وفيه نظر والمحفوظ ما رواه أبو حصين ولذلك روى البخاري الحديث من إسناده وأعرض عن إسناد الأعمش لكثرة اختلافه على أبي صالح في هذا الخبر كما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة وغيره .
الفوائد
1- المقصود من ترك الغضب هو اجتناب أسبابه والأمور المفضية إليه .
2- فيه الأمر بالأخذ بالأسباب .
3- فيه الرد على الجبرية والقدرية .
4- فيه قاعدة سد الذرائع وأن الوقاية خير من العلاج .
5- فيه أهمية جمع المفتي بين العلم والعقل فيعطي كل مسألة حقها وكل سائل ما ينفعه .
6- التأدب في السؤال وطلب العلم .
7- فيه عدم جواز كتم العلم عمن طلبه إلا لمصلحة راجحة .
8- فيه أن الغضب يمنع العدل في القول والعمل .
9- فيه أن الذي لا يغضب منضبط الأفعال والأقوال حال رضاه وغضبه .
10- فيه الحث على حسن الخلق .
11- فيه الحث على الرضا بالقضاء والقدر .
12- فيه أن عدم الغضب دليل على وفور العقل وكماله .
13- فيه معنى قوله تعالى ( وإثمهما أكبر من نفعهما )وتقرير مبدأ المقارنة بين المصالح والمفاسد .
14- فيه أن هذا من محاسن الشريعة وكمالها .
15- حرص الصحابة على التفقه في الدين .
16- فيه معنى قوله صلى الله عليه وسلم اكلفوا من العمل ما تطيقون .
17- أن الشر كله في الغضب .
18- أن الغضب منه المحمود ومنه المذموم .
19- عظم فقه الصحابة حيث لم يفهموا العموم من هذا الخبر بل غضبوا الغضب المحمود وتركوا المذموم على ما علمهم الرسول صلى الله عليه وسلم .
20- أن الغضب من الأسباب المفضية إلى الكفر .
21- وجوب بذل النصح للمسلمين .
22- أهمية النصيحة وأثرها في المجتمعات .
23- فيه أن المرء قليل بنفسه كثير بأصحابه فإن المؤمن مرآة أخيه المؤمن فالمرء لا يرى عيوب نفسه غالباً .
24- أن العبرة بفائدة الكلام ونفعه لا بكثرته وسجعه .
25- جواز مراجعة العالم في المسألة مع الأدب وحسن الخلق .
26- أن ترك الغضب والتحكم فيه خلق مكتسب .
27- مدافعة السنة الكونية القدرية بالسنة القدرية الشرعية .
28- أن الغضب من الشيطان .
29- أن القوي هو الذي يملك نفسه عند الغضب .
30- فضيلة الصبر والحلم .
31- مشروعية النصيحة بلفظ موجز جامع مانع .
32- فيه معنى ( أوتيت جوامع الكلم ) .
33- إنزال الناس منازلهم في النصيحة .
34- فيه أن النهي عن الشيء أمر بضده أي عليك بالحلم والصبر .
35- الإخلاص في إسداء النصيحة .
36- طلب النصيحة إنما يكون من ذوي العقل والرأي والدين .
37- أن لازم القول في الكتاب والسنة متوجه بخلاف كلام الناس فإنهم لا يؤخذون بلازم قولهم .
38- فيه أن طلب الوصية والنصيحة رفعة للعبد لا منقصة ولا مذمة فيها .
39- أن قبول النصيحة من كمال الإيمان .
40- فيه قياس الناس بأخلاقهم لا بهيئاتهم .
41- فيه جواز تكرار النصح والوعظ ما لم يبلغ حد السآمة .
42- فيه معني قوله ( أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل ) .
43- أن النهي عن الشيء نهي عن أسبابه ومقدماته من باب أولى .
44- أن من ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً منه فمن ترك الغضب عوض بالحلم .
45- بيان فضل كظم الغيظ .
46- الحث على العفو والنصح .
47- اتساع صدر العالم للمسائل والمراجعات .
48- تواضع النبي وسعة حلمه وحسن خلقه .
49- أن الترك يعتبر عملاً .
50- أن العمل من مسمى الإيمان .
51- أن العبد يؤجر على أفعال التروك .
52- أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد في حديثه على ثلاث .
53- فيه ثبات العالم على أقواله ومبادئه طالما أنه على الحق مهما ألح عليه الناس أو ضغط عليه الواقع .
والله أعلم
=====================
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه الفوائد المستنبطة من حديث أبي هريرة في صحيح البخاري من كلامي وإملائي فلا مانع من نشره للاستفادة منه .
أخوكم
سليمان بن ناصر العلوان
10 / 2 / 1422 هـ(/1)
الفوائد والمعاني المستنبطة من الأحاديث الصحيحة
الحديث الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد
فقد ألقى فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان بتاريخ 29/1/1422هـ كلمة حول أهمية تدبر وفهم أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الفهم الصحيح والتي بها يتوصل الإنسان الى معرفة حدود ما أنزل الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - إذ هي الغاية التي يجب المصير إليها ثم العمل بمقتضى ذلك ثم ذكر فضيلته حديثا في الصحيحين ـ على سبيل المثال مبينا ما حوته أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - من المعاني العظيمة والفوائد الجمة والمعاني الغزيرة ـ واستنبط منه أكثر من سبعين فائدة فقال حفظه الله تعالى :
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق عبد العزيز بن أبي حازم وعبد الرحمن بن يعقوب كليهما عن أبي حازم سلمة بن دينار ـ واللفظ لعبد العزيز ـ قال : ( أخبرني سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر : لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه ، يُحِبُّ اللهَ ورسولَهُ ويحبُّهُ اللهُ ورسُولُهُ . قال : فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها ؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجوا أن يُعطاها ، فقال : أين علي بن أبي طالب ؟ فقيل : هو يشتكي عينيه . قال فأرسلوا إليه فأتى به فبصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية . فقال علي : يا رسول الله ، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا . فقال : انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه ، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حُمْر النعم ). وأخرجه مسلم أيضا من طريق يعقوب بن عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بمعناه وفيه ( قال عمر بن الخطاب ما أحببت الإمارة إلا يومئذ قال فتساورت لها رجاء أن أدعى لها قال فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب فأعطاه إياها وقال امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك قال فسار عليٌّ شيئا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس قال قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) ورواه مسلم أيضا من طريق عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه مختصرا .
فوائد الحديث :
فيه حرص الصحابة على تبليغ هذا الدين .
فيه عقد الإمام لألوية الجهاد .
فيه أن الأمر المشترك لا تشبه فيه فالألوية والرايات كانت معروفة من قبل .
فيه أن الإمارة خاصة بالرجال دون النساء .
التبشير بالفتح علم من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام .
فيه إثبات صفة المحبة لله والرد على الجهمية .
فيه أن الله تعالى يُحب ويُحَبُّ .
فيه إثبات الأخذ بالأسباب وذلك من قوله يفتح الله على يديه .
فيه حرص الصحابة على الخير والبحث عمّا يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
إبهام الرسول - صلى الله عليه وسلم - للرجل هو من رحمته بالمؤمنين فقد حصل بذلك من تمنيهم لذلك الفضل العظيم والتطلع إليه من زيادة الإيمان ما الله تعالى به عليم .
فيه الرد على المرجئة وأن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان .
فيه جواز السهر والسمر في أمور الخير ومصالح المسلمين .
فيه مسارعة الصحابة إلى الخيرات وذلك في قوله ) فلما أصبحوا غدوا( .
فيه أن الرجاء إنما يكون في الأمور المتوقعة الحدوث وذلك بخلاف التمني .
فيه الرد على الصوفية ومن شاكلهم ممن يدَّعون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم الغيب المطلق في حياته وبعد مماته وذلك من قوله : ) أين عليٌّ ؟ ( .
فيه أن المحبة النافعة هي محبة الله ورسوله ومن والاهما .
فيه الرد على اليهود والنصارى في قولهم { نحن أبناء الله وأحباؤه } .
فيه معنى قوله تعالى { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } إذ حصل الفضل لمن لم يحضره وامتنع ممن تعرض له .
فيه وجوب الإيمان بالقضاء والقدر وعظيم إيمان الصحابة بالقدر وكمال استسلامهم له .
فيه الرد على القدرية القائلين بخلق أفعال العباد .
فيه الرد على النواصب الذين يناصبون عليا - رضي الله عنه - العداء .
فيه الرد على الخوارج الذين يكفرون علياً ويفسقونه .
فيه أن محبة علي - رضي الله عنه - من الإيمان .
فيه الرد على الروافض الذين يزعمون تخصصهم في محبة علي رضي الله عنه .
فيه الرد على غلاة الرافضة الذين يؤلهون عليا وذلك من قوله ( رجلا ) .(/1)