وفي آية أخرى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (البقرة:83، 84).
وكما جاءت الآية (63) في سورة البقرة جاءت الآية (93) مع اختلاف يسير في بعض ألفاظ الآية: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) (البقرة: من الآية93).
وفي آل عمران عبر عنهم بأهل الكتاب: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران:187).
وفي سورة المائدة جاء الميثاق مفصلا: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (المائدة:12).
وفي سورة الأعراف: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ) (الأعراف: من الآية169).
إلى غير ذلك من الآيات التي وردت في القرآن الكريم ومما يلحظ كثرة الآيات التي وردت في بيان أخذ العهد والميثاق على بني إسرائيل حتى أنها تصل إلى ثلث الآيات التي ورد فيها لفظ العهد أو الميثاق (1) ولا غرابة في ذلك؛ فمن تتبع حديث القرآن عن اليهود وقصصهم مع أنبيائهم وغدرهم ونكثهم للعهود والمواثيق أدرك سر كثرة الآيات التي فيها بيان الله سبحانه وتعالى وتذكيره لما أخذ عليهم من عهود ومواثيق، وإيذاء بني إسرائيل لموسى - عليه السلام - وهو الذي أنقذهم من فرعون بعد طول استعباد وبلاء، إيذاء يقف المسلم أمامه حائرًا حول طبيعة وأخلاق هؤلاء البشر.
ولقد صبر موسى - عليه السلام - عليهم صبرا عجيبًا، وعانى من عتوهم وعصيانهم معاناة لا يطيقها إلا أولو العزم من الرسل، ولقد حدثنا القرآن ببعض صور عتوّهم ونفورهم وعنادهم واستكبارهم أمام كل نعمة ينعمها الله عليهم، وبعد كل فرح يهبه الله لهم، نجد أنه في الوقت الذي كان موسى يبذل جهودًا جبارة لإنقاذهم من فرعون وملئه وكان بأمسّ الحاجة إلى طاعتهم وانقيادهم وصبرهم يقولون لموسى كلامًا يصرع الألباب: (أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا )(لأعراف: من الآية129).
أي أننا لم نجد في رسالتك خيرًا، فعدمها ووجودها سواء، وجاء الفرج وأنقذهم الله من فرعون بمعجزة من المعجزات الإلهية الكبرى، وأهلك عدوهم فرعون وجنده، فماذا كانت النتيجة. (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) (الأعراف: من الآية138). سبحانك ربي ما أحلمك. هل انتهوا عند هذا الحدّ من الطغيان ونكران الجميل؟ لا: فما مرّ وقت يسير على ذهاب موسى لميقات ربه على الجبل ليتلقى الألواح حتى أضلهم السامري (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ) (طه:88).
ولم يكتفوا بجعله إلهًا لهم بل أشركوا موسى - حاشاه - معهم في شركهم، وليس ذلك فحسب، بل اتهموا موسى بالضلالة والجهالة والنسيان (فنسي) أن هذا إلهه (2).
وانتهت هذه القضية - المؤلمة - ولكنهم لم ينتهوا - فقد منحهم الله المنّ والسلوى وهم في الصحراء، وهذا من أعظم النعم، فماذا حدث هل شكروا؟ لا، وإنما قالوا: (يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) (البقرة: من الآية61).
__________
(1) - الآيات التي ورد فيها لفظ العهد أو الميثاق وما في معناهما 61 آية منها قرابة 20 آية في بني إسرائيل.
(2) - انظر تفسير الطبري 11/236.(/23)
وماذا بعد، إن قصة البقرة فيها أقوى الدلالات على تمردهم ولحاجتهم وعدم إيمانهم، ويكفي عندما نتمعن في قولهم: (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ) (البقرة: من الآية61) ثلاث مرات لم يقولوا في واحدة منها: ادع ربنا، يكفي دليلا على ما يحمله هؤلاء البشر من صفات خسيسة يتأفف منها الكرام، وفي النهاية: (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) (البقرة: من الآية71). وقصتهم في السبت معروفة: (وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) (النساء: من الآية154) (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) (البقرة: من الآية65).
وفي آخر المطاف مع موسى، وأمام الأرض المقدسة التي بشرهم الله بدخولها، وكانت أقصى أمنية يتمنونها ماذا حدث (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا) (المائدة: من الآية22) .
نهاية الجبن والخور والضعف، وبعد الإلحاح من موسى وممن آمن معهم وهم قليل "رجلان" ماذا كان الجواب؟ السمع والانقياد والطاعة؟ لا، وإنما (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة: من الآية24) عصيان وتمرد وغطرسة وجبن؟ (1).
هذه صور موجزة تكشف عن طوية هؤلاء، ومن هنا ندرك سرّ كثرة الآيات التي جاءت تتحدث عمّا أخذه الله عليهم من عهود ومواثيق ومع ذلك فالنتيجة (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) (البقرة: من الآية100).
وبعد: فما هو الميثاق الذي أخذ على هؤلاء؟:
بعد الرجوع إلى الآيات التي وردت في بيان أخذ العهد والميثاق على بني إسرائيل نجدها على ثلاثة أوجه:
1- آيات مجملة لم يبين فيها إلا أنه أخذ عليهم العهد والميثاق (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (البقرة: من الآية40).
(أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) (البقرة: من الآية100).
2- آيات فيها إشارة موجزة إلى نوع الميثاق:
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) (البقرة: من الآية63). (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) (البقرة: من الآية93).
3- آيات فيها شيء من التفصيل عمّا أخذ عليهم من عهود ومواثيق:
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) (البقرة: من الآية83). (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (البقرة:84). (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) (آل عمران: من الآية187). (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) (المائدة: من الآية12). (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ) (الأعراف: من الآية169).
وبالرجوع إلى كتب التفسير وما ذكره العلماء في تفسير هذه الآيات نخلص إلى ما يلي:
__________
(1) - انظر في ظلال القرآن 8/18.(/24)
1- أن الله أخذ على بني إسرائيل العهد والميثاق أن يؤمنوا بالتوراة جملة، ويعملوا بما فيها تفصيلا. قال الطبري: حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: لما رجع موسى من عند ربه بالألواح قال لقومه من بني إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، وأمره الذي أمركم به ونهيه الذي نهاكم عنه، فقالوا: ومن يأخذ بقولك أنت، لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله علينا، فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، فيقول هذا كتابي فخذوه، قال فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة فصعقتهم، فماتوا أجمعون، قال: ثم أحياهم الله بعد موتهم، فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله، فقالوا: لا، قال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: متنا ثم حيينا، قال: خذوا كتاب الله، قالوا: لا، فبعث الله ملائكته فنتقت الجبل فوقهم، فقيل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم، هذا الطور، قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم، قال: فأخذوه بالميثاق (1).
وذكر القرطبي نحوه وفيه: خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها وألا سقط عليكم الجبل، فسجدوا توبة لله وأخذوا التوراة بالميثاق (2).
وقال الرازي: أعطوا العهد والميثاق ألا يعودوا إلى ما كان منهم من عبادة العجل، وأن يقوموا بالتوراة، فكان هذا عهدًا موثقًا جعلوه لله على أنفسهم، وهذا اختيار أبي مسلم (3).
وقال الحسن: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) (البقرة: من الآية63) يعني التوراة (4).
وقال ابن عباس: الذي آتاهم الله هو التوراة (5).
وقال أبو العالية والربيع: يقول: اقرأوا ما في التوراة واعملوا به (6).
وقال الطبري: وأما العهد: فإنه الميثاق الذي أعطته بنو إسرائيل ربهم ليعملن بما في التوراة مرة بعد أخرى (7). وقال عند تفسير قوله تعالى: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) (الأعراف: من الآية169).
قال: هو أخذ الله العهود على بني إسرائيل بإقامة التوراة والعمل بما فيها (8).
2- أن الله أخذ على بني إسرائيل العهد والميثاق أن يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم إذا بعث، وأن يتبعوه، وأن يبينوا أمره للناس لأنه مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل.
قال الطبري: فعهد الله وميثاقه: هو ما أخذه الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم (9).
وقد وردت آثار في هذا المعنى عن ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي وابن جريج وغيرهم (10).
قال ابن كثير: أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأن ينوّهوا بذكره في الناس، فيكونوا على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه (11).
وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) (آل عمران: من الآية187).
3- أخذ الله ميثاق بني إسرائيل على الوفاء له بأن لا يعبدوا غيره، وأن يحسنوا إلى الآباء والأمهات، ويصلوا الأرحام ويتعاطفوا على الأيتام، ويؤدوا حقوق أهل المسكنة إليهم، ويأمروا عباد الله بما أمرهم الله به، ويحثّوا على طاعته، ويقيموا الصلاة بحدودها وفرائضها، ويؤدوا زكاة أموالهم (12) وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) (البقرة: من الآية83).
4- أخذ الله ميثاق بني إسرائيل بألا يقتل بعضهم بعضًا، وألا يخرجوا غيرهم - من قومهم - من ديارهم.
__________
(1) - تفسير الطبري 1/324، وهذا الأثر وإن كان عن بني إسرائيل فليس مخالفًا لما في القرآن بل هو إلى الموافقة أقرب، فنجد قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) [البقرة: 55-56]. وقوله: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظله وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) [الأعراف: 171]. وقوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) الآية [البقرة: 63].
(2) - تفسير القرطبي 1/437.
(3) - تفسير الرازي 3/107.
(4) - تفسير الرازي 3/107.
(5) - تفسير الطبري 1/327.
(6) - تفسير ابن كثير 1/105؛ وانظر تفسير الطبري 1/327.
(7) - تفسير الطبري 1/442.
(8) - تفسير الطبري 9/107.
(9) - تفسير الطبري 1/182.
(10) - انظر تفسير الطبري 4/202؛ وزاد المسير 1/521.
(11) - تفسير ابن كثير 1/346.
(12) - انظر تفسير الطبري 1/393.(/25)
وهذا قول جمهور المفسرين كقتادة وأبي العالية والطبري (1) والقرطبي (2) وابن كثير (3) وهذا معنى قوله تعالى: { ( - ( { - عليه السلام -صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنه الله أكبر ( - - } صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - { ( - الله - ( تم بحمد الله - صدق الله العظيم رضي الله عنه تمت قرآن كريم ( - ((( - فهرس - ( المحتويات ( - - عليه السلام -( - - رضي الله عنه تم بحمد الله ( - - صدق الله العظيم - عليه السلام -صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه تمت قرآن كريم ( - ( - ( - ( تم بحمد الله المحتويات ( - - - (( الله أكبر صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( - ( رضي الله عنه - ( - } (4) [البقرة: 84].
وقيل: الآية على ظاهرها وأخذ العهد والميثاق عليهم ألا يقتلوا أنفسهم حقيقة (5) أو يرتكبوا ما يؤدي إلى قتل النفس كالقصاص (6) أو إقامة الحرب بدون حق مما يؤدي إلى قتل النفس، وكذلك بأن يرتكبوا ما يؤدي إلى إخراجهم من بيوتهم، فنقض العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سببًا في إخراج بني قينقاع وبني النضير.
وقد ذكر هذا القول الرازي (7) والقرطبي (8) والأول أولى مع أن معنى هذا القول صحيح، فإذا كان الأول يفهم من الآية، فإن القول الثاني يفهم منها من باب أولى.
5- لما أراد موسى - عليه السلام - محاربة الجبارين أمره الله بأن يختار من قومه اثني عشر نقيبًا - كفلاء على قومهم - وأمرهم بالذهاب إلى الجبارين، وأخذ منهم الميثاق وأعطاهم الموعد بأنه - سبحانه - معهم وناصرهم على عدوهم إن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وآمنوا برسل الله وعزّروهم ونصروهم وأقرضوا الله قرضًا حسنًا، مع وعده سبحانه بتكفير ذنوبهم، وإدخالهم الجنة بعد ذلك، إن وفّوا بالعهد والميثاق الذي أخذه عليهم. وكفلهم بذلك نقباؤهم (9).
وهذا معنى الميثاق في قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) (المائدة: من الآية12).
وقال الربيع بن أنس: هذا خطاب من الله للنقباء الاثني عشر (10).
قال الطبري - معقبا على هذا القول -: وليس الذي قاله الربيع ببعيد من الصواب، غير أن قضاء الله في جميع خلقه أنه ناصر من أطاعه، وولي من اتبع أمره، وتجنب معصيته، وجافى ذنوبه، فإذا كان ذلك كذلك وكان من طاعته إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان بالرسل، وسائر ما ندب القوم إليه، كان معلومًا أن تكفير السيئات بذلك، وإدخال الجنات به لم يخصص به النقباء دون سائر بني إسرائيل وغيرهم، فكان ذلك بأن يكون ندبًا للقوم جميعًا، وحضًا لخاص دون عام (11).
6- أخذ الله العهد والميثاق على بني إسرائيل بأن يدخلوا الباب سجدًا وألا يعدوا في السبت، وأن يعملوا بما في التوراة. وأخذ عليهم ميثاقًا غليظًا مؤكدًا. قال تعالى: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) (النساء:154).
قال الطبري: أخذ الله عليهم عهدًا مؤكدًا شديدًا، بأنهم يعملون بما أمرهم الله به، وينتهون عما نهاهم الله عنه مما ذكر في هذه الآية، ومما في التوراة (12) وبنحو ذلك قال ابن كثير (13).
وقبل أن أتجاوز هذا المبحث أتمّه بما يلي:
1- من خلال الآيات السابقة وبالنظر إلى تفسيرها يتضح أن الله أخذ الميثاق على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة ثم جاءت عهود ومواثيق أخرى لتأكيد الميثاق الأول، والنص على مواثيق خاصة لأهميتها والعناية بها، مع أنها كانت داخلة في الميثاق الأول وهو العمل بما في التوراة، ولا تعارض في ذلك، فهو خاص بعد عام، وكما أخذ الله الميثاق على الناس جميعًا ميثاقًا عامًا، ثم خص منهم بعضهم كالنبيين وبني إسرائيل.
2- أن الله أخذ على بني إسرائيل عدة عهود ومواثيق، فمنها الميثاق العام لجميع ذرية آدم، ثم ميثاق التوراة ثم المواثيق الأخرى كما بينت من المواثيق الخاصة بهم.
__________
(1) - انظر تفسير الطبري 1/394.
(2) - انظر تفسير القرطبي 2/18.
(3) - انظر تفسير ابن كثير 1/121.
(4) - سورة البقرة آية: 84.
(5) - كالانتحار ونحوه.
(6) - أي يقتل إنسانًا فيقتص منه.
(7) - انظر تفسير الرازي 3/164.
(8) - انظر تفسير القرطبي 2/19 ونسبه لابن خويز منداد.
(9) - انظر تفسير الطبري 6/150؛ وتفسير ابن كثير 2/32.
(10) - تفسير الطبري 6/151.
(11) - تفسير الطبري 6/151.
(12) - تفسير الطبري 6/10.
(13) - انظر تفسير ابن كثير 1/573.(/26)
3- أن الآيات في كتاب الله التي جاءت مبينة أخذ الميثاق على بني إسرائيل بعضها يبين ميثاقًا خاصًا، وبعضها يؤكد أخذ ميثاق سبق ذكره، فلا يعني أن عدد المواثيق التي ذكرت في القرآن الكريم هي عدد المواثيق التي أخذت على بني إسرائيل، فمثلا أخذ الميثاق عليهم بعد رفع الطور تكرر في القرآن عدة مرات (1) مع أنه ميثاق واحد، وتكرر الميثاق الواحد في عدة آيات، كتكرر قصة موسى وقصص النبيين وغيرها.
4- قال الأصم: الميثاق الذي أخذ عليهم: هو ما أودع الله العقول من الدلائل الدالة على وجود الصانع وحكمته والدلائل الدالة على صدق أنبيائه ورسله (2). وتفسير الميثاق بهذا القول لا وجه له ولا دليل بل هو من تفسير المعتزلة.
5- أخذ الله العهد والميثاق على النصارى بأن يطيعوه ويؤدوا فرائضه، ويتبعوا رسله، ويصدقوا بهم، كما أخذ عليهم العهد والميثاق على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم - ومناصرته ومؤازرته واقتفاء آثاره (3).
وهذا معنى الميثاق الذي ذكره الله بقوله: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ) (المائدة: من الآية14).
6- ذكر الله سبحانه وتعالى الميثاق الذي أخذه يعقوب على أبنائه عندما طلبوا أخاهم، وذلك بأن حلفوا يمينًا مغلظًا ليأتين به إذا رجعوا من سفرهم إلا أن يحدث أمر لا يستطيعون له دفعًا ولا ردًا، وأشهدوا الله على ذلك وجعلوه وكيلا، سبحانه وتعالى.
معنى موثقًا من الله: تعطوني ما أثق به من عند الله وهو الحلف. فنسبته إلى الله - جل وعلا - لأنه هو المقسم به سبحانه، فاستمد القوة والثقة من عند الله لاقترانه بلفظ الجلالة (4).
رابعًا: العهود والمواثيق التي جرت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
أشار القرآن الكريم إلى بعض المواثيق التي جرت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في عدة مواضع من القرآن، وبتتبع كتب التفسير والسنة والسيرة اتضح أن هذه العهود والمواثيق على نوعين:
النوع الأول: عهود ومواثيق باشرها صلى الله عليه وسلم مع أصحابها واتصفت بالإيجاب والقبول، وهذه أكثرها وأشهرها، وتحدث عنها القرآن أكثر من غيرها، وهي ثلاثة أقسام:
1- عهود ومواثيق أخذها الرسول صلى الله عليه وسلم على الصحابة.
2- عهود ومواثيق أخذها الرسول صلى الله عليه وسلم على اليهود.
3- عهود ومواثيق كانت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين.
وسأقف مع هذا النوع من المواثيق والعهود مبينًا له ومفصلا وموثقًا، وذلك للأسباب التالية:
أ- أن القرآن الكريم تحدث عن هذه العهود والمواثيق في عدة مواضع، وصرح ببعضها كبيعة الرضوان.
ب- الأثر العظيم لتلك العهود والمواثيق في تاريخ الدعوة الإسلامية.
ج- إن هذا النوع بدأ قبل هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم واستمر حتى وفاته.
د- إن الرسول صلى الله عليه وسلم باشر هذه العهود بنفسه الكريمة، مع أصحابها.
النوع الثاني: رسائل ومكاتبات بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتضمنت بعض العهود والمواثيق، وأشار إليها القرآن الكريم، وهي لأربع فئات:
1- عهود ومواثيق أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض القبائل التي دخلت الإسلام.
2- عهود ومواثيق أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض اليهود.
3- عهود ومواثيق أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض النصارى.
4- عهود ومواثيق أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض قبائل العرب.
وهذا النوع سأتحدث عنه بإجمال وذلك لما يلي:
أ- أن القرآن الكريم أشار إليها إجمالا، مع غيرها من العهود والمواثيق.
ب- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يباشر كثيرًا منها بنفسه مع أصحابها، وإنما كانت عن طريق الرسل أو بعض الوفود.
ج- أنه لم يكن لأهل هذه العهود مثلما كان لأهل النوع الأول، من أثر مباشر على الإسلام إيجابًا - كالصحابة - رضوان الله عليهم - أو سلبًا كاليهود والمشركين من أهل مكة.
النوع الأول عهود ومواثيق باشرها الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابها
وهذا النوع تتمثل فيه وفي أصحابه منعطفات أساسية في تاريخ الإسلام، فنحن ندرك أهمية بيعتي العقبة وأثرهما في النقلة الكبيرة بين مرحلتين من مراحل الدعوة، والعهود والمواثيق مع اليهود ثم مخالفتهم لها، ومن ثم تطهير المدينة منهم مما كان عاملا حاسمًا في انتصار الدولة الإسلامية.
أما صلح الحديبية - العهد مع المشركين - فقد سماه الله فتحًا مبينًا، وجاء فتح مكة أثرًا من آثار هذا العهد، ومن هنا سأقف وقفة تناسب تلك العهود والمواثيق استقراء وبيانًا وتحقيقًا.
1- ما أخذه الرسول صلى الله عليه وسلم على صحابته:
__________
(1) - وذلك في الآيات 63 و93 سورة البقرة؛ و154 سورة النساء وفي المعنى نفسه آية 171 سورة الأعراف بدون ذكر لفظ الميثاق.
(2) - انظر تفسير الرازي 3/106.
(3) - انظر تفسير الطبري 6/158؛ وتفسير ابن كثير 2/33.
(4) - انظر تفسير الطبري 13/12؛ وغرائب القرآن للنيسابوري 13/24؛ وتفسير التحرير والتنوير 13/18.(/27)
بايع الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته في عدة مناسبات، والبيعة عهد وميثاق (1) وقد أشار القرآن إلى ذلك فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (الفتح:10).
وهذه بيعة الرضوان (2).
وقال تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (المائدة: من الآية7).
قال ابن كثير: هو ما أخذه عليهم من العهد والميثاق في مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم (3).
وقال تعالى: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) (الرعد:20).
وقد فسرها القرطبي ببعض مبايعات النبي صلى الله عليه وسلم (4) وقال سبحانه: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب:23).
وقد فسرها كثير من العلماء والمفسرين بأنها في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم (5).؟
فمن خلال هذه الآيات فقد سمى الله مبايعات الصحابة لرسوله صلى الله عليه وسلم عهدًا وميثاقًا، ومن هنا وباستقراء سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يمكننا أن نقسم مبايعات الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة أقسام:
أ- بيعتي العقبة.
ب- بيعة الرضوان.
ج- بيعة الإسلام وغيرها.
وسأبين كل قسم منها بيانًا يعطينا صورة واضحة عن نوع هذا العهد والميثاق الذي أشار إليه القرآن الكريم.
أ- بيعتي العقبة:
أولا: بيعة العقبة الأولى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في المواسم وذلك قبل الهجرة، قال ابن إسحاق (6)
لما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه الأنصار (7) فعرض نفسه على القبائل، كما كان يصنع، فبينما هو عند العقبة الأولى لقي رهطًا من الخزرج، فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، ثم قال بعضهم لبعض: يا قوم: تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنّكم إليه، فأجابوه وأسلموا، وقالوا: إنا تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم بك، فسنقدم عليك فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك به، ثم انصرفوا (8) فلما كان العام المقبل (9) وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا (10) فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة (وهي العقبة الأولى) فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب (11).
على أي شيء كانت هذه البيعة:
__________
(1) - قال ابن منظور، البيعة: المبايعة والطاعة، وبايعه عليه مبايعة عاهده، وفي الحديث: "ألا تبايعوني" هو عبارة عن المعاقدة والمعاهدة. انظر لسان العرب (بيع) 8/26.
(2) - انظر تفسير الطبري 26/76 و85؛ وتفسير ابن كثير 4/185.
(3) - انظر تفسير ابن كثير 2/30.
(4) - انظر تفسير القرطبي 9/308.
(5) - انظر تفسير الطبري 21/145؛ وتفسير ابن كثير 3/475.
(6) - ذكرته مختصرًا، حسب ما يقتضيه المقام.
(7) - وذلك في السنة الحادية عشرة من البعثة النبوية. انظر الوفا بأحوال المصطفى لابن الجوزي 1/346.
(8) - انظر تاريخ الإسلام للذهبي - السيرة النبوية - ص290؛ وفقه السيرة - ص131؛ وقال الألباني في تحقيقه فقه السيرة - ص131 إسناده حسن.
(9) - في السنة الثانية عشرة من البعثة. انظر الوفاء بأحوال المصطفى 1/347.
(10) - هم: أسعد بن زرارة، وعوف ومعوذ ابنا الحارث وهما أبناء عفران، وذكوان بن قيس، ورافع بن مالك، وعبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة البلوي وعباس بن عبادة بن نظلة، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وهم من الخزرج، وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة وهما من الأوس - انظر تاريخ الإسلام (والسيرة النبوية) ص291.
(11) - انظر تاريخ الإسلام (والسيرة النبوية) ص291.(/28)
عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى ونحن اثنا عشر رجلا، فبايعناه بيعة النساء (1) (على أن لا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف - وذلك قبل أن تفرض الحرب - فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئًا فأمركم إلى الله، إن شاء غفر وإن شاء عذب) (2).
ولفظ البخاري: عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تعالوا بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا، فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله فأمره إلى الله، إن شاء الله عاقبه، وإن شاء عفا عنه " قال: فبايعته على ذلك (3).
وقد رواه ابن مندة في كتابه الإيمان بعدة ألفاظ عن عبادة بن الصامت (4) واكتفيت بروايتي البخاري وابن إسحاق لشمولهما.
وقد أرسل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين ويصلي بهم (5).
ثانيا: بيعة العقبة الثانية (6)
وبعد عام من بيعة العقبة وفي الموسم - موسم الحج تمت بيعة العقبة الثانية والتي فيها من العهود والمواثيق ما سنراه فيما يلي:
عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الحاج في منازلهم في المواسم، مجنة وعكاظ ومنى، يقول: من يؤويني وينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة، فلا يجد، حتى إن الرجل يرحل صاحبه من مضر أو اليمن، فيأتيه قومه أو ذووا رحمة فيقولون: احذر فتى قريش لا يفتنك، يمشي بين رحالهم يدعوهم إلى الله، يشيرون إليه بأصابعهم، حتى بعثنا الله له من يثرب، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه حتى لم يبق دار من يثر إلا وفيها رهط يظهرون الإسلام ثم ائتمرنا واجتمعنا سبعين رجلا منا، فقلنا: حتى متى نذر رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف في جبال مكة ويخاف، فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدنا شعب العقبة، فاجتمعنا فيه من رجل ورجلين، حتى توافينا عنده، فقلنا يا رسول الله: علام نبايعك؟ قال: على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله، لا تأخذكم فيه لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة.
__________
(1) - سميت بيعة النساء إشارة إلى قوله تعالى في سورة الممتحنة: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك) الآية 12.
(2) - هذه رواية ابن إسحاق كما أوردها الذهبي في تاريخ الإسلام وأخرجه البخاري في عدة مواضع، وابن مندة في كتابه الإيمان وابن سعد في الطبقات والطبري في تاريخه. انظر تاريخ الإسلام (السيرة النبوية) ص292؛ وصحيح البخاري، مناقب الأنصار 5/70؛ وطبقات ابن سعد 1/220؛ وتاريخ الطبري 2/356؛ والإيمان لابن مندة - المجلد الثاني- ص557.
(3) - صحيح البخاري مناقب الأنصار، باب وفود الأنصار 5/70.
(4) - انظر كتاب الإيمان لابن مندة، ذكر بيعة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على اجتناب الكبائر - ص557- المجلد الثاني.
(5) - انظر تاريخ الإسلام - ص293؛ وتاريخ الطبري 2/357.
(6) - وذلك في السنة الثالثة عشر من البعثة. انظر الوفا بأحوال المصطفى 1/358.(/29)
فقلنا (1) نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو أصغر السبعين إلا أنا (2) - فقال: رويدًا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله إن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإمّا أنتم قوم تصبرون على عض السيوف إذا مستكم، وعلى قتل خياركم، وعلى مفارقة العرب كافة فخذوه وأجركم على الله، وإما أن تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله، فقلنا: أمط يدك يا سعد، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها، فقمنا إليه نبايعه رجلا رجلا، يأخذ علينا شرطة (3) ويعطينا على ذلك الجنة. رواه أحمد والبيهقي والحاكم. (4).
وقال الذهبي: قال أبو نعيم: حدثنا زكريا، عن الشعبي قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم معه عمه العباس إلى السبعين من الأنصار، عند العقبة تحت الشجرة، قال: ليتكلم متكلمكم ولا يطل الخطبة، فإن عليكم من المشركين عينًا. قال أسعد: سل يا محمد لربك ما شئت، ثم سل لنفسك، ثم أخبرنا ما لنا على الله؟ قال: أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما منعتم منه أنفسكم، قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: لكم الجنة، قالوا: فذلك لك (5).
وقال ابن هشام: قال ابن إسحاق: " قال أبو الهيثم بن التيهان: يا رسول الله: إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنّا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "بل الدم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم" " .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبًا، فأخرجوهم له، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس " (6).
وقال ابن إدريس عن ابن إسحاق: حدثني " عبد الله بن أبي بكر (7) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم ابعثوا منكم اثني عشر نقيبا كفلاء على قومهم، ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، فقال أسعد بن زرارة: نعم يا رسول الله، قال:فأنت نقيب على قومك (8) ثم سمى النقباء (9).
وقد حضر هذه البيعة ثلاثة وسبعون رجلا (10) وامرأتان هما: أم منيع أسماء بنت عمرو بن عدي، وأم عمارة نسيبة بنت كعب (11) .
وبهذا أكون قد أوضحت ما تم في بيعتي العقبة من عهود ومواثيق بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنصار- رضي الله عنهم- وأرضاهم، وهم ممن قال الله فيهم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب:23).
ب- بيعة الرضوان
__________
(1) - في المسند: فقمنا، وهو أولى.
(2) - أي: جابر بن عبد الله، حيث أنه أصغر منه.
(3) - في المسند (بشرطه العباس).
(4) - رواه أحمد في المسند 3/339؛ والبيهقي في دلائل النبوة 2/181؛ والحاكم في المستدرك 2/624؛ وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال ابن كثير في البداية 3/160 وهذا إسناد جيد على شرط مسلم ولم يخرجوه، ثم قال: وقال البزار، وروى غير واحد عن ابن خثيم: ولا نعلمه، يروي عن جابر إلا من هذا الوجه. وقال ابن حجر في فتح الباري 7/222: وهو عند أحمد بإسناد حسن وصححه الحاكم وابن حبان عن جابر، وقال الألباني في تحقيق فقه السيرة - ص134؛ وفيه علة وهي عنعنة أبي الزبير وكان مدلسًا وليس من رواية الليث بن سعد عنه، فلعل تصحيحه أو تحسينه بالنظر لشواهده. انظر تاريخ الإسلام - ص297.
(5) - قال ابن حجر في الفتح 7/223 (رواه البيهقي بإسناد قوي عن الشعبي، ووصله الطبراني من حديث أبي موسى الأنصاري، وأخرجه أحمد). أ.هـ - وانظر تاريخ الإسلام للذهبي - ص299.
(6) - قال الألباني في تحقيق فقه السيرة - ص135- حديث صحيح رواه ابن إسحاق وأحمد 3/60-62؛ وابن جرير في تاريخه 2/363. من طريق ابن إسحاق وانظر سيرة ابن هشام 2/60؛ وتاريخ الإسلام للذهبي؛ وقال ابن حجر في الفتح 7/221؛ أخرجه ابن إسماعيل ورواه ابن حبان.
(7) - هو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ثقة، مات سنة 135، انظر التقريب 1/405.
(8) - تاريخ الإسلام - ص305؛ وسيرة ابن هشام 2\65؛ وفتح الباري 7\221؛ وتاريخ الطبري 2\363؛ وقال الألباني في فقه السيرة - ص 135: أخرجه ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر مرسلا فهو ضعيف.
(9) - والنقباء هم: أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حرام، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، ورافع بن مالك، وعبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع،عبادة بن الصامت، (وقيل: خارجة بن زيد) وسعد بن خيثمة،وأسيد بن حضير،وأبو الهيثم بن التيهان،انظر تاريخ الإسلام ص 303.
(10) - ذكرهم ابن هشام والذهبي عن ابن إسحاق. انظر سيرة ابن هشام 2/73؛ وتاريخ الإسلام ص 305.
(11) - انظر فتح الباري 7/221؛ وتاريخ الإسلام ص 307؛وسيرة ابن هشام 2/85.(/30)
وقعت بيعة الرضوان في غزوة الحديبية في السنة السادسة من الهجرة (1) واشتهرت هذه البيعة ببيعة الرضوان لأن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه قد رضي عن أصحابها (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) (الفتح: من الآية18).
سبب هذه البيعة:
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا موسى بن عبيدة، عن أياس بن سلمة، قال: قال سلمة: بينما نحن قائلون زمن الحديبية نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيها الناس: البيعة، البيعة، نزل روح القدس -صلوات الله عليه- قال: فسرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة، قال: فبايعناه، وذلك قول الله: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) (الفتح: من الآية18) (2).
وروى ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر (3) " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: لا نبرح حتى نناجز القوم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة " رواه الطبري (4).
عدد من شهد هذه البيعة من الصحابة:
وردت أحاديث كثيرة في عدد من شهد هذه البيعة، بعضها صحيح، وبعضها ضعيف (5) وأصح الأحاديث التي وردت في ذلك رواها البخاري ومسلم، ولكن وقع الاختلاف في العدد حتى في روايات البخاري ومسلم، فقد ورد أن العدد كان ألف وثلاثمائة، وذلك عند مسلم (6) وفي البخاري تعليقًا (7).
وورد أن العدد ألف وأربعمائة وهذا عند البخاري (8) ومسلم (9) وهو أكثر الروايات.
وورد أن العدد ألف وخمسمائة وهذا عند البخاري (10) ومسلم (11) - أيضًا -. هذا أصح ما ورد في عدد من شهد البيعة، وقد جمع العلماء بين هذه الأحاديث كالنووي (12) وابن حجر (13) وخلاصة قولهما:
إن العدد كان أكثر من ألف وأربعمائة وأقل من ألف وخمسمائة فمن قال ألف وخمسمائة فقد جبر الكسر، ومن قال ألف وأربعمائة ألغاه، ومن قال ألف وثلاثمائة فيحمل على أن هذا ما اطلع عليه هو، وغيره اطلع على أكثر منه والزيادة من الثقة مقبولة.
أما ابن القيم (14) والبيهقي (15) فقد رجحا أن العدد ألف وأربعمائة، وما ذهب إليه ابن حجر والنووي أقرب للعمل بجميع الأحاديث (16). والله أعلم.
على أي شيء كانت البيعة:
لما أشيع أن عثمان رضي الله عنه قتل دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم -أصحابه- رضوان الله عليهم- للبيعة- فهبوا إليه جميعًا ليبايعوه، ولم يتخلف سوى رجل واحد- يقال إنه كان منافقًا- وهو الجدّ بن قيس- كما في حديث جابر: فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري، اختبأ تحت بطن بعيره (17).
__________
(1) - هذا هو الصحيح في هذه المسألة، بل قال النووي في المجموع شرح المهذب 7/78؛ وقد أجمع المسلمون على أن الحديبية كانت سنة ست من الهجرة. وقال ابن كثير وابن حجر: كانت الحديبية سنة ست بلا خلاف. انظر البداية والنهاية 4/164؛ ومرويات غزوة الحديبية للحكمي - ص28.
(2) - تفسير الطبري 26/86؛ وأخرجه ابن كثير في تفسيره 4/191، عن ابن أبي حاتم. وقال حافظ بن محمد الحكمي في مرويات غزوة الحديبية - ص133: سند هذا الحديث ضعيف لضعف موسى بن عبيد لكن يشهد له حديث جابر الذي رواه الترمذي في أبواب السير، باب ما جاء في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم 3/75 رقم الحديث 1639.
(3) - هو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري - المدني القاضي، ثقة من الخامسة، مات سنة خمس وثلاثين. انظر تقريب التهذيب 1/405.
(4) - انظر تفسير الطبري 26/86، وقال الحكمي في مرويات غزوة الحديبية - ص134: هذا الأثر مرسل وسنده إلى عبد الله بن أبي بكر حسن وانظر سيرة ابن هشام 3/412.
(5) - انظر مرويات غزوة الحديبية - ص39 وما بعدها.
(6) - انظر صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش 6/26.
(7) - انظر صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية 5/157.
(8) - انظر صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية 5/156.
(9) - انظر صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش 6/25.
(10) - انظر صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية 5/157.
(11) - انظر صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش 6/26.
(12) - شرح النووي على صحيح مسلم +13/2.
(13) - فتح الباري 7/440.
(14) - زاد المعاد 3/388.
(15) - ذكره عن ابن حجر في فتح الباري 7/440.
(16) - وهذا ما ذهب إليه الحكمي في مرويات غزوة الحديبية - ص53.
(17) - صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال وبيان بيعة الرضوان تحت الشجرة 6/25.(/31)
سئل الصحابة -رضوان الله عليهم-: على أي شيء كانت تلك البيعة؟ فأجابوا بعدة إجابات أذكر أصّحها وأهمّها (1)
1- أجاب سلمة بن الأكوع رضي الله عنه بأنهم بايعوا على الموت:
قال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعد، حدثنا حاتم عن يزيد بن أبي عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع: على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية؟ قال: على الموت (2).
وقال مسلم: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم (يعني ابن إسماعيل) عن يزيد بن أبي عبيد مولى سلمة بن الأكوع قال: قلت لسلمة بن الأكوع: على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية؟ قال: على الموت (3).
2- وأجاب معقل بن يسار وجابر بن عبد الله -رضي الله عنهم- بأنهم بايعوا على عدم الفرار:
روى الإمام مسلم عن معقل بن يسار قال: لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس وأنا أرفع غصنًا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة، قال: ولم نبايعه على الموت، ولكن بايعنا على ألا نفر (4).
وروى -أيضًا-: عن جابر رضي الله عنه . قال: كنا يوم الحديبية ألفًا وأربعمائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة، وقال: بايعناه على ألا نفر، ولم نبايعه على الموت (5).
وفي لفظ آخر -عن جابر- أيضًا: لم نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت وإنما بايعناه على ألا نفر (6).
3- وأجاب نافع بأنها كانت على الصبر:
روى البخاري عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله، فسألنا نافعًا على أي شيء بايعهم؟ على الموت؟ فقال: لا، بايعهم على الصبر (7).
هذه أصح الأحاديث التي وردت في بيعة الرضوان وفيها غنية عن سواها، ولكن ورد في بعضها أن البيعة كانت على الموت، وفي بعضها على عدم الفرار، وفي حديث نافع على الصبر، فكيف نوفق بينها:
لقد جمع العلماء بين هذه الروايات وذكروا أنه لا تعارض بينها:
قال الترمذي جامعًا بين حديثي سلمة بن الأكوع وجابر فقال: ومعنى كلا الحديثين صحيح، فقد بايعه قوم من أصحابه على الموت، وإنما قالوا: لا نزال بين يديك ما لم نقتل وبايعه آخرون فقالوا: لا نفر (8).
وقال ابن حجر جامعًا بين هذه الأحاديث: لا تنافي بين قولهم: بايعوه على الموت، وعلى عدم الفرار، لأن المراد بالمبايعة على الموت ألا يفروا ولو ماتوا، وليس المراد أن يقع الموت ولا بد، وهو الذي أنكره نافع وعدل إلى قوله: بل بايعهم على الصبر، أي: على الثبات وعدم الفرار سواء أفضى بهم إلى ذلك إلى الموت أم لا، والله أعلم (9).
وبهذا يتضح أنه لا تعارض بين الأحاديث التي ثبتت فيما بايع عليه الصحابة -رضي الله عنهم- في بيعة الرضوان، وهم الذين عناهم الله بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (الفتح:10).
وقال فيهم سبحانه: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح:18).
رضي الله عنهم وأرضاهم وحشرنا معهم في جنات النعيم.
جـ- بيعة الإسلام وغيرها (10) .
__________
(1) - وقد ذكر الحكمي في كتابه مرويات غزوة الحديبية، الأحاديث والآثار التي وردت في ذلك، انظر مرويات غزوة الحديبية - ص138 وما بعدها.
(2) - صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية 5/159.
(3) - صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال 6/27، ورواه الترمذي في أبواب السير، باب ما جاء في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم 3/75، ورواه أحمد في المسند 4/51.
(4) - صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش 6 6/26.
(5) - صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال 6/25، ورواه الترمذي، أبواب السير، باب ما جاء في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم 3/76، ورواه أحمد في المسند 3/381.
(6) - صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال 6/25، ورواه الترمذي، أبواب السير، باب ما جاء في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم 3/76، ورواه أحمد في المسند 3/381.
(7) - صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب البيعة في الحرب أن لا يفروا 4/61.
(8) - سنن الترمذي، أبواب السير، باب ما جاء في بيعة النبي 3/76.
(9) - فتح الباري، باب البيعة في الحرب ألا يفروا 6/118.
(10) - قدمت بيعتي العقبة وبيعة الرضوان لخصوصيتهن وشهرتهن فهو من باب تقديم الخاص على العام.(/32)
بعد بيان ما بايع عليه الصحابة -رضي الله عنهم- في بيعتي العقبة وبيعة الرضوان، وما كان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم من عهود ومواثيق أذكر بعض ما ثبت في السنة من مبايعات أخرى كبيعة الإسلام وغيرها مما يدخل في عموم قوله تعالى: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) (الرعد:20).
وقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (النحل:91).
وسأكتفي باختيار بعضها على سبيل البيان لا الاستقصاء.
1- بيعة الإسلام:
روى البخاري عن أبي قلابة قال: حدثني أنس أن نفرًا من عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام - الحديث (1).
وروى البخاري -أيضًا- عن جابر بن عبد الله أن أعرابيًا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام (2).
وروى الإمام أحمد في مسنده عن محمد بن الأسود بن خلف أن أباه الأسود أتى النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس يوم الفتح قال: جلس عند قرن مصقلة فبايع الناس على الإسلام والشهادة، قلت (3) وما الشهادة، قال: أخبرني محمد بن الأسود يعني ابن خلف أنه بايعهم على الإيمان بالله وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم (4).
وروى الترمذي عن عثمان أنه قال -يوم الدار- فوالله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام، ولا ارتددت منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قتلت النفس التي حرم الله، فبم تقتلوني- قال الترمذي هذا حديث حسن (5).
وروى الإمام أحمد في مسنده عن مجاشع بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله هذا مجاشع بن مسعود يبايعك على الهجرة، فقال: لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإسلام (6).
وروى ابن مندة عن جرير بن عبد الله قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه على الإسلام.
وفي لفظ آخر: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والسمع والطاعة، والنصح لكل مسلم (7).
ويلحق ببيعة الإسلام ما بايعت عليه الوفود التي قدمت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في سنة خمس من الهجرة - عام الوفود - وما بعدها، حيث كانت وفود القبائل تأتي إلى رسول الله وتبايعه على الإسلام كوفد مزينة (8) ووفد كنانة (9) ووفد صداء (10) وغيرهم (11).
2- بيعة النساء
سبق ذكر بيعة النساء في بيان ما بايع عليه الأنصار -رضي الله عنهم- في بيعة العقبة الأولى، والبيعة هناك كانت للرجال ولكنها شبيهة ببيعة النساء -فسميت بها- وأذكر هنا بيعة النساء كما وردت في السنة الشريفة.
روى الإمام مسلم عن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنّ بقول الله عزَّ وجلَّ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الممتحنة:12).
قالت عائشة: فمن أقرّ بهذا من المؤمنات فقد أقر بالجنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن، قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلقن فقد بايعتكن، ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط. غير أنه يبايعهن بالكلام، قالت عائشة: والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمره الله تعالى، وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن: قد بايعتكن كلامًا (12).
وروى البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايعن النساء بالكلام بهذه الآية، لا يشركن بالله شيئًا (13).
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الديات، باب القسامة 9/12، وهو جزء من حديث طويل.
(2) - صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب بيعة الأعراب 9/98.
(3) - القائل أحد الرواة.
(4) - مسند الإمام أحمد 4/168.
(5) - سنن الترمذي، أبواب الفتن، باب ما جاء لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث 3/212.
(6) - مسند الإمام أحمد 5/71.
(7) - الإيمان لابن منده ذكر بيعة النبي صلى الله عليه وسلم 1/264.
(8) - انظر طبقات ابن سعد 1/291.
(9) - انظر طبقات ابن سعد 1/305.
(10) - انظر طبقات ابن سعد 1/326.
(11) - انظر طبقات ابن سعد 1/291 وما بعدها، وزاد المعاد 3/595 وما بعدها.
(12) - صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب كيفية بيعة النساء 6/29.
(13) - صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب بيعة النساء 9/99.(/33)
وعن أم عطية قالت: بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليّ (1)(لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً) (الممتحنة: من الآية12) ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة منا يدها، فقالت: فلانة أسعدتني وأنا أريد أن أجزيها، فلم يقل شيئًا فذهبت ثم رجعت، الحديث (2).
وروى ابن عباس " أن رسول الله جاء إلى النساء بعد انتهاء خطبة يوم الفطر ومعه بلال: فقرأ عليهن "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ" إلى آخر الآية ثم قال حين فرغ: أنتن على ذلك؟ وقالت امرأة واحدة لم يجبه غيرها نعم يا رسول الله " رواه البخاري (3).
3- البيعة على الجهاد
روى الإمام مسلم عن مجاشع بن مسعود السلمي. قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أبايعه على الهجرة، فقال: إن الهجرة قد مضت لأهلها، ولكن على الإسلام والجهاد والخير (4).
وروى البخاري عن مجاشع -أيضًا- قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأخي فقلت: بايعنا على الهجرة، فقال: مضت الهجرة لأهلها، فقلت: علام تبايعنا؟ قال: على الإسلام والجهاد (5).
وروى البخاري -أيضًا- عن حميد قال: سمعت أنسًا رضي الله عنه يقول: كانت الأنصار يوم الخندق تقول:
نحن الذين بايعوا محمدًا ... على الجهاد ما حيينا أبدًا
فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم :-
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فأكرم الأنصار والمهاجرة (6)
4- البيعة على السمع والطاعة
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم (7).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، يقول لنا: فيما استطعت (8).
5- البيعة على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة
عن جرير بن عبد الله قال: " بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم " رواه مسلم وابن منده، واللفظ لمسلم (9).
6- البيعة على النصح لكل مسلم
عن زياد بن علاقة أنه سمع جرير بن عبد الله يقول: " بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم " رواه مسلم (10).
وعن الشعبي عن جرير بن عبد الله قال: " بايعت النبي صلى الله عليه وسلم -على السمع والطاعة- فلقنني: فيما استطعت -والنصح لكل مسلم- " رواه البخاري ومسلم (11).
7- وأختم هذه المبايعات بقول ابن القيم -رحمه الله- مجملا مبايعة الرسول لأصحابه: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه في الحرب على ألا يفروا، وربما بايعهم على الموت، وبايعهم على الجهاد، كما بايعهم على الإسلام، وبايعهم على الهجرة قبل الفتح، وبايعهم على التوحيد، والتزام طاعة الله ورسوله، وبايع نفرًا من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئًا (12).
وبهذا يكون قد اتضح لنا نوع العهود والمواثيق التي أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم على صحابته، وما وعدهم به إن هم وفوا بذلك، وقد فعلوا -رضي الله عنهم وأرضاهم ومن خلال ما سبق تتضح لنا معاني الآيات التي وردت في هذا الشأن ونقرأ قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) (الأحزاب: من الآية23) وقوله سبحانه: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) (الرعد:20) وقوله جل وعلا: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (المائدة: من الآية7) نقرؤها ومعالمها ومدلولاتها واضحة جلية أمامنا.
__________
(1) - في هامش الصحيح: علينا.
(2) - صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب بيعة النساء 9/99.
(3) - صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة الممتحنة 6/187-188.
(4) - صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة 6/27.
(5) - صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب المبايعة في الحرب 4/61.
(6) - صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب البيعة في الحرب 4/61.
(7) - صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس 9/66.
(8) - صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس 9/96. ورواه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب البيعة على السمع والطاعة فيما استطاع 6/29.
(9) - صحيح مسلم، كتاب الإيمان، الدين النصيحة 1/54؛ والإيمان لابن منده، ذكر بيعة النبي لأصحابه 1/264.
(10) - صحيح مسلم، كتاب الإيمان، الدين النصيحة 1/54؛ ورواه ابن مندة في كتاب الإيمان ذكر بيعة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على النصح لكل مسلم 2/426.
(11) - صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس 9/96؛ وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، الدين النصيحة 1/54.
(12) - زاد المعاد تحقيق الأرنؤوط 3/95؛ وانظر عون المعبود شرح سنن أبي داود، كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة 5/55 حيث ذكر حديث مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه على عدم سؤال الناس شيئًا.(/34)
2- العهود والمواثيق التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود :
عندما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة (1) بعد بيعة العقبة الثانية، كانت اليهود هي القوة المسيطرة عليها، وكان كل فريق من الأوس والخزرج يلجأ إلى فريق من اليهود الموجودين هناك ويحالفهم.
ولقد سلك معهم الرسول صلى الله عليه وسلم منهجًا يتناسب مع المرحلة التي تمر بها الدولة الإسلامية الفتية، وعقد معهم بعض المعاهدات التي تؤمن لهم الحياة الكريمة، في ظل الدولة الإسلامية بحكم أنهم أهل كتاب (أهل الذمة)، ولكن طبيعة اليهود -كما أسلفنا- الغدر والخيانة وعدم الوفاء، ولم يستطيعوا -ولن يستطيعوا لؤمًا وخسة- أن يتخلوا عن تلك الصفات الذميمة، فنقضوا عهودهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت نهايتهم بما يتلاءم مع تلك الأفعال حيث أجلى رسول الله صلى الله عيه وسلم بني قينقاع وبني النضير، وقتل رجال بني قريظة ولقد أشار القرآن الكريم إلى طبيعة اليهود مع العهود فقال تعالى:
(الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (الأنفال:56).
والعهد هنا ما عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود من عهود ومواثيق بألا يحاربوه ولا يعاونوا عليه، كما بين ذلك المفسرون (2).
وسأحاول في هذا المبحث أن أبين ما تم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم واليهود من عهود ومواثيق، بما يتناسب مع هذا الموضوع ليضفي عليه البيان والشمول، والله المستعان. وهو حسبنا ونعم الوكيل:
عند الرجوع إلى كتب السيرة نجد أن المؤرخين عندما يتحدثون عن غزوة بني قينقاع أو بني النضير أو غزوة بني قريظة يقدمون لذلك بمقدمات يذكرون فيها أنه كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود عهدًا:
روى الطبري عن عاصم بن عمرو بن قتادة: أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
وذكر ابن كثير عن عاصم بن عمرو بن قتادة: أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا العهد وحاربوا فيما بين بدر وأحد (4).
وقال الطبري في ذكر جلاء بني النضير: فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود قد أرادت من الغدر به (5).
ثم قال بعد ذلك عندما رغبت بنو النضير في مساعدة بني قريظة لهم ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ كعب بن أسد صاحب بني قريظة فقال: لا ينقض العهد مع رجال من بني قريظة وأنا حي (6).
وقد بحثت في كتب السنة والسيرة عن هذا العهد، وكيف عقد؟ فتوصلت إلى ما يلي:
ذكر مؤرخو السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قدم المدينة وفي السنة الأولى من هجرته صلى الله عليه وسلم عقد الألفة بين المهاجرين والأنصار ووداع اليهود الذين كانوا بالمدينة وهم: يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، وكتب في ذلك كتابًا.
وسأذكر ما ورد في هذا الكتاب ثم أبين توثيقه، وما ذكره العلماء في صحة هذه المعاهدة (7).
قال ابن كثير: قال محمد بن إسحاق:
كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه اليهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم وشرط لهم.
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من محمد النبي الأمي (رسول الله) (8) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس - ثم ذكر ما للمهاجرين والأنصار من حقوق وما عليهم من واجبات ثم قال (9)
1- وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثًا ولا يؤويه، وأن من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
2- وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عزَّ وجلَّ وإلى محمد (10)
3- وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.
4- وأن يهود بني عوف أمة من المؤمنين (11) لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوقع (12) إلا نفسه وأهل بيته.
__________
(1) - وكانت تسمى يثرب.
(2) - انظر زاد المسير 3/372؛ وتفسير القرطبي 8/30؛ والتحرير والتنوير 10/48.
(3) - تاريخ الطبري 2/479.
(4) - البداية والنهاية 4/3.
(5) - تاريخ الطبري 2/551؛ وسيرة ابن هشام 3/220.
(6) - تاريخ الطبري 2/553.
(7) - توسعت فيها قليلا نظرًا لشهرتها ولاعتماد كثير من المؤرخين عليها.
(8) - ما بين القوسين زيادة من الوثائق السياسية لمحمد حميد الله - ص 41.
(9) - قمت بوضع الأرقام لمزيد الإيضاح دون أي تغيير في النص أو السياق.
(10) - من باب قوله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) [النساء: 59].
(11) - لا يعني هذا أن دينهم الذي هم عليه الآن حق، ولكن لهم ما للمؤمنين، أو لأنهم أهل كتاب.
(12) - لا يوثق ويهلك.(/35)
5- وإن ليهود بني النجار وبني الحارث وبني ساعدة وبني جثم وبني الأوس وبني ثعلبة وجفنة وبني الشطنة مثل لما ليهود بني عوف (1)
6- وأن بطانة يهود كأنفسهم.
7- وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد.
8- ولا ينحجر (2) على ثأر جرح، وأنه من فتك فبنفسه إلا من ظلم، وأن الله على أثر (3) هذا.
9- وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
10- وأنه لم (4) يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم.
11- وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين (5)
12- وأن يثرب حرام جرفها (6) لأهل هذه الصحيفة.
13- وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
14- وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
15- وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار. يخاف فساده، فإن مرده إلى الله، وإلى محمد رسول الله، وأن الله على أتقى (7) ما في هذه الصحيفة وأبره.
16- وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها.
17- وأن بينهم النصر على من دهم (8) يثرب.
18- وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه (ويلبسونه) (9) وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين.
19- على كل أناس حصتهم (10) من جانبهم الذي قبلهم.
20- وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل الصحيفة وأن البرّ دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره (11).
21- وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم.
22- وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن برّ واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم (12) اهـ.
هذا نص الوثيقة كما أوردها ابن كثير عن ابن إسحاق (13) وكما هي في سيرة ابن هشام (14) والوثائق السياسية لحميد الله (15) وقد اعتمدت البداية لابن كثير أصلا، وأثبت الفروق بين ما في الأصل وغيره - كما سبق - ورواية ابن إسحاق بدون إسناد.
وقد ذكر ابن سيد الناس أن ابن أبي خيثمة أورد الكتاب فأسنده بهذا الإسناد: حدثنا أحمد بن خباب أبو الوليد، حدثنا عيسى بن يوسف، حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتابًا بين المهاجرين والأنصار - ثم ذكر نحو ما أورده ابن إسحاق (16).
وكذلك وردت الوثيقة في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام بإسناد آخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق الزهري (17). كما وردت الوثيقة - أيضًا - في كتاب الأموال لابن زنجوية عن طريق الزهري - أيضًا - (18).
هذه أهم الطرق التي وردت بها الوثيقة كاملة، مع الإشارة إلى أن هناك اختلافًا يسيرًا بينها، كالتقديم والتأخير، أو زيادة عبارات أو بنود قليلة مما لا يؤثر على مضمونها (19).
وبعد فماذا قال العلماء حول هذه الوثيقة؟:
اختلف العلماء في هذه الوثيقة اختلافًا كبيرًا، والمجال لا يناسب هنا عرض جميع ما قيل فيها، ولكن نظرًا لأهميتها ولعلاقتها المباشرة بموضوع البحث فإني أختصر ما توصلت إليه حولها بما يلي:
__________
(1) - عند ابن هشام وفي الوثائق السياسية جاءت مفصلة - دون زيادة في المعنى.
(2) - عند ابن هشام وفي الوثائق: بالزاي.
(3) - عند ابن هشام وفي الوثائق: على أبرّ (من).
(4) - في الوثائق السياسية (لا).
(5) - ما بين القوسين زيادة عند ابن هشام وفي الوثائق وهو مكرر.
(6) - عند ابن هشام وفي الوثائق: جوفها، وقال في حاشية البداية وفي النهاية: الجرف: موضع قريب من المدينة. (ولعله الأصح).
(7) - في البداية: (على من اتقى) وما أثبتَّه من ابن هشام والوثائق وهو أولى.
(8) - دهمهم: غشيهم، وهو الجماعة الكثيرة يأتون على غرة، لسان العرب مادة (دهم).
(9) - زيادة من ابن هشام والوثاق السياسية.
(10) - أي: نصيبهم وما يخصهم.
(11) - ما بين القوسين زيادة من ابن هشام والوثائق السياسية.
(12) - ما بين القوسين زيادة من ابن هشام والوثائق السياسية.
(13) - البداية والنهاية 3/224-225-226.
(14) - انظر سيرة ابن هشام 2/130-134.
(15) - انظر الوثائق السياسية - ص39-47.
(16) - ابن سيد الناس عيون الأثر 1/197؛ وقال د. أكرم العمري في كتاب المجتمع المدني - ص108، ولكن يبدو أن الوثيقة وردت في القسم المفقود من تاريخ ابن أبي خيثمة.
(17) - الأموال لأبي عبيد رقم 517.
(18) - انظر كتاب الأموال لابن (زنجويه، تحقيق شاكر فياض رقم 750).
(19) - انظر المجتمع في عهد النبوة لأكرم العمري - ص 109.(/36)
1- ممن أثبت صحة هذه الوثيقة وانتصر لها الشيخ محمد الصادق عرجون في كتابه (محمد رسول الله) فقد ذكر عدة أدلة نصر بها ما ذهب إليه، واستعرض ما قيل فيها وأشار إلى الشواهد التي تؤيد صحتها ثم قال في ختام مبحثه: هذه نصوص وروايات تدل كثرتها واجتماعها على معنى واحد مع اختلاف رواتها زمنًا، واختلاف بعض عباراتها لفظًا على ثبوت هذا الكتاب ثبوتًا علميًا تاريخيًا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكتابته ليكون دستورًا للمجتمع المسلم، وموادعة لليهود ما داموا منتهين إلى ما فيه الوفاء (1).
2- ومن أثبتها - أيضًا - وجزم بصحتها د. محمد حميد الله في كتابه مجموعة الوثائق السياسية، وذكر جميع مصادره التي اعتمد عليها في هذه الوثيقة من كتب مخطوطة ومطبوعة وأثبت الفروق بين النسخ التي اعتمد عليها. بل اعتبرها من أولى وأهم الوثائق التي ضمّها كتابه (2).
3- ونجد في المقابل أن هناك من ردّ هذه الوثيقة وحكم بوضعها، كالأستاذ يوسف العش حيث قال: إنها لم ترد في كتب الفقه والحديث الصحيح رغم أهميتها التشريعية، بل رواها ابن إسحاق بدون إسناد، ونقلها عنه ابن سيد الناس، وأضاف: أن كثير بن عبد الله المزني روى هذا الكتاب عن أبيه عن جده، وقد ذكر ابن حبان البستي أن كثير المزني روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنها، إلا على جهة التعجب (3).
4- وممن ضعف هذا الكتاب الشيخ ناصر الدين الألباني حيث قال: هذا مما لا يعرف صحته، فإن ابن هشام رواه في السيرة: قال ابن إسحاق، فذكر هكذا بدون إسناد، فهو معضل، وقد نقله ابن كثير عن ابن إسحاق (4).
5- وممن قام بدراسة هذه الوثيقة دراسة شاملة اليامي في رسالته (بيان الحقيقة في الحكم على الوثيقة) حيث ذكر هذه الوثيقة بأسانيدها وبرواياتها، ثم ذكر شواهدها من كتب السنة، وبينّ بعد دراسة حديثية مفصلة لكل إسناد ورواية وشاهد أن هذه الوثيقة ضعيفة، مع تفاوت ضعف كل رواية أو شاهد ثم ختم رسالته بقوله: خلاصة البحث:
الحقيقة أن هذه الرواية لا تصح للأسباب التي ذكرناها مما يسقط الاحتجاج بها، لجعلها غير معتمدة للأخذ، وذلك لعدم ثبوت صحتها من الناحية الحديثية، وبفقدانها شروط الرواية الصحيحة التي اشترطها المحدثون في صحة الرواية وقبولها - ثم قال في مكان آخر- فعلى هذا يتضح لك ضعف هذه الصحيفة وما ورد فيها، سوى ما ثبت لفظه أو معناه في أحاديث أخرى (5).
6- وأخيرًا فإن من أفضل الآراء وأعدلها - حسب رأيي - ما توصل إليه د. أكرم العمري بعد دراسته لهذه الوثيقة حيث قال: وبذلك يتبين أن الحكم بوضع الوثيقة مجازفة، لكن الوثيقة لا ترقى بمجموعها إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة، ثم ذكر أن طريقها ضعيفة وأضاف معقبًا: ولكن نصوصًا من الوثيقة وردت في كتب الأحاديث بأسانيد متصلة، ثم قال: وهذه النصوص جاءت من طرق مستقلة عن الطرق التي وردت منها الوثيقة، وإذا كانت الوثيقة بمجموعها لا تصلح للاحتجاج بها في الأحكام الشرعية...، فإنها تصلح أساسًا للدراسة التاريخية التي لا تتطلب درجة الصحة التي تقتضيها الأحكام الشرعية، خاصة وأن الوثيقة وردت من طرق عديدة تتضافر في إكسابها القوة، كما وأن الزهري علم كبير من الرواد الأوائل ذكرها في كتابه السيرة النبوية، ثم إنّ أهمّ كتب السيرة ومصادر التاريخ ذكرت موادعة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود، وكتابته بينه وبينهم كتابًا، ثم ختم رأيه فيها قائلا:
ثم إن التشابه بين أسلوب الوثيقة وأساليب كتب النبي صلى الله عليه وسلم الأخرى يعطيها توثيقًا آخر (6).
7- وما ذهب إليه د. العمري هو ما تطمئن إليه النفس، ويتسق مع المنهج العلمي، فلا ندعي الجزم بصحتها، ولا القطع ببطلانها، وبخاصة أن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ثابتة في السنة النبوية الشريفة (7).
وأخذ العهد على اليهود ثابت في القرآن والسنة (8).
وبعض ما ورد في الصحيفة من أحكام ورد في أحاديث متفرقة (9).
__________
(1) - انظر كتاب محمد رسول الله 3/170-175.
(2) - انظر مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة - ص 39-40.
(3) - انظر الدولة العربية وسقوطها ترجمة العش حاشية - ص20 (نقلا عن كتاب المجتمع المدني - ص109 (.
(4) - دفاع عن الحديث النبوي والسيرة - ص 25-26.
(5) - انظر رسالة بيان الحقيقة في الحكم على الوثيقة لليامي - ص 34 -38.
(6) - المجتمع المدني في عهد النبوة - ص110 وما بعدها.
(7) - انظر صحيح البخاري، مناقب الأنصار، باب إخاء النبي بين المهاجرين والأنصار 5/38؛ وانظر صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب مواخاة النبي بين أصحابه 7/183.
(8) - سورة الأنفال: الآية 56؛ وانظر مسند أحمد 1/119 و1/278.
(9) - انظر صحيح مسلم، كتاب العتق، باب تحريم تولي العتيق غير مواليه 4/216.(/37)
وأشير هنا إلى أن هذه الوثيقة، غير الصحيفة الثابتة وهي صحيفة علىّ (1) رضي الله عنه التي ظنها البعض هي صحيفة المؤاخاة (2).
وبعد: فلا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على اليهود العهود والمواثيق، وبتتبع كتب السنة والسيرة اتضح لي أن هذه العهود على أنواع:
الأول: العهد والميثاق على متابعته صلى الله عليه وسلم من قبل بعض اليهود وهو مصداق ما أخذه الله عليهم في التوراة وعلى لسان أنبيائهم - كما سبق -:
1- ودليل هذا ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهن، ولا يعلمهن إلا نبي، فلما سألوه قال: فعليكم عهد الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم لتتابعني، قال: فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق - الحديث (3).
2- وما رواه الطبري عن شهر بن حوشب أن نفرًا من اليهود جاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا عن أربع نسأل عنهن، فإن فعلت اتبعّناك وصدّقناك وآمنّا بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عليكم بذلك عهد الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقنّي"، قالوا: نعم - الحديث (4).
الثاني: العهد والميثاق على مسالمة الرسول وأصحابه، وعدم المظاهرة عليهم وهذا خاص بيهود المدينة، على أن يبقوا بالمدينة ما أوفوا بذلك، وأدلة هذا كثيرة نذكر بعضًا منها:
1- قال الطبري - في ذكر غزوة الخندق - وخرج عدو الله حييّ بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد القرظي - صاحب عقد قريظة وعهدهم - وكان وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، وعاهده على ذلك وعاقده - إلى أن قال: ويحك يا حييّ، إنك امرؤ مشئوم، إني عاهدت محمدًا فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقًا - إلى أن قال الطبري - فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم (5). (حيث وافق على طلب حييّ بمساعدة اليهود للمشركين ضد المسلمين).
2- وقال ابن سعد في حديثه عن غزوة بني قينقاع:
وكانوا - أي بنو قينقاع - أشجع يهود، وكانوا صاغة فوادعوا النبي صلى الله عليه وسلم فلما كانت وقعة بدر أظهروا البغي والحسد، ونبذوا العهد والمرة (6) - ثم قال - فكانوا أول من غدر من اليهود وحاربوا (7).
3- وقال ابن سعد في غزوة بني النضير:
فقال عمرو بن جحاش: أنا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة، فقال سلام بن مشكم: لا تفعلوا، والله ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه (8).
4- قال ابن كثير- في تفسير سورة الحشر: قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ )(الحشر: من الآية2) يعني يهود بني النضير، قال ابن عباس ومجاهد والزهري وغير واحد، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هادنهم وأعطاهم عهدًا وذمة، على ألا يقاتلهم ولا يقاتلوه، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه (9).
5- وقال ابن سعد - في غزوة الأحزاب: وكان بينهم (يعني بني قريظة) وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا ذلك، وظاهروا المشركين (10).
6- وقال الطبري: وكان قد وادع حين قدم المدينة يهودها، على ألا يعينوا عليه أحدًا، وأنه إن دهمه بها عدوّ نصروه (11).
الثالث: وهو معاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر، حيث عاهدهم مرتين الأولى على الجلاء من خيبر، والمعاهدة الثانية على مزارعتهم لخيبر بعد أن أذن لهم بالبقاء، ومن أدلة ذلك ما يلي:
__________
(1) - انظر صحيح مسلم، كتاب العتق، باب تحريم تولي العتيق غير مواليه 4/217؛ وفتح الباري 4 /85، فقد ذكرت صحيفة علي وما ورد فيها.
(2) - وسبب هذا الظن أن ما في صحيفة علي ورد كثير منه في الوثيقة (وليس في صحيفة علي إشارة لليهود).
(3) - المسند 1/278؛ ورواه الطبري في تفسيره عن ابن عباس أيضًا 1/431.
(4) - تفسير الطبري 1/432.
(5) - تاريخ الطبري 2/570.
(6) - قال في لسان العرب مادة (مرر) 5/170: وأصل المرة: إحكام القتل.
(7) - طبقات ابن سعد 2/29.
(8) - طبقات ابن سعد 2/57.
(9) - تفسير ابن كثير 4 30؛ وانظر تفسير الماوردي 4/206.
(10) - طبقات ابن سعد 2/71.
(11) - تاريخ الطبري 2/479.(/38)
1- قال ابن القيم في زاد المعاد: وكذلك صالح أهل خيبر لما ظهر عليهم على أن يجليهم منها، ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء، والحلقة - وهي السلاح - واشترط في عقد الصلح ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئًا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم، فغيبوا مسكًا فيه مال وحلى لحييّ بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير، فسألهم الرسول صلى الله عليه وسلم فكتموه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم "العهد قريب والمال أكثر من ذلك"، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يبحث عن المال فوجدوه، فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق، وسبى نساءهم وذراريهم وقسّم أموالهم بالنكث الذي نكثوا، وأراد أن يجليهم من خيبر فقالوا: دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها، فصالحهم على ذلك (1).
2- ثبت في الصحيحين (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح خيبر عامل يهودها عليها على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، وقد ورد في بعض ألفاظ الحديث: على أن يعملوها من أموالهم (3) وفي بعضها، وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم " نقركم ما شئنا " (4) وأقروا بها حتى أجلاهم عمر (5) قال ابن كثير ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه وأرسل لهم قائلا: من كان عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأتيني به أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد فليجهز للجلاء (6)
هذه بعض الأدلة من كتب السنة والتفسير والسيرة على نوع ما أخذه الرسول صلى الله عليه وسلم على اليهود من عهود ومواثيق.
ويتضح من خلال كتب التفسير والسيرة والسنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ عليهم العهد والميثاق أكثر من مرة حيث أخذه عليهم عندما قدم إلى المدينة، ثم أكده في مناسبات متعددة (7) وهذا معنى قوله سبحانه: (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (الأنفال:56).
3- العهود والمواثيق التي كانت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين:
عقد الرسول صلى الله عليه وسلم عدة عهود بينه وبين المشركين، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في عدة مواضع فنجد في سورة التوبة قوله تعالى: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (التوبة:1) وفي سورة الأنفال نقرأ قوله تعالى: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) (الأنفال: من الآية72).
وفي سورة التوبة - أيضًا - (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ) (التوبة: من الآية4). إلى غير ذلك من الآيات التي سبقت الإشارة إليها في عدة مواضع، وفي هذا البحث سأبين نوع هذه العهود والمواثيق التي ذكرها الله في كتابه مستعينًا بالله ومتوكلاً عليه:
أولا: ما تم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش في غزوة الحديبية :
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة في السنة السادسة من الهجرة، قاصدًا مكة لأداء العمرة، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته بذلك، ولكن لما يعلمون من عداء قريش، وما تحمله في نفسها من ثارات ضد المسلمين بعد الغزوات التي هزمت فيها قريش - مرارًا - فقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحيطة واستعد لملاقاتهم إن اقتضى الأمر ذلك، وحتى لا يؤخذوا على حين غرة. وقد علمت قريش بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم وعقدوا العزم على ملاقاته وصده عن البيت الحرام مهما كلفهم ذلك من أمر، وأعدّوا لذلك جيشًا بقيادة خالد بن الوليد (8) وعندما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عزمت عليه قريش، شاور أصحابه، فاستقر رأيهم على قتال من واجههم أو صدهم عن البيت الحرام (9).
__________
(1) - انظر زاد المعاد تحقيق الأرنؤوط 3/143 بتصرف.
(2) - انظر صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب معاملة النبي أهل خيبر 5/179؛ وصحيح مسلم، كتاب البيوع، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع 5/26.
(3) - صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع 5/27؛ والبداية والنهاية 4/219.
(4) - صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع 5/27؛ والبداية والنهاية 4/219.
(5) - صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع 5/27؛ والبداية والنهاية 4/219.
(6) - انظر البداية والنهاية 4/219.
(7) - انظر المجتمع المدني في عهد النبوة للعمري - ص114.
(8) - انظر تفصيل ذلك في كتب السيرة وبالأخص تاريخ الطبري 2/620؛ ومرويات غزوة الحديبية - ص22 وما بعدها.
(9) - انظر صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية 5/161.(/39)
قام خالد بن الوليد بقطع الطريق على المسلمين إلى مكة فلم يكن أمامهم - إن هم استمروا في طريقهم الذي سلكوه - إلا مواجهة جيش خالد وخوض معركة معهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصًا على تحاشي القتال معهم ما أمكن ذلك - لأنه لم يخرج لقتال - كما سبق - لذا فقد سلك طريقًا أفضى بهم إلى الحديبية (1).
المعاهدة وأسبابها:
سبق أن أشرت إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه فأشاروا عليه بقتال من صدّهم عن المسجد الحرام، ودليل ذلك ما رواه البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم - وفيه - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أشيروا أيها الناس علي أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عزَّ وجلَّ قد قطع عينًا من المشركين وإلا تركناهم محروبين"، فقال أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامدًا لهذا البيت لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: "امضوا على اسم الله " (2).
وفي الحديبية أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم البيعة من أصحابه على الموت وعلى ألا يفروا - كما سبق مفصلا - (3) ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن عزم على المضي إلى مكة وقتال من قاتله غيرّ موقفه فلماذا؟:
نجد الجواب فيما يرويه البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل (4) فألحت (5) فقالوا: خلأت (6) القصواء، خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت، قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية (7).
ثم عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح على قريش فقبلوه، حيث علموا أن الصحابة - رضي الله عنهم - بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الموت، وأشار عليهم عقلاؤهم بالصلح، وحذروهم مغبة مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم فخافوا (8).
أما ما تم العهد عليه، فقد رويت عدة أحاديث في هذا الشأن أهمها:
1- ما رواه البخاري في حديث مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة (9).
2- ما رواه البخاري - أيضًا - عن البراء، حيث روى عنه ثلاثة أحاديث (10).
3- حديث ابن عمر الذي رواه البخاري - أيضًا - (11).
4- الحديث الذي أخرجه مسلم عن أنس بن مالك (12).
5- الحديث الذي رواه أحمد عن أنس - أيضًا - (13).
6- حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم عن طريق ابن إسحاق وقد أخرجه الإمام أحمد (14).
7- الحديث الذي رواه أبو داود عن طريق ابن إسحاق (15).
وهذه الأحاديث قد وردت بألفاظ مختلفة، وبعضها ذكر الصلح كاملا كحديث مروان والمسور بن مخرمة، وبعضها ذكر جزء منه كحديث عبد الله بن عمر، واختصارًا للموضوع واقتصارًا على ما يعنينا - هنا - أذكر ملخصًا لتلك الشروط التي وردت في هذه الأحاديث فقد تم الاتفاق على:
1- أن يرجع المسلمون ذلك العام ولا يصلوا إلى مكة.
2- تسمح قريش للمسلمين بقضاء عمرتهم في العام المقبل، ويقيمون بمكة ثلاثة أيام.
3- لا يدخلوا مكة بسلاح إلا سلاح الراكب، وأن تكون السيوف بالقرب (16).
4- من جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قريش بغير إذن وليه يرده عليهم، ومن جاء قريشًا من المسلمين لا ترده إليهم.
5- من أراد أن يدخل في عقد النبي صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه وله مثل شرطه.
6- من أراد أن يدخل في عقد قريش وعهدها دخل فيه وله مثل شرطها.
__________
(1) - انظر مرويات غزوة الحديبية - ص92.
(2) - صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية 5/161.
(3) - وذلك في مبحث بيعة الرضوان.
(4) - كلمة تقال للناقة إذا تركت السير، فتح الباري 5/335.
(5) - أي: تمادت على عدم القيام، فتح الباري 5/335.
(6) - الخلاء للإبل كالحران للخيل، فتح الباري 5/335.
(7) - صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب 3/239.
(8) - انظر تفصيل ذلك في صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب 3/139؛ ومرويات غزوة الحديبية - ص158.
(9) - انظر صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة في الحرب 3/242.
(10) - انظر صحيح البخاري، كتاب الصلح، باب كيف يكتب 3/228، وباب الصلح مع المشركين 3/229.
(11) - انظر صحيح البخاري، كتاب الصلح، باب الصلح مع المشركين 3/230.
(12) - انظر صحيح مسلم، كتاب الجهاد، باب صلح الحديبية 5/174.
(13) - انظر مسند الإمام أحمد 3/268.
(14) - انظر مسند الإمام أحمد 4/325.
(15) - انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب في صلح العدو ورقم الحديث (2749) 7/452.
(16) - جمع قراب، وهو غمد السيف وحمالته، انظر الصحاح (قرب) 1/200.(/40)
7- أن بينهم عيبة مكفوفة (1).
8- أنه لا أسلال ولا أغلال (2) .
9- توضع الحرب بينهم عشر سنين (3).
طرفي الصلح وكاتبه وشهوده:
كان الصلح بين المسلمين وناب عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين وناب عنهم سهيل بن عمرو (4).
وكاتب الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش هو الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
وقد ثبت هذا في صحيح البخاري (5) ومسلم (6) وغيرهما (7)
وأما شهوده فقد ذكر الطبري أنه شهد عليه أناس من المسلمين وأناس من المشركين وهم:
1- أبو بكر الصديق.
2- عمر بن الخطاب.
3- عبد الرحمن بن عوف.
4- عبد الله بن سهيل بن عمرو.
5- سعد بن أبي وقاص.
6- محمود بن مسلمة.
7- مكرز بن حفص بن الأخيف.
8- وعلي بن أبي طالب (كاتب الصحيفة) (8).
وقد ذكر ابن سعد هؤلاء الشهود سوى عبد الله بن سهيل بن عمرو وعلي بن أبي طالب (9) وقال محمد بن مسلمة بدل محمود بن مسلمة، وزاد: عثمان بن عفان وأبا عبيدة عامر بن الجراح وحويطب بن عبد العزى - وكان مشركًا (10).
ثانيًا: العهود التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين غير قريش من المشركين:
كانت هناك عهود ومواثيق - لغير قريش - أبرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بعض القبائل ممن لم يدخلوا في الإسلام وذلك كمدلج، وبني بكر بن وائل وخزاعة، وهؤلاء وأمثالهم ممن أشار إليهم القرآن بقوله تعالى: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (التوبة:1).
وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:4).
وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: من الآية7).
مع اختلاف المعنيين في كل آية من الآيات السابقة حسب موقفهم من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والعهد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء يتلخص بما يلي:
1- المسالمة بينهم وبين المسلمين، وعدم اعتداء أي طرف على الآخر، ولهم الأمان ومن دخل في حكمهم ورضي في عهدهم قال تعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) (النساء: من الآيتين 89،90) (11)
2- نصرة كل طرف للآخر إذا استنصره، إلا أن يكون ضد طرف ثالث له ميثاق مع من طلبت منه النصرة، فلا نصرة إذًا، ولكنه الحياد.
قال تعالى مبينًا حق المؤمنين الذين لم يهاجروا: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال: من الآية72) (12)
وقد كان العهد مع بعضهم إلى مدة، وبعضهم لا مدة له (13).
ومن أهم الأدلة على ذلك:
__________
(1) - أراد بينهم موادعة ومكافة عن الحرب، تجريان مجرى المودة التي تكون بين المتصافين الذين يتق بعضهم ببعض (النهاية في غريب الحديث 3/327).
(2) - قال ابن الأثير: الأغلال: الخيانة أو السرقة الخفية، والإسلال من سل البعير، وقيل: هو الغارة الظاهرة، وقيل: الإغلال: لبس الدروع، والإسلال: سل السيوف. النهاية في غريب الحديث 3/38.
(3) - هكذا ورد في حديث المسور ومروان عن أبي داود وإسناده حسن. وقد جاء في حديث ابن عمر عند ابن عدي وغيره، أن مدة الهدنة أربع سنين، ولكن قال ابن حجر أن سنده ضعيف. انظر فتح الباري 5/434؛ ومرويات غزوة الحديبية - ص167.
(4) - انظر صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد 3/242.
(5) - انظر صحيح البخاري، كتاب الصلح، باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان ابن فلان 3/228.
(6) - انظر صحيح مسلم، كتاب الجهاد، باب صلح الحديبية 5/173.
(7) - انظر المصنف لعبد الرزاق حيث ذكر عدة آثار في ذلك 5/343؛ ومرويات غزوة الحديبية - ص167.
(8) - انظر تاريخ الطبري 2/636، ولكن قال الحكمي أن سنده ضعيف؛ انظر مرويات غزوة الحديبية - ص170.
(9) - حيث لم يذكره مع الشهود وإنما قال: وكتب على صدر هذا الكتاب.
(10) - انظر طبقات ابن سعد 2/97؛ ومرويات غزوة الحديبية - ص170.
(11) - انظر تفسير الآية وبيان هذا الشرط في تفسير الطبري 5/196-197.
(12) - الشاهد في الجزء الأخير من الآية.
(13) - انظر تفسير الطبري 10/59-60.(/41)
1- روى الإمام أحمد في مسنده عن المسور بن مخرمة ومروان: كان في شروطهم حين كتبوا الكتاب (1) أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن مع عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم. (2).
2- وروى ابن حبان عن عبد الله بن عمر قال: كانت خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت بنو بكر - رهط بني كنانة حلفاء لأبي سفيان، قال: وكانت بينهم موادعة أيام الحديبية، فأغارت بنو بكر على خزاعة في تلك المدة فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمدونه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ممدًا لهم في شهر رمضان - الحديث (3).
3-
ويكاد يجمع المؤرخون على أن سبب غزوة فتح مكة نقض العهد من قبل بني بكر، ومساعدة قريش لهم - ضد خزاعة، وهذا نقض للعهد أيضًا - وطلب خزاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم نصرتهم، وفاء للعهد الذي بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم (4) وفي ذلك قال عمرو بن سالم الخزاعي قصيدته المشهورة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم والتي مطلعها:
لا همّ أني ناشد محمدًا ... حلف أبينا وأبيه ألا تلدا (5)
4- ذكر المفسرون عند تفسير آيات التوبة التي سبق ذكرها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد عاهد بعض المشركين، وسالمهم كخزاعة ومدلج وقبائل بني بكر وغيرهم فمنهم من وفى ومنهم من نقض العهد (6).
وبهذا يتضح لنا ما كان بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين بعض المشركين من عهود ومواثيق مما أشارت إليه الآيات الكثيرة التي مرّت معنا، كما تبيّن أن بعض المشركين وفى بعهده وميثاقه، وبعضهم نقض ذلك فدارت الدائرة عليه.
النوع الثاني العهود التي أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض قبائل العرب وغيرهم
وهذه العهود كانت عن طريق الوفود أو الرسل والمكاتبات، وذلك بعد أن عزّ جانب الإسلام وقويت دولته، فأصبحت القبائل والطوائف تطلب الأمان من الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبتتبع السيرة واستقرائها (7) اتضح لي أن هذا النوع من العهود كان لأربع فئات - كما أسلفت - وهي:
1- العهود التي أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض القبائل التي دخلت في الإسلام.
2- عهود أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض قبائل اليهود.
3- عهود أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض طوائف النصارى.
4- عهود أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض قبائل العرب.
وقد ذكرت في مقدمة هذا المبحث أنني سأتكلم عنه بإجمال يختلف عن المنهج الذي سلكته في النوع الأول - حيث فصّلت فيه - وذلك لاختلاف نوع هذه العهود وأثرها على الدولة الإسلامية، ومن ثم جاءت في القرآن الكريم مجملة وقليلة، ومن ذلك قوله تعالى:
(وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) (النساء: من الآية92).
وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) (النساء: من الآية90).
__________
(1) - وذلك في صلح الحديبية كما سبق.
(2) - مسند الإمام أحمد 4 25، وهو حديث حسن لأنه من طريق ابن إسحاق وقد صرح بالسماع، وبقية رجاله (رجال) الصحيح. انظر مرويات غزوة الحديبية - ص 56 و163.
(3) - انظر موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان 414، نقلا عن مرويات غزوة الحديبية - ص196، وفيه قال الحكمي: هذا اللفظ حسن لشاهده من حديث ابن إسحاق (السابق) وقد صرح فيه عبيدة بن الأسود بالسماع، وبقية رجاله فيهم الثقة، وفيهم دونه وأقلهم حالا يعتبر بحديثه.
(4) - انظر تاريخ الطبري 3/42؛ وسيرة ابن هشام 4؛ والبداية والنهاية 4/278؛ وزاد المعاد 3/394 وغيرها من كتب السيرة.
(5) - تاريخ الطبري 3/45.
(6) - انظر تفسير الطبري 10/59 وما بعدها؛ وتفسير القرطبي 8/64 وما بعدها؛ وتفسير ابن كثير 2/332 وما بعدها؛ والتحرير والتنوير 2/103 وما بعدها، وقد فصّل في ذلك.
(7) - انظر طبقات ابن سعد 1/258 وما بعدها؛ وسيرة ابن هشام الجزء الرابع في مواضع متفرقة؛ وزاد المعاد الجزء الثالث في مواضع مختلفة؛ وكذلك البداية والنهاية الجزء الخامس في مواضع متفرقة - أيضًا -؛ والوثائق السياسية القسم الثاني، وقد اعتمدت كثيرًا على طبقات ابن سعد والوثائق السياسية، نظرًا لاهتمامهما في هذا الجانب أكثر من غيرهما.(/42)
ونحو هذه الآيات التي تشمل هؤلاء وغيرهم كبعض من سبق ذكرهم في النوع الأول، وهذا لا يعني أن تلك العهود لا أهمية لها، حاشا وكلا، ولكن مقارنة بالنوع الأول يبرز الاختلاف بينهما، مع الأهمية الحاصلة لكل منهما، وأشير هنا إلى أمر مهم جدًا وهو أنني فيما سأورده من وثائق نبوية لن أقوم ببيان درجتها من الصحة، وإنما اكتفي ببيان موضعها ومصدرها (1) وذلك مرتبط بمنهجي في هذا النوع خصوصًا، تبعًا لاختلاف مبعث الاستدلال وسببه، وبالله التوفيق.
أولا: العهود التي أعطاها صلى الله عليه وسلم لبعض القبائل التي دخلت في الإسلام
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الرسل واستقبل بعض الوفود من القبائل التي أسلمت وكتب لتلك القبائل كتابات فيها عهود وأمان، ومن ذلك كتابته لبني الحارث وبني نهد (2) ولبني معاوية من جرول (3) لأسلم من خزاعة (4). وبني غفار (5) وبني جناب بن كلب (6) وغيرهم (7) من قبائل العرب ممن دخلوا في الإسلام.
وهذه بعض الأمثلة عن نوع تلك العهود:
1- كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيس بن الحصين ذي القصة أمانة لبني أبيه بني الحارث ولبني نهد أن لهم ذمة الله وذمة رسوله، لا يحشرون ولا يعشرون (8) وأن في أموالهم حقًا للمسلمين (9).
2- وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسلم من خزاعة لمن آمن منهم وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وناصح في دين الله، أن لهم النصر على من دهمهم (10) بظلم، وعليهم نصر النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم ولأهل باديتهم ما لأهل حاضرتهم، وأنهم مهاجرون حيث كانوا (11) .
3- وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني جناب بن كلب هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لبني جناب وأحلافهم ومن ظاهرهم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والتمسك بالإيمان والوفاء بالعهد (12) .
4- وكتب لأكيدر هذا الكتاب: وهذا كتاب من محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام وخلع الأنداد والأصنام - إلى أن قال: عليكم بذلك العهد والميثاق، ولكم بذلك الصدق والوفاء (13) .
ومما سبق يتضح لنا هذا النوع من العهود والأمان لمن أسلم من قبائل العرب.
ثانيًا: عهود أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض قبائل اليهود
تحدثت في هذا النوع الأول عن العهود التي كانت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين اليهود، واليهود الذين تحدثت عن عهودهم - هناك - هم يهود المدينة (بنو قينقاع - بنو النضير - بنو قريظة) ويهود خيبر، وهنا أذكر بعض من كتب لهم الرسول صلى الله عليه وسلم عهودًا فيها الأمان والذمة.
فقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني جنبة (14) وهم يهود بمقنا، وكتب لبني غاديا، (15) وهم قوم من يهود، وكتب لأهل جربا وأذرح (16) وهم قوم من اليهود.
وهذه أمثلة لنوع تلك العهود:
1- (هذا كتاب من محمد رسول الله لبني غاديا، أن لهم الذمة وعليهم الجزية، ولا عداء ولا جلاء) (17).
2- (هذا كتاب من محمد لأهل جربا وأذرح أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة والله كفيل عليم) (18).
ثالثًا: العهود التي أعطاها صلى الله عليه وسلم لبعض طوائف النصارى
__________
(1) - ومن أسباب ذلك أيضًا ما أشار إليه د. أكرم العمري في كتابه المجتمع المدني في عهد النبوة قال: وإن هذا الحكم - أي حكمه على نصوص الكتب التي وجهها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك من حيث صعوبة الحكم بصحتها وأنها لا ترقى إلى مستوى الاحتجاج بها في السياسة الشرعية - يسري على معظم وثائق العهد النبوي الأخرى إذ لا مجال لتصحيحها من الناحية الحديثة، ولم تعن الكتب الستة بتخريجها سوى كتاب هرقل في البخاري، وكتاب عمير ذي مزن في سنن أبي داود، رغم أن الكثير منها يمكن أن يكون صحيحًا من الناحية التاريخية، ولكنه يبقى دون الاحتجاج به في موضوعات العقيدة والشريعة. انظر المجتمع المدني في عهد النبوة (الجهاد ضد المشركين) ص154.
(2) - انظر طبقات ابن سعد 1/268.
(3) - انظر طبقات ابن سعد 1/269.
(4) - انظر طبقات ابن سعد 1/271.
(5) - انظر طبقات ابن سعد 1/274.
(6) - انظر طبقات ابن سعد 1/285.
(7) - انظر طبقات ابن سعد 1/268 وما بعدها؛ والوثائق السياسية - ص98 وغيرها.
(8) - أي: لا يحشرون من ماء في الصدقة، ولا يعشرون في السنة إلا مرة - انظر طبقات ابن سعد 1/271.
(9) - طبقات ابن سعد 1/268 والوثائق السياسية - ص138.
(10) - دهمهم: غشيهم، وهم الجماعة الكثيرة يأتون على غرة. انظر لسان العرب مادة (دهم) 12/211.
(11) - طبقات ابن سعد 1/271.
(12) - طبقات ابن سعد 1/285.
(13) - طبقات ابن سعد 1/288؛ والوثائق السياسية - ص246.
(14) - انظر طبقات ابن سعد 1/276؛ والوثائق السياسية - ص91.
(15) - انظر طبقات ابن سعد 1/279؛ والوثائق السياسية - ص73.
(16) - انظر طبقات ابن سعد 1/290؛ وسيرة ابن هشام 4/214.
(17) - طبقات ابن سعد 1/279؛ والوثائق السياسية - ص73.
(18) - طبقات ابن سعد 1/290؛ والوثائق السياسية - ص90.(/43)
لم يواجه صلى الله عليه وسلم من النصارى كما واجه من اليهود أو من كفار قريش، وذلك لأنهم لم يساكنوه صلى الله عليه وسلم فبعد مكانهم كان سببًا رئيسًا في ضعف أثرهم في المجتمع المسلم.
ومن أشهر من واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من النصارى - نصارى نجران حيث وفدوا عليه صلى الله عليه وسلم وكان بينه وبينهم ما ذكرته كتب التفسير والسيرة، ونزل فيهم صدر سورة آل عمران (1).
وقد كتب صلى الله عليه وسلم عهدًا لنصارى نجران (2) وكذلك كتب لنصارى تغلب (3) وإلى أهل أيلة (4) وغيرهم.
وحيث إن من أهم ما كتب صلى الله عليه وسلم للنصارى من عهود ما كتبه لنصارى نجران، فإني اختار منها (5) مقطعًا ليدل عليها:
1- "ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله، على أنفسهم وملتهم... إلى أن قال: وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله، وذمة النبي أبدًا حتى يأتي الله بأمره إن نصحوا وأصلحوا فيما عليهم (6) .
وقد أورد الدكتور محمد حميد الله عددًا من العهود التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدد من نصارى نجران (7).
رابعًا: العهود التي أعطاها صلى الله عليه وسلم لبعض قبائل العرب
كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة كتابات لبعض قبائل العرب وفيها الأمان والعهد لهم.
ومن ذلك كتابته لبني زرعة (8) وبني جعيل من بلى (9) وبني ضمرة بن بكر (10) وغيرهم (11).
وهذا مثال من تلك العهود:
كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة أنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصر على من دهمهم بظلم، وعليهم نصر النبي صلى الله عليه وسلم ما بلّ بحر صوفة (12) إلا أن يحاربوا في دين الله، وأن النبي إذا دعاهم أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله ورسوله (13).
وقبل أن أنتقل عن هذا المبحث أشير إلى ما يلي:
1- ذكر أحد المفسرين أنه قد جرى بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المنافقين بعض العهود فخانوا، وفسّر قوله تعالى: (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) (الأنفال: من الآية56) بالذين نقضوا العهد من اليهود والمشركين ثم قال: وأخصها المنافقون فقد كانوا يعاهدون النبي صلى الله عليه وسلم ثم ينقضون عهدهم (14).
والذي أريد أن أنبه إليه هنا، أنه لم يجر بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المنافقين أي عهد بصفتهم الاعتبارية كما جرى لليهود والمشركين، حيث لم يكن لهم كيان يتميزون به عن غيرهم من المسلمين، بل عدّهم الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة - ظاهرًا - (15) وأجرى لهم وعليهم أحكام المسلمين وسرائرهم إلى الله سبحانه.
ثم إن الآية تقول: (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) (الأنفال: من الآية57) والثقف هو الظفر، ولم يكن ولا يمكن أن يكون بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أي حرب معلنة ظاهرة ما داموا مع المسلمين ظاهرًا.
وهذا لا يعني أنهم يخونوا عهدهم، ولكن هذه العهود كانت لآحادهم كأفراد من المسلمين الذين يعاهدون رسول الله ويبايعونه، ولم يكونوا يصارحون بنقض العهد، بل كانوا يبحثون عن الأعذار وما لا يدانون به ظاهرًا، من الأسباب التي تكون سترًا لغدرهم وخيانتهم. وهذا ما ذكره الله من سيرتهم في آيات كثيرة منها قوله تعالى في سورة التوبة: (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (التوبة: من الآية42).
__________
(1) - انظر تفسير الطبري 3/161؛ وأسباب النزول للواحدي - ص61.
(2) - انظر طبقات ابن سعد 1/266 و287 و358؛ وانظر الوثائق السياسية - ص140 وما بعدها.
(3) - انظر طبقات ابن سعد - ص316.
(4) - انظر الوثائق السياسية - ص87؛ وطبقات ابن سعد 1/277.
(5) - حيث كتب عدة كتابات وعهود؛ انظر الوثائق السياسية - ص140 وما بعدها.
(6) - انظر طبقات ابن سعد 1/288؛ وزاد المعاد 3/635؛ والوثائق السياسية - ص140.
(7) - انظر الوثائق السياسية - ص140 وما بعدها.
(8) - انظر طبقات ابن سعد 1/270؛ والوثائق السياسية - 216.
(9) - انظر طبقات ابن سعد 1/270؛ والوثائق السياسية - 105.
(10) - انظر طبقات ابن سعد 1/274؛ والوثائق السياسية - ص220.
(11) - انظر طبقات ابن سعد 1/258 وما بعدها، والوثائق السياسية القسم الثاني.
(12) - قال ابن منظور: صوف البحر: شيء على شكل هذا الصوف الحيواني، واحدته صوفة. ومن الأبديات قولهم: لا آتيك ما بلّ بحر صوفه. انظر لسان العرب مادة (صوف) 9/200.
(13) - طبقات ابن سعد 1/274؛ والوثائق السياسية - ص220.
(14) - انظر تفسير ابن عاشور التحرير والتنوير 10/48 حيث قال بذلك.
(15) - انظر سيرة ابن هشام 3/371 وما قاله الرسول بعد الرجوع من غزوة بني المصطلق - المريسيع، إبّان فتنة المنافقين.(/44)
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) (التوبة: من الآية49)، وقوله سبحانه في سورة الأحزاب: (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً) (الأحزاب: من الآية13).
وقوله بعدها: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً) (الأحزاب:15).
إذًا فالمنافقين قد نقضوا العهود، ولكنها العهود التي كانوا يعطونها للرسول صلى الله عليه وسلم مع المسلمين كأفراد منهم، لا أنهم قد تميزوا عن المسلمين، لأن هذا لا يمكن أن يكون ويبقون داخل الصف المسلم، ومما أشار إليه القرآن في نقضهم للعهد قوله تعالى في سورة التوبة: (لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (التوبة:75، 76).
2- هناك وثائق منسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها بعض العهود لليهود وأخرى للنصارى وهي مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثر الوضع عليها ظاهر ومن تلك الوثائق ما ادعاه بعض اليهود في وثيقة قالوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعفاهم من الجزية (1) وما ادعاه بعض النصارى في أن الرسول عهد لهم بأشياء في نجران (2) وقد قام د. محمد حميد الله ببيانها وكشف زيفها (3).
وبعد: فهذا ما تيسر بيانه مما يتعلق بالعهود والمواثيق التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرها القرآن الكريم في عدة مواضع.
رابعاً: المبحث الثالث
مجالات استعمال مصطلح العهد والميثاق
بعد النظر والتمعّن والاستقراء للآيات التي ورد فيها لفظ العهد أو الميثاق، وبعد الرجوع إلى تفسير هذه الآيات وما قبلها وما بعدها مما يرتبط بها أو ترتبط به، اتضح لي أن هذا المصطلح استعمل في مجالات كثيرة، ولم يكن حصرًا على الاستعمال في مجال واحد أو مجالين.
فنجد أنه استعمل في مجال تقرير العقيدة وبيانها - بأقسامها المعروفة - وهذا من أوسع المجالات التي استخدم فيها مصطلح العهد والميثاق.
كما نجد أنه قد ورد في بيان العبادات والأمر بها، وفي الحث على التمسك بالأخلاق الفاضلة وإرشاد المسلمين إلى ذلك.
أما في مجال العلاقات بين الدولة المسلمة وغيرها فقد ورد هذا المصطلح ليبين ويرسم كيف تكون تلك العلاقة بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات في أحوال مختلفة من أحوال الدولة الإسلامية.
وفي باب المعاملات الفردية والجماعية فقد ورد ليكون أساسًا وأمانًا للمتعاملين، وليضفي جوّ الثقة لدى من يتعامل مع المسلمين.
وفي القضايا الاجتماعية ورد هذا المصطلح حاسمًا، ومغلقًا، لبعض أبواب الشرّ التي قد تعصف ببنية المجتمع المسلم وتثير فيه القلائل والاضطرابات، وفي مجال الحث على الجهاد في سبيل الله جاء العهد مثيرًا للهمم وموطّنًا للعزائم ومذكّرًا بعواقب الفرار والانهزام.
وهكذا نجد أن مجال استعمال هذا المصطلح واسع في القرآن الكريم، بل نجد أنه قد ورد في بعض الآيات متناولا عدة مجالات في وقت واحد. ومن هنا ولأهمية بيان هذا الجانب فسأقف مع كل آية من آيات العهد والميثاق مبينًا المجال الذي استعملت فيه، وسأسلك في هذا أسلوب التفسير الموضوعي حيث قمت باستقراء الآيات وحصر المجالات التي ورد فيها مصطلح العهد والميثاق، ثم قسّمت المجالات ورتبتها ترتيبًا فنيًا، وذكرت الآيات التي وردت تحت كل مجال من المجالات المختلفة، مبينًا عند كل آية علاقتها بهذا المجال في ضوء جوّ الآية ومعناها، متصلا بما قبلها وما بعدها.
مع التنبيه إلى أن هناك تداخلا في المجالات التي وردت فيها بعض الآيات، ولكنني سأرجح ما يكون أظهر في استعمال الآية وقد تتكرر الآية في أكثر من مجال حسب معناها ومدلولها.
أولا: في العقيدة
إن أهم مجالات استعمال مصطلح العهد والميثاق مجال العقيدة والمتتبع للآيات التي ورد فيها لفظ العهد والميثاق يلحظ هذا الجانب بوضوح، بل لا أتعدى الحقيقة إذا قلت: إنّ الآيات التي تبدو متصلة بجانب من الجوانب الأخرى غير مجال العقيدة - ظاهرًا - ترجع في النهاية إلى تحقيق معنى من معاني العقيدة وهذا مرتبط بقضية أساس، ألا وهي: أنه لا انفصال بين الشريعة والعقيدة عند المتعمق في نهاية الأمور ومآلاتها.
والجانب العقدي الذي بدا لي في عدد من الآيات التي ورد فيها هذا المصطلح عمومًا يتعلق بالإيمان بالله وكتبه ورسله والإيمان بالشرائع المنزلة.
ومن هنا سأتناول الآيات حسب ما أشرت إليه آنفًا مما يتعلق بجانب العقيدة.
__________
(1) - انظر البداية والنهاية لابن كثير 4/219 حيث ذكر الدعوى هذه وبين بطلانها وكذبها، وأن هذا الكتاب مزود مكذوب مفتعل لا أصل له.
(2) - انظر الوثائق السياسية - ص411.
(3) - انظر الوثائق السياسية - القسم الثاني.(/45)
1- الإيمان بالله - سبحانه وتعالى: هذا الجانب من أهم الجوانب، بل هو الأساس الذي تتفرغ عنه جميع مسائل العقيدة، وقد وردت آيات كثيرة تتضمن لفظ العهد والميثاق وتشتمل على وجوب الإيمان بالله - سبحانه وتعالى - إما تصريحًا أو ضمنًا، ففي أول آية في القرآن يرد فيها لفظ العهد والميثاق نجد الحكم من الله تعالى على من نقض العهد والميثاق بالكفر، ومعنى ذلك أن الالتزام بالعهد والميثاق من صميم الإيمان بالله سبحانه، بل لا إيمان إلا بالالتزام بعهد الله وميثاقه، يقول سبحانه: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ) (البقرة: 27،28).
إذًا فنقض العهد والميثاق كفر، والالتزام به إيمان. وفي آية أخرى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) (البقرة: من الآية83).
وفي هذه الآية الكريمة إخبار منه سبحانه بأنه قد أخذ الميثاق على بني إسرائيل بأن يعبدوه وحده لا شريك له، وهذا مقتضى الإيمان به جل وعلا.
وتتواصل آيات العهد والميثاق مبينة كفر من نقض عهد الله وميثاقه، ونافية عنه الإيمان بالله تعالى وهذا تأكيد على وجوب تحقيق معنى الإيمان بالالتزام بميثاق الله وعهده الذي أخذه على عباده خصوصًا وعمومًا.
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة:93).
بل نجد أن الآية التالية تربط بين الإيمان والعهد ربطًا قويًا يحدد أن من أهم أسباب نقض العهد والميثاق عدم الإيمان (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة:100). وفي سورة آل عمران يبين سبحانه أنه أخذ العهد على النبيين بالإيمان به وتصديق رسله، ويطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم مع إخوانه الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
(قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:84).
وتتوالى الآيات التي تربط بين الوفاء بالعهد والإيمان به تعالى، حيث نلحظ التلازم الكبير بين نقض العهد والميثاق وبين الكفر بالله في عدد من الآيات التي أشرنا إلى بعضها فيما مضى، ويؤكد ذلك في قوله تعالى في سورة النساء:
(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ) (النساء: من الآية155) ثم يقول في آخر الآية (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء: من الآية155) إثبات للكفر ونفي للإيمان، ويؤكد ذلك في الآية التي بعدها مباشرة (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً) (النساء:156)
وقضية الإيمان بالله قضية أساس، من أجلها خلقت البشرية (1) فلا غرو أن يأتي العهد والميثاق ضمانة مؤكدة لوجوب الإيمان به سبحانه وتعالى، بل تتابعت الآيات - آيات العهد والميثاق - في هذا المجال وتنوعت ليستوعب المسلم تلك الحقيقة ويؤمن بها ويحذر أن يكون كبني إسرائيل الذي أدّى بهم نقض العهد والميثاق إلى الكفر واللعن والطرد عن رحمة الله (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (المائدة: من الآية12) ثم بين سبحانه نوع هذا الميثاق وجزاء من التزم به وعمل بمقتضاه، وأن مآله إلى الجنة، أما من نقضه فقد كفر ولم يؤمن، وعبّر عن النقض بالكفر، لأن نقض العهد مساو للكفر بالله، بل هو الكفر بعينه (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (المائدة: من الآية12) وكما أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل بأن يؤمنوا ويصدقوا رسله، فقد أخذ الميثاق على الذين قالوا إنا نصارى (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ) (المائدة: من الآية14) والميثاق هو الميثاق والنهاية هي النهاية (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (المائدة: من الآية17)
__________
(1) - (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56].(/46)
وهكذا تستمر الآيات في الدعوة إلى الإيمان بالله منبهة إلى ما أخذه الله على البشر من عهد وميثاق، ومشنّعة على أولئك الذين لم يحترموا عهودهم فلم يحققوا الإيمان في أنفسهم: (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) (الأعراف: 101،102) وفي سورة الأنفال يصف فئة من البشر بمجوعة صفات كل واحدة منها كافية للزجر والتهديد لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، هذه الفئة لا تؤمن بالله لوقوعها في الكفر، وهي بذلك شرّ الدواب على البسيطة، ما سر هذا الأمر؟ وما سبب خروجها من الإيمان؟. (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (الأنفال:55، 56)
وهذا الأسلوب من أساليب القرآن الرائعة في الوصول إلى الحقائق والأهداف، فالعهد والميثاق لم يكن إلا من أجل الإيمان، فليس مرادًا لذاته ولكن لما يؤدي إليه، فالإيمان هو الهدف والغاية، ولكنه يجعل للوسيلة قوة تبدو أنها في مستوى الغاية، لتكون لها المهابة في البقاء والصيانة، محافظة على الأصل والغرض، وفي مجال الإيمان نفسه وبأسلوب بلاغيّ بديع، يشير إلى الشيء بذكر ما يقابله ويضاهيه، مستخدمًا لفظ العهد (1) الذي قد أخذ على بني آدم مذكرًا بهم ومرشدًا (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يّس:60) .
ويتكرر التذكير بالميثاق كوسيلة حاسمة وملجئة لتحقق الإيمان الذي أمر الله به عباده (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (الحديد:7) أمر ووعد، ولكن الوعد وحده قد لا يكفي، بل لابد من أمر يكون معينًا ودافعًا لهم، فمن لم يغره الوعد فها هو التذكير والوعيد (وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الحديد:8) .
وكما بدأت آيات العهد والميثاق في القرآن الكريم في مجال الإيمان نجد خير ختام لهذه الآيات في المجال نفسه، فكما أن آخر آية (2) ذكر فيها لفظ الميثاق وردت في سورة الحديد، وهي في صميم مجال الإيمان - كما أسلفت - نجد أن آخر آية ورد فيها لفظ العهد جاءت في سورة المعارج، مبينة وصف المؤمنين - كما في سورة المؤمنين (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون:8) فكما كانت البداية كانت النهاية.
ومن خلال ما مضى يتضح لنا أن مجال الإيمان - وهو أخص أبواب العقيدة - من أوسع المجالات التي ورد فيها مصطلح العهد والميثاق، ويزداد الأمر وضوحًا إذا تذكّرنا أن أهمّ العهود والمواثيق ما أخذه الله على آدم وذريته عند إخراج الذرية، وفي أي مجال؟ أنه الإقرار بعبودية الله جل وعلا، وهل ذلك إلا الإيمان بالله وحده وصدق الله العظيم (وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الحديد: من الآية8).
الإيمان بالكتب المنزلة
الركن الثالث من أركان الإيمان أن يؤمن المسلم بكتب الله التي أنزلها على رسله، ولقد حفل هذا الركن بالاهتمام في آيات كثيرة نزلت على رسولنا صلى الله عليه وسلم آمرة له بالإيمان بالكتب وداعية إلى ذلك. (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:136) .
وفي آخر سورة البقرة يقرر حقيقة إيمانية (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) (البقرة: من الآية285) .
ويأتي الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم في سورة آل عمران: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:84) .
__________
(1) - العهد هنا يحتمل معنى الأمر والوصية على ألسنة الرسل، ومعنى الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم، والنهاية عند التدقيق واحدة.
(2) - أي في الترتيب لا في النزول.(/47)
وهكذا نلحظ الاهتمام بهذا الجانب من جوانب العقيدة الذي لا يتم الإيمان دون تحقيقه، وفي سياق هذا الاهتمام جاء مصطلح العهد والميثاق في مجال الدعوة إلى الإيمان بكتب الله المنزلة على رسله، وقد تنوعت الأساليب التي ورد فيها هذا المصطلح، تبعًا لأساليب القرآن البديعة الرائعة. ولقد شدّ انتباهي كثرة الآيات التي وردت في مجال الإيمان بالكتب متضمنة لفظ العهد والميثاق مما أضفى أهمية على استعمال هذا المصطلح تكشف عن الدور (1) الذي يؤديه ضمن الأساليب القرآنية المتنوعة.
وأول آية ورد فيها لفظ العهد والميثاق جاءت في سياق الرد والتشنيع على الذين لا يؤمنون بوحي الله ويبحثون عن المطاعن التي يوجهونها لكتاب الله المنزل - القرآن - ليصدوا الناس عنه.
فمن وسائل المشركين وأعوانهم للصدّ عن دين الله أن روّجوا لمقولة صدقها بعض المنافقين وتحمسوا لها، حيث قالوا: إن هذا القرآن ليس كلام الله وكيف يكون كلامه وفيه ألفاظ يتنزه عنها الباري، ففيه ضرب الأمثلة بالعنكبوت وبالذباب، وهذا أمر لا يصدر عن الله، مما ينفي أن يكون هذا القرآن كلام الله (2). وهنا ردّ الله - سبحانه وتعالى - عليهم ردًا حاسمًا قاطعًا: (إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) (البقرة: من الآية26) ولا شك أن هناك مؤمن ومكذب (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) (البقرة: من الآية26) ومن هؤلاء الفاسقون؟ (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) (البقرة: من الآية27) وفي النهاية (أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة: من الآية27) عدم إيمان بوحي الله ونقض للعهد والميثاق والنتيجة كفر وضلال وفسق وخسران.
وفي آية أخرى يدعو سبحانه وتعالى بني إسرائيل للوفاء بالعهد الذي عاهدوا عليه، ومن صميم هذا العهد أن يؤمنوا بالتوراة، وفي التوراة وجوب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والكتاب المنزل عليه (يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) (البقرة:40، 41) هذا هو مقتضى العهد الذي بينهم وبين الله جل وعلا: إيمان بالمنزل، وعدم كفر وابتعاد عن الرشوة بالتوراة، وتحقيق ذلك تحقيق للتقوى (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) (البقرة: من الآية41) .
وأخذ الميثاق على بني إسرائيل عند رفع الطور كان بإلزامهم بأخذ التوراة والعمل بما فيها، وهل التوراة إلا أحد كتب الله المنزّلة؟.
ولقد تكررت الآيات التي بيّنت أخذ الميثاق على بني إسرائيل بالإيمان بالتوراة، إيماء لأهمية الميثاق ووجوب الوفاء به: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:63) .
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) (البقرة: من الآية93) (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ) (النساء: من الآية154) (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) (الأعراف: من الآية171) .
وفي مجال الإيمان بكتاب الله، يخاطب سبحانه بني إسرائيل مذكرًا لهم بالمواثيق التي أخذها عليهم ومبينًا مغبة تلاعبهم بكتاب الله، مدّعين أن عملهم هذا وفاء بعهد الله وميثاقه، والأمر ليس كذلك: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) (البقرة: من الآية83) (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ) (البقرة: من الآية84) .
وبعد أن بيّن سبحانه نقضهم لتلك المواثيق هددهم قائلا: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة: من الآية85) وهكذا نجد التلازم القوي بين الوفاء بالعهد والميثاق وبين الإيمان بكتب الله وآياته المنزلة.
__________
(1) - المعجم الوسيط مادة (دور) 1/303.
(2) - انظر أسباب النزول للواحدي - ص58 وفي ظلال القرآن 1/21.(/48)
والحديث عن بني إسرائيل وما أخذ عليهم من مواثيق حديث طويل، ولكن القرآن الكريم في سياق حديثه عنهم يركز على الربط المباشر بين عهودهم وكفرهم بكتب الله: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة:100) ما العهد الذي نبذوه؟ (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (البقرة:101) ويدعو القرآن الكريم اليهود والنصارى للإيمان بالنبي المرسل والكتاب المنزل.
وذلك بعد أن ذكر تلك العهود والمواثيق التي أخذت عليهم، آمرًا لهم بالإيمان بكتابه ورسوله ناهيًا أن يكونوا كأسلافهم الذين نقضوا العهود والمواثيق، ولقد تكرر لفظ الميثاق ثلاث مرات تمهيدًا لطلب الإيمان بالرسول والكتاب الذي معه.
(وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ) (المائدة: من الآية12) (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) (النساء: من الآية155) وفي النهاية (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) (المائدة:15) .
وزيادة بنو إسرائيل للتوراة، وتحريفهم لما فيها تبعًا لأهوائهم وانسياقًا وراء شهواتهم يقف منها القرآن موقفًا حازمًا مشنعًا فعلتهم ومذكرًا لهم بميثاقهم: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ) (الأعراف: من الآية169) .
ويأتي العهد والميثاق في سورة الرعد بصيغة بديعة تلفت الانتباه وتشد الأنظار وهي تحمل الدعوة إلى الإيمان بكتاب الله المنزل بأسلوب قرآني رائع: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الرعد:19) من هم؟ ما صفتهم؟ بماذا يتميزون؟ (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) (الرعد:20) .
وهكذا ومن خلال ما سبق يبرز استعمال مصطلح العهد والميثاق في مجال الدعوة إلى الإيمان بكتب الله المنزلة، وتذكير الذين كفروا من أهل الكتاب بما أعطوه من عهود وما أخذ عليهم من مواثيق بأن يؤمنوا بالتوراة وما فيها، ومقتضى ذلك أن يؤمنوا بالإنجيل والقرآن، كما أن على أمة كل نبي أن تؤمن بالكتاب المنزل عليه وسائر كتب الله المنزلة على أنبيائه، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو خاتم الأنبياء وهي آخر الأمم من عقيدتها أن تؤمن بالقرآن وجميع كتب الله المنزلة، وهذا من مقتضى العهد الميثاق.
الإيمان بالأنبياء والرسل
ورد استعمال مصطلح العهد والميثاق في مجال وجوب الإيمان بأنبياء الله ورسله، وذلك في عدة آيات في كتاب الله، فالميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل وذكر في القرآن مرات عديدة كان يتضمن وجوب الإيمان برسل الله سبحانه وبالأخص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث جاء اسمه وصفته في التوراة، وقد سبق بيان ذلك في مبحث نوع الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل مما يغني عن الإعادة. ويشير القرآن إلى ذلك بقوله: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (البقرة:100، 101) .
فالرسول صلى الله عليه وسلم هو المصدّق لما معهم، والذي معهم هو التوراة، وفي التوراة وجوب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وقد أعطوا العهد وأخذوا عليهم الميثاق بالإيمان بها وما فيها.
وأخذ الميثاق على النبيين كان في مجال وجوب الإيمان برسل الله سابقهم ولا حقهم فالسابق يؤمن باللاحق ويبشر به، واللاحق يؤمن بالسابق ويصدّق بما جاء به (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران:81) .(/49)
إنه من أهم المواثيق وأكدها وأشملها، فليس خاصًا بالنبيين بل الأمم مطالبة بما أخذ على أنبيائها من الإيمان والتصديق برسل الله فالميثاق ميثاقهم والعهد عهدهم (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:82) وبعد أن بين سبحانه الميثاق الذي أخذه على النبيين أمر محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يؤمن بذلك، ويعلنه على الملأ: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) (آل عمران: من الآية84) وليس ذلك فقط، فلا يتحقق الميثاق إلا بإعلان: (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: من الآية136) .
والذين استخدموا عهد الله (1) ذريعة للتكذيب بالرسل يرد الله عليهم ما ادعوه وما افتروه ويكشف لرسوله صلى الله عليه وسلم أن هذا ديدنهم وسنة فيمن كان قبلهم، يرثها المتأخر عن المتقدم ويورثها السابق للاحق: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) (آل عمران:183،184) .
ولقد أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا يتم الإيمان به إلا أن يصاحب ذلك دعوة الناس إلى الإيمان به وبيان أنه على الحق، مستدلين على ذلك بما معهم من التوراة والإنجيل، مما لم يكن عند غيرهم من الأمم الوثنية التي كانت تنظر إلى اليهود والنصارى نظرة تقدير واحترام لدينهم الذي يتميزون به عن غيرهم (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) (آل عمران: من الآية187) .
وجاء الميثاق في سورة النساء في سياق الآيات التي تتحدث عن وجوب الإيمان برسل الله جميعًا، مبيّنة كفر من فرق بين أحد منهم، مذكرة بني إسرائيل بالمواثيق التي أخذت عليهم في ذلك، يقول جل وعلا: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (النساء:150-152) .
ثم يذكر الله سبحانه قصة أهل الكتاب مع موسى - عليه السلام - وأخذ الميثاق عليهم وماذا كانت النهاية؟ هل آمنوا بالله ورسله؟ وهل عزّروا الأنبياء ووقّروهم؟ بهذا يكون الوفاء بالميثاق ولكن: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:155) الآيات.
وتبين لنا آية الميثاق في سورة المائدة نوع ميثاق بني إسرائيل وما اشتمل عليه، فتذكر أن الإيمان بالرسل وإجلالهم ونصرهم من أهم بنود هذا الميثاق الذي لم ينفذ (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (المائدة: من الآية12) الآية.
ثم يبين أنه قد أخذ الميثاق على النصارى كما أخذه على اليهود، ولكن كما مرد أولئك على الكفر والعصيان سار هؤلاء على طريقتهم واستنّوا بسنّتهم السيئة، ومع ذلك فالله سبحانه يدعو من جاء بعدهم من أهل الكتاب للإيمان بهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ليبين لهم ما اختلفوا فيه، وما أخفوه من كتبهم، ويعفوا عن كثير مما كان عليهم، وبهذا يتم وفاؤهم بالميثاق الذي أخذه عليهم وعلى أسلافهم، وإلاّ فمصيرهم مصير من درج قلبهم، اللعّن والطّرد وقسوة القلوب، والعداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، وهذا ما كان منهم، فتحقق وعد الله فيهم ويوم القيامة سوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون.
__________
(1) - وصية الله وأمره، وهو داخل في الميثاق الذي أخذه عليهم.(/50)
وفي آية أخرى يذكر الميثاق وإرسال الرسل، وهذا يقتضي منهم أن يأخذوا الميثاق ويؤمنوا بهؤلاء الرسل، ولكن الموقف هو الموقف، والأسلوب هو الأسلوب عند متقدّميهم ومتأخريهم (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) (المائدة:70) .
ويصف الله سبحانه الذين كذبوا الرسل وبما جاءوا به بالفسق وعدم الوفاء بالعهد وهي الخيانة بعينها: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) (الأعراف:102) .
وكما بيّن في سورة (آل عمران) أنه سبحانه قد أخذ الميثاق على النبيين يبين ذلك - مرة أخرى - في سورة الأحزاب ولكن بصيغة أخرى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) (الأحزاب:7) وقد بيّنت أن هذا الميثاق يتضمن - كما أشارت آية آل عمران أن يصدق بعضهم بعضًا ويؤمن بعضهم ببعض.
وكما دعا المؤمنين في سورة الحديد إلى الإيمان به سبحانه دعاهم للإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم وذكرهم بالميثاق الذي أخذه عليهم ليكون أدعى للقبول والإجابة: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (الحديد:7) (وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الحديد:8) .
وهكذا ترد آيات العهد والميثاق في مجال الدعوة والإيمان بالرسل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وقد وردت بأساليب عديدة وألفاظ متنوعة لتصل من خلال ذلك إلى تحقيق هذا الهدف العظيم، فعدم الإيمان بالرسل نقض للعهد والميثاق، والإيمان برسول دون رسول أو بنبي دون آخر كفر بواح وتفريق بين رسل الله، والمؤمنون يقولون ويعتقدون (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (البقرة: من الآية285) وبهذا يكون أداء الميثاق والوفاء بالعهد ومن كفر فإن الله غني عن العالمين.
الإيمان بالشرائع المنزلة
أرسل الله رسله وأنزل كتبه إلى البشرية بدين واحد، وعقيدة واحدة، لم تتغير ولم تتبدل من لدن نوح - عليه السلام - إلى خاتم الأنبياء وصفوة المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وإن كان هناك من اختلاف فهو في فروع الشريعة وما يتصل بها من أحكام وكما أن شريعة النبي الواحد يدخلها النسخ فالشرائع كذلك، لأن لكل أمة ما يناسبها وما يلائم حاجاتها ومصالحها، والله سبحانه وتعالى هو العليم الخبير.
والقرآن الكريم يقرر في أكثر من موضع أن دين الله الإسلام: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ) (آل عمران: من الآية19) (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (آل عمران: من الآية85) ونوح يقول لقومه: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس: من الآية72) ويقول الله عن إبراهيم الخليل: (وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) (آل عمران: من الآية67) وموسى يقول لقومه: (يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) (يونس: من الآية84) .
وإبراهيم وصّى بنيه ويعقوب - أيضًا -: (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (البقرة: من الآية132) .
والحواريون قالوا: (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: من الآية52) والمسلمون أمروا أن يقولوا: (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: من الآية136) .(/51)
هذا هو دين الله أولا وآخرًا، وماضيًا وحاضرًا، وهذا ما أخذ الله عليه الميثاق من البشر بأن يعبدوه وحده لا شريك له، ومقتضى العبادة أن يكونوا مسلمين، ولكن الأهواء والشهوات تعصف في قلوب كثير من الناس فتختل عندهم الموازين، وتتغير المفاهيم، فيؤمنون برسول دون آخر، وبشريعة دون أخرى، فهاهم اليهود يدعون الإيمان بشريعة موسى ويكفرون برسالة عيسى بن مريم، واليهود والنصارى كل يدعي الإيمان بشريعته ويكفرون بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم إنه التعصب الأعمى والضلال المبين. ومن أجل بيان أن الشريعة واحدة، كما أن الرب واحد، أخذ الله الميثاق على الناس بالإيمان بجميع الشرائع المنزلة إيمانًا مجملا، والشريعة الناسخة إيمانًا مفصلا، وبعد أن ذكر الله الميثاق الذي أخذه على النبيين بأن يؤمن بعضهم ببعض وينصر بعضهم بعضًا، حكم على من خالف ذلك من الأمم بأنه من الفاسقين ثم قال سبحانه: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (آل عمران:83) .
ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلنها عقيدة واحدة: (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: من الآية136) .
وفي سورة المائدة ذكر الله ما أخذه على اليهود والنصارى من مواثيق، ومما تتضمّنه هذه المواثيق أن يؤمنوا برسل الله وما معهم من شرائع من عند الله، ولكنهم كفروا وتمردوا فنقضوا عهودهم ومواثيقهم، ويدعو الله - سبحانه - من كان من اليهود والنصارى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا بهذا النبي وبشريعته التي معه وفيها لهم الخير والفلاح: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:16) ولكنهم نقضوا مواثيقهم وخانوا عهودهم - إلا القليل منهم - فكفروا بالإسلام وتولوا وهم معرضون.
ويأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو أهل الكتاب قائلا: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (المائدة: من الآية68) وذلك لما جاء بعض اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الحق والهدى، ولا نؤمن بك، ولا نتبعك، فأنزل الله هذه الآية (1) مبينة أن الشريعة واحدة وكلها من عند الله فالكفر بالبعض كفر بالكل، والكفر بواحدة كفر بالله جل وعلا، ثم ذكرهم بما أخذه عليهم من ميثاق: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) (المائدة: من الآية70) الآية.
وهكذا نرى مدى استعمال مصطلح العهد والميثاق في مجال الإيمان بالشرائع المنزلة على أنبياء الله وأنها من عند الله، أولها يخبر عن آخرها، وآخرها يكمل أولها، ورب نوح - عليه السلام - هو الذي أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم وهو الذي بعث موسى - عليه السلام - وأمرنا أن نذعن له قائلين: (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: من الآية136). (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة:138) .
وقد اتضح لنا فيما مضى المجالات التي تم فيها ورود مصطلح العهد والميثاق في باب العقيدة، وتبين أثر هذا المصطلح في تقرير العقيدة، وبيانها والذود عن حماها، ودعوة الناس إلى الوفاء بعهودهم ومواثيقهم التي عاهدوا الله عليها، في الإيمان به وتصديق رسله وما معهم من كتب وشرائع.
ثانيًا: في العبادات
أمر الله سبحانه عباده بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وجاء الأمر بالعبادة مجملا ومفصلا، فنجد مثل قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56) وقوله: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ) (النساء: من الآية36) وكما جاء الأمر بالعبادة مجملا جاء مفصلا كقوله جل وعلا: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (البقرة:43) وقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: من الآية73) وغيرها من الآيات، ومن هنا فإن من أوسع المجالات التي استعمل فيها لفظ العهد والميثاق مجال الأمر بالعبادة في فروعها المتنوعة، فنجد في أمر الله لبني إسرائيل بالوفاء بالعهد يقول لهم سبحانه:
__________
(1) - انظر تفسير الطبري 6/310.(/52)
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (البقرة: من الآية40) وبعد أن يأمرهم سبحانه بالإيمان بما أنزل وينهاهم عن كتمان الحق، وكل ذلك من العهد الذي أخذه عليهم يقول لهم آمرًا: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (البقرة:43) وذلك من الوفاء بالعهد الذي طالبهم به، وخوفهم عاقبة التفريط فيه.
وفي بيان الميثاق الذي أخذه على بني إسرائيل يقول تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ )(البقرة: من الآية83) ففي هذه الآية تضمن الميثاق جملة من الأمور التعبدية التي أمر الله بها بني إسرائيل أن يقوموا بها ويؤدوها على وجهها.
وفي سورة المائدة نجد أن الآية المباشرة لآية القيام للصلاة وكيفية الوضوء والتيمم هي قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ) (المائدة: من الآية7) .
وكما جاءت آية البقرة مبينة لنوع الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل جاءت آية المائدة كذلك مبينة الميثاق متضمنًا بالعبادة: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ) (المائدة: من الآية12) .
وقد ذكر الله أخذ الميثاق على بني إسرائيل في سورة الأعراف، وبعد آية الميثاق مباشرة جاء قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (الأعراف:170) ثم جاء بعدها متصلا بيان رفع الطور على بني إسرائيل وأمرهم بأخذ التوراة وإعطاء الميثاق على ذلك. ويأتي ذكر العهد في سورة التوبة بصيغة الاستفهام الإنكاري الذي يحمل في ذاته التعجب: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:7) .
ثم يذكر أسباب عدم جواز استمرار العهد وأنه لابد من إنهائه عاجلا أم آجلا، ولكن القرآن بأسلوبه الرائع للوصل إلى غاياته ينقلنا نقلة أخرى يتغير معها الحكم والوصف: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (التوبة: من الآية11) .
لا عهد مع المشركين، ولكن إن تابوا وعبدوا الله حق عبادته بإقامة أهم أركان العبادة: الصلاة والزكاة، فإن لهم عهدًا آخر، وهو عهد الأخوة في الله، أقوى وثاقًا وأشد رباطًا.
ويأتي ذكر العهد - أيضًا - في ركن من أركان العبادة التي أمر الله بها، وهي الزكاة وسائر فروع النفقة في سبيل الله (1) دليلا على أهمية هذا الركن ووجوب أدائه، وسوء عاقبة من خان عهده في ذلك: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (التوبة:75) الآيات .
وفي آية المبايعة في سورة التوبة يأتي وصف المؤمنين الذي يفون ببيعهم - وهو عهد مع الله - يشتمل على عدة أنواع من العبادة تؤهل صاحبها لنيل رضاء الله والحصول على الجنة، وفاء بعهد الله ووعده: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية112) (2) .
ثم هم مع ذلك يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، ومن صفات أولي الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق أنهم: (صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد: من الآية22) .
وفي سورة (المؤمنون) وهو يعدد صفات المؤمنين نلحظ أنه جاء بعد آية العهد مباشرة أن من صفاتهم المحافظة على الصلاة: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) (المؤمنون:8، 9) وكأن هذا إيماء إلى أن الصلاة من العهد فهم يراعونها بالمحافظة عليها، وفي هذا المعنى جاء قوله صلى الله عليه وسلم " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " (3).
__________
(1) - انظر تفسير الطبري 10/188.
(2) - سورة التوبة آية: 112.
(3) - رواه الترمذي في سننه، أبواب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة 4/126.(/53)
ومثل ذلك جاءت آية العهد في سورة المعارج حيث تلتها - بعد آية - آية المحافظة على الصلاة: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) (المعارج:32-34) .
وهذا تأكيد لما سبق ودليل على قوة صلة العهد بالعبادات، ومن هنا جاء استخدام مصطلح العهد والميثاق في مجال العبادات، حيث أن أمور الشريعة والعبادة والعقيدة شيء واحد يبتغي فيها المؤمن تحقيق مرضاة الله والوفاء بعهده معه، لينال ما وعده الله به، وينجو من عذاب الله وعقابه الذي توعد به: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة:27).
ثالثًا: في الأخلاق
من الأمور التي عنيت بها الشرائع السماوية على اختلاف أزمانها وأماكنها أن يتحلى المنتمون إلى الشريعة بالأخلاق الفاضلة والصفات المثلى، والأخلاق: مجموعة من أنماط السلوك الحسن تسود المجتمع ويتلبس بها الفرد، وبها عن طريقها تخلو المجتمعات من خوارم المروءة وقبيح العادات.
ولقد جاء القرآن والسنة بالحث على حسن الخلق والتحلي بمكارم الأخلاق.
ويكفي هنا أن أشير إلى قوله تعالى مادحًا رسوله الكريم: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4) .
أما الأحاديث فكثيرة جدًا منها قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عبد الله بن عمر: " إن خياركم أحاسنكم أخلاقًا " رواه البخاري (1).
وروى البخاري تعليقًا قال: قال أبو ذر لما بلغه مبعث النبي صلى الله عليه وسلم - قال لأخيه اركب إلى هذا الوادي فاسمع من قوله، فرجع فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق (2) .
وروى الإمام مالك عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " (3).
وروى - أيضًا - قوله صلى الله عليه وسلم " بُعِثْتُ لأتمم مكارم الأخلاق " (4) .
وروى الإمام أحمد في مسنده عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن من أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وألطفهم بأهله " (5) .
مما مضى يتضح مدى اهتمام الإسلام بالأخلاق الفاضلة لما لها من أثر قوي على بنية المجتمع المسلم وقوة الدولة الإسلامية. ومن هنا فقد جاء العهد والميثاق في القرآن الكريم في مجال الالتزام بالأخلاق النبيلة والسلوك الحسن، ففي سورة البقرة يأمر الله بني إسرائيل بالوفاء بالعهد، والوفاء خلق رفيع، كما أن الغدر والخيانة خلق ذميم: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (البقرة: من الآية40) .
وعندما كذب بنو إسرائيل وتألوا على الله - وهذا من أحسن الأخلاق - ردّ الله عليهم ردًا كشف كذبهم ودناءتهم حتى مع الله جل وعلا. (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:80) وقد تضمن الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل بعض الأخلاق التي يجب أن يتحلوا بها (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة: من الآية83) ثم اتضح لنا أنهم ارتكبوا خلقين ذميمين، وهما عدم التحلي بتلك الأخلاق الفاضلة وأشد من ذلك نقضهم الميثاق وعدم الوفاء به (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (البقرة: من الآية83) .
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب حسن الخلق 8/16.
(2) - صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب حسن الخلق 8/16.
(3) - الموطأ، كتاب حسن الخلق - ص563، قال الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي محقق ومخرج أحاديث الموطأ: الحديث حسن، بل صحيح أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة.
(4) - الموطأ، - كتاب حسن الخلق - ص 564، قال محمد فؤاد: قال ابن عبد البر: هو حديث مدني صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة.
(5) - المسند 6/47.(/54)
وإذا كانت الكلمة السيئة تعبر عن سوء الخلق فكيف بقتل الإنسان لأخيه الذي هو في مقام النفس لقربه ووجوب القيام بحقه، وإيذاء المرء لجاره خلق ذميم وأسوء منه إخراجه من داره بدون حق، لذلك أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل بالكف عن هذه الأخلاق الدنيئة، بل وأقررهم على ذلك تأكيدًا واهتمامًا. (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (البقرة:84) ولكن يأبى اليهود - كعادتهم - إلا الشقاق وسوء الأخلاق (1). وكل الآيات التي جاءت مبينة نقض العهد والميثاق من قبل من أخذ منهم تدل على اتصاف أولئك بأسوأ الأخلاق وأقبحها (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة:93) (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة:100).
(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران:77).
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (الأنفال:55،56).
وفي المقابل يصف القرآن الذين يوفون بالعهد بأحسن الصفات ومكارم الأخلاق: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة: من الآية177) (2)(بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران:76) (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون:1-8).
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) (الأحزاب: من الآية23،24).
ونقض الميثاق يؤدي إلى سوء السلوك والأخلاق: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) (المائدة: من الآية13) ومع هذه الأخلاق المتراكمة كظلمات بعضها فوق بعض يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقابل ذلك بحسن الخلق والصبر والتحّمل: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة: من الآية13) ما أروع هذا القرآن كيف يربي الرجال.
واستمرارًا لورد العهد والميثاق في مجال بناء الأمة على الأخلاق السامية يأمر الله عباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بعدد من الوصايا التي تكوّن جيلا ذا خلق رفيع، ثم يختم تلك الوصايا الخالدة بقوله سبحانه: (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأنعام: من الآية152) (3).
فالوفاء بالعهد ضمانة لأداء تلك الأوامر واجتناب ما ورد من نواهي ومن ثم يكون الانقياد والطاعة وحسن الخلق، وإخلاف العهد نقض للعهد، ينحط بصاحبه إلى أسوأ البشر أخلاقًا - وبخاصة إذا كان العهد مع الله - فإن المتصف بتلك الصفة ينتقل من مجتمع الصادقين المتقين إلى تجمع المخادعين الكاذبين من المنافقين: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ) (التوبة:77).
__________
(1) - انظر الآية [85] حيث بيّنت مآل الميثاق.
(2) - جاءت هذه الآية مبينة ما البر، حيث قال تعالى: (ولكن البر من آمن بالله) الآية، والبر حسن الخلق.
(3) - سورة الأنعام: الآية (152) وانظر الآية التي قبلها حيث ابتدأت (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) الآية (151).(/55)
وفي حالة عصبية مرت على أولاد يعقوب يتشاورون أي طريق يسلكونه للتخلص من المأزق الذي هم فيه، يذكّرهم كبيرهم بخلق رفيع لئلا ينجرفوا مع حل قد ينجيهم ظاهرًا، ولكنه ينافي مقومات الوفاء والأخلاق، ولئن كانوا وقعوا في الكذب في قصة يوسف فلا يجوز الأمر هنا، لأن موثقًا قد تم بينهم وبين أبيهم والله شاهد عليه ووكيل: (قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ) (يوسف: من الآية80).
إذًا ما الحل وأين المخرج؟ يجيبهم: عليكم بالصدق فهو منجاة: (فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ) (يوسف: من الآية81) وهكذا يكون الميثاق سببًا للالتزام بجميل الأخلاق.
وفي سورة النحل يأمر الله بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وكلها صفات خلقية حميدة، وينهى عمّا يقابلها من الفحشاء والمنكر والبغي، ثم يعقب ذلك بقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) (النحل: من الآية91).
ومثال ذلك في سورة الإسراء حيث يأمر الله بخصال حميدة، وينهى عن عدة خصال من الخصال الذميمة التي لا يجوز للمسلم أن يقرب منها أو يقترفها، وقبل أن ينهى تلك الخصال يقول سبحانه: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسراء: من الآية34).
ثم تواصل الآيات النهي عن بقية الصفات التي تتنافى مع دين المؤمن وخلقه، وتأمره بمحامد الأخلاق وأحسنها. والذي كفر بآيات الله وكذب في دعواه غرورًا وغطرسة وتبجحًا وتعاليًا على المؤمنين، يرد الله ما ادعاه وافتراه ويكشف عن خلقه الذميم، ويتوعده بأشدّ العذاب: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً) (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً) (مريم:77-79).
وهكذا نجد مصطلح العهد والميثاق يؤدي مهمة أساسية في الحث على مكارم الأخلاق وتخليص الفرد والمجتمع من الصفات الفاسدة التي متى ما شاعت في أمة فهي نذير الهلاك والزوال والاضمحلال، وصدق الشاعر:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا (1)
رابعًا: في العلاقات الدولية
تكتسب العلاقات بين الدول أهمية قصوى في تاريخ الأمم والشعوب، فكم أدى حسن الجوار إلى الاستقرار والإزهار، وكم من بلاد دمرت ودماء سفكت وأعراض انتهكت، مبعث ذلك سيادة شريعة الغاب وسياسة أشباه الثعالب والذئاب.
ولقد جاء الإسلام فوجد الجزيرة العربية تعيش في فوضى وتنتابها القلاقل، لا تعرف للاستقرار مذاقًا، الكبير يأكل الصغير، والضعيف لا يأمن غدر القوي، وعند نشأة الدولة الإسلامية الأولى، كان من أولى دعائم أسس هذه الدولة إقامة العلاقة التي تبنى على الاحترام والتقدير، ومن هنا جاءت العهود والمواثيق بين الدولة الإسلامية الفتية وسائر التجمعات والقبائل المتاخمة لها، أو من تربط معها بمصالح سياسية أو اقتصادية أو عسكرية. وشاع بين القبائل والشعوب أن هذه الدولة لا تعطي عهدًا ولا توقّع ميثاقًا إلا كانت رائدة في الوفاء به وحسن أدائه، لا يعرف عنها الغدر ولا الخيانة، حتى في أحلك الظروف وأقساها، بل إنها تنصف من نفسها قبل أن تطلب الإنصاف من الآخرين، وهذا مما لم تعهده تلك الأمم والقبائل قبل ذلك، فسارعت الإمارات والقبائل والطوائف بطلب الأمان وعقد الميثاق، لتنعم بالاستقرار بعد طول عناء واضطراب، فأرسلت الوفود وأذعنت لسياسة مثلى تسجل صفحة بيضاء في جبين التاريخ.
ولقد جاء القرآن الكريم يرسم بعض معالم تلك السياسة ويحدد مبادئها، وإطارها الذي تسير فيه، وبهذا كانت العلاقات الدولية مجالا من المجالات التي توثقت بالعهود والمواثيق، وكان ذلك عاملا حاسمًا من عوامل انتصار وانتشار الدولة الإسلامية ودعوة الإسلام.
__________
(1) - البيت لأحمد شوقي.(/56)
ينعي الله على المؤمنين في سورة النساء اختلافهم وافتراقهم في شأن فئة من المنافقين أرادوا أن يتلاعبوا في دين الله، فيقول سبحانه: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ) (النساء: من الآية88) كل فئة لها فيهم رأي، ألا فاسمعوا إلى حكم الله فيهم من فوق سبع سماوات: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً) (النساء: من الآية89) أمر حاسم وشديد لا مجال للاختلاف فيه، ولكن على فظاعة جرمهم وشدة عقوبتهم ينقلنا القرآن الكريم نقلة فيها احترام للعهود والمواثيق، قد لا تخطر على بال البعض أثناء شدة الطلب وتنفيذ الأمر، حيث قد يلجأ أولئك إلى قوم بيننا وبينهم عهد وميثاق حقنًا لدمائهم وصيانة لأموالهم، ففي هذه الحالة لا قتل ولا أخذ: (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) (النساء: من الآية90) أنه أمر حكيم، يسموا على العواطف والانفعالات.
والمؤمن تؤدى ديته إن قتل خطأ مع الكفارة، أما إن كان مقيمًا بين الكفار فلا دية له وتؤدى الكفارة، إلا إن كان من قوم تربطهم بالدولة الإسلامية عهود ومواثيق فدية وكفارة، احترامًا للعهد وصيانة للميثاق: (وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) (النساء: من الآية92).
وشر الدواب أولئك الذين يعاهدون الدولة المسلمة ثم ينقضون عهودهم، خسة وخيانة، وجزاؤهم شديد وعقابهم أليم، ليكونوا عبرة لغيرهم ونكالا للآخرين: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الأنفال:55-57).
وإن بلغ الدولة المسلمة أن قومًا ممن عاهدوا يريدون الخيانة ويخططون لها، فلا يجوز للمسلمين أن ينقضوا العهد فجأة وبدون سابق إنذار، ما لم يكن هناك من البراهين الظاهرة على مباشرتهم لنقض عهودهم، وإنما لا بد من نبذ العهد وإعلامهم بفسحة قبل حربهم ومناجزتهم احترامًا للعهود: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (الأنفال:58) والمؤمنون تجب نصرتهم في الدين حتى ولو لم يهاجروا إلا إن كانت النصرة موجهة إلى قوم بينهم وبين الدولة المسلمة عهد وميثاق فلا نصرة ولا مساعدة، فالوفاء بالعهد أولى وأداء حق الميثاق أحرى وأجدى: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) (الأنفال: من الآية72).
وتأتي سورة التوبة لترسم علاقة الدولة الإسلامية بغيرها، وتحدد الموقف من المشركين، ومآل العهود والمواثيق التي سبق عقدها وإبرامها معهم، وهل يجوز تجديد تلك العهود أولا في تفصيل شامل بين لا يدع مجالا لتلاعب متلاعب أو غدر خائن: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (التوبة:1) (1) الآيات.
وهكذا نرى ما للعهد والميثاق من أثر في بنية الدولة الإسلامية، والأطوار التي مرت بها تلك العهود والمواثيق، وما استقر عليه الأمر في النهاية، تبعًا لنشأة الدولة المسلمة واستقرارها.
خامسًا: في المعاملات
التعامل بين الأفراد ركيزة أساسية من ركائز بنية المجتمعات، والتعامل بين المجتمعات دعامة قوية من دعائم بناء الدولة والحكومات.
ولقد عنيت النظم قديمًا وحديثًا في تنظيم هذا الأمر ضمن إطار يحقق المصالح ويجنب الشقاق والنزاع، ولم تعرف البشرية دينًا أو نظامًا كفل حقوق الأفراد ووضع الأسس التي يسير عليها الناس في تعاملهم كما تم في الإسلام، فقد حظي هذا الجانب بعناية فائقة شأن الإسلام في كل شئون الحياة، ولقد بلغ الاهتمام في هذا المجال حدًا يصوره لنا الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان، حيث يكشف لنا عما وصل إليه المجتمع المسلم من أسلوب رائع في التعامل نتيجة لتلك الأسس التي بنيت عليها الدولة الإسلامية، يقول رضي الله عنه في الحديث الذي يرويه عنه البخاري في صحيحه: ولقد أتى علي زمان ولا أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلمًا رده علي الإسلام، وإن كان نصرانيًا رده علي ساعيه (2).
__________
(1) - الآية 1 وانظر ما بعدها من آيات إلى نهاية الآية 15 حيث فيها تفصل ما ذكر.
(2) - صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب إذا بقي في حثالة من الناس 9/66.(/57)
ولقد جاء العهد والميثاق في القرآن الكريم في إطار تنظيم التعامل بين الناس لتحمل الثقة والأمانة مكان التوجس والخوف والخيانة، ونجد قوله تعالى في سورة آل عمران: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران:76) قد جاء بعد أن ذكر لنا سبحانه واقع أهل الكتاب من حيث التعامل معهم (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً) (آل عمران: من الآية75) الآية.
وهذا دليل قوي على أن التعامل والتقايض نوع من العهود يجب الوفاء به، وأي خلل في ذلك فهو خيانة ونقض للعهود.
وتأتي آية المائدة مؤكدة هذا الأمر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: من الآية1).
والزواج والطلاق نمط من أنماط التعامل البشري يحتاج إلى ضمانة قوية تضفي على طرفي العقد الود والوئام بعيدًا عن أي محاولة للمكر والخداع.
ونلمس قوة هذا العقد وأهميته في ميزان الإسلام عندما نقرأ سورة النساء: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) (النساء:20،21) وهذا ما آكد المواثيق التي جاءت في القرآن، وسياق الآية يدل على الاهتمام البالغ به.
وفي وصايا سورة الأنعام يجمع بين إيفاء الكيل والميزان وبين الوفاء بالعهد مما ينبئ عن قوة العلاقة بينهما: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأنعام: من الآية152).
ويعقب الأمر بالوفاء بالعهد في سورة النحل الأمر بالعدل والنهي عن البغي، والتعامل بين الناس إن لم يصاحبه العدل كان بغيًا وعدوانًا: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً )(النحل: من الآية90،91).
أما في وصايا الإسراء فيأتي الأمر في الوفاء بالعهد ثم يعقبه مباشرة الأمر بالوفاء بالكيل والوزن بالعدل، وهذا يؤكد مدى قوة العلاقة بينهما كما قلت في وصايا سورة الأنعام: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (الإسراء:34،35).
والأمانة من أهم أشكال التعامل وأخطرها، ومن هنا نجد العناية بها، حيث نلحظ الجمع بينها وبين رعاية العهد في موضعين من القرآن، مع أن الآيات السابقة لهذه الآية في الموضعين واللاحقة كذلك كل آية منها استقلت في موضوع واحد، بينما جمعا في آية واحدة، وهذا لم يأت عبثًا - وحاشا لله عن ذلك - وإنما للرابط القوي بين معناهما فالأمانة عهد والعهد أمانة: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون:8).
وهكذا يتعامل المسلم مع أخيه أو مع غيره والميثاق والعهد بينه وبين الله يحرسه، فلا بغي ولا عدوان ولا ظلم ولا خيانة، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه وإلى الله عاقبة الأمور.
سادسًا: في القضايا الاجتماعية
انطلاقًا من عناية الإسلام في بناء المجتمع المسلم الصالح، جاء الاهتمام في كل قضية تتعلق بالأسرة والمجتمع، وتوالت الآيات والأحاديث التي ترصد كل صغيرة وكبيرة في كيان الأمة الإسلامية في طور نشأتها الأولى، حتى قام صرح شامخ قوي البنيان متين الأركان، لا تهزه العواصف، ولا تفككه الرياح، تهابه الأعداء، وتحسب له ألف حساب، ومن تلك الوسائل التي كونت دعامة أساسية في بناء هذا المجتمع، تلك العناية الفائقة التي أولاها القرآن الكريم لهذه الأمة تربية وإعدادًا، ومن ذلك الآيات التي جاءت تعالج القضايا الاجتماعية، وتكون أسسها ومنطلقاتها، وفي هذا المجال جاء مصطلح العهد والميثاق لبنة قوية من تلك اللبنات المباركة.(/58)
ففي سورة البقرة يبين لنا الله سبحانه ما أخذه على بني إسرائيل من ميثاق يتضمن عددًا من القضايا الاجتماعية الأساسية؛ فالبر بالوالدين، وصلة الأرحام، والعطف على اليتامى، والإحسان على المساكين، والقول الحسن لجميع الناس، أمور يجب أن يتحلى بها الأفراد ويلتزم بها المجتمع، فهي من صميم تركيبة البناء: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (البقرة:84).
وتأتي الآية التي بعدها مبينة أخذ الميثاق - أيضًا - في قضيتين اجتماعيتين هامتين: عدم جواز قتل الإنسان لأخيه مثلما أنه لا يحل له قتل نفسه، فالحكم واحد والنتيجة واحدة، وكذلك لا يجوز له أن يخرج أخاه من داره وبلده، أو أن يرتكب عملا يؤدي إلى إخراجه هو من مسكنه وبلده: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (البقرة:84).
ويجعل الإخلال بهذا الميثاق كفر يستحق صاحبه أشدّ العذاب (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ) (البقرة: من الآية85).
وقضية الزواج والطلاق قضية اجتماعية - كما هي مسألة تعاملية - يؤخذ الميثاق الغليظ على جزئيه فيها مما يدل على خطورتها وأثرها: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) (النساء:20،21) (1).
وما حدث بين يعقوب وبين أبنائه مثال رائع على ما أتحدث عنه: (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) (يوسف:66) (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ) (يوسف: من الآية80) فالميثاق كان عاملا حاسمًا في بداية ونهاية هذه القضية الاجتماعية.
وأولو الألباب - كما في سورة الرعد - هو الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق وهم كذلك يتصفون بصفة لازمة للصفة الأولى وهي أنهم يصلون ما أمر الله به أن يوصل من صلة الوالدين والأرحام وحقوق الجوار وغيرهما مما أمر الله به: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) (الرعد: 20،21) وضد أولئك من نقض عهده وقطع رحمه وأخل بما أمر الله به.
وهكذا تتضح لنا معالم استعمال العهد والميثاق في القضايا الاجتماعية، تنويهًا للاهتمام بها ورعايتها ولما يؤدي التفريط بها من مفاسد تعصف ببنية المجتمع وكيانه.
سابعًا: في الجهاد في سبيل الله (2)
الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، وركن أساس من أركانه (3) فقد ورد العهد في مجال الحث على الجهاد في سبيل الله، وبيانًا لعظم شأنه وعلو مقامه، وأن التخلف يوم الزّحف نقض لعهد الله وانتهاك لحرماته.
ففي سورة التوبة يقول سبحانه وتعالى: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) (التوبة: من الآية111) بعد قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) (التوبة: من الآية111).
وعهد الله وعد ووعده عهد - سبحانه وتعالى -.
والتعبير هنا بالاشتراء كناية لجامع ما بينهما من الإيجاب والقبول، يؤكده التصريح بالعهد من الله جل وعلا.
ونعى الله على المنافقين في سورة الأحزاب سوء فعلتهم يوم الأحزاب وفرارهم عن الجهاد في سبيل الله، مع أنهم قد أعطوا عهودهم ومواثيقهم ألا يفروا.
(وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً) (الأحزاب:15).
ولكنهم خانوا وغدروا وبئس ما فعلوه.
__________
(1) - سورة النساء آية: 20.
(2) - أخّرت هذا المجال مع أهميته لقلة الآيات التي وردت فيه بالنسبة لما قبله.
(3) - لا أعني مصطلح الأركان الخمسة، وإنما أعمّ من ذلك، مع أن بعض العلماء عده الركن السادس من أركان الإسلام.(/59)
والمؤمنون مدحهم الله لصدقهم ولوفائهم بعهودهم وثباتهم في ساحة الجهاد، وكانت أرواحهم ثمنًا للوفاء بعهودهم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب:23).
صورتان متقابلتان: صورة المؤمنين بوفائهم وصدقهم مع الله، وصورة المنافقين بغدرهم وخيانتهم وسوء فعلتهم ونقف أخيرًا مع آية سورة الفتح حيث يجعل الله بيعة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم بيعة له سبحانه وتعالى ويبيّن جزاء الموفين وعاقبة الناكثين: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (الفتح:10) وعلام كانت البيعة: إنها على الموت في سبيل الله (1).
وهكذا يبدو شأن الجهاد في سبيل الله عظيمًا، كيف لا وقد أخذ العهد على المؤمنين بأدائه والقيام به إلى يوم القيامة، وإن تخلّوا عن ذلك ضرب الله عليهم الذلة في الدنيا وعاقبهم في الآخرة - والله المستعان -.
وأخيرًا: فمما سبق اتضحت لنا المجالات التي استعمل فيها مصطلح العهد والميثاق في القرآن الكريم، وتبيّن لنا الأثر الفعّال لورود العهد والميثاق في تلك المجالات مما سنفصله في المبحث القادم - إن شاء الله -.
خامساً: المبحث الرابع
الوفاء بالعهد والميثاق
أولا: حكم الوفاء بالعهد والميثاق (2).
دلت الآيات والأحاديث الصحيحة على وجوب الوفاء بالعهد والميثاق، وبيّنت شناعة جرم من نقضهما، أو أخل بهما، وقد يصل الإخلال بهما إلى الكفر كما حدث لبني إسرائيل وغيرهم.
وسأذكر بعض الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب احترام العهود والوفاء بالمواثيق.
أولا: الآيات:
قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (البقرة: من الآية40).
وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: من الآية1) (3).
وقال: (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا) (الأنعام: من الآية152).
وقال عزَّ وجلَّ (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ) (التوبة: من الآية4).
وقال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) (النحل: من الآية91).
وقال: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) (المائدة: من الآية13).
وفي سورة الرعد: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) (الرعد:20).
وفي الإسراء: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسراء: من الآية34).
وفي الأحزاب: (وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً) (الأحزاب: من الآية15).
والآيات صريحة الدلالة على وجوب الوفاء وحرمة الغدر والخيانة، وجميع الآيات التي ورد فيها لفظ العهد والميثاق تدل على ذلك المنطوق أو بالمفهوم.
ثانيًا: الأحاديث:
وردت أحاديث كثيرة في وجوب الوفاء بالعهد وإثم من نقض ميثاقه أو غدر بما عاهد عليه.
فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أربع من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا، من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها " (4).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل " - رواه البخاري (5).
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لكل غادر لواء يوم القيامة " - رواه البخاري (6).
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلّن عقدة ولا يشدّها حتى يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء " - رواه الترمذي (7).
وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال: " لكل غادر لواء عند أسته يوم القيامة " - رواه مسلم (8).
__________
(1) - انظر صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية 5/159.
(2) - جاءت هذه الفقرة هنا لارتباطها الوثيق بآثار الوفاء بالعهد والميثاق وآثار نقضهما.
(3) - والعقود هي العهود كما قال ابن عباس.
(4) - صحيح البخاري، كتاب الجزية والموادعة، باب إثم من عاهد ثم غدر 4/124.
(5) - صحيح البخاري، كتاب الجزية والموادعة، باب إثم من عاهد ثم غدر 4/124.
(6) - صحيح البخاري، كتاب الجزية والموادعة، باب إثم الغادر للبر والفاجر 4/127.
(7) - سنن الترمذي، أبواب السير، باب ما جاء في الغدر 3/71، وقال محققا زاد المعاد 3/125: إسناد صحيح.
(8) - صحيح مسلم، كتاب الجهاد، باب تحريم الغدر 5/142.(/60)
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال " إن الغادر ينصب الله له لواء يوم القيامة، فيقال: ألا هذه غدرة فلان " رواه مسلم (1).
والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدًا، والسُنة الفعلية تشهد لذلك، ومن هنا فإن وجوب الوفاء بالعهد والميثاق أمر واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان، ونقضهما محرم بصريح الكتاب والسنة.
ثانيًا: آثار الوفاء بالعهد والميثاق
جعل الله لكل عهد جزاء ولكل فعل أثر، والخوف والرجاء من صفات النفس البشرية، فهناك نفس تنقاد مع الوعد وأخرى تخشى الوعيد، والمؤمن يعيش دائمًا بين الرجاء والخوف.
وباستقرار آيات العهد والميثاق نلحظ الآثار التي قد رتبها الله سبحانه وتعالى على الالتزام بالعهد والميثاق، كما نلحظ تنوعها وتعددها، فهناك الآثار التي تخص الفرد وأخرى تعم الجماعة، بعضها في الحياة الدنيا وأخرى يوم القيامة.
وسأذكر تلك الآثار مقتصرًا على ما جاء مصرحًا به، مما يعطي الدلالة على أهمية الوفاء بالعهد والميثاق، وحسن الجزاء الذي ينتظر الموفين بعهدهم، والصفات المثلى التي يستحقونها، والمآل الكريم الذي وعدهم الله به رحمة منه وفضلا، مراعيًا الاختصار والاقتصار.
1- الإيمان وردت آيات كثيرة تنفي الإيمان عن الناقضين لعهدهم وتصفهم بالكفر - كما سيأتي تفصيل ذلك في المبحث القادم - وفي المقابل وصف الله سبحانه وتعالى الموفين لعهودهم ومواثيقهم بالإيمان، والإيمان أثر تنبثق منه آثار كبرى، فإذا آمن الفرد حقق لنفسه السعادة في الدنيا والآخرة، والمجتمع الذي يسوده الإيمان ويحكمه الإسلام، مجتمع آمن مستقر، ترفرف على جنباته الطمأنينة ويعمه السلام.
نجد في سورة (المؤمنون) وصفًا للمؤمنين، ومن أخص تلك الصفات (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون:8) فرعاية العهد والأمانة من صفات المؤمنين الصادقين، والتخلي عن تلك الصفة إخلال بهذا الوصف وقدح بالموصوف، ورعاية العهد هنا تشمل العهد العام والخاص، فكل ما صدق عليه لفظ العهد فرعايته من الإيمان.
وفي سورة الحديد يأتي الخطاب بأسلوب الاستفهام الذي يوقظ الحس ويثير المشاعر (وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الحديد:8) يتردد لفظ الإيمان ثلاث مرات بصيغ مختلفة في آيه واحدة " لا تؤمنون.. لتؤمنوا.. مؤمنين ".
والوفاء بالميثاق هو الذي يحقق الإيمان، والموفون بعهدهم وميثاقهم هم المؤمنون.
وبهذا يدرك المسلم أي أثر يناله جزاء لوفائه، وأي نعمة يغتنمها تحقيقًا لوعد الله، وماذا يريد المسلم أعظم من الشهادة له بالإيمان، ومن الذي يشهد له؟ أنه الباري جل وعلا: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (المؤمنون:1) (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون:8) والإيمان وصف يستلزم آثارًا عظمى في الدنيا والآخرة: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون:10،11) .
2- التقوى قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه التقوى: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل (2).
وقيل: التقوى: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية (3).
التقوى: كلمة نسمعها كثيرًا، ونعقلها قليلا، وقد وردت كلمة التقوى في القرآن الكريم بتصاريفها المتنوعة أكثر من مائتي مرة.
وكثرة ورودها تدل على الأهمية القصوى لمدلولها. وإن اختلف العلماء في معناها وتعريفها، فهم يتفقون في مآلها وثمرتها.
صفة التقوى خاصية تتعطش لها النفوس المؤمنة، وتسعى لتحصيلها القلوب السليمة، لما لها من أثر حسن وعاقبة حميدة. ولقد جاءت التقوى أثرًا من آثار الوفاء بعهد الله، وثمرة من ثمرات الالتزام بميثاقه.
ففي سورة البقرة يخاطب الله سبحانه - بني إسرائيل: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:63) فالتقوى ليست أمرًا مشاعًا لمن غدا أو راح، وإنما هي ثمن كريم وأثر عظيم لمن قام بعمل جليل، فأخذ التوراة التزامًا بالميثاق يؤدي إلى التقوى.
وفي السورة نفسها يذكر الله عدة صفات كريمة شريفة يختمها بذكر عاقبة المتصفين بتلك الصفات، ونجد أن الوفاء بالعهد بعد الوعد من صفات المتقين الصادقين (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) (البقرة: من الآية177) (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة: من الآية177) .
__________
(1) - صحيح مسلم، كتاب الجهاد، باب تحريم الغدر 5/142.
(2) - انظر كتاب التقوى في القرآن.
(3) - انظر كتاب التقوى في القرآن.(/61)
وفي سورة آل عمران نجد ثبات حب الله للمتقين، ولا يثبت الحب للموصوف إلاّ بعد ثبات الصفة، وهي التقوى ولمن؟ للموفين عهودهم: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران:76) .
وكما جاء في آل عمران يأتي ما يؤكده في سورة التوبة في آيتين متقاربتين (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: من الآية4) وكما أن إتمام العهد من التقوى فإن الاستقامة عليه تؤدي إليها (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: من الآية7) .
ومن هنا يأخذنا هذا الأسلوب الرائع في عرض الثمرة والأثر مما لا يجد معه المسلم بدًا من الالتزام بعهد الله وميثاقه.
3- محبة الله محبة الله ورضاه غاية الغايات ونهاية المقاصد والحاجات فإذا رضي الله على عبد وأحبه أدخله جناته ووقاه عذابه، وأكرمه في دنياه وأخراه.
ولقد أثبت الله محبته للمتقين الموفين بعهدهم، المستقيمين على عهودهم ومواثيقهم حتى مع أعدائهم ما استقاموا هم على تلك العهود.
(فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: من الآية7) وقبلها بآيتين: (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: من الآية4) .
وفي سورة آل عمران: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران:76) .
وبهذا تكون محبة الله ثمرة من ثمار الوفاء بالعهد وأثرًا من آثار الالتزام بالميثاق، ونعم الثمرة لتلك الشجرة، وطوبى لعبد ظفر بمحبة الله ورضوانه، لقد جمعت له السعادة من طرفيها، وفاز فوزًا لا يشقى بعده أبدًا.
4- حصول الأمن في الدنيا وصيانة الدماء لم تقتصر آثار الوفاء بالعهد والميثاق على المسلمين وحدهم، وإنما شمل عدل الله الكفار الذين لم يدخلوا في دين الإسلام ولهم عهود مع أولئك المسلمين، فجاءت الآيات صريحة بوجوب الوفاء لهم وصيانة دمائهم بل إن قتيلهم الذي يقتل خطأ من قبل المسلمين له مثل ما للقتيل المسلم سواء بسواء، وأكثر من ذلك أن الكافر الذي يطارده المسلمون لقتله عندما يلجأ إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق، ويدخل تحت حكمهم، يعصم دمه ويضع حدًا لطلبه.
يقول تعالى مبينًا حكم بعض المنافقين: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً) (النساء:89) ومع هذا النهي الحاسم والأمر الجازم بالقضاء عليهم ومقاطعتهم ينقلنا القرآن نقلة قوية تضع استثناء لما سبق:
(إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) (النساء: من الآية90) .
ومن هنا نلمس أن أثر الوفاء بالميثاق لم يقتصر على من عقد معه ووفّى به، وإنما تعداه إلى آخرين أرادوا صيانة دمائهم المهدرة، فلم يجدوا بدًا من اللجوء إلى هؤلاء.
وفي الآية التي جاءت لبيان حكم قتل الخطأ وما يترتب عليه من دية وكفارة نقف أمام عظمة هذا الدين عندما يساوي دية الكافر (1). الذي يقتل خطأ وهو من قوم معاهدين بدية المسلم المقيم في دار الإسلام: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) (النساء: من الآية92) .
ويبرز أثر الوفاء بالعهد والميثاق في هذه الآية عندما نلحظ أن دية المسلم المقيم عند الكفار غير المعاهدين أقل من دية الكافر المقيم عند قوم معاهدين.
وفي سورة الأنفال يعطي أمانًا صريحًا لمن لهم ميثاق حقنًا لدمائهم وصيانة لأهلهم وأموالهم، فالذين آمنوا ولم يهاجروا إن استنصروا المؤمنين في الدين فتجب نصرتهم وحمايتهم إلاّ في حالة واحدة، إذا كان هذا الاستنصار موجهًا ضد من للدولة المسلمة معهم عهد وميثاق، فهنا لا نصرة ولا مساعدة، وحق أولئك المعاهدين أولى من حق هؤلاء المؤمنين:
__________
(1) - هذا على الراجح من أقوال المفسرين، حيث ذهب بعضهم إلى أنه لا بد أن يكون مسلمًا عند قوم معاهدين، وذهب آخرون إلى أنه لا يشترط أن يكون مسلمًا لأن الآية سكتت عن ذلك في الوقت الذي صرحت بكونه مسلمًا في الحالتين السابقتين. وهذا ما اختاره الطبري ورد على المخالفين. انظر تفسير الطبري 5/208.(/62)
(وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال: من الآية72) .
وفي سورة التوبة يأمرنا سبحانه وتعالى بالاستقامة على العهد ما استقاموا على عهدهم (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: من الآية7) .
وهذا يعطي المعاهدين ضمانة قوية وأمانًا راسخًا لا يشوبه خوف غدر أو نقض عهد من قبل المسلمين.
ومما سبق نلمس هذا الأثر العظيم على حياة من يرتبط مع المسلمين بعهد أو ميثاق، فإنه يدرك أي أمن يعيش فيه، وأي حياة مستقرة يحياها، فلا خوف على نفسه أو أهله أو مجتمعه من الدولة المسلمة، ولقد اعترف كثير من غير المسلمين بأنهم يأمنون المسلمين أكثر مما يأمنون أهل دينهم وبني جلدتهم، ولذلك فقد سجل التاريخ بصفحات بيضاء أمثلة رائعة لهذا الأمر (1) حتى أتى الكفار إلى المسلمين يطلبون منهم العهد والميثاق، لما لمسوه من أثر إيجابي يتخلى في سلوك المسلمين وأخلاقهم.
الحياة الطيبة والجزاء الحسن والأجر العظيم
بعد أن أمر سبحانه في سورة النحل بالوفاء بالعهد ونهى عن نقض الإيمان بعد توكيدها، وحث على الصبر على ذلك. ثم أكد على العهود مرة أخرى (2) بيّن عاقبة الصابرين وما أعده لهم من جزاء حسن، ثم جاء بأسلوب بديع يشير إلى - جزاء من عمل صالحًا - والوفاء بالعهد من العمل الصالح (3) حيث وعده بالحياة الطيبة في الدنيا والجزاء الحسن في الآخرة.
(وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:96،97) .
وفي سورة الأحزاب يعد الله الموفين بعهدهم بجزاء عظيم يجمله سبحانه ولا يفصله - زيادة في التشويق وبيانًا لعظم الأجر: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) (الأحزاب: 23،24) .
وفي سورة الفتح يعد المولى جلّ وعلا بالأجر العظيم لمن وفّى بعهده (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (الفتح: من الآية10) .
وهكذا نلمس هذه الآثار الجليلة العظيمة جزاء للوفاء بالعهد والميثاق، فالحياة الطيبة والجزاء الحسن والأجر العظيم كلها تنتظر هؤلاء الأوفياء الصادقين، وأي أثر أعظم من أن يجمع للإنسان بين سعادة الدنيا والآخرة.
6- تكفير السيئات وإدخال الجنات:
من الآثار التي وردت في أكثر من آية جزاء لمن وفّى بعهده والتزم بميثاقه الوعد بدخول الجنة وتكفير السيئات، نجد هذا في قوله تعالى في سورة البقرة: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (البقرة: من الآية40) قال ابن جرير: وعهده إياهم أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة (4).
وفي سورة المائدة ذكر الله سبحانه أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل، ثم بيّن هذا الميثاق وذكر الجزاء على الوفاء به (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) (المائدة: من الآية12) .
وفي سورة الرعد لما ذكر صفات أولي الألباب ذكر منها أنهم يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق، ثم بيّن عاقبة هؤلاء فقال: (أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد:22-24) .
وبعد أن ذكر صفات المؤمنين في سورة (المؤمنون) ومنها أنهم: (لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون: من الآية8) ذكر مآلهم فقال: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون:10،11) .
ومثل ذلك في سورة المعارج حيث قال مبينًا جزاءهم: (أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) (المعارج:35) .
__________
(1) - سبقت الإشارة إلى شيء من ذلك في العهود التي تمت مع المشركين، وكتب التاريخ مليئة بمثل هذا الأمر على مرّ العصور الإسلامية.
(2) - انظر الآيات [91-95].
(3) - انظر تفسير الطبري 14/170 حيث فسر العمل الصالح هنا بالوفاء بالعهد وعمل الطاعات.
(4) - تفسير الطبري 1/250.(/63)
وهكذا يبرز هذا الأثر، ويعرض بصور متعددة مشوقة، تدعو المؤمن وتحثه على السعي جادًا للظفر بهذا الجزاء العظيم، والثواب الجزيل، ويكون أمام عينيه وهو يعضّ بنواجذه على ميثاقه، ويحث الخطى موفيًا بعهده ليفي له الله بوعده، ولينال عقبى الدار، وارثًا للفردوس ومكرمًا في جنات النعيم.
وبعد:
فللوفاء بالعهد والميثاق آثار أخرى سوى ما سبق، وردت في عدة آيات من كتاب الله، كوصفهم بأنهم أصحاب العقول السليمة: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) (الرعد:19،20) .
ووصفهم بالصدق في قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) (البقرة: من الآية177) .
بعد ذكر الموفين بعهدهم إذا عاهدوا، وأن عملهم من البر فهم أبرار.
ومما سبق تتضح لنا أهمية الوفاء بالعهد والميثاق، وما يترتب على الوفاء من آثار كبيرة في الدنيا والآخرة.
وأشير هنا إلى أن تلك الآثار يستلزم بعضها بعضًا، سوى ما يتعلق بالكفار، أما ما عدى ذلك فإنها مترابطة متكاملة فالذين يوفون بعهودهم ومواثيقهم يشهد لهم الإيمان - إن كانوا ممن دخل في الإسلام -، وهم من المتقين الصادقين، ويحبهم الله فيكفر عنهم سيئاتهم ويدخلهم الجنة، وقبل ذلك يحيون حياة طيبة هانئة في الحياة الدنيا، حياة يعمرها الإيمان والتقوى، ولهم في الآخرة حسن المآب.
ولا يقدر أهمية تلك الآثار إلاّ أولوا الألباب، الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق.
ثالثًا: آثار نقض العهد والميثاق
كما أن الوفاء بالعهد والميثاق له آثاره الكبيرة، فإن نقض العهد والميثاق يترك آثارًا كبرى تؤدي بصاحبها إلى الخسران والبوار.
وإذا كانت الآثار الإيجابية حافزة وداعية المسلم للالتزام والوفاء، فإن الآثار السلبية أشدّ إنذارًا وتحذيرًا وتخويفًا، والعقوبة أكثر تأثيرًا في النفس البشرية من الإغراء وحسن الجزاء.
ومن هنا ندرك بعض الحكمة في أن الآيات التي جاءت لبيان الآثار السلبية أكثر من الآيات التي وردت مبينة الآثار الإيجابية للوفاء بالعهد والميثاق.
ولقد تتبعت آيات العهد والميثاق آية آية، ووقفت على تلك الآثار التي رتبها الله سبحانه وتعالى على الإخلال بالعهد وجعلها جزاء لمن نقض الميثاق.
وهذه الآثار منها ما يكون في الدنيا، وأعظمها ما سيكون في الآخرة. وقمت بحصر تلك الآثار، وأدخلت بعضها ببعض حسب تشابهها، وسأذكر كل أثر بأدلته ملتزمًا الإيجاز والاقتصار على ما نص عليه في القرآن الكريم، حسب المنهج الذي سلكته في الآثار الإيجابية.
1- الكفر ونفي الإيمان:
قرن الله سبحانه وتعالى بين الكفر ونقض العهد في أكثر من موضع في القرآن الكريم، ولا شك بكفر من نقض عهده مع الله وأخلّ بميثاقه الذي أخذه عليه في ظهر آدم وعلى ألسنة أنبيائه ورسله، ومن هنا جاء نفي الإيمان عن الناقضين لعهودهم، زجرًا لهم وتهديدًا وإنذارًا.
ففي سورة البقرة يخاطب الله تعالى بني إسرائيل مذكرًا لهم بالميثاق الذي أخذه عليهم ومبينًا الحال التي آلوا إليها: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة:93)
وفي السورة نفسها ينفي الإيمان عن النابذين لعهودهم: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة:100) (1).
وفي سورة النساء يعرض القضية بأسلوب آخر تحمل المعنى نفسه: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:155) (2)(وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً) (النساء:156) .
وتأتي الآيات في سورة التوبة قوية شديدة على أولئك الكفار، آمرة المؤمنين بأمر حاسم لا تردد فيه:
(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (التوبة:12) .
__________
(1) - الآية 100 وانظر تفسير الطبري 1/443 حيث ذكر أن الناقضين لعهد الله أكثر من الموفين، ولذلك فغير المؤمنين أكثر من المؤمنين وذكر أن ذلك أحد وجهي تأويل الآية.
(2) - هذا الإيمان القليل هو تصديقهم ببعض الأنبياء والكتب وهو إيمان قليل لأنه تصديق غير متمكن، ولأنه لو كان تصديقًا حقيقيًا لدعاهم إلى الإيمان بالجميع، لأن الأنبياء يصدق بعضهم بعضًا، والكتب تدعو إلى ذلك، ولذلك فهو إيمان كلا إيمان. انظر تفسير الطبري 6/10.(/64)
وتستمر الآيات مبينة كفر من كذّب بعهد الله وميثاقه: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً) (الأحزاب:7، 8) .
وبأسلوب الاستفهام تأتي آية سورة الحديد: (وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الحديد:8) .
وهكذا تبدو معالم نقض العهد والميثاق مخيفة، وآثاره مدمرة، فأي حياة بلا إيمان، وما قيمة الإنسان وقد خرج عن الهدف الذي خلق من أجله، (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (الفرقان: من الآية44) .
2- الفسق:
الفسق هو الخروج عن طاعة الله ويطلق ويراد به ما دون الكفر كما في قوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) (الأنعام: من الآية121) .
ويأتي بمعنى الكفر كما في قوله تعالى: (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران: من الآية110) وقوله: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً) (السجدة: من الآية18) (1).
والآيات التي جاءت مبينة فسق من نقض العهد والميثاق وردت بمعنى الكفر، وذلك تأكيد لما سبق من بيان كفر من تخلى عن العهد والميثاق (2) ففي أول آية جاء فيها لفظ العهد والميثاق حكم الله على الناقضين بالفسق فقال: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) (البقرة: من الآيتين 26،27) الآية.
وأكد هذا المعنى في سورة آل عمران عندما ذكر ما أخذه على النبيين من عهد وميثاق، حيث طلب من الأُمم الإقرار والتصديق ثم قال: (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:82) .
وفي سورة الأعراف: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) (الأعراف:102) .
وبهذا تؤكد لنا هذه الآيات شناعة فعل الناقضين لعهودهم، وسوء جريرتهم، لخروجهم عن أمر الله وميثاقه.
3- الخسران:
الخسران عاقبة من نكث بعهده ونقض ميثاقه، تقرر هذا آية البقرة التي سبق ذكرها، وهي أول آية في القرآن (3) يرد فيها العهد والميثاق: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة:27) والخسران هنا بمعنى الكفر (4) يبين ذلك قوله بعدها مباشرة (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ) (البقرة: من الآية28) الآية.
وفي آية أخرى وفي السورة نفسها يأتي ما يؤكد أن الخسران مآل من تولّى عن أخذ الميثاق كما أمر به الله، ولكن بأسلوب يهز النفس ويوقضها من سباتها، مبينًا نعمة الله على بعض عباده حيث رحمهم من أن يكونوا من الخاسرين (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (البقرة:63، 64).
والخسران أثر رهيب، إذا تأمله المسلم ازداد خوفًا ووجلا، فإذا كانت خسارة الدنيا يفرّ منها الإنسان فرقًا ورهبًا، وتترك آثارها على حياته ومستقبله، فكيف بخسران الدنيا والآخرة؟ (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)(الزمر: من الآية15).
4- اللعن وقسوة القلوب والطبع عليها:
لما نقض بنوا إسرائيل عهودهم كانت العاقبة شديدة والأثر أليم، فقد لعنهم الله وجعل قلوبهم قاسية، وتبعًا لذلك ضلّوا وانحرفوا عن سواء السبيل (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً) (المائدة: من الآية13) .
__________
(1) - الآية 18 وانظر تفسير الطبري 21/407 حيث ذكر أن الفسق هنا هو الكفر.
(2) - أفردتها بفقرة لأهميتها، وذكرتها بعد الفقرة الأولى مباشرة لاتحاد المعنى مع اختلاف اللفظ.
(3) - أول آية في الترتيب لا في النزول.
(4) - انظر تفسير الطبري 1/185.(/65)
وفي سورة النساء يبين سبحانه أنه طبع على قلوبهم جزاء لهم على كفرهم ونقضهم الميثاق (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ) (النساء: من الآية155) (1).
وفي آية أخرى: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) (الرعد: من الآية25) .
وهذه الآيات بيان من الله للمصير الذي ينتظر الناكثين لعهودهم الناقضين لمواثيقهم، وهو إنذار وتحذير للمؤمنين بل وللناس أجمعين.
5- الإغراء بالعداوة والبغضاء:
أخذ الله الميثاق على النصارى كما أخذه على اليهود، ولكنهم سلكوا مسلكهم وأخذوا طريقهم، فنقضوا الميثاق والعهود وبدّلوا في دينهم، وضيّعوا أمر الله، فأورثهم الله العداوة والبغضاء، واستحكمت فيهم الخلافات والأهواء فاختلفوا في نبيهم، وحرّفوا كتابهم، بل وضلوا في ربهم - سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا -.
ومما يزيد هذا الأثر هولا، أنها ليست عقوبة مؤقتة بل هي باقية ما بقوا إلى يوم القيامة، وهذا ما نراه ونلمسه قديمًا وحديثًا مصداقًا لقول الله ووعيده: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة:14) .
6- تحريم الطيبات:
من الآثار التي جناها بنو إسرائيل عقوبة لهم على نقضهم الميثاق، تحريم الطيبات التي أحلت لهم: يقول ابن جرير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً) (النساء:160) .
يعني بذلك جلّ ثناؤه: فحرمنا على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا ربهم، وكفروا بآيات الله وقتلوا أنبياءه وقالوا البهتان على مريم، وفعلوا ما وصفهم الله في كتابه (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ) (النساء: من الآية160) طيبات من المآكل وغيرها كانت لهم حلالا عقوبة لهم (2).
وهكذا تبدو لنا المعاصي وخيمة في العاجل قبل الآجل والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
7- القتل والتشريد:
من الآثار الدنيوية العاجلة التي تحلّ بالخائنين، الناقضين للعهود والمواثيق، أمر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم إن لقي هؤلاء الخائنين وتمكن منهم، أن يعاقبهم عقوبة يؤدب بها من خلفهم، عقوبة قاسية تتعدى آثارها هؤلاء المجرمين إلى ما يقف خلفهم وبتربص بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الدوائر، يكون من آثارها تشريد أولئك المتربصين وتفريق كلمتهم وتشتيت شملهم، (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الأنفال:56، 57) (3) .
وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ظفر ببني قريظة، تنفيذًا لأمر الله من فوق سبع سماوات (4) وأي عقوبة - دنيوية - أشد من هذه العقوبة، إن أخذه أليم شديد.
8- الضلال في سواء السبيل:
من أشد الأشياء على نفس الإنسان وآلمها أن يتيه عن الطريق إذا كان مسافرًا، هناك ينتابه القلق، ويحاول البحث عن السبيل بكل وسيلة ممكنة، إذا كان ذلك كذلك فكيف بمن يضل عن طريق الله وينحرف عن الصراط المستقيم؟ إنه أشدّ قلقًا وحيرة واضطرابًا، وهذه النهاية المحزنة تنتظر كل من رفض الالتزام بعهد الله وميثاقه، وهذا ما حلّ ببني إسرائيل لما كفروا بالله وخانوا مواثيقه: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ) (المائدة: من الآية12) ثم قال في آخر الآية بعد تفصيل الميثاق: (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (المائدة: من الآية12).
9- الخزي في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة:
لما ذكر الله تعالى المواثيق التي أخذها على بني إسرائيل ذكر خيانتهم وغدرهم ونكثهم للعهود والمواثيق، ثم هددهم قائلا: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ )(البقرة: من الآية85) .
__________
(1) - الآية 155 وانظر تفسير الطبري 6/11.
(2) - انظر تفسير الطبري 6/23.
(3) - سورة الأنفال آية: 56.
(4) - انظر تفسير الطبري 10/25.(/66)
وتأتي الآية التي بعدها مباشرة مؤكدة هذه النهاية المفجعة التي تنتظر هؤلاء الغادرين المتلاعبين: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (البقرة:86) .
وفي سورة المائدة يأتي الوعيد بأسلوب آخر، فبعد أن ذكر نقض النصارى للميثاق بيّن عاقبة هذا الأمر فقال: (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة: من الآية14) .
وهذا أسلوب فيه تهديد شديد، وتخويف لكل من تسول له نفسه التهاون بأمر الله ونهيه.
ويبين سبحانه في سورة الأحزاب ما أعده للكافرين الذين لم يصدقوا مع الله فيما أخذه على النبيين من عهد وميثاق، إنه النزل الذي يليق بمكانتهم (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً) (الأحزاب:7، 8) .
10- الموقف المخزي يوم القيامة:
من أشدّ الآثار إيلامًا، وأقواها تأثيرًا في النفس، ما ذكره سبحانه عن حال الذين يشرون بعهد الله وإيمانهم ثمنًا بخسًا زهيدَا في الدنيا، حالتهم يوم القيامة شر حالة، ومآلهم شر مآل، ومصيرهم أسوء مصير، فلا خلاق لهم ولا حجة ولا نصيب ولا قوام (1) وأشد من ذلك أن الله لا يكلمهم كلامًا يسرهم، ولا ينظر إليهم نظر رحمة وعطف، بل ولا يزكيهم ويطهرهم من ذنوبهم وسيئاتهم (2) في موقف ينتظر كل إنسان رحمة الله وعفوه ومغفرته، ونهايتهم في العذاب الأليم: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران:77) .
11- السؤال في الآخرة وسوء الدار:
أسلوب القرآن في عرض أهدافه، ومقاصده أسلوب يأخذ بالألباب، فتارة يصرح وأخرى يكنّي، ومرة يبين ويفصل وحينًا يجمل ويعمّم، وهكذا نجد أن الله لما ذكر الناقضين لعهدهم الذي أعطوه بأن لا يولوا من المعركة، ذكر عاقبة هذا التصرف بأنه لن يمّر دون سؤال، وهذا الأسلوب أبلغ في هذا المقام من أسلوب التصريح بماهية العقاب وكنهه، إن مقام السؤال أمام الله جل وعلا مقام عظيم ورهيب، وكيف ستكون حال الإنسان الضعيف وهو يقف أمام الباري عزَّ وجلَّ ليسأله عن جريرة اقترفها وذنب عمله: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً) (الأحزاب:15) .
وتصور هذا الموقف كاف للزجر والتهديد. والمصير السيئ ينتظر الناقضين لعهد الله، والنهاية المهلكة مآلهم ومستقرهم، والدار دار سوء لا دار سعادة وفلاح، ولقد حقت عليهم لعنة الله ومقته (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد:25) .
12- آثار أخرى:
ذكرت فيما سبق أبرز الآثار وأعظمها، وهناك آثار أخرى ذكرها القرآن وصفًا للناقضين لعهودهم، الخائنين لمواثيقهم، رأيت أن أجملها في فقرة واحدة، لاشتراكها في كونها أوصافًا يكتسبها أولئك كأثر من آثار غدرهم وخيانتهم.
فبنوا إسرائيل لما أخذ الله عليهم الميثاق ألا يعتدوا في السبت خانوا وغدروا فكيف كانت عاقبتهم؟ لقد جعلهم الله قردة خاسئين، جزاء لسوء فعلتهم وخسة طباعهم: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (البقرة:65) وفي الأعراف: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (الأعراف:166) .
ونفى العقل عن الذين يأخذون كل ما عرض لهم حلالا كان أو حرامًا، مخالفين بذلك ميثاق الكتاب الذي أخذ عليهم، وجاء نفي العقل بصيغة الاستفهام: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الأعراف: من الآية169) .
ومن الصفات التي وصفهم الله بها، أنهم شرّ الدواب، ولقد اكتسبوا تلك الصفة جزاء أفعالهم القبيحة، والجزاء من جنس العمل، والفعل دليل على الفاعل: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (الأنفال:55،56) .
__________
(1) - الخلاق: هو النصيب والحجة والقوام. انظر تفسير الطبري 1/465.
(2) - انظر تفسير الطبري 3/320.(/67)
وتستمر الآيات في الكشف عن صفات هؤلاء، وتكشف ما خفي من طويتهم وحالهم، فلقد دخلوا في زمن الخائنين: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (الأنفال:58) .
وختام تلك الصفات وأعظمها وصفهم بالنفاق، والكذب، والكذب مطية النفاق: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ) (التوبة:75-77) .
وإذا تأملنا هذه الصفات مجتمعة أو متفرقة شعرنا بخطورة الأمر ومآله، وأدركنا أن نقض العهد كان سببًا مباشرًا لما وصفوا به، فوصفهم بالنفاق جاء أثرًا واضحًا لاختلاف الوعد: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ) (التوبة: من الآية77) ووصفهم بشّر الدواب والخيانة والكذب جاء ثمرة لفعلهم وسوء صنيعهم، وقبل ذلك لما نكث بنوا إسرائيل وغدروا جعلهم الله قردة خاسئين.
13- الجناية على النفس:
أنسب أثر أختم به هذه الآثار التي تنتظر الناقضين لعهودهم، المتلاعبين بمواثيقهم، ما ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة الفتح: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) (الفتح: من الآية10) فالناقض لعهده يجني على نفسه ويوبقها، وهذه الأثار هو سببها، وهو حطبها ووقودها.
وإذا تأمل الإنسان هذه النهاية لنفسه، والمصير الذي سيؤل إليه، والثمن الباهظ الذي سيطلب منه، وتذكر أنه لم يظلم بشيء من هذا، ولم يحمل وزر غيره، أدرك خطورة الأمر وفداحة الخطب، وأن الأمر جدّ لا لعب فيه ولا عبث، وأنه لا منجاة له إلا بالوفاء بعهد الله وميثاقه، وأن يعض على ذلك بالنواجذ، ليجنب نفسه وأمته الهلاك والبوار وسوء الدار.
وأخيرًا:
ففي ختام مبحث آثار نقض العهد والميثاق أشير إلى أن المتأمل لواقع البشرية الآن يدرك المآسي التي تعيش فيها، فهي تنتقل من محنة إلى محنة، ومن نكبة إلى نكبة، دول تعيش في حروب وأخرى في قلاقل وثالثة تعصف بها الفتن ورابعة وخامسة، مع أننا نجد في مطلع كل يوم معاهدات توقع وعهود تكتب، ونجد أن المنظمات الدولية في ازدياد وتوسع، فهناك الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وقبلها عصبة الأمم، وبعدهما عدم الانحياز وجامعة الدول العربية، وأخيرًا المؤتمر الإسلامي، وبين هذه وتلك المنظمة الأفريقية وغيرها. ولم تستطع أي من هذه المنظمات أن توقف حربًا، أو أن تنفّذ عهدًا أو تحترم ميثاقًا.
وتذكرت كيف كانت تعيش الدولة الإسلامية الأولى وما تلاها من دول إسلامية حقّة، وكيف نعمت وجاراتها باستقرار تحسد عليه، وأدركت أن العهود والمواثيق التي كانت قائمة يومئذ كانت تحترم وتنفذ، فجنى الناس آثارها. أما اليوم فقد سادت شريعة الغاب ودول الذئاب، القوي يأكل الضعيف، لا عهد ولا ميثاق ولا قانون.
ولن يعود للبشرية أمنها واستقرارها إلا بعودتها إلى دين ربها وتحكيم شرع الله ونهجه في الحياة، وهناك يأمن المؤمن والكافر وتحترم العهود والمواثيق، وإلا فمزيدًا من الدمار والهلاك والبوار، سنة الله ولن تجد لسُنة الله تبديلا.
سادساً: خاتمة
الحمد لله ابتداء وانتهاء، وله الشكر على تيسييره وإعانته وتوفيقه، لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه جل وعلا. وأصليّ وأسلم على خير خلقه، الرحمة المهداة، والنعمة المجتباة، به أخرجت البشرية من الظلمات إلى النور، وعلى آله وأصحابه، خير القرون وسادة الأمم.
وبعد:
ففي نهاية هذا البحث، وخير ختام لفصوله ومباحثه، أذكر أهمّ ما توصلت إليه من نتائج، مع الإيجاز غير المخلّ، فأقول مستعينًا بالله ومتوكلا عليه:
1- اتضح لي أهمية دراسة بعض القضايا القرآنية دراسة موضوعية، حيث تكشف لنا مثل تلك الدراسة عن جوانب مهمة، يصعب الوصول إليها عن طريق الدراسة التحليلية، وبخاصة إذا كانت هذه القضية من القضايا المستجدة والمرتبطة بواقع العصر كموضوع العهد والميثاق.
2- علمنا أن كلمة العهد تطلق على عدة معاني، وما اشتق من مادة (وثق) يستعمل لأكثر من معنى، ولكن الغالب على استعمالهما ما اتفقا فيه، وهو اليمين والموثق والعهد المحكم، وتعلق الذمة بشيء أو تعلقه بها، فإذا أطلق أي منهما لم يكد ينصرف إلاّ إلى ذلك، أمّا المعاني الأخرى فلا يفسران بها إلاّ بقرينة تدل عليها.(/68)
3- ورد العهد والميثاق في القرآن الكريم في آيات كثيرة وبسور متعددة، وأكثر استعمالها في القرآن الكريم جاء بالمعنى الذي سبقت الإشارة إليه، وما سوى ذلك ورد في آيات قليلة (1) ومن هنا تدرك الأهمية العظمى لذلك المدلول، والأثر العظيم للالتزام به وخطورة نقضه والتفريط فيه، وكثرة ورودها في مواضع في القرآن الكريم، دليل على تلك الأهمية وذلك الأثر.
4- عرضت قضية العهد والميثاق في القرآن الكريم بعدة أساليب، كلها تشدّ النفس وتوقض الحس وتحيي القلوب الميتة.
فأكثر الآيات عرضت بأسلوب خبري في الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، نجد الإجمال والبيان، والإيجاز والتفصيل والإطناب، وهناك آيات جاءت بالأسلوب الطلبي فهذا أمر وذاك نهي، ومرة بصيغة الاستفهام الإنكاري، وأخرى بأسلوب الاستفهام التوبيخي.
ويقف الداعية أمام هذا الأسلوب ليتعلم أن عرض القضية جزء من ذاتها، ويحس بأننا بأمس الحاجة إلى الداعية الذي يحسن عرض دعوته، فكم من داع خانه الأسلوب فنفر منه الناس.
والأمر ليس مجرد كمّ متراكم من النصوص يلقيها المعلم كيفما اتفق، بل إن البحث عن مداخل النفوس، وتحري منعطفاتها ومشاعرها مهمة سامية نتعلمها من القرآن الكريم في أسلوبه الرائع في عرض قضية العهد والميثاق، وليس المراد إقامة الحجة والبرهان فحسب، بل قبل ذلك الهداية هدف جليل وغاية مبتغاة يسعى إليها الدعاة والمصلحون.
5- كما ورد العهد والميثاق في القرآن الكريم فقد ورد في السنة المطهرة، حيث وردت أحاديث صحيحة فيها لفظ العهد وأخرى فيها لفظ الميثاق، وهذا يعطينا دلالة أكيدة على أهمية العهد والميثاق ومدى العناية بهما، حيث كثر ورودهما في الكتاب والسنة، ولم يكن ذلك عبثًا أو حشوًا واستطرادًا وحاشاهما من ذلك، ولكن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى (2).
6- من التحقيق في معنى الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم تبين أن الله أخرج ذرية آدم من ظهره وأخذ الميثاق عليهم، مشهدا بعضهم على بعض، ومشهدًا الإنسان على نفسه، أي أخذ بإقراره، فقال لهم سبحانه وتعالى: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (الأعراف: من الآية172) فأجابوا: (بَلَى) (الأعراف: من الآية172) وهذا قول جمهور العلماء والمفسرين كما سبق بيانه ولا يلتفت إلى قول مخالفيهم كالمعتزلة ونحوهم.
واتضح لنا أن هذا الميثاق ليس كافيًا لإقامة الحجة على الخلق، بل إن الحجة تقوم بإرسال الرسل وإنزال الكتب: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء: من الآية165). (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء: من الآية15).
ولا تناقض بين الفطرة والميثاق، فلكل منهما دلالته ومعناه. ويشعر المسلم بوجوب الوفاء بهذا الميثاق الذي أخذه الله عليه في صلب أبيه آدم، حيث تأكد ذلك وتحقق برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم - فلم يعد هناك عذر لمعتذر، أو حجة لجاحد أو غادر.
7- أخذ الله العهد والميثاق على النبيين، والذي نفوا ذلك وقالوا إن الميثاق أخذ على أمم النبيين لا على النبيين أنفسهم، أوّلوا الآية وجانبوا الصواب.
وهذا الميثاق هو أن يؤمن بعضهم ببعض، ويصدق بعضهم بعضًا، وينصره، ويأخذوا ذلك على أممهم، وقد أقررهم الله بذلك فأقروا به، وأعطوا العهد عليه، وأشهدهم على ذلك فشهدوا. وهذا الميثاق أخص مما أخذ عليهم في ظهر آدم مع الذرية.
8- وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تبين أخذ العهد على بني إسرائيل، بعضها مجمل وبعضها مفصل، حيث أخذ الله عليهم العهد بأن يؤمنوا بما في التوراة جملة، ويعملوا بما فيها تفصيلا، كما أخذ عليهم الميثاق بأن يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم إذا بعث، وأن يتبعوه، وأن يبيّنوا أمره للناس.
هذا هو الميثاق العام، ثم أخذت عدة مواثيق خاصة تؤكد هذا الميثاق وتبينه، وبعضها يخص قوما من بني إسرائيل دون آخرين.
ويقف المسلم مندهشًا حائرًا أمام هذا الجنس من البشر، قوم كذبوا الرسل وقتلوا الأنبياء، لا عهد لهم ولا ميثاق، آذوا موسى وهو منقذهم من فرعون وقومه، وأعطاهم الله أعظم الآيات فكفروا، ووهبهم أعظم النعم فجحدوا، وتوارثوا الغدر والمكر والخيانة منذ موسى - عليه السلام - إلى يومنا الحاضر، وآيات العهد والميثاق لنا فيها أعظم العبر والدروس، حيث تكشف لنا عن طوية هؤلاء وسوء أخلاقهم، وأنهم لا أمان لهم ولا وفاء.
__________
(1) - وذلك خاص بما ورد بلفظ العهد، أو الميثاق فلم يرد إلا بمعنى العهد.
(2) - هذه العبارة يقصد بها بنية الكلمة، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.(/69)
ومن العجب أننا نجد من بني قومنا وممن يتكلمون بلغتنا وينتسبون إلى ديننا، نجد من يسعى جادًا إلى إقامة المعاهدات مع بني إسرائيل، وكتابة المواثيق معهم، وكأنه لا يقرأ كتاب الله، ولم يعرف التاريخ، ولا يتعظ بتجارب البشر، إنني وأنا أسمع وأرى هذا السباق المحموم بين بني يعرب للتقرب من يهود وإقامة العلاقات معهم، ظنًا أنهم سيأمنون شرّهم، ويكونون في وقاية من غدرهم، أتساءل هل هؤلاء سيكونون أكرم عند اليهود من موسى - عليه السلام -؟ لا، وألف كلا، موسى نبيهم ورسولهم ومنقذهم ومن بني جلدتهم، ولم يدخر وسعًا لهدايتهم وجلب الخير لهم، ومع ذلك فعلوا به الأفاعيل، وأنبياؤهم من بعد موسى ماذا فعلوا بهم؟، فريقًا كذّبوا وفريقًا يقتلون، إذا كان هذا شأنهم مع أنبيائهم كيف سيفعلون بأعدائهم؟.
وسنن الله لا تتخلف، ولكن أين المؤمنون وأين المعتبرون (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (الحشر: من الآية2) وهذا درس عظيم من دروس العهد والميثاق، يجدر بنا أن نفيد منه أيّما إفادة قبل فوات الأوان، وحلول الذل والهوان.
9- بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم - صحابته في عدة مناسبات وهذه هي العهود والمواثيق التي ذكرها الله في أكثر من آية، حيث خصّ بعضها بالذكر كبيعة الرضوان وعمّ أخر خسائر المبايعات.
وقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم - صاحبته - وأخذ عليهم العهد في بيعتي العقبة، وبيعة الرضوان، وبايعهم على الإسلام، وبايع النساء بيعة خاصة.
كما بايع بعض صحابته على الجهاد، وآخرون على السمع والطاعة. وبايع بعضهم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم.
هذه هي أهمّ المبايعات والعهود التي أخذها صلى الله عليه وسلم على صحابته، بعضها عام، وبعضها خاص. ومما يجدر التنبيه إليه هنا ما ذكره سبحانه في سورة الأحزاب مادحًا أصحاب تلك العهود والمواثيق ومثنيًا عليهم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب:23) .
نعم لقد وفّى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعهودهم، والتزموا مواثيقهم، ولم يكونوا كبني إسرائيل الذين أصبحت الخيانة والغدر من سماتهم وأبرز سجاياهم وطباعهم.
لقد كان من وفاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحدهم يسقط سوطه وهو راكب على دابته فينزل ليأخذ سوطه ولا يطلب من أحد أن يناوله، لأنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألاّ يسأل الناس شيئًا أعطوه أو منعوه (1).
هذه هي الطاعة وهذا هو الوفاء، وبمثل هؤلاء تسعد البشرية وتصل إلى مدارج الرقي وسموّ الأخلاق، لقد كان جيلا قرآنيًا فذًا، لم تعرف البشرية جيلا كذلك الجيل، ولا صفوة كتلك الصفوة، (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: من الآية90) (وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر: من الآية18) .
10- عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم - عدة عهود مع اليهود، أبرزها عندما قدم المدينة، ومن آخرها ما كان في خيبر. ولكن اليهود هم اليهود، لا يستقيم لهم عهد، ولا يبقى معهم ميثاق، وكما غدروا بنبيهم موسى - عليه السلام - فقد خانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعرف على مدار التاريخ أن اليهود وفوا أو حافظوا على ميثاق وبخاصة إذا واتتهم الفرصة للنّقض فلا يدعونها تمر أبدًا، وما يعرف من يسير وفائهم (2) فسببه ضعفهم وعجزهم وقوة خصمهم، وحيث لم تسنح لهم فرصة للغدر والخيانة. وأكرر وأؤكد في هذه الدراسة أننا بأمس الحاجة إلى معرفة طبائع اليهود وسوء طويتهم، فهذا دين لا نعذر بجهله أو التفريط فيه، لما يترتب على الجهل من مفاسد عظيمة، وخسائر جسيمة، في الدين والعرض والمال.
11- تبين لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أبرم عدة عهود مع المشركين، كان أبرزها وأهمها ما تم بين المسلمين وبين قريش في غزوة الحديبية، كما أنه عقد عدة معاهدات مع غيرهم كخزاعة ومدلج وقبائل بني بكر، وهذه العهود هي التي أشار إليها القرآن في سورة التوبة، كما أشار إليها في سورة النساء، مما سبق بيانه.
وقد اتضح أن بعض المشركين وفّى بعهده وميثاقه وبعضهم خان الله ورسوله فلقي جزاءه.
__________
(1) - انظر عون المعبود شرح أبي داود، كتاب الزكاة، باب كراهية المسألة 5/55.
(2) - كالعهد الذي عقد معهم في خيبر بعد فتحها إلى إجلاء عمر - رضي الله عنه - لهم.(/70)
12- كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة كتب لبعض قبائل المسلمين، وقبائل أخرى من العرب غير المسلمين، كما كتب لبعض اليهود وبعض النصارى، وقد تضمنت هذه الكتب بعض العهود والمواثيق بين الرسول صلى الله عليه وسلم - وأولئك، مما يعطي دلالة على استقرار الدولة المسلمة وقوتها، حتى إن القبائل أصبحت تخطب ودّها والأمان منها، بل والحماية ضد أعدائها، وهذا أثر فعال للعهود والمواثيق، إذا سادت بين الدول والمجتمعات - وتم الوفاء بها - حلّ الوئام والسلام، بدل الحرب والخصام.
13- أشرت إلى أنه لم يكن للمنافقين عهود خاصة، وإنما كانوا يعطون العهود مع المسلمين كأفراد منهم - ظاهرًا - وما أشار إليه القرآن من نقضهم للعهود حدث منهم بطرق ملتوية وبأساليب متعددة، ولقد ذكر القرآن تلك الأساليب دون التصريح بأسماء من قام بها، مع بيان أنهم من المنافقين.
14- استعمل مصطلح العهد والميثاق في عدة مجالات، ولقد شدّ انتباهي كثرة هذه المجالات وأهميتها، وكيف أن العهد والميثاق جاء ليقرر مبادئ عظيمة، سعدت بها البشرية ماضيًا وحاضرًا، وتسعد بها مستقبلا، وذكرت أن من أبرز تلك المجالات ما يلي:
أ- العقيدة هي أساس وجود الخلق، ولا خير في حياة بدون إيمان، وهل الظلمات إلاّ الكفر والفجور، وما النور إلاّ الإيمان والتقوى. ولهذا جاء العهد والميثاق مقررًا هذه الحقيقة وملزمًا البشرية بتحقيق عبوديتهم لله سبحانه وتعالى، وداعيًا للإيمان به عزَّ وجلَّ والعمل بما في كتب الله المنزلة، حيث تعمل كل أمة بكتابها، فكتب الله يصدق بعضها بعضًا، والمتأخر ناسخ للمتقدم ومصدق به، ولا تعارض في ذلك ولا تضاد.
كما أن الإيمان بالرسل من صميم عقيدة المسلم، فجاء العهد والميثاق في هذا المجال، طالبًا الإيمان بالرسل عمومًا وبالنبي المرسل خصوصًا فبعضهم يؤمن ببعض، فالمتقدم يبشر بالمتأخر والمتأخر يصدق المتقدم، ويعترف به، لا يستقيم الإيمان إلاّ بذاك. والشرائع المنزلة كلها من عند الله، نؤمن بالمتقدم منها إجمالا، وبالمتأخر تفصيلا.
هكذا جاءت العهود والمواثيق في القرآن الكريم تؤصل هذا الجانب وتؤكده، وتدعو الناس للاهتمام بجانب العقيدة وتحقيقها في عالم الوجود.
ب- أمر المسلم بالعبادة، أصولها وفروعها، وقد أخذ الله الميثاق على الناس بأن يعبدوه، وذلك بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغيرهما من أنواع العبادات التي شرعها الله، وقد ورد مصطلح العهد والميثاق مبينًا أهمية هذا الجانب ووجوب العناية به، ومحذرًا من التفريط فيه أو الإهمال، فذلك نقض للعهد والميثاق، وعاقبته وخيمة، ومآل صاحبه إلى الخسران والهلاك.
جـ- الأخلاق سرّ من أسرار بقاء الأمم ودوامها، وفقدانها سبب لدمارها وفنائها. والخلق الحسن سمة بارزة في جبين الفرد، يقوده إلى مدارج العزّ والخلود. وهذا المجال واسع رحب له آثاره ومزاياه، لذلك جاءت العهود والمواثيق محتفية بهذا الجانب ومؤكدة عليه، فوردت آيات كثيرة من آيات العهد والميثاق مشتملة على بيان أخذ الله العهود على البشر، ليلتزموا بالأخلاق الفاضلة ويبتعدوا عن أي خلق ذميم، على مستوى الفرد والجماعة.
د- من مآسي العالم في عصرنا الحاضر - وما أكثر مآسينا - عدم احترام العهود والمواثيق التي تبرم بين الدول، فكم من اتفاقية وقعت، وعهود كتبت، لم تزد أن تكون حبرًا على ورق، وهذا سبب القلائل والفتن والحروب. والإسلام يأبى هذه الأخلاق، ودين الله يدعو إلى الوفاء وحسن الجوار.
ومن هنا جاء مصطلح العهد والميثاق في مجال العلاقات الدولية ليرسم للبشرية ما يجب أن تكون عليه سياسة الدول، بعيدًا عن الغدر والخيانة وأخذ الناس الآمنين على حين غرة. وبهذا تسعد البشرية، وتعيش في أمن يسود حياتها، ويتيح لها أن تتقدم في جميع شئون الحياة ومجالاتها، بعيدًا عن الخوف والهلع، وتوقع الغدر والخيانة.
هـ- كما جاءت العهود والمواثيق في مجال العلاقات بين الدول، فد وردت في مجال المعاملات بين البشر، وكما أخذ العهد بوجوب الإيمان بالله، وتصديق رسله، فقد جاء ليرسم للناس أسلوبًا في تعاملهم وحسن تقاضيهم، بعيدًا عن الالتواء والتربص وسوء الطويّة، وهذا من عظمة هذا الدين وسموّ أهدافه وغاياته، واحتفائه بالفروع كاهتمامه بالأصول.
و- في القضايا الاجتماعية وما يكون بين الأسر والأفراد أمور تحتاج إلى عناية ورعاية، ولذلك فقد كان للعهد والميثاق أثر فعال في حسن النظر ومراعاة هذا الجانب المهم في حياة الناس، والتساهل أو التهاون في ما يتعلق بحياة الناس الخاصة وأمور أسرهم يؤدي إلى فساد المجتمعات ومن ثمّ دمار الدول، ولذلك فقد جاءت آيات كثيرة تبّين للناس النمط السوي في محيط القضايا الاجتماعية والحياة الأسرية، محذرة من أي خلل أو تصدع في هذا الكيان، مؤكدة ذلك بالعهود والمواثيق صيانة وحماية للأمة أفرادًا وجماعات.(/71)
ما أروع هذا الدين وما أشمله وأكمله، كم يحسّ المسلم بسعادة وهناء وهو يرى مدى اهتمام الإسلام بأخص شئونه وأدقها، بل ويؤخذ عليه العهد والميثاق ضمانة لاستمرار سعادته، وحماية له من الشقاء والعناء.
ز- لا حياة للأمة بدون الجهاد في سبيل الله، وأي أمة تدع الجهاد أمه تعيش الذل بأبشع صوره، الجهاد يحمي الدين والنفس والعرض والنسل، والمال، يحمي البلاد والعباد.
الأمة المجاهدة لها العزة والرفعة والمنعة ولهذا فقد جاء العهد والميثاق في مجال الجهاد في سبيل الله ليرتفع بالبشرية عن مهاوي الردى ونوازع الهوى، ناعيًا عليها التثاقل في الأرض أو الركون إلى شهواتها وملذاتها، وليطلب الموت من أراد أن توهب له الحياة، ومن وفّى ببيعه وفّي الله له عهده (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) (التوبة: من الآية111) .
15- لا خلاف ولا نزاع في وجوب الوفاء بالعهد والميثاق، وآيات الكتاب وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم صريحة بذلك، كما هي صريحة بحرمة نقض الميثاق أو الإخلال بالعهد، وتوعّد الله بأقسى العقوبات للناقضين عهودهم ومواثيقهم، وصريح المعقول يوافق صحيح المنقول على وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق.
16- الوفاء بالعهد والالتزام بالميثاق صفات كرام الرجال وخيارهم، والآثار الحسنة التي تعود على الموفين بعهودهم ومواثيقهم لا تعدّ ولا تحصى، منها الآثار التي يجنونها في الدنيا، وأعظم منها ما يحصل لهم في الآخرة، وإذا عظم المطلب فالجزاء أعظم.
إن من أعظم الآثار نعمة الإيمان، ولا يعرف قدر الإسلام إلا من عرف الكفر ومآسيه (1).
والتقوى ومحبة الله للمتقين جزاء من ربك عطاء حسابًا للملتزمين بعهودهم المحافظين عليها. الأمن في الأوطان مطلب عزّ مناله، لكنه حاصل لمن عرفوا قدر المواثيق وراعوا حقها، فلهم الأمن والحياة الطيبة والجزاء الحسن والأجر العظيم، وفي الآخرة يكفر الله عنهم سيئاتهم ويدخلهم الجنات، ما أعظم هذه الآثار وأزكارها، وما أجدر بالبشرية الحائرة أن تنشد السعادة من معينها فقد طال شقاؤها.
في الإسلام تجد الطمأنينة وفي ظلال الإيمان تعيش الحياة الوارفة، تصون دماءها وتحمي ذمارها، هذا في الدنيا، أمّا في الآخرة فرب كريم، ونزل عظيم، وحياة أبدية في جنات النعيم.
17- آثار نقض العهد والميثاق مدمرة ومفجعة، بعضها عاجل وبعضها آجل، شيء منها يحلّ بالفرد وآخر يلحق بالأمة، جزاء وفاقًا. الكفر صفة للناقضين عهودهم، والفسق ديدنهم، والخسران نهايتهم، واللعن في انتظارهم، قلوبهم قاسية قد طبع الله عليها، فأغروا بالعداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
حرمت عليهم الطيبات في الدنيا، والنار مصيرهم في الآخرة. القتل والتشريد جزاؤهم لقاء غدرهم وخيانتهم وضلالهم عن سواء السبيل. يعيشون في الدنيا بخزي أبدي، وفي الآخرة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. هم شرّ الدواب وشرار الخليقة، ولذا فبعض الناقضين عجلت عقوبتهم فأصبحوا قردة وخنازير لغدرهم وخيانتهم. والناقض عهده يجني على نفسه وأمته ويرديها.
إن أثرًا واحدًا مما مضى كافيًا للزجر والتهديد، فكيف بهذه الآثار مجتمعة أو بعضها مما ينتظر الناقضين لعهودهم. إن البشرية اليوم بأمس الحاجة إلى الاستقرار والسعادة بعد طول شقاء وعناء. والمنقذ لها من ذلك كله هو التمسك بحبل الله والوفاء بعهده والالتزام بميثاقه، وأن يكون الإسلام هو المهيمن على شئون الحياة دولا وأفرادًا.
وبعد:
فقد عشت فترة طويلة وقصيرة مع هذا الموضوع، طويلة في حساب الأيام والشهور، وقصيرة مع كتاب الله فلو قضى المسلم عمره مع القرآن الكريم فلا يعدو أن يكون لحظة في عمر الزمن.
ازداد إيماني - ولم يكن ضعيفًا والحمد لله - بأن هذا القرآن هو المنقذ للبشرية من واقعها المرير، فيه النور والبرهان، فيه المخرج لأزماتها، والحلول لمشكلاتها، لا الشرق ينقذنا، ولا الغرب ينفعنا، وإنما كتاب الله هادينا وقائدنا.
أدركت من خلال هذا البحث كم في القرآن الكريم من كنوز مجهولة، ودرر مغمورة بالنسبة لكثير من المسلمين، ولذلك تخبّطوا في حياتهم في الظلمات والنور بين أيديهم، يبحثون عن الهدى والهدي في حوزتهم، إن هذا القرآن منهج للبشر، كلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
__________
(1) - المعرفة هنا لا تعني كونه كافرًا قبل ذلك، بل هي أعم فقد يولد مسلمًا ولكنه عرف الكفر من أوجه أخرى كمعرفته بالكفار مثلا.(/72)
شدّ انتباهي وأنا أعيش بين آيات العهد الميثاق معايشة هذا القرآن العظيم لحياة الناس لحظة بلحظة وساعة بساعة، موجهًا ومنقذًا، ومبشرًا ومعاتبًا ومعاقبًا، يحيط بالناس بعنايته، ويحنو عليهم برعايته، هذا يَعِدُهُ وذاك يتوعّده، وآخر يعلمه ويربيه. إنها دعوة صادقة مخلصة أوجهها لأمتي عمومًا وللعلماء خصوصًا بأن نعود إلى كتاب ربنا ومنهج حياتنا، نتفيء في ظلاله وتسعد البشرية الحائرة، فقد طال بلاؤها وزادت تعاستها، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ختامًا:
لك الحمد ربي على ما تفضلت وأنعمت ووفقت، أشكرك مع كل حرف أخطه وكلمة كتبتها وجملة أصوغها، أشكرك مع كل نسمة هواء تمدني بالحياة، وكل نقطة دم تجري في عروقي، وقطرة ماء تسير في أحشائي، تذكرني بأنك الخالق الواحد لا رب لي سواك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(/73)
العوائق العشرون للتأثير النافع ... ... ... د. علي الحمادي ـ إسلام أون لاين
إن عملية التأثير في الآخرين أمر متاح للجميع، ولكن لها مستلزمات ومتطلبات، ومن مستلزماتها أن يقتنع الإنسان أنه قادر على ذلك، وأن تكون رؤيته لنفسه ولمستقبله واضحة جلية لديه، وأن يتخذ قرارا حازمًا للوصول إليها، وأن يبدأ المشوار بجد واجتهاد، وقبل هذا وذاك أن يتوكل على الله ويستعين به.
إننا جميعا مدعوون إلى التسابق في هذا المضمار؛ إذ إنه مضمار خير ونفع للفرد والمجتمع، بل وللبشرية بأسرها، وصدق خالق السماوات والأرض إذ يقول: {سَابِقُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ والأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (سورة الحديد: 21).
ويقول الله تعالى على لسان نبيه موسى عليه السلام: {وعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} (سورة طه: 84).
ويقول الشاعر:
دعي نفسي التكاسل والتواني وإلا فاثبتي في ذا الهوانِ
فلم أرَ للكسالى الحظ يُعطَى سوى ندم وحرمان الأماني
منهج ابن اليمان
ويحسن بنا الإشارة إلى أهم العوائق التي تحول بين المرء وإحداث تأثير نافع فذ في هذه الحياة؛ وذلك للتحذير منها والتنبه إلى خطورتها، وكذلك إلى ضرورة التخلص منها ومعالجتها، متخذين في ذلك منهج الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان، الذي كان ممن يسأل عن الشر لا حبًّا فيه، وإنما رغبة في التحذير منه، حتى لا يقع هو فيه أو يُبتَلى فيه أحد أفراد أمته.
فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم"، قلت: وهل بعد الشر من خير؟ قال: "نعم، وفيه دخن"، قلت: وما دخنُه؟ قال: "قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر"، قلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها"، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: "هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا"، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "انظر جماعة المسلمين وإمامهم"، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك".
ويقول الشاعر:
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه
العوائق العشرون
أما بخصوص عوائق التأثير والعقبات التي يمكن أن تعترضه فهي كثيرة، ولكن أهمها عشرون، وهي:
1- عدم توفيق الله تعالى، ومن حُرِم توفيق الله تعالى فقد وُكل إلى نفسه، ومن وُكل إلى نفسه خاب وخسر.
2- التردد وعدم الحزم في اتخاذ القرارات اللازمة لصناعة التأثير.
3- الخوف من المجهول، أو من الآثار المتوقعة لصناعة التأثير.
4- عدم الاقتناع بأهمية وضرورة أن يكون الإنسان مؤثرًا وصانعًا للحياة.
5- ضعف الهمة وانعدام الطموح.
6- الخجل من مزاحمة المؤثرين أو المساعدين على التأثير، وعدم ولوج مجالسهم ومنتدياتهم، والابتعاد عن محاورتهم ومناقشتهم.
7- الشعور بالنقص والدونية.
8- الاستسلام للفشل، وانعدام نفسية التحدي، وعدم المثابرة حتى آخر رمق.
9- القناعة المزيفة التي تؤدي بصاحبها إلى الرضى بالدون.
10- مجالسة الكسالى والتأثر بهم.
11- عدم المحاولة والبعد عن التجريب.
12- التعود على الإمعية والتبعية وتربية الذات (أو الجيل) عليها.
13- القهر والاستبداد، وكتم أنفاس البشر، وعدم ترك المجال لهم للتعبير عن آرائهم وقناعاتهم.
14- الجهل وعدم تطوير الذات؛ مما يحول دون فهم وإدراك مجالات التأثير وأدواته وفرصه، وأساليبه، وطرقه ووسائله.
15- اليأس والإحباط من الواقع الخاص أو العام.
16- انعدام الجدية، والتعامل مع الحياة بصورة مائعة هزلية.
17- الاهتمام بصغائر الأمور وإهمال عظائمها.
18- الاستعجال في قطف الثمرة، والتسرع في إصدار الأحكام على الأشخاص والقضايا، وعدم القدرة على استيعاب الأوضاع والتكيف مع المستجدات بشيء من التعقل والتروي والأناة.
19- التربية الخاطئة وضيق الصدر.
20- الحماقة وقلة العقل، وصدق من قال:
لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها ... ... ... ... ...(/1)
العوائق كثيرة ... ولكن!!
مفكرة الإسلام : إن التربية الجنسية في ضوء تعاليم الشرع هي الأساس النظيف الذي يهذب دوافع الجنس ويتسامى بها لدى الفتيات المراهقات ... ولا شك أن هناك عوائق كثيرة تقف حائلاً أمام التربية الجنسية للفتاة ... ولكن يمكننا تحدي هذه العوائق والقفز فوق الأزمات وذلك بتطبيق تعاليم الشرع والنظرة الصحيحة إلى الشهوة، وحسن التفاهم مع طبيعة المراهقة وطبيعة هذه المرحلة العمرية.
عزيزتي الأم..
إن الدين يعترف بغريزة الشهوة ويوجهها، ولم يكن الله الذي زود الإنسان بأجهزة التناسل، وركب فيه غريزة الجنس ليحرم عليه استعمال هذه الأجهزة بتاتًا، ولم يكن الله ليترك للإنسان حرية التصرف كاملة في هذه الأجهزة بلا ضابط فيكون كالحيوان.
ولقد وضع الإسلام ضوابط تحد من انحرافات الشهوة وجعل هنالك تدابير شرعية توصد باب الغواية، فسن آداب الحجاب وغض البصر وآداب الاستئذان ومنع الاختلاط، ولو اتبعت هذه الآداب والضوابط لحلت كثير من مشكلات المراهقين الجنسية.
وهذه وصية رسولنا صلى الله عليه وسلم للشباب كحل لضغط الشهوة على الشاب 'يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج, فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء'.
هذا هو الأمر الرباني للشاب والشابة إما الزواج أو الاستعفاف.
عزيزتي الأم..
إذا وضعت قدمك بالفعل على أعتاب التربية الجنسية لفتاتك .. ولا تخافي ولا تترددي إذا واجهتك عوائق في طريق هذه التربية، فالعوائق كثيرة يمكن إيجازها فيما يلي:
عوائق التربية الجنسية:
1ـ أجهزة الإعلام المختلفة.
2ـ الواقع في المدارس والجامعات.
3ـ سعار الجنس وآثاره المدمرة في هذا القرن.
1ـ أجهزة الإعلام المختلفة:
لقد ساهمت أجهزة الإعلام المختلفة ـ كالإذاعة والتلفاز والفيديو والصحف والمجلات ـ على تحطيم الحواجز الأخلاقية وإفساد الفطرة، وشاركت الأفلام الخليعة والمسلسلات الخبيثة في إشاعة الرذيلة وإثارة مشاعر الشهوة لدى المراهقات، وما نلمسه في وسائل الإعلام المختلفة هو رفع شعار العري والتعري.
فنجد الصور العارية والأغاني العارية والنكت العارية وأيضا الأجساد العارية، وكل ذلك ساعد على إشاعة التبرج الصارخ، والتمرد على الفطرة السوية، والدعوة صراحة إلى الحب والغزل والتدخين وشرب الخمر.
وتجد الفتاة النماذج النسائية التي يتم تسويقها وإبرازها كمثل أعلى للمراهقات هي الممثلات وملكات الجمال، وكلهن حاملات لرسالة الجسد بامتياز واحتراف، وبفعل التلميع الإعلامي لهن تتم قولبة أذواق الفتيات وتسطيح طموحاتهن وحصره في تقليد الممثلات والجميلات في المأكل والملبس وفي العادات والتقاليد. ويذكر العميد حسن الصاوي مدير مكافحة جرائم الآداب بالجيزة بعض أخطار وسائل الإعلام بقوله:
'إن السبب في انتشار المعاكسات هو التيارات الفكرية الواردة من الخارج وانتشار أفلام الفيديو، ونوادي الديسكو والرقص، وعرض الأفلام الخليعة على شاشتي السينما والتليفزيون، والحالة الاقتصادية التي تسبب إحجام الشباب عن الزواج، وكذلك نقص الوازع الديني وضعف العلاقات بين الآباء والأبناء.
وتشترك الفتيات في المسؤولية عن طريق المبالغة في المكياج، وعدم الالتزام ـ الشرعي ـ في الزي والسلوك، وتشجيع الشباب بالنظرات والكلمات البريئة '.
[عن جريدة الأهرام، الأسرة المسلمة: مروان كجك]
2ـ الواقع في المدارس والجامعات:
عزيزتي الأم: مع الأسف تذهب الفتاة إلى المدرسة لتتعلم العلوم المفيدة فإذا بها تجد نظرية فرويد حول التحليل الجنسي، والتي تفسر السلوك الإنساني كله على أساس الجنس هذه النظرية ساهمت في نشر الإباحية بشكل كبير.
هذا إلى جانب ما في المدارس والجامعات من اختلاط مشين والإنسلاخ من الحجاب والثقافة الشرعية، وانتشار دعاوى تحرير المرأة ـ التي جاءت على يد قاسم أمين ورفاعة الطهطاوي ـ وإذا سألنا ما تأثير ذلك على الفتاة؟ وكيف ينبغي لها أن تتصرف إذا أرادت حماية نفسها هل تجلس في البيت ولا تتعلم؟
بالطبع لا، لأن الإسلام لا يمنع المرأة من التعليم في الجامعة أو غيرها، ولكن على الفتاة أن تحافظ على دينها وأخلاقها، والواقع الذي نلمسه ونشاهده أن الفتاة دخلت الجامعة لا لتتعلم فقط ولكن لتحرر من الدين والأخلاق ، فكيف يستطيع الفتى أن يضبط نفسه والطالبة كاسية عارية تخالطه في مقاعد الدراسة وساحات اللعب وفي المطعم والمكتبة وحفلات الترفيه.
بالطبع ودون تفكير سيكون نتيجة هذا الاختلاط والحرية الزائفة المزعومة ارتفاع الحياء وشيوع الانحلال، ووقوع الفاحشة بين الجنسين، وواقع المدارس المختلطة والجامعات أيضًا يشهد بذلك.
ومن هنا فلا يمكن أن يستقيم الفتى أو الفتاة إلا إذا تسلحا بإيمان رفيع وتربية شرعية مستقيمة.(/1)
وها هي الولايات المتحدة الأمريكية تعيد صياغة استراتيجيتها في التعليم بما يخالف النسق الثقافي السائد، حيث اعتزمت إدارة الرئيس الأمريكي بوش تشجيع المؤسسات التعليمية في أمريكا على العودة إلى مبدأ عدم الاختلاط بين الجنسين في المدارس وذلك في إطار برنامج لإصلاح نظام التربية.
وهذا القرار الذي يتضح أن ظاهرة الارتقاء بمستوى التعليم للجنسين وإغلاق قنوات الضعف والتسرب، ما هو في الحقيقة إلا طريقة لإيجاد حلول جذرية لحالات العنف والأبناء غير الشرعيين، وحمل المراهقات، وانتشار الإيدز، وغيرها من ثقوب تهدد النسيج الاجتماعي وتضعف من البناء القيمي الأخلاقي في المجتمع.
وهذا يؤكد أن الإصلاح للمشكلات التربوية والاجتماعية لا بد وأن يبدأ من إصلاح النفس وعودتها للفطرة.
3ـ سعار الجنس وآثاره المدمرة في هذا القرن:
عزيزتي الأم المربية ... لقد ظل سعار الجنس يزداد حتى وصل انهيار الأخلاق والاستهانة بالعفة إلى حد أن أصبح الأمريكيون يعتقدون أن بقاء البنت عذراء يسبب لها الإصابة بمرض السرطان، لذلك فهم يخلصون من العذرية بسرعة، هذا كان منطق الغرب وعلى هذا المنهج ساروا.
ونتيجة لهذا التصور تحررت المرأة وتعرت في الغرب المتحضر وصارت تعمل علانية على إغراء الرجل، وحين ابتذلت المرأة نفلسها وخلعت حياءها الفطري وصارت تجري وراء الرجل وترتمي في أحضانه زهد فيها الرجل وتدلل عليها وانصرف عنها.
حفظ الله بناتنا وزهراتنا من هذا السعار والخضم المتلاطم
فالعوائق كثيرة ولكن
لا مناص من التربية الإسلامية على مفاهيم وتصورات الإسلام عن قضية الشهوة
وإلى لقاء قريب بإذن المولى الرحمن
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/2)
العواصم من الفتن
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد..
فنحن نعيش في زمن كثرت فيه الفتن، وأصبح المسلم يرى الفتن بكرة وعشياً، وعمَّ في هذا الزمان من البلايا والمحن والنوازل والخطوب الجسام الشيء الكثير، وكل ذلك بسبب ما آل إليه حال الإسلام والمسلمين من ضياع وتشتت لبعدهم عن منهج الإسلام، وتسلط الأمم الكافرة ، وتفشي المنكرات في بلاد المسلمين.
ومن هنا كان لزاماً علينا معرفة منهج سلفنا الصالح في مواجهة الفتن وكيف يتعاملون معها عند وقوعها، لأن الفتن إذا لم يُرعَ حالها ، ولم ينظر إلى نتائجها فإن الحال سوف تكون حال سوء في المستقبل إلا أن يشاء الله غير ذلك ، ومن هذا المنطلق سوف أذكر بمشيئة الله تعالى بعض مواقف السلف الصالح ونهجهم وكيفية تعاملهم مع الفتن والمحن عند وقوعها حتى يكون المسلم على بصيرة من أمره ودينه ، والله نسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه ، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ذكر بعض الأحاديث والسنن في الفتن:
1- عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بادروا الأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا".
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج، وقالوا: ومالهرج يا رسول الله ؟ قال: القتل "
3- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: استيقظ رسول الله ليلة فزعاً يقول:سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن وماذا أنزل من الفتن ؟ من يوقظ صواحب الحجرات لكي يصلين فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة ".
4-عن عبد الله في سفر فمنّا من يصلح خباءه ومنا من يتنضل ومنا من هو في جشره إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة جامعة فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها وتجيء فتنة يرقق بعضها بعضاً وتجيء الفتنه فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله وباليوم الآخر"
5- عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تعرض الفتن كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير على قلبين على أبيض مثل الصفاء فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه ".
مواقف السلف عند الفتن:
ومن رحمة الله عز وجل بنا أن بينَّ لنا السنة العلمية التي عمل به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون وأئمة السلف عندما يستجد شيء من الحوادث والفتن وكيف تعاملوا معها حتى نقتفي أثرهم ونسير على نهجهم، ومن سار خلف مهتدٍ ووفق الأدلة الشرعية فلن يندم أبداً.
أولا: الاعتصام بالكتاب والسنة:
فإنه ل انجاة للأمة من الفتن والشدائد التي حلت بها إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة ، لأن من تمسك بهما أنجاه الله ومن دعا إليهما هُدِيَ إلى صراط مستقيم. يقول الله تعالى: ( وِاْعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) الآية.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي" ويقول صلى الله عليه وسلم: " إنها ستكون فتنة، قالوا: وما نصنع يا رسول الله، قال: ترجعون إلى أمركم الأول ".
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: وطريق النجاة من الفتن هو التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما رُوي ذلك عن علي مرفوعاً: تكون فتن: قيل: ما المخرج يا رسول الله؟ قال ك كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم.
وإليك أنموذجاً من سيرة سلفنا الصالح في حرصهم على الاعتصام بالكتاب والسنة عند وقوع الفتن والمحن ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال: لما وقع من أمر عثمان ما كان وتكلم الناس في أمره أتيت أبي بن كعب فقلت: أبا المنذر ما المخرج ؟ قال: كتاب الله.
ثانياً: الالتفاف حول العلماء(/1)
أولئك العلماء الربانيون أئمة أهل السنة والجماعة في وقتهم، فالالتفاف حولهم عامل معين على عدم الزيغ والانحراف في وقت الفتن، وكيف لا وهم أنصار شرع الله والذين يبينون للناس الحق من الباطل والهدى من الضلال ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر"، فلا بد من الالتفاف حولهم بحضور حِلَقِهِم العلمية وزيارتهم زيارات دورية حتى لا تنقطع علاقاتنا بهم، وحتى لا يجد أعداء الإِسلام فجوة يستطيعون الدخول عن طريقها للنخر في الإِسلام، وقد حدثت في التاريخ الإِسلامي فتن ثّبت الله فيها المسلمين بعلمائهم ومن ذلك ما قاله علي بن المديني رحمه الله:" أعز الله الدين بالصديق يوم الردة وبأحمد يوم المحنة ".
فيا شباب الإَسلام التفوا حول علمائكم فإنهم القدوة ، والمربّون وهم العون لكم بعد الله في هذا الطريق وفي هذه الفتن، فالزموهم وعيشوا في أكنافهم ، وإياكم والوحدة فتتخطفكم الشياطين فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ، ولا تتركوا مجالاً لأعداء الإِسلام يبثوا سمومهم ومقالاتهم لزعزعة الثقة بين العلماء والمجتمع وبين العلماء وشباب الإسلام ، وقد كان السلف الصالح عند تغير الأحوال يلتفون حول علمائهم وإليك نماذج من ذلك.
1. عن بشير بن عمرو قال: شيَّعنا ابن مسعود حين خرج، فنزل في طريق القادسية فدخل بستاناً فقضى حاجته ثم تؤضأ ومسح على جوربيه ثم خرج وإن لحيته ليقطر منها الماء فقلنا له: اعهد إلينا فإن الناس قد وقعوا في الفتن ولا ندري هل نلقاك أم لا، قال: اتقوا الله وأصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر وعليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع أمة محمد على ضلالة.
2. عندما دخل أبو موسى الأشعرى المسجد وإذا به يرى أناساً متحلقين في المسجد في كل حلقة واحد يرمون بحصىً معهم كلما رموا بحصاة قالوا: كِّبروا الله مائة، فذهب أبو موسى إلى ابن مسعود: فبماذا أمرتهم ؟ فقال أبو موسى: ما قلت لهم شيئاً انتظار أمرك.
3. ما ذكره ابن القيم عن دور شيخه شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله في التثبيت: " وكنا إذا إشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله عنا ".
ثالثا: لزوم الجماعة
يقول الله تعالى: ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا )
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة "ويقول عليه الصلاة والسلام: " الجماعة رحمة والفرقة عذاب"
فالمخرج عند حدوث الفتن والحوادث لزوم جماعة المسلمين ، والجماعة ليست بالكثرة ولكن من كان على منهج أهل السنة والجماعة فهو الجماعة ، يقول عبد الله بن مسعود: لو أن فقيهاً على رأس جبل لكان هو الجماعة ، ولذلك سطر السلف الصالح عبر التاريخ هذا المبدأ ، وإن من طرق النجاة من الفتن والحوادث لزوم جماعة المسلمين وإليك نماذج من ذلك:
1- قال حذيفة رضي الله عنه:" كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير كنت أسأله عن الشر مخافة أن يد ركني، فقلت: يا رسول الله إنَّا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه ؟ قال قوم يهدون بغير هدى تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم "
2- عندما كان الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود في الحج مع عثمان، وكان عثمان يتم الصلاة في منى وكان ابن مسعود يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في منى ركعتين. فقيل له: تقول هذا وأنت تصلي مع عثمان أربع ركعات ؟ فقال: يا هذا الخلاف شر"
3- عن عبد الله بن رباح قال: دخلت أنا وأبو قتادة على عثمان وهو محصور فاستأذناه في الحج، فأذن لنا، فقلنا: يا أمير المؤمنين قد حضر من هؤلاء ما قد ترى فما تأمرنا ؟ قال: عليكم بالجماعة "
رابعاً: التسلح بالعلم الشرعي:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج، قالوا:وماالهرج يا رسول الله ؟ قال: القتل ".، وقال عليه الصلاة والسلام: إنَّ من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ، وقال عليه الصلاة والسلام:" إنه سيصيب أمتي في آخر الزمان بلاء شديد لا ينجو منه إلا رجل عرف دين الله فجاهد عليه بلسانه وقلبه "
فالعلم الشرعي مطلب مهم في مواجهة الفتن حتى يكون المسلم على بصيرة من أمر دينه وإذا فقد المسلم العلم الشرعي تخبط في هذه الفتن ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" إذا انقطع عن الناس نور النبوة وقعوا في ظلمة الفتن وحدثت البدع والفجور ووقع الشر بينهم ".
خامساً: التأني والرفق والحلم وعدم العجلة:(/2)
فالتأني والرفق والحلم عند الفتن وتغير الأحوال محمود لأنه يُمكِّن المسلم من رؤية الأشياء على حقيقتها وأن يبصر الأمور على ماهي عليه.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" إنه ماكان الرفق في شيء إلا زانه ولانزع من شيء إلا شانه" ويقول عليه الصلاة والسلام لأشج عبد القيس:" إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة ".
فعلينا جميعاً بالرفق في الأفكار والمواقف وفي كل ما يجد من الحوادث وعدم العجلة فإنها ليست من منهج الأمة الإِسلامية وخاصة في زمن الفتن وهذه نماذج من سلفنا الصالح في الحرص على التأني وعدم العجلة زمن الفتن: عن الليث بن سعد عن موسى بن علي عن أبيه أن المستورد القرشي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" تقوم الساعة والروم أكثر الناس، قال عمرو بن العاص: أبصر ما تقول، قال: المستورد ومالي لا أقول ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال عمرو: إن كان ما تقول فلأن الروم فيهم أربع خصال: الأولى، أنهم أحلم الناس عند فتنة وعدَّ الخصال الأربع" ، قال أهل العلم:كلام عمرو بن العاص لا يدل على ثنائه على الروم ولكن ليبين للمسلمين أن بقاء الروم لأنهم عند الفتن فيهم من الحلم الذي يجعلهم ينظرون إلى الأمور ويعالجونها.
سادساً: الثقة بنصر الله وأن المستقبل للإسلام:
فمهما إدلهمت الظلمات ومهما اشتدت الفتن وأحدقت بنا فإن المستقبل لهذا الدين:
يقول الله تعالى: ( حَتَّى إِذَا اْسَتيئسَ الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ) ، ونحن نحتاج لهذا المبدأ كثيراً عند وقوع الفتن حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها وكلما ازداد الليل ظلمة أيقنا بقرب الفجر ، وإليك نماذج من سلفنا الصالح على أهمية هذا الأمر:
لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يثبت أصحابه المعذبين أخبرهم بأن المستقبل للإسلام، وزرع في قلوبهم الثقة بنصر الله عز وجل.
جاء في حديث خباب مرفوعاً عند البخاري أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا ؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه ".، فَعَرْضُ أحاديث البشارة بأن المستقبل للإسلام مهم في زمن الفتن والحوادث.
سابعاً: النظر في عواقب الأمور:
ففي زمن الفتن ليس كل مقال يبدو لك حسناً تظهره ولا كل فعل يبدو لك حسناً تفعله، لأن القول أو الفعل زمن الفتنة يترتب عليه أمور، يفهم بعضهم أشياء لا تبلغها عقولهم ويبنون عليها اعتقادات أو أعمالاً أو أقوالاً لا تكون عاقبتها حميدة وسلفنا الصالح أحبوا السلامة في الفتن فسكتوا عن أشياء كثيرة طلباً للسلامة في دينهم وإليك نماذج من سيرتهم العطرة:
1. قال أبو هريرة رضي الله عنه: " حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائين ، أما أحدهما: فبثثته ، وأما الآخر: فلو بثثته لقطع هذا الحلقوم " قال أهل العلم كتم أبو هريرة بعض الأحاديث لأجل أن لا يكون هناك فتنة وخصوصاً بعد أن اجتمع الناس على معاوية بعد فرقة.
2. لما حدَّث أنس بن مالك بحديث قتل الرسول للعرنيين زمن الحجاج أنكر عليه الحسن البصري التابعي الجليل لأن الحجاج عاث في الدماء،وربما أخذ هذا الحديث وتأوله على صنيعه فكان الواجب كتم الحديث عن الحجاج.
3. وعندما حوصرعثمان بن عفان رضي الله عنه في زمن الفتنة وقف بعض الصحابة يريدون الدفاع عنه كعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وأبي هريرة وغيرهم، فقال رضي الله عنه: " أقسم على من لي عليه حق أن يكف يده وأن ينطلق إلى منزله" ولو تركهم رضي الله عنه لمنعوه ولدافعوا عنه ولكن نظر إلى عاقبة الأمر وأنه ربما يحصل سفك دماء فاختار أن يكون خيرَ ابنيّ آدم.
ثامنا: الصبر:
نحتاج إلى الصبر كثيراً، وخصوصاً عند الفتن. يقول الله تعالى: ( ولنبلوكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) ويقول صلى الله عليه وسلم:" إن من ورائكم أيام الصبر، الصابر فيهن كالقابض على الجمر، للعامل فيها أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله أجر خمسين منهم أو خمسين منّا ؟ قال: خمسين منكم " ، وكما في حديث سمرة بن جندب قال: " كان يأمرنا إذا فزعنا بالصبر والجماعة والسكينة".
وبالصبر يظهر الفرق بين ذوي العزائم والهمم وبين ذوي الجبن والضعف ولذلك وَعَى السلف الصالح أهمية الصبر عند وقوع الفتن والحوادث وإليك نماذج مْن سيرتهم.(/3)
1- لما كان الصحابة رضي الله عنهم يعذبون ويفُتنون في صدر الإسلام بمكة كان يمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم ويذكرهم بالصبر ومنهم آل ياسر فإذا مر بهم قال: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة.
2- عن الزبير بن عدي قال: دخلنا على أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج، فقال: اصبروا، لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعت هذا من نبيكم.
3- قال النعمان بن بشير:" إنه لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتن فأعدوا للبلاء صبراً "
4- عندما واجه إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل الفتنة العمياء بخلق القرآن في أيام المأمون ثم المعتصم ثم الواثق وما أصابه من الحبس الطويل والضرب الشديد فصبر وتمسك بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم حتى نصره الله وفرَّج عنه الغمة.
تاسعاً:الحذر من الإشاعات:
لا شك أنه في وقت الفتن تنشط الدعاية وتكثر الإِثارة وهنا يأتي دور الإِشاعة.ومن المعلوم أن التثبت مطلب شرعي لقوله تعالى: ( يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبا فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) ويقول عليه الصلاة والسلام: " كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع" ، ولذلك حرص سلفنا الصالح على التثبت والحذر من الإشاعات ، قال عمر رضي الله عنه:" إياكم والفتن فإن وقع اللسان فيها مثل وقع السيف".
ولقد سطَّر التاريخ خطر الإِشاعة إذا دبت في الأمة وإليك أمثلة من ذلك:
1. لما هاجر الصحابة من مكة إلى الحبشة وكانوا في أمان، أُشيع أن كفار قريش في مكة أسلموا فخرج بعض الصحابة من الحبشة وتكبدوا عناء الطريق حتى وصلوا إلى مكة ووجدوا الخبر غير صحيح ولاقوا من صناديد قريش التعذيب وكل ذلك بسبب الإِشاعة.
2. في غزوة أحد لما قتل مصعب بن عمير أشيع أنه الرسول صلى الله عليه وسلم،وقيل قتل رسول الله فانكفأ جيش الإِسلام بسبب الإِشاعة.
3. إشاعة حادثة الإِفك التي اتهمت فيها عائشة البريئة الطاهرة بالفاحشة وما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه من البلاء، وكل ذلك بسبب الإِشاعة.
عاشراً: البعد عن مواطن الفتن:
فالبعد عن الفتن واجتنابها وعدم التعرض لها وعدم الخوض فيها مطلب شرعي في زمن الفتنة ، عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم أو بما معناه أنها ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي فيها والماشي فيها خير من الساعي إليها ، قال النووي رحمه الله تعالى:" معناه: بيان عظيم خطرها والحث على تجنبها والهرب منها ومن التشبث في شيء منها وأن شرها وفتنتها يكون على حسب التعلق بها".
ولقد حرص سلفنا الصالح عن البعد عن مواطن الفتن وإليك نماذج من ذلك:
1. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: " لا تقربوا الفتنة إذا حميت ولا تعرضوا لها إذا عرضت واضربوا أهلها إذا أقبلت ".
2. قال محمد بن الحنفية: اتقوا هذه الفتن فإنها لا يستشرف لها أحد إلا استبقته".
3. عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبي موسى أنه لقيه فذكر الفتنة فقال: " إن هذه الفتنة حيصة من حيصات الفتن من أشرف لها أشرفت له ومن ماج لها ماجت له".
الحادي عشر: لزوم الإنصاف والعدل في الأمر كله:
فإن من أقوى أسباب الاختلاف بين العباد وخصوصاً زمن الفتن فقدان العدل والإنصاف،ولو جاهد المسلم نفسه لتحقيق صفة العدل مع نفسه ومع الناس فإن كثيراً من المشاكل التي تحصل بين المسلمين سواء منها الفردية أو الجماعية ستزول وتحل بإذن الله تعالى، يقول الله تعالى: ( وإذا قلتم فاعدلواْ ) ، ويقول تعالى ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) ، فلا بد من العدل في الأقوال والأعمال وخصوصاً زمن الفتن، بمعنى أن يأتي الإِنسان بالأمور الحسنة والأمور السيئة ثم يوازن بينهما وبعد ذلك يحكم،لأن في الموازنة عصمة للمسلم من أن ينسب للشرع ما ليس موافقاً لما أمر الله به وبالتالي يكون عدلك وإنصافك في الفتنة منجياً بإذن الله تعالى.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله " فأوصيكم أيها الأخوة بالعدل في الأمور كلها والموازنة بينها ، والحكم للراجح فيها ، والتسوية بينها في الحكم عند التساوي ، وهذه قاعدة كبيرة يجب على العاقل أن يتمشى عليها في سيره إلى الله وفي سيره مع عباد الله ليكون قائماً بالقسط والله يحب المقسطين".
وإليك نموذجاُ من نهج سلفنا الصالح في حرصهم على العدل والإنصاف:(/4)
عن عبد الرحمن بن شماسة قال: أتيت عائشة أسألها عن شيء فقالت: ممن أنت ؟ فقلت رجل من أهل مصر. فقالت: كيف صاحبكم لكم في غزاتكم ؟ فقلت: ما نقمنا منه شيء إن كان ليموت للرجل البعير فيعطيه البعير والعبد فيعطيه العبد ويحتاج إلى النفقة فيعطيها النفقة ، فقالت: أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أن أخبرك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا:"اللهم من ولى من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عيه، ومن ولى من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به " ، قال النووي رحمة الله معلقاً على هذا الحديث:" وفيه أنه ينبغي أن يذكر فضل أهل الفضل ولا يمنع منه سبب عداوة ونحوها ".
الثاني عشر: عدم تطبيق ما جاء من الأحاديث في الفتن على الواقع
مراجعة أحاديث الفتن تكثر في مجالس الناس ومنتدياتهم قولهم، قال رسول الله كذا، وهذا وقتها وهذه هي الفتنة التي أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عنها، ولكن السلف الصالح _ رحمهم الله _ علمونا أن أحاديث الفتن لا تطبق على الفتن في وقتها وإنما يظهر صدق النبي صلى الله عليه وسلم بما أخبر به من حدوث الفتن بعد حدوثها وانقضائها ولكن يحلو للناس تطبيق أحاديث الفتن على أوقات وأشخاص معينين وهذا منهج خاطئ وليس من منهج أهل السنة والجماعة ولكن أهل السنة والجماعة يذكرون أحاديث الفتن محذرين منها، ومباعدين المسلمين من القرب منها ولكي يعتقدوا صحة ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: فإذاً لسنا متعبدين بتطبيق أحاديث الفتن على الواقع ولكن ندع الواقع هو الذي ينطق، فإذا وقع الأمر قلنا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وأما أن يتكلف الإنسان في تأويل النصوص الشرعية من أجل أن تطابق الواقع فهذا لا يصلح وإن صلح للعلماء فلا يصلح لغيرهم.
الثالث عشر: الحذر من تسلل الأعداء بين الصفوف
ازدهرت في زمننا هذا تجارة المنافقين وراجت بضاعتهم، وكثر أتباعهم، فشيدوا مساجد الضرار هنا وهناك وذرفوا دموع التماسيح على الإسلام وأهله، وتظاهروا بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولبسوا للناس جلد الضأن من اللين،ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب.
يقول الله تعالى:"ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على مافي قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد "
وما نجح المنافقون في تحقيق أهدافهم وخططهم وفتكهم بالإسلام والمسلمين ابتداءً من عبد الله بن أبي ومروراً بالزنادقة الباطنيين وانتهاء بزنادقة عصرنا هذا، إلا بسبب قلة الوعي عند معظم المسلمين. والواجب على كل مسلم قادر أن يهتك أستار المنافقين ويكشف أسرارهم ويفضح أساليبهم وأوكارهم حتى لا تكون فتنة في الأرض وفساد كبير،وأسوتنا في عملنا هذا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونهج سلف هذه الأمة في معرفة المنافقين وكيفية التعامل معهم. وكم قاست الأمة المسلمة عبر التاريخ من نكبات ونكسات بسبب مكر دعاة الشر ممن يريدون فتنة المؤمنين عن دينهم وأخلاقهم وإحداث القلاقل والفوضى.
الرابع عشر: التعوذ بالله من الفتن:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله كثيراً من الفتن كما في حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه ولم قال:" تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن "، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فذكر الحديث وفيه قوله تعالى " يا محمد إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني وتتوب علي، وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ".
وما كان النبي يتعوذ من الفتن لأنها إذا أتت لا تصيب الظالم وحده وإنما تصيب الجميع. وإليك نموذجاً من سيرة السلف الصالح في تعوذهم من الفتن:
عن عبد الله بن عامر قال: لما تشعب الناس في الطعن على عثمان قام أبي يصلي من الليل ثم نام، قال: فقيل له: قم فاسأل الله أن يعيذك من الفتنة التي أعاذ منها عباده الصالحين. قال: فقام فمرض فمارؤي خارجاً حتى مات.
هذا ونسأل الله تعالى أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن،وأن يعصمنا من شرور المحن، ويميتنا على السنن. كم أسأله سبحانه أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم إنه ولي ذلك والقادر عليه والله أعلم وصلى الله نبينا محمد وعل آله وصحبه أجمعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين(/5)
العواطف الإنسانية
عبدالرحمن بن فؤاد الجار الله
الحمد لله ألّف بين قلوب المؤمنين فأصبحوا بنعمته إخواناً، و نزع الغلَّ من صدورهم فكانوا في الدنيا أصحاباً و في الآخرة خلاناً، أحمده سبحانه و أشكره، و أتوب إليه و استغفره، و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تبلغني لديه زلفى و رضواناً وأشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبده و رسوله تصديقاً به و إيماناً - صلى الله عليه وسلم - و على آله و أصحابه و أتباعه على دينه قولاً و عملاً و عدلاً و إحساناً أما بعد:
كان أصل هذا الموضوع بحثاً لأخي الفاضل:أبي عبدالله القرعاوي وفقه الله ,لكني وبعد إذنه قمت بمراجعته والإضافة والتعليق عليه في عدة مواضع تعليقات قد تكون نافعة_بإذن الله_ حسب اجتهادي القاصر فأسأل الله أن يحسن لنا القصد والعمل إنه جواد كريم..وبعد:
فإن الحب والوفاء والود والإخاء حقيقة وجدانية، بل أمرٌ فطري جبلت عليه النفوس البشرية لا بل هو من الإيمان إن كان خالصاً للرحمن، فالأخوة الحقَّة والمحبة الصادقة تولّد في النفس أصدق العواطف النبيلة وأخلص المشاعر الصادقة بلا تلفيق اعتذارات ولا تنميق عبارات بل صدقٌ في الحديث والمعاملة والنصح، يمسك الأخ بيد أخيه في رفق وحُنوٍ وشفقة، بِرٌ وصلة ووفاء، إيثار وعون في الشدة والرخاء فلا ينساه من الدعاء وكل ذلك دون تكلف أو شعور بالمشقة والعناء بل في أريحية وحسن أداء وطلب الأجر من رب الأرض والسماء، أَيدٍ تتصافح وقلوبٌ تتآلف، أرواحٌ تتفادى ورؤوسٌ تتعانق وحقيقة الأخوة في الله لا تزيد بالبر ولا تنقص بالجفاء قال - صلى الله عليه وسلم - : " ثلاثٌ من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان _ وذكر منهن _ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله"،(رواه البخاري) والإنسان بلا ذلك كله جلمود صخر لا يستطيع الحياة مع الناس ومخالطتهم ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم . والناس فيه – أي الحب – بين إفراط وتفريط واعتدال. فحقيقة الحب في الله أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء كما قال يحيى بن معاذ رحمه الله، والحب في الله من المفاهيم المركزية التي قام عليها الإسلام منذ مرحلة تأسيسه فصبغ كل تعاليمه وتوّجها بعاطفة الحب التي هي المحرك الفاعل فيها. بل إن الحب في الله لونٌ من ألوان العبادة المأمور بها شرعاً في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
فضل الحب في الله:
[ أن المحبة في الله سبب لمحبة الله للعبد، أن الله يظل المتحابين فيه في ظله يوم لا ظل إلا ظله، أن الحب في الله والبغض في الله دليل على كمال إيمان العبد، أن الحب في الله سببٌ لذوق حلاوة الإيمان وطعمه، أن المرء بمحبته لأهل الخير يلتحق بهم، أن الله يكرم من أحب عبداً لله، أن المتحابين في الله على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء ].
الوسائل الجالبة للمحبة في الله بين المؤمنين:
[ إخبار من تحب أنك تحبه في الله، إفشاء السلام، الهدية، تخوُّل الزيارة، القصد في الحب والبغض، الحرص على الطاعة وترك المعصية، أن تكون المحبة مقرونة بالإيمان، سلامة الصدر واتساعه عند اختلاف وجهات النظر وعدم الحسد وتمني الخير له والعمل على تأمينه له، أن تكون المحبة خالصة لا يشوبها مصلحة ذاتية ولا منفعة شخصية، حسن الظن والإغضاء عن الهفوات وتقبل النصيحة والتواصي بها، صيانة عرض المسلم، حفظ العهد والدعاء له ولأهله حاضراً أو غائباً حياً أو ميتاً، إظهار الاهتمام به والمشي في حاجته، السؤال عنه، الاجتماع على خير وهدى ].
علامات الحب في الله:
[ الدعاء لمن أحببته بظهر الغيب، مناصحته إذا أخطأ، أن تحب له ما تحب لنفسك، حثُّ من أحببت في الله على فعل الطاعات، احترام من أحببت في الله إن كان كبيراً والعطف عليه إن كان صغيراً، طاعته فيما يدعوه إليه من الخير وترك ما ينهاه عنه من الشر، أن يكون سبب المحبة استقامته وصلاحه ].
أخي الشاب: للحب خمسة أنواع يجب التمييز بينها: ـ
1 ـ محبة الله : وهي لا تكفي للنجاة والفوز بالثواب لوحدها لأن المشركين يحبون الله.
2 ـ محبة ما يحب الله : وهذه التي تدخل للإسلام وتخرج من الكفر وأحب الناس إلى الله أشدهم محبة لما يحبه الله.
3 ـ الحب لله وفيه: وهي من لوازم محبة ما يحبه الله ولا تتم إلا بالحب فيه وله وهي من أعلى المراتب وهي الحب المطلوب.
4 ـ المحبة الطبيعية كحب الوالد والولد والأخوة وكل من وافق طباع الإنسان وهكذا: وهي لا تكون شركية إلا إذا أشغلت عن ذكر الله ومحبته.
5 ـ المحبة مع الله: وهي المحبة الشركية.
وظاهرة الإعجاب والتعلق من المحبة الشركية إذا ألهت عن ذكر الله. فانتبه يا رعاك الله.
أخي الشاب:(/1)
إن المحبة لها آثار وتوابع ولوازم وأحكام سواء كانت محبة محمودة أو مذمومة, نافعة أو ضارة, من الحلاوة والشوق والأُنس والاتصال والقرب والانفصال والبعد والصّد والهجران والفرح والسرور والبهاء والحزن وغير ذلك من لوازمها، فأما المحبة المحمودة هي المحبة النافعة التي تجلب لصاحبها ما ينفعه في دنياه وأخراه وهذه هي عنوان السعادة وتوابعها ولوازمها كلها نافعة له فإن بكى نفعه وإن حزن نفعه وإن فرح نفعه وإن انبسط نفعه وإن انقبض نفعه فهو يتقلب من مزيد إلى ربحٍ في منازل المحبة، أما المحبة المذمومة التي نحن بصددها هي التي تجلب لصاحبها ما يضره في دنياه وأخراه وهي عنوان الشقاوة وتوابعها كلها ضارة مُبعدةٌ عن الله كيفما تقلب في منازلها فهو في خسارةٍ وبُعدٍ.
وهكذا هو الإعجاب الذي هو من الظواهر الخطيرة والفتن الكبيرة التي كثُرت وعظم شأنها. لماذا ؟!
لأننا إذا أحببنا... أحببنا كلفاً... وهذا ليس من الدين ! .
أرى داء خطيراً قد تفشى *** يحار له المفكر والبصير
ألمّ ببعض أفكار الحيارى*** وأرداهم إلى أمر خطير
فعوداً للرشاد بلا تمادي *** فقد جاء المحذر والنذير
فالإعجاب أو ما يسمى بالعشق والتعلق وهو:الإفراط في المحبة, تتركز فتنته ـ غالباً ـ على الشكل والصورة, أو انجذاب مجهول السبب, لكنه غير متقيد بالحب لله, ويدعى بعضهم أنها صداقة وهي ليست كذلك؛ لأنها صداقة فاسدة لفساد أساس الحب فيها بعدم انضباطها بضوابط الشرع. والعشق رغم سهولة بداياته إلا أن نهايته انتكاس للعاشق, وخروج عن حدود الشرع, ولهذا كان بعض السلف يستعيذ بالله من العشق, فهو إفراط في الحب في أوله, وهو عبودية للمعشوق في نهايته, تضيع معها عبودية العبد لله, ولهذا يجعلون الحب مراتب: أوله:العلاقة, ثم الصبابة, ثم الغرام, ثم العشق, وآخر ذلك التتيم وهو التعبد للمعشوق, فيصير العاشق عبداً لمعشوقه, وإن سقوط الشاب في شباك العشق لهو من أخطر الأمور, إذ أن الهوى من صفاته أنه يهوي بصاحبه, وإذا ما استحكم في القلب سيطر على العقل والفكر, وهنا يقع الإنسان في عبودية هواه:"أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا".
أخي الشاب:
الأصل في العملية التربوية أنَّ الفرد الذي يُدعى يجب أن تتركز الجهود التربوية في تربيته بتوثيق صلته برب العالمين، وأن تكون صلته القوية بالله تعالى وبمنهجه القويم، وألا يتعلق بالبشر؛ لأنَّ البشر من الممكن أن يتغيروا، ولكن الله الحي الذي لا يموت يُغيِّر ولا يتغيَّر كما قال سبحانه:" كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ".
وإنَّ مشكلة التعلق بالأشخاص لها سلبيات منها: أن الفرد يتغير بتغير المتعلق به.
ولذلك جاء القرآن ليقرر هذه الحقيقة الأولية حقيقة التعلق بالمنهج ونبذ التعلق بالأشخاص ولو كانوا رسلاً. ففي سورة آل عمران وهو يتحدث عن غزوة أحد يقول سبحانه:" وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ " يقول أحد الباحثين: « وكأنما أراد الله سبحانه بهذه الحادثة وبهذه الآية أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حيٌّ بينهم، وأن يصلهم مباشرة بالنبع, النبع الذي لم يفجِّره محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن جاء فقط ليومئ إليه ، ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق ، كما أومأ إليه من قبله الرسل ، ودعوا القافلة للارتواء منه ؛ وكأنما أراد الله سبحانه أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة ، وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط ، حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة التي لا يخليهم عنها أن يموت الرسول أو يقتل فهم ؛ إنما بايعوا الله ، وهم أمام الله مسؤولون ، وكأنما كان سبحانه يعد الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى حين تقع ، وهو سبحانه يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم ، فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب ، وأن يصلهم به هو وبدعوته الباقية قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول » .(/2)
ويضيف قائلاً: « والمسلم الذي يحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيراً ، الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة وقد رأينا أبا دجانة يُترِّسُ عليه بظهره والنبل يقع عليه ولا يتحرك ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون واحداً إثر واحد ، وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم وبكل مشاعرهم حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره - صلى الله عليه وسلم - ، هذا المسلم الذي يحب محمداً ذلك الحب مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد - صلى الله عليه وسلم - والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت إنَّ الدعوة أقدم من الداعية » .
وكما كان القرآن يربي الصحابة والأمة من بعدهم على التعلق بالمنهج وذم التعلق بالأشخاص، كذلك كان - صلى الله عليه وسلم - هذا منهجه، ومنهج كل من دعا إلى الله على بصيرة، وإليك بعض النماذج:
1 ـ عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعَظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وَجِلَتْ منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله ! كأنها موعظة مودعٍ، فأوصنا ! قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، وإنَّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كل بدعة ضلالة». الشاهد قوله : « كأنها موعظة مودع » ، « فعليكم بسنتي » فربما كان قد وقع منه - صلى الله عليه وسلم - وسلم تعريض في تلك الخطبة بالتوديع،وأنه مغادر الحياة ، فأوصاهم بالتعلق بسنته بعده ، وقول الصحابة : « فأوصنا » فيه أنهم لما فهموا أنه مودع استوصوه وصية ينفعهم التمسك بها بعده .
2 ـ في حديث جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: « لتأخذوا عني مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا.. ». فأوصاهم بأخذ سنته وأتباع هديه الذي هو الدين الذي بلغه عن ربه؛ ففيه تعليق الصحابة بمنهج الله، وتربيتهم على ذلك وهو حيٌّ بين أيديهم.
3 ـ جمعه الناسَ بماء بين مكة و المدينة يسمَّى خُمّاً، وخطبهم فقال: « يا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب », ثم حض على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته . الشاهد تعريضه بأنه مغادر الحياة، وحضه بالتمسك بكتاب الله وبمنهج الله.
4 ـ خرج الإمام أحمد أيضاً عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً كالمودع فقال: « أنا محمد النبي الأمي قال ذلك ثلاث مرات ولا نبي بعدي؛ أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه، وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش، وتُجُوِّز بي، وعوفيت وعوفيت أمتي؛ فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم؛ فإذا ذُهِبَ بي فعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه ». الشاهد قوله: « فإذا ذُهِب بي فعليكم بكتاب الله ». فلم يعلقهم بنفسه الشريفة ولا بذاته إنما علقهم بكتاب الله وبمنهج الله؛ وفي هذا تربيتهم على التعلق بالمنهج.
يتضح مما سبق من هذه الأحاديث كيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوجه الصحابة ويحضهم ويعلقهم بمنهج الله الذي هو الكتاب والسنة ولم يكن يعلقهم بشخصه وذاته ، وكان يربيهم على هذه الحقيقة الأولية وهو بين ظهرانيهم ، ويركز عليها ويذكرهم بها في أكثر من موقف كما سبق ؛ وما ذاك إلا لأهمية هذه الحقيقة التي ربما يغفل عنها الناس ؛ فكان الواجب تذكيرهم والتركيز عليها ، و أيضاً لقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يربي بعضهم بعضاً ، ولا غرابة في ذلك ؛ فقد رباهم - صلى الله عليه وسلم - على ذلك من قبل ، ويذكِّر بعضهم بعضاً بهذه الحقيقة المهمة حقيقة التعلق بالمنهج ونبذ التعلق بالأشخاص؛فمتى جنحت العاطفة نحو الأشخاص ضعفت النفوس وتقهقرت .
ويظهر ذلك فيما يلي:(/3)
1 ـ قال الزهري: حدثني أبو سلمة عن ابن عباس - رضي الله عنه - : « أن أبا بكر - رضي الله عنه - خرج وعمرُ - رضي الله عنه - يكلم الناس ، وقال : اجلس يا عمر . قال أبو بكر - رضي الله عنه - : أما بعد : فمن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت . قال الله تعالى:" وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ".قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر - رضي الله عنه - ، فتلاها منه الناس كلهم ؛ فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها» ، وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر - رضي الله عنه - قال : « والله ! ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرقتُ حتى ما تقلني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض ».
2 ـ قال ابن أبي نجيح - رضي الله عنه - عن أبيه - رضي الله عنه - : « إن رجلاً من المهاجرين مرَّ على رجلٍ من الأنصار يتشحط في دمه فقال له : يا فلان ، هل شعرت أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد قتل ؟ وكان ذلك في أُحدٍ, فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلَّغ. فقاتلوا عن دينكم ».
3 ـ في غزوة أُحدٍ لمّا انهزم الناس لم ينهزم أنس بن النضر - رضي الله عنه - وقد انتهى إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - و طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا بأيديهم ، فقال : ما يجلسكم ؟ فقالوا: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: ما تصنعون بالحياة بعده ؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم استقبل المشركين ولقي سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال: يا سعد، واهاً لريح الجنة إني أجدها من دون أُحد، فقاتل حتى قتل، ووُجِد به بضع وسبعون ضربة، ولم تعرفه إلا أخته ببنانه.
إنه من واجب المربين ومن هم في موضع القدوة أن يربوا أتباعهم على التعلق بالله وعدم التعلق بالأفراد.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن ادَّعى الحب في الله في مثل هذا فقد كَذَبَ، إنما هذا حبُ هوىً وشهوة.
مظاهر الإسراف في العواطف الإنسانية: ـ
وهذه المظاهر على نوعين: النوع الأول: مظاهر قلبية داخلية. النوع الثاني: مظاهر سلوكية خارجية.
النوع الأول: المظاهر القلبية:
فهي داخلية تختص بالقلب وأعماله فإذا ظهرت هذه المظاهر لواحد منا فليعلم أنه أسرف في عواطفه ووضعها في غير موضعها.
ومن هذه المظاهر: ـ
1 ـ انشغال القلب وكثرة التفكير به وبما يصده عن ذكر الله..وهو تعلق القلب بالمعشوق, فلا يفكر إلا في محبوبه, ولا يتكلم إلا فيه,ولايقوم إلا بخدمته , ولا يحب إلا ما يحب , ويكثر مجالسته والحديث معه الأوقات الطويلة من غير فائدة ولا مصلحة. وتبادل الرسائل ووضع الرسومات والكتابات عنه وعن الحب في الدفاتر وفي كل مكان..., ويقوم بالدفاع عنه بالكلام وغيره, ويغار عليه, ويغضب إذا تكلم مع غيره أو جلس معه, ويشاكله في اللباس وتسريحة الشعر, وهيئة المشي والكلام.
ومن أحب شيئاً استلزم هذا الحب ثلاثة أمور:
(1) المحبة والرجاء الدائم. (2) الخوف من فواته وفراقه.(3) السعي في كسب رضاه بقدر الإمكان .
فهو في ذلك ما بين الخوف المقلق والحب المزعج.. فينشغل به حتى في صلاته وسائر عباداته.. واستمع معي إلى ما يقوله ابن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان:"فلو خير بين رضاه ورضى الله لاختار رضا معشوقه على رضا ربه, ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه, وتمنيه لقربه أعظم من تمنيه لقرب ربه وهربه من سخطه عليه أشد من هربه من سخط ربه بمرضاة معشوقه, ويقدم مصالح معشوقه وحوائجه على حاجة ربه".وقال: "فلمعشوقه لُبُّهُ وقلبه وخالص ماله وربه على الفضلةِ, قد اتخذه وراءه ظهرياً وصار لذكره نسيّاً ووجه قلبه للمعشوق.. ينفرُ من خدمة ربه حتى كأنه واقفٌ في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه وكلفه لفعلها.. فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه فرحاً بها ناصحاً له فيها خفيفةً على قلبه لا يستثقلها ولا يستطيلها".
2 ـ احتراق القلب بالغيرة: لماذا يتحدث مع غيري ؟ .. لماذا يحب غيري ؟ .. فالغيرة تحرق القلب وهكذا يكون قلب من وقع في مثل هذه الأمور فيحاول أن يبذل له الأكثر حتى يجذبه إليه أكثر من غيره.. هو صامت لكن لسان حاله يقول: أنت لي وحدي ولست لغيري.
3 ـ التنافس الغير محمود بين شخصين على أحد الأشخاص فيحاول كل منهما أن يقدم له الأحسن ويلبي طلباته.. منافسة مع أخيه فيتولد بينه وبين أخوه صراع من أجل هذا المحبوب.(/4)
أخي الحبيب: هناك تنافس محمود ومطلوب منا جميعاً ألا وهو التنافس في طاعة الله وخدمة المحتاجين والمبادرة إلى ذلك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.. أما التنافس والصراع من أجل كسب محبة وقلب زميل.. فقد أنسى صاحبه حظه من التجارة الرابحة وانشغل بتجارة خاسرة.. وكفى بهذا العذاب وهذا الهوان " أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ".
4 ـ المعاداة والموالاة ليس في الله وإنما في هذا المحبوب: فيعادي من يعادي محبوبه ويحب من يحب.. فهو يكره فلان من الناس فقط لأنه يكرهه!.
يقول أحد الإخوة: كنت مع صديق لي وكان يكره واحداً فكان يسبه ويذكر مساوئه حتى كرهته كرهاً شديداً ـ فقط لمجرد ذكر صديقي له ـ وأنا لا أعرفه ولم أره من قبل وبعد رؤيتي له وجلوسي معه تعجبت وبانَ لي عكس ما كنت أظنه به وعرفت أني ظلمته فذهبت إليه واعتذرت منه وأخبرته أني كنت سابقاً أكرهه وأتحدث به في المجالس.
أخي: لابد أن تكون عقيدتك سليمة في الولاء والبراء..فأنت تعادي وتوالي في الله وليس في فلان أو فلان من الناس.
النوع الثاني من المظاهر: المظاهر السلوكية: وهي ما يظهر للعَيانِ وما يظهر على الجوارح والتصرفات ومنها: ـ
1 ـ النظرات الغريبة والمائعة ـ من غمز ونظرات مخجلة ـ وبعض الحركات المريبة واللمسات: كوضع اليد على الخاصرة والتقارب بالأجساد عند الجلوس أو الوقوف وكوضع الرأس على الكتف، ولمس الشعر، ومسك الخاصرة، والضغط على اليد، وقد تصل في بعض الحالات إلى التقبيل والاحتضان.. فلماذا كل هذه الحركات ؟ نعم, إنها علاقة محبة زيادة على اللازم.. تدل على الإفراط في العواطف، فالمداومة على تلك النظرات والحركات واللمسات مظهر سلوكي من مظاهر الإصابة بهذا الداء.
2 ـ الرسائل المعطرة بالكلمات المفعمة بالحب والألفاظ الساقطة.
3 ـ التجمل والتزين للمحبوب: والإفراط في ذلك وهذا يدل على الانفلات والإغراق في المسائل العاطفية.
4 ـ الانبساط الزائد عند وجود من يحب: وكثرة الحديث والمزاح والأنس والسرور والفرح.. فنجد بعض الإخوة لا يأنس في مجلسٍ ولا قاعةٍ ولا حلقةِ علمٍ ولا في حديثٍِ إلا إذا كان ذلك المحبوب موجوداً في ذلك المجلس فإذا كان معه في المجلس فلا يضيره ما فقد.
5 ـ الإحساس بالضيق في المكان الواسع عند فقد من يحب: فيتبرم ولا يعجب بشيء ويستثقل الناس ويضيق بهم.. وأحياناً يكون في مجلس فيه خيرٍ ووعظٍ أو حديثٍ مفيدٍ ولكنه لا يلتفت إلى ذلك كله إن غاب عنها من يحب.
6 ـ إلانة الكلام وترقيق الصوت والخضوع بالقول والتلفظ ببعض الألفاظ التي تنم عن الميوعةِ والتكسر.. كل ذلك في وجود من يحب وعند محادثته.. أما مع بقية الناس فهو يتحدث بحريةٍ بعيداً عن ذلك كله.
7 ـ الرغبة الشديدة في العزلة عن الآخرين مع المعشوق ولو طالت الساعات
- والإعجاب المذموم بالمربي والموجه، له مظاهر سلوكية كثيرة منها:
8 ـ الطاعة المفرطة ـ الطاعة العمياء للمربي في خطئه: نعم تقول: أنا خدوم وأخدم المسلمين ولكن لماذا فلان دون الناس جميعاً؟ والأعمال بالنيات وصدق من قال :
إن هواك الذي بقلبي *** صيرني سامعاً مطيعاً
9 ـ ترك الواجبات من أجل هذا المحبوب ـ تقديم مصالح مربيه الدنيوية على مصالح والديه وأهل بيته ـ: كترك الدروس والخروج معه أو ترك الأعمال المنزلية من أجل الحديث الطويل معه على الهاتف وغيرها من الواجبات المضيعة.
أخي: لا شك أن الشعور والاهتمام بإحساس إخوانك مطلوب لكن لا تُفرِّط فلا تترك الواجب لأقل منه.
10 ـ ترك الالتزام بعد موت المربي أو سفره أو سجنه أو غيابه.
11 ـ ترك العمل لهذا الدين بابتعاد المربي عنه.
12 ـ عدم الصبر على مفارقته.
13 ـ مقابلة أقوال المربي غير الصائبة بأقوال من تأخذُ الأمة الفتوى عنهم.
14 ـ التساهل في الكثير من الأخطاء, بحجةِ أن المربي يعملها.
15 ـ تعظيم المربي ومدحه وإطراؤه والثناء عليه إلى درجة الغلو.
16 ـ التسويغُ الكثير لأخطاء المربي، وعدم قبول أن المربي قد يخطئ بل يُجعل دائماً هو المصيب بلسانِ الحال أو المقال.
17 ـ عدم مناقشة المربي في بعض القضايا التربوية التي لم يفهمها المتربي بحجة أن مربيه قد يغضب عليه عندما يناقشه.
18 ـ عدم الوضوح في كثيرٍ من قضاياه وأموره بحجة أن المربي ربما يتغير تجاهه.
19 ـ التخفي في عمل بعض الأمور التي لا تنبغي فضلاً عن المعاصي بحجة أن المربي يغضب عليه وتتغير نظرته له.
20ـ التحرج من أن يعرف المربي أموره الخاصة حتى لا تتغير نظرته له, وكذلك العكس ربما يريد أن يعرف المربي كل أسراره وأعماله.
21 ـ نصرة مربيه عند الآخرين حتى في خطئه.
22 ـ تقليد المربي في بعض الصفات المذمومة ( عشوائية, تهور, عجلة, فوضوية ).(/5)
23 ـ الانصدام بواقع المربي إذا حصل منه خطأ مما يسبب له النكوص، فيجعل زلة المربي سبباً في الابتعاد عن الحق، وكان الإمام سفيان بن عيينة يطلق على مثل هؤلاء الذين يجعلون زلات القدوات والمربين سبباً للابتعاد عن الحق صفة: ( الحماقة ) فقد لاحظ أحدهم منه خشونة وشدة على طلبته فتجرأ وسأله: « إن قوماً يأتونك من أقطار الأرض، تغضب عليهم، يوشك أن يذهبوا ويتركوك » فرد عليه:«هم حمقى إذن مثلك أن يتركوا ما ينفعهم لسوء خلقي ». فأراد سفيان أن يفهم السائل القاعدة التي هي: ( التعلق بالحق وترك التعلق بالأفراد)، فالمربي والقدوة لا يعني أنه هو الحق وهو الدعوة، وفرق أن يوجد عيب أو زلل في المربي أو أن يوجد الزلل والخطأ في الحق .
أخي الشاب : إن هناك أسباباً دعت لوجود تلك العواطف والعلاقات في حياتنا ... فمن هذه الأسباب:
1 ـ ضعف الإيمان, وخلو القلب من حب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - , فإن العشق يتمكن من القلب الفارغ فيقوم فيه, ويعمل بموجب الجوارح,قال صلى الله عليه وسلم:"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما , وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله , وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار".
2 ـ غياب الاهتمامات الصحيحة. أخي: أين الاهتمام بأمور الدعوة ؟ أين الاهتمام بالأوضاع التي نعيشها في كل البلاد ؟ أين الاهتمام بالعلم الشرعي ؟ أين الاهتمام بأحوال الأمة الإسلامية ؟ أين الاهتمام بهذه الأمور ؟ .. إننا لا نجده إلا عند فئة من الإخوة أما من غابت عنه هذه الاهتمامات فإنه يشغل نفسه بمثل هذه العلاقات والعواطف.
3 ـ الغناء: فالكلمة البذيئة.. والآلة السمعية دعاية إلى الزنا ولخلق مثل هذه العواطف المنحرفة.. فكل غناء اليوم هو اشتياق وتلهف إلى لقاء المحبوب.. وكلها كلمات يأنف من سماعها أهل الكرم والمروءة والمودة ونقاء السريرة.
4ـ ما ينقل إلينا عبر وسائل الإعلام المختلفة ـ الإعلام الماجن الساقط المعادي لأمة الإسلام ـ: ولا شك أنهم بذلك يهدفون إلى الإفساد، يقولون أنه لابد أن يكون لك علاقة جميلة..!! فالحب هو الحياة.. ولا حياة بدون الحب.. هكذا زرعوا في عقل الشاب المسلم...
فوسائل الإعلام تمارس دوراً مهماً في تغذية عقل الشاب بهذه الأفكار.. فنحن نرى أنه لا يكاد يخلو مسلسلٌ ولا فيلم من هذه الفكرة.. ومن وجود قصة حبٍ مصطنعة..فهي تبث القصص والحكايات عن العشاق والمعجبين, وتزين ذلك في عيون الناس, وأن الحب والعشق أصبح من ضروريات الحياة, وتمجد الشواذ, وقد تعمل لهم مقابلات وندوات تبين طبيعة الأمر, كذلك القصص والروايات التي تباع في كل مكان وغالبها روايات وقصص تتعلق بالغرام والعشقِ.. حتى في برامج الأطفال.. فوصلوا بها إلى حد الحب وكذلك برامج الحيوانات.. فكثير من أفلام الحيوانات التي تقدم إلى الأطفال لابد من وجود قصص الحب هذه في مشاهدها.. وحتى وصل بهم الحد أن قالوا: ( هل من الممكن أن نكتب رواية بدون أن يكون فيها حب ؟!)... فيتأثر الشباب بما يعرض لهم سواء في مجلات أو قنوات أو غيرها... ولا شك إخوتي إن كثرة الضغط على هذه الأمور تجعل الإنسان يسعى لتطبيقها.
5 ـ انحرافُ المقاصد والنيِّات: فقد يكون القصد بداية نبيلة والغاية عالية.. وبعد فترة تنحرف هذه الغاية وهذا القصد إلى أمورٍ ومقاصدَ أخرى:
أ ـ فقد يكون القصد الأخوة في الله وبعد ذلك تتحول إلى قصد آخر فنلاحظ أنه مثلاً لا يريده أن يتحدث مع غيره، ولا يمزح مع غيره ولا ينظر إلى غيره ولا يهتم بأحد سواه، وقد يصل الأمر أنه عندما يرى منه جفاءًا في يومٍ من الأيام أو عدم اهتمام أو تصرف لا يعجبه يؤدي ذلك إلى نقص في الأخوة وخلل فيها. . ولتعلم أخي أنها ليست أخوة حقة.. أخي:الأخوة من أسمى الدرجات فلا تنزلها لأقلها ولتعلم أيضاً أن العلماء أجمعوا على ضابط الأخوة الحقة وهو: أن الحب في الله [ لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء ].
ب ـ ومن المقاصد النبيلة الدعوة إلى الله لكن قد يصحبها أخطاء كثيرة فنرى مثلاً أن الداعي ـ المعجب ـ يجلس مع المدعو لأوقات طويلة جداً وكل هذا الوقت للأسف يذهب في الأحاديث الغير مفيدة والسؤال عن الأحوال وقليلاً ما يخرج منها كلمة دعوةٍ أو توجيهٍ أو نصحٍ بل نجد أن غالب الكلام مجاملات.
أخي: الدعوة ليست شمّاعة نلقي عليها أخطاءنا.. الدعوة لا تتطلب طول الجلوس ومجاملات بقدر ما تحتاج إلى الإخلاص لله تعالى لنيل رضاه.. ومن الملاحظ أن الدعوة التي حدث فيها أخطاء من طول الجلوس بغير فائدة ومجاملات لم ينتج عنها إلا القليل القليل.. ومن ناحية أخرى نجد أن الداعي يتنازل عن أشياء كثيرة, مثل: الخروج من المحاضرات لأجله, و بعض الحركات الغير لائقة ولا بأس بها من وجهة نظره .
أخي: نحن لا نُنكرُ أن الدعوة لابد أن يكون بها اللين والرفق والسهولة ولكن لا يعني ذلك التنازل والخَوَر، فهل نتجه إلى المفضول وندع الفاضل ؟(/6)
ج ـ احترام الأستاذ وتقدير المربي.. أخي لاشك أن الأستاذ والمربي قدوة لكن لا يعني ذلك التعلق المذموم به بحيث تكثر التفكير فيه والاهتمام به ومراقبته بكل وقت وخلق المناسبات لمقابلته. نعم الاحترام والتقدير مطلوب ولكن المفروض أن لا يتعدى حدوده.
6ـ الفراغ ـ الفراغ العاطفي الذي يعيشه الشاب ـ: الوقت هو عمري وعمرك.. هو الحياة.. والشباب هو زهرة عمر الإنسان وعين حياته.. فالخاسر منا من ضيع هذا العمر فيما لا طائل فيه، فإن الوقت إذا لم يشغل بالطاعة أشغل بالمعصية, والشخص الفارغ يكثر التفكير والخواطر, فيوسوس له الشيطان ويغرس المعصية في قلبه.
قال الشاعر:
دقات قلب المرء قائلة له *** إن الحياة دقائق وثواني
وقال الشاعر :
لقد هاج الفراغ عليَّ شُغلاً *** وأسباب البلاء من الفراغ
فحينما يخلو الشخص من شواغل يقضي به وقته فإنه يحيي أيامه بالأحداث وتذكرها، فيقلب الحوادث ويعيدها في ذهنه ففي ذلك اليوم كتب كذا.. وقلت كذا.. وقال كذا.. وحدث كذا.. والسبب الفراغ فلا سماع للأشرطة ولا قراءة للكتب ولا حمل لهمِّ الدعوة ولا طلب للعلم.. فالنفس إذا لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية.
7 ـ الهموم الأسرية: فمنها فقدان الحنان أو الإحساس بالإهمال وعدم الاهتمام فيبحث الابن عمن يجد عنده ما فقده في البيت, وخاصة أولئك الذين يعانون نقصاً في المحبة, ويعيشون الحرمان, فهم يستسلمون بسرعة إلى ما يظهره الآخرين من عشق ومحبة, هذا الحرمان يكون سبباً في سرعة انخداعهم ووقوعهم في وحل العشق الشيطاني.. وأحياناً تنتج هذه العلاقات نتيجة للاهتمام الزائد من الأسرة... فيلجأ لمثل هذه العلاقات حتى يستمر الاهتمام حتى خارج المنزل لاعتياده عليه... فيلجأ إلى هذه العواطف الحميمة "الإعجاب".
وأود أن أنوه بأن هذه ليست قاعدة أساسية.. وليس شرطاً في أن الهموم الأسرية تسبب هذه العلاقات لأننا نرى كثيراً من الإخوة يحملون هموماً كبيرةً وعظيمةً.. ومع ذلك فهو قمة في التعامل والأخلاق والدين بالرغم من همومهم.
8 ـ الجهل وقلة الوعي في هذه الأمور وعدم الفهم الصحيح لمعنى الحب في الله والخلط بين الحب في الله وبين التعلق بالأشخاص.. فلا يعرف أين موقع العاطفة ولا مكانها ولا أين يصرفها.. وجهله أيضاً بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
9 ـ الشفافية في العواطف وشدة الحساسية: لماذا تقول كذا ؟ .. لماذا فعلت كذا ؟ .. وكلها قد تدخل في الأنانية وحض النفس.. فينبغي علينا أن نوطِّن أنفسنا على حسن التعامل مع الآخرين ونبتعد عن الأنانية التي بسببها وبسبب الشفافية والحساسية الزائدة يستمر العتاب.. وكثرة العتاب داعية إلى الملل..كما قال ابن خارجة وقال الأصفهاني:" من عاتب على كل ذنب أخاه فخليق أن يمله ويقلاه ".
فالنفس تدعو الإنسان لأشياء كثيرة.. فلا تدخل نفسك الأنا وابتعد عن الشفافية في المشاعر ولا تواجه من حولك بالكلمات القاسية لأسباب بسيطة باسم ـ الصراحة ـ لأن في ذلك إشباع لحظ النفس ـ الأنا ـ.(الأنا:الأنانية)
10 ـ حُبُّ المظاهر والتجمل الزائد عن حد المعقول حتى أصبحت هذه الأمور هي هاجس الأخ ومن أهم الأمور التي تشغل تفكيره وجميع جوارحه.. والتجمل الزائد يؤدي إلى الافتتان وانطلاق كلمات المجاملة من هنا وهناك مما يؤدي إلى المبالغة أكثر وأكثر وهكذا..فيلفت القلوب والأنظار إليه مما يؤدي إلى الإعجاب ومن ثَمَّ إلى العشق.
11 ـ كثرة الجلسات غير الهادفة والمبنية على تجانس الطبع.
12 ـ فقدان القدوة منذ النشأة الأولى. فعدم وجود القدوة الصالحة التي توجه عواطف الشاب إلى ما ينبغي حبه, كحب الله عز وجل ورسوله, والصالحين من الصحابة - رضي الله عنهم - والعلماء.
13 ـ الخلل في عملية تقييم الأفراد.
14 ـ ضعف الهمة وعدم علوها عند بعض الشباب.
15 ـ إهمال جانب التربية الذاتية وتغليب جانب التربية الجماعية على الفردية.
16 ـ افتقار كثير من الشباب إلى التوجيه والتربية السليمة.
17 ـ الغفلة عن الله والدار الآخرة.
18 ـ الإفراط في النظر في جميع الوجوه وشدة التأمل.
19 ـ عدم مصارحة الأفراد والمربين الذين يقعون في هذه المشكلة.
- أما عن الأسباب التي قد تؤدي إلى هذا الداء في الأوساط والمؤسسات التربوية, إضافةً إلى ما سبق، فمنها:
20 ـ ضعف شخصية الشاب وهذا ناتج من خلل في تربيته: فلا يستطيع الشاب صاحب الشخصية الضعيفة التحكم بعواطفه ومشاعره, بل تنجرف مع التيار.
21 ـ عدم ربط المتربي بالقدوة المعصوم - صلى الله عليه وسلم - .
22 ـ التسويف في التحذير من خطورة التعلق بالأشخاص بحجة اجتذابه وعدم تنفيره، والزعم أنه في أول الطريق.
23 ـ عدم ربط المتربي بالاتصال بالله والتعلق بدين الله.
24 ـ تغليب جانب العاطفة في التعامل مع المتربي وتحكيمها.
25 ـ عدم التركيز على بعض المفاهيم الدعوية التربوية مثل: ( الفرق بين حب الله وحب الأفراد، وبين الحب في الله والحب مع الله ) .(/7)
26 ـ عدم تحذير المتربين من خطورة التعلق بالأشخاص.
27 ـ عدم انتباه المربي لهذه المشكلة مما يجعل الأمر مستفحلاً.
28 ـ تزيين الشيطان للمربي بأنه مهم وجذاب مما يغبِّش عليه خطورة هذه المشكلة.
29 ـ بروز الصفات الجاذبة عند المربي ( الخطابة, العلم, الذكاء,... ) .
الآثار والنتائج المترتبة على العواطف ـ التعلق ـ: ـ
آثاره تكون من جهتين:
1 ـ آثار من جهة أنه معصية من المعاصي والمعاصي لا شك أن لها آثار وأضرار ونتائج.
2 ـ آثار من جهة أنه التعلق بالأشخاص نفسه, فمنها:
1 ـ الشرك بالله: فلا يجتمع في القلب حب الله وحب غيره لأن من أحب شيئاً وخضع له فقد تعبد قلبه له.. فأصل الشرك بالله الشرك في المحبة قال تعالى: " ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله.. " لذا فإن العاشق لا يجد حلاوة الإيمان التي من شروطها:" أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله". ومن تعلق بغير الله عُذِّب به فمن تعلق بزميل له نجد أنه يكثر الحديث عنه والتفكير به ويتعذب من أجله ولذلك نلاحظ أن أكثر ما يكون في الشعر من البكاء والنحيب والصياح والنياح هو شعر الغزل وأهل العشق يتحدثون بقلوب مجروحة وعيون دامعة..نرى كذلك إخوتي أن بعض المراهقين الذين يتعاطون الحب كلاماً
بألسنتهم وأحاديث في مجالسهم ربما كتبوا بالخطوط العريضة [ الحب عذاب ] وهذا صحيح كما قال العلماء: الحب أوله لعب وأخره عطب.فهي في البداية كلمة أو نظرة ولكنها في النهاية تورد الإنسان موارد الهلاك..
كل محبوبٍ سوى الله فراغ *** وهموم وغموم وأسف
كل محبوب فمنه خلف *** ما خلا الرحمن ما منه خلف
إن للحب دلالات إذا *** ظهرت من صاحب الحب عُرف
همه في الله لا في غيره *** لهِجاً يتلو بآيات الصحف
باشر المحراب يشكو بثه *** وأمام الله مولاه وقف
فأعظم أنواع المحبة محبة الله وهي المحبة الباقية الدائمة ليوم الدين فلو كان حب الله ورسوله يملأ قلبك لملأت الدنيا بالحديث عنه وذكره والتفكير في مخلوقاته وعَدِّ نعمه التي لا تحصى.
يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان: "فأصحاب العشق الشيطاني لهم من تولي الشيطان والإشراك به بقدر ذلك، لما فيهم من الإشراك بالله ولما فاتهم من الإخلاص له ففيهم نصيب من اتخاذ الأنداد ولهذا ترى كثيراً منهم عبداً لذلك المعشوق متيماً به يصرخ في حضوره ومغيبه: أنه عبده فهو أعظم ذكراً له من ربه، حبه في قلبه أعظم من حب الله فيه وكفى به شاهداً بذلك على نفسه " بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره " فلو خُيّر بين رضاه ورضى الله لاختار رضا معشوقه على رضا ربه ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه وتمنيه لقربه أعظم من تمنيه لقرب ربه، وهربه من سخطه عليه أشد من هربه من سخط ربه يُسخط ربه بمرضاة معشوقه ويقدم مصالح معشوقه وحوائجه على طاعة ربه فإن فضل من وقته فضلة وكان عنده قليل من الإيمان صرف تلك الفضلة في طاعة ربه وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه ومصالحه صرف زمانه كله فيها وأهمل أمر الله تعالى يجود لمعشوقه بكل غالٍ ونفيس ويجعل لربه من ماله ـ إن جعل له ـ كل رذيلة وخسيسة...إن قام في خدمته في الصلاة فلسانه يناجي معشوقه, ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق, ينفر من خدمة ربه حتى كأنه واقف في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه وتكلُفه لفعلها, فإذا جاءت خِدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه فرحاً بها ناصحاً له فيها, خفيفةً على قلبه لا يستثقلُها ولايستطيلُها... وأصل ذلك كله من خلو القلب من محبة الله تعالى والإخلاص له والتشريك بينه وبين غيره في المحبة, ومن محبة ما يحب لغير الله, فيقوم ذلك بالقلب ويعمل بموجبه بالجوارح, وهذا هو حقيقة اتباع الهوى".
ولا يأمن العاشق أن يجره ذلك إلى الشرك كما جرَّ ذلك الشاعر الخاسر حين قال:
رضاك أشهى إلى فؤادي *** من رحمةِ الخالقِ الجليل
نعوذ بالله من الخسران المبين, وسبب ذلك خلو القلب مما خلق له من عبادة الله تعالى التي تجمع محبته وتعظيمه والخضوع والذل له والوقوف مع أمره ونهيه ومحابه ومساخطه, فإذا كان في القلب وجدان حلاوة الإيمان وذوق طعمه أغناه ذلك عن محبة الأنداد وتأليهها، وإذا خلا القلب من ذلك احتاج إلى أن يستبدل به ما يهواه ويتخذه إلهه.
2ـ أن ينسلخ القلب من استقباحها: فتصير له عادة فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له ولا كلامهم فيه حتى أنه يفتخر بذلك ويحدث به من لم يكن يعلم أنه عمله ويحدث به إخوانه وزملائه، وهذا الضِربُ من الناس تُسد عليهم طرق التوبة في الغالب، كما قال - صلى الله عليه وسلم - :" كل أمتي معافى إلا المجاهرون " .
3 ـ أنها تورث الذل ولابد للمحبوب: والتنازل له وتفسد عليه عقله وتطفئ نوره وهيبته حتى يغدو ذليلاً حقيراً أمام ربه أولاً ومن ثم أمام الناس.(/8)
4 ـ ذهاب الحياء: الذي هو مادة الحياة للقلب وهو أصل كل خير وذهابه ذهاب كل خيرٍ بأجمعه، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت " ، فإذا لم يكن هناك حياء يبعده عن القبائح فإنه يفعلها .والمقصود أن هذا الأمر يضعف الحياء حتى أنه لا يتأثر بعلم الناس بأفعاله.. بل أحياناً كثيرةً يُخبر إخوانه وزملائه عن حاله ومن لم يستح من الله لم يستح من الناس.
5 ـ تُضعف في القلب تعظيم الرب وتُضعف وقاره في القلب شاء أم أبى: فلا يرى إلا بعين محبوبه ولا يفكر إلا به حتى أفسدت عليه عباداته وعظمة ربه في قلبه فلا يستشعرها في صلاته ولا في سائر العبادات فلا يبقى في قلبه مهابة لربه ولا مكان لمحبته ويترتب على ذلك أن يرفع الله مهابته في قلوب الخلق فيهون في أنظارهم ويستخفون به وبتصرفاته.. فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس.. ومع ذلك يستمر في أحلامه وعالمه حتى نسي نفسه وباعها بالهوان وبأبخس الأثمان فاستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير واستبدل محبة الله بمحبة خلقه وأصبح قلبه أسيراً لغيره قال تعالى: " ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم " أغفل حقوق ربه واستبدل محبته بمحبة غيره فأهمله ربه وتركه وتخلى عنه وأنساه نفسه وحقوق نفسه عليه فأضاع أسباب سعادته وصلاحه وما يكملها.. فأي عقوبة هذه ؟.
أخي: هل قدر الله حق قدره من شارك بينه وبين أحد مخلوقاته في المحبة أو الإجلال والتعظيم والذل والطاعة والخضوع والخوف والرجاء ؟ .. إن هذا لجرأة وتوثب على محض حقه سبحانه واستهانة به والعياذ بالله.
6 ـ تُضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة وتعوقه وتوقفه وتعطفه عن السير فلا تدعه يخطو إلى الله خطوة هذا إذا لم ترده عن سيره هذا.. فبعد استقامته وانتظامه في حلقات الذكر ومع أهل الخير والصلاح عرف الشيطان طريقه إليه فوجد العاطفة أسهل طرقه إلى قلبه فأشغله بغير الله حتى بدأ يحاكي محبوبه في لباسه وحكاياته وأخلاقه وتصرفاته شيئاً فشيئاً حتى عزف عن حلقات الذكر وابتعد عن الرفقة الصالحة الناصحة.. والمعصية تقول: أختي أختي فهي إما أن تصده عن الطريق السليم والصراط المستقيم إن كان مبتدئ فيه أو بالسكوت عن الحق إذا رأى به شيئاً من المحرمات خوفاً من الهجران والبعد والفراق.. فيعود نفسه على السكوت عن الحق حتى يرضيه فيبتعد عن أهل الخير ويقضي جُلَّ وقته معه ويترك حلقات الذكر وإن ابتعد عنه فلسانه يلهج بذكره لا بذكر ربه.
7 ـ جعل القلب أصم لا يسمع الحق، أبكم لا ينطق بالحق، أعمى لا يرى الحق: يرى الباطل حقاً والحق باطلاً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً فإن نصحه أحد الأخوة غضب وأنكر وكابر وتحجَّج.. يغالط نفسه ويصم أذنه عن الحقيقة فلا ريب أنه إن سمع سمع بمحبوبه وإن أبصر أبصر به وإن بطش بطش به وإن مشى مشى به.. فهو في قلبه ومعه ولا عجب أن قال أحدهم:
خيالك في عيني وذكراك في فمي *** ومثواك في قلبي فأين تغيب ؟!
فما رأيك أخي به وبما قال الله عمن يصبح وهمه رضا الله تعالى عنه:" كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها " ؟ .
8 ـ هدر شخصية الإنسان وتعطيل طاقاته في أزهى مراحل عمره: فتمضي أيامه وهو في عتاب وعواطف جيَّاشة وعذاب مستمر وتفكير دائم لا فائدة فيه.
أخي: تعامل مع الأوضاع ببساطة ووسطية ولا تتشدد فالاعتدال طيب في المحبة والإفراط فيه هدر لشخصيتك وتعطيل لطاقاتك والاعتدال في المحبة لا يعني إلغاء العواطف.. نعم نحن نعترف بالحب لكن بدون مبالغة أو إفراط.. ولتعلم أنه ليس هناك أشد حباً من
الصحابة- رضي الله عنهم - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك عاشوا بدونه :
وما فقد الباقون مثل محمد *** ولا مثله اليوم لحيٍّ يفقد
9 ـ ترك الأفضل والذهاب إلى المفضول: أو ترك الأهم والذهاب إلى المهم وهو كما سبق ذكره كترك الوجبات من أجل المحبوب.
10 ـ الكبر والعجب بالنفس الذي يحصل لمن يُعجب به صديقه أو أخوه, قال تعالى: " ولا تصعر خدك للناس ولا تمش بالأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور "، يمشي مختال يحكي لأصدقائه عن كلمات الإعجاب التي سمعها هذا اليوم ومغامراته مع فلان من الناس وما حصل له متباهياً بذلك, ومرجع ذلك إلى أسباب منها: جماله أو جاذبيته أو شخصيته أو حركاته وغير ذلك وغالب هذه الفئة أنه يتكبر على الحق فلا يقبل نصيحة ولا توجيه.. محتقر للآخرين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" الكبر بطر الحق ـ رده ـ وغمط الناس ـ احتقارهم ـ".(/9)
11 ـ تُصرِف القلب عن صحة البدن واستقامته وتحصيله من العلم إلى مرضه وانحرافه:فمعشوقه هو شغله الشاغل لايفكر إلا به, ولا يعمل إلا له, نسي الله فأنساه مصلحة نفسه, قال - صلى الله عليه وسلم -:"من تعلق شيئا وُكِلَ إليه", فلا يزال يفكر به لا يهنأ بشراب ولا يلذ له طعام .. حتى بدا هزيلاً, وأي عذابٍ أشد من الخوف والهم والحزن وضيق الصدر والأمراض النفسية التي تؤثر على صحته وسلامته وفوق ذلك كله إعراضه عن ذكر الله وتعلقه بغيره. بكل واد منه شُعبة. ومحبوبه يسومه سوء العذاب. فكل من أحب شيئاً غير الله عُذب به ثلاث مرات:
أولاً / في هذه الدار: يُعذب به قبل حصوله فهو في محاولات وتفكير حتى يحقق مطلبه, وهذه من العقوبة الدنيوية قبل الأخروية. فمن أحب شيئا غير الله عذب به.
ثانياً / إذا حقق مطلبه وغايته عُذب به حال قربه منه بالخوف من بُعده وفراقه والتنغيص والتفكير بأنواع الخلافات.. فإذا سُلبت منه اشتد عذابه.
ثالثاً / في البرزخ: فعذابٌ يقارنه ألمُ فراقٍ لا يُرجى عودته وعذاب فوات ما فات من النعيم الذي لم يحصل له لانشغاله بغير الله وعذاب الحجاب من الله وعذاب الحسرة والعداوة: " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ".وفي الآخرة يتبرأ بعضهم من بعض, قال الله تعالى:"ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين ءامنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب.إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب".
12 ـ تباعد عنه أصدقاء الصلاح والخير وأنصح الخلق له وأنفعهم ومن في قربهم سعادةٌ له والسبب: إشباع شهوة عابرة لم تكن لتتفاقم لولا أنه أرخى لها العنان حتى كبرت وأصبحت حجاباً عن ربه وعن الاستقامة وترك صحبة الخير والصلاح الذين يحاربون معه عدوه وعدوهم ويعينونه عليه ويحثونه على الخير ويدلونه.. سعادته في قربهم ومحبتهم وموالاتهم وتركه لهم وإعراضه عنهم فيه هلاكه وشقاؤه وفساده.. انصرف عنهم إلى ذلك المحبوب وفي الآخرة يقول: " يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين "، كنت في الدنيا أضللتني عن الهدى وأبعدتني عن الرفقة الصالحة أبعدتني عن رياض الجنة ـ مجالس الذكر ـ كانت نفسي تتوق إلى الخير مازلت أبتعد عن ربي مذ عرفتك حتى غفلت عنه حتى عند أدائي لصلاتي.. فبئس القرين أنت لي اليوم: " ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون "، فمد له هدية من نار مطرزة بثوب الخزي والعار على طبق من المحبة الكاذبة والمودة المصطنعة..
قرينك في الدنيا وفي الحشر بعدها *** فأنت قرين لي بكل مكان
فإن كنت في دار الشقاء فإنني *** وأنت جميعاً في شقاء وهوان
13 ـ سببٌ لسوء الخاتمة: فمحبة غير الله من أسباب سوء الخاتمة والعياذ بالله فمن تعلق قلبه بشيء ذكره أثناء الاحتضار فمن تعلق قلبه
بالتجارة والأموال ذكرها عند موته ومن تعلق بالأغاني ذكرها عند موته ومن تعلق قلبه بالقرآن لهج لسانه بذكره عند الموت وهكذا فمن تعلق قلبه بأحد خلق الله ذكره عند موته وكان سبباً في سوء خاتمته، وشقائه وفي ذلك قصص كثيرة.
14ـ فسادُ الحواس: ذلك مصداقاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:"إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد, وإذا فسدت فسد سائر الجسد,ألا وهي القلب" فإن القلب إذا فسد فسدت العين والأذن واللسان ,فيرى القبيح حسناً.
15 ـ الوقوع في معصية الغلو والتعظيم.
16 ـ الوقوع في كثير من الأخطاء.
17ـ جعل العاطفة هي الحَكَمُ في كثيرٍ من القضايا.
18 ـ عدم كمال الإخلاص.
19 ـ إضاعة الوقت فيما لا طائل منه ولا فائدة.
20 ـ خلوُ القلب من خشية الله ومحبته.
21 ـ الفرح والسرور عند لقيا من أعجب به دون غيره من الناس.
22 ـ ذوبان شخصية المعجب بمن أعجب به:وبالتالي فقدان شخصيته المتميز بها.
23 ـ انسياق من وقع في الإعجاب وراء من أعجب به.
24 ـ تأثير الحالة النفسية للمعجب على الدور الأسري والاجتماعي.
25 ـ يعين الشباب على الكذب ويعودهم عليه.
26 ـ المذلة والمهانة.
27ـ يؤدي إلى انتشار الحقد والحسد والكراهية.
28 ـ إن كثيراً من قضايا التعلق انتهت بالمشاكل والتهم والشكوك، بل الكثير يذكر أنها حياةٌ مملةٌ لما تقدم ولكثرة اللقاءات التي تكون سبباً في نقص أدب الحديث وكثرة النزاع والخلاف بل افتعالها على أتفه الأسباب وقلة الاحترام والتقدير بل تتعجب من أحوال المتعلقين عندما يجلسون الساعات بدون كلامٍ ينظر بعضهم إلى بعض يدورون ويأكلون ومن مطعم إلى مطعم ومن شارع إلى شارع كلٌّ يستعرض بصديقه وغالب الأيام على هذه الحال.
29 ـ لنعلم أنه من خلال التجربة والمعايشة والملاحظة أن قضايا التعلق بأنواعه لا تطول وإن طالت لابد لها من النهاية، أو الرجوع إلى حد المحبة الطبيعية.(/10)
? أما عن آثاره في أوساط المنتسبين إلى المؤسسات التربوية إضافةً إلى ما سبق فهي كثيرةٌ ويرجع إليها في مظانها؛ لكن من أبرزها مايلي:
30 ـ ترك الالتزام بالكلية بعد موت المربي أو سجنه أو سفره أو غيابه.
31 ـ ترك العمل لهذا الدين ببُعدِ المربي عنه.
32ـ الوقوع في معصية الوالدين, بتقديم مصالح مربيه الدنيوية على مصالح والديه.
33 ـ عدم قبول العمل لهذا الدين في بيئةٍ بعيدةٍ عن بيئة مربيه.
34 ـ الرياء وعدم العمل إلا بمرأى من مربيه.
35 ـ عدم نصح المربي إذا أخطأ.
36 ـ الوقوع في التهور والعجلة والفوضوية المرتسمة في مربيه (الوقوع في أخطاء مربيه).
37 ـ إخراجُ جيلٍ هشٍ تستملكهُ العواطف.
علاج هذه المشكلة:
1 ـ دواء هذا الداء القَتَّال أن يَعرِفَ أن ما ابتُلي به من هذا الداء المضاد للتوحيد, إنما من جهله وغفلة قلبه عن الله, فعليه أن يعرف توحيد ربه وسننه وآياته أولاً, ثم يأتي من العبادات الظاهرة والباطنة بما يشغل قلبه عن دوام الفكر في المعشوق, ويكثر اللجأ والتضرع إلى الله سبحانه في صرف ذلك عنه, وعليه بالإخلاص في ذلك وهو الدواء الذي ذكره الله في كتابه حيث قال:"كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين", فأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء من العشق والفحشاء بإخلاصه.
2 ـ العلم الشرعي: فالعلم الشرعي يدفعك إلى المحبة الصحيحة ولننظر إلى العلماء ـ رحمهم الله ـ عبدالله بن المبارك قيل له: لماذا نجدك دائماً لوحدك ؟ فقال: أنا لست لوحدي فيومٌ مع أنسٍ ويوم مع ابن عباس ويوم مع ابن مسعود - رضي الله عنهم - .وأفضل العلوم لمن يعاني من هذه المشكلة: سير الصالحين فمن تأمل فيها وجد فيها عجباً من طاعة الله وإيمان وإباء وغيرها من الأخلاق الحميدة فيا لها من لذة ويا لها من متعة عندما تقرأ في سيرهم.
3 ـ ضبط العواطف والبعد عن المهيجات العاطفية.
4 ـ محبة الله سبحانه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
5 ـ شُغُلُ النفس.
6 ـ مجاهدة النفس.
7 ـ الدعاء.
8 ـ الصدق مع النفس بالاعتراف بالخطأ.
9 ـ إدراك المفاسد الناشئة من هذا الداء.
10 ـ غض البصر وحفظ اللسان والأذان: ومن هذه السلسلة مذكرة "النظر المحرم" فليرجع إليها ففيها شيءٌ نفيس في غض البصر.
11 ـ التركيز على الأصول الإيمانية ومعاني الشرك وخاصة في المحبة.
12 ـ التركيز على جانب الإخلاص وأن العمل لا يكون إلا لله، وما كان لله فهو الذي يبقى، وما كان لغيره فإنه يفنى.
13 ـ الابتعاد عن مصدر الفتنة: فمن أنفع الأدوية أن يبتعد المبتلي به عن معشوقه, ومن يحرك كوامن الشهوة فيه بحيث لايراه ولايسمع كلامه, فالابتعاد عنه أهون بكثير من الاسترسال معه والوقوع في الآثام والمعاصي.
14 ـ إشباع الشباب عاطفياً في محيط أسرته: فمن أنفع الأدوية أيضاً: توجيه عاطفة الأبناء لما هو مفيد, وإعطاؤهم الحنان الكافي منذ الصغر ومتابعتهم في الكبر وعدم إهمال تربيتهم ومشاعرهم, واتخاذ الإجراءات المناسبة لمعالجة مثل هذه الظاهرة, وعدم التغاضي عنها, لأنها قد تؤدي إلى ظواهر أخرى سيئة.
15 ـ الزواجُ المبَكِّر.
? أما عن دور المؤسسات التربوية والمربين في العلاج إضافةً إلى ما سبق, فيتمثل فيما يلي:
16 ـ التركيز في السنوات الأولى للعملية التربوية على معاني التعلق بالله وحده، والمعنى الحقيقي للحب في الله .
17 ـ الحثُّ على صَبغِ الجلسات الخاصة بين الأفراد بالأهداف القيمة.
18 ـ مصارحة الأفراد الذين يقعون في هذه المشكلة وعدم الانتظار حتى يتفاقم الأمر.
19 ـ انتباه المربي لهذه المشكلة وتحذيره الدائم للفرد من خطورة التعلق بالأشخاص.
20 ـ تكرار التقويم للأفراد حتى تتسنَّى معالجتهم قبل استفحال الأمر.
21 ـ مناقشة مثل هذه القضية في جلسة نقاش مفتوحة يشترك فيه جميع الأفراد.
22 ـ تعليق الأفراد بالله وبمنهجه.
23 ـ ربط المتربين بقدوتهم محمد- صلى الله عليه وسلم - .
24 ـ التركيز على جانب التربية الذاتية.
25 ـ بثُّ روح العمل لهذا الدين في أي مكانٍ وزمانٍ كان.
26 ـ أن يتأمل الشباب الهدف الأسمى والمطلب الأعلى الذي من أجله خُلِقَ له.
مواقف وقصص:
يُروى أن رجلاً تعلق بشخص يقال له: أسلم، فاشتد كَلَفُهُ به وتمكن حبه من قلبه حتى أُوقِعَ, ولَزِمَ الفراش بسببه, وتمنَّع أسلم عليه, واشتد نَفْرُهُ منه, فلم يزل الوسائط يمشون بينهما حتى وعده بأن يعوده, فأخبره بذلك الناس, ففرح واشتد فرحه وانجلى غَمُّه, فجعل ينتظر الميعاد الذي ضرب له فيما هو كذلك إذ جاءه الساعي بينهما, فقال: إنه وصل معي إلى بعض الطريق ورجع, ورغبت إليه وكلمته, فقال:إنه ذكرني وفرح بي ولا أدخل مدخل الريبة, ولا أعرض نفسي لمواقع التهم, فعاودته فأبى وانصرف فلما سمع البائس أُسقط في يده, وعاد إلى أشد مما كان به. وبدت عليه علائم الموت فجعل يقول في تلك الحال ويردد قائلاً:
أسلم يا راحة العليل *** ويا شفاء المُدنفِ النحيل
رضاك أشهى إلى فؤادي *** من رضا الخالق الجليل(/11)
? فمن المواقف في ذلك: تبادلُ كلماتِ المدح والثناء وأوصاف الكمال التي لا تكون إلا لله وأشعار وأغاني الحب والغرام وربما أُرسلت في صورة هدية شريط أو رسالة خطية أو عن طريق رسائل الهاتف النقال، كلمات تثير الغرائز وتتلذذ بها النفوس، تكاد تصم الأذان وتقشعر منها الأبدان، تتضمن الجنون والفجور والكفر والفسوق، يستحي الرجل أن يستخدمها مع زوجته وإنما تعرف عند غزل الفاسدين للفاسدات فأصبح الغزل بين الذكور لا الرجال يقول أحدهم: [أحلى الكلام همسك، وأحلى ما في حياتي أني أحبك ] فأين حلاوة الإيمان ولذة القرآن، أليس كلام الرحمن ألذ وأجمل كلام ؟، فأين العقول، نعوذ بالله من الحرمان والخذلان ويقول آخر:[ ليس لك في قلبي شريك يا أيها الحبيب ] فأين محبة الله أليس لها في القلب وجود ؟ والله يقول: " ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين ءآمنوا أشد حباً لله ". ألم يمر علينا في مناهج التوحيد وكذلك في دورة كتاب التوحيد أن من أنواع الشرك شرك المحبة؟ .
أخي الشاب:
الناس في التعلق أنواع كُلٌّ له فيه طريقةٌ وأسبابٌ ومظاهرٌ، يشترك الجميع في غالبها، وكل واحدٍ يبحث فيه عن هدفه وغايته والله يعلم المقاصد، أشرتُ لكل واحدٍ منها بإشارات يسيرة والقلب المتعلق هو الدليل إليها وقد يكون التعلق من طرفٍ وقد يكون متبادلاً من طرفين وقد يكون مجموعة أشخاص متعلقين بشخصٍ واحد، وقد يكون المتعلقان متقاربين في السِّن أو متباعدين.
إنه داءٌ عضال بل شرٌ ووبال، إنها فتنةٌ أهلكت الشباب ودمّرتهم نجى منها من عصمه الله، إنها مشكلة أتت على القلب الخاوي من محبة الله أو نقصت فيه محبة الله تعالى، بل بدأت تَدبُّ حتى في أوساط من يُشار إليهم بالبنان، جاوزت الحدود والقيود، ذهب ضحيتها الكثير والكثير والكل يَشهدُ ذلك ويَلحظه، ما بين ضائعٍ ومنتكسٍ وحائرٍ أو مسجونٍ عدة سنوات وآخر منَكِّس الرأس علاهُ الخزي والعار، فأيُّ رجولة وسعادة هذه نهايتها ؟ بل بدأت الشكوى من الجميع من المربين والمربيات والفتيان والفتيات، فلابُدَّ من التظافر وتلاحم الجهود بحثاً عن الدواء حتى لا يستفحل الداء، ودراسة لهذا الموضوع أثاراً وأسباباً وعلاجاً. ولستُ مبالغاً في كل ذلك فهذه اعترافات المتعلقين والمتعلقات وزفراتهم وحسراتهم بل يُسمع البكاء من بعضهم ألماً وتحسراً وضيقاً يرجع إليها في مظانها ولسانُ حالهم ومقالهم: أنقذونا من ويلات التعلق والعاطفة وجحيم الحب والغرام.. أنقذونا من هذه الحياة.. كيف الخلاص ؟ وما العلاج؟ وما المخرج ؟ يقول أحدهم: لا تتركوني أسيراً للهموم، صريعاً للضياع، غريقاً في الهوى وبين الشباب، ولست مبالغاً في كل ذلك فهي نتائج استبانات واتصالات ولقاءات وتجارب وملاحظات للمختصين في هذا المجال، والقصص في هذا الجانب كثيرة والمشاهد أكثر، قصص تُقرِّح العيون وتُدمي القلوب وتُذرف الدموع.
نداءٌ و هتافٌ لأحبتي وإخوتي ذوي العاطفة الجيَّاشة والأحاسيس المرهفة الفياضة و الحب الزائد الخارج عن المعقول والمعتاد: الأمرُ عظيم والخطبُ جسيم، فلابدّ أن نُعيدَ النظر في صداقاتنا بكل صدق وصراحة بلا التواء وتبرير، فهل هي لله ومن أجل الله ؟ هل هي حُبٌّ للأبدان والأجسام والصور والأشكال أم القيم والدين والأخلاق ؟ فما المقياس عندك ؟ فَزِنْ وقايسْ وأنتَ الحكم والإثم ما حاك في النفس وكرهتَ أن يَطلع عليه أحد والباب الذي يأتيك منه ريح لا حيلةَ فيه إلا بسدِّه لتستريح.
أخي الشاب.. اعلم:
1 ـ اعلم أن من الأخطاء في العملية التربوية التعلق بالأشخاص وضعف التعلق بالمنهج.
2 ـ اعلم أن القرآن الكريم قد قَرَّرَ هذه الحقيقة، وهي حقيقة التعلق بالمنهج ونبذ التعلق بالأشخاص، وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هذا هو منهجه ومنهج كل من دعا إلى الله على بصيرة من الصحابة ومن تبعهم.
3 ـ اعلم أن البشر إلى فناءٍ والعقيدة إلى بقاءٍ.
4 ـ اعلم أن الدعوة أقدم وأبقى من الداعية.
5 ـ اعلم أن منهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويأدونه إلى الناس.
6 ـ اعلم أن الجهود يجب أن تتركز في توثيق صلة الناس بربهم.
7 ـ اعلم أن البَشَرَ من الممكن أن يتغيروا ولكن الله الحي الذي لا يموتُ يغيِّر ولا يَتَغير.
8 ـ اعلم أن كثيراً من قضايا التعلق انتهت بالمشاكل والتُهَمِ والشكوك بل الكثير يذكر أنها حياة مملة، ولكثرة اللقاءات التي تكون سبباً في نقص أدب الحديث وكثرة النزاع والخلاف بل افتعالها على أتفه الأسباب وقلة الاحترام والتقدير بل تتعجب من أحوال المتعلقين عندما يجلسون الساعات بدون كلام ينظر بعضهم إلى بعض يدورون ويأكلون ومن مطعم إلى مطعم ومن شارع إلى شارع كل يستعرض بصديقه وغالب الأيام على هذه الحال، كلُّ أخوةٍ لغيرِ الله هباء ومصيرها إلى الفناء: " الأخلاءُ يومئذٍ بعضُهم لبعضٍ عدوٌ إلا المتقين ".(/12)
9 ـ ولتعلم أنه من خلال التجربة والمعايشة والملاحظة أن قضايا التعلق بأنواعه لا تطول وإن طالت لابد لها من النهاية أو الرجوع إلى حد المحبة الطبيعية.
* وقفة أخيرة: إن السعادة والراحة والطمأنينة في محبة الله سبحانه والأنس به والشوق إلى لقاءه والرضا به وعنه؛ فمحبته تعالى بل كونه أحب إلى العبد من كل ما سواه على الإطلاق من أعظم واجبات الدين وأكبر أصوله وأجلِّ قواعده, ومن أحبَّ معه مخلوقاً مثل ما يحبه فهو من الشرك الذي لا يغفر لصاحبه ولا يقبل معه عمل, وإذا كان العبد لا يكون من أهل الإيمان حتى يكون عبد الله ورسوله أحب إليه من نفسه وأهله وولده والناس أجمعين, ومحبته تَبَعٌ لمحبة الله, فما الظن بمحبته سبحانه وهو سبحانه لم يخلق الجن والإنس إلا لعبادته التي تتضمن كمال محبته وكمال تعظيمه والذل له, ولأجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه, وعلى ذلك وضع الثواب والعقاب, وأُسست الجنة والنار, وانقسم الناس إلى شقيٍ وسعيد. وكما أنه سبحانه ليس كمثله شيء فليس كمحبته وإجلاله وخوفه محبة وإجلال ومخافة, فالمخلوق كلما خفته استوحشت منه وهربت منه, والله سبحانه كلما خفته أنست به وفررت إليه, والمخلوق يخاف ظلمه وعدوانه, والرب سبحانه إنما يخاف عدله وقسطه, وكذلك المحبة فإن محبة المخلوق إذا لم تكن لله فهي عذاب للمحب ووبال عليه, وتلك لَعمرُ الله الفتنة الكبرى والبلية العظمى التي استعبدت النفوس لغير خلاقها, وملكت القلوب لمن يسومها الهوان من عشاقها, وألقت الحرب بين العشق والتوحيد, ودعت إلى موالاة كل شيطانٍ مريدٍ, فصيرت القلب للهوى أسيراً, وجعلته عليه حاكماً وأميراً؛ فأوسعت القلوب محنة وملأتها فتنة, وحالت بينها وبين رشدها, وصرفتها عن طريق قصدها, ونادت عليها في سوق الرقيق فباعتها بأبخس الأثمان, وأعاضتها بأخس الحظوظ وأدنى المطالب عن العالي من غرف الجنان فضلا عما هو فوق ذلك من القرب من الرحمن, فسكنت إلى ذلك المحبوب الخسيس الذي ألمها به أضعاف لذتها, ونيله والوصول إليه أكبر أسباب مضرتها.فما أوشكه حبيباً يستحيل عدواً عن قريب, ويتبرأ منه محبه لو أمكنه حتى كأن لم يكن بحبيب, وإن تمتع به في هذه الدار فسوف يجد به أعظم الألم بعد حين لاسيما إذا صار:"الأخلاءُ يومئذٍ بعضُهم لبعضٍ عدوٌ إلا المتقين".
* فيا حسرةَ المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمنٍ بخسٍ وشهوةٍ عاجلةٍ, ذهبت لذَّتُها وبقيت تبعتها, وانقضت منفعتها وبقيت مضرتها, فذهبت الشهوة وبقيت الشقوة, وزالت النشوة وبقيت الحسرة, فوا رحمتاه لصَبٍّ جُمِعَ له بين الحسرتين: حسرة فوت المحبوب الأعلى والنعيم المقيم, وحسرة ما يقاسيه من النَّصَبِ في العذاب الأليم, فهناك يعلم المخدوع أي بضاعة أضاع وأن من كان مالك رقه وقلبه لم يكن يصلح أن يكون له من جملة الخدم والأتباع, فأي مصيبة أعظم من مصيبة مَلِكٌ أُنزِل عن سرير ملكه, وجعل لمن لا يصلح أن يكون مملوكه أسيرا, وجعل تحت أوامره ونواهيه مقهورا, فلو رأيت قلبه وهو في يد محبوبه لرأيته:
كعصفورة في كفِّ طفلٍ يسومها *** حياض الردى والطفل يلهو ويلعب
*ولو شاهدت حاله وعيشه لقلت:
ومافي الأرض أشقى من محب *** وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكياً في كل حين *** مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقاً إِليهم *** ويبكي إِن دنوا حذر الفراق
*ولو شاهدت نومه وراحته لعلمت أن المحبة والمنام تعاهدا وتحالفا أن ليس يلتقيان, ولو شاهدت فيض مدامعه ولهيب النار في أحشائه لقلت:
سبحان رب العرش متقن صنعه *** ومؤلف الأضداد دون تعاند
قطر تولد عن لهيب في الحشا *** ماء ونار في محل واحد
*فهل يليق بالعاقل أن يبيع هذا المَلكَ المُطاع لمن يسومه سوء العذاب ؟, ويُوقع بينه وبين وليه ومولاه الحق الذي لاغنا له عنه ولا بد له منه أعظم الحجاب, فالمحب بمن أحبه قتيل, وهو له عبد خاضع ذليل.إن دعاهُ لباه, وإن قيل له: ما تتمنى ؟ فهو غاية ما يتمناه, لا يأنس ولا يسكُنُ إلى سواه . فحقيق به ألا يملك رِقهُ إلا لأجل حبيب, وألا يبيع نصيبه منه بأخسِ نصيب.
* هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه والتابعين.
بسم الله الرحمن الرحيم مراجع استُفيد منها في إعداد الموضوع :
- ... فتياتنا والإعجاب ... ... ... ... نوال بنت عبد الله
- الإعجاب أسبابه وعلاجه ... ... خالد الصقعبي
- الحب الزائف ... ... إبراهيم بوبشيت
- التعلق بالأشخاص لا بالمنهج ... ... مقال في مجلة البيان
- ... زيف الحب ... ... ... ... ... فهد العماري
- ... في الصراحة تكون الراحة ... ... ... ... فهد العماري
- ... إغاثة اللهفان ... ... ... ... ... ابن القيّم الجوزية
- ... روضة المحبين ... ... ... ... ... ابن القيّم الجوزية
- ... العواطف الإنسانية ... ... ... ... نادية الكليبي
- ... وهم الحب ... ... ... ... ... محمد المسند(/13)
- ... ضحايا الحب ... ... ... ... ... د.عائض بن عبد الله القرني
- ... العشق الشيطاني " الإعجاب" ... ... حمود بن إبراهيم السليم
كذلك مما لايجب أن ينسى في مثل هذه المواضيع كتابات الأخ فهد العماري حفظه الله فهي أسفار نفيسة في بابها, فلتراجع في صفحته حفظه الله.(/14)
العواطف البشرية في التصور والأدب الإسلامي
(1)
بقلم: محمد الحسناوي
hisnawi@odabasham.org
مقدمة في المصطلحات:
يميز علم النفس بين عدد من المصطلحات كالانفعال والعاطفة والعقدة. فالعاطفة استعداد نفسي، ينشأ عن تركيزمجموعة من الانفعالات حول موضوع معين، ذلك لأن هذا الموضوع في خبرة الشخص الماضية كان مثيراً لعدد من الميول المختلفة ونتج عن تكرر هذه الاستثارة أن أصبح الفرد مستعداً للاستجابة الانفعالية (على نحو له، استجابة تختلف باختلاف الموقف الذي يوجد فيه. فالعاطفة إذن هي عبارة عن اتجاه وجداني نحو موضوع بعينه، مكتسبة بالخبرة والتعلم).(1)
والفرق كبير بين العاطفة والانفعال (EMOTION). فبينما يكون الانفعال تجربة عابرة، إذا العاطفة (SENTIMENT) نزعة مكتسبة تكونت بالتدرج، بعد أن مرت خلال تجارب وجدانية وأعمال عدة(2).
أما العقدة فهي ليست إلا تنظيماً لمجموعة من الانفعالات السابقة أيضاً في مركب جديد. وتختلف العقدة عن العاطفة في أن المركب الانفعالي في حالة العقدة هو مركب لا شعوري، في حين أنه في حالة العاطفة يكون في مستوى شعوري(3).
إن هذه التراكيب أو المجاميع تكسب الحياة الانفعالية المتقلبة قدراً من الانسجام، وهي تتجمع من جديد في مجاميع أوسع. وهذه بدورها حين تتجمع ثانية في نظام واحد شامل متناسق، تكوّن ما نسميه (الشخصية). إن العواطف الثابتة تعطي الحياة الوجدانية نظاماً واتساقاً نحو أهداف بالذات، وأن عاطفة قوية، لهي كافية لتجديد نشاط الفرد واتجاهه في حياته. فالعواطف تلعب دوراً هاماً في حياة الإنسان، وهي مصدر معظم دوافعنا وجهودنا. تأمل عاطفة الأم نحو ابنها، وتأمل كيف تصوغ هذه العاطفة حياتها وتشكلها، وكيف تجدد سلوكها وتحفظ هذا السلوك من جانب ابنها ومن أجله، حتى آخر لحظة من لحظات حياتها، وكيف تتحمل المتاعب والصعاب في سبيله، دون أن تشكو مرة أو تتبرم(4).
وفي مجال النقد الأدبي تعرف العاطفة بأنها حالة شعورية في مقابل التصور الذي يحدثه الإحساس. مثال ذلك: أحس باللون الأحمر الذي يبعث فيَّ عاطفة الانشراح. وعلى العموم: العاطفة هي كل حالة انفعالية، في مقابل الحالة التعقلية والفاعلة(5).
ومن غير نقض أو إهمال لمصطلحات علم النفس نرانا ميالين إلى استخدام التعريف الذي يتداوله نقاد الأدب في بحثنا هذا. وهذا لا يمنعنا من التدقيق والتنبيه حين نستخدم مصطلحات علم النفس عند اللزوم.
* * *
العواطف في التصور الإسلامي:
من قواعد التصور الإسلامي تكريم الإنسان. قال الله تعالى: [ ولقد كرمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً ](الإسراء: 70).
وطبيعة هذا الإنسان المكرم - في التصور الإسلامي- أنه قبضة من طين الأرض، ونفحة من روح الله، غير منفصل بأحد عنصريه من عنصره الآخر في أية لحظة من اللحظات. [ وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأٍ مسنون. فإذا سويتُه ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين ] (الحجر: 9). فلا هو بالحيوان الصرف، كما ترى الداروينية، ولا يمكن أن يكون ملاكاً كما تسعى إلى ذلك الهندوكية والبوذية بالرهبانية. من خبر الرهط الثلاثة الذين سألوا أزواج النبي عليه السلام عن عبادته، فلما أخبروا عنها كأنهم تقالُّوها. وأحدهم يصلي الليل أبداً، والثاني يصوم الدهر أبداً، والثالث يعتزل النساء، فجاء إليهم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغِبَ عن سنتي فليس مني). (رواه مسلم).
فالإنسان يأكل ويشرب ويتزوج كالحيوان، لكنه يختلف عنه بالفارق النفسي الشعوري وطريقة السلوك، وكم تخطئ المذاهب والفلسفات التي تجرد الإنسان من الإحساس والمشاعر والحياة الانفعالية، حين تلغي واقع "النفس" كله، لتثبت فقط واقع (المادة)، متأثرة بالنظرة المادية الحيوانية للإنسان، التي لا تجعل منه قيمة أعلى من قيمة المادة، بل بالعكس قيمة أقل، لأن المادة تؤثر في الإنسان تأثيراً (حتمياً)، يخضع له أراد أو لم يرد، في حين لا يؤثر هو في المادة إلا برضاها ورغبتها! وحسب قوانينها الذاتية ذات الطابع الحتمي والجبروت(6)!(/1)
وكم يُعلي الله قيمة الإنسان ويكرمه حين يسخر له الكائنات: [ الله الذي سخَّرَ لكم البحر ولتجريَ الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. وسخر لكم ما في السموات وما الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ] (الجاثية: 12 و13). ومعنى التسخير تكليف مخلوق عملاً بلا أجرة أو تذليله. ومن مظاهر هذا التكريم تفضيل الإنسان على الملائكة وطلب السجود منهم لآدم عليه السلام: [ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال: أأسجدُ لمن خلقتَ طيناً ] (الإسراء: 61). وتعليل هذا التكريم راجع إلى طبيعة الإنسان المزدوجة (قبضة الطين ونفحة الروح)، بينما طبيعة الملائكة أنهم مخلوقات من نور خالص، ليس لهم ثقلة الجسم ولا عتامة الطين، ومن ثم فهم إشراقة خالصة محددة الاتجاه. اتجاهها هو الطاعة المطلقة الدائمة الكاملة [ لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يُؤمَرون] (التحريم: 6) عل حين تتجلى عبقرية الإنسان في أنه يسير بجسمه على الأرض وهو متطلع بروحه إلى السماء، ولا يتحقق له ذلك إلا حين يكون إنساناً حقيقياً لا حيواناً ولا ملاكاً، وبمعنى آخر حين يقضي ضروراته الأرضية الحيوانية على طريقة الإنسان لا على طريقة الحيوان، ويحقق أشواقه الروحية الملائكية على طريقة الإنسان لا على طريقة الملاك. وبذلك يحقق رسالته في الأرض ويحقق أفضل ما يستطيعه، ويحقق كثيراً من الخير(7).
على أن الحياة الانفعالية في الإنسان حافلة بمختلف العواطف والأحاسيس والمشاعر، وليست العاطفة الجنسية إلا واحدة منها. قد تكون من أهمها وأبرزها لكنها ليست الوحيدة. فهناك عواطف الأبوة والبنوة والأمومة والخوف والرجاء، ونستطيع تقسيم العواطف بحسب موضوعها الذي تدور حوله ثلاثة أقسام:
1- عواطف تدور حول موضوعات مادية، مثل عاطفة الأم لابنها، والأب لأولاده والقارئ لكتاب معين، وربة البيت لبنيها.
2 - عواطف تدور حول موضوعات جمعية، كعاطفة المرء نحو أسرته، أو حزبه أو مدرسة تربى فيها.
3 - عواطف تدور حول موضوعات مجردة، كعاطفة الميل إلى المثل العليا الأخلاقية مثل الأمانة والصدق والكرم (8).
ومن الممكن أن يدرج النوعان الأولان تحت عنوان العواطف المادية، كما يمكن أن نذكر العواطف الفردية مقابل العواطف الجمعية. ومن العواطف المادية التي اهتم بها علم النفس لدى الفرد عواطف التملك وتأكيد الذات والمقاتلة أو الميل إلى العدوان، أما العاطفة الجنسية فقد شغلت حيزاً ضخماً من جهود فريق من علماء النفس، وانقسموا فيها وحولها مدارس ومذاهب، لدرجة جعلت من فرويد يزج بالجنس والعواطف الجنسية في كل مجالات النشاط الحيواني للإنسان، وكان لذلك أثره الكبير في الفكر الأوربي والأدب وبالتالي في المجتمعات الأوربية، حيث انطلقت الحيوانات المسعورة تلطخ صفحة الفن بحركات السعار الجنسي المنهومة الطائشة، وتعري الإنسان من كل ملا بسه الحسية والمعنوية (9).
والجنس في نظر الإسلام حقيقة مهمة عميقة أصيلة، ومثل ذلك ما يتعلق به من عواطف ومشاعر وأحاسيس، والفرق بين التصور الإسلامي وغيره من التصورات المنحرفة أن الإسلام يحكم الأخلاق الإسلامية بهذه المشاعر والعواطف من خلال المفهوم الشامل المستمد من ناموس الوجود (10). فالإسلام يشترط (النظافة) في أمور الجنس. وهذه النظافة قاعدة واحدة تشمل كل شؤون الحياة المالية والاجتماعية والسياسية والدينية، مثل تعامل الإنسان مع ربه، وتعامله مع نفسه [ قد أفلح المؤمنون الذي هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو مُعرِضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون- إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، فانهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون - والذين هم لأمانتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون، أولئك همُ الوارثون، الذي يرثون الفردوس، هم فيها خالدون] .(11) (الآيات: المؤمنون: 1-11).(/2)
فالإسلام لا يغفل عما يحدثه التجاذب الفطري بين الجنسين من مشاعر وخواطر وأفكار وسلوك، لكنه يقيسها بمقياس الإسلام الدائم الذي يقيس به كل شيء: فما سار مع الناموس، ناموس الحياة والكون، فهو صالح وصواب. وما خالف هذا الناموس فهو خطأ. والله تعالى يطلب من هذه الفطرة أن ترتفع وتتهذب، لأن هدف الوجود كلي ليس مجرد استمرار الحياة، ولكن رفعها وتجميلها، والوصول بها إلى مرتبة الجمال والكمال (12). على أن التصور الإسلامي الذي لا يُغفل عاطفة بشرية في نظرته الشاملة المتوازنة المتناسقة حتى الرفق بالحيوانات، نجده أيضاً يفسح مجالاً رحباً لعاطفة العبادة: حبّ الله تعالى (هذا الحب بما يفيض على النفس من أنوار شفافة رائقة وبما يوسع من آفاقها حتى تشمل الوجود كله، وبما يرفع من كيانها حتى تصبح وكأنها نور خالص مشرق متلألئ، لا تدخله عتامة الجسد ولا ثقلة الطين. إنه عجيبة من عجائب الأحاسيس البشرية.. وإنه لفي القمة من هذه الأحاسيس)(13). وعلى الرغم من ضخامة الحجم الذي يحتله هذا النوع في النفس الإنسانية وتاريخ البشر ودعوات الأنبياء والرسل وأدب المتصوفة في الأدب العربي والآداب الأخرى لم أجد في حدود اطلاعي عناية كافية في علم النفس المعاصر لهذا النوع من العاطفة، وهذا مؤشر على انحراف التصور البشري في غياب التصور الإسلامي.
إن علاقة الإنسان بربه جزء من فطرة البشر، وإذا كانت عاطفة الحب (حب الله) أرقى جوانب هذه العلاقة وأسماها، فإن هناك عواطف الخوف من الله تعالى وخشيته وتقواه التي تحتل موقعاً هاماً في التصور الإسلامي: [ والذي جاء بالصدق وصدَّقَ به أولئك هم المتقون. لهم ما يشاؤون عند ربهم، ذلك جزاء المحسنين ] (الزمر: 33 و34). وتعد صفة (المتقين) من أهم الصفات والدرجات التي يتطلع إليها الإنسان المؤمن. وقد وردت في القرآن الكريم لفظة (متقون - متقين) /49/ تسعاً وأربعين مرة، أما الألفاظ المشتقة من (التقوى) فقد وردت /258/ ثماني وخمسين ومئتي مرة. قال تعالى: [ بلى من أوفى بعهده واتقى فان الله يحبُّ المتقين ] (آل عمران: 76) وهل هناك فوق حب الله تعالى من حب? وكما ورد التصريح بحب الله للمتقين (إن الله يحب المتقين) ثلاث مرات في القرآن الكريم (آل عمران 76 والتوبة 4 و7).
ذلك حب الله عزّ وجل، أما حب الكون أو الطبيعة وحب الكائنات الحية وحب البشرية فآفاق أخرى تكشف عن مدى رحابة عاطفة الحب ذاتها وأنها ليست مقصورة ولا يجوز أن تقصر على الحب الجنسي(14) أو العاطفة الجنسية. قال عزّ من قائل: [ زُيِّنِ للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوَّمة والأنعام والحرث. ذلك متاع الحياة الدنيا. والله عنده حُسنُ المآب] (آل عمران: 14).
إن لفظ (الشهوة) مصطلح قرآني للعاطفة الهابطة يقابله في التصور الإسلامي لفظ (المتاع)، كما أن من مصطلحات التصور الإسلامي للعواطف البشرية تعبير (النفس الأمارة بالسوء) يقابله تعبير (النفس اللوامة)، ومرة أخرى ليس التزيين بحد ذاته محرماً أو مرفوضاً، لأن هناك فرقاً بين تزيين الخير وتزيين الشر، كما أن هناك فرقاً بين (زينة) و(زينة) قال تعالى: [ يا بني آم خذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلوا واشربوا ولا تُسرِفوا. إنه لا يُحب المسرفين. قل من حرَّم زينه الله التي أخرج لعباده والطيباتِ من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةٌ يوم القيامة، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ] (الأعراف: 31 و32).
إذا وجدت عاطفة الحب وعاطفة الكره وجد الصراع بينهما سواء في النفس الواحدة أم بين نفسين اثنتين أو أكثر: [ لقد همت به وهَمَّ بها لولا أن رأى بُرهانَ ربه ] (يوسف: 24) [ قال: ربِّ السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، إلا تصرفْ عني كيدهن أصبُ إليهن وأكنْ من الجاهلين ] (يوسف: 33)
وهناك صراع الواحد مع الجماعة، وهو حال الأنبياء جميعاً عليهم السلام مع أقوامهم، وصراع جماعة مع جماعة، وهو حال المؤمنين مع الكافرين في كل زمان ومكان: [ ولما برزوا للجالوت وجنوده قالوا: ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. فهزموهم بإذن الله وقتل داوودُ جالوتُ، وآتاه الله الملك والحكمة وعلَّمه مما يشاء، ولولا دفعُ الله الناسَ بعضهم ببعض، لفسدت الأرض. ولكنَّ الله ذو فضل على العالمين ] (البقرة: 250- 251). فعاطفة المقاتلة أو ما يسميه علم النفس (الميل إلى العدوان) من سنن الله في خلقه وهي ككل عاطفة تهبط وتصعد في سلّم القيم، ومع ذلك لولا الشر الموجود في الأرض، ومصارعة الخير له لركد الخير وأسن وتعفن أو ترهل وضعف(15).(/3)
إن التصور الإسلامي للعواطف البشرية المنبثق من تصور الإسلام الواسع الشامل للكون والحياة والإنسان يفسح المجال للوجدانات البشرية كلها من محبة وكراهية وصراع. ويفسح المجال لمشاعر الجنس، وصور الصراع الاقتصادي والاجتماعي، ولكنه يضعها في موضعهما من الصورة، ليرسم في بقية اللوحة مشاعر الحب الكبرى ومجالات الصراع الأكبر. فيكون أكثر واقعية من تلك التصورات الصغيرة المحدودة، ويكون أصدق تعبيراً عن حقيقة الحياة العميقة الشاملة وأجمل تصويراً للحياة من بقية التصورات(16).
هذه جملة عامة في جوانب التصور الإسلامي للعواطف البشرية، وقد عالجت المؤلفات الإسلامية الحديثة هذا الموضوع بما يغني عن التفصيل، وأخص بالذكر جهود الأستاذ محمد قطب ومؤلفاته مثل: منهج الفن الإسلامية - دراسات في النفس الإنسانية - الإنسان بين المادية والإسلام - منهج التربية الإسلامي - التطور والثبات في حياة البشر.
العواطف البشرية في الأدب الإسلامي
مساحة الأدب الإسلامي في الزمان والمكان واسعة جداً، وسنقتصر ها هنا على اختيار خطوط ونماذج من القرآن الكريم وهو الأصل أو المصدر الأساس، ثم من مؤلفات علي أحمد باكثير.
لما كان القرآن الكريم كتاب دعوة وهداية ومنزلاً من لدن حكيم خبير: [ الذي أحسن كل شيء خلقَه وبدأَ خلق الإنسان من طين ] (السجدة: 7) كان آية في الإعجاز، لا سيما الإعجاز البياني الذي يخاطب النفوس ويستجيش الوجدانات، كما يخاطب العقول سواء بسواء، وقد فطن العرب الفصحاء بحسهم البياني إلى ذلك مؤمنهم ومشركهم، سحر منهم الألباب وأخذ بمجامع القلوب، وقصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتعلق الوليد بن المغيرة به قبل إعراضه معروفتان، وهو الذي قال: (والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يُعلى.. إن هذا إلا سحر يؤثره عن غيره. أما ترون أنه يفرق بين المرء وأهله ووالده ومواليه): [ إنه فكَّرَ وقدَّرَ. فقُتِلَ كيف قدَّرَ. ثم قُتِلَ كيف قَدَّرَ. ثم نَظَرَ. ثم عَبَسَ وبَسَرَ. ثم أَدْبَرَ واستكبرَ، فقال إنْ هذا إلا سحرٌ يؤثر ] (المدثر: 18 - 24)
وللتدليل على عناية القرآن الكريم بالعواطف والوجدانات البشرية في خطابه المعجز لها نكتفي بالإشارة إلى أهم الأساليب التي استخدمها، مثل: التصوير الفني والقصة والإيقاع الموسيقي ونخص بالذكر أسلوب الترغيب والترهيب، الترغيب بالخير وبالجنة وبما عند الله من نعمة وفضل، والترهيب بالنار وما فيها من عذاب وشقاء وحرمان. قال تعالى: [ الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعرُّ منه جلود الذي يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء، ومن يُضللِ اللهُ فماله من هاد. أفمنْ يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة. وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون ] (الزمر: 23 - 24). ولقد أجاد الشهيد سيد قطب في تفسيره (الظلال) وفي دراساته الأدبية للقرآن في الكشف عن هذا الجانب من إعجاز القرآن.
هذا بالنسبة إلى استجاشة العواطف والوجدانات، أما تصوير تلك العواطف، وتناولها بالعرض والتحليل -وفي ذلك ما فيه من تأثير واستجاشة أيضاً- فإعجاز آخر: [ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريمَ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله. قال: سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق. إن كنتُ قلته فقد علمتَه. تعلم ما في نفس ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ] (المائدة: 116). وقبل الحديث عن العواطف البشرية نحب أن نشير إلى الكائنات غير البشرية التي خلع عليها القرآن عواطف: من نجم وشجر وحيوان وأرض وسماء، وفي ذلك ما فيه أيضاً من استجاشة لعواطف البشر ووجداناتهم. قال تعالى: [ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً. قالتا: أتينا طائعين ] (فصلت: 111). وقال عزّ من قائل: [ حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنَّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون. فتبسم ضاحكاً من قولها، وقال: ربِّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ، وأن أعمل صالحاً ترضاه، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ] (النمل: 18 -19).
إن الحديث عن العواطف البشرية في القرآن الكريم يكاد يشمل القرآن كله، لأن الكتاب الرباني الخالد الذي أرسل إلى البشرية كافة، فيه تاريخ هذه البشرية الفكري والعاطفي، كما أن فيه طب نفوسها ومستودع أسرار تلك النفس، وبوسعنا أن نرصد عدداً من السمات في عرضه لهذه العواطف وهي الشمول والجد والواقعية والعمق والنظافة.(/4)
ونعني بالشمول تغطية الأنواع المتعددة للعواطف البشرية، عواطف الرجال والنساء، وعواطف الشيوخ والأطفال، عواطف الآباء والأمهات والأبناء عواطف الصالحين والطالحين عواطف الدعاة والعصاة، عواطف الملوك والسوقة أو الدهماء، عواطف فردية وأخرى جماعية، عواطف ذات موضوعات مادية وأخرى معنوية أو مجردة، وفوق ذلك وقبله عواطف البشر تجاه خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم وباعثهم يوم النشور.
والجميل والطريف في آن واحد أن معظم البشر الذين حفل القرآن الكريم بتصوير عواطفهم هم أنبياء الله ورسله عليهم السلام، والطرافة هو تصوير عواطفهم البشرية في جميع أحوالها، بما فيها أحوال الضعف على الرغم من أنهم معصومون: [ قل سبحان ربي هل كنتَ إلا بشراً رسولاً ]. (الإسراء: 93). ففضلاً عن العرض الفني في تصوير بشرية العواطف من صدق وواقع هناك غرض ديني ألا وهو أن الهفوات التي تقع منهم إثبات لبشريتهم أمام الخلائق، لئلا يرفعوهم فوق المستوى البشري، ويحملوهم من صفات الألوهية ما لا يمكن أن يتصفوا به، فهم عبيد مخلوقون لله تعالى، وليظهر الفرق بين أحوالهم قبل النبوة وأحوالهم بعدها.
لقد صور القرآن عاطفة الأبوة لدى يعقوب تجاه أبنائه يوسف وإخوته، ولدى إبراهيم تجاه ولده إسماعيل الذي رأى في الحلم أنه يذبحه، وفي وصايا لقمان لابنه، وفي دعوة نوح ابنه ليركب السفينة معه: [ ونادى نوح ابنه وكان في معزل: يا بني اركب معنا ولا تكنْ مع الكافرين. قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء. قال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم. وحال بينهما الموج، فكان من المغرَقين... ونادى نوح ربه: قال: ربِّ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين. قال: يا نوح إنه ليس من أهلك. إنه عمل غير صالح فلا تسألنِ ما ليس لك به علم. إني أعظك أن تكون من الجاهلين. قال: ربِّ إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم. وإلا تغفرْ لي وترحمني أكن من الخاسرين ] (هود: 42 -43 و45 - 47) ففضلاً عن تصوير عاطفة الأبوة وما فيها من حب وإشفاق وحنان في لحظة ضعف.. هناك أيضاً تصوير لحظة الارتفاع بعدها والتوبة والإنابة والاستغفار.
وصوّر القرآن الكريم من عواطف البنوَّة دعوة إبراهيم آباه آزر للإيمان واستغفاره الله تعالى واستسلام إسماعيل لأبيه إبراهيم كي يذبحه: [ فلما بلغ معه السعي قال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال: يا أبتِ افعل ما تؤمر. ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتلَّه للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم. قد صدقتَ الرؤيا، إنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم ] (الصافات: 102 - 107).
إنها عواطف بشرية حية: أب يريد ذبح ابنه لغير ما ذنب اقترفه بل استسلاماً لأمر الله. إنها لحظة قوة، قوة في بشرية الأب، وقوة في بشرية الابن، لذلك كان الأب من أولي العزم في الأنبياء عليهم السلام.
وصور القرآن من عواطف الأخوة مأساة ابني آدم (قابيل وهابيل)، وحسد إخوة يوسف وصحبة هارون وموسى. [ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً، فتُقبل من أحدهما ولم يُتقبَّل من الآخر. قال: لأقتلنك قال: إنما يتقبل الله من المتقين. لئن بسطتَ إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك. إني أخاف الله رب العالمين. إنما أريد أن تبوءَ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار ذلك جزاء الظالمين. فطوعت له نفسُه قتلَ أخيه فقتله. فأصبح من الخاسرين. فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه. قال: يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي. فأصبح من النادمين ] (المائدة: 27-31). عاطفتان متصارعتان. إحداهما في لحظة ضعف والأخرى في لحظة قوة. وخاتمة الضعف الندم والخسران. تبكيت النفس يبلغ القمة حين لا يفطن القاتل إلى ما فطن إليه الغراب وهو حيوان أعجم.
تلك نماذج من تصوير القرآن للعواطف الفردية صاعدة وهابطة، أما العواطف الجمعية فأفضل نموذج لها هو ما عرضه من نفسيات بني إسرائيل ذلك العرض المفصل الذي لم يتكرر لدى أقوام آخرين، وفي ذلك حكمة بالغة سواء في الدلالة على دور هؤلاء في التاريخ أم في تفردهم بأنواع من الغلظة والقسوة والانحراف ما لا مثيل له: بدءاً بعصيانهم لله تعالى، ومرواً بالشرك وعبادة العجل، وانتهاء بقتل أنبياء الله، قال تعالى بعد وصف التوائهم وعنادهم في ذبح البقرة: [ ثم قست قلوبكم بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة. وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء. وإن منها لما يهبط من خشية الله. وما الله بغافل عما تعملون ] (البقرة: 74).
إن دراسة العواطف البشرية في القرآن تغني الدراسات النفسية العلمية، وهي جديرة بإرساء قواعد علم نفس إسلامي، كما أن دراسة عواطف بني إسرائيل، وقد أبدع القرآن تصويرها، لأمر ذو شأن في السياسة والاجتماع، فضلاً عن العلم والأدب، ولمثل هذه الإنجازات ندعو أصحاب القلم والهمم.(/5)
أما عواطف النساء فقد صور لنا القرآن منها عواطف الأمومة لدى امرأة عمران وأم موسى، كما صور عواطف الملكة بلقيس وزوجة فرعون، ثم عواطف العذراء البريئة الخائفة من التهم والظنون [ واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً. فاتخذت من دونهم حجاباً، فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً. قالت: إني أعوذ بالرحمن إن كنت تقيا. قال: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً. قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أكُ بغياً. قال كذلكِ قال ربكِ هو علىّ هين، ولنجعله آية للناس ورحمة منا، وكان أمراً مقضياً. فحملتْه، فانتبذت به مكاناً قصياً. فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة. قالت: يا ليتني متُ قبل هذا وكنتُ نسياً منسياً] (مريم: 16 -23).
وفي مجال العاطفة الجنسية لدى المرأة عرض القرآن نموذجين: أحدهما في لحظة ضعف المرأة والأخرى في لحظة قوتها. الأولى امرأة العزيز التي راودت يوسف عن نفسه، والثانية ابنة شعيب التي قالت لموسى عليه السلام: [ إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ] بعد أن جاءته على استحياء ثم قالت لأبيها: [ يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ] (القصص: 25 و26).
وإذا تأملنا لحظات الضعف البشري في العواطف التي صورها القرآن الكريم نجده، يسلك معها إحدى سبيلين: إما أن يعرضها بسرعة وإيجاز، أو أن يسوقها بشكل يحول دون التلذذ والإثارة بل تنطبع في النفس آثار النفور والتقزز، سواء في ذلك شذوذ قوم لوط الجنسي، أم غرور قارون، أم شهوانية امرأة العزيز، أم عدوانية (ابن آدم)، أم مادية بني إسرائيل وعنادهم ومظالمهم. وليس التطويل في أمر بني إسرائيل إلا لكثرة ما لديهم من انحرافات وجرائم. وهذا أمر واقع بقدر ما هو عميق وجاد. ونعني بالجد أنه هادف للإصلاح أو للتربية والارتقاء، ولو ورد في صورة ساخرة: [ مثل الذين حُملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً. بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين ] (الجمعة: 5). [ واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها. ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه، فمثلُهُ كمثل الكلب إن تحملْ عليه يلهث أو تتركه يلهث. ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا. فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ] (الأعراف: 175 و 176).
وهكذا لم تكن العواطف البشرية في عرض القرآن لها خيراً محضاً ولا شراً محضاً، بل كانت جمعاً لهما وصراعاً بينهما، كما كانت الغلبة في النهاية للخير، سواء في نفس الإنسان المعروضة أم في نفس الإنسان القارئ أم في الدار الآخرة. وهكذا تكون الواقعية في عرض العواطف من غير تزوير ولا تهويل، ولا طغيان عاطفة واحدة كالجنس على بقية العواطف، ولا في الاستسلام لِثقلة الطين وكبت عواطف السمو والارتقاء: [ ونفسٍ وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكَّاها. وقد خاب من دسَّاها ] (الشمس: 7-10).
يتبع
الهوامش:
(1) و(2) الدوافع النفسية – د. مصطفى فهمي –ط5 –ص136.
(3) المصدر السابق: ص122.
(4) المصدر السابق: 136 – 137.
(5) منهج الفن الإسلامي – محمد قطب –ط4 – ص66.
(6) منهج الفن الإسلامي – محمد قطب –ط1 – ص4.
(7) منهج الفن الإسلامي – محمد قطب –ط4 – ص37.
(8) الدوافع النفسية - ص85 و142.
(9) منهج الفن الإسلامي - ص80.
(10) المصدر السابق. ص: 73.
(11) المصدر السابق. ص: 78.
(12) المصدر السابق. ص:72.
(13) المصدر السابق. ص:78.
(14) المصدر السابق. ص:78.
(15) المصدر السابق. ص:82.
(16) المصدر السابق. ص:84.
العواطف البشرية
في التصور والأدب الإسلامي
(2)
بقلم: محمد الحسناوي
hisnawi@odabasham.org
العواطف في أدب علي أحمد باكثير نموذجاً:
قبل الحديث عن تصوير العواطف في أدب علي أحمد باكثير يحسن أن نقول كلمه إنصاف في هذا الرجل الذي ظُلم مرتين. مرة لأنه لم يُعطَ حقه في ميدان الإبداع لدى الأدباء والنقاد العرب، ومرة ثانية لأنه لم يعرف دوره الريادي في ميدان الأدب الإسلامي لدى الإسلاميين، فقد أوتي موهبة أدبية فذة وقدرة متميزة على تمثل التصور الإسلامي. ويزيد من أهمية هذا الرجل أنه غطى ثغرة مهمة لم تغط بعده حتى الآن، ألا وهي الأدب المسرحي الذي تعاظمت أهميته مع انتشار السينما والتلفزيون والمسرح.(/6)
يحتل التاريخ في أدب باكثير المرتبة الأولى، وعواطف الشخصيات التاريخية مرسومة محددة، فأي فضل لباكثير فيها? خذ مثلاً سلسلة مسرحياته وأروعها (ملحمة عمر)، ومعظم شخصياتها من الصحابة رضوان الله عليهم، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب، فهل يجوز لباكثير أن يتدخل قليلاً أو كثيراً في تصوير عواطفهم؟! إن الجمع بين الأمانة التاريخية-وهذا ما فعله باكثير دوماً - وبين إحياء الشخصية فنياً وهذا ما استطاع أن يفعله غالباً، أمر عسير جداً، لا يستطيعه إلا العباقرة المسلمون أمثال باكثير، وهو أصعب من اختراع الشخصيات واللعب بأهوائها وعواطفها كيفما يشاء المؤلف. ومن إحياء الشخصية التاريخية فنياً جمع الجزئيات المتفرقة، وملء الفجوات، وانسجام ذلك كله مع التصور الإسلامي والمقتضيات الفنية. وإذا كان في المرويات التاريخية تناقض أو غموض أو نقص ازداد دور المؤلف، وهذا ما حصل مثلاً في مسرحية باكثير (سر الحاكم بأمر الله) فقد شاع عن هذه الخليفة الفاطمي قديماً وحديثاً أنه مجنون، بينما هو في مسرحية باكثير من أبعد الناس عن الجنون، وإنما كان رجلاً أمعن في التصوف والتعلق بالحب الإلهي، حتى نازعته نفسه إلى الانسلاخ من بشريته ليصل إلى مرتبة الكمال الإلهي حتى يكون -وهو في جسده- روحاً.. شفافة متصلة بالروح الأكبر الساري في الكون كله وهو الله(17). ولعلك تضيف فتقول: إن باكثير استطاع أن يعالج بنجاح في هذه المسرحية التاريخية أهم قضية في التصور الإسلامي للعواطف والنفس الإنسانية، ألا وهي بشرية الإنسان، وعدم قدرته على الانسلاخ من هذه البشرية.
إذن ليست المشكلة المادة التاريخية أو غير التاريخية، وإنما مشكلة صياغتها من جديد، والتعبير وطرق الأداء أو التناول. وإلا ما الفرق بين وليم شكسبير وبين المؤرخ الإيطالي الذي استمد منه شكسبير موضوعات معظم مسرحياته?!
وقبل أن نغادر الحديث عن بشرية العواطف لدى الحاكم بأمر الله، الذي قام برياضة نفسية فعمد إلى جميع مظاهر الضعف في الإنسان، من خوف وعجز وكسل وحرص وبخل وشهوة وكبر ورحمة، فحاول قلعها بعزيمة جبارة لا تعرف التردد حتى انتهى إلى الإخفاق.. قبل ذلك نشير إلى صورة مقابلة ومكملة لهذا التصور، ألا وهي محاولة الملائكة أن يصيروا بشراً ويواجهوا الابتلاء الذي كتب على الإنسان في مصارعة الشهوات والارتفاع عن ثقلة الطين، وذلك في مسرحية (هاروت وماروت) فأخفقت محاولتهم أيضاً. وسبب محاولتهم أنهم سمعوا بتكريم الإنسان على الملائكة حين يستطيع أن ينجح في الامتحان، وتنتصر نفسه اللوامة على نفسه الأمارة، لكن حين وضع الله تعالى فيهم العواطف البشرية زلت القدم، فكان العقاب الصارم. فلا الإنسان بقادر على أن يخرج من جلده، ولا الملاك بقادر على أن يصير إنساناً.
في مسرحية (سرّ شهرزاد) لم يسقط الملك شهريار في الامتحان، لأنه ملاك، أو أراد أن يصير ملاكاً، على العكس كان سقوطه بسبب انطلاقه وراء أهوائه وشهواته من معاشرة النساء ومعاقرة الخمرة ولديه الزوجة الطيبة الطاهرة (ست بدور). لقد انتهى به فجوره إلى (العنّة) أو العجز الجنسي، الذي يخجله أمام زوجته التي تغار عليه، فقتلها ظلماً، وأصيب بعقدة نفسية، وصار يغطي عجزه بزفاف زوجة جديدة كل ليلة وقتلها في الصباح. ما كان علاجه النفسي والجسدي إلا بأدوية طبيبه الحكيم رضوان، وبأحاديث شهرزاد التي تصرفه عن الممارسة الجنسية بالتراضي، ثم بمواجهته أخيراً بحقيقة أخطائه السابقة وبضرورة الاستقامة والنظافة.
هل في التصور الإسلامي أن سقوط الإنسان في حمأة العواطف الهابطة ضربة لازب سواء استمر هذا الهبوط - كما هو عند فرويد- أو انتهى بالتوبة? الجواب: لا. بالتأكيد. ففي قصة امرأة العزيز مع يوسف لم يسقط يوسف، ولم يهبط إلى النسوة اللواتي: ?قطعن أيديهن وقلن: حاش لله ما هذا بشراً. إن هذا إلا ملك كريم?. وفي رواية (سلامة القس) ومسرحية (قصر الهودج) مثل رفيع لمغالبة النفس الأمارة بالسوء وانتصار النفس اللوامة عليها.
(القسّ) هو عبد الرحمن بن أبي عمار. شاب في الخامسة والعشرين، عاش في أوائل حكم بني أمية، نشأ في طاعة الله عابداً زاهداً وعالماً فقيهاً حتى لقبه أهل مكة بالقس. (وسلامة) جارية جميلة ذات صوت عذب، أحبها عبد الرحمن حباً عظيماً، وصار يختلف إليها ليسمع غناءها، ويستمتع بجمالها حتى شهر أمرهما ولقب بها (سلامة القس)، وبادلته هي الحب، وفي خلوة قالت له: أشتهي أن أضع فمي على فمك، فقال لها: وأنا كذلك. فقالت ما يمنعك والمكان خال? قال: أنسيتِ الله يا سلامة? وكان جمالها وعذوبة صوتها سبباً في غلاء ثمنها، وانتقالها من تاجر إلى تاجر ثم إلى قصر الخليفة يزيد، ولا يستطيع عبد الرحمن الفوز بها، لكنه ظفر منها بوعد أن تتقي الله في حياتها حتى تكون من نصيبه في الدار الآخرة.(/7)
أما ((قصر الهودج) فهو القصر الذي بناه الخليفة الفاطمي (الآمر بأحكام الله) لزوجته البدوية المعشوقة (سلمى) في جزيرة الفسطاط على نهر النيل. وحين يفاجئها حبيبها وابن عمها البدوي (ابن مياح) تستقبله على حرج، ويطلب منها بعد حوار غزلي عفيف أن تسمح له بتقبيل يدها - والخليفة خلف الباب يسمع ويرى خفية - فترفض طلبه اعتصاماً بدينها وخلقها، ثم ينتهي الأمر برجوع الخليفة عن زواجه بسلمى، ويردها إلى ابن عمها وحبيبها.
الصراع العاطفي أو النفسي في أدب باكثير حافل، سواء في النفس الواحدة كما حدث للقس عبد الرحمن بن أبي عمار في رواية (سلامة القس)، أم بين نفسين كما وقع بين الحاكم بأمر الله الفاطمي وأخته العاقلة المدبرة ست الملك.
لكن هناك صوراً من الصراع تحتل حجماً أكبر في أدبه، ألا وهو صراع فرد مع جماعة أو صراع بين جماعتين. ونخص بالذكر مسرحياته السياسية التي وقفها مناهضة للصهيونية والكيان الصهيوني مثل: (إله إسرائيل) و(شيلوك الجديد) و (شعب الله المختار) و(التوراة الضائعة) و(على مسرح السياسة).
أما مسرحية (مسمار جحا) فترمز للقضية المصرية، وما تنطوي عليه من عواطف الاستنكار والإدانة للاستعمار الإنكليزي، ومن حب الوطن، وحب الشعب والعدل والحرية.
في هذه المسرحية فكرتان أساسيتان أو خطان أساسيان. أحدهما: هو الخط السياسي الذي يتمثل في الصراع بين جحا وبين الحاكم الدخيل حتى انتهى بثورة الشعب على الدخيل وتحرر البلاد من نيره. والثاني هو الخط الاجتماعي الذي يتمثل في الصراع بين جحا في مثاليته وبين زوجته (أم الغصن) في ماديتها الصارخة. ويتركز هذا الصراع بصفة خاصة حول تزويج ابنتهما (ميمونة). فجحا يريد أن يزوجها لابن أخيه الفلاح (حماد) حتى بعدما حسن حال جحا، وارتفع مقامه حين صار (قاضي قضاة) البلاد، وأمُّ الغصن تأبى إلا أن تزوج ابنتها لغني من الأغنياء. وانتصر رأي جحا في النهاية. فزوجت ميمونة لحماد، وبذلك يسدل الستار.
أما في مسرحية (الدودة والثعبان) - واسمها الحقيقي: جيش الشعب - فنجد ثلاثة أشكال من الصراع: هناك صراع حربي بين المماليك بقيادة إبراهيم بك ومراد بك وبين جيش الحملة الفرنسية على مصر. أما الشكل الثاني من أشكال الصراع فيتمثل بين المقاومة الشعبية التي كان عمر مكرم يقودها في القاهرة وبين الغزاة. ولم يبرز باكثير هذين الشكلين من الصراع إلا لكي يؤكد قيمة الشكل الثالث، الذي كان يتزعمه الشيخ الضرير سليمان الجوسقي، وهذا الصراع المسلح والمنظم والخاضع للتخطيط والتدبير ضد كل القوى الأجنبية. هذا الشكل من الصراع هو الذي نجده يمتد في قوة وعنف حتى يبلغ ذروته في ثورة القاهرة الأولى. وقد استطاع الكاتب أن يبرز لنا مواقف هذا الصراع على المستويين الفردي والجماعي; على مستوى الجمهور والقيادة على السواء.
مما يؤشر على تمثل باكثير للتصور الإسلامي في فهم النفس الإنسانية والعواطف البشرية أمور نذكر منها: إدراكه العميق لوحدة النفس، ثم اهتمامه بعرض نفسية بني إسرائيل وتحليلها. ومثلما أفرد القرآن الكريم مساحة واسعة لعرض نفسيات بني إسرائيل وعواطفهم مع موسى عليه السلام وغيره، نجد باكثير يتفرغ لهذا الغرض في عدد ضخم من مسرحياته الطويلة والقصيرة. وإذا كانت المساحة القرآنية قد اتسعت بسبب تنوع أهواء بني إسرائيل وتعددها، فان الأمر نفسه في أدب باكثير أيضاً. على أن هذا الجانب يستحق دراسة مستقلة تملأ كتاباً، ننتدب له أصحاب الهمم والقلم.
بالنسبة إلى وحدة النفس البشرية -إذا اختل جانب منها تأثرت الجوانب الأخرى - نضرب مثلاً نفسية الملك شهريار في مسرحية (سر شهرزاد). هذا الملك حين انساق وراء شهواته وعواطفه الهابطة انعكس الهبوط والضرر على صحته الجسدية والنفسية أولاً، ثم على أوضاع مملكته ثانياً، حيث عم الفساد والظلم والاضطراب. وحين سلمت نفسه، واتزنت عواطفه عوفي جسمه، واستعاد الحكم هيبته، وانتشر العدل وشاع الأمن والاطمئنان.
وفي رواية (وا إسلاماه) التاريخية نموذج خصب لتعامل أديب مسلم مع العواطف البشرية. ففي هذه الرواية حشد وافر من عواطف الرجال والنساء والأطفال، والملوك والعلماء والرعية، في أحوال الضعف والقوة، والتذبذب والتقلب. في أحوال الرغبة والرهبة، وفي الأمانة والخيانة، وفي الصداقة والعداوة. كل ذلك من خلال المنظور الإسلامي الشامل الحي.
العاطفة السائدة في هذه الرواية عاطفتان متوازيتان متكاملتان، بمعنى أن إحداهما جزء من الأخرى. هما العاطفة الدينية الإسلامية، وعاطفة الحب العذري أو الحب (الجنسي) العفيف.(/8)
ومن خلال هاتين العاطفتين وحولهما تتفرع وتتشقق عواطف مماثلة ومقابلة ومعادية. وفضلاً عن أهمية هاتين العاطفتين في النفس البشرية، تأتي أهمية أخرى، وهي أن الأديب باكثير يعرضهما ويدرسهما في مرحلة حرجة جداً من تاريخ العرب والمسلمين: نهاية الخلافة العباسية وبداية حكم المماليك لمصر والشام، أو ما اصطلح على تسميته (عهد الانحطاط): أي عهود انحطاط نفوس المسلمين، وانحطاط عواطفهم بالتالي.
رواية (وا إسلاماه) تروي قصة حياة الطفلين (محمود) وابنة خاله (جهاد) حفيدي الملك المسلم خوارزم شاه، واختطافهما من ابنه الملك جلال الدين في جبال الأكراد، وبيعهما لتاجر رقيق حلبي بعد تسميتهما (قطز) و(جلنار)، ثم بيعهما ثانية للوجيه الدمشقي غانم المقدسي أحد أتباع الشيخ المجاهد ابن عبد السلام. وبعد بلوغهما سن الرشد - وهما في حب ووئام- كتب عليهما الفراق بموت سيدهما، وبيع جلنار من جديد، حيث صارت أخيراً إلى قصر شجر الدر في مصر. ثم اجتماع شملهما وزواجهما مع زواج شجر الدر بالملك عز الدين أيبك. أخيراً تستشهد جلنار، وهي تحامي عن زوجها الحبيب في معركة جالوت، التي انتصر فيها المسلمون على التتار بقيادة الملك المظفر قطز. ولم يعمر بعدها طويلاً، فقد ارتاب به قائده بيبرس، فأسهم في اغتياله، لكنه ندم لما تبين أن الملك المظفر كان ينوي تعيينه ملكاً بعده.
إن المسيرة العاطفية لمحمود (قطز) وجهاد (جلنار) بدأت منذ مرحلة الطفولة المبكرة، ومرت بمرحلة المراهقة - حيث وقع يوم فصل بين عالمين - واستمرت حتى نهاية العمر.
بعد سنوات الفراق اهتدى قطز إلى مكانها برسائل غرامية طريفة: وردة أولى ثم ثانية ثم ثالثة ثم رابعة تسقط عليه من مقصورة شجر الدر في قلعة الجبل، حتى يفطن إلى السر، ويتجرأ بالنظر إلى أعلى حيث جلنار.
الأطرف من ذلك أن يتقدم كل من عز الدين أيبك وأقطاي إلى الزواج من شجر الدر بعد وفاة زوجها نجم الدين، وهي ما تزال في شبابها وجمالها، وينتدب عز الدين تلميذه قطزاً، كما ينتدب أقطاي تلميذه بيبرس لذلك، يقف كل واحد منهما بين يديها يسوق الحديث الغزل ووصيفاتها وراء باب المقصورة على أطراف أرجلهن يتطلعن وراء الستائر، ويستمعن إلى الحديث حابسات أنفاسهن، حتى إذا انقضى الحديث عدن إلى أماكنهن وقد انقسمن إلى فريقين: فريق يتشيع لقطز، وفريق أقل منه يتشيع لبيبرس. ومن أسباب نجاح قطز أنه رجل عاشق، على حين كان بيبرس شرساً لا يقيم للعشق وزناً(18).
على الرغم من عمق عاطفة الحب التي جمعت بين قطز وجلنار، إلى درجة اندفعت معها للقتال دفاعاً عنه واستشهادها دونه، فصاح: (وازوجتاه واحبيبتاه). على الرغم من ذلك الحب وبسببه، رفعت الشهيدة طرفها إليه، وقالت له بصوت ضعيف متقطع، وهي تجود بروحها في السياق: (لا تقل واحبيبتاه قل: واسلاماه)(19). وهكذا يتجلى اندغام عاطفة الحب الفردية بعاطفة التدين الكونية، لأنهما عاطفتان ساميتان في نفسين نبيلتين. هذا السمو، وهذا النبل لم يحولا دون وقوع هنات بشرية، مثل النظر إلى المحاسن والمصافحة والعناق والتقبيل قبل الزواج، مما يدخل في باب اللمم(20).
أما العاطفة الدينية -حب الله والرسول والإسلام والمسلمين - فتتجلى أقوى ما تتجلى في الشيخ ابن عبد السلام وتلاميذه، أمثال الوجيهين غانم المقدسي وابن الزعيم، كما تتجلى لدى عدد كبير من ملوك المسلمين وأمرائهم وقادتهم، الذين حاربوا الصليبيين والتتار، أمثال خوارزم شاه وابنه جلال الدين، والملك الصالح نجم الدين أيوب، والملك المظفر قطز وزوجته جلنار.
الشيخ ابن عبد السلام عمل على إصلاح الرعاة والرعية، وجاهر في مناصرته للملوك الصالحين، ومحاربته للخونة والمنافقين. حين سجنه ملك دمشق الخائن عماد الدين إسماعيل طلب الشيخ من أتباعه اغتيال أفراد الفرنجة الذين يدخلون أسواق دمشق لشراء السلاح، حتى سرى ذلك في العامة فاجترأوا على اغتيال الفرنج جهرة في وضح النهار(21).
وحين طلب الملك نجم الدين الاستشفاء في دمشق، وتأخر عن محاربة الصليبيين، كتب إليه الشيخ يقول: (إن الإسلام في خطر، وصحة السلطان في خطر. الإسلام باق، والسلطان فانٍ في الفانين، فلينظر السلطان أيهما يؤثر)(22).
وحينما انحرف الصاحب معين الدين وزير عز الدين أيبك صديق الشيخ، فابتنى لنفسه غرفة على سطح مسجد ليلقى فيها أصحابه نهاه الشيخ، ثم قام بنفسه وأولاده، فهدمها، ونقلوا أثاثها وأسقط الشيخ شهادة الوزير، وعزل نفسه من القضاء(23). وفتوى الشيخ في أموال المماليك معروفة(24).(/9)
في الرواية صور مشرقة لعواطف العامة من المسلمين، فحينما نودي في مصر بالخروج إلى الجهاد في سبيل الله.. خالط الناس شعور عجيب لم يعهدوا له مثيلاً من قبل، وطغى هذا الشعور على جميع طبقات العامة، حتى كفَّ الفسقة عن ارتكاب معاصيهم، وامتنع المدمنون عن شرب الخمر, وامتلأت المساجد بالمصلين, ولم يبق للناس في البيوت والأندية والمساجد الطرقات من حديث إلا حديث الجهاد(25), وحينما خطب الملك قطز بعد الانتصار في معركة عين جالوت، ورثى زوجته جلنار أدركته الرقة فبكى وعلا نحيبه, فبكى المسلمون جميعاً وتعالت أصواتهم بالنحيب, وهم يقولون (يرحمها الله! يرحمها الله)(26).
مقابل هذه العواطف الفردية والجماعية المشرقة نصادف في الرواية عواطف هابطة مطموسة لدى الخونة والمنافقين والجبناء، فضلاً عن عواطف التتار والصليبيين المقيمين في عكا أو القادمين مع الحملة الصليبية على مصر. فملك دمشق عماد الدين إسماعيل يكاتب التتار ليعينوه على احتلال مصر, ويرسل إليهم الهدايا مع ابنه العزيز, ثم يقاتل في صفوفهم ضد إخوانه المسلمين حتى يقع في الأسر, ويفتي الشيخ ابن عبد السلام بقتله في سجنه(27).
وهناك المنافقون الذي دلّوا الأعداء الصليبيين على مخائض البحر الصغير, فعبرت منه فصائل الفرنج, وكادت توقع بالمسلمين في معركة المنصورة. ومثل ذلك جمع من أمراء المماليك الذين رفضوا تسليم الأموال المسلوبة من الرعية, ورفضوا الخروج إلى مواجهة التتار حتى حملهم الملك قطز على ذلك(28).
أما الخونة من ملوك الشام وأولادهم الذين لحقوا بالطاغية هولاكو إلى بلاد فارس, حيث بلغه انهزام عسكره في عين جالوت, ومقتل نائبه الكبير كتبغا, فعظم عليه الخطب, ولم يهدأ غضبه، فكان مصيرهم أن قتلهم هولاكو جزاء خيانتهم إلا واحداً منهم عشقته زوجته, فشفعت له عند زوجها, فعاش طليق امرأة كافرة!(29) وهكذا كان للطغاة.. وللأشرار عواطف بشرية, ولكن أي عواطف?!
بين هذين النوعين من العواطف الصالحة والطالحة, المشرقة والمطموسة, نصادف نوعاً ثالثاً يقع بين بين, اختلط فيه الصالح بالطالح, أو تذبذب بينهما, نختار له مثلين: أحدهما عواطف الملكة شجر الدر, والثاني عواطف الظاهر بيبرس. أما شجر الدر فقد جمعت بين عواطف الغريزة الأنثوية المعروفة لدى النساء, وبين عواطف التحكم والسيطرة المعروفة لدى الرجال. كانت وفيه لزوجها الأول الملك نجم الدين, ولزوجها الثاني الملك عز الدين. لكن غيرتها من زوجه الثاني, ومنافسته لها في الاستئثار بالحكم حملتاها على استدراجه واغتياله, مما حمل ضرتها على اغتيالها أيضاً(30) وهي التي استطاعت ضبط عواطفها, وكتمان وفاة زوجها في أوج المعركة حتى تحقق الانتصار على الصليبيين, ثم ضبط عواطفها تجاه الأميرين اللذين يخطبان ودها حتى تغلب أحدهما على الآخر(31).
أما الظاهر بيبرس, ففضلاً عن عواطفه الدينية وشجاعته في محاربة التتار, فنجده يحمل بين جنبيه عاطفتين متصارعتين, إحداهما عاطفة الصداقة التي يكنها للمظفر (قطز) منذ الصغر وثانيتهما عاطفة السيطرة والتحكم التي أورثته الغيرة والحسد والريبة, فتقلب في مواقفه تجاه قطز, لدرجة اشتراكه معه في حروب التتار وفي مؤامرة اغتياله بعد ذلك مباشرة, ثم ندمه الشديد لما اكتشف أن قطز كان ينوي تعيينه ملكاً بعده.
وهكذا في عصور الانحطاط المظلمة التي اجتمع فيها على المسلمين خطر التتار من الشرق وخطر الصليبيين من الغرب.. أشرقت نفوسهم, وتألقت عواطفهم من جديد فكان الانتصار العظيم في معركتي المنصورة وعين جالوت.
وفي رواية (الثائر الأحمر) مختبر فني تاريخي للعواطف البشرية. الشخصية الرئيسة في الرواية هو الثائر الأحمر حمدان بن قرمط الأهوازي. فلاح كان والده يملك إحدى القرى الصغيرة حول الكوفة استولى عليها بالحيلة الثري الحسين بن الحطيم. حمدان في الخامسة والثلاثين من عمره. قوي البنية, جلد على العمل, شرس. لما اختطف عملاء ابن الحطيم أخت حمدان ردّ على ذلك باختطاف أخت ابن الحطيم، وحملها هدية إلى طاغية الزنج في البصرة. أواخر العهد العباسي وفي خلافة المعتمد وابن أخيه المعتضد تحول حمدان من فلاح بائس مضطهد إلى (عيّار) ينتقم لنفسه وللفقراء من الأثرياء الطغاة أمثال ابن الحطيم وابن أبي السباع، حتى تعرف على حسين الأهوازي الذي سلكه في منظمة أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح السرية, وهي حركة واسعة المجال، دقيقة النظام، مركزها آنذاك (سلمية) بالشام، ولها شعب منتشرة في أمهات المدن والأصقاع. أما عبد الله بن ميمون القداح، فهو يهودي دجال من بني الشلعلع. ويتفوق حمدان في الحركة الجديدة، فيصبح نقيب النقباء، وإلى جواره مستشاره الفقهي في المذهب ابن عمه عبدان.(/10)
وهكذا نجدنا في هذه الرواية أمام حشد ضخم من العواطف الفردية والجماعية, الهابطة والسامية, الجنسية والفمية والروحية وغير ذلك, كما نجدنا أمام رؤيا متكاملة للإنسان والكون والحياة، وعلاقة ذلك كله بالله تعالى، ثم بحركة المجتمعات والتاريخ علواً وانحطاطاً، لدرجة إرهاصها الواعي, وتوقعها بسقوط الماركسية في عصرنا قبل سقوط الكيان الإمبراطوري للمنظومة الاشتراكية وطليعتها الاتحاد السوفيتي بنصف قرن.
إن هذه الرواية تحلل بشكل فني الآثار المدمرة لشهوتي الفرج والفم، حين تأخذان شكل عواطف هابطة، لا تقيم وزناً لسنن الله في الكون والمجتمع: من نظافة واستقامة وعدالة حقيقية, فقد استغل حاخامات اليهود وتجارهم حاجة الجماهير الفقيرة للطعام وفساد الحكام والنظام المغالي آنذاك، وألبسوا ذلك ثوباً جذاباً من حب آل البيت والتبشير بفردوس أرضي يلغي كل القيود والسدود، وكان أبرز ضحية لهذا المخطط الجهنمي وأكبر ثائر عليه بعد ذلك.. هو حمدان قرمط.
بعد أن جعل حمدان عاصمة ثورته.. مدينة (مهيما باذ) في البطائح جنوب العراق شرع يطبق على أهله ورعيته تعاليم حركته التي سميت حركة العدل الشامل, مثل اقامة (ليلة الإمام)، ومثل ضريبتي (البلغة) و(الألفة).
أما ليلة الإمام, فهي ليلة احتفالية يجتمع فيها الرجال والنساء للغناء والرقص والشراب، ثم الزنى الشامل بلا مراعاة للمحارم أو الحرمات. فكان أن وقع حمدان نفسه على ابنته، فاشمأزت نفسه، واستيقظ ضميره، فمنعها من حضور هذه الليلة.
أما (الألفة) فهي نظام مالي أمر به حمدان, وهو أن يؤدي كل فلاح أو عامل ما يفضل عن حاجته من الثمار والحبوب حتى يكونوا في ذلك أسوة واحدة، لا يفضل أحد منهم صاحبه وأخاه في ملك يملكه, وكانت نتيجة ذلك أن نشأت طبقة جديدة من الأغنياء هم رجال السلطة والأمن من حول حمدان وكبار قادته، كما انتشر الفقر والجوع في الرعية من جهة، والميل إلى الكسل والإهمال في الإنتاج من جهة ثانية, وقد تحسّس حمدان ذلك كله بنفسه حين انفرد ببعض العمال والفلاحين وأعطاهم الأمان إن هم صارحوه بالحقيقة. بل أن جلندى الرازي رئيس جلاوزة الشرطة السرية لديه أساء استعمال سلطاته الواسعة، فاحتجز أخت حمدان، واغتال زوجها تمهيداً للعدوان عليها.
أما (البلغة) فهي ضريبة للإمام, هي سبعة دنانير يدفعها من شاء أن يذوق طعام أهل الجنة! وقد اكتشف حمدان أن وجود إمام من أهل البيت مجرد خدعة ابتكرها ونفذها اليهودي الدجال عبد الله بن ميمون القداح ومن بعده ابنه أحمد.
وهكذا نشأ انهيار الحركة القرمطية من الداخل بدءاً من قائدها حمدان وانتهاء بقواعدها أو الرعية الكادحة التي قامت على سواعدها, لأنها أسّست على أنماط من العواطف الهابطة والمجافية للقيم العليا والأشواق الروحية السامية، وسنن الله تعالى في خلقه. وذلك على الرغم من الدور الفعال الذي نهضت به مصارعة عواطف الأثرة المالية والظلم الاجتماعي وكل ما كان يفرزه التفاوت الطبقي والإقطاع آنذاك, (وما ظالم إلا ويبلى بأظلم).
كيف الخلاص إذاً من عواطف الجشع وعبادة العجل الذهبي التي يرعاها بنو الشلعلع من جهة، ومن عواطف البهيمية المنطلقة من كل نظافة واستقامة تنظمان العواطف والشهوات وتحولان دون استفحال طغيان جديد يحل محل طغيان قديم من جهة ثانية؟
إن الخلاص كان في الاستجابة لدعوة الشيخ أبي البقاء البغدادي، الذي قاوم طغيان السلطة والمال (ممثلَين بالخليفة والتجار)، كما قاوم طغيان الشهوات الهابطة (ممثلة بحركة القرامطة)، لذلك حبسه السلطان ونفاه،كما عملت ضده حركة القرامطة. وأخيراً استجاب الخليفة المعتضد لدعوته, فأفرج عنه، وعمل بتوجيهاته في تطبيق العدالة الاجتماعية الإسلامية, وذلك في الوقت الذي اكتشف فيه حمدان مخاطر الاستمرار في انحراف حركته, فأخذ يوجه أتباعه للالتحاق بحركة أبي البقاء شيئاً فشيئاً.
إن إيجاز رواية (الثائر الأحمر) وتبسيطها، لا يكافئان الإبداع الفني الضخم الذي حققه باكثير في تشريح العواطف البشرية لا سيما العواطف الهابطة, وعلى الأخص حين تتخذ هذه العواطف مصائد وشراكاً, أو حين يدمن عليها بعض الرجال والنساء فلا يستطيعون منها فكاكاً. وهكذا كان شأن (راجية) أخت حمدان و (عبدان الأهوازي) ابن عمه, فكل منهما أستمرأ الفجور وتولى الدعوة له: راجية بشبقها, وعبدان باختصاصه الفقهي. أما جعفر الكرماني فهو الداعية الصياد الذي اتخذ من عشيقته (شهر) مصيدة أوقعت في حبائلها الفقيه عبدان أولاً والقائد حمدان ثانياً وسوغت لكل منهما فعلة حسين الأهوازي بالفتاة (راجية).(/11)
على أن البراعة في تصوير العواطف السامية والنوازع الخيّرة لا تقل أهمية وصعوبة عن تصوير العواطف الهابطة.. فضلاً عن اليقظة الوجدانية التي انطلقت من ضمير حمدان وعن عواطف الخير والجهاد والإصلاح التي مثلها الشيخ أبو البقاء البغدادي وحركته.. نجد امرأة فاضلة واجهت الشدائد والمحن بسبب نظافتها واستقامة عواطفها وأخلاقها، وهي (عالية) أخت حمدان التي اختطفها (العيار) المنحرف (ثمامة) لما رفضت الاقتران به, وسلمها لمالك الأرض المتبطل ابن الحطيم ليتخذها بالقوة محظية له, وهي هي التي قاومت ضغوط رئيس الشرطة السرية في دولة "مهيما باذ" القرمطية واغتياله لزوجها, وأخيراً وقفت وحيدة أمام سلطة أختها (راجية) وابن عمها (عبدان)، تهاجم الفجور في ليلة الإمام، والمظالم في تلك الدولة القرمطية, واستطاعت أن تكسب أخاها حمداناً، ومن ثم أن تكسب المعركة كلها. فالنساء كالرجال في معترك العواطف البشرية سواء بسواء.
ولا يفوتنا أن نقف عند عواطف الشاب الليث بن حمدان الذي استلطفته عمته (راجية) بعد أن وقع عليها في (ليلة الإمام)، ثم اشمأز وأعرض عنها وعن تحرشها به، ومال إلى توجيهات عمته الأخرى (عالية)، ثم الاقتران بابنتها (مهجورة )، وهي بنت عالية من (ابن الحطيم) التي تتلمذت في مدرسة أمها, ولم يمنعها من نظافة العواطف واستقامة الخلق أنها ابنة زنى, وفي اقتران هذا الشاب بهذه الفتاة دلالة على إمكانية العلو والسمو في العواطف بعد التسفل والانحراف، ودلالة على أن الغلبة والمستقبل للعواطف البشرية الصحيحة السامية.
التصور الإسلامي والأدب الإسلامي كل منهما يقدّر العواطف البشرية حق قدرها, فلا حياة بلا عواطف, ولا أدب بلا عواطف, ولكن أي عواطف? ذلك أن هناك من العواطف ما يرقى بالحياة والأدب ويزيدهما خصباً ونماءً وإنسانية, وهناك من العواطف ما ينسف الأدب والحياة معاً.
الهوامش:
(17) المسرحية من خلال تجاربي الشخصية – باكثير – ط1985م-ص: 46.
(18) وا إسلاماه- علي أحمد باكثير – دار الكتاب اللبناني –بيروت –ص 192 -196.
(19) المصدر السابق. ص:251.
(20) المصدر السابق. ص:110.
(21) المصدر السابق. ص:133.
(22) المصدر السابق. ص:165.
(23) المصدر السابق. ص:161.
(24) المصدر السابق. ص:122.
(25) المصدر السابق. ص:240.
(26) المصدر السابق. ص:259.
(27) المصدر السابق. ص:192.
(28) المصدر السابق. ص:24.
(29) المصدر السابق. ص:262.
(30) المصدر السابق. ص:212.
(31) المصدر السابق. ص:206.(/12)
العواطف والضوابط
علي بن عمر بادحدح
أضيفت بتاريخ : 03 - 08 - 2003 نقلا عن : خاص بإذاعة طريق الإسلام نسخة للطباعة القراء : 4081
بين جوانح كل مؤمن قلب غيور ونفس أبية، وفي صدر كل مسلم حماسة إيمانية وحمية إسلامية، وما من شك أن مآسي المسلمين تدمي القلوب ألما، وتعتصر النفوس أسى، وتمور المشاعر وتجيش العواطف ويتقد الحماس وهنا إما أن تطلق هذه العواطف لتحدث العواصف والقواصف، لا تلوي على شيء ولا تفكر في عاقبة ولا ترعوي عن حرمة، وإما أن تبالغ في تصور العوائق، وتضخيم العواقب، فترتد عاجزة محبطة قد امتلأت يأسا يئد حيويتها، ويضعف قدرتها، ويصرفها عن الانشغال بأحوال الأمة والإسهام في نصرتها .
إنه لا بد من الإقرار بأن العواطف طبيعة وفطرة بشرية، وأنها في الوقت نفسه عامل مؤثر في واقع الحياة الإنسانية سلبا وإيجابا، ولكن المسلم لا يقرر إيقاع أفعاله أو الحكم بصوابها وخطئها من منطلق العاطفة، ولا بمقياس ردود الأفعال، بل هو ملتزم بضوابط الشرع وأحكام الدين، وكل أقواله وأفعاله ينبغي أن تنضبط بأمرين أساسيين أولهما : الحكم الشرعي المستفاد من النصوص والمقاصد والقواعد الشرعية، وثانيهما : مراعاة المصالح والمفاسد عند تنزيل الأحكام الشرعية على الأحوال والحوادث الآنية والواقعية، وكلا الأمرين لا يلغي العاطفة بل يضبطها ، ولا يمنعها بل يوجهها .
هناك من يطلقون العنان لعواطفهم، ويسلمون القياد لحماستهم، فيندفعون بلا روية، ويواجهون بلا حكمة، ويغيرون بلا تدرج، وينكرون بلا تفقه، إلى هؤلاء أقول تذكروا قول الحق تعالى:{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب }، وأسوق لهم حديث خباب رضي الله عنه يوم اشتد عليه العذاب فشكا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الشفيق الرحيم فذكره بمن كان أشد منه عذابا ثم قال:" والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
وأذكرهم بما أمر به المصطفى صلى الله عليه وسلم في الفترة المكية رغم شدة الأذى وضغط الاستفزاز :{ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا }، ولا ينبغي الإسراع والاندفاع بدون الحكمة والانضباط، إذ ربما يكون ذلك استفزازا من الأعداء واستدراجا من المتربصين:{ فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون}، وفي يوم بيعة العقبة الثانية قال العباس بن عبادة بن نضلة:" والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا" فقال عليه الصلاة والسلام:" لم نؤمر بذلك"، وهنا يرد ذكر قوله تعالى:{ ألم تر الذي قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا }.
ولعل مما يرد في المقام موقف الفاروق عمر بن الخطاب ; يوم صلح الحديبية حيث تحركت غيرته، وهاجت حميته، وزادت حماسته وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يارسول الله ألست برسول الله ؟ قال: بلى، قال: أولسنا بمسلمين ؟ قال : بلى، قال: أو ليسوا بمشركين ؟ قال: بلى، قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال: أنا عبدالله ورسول الله لن أخالف أمره ولن يضيعني ، قال عمر: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة من كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيرا"، وهذه هي الطريق حماسة وحمية لكن تضبطها مرجعية منهجية .
وربما يكون هناك ما يستفز ويزعج من تسلط الأعداء أو تفلت الأولياء، ولابد من تأثر لذلك وتغير، ولابد من صد ومنع، ولابد من عمل وإصلاح، وذلك مطلب فيه تصديق للإيمان، وإظهار لآثاره ولكن مراعاة المصالح والمفاسد، واعتبار المآلات والمقاصد، وقبل ذلك التزام التشريعات والأحكام يضبط العاطفة ولا يمنعها، ويحقق الفائدة ولا يضيعها، وكثيرا ما تكون العاطفة دافعة إلى مراعاة الأمور الصغيرة والوقوف عندها على حساب ما هو أكبر منها، ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية أمر الكاتب أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فاعترض سهيل بن عمرو (ممثل قريش) وقال: لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم، ولما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : « هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو » ، قال: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك !
وفي كل مرة كان المسلمون والكاتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه يرفضون ويرون ذلك مجحفا لهم ومنقصا لمكانتهم ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل تجاوز هذه الأمور والشكليات العارضة لنظره إلى ما هو أعلى وأسمى.(/1)
وأحيانا تدفع العاطفة لقطف الثمرة القليلة العاجلة، ولا يكون لديها القدرة على الأناة والصبر للعمل والدأب من أجل الثمرة العظيمة الآجلة، ولو كان ضبط لما كان ذلك، فهذا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يوم الأحزاب يدخل معسكر المشركين بتكليف محدد من النبي صلى الله عليه وسلم وهو استجلاء ومعرفة الأخبار، ومع تحذير من إحداث أي فعل، وهاهو حذيفة يخبرنا فيقول:" لولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أحدث شيئا، ثم شئت أن أقتل أبا سفيان لقتلته بسهم"،
نعم لقد كان أمام عينه وفي متناول يده وهو – يومئذ – رأس الكفر، وقائد الجيش، ولكنها الضوابط التي تلتزم، والمصالح التي ترتجى، توجهه وترشده، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف في عمرة القضاء في العام السابع وحول الكعبة ثلاثمائة و ستون صنما، ما عابها ولا شتمها ولا بصق عليها، وهو – قطعا- منكر لها وراغب في هدمها وإزالتها، ولكن الأوان لم يحن بعد، وفي فتح مكة بعد عام واحد فقط، أسقطها واحدا واحدا وهو يتلو :{ وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا }.
إن الذي لا عاطفة عنده، ولا غيرة لديه، ولا حمية بين جنبيه عنده في إيمانه نقص وضعف ولا يرجى منه حركة وعمل، وندعوه لأن يراجع نفسه، ويعالج ضعفه، وذو العاطفة الجياشة نشكره وندعوه إلى ترشيدها في ضوء الشرع وضبطها بمراعاة المصلحة، ومسك الختام هذه الكلمات المشرقة للداعية الفذ الأستاذ البنا رحمه الله:" ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف ".(/2)
العودة إلى المناهج 20/8/1425
أ.د ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والتسليم، وبعد:
هاهي ذي المدارس تشرع أبوابها، وتتابع نحوها جموع الطلاب، والكل حريص على ألا يتأخر أو يتغيب عنها من يعنيه أمره، فالأب حريص على وصول ابنه إلى المدرسة في موعده، والأم تعمل على إيقاظ بنيها في الصباح الباكر، والمدرسة قد هيئت وشرعت أبوابها، وأصبحت على أهبة الاستعداد لاستقبال الطلاب...
ولكن لماذا كل هذا؟
ولا جواب صحيح ومقبول غير القول بأن ذلك من أجل المناهج، ولو حاول أحد أن يكسب تلك الجموع الحاشدة بنوع لهو يقدمه، أو سلع يبذلها لما استطاع، بل لن يتوجه إليه إنسان، ولعد العقلاء صنيعه سفهاً لايقبله العقل!
وإذا كان الأمر كذلك فإن من أعظم الغش أن تقدم مدرسة مناهج صورية خالية من مضمون، ومن أخطر ألوان الخداع أن تمرر مدرسة طلابها في مراحلهم المختلفة دون أن تصقل عقولهم بمناهجها وتختبر إتقانهم لها ، إنه غش للأب، وغش للأم، وغش للجهة المسؤولة عن عمل المدرسة، وغش للمجتمع بأسره، وقبل ذلك كله غش للطلاب أنفسهم ومهما كانت المبررات.
وكذلك التجوز في مادة واحدة لا يجوز، ولاسيما إذا كانت تلك المادة من المواد المهمة التي ينبني عليها مستقبل الطالب وطريق تحصيله، ويزداد الأمر سوءاً عندما تكون تلك المادة من المواد التي تميزت بها أمة من الأمم.
وإذا تأملنا حال الدول الشرقية والغربية نجد تميزاً ظاهراً لبعضها في مواد دون أخرى، فقد عرفت ألمانيا مثلاً بالتميز في علوم الهندسة الميكانيكية، وعرفت اليابان بالتقدم التقني في مجال الإلكترونيات وغيرها، وعرفت دول أخرى بالتقدم في دراسة الطب، وغيرها في مجالات أخرى، وقد عرفت بلادنا بالتميز في العلوم الشرعية، ولئن خرجت تلك البلاد بمناهجها علماء في كثير من المجالات التجريبية، فقد خرجت بلادنا للأمة –ولله الحمد- بمناهجها علماء وقادة في كافة الميادين الشرعية نال الخير الذي يقدمونه أطراف الأرض البعيدة.
ولست بحاجة لذكر أسماء وأشخاص، ولك أن تتساءل من هم أشهر العلماء المعاصرين، ومن هم أبرز الدعاة المرضيين، لاشك أن بلاد الإسلام خرجت علماء فضلاء "وإن بني عمك فيهم رماح"، ولكن القدح المعلى لأهل هذه البلاد _والحمد لله_ ولاسيما عند قياس النسبة العددية لجموع السكان.
وإذا أعدت النظر لوجدت أولئك العلماء والدعاة وطلاب العلم الذين ذاع صيتهم كثير منهم تخرج بمناهج بلادنا الشرعية التي ربتهم على الحكمة والاعتدال والوسطية بعيداً عن الإفراط أو التفريط الذين هما متلازمان ينتج أحدهما عن الآخر، ويسبب السابق فيهما اللاحق.
إن عودة الطلاب حري أن تكون إلى تلك المناهج التي خرجت أكابر علمائهم المعاصرين، ودعاتهم المرضيين، فبمثل تلك المناهج الشرعية يصان الإنسان من الغلو ومن التساهل وتمييع الدين.
ومتى حدنا عن ذلك المنهج الوسط حصل الشطط نحو الإفراط أو التفريط.
وهاهم طلابنا وأبناؤنا مع بدء العام يعودون إلى المدارس، فهل تراهم يجدون ما وجده من سبقهم وكان سبباً لتميزهم؟ أم أن المعالم قد تنكرت، والبلاد قد تغيرت؟ والحال كما قال الأول:
تنكرت البلاد ومن عليها
كأن أناسها ليسوا بناسي!
إني لأرجو أن تكون عودة قوية للمناهج الشرعية حتى تكون عودة أبنائنا إلى المدارس ذات نفس القيمة والقيم القديمة، وبمعناها الأول.
وإلاّ فليع المربون والآباء والأساتذة والطلاب أن عليهم واجباً شرعياً في التماس علم الشريعة من أهله العالمين به الحادبين عليه، وأن علينا إغلاق الخلة وسد الثغر من قبل أن يلتمس العلم عند غير أهله، ومن قبل أن يتخذ الناس رؤوساً جهالاً فيسألوا فيفتوا الناس بغير علم فيضلوا ويضلوا.
وفي الختام لنعلم جميعاً بأن المسؤولية كبيرة، وحاجة الأمة إلى المناهج الشريعة القوية عظيمة، فليسْعَ المسؤولون من أجل سد حاجة الطلاب، وليعمل العاملون من أجلها، هذا والله نسأل أن يبصر الجميع بما لأجله خلقوا، وأن يوفقنا وإياكم إلى ما فيه رضاه ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(/1)
العولمة الإعلامية (2) 4/12/1424
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
العولمة الإعلامية
تتمة لما سبق من وسائل العولمة الإعلامية، كذلك بل من أهم وسائلها ما يلي:
4- الإنترنت: " أعلنت وزارة الاتصالات اليابانية أن نسبة انتشار الإنترنت في أوساط الأسر اليابانية لم تكن تتعدى 6% قبل ثلاث سنوات.
وأضافت أن عدد اليابانيين المتصلين بالإنترنت عبر الخطوط الثابتة والهواتف المحمولة ارتفع في ديسمبر الماضي إلى 43 مليون شخص مقارنة بـ 26.3 مليون قبل ستة أشهر"(1) ، وهذا مؤشر يبين مدى سرعة تزايد الإقبال على الإنترنت في العالم، وفي عالمنا العربي نجد أنه على الرغم من تأخر دخول الإنترنت، فإن نسبة مستخدميها في دولة الإمارات العربية بلغت 28%، وقد أصبحت بعض الدول العربية تقدم خدمة الإنترنت مجاناً، وكل هذه مؤشرات تدل على أن الإنترنت في السنوات القليلة المقبلة، قد تشهد انتشاراً واسعاً في عالمنا العربي، ربما زاحم التلفاز التقليدي ، وذلك لعدة أسباب:
(أ) لم تعد الإنترنت تعتمد على جهاز حاسب، أو جهاز واحد، بل طرق الوصول إليها متعددة، فقد أصبح من الممكن الوصول إليها عبر الهاتف النقال، والكابل مودم الذي يرتبط مع تلفزيون الإنترنت، بالإضافة لما يسمى بتلفاز الوب، كما أن هناك أجهزة أخرى يستفيد المستخدم منها عبر الإنترنت، ومنها: الهواتف التي تتصل بالإنترنت.
(ب) وكما أن طرق الوصول إليها متعددة، فإن ما توصله أو تقدمه متعدد، يشمل ما يقدمه التلفاز، والإذاعة، والصحافة، وسائر الوسائل الإعلامية الأخرى، وإذا كانت بعض الأطباق الفضائية تقدم مئات القنوات، فإن أعداد القنوات والإذاعات والصحف والمجلات والوكالات وغيرها التي تنشر موادها عبر الإنترنت وتقدم بثاً مباشراً عبر صفحاتها يفوق الحصر، كما أنها تقدم من الخدمات ما لا تقدمه أجهزة الإعلام التقليدية، كالبريد الإلكتروني، والقوائم البريدية، ومجموعات الأخبار، وغيرها.
(ت) تمتلك الإنترنت مزية لا تملكها وسائل الإعلام التقليدية، وهي التفاعل مع المستخدم، فكما أنك تتلقى، فبإمكانك أن تعطي، فالإعلان التقليدي في الصحف مثلاً قد يعرض منتجاً ثم تنتهي مهمته في إطار محاولة إقناع القارئ بأهمية اقتنائه، ولكن الإنترنت لا تكتفي بذلك، بل تقدم للمستخدم نموذج الشراء، وما عليه إلاّ أن يدخل المعلومات ثم بضغط زر يأته المنتج على رجليه! وقد استفاد الغرب وبعض الدول العربية من إمكانية التفاعل هذه، فجعلت الخدمات الحكومية يتم التعامل معها عن طريق الإنترنت، وقد وعدت حكومة الإمارات العربية بتوفير معظم الخدمات الحكومية على الإنترنت بحلول العام 2005م(2) .
(ث) تمثل الإنترنت وسيلة حرة بغير ضابط، فمهما وجدت قناة أو إذاعة، فإنها تخضع لقوانين الدولة التي توجد بها، ومسؤولوها عرضة للمساءلة عند تجاوز الخطوط الحمراء، التي تخطها مصالح الدول أو أهواؤها! أما الإنترنت، فبوسع كل شخص أن يعرض ما أراد، وإذا كان أحدهم في (الهايدبارك) بوسعه أن يقول ما يشاء، ولكن ليس له أن يبيع مخدرات أو يعرض أسلحة، فإن الإنترنت توفر لكل أحد أن يقول ما أراد ويروج أو يبيع ما يشاء!
وللإنترنت مزايا أخرى، تنبئ عن توسع انتشارها في المستقبل.
5- وهناك وسائل إعلامية كثيرة كوكالات الأنباء،والأشرطة السمعية، وما أتاحته وسائل الاتصال الحديثة كالهاتف، والفاكس، والبريد الإلكتروني، وغيرها مما يساعد على تبادل المعلومات بسرعة فائقة، حيث أصبح العالم الرحب كقرية صغيرة، من حيث انتشار الأخبار، وسرعة وصول المعلومات، وتأثير الأحداث، والتدخل في شؤون الآخرين بسرعة مذهلة، فانقلاب في روسيا في الشرق تساهم أوربا وأمريكا في إسقاطه خلال يومين، وإشاعة حول بنك من البنوك في الغرب تقضي على بنك آخر في الشرق.
وقيام انقلاب في الشرق يؤدي إلى انهيار سوق الأسهم في الغرب خلال ساعات معدودة، وفشل الانقلاب يعيد الأمور إلى نصابها.
ولهذا الانتشار الواسع للوسائل الإعلامية المختلفة، ولتأثيرها في القطاع الواسع الذي تغطيه نستطيع أن نقول: إن الإعلام اليوم هو الذي يتولى مقاليد الأمور في العالم، والذي يستطيع أن يسيطر على وسيلة من وسائل الإعلام المؤثرة يكون قد شارك في الحكم عالمياً، ومحلياً حسب تأثير وسيلته، وقوة نفوذها، وعندما أدركت بعض الأقليات هذه الحقيقة سعت لامتلاك الإعلام في بعض الدول الكبرى، فكان لها أبرز الأثر في تكوين آراء المجتمع، وصنع قرارات الدولة.(/1)
وإذا تساءلت عن أشكال وأنماط من العولمة الاجتماعية في المجتمعات العربية وعن سر وجودها، وجدت أن سببها عولمة الإعلام، فالموسيقى الأمريكية التي انتشرت في ربوع عالمنا العربي ، والنمط الأمريكي الصرف في اللباس، أو نصف الأمريكي (ثوب وقبعة)، والأطعمة السريعة وغيرها من السلع الاستهلاكية، واللغة الإنجليزية ذات اللكنة الأمريكية، والطفل الكرتوني (كالطفل السوبرماني أو الطفل العنكبوتي أوالوطواطي إلى غيرها من الحشرات والحيوانات...)، كل هذه مع كثير من العادات الدخيلة، دخلت المجتمعات العربية من خلال الوسائل الإعلامية، التي باتت تمثل ما يمكن أن نسميه بـ (ثالوث الأبوة) الأب، الأم، الإعلام، فقد غدا الأخير العنصر الثالث مع الأبوين في التربية والتوجيه أو ضدهما!
إن هيمنة الإعلام الغربي على العالم أمر لا يجادل فيه من له سمع أو نظر، أما مظاهر هيمنة الإعلام الغربي داخل وطننا العربي فكثيرة جداً، منها: الصحف والمجلات الغربية المتداولة في الأوساط العربية، وبالأخص تلك المعربة الموجهة لقراء الشرق الأوسط، ومنها: الإذاعات المختلفة متعددة اللغات، ومنها: شبكة الإنترنت العالمية، وإذا تأملنا قطاع التلفاز مثلاً بحكمه الأوسع انتشاراً وجدنا أثر الإعلام الغربي وطغيانه بيناً، ففي إحصاءات منظمة اليونيسكو عن الوطن العربي نجد أن شبكات التليفزيون العربية تستورد ما بين ثلث إجمالي البث كما في سوريا ونصف هذا الإجمالي كما في تونس والجزائر ، أما في لبنان فإن البرامج الأجنبية تزيد على نصف إجمالي المواد المبثوثة، إذ تبلغ 58,5% ، وتبلغ البرامج الأجنبية في لبنان 69% من مجموع البرامج الثقافية، ولا تكتفي بذلك بل وغالب هذه البرامج يبث من غير ترجمة، وثلثا برامج الأطفال تبث بلغة أجنبية من غير ترجمة في معظمها ، ولعل القارئ الكريم يدرك بأنه لا مزية للبرامج الناطقة بالعربية على الناطقة بلغات أجنبية أخرى، فلا فرق بين (ميكي) ذي اللسان العربي الفصيح، وأصله الأمريكي، بل قد يكون المستنسخ المعرب أكثر قدرة على تصدير العولمة الأمريكية من أصله.
وإذا كانت الإحصاءات السابقة تمثل نسبة الغزو الغربي للإعلام الرسمي، فلك أن تتصور نسبة هذا الغزو وأثره، على البيت الذي ملئ بالأطباق، وفي العائلة التي أدمنت البث المباشر.
ويذكر الدكتور محمد عبده يماني(3) أن منظمة اليونسكو أجرت دراسة اتضح من خلالها أن 90% من الأخبار التي يتناقلها العالم من إنتاج خمس وكالات عالمية فقط، وهي:
(أسوشيتدبرس)، و(يونايتدبرس)، و(وكالة الصحافة الفرنسية)، و(رويتر)، و(تاس السوفيتية)، والأوليان أمريكيتان، والثالثة فرنسية، والرابعة بريطانية، والخامسة سوفيتية.
ولذلك يقول الدكتور علي النجعي(4)، وهو يعدد مخاطر البث المباشر:
ومن وجهة نظري فإن تأثير البث المباشر لا يتوقف على إدخال عادات قبيحة على المجتمعات النامية، بل إن من أخطر ما يحمله هذا التوجه العالمي، هو تفتيت المجتمعات، والتقليل من أهمية ودور وسائل الإعلام المحلية، التي تسير في ضوء أطر محددة وسياسات مرسومة، حيث يصبح بإمكان كل مواطن أن يختار الوسيلة التي يرغب في مشاهدتها والبرنامج الذي يختاره(5) .
وبطبيعة الحال هذه القدرة على الاختيار تكون عند ساكن العالم الثالث، أما القدرة على العرض فعند الغربيين، وهذا هو الواقع الذي لم يعد سراً، ومما يؤكد هذه الحقيقة ما ذكره تقرير لليونسكو، حيث جاء فيه: "إننا نعتقد أن ما يعرف باسم التدفق الحر للإعلام، هو في حقيقة الأمر تدفق باتجاه واحد، وليس تبادلاً حقيقياًً للمعلومات"(6) .
وأوضحت دراسة مشتركة بين ندوة تامبير واليونسكو، أن هناك اتجاهين لا جدال حولهما في مجال تدفق المعلومات:
ا- أنه تدفق في اتجاه واحد من الدول الكبرى المصدرة إلى باقي دول العالم.
2- أن المادة الترفيهية هي السائدة في هذا التدفق(7) .
ومن أجل توضيح المراد ببرامج التسلية والترفيه الواردة في هاتين الدراستين لنقرأ ما قاله الأستاذ عبد الرحمن العبدان(8) : "برامج الترفيه والتسلية ومعظمها -إن لم يكن جميعها- لن تكون ملتزمة، وهذه سوف تنقل للشعوب المشاهدة كثيراً من العادات غير الحسنة التي تتنافى مع القيم الإسلامية، خاصة وأن هذه البرامج قد تشد الشباب والشابات بحيويتها وعصرية إعدادها وجودة عرضها، وتدفعهم للإعجاب بها دون إدراك لخطورتها، وبالتالي التأثر بها، وهذا مكمن الخطورة".
ويواصل قائلاً: "ولست بحاجة لشرح الآثار السلبية المترتبة على ذلك، وما فيها من الهدم وتدمير السلوك"(9) .
________________
(1) عن موقع أخبار أوس: http://news.awse.com/09-Feb-2003/Technology/31176_ar.htm.9/فبراير/2003م.
(2) جاء هذا على لسان سالم الشاعر (مدير الخدمات الإلكترونية في حكومة دبي)، انظر الموسوعة العربية للكمبيوتر والإنترنت بتاريخ 5/يونيو/2003م، وقد نشر الخبر في الموقع: http://www.c4arab.com/showanews.php?nid=416، وغيره.(/2)
(3) وزير الإعلام السعودي السابق.
(4) وكيل وزارة الإعلام المساعد لشؤون التلفزيون.
(5) انظر جريدة الرياض (8450).
(6) أصوات متعددة ص 303.
(7) انظر كتاب (تدفق المعلومات ص 75- 76).
(8) وبخاصة أن الأستاذ - عبد الرحمن أمين عام المجلس الأعلى للإعلام في المملكة.
(9) جريدة الرياض العدد (8450).(/3)
العولمة الاقتصادية
د. صالح بن عمر*
مقدمة:
لم تحظ قضية باهتمام الشرق والغرب على المستوى الرسمي والشعبي مثل قضية العولمة باعتبارها أهم الظواهر التي تجتاح البشرية في القرن الحادي والعشرين. وأنه رغم انقسام الأرقام وتناقض المواقف حولها فقد استطاعت استقطاب الشرائح الفكرية والفئات الاجتماعية المتعددة الانتماءات والمشارب والتخصصات: من اقتصاديين وسياسيين وعلماء اجتماع، ومثقفين لايربط بينهم سوى اهتماماتهم بجملة التغييرات النوعية المتلاحقة التي يشهدها العالم في مجال الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع والبيئة، والتي تعدت نطاق الدولة، وتجاوزت الحدود، وعبر القارات. ولذا أضحت مناقشة آثارها على الاقتصاديات العربيه والاسلاميه وكذلك بقيه المجالات الاخرى امرا بالغ الأهميه
كما أنه اليوم قد تزايدت الدعوات وتكاثفت الجهود لإقامة أسواق مشتركة عربية او اسلامية وخاصة بعد ظهور مشروعات مناهضة للمشروع الإسلامي يجري التسويق لها فى المنطقة وأبرزها السوق الشرق أو سطية ومشروع المتوسطية.
والإسلام برسالته الشاملة قد أولى الجانب الاقتصادي اهتماما بالغا وغاية فائقة كما أولى المصالح العامة رعاية خاصة وأننا اذا استقرينا موارد الشريعة الإسلامية الدالة على مقاصدها من التشريع استبان لنا من كليات دلائلها ومن جزيئاتها المستقرأة ان المقصد العام من التشريع هو حفظ نظام الامة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان ويشمل صلاحه صلاح عقله وصلاح عمله وصلاح ما بين يديه من موجدات العالم الذي يعيش فيه "وما يظن بشريعة جاءت لحفظ نظام الأمة وفقرية شوكتها إلا أن يكون لثروة الامة في نظرها المكان السامي من الاعتبار والاهتمام" ومن اعظم مقاصد المعاملات المالية الرواج وهو دوران المال بين أيادي أكثر من يمكن من الناس بوجه الحق دل عليه الترغيب في معاملة بالمال.
والسوق هو الموضع الحقيقي او الاعتبار للتعامل بين الناس، وفيها تتم المعاوضات المالية وإبرام العمليات التجارية والتجارة مرآة صادقة تعكس هيكلة الاقتصاد وقدرته وحجمه، وقد دعت النصوص الشرعية إلي العمل بالتجارة، واكتساب المال عبر الطرق المشروعة، قال تعالى: (ياأيها الذين آمنوا لا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما)، وبين الجائز منها من غير الجائز فقال: (وأحل الله البيع وحرم الربا).
وقد كانت التجارة بسيطة ثم اخذت في التطور والنمو لمواجهة تطورات العصر وتحدياته فقد أضحت الحروب الدائرة حالياً أسواق، وما الأسباب الرئيسية للحرب العالمية الأولى والثانية الا أسبابا اقتصاية، ذلك بأن السوق هو المكان الطبيعي لنماء الاقتصاد وازدهاره، وقد حلت السيطرة على الأسواق من خلال حركة الواردات وروؤس الأموال محل القوة العسكرية وأصبحت التكتلات من أبرز سمات هذا العصر، ولعل العصب السائرة في هذه التكتلات هو الاقتصاد، فاذا كانت الدول الكبرى والعلاقة والغنية تشكل وتقيم فيما بينها أسواقا مشتركة مثل السوق الأوربية المشتركة فأولى بالدول العربية الإسلامية أن تستقبل وتسعى نحو التكامل الاقتصادي، ولعل من أولى خطوات هذا التكامل في زمن العولمة اتاحة سوق إسلامية مشتركة ولكن كيف يتم ذلك؟
تتم الاجابة عن هذا السؤال عبر المباحث الاتية:
المبحث الأول: مفاهيم ومصطلحات:
• المبحث الثاني: مبررات وأهداف.
المبحث الثالث: سبل التفعيل.
المبحث الأول:
مفاهيم ومصطلحات
أتناول في هذا المبحث مفهوم العولمة ومفهوم السوق الإسلامية المشتركة.
أولاً: مفهوم العولمة:
العولمة من العالم، ومعناه ان تتحد شعوب العالم في جميع أمورها على نحو واحد، فكأن العالم بيت واحد أو قرية واحدة، إلا أن الجدل يظل مستمراً حول تحديد مفهوم العولمة، فضلاً عن دوافعها وأهدافها، وهو اهم جدل معاصر بدليل سيل الدراسات والعديد من الندوات والمؤتمرات المنعقدة حول العولمة، وبمختلف اللغات.
وإن صياغة تعريف العولمة تعريفاً دقيقاً تبدو شاقة لتعدد تعريفات العولمة التي تختلف باختلاف ايدولوجيات الباحثين، أو رؤيتهم السياسية، أو وجهتهم العامة التي ينحازون إليها إزاء العولمة رفضاً أو قبولاً، وقد تجاذب مفهوم العولمة ثلاثة تيارات.
- التيار الأول يرى أن العولمة هي هيمنة القوى الاقتصادية والعسكرية على الأرض، وبكلام أكثر دقة أمركة النظام الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي.
- التيار الثاني: يرى أنها عملية تبادل منافع وخبرات ومعارف بين أمم وشعوب الأرض، وتحرر وتكامل اقتصادي.
- التيار الثالث: يرى أنها ظاهرة حضارية تؤدي إلي تحويل العالم إلى قرية كبيرة تتلقى نفس التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإعلامية، وهذا كله يقود إلي الاندماج المتسارع للاقتصاد العالمي.(/1)
والذي يعنيني في هذا البحث: العولمة الاقتصادية دون غيرها، فسأحاول تعريفها واضعاً في الاعتبار أبعادها المختلفة: ما يتعلق بانتشار المعلومات بحيث تصبح مشاعة لدى جميع الناس، وما يتعلق بتذويب الحدود بين الدول، وما يتعلق بزيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات والمؤسسات، وبما تؤديه من نتائج سلبية لدى بعض المجتمعات، أو نتائج إيجابية لدى مجتمعات أخرى، وما تبرره العولمة من تكتلات اقتصادية عالمية، ومدى صلاحية نظام حرية السوق ليكون أساساً لتنمية في مختلف البلدان.
ومراعاة لهذه الابعاد المختلفة فإن مفهوم العولمة الاقتصادية لا يتجزأ عن التطور العام للنظام الرأسمالي حيث تعد العولمة حلقة من حلقات تطوره، وذلك لتوفير مجالات الاستثمار، واستيعاب الفوائض، بحيث تسعى الرأسمالية لتكريس تبعية التنمية العربية والإسلامية للغرب، ومن تجديد نفسها والتغلب على تنقاضاتها، والتكييف مع أزماتها. وبعد هذه المعطات مع ما اطلعت عليه من عدة تعريفات للعولمة، يمكن القول بأنها: تسهيل انتقال القوى العاملة والمعلومات والسلع والأموال بين مختلف دول العالم، وتخطي الحدود الإقليمية واندماج الاسواق في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة.
ومن هذا التعريف نلحظ ان العولمة تعني أصحاب روؤس الأموال لجمع المزيد من المال في سياسة اقتصادية كانت تعتمد على الإنتاج الذي يؤدي إلي تحقيق الربح واصبحت اليوم تعتمد على تشغيل المال فقط دون خسائر من أي نوع للوصول إلي احتكار الربح، وقد يكون هذا التشغيل خفياً غير مباشر احياناً، وهذا يوحي بعودة الهيمنة الغربية من جديد على عصب الحياة ألا هو الاقتصاد لكن بطرق حديثة حسب منطق الرأسمالية الذي يقضي بالتوسع المستمر عبر القارات لتتلاعب بمقدرات الأمم والشعوب كيف تشاء.
والعولمة – إذن – ظاهرة تجارية اقتصادية في الجوهر(1) ومحركوها الاساسيون هم المستثمرون وأرباب التجارة والشركات الكبرى، وتتجلى بوضوح في الجانب الاقتصادي أكثر مما تتجلى في غيره من المجالات الأخرى، وهو الأكثر اكتمالاً، والأكثر تحققاً على أرض الواقع.
وقد أخذت العولمة الاقتصادية أبعادها في العصر الحاضر بانتصار القوى الرأسمالية العالمية، فاستعاد النظام الاقتصادي الرأسمالي هيمنته وانتشاره في صور جديدة مبنية على اقتصاد السوق ، وعلى الثورة المعلوماتية، وعلى دمج الاقتصاديات الوطنية بالسوق الرأسمالية العالمية بإشراف مؤسسات العولمة الاقتصادية الثلاث التي هي: صندوق النقد الدولي يقوم بدور الحارس على نظام النقد الدولى، والبنك الدولي الذي يعمل على تخطيط التدفقات المالية طويلة المدى والمنطقة العالمية للتجارة خليفة (الغات).
وتبدو ملامح العولمة الاقتصادية من خلال جملة من المظاهر التي منها:
1- الاقبال الشديد على التكتل الاقتصادي للاستفادة من التطورات التقنية المدهشة .
2- تعاظم دور الشركات متعددة الجنسيات، وتنامي أرباحها، واتساع أسواقها، وتزايد نفوذها في التجارة الدولية والعالمية.
3- إثارة المشكلات الاقتصادية وتدويلها مثل: الفقر والأمية، والتلوث وحماية البيئة.
4- تزايد دور التقنيات والتغيرات السريعة في أسلوب الإنتاج ونوعية المنتج، ولا يخفى تأثير ذلك على الاقتصاد العالمي.
5- توسيع النظام الربوى، وتمكين المؤسسات الربوية من السيطرة على الاقتصاد.
ثانياً: تعريف السوق الإسلامية المشتركة:
السوق الإسلامية المشتركة هي التي يتم من خلالها إلغاء القيود المفروضة على انتقال عناصر الإنتاج من أيد عاملة ورأس مال وغيره بالإضافة إلي حرية انتقال السلع بين الدول الأعضاء ووضع سياسة جمركية موجودة تجاه العالم الخارجي، فهي تعني:
1. تجميع القوى الاقتصادية العربية الإسلامية، والتعامل مع الغرب ككلتلة اقتصادية إسلامية لها مصالح مشتركة وليس كدول ووحدات اقتصادية منفردة.
2. توحيد السياسات والاستراتيجيات الاقتصادية لتشجيع رؤوس الاموال بين البلدان الإسلامية.
3. دعم التبادل التجاري وتحديد استراتيجية شاملة لتحقيق ذلك ويتضمن ذلك التبادل البضائع والمنتجات الوطنية العربية والإسلامية.
4. تشجيع انتقال رؤوس الأموال بين البلدان العربية والإسلامية، وتوفير المناخ الآمن، للاستثمار وتحفيز المستثمر المسلم إلي نقل أمواله المستثمرة في الغرب لاستثمارها داخل وطنه(2).
ويمكن ان تبدأ السوق الإسلامية المشتركة بإنشاء مشروعات ثنائية مشتركة بين دولتين أو أكثر أو بين مجموعات كالسوق الخليجية أو السوق المغربية أو السوق العربية لتنتهي بالسوق الإسلامية المشتركة.
ثالثا: مقارنة بين العولمة والسوق الإسلامية المشتركة:(/2)
1/ العولمة كونية الارتباط، محلية التركيز، لا يهمها إلا مصالح فئة معينة، بخلاف السوق الإسلامية المشتركة فإنها كونية الارتكاز، ذلك بأنها ذات صبغة إسلامية، والإسلام عالمي الهدف وعالمي الوسيلة، قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير)(3).
وأساس التعارف تحقيق المصالح، وما القصد العام من الشريعة الإسلامية إلا جلب المصالح للناس وتكميلها ودرء المفاسد عنهم وتقليلها.
2/ العولمة تقوم على نفي الآخر، واستبعاده، واستغلال ثروته بخلاف السوق الإسلامية المشتركة بأنها تقوم على احترام الآخؤ والتعامل معه اخذا وعطاءً قال تعالى: (أهم يقسمون ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون)(4)، أي خولا وخداما سخر الأغنياء الفقراء، فيكون بعضهم سببا لمعاش بعض وقديما قال الشاعر:
الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعرو خدم
3/ العولمة تسعى لتحقيق مكاسب الرأسماليين ومنافعهم، بينما السوق الإسلامية المشتركة تسعى – بصبغتها الإسلامية – لتحقيق منافع البشرية جمعاء شعارها: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)(5).
4/ العولمة لا تقيم للأخلاق وزنا في تعاملاتها، بخلاف السوق الإسلامية المشتركة فإنها ذات بعد أخلاقي، تمنع الاحتكار والغش والضرر عموماً (لا ضرر ولا ضرار)(6)
المبحث الثاني:
المبررات والاهداف:
أولاً: مبررات السوق الإسلامية المشتركة وأهدافها:
من مبررات إقامة السوق الإسلامية المشتركة ما يأتي:
السوق المشتركة ضرورة شرعية تدعو إليها عمومات الشريعة الحاثة على التعاون والوحدة مثل قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان وأتقوا الله إن الله شديد العقاب)(7) وقوله: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم)(8) ، وإن كان المراد بالتفرق في أمر الدين إلا أنه يعم كل ما من شانه يؤدي إلي إضعاف الأمة وذهاب ريحها، يؤيد هذا قوله تعالى: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين)(10).
وضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً لوحدة الامة الإسلامية (بالجسد الواحد، اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)(11) ، ففي قيام السوق إحياء لروح الوحدة والتضامن والعمل المشترك بين الدول الإسلامية، كما أن فيه تأكيداً على تضامن المسلمين وتنسيق مواقفهم واتحاد قرارهم، وبمثل هذا يحظون بمحبة الله تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)(12)، ولعل من أهم مقومات النظام الاقتصادي وجود التنظيم التعاوني في كل مراحله سواء في تعاون الأفراد في مجالات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك والخدمات أو في تعاون الدول في اقامة سوق مشتركة تعاوناً يحقق الأمن والطمأنينة لكافة أفراد المجتمع، ويضمن لهم الرفاهية، وذلك لقيام نظامها العام على أسس تعاونية لا على أسس استبدادية، وإذا قامت الحياة على التعاون والعدالة والكفالة كانت الحياة ناهضة مستقيمة، وسبباً من أسباب النهوض الحضاري.
وإذا كان مقصد الشريعة الإسلامية العام: جلب المصالح للأفراد ودرء المفاسد عنهم مقصداً متفقاً عليه فإن صلاح الأمة وانتظام أمورها أسمى وأولى، وهل يقصد من صلاح الأفراد إلا صلاح المجتمع؟!
واذا كان ذلك مقصداً واجب التحقيق كان كل مايؤدي إلي تحقيقه واجب التحصيل، وبذلك تكون السوق الإسلامية واجبة التحصيل من باب (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) وتكون إقامتها من صميم التكاليف الإلهية التي كلفنا بها الحق – سبحانه – العليم بمصالح عباده.
السوق الإسلامية المشتركة ضرورة ظرفية.
السوق المشتركة ضرورة حياتية تقتضيها الظروف الراهنة ، إذ العصر الذي نعيش فيه عصر التكتلات والاتفاقيات بادرت إليها الدول الغنية قبل الفقيرة والغربية قبل العربية والدول المختلفة الأديان قبل الدول التي يوحدها الدين الإسلامي!!
فالعالم اليوم يسير نحو التكتلات الدولية وذلك للفائدة المتبادلة بين الدول الأعضاء سواء على الجانب الاقتصادي أو الجانب السياسي أو الاجتماعي بما يوفره هذا التكتل من التقوى بالآخرين على مجابهة الاحداث، ومقاومة العدوان بجميع أشكاله وحماية المصالح الداخلية والتجارة الخارجية.(/3)
واذا كان عصرنا عصر التكتلات العملاقة التي لا مكان فيها للضعفاء والمترددين والذين لا يلحقون بقطار العصر ولا يفهمون لغته فإن العصب الأساس في تكوين هذه التكتلات بعد هوية الأمة هو الاقتصاد وإن حرص الدول العملاقة على التكتل وتضافر جهودها للتعاون فيما بينها لأكبر حافز للدول الضعيفة على التعاون، إذا لم يعد من المجدي لأية دولة الإنفراد عن غيرها من الدول، وبخاصة بعد أن ظهرت التكلات الكبرى في عالم السياسة والاقتصاد، وقد ثبت للعيان جدوى التجربة التي حققتها الدول الأعضاء في السوق الأوربية المشتركة، وأصبحت الانعزالية خطراً مؤكداً على أية دولة منعزلة لم تكن لها دول أخرى تؤازرها.
ولعل دليل على ما قد تتعرض له الدول المنفردة من مخاطر ما أكدته الإحصائيات الدولية على نسبة الاستثمار إلي الناتج المحلي الإجمالي حيث بينت أن جميع البلدان النامية – مع أنها تمثل 18.4% من حجم السكان في العالم إلا أن نسبة الاستثمار فيها لا تزيد عن 37% وفي نفس الوقت نجد الدول الصناعية على غالبية الاستثمار العالمي مع أن سكانه لا يتجاوز عددهم 14.7 فقط وهذا يؤكد أن اقتصاديات العالم – في زل ما يعرف بالعولمة – يقوم على الاحتكار وليس على المنافسة الكاملة كما يروج المستفيدون(13).
وأمام هذا إذا لم يتدارك العالم الإسلامي أمره فقد تضيع هويته ويفقد تميزه الحضاري والثقافي والاقتصادي، وأن لم تتلاش هويته فلا اقل من أن تتعرض إلي التهميش أمام هذا التيار العولمي القوي، علماً أن الإسلام لا يعارض العولمة بمفهومها السمح بدليل قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير)(14) مع قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونا على الإثم والعدوان)(15) وإنما يعارض العولمة بمفهومها الانتهازي والذي يرمي إلي استغلال الآخرين والإفساد في الأرض.ودليله قوله تعالى: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين)(16) مع قوله تعالى: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد)(17) .
وهل يا ترى يستطيع العالم الإسلامي أن يحقق ذاته بتحقيقه التكامل الاقتصادي الذي من أولى خطواته: إقامة سوق مشتركة، وقد هيأ الله للأمة الإسلامية من العوامل ما يجعل تحقيق ذلك اذا توفرت الارادة الصادقة ومن هذه العوامل.
• العامل الأول: حرص الزعماء والقادة السياسين على التعجيل بإقامة السوق المشتركة، ووضع استراتيجيات مستقبيلة لمواجهة التغيرات الاقتصادية وقد تواترت الاخبار عنهم بما يشبه إجماعهم على ذلك، وقناعتهم شبه الكاملة بأهمية وحتمية هذه السوق لتحقيق مصالح شعوبهم المشتركة.
• ولعل من أقدم الوثائق الداعية إلي إقامة سوق مشتركة ما جاء في قرارات المؤتمر الثامن لوزراء خارجية الدول الإسلامية في طرابلس بليبيا 16/5/1997 (18) ولا تزال الدعوة مستمرة، وهذا مما أكده البيان الختامي للقمة العربية التي عقدت بعمان 27 – 28 /3/2001م فقد أكد على إنعاش التجارة البينية العربية، ودعا إلي الاهتمام بإحياء السوق المشتركة وإخراجها من حيز النظريات إلي أرض الواقع. ونحسب أن السوق العربية المشتركة خطوة نحو السوق الإسلامية المشتركة.
• العامل الثاني: العوامل الإستراتيجية التي تتمتع بها الدول الإسلامية من حيث الموقع، فهو يتعتبر قلب العالم، وأن اتصال بعضه ببعض يجعل منه كتلة متراصة متماسكة، وأن الدول العربية التي اقامت سوقاً مشتركة لا تتمتع بمثل ما تمتعت به البلاد الإسلامية من حيث الموقع.
• العامل الثالث: الموارد الطبيعية:(19) ليس من المبالغة القول بأن البلاد الإسلامية من اغنى بلاد العالم في ثروتها الطبيعية، ولا أدل على ذلك من أن الناحية الواسعة الشاسعة للعالم الإسلامي مع الموقع الاستراتيجي الذي "يحتله من الكرة الارضية فهو إلي حد ما في قلب العالم تقريباً، ويسيطر على أهم الممرات المائية وطرق المواصلات في العالم(20)"
الأراضي الصالحة للزراعة تصل نسبتها إلي حوالي 14.7 من مجموع مساحة الأرضي الصالحة الزراعة في العالم(21) . وتقدر مساحة الأراضي الزراعية في العالم العربي وحده في عام 2000 بحوالي 70 مليون هكتار مقارنة بحوالي 67 مليون هكتار عام 1999 أي بزيادة تقدر بنحو 4.3% بالمقارنة مع العام السابق(22) الموارد المائية في العامل الإسلامي مكسب عظيم سواء كان ماء الانهار أو ماء البحار.
يمتلك العالم الإسلامي حوالي 66.3% من الاحتياطي العالمي من البترول كما يمتلك موارد معدنية أخرى مثل الحديد والنحاس والمنغنيز والكروم والرصاص والألمنيوم والفوسفات(23)
والمقام لا يستدعى الاستفاضة في مثل هذا بل يمكن الرجوع إليها في مظانها(24)(/4)
• العامل الرابع: الموارد البشرية من أيد عاملة وعقول مفكرة وهي نوعان : موارد بشرية فاعلة (مابين 15 إلي 65 عام وهي التي تساهم بشكل مباشر في إحداث التنمية الاقتصادية وتساعد على قيام السوق المشتركة. وموارد بشرية كامنة وهي ذخر الأمة وعدتها المستقبلية، وهم ما دون الخامسة عشرة – والطفل الصغير – وإن لم يساهم في التنمية فإنه يعتبر منتجاً بمساهمته في إدخال السعادة على والديه مما يساهم في زيادة محصلتهما الانتاجية والاقتصادية. وقد تزايد سكان العالم العربي من 170 مليون نسمة عام 1981 إلي حوالي 280 مليون نسمة عام 2000، ويتوقع زيادة هذا الرقم ليتراوح ما بين 600 إلي 800 مليون نسمة عام 2025 (25)
السوق الإسلامية المشتركة ضرورة اقتصادية .
السوق الإسلامية المشتركة ضرورة اقتصادية باعتبار ما تحققه من فوائد اقتصادية تتمثل في:
• الاكتفاء الذاتي العربي والإسلامي أو الاقتراب منه، وخفض نسبة الاعتماد على العالم اخارجي في استيراد السلع اللازمة للسوق المحلية العربية والإسلامية.
• إقامة الصناعات التخصصية
• بين الدول الإسلامية وما يؤدي إليه التخصص من جودة مستمرة كماً ونوعاً حتى تتمكن الصناعات من الصمود أمام الصناعات الأعلى جودة.
• توسيع مجالات الانتاج وتعددها ليلبى حاجة السوق في الدول الأعضاء، ثم تصدير الفائض إلي الدول الأخرى.
• زيادة معدل النمو الاقتصادي وارتفاع مستوى التشغيل والإنتاج من خلال المشروعات الاقتصادية المشتركة، وفتح مجال جديد أمام رجال الأعمال العرب المسلمين.
• توسيع نطاق السوق إذ أن انضمام الدول بعضها إلي بعض في سوق مشتركة يعني فتح أسواق جديدة أمام منتجات كل دول الأعضاء في السوق المشتركة.
• انتشار المنافسة في أسواق دول الأعضاء بالسوق المشتركة فما يعتريه الخمول والكساد في سوق قد يكون له رواج في سوق آخر.
• تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري وتنمية البنية التحتية للدول الإسلامية فيكون للمسلمين كيان اقتصادي قوي قادر على المنافسة ولا يخشى الدول القوية التي لا ترحم الضعفاء.
• استثمار الموارد الطبيعية (فبالسوق المشتركة تتمكن الدول الأعضاء من استثمار مواردها الطبيعية بشروط أفضل مما لو اضطرت التعاقد مع مستثمر قوي يفرض عليها شروطه) لأنها في الوضع الأول تكون مطمئنة إلي أن مواردها الطبيعية لن تخرج عنها إلا لتعود لوحدة الهدف الذي يربط بين الدول الاعضاء، ولتبادل المنافع المشتركة بينهم)(25) .
• قيام السوق المشتركة يحد من مخاطر العولمة الاقتصادية على واقعنا الاقتصادي والاجتماعي ويؤمن كتلة عربية إسلامية اقتصادية تقودها المصالح المشتركة وتكون قادرة على المنافسة بما يؤهل الاقطار الإسلامية للتعامل مع التكتلات الاقتصادية والتجمعات الإقليمية التي أضحت ركائز أساسية يستند إليها ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، فإذا ما واجهنا القوة الاقتصادية بقوة اقتصادية مقابلة فإننا سنكون مشاركين في العولمة وليس مجرد تابعين للغير، وبالتالي سيكون لنا تأثيرنا الذي لا يمكن تجاهله على اقتصاد وتصحيح مسارها(26).
• السوق الإسلامية المشتركة ضرورة سياسية:
السوق الإسلامية المشتركة ضرورة سياسية باعتبار ما تحققه من فوائد ومكاسب سياسية تتمثل في تحقيق ما يحلم به العرب والمسلمون من وحدة سياسية –فضلاً عن الوحدة الاقتصادية – يعد قيام السوق عاملاً مهماً من عوامل القوة والاستقلال التام في ظل حرية انتقال رؤوس الأموال الإسلامية وتشجيع التجارة البينية، وخاصة أن الاستعمار الحالي استعمار اقتصادي وقيام السوق المشتركة يعيد للمسلمين ثقلهم الدولي، ومكانتهم بين الشعوب التي تتسابق لفرض نفوذها عليها واستنزاف خيراتها ومثل ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (يوشك الأمم أن تداعي عليكم كما تداعي الأكلة إلي قصعتها فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم كثير. ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)(27)
ومما سبق يمكن استخلاص الأهداف التي يسعى إلي تحقيقها من إقامة سوق إسلامية مشتركة وهي:
أ/ الامتثال لأمر الله عز وجل الداعي إلي التعاون.
ب/ تحسين العلاقة بين المسلمين مما يحقق السلام والوئام بين الدول الإسلامية ويساهم في التقريب بينها وتوحيدها.
ج/ فتح الحدود الإسلامية أمام حركة التنقل بإيجاد سوق تجارة حرة، وسوق عمالة حرة كذلك.
د/ تجميع اقتصادات الأقطار المختلفة في اقتصاد واحد قوى، يحقق التكامل الاقتصادي، ويقطع الطريق أمام القوى الأجنبية والاستعمارية حتى لا تتدخل في شؤون الدول الإسلامية، أو تحتل أراضيها، وتهيمن على مواردها.
هـ/ تعزيز قدرات الأمة على مواجهة العولمة الاقتصادية، والتكتلات العالمية، والتصدى لمحاولات الهيمنة على اقتصادات الدول الإسلامية.(/5)
و/ تحقيق مصالح المسلمين الاقتصادية بتحقيق الاكتفاء الذاتي، وزيادة معدل النمو الاقتصادي.
ثانياً: مبررات العولمة وأهدافها:
من أبرز دوافع العولمة الاقتصاد الأمريكي واختلالاته الداخلية والخارجية المزمنة، تزامنت هذه الأزمة مع صعود بعض القوى الاقتصادية الجديدة كاليابان، لذلك وجدت الولايات المتحدة الأمريكية في العولمة الاقتصادية المستندة إلي مباديء السوق ومفاهميها وآلياتها مخرجاً لاقتصادها من أزمته، ووسيلة للهيمنة على مقدرات الاقتصاد العالمي، وأداة ضغط على القوى الاقتصادية الصاعدة فضلاً عن تهميش اقتصاديت الدول الإسلامية وإلحاقها بالاقتصاد العالمي من موقع متخلف.
إن ما تنادى به العولمةمن اهداف ومقاصد نظرياً تتماشى إلي حد كبير مع ما تنادي به الشريعة الإسلامية من جلب المصالح للناس ودرء المفاسد عنهم ومن انفتاح على العالم، قال تعالى: (قل سيروا في الأرض)(23) وقال: (قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها)(24) ، وقال: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)(25) والعولمة في ظاهرها تحمل شعارات السعادة للناس والرفاهية والعدل والحرية والقضاء على الفقر كأهداف نبيلة تسعى لنشرها عالمياً ولكن الواقع خلاف ذلك فلا أهداف نبيلة ولا غايات شريفة وما هي إلا ادعاء ساذج ووسيلة لاحتكار التجارة العالمية واحتكار وسائل الاعلام وأدوات الانتاج المعلوماتي ودعوة مبطنة لإلغاء اقتصاديات الدول في سبيل الهيمنة والسيطرة المطلقة للشركات الكبرى إنها فلسفة الأنانية والمنفعية التي تقوم على قلتل الروح الجماعية وإهمال الآخرين وخدمة المصالح الخاصة .
ويؤكد هذا جملة من المظاهر منها:
1- إن منظمة التجارة العالمية في السنوات الخمس الاخيرة قد أسهمت بدور بارز في تركيز الثروةة في أيدي اقلية من الأثرياء جنباً إلي جنب مع زيادة تفشي الفقر لأغلبية سكان الأرض فعلى سبيل المثال 20% من دول العالم هي أكثر الدول ثراء تستحوذ على 87.7% من الناتج الإجمالي في العالم وعلى 84.4% من التجارة الدولية يمتلك سكانها من مجموع مدخرات العالم(26).
2- أما القوة الاقتصادية للشركات المتعددة الجنسيات، ومن ورائها أمريكا سيطرت على مشورعات استثمارية ضخمة بغية الهيمنة على الآخر واختراقه وسلب خصوصياتة وإخضاع السوق العالمية لقوانين تخضع لكل اشكال السيادة القطرية حركة الدولة والأمة وتفكك نظمها الإنتاجية ومؤسساتها أي القفز فوق سهام الدولة والأمة والوطن وتمكين الشركات المتعددة الجنسية والمؤسسات الاقتصادية الكونية من إدارة وتسييس شؤون الاقتصاد العالمي لتحل محل الدولة بغرض تعميق اختراق اقتصاديات الجنوب والحاقها بالاقتصاد العالمي من موقع متخلف ، لتؤدي وظائف معينة ذلك بأن متزعم العولمة الدولة الراسمالية والدول الرأسمالية مناط بها بأن ترعى مصالح الطبقة الرأسمالية حيث أن وظيفتها الأساسية تأسيس البنى القانونية والمؤسسية الملائمة لاحتياجات النظام الرأسمالي.
3- تراجع معدل النموء الاقتصادي العالمي 2001م إلي 2.2% مقارنة مع معدل نمو حقيقي بلغ 4.7 % عام 2000 وحتى بوادر الانتعاش الاقتصادي التي بدأت في أواخر 2001 والربيع الأول من عام 2002 شهدت الاسواق المالية العالمية ضعفاً واضحاً وفقدت أسعار الأسهم الدولية جزءً كبيراً من قيمتها(27).
4- تهميش العولمة للدول النامية ونظراً لهذا التهميش نجد هذه الدول تطالب بالحصول على مزايا عادلة وإشاعة استراتيجية تقوم على أساس المشاركة الإيجابية في كل الدول في إطار العولمة محذرة من مخاطر التهميش الذي تتعرض له وبالرغم من مؤتمر دافوس الذى عقد فى كانون الثانى 2000 بسويسرا ركز على نقطة رئيسية وهي سبل تغليظ الفجوة بين الثراء والفقر وتخفيف أضرار العولمة على البلدان الأضعف اقتصاديا ومالياً(28)ورفع شعار (بداية جديدة من أجل التغيير) إلا أنه لم يحدث أي تغيير ولم يتسطيع إبعاد شبح التيار المناهض للعولمة حتى في قلب مراكز العولمة ذاتها وقد بين الدكتور عصام الزعيم في مقابلة معهم أن العولمة بالقدر الذي تعد فيه أداة دمج فإنها آداة تهميش وتجزئة (29) وهذا ما أدخلته الشعارات التي نادى بها المتظاهرون بمناسبة اجتماع وزراء اعضاء منظمة التجارة الدولية في سياتل عام 2000 الرأسمالية وحشاً قاتل، نريد معلوماتية تخدم الإنسان لا نريد عولمة لجمع الثروة فقط لا نريد حريات اقتصادية تستحق حق العيش الكريم .(/6)
5- لم يعرف التاريخ ارتفاعاً في نسبة الفقر في العالم مثلما عرفه الآن فمن بين عدد سكان العالم البالغ عدد ستة مليارات نسمة عام 1999م يعيش 2.8 مليار نسمة منهم (أي حوالى النصف) على أقل من دولارين يومياً ويعيش 1.2 مليار تحت خط الفقر المحدد دولياً بأقل من دولار واحد يومياً (حوالى 23% من سكان العالم في حين ان الشعوب الغنية تمثل 5% من سكان العالم إلا أنهم يحصلون على دخل يزيد أكثر من 114 مرة من دخل المنتمين للشعوب الفقيرة وفي ظل هذه الطبقية فهل ستعيش البشرية في أمان؟ الجواب أن هذه الطبيقة ساهمت في انتشار الجريمة وعلى سبيل المثال 2% من الشعب الامريكي إما قابعون تحت السجون أو تحت اجراءات حسن السلوك وأن 28 مليون أمريكي يعيشون في مساكن محروسة بكل وسائل التقنية الحديثة من أسلحة وكاميرات وغيرها السبب في ذلك عدم الاطمئنان جراء الجريمة المستفيضة(30) .
واذا كانت العولمة كاذبة في ادعاءاتها ولم تستطع أن تحقق الاهداف النبيلة التي طرحتها من إسعاد العالم والقضاء على الفقر وإيجاد المجتمع العالمي الواحد(31) وما مرد ذلك إلا لكونها لا تمتلك المقومات الإنسانية لتحقيق ذلك بخلاف الدول الإسلامية ممثلة في السوق المشتركة التي تمثل قاعدة صلبة للتضامن فيما بين هذه الدول،وبه يمكن ان تفلت من العولمة بشكل عام ومن العولمة الاقتصادية بشكل خاص فإنها قادرة على ذلك لما تمتلكه من مقومات نابعة من الشريعة الإسلامية تمكنها من بناء مجمتع عالمي قائم على العدل والحرية والمنافسة النزيهة مع رفض كل أنواع الظلم والاحتكار (فلا ضرر ولا ضرار)(32)، مع إلغاء التمييز بين الوحدات الاقتصادية للأقطار ذات العلاقة وتطبيق سياسات مشتركة بينها على نحو يتأتى معه تحقيق الأهداف الاقتصادية من:
- تنمية شاملة تنفع العباد والبلاد – وكفالة حد أدنى من المعيشة – وتحقيق القوة والاستقلال الاقتصادي.
- وتخفيف التفاوت في الدخل والثروة بين الناس – وتحقيق المصالح الوطنية لكل دولة مشتركة في السوق بما تملأه كل دولة من فراغات الدولة الأخرى، فبعض الدول لها طريق التكامل في شتى المجالات: الطاقة البشرية وتصدير الخدمات الفنية والاقتصادية.
- وتداول المال ورواجه بين الناس (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)(33) ، ذلك بأن مجال الاقتصاد (في حديثه عن المخاطر التي تنطوى عليها أسواق المال العالمية) أشد خطراً على الاستقرار من الاسلحة النووية(34) ، وأنه بإفلاس مصرف كبير يمكن أن يتسبب بين عشية وضحاها في إفلاس مصارف أخرى في العالم(35) ودرءاً لمثل هذه المفاسد حثت الشريعة الإسلامية على الحرية الكاملة للأسواق ولكن في إطار من الضوابط الشرعية في الكسب والربح، فحرمت جملة من الأعمال التي من شأنها إلحاق الضرر بالمسلمين في سوقهم كالاحتكار والنجش، والربا ونحو ذلك مما هو مبسوط في كتب الفقه في الحديث عن البيوع الفاسدة.
المبحث الثالث:
سبل تفعيل إقامة السوق الإسلامية المشتركة:
لا تزال تأثيرات العولمة والتحرير التجاري على الأمة الإسلامية –بل على مستوى العالم – مثار بحث وتحليل من قبل الباحثين والدارسين، ولا يخفى ما لهذا من أثر على إقامة سوق إسلامية مشتركة علماً أن إقامة أي سوق لا يمكن أن تنفصل عما يجرى في العالم من أحداث وتكتلات كما يمكن أن تنفصم عن السيادة المالية، ولا عن السياسة الاستثمارية، ولا عن ممارسات السلطة النقدية وقوانينها، ولا عن تمويل الصناعات المحلية والإقليمية المنتجة، ولا عن إقامة مناطق تجارية، ولا عن نهضة اقتصادية شاملة، وقد أشار أهل الاختصاص إلى هذا الترابط فيما كتبوه من أسس للتكامل الاقتصادي , وهي نوعان(36) :
- النوع الأول : أسس لازمة للإتفاق على قيام التكامل الاقتصادي وهي:- تنافس منتجات الدول الأعضاء – تقارب النمو الاقتصادي – الاستقرار السياسي – الوعي الاجتماعي .
- النوع الثاني : الأسس اللازمه لبدء تنفيذ التكامل الاقتصادي وهي :- المسافة الاقتصادية – إزالة الحواجز والقيود الجمركية –وضع سياسة جمركيه موحده تجاه العالم الخارجي – حرية انتقال عناصر الإنتاج .
وبناءا على هذه الأسس يمكن تحديد دور الدول الإسلاميه في التعامل مع العولمة الاقتصادية وفي تفعل سبل الوصول لا إلى إقامه سوق إسلاميه مشتركة فحسب بل إلى التكامل الاقتصادي , ومن ثم النهوض الحضاري , وتتمثل هذه السبل: - في التوعية , والاستشارة , والاستثمار , والتمويل .
السبيل الأول : التوعية
التوعية أمرمهم في زمن العولمة وأساس متين لقيام السوق الاسلامية المشتركة , فقد ورد في استبيان نشرته مجله الاقتصاد الإسلامي أن من المعوقات لغياب السوق : غياب الوعي الشعبي والجماهيري وعدم فهم أهميه السوق , ويضاف إلى ذلك عدم فهم العولمة فهما صحيحا , وبهذا تتمثل هذه التوعية في أمرين : الوعي بأهمية السوق المشتركة , والوعي بآثار العولمة .
1- الوعي بأهمية السوق الاسلاميه المشتركة :-(/7)
ونعني بذلك الإلمام بماضي الأمة وحاضرها , ومعرفه المخاطر التي تجابهها , والعراقيل التي تحول دون استعادة مجدها وعزها , وبيان أهميه السوق(37) الإسلاميه المشتركة وآثارها الإيجابية على المستويين : الشعبي والحكومي , ولايتم ذلك إلا بالتكرار , والتكرار عامل مهم في نجاح أي عمل , لذا يتعين على المصارف الإسلامية الحرص الشديد والتأكيد على ذلك في كل محفل ومناسبة , وإنشاء أدارة للتوعية والاهتمام بهذا الأمر ومتابعته , وإعانة كل من يدعو إليه حتى تتضافر الجهود لتتم التعبئة العامة بضرورة إقامة السوق المشتركة , وتوخي السبل الكفيلة بتنمية الوعي من : كلمة طيبة مقروءة ومرئية ومسموعة , وتهيئة العقول لقبول الفكرة وإيجاد قناعة شخصية بأهمية هذا الأمر لدى الأفراد والمجتمعات , وجعلها قضيه لايمكن الاستغناء عنها بحال , وزرع الإيمان في القلوب بقدرات الأمة على إنجاز ذلك , بالاضافه إلى اقامه مؤتمرات وندوات وورش عمل يتم فيها مناقشة أهمية السوق المشتركة , والسبل الكفيلة بإقامتها , ورفع معنويات المسلمين بقدرات أمتهم ومكتسباتها وبناء الثقة بين الدول الاسلامية , وإتاحة تبادل المعلومات في مناخ ملائم للتفكير والإبداع حيث يتحدث كل صاحب فكرة وتجربة عن فكرته وتجربته , والإبداع والتجديد هما قاطرتا النهضة في أي أمة .
ومن مستلزمات التوعية : معرفة المعوقات التي تعيق إقامة السوق الاسلامية المشتركة للعمل على تذليلها وتلافيها , وقد أشرت في ثنايا البحث إلى بعض هذه المعوقات مع بيان طرق معالجتها , ولمزيد من التنبيه أشير إلى بعض هذه المعوقات :
-انخفاض الإنتاجيه في اقتصاديات العالم العربي والإسلامي نتيجة لسوء الإدارة أحيانا , وأحيانا أخرى لانخفاض كفاءة العاملين , فتكون المقدرة التنافسية ضعيفة أمام الكم الهائل من الانتاجية الغربية وجودتها, وهذا يستلزم أصلاحا اقتصاديا من الداخل مع ضرورة التوجه إلى الاستثمار الخارجي .
-السياسة المتقلبة وعدم استقرار المنطقة , وهذا ما أشار إليه الدكتور أحمد جويلي أمين عام مجلس الوحدة الاقتصادية في المؤتمر الأول لمؤسسة الفكر العربي , وعدم وجود استقلال حقيقي بالقرار السياسي والاقتصادي , وارتهان قرارها لقوى خارجية ليس من مصلحتها وجود مثل هذا السوق.
-التفاوت الضخم بالأوضاع الاقتصادية بين الدول العربية والاسلامية , فغنى بعض الدول وفقر أخرى يساهم في تأخير إقامة السوق المشتركة .
- عدم وجود دولة قائده تقود الدول الاسلامية نحو الاندماج , لأن الدولة القائدة هي التي تقدم التنازلات مثلها مثل الأخ الكبير الذي يرعى اخوانه الصغار ولا ينفك يتنازل ليرفع من مستواهم , ويضمن لهم العيش الرغيد , ولا يتم الاندماج إلا بالتضحية من الأفراد والدول , ولم تقم السوق الاوربيه المشتركة إلا بتضحيات كبيرة رغم اختلافهم في اللغة والعرق وبعضهم في الديانة , بخلاف المسلمين فان كل مقومات السوق المشتركة متوفرة لديهم حيث يوحدهم الدين واللغة – غالبا – ويمتلكون الطاقة والقدرة على الاستيعاب .
2- الوعي بآثار العولمة :-
إذا كان الهدف من العولمة الانفتاح والتعاون فلا حرج فيها , وإذا كان المقصد منها الأخذ والعطاء , فلا حرج كذلك . أما إذا كان المقصد منها أن تكون الأمة الاسلامية مجرد مستهلكة على المستوى الاقتصادي والثقافي والفكري فهذا يرفضه كل حر أبي , لأن هذا يعني الذوبان في الآخر والتشتت وفقدان الهوية .
ولتجنب هذا الأمر فإنه يستلزم ارتفاع درجة الوعي بالتحديات الاقتصادية التي تواجه المسلمين خاصة في ظل تبني أمريكا والغرب العولمة الاقتصادية , بالاضافه إلى عدم التعامل مع هذه العولمة باستخفاف أو الدخول فيها بدون الأخذ ترفع القدرات التنافسية , فأخطر المواقف التعامل مع العولمة بمعيار الرفض المطلق أو القبول المطلق , فلا بد من فهمها أولا , ثم الحد من أخطارها ثانيا , والاستفادة من ايجابياتها والتعامل معها تعاملا مدروسا ثالثا , وبهذا نكون فاعلين ومؤثرين , ومسجلين حضورا فاعلا في تشكيله العالم الجديد .
وسياسة الانتقاء ليست بالأمر السهل بل تحتاج إلى جهد كبير وذكاء وفطنة . وتتم هذه السياسة على مستويين :
- على المستوى الفردي : بالوعي بما في الإسلام ومنهجه من خلاص للبشرية , وانتشال المسلمين من براثن الجهل , والتخلف أولا , وبالوعي بما في العولمة من مخاطر ثانيا , وذلك بدراستها دراسة متأنية تمكننا من التمييز بين النافع منها والضار بغية التقليل من تأثيرها علينا وعلى الأجيال القادمة , وبقيام نهضة علمية وفكرية موازنة لما يفد علينا ثالثا , وذلك عبر برنامج علمي دقيق , وبإشراف العلماء والمختصين من خلال تحصين الأمة فكريا بزيادة الوعي واستحداث مراكز دراسات وأقسام متخصصة في الجامعات الاسلامية بغية امتلاك الوسائل التي ترتكز عليها موجات العولمة خاصة على الجانبين الاقتصادي والثقافي .(/8)
- على المستوى الجماعي : بأن تتصالح الأمة مع ربها , وتتعاون فيما بينها , وتستغل الطاقات والموارد التي منحها إياها ربها , وأن تعمل على إيجاد حماية اقتصادية خاصة بالبلدان الاسلامية وتطرح النظرية الاسلامية في الاقتصاد على المسلمين وعلى غيرهم عن طريق أجهزة الاتصال العالمية وشبكه الانترنت , وبث الوعي بتشجيع البضائع الداخلية , وتشجيع المستهلك لها , مع العناية الكافية لمثل هذا الأمر , بالاضافة إلى غرس الثقة بقدرات الأمة التي تؤهلها إلى أن تأخذ موقعها الايجابي في خضم هذا الصراع المتعدد الجوانب .
والعولمة ليست حتمية قدرية لا خلاص منها , بل هي ظرف تاريخي يعكس تطور النظام الرأسمالي , وفهمها فهما صحيحا قد يكون سببا من أسباب استعادة الأمة مجدها واسترداد عزها لأن الأيام علمتنا أن العرب لا يتحركون إلا إذا كان هناك خطر داهم يهدد حياتهم , وأن الحضارة أحيانا لا تصنع إلا بالتحدي , يقول آرلوند توينبي : ((إن الجماعة التي تنجح في صنع الحضارة هي تلك الجماعات التي تقابلها صعوبات عظيمة وتحديات فتنهض لكي تذلل تلك الصعوبات ولكي تقضي على تلك التحديات , فتتحول حياتها من حياة الدعة والسكون والراحة إلى حياة الكفاح والنضال والحركة الدائمة والعمل الدءوب(38))) .
ويتمثل فهم العولمة بمعرفه آثارها السلبية المعيقة لتقدم ألأمة حتى تتجنبها , وآثارها الايجابية حتى تستفيد منها , إذ الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها .
أولا : الآثار السلبية للعولمة الاقتصادية :-
تتمثل هذه الآثار في التحيز والظلم وعدم العدل , ويبدو هذا جليا في المظاهر ألآتية :
إضعاف الدولة , وتدمير الصناعة المحلية , وعدم الاستثمار فيما ينفع , والتحيز والكيل بمكيالين , وتخفيض الأجور , والبطالة , والتدهور البيئي.
1- إضعاف الدولة : تؤدي العولمة إلى إضعاف سيطرة ألدوله القطرية بكسر الحدود وانخفاض التوظيف ووظائف للعمالة الماهرة وتخفيض الأجور , وقد أصبح لشركات العولمة العملاقة نفوذ كبير في إسقاط الحكومات , وافتعال الانقلابات وتحريك الأزمات , وضرب الاقتصاديات المستقلة , وهي تتجه تدريجيا إلى تحويل المجتمع البشري الى مجتمع مستعبد مدجن بواسطة وسائل الأعلام والدعاية الاعلانية الاستهلاكية , فالعولمة تعمل على الاستعباد فتحول دون حصول الأفراد والشعوب على العزة والكرامة(39) .
وتعمد العولمة لتحقيق إضعاف الدولة وإلى إغراقها بالديون , فعلى سبيل المثال الدول العربية – وهي المستهدف الأول في العولمة – بلغت ديونها الخارجية وفقا لأحدث الإحصائيات ( 629 ) مليار دولار تستنزف من ثرواتها ما قيمته سنويا مليار دولار خدمه للديون الخارجية فقط , وليس غريبا أن تؤكد تقارير اقتصادية أن الديون العربية تزيد نحو ( 500 ) ألف دولار كل دقيقه(40) ,وقد بلغ إجمالي ديون الدول العربية حتى نهاية عام 2000م ( 325 ) مليار دولار بعد أن كان عام 1908م ( 49 ) مليار دولار , ولم يصاحب هذا الارتفاع زيادة مماثلة في الناتج المحلي الإجمالي , ففي عام 1980م كانت الديون الخارجية تشكل ( 12% ) من الناتج المحلي الإجمالي العربي , أما الآن فتمثل ( 46% ) من الناتج المحلي الإجمالي(41) , وقد أصبحت المديونية تمثل مشكلة يشار إليها في التقارير الدولية , ولا شك أنه كلما ارتفعت وتيرة الديون ترسخت التبعية , ووجدت الذريعه للقوى (( الاستعمارية )) في التحكم في اقتصاديات الدول المستهدفة .
2- تدمير الصناعة المحلية : تساهم العولمة إلى حد كبير في تدهور الصناعة المحلية وتدميرها , وقد حذرت منظمه الخليج للاستثمارات الصناعية من الجوانب السلبية التي قد تؤثر في الصناعات الصغيرة والمتوسطة في دول مجلس التعاون الخليجي نتيجة تطبيق اتفاقيه التجارة العالمية , ومن أجل هذا عملت دول مجلس التعاون الخليجي منذ تأسيس المجلس عام 1981م على إرساء الأسس اللازمة لقيام تكتل اقتصادي يجمع دول المجلس تحت اتفاقيه اقتصاديه موحده(42) .
ومن أبرز مظاهر تدمير الصناعة المحلية :
- ما تعمد إليه الشركات العملاقة من سياسة الاحتكار والإغراق , فهي تغرق أسواقنا بمنتجاتها وتحول دون وصول صادراتنا إلى أسواقها , كما إنها تسعى إلى : - تملك خطوط الإنتاج والصناعات في الدول المراد تدميرها اقتصاديا , ولا أدل من ذلك على علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بأوروبا من خلال تجارة (( الصويا )) حيث تمتلك الولايات المتحدة الاحتكار العالمي لتجاره الصويا وتصدر منها كل عام عشره ملايين طن , وقد نجحت أمريكا في إغلاق مصنع لا فير * في فرنسا , ومنشأة سر داين * في ايطاليا , وذلك لمنع المنتجين الصناعيين من استخدام ابتكار جديد لعالم فرنسي يؤدي إلى إنتاج بديل أفضل .(/9)
وكذلك ما كشفه النزاع الأوربي الأمريكي حول تجاره الموز حيث قامت الولايات المتحدة الامريكيه بفرض عقوبات اقتصادية على بعض شركاته بسبب تفضيل الاتحاد الأوروبي استيراد الموز من المستعمرات الفرنسية والانجليزية السابقة في أفريقيا عن استيراده من دول أمريكا اللاتينية رغم رخص ثمنه , وهو ما جعل الإتحاد الأوروبي يثير ثائرة دول العالم ضد الولايات المتحدة الأمريكية لأنها لم تحترم قواعد تحرير التجارة الدولية , وأساس الصراع بين الطرفين الخلاف حول اقتسام كعكه النظام الاقتصادي الدولي الجديد القائم على التحرير الاقتصادي وإعمال آليات السوق والمنافسة(43) .
- كسب المزيد من العملاء من خلال خفض أسعارها , والبيع بسعر يقل عن التكلفة الحقيقية بهدف إخراج المنافسين الآخرين من السوق للإنفراد بالمستهلك فيما بعد , وفرض أسعار احتكارية عليه , ولا أدل على ذلك من شركه (( سنسبري )) فإنها لما دخلت السوق المصري بلغت خسائرها بسبب سياستها العمديه الإغراقيه في أربعه أشهر ( 50 ) مليون جنيه منها ( 22 ) مليون في الشهر الأول ... وهي على استعداد لتحمل هذه الخسائر , بل هي مستعدة لخسارة في أول عام تصل إلى ( 500 ) مليون جنيه مصري , وهي طبعا تخطط لتعويض تلك الخسارة بعد سيطرتها على خطوط الإنتاج , وسحق المؤسسات المنافسة سواء كانت الصغيرة أو المتوسطه . وقد جاء في تقرير الأهرام الاقتصادي ,وصحيفة الأهالي الناقلة عنها إن أغلقت 25 من المتاجر أبوابها فعلاً تمهيداً للبيع أو لتغيير النشاط بعد إشعار الإفلاس . من المتوقع أن يغلق 1500 متجراً أبوابه ... و من المتوقع كذلك خلال السنوات الثلاث القادمة إغلاق 10 الآف متجر(44) .
امتلاك راس المال حيث أصبح تداوله في أيدي قلة قليلة من عمالقة الاقتصاد و الشركات العابرة للقارات , و لمعرفة مدى قوة هذه الشركات المالية فان شركة (جنرال موتورز) يفوق رقم معاملاتها المالية الدخل القومي لدولة مثل الدانمرك . و شركة (فورد ) تفوق معاملاتها الدخل القومي لجنوب أفريقيا , و شركة ( تويوتا ) تفوق معاملاتها الدخل القومي للنرويج . و يبلغ حجم نشاط شركة (ميتسوبيشي ) الاقتصادية أكثر من حجم النشاط الاقتصادي لاندونيسيا التي تعتبر رابع أكبر دولة من حيث تعداد السكان . فلا غرابة من أن يكون 358 شخصا في العالم فقط من أصحاب المليارات يملكون ثروة تضاهي ما يملكه ملياران و نصف من سكان العالم(45).
3/ عدم الاستثمار فيما ينفع : تساهم العولمة في عدم استثمار الأموال في أنشطة اقتصادية حقيقية من شانها تعزيز القدرة الإنتاجية للدول الإسلامية لتصبح الدولة دولة مستهلكة بدل أن تكون منتجة و ذلك بنشر النمط الاستهلاكي الترفي بين الناس , و اختزال الإنسان في البعد المادي الاستهلاكي , و أحيانا الشهواني دفعا للناس للإسراف و التبذير مما يؤدي إلى استنزاف الموارد المالية للدولة والأفراد على حد سواء .
4/ التحيز و الكيل بمكيالين : لا يخفى على عاقل تحرك العولمة اليوم في المجتمعات بأسلوب متحيز إذ إنها في الغالب تعمد إلى تغليب الحسابات و المقاييس العالمية على الحسابات و المقاييس المحلية في الحقول التي تقوم عليها العولمة فالولايات المتحدة تحاول إن تعطي المحلي لديها طابعا عالميا تحقيقا لمصالحها الذاتية و يتيسر لها هذا بما يتوفر لديها من قوة إعلامية على نطاق محلى و عالمي .
5/ تخفيض الأجور : تنتهج العولمة سياسة تخفيض الأجور لتتمكن من تحقيق أقصى ربح ممكن عبر تشغيل أيد رخيصة في مشروعاتها الوطنية في البلدان النامية , ومنها البلدان العربية , و هذا يؤدي إلى زيادة في عدد الفقراء والمهمشين اجتماعياً، وزيادة الجريمة المنظمة(46) .
6/ البطالة: تسببت العولمة في كثرة البطالة وزيادتها، إذ يقدر معدل البطالة في الدول العربية في أحدث إحصائية بنحو 20% من إجمالي القوى العربية العاملة أي ما يعادل 19 مليون فرداً. ومن الجدير بالذكر أن البطالة أخذت بالتزايد بشكل مطرد بين الشباب المؤهلين الداخلين الجدد لسوق العمل كما أن معدلات البطالة لهذه الفئة في الارتفاع في السنوات الأخيرة في بعض الدول الخليجية وغيرها حيث تمثل نسبة العاطلين من الشباب على سبيل المثال نحو 75% من إجمالي العاطلين في البحرين، وتبلغ نحو 40% من الجزائر وتونس(47) .
7/ التدهور البيئي لا يقتصر أثر العولمة الاقتصادية على الجانب الاقتصادي أو السياسي فحسب بل يتعداه إلي البيئة، وذلك بما يؤدي إليه هذا التطور الهائل للتجارة العالمية من تدهور المحيط البيئي إما باستنزاف و إتلاف الأراضي الزراعية , و قطع الأشجار , مما يؤدي إلي ظاهرة التصحر التي تعود قبل كل شيء إلى استغلال الإنسان المفرط للأراضي .
- أو بتشجيع الاستثمارات غير المنتجة لكونها تدر أرباحا بسرعة .
- أو بتصدير الصناعات الأكثر تلويثاً للبيئة للبلدان العربية و الإسلامية .(/10)
- أو بالمتاجرة ببعض المواد الخطيرة , أو ببعض الكائنات الحية المهددة بالانقراض .
- أو تدهور نوعية المياه و زيادة تلوثها نتيجة ضعف أجهزة إدارة المياة و حمايتها من آثار التلوث الصناعي و الملوثات الكيماوية و البيولوجية نتيجة الاستخدام غير الرشيد لبعض الأفراد و المؤسسات دون محاسبة من الأجهزة المعنية ما يؤدي إلى خسائر كبيرة في الموارد المائية الجوفية و السطحية(48).
و ما تجنيد الرأي العام و رجال السياسة سواء على المستوى العربي و الإسلامي أو العالمي , و الركوض وراء البحث عن حلول للمشاكل البيئية إلا دليلاً على تفاقم حدة هذه المشاكل .
ثانياً : الآثار الإيجابية للعولمة :-
من الآثار الإيجابية للعولمة ما يأتي :-
1. إنها تعمل على جذب الاستثمارات الى القطاعات الإنتاجية و زيادة النشاط التجاري الدولي .
2. السماح بتحريك الكفاءات البشرية و ذلك بإزالة الحواجز .
3. فتح المجال للصادرات العربية و الإسلامية لدول الأسواق العالمية .
4. الإفادة من مزايا الاتحاديات و التكتلات .
5. تخفيض التعريفة الجمركية أو إزالتها و ذلك يؤدي إلى انخفاض في الأسعار الذي يصب في مصلحة المستهلك مما يخفف العبء عنه .
6. زيادة التنافس – لو كان نزيهاً – في مجال السلع و الأسعار و زيادة حجم النشاط التجاري . مما يؤدي إلى زيادة النمو الاقتصادي على المستوى المحلي و العالمي , و إن أنشاء سوق إسلامية مشتركة تمكننا من الوقوف في وجه التحديات الاقتصادية المعاصرة في العالم اليوم , و في طليعتها تحدي مخاطر السوق الشرق أوسطية التي تدعو إليه إسرائيل , و تعمل على تنفيذه عبر عملية التطيبع التي رفضتها الشعوب العربية و الإسلامية .
السبيل الثاني : الاستشارة :-
من سبل تفعيل إقامة سوق إسلامية مشتركة ما تقدمة الدول الإسلامية من خدمات استشارية , بما توفره من معلومات كافية حول شتى الموضوعات , و ذلك بأن من يملك المعلومات الصحيحة يملك القرار , و لا تتأتى هذه الخدمات إلا بإنشاء لجان استشارية أو مراكز للأبحاث الإحصائية و الاقتصادية و الاجتماعية لكافة الدول الإسلامية , و قد أنشأ مركز لهذا الأمر عام 1397 / 1977 و مقره بتركيا , و تتمثل خدمات هذه اللجان و المراكز في :
• التعاون مع غيرها من المراكز و اللجان ذات العلاقة في الدول الإسلامية .
• جمع المعلومات الإحصائية و الفرص الاستثمارية و الوظيفية و تقويمها و تقديمها لمن يحتاجها من رجال الأعمال و المؤسسات الاقتصادية داخل الدول الإسلامية , و دراسة أحوال الدول الأعضاء دراسة دقيقة و شاملة لما يتوفر فيها من موارد طبيعية و بشرية , و ما تحتاجه أسواقها المحلية من صناعات و سلع و مواد أولية . و لعله في إطار التأكيد على تبادل المعلومات عقد في مبنى غرفة تجارة و صناعة دبي المؤتمر الأول للمعلومات الصناعية و الشبكات حيث دعا في توصياته الحكومات العربية للعمل على توفير البيئة الاقتصادية للابتكار .
• إعداد دراسة جدوى اقتصادية تفصيلية و القيام بأبحاث تطبيقية حول سبل التعاون الاقتصادي بين الدول الإسلامية , و التفكير في المجالات الهامة التي تخدم السوق الإسلامية المشتركة , و قد أوضحت الباحثتان الدكتورة أمينة محمود حسن و الدكتورة إيمان عبد الوهاب حجاج أهمية دور الخدمات البحثية في دعم القدرات التنافسية للمنظمات الاقتصادية حيث لا يمكن تطوير الأسواق و المنتجات و أدوات الإنتاج إلا من خلال البحوث الميدانية التي تقف على أحدث ما وصل إليه العالم في الميادين الاقتصادية و العلمية(49) .
• العمل على تنسيق التعاون بين الدول الأعضاء في المجالات الاقتصادية لا سيما و أن الدول الإسلامية تنقسم إلى مجموعتين : مجموعة لديها موارد طبيعية , و أخرى تعاني من عجز في تلك الموارد و لكنها تنعم بموارد بشرية .
• وضع الأسس الكفيلة بتحقيق التعاون بين الدول الأعضاء و ذلك بتنسيق النشاط الاقتصادي تفاديا للازدواجية في إقامة مشروعات صناعية في هذه الدول .
• سعي الدول الإسلامية لإيجاد موقف موحد إزاء كل التطورات الجارية و المستجدات المرتقبة تحت مظلة العولمة و متطلبات منظمات التجارة العالمية.
• الحرص على أصحاب العقول المفكرة و أصحاب القدرات و الكفاءات العلمية و الفنية و المهنية و العمل على استقطابهم و الاستفادة من إمكانياتهم فيما يعود بالنفع على المجتمع . و من الواضح أن عدم الاهتمام بهذه الفئة يؤدى إلى هجرتها حيث تجد ذاتها و تحقق مصالحها .
• ضرورة التأكد من الخطوات التي تخطوها الأمة نحو السوق الإسلامية المشتركة , و من ثم التكامل الاقتصادي , و دراستها دراسة معمقة من كافة الجوانب حتى لا تضل الإفهام و تزل الأقدام .
• دراسة ما يواجه السوق الإسلامية المشتركة من عراقيل و عقبات , و اقتراح الحلول المناسبة لها , و تذليل الصعوبات , و الكينونة في مستوى التحديات . و لا يخفى إن هذا العمل يحتاج إلى :-(/11)
1. تحديد مجموعة من الباحثين الخبراء في مثل هذه الأمور .
2. تمويل هذه البحوث .
3. إيجاد آلية جديدة لتقديم نتائج البحوث لصانعي القرار .
4. زيادة عرض تبادل الآراء المثلي لإقامة السوق الإسلامية المشتركة .
5. إعادة هندسة السياسات الإدارية و تطوير القطاع العام بتحريره من القيود التنظيمية و الإدارية و المالية و إطلاق قدراته التنافسية .
6. تعزيز فرص تبادل الخبرات و المعلومات و التخفيف من العراقيل الإدارية , و تشجيعاً لهذا فقد أحدث البنك الإسلامي للتنمية برنامجاً لتشجيع الموارد البشرية للدول الأعضاء و ذلك بتوفير التدريب و تعيين الخبراء مركزاً على مجالات الزراعة و الصناعة و الإصلاح المالي , وقد أعتمد البرنامج في عام 1422هـ 91 عملية بمبلغ 1.887 مليون دولار أمريكي.(50)
و تظل المشكلة دائما في مدى إيماننا – حكومة و شعباً – بضرورة إقامة سوق إسلامية مشتركة , و إعداد البحوث الجادة المتعلقة بهذا الموضوع , و الخروج بها من حيز الأفكار و النظريات إلى حيز الواقع و التطبيق .
السبيل الثالث الإستثمار(51):-
الاستثمارات الاسلاميه المشتركة تعتبر الخطوة الأولى والبداية الحقيقية للسوق الاسلاميه المشتركة والتكامل الاقتصادي ويتم تفعيل ذلك بما يأتي:-
1- تشجيع الاستثمارات بين الدول الاسلاميه بدلا من الاستثمارات في البلدان الغربيه , وذلك بتشجيع انتقال رؤوس الاموال والعمالة المدربه والخبرات والتكنولوجيا بين الدول الاسلاميه , وفي اطار جذب الاستثمارات في الدول الخليجية تم استحداث العديد من التشريعات والقوانين , وقدمت في هذا الصدد العديد من الحوافز التشجيعية امام المستثمرين ... وقد استطاعت دول مجلس الخليج اجتذاب اكثر من 40 ملياردولار من اجمالي الاستثمارات الاجنبيه المباشرة وذلك خلال السنوات 1975 - 2000 م , وهو ما يقل عن ( 0.6% ) من مجموع التدفقات الاستثمار العالمية , ويقل عما تجتذبه دوله مثل الصين في عام واحد وتتراوح الاستثمارات الخليجية المهاجرة في الخارج بين ( 1.4 ) تريليون دولار وفقا لتقديرات ميريل لينش العالمية و( 2.8 ) تريليون دولار وفقا لتقديرات الجامعة العربية(52) .
2- إيجاد الفرص الملائمة وخلق الآليات والأدوات التي تلبي احتياجات المستثمرين من الأفراد والشركات والمؤسسات .
3- زيادة حجم المساهمات لتمويل المشروعات الإنتاجيه في الدول الإسلامية لتحقيق الأمن الغذائي فلا تحتاج إلى استيراد الاغذية من الخارج , وذلك بتشجيع الإنتاج الزراعي العربي والإسلامي اذ أن الإنتاج الزراعي العربي يتراوح بين ( 5 – 20 % ) من احتياجات الوطن العربي من الغذاء , والباقي يستورد من الخارج اذ تصل قيمه الفجوة الغذائية العربيه الى ( 13 ) مليار دولار سنويا(53).
4- التحول من الاستثمارات القصيرة الأجل الى الاستثمارات متوسطة وطويلة الأجل , وإن كان النوعان مطلوبين.
5- ومما يلحق بالاستثمار :- تعزيز القدرة التنافسية , ذلك بأن المنافسة أمر جيد ومحرك اساسي للتقدم , ولكن لابد لها من ضوابط حتى لانخسر ذاتنا , او نفقد قيمنا , فينبغي ان تقوم هذه المنافسة لا على أساس الأسعار فحسب ,بل تتعداه إلى الجوده الشاملة, والارتقاء بالمواصفات المعيارية للسلع والخدمات العربية والاسلامية , بالإضافة إلى تطوير القدرات الإدارية , والتأكيد على الابتكار , والتميز الصناعي , وعلى دولنا الاستفادة من فترات السماح التي تتيحها مبادئ تحرير التجارة العالمية
ولاشك أن المنافسة – اليوم – غير متكافئة , لأنها بين قوي مؤهل وضعيف أعزل في صراع حسمت نتيجته من قبل اللقاء , فالشركات العابرة للقارات جادة في منافستها , ذلك بأن هدفها الربح , والربح وحده ولو على حساب القيم وسحق الضعيف , ولا تألوا جهدا في البحث عن كل عمل يحقق هدفها , ولا أدل على ذلك مما تقوم به بعض الشركات العملاقة من تجسس على الشركات المنافسة لها من اجل معرفة نقاط الضعف فيها , ومن ثم القضاء عليها , ومع كل ذلك يظل الواجب على الدول الاسلامية دخول هذه المنافسة الواسعة الأبواب التي طرحت كشعار سوقي للعولمة , ولا يتم ذلك إلا بالتكتل والتعاون الذي من مظاهره اقامة سوق اسلامية مشتركة .
بالاضافة إلى تشجيع قطاع الخدمات بين الدول الاسلامية بما يساعد على تدوير الأموال الاسلامية داخل الوطن الإسلامي , وإتباع أسلوب : ((البرامج المتوازية )) لتنشيط القطاعات الاقتصادية من خلال خطة زمنية محددة ضمانا للالتزام بالتطبيق وتحقيق مستويات أفضل ومتقاربة إذ ((التفاوت في اقتصاديات الدول قد يعوق الاندماج))(54) .
السبيل الرابع : التمويل
من سبل تفعيل اقامة سوق اسلامية مشتركة مساهمة الدول الاسلامية في تمويل المشروعات التي تخدم الهدف العام الذي تسعى إلى تحقيقه فتعمد إلى الآتي :-(/12)
1- تحفيز القطاع الحاضن للمساهمة في المشروعات الاسلامية المشتركة والحد من تسرب الاموال الاسلامية نحو الدول الاجنبية , وقد ركزت الدول الخليجية خلال السنوات الماضية على التزام بسياسات التحرر الاقتصادي والعمل على تنشيط القطاع الخاص وإعطائه دورا أكبر في أدارة النشاط الاقتصادي , وعلى سبيل المثال ارتفعت استثمارات القطاع الخاص في دوله الإمارات العربية المتحدة من ( 8.2 ) مليار درهم عام 1975م الى ( 20 ) مليار درهم عام 2000م وخاصة في ظل المناخ الاقتصادي التجاري الحر الذي تنتهجه الدولة اضافة إلى تشجيعها القطاع الخاص من خلال التوسع في بناء المناطق الحرة , وتهيئة البنية الأساسية الاستثمارية(55) .
2- الدخول في التمويل المشترك لمشروعات التنمية الكبرى التي قد تفوق قدرات الدولة الواحدة كاستصلاح الأراضي وزراعتها والصناعات الثقيلة والمعلوماتية والاتصالات .
3- تشجيع التكتلات الصغيرة القائمه كدول الخليج العربي , أو دول المغرب العربي ذلك بأن المشروعات الاقتصادية المشتركة بين الدول الاسلامية حجر الاساس في بناء صرح التكامل الاقتصادي فهي تشكل مقدمة مهمة لانفتاح هذه الاسواق وانخراطها في سوق عربية مشتركة لتنتهي الى سوق اسلامية مشتركة، وفي هذا الاطار وقع البنك الاسلامي للتنمية مذكرة تفاهم مع مع منظمة التعاون الاقتصادي وقدم مساعدات مالية ونسبة للمنظمة لتنفيذ مشروعات في مختلف المجالات , فعلى الصعيد الإفريقي يتعاون البنك مع كل من اتحاد المغرب العربي , والاتحاد الاقتصادي لدول غرب افريقيا مع السوق المشتركة لدول افريقيا الشرقية والجنوبية (الكوميسا) في تحقيق أهداف الاتحاد الاقتصادي الافريقي , وخاصه فيما يتصل بتبادل التجارب والخبرات ويتعاون البنك كذلك مع منظمه المؤتمر الاسلامي والمؤسسات التابعة لها والاجهزة المتخصصة المنبثقة لها(56) , ومع الغرفة الاسلامية للتجارة والصناعة التي مقرها في كراتشي بباكستان(57) . كما شرع البنك الاسلامي في تنفيذ برنامج المساعدة الفنية – واسع النطاق – لمساعدة الدول الاعضاء على مواردها المؤسسية والبشرية(58) .
4- إقامة معارض دولية تشترك فيها الدول الاسلامية على غرار المعرض التجاري الاسلامي التاسع المنعقد في ( 21-28/12/2002م ) بالشارقة تحت شعار ((العالم الاسلامي تجارة حرة وتنمية مستديمة))(59) , والمعارض عبارة عن اسواق منظمة تكشف عن مدى تقدم وازدهار الدولة التي تقيمها في الميدان الاقتصادي وهي في نفس الوقت تعرف الآخرين على انتاج الدول المشاركة , وقد يستفيد اصحاب الاختصاص من زيارتهم لهذه المعارض للتعرف على مايمثل انتاجهم لدى الآخرين ليكونوا على بينة من مستواهم الفعلي وليعملوا على تحسين انتاجهم وتطويره(60) , ولا يخفى ما تثمره هذه المعارض كذلك من تنافس بين اصحاب الفعاليات الاقتصادية وتبادل للمعلومات بالاضافة الى ما توفره من انشطة على هامش هذه المعارض مثل الندوات للتخطيط لاقامة السوق المشتركة .
5- للتشجيع علىإقامة مناطق حرة بما تمثله هذه المناطق من تدرج إيجابي قد ينتهي بسوق اسلامية مشتركة عبر جدولة زمنية محددة اذا صح القصد وصدق العزم , ولا يقتصر الامر على تشجيع الدول في المساهمة في هذه المناطق , بل يتعداه الى أمرين آخرين :-
- أحدهما :-
العمل على إزالة العقبات والمعوقات التي تواجه هذه الخطوات المباركة التي من ابرزها القيود الجمركية وأحيانا غير الجمركية والحرص على الشفافية(61).
-وثانيهما :-
إبراز المنافع والمصالح العامة والخاصة التي تحققها هذه المناطق فهي تعود بالفائدة على الجميع تجاريا واقتصاديا بالاضافة الى زيادة حجم الاستثمارات المشتركة بما تثمره هذه الاستثمارات من خير على العمالة الاسلامية وعلى التنمية بشكل عام وبموجب هذه المناطق الحرة يمكن أن يتحرر انتقال الأشخاص ورأس المال بين الدول الاسلامية وأنذاك تبدأ الخطوات نحو السوق المشتركة والتكامل الاقتصادي .
6- الحرص على توجيه الدول الاسلامية نحو تعميق مبدأالتخصص أي بأن تتخصص كل دولة في المجال الذي تتمتع فيه بالمزايا النسبية المتمثلة فيما توفرلديها من عناصر الانتاج والتخصص هو توجيه الموارد والامكانات الاقتصادية في مجال واحد أو مجالات محصورة (( وايلاء الافضلية لمشروع تكون الدولة متمكنة منه حتى يتم لها التوفق بهذا الحقل وتحقق الغايه المنشودة منه , وتكون أقدر من غيرها على تطوير برامجها وتحسين انتاجها بشكل تكون فيه افضل من غيرها))(62) .
والتخصص يحقق للدولة التقوي في الحقل الذي هي اقدر فيه من غيرها , ويجمع لها جهود فلا تتوزع في سبل متعددة قد لاتصل في مجموعها إلى الذروه بخلاف ما لو حصرت جهدها في سبيل واحد أو سبل محددة فإن المردود يكون أوسع واكثر فائدة , ولايأتي هذا إلا بالتنسيق والتعاون التجاري بين الدول الاسلامية .(/13)
7- تمويل المشروعات الصناعية : يعتبر تمويل المشروعات الصناعية من أهم الطرق الموصلة لاقامة سوق اسلامية مشتركة ان لم يكن على المدى القريب فعلى المدى البعيد وذلك بوضع سياسة حديثة واستراتيجية واضحة للتنمية الصناعية وكلما ساهمت الدول الاسلامية في التنمية الصناعية فيما بينها تقارب النمو الاقتصادي بينها واقتربت من السوق الاسلامية أكثر فأكثر وكان التكامل الاقتصادي بينها أقرب اذ من الصعوبه بمكان قيام سوق مشتركة بين دول ذات اقتصاد متطور وأخرى ذات اقتصاد متخلف , وفي إطار الصناعات : أشادت دراسه حديثة صادرة عن منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول أوابك بسياسة الإمارات فهي وحدها تنتج ثلث الإنتاج العربي من المشتقات البترولية مثل غاز البترول المسال وزيوت التزييت والاسفلت والشمع ... وأكدت الدراسة حاجة العالم إلى استثمارات تقدر بنحو ( 101 ) مليار دولار بالمواصفات البيئية عام 2015م , وتوقعت الدراسة ان يتركز حوالي ( 9% ) في الدول العربية(63) .
تشجيع التجارة البينية تعكس التجارة بين الدول حجم الروابط القائمة بينها , فعلى قدر حجم هذه التجارة على قدر العلاقة القائمة فيما بينها , فإذا كانت التجارة قوية كانت العلاقة قوية و متينة , و إذا كانت التجارة ضعيفة كانت العلاقة ضعيفة , و من المسلم به أن التبادل التجاري بين الدول الإسلامية ضروري و حيوي . " و يؤدي حتما إلى تخفيف الارتباطات مع الدول الأجنبية . إذ إن التكتلات الدولية في العصر الحاضر تعمل على تبادل المنافع فيما بينها و قصرها على أعضائها دون غيرهم(54) و يعد ذلك محورا من أهم محاور التكامل الاقتصادي , و خطوة من أسرع الخطوات المتبعة لإقامة سوق إسلامية مشتركة .
حجم التجارة البينية(55) :
تتراوح نسبة التجارة البينية بين الدول العربية إلى أجمالي التجارة الخارجية (8.5%)(56) و هو ما لا يتناسب مع آمال و طموحات الشعوب العربية و الإسلامية , و لا مع إمكانياتها و قدراتها , و قد وصل حجم الأموال العربية المستخدمة خارج الدول العربية إلى ما بين 700 إلى 800 مليار دولار أي ما يعادل 91% و قد دعا مؤتمر القمة الإسلامية الثامن في طهران و كذلك البنك الإسلامي للتنمية إلى رفع هذه النسبة لتصل إلى 30% على الأقل تمهيداً للوصول إلى السوق الإسلامية المشتركة .
و قد عقد مؤتمر اقتصادي عربي يضم رجال الأعمال و وزراء التجارة العرب في القاهرة بين 16 و 18/5/2002م و الهدف منه زيادة حجم المبادلات بين الدول العربية خصوصا و إنها تشكل حالياً 8%من من الحجم الإجمالي لمبادلاتها مع الخارج(57) و قررت 15 دولة عربية تسريع موعد إقامة السوق العربية المشتركة , و تعهدت بإلغاء التعريفات الجمركية سنة 2005 بدلاً من 2007 كما كان مقرراً في السابق .(88) .
أما التجارة البينية للدول الأعضاء في البنك الإسلامي للتنمية فتشكل 10% عام 2001م من تجارتها الإجمالية في مقابل 11.3% في عام 1999م (89) و قد بلغت الصادرات البينية لهذه الدول 49.9 بليون دولار أمريكي في عام 2000 بزيادة نسبة 24.4% علي مبلغ 40.1 بليون دولار أمريكي تحققت في عام 1999م , و تعد هذه النسبة ممتازة مقارنة بنسبة نمو الصادرات البينية 6.1% المسجلة عام 1999م , و هي أعلى قيمة من التجارة البينية لعام 1998م إلى 38.3 في عام (58)1999 , و قد قفزت إلى 53.1 بليون دولار أمريكي في عام 2000 أي بمعدل نمو نسبته 39% ... و على الرغم من هذا الأداء المثير للإعجاب . فإن الحصة النسبية من أجمالي تجارة الصادرات البينية بلغت 20% بينما كانت حصة إجمالي الواردات 13.1% في عام 2000م.(59)
و كذلك الشأن بالنسبة للتجارة البينية الخليجية فمازالت دون الطموحات حيث يتراوح حجمها بين 11 إلى 14 مليار دولار سنوياً أي ما يعادل 5 إلى 7% من حجم التجارة الخارجية الخليجية , وهو يعد قدرأ ضئيلاً قياساً إلى نسبة التجارة البينية البالغة 80% بين دول الإتحاد الأوربي(70) .
و ختاماً فأن من مؤشرات التفاؤل بمستقبل اقتصادي أفضل لعالمنا الإسلامي أن كل الدول الإسلامية تحاول جاهدة الخروج من أزماتها الاقتصادية و تحاول التغلب على المشكلات التي تعاني منها , و ذلك بما تتبعه من خطوات مثل :
1/ فتح المجال أمام التبادل التجاري , و تشجيع المناطق الحرة , و المعارض التجارية , و التجمعات الاقتصادية الصغيرة القائمة بين الدول الإسلامية , سواء أكانت في شكل ثنائيات اقتصادية أو تجمعات إقليمية مثل دول المغرب العربي , أو دول الخليج العربي .
2/ تدريب الأيدي العاملة المحلية بحيث تكون قادرة على النهوض بالتكنولوجيا و سوق العمل .(/14)
3/ تخفيض قيمة الرسوم الجمركية و الضرائب ذات الأثر المماثل , بالإضافة إلى إخراج التعريفة الجمركية الموحدة تجاة العالم الخارجي إلى حيز الوجود , و هذا يعد الخطوة الأولى إلى السوق الإسلامية المشتركة , و العمود الفقري للتكامل الاقتصادي و السبيل الأمثل لتقوية دور الدول العربية و الإسلامية عند التفاوض مع الدول الغربية و التكتلات الاقتصادية العالمية, و إن كان في مثل هذا الأمر صعوبة و يحتاج إلى جرأة , فعلى الدول الإسلامية التعاون فيما بينها , و أن تنظر نظرة مستقبلية في إطار المصلحة العامة لشعوبها .
و في هذا الإطار أحرزت القمة الخليجية ال 23 التي عقدت في الدوحة يومي 21 و 22و 23/12/2002م نتائج مهمة على صعيد التكامل الاقتصادي و التنمية(71) . و ذلك بالإعلان عن بدء تنفيذ الإتحاد الجمركي الخليجي اعتبارا من الأول من يناير2003م وقد تم إعفاء أكثر من 400 سلعة على مستوى دول التعاون مجتمعة ضمن الاتحاد الجمركي(72). و هذا يشكل نقلة نوعية في مسيرة العمل الخليجي المشترك باعتبارها خطوة هامة نحو إنشاء سوق خارجية مشتركة بحلول عام 2007م , و هي الأولى من نوعها في منطقة الشرق الأوسط , مع الحرص على الوصول إلى إصدار عملة خليجية موحدة و إقامة اتحاد نقدي في عام 2010م(73) , و بعد مرور شهرين على على انطلاق العمل الفعلي بالاتحاد الجمركي بين دول مجلس التعاون الخليجي قد يكون من المبكر جدا الحكم على مدى نجاح هذه الخطوة أو فشلها
4/ تشجيع الاستثمار المحلي في سبيل تحقيق الاكتفاء الذاتي في جميع الاتجاهات .
5/ تأسيس قاعدة اقتصادية بين الدول الإسلامية و العربية تقوم على تبادل المعلومات و الخيرات في هذه المجال .
6/ استحداث آليات جديدة و متطورة لترجمة الآمال و التطلعات الاقتصادية إلى واقع عملي في حياة المسلمين من تعاون و تكامل بالإضافة إلى تطوير البنية التحتية و تشجيع الاستثمار , و دعم المؤسسات المالية و الاقتصادية , و لا بد إن تتحول الأسواق الإقليمية : الخليجية و المغاربة إلى سوق عربية . و تتحول السوق العربية إلى سوق إسلامية مشتركة وهذه الطموحات لا تحقق بالتمني ولكن بالتخطيط والجدية ، وإيجاد البدائل التي نصنعها نحن التي تكون نابعة من هويتنا الدينية، ومتفقة ومبادئنا وقيمنا الإسلامية، فإن ذلك لا محالة نظرية اقتصادية صحيحة مثمرة ، وهو مفتاح النصر في كل شيء والمقدمة الحقيقية لقوتنا السياسية والعسكرية ولنهضتنا الحضارية.
هذه هي بعض السبل لتفعيل إقامة السوق الإسلامية المشتركة، مع ذكر بعض الخطوات للتعامل مع العولمة الاقتصادية ، وعلى الأمة أن تسعى لاستلام دورها الريادي فتعمل لصناعة المستقبل وتفعيل مراكز البحوث ومعاهد الدراسات ، لتحقيق الكفاءة الفنية وصناعة الكوادر العاملة والمتخصصة ن وصناعة الأفكار والمبتكرات وفق التصورات الإسلامية لخدمة المصلحة العربية والإسلامية والبشرية جمعاء فالموقف من العولمة موقف مواجهة، الهزيمة فيه ممنوعة لأن القضية وجود أولا وجود. وتبدأ المواجهة بالتعامل الصحيح مع مباديء ديننا الحنيف ثم باستيعاب هذه العولمة وتفهمها ونقدها ، وان قدر هذه الأمة أن تصد كل فساد ن وبهذا نالت الخيرية : (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)(74).
خاتمة في النتائج والتوصيات
بعد هذه الجولة فإن ما ذكرته من أفكار أحسبها هادفة إلي رفع الأداء الاقتصادي العربي الإسلامي وتعجيل الخطوات إلي إيجاد سوق إسلامية مشركة لمواجهة تحديات العولمة، ومع ذلك لا أزعم أنها تصور شامل واستراتيجي لما ينبغي تحقيقه، ولكنها قريبة منه، وتحوم حوله حتى نجعل من العالم (قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان)(75).
1/ وهذه بعض النتائج التي توصلت إليها، مع بعض التوصيات.
أولاً:
1/ إن المجتمع البشري لا يصل إلي السعادة والرخاء إلا بالرجوع إلى العوامل الواقعية التي تجمع بين البشر، ولا شك أن العامل المادي ليس هو العامل الحقيقي الذي يجمع بقدر ما هو عنصر لاختلاف والتنازع والاستغلال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشىعليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتم)(76).
2/ إذا كان الهدف من العولمة الإنفتاح والتعاون فلا حرج فيها، وإذا كان المقصد منها الأخذ والعطاء أن تكون الأمة الإسلامية والعربية مجرد مستهلك على المستوى الاقتصادي، والثقافي والفكري فهذا يرفضه كل حر أبين لأن هذه يعني الذوبان في الآخر على البشرية.
3/ لو التزمت العولمة بضوابط إنسانية، واتخذت ميزان العدل أسلوباً متبعا في جميع معاملاتها، فإنها بذلك لا تشكل خطراً على البشرية.
4/ أخطر المواقف التعامل مع العولمة بمعيار الرفض المطلق أو القبول المطلق، بل الأمر يحتاج إلي دراسة متأنية ومناقشة هادئة متزنة حتى نكون فاعلين مؤثرين.(/15)
5/ العولمة ليست قدراً محتوما – كما يتصور البعض – يحدد مصير الدول الإسلامية، بل هي ظرف تاريخي يتطور فيه النظام الرأسمالي، وأن المسلمين هم قدر الله، ومصير الأمة مرتبط إلي حد كبير بتعامل المسلمين وتفاعلهم مع التحديات الراهنة.
6/ الدعوة إلي إقامة سوق إسلامية مشتركة لا يتعارض إطلاقاً مع الدعوة إلي إقامة سوق عربية مشتركة إذا لا مانع من التعاون والتكامل الاقتصادي العربي – خاصة في هذه المرحلة – ثم التعاون بين المسلمين جميعاً.
ثانياً: التوصيات.
1- مزيد من فهم العولمة والتعامل معها بحذر، وحرى بالدول الإسلامية قبل الانخراط في العولمة مناقشة الأمر مناقشة هادئة. وعدم التسرع في اتخاذ القرار..
2- عقد اجتماعات وندوات تضم الاقتصاديين والتجار لدراسة ظاهرة العولمة بشكل عميق، ووضع الخطط والبرامج الاقتصادية التي تدعم إقامة السوق الإسلامية المشتركة والاسواق المحلية والعربية بما يضمن لها التقديم والنجاح.
3- التعرف المبكر على نقاط الاختلال والضعف في الأداء الاقتصادي لتجاوزها، وتعزيز نقاط القوة والتميز.
4- إعادة النظر في البيئة الإنتاجية وعوامل إنجاح الجودة، وتخفيض التكاليف، وتحديث التقانات، ووضع معايير عالمية لا تعتمد فقط على فاعلية أو قدرة الاقتصاد بل تعتمد أيضا على المسؤولية الاجتماعية.
5- تشجيع الاستثمار الحكومي والخاص في البنية التحتية والخدمية لامتصاص البطالة وتوسيع السوق الداخلية والمشتركة.
6- الحد من قوى منظمة التجارة العالمية والتأكد من أن اللوائح عادلة ومناسبة لكل الدول الأعضاء، ووضع توجيهات لكبح جموح الشركات العابرة للقارات والحد من سيطرتها.
7- العمل على مساندة المجتمع المدني، ودفعه ليكون أكثر فاعلية، والعمل على زيادة مشاركة الأفراد المهمشين.
8- العمل على تعزيز التكامل الاقتصادي في وسط سريع التطور، وتجاوز مرحلة التنظير والأمنيات لمرحلة التخطيط الجاد والتطبيق العاجل لكل مشرعات التعاون الاقتصادي بين الدول الإسلامية، والدخول في التمويل المشترك لمشروعات التنمية الكبرى التي قد تفوق قدرات الدولة الواحدة، كاستصلاح الاراضي وزراعتها والصناعات الثقيلة والمعلوماتية والاتصالات.
9- تشجيع انتقال رؤوس الاموال والعمالة المدربة والخبرات والتكنولوجيا بين الدول الإسلامية.
10- محاولة تناسي جراحات الماضي، وتجاوز الخلافات وتغليب المصالح الاقتصادية على الخلافات السياسية وهذا ما أخذت به الدول الغربية فنجحت في إقامة سوق أوربية مشتركة.
11- التريث والتأكد من جميع الخطوات التنفيذية حتى لا تتعرض هذه التجربة للفشل، فإذا قامت وفشلت فمن الصعب أن تقوم مرة أخرى.
12- إزالة كافة المعوقات لإقامة السوق الإسلامية المشتركة والصبر على طول الطريق ، فإن السوق المشتركة لا تقام في يوم وليلة بل تحتاج إلي وقت وصبر.
13- توسيع دائرة الصناعة في الدول الإسلامية والحرص على تطويرها، وإنشاء العديد من الشركات الإسلامية التي تتولى تنفيذ مشروعات إسلامية مشتركة وتنسيق مجالات الإنتاج، وتقديم المشورة في النواحي التقنية والإدارة الصناعية والتنفيذ الصناعي.
14- العمل على زيادة التجارة بين الدول الإسلامية وتنميتها في كل المجالات وخاصة في المحاصيل الاستراتيجية، فإن ذلك يخدم الصالح العام ويقارب الخطى إلي إقامة سوق إسلامية مشتركة.
15- إيجاد آلية لتعويض بعض الدول الإسلامية عن انخفاض حصيلتها من الضرائب الجمركية بسبب تحرير تجارتها البينية.
وأختم حديثي بالتأكيد على أهمية إقامة السوق الإسلامية المشتركة خاصة في ظل إصرار الغرب على العولمة الاقتصادية فإنها تصبح فرض عين، وليس من باب التتمات والتحسينات، إذ إنها تعد خطاً دفاعياً مهماً عن هوية الأمة، وحصناً حصيناً لرعاية مصالحها ومع ذلك تظل السوق الإسلامية المشتركة مرحلة للتكامل الاقتصادي.
والحمد لله في البدء والختام والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للآنام.
المصادر والمراجع
1. إسرائيل والعرب والسوق أوسطية: د. محمود وهبة ،الناشر المكتبة الأكاديمية الطبعة الأولى سنة 1994
2. الإسلام والعولمة : د. احمد عبد الرحمن وآخرون الدار القومية العربية القاهرة سنة 1999
3. التقرير السنوي للبنك الاسلامى للتنمية سنة 1422
4. التقرير السنوي للبنك الاسلامى للتنمية سنة1421
5. التقرير الاقتصادي العربي الموحد سنة 2000
6. الجامع لأحكام القران : محمد بن احمد الانصارى القرطبى ، دار احياء التراث العربى ،بيروت ،طبع بالاوفست على الطبعه الثانية سنة 1376 /1957
7. جريدة الخليج الاقتصادى العددان 8373 و8615
8. جملة من الموضوعات من الشبكة المعلوماتية (الانترنت)
9. السوق الاسلامية المشتركة : د. بابللى مطبعة المدينة المنوره بالرياض الطبعة الثانية سنة 1976
10. السوق الاسلامية المشتركة : د. محمد بن على العقلا مؤسسة شباب الجامعة الاسكندرية سنة 2000(/16)
11. صحيح البخارى : المكتبة الاسلامية باستنبول نتركيا سنة 1979
12. صحيح الجامع الصغير وزيادتة (الفتح الكبير) محمد ناصر الالبانى اشرف على طبعة زهير الشاويش الطبعة الثالثة نالمكتب الاسلامى بيروت سنة 1408 /1988
13. صحيح مسلم : للامام ابى الحسين مسلم بن الحجاج القشيرى يجقيق محمد فؤاد عبد الباقى ،نشر ادارات البحوث العلمية والافتاء بالسعودية سنة 1400/1980
14. العولمة ندراسة تحليلية نقدية : د.عبد الله عثمان دار الوراق سنة 1999
15. فخ العولمة ،الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية : هانس بيتر مارتين وهارالد شومان ،ترجمة عدنان عباس على ،عالم المعرفة ،238، سلسلة كتب ثقافة شهرية يصدرها المجلس الوطنى للثقافة والفنون والاداب الكويت ،جمادى الاخرة 1419،اكتوبر 1998
16. فى مواجهة العولمة :ا.د.زكريا بشير امام مركز قاسم للمعلومات وخدمات المكتبات الخرطوم السودان الطبعة الاولى سنة 1420/2000
17. القران الكريم
18. كتاب السنن :لابى داود سليمان بن اشعث الازدى السجستانى مؤسسة الريان بيروت الطبعة الاولى 1491/1998
19. مجلة اخبار النفط والصناعة عدد 389
20. مجلة الامارات اليوم العدد 123
21. مجلة البعث الاقتصادي العدد90
22. مجلة اتحاد المصارف العددان246و249
23. مجلة الدراسات الاعلامية العدد97
24. مجلة شؤون خليجية العددان 31 و176
25. مجلة الاقتصاد الاسلامى الاعداد38 و48 و208 و224 و230
26. مجلة الاقتصادى العدد188
27. مقاصد الشريعة الاسلامية :الشيخ محمد الطاهر بن عاشور تحقيق ودراسة محمد الطاهر اليساوى دار النفائس الاردن الطبعة الثانية 1421/2001
28. موطا الامام مالك رواية يحيى بن يحيى الليثى اعداد احمد راتب عرموش دار النفائس بيروت الطبعة السابعة سنة 4043/1983
----------
(1) يرى د. على جمعة ان العولمة في حالة وليست مفهومها: (انظر الاسلام والعولمة/132 العولمة حالة مفهوم الدار.
(2) الاقتصادي الإسلامي / 59 العدد تاريخ 11/1430ه – 2/200م
(3) الاية 13 سورة الحجرات.
(4) الاية 22 سورة الزخرف
(5) القرطبي الجامع لأحكام للقران 16/83
(6) اخرجه مالك في الموطأ/ 529 رقم 1426: كتاب الأقضية،
(7) الآية 2 سورة المائدة.
(8) الآية 105 سورة آل عمران .
(10) الآية 105 سورة آل عمران.
(11) الآية 46 سورة الانفال
(12) الاية 4 سورة الصف
(13) الاقتصاد الاسلامي / 40 – العدد تاريخ 11/1420هـ - 2/2000م
(14) الاية 13 سورة الحجرات.
(15) الاية 2 سورة المائدة
(16) الاية 85 سورة هود.
(17) الاية 205 سورة البقرة .
(18) مجلة الاقتصاد الاسلامي العدد 83 صفحة 47.
(19) المزيد من التوسع يراجع المحور .
(20) د. باللي : السوق الإسلامية المشتركة /27، مطبعة المدينة بالرياض، الطبعة الثانية، 9768م.
(21) د. العقلا: السوق الإسلامية المشتركة /108، مؤسسة شباب الجامعة بالإسكندرية/2000م.
(22) التقرير الاقتصادي العربي الموحد، سبتمبر 2000 صفحة : 37.
(23) المرجع السابق/123.
(24) المرجع السابق .
(25) شؤون خليجية /176، المجلد الرابع العدد 31 خريف 2002م
(25) د. باللي السوق الإسلامية المشتركة/144
(26) الاقتاصاد الإسلامي /57 العدد 223 تاريخ 10/1420هـ /1/2000م
(27) ارخجه أبو داؤود في سننه 5/38 – رقم 4279 كتاب الملاحم ، باب تداعي الأمم على الإسلام ، وسكت عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/1359
(23) الاية 11 سورة الأنعام.
(24) الاية 97 سورة النساء.
(25) الاية 15 سورة الملك
(26) المرجع السابق .
(27) التقرير الاقتصادي الخليجي 2002 - 2003 ص13 ، الصادرة عن وحدة الدراسات – دار الخليج للصحافة والطباعة والنشر الطبعة الأولى الشارقة اكتوبر 2002 وينظر الملحق رقم 2 .
(28) نيبيل شبيل : قمة الألفية الشعار للفقراء والمكاسب للأغنياء اقتصاد وأعمال إسلام أونلاين. نت
(29) البعث الاقتصادي /17 العدد 9 تاريخ 2/200 ص 17
(30) شئون خليجية /211، مرجع سابق,.
(31) د. عبد الله عثمان ، د. عبد الرؤوف محمد آدم : العولمة ، دراسة تحليلية نقدية / 67 دار الوراق / 1999م .
(32) اخرجه مالك في الموطأ 293/ ررقم 1426 كتاب الاقضية ، باب القضاء في المرفق صححه في صحيح الجامع الصغير 2/1249.
(33) من الاية 7 سورة الحشر.
(34) فخ العولمة /171، مرجع سابق .
(35) المرجع السابق /169.
(36) د. العقلا : السوق الإسلامية المشتركة/10
(37) الاقتصاد الإسلامي /12 العدد 230 تاريخ 5/1421هـ - 8/200م
(38) د. زكريا بشير إمام : في مواجهة العولمة – 13 مركز قاسم للمعلومات وخدمات المكتبات الخرطوم ، السودان ، الطبعة الأولى سنة 1420 / 2000 نقلا عن A.J.TOYNBEE:A STUDY OF HISTRY
(39) شؤون الشرق الأوسط – 15 العدد 71 / ابريل / 1998م
(40) الاقتصاد الإسلامي 56 / العدد 259 ، شوال 1423هـ / ديسمبر 2002م .
(41) المرجع السابق /57
(42) مجلة الأعمال في دبي، المجلد 2 العدد 13، يناير 2002 صفحة 46.(/17)
(43) مغاوري شلبي: امريكا وأوروبا: تنافس على كعكة العولمة: الإسلام أو لاين ز نت/ اقتصاد وأعمال.
(44) وسام فؤاد: سينسبري مصر: غزو تجاري في ثوب العولمة !! إسلام أون لاين ز نت / اقتصاد وأعمال.
(45) العولمة في ميزان الإسلام: جمعية الإصلاح الإجتماعي: eslah.org/activity/esdarat/awlamaa
(46) عصام المجالي: تأثير العولمة وتحرير التجارة على المنطقة العربية اجتماعياً واقتصاديا، مجلة الإمارات اليوم/ 60 – 62 العدد 123 1-8 يوليو 2000
(47) التقرير الاقتصاددي العربي الموحد/ سبتمبر 2001 صفحة 29 و30
(48) أزمة المياه دولياً وعربيا وخليجياً واستراتيجية المواجهة: إعداد وحدة البحوث . مجلة شؤون خليجية/176، المجلد 4 ، عدد 31 خريف 2002
(49) الاقتصاد الإسلامي /41 العدد 224 بتاريخ 11/1420هـ - 2/2000م.
(50) التقرير السنوي للبنك الإسلامي للتنمية/ 122 ، سنة 1422هـ - 2001/2002م.
(51) ينظر حجم الاستثمارات لبعض المصارف الإسلامية في المللحق رقم (2) والملحق (3).
(52) الاقتصادي 32/ العدد 188 فبراير 2003 ، وقد بلغت عدد مشاريع الاستثمار الأجنبية في الصين 360 ألف مشروع حتى العام 2000 ن وبلغ حجم الاستثمارات الأجنبية 348.3 مليار دولار أمريكي، الاقتصادي /47.
(53) شؤون خليجية/ 176 مرجع سابق.
(54) انظر ما كتبته حنان عبد اللطيف حول (عولمة التجسس الاقتصادي ) إسلام أو لاين ز نت / اقتصاد واعمال.
(55) الاقتصادي/31، مرجع سابق.
(56) شؤون خليجية/206 مرجع سابق.
(57) التقرير السنوي للبنك الإسلامي للتنمية /112 و 113 ن لسنة 1421 هـ - 2000/ 2001
(58) المرجع السابق
(59) جريدة الخليج الاقتصادي /1/ العدد 8615، الجمعة 20/12/2002
(60) د. بابللي: السوق الإسلامية المشتركة/128/129.
(61) التقرير الاقتصادي العربي الموحد /213 بتاريخ سبتمبر 2001م.
(62) د. بابللي: السوق الإسلامية المشتركة/76.
(63) أخبار الن فط والصناعة /36/ العدد 389 ، السنة 34، فبراير 2003م
(54) د. بابللي : السوق الإسلامية المشتركة /114.
(55) لمزيد من التوسع يراجع ملحق 5/1و 5/2 و5/3 و 5/4.
(56) التقرير الاقتصادي العربي الموحد /د.
(57) جريدة الخليج الاقتصادي /9/العدد 8341 بتاريخ 7/1/1423هـ - 21/3/2002م.
(58) التقرير السنوي للبنك الإسلامي للتنمية / 94 لسنة 1422 /2001 – 2002م
(59) المرجع السابق /100
(70) الاقتصادي /34 مرجع سابق.
(71) المرجع السابق /33.
(72) المرجع السابق/3.
(73)
(74) الاية 110 آل عماران.
(75) الآية 112 سورة النحل.
(76) أخرجه البخاري في صحيحه 4/63: كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب.
* أستاذ الفقه وأصوله المساعد في جامعة الشارقة(/18)
العولمة وأثرها على الهوية[1/2]
د. خالد بن عبد الله القاسم 2/5/1427
29/05/2006
- تعريف العولمة
- تعريف الهوية وأهميتها
- الآثار السلبية للعولمة على الهوية
* تعريف العولمة
العولمة كظاهرة بدأ انطلاقها في بداية هذا القرن الهجري في الثمانينات الميلادي وهي مرتبطة بثلاث أحداث كبرى سياسية،وتقنية، واقتصادية.
1- السياسية: حيث انتهاء المواجهة بين الشرق والغرب، وانهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك المعسكر الشرقي.
2- التقنية: وهي الثورة المعلوماتية، حيث شهدت هذه الفترة طفرة تقنية هائلة في مجال الاتصالات الإلكترونية وانتقال المعلومات، حيث ساهمت مساهمة فعالة في حدوث العولمة. .
3- الاقتصادية: وظهور منظمة التجارة العالمية عام 1995م، ومقرها جنيف لتخلف الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية (الجات) وكتتويج لانتشار مذهب التبادل الحر واقتصاد السوق الذي بات أيديولوجية تسيطر على العالم شرقه وغربه، وهو ما وافق عليه قادة العالم عام 1998م، أثناء مشاركتهم في الاحتفال بمرور 50 عاماً على الجات(1)، وظهور الشركات متعددة الجنسيات.
لم توجد العولمة في السابق مع سيطرة أمم عسكرياً واقتصادياً كالحضارة اليونانية والرومانية والإسلامية وبريطانيا ولكن في الوقت الحاضر اجتمع سيطرة القطب الواحد مع التقدم المذهل في الاتصالات والمواصلات ..
تختلف تعاريف العولمة بين المفكرين حيث يركز كثير من الكتاب على الجانب الاقتصادي وينبه على خطورتها من هذا الجانب بزيادة الفقر وتكدس الأموال وخدمة الشركات الكبيرة واضمحلال الصغرى أو إيجابيتها من انفتاح الأسواق وزوال الحواجز عن الأيدي العاملة، ومنهم من يبشر بها باعتبارها تحرر من الدول المغلقة وانطلاق نحو العالمية والتقدم.
ومنهم من يركز على الجانب الثقافي وأضراره، ومنهم من يأخذها بمفهومها الشامل، وهذا الاختلاف بسبب ذكر كل واحد جانباً من الموضوع وهو يذكرنا بمثل الذين دخلوا على الفيل في غرفة مظلمة فكل منهم عرفه بما لمسه منه.
ومع اختلاف تعريفات العولمة إلا أنها تأخذ عدة ظواهر:
- التقدم الهائل في وسائل الاتصال، لا سيما ظهور الإنترنت والقنوات الفضائية.
- هيمنة الغرب لا سيما أمريكا وسقوط المعسكر الشرقي، وتأخذ هذه الهيمنة أبعاداً عسكرية واقتصادية وثقافية وسياسية.
- بروز المؤتمرات المؤسسات الدولية والشركات متعددة الجنسيات.
وهذه التعريفات تتباين في درجة قبولها وخطورتها، حيث نجد أن أكثر المفكرين المسلمين ينبه على خطورتها مع التركيز على الاقتصادي كما فعل د. سعد البازعي حيث يقول: ”العولمة هي الاستعمار بثوب جديد، ثوب تشكله المصالح الاقتصادية ويحمل قيماً تدعم انتشار تلك المصالح وترسخها، إنها الاستعمار بلا هيمنة سياسية مباشرة أو مخالب عسكرية واضحة. إنها بكل بساطة عملية يدفعها الجشع الإنساني للهيمنة على الاقتصادات المحلية والأسواق وربطها بأنظمة أكبر والحصول على أكبر قدر من المستهلكين، وإذا كان البحث عن الأسواق والسعي للتسويق مطلباً إنسانياً قديماً وحيوياً ومشروعاً، فإن ما يحدث هنا يختلف في أنه بحث يمارس منافسة غير متكافئة وربما غير شريفة من ناحية ويؤدي من ناحية أخرى إلى إضعاف كل ما قد يقف في طريقه من قيم وممارسات اقتصادية وثقافية“(2).
بينما يركز آخرين على الجانب الثقافي وربما سموها اختراقاً كما فعل الدكتور محمد عابد الجابري حيث قال: ”أن العولمة تعني: نفي الآخر، وإحلال الاختراق الثقافي .. والهيمنة، وفرض نمط واحد للاستهلاك والسلوك“(3). أو فرض النموذج كما يصفها الدكتور محمد سمير المنير حيث يقول: ”فالغرب يريد فرض نموذجه وثقافته وسلوكياته وقيمه وأنماطه واستهلاكه على الآخرين، وإذا كان الفرنسيون يرون في العولمة صيغة مهذبة للأمركة التي تتجلى في ثلاثة رموز هو سيادة اللغة الإنجليزية كلغة التقدم والاتجاه نحو العالمية، وسيطرة سينما هوليود وثقافتها الضحلة وإمكاناتها الضخمة، ومشروب الكوكاكولا وشطائر البرجر والكنتاكي .. “(4). أو غزو شامل كما اعتبرها أسعد السحمراني حيث قال: إن العولمة/الأمركة غزو ثقافي اجتماعي اقتصادي سياسي يستهدف الدين والقيم والفضائل والهوية، كل ذلك يعملون له باسم العولمة وحقوق الإنسان(5).
والتصريح بأنها أمركة تصريح صحيح باعتبارها المؤثر الأقوى وقد أكد على أن جوهر العولمة هو النمط الأمريكي، الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، حين قال في مناخ الاحتفال بالنصر في حرب الخليج الثانية: إن القرن القادم سيشهد انتشار القيم الأمريكية، وأنماط العيش والسلوك الأمريكي(6).
وربما تكون صهينة لا سيما واستثمار اليهود الذين يقودون الغرب وأمريكا تحديداً للعولمة للسيطرة على العالم من الاستعمار إلى الاستحمار (ركوب الأمم واستغلالها دون القضاء عليها) (7).(/1)
بينما نجد البعض يجعلها مجرد انتماء عالمياً، كما عرفها الدكتور صبري عبدالله حيث قال: ”بأنها ظاهرة تتداخل فيها أمور الاقتصاد والثقافة والاجتماع والسلوك، ويكون الانتماء فيه للعالم كله، عبر الحدود السياسية للدول“(8).
بل إن البعض يجعل العولمة الثقافية مجرد خدعة لإلهاء الشعوب عن الغزو والمصالح الاقتصادية، حيث يقول حسن حنفي ”يتم تصدير صراعات الحضارات للنطق بما كان مسكوتاً عنه سلفاً ولتحويل العالم إلى دوائر حضارية متجاورة، ومتصارعة على مستوى الثقافات لإخفاء الصراع حول المصالح والثروات، وإلهاء الشعوب الهامشية بثقافاتها التقليدية، بينما حضارات المركز تجمع الأسواق، وتتنافس في فائض النتاج عوداً إلى النغمة القديمة، مادية الغرب وروحانية الشرق، الحضارة اليهودية المسيحية، في مواجهة الحضارة الإسلامية البوذية الكنفوشوسية“(9).
ونجد سمير الطرابلسي ينبه إلى خطورة العولمة التي تشكلها الولايات المتحدة بجميع جوانبها المهمة حيث يعرفها بأنها الرؤية الاستراتيجية لقوى الرأسمالية العالمية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، والرامية إلى إعادة تشكيل العالم وفق مصالحها، وأطماعها، سائرة نحو ذلك الهدف على ثلاثة مسارات متوازية: الأول: اقتصادي وغايته ضغط العالم في سوق رأسمالية واحدة، يحكمها نظام اقتصادي واحد، وتوجه القوى الرأسمالية العالمية (الدول الصناعية السبع والشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات الاقتصادية العالمية، صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، ومنظمة التجارة العالمية) وتضبط حركته قوانين السوق وآلياته. والثاني: سياسي ويهدف إلى إعادة بناء هيكليات أقطار العالم السياسية في صيغ تكرس الشرذمة والتشتت الإنسانيين، وتفكك الأوطان والقوميات إلى كيانات هزيلة قائمة على نزعات قبلية عرقية أو دينية طائفية أو لغوية ثقافية، بغية سلب أمم العالم وشعوبها القدرة على مواجهة الزحف المدمر للرأسمالية العالمية والتي لا تستقر إلا بالتشتت الإنساني. وأخيراً المسار الثقافي الذي يهدف إلى تقويض البنى الثقافية والحضارية لأمم العالم، بغية اكتساح العالم بثقافة السوق التي تتوجه إلى الحواس والغرائز، وتشل العقل والإرادة، وتشيع الإحباط والخضوع، وتشهد منطقتنا العربية ترجمة لهذه التوجهات من خلال مشاريع الشرق أوسطية والمتوسطية(10).
وفي تقديري أن هذا أفضل تعريفات العولمة التي وقفت عليها، وبالإمكان القول أن العولمة:- وصف لظواهر متعددة يجمعها جعل العالم متقارباً مثل التقدم المذهل في وسائل الاتصال والمواصلات والفضائيات والإنترنت، والانفتاح المعلوماتي، مع سلطة القطب الواحد (أمريكا بقيادة صهيونية) الذي يسعى لعولمة اقتصادية وعسكرية تحقق مصالحه كما يسعى لعولمة ثقافية بفرض قيمه وثقافته (وهذه النقطة هي ما تعنينا) حول عولمة الثقافة المهدرة للهوية.
العولمة نموذج من مخططات الاستعمار التي نبه عنها وكتب فيها، الأمير شكيب أرسلان رحمه الله، وهذا قبل ظهور مصطلح العولمة، وقد كتب يقول: غوليامو فرير الفيلسوف الكاتب الإيطالي الشهير في علم الاجتماع والتاريخ لا في إيطاليا فحسب بل في أوروبا بأجمعها، وإذا كتب كتاباً أو نشر مقالة تجاوبت لها أصداء الشرق والغرب وتركت دوياً. نشر الفيلسوف المؤرخ المشار إليه كتاباً أخيراً باسم ”وحدة العالم“ لا يزيد على مئات معدودات من الصفحات طاف فيه على جميع الحوادث الجارية على سطح الكرة الأرضية، ودقق في مصادرها وأسبابها، فذهب إلى أنها مع تناقضها وتصادمها بعضها ببعض سائرة في الحقيقة على نظام ثابت مستقيم، ووصل إلى هذه النتيجة وهي:
أن مشروع الفتح والامتداد الذي يتابعه العالم المتمدن ”أي الأوروبي“ منذ أربعة قرون، والذي بدأ بطيئاً وانقلب سريعاً في آخر الأيام، يظهر للمتأمل أنه آيل إلى ”توحيد العالم الإنساني“ ولم يكن هذا ”التوحيد“ ليتم بدون جهد وبدون بلاء، لأن البشر خلقوا أطواراً، وبينهم من التدابر والتقابل ما يؤذن بالأخذ والرد والعكس والطرد، وهناك أسباب عديدة للحب والبغض والقرب والبعد، مع هذا كله تجد العالم سائراً إلى الوحدة، فإذا نظرنا إلى كيفية النظام السائد الآيل إلى هذه الوحدة وجدناها: بالإنجيل، وبالسيف، وبالإفناء، وبتبادل المساعدات، وبتبادل طلقات المدافع ....
ثم يقول: هذه خلاصة نظريات الفيلسوف الإيطالي فريرو، وظاهر أنه يقصد بالإنجيل ”الثقافة الغربية“ التي هي وحدها تمشي في آسيا وأفريقيا وفي يدها الواحدة ”السيف“ وفي الأخرى ”ضماد للجرح“، وهي وحدها تفتنُّ في رق استئصال البشرية، وفي طرق توفير صحة البشر، تجمع في وقت واحد بين الضدين، وهي التي بين يديها الجندي من جهة، والقسيس من جهة أخرى(11).(/2)
وبعد هذه الجولة في ماهية العولمة وحدودها لا سيما الثقافية؛ نسأل: هل العولمة أمر حتمي؟ فالجواب: نعم ولا، نعم باعتبار ما وصلنا إليه، ولا باعتبار إمكانية مقاومتها والحد من آثارها السلبية، وهذا ما سنتناوله في الفصل الثالث.
* تعريف الهوية وأهميتها
ما هي الهوية: الهوية مأخوذة من ”هُوَ .. هُوَ“ بمعنى أنها جوهر الشيء، وحقيقته، لذا نجد أن الجرجاني في كتابه الذائع الصيت ”التعريفات“ يقول عنها: بأنها الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب(12).
فهوية الإنسان .. أو الثقافة .. أو الحضارة، هي جوهرها وحقيقتها، ولما كان في كل شيء من الأشياء –إنساناً أو ثقافة أو حضارة- الثوابت والمتغيرات .. فإن هوية الشيء هي ثوابته، التي تتجدد لا تتغير، تتجلى وتفصح عن ذاتها، دون أن تخلي مكانها لنقيضها، طالما بقيت الذات على قيد الحياة(13).
”إن هوية أية أمة هي صفاتها التي تميزها من باقي الأمم لتعبر عن شخصيتها الحضارية“(14).
والهوية دائماً جماع ثلاثة عناصر: العقيدة التي توفر رؤية للوجود، واللسان الذي يجري التعبير به، والتراث الثقافي الطويل المدى(15).
اللغة هي التي تلي الدين، كعامل مميز لشعب ثقافة ما عن شعب ثقافة أخرى(16).
ثم يأتي التاريخ وعناصر الثقافة المختلفة في صنع الهوية.
وأهم عناصر الهوية الدين حيث في الحروب تذوب الهويات متعددة العناصر، وتصبح الهوية الأكثر معنى بالنسبة للصراع هي السائدة، وغالباً ما تتحدد هذه الهوية دائماً بالدين(17).
وبالنسبة لمن يواجهون احتياجاً لتحديد ”من أنا؟“، ”ولمن أنتمي؟“، يقدم الدين إجابات قوية، وتوفر الجماعات الدينية مجتمعات صغيرة عوضاً عن تلك التي فقدت أثناء عملية التمدين.
والهوية في غاية الأهمية ومنها تنطلق المصالح حيث الناس لا يمكنهم أن يفكروا أو يتصرفوا بعقل في متابعة مصالحهم الخاصة إلا إذا عرفوا أنفسهم، فسياسة المصالح تفترض وجود الهوية.
وإذا كانت هذه هي الهوية وهذه أهميتها لكل أحد فإن الهوية عند المسلمين أكثر أهمية، والإسلام بعقيدته وشريعته وتاريخه وحضارته ولغته هو هوية مشتركة لكل مسلم، كما أن اللغة التي نتكلم بها ليست مجرد أداة تعبير ووسيلة تخاطب، وإنما هي: الفكر والذات والعنوان، بل ولها قداسة المقدس، التي أصبحت لسانه بعد أن نزل بها نبأ السماء العظيم، كما أن العقيدة التي نتدين بها ليست مجرد أيديولوجية وإنما هي: العلم الكلي والشامل والمحيط، ووحي السماء، والميزان المستقيم، والحق المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهي منظومة القيم التي تمثل مرجعيتنا في السلوك، فهي ليست نسبية ولا مرحلية(18).
وقد أدرك الأعداء ذلك حيث أن الصليبية والشيوعية والصهيونية اليوم ترى أن استعادة المسلمين لهويتهم الإسلامية وانتمائهم القرآني هو أكبر الأخطار، ومن ثم فإن كل قوى التغريب والغزو الثقافي ستطلق في هذا الاتجاه، ويقوم الاستشراق والتنصير بدور كبير(19).
كما أن الغرب أحرص ما يكون على هوياتهم، وعلى ذوبان المسلمين المهاجرين في مجتمعاتهم، بل إن هناك مؤسسات ووزارات خاصة للاندماج وتذويب الهويات.
وأوروبا ترفض تركيا بسبب الهوية ليس إلا، وكما قال الرئيس أوزال في سنة 1992م: سجل تركيا بالنسبة لحقوق الإنسان سبب ملفق لعدم قبول طلب انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، السبب الرئيسي هو أننا مسلمون وهم مسيحيون(20).
فالقوى الأوروبية يظهرون صراحة أنهم لا يريدون دولة إسلامية (تركيا) في الاتحاد الأوروبي، ولا يسعدهم أن تكون دولة إسلامية أخرى (البوسنة) أنها حرب هويات كما يقول هنتجنتون حيث نجد تركيا تعيد تأكيد دورها كحامية للبلقان وتدعم البوسنة، في يوغوسلافيا السابقة، وروسيا تساند الصرب الأرثوذوكسية، وألمانيا تساعد كرواتيا الكاثوليكية، والدول الإسلامية تهرع لمساعدة الحكومة البوسنية، والصرب يحاربون الكروات ومسلمي البوسنة ومسلمي ألبانيا(21).
* الآثار السلبية للعولمة على الهوية
انطلاقاً من الفصل الأول من أن العولمة وصف لظواهر متعددة كالتقدم المذهل في وسائل الاتصال والانفتاح المعلوماتي وذهاب الحواجز بين الدول مع سلطة القطب الواحد الذي يسعى للهيمنة الاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية.
وهذا ما حدا بالبعض إلى أن يسميها الأمركة، وللأسف إن أمريكا لا تهدف إلى تطبيق قيمها فحسب، بل إنها تنطلق من مصالحها الذرائعية المجردة من المبادئ والتي تكيل بمكيالين والتي تشكل خطورة عظيمة على القيم والأخلاق والهويات لا سيما الإسلامية.
وهذه أمثلة:
يحرم الشيشان من الإنفصال عن روسيا .. ويجبر أهل تيمور على الانفصال من اندونيسيا بتدخل من استراليا ودعم من الغرب ..
وكذلك تنفصل تماماً دول البلطيق وجورجيا من روسيا بينما الدول الإسلامية فاستقلاها غير كامل.(/3)
ودية الأفغاني الذين قتلوا في عرس 200 دولار وقد اعترفت أمريكا بالخطأ بينما من قتل في لوكربي 10.000.000 دولار أي 50.000 ضعف.
العولمة أن تُهاجَم دولة ذات سيادة حتى دون إذن من الأمم المتحدة لشبهة أسلحة الدمار الشامل، وتُترَك دولة قريبة منها تمتلك أسلحة دمار شامل وتحتل أرض غيرها مخالفة لقرارات الأمم المتحدة ..
أمريكا تمارس دوراً منفرداً حيث تدعم إسرائيل، وترفع الفيتو بعد الآخر لتتمكن من العدوان، وتعتدي على العراق بحجج واهية وحتى دون موافقة مجلس الأمن التي لها أكبر نفوذ فيه، وتأخذ المعتقلين من أفغانستان إلى قوانتنامو دون محاكمة عادلة، وتحارب الجمعيات الإسلامية وترهبها وتجمد أموال من تريد منها دون أدلة ..
المنظمات الفلسطينية المقاومة للاحتلال ارهابية، والمحتل مدافع عن نفسه، والجماعات الإسلامية في أفغانستان المقاومة للاحتلال الأمريكي وحكومته ارهابية، بينما نفس الوضع كان إبان الاحتلال السوفيتي ولكن تلك الجماعات كانت مقاومة مشروعة مدعومة، مما يعني وجود اختلال حاد في موازين العالم تحت إمرة الحضارة الغربية الصليبية الصهيونية.
وهذا صمويل هنتجنتون في صدام الحضارات والذي يدعو للتعصب للحضارة الغربية ومحاربة ما عداها لا سيما الإسلامي، وهو في كتابه مرة بعد مرة يمارس تحريضاً على الإسلام وتخويف الأوروبيين منه، للإنضواء تحت أمريكا والغرب وإشعال فتيل التعصب الديني.
وهذا ما حدا بتوم فريدمان للقول: نحن أمام معارك سياسية وحضارية فظيعة، والولايات المتحدة قوة مجنونة، نحن قوة ثورية خطرة، وأولئك الذين يخشوننا على حق(22).
وفي آخر سنة 2003م كانت استطلاعات الرأي في أوروبا أن أمريكا ثم إسرائيل تمثل أكبر خطورة على السلام العالمي.
فالعولمة هجمة صهيونية شرسة لا تتقيد بالمبادئ، وفي أحسن أحوالها أمركة وتغريب ما لم نقم بدور فعال لتخفيف آثارها والتأثير فيها، وهي حتى لكثير من الغربيين ليست خير للعالم حتى في الجانب الاقتصادي الذي يبشر به البعض، حيث نجد أن هانس بيتر مارتين في كتابه الشهير (فخ العولمة) والذي ركز على العولمة الاقتصادية، يؤكد أن العولمة فخ كبير مليء بالأكاذيب وهي في النهاية تزيد الفقراء، ونجد في الفصل الخامس من الكتاب على سبيل المثال عنوان (أكاذيب ترضي الضمير: أسطورة الميزة على استقطاب الاستثمارات وخرافة العولمة العادلة) (23) كما أن الشعوب حتى الغربية تخرج في مظاهرات شعبية عارمة معارضة لكل مؤتمرات العولمة لما يرونه من إضرار بهم.
ونجد أن الغرب لا يسعى لنشر قيمه الاجتماعية فحسب رغم عدم الاقتناع الواسع بها كقيم، بل إنه يفرضها عبر المؤتمرات الدولية والضغط على الدول التي لا تستجيب، حيث توالت مؤتمرات المنظمات الدولية بهذا الخصوص، مثل مؤتمر نيروبي عام 1985م، مؤتمر القاهرة عام 1994م، ومؤتمر بكين عام 1995م، ومؤتمر اسطنبول عام 1996م، ثم مؤتمر نيويورك عام 1999م، ثم مؤتمر بكين، ثم نيويورك أيضاً عام 2000م، ومحور هذه المؤتمرات يدور حول الأسرة والمرأة والطفل، مركزاً على الحقوق الجنسية، والحق في الإنجاب والإجهاض، والشذوذ، وقضية المساواة بين الرجال والنساء، والمساواة في الميراث .. إلخ، وكل هذا من منظور الثقافة الغربية العلمانية المادية الإباحية(24) التي تبيح الزنى واللواط وتمنع تعدد الزوجات.
وفي الفصل السابع من وثيقة مؤتمر السكان يتحدث عن هذه الإباحية الجنسية، فيقول: إنها حالة الرفاهية البدنية والعقلية والاجتماعية الكاملة، المنطوية على أن يكون الأفراد (لاحظ تعبير الأفراد) من جميع الأعمار أزواجاً وأفراداً (كذا) فتياناً وفتيات، مراهقين ومراهقات، قادرين على التمتع بحياة جنسية مرضية ومأمونة (لاحظ عدم اشتراط الحلال والشرعية) هي كالغذاء، حق للجميع، ينبغي أن تسعى جميع البلدان لتوفيره في أسرع وقت ممكن، في موعد لا تجاوز عام 2015م. أي أنه أكثر من مباح، فالسعي لتحقيقه بجميع البلدان في أسرع وقت ممكن، وقبل سنة 2015م، واجب على جميع البلدان بل ولا تكتفي هذه الوثيقة بذلك، وإنما تتجاوز إباحة هذه الإباحية إلى حيث تدعو للتدريب والترويج والتعزيز لهذا السلوك الجنسي المأمون والمسئول(25).
بل ونجد ممارسات منفردة، حيث نجد أن أمريكا تضغط تارة باسم حقوق الإنسان (والتي أهدرته في أبو غريب وجوانتامو ومذابح أفغانستان وقصف الفلوجة) وتارة باسم الديمقراطية والحرية لتمرير ما تريد على دول العالم التي لا توافقها.
بينما الحرية والديمقراطية الغربية والقانون الدستوري جعل الغرب يسقط نتائج الانتخابات في تركيا والجزائر ونيجيريا (مشهود أبيولا) لأن الناجحين إسلاميين!!
للأسف أن الغرب حريص على فرض قيمه الاجتماعية والثقافية وعولمتها والتي تمثل أسوأ ما عنده بينما لا يسعى إلى عولمة العلم والتقدم حيث يجب الاحتفاظ به.(/4)
إن مما يزيد خطورة العولمة ضعف العالم الإسلامي وهزيمته أمام الغرب وهذا ما يزيد اختراق العولمة الثقافية للهوية، كما قال ابن خلدون ”المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه وسائر أحواله وعوائده“(26).
فضلاً أن العولمة تحمل فكرة استبداد القوي الذي يسخر إرادات الشعوب الضعيفة لصالحه، وتكمن في فكرة سيطرة المهيمن على الاقتصاد العالمي والقوة العسكرية والإدارة السياسية على شعوب العالم الفقيرة، بل والسعي لإفقار ما ليست فقيرة، وتكمن كذلك في فكرة الإذابة التي يقوى عليها من يمتلك أدوات الاتصال والتحكم بها، وبالمعلومات وبإنتاجها، وتدفقها دونما مراعاة لثقافات الشعوب وحاجاتها وخصوصياتها وإمكاناتها(27).
كما أن مما يزيد خطورة العولمة ذراعها الإعلامي الخاضع للسيطرة الصهيونية والتي تمسك بخيوطها، تسير هذه القوة في السيطرة مع القوة الغاشمة العسكرية في فرض العولمة على الآخرين، فوظيفة المنظومة الإعلامية هي أن تتسلى وتتلهى وتعلم وترسخ القيم والمفاهيم والمعتقدات وأنماط السلوك الأمريكي على الآخرين، كما يرى أحد الخبراء الأمريكين، ولتحقيق ذلك صارت ميزانية الإعلام موازية تماماً لميزانية الدفاع في بعض الدول، فإحصاءات عام 1986م تقول إنه بلغ رقم اقتصاد الإعلام في الغرب والاتصالات مبلغ (1175) بليون دولار تقريباً منها (505) بلايين للولايات المتحدة الأمريكية، و (267) بليوناً للجماعة الأوروبية، و (253) بليوناً لليابان، و (150) بليوناً فقط للآخرين في العالم .. هذه الميزانيات الضخمة للإعلام في الشمال جعلته يتحكم بقوة في الإعلام المتدفق، في اتجاه الجنوب الأمر الذي أحدث خللاً في المنظومة الإعلامية، وقد فشلت جميع الجهود والمبادرات التي بذلت في إطار الأمم المتحدة لوضع أسس لقيام نظام إعلامي جديد يحقق التوازن بين الشمال والجنوب(28).
وهناك الدراسات الكثيرة التي تبين معاناة شعوب شرقية (ليست إسلامية) وسائرة في الفلك الغربي كاليابان وكوريا الجنوبية من العولمة ومن الدراسات الميدانية التي تمت لمعرفة تأثير المواد التلفزيونية الأمريكية على الشباب الكوري الجنوبي قام بها Kang & Morgan ومن نتائج هذه الدراسة أن هذه المواد أدت إلى تأثير بالغ على القيم التقليدية الكورية، فأصبحت الفتيات الكوريات أكثر تحرراً من القيم الأسرية والأخلاقية، ويعتقدن أنه لا حرج من الممارسة الجنسية خارج الزواج، وأن ذلك من قبيل الحرية الجنسية، وأصبحن يرتدين الملابس الأمريكية، ويحتقرن العقيدة الكونفوشيوسية(29).
كما أننا نجد دولاً كالفلبين وهي دولة تصنف أنها نصرانية سائرة في الفلك الأمريكي حيث نجد في دراسة أجريت على (255) طالباً فلبينياً وجد أن التعرض للمواد التلفزيونية الأمريكية قد ارتبط إيجابياً بتأكيد هؤلاء الطلاب على قيمتي: ”المنفعة والمادية“، باعتبارهما القيمتين الأكثر أهمية في حياتهم، في حين تدنت لديهم قيم فلبينية أصيلة مثل: الصفح، والتسامح، والتضحية، والحكمة(30).
وإذا كانت بعض دول الغرب نفسه أو من هو قريب منها يشكو من عولمة الثقافة على الهوية، حيث نجد أن فرنسا مع أنها غربية نصرانية، ولكن بسبب اختلاف اللغة فإنها أكثر الدول الغربية تشكو من عولمة الثقافة ومن هيمنة اللغة الإنجليزية، والخوف على الهوية الفرنسية ولذلك لجأ الفرنسيون إلى وضع الثقافة في خانة الاستثناء، لأنهم تنبهوا إلى أن قوة الإنتاج الثقافي الأمريكي تؤدي إلى التغيير التدريجي في معايير السلوك وأنماط الحياة(31).
بل أن هناك دراسة في استراليا وهي بلد غربي نصراني يتحدث الإنجليزية أي مشارك للولايات المتحدة في الهوية تقريباً يشكو من مواد التلفزة الأمريكية على الأطفال، لأنها تؤدي إلى فقدان الانتماء وإلى أزمة أخلاقية وغربة ثقافية(32)، وكذلك كندا حيث عبرت وزيرة الثقافة الكندية شيلا كوبي عن انزعاجها من الهيمنة الثقافية الأمريكية، وتداخلها قائلة: من حق الأطفال في كندا أن يستمتعوا بحكايات جداتهم، ومن غير المعقول والمقبول أن تصبح (60%) من برامج التلفزيون الكندي مستوردة، وأن يكون (70%) من موسيقانا أجنبية، وأن يكون (95%) من أخلاقنا ليست أمريكية(33).(/5)
وهذه الأمثال توفرها مئات الدراسات في أنحاء العالم من خوف المثقفين على هوية شعوبهم من العولمة الأمريكية، ألا يحق لنا كمسلمين ونحن نحمل أعظم عقيدة وخير لسان نزل به القرآن، وأعظم تاريخ بالإضافة إلى القيم الحضارية العالية أن نخشى على تلك الجواهر من أثر العولمة على الهوية إن أخطر ما تحمله العولمة تهديدها لأصل العقيدة الإسلامية، لما تدعو له من وحدة الأديان، وهي دعوة تنقض عقيدة الإسلام من أساسها، وتهدمها من أصلها،لأن دين الإسلام قائم على حقيقة أنه الرسالة الخاتمة من الله تعالى للبشرية، الناسخة لكل الأديان السابقة التي نزلت من السماء، ثم أصابها التحريف والتغيير، ودخل على أتباعها الانحراف العقائدي. ”كما أن العولمة تسعى لإعادة تشكيل المفاهيم الأساسية عن الكون والإنسان والحياة عند المسلمين، والاستعاضة عنها بالمفاهيم التي يروج لها الغرب ثقافياً وفكرياً، فالكون في نظر العولمة الثقافية والفكرية لم يخلق تسخيراً للإنسان، ليكون ميدان امتحان للناس لابتلائهم أيهم أحسن عملاً!!، والإنسان لم يخلق لهدف عبادة الله تعالى !! وهذه المفاهيم الأساسية للعقيدة الإسلامية، ليست في نظر العولمة الفكرية والثقافية سوى خرافة“(34).
إن هذا العالم المادي لا يعرف المقدسات أو المطلقات أو الغائيات، وهدف الإنسان من الكون هو عملية التراكم والتحكم هذه، التي ستؤدي في نهاية الأمر إلى السيطرة على الأرض وهزيمة الطبيعة(35).
إن المنظومة المعرفية الغربية المادية الحديثة بدأت بإعلان موت الإله باسم مركزية الإنسان، وانتهت بإعلان موت الإنسان باسم الطبيعة، والحقيقة المادية، وهذه هي الواحدية المادية: أن تصبح كل المخلوقات خاضعة تماماً لنفس القانون المادي الصارم وأن يسود منطق الأشياء على الأشياء وعلى الإنسان، وهذا هو حجر الزاوية في المشروع المعرفي الغربي، ثمة قانون واحد وثقافة واحدة وإنسانية واحدة تكتسب وحدتها من كونها جزءاً من النظام الطبيعي، ولذا فإن ثمة نموذجاً واحداً للتطور، ويلاحظ أن حركة البناء الفكري المادي تتجه دائماً نحو تصفية الثنائيات التي نجمت عن الثنائية الدينية (الخالق / المخلوق) وعن الثنائية الهيومانية (الإنسان / الطبيعة) (36).
وإذا انتقلنا من العقائد التي هي أصل الهوية إلى اللسان واللغة التي هي أداة التفاهم والتواصل، وهي وعاء الفكر وقالبه الحي، وما نراه اليوم من طغيان الثقافة الغربية، حيث تشكل اللغة نسبة عالية من الإسهام في نقلها، ولا أدل على ذلك من أن (88%) من معطيات الأنترنت باللغة الإنجليزية، و(9%) بالألمانية، و(2%) بالفرنسية، و(1%) يوزع على باقي اللغات(37).
ويبين هنتجنتون في كتابه صدام الحضارات أهمية اللغة في الصراع حيث أن توزع اللغات في العالم عبر التاريخ يعكس توزع القوة العالمية فاللغات الأوسع انتشاراً: الإنجليزية، الماندارين، الأسبانية، الفرنسية، العربية، الروسية. إما أنها أو كانت لغات دول إمبراطورية جعلت شعوباً أخرى تستخدم لغتها. كما أن التحولات في توزع القوة، تؤدي إلى تحولات في استخدام اللغات، حيث قرنان من القوة البريطانية والأمريكية الاستعمارية والتجارية والصناعية والعلمية والمالية، تركا ميراثاً ضخماً في التعليم العالي والتجارة والتقنية في أنحاء العالم(38).
أن إحصاءات منظمة اليونسكو عن الوطن العربي تشير إلى أن شبكات التلفزيون العربية تستورد ما بين ثلث إجمالي البث كما في سوريا ومصر، ونصف هذا الإجمالي كما في تونس والجزائر، أما في لبنان فإن البرامج الأجنبية تزيد على نصف إجمالي المواد المبثة إذ تبلغ (58.2%)(39). ومعلوم أثر هذه البرامج على العقائد والقيم والأخلاق والعادات واللغة.
أما إذا انتقلنا إلى السلوك والأخلاق فإن المبادئ الأخلاقية التي تتهاوى في الغرب يوماً بعد يوم حيث سيادة المصالح والمنفعة واللذة و تعظيم الإنتاج والاستهلاك.
هذه الحضارة ابتداءً من حربيها العالميتين (أي الغربيتين) وانتهاءً بمشاكلها المتنوعة الكثيرة مثل تآكل مؤسسة الأسرة، وانتشار الإيدز والمخدرات، وتراكم أسلحة الدمار الكوني، والأزمة البيئية، وتزايد اغتراب الإنسان الغربي عن ذاته وعن بيئته(40).
كما تسوق العولمة لوهم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة. ”ومن خلال العولمة يروج للشذوذ الجنسي، ويحاول الغرب استصدار قوانين لحماية الشذوذ الجنسي في العالم، ومن أحدث محاولات العولمة: محاولة فرض مصطلح جديد يطلق عليه Gender بدل كلمة Sex“(41).
والتأثير الأخلاقي هو أسرع من غيره، وقد أشارت دراسة في السعودية (لناصر الحميدي) إلى أن التأثير على الجوانب الأخلاقية يأتي في الدرجة الأولى، مثل: الترويج للإباحية، والاختلاط، وما إلى ذلك مما يخالف القيم الإسلامية، وإغراء النساء بتقليد الأزياء الغربية وأدوات الزينة، وكذلك التأثير على الروابط الأسرية(42).
علماً أن العرب هم أكثر الشعوب مشاهدة للتلفاز(43).(/6)
بل حتى في الجانب الاقتصادي فالإنسان الغربي الذي لا يشكل سوى نسبة ضئيلة من سكان الكرة الأرضية (20%) يستهلك ما يزيد على (80%) من مواردها الطبيعية(44).
|1|2|
________________________________________
(1) انظر: مجلة حصاد الفكر، العدد 135، جماد الأول 1424هـ - 2003م، عرض لكتاب بدائل العولمة للدكتور سعيد اللاوندي، عرض عبدالباقي حمدي، ص: 36.
(2) سلسلة كتاب المعرفة (7) نحن والعولمة من يربي الآخر، بحث للأستاذ سعد البازعي بعنوان المثقفون والعولمة والضرورة والضرر، الطبعة الأولى 1420هـ 1999م، ص: 73.
(3) العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م، ص: 29.
(4) العولمة وعالم بلا هوية، د. محمود سمير المنير، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م، ص: 129.
(5) سلسلة كتاب المعرفة (7) نحن والعولمة من يربي الآخر، بحث للأستاذ أسعد السحمراني، أستاذ بكلية الإمام الأوزاعي بلبنان، بعنوان تسويق الاستهلاك وترويج الكاوبوي والهامبرجر، الطبعة الأولى 1420هـ - 1999م، ص: 129.
(6) المصدر السابق، ص: 28، نقلاً عن الأسبوع الأدبي، العدد 602، ص: 19، بتاريخ 14/3/1998م.
(7) انظر مجلة البيان، العدد 136، ص 91، مقالة العولمة حلقة في تطور آليات السيطرة لـ خالد أبو الفتوح.
(8) العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م، ص: 28.
(9) الثقافة العربية بين العولمة والخصوصية، حسن حنفي، بحث ضمن كتاب العولمة والهوية، المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى 1999م، ص: 33.
(10) سلسلة كتاب المعرفة (7) نحن والعولمة من يربي الآخر، الطبعة الأولى، رجب 1420هـ - 1999م، مقال للأستاذ سمير الطرابلسي بعنوان العرب في مواجهة العولمة ص: 51-52 .
(11) المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام، محمد محمود الصواف، دار الاعتصام، الدمام، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1399هـ - 1979م، ص: 198-199.
(12) انظر: التعريفات، الشريف الجرجاني، دار عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ - 1987م، ص: 314.
(13) انظر: مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، فبراير 1999م، ص: 6.
(14) ندوة الهوية العربية عبر حقب التاريخ، للمدة 25-26/6/1997م، المجمع العلمي بغداد، الكلمة الافتتاحية للندوة، ص: 7.
(15) انظر: العولمة وعالم بلا هوية، محمود سمير المنير، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م، ص: 146.
(16) صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 116.
(17) صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 103.
(18) انظر مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، فبراير 1999م، ص: 46.
(19) انظر حتى لا تضيع الهوية الإسلامية والانتماء القرآني، أنور الجندي، دار الاعتصام، سلسلة الرسائل الجامعة، (د. ط. ت)، ص: 7.
(20) صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 433.
(21) انظر: صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 204-205.
(22) العولمة وأثرها على اقتصاد الدول، ص: 28، نقلاً عن جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 2/3/1997م.
(23) فخ العولمة، هانس بيتر مارتن، هارالد شومان، ترجمة: د. عدنان عباس علي، مراجعة وتقديم: رمزي زكي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1998/1419هـ، ص: 253.
(24) العولمة الثقافية وموقف الإسلام منها، د. إسماعيل علي محمد، دار الكلمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1421هـ - 2001م، ص: 27.
(25) انظر وثيقة برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المنعقد بالقاهرة 5-15/9/1994م، الترجمة العربية الرسمية، الفصل الثامن الفقرات 31-35. نقلاً عن مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، ص: 27.
(26) جعل هذا عنوان للفصل الثالث والعشرون من الفصل الثاني، انظر مقدمة ابن خلدون، عبدالرحمن بن خلدون، ص 147، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الخامسة، د. ت.
(27) انظر العولمة والهوية، المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون 4-6/5/1998م، كلمة عميد كلية الآداب أ. د. صالح أبو ضلع، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م، ص: 11.(/7)
(28) انظر العولمة وعالم بلا هوية، محمود سمير المنير، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م، ص: 130-131.
(29) مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ/ مايو 2002م، دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، ص: 11.
(30) العولمة والتحدي الثقافي، د. باسم علي خريسان، دار الفكر العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2001م، ص: 132.
(31) مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ/ مايو 2002م، دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، ص: 12 .
(32) مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ/ مايو 2002م، دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، ص: 11.
(33) نحن والعولمة من يربي الآخر، مقال للأستاذ أنور عشقي، بعنوان: الشياطين تختبئ في التفاصيل، كتاب المعرفة (7) الطبعة الأولى، 1420هـ 1999م، ص: 177.
(34) انظر: العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م، ص: 274-275.
(35) العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 129.
(36) العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 127.
(37) العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى 1422هـ - 2001م، ص: 111.
(38) صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 103.
(39) العرب والعولمة، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، تعقيب نبيل الدجاني، الطبعة الثانية، 1998م، ص: 335.
(40) العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 220.
(41) العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م، ص: 276-279.
(42) مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ/ مايو 2002م، دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، ص: 10.
(43) ضياع الهوية في الفضائيات العربية، د. عائض الردادي، كتيب المجلة العربية، العدد السابع والثلاثون، محرم 1421هـ، ص: 7.
(44) العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 217.
العولمة وأثرها على الهوية[2/2]
د. خالد بن عبد الله القاسم 9/5/1427
05/06/2006
- سبل مقاومة الآثار السلبية
- سبل الاستفادة من العولمة في الحفاظ على الهوية
سبل مقاومة الآثار السلبية
مقاومة الآثار السلبية للعولمة على الهوية يأخذ أبعاداً متنوعة:
أولها: تعزيز الهوية بأقوى عناصرها، وهو العودة إلى الإسلام، وتربية الأمة عليه بعقيدته القائمة على توحيد الله سبحانه، والتي تجعل المسلم في عزة معنوية عالية "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ" [المنافقون: من الآية8]، وبشريعته السمحة وأخلاقه وقيمه الروحية وتقوية الصلة بالله سبحانه وتعالى واليقين بنصره وتمكينه للمؤمنين إذا استجابوا لربهم وقاموا بأسباب النصر، فالهزيمة الحقيقية هي الهزيمة النفسية من الداخل حيث يتشرب المنهزم كل ما يأتيه من المنتصر، أما إذا عززت الهوية ولم تستسلم من الداخل فإنها تستعصي ولا تقبل الذوبان.
ثانيها: العناية باللغة العربية في وسائل الإعلام ومناهج التعليم وتسهيل تدريسها وتحبيبها للطلاب، ومن العناية باللغة العربية تفعيل التعريب والترجمة والتقليص من التعلق باللغات الأخرى إلا في حدود الحاجة اللازمة.
ثالثها: إبراز إيجابيات الإسلام وعالميته وعدالته وحضارته وثقافته وتاريخه للمسلمين قبل غيرهم، ليستلهموا أمجادهم ويعتزوا بهويتهم.
"إن الرد الحقيقي على الطاغوت الحالي الذي يسمى العولمة، هو إبراز النموذج الصحيح الذي يجب أن يكون عليه الإنسان، لكي يصدق الناس –في عالم الواقع- أنه يمكن أن يتقدم الإنسان علمياً وتكنولوجياً واقتصادياً وحربياً وسياسياً وهو محافظ على إنسانيته، محافظ على نظافته، مترفع عن الدنايا، متطهر من الرجس، قائم بالقسط، معتدل الميزان"(1) "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" [الحديد: من الآية25].(/8)
إن العولمة يجب أن تكون – من أجل الإنسان- في العلوم والتقنيات والتعامل والتعاون الذي يحترم فيه البشر بعضهم، أما الديانات والثقافات والتقاليد فهي حضارات الشعوب ملك لهم تشكل تنوعاً غير ممل بشرط ألا يتعدى أحد على الآخر.
وأن نعلم أن هويتنا وذاتيتنا بعمقها الديني والحضاري لا بديل لها من أية حضارة أخرى مهما بدا في زينتها. فثقافتنا عالمية، أبدعت وأضافت وأعطت، ورغم خصوصيتها كانت إنسانية شاملة، لا بتراثها الإسلامي –وهو ذروة عطائها- ولكن بما تجاوزته من عناصر الحضارات الأخرى، وبلغتها العربية وفنونها وآدابها. وكما صنعت الأمة ثقافتها، صنعتها ثقافتها، وحافظت على هويتها عبر أداتها التعبيرية لغة القرآن، فلا تكاد تملك لغة من اللغات ما تملكه اللغة العربية من تراث فكري مكتوب، لا في الكم، ولا في النوع، ولا في النسق اللغوي المتماسك(2).
رابعها: العمل على نهوض الأمة في شتى الميادين دينياً وثقافياً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وتقنياً، ومحاربة أسباب التخلف والفساد، نغير ما بأنفسنا من تخلف وتقاعس، فإن من سنن الله سبحانه وتعالى التغيير "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" [الرعد: من الآية11]، وقد نبه القرآن الكريم على أهمية العمل "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ" [التوبة: من الآية105].
خامسها: مواجهة مساوئ العولمة بالتعليم والتدريب والتثقيف والتحصين ورفع الكفاءة وزيادة الإنتاج ومحاربة الجهل وخفض معدلات الأمية المرتفعة عند المسلمين.
سادسها: تقليص الخلافات بين المسلمين حكومات وشعوب وجماعات بالاعتصام بكتاب الله عز وجل "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا" [آل عمران: من الآية103] ثم التعامل معها إن وجدت بثقافة إيجابية فاعلة ناصحة حتى لا يجد الأعداء ثغرة من خلالها.
سابعها: ضمان الحرية الثقافية وتدعيمها، حيث أن حرية الثقافة، وإن كانت تنبع من العدالة في توزيع الإمكانات والإبداعات الإنسانية على الأفراد، فإنها في الوقت نفسه عامل أساسي في إغناء الحياة الثقافية وزيادة عطائها. ولكن لا يجوز فهم الحرية على أنها فتح للباب أمام كل تعبير، وقبول كل فكر، ولكن الحرية المقصودة هي الحرية المنضبطة بضوابط(3).
ثامنها: أن نتعرف على العولمة الثقافية، والكشف على مواطن القوة والضعف فيها، ودراسة سلبياتها وإيجابياتها برؤية إسلامية متفتحة، غايتها البحث والدراسة العلمية(4)، وإدراك وفهم التناقضات التي تكتنف فكرة العولمة وكشف الزيف الذي تتستر قواها خلفه(5).
ولكن لابد أن يواكب عملية النقد الكلية للحضارة الغربية، عملية أخرى هي عملية التخلص من الإحساس بمركزية الغرب ونزع صفة العالمية والعلمية والمطلقية عن حضارته وتوضيح أن كثيراً من القوانين العلمية التي يدافع عنها دعاة التغريب باعتبارها تصلح لكل زمان ومكان هي في واقع الأمر نتيجة تطور تاريخي وحضاري محدد وثمرة تضافر ظروف فريدة في لحظة فريدة، فإذا كان الغرب قد تحول إلى مطلق، فإنه يجب أن يستعيد نسبيته، وإذا كان يشغل المركز فإنه يجب أن يصبح مرة أخرى عنصراً واحداً ضمن عناصر أخرى تكِّون عالم الإنسان(6).
تاسعها: التنسيق والتعاون بصورة متكاملة في وزارات التربية والتعليم، والتعليم العالي والثقافة والإعلام، و الأوقاف والشئون الإسلامية، والعدل، للمحافظة على الهوية الإسلامية من أي مؤثرات سلبية عليها.
عاشرها: أن تقوم وسائل الإعلام بواجباتها في الحفاظ على الهوية ودعمها، فضلاً عن استيراد البرامج التي تهدم الهوية دون نظر أو تحميص، كما أن على الدول والعلماء وقادة الرأي ورجال الأعمال الضغط على وسائل الإعلام الخاصة كل بما يستطيع لمراعاة هوية الأمة وقيمها.
حادي عشر: أن يقوم التعليم بتعزيز الهوية وكشف العولمة ومضارها، ويتحتم على الإعلام التربوي استخدام كافة الوسائل والأساليب والطرق المتاحة كي ينجح في تأصيل القيم والمهارات والمعارف والمعلومات في مؤسسات المجتمع ومنظماته، وبما أن البث المباشر يهدد هويتنا بتنشئة صغارنا على قيم وعادات تخالف فكر أمتهم وثقافتها فإن التربويين والإعلاميين مطالبين بتحصين الأطفال ضد ثقافة الاستهلاك والتغريب، ونحن نريد من الإعلام التربوي أن يتحدث عن المسائل التربوية المهمة واللصيقة بحياة المجتمع، كما نريد منه تقديم مادة غنية ثرية تحدث أثراً إيجابياً، وتترك صدى قوياً بنفس الصغير والتلميذ والطالب والشاب وتساعد على اكتشاف ما يملك من طاقات ومهارات(7).
ثاني عشر: تنشيط التفاعل والحوار الثقافي العربي مع ثقافات الأمم الأخرى(8). وأن نثري ثقافتنا العربية الإسلامية بما نراه ينفعنا ولا يضرنا من الثقافات الكونية الأخرى، وفي الوقت نفسه نعرف تلك الثقافات العالمية بما لنا من تراث وتقاليد وقيم اجتماعية عريقة(9).(/9)
وفي دراسة علمية عن العولمة في ضوء العقيدة الإسلامي كان من التوصيات(10):
- ضرورة الانفتاح على الآخرين والاستفادة من فرص العولمة والتقدم العلمي والتقني، وتطوير ثقافتنا وتحسين أوضاعنا.
- أن من أهم التحصينات الثقافية لأمتنا قيم الانفتاح والتسامح والعدل والشورى.
- تطوير مشروع الإسلام الحضاري المتكامل.
- إعادة بناء الوحدة الإسلامية على أساس شرع الله تعالى.
- إنشاء السوق الإسلامية المشتركة.
- إعادة بناء وصياغة النظم التعليمية والتعاون في التعليم.
- الاهتمام بالإعلام.
ثالث عشر: تشجيع المؤسسات الدعوية داخل البلاد الإسلامية وخارجها على ممارسة عملها ودعمها بكل طريق مادياً ومعنوياً وتوجيهياً، وعدم السقوط في فخ الأعداء بتصيد أخطا\ها وتشويه سمعتها عند حدوث خطأ ما، وإنما بالنصيحة الإيجابية الفاعلة، وما نراه بفضل الله تعالى من مؤسسات إسلامية ودعوية مساعدة للمسلمين للحفاظ على هويتهم لا سيما خارج الدول الإسلامية، سواء كانت مراكز أو مدارس إسلامية أو وسائل إعلامية، كمواقع الإنترنت أو شركات الإنتاج أو إذاعات القرآن الكريم، أو مكاتب دعوة الجاليات التي تتميز بها المملكة العربية السعودية، وأثمرت آلاف المسلمين الجدد كل عام، أو مدارس تحفيظ القرآن الكريم، إلى غير ذلك من هذه المؤسسات، لتسهم ضد تأثيرات العولمة على الهوية، لذا لا نعجب من أن تكون هذه المؤسسات الخيرية أحد استهدافات العولمة، ومحاولة لرميها بالإرهاب بكل طريق بمحاربة أنشطتها وتشويه سمتعتها وتجفيف مواردها(11).
هذه بعض الأفكار وغيرها كثير في سبيل مواجهة العولمة وهي وإن فرضت علينا واقعاً ليس من اختيارنا، لكنها لا تستطيع منعنا من العمل.
والطريف المضحك المبكي أن يتحدث بعض النفر من مثقفينا عن العولمة، كقضاء وقدر، يجب إسلام الذات الثقافية له، في ذات الوقت الذي يتمردون فيه على القضاء والقدر، إذا كانا من الله، ولقد كتب أحدهم في أحد المؤتمرات التي عقدت عن العولمة يقول: إن العولمة هي ظاهرة التوحد الثقافي والاقتصادي، التي يشهدها العالم اليوم، مع عدم إغفال النواحي السياسية والاجتماعية، وإن الحداثة الغربية عموماً والعولمة المعاصرة خصوصاً، وما أفرزت من ثقافة في طريقها إلى أن تصبح ثقافة عالمية أو كونية شاملة بكل ما في الكلمة من معنى، فلا شيء قادر على الوقوف في طريقها، ولن تستطيع الثقافات التقليدية أن تصنع شيئاً أمام ثقافة العولمة التي لا تصدها الحدود، أحببنا ذلك أو كرهنا، وافقنا أو رفضنا(12).
وأخيراً مادمنا مقاومين فاعلين قائمين بما أمرنا الله به فإننا موقنين ليس بحماية هويتنا فحسب، بل حتى في التأثير على غيرنا بنفس وسائل العولمة، وهذا هو الفصل القادم.
- سبل الاستفادة من العولمة في الحفاظ على الهوية
هل العولمة شر محض فنحصر أمورنا في الوقاية منها ومقاومتها؟ أم أنه يمكن التأثير من خلال العولمة، إن موقف نقد لا يعني حرمان النفس من إمكانيات الاستفادة من الفرص التي يتيحها، وذلك للتأثير الإيجابي أو على الأقل التخويف من مخاطر السقوط في الهرم والرثاثة(13).
وإذا كان البعض يشبه العولمة بالقطار إما أن تركب إذا أردت التقدم والوصول أو البقاء في المكان مع التعرض للمخاطر ويفوتك الركب، والقطار يسير إلى قدر محتوم معلوم كما ذكره فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ وتأثر به كثير من الكتاب فإن هذا المثال غير صحيح لأن العولمة تتجاذبها قوى متعددة يمكن التأثير فيها.
وسنضرب بعض الأمثلة:(/10)
أولاً: إن من مظاهر العولمة وسائل الاتصال من الإنترنت والفضائيات وأن هذه الوسائل من الممكن تسخيرها لخدمة البشرية عبر نشر الحقائق الإسلامية فالأمة العربية والإسلامية تملك أعظم مشروع حضاري .. إنها تملك الوحي الإلهي المعصوم، الذي ينظم العلاقة بين العباد وخالقهم "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذريات:56] ، وبين العباد بعضهم وبعض "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) ، ومع سائر المخلوقات "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ" [البقرة:30]، وهو في النهاية يؤدي إلى السعادة الدنيوية والأخروية للعالم، هذه الرسالة العظيمة يجب أن تحملها البشرية وأن تستثمر كل أدوات العولمة المشروعة لإيصال رسالتنا "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" [آل عمران:110].
وثقافتنا وهويتنا قابلة للنمو والاعتناء أكثر من الإذابة والتبعية، لذا نؤمن بالتفاعل والتبادل الذي يتيح لثقافتنا فرصة النمو والانتشار لا الإذابة والتبعية(14).
بل إن الإسلام بعقائده الفطرية وشريعته العادلة القائمة على المساواة هو أكثر المستفيدين من العولمة إذا تساوت الفرص وخدمه أبناؤه فالإسلام بقيمه العالمية بخلاف العولمة التي هي فرض قيم وحضارة خاصة، بينما الإسلام يتجه نحو العالمية منذ نزوله، ويحث على التعايش والسلم، وعايش فعلاً في تاريخه مختلف الديانات وتسامح معها تسامحاً واضحاً بشهادة المؤرخين المنصفين، كما أنه مؤهل بتعاليمه الأخلاقية أن يشارك في وضع أخلاق جديدة لهذه العولمة المنفلتة لحد الآن، وهو يعترف بالقيم المشتركة بين الحضارات، ولا شك أن الدعوة إلى الفهم المتبادل للقيم الحضارية الشرقية والغربية من سمات الإسلام الرئيسية، فقد دعا إلى الحوار مع ديانات أخرى، منذ نزول القرآن، ونادى بالحوار بين الأديان وأزاح الغبار عما طرأ على بعض الديانات من خرافات وتحريفات، ودعا إلى الأصل المشترك بينها جميعاً، " "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" [آل عمران:64]، فعلى المسلم اليوم أن يحدد رسالته نحو العولمة ويبني موقفه على الفهم الصحيح للإسلام، وأن ميزانه ميزان أخلاقي (التقوى) حيث يتحاور ويتعاون مع البشرية في العالم إذا ألغي ميزان العصبية واللون، والطبقة والثروة، وجعل عمارة الكون والإحسان إلى العالمين من مبادئه ومقاصده، وكذلك المشاركة في توفير الخير للناس، وحفظ الحقوق، ومنع الظلم وإن كان مع عدو أو مخالف في الدين، " "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [المائدة: من الآية8] ، وعد القرآن الكريم اختلاف اللغات والألوان من آياته سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ" [الروم:22] (15).
فإنتاج البرامج التلفزيونية للتعريف بالإسلام وكذلك المواقع في الإنترنت، ونشر الحقائق الإسلامية وبيان دين الإسلام، والرد على الشبهات المثارة، فتلك الوسائل يستفيد منها بالدرجة الأولى أهل الحق، فهي فرصة لكشف فريق الباطل.
وكذلك الاستفادة من السياحة في منطقتنا الإسلامية لاطلاع القادمين على ديننا وثقافتنا وتاريخنا، وكما أن المؤسسات الخيرية والدعوية الإسلامية التي تعاني الآن من هجمة العولمة واتهامها بدعم الإرهاب لها فرصة الاستفادة من وسائل العولمة لنشر الإسلام.
ثانياً: إن أدوات العولمة ربما ساعدت في الحفاظ على الهوية حيث يتاح للمسلم في الغرب الحفاظ على هويته وتقويتها عبر مواقع الإنترنت الإسلامية بل ويتفاعل معها وكذلك الفضائيات، وقد نشاهد جماعة من المهاجرين الأتراك مثلاً في ألمانيا يقتصرون على مشاهدة البرامج التركية وهم مقيمون في ألمانيا، ينقلون هويتهم معهم، ولا تنقطع الصلة بينهم وبين مجتمعهم الأصلي، وكذلك يفعل المهاجرون المسلمون في فرنسا، والأكراد في ألمانيا.(/11)
ثالثاً: العولمة المعاصرة أفرزت تهديداً ثقافياً، وهذا التهديد الثقافي والديني قد يؤدي أيضاً إلى فرار الناس إلى الدين، يلوذون به، ويحتمون بعقائدهم لدرجة التعصب والعنف والقتال، لأنهم يشعرون أنهم مهددون في أعز شيء عندهم، ولشدة خوفهم من الاستئصال والانسلاخ قصراً عن معتقداتهم، لأن الصراع يسهل أن ينشأ عندما يشعر الإنسان أنه مهدد في جانب من ذاتيته(16).
يقول برنارد لويس: "في العالم الإسلامي يوجد ميل متواتر لدى المسلمين في أوقات الأزمة، لأن يبحثوا عن هويتهم الأساسية وانتمائهم في المجتمع الإسلامي"(17).
ويقول هنتجنتون: في عالم اليوم أدى التحسن الذي حدث في مجالات الانتقال والاتصال إلى تفاعلات وعلاقات أكثر تكراراً واتساعاً وتناسقاً وشمولاً بين شعوب من حضارات مختلفة، ونتيجة لذلك أصبحت هوياتهم الحضارية أكثر بروزاً. الفرنسيون والألمان والبلجيك والهولنديون يتزايد تفكيرهم في أنفسهم كأوروبيين، مسلمو الشرق الأوسط يتوحدون ويهرعون لمساعدة البوسنيين والشيشان، الصينيون في آسيا كلها يوحدون مصالحهم مع مصالح البر الرئيسي، الروس يتوحدون مع الصرب والشعوب الأرثوذوكسية الأخرى ويدعمونها، هذه الحدود الأوسع للهوية الحضارية تعني وعياً أعمق بالاختلافات الحضارية والحاجة إلى حماية ما يميز "نحن" عن "هم"(18).
رابعاً: إن من إيجابيات العولمة القضاء على الحداثة بمعناها المعادي لكل ما هو قديم، وذلك هو مأزق الحداثة الفاضح عربياً، وذلك بعد عقود من مساعي الحداثيين إلى علمنة الثقافة والمجتمع، يكتسح الإسلام ساحة الفكر والعمل في غير بلد عربي، وفيما يصر أهل الحداثة على إحداث ثورة في الفكر الديني أو في العقل اللاهوتي، على غرار ثورة لوثر أو فولتير أو كنت، توضع الحداثة غربياً على مشرحة النقد والتفكيك بكل عناوينها ومسلماتها، بعد أن شهدت انفجاراتها المفهومية في أكثر فروع المعرفة والثقافة(19).
المراجع
1- القرآن الكريم.
2- التعريفات، الجرجاني، دار عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ - 1987م.
3- الثقافة العربية بين العولمة والخصوصية، حسن حنفي، بحث ضمن كتاب العولمة والهوية، المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م.
4- ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، د. برهان غليون ود. سمير أمين، دار الفكر المعاصر بيروت، الطبعة الأولى 1420هـ/ 1999م.
5- حتى لا تضيع الهوية الإسلامية والانتماء القرآني، أنور الجندي، دار الاعتصام، سلسلة الرسائل الجامعة.
6- حديث النهايات، فتوحات العولمة ومآزق الهوية، علي حرب، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2000م.
7- نحن والعولمة من يربي الآخر، سلسلة كتاب المعرفة (7)، مجموعة مقالات، مقالة للأستاذ سعد البازعي بعنوان المثقفون والعولمة والضرورة والضرر، الطبعة الأولى 1420هـ/ 1999م.
8- صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية، 1999م.
9- صراع الثقافة العربية الإسلامية مع العولمة، د. محمد الشبيني ، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 2002م.
10- ضياع الهوية في الفضائيات العربية، د. عائض الردادي، كتيب المجلة العربية، العدد السابع والثلاثون، محرم 1421هـ.
11- العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م.
12- العرب والعولمة، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، تعقيب نبيل الدجاني، الطبعة الثانية، 1998م.
13- العولمة الثقافية وموقف الإسلام منها، د. إسماعيل علي محمد، دار الكلمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1421هـ/2001م.
14- العولمة وأثرها على اقتصاد الدول،نقلاً عن جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 2/3/1997م.
15- العولمة، دراسة نقدية في ضوء العقيدة الإسلامية، ماجد بن علي الزميع، رسالة ماجستير قسم الثقافة الإسلامية، كلية التربية، جامعة الملك سعود، 1422هـ، لم تطبع.
16- العولمة والتحدي الثقافي، د. باسم علي خريسان، دار الفكر العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2001م.
17- العولمة وعالم بلا هوية، د. محمود سمير المنير، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م.
18- العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م.
19- العولمة والهوية، المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون 4-6/5/1998م، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م.
20- فخ العولمة، هانس بيتر مارتن، هارالد شومان، ترجمة: د. عدنان عباس علي، مراجعة وتقديم: رمزي زكي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1419هـ - 1998م.
21- القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب، د. محمد بن عبدالله السلومي، كتاب البيان، الرياض، الطبعة الأولى، 1242هـ(/12)
22- ماضي المستقبل صراع الهوية والوطنية في عالم يتعولم، د. رجب بو دبوس، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2001م.
23- مجلة البيان، العدد 136، مقالة: العولمة حلقة في تطور آليات السيطرة، للأستاذ خالد أبو الفتوح.
24- مجلة حصاد الفكر، العدد 135، جماد الأول 1424هـ - 2003م، عرض لكتاب بدائل العولمة للدكتور سعيد اللاوندي، عرض عبدالباقي حمدي.
25- مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236)، ربيع الأول 1423هـ/ مايو 2002م. دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي.
26- مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، فبراير 1999م.
27- المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام، محمد محمود الصواف، دار الاعتصام، الدمام، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1399هـ - 1979م.
28- مسئولية الإعلام في تأكيد الهوية الثقافية، د. ساعد العرابي الحارثي، نشر المجلة العربية، د. ط. ت.
29- المسلمون والعولمة، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 1421هـ، 2000م.
30- مقدمة ابن خلدون، عبدالرحمن بن خلدون، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الخامسة، د. ت.
31- الهوية العربية عبر حقب التاريخ، ندوة علمية للمجمع العلمي ببغداد، 25-26/6/1997م.
The Cultural Globalization and its
Impact on the Islamic Identity
Dr. Khalid Ibn Abdullah al-qassim
Associate Prof. Dept. of Islamic Culture
College of Education, King Saud University
Riyadh, Saudi Arabia.
Abstract: The research tries to answer the following questions:
What is Globalization in general and the cultural Globalization in particular? Is it an inevitable issue? What is identity? What are the impacts of Globalization on it? How to deal with Globalization in a way that protects the islamic identity? Is it possible to make use of Globalization for boosting the identity?
The study is divided into an introduction and five chaptres, as follows:
Chapter one: Definition of Globalization.
Chapter two: Definition of Identity.
Chapter three: The Negative Impacts of Globalization on the Muslim Identity.
Chapter four: The Most Important Meansof Resisting the Negative Influences of Globalization on the Identity.
Chapter five: How to Make Use of Globalization to Protect the Identity.
|1|2|
________________________________________
(1) المسلمون والعولمة، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 1421هـ، 2000م، ص: 49.
(2) العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م، ص: 318.
(3) انظر: العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى 1422هـ - 2001م، ص: 263.
(4) صراع الثقافة العربية الإسلامية مع العولمة، د. محمد الشبيني ، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 2002م، ص: 251.
(5) العولمة والهوية المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون، 4-6/5/1998م، بحث للدكتور حسين علوان حسين بعنوان العولمة والثقافة العربية، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م، ص: 125.
(6) العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 253-254.
(7) مسئولية الإعلام في تأكيد الهوية الثقافية، د. ساعد العرابي الحارثي، المجلة العربية، د. ط. ت ص: 30.
(8) العولمة والهوية المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون، 4-6/5/1998م، بحث للدكتور حسين علوان حسين بعنوان العولمة والثقافة العربية، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م، ص: 126.
(9) صراع الثقافة العربية الإسلامية مع العولمة، د. محمد الشبيني ، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 2002م، ص: 251.
(10) العولمة، دراسة نقدية في ضوء العقيدة الإسلامية، ماجد بن علي الزميع، رسالة ماجستير، قسم الثقافة الإسلامية، كلية التربية، جامعة الملك سعود، 1422هـ لم تطبع، ص 444 - 458.
(11) انظر: كتاب القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب على المؤسسات الإسلامية، د. محمد بن عبدالله السلومي، كتاب البيان، الرياض، الطبعة الأولى، 1424هـ.
(12) القائل: تركي الحمد، انظر: مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، ص: 38، نقلاً عن تركي الحمد هوية لا هوية، نحن والعولمة، بحث في مؤتمر القاهرة إبريل سنة 1998م عن العولمة وقضايا الهوية الثقافية، انظر: صحيفة المدينة السعودية، ملحق الأربعاء في 15 إبريل سنة 1998.(/13)
(13) انظر: ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، د. برهان غليون ود. سمير أمين، دار الفكر المعاصر بيروت، دار الفكر المعاصر دمشق، الطبعة الأولى 1420هـ 1999م، ص: 187.
(14) انظر: العولمة والهوية، المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون 4-6/5/1998م، كلمة عميد كلية الآداب أ. د. صالح أبو ضلع، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م، ص: 11.
(15) انظر: مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ/ مايو 2002م، دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، ص: 15.
(16) العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ مايو 2002م، ص: 10.
(17) صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 161.
(18) صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم/ د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 210.
(19) حديث النهايات، فتوحات العولمة ومآزق الهوية، علي حرب، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2000م، ص: 178.(/14)
العولمة والإسلام
إعداد: سهى عبيد* 28/2/1424
01/05/2003
المقدمة
في هذه الورقة البحثية سيكون حديثنا عن الإسلام والعولمة، وذلك لعدة اعتبارات أهمها: (أن عالمنا شهد مجموعة من التحولات المفزعة دولياً والتي أتخذت مظاهر متعددة:(1)
*
"انهيارية" وذلك من حيث انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية.
*
"استقطابية أحادية" من حيث استقطاب الاتحاد السوفيتي إلى الحشد الدولي في الحملة الدولية على منطقة الخليج العربي، وكسر عزلة النهوض الذاتي للصين.
*
"ابتلاعية" أي محاولة تنميط العالم اقتصادياً وسياسياً وإعلامياَ وثقافياً عبر إبتلاع الشركات المتعددة الجنسيات للمسافات الحضارية التاريخية والجغرافية للشعوب والدول القومية.
إذاً عالماً اليوم له سمات ثلاثة أساسية، انهيار الكتلة الشرقية، وأحادية القطبية، والهيمنة الرأسمالية على كافة مظاهر الحياة، وضمن هذه الظروف يكمن سؤال هام:
أين يقع الإسلام في ظل عالمنا اليوم؟!
ذلك الدين صاحب الرسالة الخالدة العالمية ما هي طبيعة علاقته بالعولمة؟ هل هي علاقة تصارعية؟ أم اندماجية؟
انطلاقاً من الفرضية السابقة ستكون خطة البحث كما يلي:
الباب الأول: موقع الإسلام في النظام العالمي الجديد.
الفصل الأول: ماهية العولمة والنظام العالمي الجديد.
الفصل الثاني: علاقة الإسلام بالعولمة.
الباب الثاني: تقييم عام.
الفصل الأول: مخاطر العولمة على الإسلام.
الفصل الثاني: الخيارات المطروحة أمام مسألة الإسلام والعولمة.
الباب الأول: موقع الإسلام في النظام العالمي الجديد:
الفصل الأول: ماهية العولمة والنظام العالمي الجديد
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية وتحديداً خلال حرب الخليج الثانية عام 1991 تحدث الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش "الأب" عن نظام عالمي جديد، هذا النظام في الحقيقة يقوم على هيمنة قطب واحد يحاول فرض سلطته على كافة الصعد الثقافية والسياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية. وللوقوف على حقيقة الموضوع لابد لنا في البداية أن نتعرف على مصطلح النظام العالمي الجديد أو ما عُبر عنه بالعولمة
في الحقيقة هناك العديد من المفاهيم لهذا المصطلح حتى أنك تجد في حال بحثك عن هذا الموضوع أنك في شبكة هائلة من المفاهيم على أن الكثير من المفكرون اعتبروا العولمة تراكماً تاريخياً وأمراً لم يكن مستحدثاً فهي صيغة طُرحت قديماً بعدة أشكال وطرق فيقول أحمد سلامة (2)(لقد بشر شوبنهاور ونيتشة بعولمة تقوم على أساس نقاء العرق واختطف تلك الفكرة النظرية هتلر الذي كان يسعى للعولمة بطريقته العرقية الخاصة ثم جاء ستالين بطريقة جديدة للعولمة عبر العولمة اللا إلهية، ثم تأتي العولمة اليوم بكونها: فكرة تجمع بين القوة والقدرة والرغبة والمناخ الملائم ليجعل اتباعها من أنفسهم نموذجاً يحتذى إما بالفرض القسري وإما بالتبشير المرغوب فيه فيصير العالم قرية كونية".
في حين يرى الدكتور سيار الجميل (3)"أن العولمة نظام عالمي جديد له أدواته ووسائله وعناصره وجاءت منجزاتها حصيلة تاريخية لعصر تنوعت فيه تلك التطورات التي ازدحم بها التاريخ الحديث للإنسان بدءً باستكشافه للعالم الجديد عند نهاية القرن الخامس عشر وصولاً لاستكشافه العولمة الجديدة عند نهايات القرن العشرين مروراً بأنظمة وظواهر وأنساق متنوعة كالإصلاحات الدينية والذهنية والسياسية والثورات الصناعية والرأسمالية والاشتراكية والمرور بأزمات وكوارث وصراعات وحروب أشعلتها الدول، هكذا تأتي فلسفة العولمة لتجسد حصيلة ما حفل به التاريخ الحديث للبشرية".
أما العولمة من وجهة نظر د. برهان غليون (4)فإنها تتجسد في نشوء شبكات اتصال عالمية تربط جميع الاقتصاديات والبلدان والمجتمعات ليخضعها لحركة واحدة، ويتمثل باندماج منظومات رئيسية:
1.المنظمة المالية عبر سوق واحدة رأس المال وبورصة عالمية واحدة.
2. المنظومة الإعلامية والاتصالية.
3. المنظومة المعلوماتية التي تجسدها بشكل واضح شبكة المعلومات فالمقصود هو الدخول في مرحلة من الاندماج العالمي العميق.
إذن هناك العديد من المفاهيم لظاهرة العولمة والتي لا يمكن أن نقترب من تعريف شامل لها إلا إذ وضعنا في الاعتبار ثلاث عمليات تكشف عن جوهر هذه الظاهرة، كما يرى د.ياسين(5):
1.انتشار المعلومات.
2.تذويب الحدود بين الدول.
3.زيادة معدل التشابه بين الجماعات والمؤسسات.
فالعولمة ظاهرة تعكس معالم النظام العالمي الحديث وهذه المعالم على النحو التالي:(6)
1.تخلي الاتحاد السوفيتي كطرف مؤثر في العالم وعن أصدقائه في حلف وارسو، الأمر الذي شجع على حدوث التغييرات السريعة في أوروبا الشرقية وبالتالي انهيار الكتلة الشرقية.
2.أدت التغييرات التي حدثت في أوروبا الشرقية إلى اختلال في ميزان القوى لصالح الولايات المتحدة حيث أصبحت مرتكز للنظام العالمي الجديد الذي يخضع لنظام القطب الواحد بزعامة الولايات المتحدة.(/1)
3.نظام يقسم العالم إلى طرفين لا إلى ثلاثة: أغنياء وفقراء، الشمال للأغنياء والجنوب للفقراء.
4.جعل المنظمات الدولية والإقليمية هيئات موظفة لخدمة مركز الزعامة في النظام الدولي وهي الولايات المتحدة ومبررة لسياساتها وأهدافها.
5.بروز مفاهيم الديموقراطية، حقوق الإنسان، التعددية السياسية.
6.الاقتصاديات العملاقة ذات التكنولوجيا العالية، جعلت الاقتصاديات القطرية عاجزة عن التأثير في العلاقات الاقتصادية الدولية خاصة في ظل وجود الشركات متعددة الجنسيات.
وبما أننا تعرفنا في هذا الباب إلى مفهوم العولمة ومعالم النظام العالمي الجديد لابد لنا أن نوضح مفهوم الإسلام وذلك حتى تكتمل المصطلحات الأساسية التي يرتكز عليها البحث.
فإذا نظرنا للمفهوم التقليدي الشائع، فالإسلام هو الدين الذي أُنزل على سيدنا محمد عليه السلام، وهو خاتم الرسالات السماوية.
لكم ما يميّز الإسلام حقاً هو عالمية رسالته وكونيتها . والبحث قائم في الأساس على الفرق بين العالمية والعولمة، فالعالمية هي طموح الارتقاء بالخصوصي إلى مستوى عالمي وهذا ما كرّسه القرآن الكريم:((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين))، ((وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيرا))، لكن مع ملاحظة هامة ((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي))، ((أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)).
بالإضافة لما سبق يجب أن نلاحظ أن عالمية الإسلام لم تجعله يرفض التباين بين الأمم فالإسلام يؤمن بأن لكل أمة خصوصيتها ((لكلٍ جعلنا شرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة))(7).
فمنذ فجر الإسلام كان الرسول الكريم محاطاً ببلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي. وكل هؤلاء ليسوا بعرب.
في حين أن إطار العولمة الحديث يقوم على إقصاء الطرف المقابل وعدم قبول ثقافته ومن هنا العالمية على عكس العولمة، تقبل بالتبادل بين الثقافات فهي تقبل بالآخر ولا تعمل على إقصائه، فخصائص عالمية الإسلام تنطلق مما يلي:
1.الخلود، وخلود الإسلام هو استمرار بقائه وامتداد رسالته، ودعوته ما دامت البشرية تواصل حياتها على سطح هذه الأرض. وسر الخلود يكمن في:
أ. السعة والشمول، والتي تظهر في العقيدة والقوانين والنظم والأفكار والمفاهيم الإيمانية والحضارية.
ب. الاجتهاد، أي استنباط الأحكام والقوانين والمفاهيم والأفكار من القرآن والسنة، فكل حادثة وأمر جديد محدث في المجتمع الإسلامي ولم يكن له حكم مجدي، فإن الشريعة أذنت باستنباط ذلك الحكم من القواعد والأسس والمفاهيم الكلية العامة.
2.اليسر والسهولة، فالتكليف بمستوى القدرة، فليس في الشريعة الإسلامية تكليفاً فوق طاقة الإنسان فكل العبادات في الصوم والصلاة والحج والزكاة والجهاد في سبيل الله كلها وضعت بمستوى طاقة الإنسان واستطاعته قال تعالى ((لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)).
3.الإنسانية فالإسلام ينظر للناس جميعاً بأنهم من أصل واحد متساوون في الإنسانية ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى وبذلك قال تعالى ((يا أيها الناس إن خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)) وفي الحديث الصحيح عن الرسول الكريم "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى".
4. العقلانية فرسالة الإسلام تقوم على أساس قناعة العقل والتوافق مع منطقه وإقناعه بالحجة والدليل والبرهان وبذلك قال تعالى((وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمين)).
5.الاعتدال بين الدنيا والآخرة تأمر الشريعة بالاعتدال في كل شيء حتى في العبادة وقال تعالى ((وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا واحسن كما احسن الله إليك)).
ومن كل ما سبق يمكننا القول أن العولمة ظاهرة متعددة الأبعاد والزوايا "سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية"و أنها ظاهرة ولدت في نهاية القرن العشرين وهذا يعني أنها مرت في مراحل متعددة حتى أصبحت ظاهرة قابلة للوجود وبالتالي كان وجودها في نهاية القرن الماضي وفي نهاية هذا الباب من الفصل الأول يجب أن أنوه بأن هناك عولمة وعالمية وكلاهما مفهومان مختلفان كما يقول د.محمد عابد الجابري" هناك عولمة Globalization وهي تعني إرادة الهيمنة أي قمع وإقصاء للخصوص والذاتي وهناك عالمية
Universalism وهي طموح للارتقاء والارتفاع بالخصوصي إلى مستوى عالمي.فالعولمة احتواء للعالم أما العالمية تفتح على كل ما هو كوني وعالمي(8)وبغض النظر عن وجهة نظري الشخصية إزاء العولمة فإنني اتفق مع داني روديك أستاذ الاقتصاد السياسي في هارفارد حيث يقول (يجب أن لا نفزع من العولمة كما يجب أن لا نأخذها بخفة، فالعولمة تفتح أفاقاً واسعة وتتيح فرصاً أولئك الذين لديهم المهارة والقدرة والمؤهلات التي تمكنهم من الحركة والازدهار في الأسواق العالمية).
ومن هذا المنطلق ومن منطلقات أخرى أهمها أن لكل شيء جانبان إحداهما سلبي والآخر إيجابي اخترت أن أتحدث عن الإسلام والعولمة.(/2)
الفصل الثاني: علاقة الإسلام بالعولمة
في الفصل السابق تحدثت عن مفهوم العولمة وعن طبيعة العالم الحالي وما يسمى بالنظام العالمي الجديد، وفي هذا الفصل سأتحدث عن موقع الإسلام في ظل هذا النظام وفي ظل ما أطلق عليه بالعولمة.
يقترن الإسلام بالإرهاب والأصولية فالحركات الإسلامية أُلصقت بها هذه تهمة الإرهاب والعنف والتطرف والسؤال هو لماذا؟
إن النظر لواقع الإسلام اليوم يتنازعه رأيان(9):
1. يقول غير المسلمين أن هناك مشكلة ما تتسبب في إضطراب علاقات الإسلام مع الأديان الأخرى وأن هذه المشكلة تعبر عن نفسها في سلسلة من الصراعات.
2. هو أن المسلمين يقولون أن الإسلام مستهدف وأن ثمة حرباً معلنة ضده وأن الإسلام في دفاعه عن عقيدته وفي صموده أمام سلسلة من الهجمات التي يتعرض لها يجد نفسه في حالة صراع دائم.
فالمسلمين يرون أن المشكلة هي في نظرة الآخرين للإسلام، وغير المسلمين يعتقدون بوجود المشكلة في الإسلام.
وعلى أي حال بدأ الحديث عن الإسلام بإعتباره ضمن دائرة صراع الحضارات وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فبعدما انتهى العدو الأول للغرب الرأسمالي ما لبث أن وجد عدو جديداً ألا وهو الإسلام وهذا يظهر في العديد من الكتابات بل وحتى في الخطابات الرسمية وغير الرسمية ويقول هنري كيسنجر في خطاب ألقاه أمام المؤتمر السنوي لغرفة التجارة الدولية (بأن الجبهة الجديدة التي على الغرب مواجهتاها هي العالم العربي الإسلامي باعتبار هذا العالم هو العدو الجديد للغرب) وهذا ما أكده الأمين العام للناتو "حلف شمال الأطلسي" ويلي كلايس willy Claes الذي وصف الأصولية الإسلامية في خطاب رسمي له بأنها أعظم خطر راهن يواجه الحلف(10).
من خلال التصريحين السابقين يتضح لنا أن الإسلام مستهدف خاصة أن بعض الجماعات والحركات التي تدعي الإسلام تتيح للغرب استهداف الإسلام. وعلى أي حال يجب أن نلاحظ أن العالم الإسلامي يعاني العديد من المشاكل والتي لابد أن تتفاقم في ظل العولمة إذا لم يوجد حل لهذه المشاكل.
حتى أننا نجد أن الأدبيات الغربية تجعل من الإسلام عدواً لها خاصة في ظل رأي هنتغتون في "صراع الحضارات" حيث يقول (بأن النظام العالمي السابق كان يقوم على صراع بين ثلاث قوى رئيسية: الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد السوفيتي والعالم الثالث، أما النظام العالمي الجديد نظام ما بعد الحرب الباردة فيقوم على الصراع بين ثماني حضارات(11)
"الغربية واليابانية والكنوفشسية والهندوسية والأمريكية اللاتينية والأرثذوكسية والحضارة الإسلامية والحضارة الإفريقية". وهو يرى أن حروب المستقبل سوف تجد جبهات لها في نقاط التماس بين الحضارات وخاصة مع الإسلام وكل واحدة من هذه الحضارات على حدى وهذه النقاط كما يراها: (المواجهة بين الإسلام والغرب من خلال الصراع بين البوسنة وكل من كرواتيا وسلوفينيا. المواجهة بين الإسلام والأرثذوكسية من خلال الصراع بين البوسنة وصربيا وتركيا واليونان وبلغاريا.المواجهة بين الإسلام والهندوسية من خلال الصراع الهندي الباكستاني). بمعنى أن الغرب وضع الإسلام في موضع العدو والمواجهة وفي الحقيقة ازداد عجبي بعدما قرأت كتاب (أحجار على رقعة الشطرنج) حيث يقول مؤلفه أن الاتحاد السوفيتي سينهار وبعدها ستبحث الرأسمالية عن عدو لها وسيكون هو الإسلام، والذي سيعمل على محاربته هو الصهيونية، عبر دولتها إسرائيل.
والغريب أن هذا الكتاب تم تأليفه عام 1950، وهذا يعني أنه جاء بعد قيام إسرائيل بعامين فقط، وأنه جاء ليتحدث عن سقوط الاتحاد السوفيتي قبل حوالي أربعين عاماً، ولنتذكر أن الاتحاد السوفيتي عام 1950 كان قلعة عسكرية وعلمية دخل في حرب النجوم مع الولايات المتحدة الأمريكية وتفوق عليها في مرحلة من المراحل، فكيف استطاع الكاتب في ظل هذه المعطيات أن يتوقع كل ذلك؟!.
اعتقد فعلاً أن الإسلام حقاً في مواجهة الغرب، والعولمة هي الصيغة المطروحة حالياً.
وعلى أي حال، إن الإسلام كدين جاء يحمل طابعاً عالمياً على خلاف اليهودية التي جاءت مقتصرة على بني إسرائيل، جاء الإسلام كرسالة لبني البشر أجمعين قال تعالى ((وما أرسلناك إلا نذيراً وبشيراً للعالمين)).
فالإسلام في كثير من تعاليمه وفي الكثير من تطبيقاته وفي الكثير من ممارسات الرسول الكريم دلالة على الطابع العالمي: ((لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى)).
هذا يعني أن الإسلام له طابع عالمي وليس مُعَولماً بمعنى أنه Universalim وليس Globalization حيث أن الإسلام وجهت له ضربات تتخذ شكلاً عالمياً معولماً:
1.وذلك بضرب قوات التحالف الدولي للعراق على إثر ما درج على تسميته الآن بالحالة العراقية الكويتية.
2.محاولة طبع المنطقة العربية "الإسلامية" بالطابع الشرق أوسطي.(/3)
فخطوات عولمة العالم العربي بدت متسارعة جداً وذات هدف لا يستهان به هو عولمة المنطقة العربية لابعادها وسلخها عن أي محاولة لأسلمتها. فبعد أن خرج العرب منهكين من أثار التحالف الدولي المعولم على العراق طُلب منهم للسلام في مدريد.
ومما سبق نخلص إلى أن الإسلام شيء والعولمة شيء آخر وفي هذا رد على من يدعي ترابطهما، لكن هذا لا ينفي أبداً كون الإسلام دين عالمياً لكنه يبقى في الحقيقة موقع وهدف للمواجهة في ظل النظام العالمي الجديد.
فبعد نهاية الحرب الباردة أصبح هناك العديد من التنظيرات حول شكل العالم الجديد وبزت جملة من السيناريوهات والتوقعات تطرح أشكالاً متعددة مثل، فكرة صعود قطب آخر غير الولايات المتحدة، وتحول النظام إلى ثنائي القطبية، وأحياناً يتطرق الحديث إلى استحكام قطب واحد تمثله الولايات المتحدة، بينما هناك تصور ثالث يشير إلى التعددية القطبية بحيث تشارك فيه أطراف أخرى مثل أوروبا الموحدة والهند والصين. (ومن العجيب أن هذه الاحتمالات التي تشير إلى قوى صاعدة لا تتضمن وجود أي دولة إسلامية كدولة رائدة فإذا كان هناك وفق التصور الذي يؤكد تحكم قطب واحد مهيمن على العالم، فهل يصبح كل العالم بذلك "دار حرب"؟).
ومن جهة أخرى، للعولمة العديد من التجليات السياسية والتي تتركز في رفع شعارات الديموقراطية والتعددية الفكرية واحترام حقوق الإنسان.
هنا الإسلام لا يتعارض مع حقوق الإنسان، وفي الكثير من نصوصه ما يؤكد ذلك ((يا أيها الناس إنا جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)). إلا أن الإسلام لا يمكن أن ينسجم مع مصطلح الديموقراطية بالمفهوم الغربي، وهذا لا يعني أن الإسلام ديكتاتوري لكن الإسلام له خصوصيته فلا يمكن تأطيره وقولبته بالقلب وإطار معين وإلا كان هذا تقزيماً له.
فالإسلام شيء والديموقراطية شيء آخر لأن الأخيرة تقوم على العلمانية والحرية التي لا سقف لها.
أما الإسلام يؤمن بالحرية المنسجمة مع حدود الشرع، ولا علمانية في الإسلام فالسلطة الدينية هي الأساس وحتى أن السلطة السياسية تُعد مكسباً من مكاسب السلطة الدينية، لذلك الإسلام شيء والعولمة شيء آخر. وإن كان الإسلام في بعض جوانبه يلتقي مع العولمة مثلاً في حقوق الإنسان، إلا أن هذا الالتقاء لا يعبر عنه بالعولمة وإنما بالعالمية.
الباب الثاني: تقييم عام
الفصل الأول: مخاطر العولمة على الإسلام
لقد ذكرنا سابقاً أن الإسلام يحمل صورة تم تشويهها اليوم في العالم الغربي حيث أن صورة الإسلام في الغرب تمثل صورة الإرهاب والتطرف والكثير من العنف إزاء هذه الصورة المشوهه يعاني الإسلام والشعوب الإسلامية العديد من المشكلات والتي بدورها تجعل موقف هذه الشعوب ضعيفاً في مواجهة العولمة خاصة إذا ما علمنا أن أبرز مواقع الجوع الكبرى تقع في العالم الإسلامي، فمن أصل 200 مليون شخص جائع في العالم هناك 173 مليون منهم من المسلمين موزعين على النحو التالي:(12)
70مليون جائع في الهند.
12 مليون جائع في الصين.
50 مليون في آسيا الجنوبية.
26 مليون جائع في أفريقيا السوداء.
15مليون جائع في الشرق الأوسط و الشمال الإفريقي.
ومن جهة أخرى العالم الإسلامي يعاني من ضعف الإنتاج(13)فمثلاً مدينة واحدة في ألمانيا دوسلدروف يقدر ناتجها المحلي 1.8 مليار دولار ويقدر عدد سكانها ب 2 مليون نسمة، وهذا الناتج المحلي يعادل تماماً الناتج القومي لأكبر دولة إسلامية سكانياً وهي أندونيسيا التي تضم أكثر من 200 مليون نسمة. هذا يعني أن العالم الإسلامي يعاني من العديد من المشاكل ولنتذكر أن خلاصة الفصل السابق من البحث أن الإسلام والعولمة كلاهما في مواجهة والسؤال هنا:
هل يستطيع الإسلام والدولة الإسلامية مواجهة العولمة؟ وكيف ستتعامل هذه الدول مع الإسلام ومع العولمة في وقت واحد؟
وعلى أي حال يتضح لنا في هذا البحث أن الإسلام كحضارة جاء في مواجهة الحضارة الغربية والتي تتمثل بالعولمة نجد أن الإسلام يتعرض للكثير من التحديات والمصاعب فالعولمة كظاهرة حضارية تقودها الولايات المتحدة الأمريكية(14)تواجه الإسلام كحضارة وكأفراد إذ أن هناك محاولات الغزو الثقافي عبر استغلال الجامعات والمعاهد فمثلاً الجامعة الأمريكية في القاهرة طرحت الاستبيان التالي على أحد الطلبة الراغبين في الدراسة للحصول على درجة الماجستير:
-ما رأيك في إذاعة أذان الصلاة في الإذاعة والتلفزيون؟
-هل توافق على إذاعة بعض الأحاديث النبوية عقب الآذان؟
-ماذا نسمي المقاتلين في الشيشان؟ هل هم مناضلون أم إرهابيون؟
في الحقيقة إني أرى أن مثل هذه الأسئلة تحاول أن تضلل الفرد المسلم وتجعله يقع في دائرة الشك ويبتعد عن الإسلام ديناً وحضارة ليقترب أكثر نحو العولمة والحضارة الغربية.(/4)
وتبرز خطورة الغزو الثقافي للحضارة الإسلامية في أن أبناء هذه الحضارة لا يقرؤون إذا ما قارنهم بأبناء الحضارة الغربية، كما أن أبناء الحضارة الإسلامية يتلقون الأبناء والمعارف ولا يصدرونها للعالم بعكس أبناء الحضارة الإسلامية في العصور السابقة الذين تتلمذ الغرب على أيديهم أما اليوم فنحن ننتظر أن يأتي الخبر وتأتي المعلومة إلينا ولا نقوم بصنعها.
وبهذا يقول الدكتور السيد يسين "إن الخصوصية الثقافية للمسلمين والعرب مهددة على اعتبارات المشكلة التي يثيرها الباحثين في العالم الثالث والذي يعد العالم الإسلامي من ضمنه هي أن تدفق الرسائل الإعلامية والثقافية يأتي من المراكز الرأسمالية الإعلامية بكل قوتها وقدراتها التكنولوجية ويصب في دول الأطراف كمجتمعات والتي تصبح في الواقع مجرد مستقبله لهذه الرسائل الإعلامية بكل ما فيها من قيم وهي في الغالب قيم سلبية مدمرة".
وإذا نظرنا لسلبيات العولمة اقتصادياً فإننا نجد أن إحدى آليات العولمة وهي التكنولوجيا قد أدت إلى البطالة وبالتالي أصبح عندنا حوالي مليار عاطل عن العمل في العالم منهم 15% من الدول العربية الإسلامية.
وفي الحقيقة إن مخاطر العولمة ستزداد في ظل المجتمعات التي تعاني من الأمية والجهل فنسبة الأمية نسبة لا يستهان بها في العالم الإسلامي ففي موريتانيا حوالي 62% والسودان 53% وهذا يعني أن هذه المجتمعات غير مؤهلة لمواجهة النظام العالمي الجديد "العولمة".
وإذا نظرنا للعولمة كظاهرة حضارية تسيطر عليها حالياً الولايات المتحدة: "على اعتبار بروز أقطاب أخرى لتقوم بتمثيل العولمة لاحقاً" فإن الأوضاع حالياً تشير إلى كون العولمة هي الأمركة ومن مخاطر ذك على العالم الإسلامي هو سياسة التدخل في شؤون الدول الأخرى بحجة الاضطهاد الديني قررت الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة العظمى الوحيدة حالياً أن تقوم بدور الزعيم الأخلاقي الكوني وقد دار جدل واسع حول إنشاء مكتب في البيت الأبيض لمراقبة الاضطهاد الديني تحت اسم قانون "التحرر من الاضطهاد الديني" لعام 1997 والذي يقوم بمراقبة معاملة الأقليات الدينية في بلدان معينة منها السودان(15).
ولا يعد بعيداً عن الموضع إصدار أمريكا لقائمة الدول الداعمة للإرهاب والتي على رأسها سوريا، السودان، ليبيا، وغيرها من الدول العربية الإسلامية. وغير بعيد عن ذلك أيضاً ما أصدره مجلس العموم البريطاني في شهر آذار 2001 من قانون ملاحقة المنظمات والحركات الإسلامية التي وسمها بالإرهاب والأصولية.
ويجب أن نلاحظ أن الدول الإسلامية تواجه العديد من التحديات أمام العولمة لكونها دولاً وليس لكونها تمثل حضارة الإسلام، وخاصة أن هذه التحديات تواجه منظومة دول العالم الثالث التي تقع ضمنها، إضافة إلى تحديات أخرى أهمها(16):
1.تحويل الاستثمار إلى مناطق العمالة الرخيصة، وهذا ما يؤدي إلى إغلاق المصانع المحلية وانتشار البطالة.
2.سيطرة الشركات المتعددة الجنسيات على مقدرات هذه الدول.
3.مساهمة تكنولوجيا المعلومات في ازدياد الهوة بين العالم الصناعي المتقدم والنامي الفقير إلى درجة التصدع الكامل لبنية المجتمع الإنساني.
4.تخوف الدول النامية والأمم ذات الحضارات العريقة من ضياع هويتها الحضارية والثقافية وسيطرة نسق قيمي واحد من الحضارة الغربية بكل ما فيها من مثالب وإيجابيات.
ويزاد أثر هذه التحديات على الفرد المسلم بصورة عامة والعربي بصورة خاصة وذلك لأنه يعيش في ظل دول قطرية جعلت الانتماء إلى الوطن يحل محل الانتماء للأمة، ويستوعب في الوقت نفسه الانتماء العصبوي، فأدى ذلك إلى خلق ما يعرف بإنسان (مأزوم الهوية)(17).
فازداد "تشرنق" الفرد داخل عصبيته أو مذهبيته، مما أدى إلى عدم قدرته على الاندماج في مؤسسات الدولة، كما ازداد ضعف مشاعر الانتماء للأمة وذلك بسبب انقطاع التواصل العضوي الحر بين أجزاء الأمة مع وجود ثقافة قطرية تحاول "قومنة" الدولة وترسيخها.
لقد نجحت الدولة القُطرية منذ نشأتها وحتى الآن أن تثبت نفسها في مواجهة فكرة الدولة القومية ولكنها ضلت عالة على إرث الأمة ولم تستطع أن تؤسس هوية خاصة بها تجعل الفرد يحس بأنها تعبر عن خصوصية جماعته فظل يشعر بأن محددات هويته الثقافية والحضارية تتجاوز حدود هذه الدولة بينما انتماؤه الاجتماعي يقصر عن تلك الحدود وبالتالي وجد الفرد المسلم والعربي نفسه إنساناً مأزوماً في هويته وليس ذلك فقط بل يواجه عصر العولمة.(/5)
وفي النهاية أقول أن الحضارة الإسلامية تقبل بالحوار والجدل المنطقي ففيها من المرونة ما يجعلها قابلة للانفتاح على ثقافات العالم خاصة إذا كان التحاور يقوم على حرية التواصل والاحترام بين الثقافات العالمية، وأخطر ما يواجه القائمين على استنهاض الثقافة العربية الشعور بالدنيوية والاستسلام التبعي لمنتج الثقافة الغيرية والرضى بأن نكون مستهلكين لا منتجين وفاعلين في صناعة ثقافتنا ولو لم يكن للعولمة من أثر على الثقافة العربية الإسلامية إلا تحريك وايقاظ الوعي الإسلامي فهذا يعد أمر هام.
وفي نهاية هذا الباب يجب أن أذكر وللأمانة العلمية أن هناك من يفرق بين نظرة الأوروبيين ونظرة الأمريكيين له ومنهم عبد الإله بلقزيز(18)(الأوروبيون يهتموا كثيراً ببناء نظرة ثقافية وموقف أيديولوجي من الإسلام تحت وطأة الشعور بالمغايرة الثقافية وبمركزية المرجعية الحضارية الغربية فعداء مثقفيهم وسياسيّهم للإسلام يتغذى من هذه الخلفية الثقافية والشعور بالأنا الحضاري والتفوق الثقافي، بل أن هذا العداء ليس بمستغرب من ثقافات أنتجتها ثورات عقلية مريرة ضد الكنيسة. أما الأمريكيون وبسبب غياب خلفية حضارية لمجتمعه الحديث التكوين والمتعدد الأصول والمشارب الثقافية فلا يهمهم من الإسلام إلا مقدار العائدات التي يمكن أن يحصلوها منه فلا يهتموا بموقف عقائدي منه لأنهم برغماتيون، فهم مثلاً يتصالحون مع إسلام يعقد الولاية الكونية لواشنطن، أو مع الإسلام الطيّع الذي يقم خدمات استراتيجية إقليمية، لكنهن يشحذون أسلحتهم ويستنفذون قواتهم حين يصبح إسلاماً تحرري المنزع، أو إسلاماً جهادياً كما في فلسطين وجنوب لبنان لأنه يخالف منطق مصلحتهم وبالجملة لا يخيف الولايات المتحدة من الإسلام إلا أن يسيطر على النفط وهنا يصبح الإسلام عدواً استراتيجياً للولايات المتحدة.
الفصل الثاني: الخيارات المطروحة أمام مسألة الإسلام والعولمة
في الفصل الأخير من هذا البحث لابد أن أوضح أن العولمة كظاهرة تمثل حضارة الغرب في وجه الإسلام، وتخشى الاتجاهات القومية بشقيها العربي والأوربي من العولمة باعتبارها ظاهرة تمثل محاولات الهيمنة الأمريكية، وعلى أي حال فإن معظم المراجع تميل إلى طرح خيارات متعددة لمواجهة العولمة ومنها:
1.الاندماج: بمعنى التعايش بين العولمة وأي حضارة أو ظاهرة مقابلة لها، لذا فإن الطرف المقابل يجب أن يكون مؤهلاً لهذا الاندماج وإلا فإنه سيذوب ويتلاشى أمامها.
2.المواجهة: بمعنى التحدي والصمود أمام هذه الظاهرة ومحاولة الحفاظ على الذات.
3.التهميش: بمعنى أن الطرف المقابل لن يكون له أي قيمة أمام هذه الظاهرة.
وإنني أرى أن التهميش سيحصل في حالتين، الأولى إذا تم اندماج الإسلام في ظل النظام العالمي الجديد دون أن يكون هناك تحسين لظروف وأوضاع المسلمين والبلاد الإسلامية. أما الثانية هي إذا دخلنا في مواجهة مع النظام العالمي الجديد دون استعداد حقيقي وتحضير لهذه المجابهة. وهذا يعني أيضاً تهميشنا وعلى أي حال فإنني أعتقد أن التهميش ليس خياراً وإنما هو نتيجة لخيارين، وهما الاندماج أو المواجهة لكن دون استعداد و تحضير ومحافظة على الهوية الذاتية.
هناك عدة خيارات طرحها كامل أبو صقر(19):
1.أن لا نعمل شيئاً أكثر مما نعمل ولا أقل مما نعمل، وهو خيار على الأقل يحقق لنا الوجود (ونحن موجودون كثيرو الشكوى لم نسترد حقوقنا المسلوبة، كرماء، مستهلكون، لا نضيف ولا نجدد ونتغنى بالماضي، وننتظر المجهول، نطيع أكثر من في الأرض قوة و نقلدهم). هذا الخيار سلبي.
2.أن ننسحب من التاريخ والسوق الكونية والعولمة لأننا أفلسنا عقلياً وأصبح وجودنا مكلفاً ومقدار ما نأخذه أكثر مما نعطيه، وتوقفنا عن دفع فاتورة استحقاقاتنا العلمية، وتركنا كتاب الله وهجرناه فكان أكثرنا عُمياً.
3.الابقاء على ما هو كائن وهو يشبه الخيار الأول ولكنه يختلف عنه من حيث أنه يتضمن تغييراً في الأساليب والطرق ومن هنا يجب علينا أن نبحث عن ذاتنا ولا نسعى للتقليد، فلنعد إلى خصوصيتنا ومنهجنا القرآني الذي سيهدينا للطريق الصحيح.
وإذا أردنا دراسة الخيارات المطروحة فيجب أن نقول أن أنصار المواجهة والتحدي يرفضون المعايير العالمية لحقوق الإنسان، فمثلاً بحجة الخصوصية الثقافية يرفض البعض كل ما هو جديد، وبالتالي يقوم أنصار هذا الخيار برفض الديموقراطية الغربية على أساس أن لدينا نظاماً للشورى, والأهم من ذلك كله أن الحديث يتم حول الهوية العربية وكأن هناك اتفاق على محتواها فالحقيقة أن هناك صراع ثقافي دائر ومحتوم بين جماعات سياسية وثقافية عربية، إذ أن هناك صراع بين القوميين والإسلاميين يدور حول سؤال: هل نحن عرب أولاً أم نحن مسلمون أساساً؟
وهذا الصراع الخطير أدى إلى نشوء الفكر المتطرف لدى جماعات متعددة في المجتمع الإسلامي، وأخطر من ذلك بزغت حركات إرهابية تحاول تحقيق الهدف الإستراتيجي وهو إقامة الدولة الإسلامية.(/6)
ويرى محي الدين اللاذقاني أننا في العالم العربي والإسلامي أسرفنا في الهجوم على العولمة قبل أن تصل وحفرنا كافة "المتاريس" اللازمة للدفاع عن الهوية العربية دون أن نسأل أنفسنا إن كانت تلك الهوية موجودة أو نتأكد في حال وجودها من أن العولمة قادمة لمحوها مع غيرها من الهويات المحلية في دول الأطراف لصالح مركز لا يقبل إلا أن يكون كل شيء في العالم على شاكلته.
ومن هنا يمكن القول أن الحضارة الإسلامية عليها أن تواجه العولمة لأنه إذا كان الخيار هو الاندماج والتعايش معها فهذا يعني في ظل الظروف الراهنة أن هذه الحضارة ستذوب في ظل العولمة. وإذا ما اخترنا هذا الخيار "خيار الاندماج" فيجب أن نكون مؤهلين لذلك لنتمكن من الصمود ولا ندخل في إطار التهميش بمعنى حتى لا تكون أثار العولمة مميتة لنا يجب الاستفادة من كل الامكانات التي توفرها العولمة للنهوض وليس للخضوع.
*بكالوريوس علوم سياسية /باحثة سياسية في مركز جنين للدراسات السياسية، إلى جانب القيام ببعض المهمات الصحفية.
(1)ياسر عبد الجواد، مجلة المستقبل العربي، عدد 252، شباط 2000، تحليل لكتاب العولمة ليست الخيار الوحيد، منير خمش، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، صفحة 182
(2) أحمد سلامة، العولمة والعروبة من الصراع إلى الأمل، عمان، دائرة المكتبة الوطنية 1999، صفحة 37
(3) سيار الجميل، العولمة والمستقبل استراتيجية تفكير من أجل العرب والمسلمين في القرن الحادي والعشرين، عمان، الأهلية للنشر،ط1،2000، صفحة 77
(4) د.برهان غليون، ثقافة العولمة وعولمة الثقافة،دار الفكر المعاصر،ط1، 1999، صفحة 16+17
(5) مهيوب غالب أحمد، المستقبل العربي، عدد 256 ،حزيران 2000،صفحة 61
(6) سيار الجميل، مرجع سابق،صفحة 91+92
(7) أ.د محمد الحارثي، العولمة والهوية، جامعة فيلادلفيا،ط1،1999،صفحة 169
(8) مهيوب غالب أحمد ، المستقبل العربي، مرجع سابق، صفحة 61
(9) محمد السمان، موقع الإسلام في صراع الحضارات والنظام العالمي الجديد، دار النفائس، ط1،1995، صفحة 15
(10) محمد السماك، المرجع السابق، صفحة 17
(11) محمد السماك، المرجع السابق،صفحة 153
(12) د.سيار الجميل، مرجع سابق، صفحة 124.
(13) د. سيار الجميل، مرجع سابق، صفحة 128.
(14) اني أعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تستمر في قيادة العالم وعولمته ولابد أن تبرز قوى أخرى، وإني أرجح أوروبا واليابان والصين لذلك،وأشترك في هذا الرأي مع الكثير من المفكرين من هم الأستاذ فخري الهواري في مقال له مجلة السياسة الدولية عدد 126 بعنوان "هل يشهد القرن الواحد والعشرون انهيار الولايات المتحدة؟"
(15)د.السيد يسين، العولمة والطريق الثالث، ميريت للنشر، القاهرة، 199،صفحة 41
(16) د.عبد الباري الدرة، العولمة والهوية، أوراق المؤتمر العالمي الرابع لكلية الأداب، جامعة فيلادلفيا،ط1،1999، صفحة 61
(17)صالح السنوسي، العولمة والهوية، أوراق المؤتمر العالمي الرابع، مرجع سابق، صفحة 45
(18)أسامة الخولي، العرب والعولمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1998، صفحة 256
(19) كامل أبو صقر، العولمة، دار الإسلام، بيروت،ط2،2000،صفحة 145(/7)
العولمة والسنن
14/9/1424
أ. د .ناصر بن سليمان العمر
العولمة والسنن:
كان الناس في عصرهم الأول نموذجاً مثالياً لعولمة حضارية، وحدة على مستوى البشرية جمعاء؛ فكرية ثقافية، سياسية، اقتصادية، وكان ذلك وفقاً لمنهج الله الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ثم جاءت الأذواق والأهواء بعجرها وبجرها، فحاولت جبابرة القرون - جيلاً بعد جيل- رفض الكتاب الذي أنزل ليقوم الناس بالقسط، موظفةً الحديد والنار في محاولات شتى لفرض أضرب من "العولمة"، بل لفرض نفوسهم ونفوذهم على العالمين "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم" (1)، "وما كان الناس إلاّ أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون" (2).
إن إرادة الله الكونية اقتضت وجود الخلق، ومشيئته الشرعية اقتضت توحدهم على منهج الحق كما قال- سبحانه-:"يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم ~ وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون" (3) ولكن خالفت الإرادة الكونية المشيئة الشرعية "فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون" (4)، أي: يفرحون بما هم فيه من الضلال؛ لأنهم يحسبون أنهم مهتدون (5).فاقتضت حكمته –سبحانه وتعالى- وجود الخير والشر في هذا الكون "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" (6)، "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ~ إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" (7)، "هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير" (8)، "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ~ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن ُيدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ" (9).
وكما اقتضت حكمته وجود الخير والشر، جرت سنته بدوام التدافع بينهما، فقد جعل الله الأيام دولاً "ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين" (10)، "... ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز" (11)، "وتلك الأيام نداولها بين الناس" (12).
غير أن العاقبة للتقوى، فصاحب الحق يجب عليه أن يستعين بالله ويصبر، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ~ إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين ~ وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين" (13).
فالناس من حيث المآل فريقان، فريق في الجنة وفريق في السعير، وعلى الأعراف فريق ثالث مآله إما إلى جنة أو إلى نار، فالمحصلة فريقان.
إن إرادة الله الكونية اقتضت وجود الخلق، ومشيئته الشرعية اقتضت توحدهم على منهج الحق كما قال -سبحانه-: "يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم ~ وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون" ولكن خالفت الإرادة الكونية المشيئة الشرعية "فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون"
أما في الدنيا فصراع أهل الحق مع أهل الباطل مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإلى أن يرسل الله ريحاً تقبض أرواح المؤمنين فلا يبقى في أرض الله من يقول: الله الله، وعندها تقوم الساعة على شرار خلق الله.
كما أن أهل الباطل طوائف مختلفة ولكن مآلها واحد، تجمعهم أهواء وأهداف مصالحهم الضيقة، فيتداعون لحرب من يعارضهم من أهل الحق، كما أخبر - صلى الله عليه وسلم- "توشك أن تداعى عليكم الأمم كما تدعى الأكلة على قصعتها"، ولكن هم مع ذلك طرائق قدداً، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى.
ولما كان الناس كذلك، فقد راعت شريعة الإسلام العالمية هذه السنة الكونية، فجاءت تشريعات الإسلام معتبرة للفروق بين ما يجب التفريق فيه كالأديان، فأصحابها بين متبع للباطل ومتبع للحق، فهم متباينون، ومن الجور التسوية بين المتباينين، ولايمكن أن يسمى هذا عدلاً.
وجاءت كذلك ملغية للتفرقة فيما تلزم المساواة فيه، كالتفريق بين الناس على أساس الأعراق بينما هم كلهم لآدم وآدم من تراب.
أما النظام العالمي الأمريكي فله حقيقة ودعوى تجاه هذه المسألة:
أما حقيقته، فهي فرض للهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية للدولة الأقوى،على كافة الشعوب والمجتمعات، وهو شكل جديد من أشكال الاستعمار كما سبق، وقد اعترف بنحو هذا بعض الأمريكيين كالكاتب الصحفي (توماس فريدمان).(/1)
أما دعواه فهي زعم أن النظام العالمي الجديد قائم على عدم التفريق بين الناس على أي أساس، سواءً أكان ديناً أو عرقاً، رجلاً أو امرأة أو غير ذلك، فلا فرق البتة، ولست هنا في مقام مناقشة تفصيلية لهذه الفكرة.
ولكن يكفي القول بأن العدل هو التسوية بين المتساويين والتفريق بين المختلفين، وإن إلزام المختلفين بفعل واحد أو سلوك طريق بعينه سيكون مجحفاً في حق بعضهم.
كما أن اعتبار الفروق لامناص منه، والواقع التطبيقي العملي الفعلي اضطر هؤلاء لاعتبار بعض الفروق، فعلى سبيل المثال، لماذا يمنع غير الأمريكي مثلاً من الترشح لحكم أمريكا؟ أليست المساواة تقتضي جواز ترشح أي إنسان، سواء جاء من إحدى الولايات أو جاء من إحدى القارات؟ كذلك لماذا يمنع من كان دون سن معينة من الترشح؟ ومع ذلك لم نر أحداً خرج يطالب بحقوق الشباب! إذن فلابد من ضوابط ومحددات، وهذه المحدادات هو ما يرفض العالم أن تكون أمريكا هي صانعتها، وبخاصة في بلداننا.
وأخيراً أشير إلى فشل هذا النظام في إلغاء هذه الفوارق حتى بين مصدريه من أبناء الملة الواحدة، فهذه بريطانيا تعيش ردحاً من الزمن أزمة سياسية ثقافية اجتماعية عجزت أن توحد فيها بين رؤى الجيش الأيرلندي الكاثوليكي الذي يسعى للانفصال، وبين الوحدويين البروتستانت، ومازلنا نسمع بين الفينة والأخرى نبأ انفجار عبوة وضعها متطرفون بروتستانت، أو مقتل بروتستانتي برصاص كاثوليكي أو اشتباكات بين كاثوليك وبروتستانت، كل ذلك في الدولة التي تعد الحليف الأول لراعية العولمة الجديدة!
وقل مثل ذلك عن الجيش الأحمر الياباني الوثني، وجيش التحرير الكوبي الشيوعي.
وكم من مرشح غربي فاز في الانتخابات العامة بسبب برنامجه الاقتصادي الإصلاحي!
وبعد ذلك يريد النظام العالمي الجديد أن يقنعنا بإمكانية إلغاء سنة كونية لن تنتهي إلاّ بنهاية هذه الدنيا.
--------------------------------------------------------------------------------
1سورة البقرة: 213.
2سورة يونس: 19.
3سورة المؤمنون: 51.
4سورة المؤمنون: 53.
5تفسير ابن كثير 3/248.
6سورة يونس: 99.
7سورة هود: 119.
8سورة التغابن: 2.
9سورة الشورى: 7-8.
10سورة البقرة: 251.
11سورة الحج: 40.
12سورة آل عمران: 140.
13سورة الأنبياء: 105-107.(/2)
العيد .. آدابه وأحكامه ... ...
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
فإن العيد اسم لكل ما يُعتاد ويعود ويتكرر ، والأعياد شعارات توجد لدى كل الأمم سواء أكانت كتابية أم وثنية أم غير ذلك ، وذلك لأن إقامة الأعياد ترتبط بغريزة وجبلّة طبع الناس عليها فكل الناس يحبون أن تكون لهم مناسبات يحتفلون فيها ويتجمّعون ويُظهرون الفرح والسرور .
وأعياد الأمم الكافرة ترتبط بأمور دنيوية كبداية سنة أو بدء موسم زرع أو اعتدال جو أو قيام دولة أو تنصيب حاكم ونحو ذلك . وترتبط أيضا بمناسبات دينية ككثير من أعياد اليهود والنصارى الخاصة بهم فمن أعياد النصارى مثلا العيد الذي يكون في الخميس الذي يزعمون أن المائدة أنزلت فيه على عيسى عليه الصلاة والسلام وعيد رأس السنة الكريسمس وعيد الشكر وعيد العطاء ويحتفلون به الآن في جميع البلاد الأوربية والأمريكية وغيرها من البلاد التي للنصرانية فيها ظهور وإن لم تكن نصرانية في الأصل وقد يشاركهم بعض المنتسبين إلى الإسلام ممن حولهم عن جهل أو عن نفاق .
وللمجوس كذلك أعيادهم الخاصة بهم مثل عيد المهرجان وعيد النيروز وغيرهما.
تميز المسلمين بأعيادهم :
لقد دلّ قوله صلى الله عليه وسلم : " إن لكل قوم عيد وهذا عيدنا " على اختصاص المسلمين بهذين العيدين لا غير وأنه لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بالكفار والمشركين في شيء مما يختص بأعيادهم ، لا من طعام ولا من لباس ، ولا إيقاد نيران ولا عبادة ولا يمكّن الصبيان من اللعب في أعيادهم ، ولا إظهار الزينة ، ولا يسمح لصبيان المسلمين بمشاركة الكفار في أعيادهم . وكل الأعياد الكفرية والبدعية محرمة كعيد رأس السنة وعيد الجلاء وعيد الثورة وعيد الشجرة وعيد الجلوس وعيد الميلاد وعيد الأم وعيد العمال وعيد النيل وعيد شم النسيم وعيد المعلم وعيد العمال وعيد المولد النبوي .
وأما المسلمون فليس لهم إلا عيدان عيد الفطر وعيد الأضحى لما جاء عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ قَالُوا كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ . " سنن أبي داود 1134
وهذان العيدان هما من شعائر الله التي ينبغي إحياؤها وإدراك مقاصدها واستشعار معانيها .
وفيما يلي نتعرض لطائفة من أحكام العيدين وآدابهما في الشريعة الإسلامية .
أولا :: أحكام العيد
صومه :
يحرم صوم يومي العيد لحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ . " رواه مسلم 827
حكم صلاة العيدين :
ذهب بعض العلماء إلى وجوبها وهذا مذهب الأحناف واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليها ولم يتركها ولا مرة واحدة ، واحتجوا بقوله تعالى ( فصل لربك وانحر ) أي صلاة العيد والنحر بعده وهذا أمر ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج النساء من البيوت لشهادتها ، والتي ليس عندها جلباب تستعير من أختها . وذهب بعض العلماء إلى أنها فرض كفاية وهذا مذهب الحنابلة ، وذهب فريق ثالث إلى أن صلاة العيد سنة مؤكدة وهذا مذهب المالكية والشافعية ، واحتجوا بحديث الأعرابي في أن الله لم يوجب على العباد إلا خمس صلوات .
فينبغي على المسلم أن يحرص على حضورها وشهودها خصوصا وأنّ القول بوجوبها قول قوي ويكفي ما في شهودها من الخير والبركة والأجر العظيم والاقتداء بالنبي الكريم .
شروط الصحة والوجوب والوقت
اشترط بعض العلماء ( وهم الحنفية والحنابلة ) لوجوب صلاة العيدين الإقامة والجماعة . وقال بعضهم إنّ شروطها هي شروط صلاة الجمعة ما عدا الخطبة فإنّ حضورها ليس بواجب وجمهور العلماء على أن وقت العيدين يبتدئ عند ارتفاع الشمس قدر رمح بحسب الرؤية المجردة ويمتد وقتها إلى ابتداء الزوال .
صفة صلاة العيد
قال عمر رضي الله عنه : صلاة العيد والأضحى ركعتان ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد خاب من افترى .
وعن أبي سعيد قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة .
والتكبير سبع في الركعة الأولى وخمس في الآخرة والقراءة بعدهما كلتيهما .
وعن عائشة رضي الله عنها : التكبير في الفطر والأضحى الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرات الركوع رواه أبو داود صحيح بمجموع طرقه .(/1)
ولو أدرك المأموم إمامه أثناء التكبيرات الزوائد يكبر مع الإمام ويتابعه ولا يلزمه قضاء التكبيرات الزوائد لأنها سنّة وليست بواجبة .
وأما ما يُقال بين التكبيرات فقد جاء عن حماد بن سلمة عن إبراهيم أن الوليد بن عقبة دخل المسجد وابن مسعود وحذيفة وأبو موسى في المسجد فقال الوليد : إن العيد قد حضر فكيف أصنع ، فقال ابن مسعود : يقول الله أكبر ويحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو الله ، ثم يكبر ويحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم .. الخ رواه الطبراني ، وهو حديث صحيح مخرج في الإرواء وغيره .
القراءة في صلاة العيد:
يستحب أن يقرأ الإمام في صلاة العيد بـ ( ق ) و ( اقتربت الساعة ) كما في صحيح مسلم أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ مَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَضْحَى وَالْفِطْرِ فَقَالَ كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَاقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ . " صحيح مسلم 891
وأكثر ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيد بسبح والغاشية كما كان يقرأ بهما في الجمعة فقد جاء عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ . " صحيح مسلم 878
وقال سمرة رضي الله عنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين ( سبح اسم ربك الأعلى ) ، ( وهل أتاك حديث الغاشية ) رواه أحمد وغير وهو صحيح الإرواء 3/116
الصلاة قبل الخطبة :
من أحكام العيد أن الصلاة قبل الخطبة كما ثبت في مسند أحمد من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ فِي الْعِيدِ ثُمَّ خَطَبَ ." مسند أحمد 1905 والحديث في الصحيحين
ومما يدلّ على أن الخطبة بعد الصلاة حديث أبي سعيد رضي الله عنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة ، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم فإذا كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه ، أو يأمر بشيء أمر به ، قال أبو سعيد : فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة ، فقلت له : غيرتم والله . فقال : يا أبا سعيد قد ذهب ما تعلم ، فقلت : ما أعلم والله خير مما لا أعلم ، فقال : إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة ، فجعلنها قبل الصلاة . رواه البخاري 956
الرخصة في الإنصراف أثناء الخطبة لمن أراد :
عن عبد الله بن السائب قال : شهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى الصلاة قال : إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب . إرواء الغليل 3/96
عدم المبالغة في تأخيرها :
خرج عبد الله بن بُشر ، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس في يوم الفطر عيد الفطر أو أضحى فأنكر إبطاء الإمام ، وقال انا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قد فرغنا ساعتنا هذه وذلك حين التسبيح . رواه البخاري معلقا مجزوما به
النافلة في المصلى:
لا نافلة قبل صلاة العيد ولا بعدها كما جاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم العيد فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما . " سنن أبي داود 1159
وهذا إذا كانت الصلاة في المصلى أو في مكان عام وأما إن صلى الناس العيد في المسجد فإنه يصلي تحية المسجد إذا دخله قبل أن يجلس .
إذا لم يعلموا بالعيد إلا من الغد :
عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قالوا : غُمّ علينا هلال شوال فأصبحنا صياماً ، فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمر الناس أن يفطروا من يومهم وأن يخرجوا لعيدهم من الغد رواه الخمسة ، صحيح : الإرواء 3/102 .
ومن فاتته صلاة العيد فالراجح أنه يجوز له قضاؤها ركعتين .
شهود النساء صلاة العيد(/2)
عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْعِيدَيْنِ فَقَدِمَتْ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ فَحَدَّثَتْ عَنْ أُخْتِهَا وَكَانَ زَوْجُ أُخْتِهَا غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْ عَشَرَةَ غَزْوَةً وَكَانَتْ أُخْتِي مَعَهُ فِي سِتٍّ قَالَتْ كُنَّا نُدَاوِي الْكَلْمَى وَنَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى فَسَأَلَتْ أُخْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لا تَخْرُجَ قَالَ لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا وَلْتَشْهَد الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ سَأَلْتُهَا أَسَمِعْتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ بِأَبِي نَعَمْ وَكَانَتْ لا تَذْكُرُهُ إِلا قَالَتْ بِأَبِي سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَخْرُجُ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ أَوْ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى . صحيح البخاري 324
قوله : ( عواتقنا ) العواتق جمع عاتق وهي من بلغت الحلم أو قاربت , أو استحقت التزويج , أو هي الكريمة على أهلها , أو التي عتقت عن الامتهان في الخروج للخدمة , وكأنهم كانوا يمنعون العواتق من الخروج لما حدث بعد العصر الأول من الفساد , ولم تلاحظ الصحابة ذلك بل رأت استمرار الحكم على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله : ( وكانت أختي ) فيه حذف تقديره قالت المرأة وكانت أختي . قوله : ( قالت ) أي الأخت ,
قوله : ( من جلبابها ) .. أي تعيرها من ثيابها ما لا تحتاج إليه .
قوله : ( وذوات الخدور ) بضم الخاء المعجمة والدال المهملة جمع خدر بكسرها وسكون الدال , وهو ستر يكون في ناحية البيت تقعد البكر وراءه ,
( فالحيّض ) : هو بضم الحاء وتشديد الياء المفتوحة جمع حائض أي البالغات من البنات أو المباشرات بالحيض مع أنهم غير طاهرات
قوله : ( ويعتزل الحيض المصلى ) قال ابن المنيِّر : الحكمة في اعتزالهن أن في وقوفهن وهن لا يصلين مع المصليات إظهار استهانة بالحال . فاستحب لهن اجتناب ذلك .
وقيل سبب منع الحُيّض من المصلى .. الصيانة والاحتراز من مقارنة النساء للرجال من غير حاجة ولا صلاة , وقيل : لئلا يؤذين غيرهن بدمهن أو ريحهن .
وفي الحديث الحث على حضور العيد لكل أحد , وعلى المواساة والتعاون على البر والتقوى ، وأن الحائض لا تهجر ذكر الله ولا مواطن الخير كمجالس العلم والذكر سوى المساجد , وفيه امتناع خروج المرأة بغير جلباب .
وفي هذا الحديث من الفوائد أن من شأن العواتق والمخدرات عدم البروز إلا فيما أذن لهن فيه . وفيه استحباب إعداد الجلباب للمرأة , ومشروعية عارية الثياب . واستدل به على وجوب صلاة العيد .. وروى ابن أبي شيبة أيضا عن ابن عمر أنه كان يخرج إلى العيدين من استطاع من أهله .
وقد صرح في حديث أم عطية بعلة الحكم وهو شهودهن الخير ودعوة المسلمين ورجاء بركة ذلك اليوم وطهرته .
وقال الترمذي رحمه الله في سننه بعد أن ساق حديث أم عطية : وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَرَخَّصَ لِلنِّسَاءِ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْعِيدَيْنِ وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ وَرُوِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ أَكْرَهُ الْيَوْمَ الْخُرُوجَ لِلنِّسَاءِ فِي الْعِيدَيْنِ فَإِنْ أَبَتِ الْمَرْأَةُ إِلا أَنْ تَخْرُجَ فَلْيَأْذَنْ لَهَا زَوْجُهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي أَطْمَارِهَا الْخُلْقَانِ وَلا تَتَزَيَّنْ فَإِنْ أَبَتْ أَنْ تَخْرُجَ كَذَلِكَ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا عَنْ الْخُرُوجِ وَيُرْوَى عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَوْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيُرْوَى عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ الْيَوْمَ الْخُرُوجَ لِلنِّسَاءِ إِلَى الْعِيدِ الترمذي 495
وقد أفتت بالحديث المتقدم أم عطية رضي الله عنها بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة كما في هذا الحديث ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفتها في ذلك , وأما قول عائشة " لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد " فلا يعارض ذلك ( ما دامت المرأة تخرج بالشروط الشرعية ) .. والأولى أن يخص السماح بالخروج بمن يؤمن عليها وبها الفتنة ولا يترتب على حضورها محذور ولا تزاحم الرجال في الطرق ولا في المجامع .(/3)
ويجب على الرجل تفقد أهله عند خروجهن للصلاة ليتأكد من كمال حجاب النساء ، فهو راع ومسؤول عن رعيته ، فالنساء يخرجن تفلات غير متبرجات ولا متطيبات ، والحائض لا تدخل المسجد ولا المصلى ويمكن أن تنتظر في السيارة مثلاً لسماع الخطبة .
ثانيا :: آداب العيد:
الاغتسال:
من الآداب الاغتسال قبل الخروج للصلاة فقد صح في الموطأ وغيره أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى الْمُصَلَّى . الموطأ 428
وصح عن سعيد بن جبير أنه قال : (سنة العيد ثلاث المشي والاغتسال والأكل قبل الخروج ) ، وهذا من كلام سعيد بن جبير ولعله أخذه عن بعض الصحابة.
وذكر النووي رحمه الله اتفاق العلماء على استحباب الاغتسال لصلاة العيد .
والمعنى الذي يستحب بسببه الاغتسال للجمعة وغيرها من الاجتماعات العامة موجود في العيد بل لعله في العيد أبرز .
الأكل قبل الخروج :
من الآداب ألا يخرج في عيد الفطر إلى الصلاة حتى يأكل تمرات لما رواه البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ .. وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا . البخاري 953
وإنما استحب الأكل قبل الخروج مبالغة في النهي عن الصوم في ذلك اليوم وإيذانا بالإفطار وانتهاء الصيام . وعلل ابن حجر رحمه الله بأنّ في ذلك سداً لذريعة الزيادة في الصوم ، وفيه مبادرة لامتثال أمر الله . فتح 2/446 ومن لم يجد تمرا فليفطر على أي شيء مباح .
وأما في عيد الأضحى فإن المستحب ألا يأكل إلا بعد الصلاة من أضحيته .
التكبير يوم العيد :
وهو من السنن العظيمة في يوم العيد لقوله تعالى : ( ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ) .
وعن الوليد بن مسلم قال : سألت الأوزاعي ومالك بن أنس عن إظهار التكبير في العيدين ، قالا : نعم كان عبد الله بن عمر يظهره في يوم الفطر حتى يخرج الإمام .
وصح عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : ( كانوا في الفطر أشد منهم في الأضحى ) قال وكيع يعني التكبير إرواء 3/122
وروى الدارقطني وغيره أن ابن عمر كان إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجتهد بالتكبير حتى يأتي المصلى ، ثم يكبر حتى الإمام . وروى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن الزهري قال : كان الناس يكبرون في العيد حين يخرجون من منازلهم حتى يأتوا المصلى وحتى يخرج الإمام فإذا خرج الإمام سكتوا فإذا كبر كبروا . إرواء 2/121
ولقد كان التكبير من حين الخروج من البيت إلى المصلى وإلى دخول الإمام كان أمرا مشهورا جدا عند السلف وقد نقله جماعة من المصنفين كابن أبي شيبة وعبدالرزاق والفريابي في كتاب ( أحكام العيدين ) عن جماعة من السلف ومن ذلك أن نافع بن جبير كان يكبر ويتعجب من عدم تكبير الناس فيقول: ( ألا تكبرون ) وكان ابن شهاب الزهري رحمه الله يقول : ( كان الناس يكبرون منذ يخرجون من بيوتهم حتى يدخل الإمام ) .
ووقت التكبير في عيد الفطر يبتدئ من ليلة العيد إلى أن يدخل الإمام لصلاة العيد .
صفة التكبير :
ورد في مصنف ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه : أنه كان يكبر أيام التشريق : الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد . ورواه ابن أبي شيبة مرة أخرى بالسند نفسه بتثليث التكبير .
ورأى المحاملي بسند صحيح أيضاً عن ابن مسعود : الله أكبر كبيراً الله أكبر كبيراً الله أكبر وأجلّ ، الله أكبر ولله الحمد . الإرواء 3/126
التهنئة :
ومن آداب العيد التهنئة الطيبة التي يتبادلها الناس فيما بينهم أيا كان لفظها مثل قول بعضهم لبعض : تقبل الله منا ومنكم أو عيد مبارك وما أشبه ذلك من عبارات التهنئة المباحة .
وعن جبير بن نفير ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض ، تُقُبِّل منا ومنك . ابن حجر إسناده حسن ، الفتح 2/446
فالتهنئة كانت معروفة عند الصحابة ورخص فيها أهل العلم كالإمام أحمد وغيره وقد ورد ما يدل عليه من مشروعية التهنئة بالمناسبات وتهنئة الصحابة بعضهم بعضا عند حصول ما يسر مثل أن يتوب الله تعالى على امرئ فيقومون بتهنئته بذلك إلى غير ذلك .
ولا ريب أن هذه التهنئة من مكارم الأخلاق ومحاسن المظهر الاجتماعية بين المسلمين .
وأقل ما يقال في موضوع التهنئة أن تهنئ من هنأك بالعيد ، وتسكت إن سكت كما قال الإمام أحمد رحمه الله : إن هنأني أحد أجبته وإلا لم أبتدئه .
التجمل للعيدين :(/4)
عن عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ أَخَذَ عُمَرُ جُبَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأَخَذَهَا فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ .. رواه البخاري 948
وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم عمر على التجمل لكنه أنكر عليه شراء هذه الجبة لأنها من حرير.
وعن جابر رضي الله عنه قال : كان للنبي صلى الله عليه وسلم جبة يلبسها للعيدين ويوم الجمعة . صحيح ابن خزيمة 1765
وروى البيهقي بسند صحيح أن ابن عمر كان يلبس للعيد أجمل ثيابه .
فينبغي للرجل أن يلبس أجمل ما عند من الثياب عند الخروج للعيد .
أما النساء فيبتعدن عن الزينة إذا خرجن لأنهن منهيات عن إظهار الزينة للرجال الأجانب وكذلك يحرم على من أرادت الخروج أن تمس الطيب أو تتعرض للرجال بالفتنة فإنها ما خرجت إلا لعبادة وطاعة أفتراه يصح من مؤمنة أن تعصي من خرجت لطاعته وتخالف أمره بلبس الضيق والثوب الملون الجذاب الملفت للنظر أو مس الطيب ونحوه .
حكم الاستماع لخطبة العيد :
قال ابن قدامة رحمه الله في كتابه الكافي ص 234 .
فإذا سلم خطب خطبتين كخطبة الجمعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ، ويفارق خطبتي الجمعة في أربعة أشياء .. ثم قال :-
الرابع : أنهما سنة لا يجب استماعهما ولا الإنصات لهما ، لما روى عبد الله بن السائب قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد ، فلما قضى الصلاة قال : ( إنا نخطب من أراد أن يجلس للخطبة فليجلس ، ومن أحب أن يذهب فليذهب ) .
وقال النووي رحمه الله في كتابه المجموع شرح المهذب ص 23 :
ويستحب للناس استماع الخطبة ، وليست الخطبة ولا استماعها شرطاً لصحة صلاة العيد ، لكن قال الشافعي : لو ترك استماع خطبة العيد أو الكسوف أو الاستسقاء أو خطب الحج أو تكلم فيها أو انصرف وتركها كرهته ولا إعادة عليه .
وفي الشرح الممتع على زاد المستنقع للشيخ ابن عثيمين 5/192 :
قوله تعالى : ( كخطبتي الجمعة ) أي يخطب خطبتين على الخلاف الذي أشرنا إليه سابقاً ، كخطبتي الجمعة في الأحكام حتى في تحريم الكلام ، لا في وجوب الحضور ، فخطبة الجمعة يجب الحضور إليها لقوله تعالى : ( يا آيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ) وخطبتا العيد لا يجب الحضور إليهما ، بل للإنسان أن ينصرف ، لكن إذا بقي يجب عليه أن لا يكلم أحداً ، وهذا ما يشير إليه قول المؤلف : ( كخطبتي الجمعة ) .
وقال بعض أهل العلم ، لا يجب الإنصات لخطبتي العيدين ، لأنه لو وجب الإنصات لوجوب الحضور ، ولحرم الإنصراف ، فكما كان الإنصراف جائزاً .. فالاستماع ليس بواجب .
ولكن على هذا القول لو كان يلزم من الكلام التشويش على الحاضرين حَرُم الكلام من أجل التشويش ، لا من أجل الاستماع ، بناء على هذا لو كان مع الإنسان كتاب أثناء خطبة الإمام خطبة العيد فإنه يجوز أن يراجعه ، لأنه لا يشوش على أحد . أما على المذهب الذي مشى عليه المؤلف ، فالاستماع واجب ما دام حاضراً .
الذهاب من طريق والعودة من آخر
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ رواه البخاري 986
وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يخرج ماشياً يصلي بغير أذان ولا إقامة ثم يرجع ماشياً من طريق آخر . قيل ليشهد له الطريقان عند الله يوم القيامة ، والأرض تحدّث يوم القيامة بما عُمل عليها من الخير والشرّ . وقيل لإظهار شعائر الإسلام في الطريقين . وقيل لإظهار ذكر الله ، وقيل لإغاظة المنافقين واليهود وليرهبهم بكثرة من معه . وقيل ليقضى حوائج الناس من الاستفتاء والتعليم والاقتداء أو الصدقة على المحاويج أو ليزور أقاربه وليصل رحمه .
تنبيهات على بعض المنكرات :
1- بعض الناس يعتقدون مشروعية إحياء ليلة العيد ، ويتناقلون في ذلك حديثا لا يصح ، وهو أن من أحيا ليلة العيد لم يمت قلبه يوم تموت القلوب وهذا الحديث جاء من طريقين ، أحدهما ضعيف والآخر ضعيف جدا ، فلا يشرع تخصيص ليلة العيد بذلك من بين سائر الليالي ، وأما من كان يقوم سائر الليالي فلا حرج أن يقوم في ليلة العيد .(/5)
2- اختلاط النساء بالرجال في بعض المصليات والشوارع وغيرها ، ومن المحزن أن يحدث هذا في أقدس البقاع ؛ في المساجد بل المسجد الحرام ، فإن كثيرا من النساء - هداهن الله - يخرجن متجملات متعطرات ، سافرات ، متبرجات ، ويحدث في المسجد زحام شديد ، وفي ذلك من الفتنة والخطر العظيم ما لا يخفى ، ولهذا لا بد للقائمين على ترتيب صلاة العيد من تخصيص أبواب ومسارات خاصة للنساء وأن يتأخّر خروج الرجال حتى ينصرف النساء .
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا وأن يتوب علينا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
المصدر: جمعية البر(/6)
العيد آدابه وأحكامه
...
...
التاريخ : 01/11/2005
الكاتب : islam-qa.com ... الزوار : 3772
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
فإن العيد اسم لكل ما يُعتاد ويعود وتكرر ، والأعياد شعارات توجد لدى كل الأمم سواء أكانت كتابية أم وثنية أم غير ذلك ، وذلك لأن إقامة الأعياد ترتبط بغريزة وجبلّة طبع الناس عليها فكل الناس يحبون أن تكون لهم مناسبات يحتفلون فيها ويتجمّعون ويُظهرون الفرح والسرور .
وأعياد الأمم الكافرة ترتبط بأمور دنيوية كبداية سنة أو بدء موسم زرع أو اعتدال جو أو قيام دولة أو تنصيب حاكم ونحو ذلك . وترتبط أيضا بمناسبات دينية ككثير من أعياد اليهود والنصارى الخاصة بهم فمن أعياد النصارى مثلا العيد الذي يكون في الخميس الذي يزعمون أن المائدة أنزلت فيه على عيسى عليه الصلاة والسلام وعيد رأس السنة الكريسمس وعيد الشكر وعيد العطاء ويحتفلون به الآن في جميع البلاد الأوربية والأمريكية وغيرها من البلاد التي للنصرانية فيها ظهور وإن لم تكن نصرانية في الأصل وقد يشاركهم بعض المنتسبين إلى الإسلام ممن حولهم عن جهل أو عن نفاق .
وللمجوس كذلك أعيادهم الخاصة بهم مثل عيد المهرجان وعيد النيروز وغيرهما.
وللباطنية أيضا أعيادهم مثل عيد الغدير الذي يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع فيه عليا رضي الله عنه بالخلافة وبايع فيه الأئمة الاثني عشر من بعده .
تميز المسلمين بأعيادهم :
لقد دلّ قوله صلى الله عليه وسلم : " إن لكل قوم عيد وهذا عيدنا " على اختصاص المسلمين بهذين العيدين لا غير وأنه لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بالكفار والمشركين في شيء مما يختص بأعيادهم ، لا من طعام ولا من لباس ، ولا إيقاد نيران ولا عبادة ولا يمكّن الصبيان من اللعب في أعيادهم ، ولا إظهار الزينة ، ولا يسمح لصبيان المسلمين بمشاركة الكفار في أعيادهم . وكل الأعياد الكفرية والبدعية محرمة كعيد رأس السنة وعيد الجلاء وعيد الثورة وعيد الشجرة وعيد الجلوس وعيد الميلاد وعيد الأم وعيد العمال وعيد النيل وعيد شم النسيم وعيد المعلم وعيد المولد النبوي .
وأما المسلمون فليس لهم إلا عيدان عيد الفطر وعيد الأضحى لما جاء عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ قَالُوا كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ . " سنن أبي داود 1134
وهذان العيدان هما من شعائر الله التي ينبغي إحياؤها وإدراك مقاصدها واستشعار معانيها .
وفيما يلي نتعرض لطائفة من أحكام العيدين وآدابهما في الشريعة الإسلامية .
أولا : أحكام العيد
صومه :
يحرم صوم يومي العيد لحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ . " رواه مسلم 827
حكم صلاة العيدين :
ذهب بعض العلماء إلى وجوبها وهذا مذهب الأحناف واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليها ولم يتركها ولا مرة واحدة ، واحتجوا بقوله تعالى ( فصل لربك وانحر ) أي صلاة العيد والنحر بعده وهذا أمر ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج النساء من البيوت لشهادتها ، والتي ليس عندها جلباب تستعير من أختها . وذهب بعض العلماء إلى أنها فرض كفاية وهذا مذهب الحنابلة ، وذهب فريق ثالث إلى أن صلاة العيد سنة مؤكدة وهذا مذهب المالكية والشافعية ، واحتجوا بحديث الأعرابي في أن الله لم يوجب على العباد إلا خمس صلوات .
فينبغي على المسلم أن يحرص على حضورها وشهودها خصوصا وأنّ القول بوجوبها قول قوي ويكفي ما في شهودها من الخير والبركة والأجر العظيم والاقتداء بالنبي الكريم .
شروط الصحة والوجوب والوقت
اشترط بعض العلماء ( وهم الحنفية والحنابلة ) لوجوب صلاة العيدين الإقامة والجماعة . وقال بعضهم إنّ شروطها هي شروط صلاة الجمعة ما عدا الخطبة فإنّ حضورها ليس بواجب وجمهور العلماء على أن وقت العيدين يبتدئ عند ارتفاع الشمس قدر رمح بحسب الرؤية المجردة ويمتد وقتها إلى ابتداء الزوال .
صفة صلاة العيد
قال عمر رضي الله عنه : صلاة العيد والأضحى ركعتان ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد خاب من افترى .
وعن أبي سعيد قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة .
والتكبير سبع في الركعة الأولى وخمس في الآخرة والقراءة بعدهما كلتيهما .(/1)
وعن عائشة رضي الله عنها : التكبير في الفطر والأضحى الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرات الركوع رواه أبو داود صحيح بمجموع طرقه .
ولو أدرك المأموم إمامه أثناء التكبيرات الزوائد يكبر مع الإمام ويتابعه ولا يلزمه قضاء التكبيرات الزوائد لأنها سنّة وليست بواجبة .
وأما ما يُقال بين التكبيرات فقد جاء عن حماد بن سلمة عن إبراهيم أن الوليد بن عقبة دخل المسجد وابن مسعود وحذيفة وأبو موسى في المسجد فقال الوليد : إن العيد قد حضر فكيف أصنع ، فقال ابن مسعود : يقول الله أكبر ويحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو الله ، ثم يكبر ويحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم .. الخ رواه الطبراني ، وهو حديث صحيح مخرج في الإرواء وغيره .
القراءة في صلاة العيد:
يستحب أن يقرأ الإمام في صلاة العيد بـ ( ق ) و ( اقتربت الساعة ) كما في صحيح مسلم أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ مَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَضْحَى وَالْفِطْرِ فَقَالَ كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَاقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ . " صحيح مسلم 891
وأكثر ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيد بسبح والغاشية كما كان يقرأ بهما في الجمعة فقد جاء عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ . " صحيح مسلم 878
وقال سمرة رضي الله عنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين ( سبح اسم ربك الأعلى ) و (هل أتاك حديث الغاشية ) رواه أحمد وغير وهو صحيح الإرواء 3/116
الصلاة قبل الخطبة :
من أحكام العيد أن الصلاة قبل الخطبة كما ثبت في مسند أحمد من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ فِي الْعِيدِ ثُمَّ خَطَبَ ." مسند أحمد 1905 والحديث في الصحيحين
ومما يدلّ على أن الخطبة بعد الصلاة حديث أبي سعيد رضي الله عنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة ، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم فإذا كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه ، أو يأمر بشيء أمر به ، قال أبو سعيد : فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة ، فقلت له : غيرتم والله . فقال : يا أبا سعيد قد ذهب ما تعلم ، فقلت : ما أعلم والله خير مما لا أعلم ، فقال : إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة ، فجعلنها قبل الصلاة . رواه البخاري 956
- الرخصة في الإنصراف أثناء الخطبة لمن أراد
عن عبد الله بن السائب قال : شهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى الصلاة قال : إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب . إرواء الغليل 3/96
- عدم المبالغة في تأخيرها :
خرج عبد الله بن بُشر ، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس في يوم الفطر عيد الفطر أو أضحى فأنكر إبطاء الإمام ، وقال انا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قد فرغنا ساعتنا هذه وذلك حين التسبيح . رواه البخاري معلقا مجزوما به
النافلة في المصلى:
لا نافلة قبل صلاة العيد ولا بعدها كما جاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم العيد فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما . " سنن أبي داود 1159
وهذا إذا كانت الصلاة في المصلى أو في مكان عام وأما إن صلى الناس العيد في المسجد فإنه يصلي تحية المسجد إذا دخله قبل أن يجلس .
إذا لم يعلموا بالعيد إلا من الغد :
عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قالوا : غُمّ علينا هلال شوال فأصبحنا صياماً ، فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمر الناس أن يفطروا من يومهم وأن يخرجوا لعيدهم من الغد رواه الخمسة ، صحيح : الإرواء 3/102 .
ومن فاتته صلاة العيد فالراجح أنه يجوز له قضاؤها ركعتين .
شهود النساء صلاة العيد(/2)
عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْعِيدَيْنِ فَقَدِمَتْ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ فَحَدَّثَتْ عَنْ أُخْتِهَا وَكَانَ زَوْجُ أُخْتِهَا غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْ عَشَرَةَ غَزْوَةً وَكَانَتْ أُخْتِي مَعَهُ فِي سِتٍّ قَالَتْ كُنَّا نُدَاوِي الْكَلْمَى وَنَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى فَسَأَلَتْ أُخْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لا تَخْرُجَ قَالَ لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا وَلْتَشْهَد الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ سَأَلْتُهَا أَسَمِعْتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ بِأَبِي نَعَمْ وَكَانَتْ لا تَذْكُرُهُ إِلا قَالَتْ بِأَبِي سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَخْرُجُ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ أَوْ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى . صحيح البخاري 324
قوله : ( عواتقنا ) العواتق جمع عاتق وهي من بلغت الحلم أو قاربت , أو استحقت التزويج , أو هي الكريمة على أهلها , أو التي عتقت عن الامتهان في الخروج للخدمة , وكأنهم كانوا يمنعون العواتق من الخروج لما حدث بعد العصر الأول من الفساد , ولم تلاحظ الصحابة ذلك بل رأت استمرار الحكم على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله : ( وكانت أختي ) فيه حذف تقديره قالت المرأة وكانت أختي . قوله : ( قالت ) أي الأخت ,
قوله : ( من جلبابها ) .. أي تعيرها من ثيابها ما لا تحتاج إليه .
قوله : ( وذوات الخدور ) بضم الخاء المعجمة والدال المهملة جمع خدر بكسرها وسكون الدال , وهو ستر يكون في ناحية البيت تقعد البكر وراءه ,
( فالحيّض ) : هو بضم الحاء وتشديد الياء المفتوحة جمع حائض أي البالغات من البنات أو المباشرات بالحيض مع أنهم غير طاهرات
قوله : ( ويعتزل الحيض المصلى ) قال ابن المنيِّر : الحكمة في اعتزالهن أن في وقوفهن وهن لا يصلين مع المصليات إظهار استهانة بالحال . فاستحب لهن اجتناب ذلك .
وقيل سبب منع الحُيّض من المصلى .. الصيانة والاحتراز من مقارنة النساء للرجال من غير حاجة ولا صلاة , وقيل : لئلا يؤذين غيرهن بدمهن أو ريحهن .
وفي الحديث الحث على حضور العيد لكل أحد , وعلى المواساة والتعاون على البر والتقوى ، وأن الحائض لا تهجر ذكر الله ولا مواطن الخير كمجالس العلم والذكر سوى المساجد , وفيه امتناع خروج المرأة بغير جلباب .
وفي هذا الحديث من الفوائد أن من شأن العواتق والمخدرات عدم البروز إلا فيما أذن لهن فيه . وفيه استحباب إعداد الجلباب للمرأة , ومشروعية عارية الثياب . واستدل به على وجوب صلاة العيد .. وروى ابن أبي شيبة أيضا عن ابن عمر أنه كان يخرج إلى العيدين من استطاع من أهله .
وقد صرح في حديث أم عطية بعلة الحكم وهو شهودهن الخير ودعوة المسلمين ورجاء بركة ذلك اليوم وطهرته .
وقال الترمذي رحمه الله في سننه بعد أن ساق حديث أم عطية : وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَرَخَّصَ لِلنِّسَاءِ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْعِيدَيْنِ وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ وَرُوِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ أَكْرَهُ الْيَوْمَ الْخُرُوجَ لِلنِّسَاءِ فِي الْعِيدَيْنِ فَإِنْ أَبَتِ الْمَرْأَةُ إِلا أَنْ تَخْرُجَ فَلْيَأْذَنْ لَهَا زَوْجُهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي أَطْمَارِهَا الْخُلْقَانِ وَلا تَتَزَيَّنْ فَإِنْ أَبَتْ أَنْ تَخْرُجَ كَذَلِكَ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا عَنْ الْخُرُوجِ وَيُرْوَى عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَوْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيُرْوَى عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ الْيَوْمَ الْخُرُوجَ لِلنِّسَاءِ إِلَى الْعِيدِ الترمذي 495
وقد أفتت بالحديث المتقدم أم عطية رضي الله عنها بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة كما في هذا الحديث ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفتها في ذلك , وأما قول عائشة " لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد " فلا يعارض ذلك ( ما دامت المرأة تخرج بالشروط الشرعية ) .. والأولى أن يخص السماح بالخروج بمن يؤمن عليها وبها الفتنة ولا يترتب على حضورها محذور ولا تزاحم الرجال في الطرق ولا في المجامع .(/3)
ويجب على الرجل تفقد أهله عند خروجهن للصلاة ليتأكد من كمال حجاب النساء ، فهو راع ومسؤول عن رعيته ، فالنساء يخرجن تفلات غير متبرجات ولا متطيبات ، والحائض لا تدخل المسجد ولا المصلى ويمكن أن تنتظر في السيارة مثلاً لسماع الخطبة .
آداب العيد:
الاغتسال:
من الآداب الاغتسال قبل الخروج للصلاة فقد صح في الموطأ وغيره أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى الْمُصَلَّى . الموطأ 428
وصح عن سعيد بن جبير أنه قال : (سنة العيد ثلاث المشي والاغتسال والأكل قبل الخروج ) ، وهذا من كلام سعيد بن جبير ولعله أخذه عن بعض الصحابة.
وذكر النووي رحمه الله اتفاق العلماء على استحباب الاغتسال لصلاة العيد .
والمعنى الذي يستحب بسببه الاغتسال للجمعة وغيرها من الاجتماعات العامة موجود في العيد بل لعله في العيد أبرز .
الأكل قبل الخروج :
من الآداب ألا يخرج في عيد الفطر إلى الصلاة حتى يأكل تمرات لما رواه البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ .. وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا . البخاري 953
وإنما استحب الأكل قبل الخروج مبالغة في النهي عن الصوم في ذلك اليوم وإيذانا بالإفطار وانتهاء الصيام . وعلل ابن حجر رحمه الله بأنّ في ذلك سداً لذريعة الزيادة في الصوم ، وفيه مبادرة لامتثال أمر الله . فتح 2/446 ومن لم يجد تمرا فليفطر على أي شيء مباح .
وأما في عيد الأضحى فإن المستحب ألا يأكل إلا بعد الصلاة من أضحيته .
التكبير يوم العيد :
وهو من السنن العظيمة في يوم العيد لقوله تعالى : ( ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ) .
وعن الوليد بن مسلم قال : سألت الأوزاعي ومالك بن أنس عن إظهار التكبير في العيدين ، قالا : نعم كان عبد الله بن عمر يظهره في يوم الفطر حتى يخرج الإمام .
وصح عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : ( كانوا في الفطر أشد منهم في الأضحى ) قال وكيع يعني التكبير إرواء 3/122
وروى الدارقطني وغيره أن ابن عمر كان إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجتهد بالتكبير حتى يأتي المصلى ، ثم يكبر حتى يخرج الإمام . وروى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن الزهري قال : كان الناس يكبرون في العيد حين يخرجون من منازلهم حتى يأتوا المصلى وحتى يخرج الإمام فإذا خرج الإمام سكتوا فإذا كبر كبروا . إرواء 2/121
ولقد كان التكبير من حين الخروج من البيت إلى المصلى وإلى دخول الإمام كان أمرا مشهورا جدا عند السلف وقد نقله جماعة من المصنفين كابن أبي شيبة وعبدالرزاق والفريابي في كتاب ( أحكام العيدين ) عن جماعة من السلف ومن ذلك أن نافع بن جبير كان يكبر ويتعجب من عدم تكبير الناس فيقول: ( ألا تكبرون ) وكان ابن شهاب الزهري رحمه الله يقول : ( كان الناس يكبرون منذ يخرجون من بيوتهم حتى يدخل الإمام ) .
ووقت التكبير في عيد الفطر يبتدئ من ليلة العيد إلى أن يدخل الإمام لصلاة العيد .
صفة التكبير
ورد في مصنف ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه : أنه كان يكبر أيام التشريق : الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد . ورواه ابن أبي شيبة مرة أخرى بالسند نفسه بتثليث التكبير .
ورأى المحاملي بسند صحيح أيضاً عن ابن مسعود : الله أكبر كبيراً الله أكبر كبيراً الله أكبر وأجلّ ، الله أكبر ولله الحمد . الإرواء 3/126
التهنئة :
ومن آداب العيد التهنئة الطيبة التي يتبادلها الناس فيما بينهم أيا كان لفظها مثل قول بعضهم لبعض : تقبل الله منا ومنكم أو عيد مبارك وما أشبه ذلك من عبارات التهنئة المباحة .
وعن جبير بن نفير ، قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض ، تُقُبِّل منا ومنك . ابن حجر إسناده حسن ، الفتح 2/446
فالتهنئة كانت معروفة عند الصحابة ورخص فيها أهل العلم كالإمام أحمد وغيره وقد ورد ما يدل عليه من مشروعية التهنئة بالمناسبات وتهنئة الصحابة بعضهم بعضا عند حصول ما يسر مثل أن يتوب الله تعالى على امرئ فيقومون بتهنئته بذلك إلى غير ذلك .
ولا ريب أن هذه التهنئة من مكارم الأخلاق ومحاسن المظهر الاجتماعية بين المسلمين .
وأقل ما يقال في موضوع التهنئة أن تهنئ من هنأك بالعيد ، وتسكت إن سكت كما قال الإمام أحمد رحمه الله : إن هنأني أحد أجبته وإلا لم أبتدئه .
التجمل للعيدين(/4)
عن عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ أَخَذَ عُمَرُ جُبَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأَخَذَهَا فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ .. رواه البخاري 948
وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم عمر على التجمل لكنه أنكر عليه شراء هذه الجبة لأنها من حرير.
وعن جابر رضي الله عنه قال : كان للنبي صلى الله عليه وسلم جبة يلبسها للعيدين ويوم الجمعة . صحيح ابن خزيمة 1765
وروى البيهقي بسند صحيح أن ابن عمر كان يلبس للعيد أجمل ثيابه .
فينبغي للرجل أن يلبس أجمل ما عند من الثياب عند الخروج للعيد .
أما النساء فيبتعدن عن الزينة إذا خرجن لأنهن منهيات عن إظهار الزينة للرجال الأجانب وكذلك يحرم على من أرادت الخروج أن تمس الطيب أو تتعرض للرجال بالفتنة فإنها ما خرجت إلا لعبادة وطاعة أفتراه يصح من مؤمنة أن تعصي من خرجت لطاعته وتخالف أمره بلبس الضيق والثوب الملون الجذاب الملفت للنظر أو مس الطيب ونحوه .
حكم الاستماع لخطبة العيد
قال ابن قدامة رحمه الله في كتابه الكافي ص 234 .
فإذا سلم خطب خطبتين كخطبتي الجمعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ، ويفارق خطبتي الجمعة في أربعة أشياء .. ثم قال :-
الرابع : أنهما سنة لا يجب استماعهما ولا الإنصات لهما ، لما روى عبد الله بن السائب قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد ، فلما قضى الصلاة قال : ( إنا نخطب من أراد أن يجلس للخطبة فليجلس ، ومن أحب أن يذهب فليذهب ) .
وقال النووي رحمه الله في كتابه المجموع شرح المهذب ص 23 :
ويستحب للناس استماع الخطبة ، وليست الخطبة ولا استماعها شرطاً لصحة صلاة العيد ، لكن قال الشافعي : لو ترك استماع خطبة العيد أو الكسوف أو الاستسقاء أو خطب الحج أو تكلم فيها أو انصرف وتركها كرهته ولا إعادة عليه .
وفي الشرح الممتع على زاد المستنقع للشيخ ابن عثيمين 5/192 :
قوله : ( كخطبتي الجمعة ) أي يخطب خطبتين على الخلاف الذي أشرنا إليه سابقاً ، كخطبتي الجمعة في الأحكام حتى في تحريم الكلام ، لا في وجوب الحضور ، فخطبة الجمعة يجب الحضور إليها لقوله تعالى : ( يا آيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ) وخطبتا العيد لا يجب الحضور إليهما ، بل للإنسان أن ينصرف ، لكن إذا بقي يجب عليه أن لا يكلم أحداً ، وهذا ما يشير إليه قول المؤلف : ( كخطبتي الجمعة ) .
وقال بعض أهل العلم ، لا يجب الإنصات لخطبتي العيدين ، لأنه لو وجب الإنصات لوجب الحضور ، ولحرم الإنصراف ، فكما كان الإنصراف جائزاً .. فالاستماع ليس بواجب .
ولكن على هذا القول لو كان يلزم من الكلام التشويش على الحاضرين حَرُم الكلام من أجل التشويش ، لا من أجل الاستماع ، بناء على هذا لو كان مع الإنسان كتاب أثناء خطبة الإمام خطبة العيد فإنه يجوز أن يراجعه ، لأنه لا يشوش على أحد . أما على المذهب الذي مشى عليه المؤلف ، فالاستماع واجب ما دام حاضراً .
الذهاب من طريق والعودة من آخر
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ رواه البخاري 986
وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يخرج ماشياً يصلي بغير أذان ولا إقامة ثم يرجع ماشياً من طريق آخر . قيل ليشهد له الطريقان عند الله يوم القيامة ، والأرض تحدّث يوم القيامة بما عُمل عليها من الخير والشرّ . وقيل لإظهار شعائر الإسلام في الطريقين . وقيل لإظهار ذكر الله ، وقيل لإغاظة المنافقين واليهود وليرهبهم بكثرة من معه . وقيل ليقضى حوائج الناس من الاستفتاء والتعليم والاقتداء أو الصدقة على المحاويج أو ليزور أقاربه وليصل رحمه .
تنبيهات على بعض المنكرات :
1- بعض الناس يعتقدون مشروعية إحياء ليلة العيد ، ويتناقلون في ذلك حديثا لا يصح ، وهو أن من أحيا ليلة العيد لم يمت قلبه يوم تموت القلوب وهذا الحديث جاء من طريقين ، أحدهما ضعيف والآخر ضعيف جدا ، فلا يشرع تخصيص ليلة العيد بذلك من بين سائر الليالي ، وأما من كان يقوم سائر الليالي فلا حرج أن يقوم في ليلة العيد .
2- اختلاط النساء بالرجال في بعض المصليات والشوارع وغيرها ، ومن المحزن أن يحدث هذا في أقدس البقاع ؛ في المساجد بل المسجد الحرام ، فإن كثيرا من النساء - هداهن الله - يخرجن متجملات متعطرات ، سافرات ، متبرجات ، ويحدث في المسجد زحام شديد ، وفي ذلك من الفتنة والخطر العظيم ما لا يخفى ، ولهذا لا بد للقائمين على ترتيب صلاة العيد من تخصيص أبواب ومسارات خاصة للنساء وأن يتأخّر خروج الرجال حتى ينصرف النساء .(/5)
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا وأن يتوب علينا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
ولمعرفة المزيد عن أحكام صلاة العيدين راجع قسم صلاة العيدين في الموقع ..(/6)
العيد في أدبيات الشيخ فتح الله كولن...!
بقلم: أديب الدباغ ...
فتح الله كولن
قرينةُ حُزْنٍ... أُختُ شجن... سَكَّابَةُ دمع... حَمَّالة ألم... نَزَّافة جرح... وحليفة وَجَع... هذه هي حال أمتنا اليوم، حتى إذا غشيها العيد، ذكرتْ واستذكرتْ، ثمَّ استعبرتْ... ذكرت غابرَ مجدها، وماضيَ عِزِّها، وأعياداً كانت إذا حلَّتْ رفعت الأمة على جناح الفرح حتّى لتكادُ تعانق السماء وتشركها فيما هي من سرور وحبور...! جلبابها الطُّهرُ والنقاء... وسربالها الشوق والمحبَّة...!
أمّا اليوم فأعيادها قَفْرٌ يبابٌ... ربيع بلا زهر... غناؤها أنين... ورقصها رقص ذبيح في قلبه سكين... تتصنَّع البهجة وعيونها دامعة... وتلبس الجديد على مُزَقِ نَفسٍ وشَتَاتِ وجدان... وظلمات قلب... كيانها مُرَقَّعُ بألف رقعة ورقعة من ألف بلدٍ وبلد... وفكرها ملموم من سَقَطِ مَتاعِ أَلفِ عقلٍ وعقل...!
غير أن أملها لم يَمُتْ بعدُ... فهو يعود إليها مع عودة كُلِّ عيدٍ جديد... وهي لا زالتْ تهفو الى يومٍ آتٍ يَشُعُّ فيها نور الحبور... وإلى معانقة العيد بقلبٍ طَرِبٍ ونفسٍ راضية مرضية...!
وعلى الرغم من أنَّ عيوننا غارقة بالدموع – كمطر الربيع – كما يقول الاستاذ فتح الله – إلاَّ أننا قادرون على أن نشهد من خلال هذه الدموع سفوح الجنة الواعدة[1] وكأنَّ هذه الأعياد التي تعاودنا كلَّ عام تضعنا في "برزخ بين الفرح والحزن"[2] وهي تنادينا لكي نتخطَّى حاجز الحزن الى عالم الفرح الجديد.
وعلى الرغم من كل هذه الأحزان التي تعشش في قلوبنا، إلاَّ أننا نشهد اليوم على مُحَيَّا الأمة دلائل يقظة روحية، ونرصد نوراً هادياً يسري في مفاصلها ويدفعها للنهوض ثانيةً إلى علياء البهجة إذا ما عاودتها الأعياد.
لقد جَفَّت اليوم – مع الأسف الشديد – ينابيع الجمال في نفوسنا، ويبست معها ينابيع المحبة التي هي تاج كل جمال على هذه الأرض، ومع الزمن بدأنا نشعر بعجزنا عن أن نحبَّ إخواننا من أبناء جلدتنا، فضلاً عن أبناء بني الانسان قاطبة، وهل العيد شيء آخر سوى الجمال والمحبَّة، وقلوبٍ وأرواحٍ تسري في قلوب الآخرين وأرواحهم حتَّى قبل أنْ تسكب أيادينا رحيق الودّ في أيدي الآخرين حين نشدُّ على أيديهم.
والاستاذ الشيخ فتح الله يأمل أن يتحقق ذلك في يوم ما فيقول: "فكم تملأني النشوة عندما أشاهد بعين الخيال الأجيال السعيدة القادمة التي وصلت إلى مرتبة العرفان من الناحية المادية والمعنوية، ورهفتْ مشاعرها وتوحدت مع أرواحها، وعانق بعضها البعض الآخر... أتخيل جيلاً ملأَ العلم عقله، وملأ الإيمان بالخالق العظيم قلبه... وامتلأ بحب الوجود، ووصل إلى ساحل الاطمئنان"[3] وما ذلك على الله تعالى بعزيز.
الهوامش:
[1] فتح الله كولن، ترانيم روح وأشجان قلب، ص 116-117، دار النيل للطباعة والنشر
[2] المصدر نفسه
[3] المصدر نفسه، ص 154
العيد السعيد
بقلم: فتح الله كولن
(حينما تُقبل الأيام على بلدي...
يكون ذلك اليوم عيدنا...)
العيد يوم فرح وسرور، ولا سيما للذين يدركون معناه، ويبدو الناس في الأعياد وهم سعداء ومطمئنون، لكونهم أصبحوا مظهرا للعفو الإلهي، وتخلصوا من تبعات أخطائهم وذنوبهم، ولكونهم يعيشون الماضي والمستقبل معا بشكل متداخل.
كل عيد يبث في الأرواح اطمئنانا، وتتداعى سلسلة من ذكريات البشر والسرور على سيماء الوطن، ليصل إلى الكمال. والسعادة التي تنبعث من تداعي هذه الذكريات في القلوب في الأعياد قد تفوق بألوانها وعمقها بشر هذه الأيام وسرورها وزينتها.
في مثل هذه الأيام نضع الماضي والمستقبل معا في خيالنا... نقبِّل أيدي آبائنا وأجدادنا العظام... والوجوه النيرة الحلوة لأحفادنا... فنشعر في قلوبنا بسعادة لا توصف للماضي وللمستقبل. ومع أن أصحاب الأنفس المتشائمة، والقلوب السوداوية لا يفهمون معنى هذا فإن جميع ألوان غبطة الماضي المجيد، وكل الآمال العريضة للمستقبل تشكل بكل ألوان الطيف إكليلاً فوق رؤوسنا ونحن نعيش احتفالات هذه الأيام.
أجل!.. فأي سعادة يمكن أن تضاهي سعادة تأمل لوحة الماضي بكل عظمته، مع المنظر الأخاذ للمستقبل في إطار واحد ؟!.
إن روح الإنسان -من ناحية المشاعر والفكر- يستطيع الإحساس بنشوة الأذواق القلبية العائدة للماضي وللمستقبل ويعيشها مثلما يعيش لحظات أذواقه الحالية، فيتجاوز الزمن ويدرك العيد ويحس به كأنه طار بأجنحة إلى أبعاد أخرى. ويختلف العيد المُدْرَك بهذا المعنى تماما عن بيانات التهنئة والمعايدات الروتينية المذاعة في هذه الأعياد. فالعيد عند أصحاب هذه المعايدات يوم باهت بعيد عن الحياة ومعزول ومنبتّ عن الماضي وعن المستقبل، وكأنه مجرد يوم توزع فيه الحلويات على الصغار.(/1)
يأتيني كل عيد بزينة المستقبل الملونة بأنواع الألوان، ويعكس في قلبي -قبل رحيله- أحلى لوحات الماضي وأروعها. فكم تملأني النشوة عندما أشاهد بعين الخيال الأجيال السعيدة القادمة التي وصلت إلى مرتبة العرفان من الناحية المادية والمعنوية، ورهفت مشاعرها، وتوحدت مع أرواحها، وتعانقت بعضها مع البعض الآخر... أتخيل جيلا ملأ العلم عقله... وملأ الإيمان بالخالق العظيم وحبه قلبه... وامتلأ بحب الوجود... ووصل إلى ساحل الاطمئنان. هذه المشاعر التي تسكبها هذه الخواطر في قلبي أحسها في أعماق وجداني، فأعيش دقائق لا مثيل لها. وفي ذلك الإقليم والجو الخيالي أرى الكهول وقد ارتقوا إلى مستوى الإنسانية الحقة... والشباب وقد ألجموا أهواءهم ... ووجوه الصغار - الشبيهة بزهرة الشمس- وكأنها تنورت بسنا ألوان وأنوار منهمرة عليهم من فوق... والنساء اللائي هيأن كل هذا الجو الساحر... أتخيل هذا فأحس بالسعادة وهي تسري في كل مفصل من مفاصلي، وفي كل عرق من عروقي.
في ذلك الجو أتخيل إدارة الدولة وكأنها مودعة في أيدي أحكم الأشخاص وأكفئهم، الذين يتناولون كل شيء بدقة وبحساسية من يقوم بالتطريز... إدارة ترى فيها الرعايا والرعاة المرشدين العارفين في صف واحد في تلاؤم وتناغم... هذا هو ما أتخيله لسيناريو المستقبل... وقد تفتحت ورود العدالة في كل مكان. أما الظلم فضعيف هزيل لا حول له ولا قوة... لا ترى لظالم صولة أو جولة، ولا تسمع أنينا لمظلوم.
تمر المدارس في خيالي في العيد وقد أصبحت مختبرات لحل أسرار الكون وطلاسمه، حيث أرى هناك أساتذة عمالقة يهيئون طلابهم لفكّ أسرار ما وراء السماوات... أساتذة ترى الوضاءة في وجوههم، والإخلاص في قلوبهم، والاستقامة في تفكيرهم.
في الأعياد أتخيل كأني أسمع طبول الغزو في الثغور... وتطرق سمعي أصوات جيوش الفتح وأصوات مدافعها... أصوات جيوش الفتح التي تصدت للأخطار لتأسيس توازن بين الدول، وضحت بأسباب الراحة والدعة وكل مباهج الحياة.
يتفتح في قلبي في كل عيد جميع ألوان الأناشيد والتكبير. وفي كل عيد ينتشي روحي بإلهاماته وبالذكريات التي يحييها في قلبي، فأحس وكأنني قد تطهرت وتجددت تماما، حتى أتمنى لو أن كل الأيام كانت أعيادا.
قد يبدو هذا للبعض ضربا من الخيال. بينما يرى فيه البعض الآخر مُثُلا سامية سبق وأن كانت لها آلاف الأمثلة، وتفسيرا موجزا لحقيقة أزلية خالدة ظهرت بوادرها في أفقنا منذ زم(/2)
العيد مدرسة التفاؤل
أ.د/ناصر بن سليمان العمر 30/9/1424
24/11/2003
فيما مضى كنت بالأعياد مسروراًَ ... ...
فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة ... ...
يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
يطأن في الطين والأقدام حافية ... ...
كأنها لم تطأ مسكا وكافورا
تذكرت أبيات الصاحب بن عباد قبيل عيد هذا العام وأنا أقلب النظر في حال الأمة يمنة ويسرة ، وجراحات المسلمين ضاربة أطنابها شرقاً وغرباً وكأنه اختزل لنا هذه الحال في تلك الأبيات التي تفيض أسى وحزناً
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد ... ...
تجده كالطير مقصوصا جناحاه
ففي فلسطين ما يُدمي القلب، ويُحدث الأسى ، وبنو صهيون قد طغوا وبغوا وتجبروا ، وفي أفغانستان أهوال تشيب لها الولدان ، فلم تنعم بالأمن منذ أكثر من عشرين عاماً ، ابتداء بجرائم الروس وفظائعهم ، وانتهاء بكبرياء الغرب وغطرستهم ، وتحزب الأحزاب وتكالبهم ضد شعب بريء مستضعف قد أوهنته الحروب ، واشتدت عليه الخطوب ، ولجأ إلى الله يشكو ظلم الظالمين ، وخذلان الجيران والمسلمين والمحبين ، ولا يزال في الشيشان جرح ينزف ، ودماء تسيل ، وضاعت أصوات الثكالى وآهات المكلومين في زحمة هذه المآسي والآلام ، حتى كدنا أن ننسى أن هناك مصيبة في بلاد الشيشان . أما كشمير والفليبين والأرخبيل ، فتشكو حالها إلى الله ، فلم تعد أخبارها تثير الحزن ، أو جراحها تهز الوجدان ، وذهبت صراخاتها أدراج الرياح .
رب وامعتصماه انطلقت ... ...
ملء أفواه الصبايا اليتم
لا مست أسماعهم لكنها ... ...
لم تلامس نخوة المعتصم
بل إنني تذكرت وأنا أقلب النظر في مآسي المسلمين وجراحاتهم حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يذكر لنا القتال الذي سيجري مع الروم، وكان مما قاله في هذا الحديث العظيم:(يقتتلون مقتلة – أما قال : لا يرى مثلها ، وأما قال : لم يرى مثلها ، حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلفهم حتى يخر ميتاً ، ثم قال : فبأي غنيمة يفرح أو أي ميراث يقاسم ) رواه مسلم .
تذكرت هذا الحديث وأنا أسمع أخبار المسلمين وأعداد القتلى بالمئات بل بالآلاف، فقلت : بأي عيد نفرح؟ أو بأي مناسبة نحتفل ؟ !
ومما زاد في الحزن والأسى ما أسمعه من استعدادات كبرى تجرى للاحتفال بالعيد ، وفيها من المآثم وكفر النعمة والاختلاط ما لا يخفى ، والذين يشاركون في هذه الاحتفالات يقعون في جملة من الأخطاء، ويرتكبون عدداً من الذنوب والآثام ، فكيف يكون شكر الله على نعمة هذا الشهر، وما أكرمنا به من الصيام والقيام والعبادة ، بمثل هذه السفاهة وخفة الأحلام !
وكيف يحتفل الناس باللهو والعبث، وجراحات المسلمين تنزف، والعدو قد استباح الدماء والأعراض ، ألا نخشى أن يحلّ بنا ما حذّر الله منه في كتابه " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمرناها تدميراً " .
ألا نتذكر قوله تعالى "وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " .
بينما دلّنا سبحانه كيف يكون شكره في ختام هذا الشهر الكريم " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبّروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون " .
إن شكر الله وحمده، والثناء عليه يكون بالمحافظة على دينه، والأخذ على أيدي السفهاء، وقصرهم على الحق قصراً ، وأطرهم عليه أطراً ، ودعم الجهاد ومساعدة المجاهدين الذين يجاهدون لإعلاء كلمة الله والدفاع عن شرعه ، وردّ كيد المعتدين في نحورهم من اليهود والنصارى، والمشركين، والعلمانيين، ومن حالفهم من المنافقين والمهزومين .
تذكرت ونحن نستقبل هذا العيد المبارك ما شدا به محمود غنيم –رحمه الله- في قصيدته الرائعة، فأشجاني، وأثار كوامن في النفس مدفونة :
ما لي وللنجم يرعاني وأرعاه ... ...
أمسى كلانا يعاف الغمض جفناه
لي فيك يا ليل آهات أرددها ... ...
أواه لو أجدت المحزون أواه
كم صرّفتنا يد كنا نصرّفها ... ...
وبات يملكنا شعب ملكناه
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد ... ...
تجده كالطير مقصوصا جناحاه
ومع تلك المآسي والجراحات ، فإن هناك الأمل المشرق ، والمستقبل الباهر -بإذن الله- الذي يبشر بفتح عظيم وانتصار قادم ، بدت بوادره تظهر في زحمة الآلام والأحزان .
إن هذه الفواجع تحمل في رحمها نوراً ساطعاً، وبشرى لا تخفى على ذي عينين ، ستنير ما بين المشرق والمغرب بإذن الله .(/1)
ولقد أرشدنا صلى الله عليه وسلم وعلمنا كيف يكون التفاؤل في أقسى الظروف والأحوال، فهاهو صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عائشة -رضي الله عنها- ويجيبها عن سؤالها : هل مرّ عليه يوم أشد من يوم أحد فقال: ( لقد لقيت من قومك -وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة- إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا ب ( قرن الثعالب ) فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل ، فناداني ، فقال: ( إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال ، لتأمره بما شئت فيهم ، قال : فناداني ملك الجبال ، وسلّم علي ، ثم قال : يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك ، وأنا ملك الجبال ، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت ؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً ) رواه مسلم .
أي تفاؤل أعظم من هذا التفاؤل ؟ يخرج هائماً على وجهه من شدة ما يلاقي من قومه، ومع ذلك يقول لملك الجبال تلك المقالة . إنها تدل على قوة إيمان، وثقة بالنصر، وبعد عن اليأس ، وأمل مشرق ، وتفاؤل لا يحدّه حدّ ، فلم تكن تلك الظروف المحيطة به -مع ما فيها من آلام وأحزان- لتحول بينه وبين هذا الأمل، واستشراف المستقبل، وحسن الظن بالله .
إنه قد خرج عن الدائرة الضيقة التي يعيش فيها إلى الأفق الرحب ، والأمل الواسع، والتطلع إلى المستقبل بثقة لا تعرف اليأس والقنوط .
وتمضي السيرة تؤكد لنا هذا المنهج الذي يربي عليه صلى الله عليه وسلم أمته ، فعندما جاء الصحابة يشكون له حالهم ، وما يلاقونه من قريش ، كما في حديث خباب ، فيفاجئهم صلى الله عليه وسلم بمقولته الرائعة ، التي تنقلهم من هذا الضيق والعناء ، إلى المستقبل الباهر، والفضاء الرحب، والسيادة المطلقة ( والله ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه ) ثم يختم ذلك بمقولة تدل على إدراك عميق لطبيعة النفس البشرية ( ولكنّكم تستعجلون ) .
أما قصة الهجرة عندما لحقه سراقة ليدلّ عليه قريش ، ثم حدث لفرس سراقة ما حدث، وبعد أن أعطاهم الأمان وطلب الدعاء ، إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له كلاماً يدلّ على ما تحمله نفسه صلى الله عليه وسلم من ثقة بالله ، وتفاؤل لا يعرف الحدود، مع أنه قد خرج من أحبّ البلاد إليه طريداً خائفاً من قريش ، ليس معه إلا صاحبه رضي الله عنه فإذا هو يبشّر سراقة بأنه سيلبس سواري كسرى ، إنه هنا صلى الله عليه وسلم يبشّر بسقوط مملكة من أعظم الدول والممالك في ذلك الزمان، وهي مملكة فارس التي كانت تتقاسم مع الروم السلطة والملك .
إنه بون شاسع، وفرق عظيم بين الحال التي كان عليها وهو يقول لسراقة ما قال، وبين ما يبشّره به من فتح عظيم، ونصر لهذا الدين يتخطى الجزيرة إلى مملكة من أعظم الممالك في التاريخ وهكذا كان .
إن تربية النفس على التفاؤل في أعظم الظروف وأقسى الأحوال، منهج لا يستطيعه إلا أفذاذ الرجال ، والمتفائلون وحدهم هم الذين يصنعون التاريخ ، ويسودون الأمم ، ويقودون الأجيال .
أما اليائسون والمتشائمون ، فلم يستطيعوا أن يبنوا الحياة السوية ، والسعادة الحقيقية في داخل ذواتهم ، فكيف يصنعونها لغيرهم ، أو يبشّرون بها سواهم ، وفاقد الشيء لا يعطيه .
ومكلف الأشياء ضد طباعها ... ...
متطلّب في الماء جذوة نار
إننا بحاجة إلى أن نربى الأمة على التفاؤل الإيجابي، الذي يساهم في تجاوز المرحلة التي تمرّ بها اليوم ، مما يشدّ من عضدها ، ويثبّت أقدامها في مواجهة أشرس الأعداء، وأقوى الخصوم؛ ليتحقق لها النصر بإذن الله .
والتفاؤل الإيجابي ، هو التفاؤل الفعّال، المقرون بالعمل المتعدي حدود الأماني والأحلام .
والتفاؤل الإيجابي هو المتمشّي مع السنن الكونية ، أما الخوارق والكرامات فليست لنا ولا يطالب المسلم بالاعتماد عليها ، أو الركون إليها ، وإنما نحن مطالبون بالأخذ بالأسباب ، وفق المنهج الرباني .
والتفاؤل الإيجابي هو التفاؤل الواقعي الذي يتّخذ من الحاضر دليلاً على المستقبل دون إفراط أو تفريط ، أو غلوّ أو جفاء .
والتفاؤل الإيجابي هو المبنيّ على الثقة بالله ، والإيمان بتحقق موعوده ، متى ما توافرت الأسباب، وزالت الموانع ( ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض ) .
والمتأمل للواقع اليوم يرى من المبشّرات مالا يستطيع جاحد أن ينكره ، ويكفي من ذلك أن هذه الأمة أصبحت الشغل الشاغل للعالم يحسب لها العدو ألف حساب ، وما تحالف العالم اليوم بقيادة أمريكا ضد المسلمين باسم (مكافحة الإرهاب) إلا دليل على قوة شأن الأمة ، وأنها بدأت تسير نحو طريق العزة والكرامة، والمجد والخلود ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ولكنكم تستعجلون ) .(/2)
وتأمّل معي هذه البشرى " لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم " .
وعضّ على هذا النبراس العظيم " فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون "
وكل عيد ونحن وأنتم والمسلمون بخير ..(/3)
العيد وأحكامه
ملخص أحكام العيد وآدابه ...
صفة صلاة العيد ...
التكبير في العيدين ...
خطبة العيد ...
أحكام متعلقة بصلاة العيد ...
العيد وآدابه وسننه
خطبة العيد:
خطبة العيد:
• ... حكم خطبة العيد.
• ... خطبة العيدين خطبتين أم خطبة واحدة.
• ... الاعتماد في الخطبة على عصا وغيره.
• ... افتتاح الخطبة بالتكبير.
• ... موضوع خطبة العيد.
• ... تكبير المأمومين مع الإمام في الخطبة.
• ... التكبير في أعطاف الخطبة.
• ... الخطبة جالسًا.
• ... الانصات للخطبة.
• ... إعادة الخطبة لمن لم يسمعها.
• ... ماذا يصنع الإمام إذا أحدث بعد الصلاة.
خطبة العيد
حكم خطبة العيدين:
عامّة الفقهاء على أنّ خطبة العيد سنة، ومستندهم في ذلك حديث عبد الله بن السائب عن النبي صلى الله علهي وسلم: ((إنّا نخطب، فمن أحبّ أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحبّ أن يذهب فليذهب))([1]).
ووجهه من الحديث: أنّ الخطبة لو وجب الاستماع إليها لوجب حضورها، فهي سنة .
قال الشوكاني: "وفيه أن تخيير السامع لا يدل على عدم وجوب الخطبة، بل على وجوب سماعها، إلاّ أن يقال إنّه يدل من باب الإشارة، لأنّه إذا لم يجب سماعها لا يجب فعلها، وذلك لأنّ الخطبة خطاب، ولا خطاب إلاّ لمخاطب، فإذا لم يجب السماع على المخاطب لم يجب الخطاب، وقد اتفق الموجبون لصلاة وغيرهم على عدم وجوب خطبته، ولا أعرف قائلاً بوجوبها"([2]).
واختلف أهل العلم في وصله وإرساله، ورجح عدد من أهل الحديث أنّ الصواب أنّه مرسل ([3]).
هذا قول عامة الفقهاء، ولا يعرف قائل بخلاف ذلك؛ إلاّ ما حكاه ابن مفلح عن القاضي أبي يعلى وابن عقيل أنهما ذهاب إلى أنها شرط .
ولاشك أنّ القول بسنية خطبة العيد لا يعني سقوط الإثم عن الإمام والمصلين إذا تُرِكت، بل يجب الإتيان بها، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم لها، وعدم تركه إيّاها، والله أعلم .
خطبة العيد خطبتان أم خطبة واحدة ؟
ذهب عامة الفقهاء ولا يُعرَف لهم مخالف إلى أنّ خطبة العيد خطبتان، يفصل بينهما بجلوس .
واستندوا في ذلك على أحاديث ضعيفة، منها:
ما رواه جابر بن عبد الله قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى فخطب قائمًا ثم قعد قعدة ثم قام ([4]).
وما رواه عامر بن سعد عن أبيه سعد: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلّى العيد بغير أذان ولا إقامة، وكان يخطب خطبتين قائمًا، فيفصل بينهما بجلسة ([5]).
قال النووي: "وما روي عن ابن مسعود أنّه قال: (السنة أن يخطب في العيدين بخطبتين يفصل بينهما بجلوس) = ضعيف غير متصل، ولم يثبت في تكرير الخطبة شيء، والمعتمد فيه القياس على الجمعة" ([6]).
قال الشيخ ابن عثيمين معلِّقًا على قول الحجَّاوي: "فإذا سلّم خطب خطبتين"، قال: "هذا ما مشى عليه الفقهاء – رحمهم الله – أنّ خطبة العيد اثنتان؛ لأنّه ورد هذا في حديث أخرجه ابن ماجه بإسناد فيه نظر: (أنه كان يخطب خطبتين)، ومن نظر في السنة المتفق عليها في الصحيحين وغيرهما تبين له أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب إلاّ خطبة واحدة، لكنه بعد أن أنهى الخطبة الأولى توجه إلى النساء ووعظهنّ، فإن جعلنا هذا أصلاً في مشروعية الخطبتين فمحتمل، مع أنّه لا يصحّ؛ لأنه إنّما نزل إلى النساء وخطبهنّ لعدم وصول الخطبة إليهن، وهذا احتمال" ([7]).
وكأنّ الشيخ – رحمه الله – يميل بهذا القول إلى أنّ العيد يخطب له خطبة واحدة، وهو قول له قوة ووجاهة، فهو موافق لظاهر الروايات الصحيحة في خطبة العيد أنّها خطبة واحدة، ولكن عامة فقهاء الأمة على أنّها خطبتان يقعد بينهما، ولا يسعنا أن نخرج عن أقوالهم – رحمة الله عليهم - .
كما لا يسعنا أن ننكر عن مَن أخذ بظاهر الروايات الصحيحة، وخطب خطبة واحدة، والله تعالى أعلم .
فصل:
استحبّ بعض أهل العلم تسليم الخطيب على المأمومين .
قال الشافعي: "فإذا ظهر على المنبر يُسلِّم ويرد الناس السلام عليه" ([8]).
وقال أبو إسحاق الشيرازي: "ويسلّم على الناس إذا أقبل عليهم" ([9]).
وقال النووي: "وإذا صعد المنبر أقبل على الناس وسلّم عليهم، وردوا عليه" ([10]).
وقال ابن مفلح: "إذا استقبلهم سلّم وأومأ بيده" ([11]).
ولا يظهر أنّ في ذلك بأس؛ إلاّ أنّ الأفضل أن يشرع في الخطبة مباشرة، لا سيما وأنّه فرغ لتوه من الصلاة بهم، فلا وجه لسلامه عليهم، ولم يكن النبيُّ إذا فرغ من الصلوات الخمس المكتوبات، وأقبل على النّاس بوجهه أن يسلم عليهم، والله أعلم.
* مراجع المسألة :
شرح فتح القدير (2/78، 79)، المبسوط (2/38)، المدونة (1/170)، الرسالة (ص: 144)، الكافي (1/264)، عقد الجواهر (1/ 243)، الأم (1/211)، الحاوي (2/492)، فتح العزيز (5/51)، نهاية المحتاج (2/391)، حلية (2/306)، شرح الزركشي (2/226)، المقنع (5/351)، الشرح الكبير (5/351)، الإنصاف (5/351)، المستوعب (3/63)، المغني (3/276)، الشرح الممتع (5/191)، المحلى (5/72).
الاعتماد في الخطبة على عصا وغيره :(/1)
استحب عدد من أهل العلم اعتماد الخطيب على قوس أو عصا وقت الخطبة .
قال الشافعي: "وأحبّ لكل من خطب أيّ خطبة كانت أن يعتمد على شيء، وإن ترك الاعتماد، أحببت أن يسكّن يديه وجميع بدنه، ولا يعبث بيديه" ([12]).
فعن البراء أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نُووِل يوم العيد قوسًا فخطب عليه ([13]).
قال الشوكاني: "الحديث فيه مشروعية الاعتماد على سيف أو عصا حال الخطبة، قيل: والحكمة في ذلك الاشتغال عن العبث، وقيل: إنه أربط للجأش" ([14]).
وعن الحكم بن حزن الكلفي: "شهدنا فيها الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام متوكئًا على عصا، أو قوس، فحمد لله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات" ([15]).
والله أعلم .
افتتاح الخطبة بالتكبير :
استحبّ عامة الفقهاء افتتاح الخطبة بتكبيرات زوائد؛ تسع تكبيرات في الأولى، وسبع تكبيرات في الثانية .
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1- عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: (السنة في التكبير يوم الأضحى والفطر على المنبر قبل الخطبة؛ أن يبتدئ الإمام قبل أن يخطب وهو قائم على المنبر بتسع تكبيرات تترى لا يفصل بينها بكلام، ثم يخطب، ثم يجلس جلسة، ثم يقوم في الخطبة الثانية فيفتتحها بسبع تكبيرات تترى لا يفصل بينها بكلام ثم يخطب)([16]).
2- وما يروى عن إسماعيل بن أمية أنه سمع أنّ التكبير في الأولى من الخطبتين تسع، وفي الآخرة سبع([17]).
3- وما يروى عن عمر بن عبد العزيز أنه فعله ([18]).
والذي يُجزم به في هذا الباب أنّه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من صحابته أنّه كبّر قبل خطبة العيد .
قال ابن المنذر: "ليس في عدد التكبير على المنبر سنة يجب أن تستعمل، فما كبّر الإمام فهو يجزي، ولو ترك التكبير وخطب لم يكن عليه في ذلك شيء" ([19]).
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية إلى أنّ السنة في افتتاح خطبة العيدين = الافتتاح بالحمد لله؛ لأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنّه افتتح بغيرها .
قال ابن تيمية: "لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه افتتح خطبة بغير الحمد، لا خطبة عيد ولا استسقاء ولا غير ذلك" ([20]).
وإليه ذهب الشوكاني ([21]).
وما ذهب إليه شيخ الإسلام هو الذي يترجح الأخذ به، ومن بدأ بالتكبير لا ينكر عليه، لأنّه اجتهاد جمعٍ من أهل العلم، ولو جمع بين الحمد والتكبير لكان حسنًا، قال في الشرح الممتع:”وقال بعض العلماء: إنّه يبتدئ بالحمد كسائر الخطب، وكما هي العادة في خطب النبي صلى الله عليه وسلم أنّه يحمد الله ويثني عليه، وعلى هذا فيقول: الحمد لله كثيرًا، والله أكبر كبيرًا، فيجمع بين التكبير والحمد”([22]).
والله تعالى أعلم .
* مراجع المسألة :
حاشية ابن عابدين (2/175)، الأم (1/211)، المجموع (5/22)، فتح العزيز (5/51، 55)، نهاية المحتاج (2/392)، روضة (2/73)، شرح الزركشي (2/288)، المقنع (5/351)، الشرح الكبير (5/351)، الإنصاف (5/351).
موضوع خطبة العيد :
استحبّ كثير من الفقهاء أن يتحدث الخطيب في عيد الفطر عن أحكام زكاة الفطر، وفي عيد الأضحى عن أحكام الأضحية .
قال محمد بن سليمان الحنفي: "يعلم الناس أحكام الفطرة، لأنّها شرعت لأجلها" ([23]).
قال الرافعيّ: "ويستحب أن يعلمهم في عيد الفطر أحكام صدقة الفطر، وفي عيد الأضحى أحكام الأضحية" ([24]).
قال العمرانِي: "ويستحب أن يعلمهم في خطبة الفطر صدقة الفطر، ووقت وجوبها، وأنّ السنة أن يخرجها قبل الصلاة، ولا يجوز تأخيرها عن يوم الفطر، ويبيّن قدرها وجنسها" ([25]).
قال الشافعي الصغير: "ويعلمهم استحبابًا في كل عيد أحكامه" ([26]).
قال الزركشي: "يذكر في كل خطبة ما يليق بها، ففي عيد الفطر يرغبهم في الصدقة، ويبين لهم حكمها، وما اشتملت عليه من الثواب، وقدر المخرج، وجنسه، وعلى من تجب، ونحو ذلك، وفي الأضحى يرغبهم في الأضحية، ويبيّن لهم حكمها، والمجزئ فيها، ووقت ذبحها، ونحو ذلك" ([27]).
والذي يظهر أنّ ذلك مستحب في عيد الأضحى؛ لكون المسلمين في حاجة لمعرفة أحكامها، لأنّ وقت ذبح الأضحية بعد الصلاة .
ولا يستحبّ ذلك في عيد الفطر؛ لأنّ وقت إخراج الزكاة قد فات، فلا ينتفعون بإخراجها إلا قبل الصلاة، أما بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أدّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات ([28]).
ولهذا ذهب ابن عابدين في حاشيته أنّه يعلمهم في الجمعة التي قبل صلاة العيد ([29]).
وقال ابن عثيمين: "ولهذا ينبغي أن يبين هذا في خطبة آخر جمعة من رمضان، فهذا هو الوقت المناسب، أما في صلاة العيد فهو غير مناسب" ([30]).(/2)
وهذا هو الأقرب إلى الهدي النبوي، كما ذكره أهل السِيَر، قال ابن جرير الطبري: "وفي هذه السنة – الثانية – أمر النّاس بزكاة الفطر، وقد قيل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب النّاس قبل الفطر بيومٍ أو يومين، وأمرهم بذلك" ([31]).
* مراجع المسألة :
حاشية ابن عابدين (2/175)، مجمع الأنهر (1/174)، فتح العزيز (5/53)، نهاية المحتاج (2/392)، البيان (2/645)، روضة (2/73)، شرح الزركشي (2/229)، الشرح الممتع (5/196).
تكبير المأمومين مع الإمام في الخطبة :
استحب بعض أهل العلم إذا كبّر الإمام في خطبته أن يكبر المأموم وينصت فيما سوى ذلك .
قال ابن أبي زيد القيرواني: "ويكبرون بتكبير الإمام في خطبته، وينصتون له فيما سوى ذلك" ([32]).
قال ابن قدامة: "فإذا كبّر في أثناء الخطبة كبّر الناس بتكبيره" ([33]).
ووجهه عندهم: أنّ التكبير في هذا اليوم مشروع للكافة، فإذا كبّر الإمام كان ذلك منه استدعاء له من الناس .
وقال المغيرة بن عياش المالكيّ: "إنّ المأموم لا يكبِّر، لأنّ شروع الإمام في التكبير يقطع الكلام جملةً، التكبير وغيره" ([34]).
والذي يترجح الأخذ به هو قول المغيرة؛ لأنَّ التكبير مع الإمام يفضي إلى التكبير الجماعي الذي لم يعرف عن السلف، والله أعلم .
* مراجع المسألة :
الرسالة (ص: 144)، المعونة (1/326)، عقد الجواهر (1/242)، حاشية الروض (2/511)، المغني (3/277).
التكبير في أعطاف الخطبة :
استحبَّ بعض أهل العلم للخطيب أن يكبر بين أعطاف خطبته، قال القاضي عبد الوهاب البغدادي:
"ويكبر في أضعاف خطبته في العيدين جميعًا، لأنّ ذلك مروي عن السلف" ([35]).
قال ابن شاس: "ثم يخطب خطبتين كخطبتي الجمعة، إلا أنه يكبر في تضاعيفها" ([36]).
قال ابن قدامة: "ويستحب أن يكثر التكبير في أضعاف خطبته" ([37]).
وروي في هذا حديث عن سعد القرظ مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبّر بين أضعاف الخطبة، ويكثر التكبير في خطبة العيدين ([38]).
* مراجع المسألة :
المعونة (1/325)، الذخيرة (2/422)، الجواهر (1/243)، نيل الأوطار (3/305)، المغني (3/277).
الخطبة جالسًا :
استحبّ بعض أهل العلم أن يخطب الخطيب قائمًا، لما روي عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم العيد، فيصلي بالناس ركعتين، ثم يسلم فيقف على رجليه فيستقبل الناس وهم جلوس فيقول: ((تصدقوا تصدقوا)) ([39]).
وإن خطب قاعدًا فلا بأس؛ لأنها غير واجبة، فأشبهت صلاة النافلة .
بل قال النووي: "بل يجوز قاعدًا ومضجعًا مع القدرة على القيام، والأفضل قائمًا" ([40]).
ولم يثبت على النبي صلى الله عليه وسلم أنّه خطب على راحلته يوم العيد في المصلى ([41]).
إلاّ أنه ورد من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ([42]).
فمن خطب قائمًا؛ فبالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ، ومن خطب قاعدًا؛ فلا بأس عليه لفعل علي رضي الله عنه .
ولكن ليس له أن يخطب مضجعًا؛ لأنّه لا يليق بحال الخطيب، والله أعلم .
* مراجع المسألة :
الأم (1/209)، المجموع (5/22)، فتح العزيز (5/6)، نهاية المحتاج (2/391)، البيان (2/644)، الشرح الكبير (5/358)، الإنصاف (5/358)، نيل الأوطار (3/306).
الإنصات للخطبة :
اختلف العلماء في مسألة الاستماع للخطبة هل يجب استماع الخطبة لمن حضرها، أم يستحب ؟ على قولين :
القول الأول :
يجب استماع خطبة العيد على من حضرها، كوجوب استماع خطبة الجمعة .
وهو قولٌ لمالك كما في رواية ابن القاسم .
ورواية لأحمد بن حنبل .
قال ابن القاسم: فقلت لمالك: فمن شهد العيدين من النساء والعبيد ممن لا يجب عليهم الخروج، فلما صلوا مع الإمام أرادوا الانصراف قبل الخطبة، يتعجلون لحاجات ساداتهم ولمصلحة بيوتهم ؟ قال: لا أرى أن ينصرفوا إلاّ بانصراف الإمام ([43]).
سئل الإمام أحمد عن حضور الخطبة يوم العيد ؟ قال: ينتظر حتى يفرغ الإمام من الخطبة، قيل له: إنّ عطاء يقول: لا عليه أن ينتظر، قال: لا أذهب إلى ما قاله عطاء، أرأيتَ لو ذهب الناس كلهم على من كان يخطب الإمام ([44]).
القول الثاني :
يستحب استماع خطبة العيد ولا يجب، فمن أحبّ جلس، وإلا انصرف .
وهو مذهب الجمهور من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة ([45]).
قال الشافعي: "وأحبّ لمن حضر خطبة عيد أو استسقاء أو حج أو كسوف أن ينصت ويستمع، وأحبّ أن لا ينصرف أحد حتى يستمع الخطبة، فإن تكلم أو ترك الاستماع أو انصرف، كرهت ذلك له، ولا إعادة عليه ولا كفارة، وليس هذا كخطبة يوم الجمعة؛ لأن صلاة يوم الجمعة فرض" ([46]).
قال ابن عليش: "وندب سماعهما أي الإنصات حال الخطبتين وإن لم يسمع لبعد أو صم" ([47]).
قال ابن قدامة: "والخطبتان سنة، لا يجب حضورها ولا استماعها" ([48]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
وعلل أصحاب هذا القول بأنّ الخطيب على من كان سيخطب لو رخّص للناس ترك الاستماع إليه .(/3)
وردّوا حديث عبد الله بن السائب، وطعنوا في صحته.
أدلة القول الثاني :
استدلوا بحديث عبد الله بن السائب قال: شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد فلما قضى الصلاة قال: ((إنا نخطب فمن أحبّ أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب))([49]).
وعلل ابن قدامة عدم وجوب استماع كونها جعلت بعد الصلاة، قال : "وإنما أخّرت الخطبة عن الصلاة والله أعلم لأنها لم تكن واجبة، جعلت في وقت يتمكن من أراد تركها من تركها، بخلاف خطبة الجمعة" ([50]).
الترجيح :
والمتأمل في هذه الأقوال لا يجد مستندًا لها من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، لذا فالأخذ بتعليل الإمام أحمد هو الذي ينبغي، ولا يرخّص في الانصراف إلا من حاجة، لأنه لو رُخِّص في ترك الاستماع من غير حاجة، جاز أن يذهب الناس كلهم، ويبقى الخطيب وحيدًا.
ومن حضر الخطبة حرم عليه التشويش على الناس في استماعها، والله أعلم .
فصل:
قال الحصفكيُّ: "ويستحب أن يستفتح الأولى بتسع تكبيرات تترى، أي متتابعات، والثانية بسبع، وهو السنة، وأن يكبر قبل نزوله من المنبر أربع عشرة" ([51]).
ولا أعلم له مستندًا في ذلك، والله تعالى أعلم .
* مراجع المسألة :
الكتاب (1/336)، المبسوط (2/38)، المدونة (1/168)، الرسالة (ص: 144)، حاشية ابن عليش (1/280)، الأم
(1/213)، فتح العزيز (5/54)، نهاية المحتاج (2/392)، البيان (2/647)، روضة (2/74)، الشرح الكبير (5/357)، الإنصاف (5/357)، المبدع (2/188)، المستوعب (3/63)، تصحيح الفروع (2/142)، حاشية الروض (2/513، 5/192)، الشرح الممتع (5/510)، نيل الأوطار (3/306).
هل يعيد الخطيب الخطبة لبعض الحاضرين إذا لم يسمعوها لبُعْدهم ؟
استحبَّ بعض أهل العلم إذا رأى الخطيب أنه لم يُسمِع بعض الحاضرين أن يعيد عليهم الخطبة.
واستدلوا لذلك بحديث جابر بن عبد الله قال: سمعته يقول: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قام فبدأ بالصلاة ثم خطب الناس بعد، فلما فرغ نبي الله صلى الله عليه وسلم نزل فأتى النساء وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء صدقة.
قلت لعطاء: أترى حقًا على الإمام الآن أن يأتي النساء فيذكرهن حين يفرغ ؟ قال: إنّ ذلك لحق عليهم، وما لهم أن لا يفعلوا ([52]).
قال الشافعي: "وإن رأى أنّ النساء وجماعة من الرجال لم يسمعوا خطبته، لم أر بأسًا أن يأتيهم فيخطب خطبة خفيفة يسمعونها، وليس بواجب عليه، لأنّه لم يرد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة، وقد خطب خطبًا كثيرةً، وفي ذلك دلالة على أنّه فعل وترك، والترك أكثر" ([53]).
قال النووي: "إذا فرغ الإمام من الصلاة والخطبة ثم علم أنّ قومًا فاتهم سماع الخطبة استحب أن يعيد لهم الخطبة سواء كانوا رجالاً أم نساءً، وممن صرّح به من أصحابنا البنديجي والمتولي، واحتجوا له بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم العيد، فرأى أنه لم يسمع النساء فأتاهنّ فذكرهنّ ووعظهنّ وأمرهن بالصدقة([54])" ([55]).
وهذا الاستحباب لا يظهر في هذه الأزمان؛ إلاّ إذا عُدِمت أو تعطلت مكبرات الصوت في المصليات؛ فيستحب للخطيب أن يعيدها لمن لم يسمعها إذا آنس منهم رغبة في ذلك منه، والله أعلم .
* مراجع المسألة :
الأم (1/212)، المجموع (5/24)، البيان (2/646).
ماذا يصنع الإمام إذا أحدث بعد الصلاة ؟
قيل للإمام مالك: أرأيت الإمام إذا أحدث يوم العيد قبل الخطبة بعدما صلى يستخلف أم يخطب بهم على غير وضوء ؟ قال: أرى أن لا يستخلف، وأن يتم بهم الخطبة ([56]).
وذلك لأنّ الطهارة ليست شرط للخطبة، والله أعلم .
([1]) أبو داود (1155)وقال: "هذا مرسل، عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم"، والنسائي (3/185)وقال كما في تحفة الأشراف (4/347): "هذا خطأ، والصواب مرسل"، وابن ماجه (1290)، والحاكم (1/295)وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ولم يتعقبه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء (629).
([2]) نيل الأوطار (3/363)ط: دار الحديث .
([3]) كيحيى بن معين، انظر: السنن الكبرى للبيهقي (3/301)، وكأبي زرعة، انظر: علل ابن أبي حاتم (1/180).
([4]) ابن ماجه (1289)، والبيهقي في الكبرى (3/198)، فيه إسماعيل بن مسلم الخولاني ضعيف، وأبو الزبير مدلس، وقد عنعن، قال الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه (265):"منكر سندًا ومتنًا، والمحفوظ أن ذلك في خطبة الجمعة".
([5]) أخرجه البزار، انظر: كشف الأستار (1/315)، وفيه عبد الله بن شبيب، قال الحافظ في اللسان (3/299): "ضعيف جدًا".
([6]) نقلاً عن ابن الهمام في شرح فتح القدير (2/79)، ولم أجده في المجموع .
([7]) الشرح الممتع (5/191 – 192).
([8]) مختصر المزنِي، انظر: الحاوي (2/492)، وبنحوه في الأم (1/397).
([9]) انظر: المجموع (5/21).
([10]) المجموع (5/21).
([11]) الفروع (2/141).
([12]) الأم (1/211).
([13]) أبو داود (1145)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1014).
([14]) نيل الأوطار (3/330 – 331).(/4)
([15]) أبو داود (1096)، وابن خزيمة (1452)، وحسَّنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (971).
([16]) أخرجه الشافعي الأم (1/211)، وعبد الرزاق (3/290)، وابن أبي شيبة (2/190)، وفيه إبراهيم بن محمد متروك، وإسماعيل لم يثبت له أن لقي أحدًا من الصحابة، فهو يعد من كبار أتباع التابعين، فلا يُقبل منه التفرد بهذه السنة، والله أعلم.
([17]) الأم (1/211)، وفيه إبراهيم بن عبد الله متروك .
([18]) الأم (1/211)، وفي سنده راوٍ يهم .
([19]) الأوسط (4/287).
([20]) مجموع الفتاوى (22/373).
([21]) السيل الجرار (1/319).
([22]) الشرح الممتع (5/195).
([23]) مجمع الأنهر (1/174).
([24]) فتح العزيز (5/53).
([25]) البيان (2/645).
([26]) نهاية المحتاج (2/392).
([27]) شرح الزركشي (2/229).
([28]) أبو داود (1609)، ابن ماجه (1827)، المستدرك (1/409)، البيهقي في الكبرى (4/162).
([29]) حاشية ابن عابدين (2/175).
([30]) الشرح الممتع (5/196).
([31]) تاريخ الطبري (2/418).
([32]) الرسالة الفقهية (ص 144).
([33]) المغني (3/277).
([34]) عقد الجواهر (1/242).
([35]) المعونة (1/325).
([36]) الذخيرة (2/442).
([37]) الجواهر (1/342).
([38]) أخرجه ابن ماجه (1287)، والحاكم مطولاً في المستدرك (3/607)، ولم يحكم عليه بشيء.والحديث من رواية عبد الرحمن بن عمّار بن سعد القرني وهو ضعيف، وقد ضعّف الحديث الألباني في الإرواء (647).
([39]) رواه ابن ماجه (1288)، وصححه الألباني في الإرواء (63).
([40]) المجموع (5/22).
([41]) نعم جاء في حديث أبي بكرة عند البخاري (67)أنّه خطب على راحلته يوم النحر، وكان ذلك في حجة الوداع، فهو ليس في موطن النزاع .
([42]) أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد حسن من ثلاث طرق (2/7، 8، 9).
([43]) المدونة (1/168).
([44]) مسائل الإمام أحمد رواية إسحاق النيسابوري (481).
([45]) الأصل (1/336)، مواهب الجليل (1/280)، روضة الطالبين (2/74)، الشرح الكبير (5/257).
([46]) الأم (1/398).
([47]) مواهب الجليل (1/280).
([48]) المغني (3/279).
([49]) حديث ضعيف لإرساله، تقدم تخريجه .
([50]) المغني (3/279).
([51]) انظر: حاشية ابن عابدين (2/175).
([52]) البخاري (961).
([53]) الأم (1/212).
([54]) البخاري (1449)، مسلم (884)، أبو داود (1143)، ابن ماجه (1273).
([55]) المجموع (5/24).
([56]) المدونة (1/170).
1- النهي عن صومهما:
فيحرم صوم يومي العيدين لحديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر، ويوم النحر([1]).
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: "وقد أجمع العلماء على تحريم صوم هذين اليومين بكل حال؛ سواء صامهما عن نذر أو تطوع أو كفارة أو غير ذلك، ولو نذر صومهما متعمداً لعينهما، قال الشافعي والجمهور: لا ينعقد نذره ولا يلزمه قضاؤهما([2]).
وقيل: إن الحكمة في النهي عن صوم العيدين أن فيه إعراضاً عن ضيافة الله تعالى لعباده([3]).
2- صلاة العيد وما يتعلق بها من أحكام وآداب:
حكمها:
سنة مؤكدة عند الجمهور، واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر الرجال والنساء أن يخرجوا لها حتى الحيّض منهن؛ لقول أم عطية رضي الله عنها: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحيّض، وذوات الخدور؛ فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين) ([4]).
وذهب بعض أهل إلى: القول بوجوبها، وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد واختاره ابن تيمية وابن القيم؛ بل ذهب ابن تيمية إلى كونها آكد من الجمعة، لحديث أم عطية السابق، وفيه الأمر بإخراج العواتق وذوات الخدور والحيض، ولم يأمر بذلك في الجمعة، وهو محمول على الوجوب إلا لقرينة ولا قرينة هنا.
وأجاب ابن حجر على ذلك بقوله: وفيه نظر؛ لأن من جملة من أمر بذلك من ليس بمكلف؛ فظهر أن القصد منه إظهار شعار الإسلام بالمبالغة في الاجتماع، ولتعم الجميع البركة([5]).
كما استدل القائلون بالوجوب بكونها مسقطة للجمعة الواجبة إذا اجتمعتا في يوم واحد، وما ليس بواجب لاسقط واجباً.
المكان الذي تصلى فيه([6]):
أ- في مكة المكرمة:
الأفضل الصلاة في المسجد الحرام؛ فإن الأئمة لم يزالوا يصلون العيد بمكة بالمسجد الحرام، قال النووي في المجموع: "... فإن كان بمكة فالمسجد الحرام أفضل بلا خلاف([7]). أي من الخروج إلى المصلى.
ب- في غير مكة:
السنة أن يصلى العيد في المصلى خارج البلد إلا لعذر من مطر أو غيره، هكذا جرى عمل المسلمين في سائر الأمصار والعصور وأما حديث أبي هريرة عند أبي داود وغيره: (أن الناس أصابهم مطر في يوم عيد فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم العيد في المسجد)([8])، ففي إٍسناده مجهول.
وحكى عن الشافعي: إن كان مسجد البلد واسعاً، فالصلاة فيه أولى لشرف البقعة.(/5)
وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى في المصلى مع شرف مسجده عليه الصلاة والسلام.
وجعل العلة الضيق والسعة مجرد تخمين لا ينتهض للاعتذار عن التأسي به صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى المصلى.
ج- ويستحب للإمام أن يخلف من يصلى بضعفة الناس - الذين يعجزون من الخروج إلى المصلى - في المسجد، كما فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
حكم خروج الصبيان والنساء:
يشرع خروج النساء في العيدين من غير فرق بين البكر والثيب والشابة والعجوز والحائض وغيرها، ما لم تكن معتدة، أو كان في خروجها فتنة، أو كان لها عذر؛ لحديث أم عطية (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحيض، وذوات الخدور؛ فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: ((لتلبسها أختها من جلبابها))([9]) وقوله: ((لتلبسها أختها من جلبابها))؟ قال النووي: "الصحيح أن معناه لتلبسها جلباباً لا تحتاج إليه".
والقول بكراهة الخروج على الإطلاق رد للأحاديث الصحيحة بالآراء الفاسدة وتخصيص الشابة يأباه صريح الحديث المتفق عليه وغيره، كما قال الشوكاني في النيل([10]).
وإنما يستحب لهن الخروج إذا التزمن بآدابه؛ فيخرجن غير متطيبات، ولا يلبسن ثوب شهرة ولا زينة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وليخرجن تفلات)) ([11])، أي غير متطيبات، ولا يخالطن الرجال بل يكن ناحية منهم. قال ابن حجر: "وفيه امتناع خروج المرأة بغير جلباب"([12]).
فإذا كانت المرأة حائضاً اعتزلت المصلى، قال النووي: "والجمهور أن هذا المنع هو منع تنزيه لا تحريم، وسببه الصيانة والاحتراز من مقارنة النساء للرجال من غير حاجة ولا صلاة"([13]).
وقال ابن المنير: الحكمة في اعتزالهن أن في وقوفهن وهن لا يصلين مع المصليات إظهار استهانة بالحال. فاستحب لهن اجتناب ذلك([14]). ولا بأس عليهن – أي الحيّض – إذا ذكرن الله تعالى، وكبرن، لقول أم عطية عند مسلم: (فليكن خلف الناس يكبرنّ مع الناس) وإنما يحرم عليها قراءة القرآن، قاله النووي([15]).
وأما خروج الصبيان إلى المصلى؛ فقد بوب البخاري رحمه الله له في الصحيح بقوله: (باب خروج الصبيان إلى المصلى)؛ قال ابن حجر: أي في الأعياد، وإن لم يصلوا. وأخرج البخاري عن ابن عباس لما سُئل: أشهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ولولا مكاني من الصفر ما شهدته.
قال ابن بطال: خروج الصبيان للمصلى إنما هو إذا كان الصبي ممن يضبط نفسه عن اللعب، ويعقل الصلاة – ويتحفظ مما يفسدها – ألا ترى ضبط ابن عباس للقصة؟ اهـ.
قال ابن حجر: وفيه نظر؛ لأن مشروعية إخراج الصبيان إلى المصلى إنما هو للتبرك، وإظهار شعار الإسلام بكثرة من يحضر منهم، ولذلك شرع للحيض ... فهو شامل لمن تقع منهم الصلاة أولا – وعلى هذا إنما يُحتاج أن يكون مع الصبيان من يضبطهم عما ذكر من اللعب ونحو سواء صلوا أم لا. وأما ضبط ابن عباس القصة فلعله لفرط ذكائه والله أعلم([16]).
وقت الخروج إلى الصلاة:
يستحب التبكير إلى العيد بعد صلاة الصبح إلا الإمام؛ فإنه يتأخر إلى وقت الصلاة لفعله صلى الله عليه وسلم ذلك، فإذا جاء إلى المصلى وقعد في مكان مستتر عن الناس فلا بأس، قاله صاحب المغنى.
وقال مالك: مضت السنة أن يخرج الإمام من منزله قدر ما يبلغ مصلاه، وقد حلّت الصلاة، فأما غيره فيستحب له التبكير، والدنو من الإمام.
الاغتسال للعيدين ووقته والتزين لهما:
يستحب أن يغتسل للعيد، وكان ابن عمر يغتسل يوم الفطر، ولم يثبت فيه حديث مرفوع ينتهض للاحتجاج به، وأحسن ما يستدل به على استحباب الغسل لهما ما رواه البيهقي بسند صحيح عن علي رضي الله عنه لما سئل عن الغسل قال: يوم الجمعة، ويوم عرفة، يوم النحر، ويوم الفطر([17]).
ولأنه يوم يجتمع الناس فيه للصلاة فاستحب الغسل فيه كيوم الجمعة. وإن اقتصر على الوضوء أجزأه.
كما يسن التنظف بحلق الشعر وتقليم الظفر – إلا في الأضحى لمن أراد أن يضحي فالسنة الإمساك حتى يذبح أضحيته([18]) –، والتسوك لأنه يوم عيد واجتماع فأشبه الجمعة.
وأما التطيب للرجال فلما سبق من وجود معنى الجمعة فيه. وأما المرفوع فلم يثبت منه شيء ينتهض للاحتجاج به([19]). وصح عن ابن عمر أنه كان يتطيب يوم الفطر([20]).
وقال مالك: سمعت أهل العلم يستحبون الطيب والزينة في كل عيد.
كما يستحب أن يلبس أحسن ما يجد من الثياب لما ثبت عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يلبس يوم العيد بردة حمراء؛ ولقول عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، ابتع هذه تتجمل بهما في يوم العيدين والوفد([21]). فدل على أن التجمل عندهم في هذه المواضع كان مشهوراً([22]).(/6)
وأما المعتكف فقد قال صاحب المغني: "إنه يستحب له الخروج في ثياب اعتكافه ليبقى عليه أثر العبادة والنسك". وقد رد الشيخ ابن عثيمين لهذا القول، وقال: "إنه خلاف السنة، وأن السنة في العيد أن يتجمل سواء كان معتكفاً أم غير معتكف"([23]).
وقت الاغتسال:
قولان: الأول: بعد طلوع الفجر لأنه غسل الصلاة في اليوم فلم يجز قبل الفجر كغسل الجمعة: فإن اغتسل قبل الفجر لم يصب سنة، وهذا ظاهر كلام الخرقي كما ذكر صاحب المغني، ورواية في مذهب الشافعي.
الثاني: جواز الغسل قبل الفجر وبعده، وهو الصحيح من مذهب الشافعية، والمنصوص عليه عند أحمد؛ لأن زمن العيد أضيق من وقت الجمعة، فلو وُقِف على الفجر ربما فات،؛ولأن المقصود منه التنظف، وذلك يحصل بالغسل في الليل لقربه من الصلاة، والأفضل أن يكون بعد الفجر ليخرج من الخلاف، وليكون أبلغ في النظافة لقربه من الصلاة، ولهذا اختيار صاحبه المغني([24]).
الأكل قبل الخروج للصلاة في الفطر دون الأضحى:
يسن أكل تمرات وتراً قبل الخروج إلى الصلاة في عيد الفطر لما رواه البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وتراً.
فإن لم يجد تمراً أفطر ولو على ماء، قاله ابن حجر في الفتح([25]).
أما في عيد الأضحى فالسنة ألا يأكل حتى يرجع من المصلى فيأكل من أضحيته إن كان له أضحية، وذلك لما رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد من حديث بريدة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل يوم الأضحى حتى يرجع) ([26]). زاد أحمد: (فيأكل من أضحيته).
أيهما أفضل المشي أم الركوب؟
والسنة أن يأتي العيد ماشياً وعليه السكينة والوقار لما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث علي رضي الله عنه: (إن من السنة أن تأتي العيد ماشياً)، والحديث مع ضعفه فإن له شواهد كثيرة يدل مجموعها على أن له أصلاً؛ منها حديث ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى العيد ماشياً، ويرجع ماشياً([27]).
فإن كان له عذر، أو كان مكانه بعيداً فركب فلا بأس.
قال أحمد رحمه الله: نحن نمشي ومكاننا قريب، وإن بَعُد ذلك عليه فلا بأس إن يركب، ذكره صاحب المغني.
وقال البخاري: باب المشي والركوب إلى العيد ... ولم يذكر من الأحاديث ما يدل على مشي ولا ركوب. قال ابن حجر في توجيه ترجمة الباب: يحتمل أن يكون البخاري استنبط من قوله في حديث جابر: (وهو يتوكأ على بلال) ([28])، مشروعية الركوب لمن احتاج إليه، وكأنه يقول: الأولى المشي حتى يحتاج إلى الركوب ... والجامع بين الركوب والتوكؤ الارتفاق بكل منهما. اهـ.
وقال النووي في المجموع: ولا بأس أن يركب في الرجوع لما ذكره المصنف.... ([29]) قال: وصورته إذا لم يتضرر الناس بركوبه، فإن تضرروا به لزحمة وغيرها كره لما فيه من الإضرار. اهـ.
التكبير في الطريق إلى المصلى:
ومن السنة التكبير في الطريق إلى المصلى ورفع الصوت بالتكبير للرجال، لما أخرجه البيهقي بسند حسن عن ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين مع الفضل ابن عباس وعبد الله والعباس وعلي وجعفر والحسن والحسين، وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة وأيمن ابن أم أيمن رضي الله عنهم رافعاً صوته بالتهليل والتكبير)([30]).
وأخرج الدارقطني والفريابي أن ابن عمر كان إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى، ثم يكبر حتى يأتي الإمام([31]).
ويتأكد التكبير في الفطر عنه في الأضحى لقول الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185]. ولما أخرجه الفرياني بسند صحيح عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: (كانوا في الفطر أشد منهم في الأضحى). قال وكيع: يعني في التكبير([32]).
هل يكبر حتى يأتي المصلى أو حتى يخرج الإمام؟
روايتان عن أحمد ذكرهما صاحب المغني، وسبق أن ابن عمر كان يكبر حتى يأتي الإمام.
صيغة التكبير:
ثبت عن ابن مسعود عن ابن أبي شيبة أنه كان يقول: (الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد)، بتشفيع التكبير، وفي رواية أخرى له أيضاً بتثليث التكبير وهي صحيحه([33]).
وقال ابن حجر في الفتح: أصح ما ورد فيه ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان قال: (كبروا الله، الله أكبر، الله، الله أكبر كبيراً) ([34]).
حكم التكبير الجماعي:
سُئل الشيخان ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله عن حكم التكبير الجماعي – أي اجتماع الناس على التكبير في نفس واحد بنغمة واحدة – فأجابا: أن ذلك الاجتماع غير مشروع، وأنه خلاف السنة والثابتة من فعل السلف رضوان الله عليهم. اهـ.(/7)
وقد استدل البعض بما أخرجه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم أن ابن عمر رضي الله عنه كان يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل السوق حتى ترتج منى تكبيراً، وكذا قوله: ... وكنَّ النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد([35])، على مشروعية التكبير على الصورة المذكورة، وهو لا يدل صراحة على ذلك لاحتمال أن يكون المراد ابتداء الذكر لا المداومة على ذلك، فالمسألة اجتهادية وهي محل نظر بين أهل العلم، والله أعلم بالصواب.
لكن ينبغي أن لا يتخذ ذلك سبيلاً للتنازع والتشاحن وذم أحد الفريقين الآخر فهذا لا يجوز بالاتفاق.
التطوع قبل صلاة العيد وبعدها:
لم يثبت لصلاة العيدين سنة قبلها ولا بعدها، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه يصلون إذا انتهوا إلى المصلى شيئاً قبل الصلاة ولا بعدها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم العيد فصلى ركعتين، لم يصل قبلهما ولا بعدهما([36]).
قال ابن العربي: التنفل في المصلى لو فُعل لنقل، ومن أجازه رأى أنه وقت مطلق للصلاة، ومن تركه رأى النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ومن اقتدى فقد اهتدى([37]).
قال ابن حجر: وأما مطلق النفل فلم يثبت فيه منع بدليل خاص إلا إن كان ذلك في وقت الكراهة الذي في جميع الأيام والله أعلم([38]).
وفرق بعضهم بين المأموم والإمام، فكرهه للإمام وأباحه للمأموم.
وذهب آخرون إلى التفريق بين قبل الصلاة وبعدها على قولين ذكرهما ابن المنذر عن أحمد:
الأول: جواز الصلاة بعدها، وهو قول الأوزاعي والنووي والحنفية وبه يقول الكوفيون.
الثاني: جواز الصلاة قبلها لا بعدها، وهو قول الحسن البصري وجماعة، وهو مذهب البصريين.
ولعله للجمع بين هذه الأقوال أن يقال:
إن السنة ترك الصلاة قبلها وبعدها في المصلى، فإذا صلى بعدها في البيت، سواء كان إماماً أو مأموماً جاز. والله أعلم. ويؤيده ما أخرجه ابن ماجه وأحمد والحاكم بإسناد حسن.
عن أبي سعيد الخدري قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين) ([39]).
وذهب بعض أهل العلم – كالشيخ ابن عثيمين – إلى أن مصلى العيد مسجد، فإذا دخله الإنسان فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، واستدل بمنع الرسول صلى الله عليه وسلم الحيض أن يمكثن فيه، وأمرهن باعتزاله([40]).
وقد سبق ذكر كلام أهل العلم عن حكمة أمر الحيض باعتزال المصلى.
أما إن صلى الناس العيد في المسجد فالأصل صلاة ركعتي تحية المسجد.
وقت صلاة العيد:
يبدأ وقتها إذا ارتفعت الشمس قيد رمح (حوالي ثلاثة أمتار)، ويمتد إلى الزوال، ولم يصح في تحديدها حديث مرفوع ينتهض للاحتجاج به، وأما حديث الأسود بن قيس عن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم يوم الفطر والشمس على قيد رمحين، والأضحى على قيد رمح، ففي إسناده المعلى بن هلال، اتفقوا على تكذيبه.
وقال أصحاب الشافعي: أول وقتها إذا طلعت الشمس لحديث يزيد بن خُمير قال: خرج عبد الله بن بسر، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيد فطر أو أضحى، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: إنْ كنا قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح([41]).
وليس في ذلك دليل لما ذهبوا إليه؛ لأن معناه إذا مضى وقت الكراهة، ويكون إنكاره إبطاء الإمام عن وقتها المجمع عليه. ويرده أيضاً عموم نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند بلوغ الشمس حتى ترتفع وعليه جرى عمل المسلمين في جميع العصور والأمصار.
ويُسن تقدم الأضحى ليتسع وقت الأضحية، وتأخير الفطر ليتسع وقت إخراج الصدقة.
حكم الأذان والإقامة لها وقول الصلاة جامعة:
قال ابن القيم في الزاد: "كان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى المصلى أخذ في الصلاة من غير أذان ولا إقامة ولا قول الصلاة جامعة، والسنة أن لا يُفعل شيء من ذلك".
وأخرج مسلم عن عطاء قال: "أخبرني جابر أن لا أذان لصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام، ولا بعدها يخرج، ولا إقامة، ولا نداء، ولا شيء، لا نداء يومئذ ولا إقامة".
قال الشيخ ابن باز حفظه الله في تعليقه على حديث جابر: "هذا... ومن هنا يعلم أن النداء للعيد بدعة بأي لفظ كان، والله أعلم"([42]).
صفة صلاة العيد:
عدد ركعاتها:
لا خلاف بين أهل العلم أن صلاة العيد مع الإمام ركعتان وإنما اختلفوا فيمن لم يدركها معه كما سيأتي بمشيئة الله، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (صلاة العيد والأضحى ركعتان ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد خاب من افترى) ([43]).
ما يقرأ فيها:
لا خلاف بين أهل العلم في مشروعية قراءة الفاتحة وسورة في كل ركعة من صلاة العيد.(/8)
ويستحب أن يقرأ في الأولى بسبح، وفي الثانية بالغاشية لحديث النعمان بن بشير عند مسلم وغيره قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين، وفي الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]. و{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]. وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأ بهما).
أو يقرأ بـ {ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ} [ق:1].و{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]. لحديث أبي واقد الليثي عند مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفطر والأضحى بـ {ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ} [ق:1].و{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1].
ومهما قرأ به أجزأه، ولكن الأولى اتباع السنة.
الجهر فيها:
يسن الجهر فيهما، قال ابن المنذر: أكثر أهل العلم يرون الجهر بالقراءة، وفي إخبار من أخبر بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم دليل على أنه كان يجهر.
التكبير فيها:
يستحب للإمام أن يكبر في الصلاة سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية، ثبت هذا عن جماعة من الصحابة والتابعين، كعمر وعثمان وعلي وأبي هريرة وابن عباس وأبي سعيد وغيرهم ، وروى ذلك عن فقهاء المدينة السبعة، وعمر بن عبد العزيز والزهري ومالك.
وأما المرفوع فمختلف فيه، ومن ذلك ما روته عائشة أنه صلى الله عليه وسلم: (كان يكبر في الفطر والأضحى: في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمساً سوى تكبيرتي الركوع) ([44]).
وأخرجه الدارقطني عنها بلفظ (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في العيدين اثنى عشر تكبيرة سوى تكبيرتي الاستفتاح) ([45]) وهذا مذهب الشافعي والأوزاعي وإسحاق.
وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح على شرط الشيخين، عن ابن عباس أنه كان يكبر في العيد في الأولى سبع تكبيرات بتكبيرة الاستفتاح وفي الآخرة ستاً بتكبيرة الركعة كلهن قبل القراءة([46]).
وأما التكبير أربعاً فقد ثبت من فعل بعض الصحابة، والمرفوع منه فيه ضعف يسير([47]).وهذا مذهب الأحناف.
وصح عن ابن عباس أنه قال: (من شاء كبر سبعاً، ومن شاء كبر تسعاً، وبإحدى عشرة وثلاث عشرة) ([48]).
قال الشيخ الألباني: ويجمع بينها أنه كان يرى التوسعة في الأمر وأنه يجيز كل ما صح عنه... والله أعلم. اهـ.
وكون بعض الصحابة كبر سبعاً وخمساً وبعضهم كبر أربعاً دون إنكار أحد من الصحابة شيئاً من ذلك، يدل على ثبوت التكبيرتين والله أعلم، إذ التكبير فيها عبادة، والأصل فيها التوقيف([49]).
رفع اليدين مع كل تكبيرة:
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
الأول: أنه يستحب رفع اليدين مع كل تكبيرة مثل رفعها مع تكبيرة الإحرام، وهو قول عطاء والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي وأحمد ورواية عن مالك، ودليلهم عموم حديث وائل بن حجر أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير([50]).
قال أحمد: أما أنا فأرى أن هذا الحديث يدخل فيه هذا كله.
وروى عن عمر أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة في الجنازة، والعيد([51]).
الثاني: أنه لا يستحب رفعهما في غير تكبيرة الإحرام وهو قول الثوري ورواية عن مالك واختاره الشيخ الألباني.
ويمكن توجيه القولين على ما ذكره مالك ونقله عنه ابن المنذر قال: (ليس في ذلك سنة لازمة، فمن شاء رفع يديه فيها كلها وفي الأولى أحب إلي)([52]).
ما يقول بين التكبير:
يحمد الله ويثني عليه يُصلى على النبي صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين، ودليل ذلك ما رواه الأثرم واحتج به أحمد، عن عقبة بن عامر قال: سألت ابن مسعود عما يقول بعد تكبيرات العيد، قال: (يحمد الله ويثني عليه، ويُصلى على النبي صلى الله عليه وسلم)([53]).
فإن قال غيره نحو أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أو ما شاء من الذكر، فجائز، قاله صاحب المغني، وهو قول الشافعي، ويؤيده ما أخرجه البيهقي بسند جيد عن ابن مسعود قال في صلاة العيد: (بين كل تكبيرتين حمد الله عز وجل، وثناء على الله) ([54]).
وقال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي: يكبر متوالياً، لا ذكر بينه، لأنه لو كان هناك ذكر بينها لنقل إلينا كما نقلت (أي التكبيرات).
وأثر ابن مسعود صحيح يشهد للقولين الأوليين، والله أعلم.
إذا شك في عدد التكبيرات، ماذا يصنع؟
إذا شك في عدد التكبيرات، بنى على اليقين وهو الأقل.
فإذا ترك التكبير عمداً أو سهواً؟
لم تبطل صلاته لأنه سنة، قال ابن قدامة: ولا أعلم فيه خلافاً.
فإن نسى التكبير، وشرع في القراءة لم يعد إليه، وهو أحد قولي الشافعي واختاره ابن عثيمين، وقيل يعود إلى التكبير لأنه ذكره في محله وهو القيام وهذا قول مالك والقول الثاني للشافعي.
وإن ذكر التكبير بعد القراءة فأتى به لم يُعد القراءة وجهاً واحداً.
وإن لم يذكره حتى ركع سقط وجهاً واحداً لفوات محله.
المسبوق إذا أدرك الإمام بعد تكبيره:(/9)
قال ابن قدامة: قال ابن عقيل: يكبر؛ لأنه أدرك محله، ويحتمل أن لا يكبر، لأنه مأمور بالإنصات إلى قراءة الإمام، ويحتمل أنه إن كان يسمع قراءة الإمام أنصت وإن كان بعيداً كبر. اهـ.
قلت: والإنصات أولى؛ لأنه مأمور به حال قراءة الإمام، بخلاف التكبير فهو سنة بالاتفاق، كما أنه – أي التكبير – سنة فات محلها، والله أعلم.
متى يقول دعاء الاستفتاح؟
يدعو بدعاء الاستفتاح عقيب التكبيرة الأولى، ثم يكبر تكبيرات العيد، ثم يتعوذ، ثم يقرأ، وهذا مذهب الشافعي ورواية عن أحمد واختاره ابن قدامة.
والرواية الأخرى عن أحمد أن الاستفتاح بعد التكبيرات، لأن الاستفتاح تليه الاستعاذة وهي قبل القراءة.
قال ابن قدامة: ولنا أن الاستفتاح شرع ليستفتح به الصلاة، فكان في أولها كسائر الصلوات، والاستعاذة شرعت للقراءة، فهي تابعة لها، فتكون عند الابتداء بها... ثم قال: وأياما فعل كان جائزاً([55]).
خطبة العيدين والسنة فيها:
حكمها:
الخطبة بعد صلاة العيد سنة، والاستماع إليها كذلك لحديث عبد الله بن السائب قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد فلما قضى الصلاة قال: (إنا نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب)([56])، ولكن الاستماع لها أفضل.
قال الشافعي: لو ترك الاستماع كرهته([57]).
وقتها:
لا خلاف بين المسلمين أن السنة في خطبة العيد أن تكون بعد الصلاة، وأن ما أحدثه بنو أمية من جعلها قبل الصلاة بدعة محدثة مخالفة لسنته صلى الله عليه وسلم، وقد أنكر عليهم فعلهم، ودليل ذلك ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وعثمان، كانوا يُصلون العيدين قبل الخطبة.
فلو خطب قبل الصلاة فهو مسيء، وفي الاعتداء بالخطبة قولان: أصحهما أنه لا يعتد بها لقوله عليه الصلاة والسلام: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، وقياساً على السنة الراتبة بعد الفريضة إذ قدمها عليها، قاله النووي في المجموع([58]).
صفتها:
يستحب افتتاح الخطبة بحمد الله تعالى، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم غير هذا.
قال ابن القيم: كان صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبه كلها بالحمد، ولم يحفظ عنه في حديث واحد صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يكبر بين أضعاف الخطبة، ويكثر التكبير في خطبة العيد)([59]). وإن كان في فطر حث على صدقة الفطر، وبين بعض أحكامها، وإن كان في أضحى حث على سنة الأضحية وبين السن المجزئة فيها.
تكرار الخطبة:
واختلف في تكرار الخطبة، فأكثر أهل العلم أن الإمام يخطب للعيد خطبتين، يجلس بينهما قياساً على خطبتي الجمعة، ولحديث جابر قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى فخطب قائماً، ثم قعد قعدة، ثم قام) ([60]).
والقول الآخر: أنه يخطب للعيد خطبة واحدة لا يجلس أثناءها، وقياس خطبة العيد على خطبة الجمعة قياس مع الفارق؛ لأن الأولى سنة، والثانية واجبة، كما أن خطبة الجمعة تكون قبل الصلاة وتلك بعدها، وأما السنة، فلم يثبت من طريق صحيح يحتج به أن للعيد خطبتين يفصل بينهما الإمام بجلوس، ونقل صاحب فقه السنة عن النووي قوله: لم يثبت في تكرير الخطبة شيء([61]).
حكم اتخاذ المنبر لها:
قال البخاري: باب الخروج إلى المصلى بغير منبر، وذكر حديث أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم ... قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان – وهو أمير المدينة – في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجذبت بثوبه فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم والله([62]).
وفي رواية: (فقام رجال فقال: يا مروان، خالفت السنة، أخرجت المنبر في يوم عيد، ولم يكن يخرج فيه، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد أدى ما عليه)([63]).
قال ابن حجر: يحتمل أن تكون القصة تعددت، وقال: وفيه أن الخطبة على الأرض عن قيام في المصلى أولى من القيام على المنبر، والفرق بينه وبين المسجد أن المصلى يكون بمكان فيه فضاء فيتمكن من رؤيته كل من حضر، بخلاف المسجد فإنه يكون في مكان محصور فقد لا يراه بعضهم([64]).
حكم الكلام أثناء الخطبة:
يكره الكلام والإمام يخطب يوم العيد ... نقله في المجموع من الشافعي، وابن أبي شيبة في مصنفه عن الحسن وعطاء وغيرهما، ولا شك أن من الأدب ألا يتكلم لأنه إذا تكلم أشغل نفسه وغيره.
مخالفة الطريق:
ذهب أكثر أهل العلم إلى استحباب الذهاب إلى صلاة العيد في طريق، والرجوع في طريق آخر سواء كان إماماً أو مأموماً لحديث جابر عند البخاري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى العيد يرجع في غير الطريق الذي ذهب فيه.(/10)
ويجوز الرجوع في الطريق الذي ذهب فيه كما ثبت هذا من فعل بعض الصحابة رضوان الله عليهم، عند أبي داود وغيره.
اجتماع العيد والجمعة:
إذا اجتمع العيد والجمعة في يوماً واحد سقطت الجمعة عند أكثر أهل العلم([65]) عمن صلى العيد لحديث زيد بن أرقم قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد ثم رخص في الجمعة، فقال: (من شاء أن يُصلى فليصل)([66]).
أما الإمام ففي سقوطها عنه روايتان:
الأول: لا تسقط لقوله عليه الصلاة والسلام: (قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون)([67])؛ ولأن الإمام لو تركها لامتنع فعل الجمعة في حق من تجب عليه، ومن يريدها ممن سقطت عنه، بخلاف غيره من الناس.
والثانية: تسقط لعموم قوله (فمن شاء)، ولما أخرجه النسائي وأبو داود عن وهب بن كيسان قال: اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير، فأخَّر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج فخطب ثم نزل فصلى، ولم يُصلي للناس يوم الجمعة، فذكرت ذلك لابن عباس، فقال: أصاب السنة ([68])، وفي رواية أبي داود: (فجمعهما جميعاً فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر)([69]).
قال الشوكاني: ويدل على أن الترخيص عام لكل واحد ترك ابن الزبير للجمعة وهو الإمام إذا ذاك، وقول ابن عباس أصاب السنة، رجاله رجال الصحيح، وعدم الإنكار عليه من أحد من الصحابة، وأيضاً لو كانت الجمعة واجبة على البعض لكانت فرض كفاية، وهو خلاف معنى الرخصة. اهـ([70]).
قلت: وهذا الذي ذكره الإمام الشوكاني رحمه الله فيه نظر، إذ يحتمل أن يكون ابن الزبير رضي الله عنه قد قدَّم الجمعة إلى قبل الزوال على القول بذلك، ويؤيده قول ابن عباس: أصاب السنة، إذ السنة في حق الإمام صلاة الجمعة وإن صلى العيد كما هو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: ((وإنا مجمعون))، والله أعلم.
وهل يُصلى الظهر إذا ترك الجمعة؟
في وجوبها، فقيل تجب صلاة الظهر على من تخلف عن الجمعة لحضوره العيد، وقيل لا تجب لحديث ابن الزبير عن أبي داود، وقد تقدم، قال الشوكاني: قوله: (لم يزد عليهما حتى صلى العصر): ظاهره أنه لم يصل الظهر، وفيه أن الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه المسوغة لم يجب على من سقطت عنه أن يُصلى الظهر وإليه ذهبه عطاء([71]).
قال الخطابي: وهذا لا يجوز أن يحمل إلا على قول من يذهب إلى تقديم الجمعة قبل الزوال، فعلى هذا يكون ابن الزبير قد صلى الجمعة فسقط العيد؛ والظهر، ولأن الجمعة إذا سقطت مع تأكدها، فالعيد أولى أن يسقط بها، أما إذا قدم العيد فإنه يحتاج إلى أن يُصلى الظهر في وقتها إذا لم يصل الجمعة([72]).
قال الشوكاني في التعقيب على هذا التوجيه: ولا يخفى ما في هذا الوجه من التعسف([73]).
وقال صاحب فقه السنة: والظاهر عدم الوجوب([74]). أي عدم وجوب الظهر لمن شهد العيد وتخلف عن الجمعة.
حكم من فاتته صلاة العيد:
أ - الجماعة إذا فاتتها صلاة العيد بسبب عذر: فإنها تخرج من الغد فتصلى العيد، لما رواه أحمد والنسائي وابن ماجه بسند صحيح من حديث أبي عمير بن أنس قال: حدثني عمومتي من الأنصار من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، قالوا: أغمى علينا هلال شوال وأصبحنا صياماً فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغد([75]).
قال الشافعي: إن علم بعد الغروب صلاها من الغد، وإن علم بعد الزوال لم يُصلِّ.
قال الخطابي: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى، وحديث أبي عمير صحيح، فالمصير إليه واجب([76]).
ب - الواجب إذا فاتته مع الإمام:
1- من فاتته لعذر: من كان يوم العيد مريضاً أو محبوساً، أو خرج ليصلي ففاتته الصلاة مع الإمام، وعادته يُصلى العيد، فهؤلاء يصلون جماعة وفرادى.
قال ابن تيمية رحمه الله: وهؤلاء بمنزلة الذين استخلف علي من يُصلى بهم([77]).
2- من تركها لغير عذر: ظاهر كلام ابن تيمية أنه لا يشرع له قضاؤها، فقال: والذي خرج ليصل ففاتته مع الإمام يصلى يوم العيد، بخلاف من تعمد الترك([78]).
وأكثر العلماء يقولون بمشروعية القضاء مطلقاً سواء كان الترك اضطرارًا أم اختياراً. قال البخاري: باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين.
قال ابن حجر: في هذه الترجمة حكمان: مشروعية استدراك صلاة العيد كأصلها إذا فاتته مع الجماعة سواء كانت بالاضطرار أو بالاختيار، وكونها تقضى ركعتين كأصلها([79]).
والمشهور عن مالك أنه لا قضاء عليه أصلاً؛ لأنها صلاة من شرطها الجماعة والإمام كالجمعة، وقال أبو حنيفة يتخير بين القضاء والترك.
متى يقضيها:(/11)
إذا فاتت حتى تزول الشمس، وأحب قضاءها، قضاها متى أحب، وقيل لا يقضيها إلا من الغد قياساً على الجماعة إذا فاتتها الصلاة، وهو قياس مع الفارق، قال ابن قدامة: "لأن ما يفعله تطوع فمتى أحب أتى به ... بخلاف الحالة الأولى (أي الجماعة إذا فاتها العيد) التي يعتبر لها شروط العيد، ومكانه وصفة صلاته، فاعتبر لها الوقت"([80]).
أين يقضيها؟
قيل لأبي عبد الله: أين يُصلي؟ (أي من فاتته الصلاة) قال: إن شاء مضى إلى المصلى، وإن شاء حيث شاء([81]).
صفة القضاء:
يقضيها ركعتين كصلاة الإمام يكبر فيها نحو تكبيرة ويجهر كجهره لما روى عن أنس، أنه (كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام بالبصرة جمع أهله ومواليه، ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فيصلى بهم ركعتين، يكبر فيهما)([82])؛ ولأنه قضاء صلاة فكان على صفتها كسائر الصلوات، وهي مخير، إن شاء صلاها وحده، وإن شاء في جماعة([83])، وهذا مذهب الشافعي ورواية عن مالك ورواية عن أحمد.
والمشهور في مذهب أحمد أن من فاتته صلاة العيد صلى أربع ركعات، كصلاة التطوع، وهي المختارة عند محققي أصحابه، واختاره ابن قدامة في المغني لقول ابن مسعود رضي الله عنه: (من فاته العيد مع الإمام فليصل أربعاً)([84]). قال الإمام أحمد: يقوى ذلك حديث علي، أنه أمر رجلاً يُصلى بضعفة الناس أربعاً ولا يخطب، ولأنه قضاء صلاة العيد فكان أربعاً كصلاة الجمعة([85]).
قال الزين ابن المنير: لكن الفرق ظاهر (أي بين العيد والجمعة) لأن من فاتته الجمعة يعود لفرضه من الظهر بخلاف العيد([86]).
وقال أبو حنيفة، وهي رواية عن أحمد: يخير بين أن يصلي ركعتين أو أربعاً.
وفرق بعضهم بين القضاء في المصلى وغيرها، وفي الجماعة وغيرها.
وذهب ابن رشد إلى أن أقرب الأقوال: هما قول الشافعي وقول مالك([87]).
قال وأما سائر الأقاويل في ذلك فضعيف لا معنى له([88]).
التكبير في العيدين:
يستحب للناس إظهار التكبير في ليلتي العيدين في مساجدهم، ومنازلهم، وطرقهم، مسافرين كانوا أو مقيمين لظاهر قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185]. وإظهاره يكون برفع الصوت به، لما في ذلك من إظهار شعائر الإسلام وتذكير الغير، كما ثبت عن ابن عمر أنه كان يكبر في قبته بمنى، يسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً([89]).
وقت التكبير:
اختلف العلماء في ابتداء وانتهاء وقت التكبير في العيدين:
أ - وقته في عيد الفطر :
قال مالك: يكبر يوم الفطر دون ليلته، وانتهاؤه عنده إلى أن يخرج الإمام.
وعن أحمد والشافعي: ابتداؤه من رؤية الهلال لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} الآية، وإكمال العدة يكون بغروب الشمس من ليلة العيد، وفي انتهائه عند أحمد روايتان، إحداهما: إذا خرج الإمام، وهو قول الشافعي أيضاً.
ب - وقته في الأضحى:
اختلفوا فيه كذلك على أقوال، ولم يثبت في شيء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث، وأصحها كمال قال الحافظ في الفتح، قول علي وابن مسعود([90]) أنه من صبح يوم عرفة إلى عصر آخر أيام منى وهو الثالث عشر من ذي الحجة. وهذا قول أحمد وأبي حنيفة، والراجح من مذهب الشافعي([91]).
وهذا في التكبير المطلق، ويكون على كل حال في الأسواق وغيرها، وفي كل زمان.
أما المقيد الذي يكون عقيب الصلوات فيشرع في عيد الأضحى بلا خلاف، وهل يشرع في عيد الفطر؟ قولان أصحهما أنه لا يشرع لعدم ورود الخبرية، وهو ظاهر كلام أحمد وجمهور الشافعية.
وإذا نسي الإمام التكبير كبر المأموم، وهذا قول الثوري، ذكره ابن قدامة في المغني([92]).
والمسبوق ببعض الصلاة يكبر إذا فرغ من قضاء ما فاته، نص عليه أحمد، وهو قول أكثر أهل العلم.
حكم التكبير لمن صلى منفرداً في هذه الأوقات:
الجمهور أن المنفرد يكبر بعد الصلاة لأنه ذكر مستحب للمسبوق، فاستحب للمنفرد، وهو قول مالك والشافعية ورواية عن أحمد.
والمشهور من مذهب أحمد أن المنفرد لا يكبر لقول ابن مسعود: إنما التكبير على من صلى في جماعة([93]). وكذا نقل عن ابن عمر أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده، وهو قول أبي حنيفة.
حكم التكبير خلف النوافل:
الجمهور أنه لا يكبر خلف النوافل.
والراجح عن أصحاب الشافعي جوازه، ورجحه ابن حجر في الفتح.
هل يكبر عقيب صلاة العيد؟
ظاهر كلام أحمد أنه يكبر، لأنها صلاة مفروضة في جماعة فأشبهت الفجر، واختاره صاحب المغني([94]). وقيل لا يسن لأن الأثر إنما جاء في المكتوبات.
حكم تكبير النساء:
روايتان عن أحمد، الأولى: يكبرن، وكان النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان، وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد([95]).
وينبغي لهن أن يخفضن أصواتهن حتى لا يسمعهن الرجال.
والرواية الثانية عند أحمد: لا يكبر؛ لأن التكبير ذكر يشرع فيه رفع الصوت فلم يشرع في حقهن كالأذان.(/12)
وسبق من حديث أم عطية مشروعيته في حق الحيّض، فهو في حق غيرهن آكد. والله أعلم.
قال الحافظ في الفتح في تعليقه على الآثار التي ساقها البخاري في التكبير أيام العيدين: "وقد اشتملت هذه الآثار على وجود التكبير في تلك الأيام عقب الصلوات وغير ذلك من الأحوال وفيه اختلاف بين العلماء في مواضع، فمنهم من قصر التكبير على أعقاب الصلوات، ومنهم من خص ذلك بالمكتوبات دون النوافل، ومنهم من خصه بالرجال دون النساء، وبالجماعة دون المنفرد وبالمؤداة دون المقضية، وبالمقيم دون المسافر، وبساكن المدن دون القرية، وظاهر اختيار البخاري شمول ذلك للجميع والآثار التي ذكرها تساعده"([96]).
صيغة التكبير: حكم التكبير الجماعي:
سبق بحث هاتين المسألتين (ص20، 21، 22).
الاعتماد في الخطبة على ترس أو نحوه:
عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم نُوول يوم العيد قوساً فخطب عليه([97]).
قال الشوكاني: (الحديث فيه مشروعية الاعتماد على سيف أو عصى حال الخطبة، قيل: والحكمة في ذلك الاشتغال عن العبث، وقيل: إنه أربط للجأش).
([1]) متفق عليه، أخرجه البخاري في: كتاب الصوم، باب: صوم يوم الفطر، وفي كتاب الأضاحي: باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي (الفتح 3/280، 10/26)، وأخرجه مسلم في: كتاب الصيام، باب: النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى (2/799).
([2]) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (8/15).
([3]) انظر: نيل الأوطار (4/262).
([4]) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه في أكثر من موضع، في الحيض باب: شهود الحائض العيدين (الفتح 1/504)، وفي العيدين باب خروج النساء والحيض إلى المصلى (2/537)، وفي غيرهما، وأخرجه مسلم في العيدين باب: ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة مفارقات للرجال (صحيح مسلم 2/605)، والعواتق: جمع عاتق، وهي الأنثى أول بلوغها ولم تتزوج بعد، والخدور: البيوت، وقيل ستر يكون في ناحية.
([5]) فتح الباري (2/545).
([6]) انظر أيضاً في بحث لهذه المسألة المغني (3/260) والمجموع (5/524).
([7]) انظر المجموع شرح المهذب (5/524).
([8]) وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود ح (248).
([9]) سبق تخريجه (ص7). والجلباب هو ثوب أقصر وأعرض من الخمار تغطى به المرأة رأسها، وقيل هو ثوب واسع دون الرداء تغطى به صدرها وظهرها، وقيل: هو كالملائه والملحفة، وقيل: هو الإزار الذي يجلل جميع البدن وليس الحقو فقط، وقيل: الخمار. (انظر لسان العرب لابن منظرو 1/650)، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (1/283).
([10]) نيل الأوطار (3/288).
([11]) أخرجه أبو داود وغيره، وهو في صحيح سنن أبي داود للألباني ح (529).
([12]) فتح الباري (1/505).
([13]) صحيح مسلم بشرح النووي (3/179).
([14]) فتح الباري (1/505).
([15]) صحيح مسلم بشرح النووي (6/179).
([16]) فتح الباري (2/540).
([17]) إرواء الغليل (1/176).
([18]) لحديث أم سلمة عند مسلم وغيره مرفوعاً. (إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره)، وفي رواية: (فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى يضحى)، ولا بأس بغسل الرأس ودلكه ولو سقط منه شيء من الشعر.
([19]) أثر الحسن بن علي رضي الله عنه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتطيب بأجود ما نجده في العيد) رواه الطبراني في الكبير، والحاكم في مستدركه، وفي إسناده إسحاق بن بزرج مجهول كما ذكر الحافظ في التلخيص.
([20]) أحكام العيدين للفريابي (ص83).
([21]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب العيدين باب: في العيد والتجمل فيه، وفي الجهاد باب: التجمل للوفود، وفي غيرهما ( فتح الباري 2/509، 6/198)، وأخرجه مسلم في كتاب اللباب، باب: تحريم استعمال إناء الذهب .. الخ، (صحيح مسلم 3/1639).
([22]) المغنى (3/257).
([23]) أسئلة وأجوبة في صلاة العيدين، لابن عثيمين (ص10).
([24]) انظر في المسألة (المغني 3/258)، وفتح العزيز شرح الوجيز للرافعي بحاشية المجموع (5/21).
([25]) فتح الباري (2/519).
([26]) إسناده صحيح (المشكاة ح1440).
([27]) صحيح سنن ابن ماجه ح(1071).
([28]) حديث جابر هو (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فبدأ بالصلاة ثم خطب الناس بعد، فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال) (الفتح (2/523).
([29]) المصنف هو الشيرازي وقوله المشار إليه هو (ولا بأس أن يركب في العود لأنه غير قاصد إلى قربه). المجموع (5/10).
([30]) الإرواء (3/123).
([31]) الإرواء ح(650).
([32]) الإرواء (3/122).
([33]) تمام المنة (ص356).
([34]) فتح الباري (2/536).
([35]) فتح الباري (2/534).
([36]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب العيدين باب الخطبة بعد العيد، وباب الصلاة قبل العيد وبعدها وفي غيرهما (الفتح (2/526، 552)، وأخرجه مسلم في كتاب العيدين باب ترك الصلاة قبل العيد وبعدها في المصلي (صحيح مسلم 2/606).
([37]) فتح الباري (2/552).(/13)
([38]) المصدر السابق (2/552).
([39]) الإرواء (3/100).
([40]) أسئلة وأجوبة في صلاة العيدين (ص12).
([41]) رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم. (الفتح 2/568)، وقوله: حين التسبيح: أي وقت صلاة السبحة وهي النافلة.
([42]) انظر تعليق الشيخ على فتح الباري (2/525).
([43]) أخرجه أحمد بإسناد صحيح (الإرواء ص638).
([44]) رواه أبو داود والفريابي وغيرهما، وفي إسناده ابن لهيعة مختلف فيه، ورواية العبادلة عنه مقبولة على الصحيح، وهذا من رواية عبد الله بن وهب عنه، وهو مخرج في الإرواء (3/17)، وقال الشيخ الألباني حفظه الله بعد أن ساق عدة طرق للحديث: وبالجملة فالحديث بهذه الطرق صحيح، ويؤيده عمل الصحابة به (الإرواء 3/110).
([45]) سنن الدراقطني (2/46).
([46]) الإرواء (3/111).
([47]) انظر أحكام العيدين للفرياني (ص164).
([48]) الإرواء (3/112).
([49]) انظر: سواطع القمرين في تخريج أحاديث أحكام العيدين (ص165).
([50]) الإرواء (641) (3/113).
([51]) قال الألباني: إسناده ضعيف، الإرواء ح (640) (3/112).
([52]) سواطع القمرين (ص183).
([53]) صحيح، الإرواء ح(632).
([54]) الإرواء (3/115).
([55]) المغني (3/273-274).
([56]) رواه النسائي وأبو داود وابن ماجه، وهو صحيح (الإرواء ح 629).
([57]) المجموع (5/23، 24).
([58]) المرجع السابق (5/24، 25).
([59]) قال الألباني في تمام المنة: ومع أنه لا يدل على مشروعية افتتاح خطبة العيد بالتكبير، فإن إسناده ضعيف .. فلا يجوز الاحتجاج به على سنية التكبير في أثناء الخطبة (تمام المنة ص351).
([60]) قال الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه: منكراً سنداً ومتناً، والمحفوظ أن ذلك في خطبة الجمعة، ضعيف سنن ابن ماجه (ص94).
([61]) فقه السنة (1/271).
([62]) فتح الباري ( 2/522).
([63]) نيل الأوطار (3/304).
([64]) فتح الباري (2/520، 522).
([65]) مذهب الشافعي سقوطها عن أهل القرى، ولا تسقط عن أهل البلد، وقال أبو حنيفة لا تسقط عن أهل البلد ولأهل القرى. (المجموع 4/492).
([66]) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم، وصححه الألباني بشواهده. (تمام المنة ص344).
([67]) رواه أبو داود، وهو في صحيح سنن أبي داود للألباني ح(948).
([68]) صحيح سنن النسائي ح(1501).
([69]) صحيح سنن أبي داود (947).
([70]) نيل الأوطار (3/283).
([71]) نيل الأوطار (3/283).
([72]) المغني (3/243).
([73]) نيل الأوطار (3/283).
([74]) فقه السنة (1/267).
([75]) صحيح سنن ابن ماجه ح(1465).
([76]) المغني (3/286).
([77]) مجموع الفتاوى (24/182).
([78]) المرجع السابق (24/186).
([79]) فتح الباري (2/550).
([80]) المغني (3/286، 287).
([81]) المغني (3/285).
([82]) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه باب الرجل تفوته الصلاة في العيد كما يصلي، ورواه البيهقي تعليقاً كما في الإرواء وإسنادهما ضعيف. (الإرواء 3/120، 121).
([83]) المغني (3/284).
([84]) قال الحافظ في الفتح: أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح (الفتح 2/550)، وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة والطبراني في الكبير وقال الهيثمي: (ورجاله ثقات). وتعقبه الألباني بقوله: ولكنه منقطع لأن الشعبي لم يسمع من ابن مسعود كما قال الدارقطني والحاكم. (الإرواء 3/121).
([85]) المغني (3/284).
([86]) الفتح (2/550).
([87]) أي في المشهور عنه، وهو أنه لا قضاء عليه أصلاً.
([88]) بداية المجتهد (1/220).
([89]) رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم (الفتح 2/534).
([90]) أثر علي رواه ابن أبي شيبة من طريقين أحدهما جيد، ومن هذا الوجه رواه البيهقي، وروى مثله عن ابن عباس بإسناد صحيح، وأثر ابن مسعود رواه الحاكم. (انظر الإرواء 3/125).
([91]) انظر في هذه المسألة: (رحمة الأمة في اختلاف الأئمة (ص61)، وفتح الباري (2/536)، وفقه السنة (1/274).
([92]) المغني (3/293).
([93]) رواه ابن المنذر، وقال الألباني: لم أقف على إسناده. (الإرواء 3/124).
([94]) المغني (3/293).
([95]) رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم (2/534).
([96]) الفتح (2/535).
([97]) أبو داود (1145)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1014).
حكم صلاة العيدين :
اتفق الفقهاء على مشروعية صلاة العيدين، واختلفوا في حكمها على أقوال:
القول الأول:
تجب صلاة العيدين على من تجب عليه الجمعة .
وهو رواية عن أبي حنيفة، وقول محمد بن الحسن، والشافعي، ورجحه من الحنفية ابن الهُمام([1]).
القول الثاني :
أنّها سنة مؤكدة .
وهو قول مالك، والشافعي وكثير من أصحابهما([2]).
القول الثالث:
إنّها فرض كفاية .
وهو قول بعض الشافعية، وهو مذهب الإمام أحمد، وعليه أكثر أصحابه.
قال المرداوي: "هذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب"([3]).
القول الرابع:
إنّها فرض عين على الرجال والنساء .
وهو رواية عن أحمد، ومذهب بعض المالكية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيّم، والشيخ السعدي، وابن عثيمين([4]).
أدلة الأقوال :(/14)
أدلة أصحاب القول الأول:
1- قوله تعالى: { وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ }.
2- قوله تعالى: { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ }.
قال الضحاك وقتادة وعطاء وعكرمة { فَصَلّ لِرَبّكَ } صلاة العيد يوم الأضحى، { وَانْحَرْ } نسكك ([5]).
قال الحسن: "نحر البدن، والصلاة يوم النحر"([6]).
قال الجصاص :"هذا التأويل يتضمن معنيين، أحدهما: إيحاب الضحى، والثاني وجوب الأضحية"([7]).
قال القرافي: "جمهور المفسرين على أنها صلاة العيد، وظاهره الوجوب" ([8]).
3- مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على فعلها من غير تركٍ لها([9]).
أمّا دليلهم { وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ }؛ فلا يستقيم لهم؛ لأن المراد بالتكبير التكبير ليلة العيد ويومه، لا صلاة العيد، قال ابن عباس: (حقّ على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبروا الله حتى يفرغوا من عيدهم)([10]).
فإيجاب صلاة العيد منه غير ظاهر فيه([11]).
أدلة أصحاب القول الثاني:
1- أنّه ليس من سنتها الأذان.
2- قول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي سأله هل عليّ غير الصلوات الخمس: ((لا إلا أن تطوع))([12]).
أدلة أصحاب القول الثالث:
1- أنّها من شعائر الإسلام الظاهرة .
2- ظاهر قوله تعالى: { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } [الكوثر: 3].
3- أنّه لو أجمع أهل بلد على تركها قوتلوا عليها .
أدلة أصحاب القول الرابع:
حديث أم عطية: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحُيّض وذوات الخدود، فأمّا الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب ؟ قال: ((لتلبسها أختها من جلبابها)) ([13]).
إضافة إلى أدلة القائلين بالوجوب .
الترجيح :
والراجح القول الرابع، الذي هو رواية في مذهب أحمد، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم ([14]).
أمّا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا إلا أن تطوع))؛ فيجاب بأنّ الأعراب لا تجب عليهم إقامة جمعة ولا عيد.
والفرق بين هذا القول وبين قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي القائلين بوجوبها على مَن وجبت عليه الجمعة؛ هو عدم إيجابهم إيّاها على المرأة، لأنّ المرأة لا يجب عليها حضور الجمعة، أمّا العيد فلم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم للنساء، قالت أم عطية: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: ((لتلبسها أختها من جلبابها))([15]).
وأمّا قول من قال بأنّها سنة مؤكدة، فهو قول ضعيف، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده داوموا على فعلها من غير تركٍ، ولم يعرف قط دار إسلام يترك فيها صلاة العيد، وهو من أعظم شعائر الإسلام.
وأمّا قول من قال بأنّها فرض كفاية، فمردود بأن فرض الكفاية يكون فيما تحصل مصلحته بفعل البعض، كدفن الميّت، وقهر العدو، وليس يوم العيد مصلحة معينة يقوم بها البعض، بل صلاة يوم العيد شرع لها الاجتماع أعظم من الجمعة، وتقدير العدد فيها تحكم، فليس لأحد أن يتخلف عن الصلاة إلا لعجزه عنها، وإن جاز له التخلف عن الجمعة لسفر أو أنوثة، والله أعلم([16]).
* مراجع المسألة:
فتح القدير (2 /70)، الأصل (1/335)، الدر المختار (2/167)، مجمع الأنهر (1/ 172)، المبسوط (2/37)، الرسالة الفقهية (ص: 144)، المعونة (1/320)، عقد الجواهر (1/ 241)، الذخيرة (2/417)، الأم
(1/213)، الحاوي (2/483)، المجموع (5/2، 3)، نهاية المحتاج (2/385)، البيان (2/624)، روضة الطالبين (2/70)، شرح الزركشي (2/213)، المقنع (5/316)، الشرح الكبير (5/316)، الإنصاف (5/316)، المستوعب (3/50)، اختيارات ابن تيمية (1/254)، اختيارات ابن قدامة (1/432)، المغني (3/
253)، الشرح الممتع (5/151)، تحفة المحتاج (3/239)، الإعلام لابن الملقن (4/194).
حضور العبد والصبي صلاة العيد:
ذهب محمد بن الحسن إلى أنّه لا يجب على العبد حضور العيدين . وهو قول مالك، والشافعيُّ ([17]).
وعلى القول بوجوب صلاة العيد على الأعيان، لا يبعد القول بوجوبها على العبد، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ([18]).
وليس ثَمَّ دليل على إسقاط حضور العيد على العبد، والله أعلم .
ويستحب إخراج الصبيان بغير خلاف في المسألة .
لحديث ابن عباس قيل له: أشهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم، ولولا مكاني من الصغر ما شهدته، حتى أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت، فصلّى ثم خطب، ثم أتى النساء ومعه بلال فوعظهنّ وذكّرهن وأمرهنّ بالصدقة، فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال، ثم انطلق هو وبلال إلى بيته([19]).
قال ابن حجر: "فهو شامل لمن تقع منهم الصلاة، أو لا"([20]).
قال النوويُّ: "اتفق نصّ الشافعيِّ والأصحاب على استحباب حضور الصبيان المميِّزين صلاة العيد" ([21]).
قال الماورديُّ: "وأمّا الصبيان فيُستحبّ إخراجهم ذُكرانًا وإناثًا" ([22]).(/15)
لأنّ في إخراجهم إظهارًا لشعائر الإسلام، واكتمالَ الفرح المطلوب في هذا اليوم، وليس لأجل الصلاة، فالحُيَّض أمرن بالخروج، وهن لا يصلين، والله أعلم .
* مراجع المسألة :
الأصل (1/343)، الحجة (1/306)، المبسوط (2/41)، بدائع الصنائع (1/275)، المدونة (1/368)، عقد الجواهر (1/241)، الذخيرة (2/417)، الأم (1/206)، الحاوي (2/ 483)، المجموع (5/ 8)، فتح العزيز (5/ 24)، البيان (2/630)، التمام (1/246)، مسائل أحمد لصالح (ص: 402)، الشرح الكبير (5/ 328)، المستوعب (3/ 54)، الإنصاف (5/328)، المغني (3/263)، الإعلام (4/251).
قضاء الصلاة لمن فاتته :
هل تقضى صلاة العيد أم لا ؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال ستة:
القول الأول:
أن من فاتته صلاة العيد لا يقضيها؛ لأنها لا تعرف إلا على صفة الاجتماع، ويصلى بدلها إن شاء صلاة الضحى ركعتين أو أربعًا .
وهو قول الحنفية ([23])، وقول عن مالك ([24])، وبعض الشافعية، والحنابلة ([25]).
القول الثاني :
أنّ من فاتته صلاة العيدين يقضيها على صفتها كما صلاّها الإمام .
وهو قول النخعي، والشافعي ([26])، ومالك ([27])، وأبي ثور ([28])، والبخاري ([29])، وهو مذهب أحمد، وعليه أكثر أصحابه ([30]).
وحكاه ابن رجب عن أبي حنيفة ([31])، والنووي عن الحنفية ([32])، وقد تقدم النقل عنهم بخلاف هذا .
القول الثالث :
أنّ من فاتته صلاة العيدين يصلى أربع ركعات قضاء، وهو مخيرٌ بين أن يصليهنّ بسلامٍ، أو سلامين .
وهو قول الشعبي([33])، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها بعض أصحابه([34]).
القول الرابع :
أنّ من فاتته صلاة العيدين يصلي ركعتين مطلقًا بلا تكبير .
وهو قول عطاء ([35])، وأبي عياض ([36])، وابن الحنفية ([37])، وعكرمة ([38])، والأوزاعي ([39]).
وقولٌ لمالك، ورواية عن أحمد ([40]).
القول الخامس :
أنّ من فاتته صلاة العيدين إن كانوا جماعة صلوا ركعتين كصلاة الإمام، وإن كان منفردًا صلّى أربعًا .
وهو قول إسحاق بن راهويه ([41])، وهو رواية عن الإمام أحمد ([42]).
القول السادس :
أن من فاتته صلاة العيد يخيّر بين صلاة ركعتين أو أربعًا كذلك .
وهو قول الثوري ([43])، ورواية عن الإمام أحمد ([44]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
1- أنّ صلاة العيد شُرِعت على صورة معينة من الاجتماع، فلا تقضى مثل الجمعة إذا فاتت لم تقضى، وصلوا ظهرًا بدلاً عنها، ولا بدل للعيد .
2- وبأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخِّص للنساء في التخلف عن حضورها، مع أنّه قال في الجمعة والجماعة: ((وبيوتهن خيرٌ لهنّ))([45]).
ولم يذكر أنّ التي تفوتها صلاة العيد تقضيها في بيتها، لا على وجه الوجوب، ولا الاستحباب.
أدلة القول الثاني :
1- بأنّها قضاء صلاة فكانت على صفتها .
2- وبحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلاّ ذلك)) ([46]).
3- وبما روي عن أنس أنّه كان إذا فاته صلاة العيد جمع أهله، وأمر مولاه؛ فصلّى بِهم صلاة الإمام ([47]).
أدلة القول الثالث :
1- استدل أصحاب هذا القول بأثر ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من فاته صلاة العيد فليصل
أربعًا)([48]).
2- وبما روي عن علي رضي الله عنه أنّه استخلف من يصلي بضعفة المسلمين أربعًا ([49]).
3- وبأنها صلاة بخطبة فأشبهت الجمعة، لأنّ الخطبتين في مقام الركعتين .
أمّا أثر عبد الله بن مسعود فمنقطع ضعيف.
وأمّا ما روي عن علي؛ فلا يصح.
وأمّا قياس ذلك على صلاة الجمعة؛ فقياس ضعيف، لأنّ العيد لا بدل له .
أدلة القول الرابع :
استدلوا بالآثار الواردة عن عطاء وأبي عياض وابن الحنفية وعكرمة والأوزاعي .
وهذه الآثار لا حجة فيها؛ لأنها مخالَفة من غيرهم، ممن يرون أنّ قضاءها يكون بأربع أو بالتخيير .
أدلة القول الخامس :
حجة أصحاب هذا أنّهم إذا كانوا جماعة صلوا ركعتين كركعتي الإمام، ما روي عن أنس بن مالك أنّه كان يجمع مع أهله ويأمر مولاه أن يصلي بهم صلاة الإمام([50]).
وأمّا إذا كان منفردًا صلى أربعًا لقول ابن مسعود السابق .
وقد مضى الكلام على الأثرين .
ولم أجد لأهل القول السادس دليلاً منصوصًا عليه من قبلهم، وقولهم يشبه قول الحنفية؛ إلا أنّ الحنفية نصّوا على أنّ الركعتين أو الأربع صلاة الضحى، وليست قضاء .
الترجيح:
والذي يترجح - والله أعلم - مذهب الحنفية القائلين بأنّ صلاة العيد لا تقضى، لأنّها شُرِعت على هيئة الاجتماع العام، ولا تشرع بغيرها، وهي كالجمعة لا تقضى على صفتها، وإنما يصلون الظهر، لأنّها بدل عنها، والعيد لا بدل له يصلى في وقته، فإن شاؤوا صلوا الضحى، وهذا اختيار شيخ الإسلام ([51])، ورجحه ابن عثيمين([52])، والله أعلم .
* مراجع المسألة :(/16)
شرح فتح القدير (2/46)، الكتاب (1/338، 339، 342)، حاشية ابن عابدين (2/176)، مجمع الأنهر (1/173)، المبسوط (2/39)، بدائع الصنائع (1/279)، المدونة (1/155)، الكافي (1/265)، بداية المجتهد (1/511)، عقد الجواهر (1/244)، الأم (1/399)، المجموع (5/29)، الحاوي (2/497)، البيان (2/651)، شرح الزركشي (2/234)، المقنع (5/364)، الشرح الكبير (5/364)، الإنصاف (5/364)، المستوعب (3/61)، الشرح الممتع (5/207).
([1]) المبسوط (2/37)، مجمع الأنهر (1/172)، الأصل (1/335)، الأم (1/399) ط دار الكتب العلمية، الحاوي (2/104)، شرح فتح القدير (2/40) ط التراث.
([2]) نسبه إلى مالك النوويُّ في المجموع (5/35)، وابن قدامة صاحب الشرح الكبير (5/316)، الرسالة الفقهية (ص: 144)، المعونة (1/320)، التلقين (1/135)، عقد الجواهر (1/241)، الذخيرة (3/417)، الحاوي (3/105)ط دار الفكر، فتح العزيز (5/2)، المجموع (5/2-3)، نهاية المحتاج (2/385)، تحفة المحتاج (3/39)، حلية (2/300)، شرح الزركشي (2/ 213)، الإنصاف (5/317)، المبسوط (2/37).
([3]) الحاوي (3/104)ط: دار الفكر، المجموع (5/3)، البيان (2/625)، حلية (2/300)، شرح الزركشي (2/ 213)، المغني (3/253)، الشرح الكبير (5/316)، الإنصاف (5/316)، المستوعب (3/50).
([4]) شرح الزركشي (2/ 213)، الإنصاف (5/317)، حاشية الدسوقي (1/396)، مجموع الفتاوى (24/183)، زاد المعاد
(2/11)، المختارات الجليّة (ص 72)، الشرح الممتع (5/151).
([5]) أخرجه الطبري عنهم في تفسيره (12/722-723).
([6]) أخرجه الطبري عنه في تفسيره (12/723).
([7]) أحكام الجصاص (5/376).
([8]) الذخيرة (2/417).
([9]) شرح فتح القدير (2/40).
([10]) تفسير الطبري (1/157)ط دار الفكر .
([11]) شرح العناية (2/40).
([12]) أخرجه البخاري في الإيمان، باب الزكاة من الإسلام (46). ومسلم في الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام (11).
([13]) أخرجه البخاري في الصلاة، باب وجوب الصلاة في الثياب (351). ومسلم في صلاة العيدين، باب إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى (890).
([14]) انظر: كتاب الصلاة له (ص 11).
([15]) تقدم تخريجه.
([16]) ملخص كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (24/182 – 184).
([17]) الأصل (1/344)، المدوّنة (1/168)، الحاوي (2/483).
([18]) مجموع الفتاوى (24/184).
([19]) البخاري (977).
([20]) فتح الباري (2/466).
([21]) المجموع (5/9).
([22]) الحاويّ (3/121).
([23]) الأصل (1/338)، شرح فتح القدير (2/46)، حاشية ابن عابدين (2/176)، مجمع الأنهر (1/173)، المبسوط (2/159)، بدائع الصنائع (1/279)، البحر الرائق (2/2812).
([24]) بداية المجتهد (1/511).
([25]) المجموع (5/29)، المغني (3/284)، المبدع (2/190)، الفروع (2/145).
([26]) الأم (1/399).
([27]) المدونة (1/155)، الكافي لابن عبد البر (1/265)، الشرح الكبير للدردير (5/364).
([28]) المجموع (5/29).
([29]) انظر: صحيح البخاري كتاب العيدين، باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين .
([30]) المقعنع والشرح الكبير والإنصاف (5/364).
([31]) فتح الباري لابن رجب (9/79-80).
([32]) المجموع (5/29).
([33]) ابن أبي شيبة (5800).
([34]) المغني (3/284-285)، شرح الزركشي (2/334)، الروايتين (1/159)، الإنصاف (5/365).
([35]) ابن أبي شيبة (5801).
([36]) ابن أبي شيبة (5803).
([37]) ابن أبي شيبة (5805).
([38]) عبد الرزاق (8/57).
([39]) أخرجه الفريابي في أحكام العيدين (148).
([40]) فتح الباري (2/474 – 475).
([41]) فتح الباري (2/475)، المجموع (5/29)، البيان (2/651).
([42]) فتح الباري لابن رجب (9/78)، الإنصاف (5/365).
([43]) البيان (2/651).
([44]) المقنع والشرح الكبير والإنصاف (5/364-365)، المستوعب (3/62).
([45]) أبو داود (567)، وصححه ابن خزيمة (1684).
([46]) تقدم تخريجه.
([47]) أخرجه ابن أبي شيبة (5803)، وضعّفه الألباني في الإرواء (648).
([48]) عبد الرزاق (5713)، وابن أبي شيبة (8/579)، والفريابي (149)، وابن المنذر (2186)، من طريق الشعبي عن ابن مسعود، وهو لم يسمع من ابن مسعود رضي الله عنه، وقد تفرد ابن المنذر بجبر هذا الانقطاع بذكر (مسروق)بينهما، والأكثر على خلافه، وقد ضعّف الحديث لهذه العلّة الألباني في الإرواء (3/121).
([49]) السنن الكبرى البيهقي (3/310)، ابن أبي شيبة (2/5)، الثقات (4/96)، المحلى (5/86).
([50]) أخرجه ابن حزم في المحلى (5/86)، وسلّم بضعفها، وأشار إلى أنّها أحسن حالاً من غيرها .
([51]) مجموع الفتاوى (24/182)، ابن مفلح (2/137).
([52]) الشرح الممتع (5/208).
ما يشترط وما لا يشترط في صلاة العيد:
شروط الجمعة في صلاة العيد:
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول:
يشترط لإقامة صلاة العيدين ما يشترط لإقامة صلاة الجمعة.(/17)
وهو قول الجمهور؛ الحنفية والمالكية، والحنابلة([1])، على اختلاف بينهم في تفاصيل هذه الشروط.
قال السرخسي: "يشترط لصلاة العيد ما يشترط لصلاة الجمعة، إلا الخطبة، فإنّها من شرائط الجمعة، وليست من شرائط العيد"([2]).
وقال الكاساني: "وأما شرائط وجوبها وجوازها فكل ما هو شرط وجوب الجمعة وجوازها فهو شرط وجوب صلاة العيدين وجوازها؛ من الإمام والمصر والجماعة والوقت إلاّ الخطبة، فإنها سنة بعد الصلاة، ولو تركها جازت صلاة العيد"([3]).
وقال ابن الحطاب: "وأما من لا تجب عليه الجمعة من أهل القرى الصغار، والمسافرين والنساء والعبيد ومن عقل الصلاة من الصبيان؛ فليست في حقّهم سنة، ولكنه يستحب لهم إقامتها"([4]).
وقال ابن قدامة: "ويشترط الاستيطان في وجوبها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها في سفره ولا خلفاؤه، وكذلك العدد المشترط للجمعة؛ لأنها صلاة عيد، فأشبهت الجمعة"([5]).
القول الثاني:
لا يشترط لإقامة صلاة العيدين ما يشترط لإقامة صلاة الجمعة.
وهو قول الشافعية([6]).
قال النوويُّ: "المذهب المنصوص في الكتب الجديدة كلِّها: أنّ صلاة العيد تشرع للمنفرد في بيته أو غيره، وللمسافر والعبد والمرأة، وقيل: فيه قولان. الجديد: هذا. والقديم: أنّه يشترط فيها شروط الجمعة من اعتبار الجماعة والعدد بصفات الكمال، وغيرها"([7]).
ولتحرير النِزاع في هذه المسألة يجب مناقشة الشروط التالية:
1- إذن الإمام .
2- الاستيطان .
3- العدد المشترط لإقامتها .
* مراجع المسألة:
حاشية ابن عابدين (2/166)، مجمع الأنهر (1/172)، المبسوط (2/37)، بدائع الصنائع (1/ 275)، روضة الطالبين (2/270)، المقنع (5/333)، المغني (3/287)، الشرح الكبير (5/333)، الإنصاف (5/333)، الشرح الممتع (5/168).
هل يشترط لإقامتها إذن الإمام ؟
اختلف الفقهاء في المسألة على قولين:
القول الأول:
لا بد من إذن الإمام في إقامة صلاة العيد.
وهو قول الحنفية([8])؛ لأنّهم يشترطون فيها ما يشترطونه في الجمعة، واشترطوا في الجمعة إذن الإمام، وهو اختيار ابن رشد من المالكية([9]).
القول الثاني :
لا يشترط إذن الإمام.
وهو قول الشافعية، والحنابلة، واختيار ابن شاس من المالكية ([10]).
قال المرداويُّ: "فأمّا إذن الإمام فالصحيح من المذهب والروايتين، أنّه لا يشترط، وعليه أكثر الأصحاب كالجمعة" ([11]).
والراجح هو أنّ إذن الإمام لا يشترط في إقامة صلاة العيدين، فليس له أن يمنعهم من إقامتها، وليس لهم أن يمتنعوا من إقامتها لمنعه، ولكن يشترط إذن الإمام في تعددها في البلد الواحد لما في ذلك من خشية تفريق الجماعة، ونشر الفوضى بينهم.
قال ابن عثيمين: "فلو أنّ أهل بلدٍ ثبت عندهم الهلال أفطروا، فلا يلزمهم أن يستأذنوا الإمام في إقامة صلاة العيد؛ حتى لو قال الإمام لا تقيموها، فإنّه يجب عليهم أن يقيموها، وأن يعصوه؛ لأنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد سبق لنا في الجمعة أنّه ينبغي أن يُشترط إذن الإمام لتعدد الجمعة، فكذا العيد أيضًا نقول فيه ما نقول في الجمعة، أي: أنّه لو احتاج الناس إلى إقامة مسجدٍ آخر للعيد؛ فإنّه لا بد من إذن الإمام أو نائب الإمام؛ حتى لا يحصل فوضى بين الناس، ويصير كل واحد منهم يقيم مصلى عيد" ([12]).
وقد نقل عبد الرحمن بن قاسم الحنبلي صاحب حاشية الروض عن ابن حجر قوله في عدم اشتراط إذن الإمام: "وهو قول أكثر أهل العلم، وحكي اتفاقًا"([13]).
* مراجع المسألة:
حاشية ابن عابدين (2/166)، بدائع الصنائع (1/275)، المبسوط (2/37)، مجمع الأنهر (1/172)، عقد الجواهر (1/221)، المقدمات (1/221)، إعانة الطالبين (2/58)، حاشية الشرواني (3/48)، المقنع (5/333)، المستوعب (3/51)، الشرح الكبير (5/333)، الإنصاف (5/333)، الشرح الممتع (5/170).
الاستيطان هل هو شرط من شروط العيد؟
اختلف الفقهاء في الاستيطان، هل هو شرط في صحة إقامة صلاة العيدين، أم لا ؟ على قولين:
القول الأول:
الاستيطان شرط في إقامة صلاة العيدين وأنّه ليس للمسافرين أن يصلوا صلاة العيدين.
وهو قول الحنفية([14])، والمالكية([15])، والصحيح من مذهب أحمد، وعليه أكثر أصحابه ([16])، وهو مرويٌّ عن الزهري ([17]).
القول الثاني:
الاستيطان ليس شرطًا من شروط صلاة العيدين، وعليه فيجوز للمسافرين أن يقيموا صلاة العيدين.
وهو قول الحسن البصري ([18])، ومذهب الشافعيّة ([19])، ورواية عن أحمد، اختارها بعض أصحابه ([20]).
الأدلة :
أدلة أصحاب القول الأول:
1- أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها في سفره، ولا خلفاؤه من بعده .
2- أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها يوم النحر؛ لأنه مسافر .
3- قول علي بن أبي طالب: (لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع) ([21]).
مناقشة الأدلة:
أمَّا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يفعلها في أسفاره ولا خلفاؤه، فقد كانوا مشغولين بالجهاد والقتال في أسفارهم، وهي ليست بواجبة عليهم .(/18)
وأمّا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل العيد في حجته فنوقش بأنه كان منشغلاً بأداء مناسك الحج عن صلاتها، فلا ينهض دليلهم .
وأما قول علي فنوقش بأنّ ذلك اجتهاد منه في مقابل اجتهاد آخر، فقد صحّ عن عمر أنه قال: (جمّعوا حيث شئتم)([22]).
أدلة أصحاب القول الثاني:
1- أنّها صلاة نافلة فأشبهت صلاة الاستسقاء والخسوف .
2- عموم أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم .
مناقشة الأدلة:
أمّا قولهم إنّها صلاة نافلة؛ فعلى فرض التسليم يُقال لهم: ولكنها شرعت على هيئة معيّنة فلا تتجاوز إلاّ بدليل.
وأمّا قولهم بالعموم؛ فنقول إنّ عموم قوله صلى الله عليه وسلم يخصصه فعله، وقد حصل التخصيص بتركه لإقامتها في السفر.
الترجيح :
والراجح قول الجمهور، وهو أنّه ليس للمسافرين أن يقيموا صلاة العيدين؛ لأنّها صلاة شرعت على هيئة معيّنة، ولم يصلها النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولا مرة واحدة في أسفاره ولا أحدٌ من أصحابه من بعده، ودعوى أنّهم كانوا مشغولين بالجهاد غير مستقيمة؛ لا سيّما في فتح مكة، فقد كانت في رمضان، وبقي النبيُّ صلى الله عليه سلم فيها إلى شوال، ومع ذلك لم يصلها.
وهو ترجيح ابن عثيمين، قال: "والدليل على ذلك أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يُقم صلاة العيد إلاّ في المدينة، وسافر إلى مكة عام غزوة الفتح، وبقي فيها إلى أوّل شوال، وأتاه العيد، ولم يُنقل أنّه صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة العيد، وفي حجة الوداع صادفه العيد وهو في منى، ولم يُقم صلاة العيد؛ لأنّه مسافر، كما أنّه لم يُقم صلاة الجمعة في عرفة؛ لأنّه مسافر.
إذًا المسافرون لا يُشرع في حقِّهم صلاة العيد، وهذا واضح؛ لأنّ هذا هو هدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم"([23]).
العدد المشترط لصحة صلاة العيدين :
اختلف أهل العلم في العدد الذي تصح به صلاة العيدين بناء على اختلافهم في العدد الذي تصحّ به عندهم صلاة الجمعة على أقوال سبعة:
القول الأول :
أن صلاة العيد تنعقد بأربعة، إمام وثلاثة مؤتمين، لأنّه عدد يزيد على أقل الجمع .
وهو قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن ([24])، والليث بن سعد، وزفر ([25]).
القول الثاني:
أنّ صلاة العيد لا تنعقد بأقلّ من أربعين رجلاً.
وهو قول الشافعي ([26])، ورواية عن أحمد ([27]).
القول الثالث :
أنّ صلاة العيد تنعقد بثلاثة .
وهو قول الحسن البصري، والأوزاعي، وأبي ثور، ورواية عن الإمام أحمد، ومذهب أبي يوسف القاضي([28]).
القول الرابع :
أنّ الجماعة تنعقد باثني عشر رجلاً .
وهو قول ربيعة الرأي([29]).
القول الخامس :
أنّها لا تصلى بأقلّ من ثلاثين رجلاً.
وهو قول ابن حبيب من المالكية([30]).
القول السادس :
أنّها لا تصلى بأقل من خمسين رجلاً .
وهو رواية عن الإمام أحمد ([31])، وروي عن عمر بن عبد العزيز ([32]).
القول السابع :
أنّها تنعقد باثنين .
وهو قول إبراهيم النخعي، والحسن بن حي، وأبي سليمان ([33]).
أدلة الأقوال :
أدلة القول الأول :
ما رواه الزهري عن أم عبد الله الدوسية، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الجمعة واجبة على كل قرية، وإن لم يكن فيها إلاّ أربعة)) ([34]).
ونوقش بأنّه حديث ضعيف ([35])؛ فيه انقطاع، ففيه الحكم بن عبد الله بن سعد ضعيف متهم، قال يحيى بن معين: "الحكم بن عبد الله بن سعد ليس بثقة، ولا مأمون" ([36]).
والزهري لم يسمع من أم عبد الله، قال يحيى بن معين: "لم يسمع – أي الزهري – من أم عبد الله الدوسية شيئًا" ([37]).
أدلة القول الثاني :
1- عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي بعدما ذهب بصره، وكان لا يسمع الأذان بالجمعة إلا قال: رحمة الله على أسعد بن زرارة .
قال: قلت: يا أبت إنه لتعجبني صلاتك على أبي أمامة كلما سمعت الأذان .
فقال: أي بني كان أول من جمع الجمعة بالمدينة في حرّة بني بياضة في نقيع يقال له الخضمان. قلت: وكم أنتم يومئذ ؟
قال: أربعون رجلاً ([38]).
2- عن جابر بن عبد الله قال: (مضت السنة أنّ في كل أربعين فما فوقها جمعة)([39]).
3- قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: "كل قرية فيها أربعون رجلاً فعليهم جمعة"([40]).
مناقشة الأدلة:
أمّا حديث كعب بن مالك فليس فيه ما يدل على أنّ الجمعة لا تنعقد بأقلّ من أربعين .
وأمّا أثر جابر ففيه عبد العزيز بن عبد الرحمن القرشي ضعيف جدًا، وقد ضعّف الأثر جمع من أهل
العلم ([41]).
وأمّا قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، ففيه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وهو متروك الحديث([42]).
أدلة القول الثالث :
قول الله تعالى: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ }
وجه الدلالة من الآية أنّ الخطاب موجه بصيغة الجمع، وأقل الجمع ثلاثة .
أدلة القول الرابع :
ما رواه الزهري: "أنّ مصعب بن عمير حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جمّع بهم وهم اثنا عشر رجلاً" ([43]).(/19)
ونوقش بأنّ الأثر مرسل، وليس فيه أنّ صلاة العيد لا تصلى لأقل من اثني عشر رجلاً .
أدلة القول الخامس :
ما رواه ابن وهب عن القاسم بن محمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا اجتمع ثلاثون بيتًا فليؤمروا عليهم رجلاً منهم يصلي بهم الجمعة))([44]).
قال ابن حبيب: "والبيت مسكن الرجل الواحد"([45]).
ونوقش بأنّ الحديث مرسل لا يصح الاستدلال به.
أدلة القول السادس :
1- ما رواه أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تجب الجمعة على خمسين رجلاً ولا تجب على ما دون ذلك))([46]).
ونوقش بأنّ الحديث لا يصحّ؛ لضعف إسناده.
2- ما رواه الزهري عن أبي سلمة قال: قلت لأبي هريرة: على كم تجب الجمعة من رجل ؟ قال: (لمّا بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين رجلاً جمَّع بِهم رسول الله)([47]).
ونوقش بأنّ الحديث لا يصحّ؛ لضعف إسناده.
أدلة القول السابع:
حديث مالك بن الحويرث قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وصاحب لي، فلما أردنا الإقفال من عنده قال لنا: ((إذا حضرت الصلاة فأذنا، ثم أقيما، وليؤمكما أكبركما))([48]).
وجه الدلالة: أنّ النبيَّ أقل الجماعة اثنين، فيدخلون في عموم قوله تعالى { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } .
الترجيح :
والراجح أنّ صلاة العيد تنعقد باثنين فصاعدًا، ورجحه ابن حزم الظاهري([49])، واختاره ابن عابدين([50]). والله أعلم.
* مراجع المسألة:
حاشية ابن عابدين (2/172)، الذخيرة (2/417)، المجموع (5/19)، المغني (3/204)، المحلى (5/46).
هل تصح الصلاة من المنفرد ؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين :
القول الأول:
أنّ المنفرد له أن يصلي صلاة العيد، ولكن ليس له أن يخطب .
وهو قول المالكية ([51])، والشافعية ([52])، والحنابلة ([53])، ورجحه ابن حزم ([54]).
القول الثاني :
ليس للمنفرد أن يصلي صلاة العيدين .
وهو قول الحنفية ([55])، ورواية عند الشافعي ([56])، وأحمد ([57]).
أدلة الأقوال:
أدلة القول الأول :
1- قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك))([58]).
وجه الدلالة من الحديث: أن صلاة العيدين صلاة من الصلوات، فإذا فاتت أحدًا شُرِع له أن يقضيها، وإذا قضاها صلاّها منفردًا .
2- قالوا: إنّها صلاة نفلٍ فجاز أداؤها جماعة وفرادى كالكسوف .
مناقشة الأدلة:
أمّا حديث أنس؛ فالمراد به صلاة الفريضة؛ بدليل قوله: ((لا كفارة لها إلا ذلك))، فلا تسقط بحال من الأحوال .
وأمّا كونها نفل؛ فعلى فرض التسليم يُردّ التعليل به؛ لأنّها صلاة شُرعت على هيئة معيَّنة؛ من الخطبة والاجتماع العظيم؛ فهي ليست كسائر النوافل.
أدلة القول الثاني :
قالوا: إنها صلاة شُرِعت على وجه الاجتماع، فلا تصلى إلا على هذا الوجه، مثلها مثل الجمعة لمن فاتته، فإنه لا يصليها جمعة .
الترجيح :
والراجح في المسألة أنّ المنفرد لا يصلي؛ لأنها صلاة شُرِعت على وجه الاجتماع، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج العواتق وذوات الخدود، ولم يأمر من تخلف عنها بالصلاة في بيته، مثل صلاة الجمعة لا تشرع إلا جماعة، ومن تخلّف عنها لا يصليها جمعة، بل يصليها ظهرًا، وليس للعيد صلاة بدلها، فلا صلاة عيدٍ له، والله أعلم.
واختار هذا القول ابن عيثمين ([59])، وقال في معرض ردّه على من استدل بقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها))، وبقوله: ((ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) على مشروعية صلاة العيد للمنفرد: "ولكن في هذا الاستدلال نظر؛ لأنّ المراد بالحديثين الفريضة، أمّا هذه فصلاة مشروعة على وجه الاجتماع، فإذا فاتت؛ فإنّها لا تصلى إلاّ بدليلٍ يدل على قضائها إذا فاتت" ([60]).
* مراجع المسألة:
المجموع (5/19، 25)، نهاية المحتاج (2/386)، الشرح الكبير (5/334)، الإنصاف (5/ 336)، شرح فتح القدير (2/46)، حاشية ابن عابدين (2/2172)، بدائع الصنائع (1/275).
هل النساء يصلين في بيوتهن ؟
أجاز مالك والشافعي([61]) للنساء أن يصلين في بيوتهن صلاة العيد، مثل صلاة الإمام فرادى .
قال ابن القاسم: "قلت لمالك: فالنساء في العيدين إذا لم يشهدن العيدين؟ قال: إن صلين فليصلين مثل صلاة الإمام يكبرن كما يكبر الإمام، ولا تجمع بهن الصلاة أحد، وليس عليهن ذلك، إلا أن يشأن ذلك فإن صلين صلين أفذاذًا على سنة صلاة الإمام يكبرن سبعًا وخمسًا، وإن أردن أن يتركن فليس عليهن بواجب".
قال ابن القاسم: "وكان يستحب فعل ذلك لهنّ" ([62]).
ولكن على ضوء المسألة التي قُرِرَت سابقًا، فإنه لا يُشرع للنساء أن يصلين في بيوتهنّ؛ لأنّها صلاة شُرعت على وجه الاجتماع، فكما لا يصح أن يصلين الجمعة في بيوتِهن فكذلك العيد .(/20)
والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج الحيض والعواتق وذوات الخدور، وأكّد ذلك بأن أمر التي لا تجد جلبابًا أن تُلبسها أختها من جلبابها، ولم يقل أنّ التي تفوتها الصلاة لها أن تصليها في بيتها، والله أعلم.
وهو اختيار ابن عثيمين ([63]).
* مراجع المسألة:
المدونة (1/155)، الشرح الممتع (5/207).
لو شهد الهلال شخص واحد، هل يصلي العيد ؟
قال الشافعي: "لو شهد واحد فلم يعدل، لم يسعه إلاّ الفطر. ويخفي فطره؛ لئلا يسيء أحد الظن به. ويصلي العيد لنفسه، ثم يشهد بعدُ - إن شاء - العيد مع الجماعة، فيكون نافلة خيرًا له".
هذه المسألة كالمسائل السابقة مبنيّة على ما ترجح من كون المنفرد لا يصلي صلاة العيدين، لذا فالذي يظهر - والعلم عند الله - أنّه لا يصليها؛ لأنّ هذه الصلاة لم تشرع إلا جماعة، فليس له أن يصليها بمفرده كما أنه ليس له أن يصلي الجمعة بمفرده ([64]).
* مراجع المسألة :
الأم (1/204)، سبل السلام (3/217).
هل لمن أحدث في المصلى ولا ماء أن يتيمم ؟
أجازت الحنفية لمن أحدث في المصلى ولا ماء أن يتمم ويصلي مع الناس، إذا خشي لو رجع إلى المصر فوت الجماعة ([65]).
قال الجوزجاني: "قلت – لمحمد بن الحسن -: أرأيت رجلاً أحدث في الجبانة يوم العيد، وهو مع الإمام، فخاف إن رجع إلى الكوفة أن تفوته الصلاة ولا يجد الماء كيف يصنع ؟ قال: يتيمم ويصلي مع الناس" ([66]).
أما إذا أحدث في المصر، فليس له أن يصلي إلا متوضئًا .
قال الشافعي: "وليس لأحد أن يتيمم في المصر لعيد ولا جنازة، وإن خاف فوتهما" ([67]).
إلاّ أن الأحناف القائلين بأن صلاة العيد لا تقضى؛ لأنّها لا تشرع إلا على صفة معينة = يرون التيمم عند خوف فوت الصلاة مع الجماعة أينما كان، والله أعلم .
([1]) حاشية ابن عابدين (2/166)، مجمع الأنهر (1/172)، الذخيرة (2/417)، كشاف القناع (1/455)، المقنع والشرح الكبير (5/333).
([2]) المبسوط (3/37).
([3]) بدائع الصنائع (1/275).
([4]) مواهب الجليل (1/190).
([5]) المغني (3/287).
([6]) نهاية المحتاج (2/386).
([7]) روضة الطالبين (2/70).
([8]) حاشية ابن عابدين (2/166)، بدائع الصنائع (1/275)، المبسوط (2/37)، مجمع الأنهر (1/172).
([9]) المقدمات (1/221).
([10]) الشرح الكبير (5/333)، المستوعب (3/51)، المبدع (2/182)، حاشية الروض المربع (2/502)، المغني (3/287)، إعانة الطالبين (2/58)، حواشي الشرواني (3/48)، عقد الجواهر (1/221).
([11]) الإنصاف (5/335).
([12]) الشرح الممتع (5/170).
([13]) انظر: حاشية الروض المربع (2/502)، ولم أقف عليه في الفتح .
([14]) حاشية ابن عابدين (2/167)، بدائع الصنائع (1/275).
([15]) الكافي (1/263)، الذخيرة (2/418)، مواهب الجليل (2/190).
([16]) انظر: المغني (3/287)، والإنصاف (5/333).
([17]) بداية المجتهد (1/509).
([18]) بداية المجتهد (1/509)، المغني (3/287).
([19]) فتح العزيز (5/9)، الأم (1/399 – 400)، الحاوي (3/106)، حاشية تحفة المحتاج (3/40).
([20]) انظر: الإنصاف (5/333-334).
([21]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3/167)، وابن أبي شيبة (1/439)، والطحاوي في مشكل الآثار (2/54).
والأثر ضعَّفه الإمام أحمد، قال إسحاق بن منصور الرازي في مسائله عن الإمام أحمد (ص: 219): "ذكرت له قول
علي: (لا جمعة ولا تشريق إلا بمصر جامع ؟)قال: الأعمش لم يسمعه من سعد" فعلله بالانقطاع . وقال ابن حجر (التلخيص 2/54): "حديث علي (لا جمعة ولا تشريق إلاّ في مصر جامع) ضعَّفه أحمد". وقال النووي (المجموع 4/488): " ضعيف جدًا". ولكن للأثر طرق تدفع عنه الانقطاع المعلل به، وقد قال الحافظ ابن حجر في طريق عبد الرزاق وابن أبي شيبة في الدراية (1/ 214): "إسناده صحيح". وصححه ابن حزم في المحلى (5/53)، والألباني في السلسلة الضعيفة (2/317).
([22]) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه(1/440)، وابن حزم في المحلى(5/50)، وصححه الألباني في السلسلة الضعيفة (2/318).
([23]) الشرح الممتع (5/170).
([24]) الأصل (1/327)، والمبسوط (2/24)، وبدائع الصنائع (1/368).
([25]) انظر: المحلى (5/46).
([26]) الأم (1/328)، وانظر: فتح العزيز (2/348-349) ط دار الكتب العلمية، وروضة الطالبين (2/70)، نهاية المحتاج (2/386).
([27]) المغني (3/204)، الإنصاف (5/333-334).
([28]) المحلى (5/46)، المغني (3/204)، المبسوط (2/24)، وبدائع الصنائع (1/268).
([29]) المغني (3/205).
([30]) الكافي لابن عبد البر (1/249)، عقد الجواهر (1/222).
([31]) المغني (3/204).
([32]) تفسير القرطبي (18/113)
([33]) المحلى (5/46).
([34]) أخرجه الدارقطني في سننه (2/7) في الجمعة، باب الجمعة على أهل القرية.
([35]) انظر: التلخيص الحبير (2/57).
([36]) الكامل في الضعفاء (2/204).
([37]) تحفة التحصيل (1/288).(/21)
([38]) أخرجه أبو داود (1069)، وابن ماجه (1082)، وصححه ابن خزيمة (1724)، وابن حبان (7013)، والحاكم في المستدرك (1/281)وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم"، ولم يعلق عليه الذهبيُّ. وقد حسّن الألباني إسناده في صحيح سنن أبي داود (944).
([39]) سنن البيهقي الكبرى (3/177)، الدارقطني (2/3).
([40]) الأم (1/32).
([41]) انظر: المجروحين لابن حبان (2/138)، ونصب الراية (2/918) للزيلعي، والدراية لابن حجر (1/216)، والتلخيص الحبير (2/55)، والإرواء (3/69).
([42]) انظر: تهذيب الكمال (2/184)، التقريب (ص: 115).
([43]) المراسيل لأبي داود (ص160)، وإسناده إلى الزهري كما قال المحقق: "حسن".
([44]) المدونة الكبرى (1/153)، والمحلى من طريق مجهول (5/47)بلفظ: ((ثلاثون رجلاً)).
([45]) عقد الجواهر (1/222).
([46]) أخرجه الدارقطني (2/4)، والطبراني في الكبير (8/244)، بلفظ: ((على الخمسين جمعة)).
والحديث فيه جعفر بن الزبير: متروك، قال الهيثمي: "رواه الطبراني في الكبير، وفيه جعفر بن الزبير صاحب القاسم، وهو ضعيف جدًا"، وقال الذهبي في المهذب (3/155): "ويروي في الخمسين حديثٌ واه". وضعّف الحديث ابن حزم في المحلى
(5/467)، قال: "هذا خبر لا يصح".
([47]) رواه أبو بكر النجاد بإسناده إلى الزهري، انظر: تفسير القرطبي (18/113)، وفيه روح بن غطيف، قال البخاري في التاريخ الكبير (3/308): "منكر الحديث".
([48]) صحيح مسلم (674).
([49]) المحلى (5/46).
([50]) حاشية ابن عابدين (2/172).
([51]) الذخيرة (2/417).
([52]) البيان (2/649)، المجموع (5/19، 25)، نهاية المحتاج (2/386).
([53]) المغني (3/287)، الشرح الكبير، والإنصاف (5/334).
([54]) المحلى (5/86).
([55]) الأصل (1/338)، حاشية ابن عابدين (2/166)، شرح فتح القدير (2/46)، بدائع الصنائع (1/279).
([56]) البيان (2/648)، فتح العزيز (5/9)، روضة الطالبين (2/70).
([57]) المغني (3/287)، الشرح الكبير، والإنصاف (5/336).
([58]) أخرجه مسلم (684)، والبخاري (597)من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه .
([59]) الشرح الممتع (5/170).
([60]) الشرح الممتع (5/207).
([61]) الأوسط (4/293 – 294).
([62]) المدونة (1/155).
([63]) الشرح الممتع (5/207).
([64]) انظر: مسألة هل تصح الصلاة من المنفرد ؟
([65]) المبسوط (2/40).
([66]) الأصل (1/339).
([67]) الأم (205).
مصلى العيد والأحكام المتعلقة به
هل العيد يصلى في أكثر من موضع ؟
اتفق أهل العلم في أنّ الأفضل في صلاة العيدين الاجتماع بمكان واحد، ولم يختلفوا في جواز تعدد إقامتها إذا كان ثمّ حاجة، وإن اختلفوا في جواز تعدد إقامة الجمعة ([1]).
قال الرمليُّ: "ويستحب الاجتماع لها في مكان واحد، ويُكره تعدده من غير حاجة، وللإمام المنع منه، وله الأمر به" ([2]).
الصلاة في المصلى :
اتفق الفقهاء على مشروعية صلاة العيدين في المصلى وفي المساجد، ولكن اختلفوا أيّهما أفضل ؟ على قولين :
القول الأول :
أنّ المصلى هو الأفضل، سواء وسعهم المسجد أو لم يسعهم .
وهو قول الحنفية، والمالكية، واختيار الرافعي من الشافعية ([3]).
قال مالك: "الأفضل أن يصلي العيد في المصلى بكل حال" ([4]).
القول الثاني:
أنّ المسجد هو الأفضل إن كان يسعهم، وإلاّ خرج بهم .
وهو قول الشافعية ([5]).
قال الشافعي: "فإنّ عُمِّر بلدٌ فكان مسجد أهله يسعهم في الأعياد لم أرَ أنّهم يخرجون منه، وإن خرجوا فلا بأس"([6]).
الأدلة :
أدلة القول الأول:
استدلوا بالأحاديث المتكاثرة في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى يوم العيد، من ذلك ما جاء عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغدو إلى المصلى، والعنَزة بين يديه تحمل، وتنصب بالمصلى بين يديه، فيصلي إليهما ([7]).
وعن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى
المصلى ([8]).
أدلة القول الثاني :
1- أنّ أهل مكة كانوا يصلون في المسجد الحرام، والمسجد إذا وسع الناس كان أفضل؛ لأنه أشرف وأنظف .
وهذا التعليل فيه نظر؛ لأنّ الظاهر من صلاة أهل مكة في الحرم كثرة الجبال فيها، وأنّ الصحراء ليست قريبة بالنسبة لهم .
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصلي في المصلى مع مسجده، وصلاة النافلة في البيت أفضل مع شرف المسجد.
2- حضور المسجد أسهل من حضور المصلى .
وقد رُدّ ونوقش هذا التعليل بأنّ المصلى أسهل للحضور، لكون العيد يقصده أهل القرى والبوادي، ويأتون من كل مكان، فكان المصلى أيسر لهم .
3- إنّما حمل النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة في المصلى ضيق المسجد .
وهذا الاستدلال لا يصح، لأنّ أول صلاة عيدٍ صلاّها النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الثانية للهجرة([9])، وكان المسلمون يومئذ قلّة، فالذين كانوا يحضرون معه الجمعة هم الذين كانوا يحضرون معه العيد، فلم يكن المسجد يضيق بهم .
الترجيح :(/22)
والراجح – والله أعلم - أنّ الصلاة بالمصلى هي السنة والأفضل، وأنّ الخروج في العيدين إليها تشريع من النبي صلى الله عليه وسلم، وليست اتفاقًا من أجل ضيق المسجد.
قال ابن المنذر: "السنة أن يخرج النّاس إلى المصلى في العيد" ([10]).
وقال ابن حزم: "وسنة صلاة العيدين أن يبرز أهل كل قرية أو مدينة لفضاء واسعٍ" ([11]).
وقال شيخ الإسلام: "ولم يكن يُصلّي صلاة العيد إلاّ في مكان واحدٍ مع الإمام، يخرج بهم إلى الصحراء، فيصلي هناك، فيصلي المسلمون كلهم صلاة العيد" ([12]).
* مراجع المسألة :
حاشية ابن عابدين (2/169)، مجمع الأنهر (1/173)، الفتاوى الهندية (1/150)، المبسوط (1/39 – 40)، المدونة (1/171)، المعونة (1/324)، الكافي (1/263)، عقد الجواهر (1/242)، شرح ابن عليش (1/279)، الأم (1/207)، الحاوي (2/486، 497)، المجموع (5/4)، فتح العزيز (5/37)، نهاية المحتاج (2/395)، البيان (2/626)، روضة (2/74)، شرح الزركشي (2/217)، المقنع (5/336)، المستوعب (3/54)، الشرح الكبير (5/336)، الفروع (2/139)، الإنصاف (5/
36)، المغني (3/261)، الإعلام لابن الملقن (4/253).
مصلى العيد هل يأخذ أحكام المسجد :
هذه المسألة اختلف الفقهاء فيها على قولين :
القول الأول :
مصلى العيد يأخذ أحكام المسجد .
وهو قول الحنابلة .
قال في الإنصاف: "ومصلى العيد مسجد على الصحيح من المذهب"([13]).
وهو اختيار ابن عثيمين ([14]).
القول الثاني :
مصلى العيد لا يأخذ حكم المسجد .
وهو قول الحنفية ([15])، ومذهب البخاري ([16]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
استدلوا بحديث أم عطية: ((أن يُخرج العواتق وذوات الخدود والحيض، وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين، ويعتزل الحيض المصلى))([17]).
وجه الدلالة: أنّ الحائض ممنوعة من دخول المسجد، ولا وجه لمنعها من حضور المصلى إلاّ كون المصلى مسجدًا .
أدلة القول الثاني :
أنّ المسجد هو الذي تقام فيه الصلوات الخمس، ومصلى العيد لا تقام فيه الصلوات الخمس، بل لا تقام به فريضة واحدة من فرائضه .
الترجيح :
والراجح هو أنّ مصلى العيد لا يأخذ حكم المسجد، وكون الحائض تمنع منه إنّما هو وقت الصلاة؛ لأنها لا تصلي، لكراهة جلوس من لا يصلي مع المصلين في محل واحد، فعن يزيد بن الأسود قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجته قال: فصليت معه صلاة الفجر في مسجد الخيف، يعني مسجد منى، فلمّا قضى صلاته إذا هو برجلين في آخر القوم، ولم يصليا معه، فقال: ((عليّ بهما)). فأتي بهما ترعد فرائصهما، فقال: ((ما منعكما أن تصليا معنا)) ؟ قالا: يا رسول الله ! كنا قد صلينا في رحالنا. قال: ((فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنّها لكم نافلة)) ([18]).
وقد ورد في صحيح مسلم صراحة المراد بالاعتزال، وأنّه اعتزال الصلاة، وذلك في إحدى روايات حديث أم عطية قالت: (فيعتزلن الصلاة)([19]).
ولو كان الاعتزال مقصودًا به اعتزال كل ما يطلق عليه أنّه مصلى، بَعُدْن عن شهود الخير ودعوة المسلمين، ولم يكن في وسعهن سماع الخطبة.
قال ابن رجب: "والأظهر أنّ أمر الحيّض باعتزال المصلّى، إنّما هو حال الصلاة ليتسع على النساء الطاهرات مكان صلاتهن، ثم يختلطن بهن في سماع الخطبة" ([20]).
* مراجع المسألة :
الفروع (1/170)، الشرح الكبير (2/116)، البحر الرائق (2/39)، الشرح الممتع (5/24)، إحكام الأحكام (ص: 349)، الإعلام لابن الملقن (4/253).
خروج النساء إلى العيدين :
اتفق أهل العلم على أنّ خروج النساء إلى العيدين زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشروعًا واختلفوا بعد ذلك في حكم خروجهنّ على أقوال :
القول الأول :
كراهية خروج النساء الشواب إلى العيدين، وترخيص ذلك للعجوز الكبيرة .
وهو قول محمد بن الحسن، والشافعي، ورواية عن أحمد ([21]). ومذهب الحنفية، والشافعية، والصحيح من مذهب الحنابلة ([22]).
واختاره المجد ابن تيمية ([23]).
القول الثاني :
للنساء أن يخرجن إلى العيدين، وليس عليهنّ ذلك، من غير كراهة ولا استحباب .
وهو قول مالك، ورواية عن أحمد ([24]).
القول الثالث :
يستحب خروج النساء، المخدرات وغير المخدرات، الشابة والعجوز، إذا خرجن من غير شهوة اللباس والطيب .
وهو رواية عن أحمد، واختارها من الحنابلة ابن حامد ([25]).
القول الرابع :
كراهة خروج النساء عامة شابة أو عجوز .
وهو رواية عن أحمد ([26])، واختارها القاضي أبو يعلى ([27]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
قالوا: خشية الفتنة بالنساء الشواب، وأمن ذلك في العجائز .
أدلة القول الثاني :
لم يقولوا بالكراهة، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهنّ بالخروج، ولم يقولوا بالاستحباب لخشية الفتنة بخروجهن .
أدلة القول الثالث :
أخذو بظاهر حديث أم عطية في الصحيحين ([28]) في الأمر بخروجهنّ، وعدم التفريق في ذلك بين الشابة والعجوز .
أدلة القول الرابع :
عللوا قولهم بفساد الزمان بعد عصر الصحابة رضوان الله عليهم .(/23)
الترجيح :
والقول الأقرب إلى الصواب هو القول باستحباب خروج النساء مطلقًا مخدرة كانت أو غير مخدرة، شابة كانت أو عجوزًا .
للأمر الصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجهن، بل القول بوجوب إخراجهنّ هو الأقوى كما مضى توضيحه في بيان حكم صلاة العيدين، والله أعلم .
* مراجع المسألة :
الأصل (1/343)، الحجة (1/306)، المبسوط (2/41)، بدائع الصنائع (1/275)، المدونة (1/368)، عقد الجواهر (1/241)، الذخيرة (2/417)، الأم (1/206)، الحاوي (2/ 483)، المجموع (5/ 8)، فتح العزيز (5/ 24)، البيان (2/630)، التمام (1/246)، مسائل أحمد لصالح (ص: 402)، الشرح الكبير (5/ 328)، المستوعب (3/ 54)، الإنصاف (5/328)، المغني (3/263)، الإعلام (4/251).
المشي إلى المصلى :
يُستحبّ الخروج إلى المصلى ماشيًا باتفاق الفقهاء من غير خلاف في المسألة، لما روي عن علي قال: (من السنة أن تخرج إلى العيد ماشيًا، وأن لا يُركب إلاّ من عذر)([29]).
قال الترمذيُّ: "والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم، يستحبون أن يخرج الرجل إلى العيد ماشيًا، وأن لا يركب إلاَّ من عذر ".
وعن جعفر بن برقان أنّ عمر بن عبد العزيز كتب من استطاع منكم أن يمشي إلى العيدين فليفعل ([30]).
وقال سعيد بن المسيب: "من سنة الفطر المشي، والأكل قبل الغدو، والاغتسال" ([31]).
وقال أبو المعالي: "إن كان البلد ثغرًا استحب الركوب وإظهار السلاح"([32]).
وقال ابن قدامة صاحب الشرح الكبير: "وإن كان بعيدًا فلا بأس أن يركب"([33]).
* مراجع المسألة :
مجمع الأنهر (1/173)، المدوَّنة (1/171)، المعونة (1/322)، الكافي (1/263)، عقد الجواهر (1/
242)، الذخيرة (2/419)، الأم (1/207)، الحاوي (2/486)، المجموع (5/10)، فتح العزيز(5/37،40)، نهاية المحتاج (2/396)، الشرح الكبير (5/326)، المبدع (2/180)، الإنصاف (5/326).
الذهاب من طريق والعودة من طريق آخر :
يستحب الذهاب إلى مصلى العيد من طريق، والرجوع من طريق آخر باتفاق أكثر الفقهاء، لما روي عن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق ([34]).
وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في
غيره ([35]).
قال الترمذيُّ: "وقد استحبَّ بعض أهل العلم للإمام إذا خرج في طريق أن يرجع في غيره، اتباعًا لهذا الحديث، وهو قول الشافعي" ([36]).
قال ابن رجب: "وقد استحبّه كثير من أهل العلم للإمام وغيره، وهو قول مالك والثوري والشافعي وأحمد – وألحق الجمعة بالعيد في ذلك - ولو رجع من الطريق الذي خرج منه لم يكره" ([37]).
قال ابن حجر: "والذي في الأم أنه يستحب للإمام والمأموم، وبه قال أكثر الشافعية، وقال الرافعي: لم يتعرض في الوجيز إلاّ للإمام، وبالتعميم قال أكثر أهل العلم" ([38]).
قال الحصفكي: "ولا بأس بعوده راكبًا، وندب كونه من طريق آخر" ([39]).
قال ابن عابدين: "قوله: (من طريق آخر) لِما رواه البخاريُّ أنّه كان إذا كان يوم عيدٍ خالف الطريق؛ ولأنّ فيه تكثير الشهود، لأنّ أمكنة القرية تشهد لصاحبها" ([40]).
وقال ابن أبِي زيد القيروانِي: "ويستحب في العيدين أن يمضي من طريق، ويرجع من أخرى" ([41]).
وقال النوويُّ: "والسنة أن يمضي إليها في طريق، ويرجع في أخرى" ([42]).
وقال المرداويّ: "هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم" ([43]).
وقد تلمّس بعض العلماء حِكَمًا لهذه المغايرة، منها :
1- قيل: ليشهد له الطريقان .
2- وقيل: ليشهد له سكان الطريقين من الجنّ والإنس .
3- وقيل: ليتصدق على أهل الطريق .
4- وقيل: ليتصدق على أهل الطريقين .
5- وقيل: ليساوي بينهما في التبرك به، وفي المسرة بمشاهدته، والانتفاع بمسألته .
6- وقيل: ليغيظ المنافقين أو اليهود، ويرهبهم .
7- وقيل: لأن الطريق الذي يغدو منه كان أطول .
8- وقيل: لأن طريقه إلى المصلى كانت على اليمين، فلو رجع لرجع إلى جهة الشمال .
9- وقيل: لإظهار شعار الإسلام فيهما .
10- وقيل: ليتفاءل بتغيير الحال إلى المغفرة والرضا، إلى غير ذلك من الحكم التي تلمسها أهل العلم ([44]).
* مراجع المسألة :
مجمع الأنهر (1/173)، المدونة (1/171)، الرسالة (ص: 144)، المعونة (1/322)، الكافي (1/263)، بداية المجتهد (1/515)، عقد الجواهر (1/243)، شرح الزركشي (2/232)، المقنع (5/330)، المستوعب
(5/540)، الشرح الكبير (5/ 330)، المغني (5/262، 283)، الإنصاف (5/330)الأم (1/207)، الحاوي (2/495)، فتح العزيز (5/56)، نهاية المحتاج (2/395)، البيان (2/633)، حلية العلماء (2/311)، نيل الأوطار (3/290).
إخراج المنبر في العيدين :
لأهل العلم في هذه المسألة قولان:
القول الأوّل:
كراهية إخراج المنبر للعيدين.
وهو قول محمد بن الحسن، والحنفية، واختلفوا في جواز بنائه في المصلى، أو كراهية ذلك ([45]).
القول الثانِي:
يجوز إخراج المنبر في العيدين.
وهو قول الشافعيّ، واستحبّه النووي ([46]).(/24)
الأدلة:
أدلة القول الأوّل:
أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب على قدميه، فعن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأوَّل شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثًا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف .
قال أبو سعيد: فلم يزل الناس كذلك، حتى خرجتُ مع مروان – وهو أمير المدينة – في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه فجبذنِي، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم - والله -.
فقال: يا أبا سعيد قد ذهب ما تعلم. فقلت: ما أعلم - والله - خير مما لا أعلم. فقال: إنّ الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة ([47]).
وقال: أخرج مروان المنبر في يوم عيد، فبدأ بالخطبة قبل الصلاة، فقام رجل فقال: يا مروان، خالفت السنة، أخرجت المنبر في يوم عيد، ولم يكن يخرج فيه، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة. فقال أبو سعيد: من هذا ؟ قالوا: فلان بن فلان. فقال: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من رأى منكم منكرًا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))([48]).
قال الشوكانِيُّ: "وهذا الحديث يدل على أنّه لم يكن في المصلى في زمانه صلى الله عليه وسلم منبر" ([49]).
ويؤخذ منه أيضًا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب على قدميه، قال ابن رجب: "وذِكْرُ استقباله الناسِ = يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يرق منبرًا، وأنّه كان على الأرض" ([50]).
أدلة القول الثانِي:
قاسوه على الجمعة، فخطبة الجمعة تكون على المنبر.
الترجيح:
والراجح عدم استحباب إخراج المنبر، ولا بناؤه فيه؛ لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يخطب على قدميه، وقد كان بالإمكان أن يأمرهم بإخراجه، أو يبني واحدًا آخر فيه.
وهذا التقرير قد يُشكِل عليه قول جابر رضي الله عنه: قام النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم الفطر فصلّى، فبدأ بالصلاة ثم خطب، فلما فرغ نزل فأتى النساء ... الحديث ([51]).
فقوله : ((فلمّا فرغ نزل)) يشعرُ أنّه كان على منبر.
وقد حلّ هذا الإشكال ابن حجر بقوله: "فيه إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب على مكان مرتفع، لما يقتضيه قوله: (نزل) وقد تقدم في باب الخروج إلى المصلى أنّه صلى الله عليه وسلم كان يخطب في المصلى على الأرض، فلعل الراوي ضمّن النزول معنى الانتقال"([52]).
فهذا هو الذي يخلص إليه البحث أنّ السنة عدم إخراج المنبر في العيدين، ولا تظهر الحاجة للمنبر في هذه الأزمان لتوفر مكبرات الصوت، والله تعالى أعلم .
* مراجع المسألة :
الكتاب (1/345)، حاشية ابن عابدين (2/169)، المبسوط (2/ 43)، بدائع الصنائع (1/ 280)، الأم (1/394، 397)، المجموع (5/22، 23).
الأذان أو النداء لصلاة العيدين :
اتفق العلماء على أنه لا يشرع لصلاة العيدين أذان ولا إقامة، لحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى بغير أذان ولا إقامة ([53]).
فعن مالكٍ أنّه سمع غير واحدٍ من علمائهم، يقول: لم يكن في عيد الفطر، ولا الأضحى = نداء ولا إقامة، منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم.
وقال مالك: "وتلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا" ([54]).
وقال محمد بن الحسن: "ليس فيهما أذانٌ ولا إقامة" ([55]).
واختلف أهل العلم في هل يشرع لها نداء على صيغة معيّنة؛ كقول المؤذن: الصلاة جامعة ؟ على قولين :
القول الأول:
أنّه لا يُشرع فيها النداء بقوله: الصلاة جامعة، ولا بأي صيغة أخرى .
وهو قول المالكية ([56]).
قال خليل: "ولا يُنادى الصلاة جامعة" ([57]).
القول الثاني :
أنه يستحب النداء لصلاة العيدين بقول: الصلاة جامعة .
وهو مذهب الشافعية، والحنابلة ([58]).
قال الشافعيّ: "وأحبّ أن يأمر الإمام المؤذن أن يقول في الأعياد، وما جمع النّاس له من الصلاة: الصلاة جامعة" ([59]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
استدلوا بما روي عن جابر أنّه قال: "لا أذان للصلاة يوم الفطر حين يخرج الإمام ولا بعدما يخرج، ولا إقامة ولا نداء، ولا شيء، لا نداء يومئذ ولا إقامة" ([60]).
أدلة القول الثاني :
استدلوا بما روي عن الزهري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر في العيدين المؤذن أن يقول: الصلاة جامعة.
وهذا حديث مرسل لا يقاوم حديث جابر .
واستدلوا بالقياس على صلاة الكسوف، والقياس لا يثبت أمام النصّ .
الترجيح :
والراجح أنّه لا يشرع للعيدين أذان ولا إقامة ولا نداء بالصلاة جامعة، ولا شيء؛ لحديث جابر .
وهو اختيار ابن قدامة من الحنابلة ([61]).
قال: وقال بعض أصحابنا، يُنادى لها: الصلاة جامعة، وهو قول الشافعيّ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" ([62]).
فصل:(/25)
قيل: إنّ أوّل من أذّن لصلاة ابن الزبير رضي الله عنهما؛ بل رُوي عنه أنّه أذَّن، وأقام .
فعن عطاء بن يسارٍ أنّ ابن الزبير سأل ابن عبّاس، وكان الذي بينهما حسنًا يومئذٍ، فقال: لا تؤذن ولا تُقم. فلمّا ساء الذي بينهما أذّن، وأقام ([63]).
وقيل: إنّ أوَّل من أذَّن في العيدين ابن زياد ([64]). وارتضاه ابن الملقن ([65]).
والصحيح أنّ أوّل من أذّن للأذان في العيدين، لما روي عن سعيد بن المسيب قال: "أوّل من أحدث الأذان في العيدين معاوية" ([66]).
وجرى عليه ابن زياد ومروان بن الحكم لأنهما ولاة تحت إمرته .
قال ابن عبد البر: "كان هذا بالحجاز معلومًا مجتمعًا عليه قبل أن يحدث معاوية الأذان في العيدين، وكان أمراؤه وعمّاله يفعلون ذلك، حيث كانوا".
قال الماوردي: "ثم جرى عليه بنو أمية أيام ملكهم، إلى أن ولي بنو العباس، وردوا الأمر إلى حاله، وهو اليوم سيرة الأندلس وبلاد المغرب من أعمال بني أمية" ([67]).
والله تعالى أعلم.
* مراجع المسألة :
الكتاب (1/336)، مجمع الأنهر (1/173).
الأم (1/208)، الحاوي (2/489)، المجموع (5/13)، فتح العزيز (5/45)، البيان (2/634)، الرسالة الفقهية (ص: 144)، المعونة (1/ 323)، الكافي (1/ 264)، بداية المجتهد (1/505)، شرح الزركشي (2/219)، الشرح الكبير (5/338)، المستوعب (3/55)، الإنصاف (5/338)، المغني (3/267)، المقنع (5/338)، نيل الأوطار (3/293)، الإعلام لابن الملقن (ح/226).
التنفل قبل الصلاة وبعدها :
اتفق عامة الفقهاء على أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يتنفل قبل الصلاة، ولا بعدها في المصلى .
واختلفوا هل يكره للمأموم أن يتنفل قبل الصلاة أو بعدها، أم لا ؟ على أقوال ثلاثة:
القول الأول:
له أن يتنفل بعدها لا قبلها، وهو قول الحنفية ([68]).
قال أبو حنيفة: "لا صلاة قبل العيدين، فأمّا بعدهما فإن شئت صليتَ أربعًا، وإن شئتَ لم تصلِ" ([69]).
القول الثاني:
يكره له التنفّل قبل الصلاة وبعدها، وهو قول المالكية، والحنابلة ([70]).
القول الثالث:
له أن يتنفل قبل الصلاة وبعدها، ويكره للإمام، وهو قول الشافعيّ ([71])، واختار هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ([72]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
حديث أبي سعيد الخدري قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئًا، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين)([73]).
أدلة القول الثاني:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد فصلى ركعتين، لم يصل قبلهما ولا بعدهما ([74]).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه خرج يوم عيد فلم يصل قبلها ولا بعدها، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ([75]).
أدلة القول الثالث:
أنّ أحاديث الباب التي وردت في كراهية التنفل قبل صلاة العيد وبعدها محمولة على الإمام، وأن المأموم خلاف الإمام، فله أن يصلي إذا ارتفعت الشمس أينما شاء .
الترجيح :
والراجح هو القول بكراهة التنفل قبل الصلاة وبعدها في المصلى، وذلك لأنّه المنقول من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ولأنه لو اشتغل بالنافلة قبل الصلاة اشتغل عن عبادة الوقت، وهو التكبير، ويكون بذلك انتقل من الفاضل إلى المفضول، فيكره له ذلك، والله أعلم .
* مراجع المسألة :
شرح فتح القدير (2/73)، الكتاب (1/341، 441)، حاشية ابن عابدين (2/169 – 170)، الحجة (1/300)، مجمع الأنهر (1/173)، المبسوط (3/40)، بدائع الصنائع (1/280)، المدونة (1/170)، المعونة (1/326)، الكافي (1/263)، بداية المجتهد (1/511)، عقد الجواهر (1/242)، الأم (1/207 – 208)، المجموع (5/13)، فتح العزيز (5/44)، نهاية المحتاج (2/396)، البيان (2/632)، مختصر الخلافيات (2/365)، حلية العلماء (2/302)، شرح الزركشي (2/230)، المقنع (5/358)، الشرح الكبير (5/358)، الإنصاف (5/ 358)، المستوعب (3 /62)، النكت (1/163)، المغني (3/208)، الشرح الممتع (5/202)، نيل الأوطار (3/300).
([1]) المجموع (4/591)، المغني (3/212)، مجموع فتاوى شيخ الإسلام (24/208).
([2]) نهاية المحتاج (5/386).
([3]) حاشية ابن عابدين (2/169)، عقد الجواهر (1/150)، فتح العزيز (5/37).
([4]) البيان (2/627).
([5]) الحاوي (2/486)، المجموع (5/4).
([6]) الأم (3/223)ط: حسّون .
([7]) البخاري (973).
([8]) البخاري (956).
([9]) راجع: أول صلاة عيد صلاها النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
([10]) الأوسط (4/257).
([11]) المحلى (5/81).
([12]) مجموع الفتاوى (17/480).
([13]) الإنصاف (2/116).
([14]) الشرح الممتع (5/204).
([15]) حاشية البحر الرائق (2/39)، حاشية ابن عابدين (1/657).
([16]) فتح الباري (12/130).
([17]) البخاري (324)، مسلم (890).
([18]) أخرجه أبو داود (575)، والترمذي (219)، والنسائي (2/112)، وصححه ابن خزيمة (1638)، وابن حبان (164)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (538).
([19]) مسلم (2/606، 890).(/26)
([20]) فتح الباري لابن رجب (2/142).
([21]) الأصل (1/343)، الأم (1/206)، الفروع (2/137).
([22]) المبسوط (2/41)، الحاوي (2/283)، الإنصاف (5/338)، المستوعب (3/54).
([23]) الإنصاف (5/338).
([24]) المدوّنة (1/368)، عقد الجواهر (1/241)، الذخيرة (2/417)، الفروع (2/137)، الإنصاف (5/338).
([25]) الفروع (/137)، التمام (1/246)، الإنصاف (5/328).
([26]) الفروع (2/137)، مسائل الإمام أحمد لصالح (رقم: 402)، الإنصاف (5/338).
([27]) التمام لابن أبي يعلى (1/246).
([28]) البخاري (324)، مسلم (890).
([29]) أخرجه الترمذي (536)، وقال: "هذا حديث حسن"، وحسّنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (437).
([30]) انظر: المدوّنة (1/171).
([31]) انظر: المدوّنة (1/171).
([32]) الإنصاف (5/325).
([33]) الشرح الكبير (5/326).
([34]) البخاري (986).
([35]) الترمذي (547)، ابن ماجه (1301)، قال أبو عيسى: "حسن غريب "، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (446).
([36]) سنن الترمذي (2/425 – 426).
([37]) فتح الباري لابن رجب (9/72).
([38]) فتح الباري لابن حجر (2/472 – 473).
([39]) الدر المختار، انظر: حاشية ابن عابدين (2/169).
([40]) حاشية ابن عابدين (2/169).
([41]) الرسالة (ص 144).
([42]) المجموع (5/15).
([43]) الإنصاف (5/330).
([44]) انظرها في الإنصاف (5/331 – 332).
([45]) الأصل (1/345)، المبسوط (2/169)، بدائع الصنائع (1/280).
([46]) الأم (1/394)، المجموع (5/22).
([47]) البخاري (956).
([48]) أبو داود (1140)، ابن ماجه (1275)، وصححه ابن حبان (307)، والألباني في صحيح سنن أبي داود(1009).
([49]) نيل الأوطار (3/373).
([50]) فتح الباري لابن رجب (9/45).
([51]) البخاري (978).
([52]) فتح الباري لابن حجر (2/467).
([53]) أخرجه أحمد (1/227)، وأبو داود (1147)، وابن ماجه (1274)، وصححه الألباني في سنن أبي داود (1016).
([54]) موطأ مالك (1/177) في العيدين، باب العمل في غسل العيدين، والنداء بينهما.
([55]) الأصل (1/336).
([56]) كفاية الطالب لأبي الحسن المالكي (1/491).
([57]) مختصر خليل (ص 48).
([58]) الحاوي (2/489)، الشرح الكبير (338).
([59]) الشرح الكبير (5/338)، المستوعب (3/553).
([60]) مسلم (886).
([61]) المغني (3/268).
([62]) المغني (3/368).
([63]) أخرجه ابن أبي شيبة (5665)، وصححه ابن حجر في الفتح (2/453)، والشوكاني في النيل (3/351).
([64]) انظر: المغني (3/267).
([65]) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام له (4/223).
([66]) مصنف ابن أبي شيبة برقم (5665).
([67]) الحاوي الكبير (3/113)ط: محمود عطرجي .
([68]) الأصل (1/341).
([69]) الحجة لمحمد بن الحسن (1/300).
([70]) الكافي لابن عبد البر (1/263)، عقد الجواهر (1/242)، المغني (3/208).
([71]) الأم (1/391).
([72]) الشرح الممتع (5/202).
([73]) ابن ماجه (1293)، وصححه الألباني (1069).
([74]) أخرجه أحمد (1/354)، وأبو داود (1159)، والنسائي في الكبرى (1792)، وصححه الألباني (1027).
([75]) مسند أحمد برقم (5212)، مصنف ابن أبي شيبة (5735)، والترمذي (538)وقال: حسن صحيح .
اجتماع العيد والجمعة :
اتفق أهل العلم على استحباب حضور العيد والجمعة، واختلفوا فيمن حضر العيد هل يُرخّص له في ترك الجمعة أو لا ؟على أربعة أقوال :
القول الأول :
الرخصة لأهل البر والبوادي في ترك الجمعة ويصلونها ظهرًا .
وهو قول الشافعي، ورواية عن مالك ([1]).
قال الشافعي: "وإذا كان يوم الفطر يوم الجمعة صلّى الإمام حين تحلّ الصلاة، ثم أذن لمن حضره من غير أهل المصر في أن ينصرفوا إن شاؤوا إلى أهليهم ولا يعودون إلى الجمعة" ([2]).
وقال: "ولا يجوز هذا لأحد من أهل المصر أن يدعوا أن يجمعوا إلا من عذر يجوز لهم به ترك الجمعة، وإن كان يوم عيد" ([3]).
القول الثاني :
أنّ الجمعة واجبة على كل من صلى العيد .
وهو قول أبي حنيفة، ورواية عن مالك، واختيار ابن حزم، وابن المنذر، وابن عبد البر ([4]).
قال أبو حنيفة: "عيدان اجتمعا في يوم واحد، فالأول سنة، والآخر فريضة، ولا يترك واحد منهما" ([5]).
وروى ابن القاسم عن مالك أنّ ذلك – ترك الجمعة – غير جائز، وأن الجمعة تلزمهم على كل حال"([6]).
القول الثالث :
أنّ من شهد العيد سقطت عنه فرضية الجمعة، لكن على الإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها، ومن لم يشهد العيد .
وهو مذهب الحنابلة، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ([7]).
قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن عيدين اجتمعا في يوم يترك أحدهما ؟ قال: لا بأس به، أرجو أن يجزئه ([8]).
القول الرابع :
أنّ الجمعة والظهر يجزئ عنهما صلاة العيد .
وهو قول عطاء رحمه الله تعالى .
قال عطاء: "اجتمع يوم فطر ويوم جمعة على عهد ابن الزبير، فقال: (عيدان اجتمعا في يوم واحد)، فجمعهما جميعًا فصلاهما ركعتين بكرة، لم يزد عليها حتى صلى العصر" ([9]).
الأدلة :(/27)
أدلة القول الأول :
استدل أصحاب القول بأدلة منها :
1- بما روي عن أبي عبيد مولى ابن أزهر، قال: شهدت العيد مع عثمان بن عفان، وكان ذلك يوم الجمعة، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب فقال: (أيها الناس، إنّ هذا يوم قد اجتمع لكم فيه عيدان، فمن أحبّ أن ينتظر الجمعة من أهل العوالي فلينتظر، ومن أحبّ أن يرجع فقد أذنت له)([10]).
2- ما روي عن عمر بن عبد العزيز قال: اجتمع عيدان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
((من أحب أن يجلس من أهل العالية فليجلس في غير حرج))([11]).
أدلة القول الثاني :
استدلوا بأدلة منها :
1- قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله }، ولم يخص عيدًا من غيره، فوجب أن يحمل على العموم .
2- قالوا: ليس للإمام أن يأذن في ترك الفريضة، وفعل عثمان اجتهاد منه، وإنّما ذلك بحسب العذر، فمتى أسقطها العذر سقطت .
أدلة القول الثالث:
استدلوا بأدلة منها :
1- حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه عن الجمعة، وإنّا مجمعون))([12]).
2- ما روي عن إياس بن أبي رملة الشامي قال: شهدت معاوية مع أبي سليمان وهو يسأل زيد بن
أرقم، قال: أشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدين اجتمعا في يوم ؟ قال: نعم، قال: فكيف صنع ؟ قال: صلى للعيد ثم رخص في الجمعة، فقال: من شاء أن يصلي فليصل ([13]).
3- حديث ابن عمر قال: اجتمع عيدان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلّى بالناس، ثم قال: ((من شاء أن يأتي الجمعة فليأتها، ومن شاء أن يتخلف فليتخلف))([14]).
أدلة القول الرابع :
مضى أنّ معتمد عطاء هو فعل ابن الزبير، فعن ابن جريج قال: قال عطاء: إن اجتمع يوم الجمعة ويوم الفطر في يوم واحد فليجمعهما، فليصل ركعتين فقط، حيث يصلي صلاة الفطر ثم هي هي حتى العصر، ثم أخبرني عند ذلك قال: اجتمع يوم فطر ويوم جمعة في يوم واحد زمن الزبير، فقال الزبير: عيدان اجتمعا في يوم واحد، فليجمعهما جميعًا يجعلهما واحدًا، وصلى يوم الجمعة ركعتين بكرة صلاة الفطر، ثم لم يزد عليها حتى صلى العصر.
قال: فأما الفقهاء فلم يقولوا في ذلك، وأما من لم يفقه فأنكر ذلك عليه. قال: ولقد أنكر ذلك عليه، وصليت الظهر يومئذ.
قال: حتى بلغنا بعدُ أن العيدين كانا إذا اجتمعتا كذلك صليا واحدة، وذكر ذلك عن محمد بن علي بن الحسن، أخبر أنهما كانا يجمعان إذا اجتمعا. قال: إنه وحده في كتاب لعلي زعم ([15]).
الترجيح :
أول الأقوال استبعادًا القول الثالث الذي اختاره ابن تيمية؛ لأنّ الأحاديث التي في الباب لا تسلم من مطعن .
أمَّا القول بالرخصة لأهل البوادي استنادًا على أثر عثمان فلا مفهوم له، لأنّ أهل البوادي لا تجب عليهم الجمعة إلا إن قلنا إن حضورهم إلى المصر يلزمهم الجمعة فاحتاجوا إلى الرخصة، ولأنّ حبسهم في البلد يتنافى مع مقاصد العيد من إشاعة البهجة والسرور .
وفي إلزام هؤلاء ومن في حكمهم ممن يشق عليهم حضور الجمعة في العيد الذي يطلب فيه الانشراح والانبساط وإشاعة المرح والفرح تضييق عليهم، وفي الترخيص لهم رفع للحرج عنهم .
وعليه؛ فإنّ القول الراجح هو قول الشافعي ومن وافقه من أهل العلم، أنّ الرخصة في ترك حضور الجمعة لمن حضر العيد من أهل البوادي والقرى ومن يشق عليهم الحضور .
أمّا قول عطاء؛ فقول مهجور، مخالف لقواعد وأصول الشريعة.
قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على وجوب صلاة الجمعة، ودلت الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن فرائض الصلوات خمس، وصلاة العيدين ليست من الخمس" ([16]).
وقال ابن عبد البر: "ليس في حديث ابن الزبير بيان أنه صلى مع صلاة العيد ركعتين للجمعة، وأي الأمرين كان، فإنّ ذلك أمر متروك مهجور، وإن كان لم يصل مع صلاة العيد غيرها حتى العصر، فإن الأصول كلها تشهد بفساد هذا القول" ([17]).
والله أعلم.
* مراجع المسألة :
حاشية ابن عابدين (2/166)، الجامع الصغير (ص: 113)، الأم (1/213)، الحاوي (2/502)، فتح العزيز (5/67)، روضة (2/79)، عقد الجواهر (1/244)، الانتصار (2/590)، الكافي (1/510)، المستوعب (3/69)، المحلى (5/89)، مجموع الفتاوى (24/213)، نيل الأوطار (3/282)، التمهيد (10/277).
([1]) عقد الجواهر (1/244).
([2]) الأم (1/399).
([3]) المصدر نفسه.
([4]) حاشية ابن عابدين (2/166)، عقد الجواهر (1/244)، المحلى (5/89)، الأوسط (4/291)، التمهيد (10/277).
([5]) الجامع الصغير (ص: 113).
([6]) المدونة (1/.
([7]) الكافي لابن قدامة (1/510)، مجموع الفتاوى (24/213).
([8]) سؤالات عبد الله لأبيه (رقم 482).
([9]) أخرجه عن عطاء أبو داود (1072).
([10]) البخاري (5572)، مالك (1/144)، عبد الرزاق (5636)، وأحمد (1/325)، وابن أبي شيبة (5836).
([11]) الأم (1/398)، المسند (1/324)، والحديث مرسل، وفيه إبراهيم بن محمود متروك.(/28)
([12]) أبو داود (1073)، وابن ماجه (1311)، والحاكم (1/288)، وابن الجارود في المنتقى (302)، والبيهقي (3/318)، والحديث تفرد به بقية عن شعبة، وتفرده عن شعبة بمثل هذا الحديث يعد منكرًا .
قال الإمام أحمد: "من أين جاء بقية بهذا ؟!"، كأنّه يعجب منه، ثم قال: "قد كتبت عن يزيد بن عبد ربّه، عن بقيّة عن شعبة حديثين ليس هذا فيهما، وإنّما رواه الناس عن عبد العزيز عن أبي صالح مرسلاً" [ انظر: تاريخ بغداد 3/129 ] .
وقال الدارقطني: "هذا حديث غريب من حديث مغيرة، ولم يروه عنه غير شعبة، وهو أيضاً غريب عن شعبة لم يروه عنه غير بقيّة". وقال: "ورواه جماعة عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، لم يذكروا أبا هريرة" [ انظر: تاريخ بغداد 3/129 ].
([13]) النسائي (3/194)، وابن ماجه (1310)، الدارمي (1/378)، الحاكم (1/288)، أحمد (4/372)، صحيح ابن خزيمة (2/259)، قال المحقق: "إسناده ضعيف"، الحديث تفرد إياس بن أبي رملة عن معاوية، وهو مجهول كما في التقريب، فتفرده بهذا الحديث يعد منكرًا، ولذلك علّق ابن خزيمة الحكم على الحديث عليه، فقال: "باب الرخصة لبعض الرعية في التخلف عن الجمعة إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد، وإن صحّ الخبر، فإني لا أعرف إياس بن أبي رملة بعدالة ولا جرح".
([14]) ابن ماجه (1312)، وابن عدي (6/2448)، وفيه: جبارة ومندل ضعيفان .
([15]) عبد الرزاق (5725).
([16]) الأوسط (4/291).
([17]) التمهيد (10/270).
صلاة العيد قبل الخطبة :
اتفق أهل العلم في أنّ السنة في صلاة العيدين أنّ الصلاة قبل الخطبة، فعن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الأضحى والفطر، ثم يخطب بعد الصلاة ([1]).
وعنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة ([2]).
وعن عطاء: أنّ ابن عباس أرسل إلى ابن الزبير في أول ما بويع له: (إنّه لم يكن يؤذن بالصلاة يوم الفطر، وإنما الخطبة بعد الصلاة)([3]).
وقد قُدِّمت الخطبة على الصلاة في صلاة العيدين زمن بني أمية .
وسبب ذلك فيما يحكى أنّهم أحدثوا في الخطبة لعن من لا يجوز لعنه، فكان الناس إذا كملت الصلاة انصرفوا وتركوهم، فقدّموا الخطبتين؛ ولذلك لمَّا أنكر أبو سعيد على مروان بن الحكم والي معاوية على المدينة تقديمه الخطبة على الصلاة، قال له مروان: "إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل
الصلاة" ([4]).
ولهذا ذهب جمع من أهل العلم إلى أنّ أول من قدّم الخطبة على الصلاة: مروان بن الحكم ([5]).
وقيل: إن أوّل من فعل ذلك عثمان رضي الله عنه ([6]).
وقيل: معاوية ([7]).
وقيل: زياد بالبصرة في خلافة معاوية ([8]).
وقيل: فعله ابن الزبير في آخر أيامه ([9]).
ثم وقع الإجماع على خلاف ذلك والرجوع إلى فعله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه.
والله أعلم ([10]).
* مراجع المسألة :
الكتاب (1/335، 336)، حاشية ابن عابدين (2/167)، بدائع الصنائع (1/276)، المبسوط (2/37)، المدونة (1/168)، المعونة (1/325)، الكافي (1/264)، بداية المجتهد (1/506)، الذخيرة (2/422)، الأم (1/208)، المجموع (5/19، 24)، فتح العزيز (5/54)، الفروع (2/141)، حاشية الروض (2/504)، الإقناع (1/308)، شرح الزركشي (2/ 217)، المقنع (5/339)، المغني (3/261)، الشرح الكبير (5/339)، الإنصاف (5/339)، نيل الأوطار (3/304)، الإعلام لابن الملقن (4/198).
([1]) البخاري (957).
([2]) البخاري (963).
([3]) البخاري (961).
([4]) البخاري (956).
([5]) فتح الباري (2/451 – 452).
([6]) عبد الرزاق (3/283 – 284)، ابن أبي شيبة (2/171)، الاستذكار (7/19).
([7]) عبد الرزاق (3/283)، الاستذكار (7/20).
([8]) ذكره في إكمال المعلم (3/290).
([9]) ذكره في إكمال المعلم (3/290).
([10]) انظر: فتح الباري لابن حجر (2/451 – 452).
صفة الصلاة :
صلاة العيد ركعتان يكبر الإمام في الأولى بعد تكبيرة الإحرام سبع تكبيرات، ويكبر في الثانية قبل القراءة خمس تكبيرات، يجهر فيهما بالقراءة، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بسورة ق، وفي الثانية بسورة القمر، أو يقرأ في الأولى بسورة الأعلى، وفي الثانية بسورة الغاشية .
وفي بعض تفاصيل هذه الصفة خلاف بين أهل العلم، إليك تفصيلها في المسائل التالية:
* مراجع المسألة :
شرح فتح القدير (2/73)، الكتاب (1/336)، مجمع الأنهر (1/173)، بدائع الصنائع (1/274)، المعونة (1/324)، الكافي (1/264)، المجموع (5/15)، فتح العزيز (5/7، 46)، نهاية المحتاج (2/387)، البيان (2/636)، روضة (2/
271)، المقنع (5/347)، الإنصاف (5/347)، الشرح الكبير (5/347)، الكافي (1/518)، المحلى (5/81).
عدد التكبيرات الزوائد في صلاة العيدين :
اتفق أهل العلم على أنّ في صلاة العيدين تكبيرات زوائد، ثم اختلفوا بعد ذلك في عددها على أقوال ثلاثة:
القول الأول:(/29)
إنّ عدد التكبيرات ثلاثٌ بعد تكبيرة الإحرام، وثلاث في الركعة الثانية بعد القراءة قبل تكبيرة الركوع .
وهو قول الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد ([1]).
القول الثاني :
إنّ عدد التكبيرات سبع في الأولى مع تكبيرة الإحرام، وستًا في الثانية مع تكبيرة القيام .
وهو قول مالك، ومذهب والحنابلة، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ([2]).
القول الثالث :
إنّ عدد التكبيرات سبع في الأولى بعد تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمسًا بعد تكبيرة القيام .
وهو قول الشافعية، واختارها ابن عبد البر، وابن حزم ([3]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
استدلوا بما روي عن ابن مسعود أنّه قال: (يكبِّر أربعًا ثم يقرأ، ثم يكبِّر فيركع، ثم يقوم في الثانية فيقرأ، ثم يكبِّر أربعًا بعد القراءة) ([4]).
وروي مثله عن ابن عباس ([5]).
أدلة القول الثاني :
ما رواه مالك عن ابن عمر عن أبي هريرة أنّه قال: شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة، فكبر في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الآخرة خمسًا قبل القراءة ([6]).
قال مالك: "وهو الأمر عندنا".
وعليه جرى عمل أهل المدينة ([7]).
وبما روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر والأضحى، في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية: خمسًا، سوى تكبيرتي الركوع ([8]).
أدلة القول الثالث :
استدلوا بنفس أدلة القول الثاني .
ووجهه عندهم:أنّ الراوي إنّما حكى التكبيرات التي لم تُعْهَد،وليست في غيره، فلم يحك تكبيرة الإحرام، ولا تكبيرة الرفع من السجود .
الترجيح :
والذي يظهر – والله أعلم – أنّ الكلّ جائزٌ، وأنّ الأمر فيه واسعٌ، قال الإمام أحمد: "اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في التكبير، والكلّ جائز" ([9])، وإليه ذهب ابن عثيمين رحمه الله ([10])، والله أعلم.
فصل:
وإذا شك في عدد التكبيرات بنى على الأقل؛ لأنّه المتيقن .
قال ابن قدامة: "وإذا شكّ في عدد التكبيرات؛ بنى على اليقين" ([11]).
وقال ابن مفلح: "إذا شكّ في عدد التكبير؛ بنى على الأقل" ([12]).
* مراجع المسألة :
شرح فتح القدير (2/74)، الكتاب (1/336)، حاشية ابن عابدين (2/172)، الحجة (1/303)، المبسوط (2/38)، اللباب (1/308)، الحجة (1/298)، المدونة (1/169)، الكافي (1/364)، بداية المجتهد (1/507)، الكافي (1/519)، مسائل عبد الله (2/426)، المقنع (5/341)، الشرح الكبير (5/341)، الإنصاف (5/341)، المغني (3/273)، المقنع (5/355)، المغني (3/271)، الشرح الممتع (5/178)مسائل صالح (ص: 685)، الأم (1/209)، الحاوي (2/489)، المجموع (5/19)، مختصر الخلافيات (2/367)، حلية (2/302)، المحلى (5/83)، نيل الأوطار (3/297).
رفع اليدين في التكبيرات الزوائد :
اختلف أهل العلم في رفع اليدين في تكبيرات العيدين على قولين :
القول الأول :
أنّ التكبيرات الزوائد يرفع فيها اليدين .
وهو قول الحنفية، ومذهب الشافعية والحنابلة ([13]).
وقولٌ لمالك، اختارها ابن حبيب من المالكية ([14]).
قال الجوزجانِي: "قلتُ – لمحمد بن الحسن -: فهل يرفع يديه في كلِّ تكبيرة من هذه التسع التكبيرات ؟ قال: نعم ([15]).
قال الشافعيّ: "يرفع المكبِّر في العيدين يديه عند كلّ تكبيرة كان قائمًا؛ تكبيرة الافتتاح والسبع بعدها، والخمس في الثانية" ([16]).
القول الثاني :
أنّه لا يرفع فيها اليدين .
وهو قول المالكية ([17]).
قال مالك: "ولا يرفع يديه في شيءٍ من تكبيرات صلاة العيدين؛ إلاّ في الأولى" ([18]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
1- ما رواه أبو حميد الساعدي: (أنّ النبي كان إذا كبّر قائمًا رفع يديه)([19]).
2- وحديث مالك بن الحويرث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبَّر رفع يديه؛ حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا رفع من الركوع رفع يديه؛ حتى يحاذي بهما منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع فقال: ((سمع الله لمن حمده))؛ فعل مثل ذلك([20]).
وجه الدلالة أنّ هذه التكبيرات وقعت حال القيام؛ فأشبهت تكبيرة الإحرام، والركوع، والرفع منه.
3- وما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الجنازة والعيدين([21]).
والحديث الأول والثاني ليسا في محل النِزاع، وهو قياس محض، وجاءت السنة الصحيحة بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كبّر ورفع يديه وهو جالس ([22]).
وأثر عمر فاصل في النِزاع، ولكنّه ضعيف لا تقوم به الحجة .
أدلة القول الثاني :
أنّه ليس في ذلك سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال مالك: "ليس في ذلك سنة لازمة، فمن شاء رفع يديه فيها كلها، وفي الأولى أحب إليَّ" ([23]).
الترجيح :
والراجح مذهب مالك أنّ الأولى عدم الرفع لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن رفع فلا حرج عليه إن شاء الله، والله أعلم .
* مراجع المسألة :(/30)
شرح فتح القدير (2/77)، الكتاب (1/338)، حاشية ابن عابدين (2/175)، الحجة (1/299)، مجمع الأنهر (1/174)، المبسوط (2/39)، بدائع الصنائع (1/277)، المدونة (1/169)بداية المجتهد (1/509)، عقد الجواهر (1/241)، الأم (1/210)، الحاوي (2/491)، فتح العزيز (5/51)، نهاية المحتاج (2/389)، البيان (2/638)روضة (2/72)، حلية (2/302)شرح الزركشي (2/223)، المقنع (5/345)، شرح منتهى الإرادات (1/307)، الشرح الكبير (5/345)، الإنصاف (5/345)، المحلى (5/83).
إرسال اليدين في التكبيرات :
لأهل العلم في المسألة قولان:
القول الأول:
لا يقبض المصلي يديه في التكبيرات؛ بل يرسلهما، ولا يقبضهما إلاّ بعد تمام التكبيرات.
وإليه ذهبت الحنفية؛ لأنّه ليس بين التكبيرات ذكر مسنون ([24]).
قال الحصفكي: "وليس بين تكبيراته ذكرٌ مسنون، ولذا يرسل يديه".
قال ابن عابدين: "(قوله: ولذا يرسل يديه) أي في أثناء التكبيرات، ويضعهما بعد الثالثة، كما في شرح المنيّة؛ لأنّ الوضع سنة قيام طويل، فيه ذكر مسنون" ([25]).
القول الثانِي:
يقبض اليمنى على اليسرى.
وإليه ذهبت الشافعية بناءً على أنه يشرع عندهم بين كل تكبيرتين ذكر.
قال الماورديُّ: "ويضع اليمنى على اليسرى بين كل تكبيرتين" ([26]).
والذي يظهر أنّ الأمر في ذلك واسع؛ والله أعلم.
* مراجع المسألة :
حاشية ابن عابدين (2/175)، مجمع الأنهر (1/174)، الحاوي (3/116)طبعة التجارية .
ما يقال بين التكبيرات الزوائد :
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين :
القول الأول :
ليس بين التكبيرات ذكر مسنون، وعليه أن يقف بين كل تكبيرتين ساكنًا .
وهو قول الحنفية، والمالكية ([27]).
قال الحصفكيّ: "ويسكت بين كلّ تكبيرتين مقدار ثلاث تسبيحات" ([28]).
قال ابن عبد البر: "وليس بين التكبير ذكرٌ ولا دعاء، ولا قول إلاّ السكوت دون حدٍّ، وذلك بقدر ما ينقطع تكبير مَن خلفه" ([29]).
القول الثاني :
يستحب أن يقف بين كل تكبيرتين قدر آية وسطًا، يهلل الله تعالى ويكبره ويمجده، أو يقول: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)، أو (الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرة وأصيلاً وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليمًا كثيرًا).
وهو قول الشافعية، والحنابلة ([30]).
قال الشافعيّ: "وإذا افتتح الصلاة ثم بدأ بالتكبيرة الأولى من السبعة بعد افتتاح الصلاة، فكبَّرها، ثم وقف بين الأولى والثانية قدر آية لا طويلة ولا قصيرة، فيهلل الله عزّ وجلّ، ويكبِّره ويحمده" ([31]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
عدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم .
أدلة القول الثاني :
قالوا: لأنّها تكبيرات حال القيام فوجب أن يتخللها ذكر كتكبيرات الجنازة .
الترجيح :
والراجح عدم مشروعية الذكر بين التكبيرات؛ لعدم ثبوت شيءٍ من ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحدٍ من صحابته، والله أعلم .
* مراجع المسألة :
حاشية ابن عابدين (2/175)، الحاوي (2/491)، فتح العزيز (5/48)، نهاية المحتاج (3/388)، البيان (2/638)، مختصر الخلافيات (2/372)، روضة (2/ 71)، حلية (2/305)، الكافي (1/364)، عقد الجواهر (1/243)، شرح الزركشي (2/224)، المعونة (2/329)، المغني (3/273)، الشرح الممتع (5/184).
متى يكبر الإمام التكبيرات الزوائد؟ قبل دعاء الاستفتاح أم بعده ؟
اختلف العلماء في هذه التكبيرات، هل هي قبل دعاء الاستفتاح أم بعده ؟ على قولين :
القول الأول :
أنه بعد دعاء الاستفتاح .
وهو قول الحنفية، والشافعية، وهي الرواية المشهورة عن أحمد، اختارها أبو يعلى، والزركشي ([32]).
قال الحصفكي: "ويصلي الإمام بهم ركعتين مثنيًا قبل الزوائد" ([33]).
وقال السرخسي: "ثم لا خلاف أنّه يأتي بثناء الافتتاح عقيب تكبيرة الافتتاح قبل الزوائد، إلاّ في قول ابن أبي ليلى، فإنّه يقول يأتي بالثناء قبل التكبيرات الزوائد" ([34]).
وقال النوويُّ: "مذهبنا أنّ التكبيرات الزوائد تكون بين دعاء الاستفتاح والتعوذ" ([35]).
القول الثاني :
أنّها قبل دعاء الاستفتاح.
وهو رواية عن أحمد، واختارها الخلال، وأبو بكر غلامه ([36]).
القول الثالث :
أنّه مخير بين ذلك .
وهذه رواية عن الإمام أحمد حكاها المرداوي في الإنصاف ([37]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
وجهه عندهم: أن دعاء الاستفتاح شُرِع للصلاة، فتكون في أول الصلاة .
أدلة القول الثاني :
وجهه عندهم: أن الاستفتاح تليه الاستعاذة، وهي قبل القراءة.
الترجيح :
والراجح أنّ الأمر واسعٌ، ولله الحمد، والله أعلم .
فصل:
عامة الفقهاء على أنّ الاستعاذة بعد التكبيرات؛ لأنّها شرعت لافتتاح القراءة لا الصلاة؛ إلاّ ما يروى عن أبي يوسف القاضي أنّه قال به قبل التكبيرات، قال: "لئلا يفصل بين الاستفتاح والاستعاذة" ([38])، والله أعلم .
* مراجع المسألة :(/31)
حاشية ابن عابدين (2/172 – 173)، مجمع الأنهر (1/174)، المبسوط (2/42)، بدائع الصنائع (1/277)، المجموع (5/ 20)، التمام (1/243)، شرح الزركشي (2/223)، المقنع (5/341)، المستوعب (3/57)، الشرح الكبير (5/341)، الإنصاف (5/341)، الشرح الممتع (5/176)، المغني (3/273).
التكبيرات الزوائد في الركعة الثانية قبل القراءة أم بعدها ؟
اختلف أهل العلم في مسألة التكبيرات الزوائد، هل هي في الركعة الثانية، قبل القراءة أم بعدها ؟ على قولين :
القول الأول:
أنّها تكون بعد القراءة قبل تكبيرة الركوع .
وهو مذهب الحنفية، ورواية عن أحمد، اختارها أبو بكر غلام الخلال ([39]).
قال ابن عابدين: "ويوالي ندبًا بين القراءتين أي بأن يكبر في الركعة الثانية بعد القراءة" ([40]).
القول الثاني :
أنّها تكون قبل القراءة بعد الرفع من السجود .
وهو قول الجمهور؛ من المالكية، والشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة ([41]).
قال ابن شاس: "ويزيد في الثانية بعد تكبيرة القيام خمس تكبيرات" ([42]).
القول الثالث :
يخيّر، وهو رواية عن الإمام أحمد ([43]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
استدلوا بأنّ هذا هو صفة صلاة ابن مسعود ([44]).
وبما أُثِر عن ابن عباس أنّه والى بين القراءتين ([45]).
أدلة القول الثاني :
استدلوا بما رُوَِيَ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التكبير في الفطر سبع في الأولى، وخمس في الآخرة، والقراءة بعدهما كليهما)). ([46])
وعنه قال: كبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد سبعًا في الأولى، ثم قرأ، ثم كبّر فركع، ثم سجد، ثم قام فكبّر خمسًا، ثم قرأ، ثم كبّر فركع، ثم سجد ([47]).
الترجيح:
والراجح مذهب الجمهور؛ أنّ التكبيرات تكون في الركعة الثانية قبل القراءة، للسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل فعل ابن مسعود وابن عباس كان عن اجتهاد منهما، كما قال البيهقي بعد أن أورد أثر ابن مسعود: "وهذا رأيٌّ من جهة عبد الله بن مسعود، والحديث المسند مع ما عليه عمل المسلمين أولى أن
يتبع" ([48])، والله أعلم .
* مراجع المسألة :
حاشية ابن عابدين (2/173)، الحجة (1/303)، المبسوط (2/39)، عقد الجواهر (1/243)، حلية (2/304)، المجموع (2/20)، المقنع (5/ 349)، المستوعب (3/58)، الشرح الكبير (5/349)، المغني (3/270)، الإنصاف (5/349).
إذا نسي الإمام التكبيرات في الأولى حتى قرأ :
لأهل العلم في هذه المسألة قولان:
القول الأول :
أنّه إذا نسي التكبيرات حتى قرأ قبل أن يركع؛ رجع وكبّر ثم أعاد القراءة، ثم ركع، ويسجد للسهو قبل السلام .
وهو مذهب الحنفية ، والمالكية، والقديم من قول الشافعيّ، ووجهٌ عند الحنابلة ([49]).
قال الكاسانِي: "فإمّا إن تذكرها قبل الفراغ عنها – أي تذكر التكبيرات قبل الفراغ من القراءة – بأن قرأ الفاتحة، دون السورة ترك القراءة، ويأتي بالتكبيرات؛ لأنّه اشتغل بالقراءة قبل أوانها، فيتركها، ويأتي بما هو الأهم؛ ليكون المحلّ محلاً له، ثم يعيد القراءة" ([50]).
قال ابن عبد البر: : فإن نسي وقرأ، ثم ذكر قبل أن يركع؛ رع فكبَّر التكبير على وجهه، ثم قرأ وتمادى في صلاته، وسجد بع السلام لسهوه" ([51]).
القول الثاني :
أنّه إذا نسيها حتى قرأ؛ فإنّه لا يرجع، ويسجد للسهو في آخرها ندبًا.
وهو قول الشافعي الجديد، ومذهب الشافعية، والحنابلة ([52]).
قال النوويُّ: "ولو تذكرهنّ – أي التكبيرات – قبل الركوع، إمّا في القراءة، وإمّا بعدها، فقولان: الصحيح الجديد أنّه لا يأتي بهنّ لفوات محلهنّ، وهو قبل القراءة.
والقديم يأتي بهنّ، سواء ذكرهنّ في القراءة، أو بعدها ما لم يركع، وعنده أنّ محلهنّ القيام، وهو باقٍ" ([53]).
قال ابن قدامة: "فإن نسي التكبير في القراءة لم يَعد إليه" ([54]).
الأدلة :
أدلة القول الأول :
وجهه عندهم: أنّ محل التكبير محله القيام فلم يفوت محله .
أدلة القول الثاني :
وجهه عندهم: أنّ التكبير محله قبل القراءة، فإذا شرع في القراءة، فات المحل، وهو ذكر مسنون مثل دعاء الاستفتاح، فإذا فات محله لم يرجع إليه .
الترجيح :
والراجح - والله أعلم - أنّ التكبيرات محلها قبل القراءة، وليس القيام، ولذلك إذا فات محله فات، ولم يرجع إليه، ويشرع السجود للسهو، ولا يجب .
فصل:
إذا أدرك المأموم بعض التكبيرات، أو أدرك قراءة الإمام أو ركوعه = فإنّه يتابع الإمام فيما أدركه، ويقضي إن عليه قضاء ما فاته على صفته.
قال النوويُّ: "ولو أدرك الإمام أثناء القراءة، وقد كبَّر بعض الصلوات؛ فعلى الجديد، لا يكبِّر ما فاته. وعلى القديم يُكبِّر.
ولو أدركه راكعًا ركع معه، ولا يكبِّر بالاتِّفاق، ولو أدركه في الركعة الثانية، كبَّر معه خمسًا على الجديد، فإذا قام إلى الثانية كبَّر أيضًا خمسًا" ([55]).
وقال ابن قدامة: "ومن كبَّر قبل سلام الإمام، صلَّى ما فاته على صفته" ([56]).(/32)
وقال قدامة صاحب الشرح الكبير: "وإن أدرك معه ركعة – وقلنا: ما يقضيه المسبوق أوّل صلاته – كبَّر في الذي يقضيه سبعًا. وإن قلنا : آخر صلاته؛ كبَّر خمسًا" ([57]).
* مراجع المسألة :
المدونة (1/170)، الكافي (1/264)، عقد الجواهر (1/244)، الذخيرة (2/423)، المجموع (5/18)، فتح العزيز (5/61)، نهاية المحتاج (2/390)، البيان (2/639)، روضة (2/273)، التمام (1/245)، الشرح الكبير (5/356)، المستوعب (3/260)، الإنصاف (5/356)، المبدع (2/185).
القراءة في صلاة العيدين :
استحبّ أهل العلم أن يقرأ فيهما بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بلازم عندهم، فأيّ شيء قرأ أجزأه .
فاستحبوا أن يقرأ بسورة ق، وسورة القمر .
فعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنّ عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ بـ { ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ }
و{ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ } ([58]).
أو بالأعلى والغاشية .
فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة: بـ {سبّح اسم ربّك الأعلى}، و{هل أتاك حديث الغاشية}. قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضًا في الصلاتين ([59]).
قال ابن المنذر: "الإمام بالخيار إن شاء قرأ في صلاة العيدين بـ {ق}، و{اقتربت الساعة}، وإن شاء قرأ بـ {سبّح اسم ربّك الأعلى}، و{هل أتاك حديث الغاشية}، والاختلاف في هذا من جهة المباح، وإن قرأ بفاتحة الكتاب وسورة سوى ما ذكرناه أجزأه" ([60])، والله تعالى أعلم.
فصل:
إذا قرأ الإمام آية سجدة في الصلاة أو الخطبة وسجد، هل يسجد مَن معه ؟
قال أبو سليمان الجوزجاني: "قلت – لمحمد بن الحسن -: أرأيت إمامًا قرأ السجدة يوم العيد ؟ قال: عليه أن يسجد ويسجد معه أصحابه.
قلت: وكذلك لو قرأها وهو يخطب ؟ قال: نعم، يسجدها ويسجد من سمعها، وأمّا إذا قرأها في الصلاة فسجدها سجدها معه مَن سمعها، ومَن لم يسمعها، جميع من معه في الصلاة" ([61]).
* مراجع المسألة :
الكتاب (1/340)، حاشية ابن عابدين (2/173)، المدونة (1/168)، المعونة (1/324)، بداية المجتهد (1/507)، الرسالة (ص: 144)، الأم (1/210)، الحاوي (2/491)، فتح العزيز (5/50)، نهاية المحتاج (2/ 390)، روضة (2/72)، حلية (2/306)، التمام (1/243)، شرح الزركشي (2/219)، المغني (3/268).
سجود السهو في العيدين :
صلاة العيدين كسائر الصلوات إن وقع فيها سهو فإنّه يسجد للسهو فيها .
قال الجوزجاني: قلت – لمحمد بن الحسن -: أرأيت السهو في العيدين والجمعة والصلاة المكتوبة والتطوع أهو سهو ؟ قال: نعم ([62]).
والتكبيرات الزوائد سنة يشرع للإمام إذا نسيها أن يسجد السهو لها، ولا يجب .
قال ابن عبد البر: "فإن نسي التكبير وقرأ ثم ذكر قبل أن يركع رجع فكبّر التكبير على وجهه، ثم قرأ وتمادى في صلاته، وسجد بعد السلام السهو، وإن لم يذكر ولم يسبح به حتى ركع وتمادى في صلاته وسجد قبل السلام السهو" ([63]).
وقال ابن شاس: "لو نسي التكبير في ركعة فلا يتداركها إذا تذكرها بعد الركوع أو فيه، وليسجد قبل السلام، وقيل: يتداركها ما لم يرفع رأسه منه، وإن تذكر قبل الركوع كبّر ثم أعاد القراءة، وسجد بعد السلام، وقيل: لا يعيدها" ([64]).
قال ابن مفلح: "إن نسي التكبيرات ساهيًا لا يلزمه سجود؛ لأنَها هيئة" ([65])، والله أعلم.
* مراجع المسألة :
الأصل(1/345)، الكافي (1/264)، عقد الجواهر (1/244)، المستوعب (3/60)، الفروع (2/140).
القنوت في العيدين :
لا يقنت في صلاة العيدين إلا إن كانت هناك نازلة.
قال الشافعي: "ولا قنوت في صلاة العيدين ولا استسقاء، وإن قنت عند نازلة لم أكره، وإن قنت عند غير نازلة كرهت له" ([66]).
والله أعلم.
([1]) الأصل (1/336)، حاشية ابن عابدين (2/172)، الإنصاف (2/341).
([2]) المدوّنة (1/169)، الكافي لابن عبد البر (1/264)، المغني (3/271)، مجموع الفتاوى (20/365)، زاد المعاد (1/443).
([3]) الأم (1/395)، الحاوي (3/144)، الكافي (1/264)، المحلى (5/83).
([4]) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه في العيدين، باب التكبير في الصلاة في العيد (5687). وصححه ابن حزم في المحلى (5/83)، وقال الحافظ في الدراية (1/220):”رواه عبد الرزاق عن ابن مسعود بإسناد صحيح ".
([5]) أخرجه عبد الرزاق في العيدين، باب التكبير في الصلاة في العيد (5689).
([6]) أخرجه مالك في الموطأ (1/180).
([7]) انظر: الاستذكار (8/53).
([8]) أبو داود (1150)، والدارقطني (2/46)، والمستدرك (1/298)، ولم يتعقبه بشيء، وضعَّفه الذهبي لأنّه من طريق ابن لهيعة، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1019).
([9]) الفروع لابن مفلح (2/139).
([10]) الشرح الممتع (5/179).
([11]) المغني (3/276).
([12]) المبدع (2/185).(/33)
([13]) حاشية ابن عابدين (1/174)، فتح العزيز (5/51)، المغني (3/272).
([14]) انظر: عقد الجواهر (1/421).
([15]) الأصل (1/338).
([16]) الأم (1/396).
([17]) عقد الجواهر (1/421).
([18]) المدوّنة (1/169).
([19]) أخرجه أبو داود (730)، الترمذي (304)، النسائي (3/2)، ابن ماجه (862)، وصححه ابن خزيمة (677)، ابن حبان
(1865).
([20]) مسلم (391).
([21]) رواه البيهقي في الكبرى (3/293)، قال: "وهذا منقطع"، وفيه ابن لهيعة ضعيف .
([22]) .
([23]) الأوسط (4/282).
([24]) ويأتي تفصيل المسألة .
([25]) حاشية ابن عابدين (2/175).
([26]) الحاوي (3/116).
([27]) حاشية ابن عابدين (2/175)، عقد الجواهر (1/241).
([28]) الدر المختار، انظر: حاشية ابن عابدين (2/175).
([29]) الكافي (1/264).
([30]) الحاوي (3/116)، روضة الطالبين (2/71)، المغني (3/274)، شرح الزركشي (2/224).
([31]) الأم (1/395).
([32]) انظر: مجمع الأنهر (1/174)، بدائع الصنائع (1/277)، الأم (1/395)، التمام لابن أبي يعلى (1/243)، شرح الزركشي (2/223).
([33]) الدر المختار، انظر: حاشية ابن عابدين (2/172).
([34]) المبسوط (2/42).
([35]) المجموع (5/20).
([36]) انظر: التمام لابن أبي يعلى (1/243).
([37]) انظر: الإنصاف (5/341).
([38]) حلية العلماء (2/304)، المغني (3/273).
([39]) المبسوط (2/39)، الإنصاف (5/350).
([40]) حاشية ابن عابدين (2/173).
([41]) عقد الجواهر (1/243)، المجموع (2/20)، المغني (3/270).
([42]) عقد الجواهر (1/243).
([43]) الإنصاف (5/350).
([44]) رويت عنه من طرق عدة عند ابن أبي شيبة (5696، 5697)، والطبراني في الكبير (9/302، 303)، وعبد الرزاق
(5686)، (5687)، تؤكد هذه الطرق كلها أنّ ابن مسعود رضي الله عنه والى بين القراءتين، والله أعلم .
([45]) ابن أبي شيبة (5707)، عبد الرزاق (5789)، الطحاوي في شرح معاني الآثار (4/347)، وهذه المرويات تثبت أنّ ابن عباس كذلك والى بين القراءتين .
([46]) أبو داود (1151)، البيهقي (3/285)، الدارقطني (2/48)، وحسّن إسناده الألباني في صحيح سنن أبي داود (1020).
([47]) أخرجه أبو داود (1152)، وابن ماجه (1278)، والفريابي في أحكام العيدين رقم (135)، وهو صحيح بشواهده، صححه النووي في المجموع (5/21)، وقال ابن حجر في الفتوحات الربانية (4/241): "حسن صحيح"، وقال الألباني: "حسن صحيح" في صحيح سنن أبي داود (1021)، أبو داود (1152)، وابن ماجه (1278).
([48]) سنن البيهقي الكبرى (3/285).
([49]) بدائع الصنائع (1/278)، عقد الجواهر (1/244)، فتح العزيز (5/61)، البيان (2/639)، الشرح الكبير (5/356).
([50]) بدائع الصنائع (1/278).
([51]) الكافي لابن عبد البر (1/264).
([52]) فتح العزيز (5/61)، البيان (2/639)، الشرح الكبير (5/356).
([53]) المجموع (5/18).
([54]) المغني (3/275).
([55]) روضة الطالبين (2/73).
([56]) المقنع (5/362).
([57]) الشرح الكبير (5/362).
([58]) مسلم في العيدين، باب ما يقرأ به في صلاة العيدين (1477).
([59]) مسلم في الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة الجمعة (1452).
([60]) الأوسط لابن المنذر (4/284).
([61]) الأصل (1/343).
([62]) الأصل (1/345).
([63]) الكافي (1/264).
([64]) عقد الجواهر (1/244).
([65]) الفروع (2/140).
([66]) الأم (2/211).
العيد وآدابه وسننه
تعريف العيد :
قال الخليل: "والعيد كلُّ يوم مجمع، من عاد يعود إليه ([1]). ويقال: بل سُمّي لأنّهم اعتادوه، والياء في العيد أصلها الواو قُلبت لكسرة العين ... وإذا جمعوه قالوا: أعياد، وإذا صغّروه قالوا: عُيَيْد، وتركوه على التغيير، والعيد يذكّّر ويؤنث"([2]).
وقيل: لم يجمعوه على أعواد للفرق بينه وبين أعواد الخشب ([3]).
وقال ابن الأعرابي: "سمّي عيدًا لأنّه يعود كلّ سنة بفرح متجدد"([4]).
وقال الأزهريّ:"وقد عيَّدوا، أي: شهدوا العيد"([5]).
وهذا المعنى في العيد هو الوارد في السنة النبوية الصحيحة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر، وعندي جاريتان من الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث، قالت: وليستا بمغنيتين. فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا بكر، إنّ لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا))([6]).
وقالت عائشة رضي الله عنها: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني، وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فزجرهم عمرُ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعهم، أمنًا بني أرفدة))([7]).
قال ابن حجر: "فيه تعليل الأمر بتركهما، ... أي يوم سرورٍ شرعي، فلا ينكر فيه مثل هذا، كما لا ينكر في الأعراس"([8]).(/34)
قال ابن عابدين: "سمّي العيد بهذا الاسم لأنّ لله تعالى فيه عوائد الإحسان، أي: أنواع الإحسان العائدة على عباده في كل عام، منها: الفطر بعد المنع عن الطعام، وصدقة الفطر، وإتمام الحج بطواف الزيارة، ولحوم الأضاحي وغير ذلك، ولأنّ العادة فيه الفرح والسرور والنشاط والحبور غالبًا بسبب ذلك"([9]).
مراجع المسألة :
المجموع (5/22)نهاية المحتاج (2/385)، حاشية ابن عابدين (2/2165)، مجمع الأنهر (1/2172)، العين (2/219)، تهذيب اللغة (3/131)، مقاييس اللغة (4/183)، الصحاح (2/515)، تاج العروس (8/438)، لسان العرب (9/461).
([1]) كأن في المطبوعة سقطًا، ففي مقاييس ابن فارس (4/183): "واشتقاقه قد ذكره الخليل مِن عاد يعود، كأنهم عادوا
إليه". وانظر: تهذيب اللغة (3/131).
([2]) العين (2/219)، ونقله الأزهريّ عن الليث في التهذيب (3/131).
([3]) انظر: الصحاح للجوهري (2/515).
([4]) نقله الأزهري في التهذيب (3/132).
([5]) الصحاح (2/515).
([6]) أخرجه البخاري في العيدين، باب سنة العيدين لأهل الإسلام (952). ومسلم في العيدين، باب الرخصة في اللعب، الذي لا معصية فيه أيّام العيد (892)
([7]) أخرجه البخاري في العيدين، باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين (988).
([8]) فتح الباري (2/442).
([9]) حاشية ابن عابدين (2/165).
أول عيد صلاه النبي صلى الله عليه وسلم :
قال ابن جرير في ذكر أحداث السنة الثانية من الهجرة: "وفيها صلّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم صلاة العيد، وخرج بالنّاس إلى المصلى، فكان أوّل صلاة صلاّها" ([1]).
قال الرملي: "وأول عيد صلاه النبي صلى الله عليه وسلم عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة، ولم يتركها" ([2]).
وهو موافق لما روي أن الصوم شرع في السنة الثانية من الهجرة ([3]).
وجاءت السنة بما يشير إلى أن ذلك كان في أول الهجرة، فعن أنس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما هذان اليومان)) ؟ قالوا: يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر)). ([4])
قال الصنعانيُّ: "الحديث يدل على أنّه قال صلى الله عليه وسلم ذلك عقيب قدومه المدينة، كما تقضيه الفاء، والذي في كتب السير أنّ عيدٍ شُرع في الإسلام عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة" ([5]).
ولا منافاة بين الأمرين، فقصة الحديث وقعت في شهر محرم من السنة الثانية من الهجرة؛ لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة في شهر ربيع الأول ([6])، والله تعالى أعلم.
* مراجع المسألة:
نهاية المحتاج (2/385)، معونة أولي النهى (2/322)، كشاف القناع (5/50)سبل السلام (5/70).
([1]) انظر: البداية والنهاية لابن كثير (5/54) ط التركي.
([2]) نهاية المحتاج (2/385).
([3]) نصب الراية (2/436)، التلخيص الحبير (4/88).
([4]) أبو داود (1134)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1004).
([5]) سبل السلام (2/144).
([6]) انظر: البداية والنهاية لابن كثير (4/443).
التهنئة بالعيد :
التهنئة في العيد بقول: تقبل الله منا ومنك أجازه جمع من أهل العلم، لوروده عن السلف.
قال ابن حجر: "وروينا في المحامليات بإسناد حسن عن جبير بن نفير قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك". ويروى عن واثلة بن الأسقع موقوفاً ([1])ومرفوعًا ([2])" ([3]).
وسئل مالك عن قول الناس يوم العيد تقبل الله منا ومنك ؟ فقال:" ما زال ذلك الأمر عندنا ما نرى به بأسًا" ([4]).
وقال مالك: "لا أعرفه، ولا أنكره" ([5]).
قال ابن حبيب: "معناه: لا يعرفه سنة، ولا ينكره على ما يقوله، لأنه قول حسن لأنه دعاء" ([6]).
وقال: "ورأيت أصحابه لا يبتدئون به، ويعيدونه على قائله، ولا بأس بابتدائه" ([7]).
قال أحمد بن حنبل: "لا أبتدئ به أحدًا، وإن قاله أحد رددت عليه"([8]).
وروي عنه: "الكل حسن" ([9]).
وروي عنه أنه قال: "هو فعل الصحابة وقول العلماء" ([10]).
وروي عنه أنه كره الابتداء به، لما روي عن عبادة بن الصامت قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الناس: تقبل الله منا ومنكم، فقال: ((ذلك فعل أهل الكتابين))([11]).
وهو حديث ضعيف .
وعليه فالتهنئة بالعيد جائزة بقول: تقبل الله منا ومنك .
ولا وجه لكراهته، وهو إلى الاستحباب أقرب لتحسين الحافظ ابن حجر مجيئه عن الصحابة، والله أعلم .
* مراجع المسألة :
نهاية المحتاج (2/401)، مختصر الخلافيات (4/385)، حاشية ابن عابدين (2/169)، الذخيرة (2/426)، التمام (1/250)، الشرح الكبير (5/381)، الإنصاف (5/381)، المعونة (2/ 340)، المغني (3/294)، فتح الباري (2/446)، مجموع الفتاوى (24/253).(/35)
([1]) الطبراني في الكبير (22/52)، قال الهيثمي في المجمع (2/206)في حبيب بن عمر الأنصاري أحمد رواته: "وحبيب قال الذهبي: مجهول، وقد ذكره ابن حبان في الثقات ولم أعرفه".
([2]) البيهقي في الكبرى (3/319)، وقال ابن عدي في الكامل (6/271): "وهذا منكر [ لا ] أعلم يرويه عن بقيّة، غير محمد بن إبراهيم هذا"، وقال البيهقي: "قد رأيته بإسناد آخر عن بقية موقوفًا غير مرفوع، ولا أراه يصحّ". وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية: "هذا حديث لا يصح، ولا يرويه عن بقية غير محمد بن إبراهيم وهو منكر الحديث، وبقية يروي عن المجهولين ويدلسهم".
([3]) فتح الباري (2/446).
([4]) انظر: الثقات (9/90).
([5]) انظر: الذخيرة (2/426).
([6]) انظر: التاج والإكليل (2/199).
([7]) انظر: الفواكه الدواني (1/275).
([8]) انظر: الشرح الكبير (5/382).
([9]) انظر: الإنصاف (5/381).
([10]) المصدر نفسه.
([11]) أخرجه البيهقي في الكبرى (3/319 – 320)وقال: "عبد الخالق بن زيد منكر الحديث، قاله البخاري".
الاغتسال في العيدين :
يستحب الاغتسال في العيدين، لأنّ فيه اجتماعًا أعظم من الاجتماع الذي في الجمعة، وبه قال عامة الفقهاء.
وقد روي في ذلك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصحّ منها شيء، منها:
ما أخرجه ابن ماجه والبيهقي من حديث ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل يوم الفطر، ويوم الأضحى ([1]).
وما أخرجه ابن ماجه من حديث الفاكه بن سعد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر، ويوم النحر، ويوم عرفة ([2]).
وما أخرجه الطبراني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام من رمضان، وغدا بغسل إلى المصلى، وختمه بصدقة رجع مغفورًا له)) ([3]).
وما أخرجه البزار في مسنده أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اغتسل للعيدين ([4]).
قال البزار: "لا أحفظ في الاغتسال في العيدين حديثًا صحيحًا" ([5]).
قال ابن عبد البر: "فأمّا الاغتسال لهما؛ فليس فيه شيءٌ ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من جهة النقل"([6]).
وثبت أنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يغتسل في هذين اليومين ([7]).
وعن زاذان قال: إنّ علي بن أبي طالب سأله رجلٌ عن الغسل، قال: أغتسلُ كل يومٍ إن شئتُ ؟ قال: لا، بل الغسل الذي هو الغسل: يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم الأضحى، ويوم الفطر ([8]).
وعن سعيد بن المسيّب قال: الغسل يوم العيدين سنة، كغسل الجنابة ([9]).
وكان علقمة يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو ([10]).
وكان الحسن يغتسل يوم الفطر، ويوم الأضحى ([11]).
قال ابن المنذر: "وممن كان يرى الاغتسال يوم الفطر عطاء، وعلقمة، وعروة بن الزبير، وإبراهيم التيمي، وإبراهيم النخغي، وقتادة، وأبو الزناد، ومالك، والشافعيّ، وإسحاق".
وقد نقل اتِّفاق الفقهاء على استحباب الاغتسال للعيدين غيرُ واحدٍ من أهل العلم.
قال ابن عبد البر: "واتفق الفقهاء على أنّه حسنٌ لمن فعله" ([12]).
وقال ابن رشد: "أجمع العلماء على استحسان الغسل لصلاة العيدين" ([13]).
وقال النوويُّ: "قال الشافعيّ وأصحابه: يستحب الغسل في العيدين، وهذا لا خلاف فيه، والمعتمد فيه أثر ابن عمر، والقياس على الجمعة" ([14]).
وقال ابن قدامة: "يستحب أن يتطهر بالغسل للعيدين، وكان ابن عمر يغتسل يوم الفطر، وروي ذلك عن عليّ - رضي الله عنه -، وبه قال علقمة، وعروة، وعطاء، والنخغيّ، والشعبيّ، وقتادة، وأبو الزناد، ومالك، والشافعيّ، وابن المنذر" ([15]).
* مراجع المسألة :
شرح فتح القدير (2/71)، حاشية ابن عابدين (2/168)، المدونة (1/167)، الرسالة (ص: 144)، المعونة (1/320)، الكافي (1/263)، بداية المجتهد (1/505)، عقد الجواهر (1/241)، الذخيرة (2/420)، الأم (1/205)، الحاوي (1/483)، المجموع (5/6)، فتح العزيز (5/20)، نهاية المحتاج (2/392)، البيان (2/629)، روضة الطالبين (2/75)، حلية العلماء (2/303)، المغني (3/256).
وقت الاغتسال للعيدين :
اتفق أهل العلم على مشروعية الاغتسال لصلاة العيد، ولكن اختلفوا في وقته متى يكون ؟
القول الأول :
الاغتسال للعيد يكون بعد الفجر، فإن فعله قبله أجزأه .
وهو قول الجمهور؛ الحنفية ([16])، والمالكية ([17])، والشافعية ([18])، ورواية عن الإمام أحمد ([19]).
القول الثاني :
الاغتسال يكون بعد الفجر، ولا يجزئ قبله .
وهو قول أحمد، ورواية عن الشافعي ([20]).
الأدلة :
أدلة القول الأول:
قالوا: لأن وقت صلاة العيد غدوة، فيقرب من وقت الاغتسال.
ولأنّ أهل السواد يحتاجون إلى التبكير حتى يصلوا إلى المصلى في الوقت المناسب، فلو وقف على الفجر ربما فاتت صلاة العيد مع الإمام .
أدلة القول الثاني :
قالوا: لأنّه غسل الصلاة في اليوم، فلم يجز قبل الفجر كغسل الجمعة .
الترجيح :
والراجح مذهب الجمهور؛ لأنّ المقصود بالغسل التنظيف، وذلك يحصل بالغسل في الليل لقربه من الصلاة، والله أعلم .(/36)
قال أبو الوليد الباجيّ: "فإن قدَّمه قبل الفجر؛ فواسعٌ، لقرب ذلك، ولأنّ الغسل لا تذهب آثاره قبل الغدو، ولا تتغير نظافته" ([21]).
* مراجع المسألة :
المجموع (5/6)، فتح العزيز (5/22)، نهاية المحتاج (2/393)، البيان (2/629)، روضة (2/75)، حلية (2/303)، المغني (3/258).
([1]) أخرجه ابن ماجه في العيدين، باب ما جاء في الاغتسال في العيدين (1315)، والبيهقيّ (3/378)، وضعّفه ابن حجر في التلخيص (1/81)، والدراية (23)، قال الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه (ص 96): "ضعيف جدًا"، وانظر: إرواء الغليل (1/175).
([2]) أخرجه ابن ماجه في العيدين، باب ما جاء في الاغتسال في العيدين (1316). وفيه: يوسف بن خالد السمتي، قال ابن معين: كذَّاب، زنديق، لا يُكتب عنه"[انظر: تهذيب الكمال 32/423]. لذا قال الألبانيّ عن الحديث في الإرواء (1/176): "موضوع".
([3]) أخرجه في الأوسط (6/57) من طريق نصر بن حماد عن أيوب بن خوط عن قتادة عن سعيد بن المسيب به. قال الهيثمي في المجمع (2/918): "وفيه نصر بن حماد، وهو متروك".
([4]) انظر: كشف الأستار (1/311) من طريق محمد بن معمر ثنا عبد العزيز ثنا مندل عن محمد بن عبيد الله عن أبيه عن جده به. قال الهيثميّ في المجمع (2/198): "رواه البزار، ومندل فيه كلامٌ، ومحمد هذا، ومن فوقه لا أعرفهم". وقال ابن حجر في مختصر زوائد البزار (1/299): "مندل ضعيفٌ".
([5]) انظر: التلخيص الحبير (2/81).
([6]) التمهيد (10/266).
([7]) أخرجه مالك في الموطأ بسند صحيح (1/146).
([8]) أخرجه مسدد في مسنده (المطالب العالية 1/285)، وابن المنذر في الأوسط (2112) والبيهقيُّ في الكبرى (3/278) من طريق شعبة عن عمرو بن مرّة به، ورجاله ثقات غير زذان صدوق، فالإسناد حسن إن شاء الله.
([9]) أخرجه عبد الرزاق في العيدين، باب الاغتسال في يوم العيد (5750).
([10]) أخرجه عبد الرزاق في العيدين، باب الاغتسال في يوم العيد (5747).
([11]) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنّف (2/86) كتاب العيدين، باب في الغسل يوم العيدين بسند صحيح.
([12]) الاستذكار (7/11).
([13]) بداية المجتهد (1/216) تصوير دار الكتب العلمية.
([14]) المجموع (5/7).
([15]) المغني (3/256).
([16]) شرح فتح القدير (2/40).
([17]) المعونة (1/320)، الذخيرة (2/420).
([18]) المجموع (5/6)، فتح العزيز (5/21)، حلية العلماء (2/32).
([19]) المغني (3/258).
([20]) المغني (3/258)، فتح العزيز (5/21)، حلية العلماء (2/302).
([21]) المنتقى لأبي الوليد الباجي (1/316).
التزين في العيدين في اللباس والتطيب، ونحو ذلك:
يستحب التزين في العيدين في اللباس والطيب عند عامة الفقهاء .
فعن عبد الله بن عمر قال: أخذ عمر جبةً من استبرق تباع في السوق، فأخذها، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ! ابتع هذه، تجمل بها للعيد والوفود. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّما هذه لباس من لا خلاق له))([1]).
قال ابن رجب: "وقد دلّ الحديث على التجمل للعيد، وأنه كان معتادًا بينهم" ([2]).
وعن نافع أنّ ابن عمر أنّه كان يلبس في العيدين أحسن ثيابه ([3]).
قال ابن قدامة: "وهذا يدل على أنّ التجمل عندهم في هذه المواضع – يعني: الجمعة، والعيد، واستقبال الوفود – كان مشهورًا" ([4]).
ولذلك لم يختلف أهل العلم على استحباب التزين والتطيب في العيد.
قال مالك: "سمعتُ أهل العلم يستحبّون الطيب والزينة في كلّ عيد، والإمام بذلك أحقّ؛ لأنّه المنظور إليه من بينهم" ([5]).
فصل:
استثنى بعض أهل العلم المعتكف من الزينة، ليبقى عليه أثر العبادة ([6]).
ونقله ابن قدامة عن مالك ([7]).
والصواب أنّ المعتكف وغيره سواء، كما هو قول القاضي أبي يعلى ([8])، واختاره الشيخ السعدي ([9]).
قال الشيخ ابن عثيمين: "ولكن هذا القول ضعيفٌ أثرًا، ونظرًا. أمّا الأثر؛ فإنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعتكف، ومع ذلك يلبس أحسن الثياب. وأمّا النظر؛ فلأنّ توسخ ثياب المعتكف ليس من أثر اعتكافه، ولكن من طول بقائها عليه، ولهذا لو لبس ثوبًا نظيفًا ليلة العيد، أو آخر يومٍ من رمضان ما أثَّر، ولا يصحّ قياسه على دم الشهيد؛ لأنّ الشهيد يأتي يوم القيامة، وجرحه يثعب دمًا، اللون لون الدم، والريح ريحُ المسك"([10]).
فصل:
ويحرم على الرجال التزين بكل محرم من اللباس؛ كالحرير والديباج والإسبال وثوب الشهرة والذهب والفضة والتشبه بالكفار والنساء وغير ذلك من الألبسة المحرّمة سواء كانت ثيابًا أو عمائم أو السراويلات أو الساعات أو غير ذلك ([11]).
* مراجع المسألة :
شرح فتح القدير (2/72)، مجمع الأنهر (1/172)، الأم (1/206)، الحاوي (2/487)، المجموع (5/8)، فتح العزيز (5/23)، نهاية المحتاج (2/393)، البيان (2/630)، الرسالة (ص: 144)، المعونة (1/321)، عقد الجواهر (1/241)، المقنع (5/323)، الشرح الكبير (5/323)، الإنصاف (5/323)، المغني (3/257)، نيل الأوطار (3/283).(/37)
فصل:
استحبّ بعض أهل العلم الأكل والتزين والاغتسال وغيره للعيد، لأنّه يوم فرح وسرور، وإن لم يشهد المصلى .
قال الحصفكي: "وندب يوم الفطر أكله حلوًا وترًا، ولو قرويًا".
قال ابن عابدين: "قوله: (ولو قرويًا) ... ولعله يشير إلى أنّ ذلك ليس من سنن الصلاة، بل من سنن اليوم، لأنّ في الأكل مبادرة إلى قبول ضيافة الحق سبحانه، وإلى امتثال أمره بالصيام".
وقال العمرانِي بعد ذكره استحباب التزين قبل الخروج إلى المصلى: "ويستحب ذلك لمن يريد حضور الصلاة، ولمن لا يريد حضورها؛ لأنّ المقصود إظهار الزينة والجمال، فاستحبّ ذلك لمن حضر الصلاة، ولمن لم يحضر".
* مراجع المسألة :
شرح فتح القدير (2/79)، حاشية ابن عابدين (2/76)، مجمع الأنهر (1/174)، المدونة (1/171)، الكافي (1/263)، بداية المجتهد (1/514)، عقد الجواهر (1/241)، الأم (1/ 216)، الحاوي (2/488)، المجموع (5/5)، فتح العزيز (5/45)، البيان (2/628)، شرح الزركشي (2/216)، المقنع (5/322)، المستوعب (3/52)، الفروع (2/138)، المغني (3/258).
([1]) البخاري (948).
([2]) فتح الباري لابن رجب (8/ 413).
([3]) البيهقي في الكبرى (3/381).
([4]) المغني (5/257).
([5]) انظر: المغني (5/258).
([6]) انظر: الإنصاف (5/329)، وقال: "وقدّمه في الفروع والفائق".
([7]) المغني (3/258).
([8]) التمام لابن أبي يعلى (1/248).
([9]) الاختيارات الجليّة للشيخ عبد الرحمن السعدي (ص 72).
([10]) الشرح الممتع (5/167-168).
([11]) انظر في تفاصيل أحكام هذه الألبسة انظر: المغني (2/298-311)، المجموع (4/320-344)، وأحكام اللباس المتعلقة بالصلاة والحجّ لسعد الخثلان.
الأكل قبل الخروج إلى الفطر :
لم يختلف الفقهاء في استحباب الأكل قبل الخروج إلى الفطر، وأن تكون على تمرات، كما هو هديُ النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته من بعده ([1]).
قال ابن القاسم: "وكان مالك يستحب للرجل أن يطعم قبل أن يغدو يوم الفطر" ([2]).
قال ابن قدامة: "لا نعلمُ فيه اختلافًا" ([3]).
فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل
تمرات ([4]). وفي لفظٍ: ويأكلهنّ وترًا ([5]).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن استطعتم أن لا يغدو أحدكم يوم الفطر حتى يطعم فليفعل) ([6]).
وقال: (كان الناس يأكلون يوم الفطر قبل أن يخرجوا) ([7]).
قال السائب بن يزيد" مضت السنة أن يأكل قبل أن يغدو يوم الفطر" ([8]).
وقد ذكر الفقهاء لذلك حكمًا، منها :
1- أنّ الأكل قبل الفطر فيه مبادرة إلى الفطر في يوم العيد، لتظهر مخالفته لرمضان، حيث كان تحريم الأكل في نهاره، ولو كان لغير الامتثال لأكل قدر الشبع .
2- وأنّه لما كانت صدقة الفطر تخرج قبل الصلاة استحبّ الأكل قبل الصلاة ليشارك المساكين .
ويكون فطره على تمرات ليكمُل له الاقتداء، وإلاّ فبحسب التيسير، ويكون وترًا كما ثبت ذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
* مراجع المسألة :
شرح فتح القدير (2/71)، حاشية ابن عابدين (2/168)، مجمع الأنهر (1/172)، المدونة (1/171)، الكافي (1/263)، بداية المجتهد (1/514)، عقد الجواهر (1/241)، الأم (1/ 206)، الحاوي (2/488)، المجموع (5/5)، فتح العزيز (5/20)، نهاية المحتاج (2/396)، البيان (2/628)، المعونة (1/321)، شرح الزركشي (2/216)، المقنع (5/322)، المستوعب (3/52)، الفروع (2/138)، المغني (3/258)، المحلى (2/89)، نيل الأوطار (3/288).
([1]) انظر: الأوسط لابن المنذر (4/254).
([2]) المدوّنة (1/171).
([3]) المغني (3/258).
([4]) أخرجه البخاري (953).
([5]) علّقه البخاري عن مرجى بن رجاء بصيغة الجزم في العيدين، باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج ( 953). قال الحافظ ابن حجر في هدي الساري (ص 33): "رواية مرجى بن رجاء عن عبيد الله بن أبي بكر عن أنس في أكل التمر وترًا = وصلها الإسماعيلي وأبو نعيم، وأصله في مسند أحمد"، وبيّن الحافظ وصل هذه اللفظة في تغليق التعليق (2/374)، وأخرجه ابن خزيمة في كتاب العيدين، باب استحباب الفطر يوم الفطر على وترٍ من التمر (1429). وابن حبّان بنحوه (الإحسان 7/
53) في كتاب الصلاة، باب العيدين، ذكر ما يُستحب للمرء أن يكون أكله التمر يوم العيد وترًا (2814). والحاكم في المستدرك (1/294) في العيدين، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، قال الذهبيّ: "على شرط مسلم". وحسّن إسناده الشيخ شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للإحسان (7/53).
([6]) عبد الرزاق (5734)، وابن المنذر (2111).
([7]) عبد الرزاق (5741).
([8]) أخرجه ابن أبي شيبة (2/161)، الاستذكار (7/39).
إحياء ليلة العيدين :
يروى في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((من أحيا ليلة الفطر وليلة الأضحى لم يمت قلبه يوم تموت القلوب))([1]).
وقوله: ((من قام ليلتي العيدين محتسبًا لله لم يمت قلبه يوم تموت القلوب))([2]).(/38)
وقوله: ((من أحيا ليلتي العيد وليلة النصف من شعبان لم يمت قلبه يوم تموت القلوب))([3]).
وكلها ضعيفة لا تقوم بها حجة .
وقد استحبّ عدد من أهل العلم إحياء ليلة العيدين استنادًا على هذه الأحاديث.
قال الشافعي: "وأنا أستحب كل ما حكيت في هذه الليالي من غير أن يكون فرضاً" ([4]).
وقيام الليل في الجملة صحيح ثابت فيشرع ليلة العيد، ولكن إحياء الليل كله لا يستحب بل يكره، لأنه يؤثر على بقية الواجبات .
ولأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحيا ليله إلا في العشر الأواخر من رمضان .
والله تعالى أعلم.
* مراجع المسألة :
حاشية الزرقاني (2/74)، المبدع (2/26)، حاشية الدسوقي (1/398)، مواهب الجليل (2/193)، الأم (1/204)، فتح العزيز (5/19)، المجموع (5/42)، نهاية المحتاج (2/397)، روضة (2/75).
([1]) الطبراني في الأوسط (1/57)، من حديث عبادة بن الصامت، وأحال الهيثمي إلى الكبير أيضًا [ المجمع 2/198 ] وقال: "فيه عمر بن هارون البلخي، والغالب على الضعف، وأثنى عليه ابن مهدي وغيره، ولكن ضعفه جماعة كثيرة، والله أعلم" .
([2]) الشافعي في الأم (1/204)، والبيهقي في الكبرى (3/319)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وفيه إبراهيم محمد متروك . وأخرجه ابن ماجه (1782)، من حديث أبي أمامة، وفيه عنعنة بقية بن الوليد .
([3]) أخرجه ابن عدي في الكامل (5/372)من حديث كردوس، وقال: "وهذا حديث منكر مرسل"، لأنّ راويه عن ابن كردوس، مروان بن سالم متروك متهم بالكذب [ الإصابة 5/580].
([4]) الأم (1/204).
التكبير في العيدين
حكم التكبير ليلة العيدين :
استحبّ عامّة أهل العلم التكبير ليلة العيدين ([1]).
وأوجبه داود الظاهري([2]).
وقال ابن حزمٍ: "والتكبير ليلة عيد الفطر فرضٌ، وهو في ليلة عيد الأضحى حسنٌ، قال تعالى: { وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، فبإكمال عدة صوم رمضان وجب التكبير، ويجزئ من ذلك تكبيرة"([3]).
فصل:
واستثنى بعض أهل العلم المحرم في ليلة المزدلفة، قالوا ذكره فيها التلبية، لا التكبير .
قال الرافعيُّ: "ويستثنى من ذلك الحاجّ ليلة الأضحى، وإنّما ذِكْرُه التلبية" ([4]).
غيره أنّ هناك أحاديث ثابتة دلت على جواز الجمع بين التكبير والتلبية، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: خرجتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة، إلاّ أن يخلطها بتهليل أو تكبير ([5]).
وعن ابن عمر قال: غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفات، منّا الملبي، ومنا المكبر([6]).
ففي هذان الحديثان دليل على أنّهم كانوا يجمعون التكبير مع التلبية إلى أن يقطعوا التلبية برمي الجمرة، فيفردون التكبير سائر أيام التشريق، فلا وجه لاستثناء المحرم، والله أعلم .
* مراجع المسألة :
شرح الزركشي (2/214)، المقنع والشرح الكبير والإنصاف (5/366)، المغني (3/255)، المجموع (5/41)، المعونة للمالكية (1/322)، الحاوي (2/484)، فتح العزيز (5/11، 14)، نهاية المحتاج (2/39)روضة (2/75)، ابن عابدين (2/177، 179)، حلية العلماء (2/311)، الجواهر (1/242)الذخيرة (2/418)، المحلى (5/89).
([1]) حاشية ابن عابدين (2/176)، والمعونة (1/322)، والمجموع (5/41)، والمغني (3/255).
([2]) انظر: حلية العلماء (2/311)، والمجموع (5/41).
([3]) المحلى (5/89).
([4]) فتح العزيز (5/18).
([5]) أخرجه أحمد (1/418)، وصححه ابن خزيمة في الحجّ، باب التكبير والتلبية والتهليل في الغدو من منى إلى عرفة (2806).
([6]) مسلم (272).(/39)
العيد والحب .. والخِلّ الوفي !
الكاتب: الشيخ د. مسفر بن علي القحطاني
مشاعر العيد في قلب المؤمن عادة ما تكون صادقة وجيّاشة , لأنها امتثال تعبدي لأمر الله بالشكر على نعمه ومننه.
والعيد في كل أعراف الشعوب والمجتمعات طابعه الفرح والتجديد وكسر الإلف المعهود في الحياة ؛ لذلك فهو يتميز بطقوس خاصة و احتفالات بهيجة وتواصل اجتماعي وأطعمة وألبسة مختلفة عما يجري طيلة العام . وأمة الإسلام لما شُرع لها الاحتفاء بالعيد كان تتميماً لمقاصده العالية الصالحة للفرد والمجتمع والمتسقة مع فطرة الإنسان وميوله الطبيعية, ولعل من آكد هذه المعاني ؛ تجديد الفرح في نفوس المسلمين بعد انتهائهم من دورة الصيام التربوية والروحية [في عيد الفطر المبارك] فيفرح الصائم عند الفطر ويُشرك الفقير في الفرحة بزكاة الفطر, ليعلم الجميع أن في ديننا فسحة وفرح كما أن فيه اجتهاد و صبر وكلها من أنواع العبودية لله سبحانه وتعالى.[وفي عيد الأضحى بمناسبة الوقوف بعرفة بين يدي الرحيم الرحمن الكريم المنان غافر الذنوب لعباده في ذلك الموقف الجليل وبعد المبيت في المشعر الحرام والتبتل بين يدي العزيز الغفار ولذلك يصاحب هذا العيد النحر تقرباً إلى الله عزوجل بما رزقهم من بهيمة الأنعام وتوسعة على الأهل والمحتاجين ومن هنا كان المستحب أن يتصدق بثلث الأضحية لتتم الفرحة للموجدين والمعدمين الذين لا مال لهم]
والعيد والحب .. ما العلاقة بينهما ولما جُمعت في هذا العنوان ؟
ولكي أجيب عن هذا التساؤل ضممت لعنوان المقال "والخِلّ الوفي " لأن أذهاننا عند التفكير والنظر في الأمور تتعامل مع الأشياء من خلال ظواهرها المحسوسة دون التأمل العميق والفهم الدقيق لمقاصد الشرع من العبادات كلها؛ فنرى الشرع بمنظار بسيط يجعل من المستحيل أن تأتي العبادات بمقاصد نفسية وعاطفية تملأ القلب حباً وفرحاً , فتنمّي تلك الحاجات التي لا غنى للإنسان عنها مهما كان طبعه وجنسه , فأصبح استخراج تلك المعاني الحميمة من الطاعات البدنية كاستحالات العرب -في المشهور عنهم- للغول والعنقاء والخِلّ الوفي ..
والعيد بأحكامه ومقاصده يغرس في أعماق القلب معاني الحب الصادق لله عز وجل وحب المخلوقين سواء كانوا أهله أو أصحابه أو إخوانه في الدين .. فلو تأملنا في أعيادنا الإسلامية لوجدنا أنها تأتي بعد أداء عبادات موسمية تزخر بكرم الرحمن وجوده في مضاعفة الأجور والثواب؛ كالصيام والقيام والزكاة وحج البيت الحرام, فتختلط في القلب مشاعر الشكر والصبر والرجاء بموعود الله وتنقلب إلى حب يطّهر القلب وينمّي الإيمان , يجد العبد فيها من الحلاوة واللذة ما يُذهب تعب الأداء وجهد العمل , لهذا يُستغرب أن يعود العبد بعد تلك المواسم الفاضلة إلى المعاصي والذنوب وقد تعلق قلبه بنفحات الرحيم وكرم الرحمن وهداياه الجزيلة..
كما أن العيد يذكي ويجدد ما برد أو فتر من العلاقات الأسرية بين الزوجين أو الأولاد بالتجمّل باللباس والتوسعة عليهم في هذا اليوم بالهدايا والعطايا واللهو المباح وهذه من أهم مدعمات الحب العائلي, وهي سنّة ذكرها أكثر الفقهاء عند حديثهم عن سنن العيد وآدابه, ولنا في نبي الرحمة -عليه الصلاة والسلام- أسوة حسنة , فهاهو يسمح لعائشة أن تشارك في لهو بريء مع بُنيّات يغنين والنبي -علية الصلاة والسلام- بينهم يسمع حتى إذا دخل أبو بكر وانتهرهما وقال :" أمزمور الشيطان في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟",كشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه وكان بينهما قد تغشى بثوبه فقال : "دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد" [ أخرجه البخاري ] . وقد ثبت أيضاً في السنَّة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " وكان يوم عيد، يلعب السُّودان بالدَّرق والحراب ، فإمَّا سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وإما قال : تشتهين تنظرين . فقلت: نعم، فأقامني وراءه خدِّي على خدِّه وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة . حتى إذا مللت قال: حسبك ؟. قلت: نعم. قال: فاذهبي " [ أخرجه البخاري ].
وفي رواية لمسلم قالت رضي الله عنها: " لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم ، ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي انصرف ، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن حريصةً على اللهو " .
إن هذه الأفعال المباحة من اللهو والمرح وكل ما يبعث على الفرح في النفوس ويؤنس القلوب ليست مهمشة في تعاليم شرعنا الحنيف أو مما يأنف منها الصالحون -كما يحلو للبعض أن يُفسّره!, فالسنّة في ذلك ثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن رغب عن سنته فليس منه .(/1)
وليس حال الأصحاب و الأرحام ببعيد عن مشاعر الحب التي يسقيها العيد في القلوب من الترغيب في الزيارة والتواصل, والتهنئة بالتوفيق للصيام والقيام, والدعاء بالقبول, ولذلك حُرّم الصوم الذي يمنع من المشاركة الكاملة في أفراح العيد ,كما لا يُحرم الفقير بالانزواء عن الناس بسبب فقره؛ بل يجب إعطائه من الطعام وإغناؤه عن السؤال لتتحقق العدالة في الفرح والسرور.
ومهما كتبت عن مشاعر الحب التي يذكي لهيبها العيد فلن توفي الكلمات في إدراك تلك المعاني الباطنة , لكن استشعار العبد لها وهو يمارس أحكامها وآدابها سيغرقه في فيوض العظمة ومنن الرحمة لعلها تسقي أراضي اليباب التي سكنت أنفس الكثير منا بسبب جفاف التعامل, وماديات العلاقة وتغييب مقاصد الشرع النفسية والعاطفية.(/2)
العَجَبْ مما أَحْدَثَ النَّاسُ في رَجَبْ
الحمد لله وحده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبي بعده، سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه؛ وبعد:
فمن المعلوم عند جميع المسلمين أنَّ شهر رجب من الأشهر الحُرُمِ التي قال الله فيها : (إنَّ عدَّةَ الشُّهورِ عند الله اثنا عَشَرَ شهراً في كتاب الله يوم خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ منها أربْعة حُرُمٌ ذلك الدِّين القَيِّم فلا تظْلِمُوا فيهنَّ أَنْفُسَكمْ). [التوبة: 36].
وثبت في "الصحيحين" أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خطب في حجَّة الوداع فقال في خطبته: (إنَّ الزَّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حُرُمٌ، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجَّة، والمحرَّم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان).
لِمَ سُمِّيت هذه الأشهر الأربعة حُرُماً؟
وقد اختلفوا لِمَ سمِّيت هذه الأشهر حُرُماً، فقيل: لعظم حرمتها وحرمة الذَّنب فيها.
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: اختصَّ الله أربعة أشهر جعلهنّ حُرُماً وعظَّم حُرُماتهنّ، وجعل الذَّنب فيهنّ أعظم، وجعل العمل الصالح والأجر أعظم.
وقيل: بتحريم القتال فيها.
لِمَ سُمِّي رَجَبٌ رَجَباً؟
قال ابن رجب الحنبلي - رحمه الله تعالى -:
سمّي رجبٌ رجباً؛ لأنه كان يرجب، أي يُعظَّم، يُقال: رَجَبَ فلانٌ مولاه، أي عظَّمه.
وقيل: لأنَّ الملائكة تترجَّب للتَّسبيح والتَّحميد فيه؛ والحديث الوارد فيه موضع. اهـ كلامه بمعناه. وذكر بعضهم أنَّ لشهر رجب أربعة عشر اسماً، هي: ( شهر الله - رجب - رجب مضر - منصل الأسنَّة - الأصمّ - الأصبّ - منفس - مطهر - معلى - مقيم - هرم - مقشقش - مبرىء - فرد ).
تعظيم أهل الجاهلية لشهر رجب
ولقد كان الجاهليون يُعظِّمون هذا الشهر، خصوصاً قبيلة مُضَر، ولذا جاء في الحديث كما سبق: (رجب مُضَر) ، قال ابن الأثير في "النهاية" : (أضاف رجباً إلى مضر؛ لأنهم كانوا يُعظِّمونه خلاف غيرهم، فكأنهم اختصُّوا به).
فلقد كانوا يُحرِّمون فيه القتال، حتى أنهم كانوا يُسمُّون الحرب التي تقع في هذه الأشهر (حرب الفجار!!). وكانوا يتحرَّون الدعاء في اليوم العاشر منه على الظالم، وكان يُستجاب لهم!
وقد ذُكر ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إنَّ الله كان يصنع بهم ذلك ليحجز بعضهم عن بعض، وإنَّ الله جعل الساعة موعدهم، والساعةُ أدهى وأمرّ.
- وكانوا يذبحون ذبيحةً تُسمَّى (العَتِيرة)، وهي شاة يذبحونها لأصنامهم، فكان يُصبُّ الدم على رأسها!
وأكثر العلماء على أنَّ الإسلام أبطلها، لحديث "الصحيحين" : (لا فرْع ولا عَتيرة).
ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب قال: (اللَّهمَّ بارك لنا في رجب وشعبان وبلِّغنا رمضان) . وإسناده ضعيف.
قال بعض السلف: شهر رجب شهر الزرع، وشعبان شهر السَّقي للزرع، وشهر رمضان حصاد الزرع.
جميع ما أحدث النَّاس في رجب من البدع المنكرة
ومن العجيب أنَّ الناس قد أحدثوا في شهر رجب بدعاً كثيرةً لم ينزل الله بها من سلطان، وهذه البدع التي سأذكرها نبَّه عليها أئمة الإسلام وعلماؤه، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيِّم، والشاطبي، وابن رجب الحنبلي، والطرطوشي، وابن حجر.
ومن المعاصرين: الشيخ علي محفوظ، والشُّقيري، والشيخ ابن باز، والألباني - رحمهم الله- والعُثيمين، والفوزان - حفظهما الله -.
وجميع ما سأذكره في مقالتي - أيها القاريء النبيل - من باب قول الشاعر:
عََرفْتُ الشَّرَّ لا للشَّر
وَمَنْ لا يَعْرِفِ الشَّرَّ
لكنْ لِتَوَقِّيهِ
جَدِيرٌ أنْ يقعْ فيه
أولاً: ومن أوائل ما ابتدع النَّاس في رجب الصَّلاة، وهي عندهم على أنواع:
منها ما يُسمَّى بـ (الصَّلاة الألفية)، وهي تُصلَّى في أول يوم من رجب، وفي نصف شعبان، وهي غير صلاة الرغائب كما سيأتي.
صلاة أُمِّ داود، وهي تُصلَّى في نصف رجب؛ ذكرها شيخ الإسلام في » اقتضاء الصراط المستقيم« (ص293).
صلاة الرَّغائب، ويُسمِّيها البعض (الصَّلاة الإثنى عشرية)، وهي تُصلَّى في أول ليلة جمعة بعد العشاء، وقيل: بين العشائين. وهي اثنتي عشرة ركعة، يُقرأ في كلِّ ركعة فاتحة الكتاب مرة و (إِنَّا أَنزلناه في ليلة القدر) ثلاثاً، و(قل هو الله أحد)؛ اثنى عشر مرة، يفصل بين كلِّ ركعتين بتسليمة. وهي صلاة محدثة أُحدثت بعد المائة الرابعة.
قال ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص140):
( … فأما الصلاة فلم يصحّ في شهر رجب صلاة مخصوصة تختصّ به، والأحاديث المروية في فضل صلاة الرَّغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب وباطل لا تصحّ ).
ثانياً: ومما أحدث النَّاس في رجب الصِّيام، وهم فيه على أصناف:(/1)
فمنهم من يحرص على صيام اليوم الأول والثاني والثالث منه، ويروون في ذلك الأحاديث الموضوعة، كحديث: (من صام ثلاثة أيام من شهرٍ حرامٍ الخميس والجمعة والسبت كتب الله له عبادة تسعمائة سنة). وفي لفظ: (ستين سنة). وحديث: (صوم أول يوم من رجب كفارة ثلاث سنين، والثاني كفارة سنتين، ثم كلّ يوم شهراً) وحديث: (رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أُمَّتي). وكلُّ ذلك كذب مصنوع.
ومنهم من يصوم اليوم السابع منه فقط، ويُصلِّي صلاة الرَّغائب في تلك الليلة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( والصواب الذي عليه المحقِّقون من أهل العلم النهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم، وعن الصلاة المحدثة، وعن كلَّ ما فيه تعظيم لهذا اليوم من صنعة الأطعمة، وإظهار الزينة ونحو ذلك ).
ومنهم من يصوم الشهر كلَّه. قال ابن رجب: ( وأما الصِّيام فلم يصحّ في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ) اهـ.
وجاء عن السَّلف أنهم كانوا ينهون عن صيام رجب كاملاً.
فقد رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يضرب أكفَّ الرِّجال في صوم رجب حتى يضعونها في الطعام ويقول : (ما رجب؟! إنَّ رجباً كان يُعظِّمه أهل الجاهلية، فلما كان الإسلام تُرِكَ).
وفي رواية: كره أن يكون صيامه سُنَّة.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه كان ينهى عن صيام رجب كلِّه.
وعن أبي بكرة رضي الله عنه أنه رأى أهله يتهيأون لصيام رجب، فقال لهم: (أجعلتم رجب كرمضان! وألقى السِّلال، وكسر الكِيزان). وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرى أن يفطر منه أياماً، وكرهه أنس بن مالك وسعيد بن جبير، وغيرهم.
قال الحافظ ابن حجر في "تبيين العجب بما ورد في فضل رجب" :
(لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه، ولا صيام شيء منه معيَّن، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحُجَّة).
ثالثاً: زيارة قبر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر.
وزيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وقبره مشروع في كلِّ السنة، وهي من جملة القُرُبات والطاعات؛ ولكن تخصيصها بهذا الشهر من البدع التي لم يرد عليها دليل، فتخصيص عبادة بوقت لم يُوقِّته الله ولا رسوله من البدع المحرَّمة؛ فتنبَّه! وقد ذكره الشيخ الألباني في "أحكام الجنائز وبدعها".
رابعاً: الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج في ليلة السابع والعشرين منه، وقراءة قصة المعراج، وإطعام الأطعمة والولائم.
وهذا مما أحدثه الناس في هذا الشهر وهو من البدع المنكرة، فيقرأون في ليلة السابع والعشرين منه قصة المعراج المنسوبة إلى ابن عباس، وكلُّها أكاذيب وأضاليل.
وهذا الاحتفال بدعة ولا يجوز، وذلك من وجوه:
الأول: أنَّ أهل العلم مختلفون في تحديد تاريخ وقوع هذه الحادثة العظيمة اختلافاً كبيراً، ولم يقم دليل على تعيين ليلته التي وقع فيها، ولا على الشهر الذي وقع فيه.
الثاني: لو ثبت تعيين تلك الليلة لم يجزْ لنا أن نحتفل فيها، ولا أنْ نُخصِّصها بشيء لم يشرعه الله ولا رسوله.
الثالث: أنه يحصل في تلك الليلة وذلك الاحتفال أمورٌ منكرة. قال بعض أهل العلم : (وقد تفنَّن الناس بما يأتونه في هذه الليلة من المنكرات، وأحدثوا فيها من أنواع البدع ضروباً كثيرةً، كالاجتماع في المساجد وإيقاد الشُّموع والمصابيح فيها).
وأودَّ في هذه العجالة أن أسوق للقاريء الكريم كلاما نفيساً لسماحة المفتي العام للمملكة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله تعالى - حول هذه المسألة.
قال رحمه الله: (وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأتِ في الأحاديث الصحيحة تعيينها، لا في رجب ولا في غيره، وكلُّ ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بالحديث).
وحول الحكمة الإلهية من عدم تعيين ومعرفة تلك الليلة بعينها، يقول الشيخ:
(ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها، ولو ثبت تعيينها لم يجزْ للمسلمين أن يخصُّوها بشيء من العبادات، ولم يجزْ لهم أن يحتفلوا بها؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يحتفلوا بها ولم يخصُّوها بشيء، ولو كان الاحتفال بها أمراً مشروعاً لبيَّنه الرَّسول صلى الله عليه وسلم للأُمّة، إما بالقول، وإما بالفعل، ولو وقع شيء من ذلك لعُرفَ واشتهر، ولَنَقَلهُ الصحابة رضي الله عنهم إلينا، فقد نقلوا عن نبيِّهم صلى الله عليه وسلم كلَّ شيء تحتاجه الأُمّة، ولم يُفرِّطوا في شيء من الدين، بل هم السابقون إلى كلِّ خير، ولو كان الاحتفال بهذه الليلة مشروعاً لكانوا أسبق إليه …) إلخ كلامه رحمه الله.
وخلاصة القول: أنَّ البدع مع أنها حَدَثٌ في الدِّين وتغييرٌ للملة؛ فهي آصارٌ وأغلالٌ تُضاع فيها الأوقات، وتُنفق فيها الأموال، وتُتْعب فيها الأجساد!! ولاحول ولا قوة إلا بالله.
وصدق من قال:
والخَيْرُ في اتِّباع مَنْ سَلَفْ والشَّرُّ في ابتداعِ مَنْ خلَفْ(/2)
رزق الله الجميع الإخلاص في عبادته، واتِّباع سنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، والموت على ذلك. وصلى الله على سيِّدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
خالد بن أحمد بابطين(/3)
العَجُوزَان
أغلق الشيخ الباب فتنفس أهل الدار الصعداء. وأفاقوا إفاقة من يودع الحلم المرعب، أو الكابوس الثقيل، ثم انفجروا يصيحون، يفرغون ما اجتمع في حلوقهم من الكلمات التي حبسها وجود الشيخ فلم ينبسوا بها، وانطلقوا في أرجاء الدار الواسعة. والأولاد (صغار أولاد الشيخ وأحفاده ) يتراكضون ويتراشقون بما تقع عليه أيديهم من أثاث الدار، ويتراشون بالماء، أو يدفع بعضهم بعضا في البركة الكبيرة التي تتوسط صحن الدار، فيغوص الولد في أمواهها، فتعدو إليه أمه أو من تكون على مقربة منه فتخرجه من بين قهقهة الصغار وهتافهم وتقبل عليه لتنضو عنه ثيابه وتجفف جسده خشية المرض، فإذا هو يتفلت من بين يديها، ثم يركض وراء إخوته وأبناء عمه ليأخذ منهم بالثأر، والماء ينقط من ثيابه على أرض الدار المفروشة بالرخام الأبيض والمرمر الصافي التي أنفقت الأسرة ساعات الصباح كلها في غسل رخامها ومسحه بالإسفنج، حتى أضحى كالمرايا المجلوة أو هو أسنى… وعلى السجاد الثمين الذي يفرش القاعات الكثيرة والمخادع، وهم ينتقلون من غرفة إلى غرفة، ومن درج إلى درج، ويفسدون ما يمرون به من الأغراس التي لم تكن تخلو من مثلها دار في دمشق، من البرتقال والليمون والكباد والفراسكين والنارنج والأترج (الطرنج) وقباب الشمشير والياسمين والورد والفل، تتوسط ذلك كله الكرمة (الدالية) التي تتمدد على (سقالة) تظلل البركة تحمل العنب (البلدي) الذي يشبه في بياضه وصفائه اللؤلؤ، لولا أن الحبة الواحدة منه تزن أربع حبات مما يسمى في مصر والعراق عنبا… والجدة تعدو وراءهم ما وسعها العدو تصرخ فيهم صراخا يكاد من الألم يقطر منه الدم :
((ولك يا ولد أنت ويّاه… يقصف عمري منكم… وسختم البيت… يا ضيعة التعب والهلاك… الله يجعل عليّ بالموت حتى أخلص منكم))
فيختلط صراخها بصياح الأولاد، وضحك الضاحكين منهم وبكاء الباكين، وهم يتضاربون، ويسقطون ما يعثرون به من الأواني والكؤوس… ولا يصغي لنداء الجدة أحد منهم…
* * * * * * * * *
ويلبثون على ذلك حتى ينادي المؤذن بالظهر، فتنطفئ عند ذلك شعلة حماستهم، وتتخافت أصواتهم ويحسون بدنو ساعة الخطر، فينزوي كل واحد منهم في ركن من أركان الدار ينظر في ثيابه يحاول أن يزيل ما علق بها من الأوساخ، أو أن يصلح ما أفسد منها، كيلا يبقى عليه أثر يعلن فعلته، ويتذكرون ما هشموا من أثاث المنزل حين عاثوا فيه مخربين، فيجمع كل واحد منهم كل ما يقدر عليه من حطام الأواني فيلقيه في زاوية الزقاق في غير الطريق الذي يمر منه الشيخ، ويرجع النسوة إلى أنفسهن فيسرعن في إعداد الطعام وإصلاح المنزل. وتدور العجوز لتطمئن على أن قبقاب الشيخ في مكانه لم يزح عنه شعرة، لا تكل هذه (المهمة) لكنتيها ولا لبناتها، لأنها لم تنس طعم العصي التي ذاقتها منذ أربعين سنة… في ذلك اليوم المشؤوم الذي وقعت فيه الكارثة ولم يكن قبقاب الشيخ في مكانه، وضم إليها القدر مصيبة أخرى أشد هولا وأعظم خطرا، فتأخر صب الطعام عن موعده المقدس (في الساعة الثامنة الغروبية) عشر دقائق كاملات…
وللشيخ حذاء (كندرة) للعمل، وخف (صرماية) للمسجد، و(بابوج) أصفر يصعد به الدرج ويمشي به في الدار، (وقبقاب) للوضوء، وقد تخالف الشمس مجراها فتطاع من حيث تغيب، ولا يخالف الشيخ عادته فيذهب إلى المسجد بحذاء السوق، أو يتوضأ ببابوج الدرج…
وتعد العجوز قميص الشيخ ومنديله، وتهيئ (اليقجة) التي تضع فيها ثياب السوق بعد أن تساعده على نزعها وتطويها على الطريقة التي ألفتها وسارت عليها منذ ستين سنة، من يوم تزوج بها الشيخ وكان في العشرين وكانت هي بنت ست عشرة، وهي لا تزال تذكر إلى الآن كيف وضع لها أسلوبه في الحياة وبين لها ما يحب وما يكره، وعلمها كيف تطوي الثياب وكيف تعد القبقاب، كما علمها ما هو أكبر من ذلك وما هو أصغر وحذرها نفسه وخوفها غضبه إذا هي أتت شيئا مما نهاها عنه، فأطاعت ولبثت العمر كله وهي سعيدة مسعدة طائعة مسرورة لم تخالف إلا في ذلك اليوم المشؤوم وقد لقيت فيه جزاءها، ونظرت العجوز الساعة فإذا هي منتصف الثامنة، لقد بقي نصف ساعة… ففرقت أهل الدار ووزعت عليهم الأعمال، كما يفرق القائد ضباطه وجنده ويلزمهم مواقفهم استعدادا للمعركة، فأمرت بنتها الكبرى بإعداد الخوان للطعام، وبعثت الأخرى لتمسح أرض الدار التي وسخها الأولاد، وأمرت كنتيها بتنظيف وجوه الصغار وإبدال ثيابهم حتى لا يراهم الشيخ إلا نظافا… ثم ذهبت ترد كل شيء إلى مكانه، ولكل شيء في هذا الدار الواسعة موضع لا يريمه ولا يتزحزح عنه، سنة سنها الشيخ لا تنال منه الغيرة ولا تبدلها الأيام، فهو يحب أن يضع يده على كل شيء في الظلمة أو نور، في ليل أو نهار، فيلقه في مكانه، ولما اطمأنت العجوز إلى أن كل شيء قد تم، نظرت إلى الساعة فإذا هي دون الموعد بخمس دقائق… فاستعدت وغسلت يديها ووجهها ولبست ثوبا نظيفا كعهدها ليلة عرسها لم تبدل العهد، واستعد أهل الدار بكبارهم وصغارهم.(/1)
فلما استوى عقرب الثامنة أرهفوا أسماعهم فإذا المفتاح يدور في الباب إنه الموعد ولم يتأخر الشيخ عن وعده هذا منذ ستين سنة إلا مرات معدودات عرض له فيها شاغل لم يكن إلى دفعه سبيل. فلما دخل أسرعوا إليه يقبلون يده وأخذت ابنته العصا فعلقتها في مكانها وأعانته على خلع الحذاء وانتعال البابوج الأصفر، وسبقته زوجته إلى غرفته لتقدم إليه ثياب المنزل التي يتفضل بها.
غاضت الأصوات، وهدأت الحركة، وعادت هذه الدار الواسعة إلى صمتها العميق، فلم يكن يسمع فيها إلا صوت الشيخ الحزم المتزن، وأصوات أخرى تهمس بالكلمة أو الكلمتين ثم تنقطع، وخطى خفيفة متلصصة تنتقل على أرض الدار بحذر وخوف… وكانت غرفة الشيخ يؤثرها على يمين الإيوان العظيم ذي القوس العالية والسقف المنقوش الذي لا تخلو من مثله دار في دمشق، والذي يتوجه أبدا إلى القبلة ليكون لأهل الدار مصيفا يغنيهم عن ارتياد الجبال في الصيف، ورؤية ما فيها من ألوان الفسوق، يشرفون منه على الصحن المرمري وأغراسه اليانعة وبركته ذات النوافير… وكانت غرفة الشيخ رحبة ذات عتبة مستطيلة تمتد على عرض الغرفة التي تعلو عن الأرض أكثر من ذراع كسائر غرف الدور الشامية، تغطيها (تخشيبة) مدّ عليها السجاد وفرشت في جوانبها (الطراريح): الوسائد والمساند، وقامت في صدرها دكة أعلى ترتفع عن (التخشيبة) مقدار ما تهبط عنها العتبة. وكان مجلس الشيخ في يمين الغرفة يستند إلى الشباك المطل على رحبة الدار، وقد صفّ إلى جانبه علبة وأدوات، وهن حق النشوق الذي يأخذ منه بيده ما ينشقه من التبغ المدقوق الذي ألفه المشايخ فاستحلوه بلا دليل حتى صاروا يشتمونه في المسجد كما حرموا الدخان بلا دليل…
وإلى جنب هذا الحق علبة نظارات الشيخ ومنديله الكبير والكتابان الذي لا ينتهي من قراءتهما: الكشكول والمخلاة، وفي زاوية الشباك أكياس بيضاء نظيفة مطوية يأخذها معه كل يوم حينما يغدو لشراء الطعام من السوق فيضع الفاكهة في كيس واللحم في آخر، وكل شيء في كيسه الذي خصصه به، وهذه الأكياس تغسل كل يوم وتعاد إلى مكانها.
وعن يساره خزانة صغيرة من خشب السنديان المتين أشبه الأشياء بصندوق الحديد، لا يدري أحد حقيقة ما فيها من التحف والعجائب، فهي مستودع ثروة الشيخ وتحفه، ومما علم أهل الدار عنها أن فيها علبا صغارا في كل علبة نوع من أنواع النقد: من النحاسات وأصناف المتاليك وأمات الخمسين وأمات المائة والبشالك والزهراويات إلى المجيديات وأجزائها والليرات العثمانية والإنكليزية والفرنسية، كل نوع منها في علبة من هذه العلب، فإذا أصبح أخذ مصروف يومه الذي قدره له يوم وضع (ميزانية الشهر)، ثم إذا عاد نظر إلى ما فضل معه، فضم كل جنس إلى جنسه، وفي هذه الخزانة (وهي تدعى في دمشق الخرستان)، الفنار العجيب الذي كان يخرجه إذا ذهب ليلا (وقلما كان يفعل) يستضيء به في طريق دمشق التي لم يكن بها أنوار إلا أنوار النجوم ومصابيح الأولياء وسرجهم، وأكثر هذه السرج يضاء ببركة الشيخ عثمان ويطفأ ليلا… وفيها الكأس التي تطوى… والمكبرة التي توضع في شعاع الشمس فتحرق الورقة من غير نار… وفيها خواتم العقيق التي حملها الشيخ من مكة، فأهدى إلى صاحبه قسما منها وأوع الباقي خزانته… وفيها الليرات الذهبية التي كان يعطيها الأطفال فيأكلونها لأن حشوها (شكلاطة)… وكانت هي عجائب الدار السبع!
وأمام الشيخ (الرحلاية) وفوقها (السكمجاية)، وهي صندوق صغير فيه أدراج دقيقة ومخابئ وشقوق للأوراق، وبيوت للأقلام في صنعة لطيفة، وهيئة غريبة، كانت شائعة يومئذ في دمشق، موجودة في أكثر البيوت المحترمة…
والويل لمن يمس شيئاً من أدوات الشيخ أو يجلس في مكانه. ولقد جنى الجناية أحد الأطفال مرة فعبث بلعبة النشوق فأسرعت أمه فزعة وأخذتها منه وأبعدته وأعادتها إلى مكانها، فانزاحت لشؤم الطالع عن موضعها مقدار أنملة وعرف ذلك الشيخ، فكان نهار أهل المنزل أسود، وحرموا بعده من الدنو من هذا الحمى!
* * * * * * * * *(/2)
كان الشيخ في الثمانين ولكنه كان متين البناء شديد الأسر، أحاط شبابه بالعفاف والتقى، فأحاط العفاف شيخوخته بالصحة والقوة، وكان فارع الطول عريض الأكتاف، لم يشكو في حياته ضعفا، ولم يسرف على نفسه في طعام ولا شراب ولا لذة، ولم يحد عن الخطة التي أختطها لنفسه منذ أدرك. فهو يفيق سحرا والدنيا تتخطر في ثوب الفتنة الخشعة والخشوع الفاتن، والعالم ساكن لا يمشي في جوانبه إلا صوت المؤذن وهو يكبر الله في السحر يتحدر أعلى المنارة فيخالط النفوس المؤمنة فيهزها ويشجيها، يمازحه خرير الماء المتصل من نافورة الدار يكبر (هو الآخر) ربه ويسبح بحمده، (وإن من شيء إلا يسبح بحمده)، فيقف الشيخ متذوقا حلاوة الإيمان، ثم ينطق لسانه بـ (لا إله إلا الله) تخرج من قرارة فؤاده المترع باليقين، ثم ينزع ثيابه وينغمس في البركة يغتسل بالماء البارد ما ترك ذلك قط طوال حياته، لا يبالي برد الشتاء ولا رطوبة الليل. وكثيرا ما كان يعمد إلى قرص الجليد الذي يغطي البركة فيكسره بيده ويغطس في الماء ثم يلبس ثيابه ويصلي ما شاء الله أن يصلي، ثم يمشي إلى المسجد فيصلي الصبح مع الجماعة في مجلس له وراء الإمام ما بدله يوما واحدا، ويبقى مكانه يذكر الله حتى تطلع الشمس وترتفع فيركع الركعتين المأثورتين بعد هذه الجلسة، ويرجع إلى داره فيجد الفطور معدا والأسرة منتظرة فيأكل معهم البن الحليب والشاي والجبن أو الزبدة والزيتون والمكدوس، ثم يغدو إلى دكانه فيجدها مفتوحة قد سبقه ابنه الأكبر إليها ففتحا ورتبها.
والدكان في سوق البزازين أمام قبر البطل الخالد نور الدين زنكي. وهي عالية قد فرشت أرضها بالسجاد وصف أثواب البز أمام الجدران، ووضعت للشيخ وسادة يجلس عليها في صدر الدكان ويباشر أبناؤه البيع والشراء بسمعه وبصره، ويدفعون إليه الثمن، فإذا ركد السوق تلا الشيخ ما تيسر من القران أو قرأ في (دلائل الخيرات) أو تحدث إلى جار له مسن حديث التجارة، أما السياسة فلم يكن في دمشق من يفكر فيها أو يحفلها، وإنما تركها الناس للوالي والدفتردار والقاضي والخمسة أو الستة من أهل الحل والعقد، وكان هؤلاء هم الحكومة (كلها…) وكان الشيخ مهيبا في السوق كهيبته في المنزل، تحاشى النسوة المستهترات الوقف عليه، وإذا تجرأت امرأة فكشفت وجهها أمامه لترى البضاعة، كما تكشف كل مستهترة، صاح فيها فأرعبها وأمرها أن تتستر وأن تلزم أبدا حدود الدين والشرف وكانت تبلغ به الهيبة أن يعقد الشباب بينهم رهانا، أيهم يقرع عليه بابه، ويجعلون الرهان ريالا مجيدا أبيض، فلا يفوز أحد منهم.
وكان الشيخ قائما بحق أهله لا يرد لهم طلبا، ولا يمنعهم حاجة يقدر عليها، ولكنه لا يلين لهم حتى يجرؤوا عليه، ولا يقصر في تأديب المسيء منهم، ولا يدفع إليهم الفلوس أصلا. وما لهم والفلوس وما في نسائه وأولاده من يخرج من الدار ليشتري شيئا؟ ومالهم ولها وكل طعام أو شراب أو كسوة أو حلية بين أيديهم، وما اشتهوا منه يأتيهم؟ ولماذا تخرج المرأة من دارها، إذا كانت دارها جنة من الجنان بجمالها وحسنها، ثم فيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين؟
يلبث الشيخ في دكانه مشرفا على البيع والشراء حتى يقول الظهر: (الله أكبر)، فينهض إلى الجامع الأموي وهو متوضئ منذ الصباح، لأن الوضوء سلاح المؤمن، فيصلي فيه مع الجماعة الأولى، ثم يأخذ طريقه إلى المنزل، أو يتأخر قليلا ليكون في المنزل عندما تكون الساعة في الثامنة. أما العصر فيصليه في مسجد الحي، ثم يجلس عند (برو العطار) فيتذاكر مع شيوخ الحي فيما دقّ وجل من شؤونه… اختلف أبو عبده مع شريكه فيجب أن تألف جمعية لحل الخلاف… والشيخ عبد الصمد في حاجة إلى قرض عشر ليرات فلتهيأ له… وعطا أفندي سلط ميزابه على الطريق وآذى السابلة فلينصح وليجبر على رفع الأذى عن الناس…
أي أن هذه الجماعة محكمة، ومجلس بلدي، وجمعية خيرية إصلاحية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وكان (برو العطار) مخبر اللجنة ووكيلها الذي يعرف أهل الحي جميعاً برجالهم ونسائهم، فإذا رأى رجلاً غريباً عن الحي حول أحد المنازل سأل عنه من هو؟ وماذا يريد؟ وإذا رأى رجلاً يماشي امرأة نظر لعلها ليست زوجته ولا أخته، ولم يكن في دمشق صاحب مروءة يماشي امرأة في طريق فتعرف به حيثما سارت، بل يتقدمها أو تتقدمه ويكون بينهما بعد بعيد، وإذا بنى رجل غرفة يشرف منها إلى نساء جاره أنبأ الشيخ وأصحابه فألزموه حده. وإن فتح امرؤ شباكا على الجادة سدّوه، لأن القوم كانوا يحرصون على التستر ويكرهون التشبه بالإفرنج، فالبيوت تبدو من الطريق كأنها مخازن للقمح لا نافذة ولا شباك، ولكنها من داخل الفراديس والجنان. فكان الحي كله بفضل الشيخ وصحبه نقيا من الفواحش صيناً، أهل كأهل الدار الواحدة لا يضن أحد منهم على الآخر بجاهه ولا بماله، وإذا أقام أحدهم وليمة، أو كان عنده عرس أو ختان، فكل ما في الحي من طباق و(صوان) وكؤوس تحت يده وملك يمينه.
* * * * * * * * *(/3)
مر دهر والحياة في هذه الدار سائرة في طريقها لا تتغير ولا تتبدل ولا تقف. مطردة أطراد القوانين الكونية، حتى جاء ذلك اليوم… ودقت الساعة دقاتها الثمان، وتهيأ أهل الدار على عادتهم لاستقبال الشيخ لكن العجوز الطيبة والزوجة المخلصة لم تكن بينهم، وإنما لبثت مضطجعة على الأريكة تشكو ألماً شديدا لم يفارقها منذ الصباح. وأدار الشيخ مفتاحه ودخل فلم يراها وهي التي عودته الانتظار عند الباب، ولم تحد هذه العادة مدة ستين سنة إلا أيام الوضع ويوم ذهبت لتودع أباها قبل وفاته، فسأل الشيخ عنها بكلمة واحدة أكملها بإشارة من يده، فخبرته ابنته وهي تتعثر بالكلمات هيبة له وشفقة على أمها، أنها مريضة. فهز رأسه ودخل، فلما وقع بصره عليها لم تتمالك نفسها فنهضت على غير شعور منها تقبل يده، فلما لامست أصابعه أحس كأنما لمسته جمرة ملتهبة، وكان الشيخ على ما يبدو من شدته وحزمه وحبه للنظام، قوي العاطفة، محبا لزوجته مخلصا لها، فرجع من فوره ولم يأكل، ولم يدر أحد في المنزل لماذا رجع ولم يجرؤ على سؤاله واكتفوا بتبادل الآراء لتعليل هذا الحادث الغريب، الذي يشبه في أنظارهم خروج القمر عن مداره. ومضت على ذلك ساعة أو نحوها، فدخل الشيخ وصاح: (روحوا من الطريق)، فاختبأ النسوة ليدخل الضيف، غير أنهن نظرن من شق الباب -على عادة نساء البلد- فأبصرن الطبيب وكن يعرفنه لتردده على المنزل كلما تردد عليه المرض… وكان الطبيب شيخا وكانت بينه وبين العجوز قرابة، ومع ذلك أمر الشيخ العجوز بلبس ملاءتها وألا تظهر منها إلا ما لابد من إظهاره، ثم أدخله عليها، فجس نبضها، وقاس حرارتها، ورأى لسانها. وكان هذا منتهى الدقة في الفحص في تلك الأيام، ثم خرج مع الشيخ يساره حتى بلغا الباب، فودعه الشيخ وعاد، فأمر بأن تبقى العجوز في غرفتها وأن تلزم الحمية وأن تتناول العلاج الذي يأتيها به…
* * * * * * * * *
مرت أيام طويلة والعجوز لم تفارق الفراش، وكان المرض يشتد عليها حتى تذهل عن نفسها، وتغلبها الحمى فتهذي… ((صارت الساعة الثامنة… يلاّ يا بنت، حضري الخوان… والقبقاب؟ هل هو في مكانه… ))، وتهم أحيانا بالنهوض لتستقبل زوجها، وكانت بنتاها وكنتها يمرضانها ويقمن في خدمتها فإذا أفاقت حدثتهن وسألتهن عن الشيخ هل هو مستريح؟ ألم يزعجه شيء؟ والدار؟ هل هي كعادتها أم اضطربت أحوالها؟ ذلك همها في مرضها وفي صحتها، لا هم لها سواه.
وحل موسم المعقود وهي مريضة فلم تطق على البقاء صبراً، وكيف تتركه وهي التي لم تتركه سنة واحدة من هذه السنين الستين التي عاشتها في كنف زوجها، بل كانت تعقد المشمش والجانرك والباذنجان والسفرجل، منه ما تعقده بالسكر ومنه ما تعقد بالدبس، وكانت تعمل مربى الكباد واليقطين، فيجتمع لها كل أنواع المعقودات والمربيات والمخللات (الطرشي) ومن أنواع الزيتون الأسود والأخضر والمفقش والجلط وأشكال المكدوس معمل أمقار (كونسروة) صغير تقوم به هذه الزوجة المخلصة وحدها صامته، ولا يعيقها ذلك عن تربية الأولاد ولا عن إدارة منزلها وتنظيفه ولا عن خياطة أثوابها وأثواب زوجها وبنيها، بل تصنع مع هذا كله البرغل، وتغسل القمح تعجن العجين.
حل الموسم فكيف تصنع العجوز المريضة…؟ لقد آلمها وحز في كبدها، وبلغ منها أكثر مما بلغ المرض بشدته وهوله، فلم يكن من ابنتها وكنتها الوفية إلا أن جاءتا بالمشمش فوضعتاه أمام فراشها وطفقتا تعقدانه أمامها، وتعملان برأيها فكان ذلك أجمل ما تتمنى العجوز.
واشتدت العلة بالمرأة وانطلقت تصيح حتى اجتمع حولها أهل الدار جميعاً، ووقفوا ووقف الأطفال صامتين وحبهم لهذه العجوز الطيبة التي عاشت عمرها كلها لزوجها وبنيها يطفر من عيونهم دمعا حارا مدراراً، وهم لا يدرون ماذا يعملون، يودون لو تفتدى بنفوسهم ليفدونها. ثم هدأ صياحها، وجعل صوتها يتخافت حتى انقطع، فتسلل بعض النسوة من الغرفة، ووقف من وفق حائراً يبكي.(/4)
ولكن العجوز عادت تنطق بعد ما ظنوها قضت، فاستبشروا وفرحوا، وسمعوها تتكلم عن راحة الشيخ وعن المائدة والساعة الثامنة والبابوج والقبقاب… بيد أنها كانت يقظة الموت، ثم أعقبها الصمت الأبدي. وذهبت هذه المرأة الطيبة، وكان آخر ما فكرت فيه عند موتها، وأول ما كانت تفكر فيه في حياتها: زوجها ودارها… ارتفع الكابوس عن صدور الأطفال حين اختل نظام الفلك ولم يبق لهذا الموعد المقدس في الساعة الثامنة روعته ولا جلاله، ولم يعد يحفل أحد بالشيخ لأنه لم يعد هو يحفل بشيء. لقد فقد قرينه ووليفه وصديق ستين سنة فخلت حياته من الحياة، وعادت كلمة لا معنى لها، وانصرف عن الطعام وأهمل النظام، فعبثت الأيدي بعلبه وأكياسه، وامتدت إلى (الخرستان) السرية التي أصبح بابها مفتوحاً، فلم تبق فيها تحفاً ولا مالاً، وهو لا يأسى على شيء ضاع بعدما أضاع شقيقة نفسه. وتهافت هذا البناء الشامخ، وعاد ابن الثمانين إلى الثمانين، فانحنى ظهره وارتجفت يداه ووهنت ركبتاه، ولم يكن إلا قليل حتى طويت هذه الصفحة، فختم بها سفر من أسفار الحياة الاجتماعية في دمشق كله طهر وتضحية ونبل!(/5)
العَلَمانيون الثلاثة.. والنيلةُ.. والحظّ الهباب..!!
أ.د/
جابر قميحة
komeha@menanet.net
الثلاثة المشار إليهم في العنوان هم الأساتذة: حسين أحمد أمين, وسعيد العشماوي, وفرج فودة. وهم - في مصر والبلاد العربية - يعدون من أشهر رءوس العَلَمانية (بفتح العين واللام )
والأخير بين يدي اللّه الآن, فقد اغتيل مساء يوم الاثنين 8 من يونيو سنة 1992. وما كتبه هؤلاء الثلاثة يعد عدوانًا - بكل معني الكلمة - علي كثير جدًا من قيم الإسلام ونظمه, ومبادئه, حتي ما جاء منه في نصوص إلهية قطعية الثبوت والدلالة, ولا تحتمل التأويل والخروج بها عن مسارها. فعلوا ذلك باسم «التنوير» وإنقاذ العقل المسلم من ظلمات الرجعية والتخلف.
عينات لا محاكمة..
ونحن في هذا المقال لا نحاكم العَلَمانية والعَلَمانيين, ولكننا نحتكم - ابتداء - إلي «عينات» مما أفرزه هذا الثلاثي في كتبهم:
- أحدهم سافر - من عدة سنوات - في رحلة إلي الولايات المتحدة, وعاد منها ليكتب عدة مقالات في مجلة قومية أسبوعية يخلع فيها علي «الشباب المسلم العربي» من المثالب والنقائص والمآثم مالا يصٍدق إلا علي الكفرة الفجرة, والجهلة المتخلفين, كزعمه بأنهم يحرمون الجلوس علي المقاعد أثناء المحاضرات بدعوي أن النبي صلي اللّه عليه وسلم والصحابة كانوا يفترشون الأرض جلوسًا. وفات صاحبنا أن هؤلاء الشباب كانوا يستخدمون مكبرات الصوت في المحاضرات, ويوزعون هذه المحاضرات مطبوعة, ويستقلون السيارات والطائرات. فهل وجدت هذه الآليات أيام الرسول صلي اللّه عليه وسلم, واستخدمها هو وأصحابه?.
- ويرفض الحدود الشرعية, ويطالب بالتسوية بين الأنثي والذكر في الميراث.
- وأحدهم يزعم أن حروب الردة (وهو يسميها حروب الصدقة) كانت حروبًا عدوانية, وأن نظام الخلافة نظام جاهلي فاسد جاء للسطو والسيطرة, والعدوان علي حقوق الإنسان, وأنه أضر بالإسلام حين ربط العقيدة بالسياسة, والشريعة بنظام الحكم.
- وأحدهم يعتقد أنه مبعوث العناية الإلهية «لضرب الرجعية» و«الأصولية المتعفنة» و«إنقاذ الإسلام من المتخلفين والأصوليين ولصوص توظيف الأموال» علي حد قوله.
- ويكتب عن «زواج المتعة» مستعينًا بآراء تائهة شاذة, ليوهم الجهلة والعامة بأن لهذا «الزواج» مكانه الثابت في الإسلام..
وغير ذلك كثير وكثير, وكلها أباطيل وأضاليل, لا يقصد بها لا تنوير, ولا تعمير, ولا رقي وتطوير - كما يزعمون - إنما الهدف هو الدنيا والمال والأضواء والشهرة, والمنافع الشخصية, وليسقط العقل والخلق والضمير.
وشهد شاهد من أهلهم..
وأنا لا ألقي الكلم جزافًا, ولم أخترع هذا الحكم الأخير اختراعًا ولكنه حكم يَخلص إليه من يقرأ شهادة حسين أحمد أمين, الذي لم يكن فرج فودة ليحدثه إلا بـ«أستاذي». يتحدث حسين عن أول زيارة قصده بها فرج فودة عصر يوم 6 مايو 1984 ليتعرف عليه. ويقول عنه حسين «.. اشتهر فرج باعتباره النصير الأول للعَلَمانية في مصر, والمناضل الذي لا يكل ولا يمل, ضد خطر الجماعات الإسلامية.. واتسعت شعبيته بسرعة مذهلة خصوصًا بين العلمانيين, والأقباط, والدوائر الرسمية».
ويذكر حسين أمين أن «فرج فودة حاول إنشاء حزب باسم حزب المستقبل وفي يوم 8 من أكتوبر 1984 أقام احتفالاً كبيرًا في سرادق ضخم أقامه بجاردن سيتي» دعا إليه السفراء الأجانب (!!) ورجال الصحافة, وعددًا من الشخصيات العامة المستقلة, وزعماء القبط, وقرأ برنامج الحزب الجديد (الذي لم تصرح به الحكومة).
وعن هذا البرنامج يقول حسين «.. قرأته فتبينت في طياته نزعة فاشية واضحة لا تبشر بخير, وهي نزعة تمثلت في استعداده لقمع الحركات الإسلامية بنفس الأساليب التي اتنهجها النازيون تجاه مخالفيهم في الفكر, ويصرح بضرورة ضم السودان وليبيا إلي مصر بالقوة.. ولمست من فرج فودة اعتماده في تمويل نشاطه علي ما يزوده به نظام صدام حسين في العراق من مال.. وقد حاول مرة واحدة جس نبضي بصدد إمكان مرافقتي إياه في زيارة لبغداد, فلما أبيت بقوة تظاهر - علي الفور - بالاقتناع برأيي, ولم يفاتحني بعدها قط بشأن صلاته بعدد من الجهات الأجنبية».
وعن موقف الحكومة منه يقول حسين أمين «.. كان يتسم بالتذبذب: فهي من ناحية تقر علمانيته ويسرها هجومه العنيف علي الجماعات الإسلامية متطرفها ومعتدلها, وفي نفس الوقت حرّمتٍ عليه التليفزيون والإذاعة, إذ كانت تدرك أن عنف هذا الهجوم - وإن أطرب العلمانيين والمسيحيين وصحافة الغرب - يثير غضب الإسلاميين, ويبعثهم علي المزيد من التطرف والتصلب.. كانت مقالاته وكتبه - بوجه عام - لاذعة مليئة بالسخرية والتهكم اللذين كثيرًا ما كانا يصلان - في رأيي علي الأقل - إلي حد الإسفاف والردح.. وبالرغم من كل شيء.. من عدم رضائي عن عنصر الإسفاف في مقالاته, وشكي بصدد صلاته بجهات أجنبية ومصادر تمويل نشاطه, وأسفاره العديدة, فقد ظلت العلاقة بيننا طيبة ودية حتي النهاية».
مكالمة هاتفية..(/1)
وفي أحد أيام مارس 1992 جرت مكالمة هاتفية غريبة بين الرجلين ونصها:
- طبعًا سمعت الخبر يا أستاذ حسين?
- أي خبر?
- خبر مصادرة خمسة كتب للمستشار سعيد العشماوي في معرض القاهرة للكتاب.
- نعم, وقد آلمني الأمر, وأحزنني أشد الحزن.
- آلمك وأحزنك? اسمح لي أسألك: علي من أحزنك الخبر?
- علي المستشار العشماوي بطبيعة الحال.
- علي المستشار العشماوي? استاذي الكبير. منذ أذيع خبر المصادرة أي في بحر ثلاثة أيام بيع سبعة آلاف نسخة من كتاب معالم الإسلام, وخمسة آلاف نسخة من كتاب أصول الشريعة, وستة عشر ألف نسخة من كتاب «الخلافة الإسلامية» وهلم جرا, كم نسخة بيعت من كتابك «الإمام» حتي الآن?
- ثلاثة آلاف.
- اتفرج يا سيدي, وأنا لم أبع من كتابي «الحقيقة الغائبة» غير ألفي نسخة.
- كم يدفع ناشرك مقابل إعلان صغير عن كتاب لك في الأهرام أو الأخبار?
- ستمائة جنيه علي الأقل.
- والمستشار سعيد العشماوي تتهافت الكتب والمجلات اليوم علي نشر الأحاديث معه والمقالات له علي ثلاث صفحات أو أربع, ومع صورة كبيرة له دون أن يدفع شيئًا, بل ربما دفعت هذه الصحف والمجلات له المكافآت عن هذه الأحاديث والمقالات.. ارفع سماعة تليفونك, واتصل به هو نفسه لتدرك مدي تهلله وسعادته بهذه الهبة التي نزلت عليه من السماء في صورة قرار بمصادرة كتبه, وقد كان الرجل في جميع أحاديثه مع الصحف من الدهاء والمكر بحيث تظاهر بالغضب والاستياء الشديدين من هذا القرار, وكأنما أضير من جرائه ضررًا بالغًا, بل وهدد برفع قضية علي مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر.
- أجاد أنت? تقول: إنه سعيد بما حدث?
- كلمه أنت.. أليس صديقك? «دار سينا» - يا أستاذي - بعد أن نفدت نسخ كتبه تستعين بثلاث مطابع في آن واحد لإعادة طبع الكتب, والمطابع تعمل ليل نهار كي توفرها في السوق في ظرف أسبوع واحد لمواجهة الطلب المتزايد عليها.
- هذا خبر سار حقًا.
- سار حقًا? اسمح لي أسألك: سار بالنسبة لمن?
- للعشماوي بطبيعة الحال.
- للعشماوي? وماذا عني وعنك يا أستاذ حسين? وماذا عن كتبي وكتبك? لماذا لم يأمر مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر بمصادرتها هي أيضًا رغم أنها تحوي من الأفكار ما هو أخطر ألف مرة مما ورد في كتب العشماوي? «دليل المسلم الحزين مثلا», أو «الإسلام في عالم متغير» أو «قبل السقوط» أو «نكون أو لا نكون» هل هذه الكتب في رأيك أقل خطرًا من كتب المستشار العشماوي, أم هي في رأي الأزهر لا غبار عليها من الناحية الدينية ككتب الشيخ الغزالي والشيخ القرضاوي?
- الحقيقة أنني..
- لا يا أستاذي الفاضل.. ليس الأمر كما تظن, بل أكاد أجزم الآن بأن العشماوي لا بد قد دفع مبلغًا لجهة ما كي توصي مجمع البحوث الإسلامية بمصادرة كتبه.. العشماوي - بحكم خبرته وثقافته - يعلم أن بعض المؤلفين الأوربيين والأمريكان يلجأ اليوم إلي رشوة نقاد ليقوموا بمهاجمة كتبهم في الصحف والمجلات الأدبية علي نحو يثير شوق قراء الصحيفة أو المجلة إلي شراء الكتاب لقراءته.
- ألا يمكن أن يكون أعضاء مجمع البحوث قد أصدروا قرار المصادرة متطوعين مشكورين غير مأجورين من تلقاء أنفسهم, ودون سابق اتصال من جانب العشماوي?
- لا يا أستاذنا الكبير, وإلا فلماذا لم يصادروا أيضًا كتب فرج فودة وحسين أمين? هأ!! جتنا نيلة في حظنا الهباب!! الحقيقة أنني قد بدأت أغضب من العشماوي, كان من واجبه - ونحن الثلاثة نجاهد في سبيل قضية واحدة, ومن خندق واحد - أن يستشيرنا قبل إقدامه علي الاتصال بمجمع البحوث, أو أن يلفت - علي الأقل - نظر المجمع إلي كتبنا نحن أيضًا باعتبارها جديرة مثل كتبه بالمصادرة.
- لا يا دكتور فرج.. الأرجح - في رأيي - هو: إما أن أعضاء المجمع لم يقرءوا كتبنا نحن, وقرءوا كتب العشماوي فأمروا بمصادرتها, وإما أنهم قرءوا كتبنا, ووجدوها سليمة لا خطر منها.
- سليمة لا خطر منها? يا سيدي الجليل ما كتبه علي عبد الرازق في «الإسلام وأصول الحكم» أو طه حسين في «الشعر الجاهلي» لا يمكن أن يقارن خطره بخطر فقرة واحدة من كتبي أو كتبك, كيف إذن يمكن للمجمع أن يجرؤ, ويعتبرها سليمة لا خطر منها? أما عن احتمال أن يكون أعضاء المجمع غافلين عنا وجاهلين بكتبنا فما علينا إذن إلا أن ننبههم إليها.
بالكتابة إليهم, بتحريض أصدقاء لنا علي تقديم الشكاوي من أفكارنا, أو بأن نطلب نحن مقابلة شيخ الأزهر, أو رئيس المجمع نفسه لتوضيح الأمور, ووضعها في نصابها, وتنبيهًا إلي أن في كتبنا خطرًا علي المجتمع الإسلامي لا يمكن السكوت عليه. سليمة لا خطر منها يادي الفضيحة!! هذه إهانة.. كيف يمكن أن أُري وجهي للناس ومجمع البحوث الإسلامية يعتبر كتبي سليمة لا خطر منها? ما جدواها إذن? وما جدوي تعبي في كتابتها? جتنا نيلة في حظنا الهباب».
...(/2)
عزيزي القارئ هذا جزء حرفي مما كتبه حسين أحمد أمين في صحيفة «الجيل» - وهي تصدر في القاهرة - في عددها الصادر يوم الأحد 13 من ذي القعدة 1419هـ - 28 من فبراير 1999. نقلته بالنص دون تدخل مني, وأعتقد أنك معي في ضرورة «وقفة»أخري مع هذا الكلام الخطير 0
*** *** ***
لقد عرضنا آنفا نص المكالمة الهاتفية التي كانت بين قطبي العلمانية : فرج فودة, وحسين أحمد أمين, وفيها أبدي فرج أسفه وحزنه لمصادرة خمس كتب للقطب العلماني الثالث محمد سعيد العشماوي لأن هذه المصادرة رفعت توزيعها إلي عشرات الألوف. ويبكي حظه وحظ صديقه حسين أمين, ووصفه بأنه حظ «هباب» لأن المسئولين في الأزهر, ومجمع البحوث الإسلامية لم يوصوا, ولم يعملوا علي مصادرة كتبهما (فيرتفع توزيعها) . وفي السطور التالية نكمل المسيرة 0
دلالات خطيرة مؤسفة..
ونص هذه المكالمة - باعتراف حسين أحمد أمين – نُشرأولا في صحيفة «الأهالي» الصادرة في 11 من مارس سنة 1998-. وأعاد حسين أمين نشر نص المكالمة مرة أخري ص 11 من صحيفة الجيل (القاهرية) الصادرة يوم الأحد 28 من فبراير سنة 1999. في سلسلة مقالاته : شخصيات عرفتها 0 تحت عنوان مثير بخط كبير جدًا (فرج فودة يتهم سعيد العشماوي بإبلاغ الأزهر عن كتبه.. ويتحسر علي حظه الهباب). ومن العناوين الفرعية في المقال (اعتمد فرج في تمويل نشاطه علي أموال صدام حسين, وعلي صلاته بالجهات الأجنبية 0
ويذكر حسين أحمد أمين أن سعيد العشماوي غضب وهاج وماج بعد أن اطلع علي ما كتبه في الأهالي. كما أن العشماوي وجه حديثًا عنيفًا إلي فرج فودة بسبب هذه المكالمة.
وواضح أن هذه المكالمة وتوابعها تُلقي إضاءات قوية علي نفسية الثالوث القائد, ومن دار في فلكهم, وتبين عن هدفهم من الكتابة, وطبيعة منهجهم الفكري والدعوي. فهم يكتبون - لا من منطلق الإيمان بما يكتبون, ولا من منطلق الحرص علي مصلحة الوطن بالتنوير, والتوعية السياسية والاجتماعية والعلمية, كما يزعمون.
ولكنهم يكتبون من أجل المال, وتحقيق الثراء.. والآلية المثلي لتحقيق هذا الهدف هي مصادرة كتبهم, ومن ثم زيادة نسبة التوزيع بإقبال الناس علي شراء الكتب حبًا في كشف سبب أو أسباب المصادرة, فكل ممنوع مطلوب, وكل محجوب مرغوب, كما يقول المثل العربي. وتصديهم وهجومهم علي المرجعية الدينية, وقيمنا الموروثة لم يعد من قبيل «خالف تعرف», ولكن: خالف, ودمر حتي تحصد أقصي ما تقدر عليه من غني فاحش.
ولا مانع من إساءة الظن بالأزهر ومجمع البحوث الإسلامية والترويج بأن العاملين المسئولين بهما مظنة الارتشاء والمجاملة غير العادلة.
ولا مانع من الكذب والتزوير بالكتابة إلي المسئولين - مباشرة, أو عن طريق الأصدقاء - بأن كتبهم خطيرة ومدمرة للدين والمجتمع حتي تفوز بالمصادرة.. المصادرة التي تثمر بعدها الرواج وسعة الانتشار, وتحقيق الثروة.
ولا مانع من «جلٍد الذات» بالاعتراف بأن كتبهم فيها ما هو أشد خطرًا مما كتب علي عبد الرازق وطه حسين, والأول - كما هو معروف - أنكر أن يكون الإسلام نظام حكم وسياسة وقيادة, وأنه مجرد عبادات وقيم روحية, وكأنه نصرانية بأسلوب عربي, والثاني عدا علي القرآن, واستهزأ بالرسول صلي اللّه عليه وسلم ونسبه. ومن عجب أننا حينما قلنا هذا من قبل وكتبناه في مقام نقد - أو نقض - هذه الكتب هبوا, وغضبوا غضبة غير مضرية , وادّعوا أن كتبهم هذه ليس فيها ما يناقض عقيدة . أو يوصف بالخبث والسقوط .
ولا مانع أبدًا من الاعتماد علي الأموال الأجنبية, ومد الأيدي - في سرية - لحكام عادوا العروبة, وكانوا حربًا علي العرب, ولدول أجنبية كانت - وما زالت - حربًا علي الإسلام والعرب.
ولا مانع أبدًا من توظيف عبارات سوقية مبتذلة تحمل شحنة من النقمة علي الذات, وعلي الآخرين, وعلي القدر, لأن حظهم من الرزق والشهرة والمكانة لم يكن كحظ الآخرين, وأعجب مثلي, أو لا تعجب للقائد العلماني الدكتور, وهو يصرخ «جتنا نيلة في حظنا الهباب».
وما زال العار قائما
نعم , ما زال العار قائما يشد بعضه بعضا , فعتاة العلمانيين المتطرفين ,أدعياء التنور والتنوير والعبقرية يتربعون علي قمم الفكر والإعلام والأدب , وأصبح منهجهم وطابعهم الاستهتار بالدين والاستهانة بالقيم , ولا هم لهم إلا المال والمناصب والشهرة والأ ضواء , ولو كان ذلك على حساب الدين والمجتمع وكل القيم والمثل العليا(/3)
العِلمُ مِيراثُ التقوى
د. محمد عمر دولة*
لو قلتُ لك: إنَّ هذا العِلمَ.. ليس بكثرةِ الاجتهادِ والحفظِ والقراءةِ فحسب؛ وإنما هو هِبَةٌ من الله لِمَن علم الله فيه الصدقَ والإخلاص والصلاح! أتُصَدِّقني؟!
انظرْ إلى حالِ الخوارجِ وشدة اجتهادِهم؛ حتى كان الصحابة رضي الله عنهم يحقرون صلاتَهم إلى صلاتِهم! ومَن على شاكلتِهم مِن الغُواةِ والغُلاة؛ كيف ضَلُّوا وأضَلُّوا مع كثرةِ تعبِهم ونَصَبِهم!
فالله عزَّ وجلَّ يؤتِي العِلمَ مَن يشاء ويُلقي الفهمَ في قلبِ من يشاء من عبادِه المتقين، وقد قال جلَّ جَلالُه: (وداود وسليمان إذْ يحكمان في الحرثِ إذْ نفَشَتْ فيه غَنَمُ القومِ وكنَّا لِحُكْمِهم شاهِدِين ففهَّمْناها سُليمان وكلا آتَينا حُكْماً وعِلماً).[1] قال القرطبي رحمه الله: "يكون في أهلِ التقوى فراسةٌ دِينيةٌ وتوسُّماتٌ نُورِيةٌ؛ وذلك فَضلُ الله يؤتيهِ مَن يشاء... وعلى الجملةِ فقضاءُ سليمان في هذه القصة تضمَّنها مَدحُه تعالى له بقوله: (ففهَّمْناها سليمان)".[2]
فهذا وَعْدٌ من الله عزَّ وجلَّ وبشارةٌ لأهلِ التقوى أن يهبَهم اله منه علماً وفرقاناً ومخرجاً ويهديهم إلى ما اختلِفَ فيه من الحق، كما قال جَلَّ جلالُه: (إنْ تَتقُوا الله يَجْعَلْ لكم فُرْقاناً).[3] (ومَن يَتقِ الله يَجْعَلْ له مَخرَجاً ويَرْزقْه مِن حيث لا يحتسب).[4] وقال تعالى: (واتقوا الله ويُعلِّمُكم الله). قال ابنُ كثير رحمه الله: "قوله (واتقوا الله): أي خافُوه وراقِبُوه واتبعُوا أمرَه واتركُوا زَجْرَه. (ويُعلِّمُكم الله): كقوله: (يا أيها الذين آمنوا إنْ تتقُوا الله يَجعَلْ لكم فُرقاناً)، وكقوله: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمِنُوا برسولِه يُؤتِكم كِفْلَيْن مِن رَحْمَتِه ويَجْعلْ لكم نُوراً تَمشُون به). وقوله: (والله بكل شيء عليم): أي هو عالِمٌ بحقائقِ الأمورِ ومصالِحِها وعَواقبِها؛ فلا يخفى عليه شيءٌ من الأشياء، بل عِلمُه مُحِيطٌ بجميعِ الكائنات".[5]
قال القرطبي رحمه الله: "قوله تعالى: (واتقوا الله ويُعلِّمُكم الله والله بكلِّ شيءٍ عَلِيم)[6] وَعْدٌ من الله تعالى بأن من اتقاه علمه: أي يجعل في قلبه نورا يفهم به ما يلقى إليه، وقد يجعل الله في قلبه ابتداء فُرقاناً: أي فَيْصَلا يفصل به بين الحق والباطل. ومنه قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يَجْعلْ لكم فُرقاناً)".[7]
ورحمَ الله الرملي حيث قرَّرَ أنَّ التقوى سِرُّ زيادةِ المعرفة والرسوخِ في العلم، فقال: "التوفيقُ خلقُ قدرةِ الطاعةِ في العبدِ؛ قال تعالى: (واتقوا الله ويُعلِّمُكم الله ... ومعناه: وعد منه بأن من اتقاه علمه: بأن يجعل في قلبِه نوراً يفهم به ما يُلقَى إليه وفرقاناً: أي فيصلا يفصل به بين الحق والباطل، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تتقُوا الله يَجْعَلْ لكم فُرقاناً)؛ فبتقوى الله تزدادُ المعارف".[8]
فمن جاهدَ نفسَه وقهرَ هواه وقمعَ شَهواتِه واتقى الله عز وجلَّ؛ هداه الله عز وجلَّ إلى ذخائرِ العلمِ ونفائسِ المعرفة، فقد قال عزَّ وجلَّ: (والذين جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهم سُبُلَنا).[9] قال القرطبي: "قال الحسن بن أبي الحسن: الآية في العُبَّاد، وقال ابن عباس وإبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما يعلمون، وقد قال صلى الله عليه وسلم : (من عَمل بما عَلِم؛ علَّمَه الله ما لم يعلم)، ونزعَ بعضُ العلماء إلى قوله: (واتقوا الله ويُعلِّمُكم الله)، وقال عمر بن عبد العزيز: إنَّما قصَّرَ بنا عن عِلمِ ما جَهِلْنا تقصيرُنا في العملِ بِما عَلِمْناه ولو عَمِلْنا ببعضِ ما علِمنا؛ لأوْرَثَنا عِلماً لا تقومُ به أبدانُنا؛ قال الله تعالى: (واتقوا الله ويُعلِّمُكم الله)... وقال عبدُ الله بن عباس: (والذين جاهَدُوا في طاعَتِنا لِنَهْدِيَنَّهم سُبلَ ثَوابِنا، وهذا يتناوَلُ بِعُمُومِ الطاعةِ جميعَ الأقوالِ، ونحوه قولُ عبدِ الله بن الزبير قال: تقول الحكمةُ: مَن طلبَنِي فلم يجدني؛ فلْيَطْلُبْنِي في مَوضِعَين: أنْ يَعمَلَ بأحْسَنِ ما يعلَمُه ويَجتنِبَ أسوأ ما يَعلَمُه ".[10]
فرَحِمَ الله عَبداً لم يُعَوِّلْ على عقلِه؛ بل استَعانَ بربِّه ونَصَبَ بين عَينيه قولَ الفقهاءِ وأهلِ العلمِ: "إنَّ أْولَى ما يُستَنْزَلُ به فَيضُ الرحمةِ الإلهية في تحققِ الواقعاتِ الشرعيةِ طاعةُ الله عز وجلَّ والتمسكُ بحبلِ التقوى قال الله تعالى: (واتقوا الله ويُعلِّمُكم الله)؛ ومن اعتمدَ على رأيِه وذِهنِه في استخراجِ دقائقِ الفِقهِ وكُنُوزِه وهو في المعاصي حَقِيقٌ بإنزال الخذلان عليه؛ فقد اعتَمدَ على ما لا يُعتَمَدُ عليه! (ومَن لم يَجعَل الله له نُوراً فما له مِن نُور)[11]".[12]
----------
[1] الأنبياء 78-79.
[2] الجامع لأحكام القرآن 11/314.
[3] الأنفال 29.
[4] الطلاق 2-3.
[5] نفسير القرآن العظيم 1/338.
[6] البقرة 282.
[7] الجامع لأحكام القرآن 3/406.(/1)
[8] شرح زبد ابن رسلان ص 4، دار المعرفة بيروت.
[9] العنكبوت 69.
[10] الجامع لأحكام القرآن 13/364.
[11] النور 40.
[12] البحر الرائق لزين بن إبراهيم 6/286. دار المعرفة بيروت. وحاشية ابن عابدين 5/359. دار الفكر بيروت، ط2، 1386 هـ.(/2)
الغارمون الذين لهم حق في أموال الزكاة
السؤال :
أنا موظف ميسور الحال ، و راتبي بالنسبة لأمثالي في بلادنا جيّد و الحمد لله ، و قد كنت أسكن مع والدتي في بلدٍ ورثناه عن والدي رحمه الله ، و لكني أردت التوسّع بعد الزواج فاقترضتُ لشراء مسكن جديد في منطقةٍ راقيةٍ ، و شرعت في تسديد القرض على أقساط ، و لكن الراتب محدود فهل يجوز لي أن آخذ من أموال الزكاة ما أسدد به ديني ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
للغارِم حقّ في ما الزكاة ، لقوله تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَ الْمَسَاكِينِ وَ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقَابِ وَ الْغَارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ و اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) [ التوبة : 60 ] .
و الغارم الذي له حقّ في أموال الزكاة هو : من احترق بيته , أو يصيبه السيل فيذهب متاعه , و يُدان على عياله ، و من ركبته الديون في غير فساد و لا تبذير ، كما روى ذلك الطبري عن مجاهد في تفسير هذه الآية .
و روى أيضاً عن قتادة : أما الغارمون ؛ فقوم غرقتهم الديون , في غير إملاق و لا تبذير و لا فساد .
و حدَّ الإمام القرطبي في تفسيره الغارمين بالذين ركبهم الدَين و لا وفاء عندهم به .
ثمّ قال : و لا خلاف فيه . اللهم إلا من إدَّانَ في سفاهةٍ فإنه لا يُعطى منها ، و لا من غيرها إلا أن يتوب . و يعطى منها من له مال وعليه دين محيط به ما يقضي به دينه , فإن لم يكن له مال و عليه دين فهو فقير وغارم فيعطى بالوصفين .اهـ .
أمّا إذا كان الحال كما يُفهَم من كلام السائل أنّه استدان للتوسّع و ليس مضطراً و لا مُحتاجاً لذلك أصلاً ، و لديه مورد رزقٍ يكفيه حاجته و يفضُل منه بحسب حال المعيشة في بلده ، فليس له أن يأخُذَ من ما الزكاة ما يسدد به دينه ، بل يسدّده من كدِّ يده بحسب طاقَته ، فإن عجِز عن السداد من دَخله ( كما لو كان راتبه لا يكفيه و لا يُغنيه ) و اضطر للمَسكن الذي اشتراه ، فله عندئذٍ أن يأخذ من مال الزكاة بقدر حاجته ، و ليحذر من التوسّع في تقدير الضرورة ، و كلّ إنسانٍ على نفسه بصيرةٌ.
و كذلك الحال بالنسبة للتجّار الذين يستوردون البضائع بموجب قروض و ضماناتٍ مصرفيّة ضخمة ، لا يُعتَبرون غارِِِمين ، لأنّ تجارتهم إنّما هي للتوسّع في العمل ، و طلب الرزق ، و ليست للحاجة ، و لولا ذلك لشارك أصحاب الملايين الفقراءَ و المساكينَ نصيبَهم من الزكاة بدعوى أنّهم غارمون .
هذا ، و الله أعلم ، و بالله التوفيق .(/1)
الغاية من الخلق ...
موقع إمام المسجد ...
...
إن الله خلق المخلوقات، وأوجد الموجودات لغاية يريدها، وحكمة يعلمها، ولم يخلقهم سدى، ولم يتركهم هملاً.
ولذلك فقد أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبين طريق السعادة ليسلك السالكون فيها، وطريق الغواية ليحذر منها ومن الاقتراب منها.
ولقد خلق الله الجن والإنس لغاية عظيمة سامية بها حياتهم وسعادتهم إن هم قاموا بها، قال الله ـ تعالى ـ:? وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ? [الذريات:56]، وقال تعالى: ? أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ? [المؤمنون:115].
فالغاية من خلق الخلق هي عبادته وحده لا شريك له، ولكن للأسف الشديد هناك كثير من الناس لم يعرفوا الغاية التي لأجلها خلقوا، وبالتالي هم يعيشون عيشة أشبه بعيشة البهائم، قال الله عنهم: ? أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ?[الفرقان:44].
وقال تعالى: ? يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ? [الروم:7].
وهؤلاء هم الكفار والمشركون، ومع أن الجن والإنس وكل المخلوقات تعبد الله وتوحده وتحبه وتسجد له، كما قال تعالى: ? أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ? [الحج:18].
وقال: ? تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ? [الاسراء:44].
إلا أن هناك :? وكثير من الناس حق عليه العذاب ? [الحج:18].
وبالتالي كفر وتعتى وظلم، فأهان نفسه وأوبقها ? ومن يهن الله فما له من مكرم ? [الحج:18].
ومما لا محيد عنه أن من لم يعبد الله فإنه سيعبد غيره، من هوى أو نفس أو شيطان أو جاه أو منصب، أو صورة، أو دينار أو درهم، ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش ) [رواه البخاري].
وقال ابن القيم:
هربوا من الرق الذي خلقوا له قبلوا برق النفس والشيطان
وهناك فئة من الناس عرفوا الغاية التي لأجلها خلقوا، ولكنهم قصروا وأساءوا، وأضلوا الطريق فعبدوا الله على جهل، وابتدعوا في دين الله مالم يأذن به الله، أو أخذ جزءًا من العبادة وتركوا الجزء الآخر، ولم يفهموا معنى العبادة الشاملة التي عبر عنها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.
فالعبادة تشمل كل عمل ديني، وكل عمل دنيوي مباح وذلك إذا قصد بفعله وجه الله والتعبد والاحتساب بذلك لله وحده لا شريك له.
فإن من أكل ليتقوى على طاعة الله فهو مأجور، ومن تزوج ليعف نفسه ويحصن فرجه ويقيم أسرة مسلمة صالحة فإنه مأجور ـ بإذن الله ـ.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن عبد الوهاب ـ رحمهم الله ـ :« ومعنى الآية: ? وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ? [الذريات:56] ،أن الله ـ تعالى ـ أخبر أنه ما خلق الإنس والجن إلا لعبادته، فهذه هي الحكمة ـ الغاية ـ في خلقهم، ولم يرد منهم ما تريده السادة من عبيدها من الإعانة لهم بالرزق والإطعام، بل هو الرزاق ذو القوة المتين، الذي يُطعِم ولا يُطعَم؛ كما قال تعالى: ? قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ? [الأنعام:14] ».
وقد قال تعالى: ? مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ? [الذريات:57].
ثم قال ـ رحمه الله ـ: « وعبادته هي طاعته بفعل المأمور، وترك المحظور، وذلك هو حقيقة دين الإسلام؛ لأن معنى الإسلام هو الاستسلام لله المتضمن غاية الانقياد، في غاية الذل والخضوع. قال علي بن أبي طالب: في الآية السابقة: « إلا لآمرهم أن يعبدوني، وأدعوهم إلى عبادتي ».
وقال مجاهد: « إلا لآمرهم وأنهاهم ». واختاره الزجاج وشيخ الإسلام، قال: ويدل على هذا قوله: ? أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ? [القيامة:36]. قال الشافعي: لا يؤمر ولا يُنهى.(/1)
وقوله تعالى: ? قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ? [الفرقان:77] أي: لولا عبادتكم إياه.
ولقد أحسن الإمام العالم الرباني/ حافظ بن أحمد حكمي ـ رحمه الله ـ حين قال في نظمه الموسوم بسلم الأصول إلى علم الأصول في توحيد الله واتباع الرسول:
اعلم بأن الله جل وعلا لم يترك الخلق سدى وهملاً
بل خلق الخلق ليعبدوه وباللآلهية يفردوه
أخرج فيما مضى من ظهر آدم ذريته كالذر
وأخذ العهد عليهم أنه لا رب معبود بحق غيره.
أسأل الله التوفيق والهدايةوأعوذ به من الخذلان والغواية
اللهم وفقنا لحسن عبادتك، وأعنا على ذكرك وشكرك . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.(/2)
الغاية من خلق العباد
فإن الغايةَ التي خلقَ الله الإنسَ والجنَّ لها , وبعثَ جميعَ الرُسلِ يدعون إليها هي عبادته ؛ كما قال الله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) } [ سورة الذاريات : 56 ] .
قال ابن كثير رحمه الله : وَمَعْنى الآية أنَّه تبارك وتعالى خَلَقَ العِبادَ ليعبدوه وحده لا شريك له , فمن أطاعَهُ جازاهُ أتمَّ الجزاء , ومن عصاهُ عذَّبه أشدَّ العَذابِ وأخبرَ أَنَّهُ غَيْرُ محتاجٍ إليهم بل هم الفُقراء .
وهذه العِبادة المتضمنة لمعرفته ومحبته , والإنابة إليه , والإقبال عليه , والإعراض عمّا سواه , وذلك متوقف على معرفة العبد لنفسه ؛ ومعرفته لربه , فمعرفة العبد لنفسه ؛ وأنه مهما بلغ به الجاه والسلطان والمال ؛ فهو عاجز ضعيف , لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا , ولا موتا ولا حياة ولا نشورا , كُلَّما عَلِم من نفسه ذلك تصاغرت نفسه أمامه , وذهبَ كبرياؤهُ وعظم افتقاره , وكُلَّما عَلِم عن ربه وخالِقهِ الذي خَلَقه فَسَوّاه ؛ عَظُمَ ذلك الافتِقارُ وزاد تذللا بين يدي ربه ومولاه , وانقطع رجاؤه عمن سِواه , وكُلَّما عَلِم مِنْ أسمائهِ وصفاتهِ انخلعَ إجلالا لربِّهِ وتعظيماً لمقامِهِ , وهيبةً لسطوتهِ وجبروتهِ وسلطانهِ وعَلِمَ أنَّهُ بغيرِ الله لا شيء , وأنَّ أَقلَّ ما يقولُ عَنْ نفسهِ -متحسراً : والهفاه !! مضى العابدون والصّالحون وقُطِعَ بي .
وَعَلِمَ أَنَّهُ لن يَنْفَكَّ عَنْ عبادتِهِ طَرْفَةَ عَينٍ , وَأَنَّهُ إِنْ حدثَ ذلك هَلكَ وعَطَب , وكُلَّما تبين له من آياتِ الله كَلَّما تجرَّد قَلْبُهُ مِنْ كُلِّ حُظُوظِ النَّفسِ وأهوائِها ؛ كُلَّما ظَهَرَ أَثَرُ العِبادَةِ على كُلِّ ذَرَّةٍ فيه قال تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) } [سورة الأنعام : 162-163] .
فإنَّ لله عَلَى عِبَادِهِ عُبُودِيَّةً في جميعِ الأَماكِنِ والأَزْمانِ , وعُبُودِيةً في السَّراءِ والضَّرّاءِ , وله عليهم عبودية فيما يُحبُ العبدُ ويَكْره .
وأكثر الخلق قد يُعْطُون العُبوديةَ في مكانٍ دُونَ مَكان , أو زَمانٍ دُونَ زمان , يُعطون في السَّرّاء ؛ فإذا ابتُلُوا بالضَّرّاءِ تعطَّلوا , ويُعْطُون فيما يُحبُّون ؛ فإذا ابْتُلوا بما يَكْرَهُون مَنَعُوا , ومن هنا تتفاوتُ مراتبُ العِباد ؛ وبحسبه كانت مَنَازِلهم عند الله تعالى .
ولذلك يجبُ أن يكون العبدُ ممن إذا أَنْعَمَ الله عَليهِ شَكر , وإذا ابتلاهُ صَبَر , وإذا أَذْنَبَ استغفرَ , إِنْ كَانَ بأرضِ الطّاعَةِ حمدَ وشَكَرَ ؛ وَكَانَ مِعْوَانا على الخيِر , وإن كان بأرضِ المعصيةِ ؛ أَمَرَ ونهى وغَضِبَ وزَجَر , فإنَّ هذه الأمور هي عُنْوانَ سعادةِ العبد , وعلامةَ فلاحهِ في دنياه وأُخراه , ولا ينفك عبدٌ عنها أبداً فإن العبدَ دائمُ التقلبِ بين نِعَمٍ ومحنٍ وذنوب .
فالأول : نِعَمٌ من الله تعالى تترادف عليه فَقَيْدُها الشُّكر , وهذا لا بد فيها من الاعترافِ بها باطِنا , والتحدثِ بها ظاهرا , وتَصْرِيفِها في مرضاةِ وليها ومُسْدِيها ومُعْطِيها , فإذا فَعَلَ ذلك فقد شَكَرَهَا مع تقصيرِهِ في شُكرها .
الثاني : مِحَنٌ مِنْ الله تعالى يَبْتَلِيهِ بها فَفَرْضُهُ فيها الصَّبْرُ والتَّسَلِّي , والصَّبْرُ : حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ التَّسَخُّطِ بالمقدورِ , وحَبْسُ اللِّسانِ عن الشَّكوى , وحَبْسُ الجوارحِ عنْ المعصيةِ كاللَّطْمِ وشقِ الثيابِ ونتفِ الشَّعْرِ ونحوه .
الثالث : ذُنُوبٌ تَتَرَادَفُ على العبدِ فَلا بُدَّ أَنْ يتوبَ مِنْهَا , ويستغفرُ الله عز وجل , ولا بُدَّ أن يُحْدِثَ له ذَلِكَ نَدَماً وانكساراً و ذِلَّةً , ويَرَى ذَنْبَهُ أَمَامَهُ لا يَغِيبُ عَنْهُ فَيُحْدِثُ له افتقاراً ومَسْكَنةً .
فمدارُ الصبرِ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ الثلاثة , فإذا قامَ به العبدُ كما ينبغي انقلبت المحنة في حَقِّهِ مِنْحَة , واستحالتْ البلِيَّةُ عَطِيَّةً , وصارَ المكروهُ محبوباً , فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتله ليهلكه ؛ وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته له سبحانه وتعالى .
ولذلك ابتلى الله العباد بتنوع العبادات من واجبات ومنهيات ؛ تخرج عن الأُلفِ والعاداتِ , ليرفع الله من سابق فيها واجتهد أعلى المنازل والدرجات .(/1)
ففيها تتفاوت مراتب العباد , وبحسب اجتهادهم كانت منازلهم عند الله تعالى , فالوضوء بالماء البارد في شدة الحر عبودية , والوضوء بالماء البارد في شدة البرد عبودية , ومباشرة الزوجة الحسناء التي يحبها عبودية , والنفقة عليها وعلى عياله ونفسه عبودية , وتركه المعصية التي اشتدت دواعي نفسه إليها من غير خوف من الناس عبودية , ونفقته في الضراء عبودية ؛ ولكن فرق عظيم بين العبوديتين , فمن كان عبدا لله في الحالتين قائما بحقه في المكروه والمحبوب ؛ فذلك الذي حقق العبودية كما يحب الله ويرضى , فإنهم في حفظه وتحت كنفه ورعايته سبحانه .
فلن يسير العبد إلى الله إلا بالعبادة ولن يهنأ بسعادة الدارين إلا بالعبادة , ولذلك كان التوحيد الذي خاطب الله به الأنبياءُ جميعا أقوامهم هو : توحيد العبادة - توحيد القصد والطلب - وهو اتجاه العبد بقلبه وأقواله وأفعاله لله سبحانه وتعالى , فالحركات والسكنات والنَّفَسُ والآهات , واللحظات والخطرات , لا بد أن تكون لله , بل يجب عليك أن تجعل فيك كل ذرة لله سبحانه وتعالى , فلن تقيم العبادة كاملة إلا إذا عبَّدت فيك كل جارحة وخشَّعت فيك كل خلية .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه : [ اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي ] . ( 1)
فلله على العبد في كل عضو من أعضائه أمر , وله عليه فيه نهي , وله فيه نعمة به , وله منفعة ولذة , فإن قام لله في ذلك العضو بأمره واجتنب فيه نهيه ؛ فقد أدى شكر نعمته عليه فيه , وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به , وإن عطل أمر الله ونهيه فيه ؛ عطله الله من انتفاعه بذلك العضو وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرته .
وله عليه في كل وقت من أوقاته عبودية تقدمه إليه , وتقربه منه , فإن شغل وقته بعبودية الوقت تقدم إلى ربه , وإن شغله بهوى روحه وبطالة بلا عمل ؛ تأخر عن سيره إلى الله , فالعبد لا يزال في تقدم أو تأخر , و لا وقوف في الطريق أبدا , قال تعالى : {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) } [ سورة المدثر : 37 ] .
فسر الخلق ومبدأه ومنتهاه يعود إلى العبادة ؛ تأمل قول الله تعالى :{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) } [سورة الذاريات : 56 ] .
فالسبب والعلة من خلق الجن والإنس هي إفراد الله بالعبادة .
دعوة الأنبياء واحدة :
ولذلك نرى أن جميع الأنبياء جاءوا بدعوةٍ واحدة ؛ توحيد العبادة لله سبحانه وتعالى , كما صحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ .(2 )
أي أنهم اشتركوا في الأصول واختلفوا في الفروع .
فجميع الأنبياء دعوا قومهم بدعوة توحيد العبادة بلا استثناء .
كما قال تعالى :{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [سورة الأنبياء : 25 ] .
وكما قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [سورة النحل : 36 ] .
و نرى هذا واضحا في خطاب كلِّ نبي , فهذا نوح عليه السلام كما قال تعالى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) } [ سورة الأعراف : 59 ] .
وكما قال تعالى على لسان هود : {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) } [ سورة الأعراف : 65 ] .
وكما قال تعالى على لسان صالح : { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ سورة الأعراف : 73 ] .
وكما قال تعالى على لسان صالح : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ سورة الأعراف : 85 ] .
وكذلك إبراهيم عليه السلام : { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) } [ سورة العنكبوت : 16- 17 ] .(/2)
بل نرى صاحب يس يجهر بعبوديته لله عز وجل أمام طغاة قومه الذين خالفوا الرسل كما قال عنه سبحانه : { وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) } [ سورة يس : 22] .
ولذلك كان لزاما على العبد أن يَقْصُدَ ربه بكُلِّ حركاته وسكناته , ويوحده في كُلِّ أمرٍ ونهي , فلا تكون عبادة إلا بصفة القصد والطلب لله سبحانه وتعالى , ولذلك لا يدخل العبد الإسلام إلا بعد قوله : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله , والمشاهدة هي الإخبار بما شاهد بخلاف الغيب , ولذلك قال سبحانه عن نفسه : { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) } [ سورة الرعد : 9 ] فالشهادة هي الرؤيا الواضحة التي لا لبس فيها ولا شبهة , ويُقصد بها رؤية القلب قبل رؤية الجوارح .
فتوحيد العبادة هو توحيد القصد والطلب , هو توحيد الإلوهية , أي أنه سبحانه وحده الإله المعبود المحبوب ؛ الذي لا تصلح العبادة والذل والخضوع والحب إلا له.
وقد وصف سبحانه صفوة خلقه من أنبياءه وملائكته بالعبادة فقال تعالى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ (20) } [ سورة الأنبياء : 19-20 ] .
وقال تعالى : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ (205) } [ سورة الأعراف : 205 ] .
وقد ذمَّ سبحانه المستكبرين عنها بقوله : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) } [ سورة غافر : 60 ] .
و قد بين سبحانه أن الشيطان ليس له على عباده سبيل فقال تعالى : { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ (42)} [ سورة الحجر : 41-42 ] .
وقد وصف سبحانه عيسى الذي ادعيت فيه الإلهية والبنوة ؛ بأنه عبد , كما قال تعالى : {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)} [ سورة الزخرف : 59 ] .
{ من كتاب العبادة واجتهاد السلف للشيخ }
________________________________________
( 1) من حديث علي , رواه مسلم (771)
(2 ) علّات : إخوة لأب . رواه البخاري (3443)(/3)
الغرب .. بين خدعة الديموقراطية وأكذوبة حريّة التعبير
مواقفُ كثيرةٌ ومتّصلةٌ يفتضح فيها الغربُ في زعمه أنه يَتَبَنَّى الديموقراطيّةَ وحريّةَ التعبير أو حريّةَ المُعْتَقَد والدين . ولستُ هنا بسبيل إحصاء هذه المواقف ، وإنما سأكتفي بالإشارة إلى بعض المواقف الساخنة التي شَهِدَها العالَمُ خلالَ الأسابيع القليلة الماضية ، والتي كانت ردًّا قاطعًا على زعمه ، وشَكَّلَت مظهرًا حيًّا للتناقضات التي يتورّط فيها والكيلِ بمكيالين الذي يمارسه في وقاحةٍ أيِّ وقاحة .
الغربُ عندما يمسّ شيءٌ مصالحَه أو أهواءَه يتنكّر لكل ما عنده من حرية الرأي والديموقراطية المزعومة التي يَتَبَجَّح بها ؛ فها هو ذا عمدةُ مدينة "لندن" السيّد "كين ليفنجستون" يُعَاقَبُ بالتوقيف عن العمل لأربعة أسابيع بموجب القرار الصادر ضدّه يوم الجمعة 25/محرم 1427هـ الموافق 24/فبراير2006م عن الهيئة التأديبّية المُخَصَّصَة للنظر في أداء المسؤولين المحليين ، التي عَلَّلَتْ القرار بأنّ تصريحات العمدة: "تفتقر إلى الحسّاسيّة وتتضمّن إهانةً غير مُبَرِّرَةٍ للصحفيّ" لارتكابه "ذنبًا كبيرًا" مُتَمَثِّلاً في تشبيهه في فبراير 2005م (محرم/1426هـ) صحفيًّا بريطانيًّا يهوديًّا في صحيفة "إيفننج ستاندر" الصادرة بلندن بـ"حارس مُعَسْكَر اعتقال نازيّ خلال الحرب العالميّة الثانية".
والجدير بالملاحظة أن صدور هذا القرار جاء يُزَامِنُ صدورَ الحكم من إحدى المحاكم النمساويّة – الذي صَدَرَ في عاصمة النمسا "فيينا" يومَ الاثنين: 20/فبراير 2006م = 21/ محرم 1427هـ - ضد الكاتب والمؤرخ البريطاني "ديفيد أرفينج" بالسجن ثلاث سنوات ؛ لأنه أنكر حدوث المحرقة اليهودية المعروفة بـ"الهولوكوست" (Holocaust) .
إنّ الغرب المُطَبِّل لحريّة الرأي والداعي لها لحدّ التقديس لم يَسَعْه أن يتحمّل محاولةَ المساس باليهود حتى في إطار حرية التعبير وحريّة الرأي؛ لأنّ اليهود عنده – جنسًا وتأريخًا وسلوكاً – "خطّ أحمر" لايجوز لديه التقارب منه فضلاً عن عبوره وتجاوزه ؛ حيث إنهم فوق كل قانون وشرعيّة فضلاً عن الانتقاد والملام والاتّهام!.
أمّا عمدةُ لندن السيد "كين ليفنجستون" فمعاقبتُه لاتُعَرِّي فقط مبدأ "حرية الرأي" المزعوم الذي يتباهى به الغرب كثيرًا ودائمًا بين يدي الأسرة الدوليّة ، وإنّما تُعَرِّي كذلك الحقدَ الأسودَ والعصبيّةَ المنتنةَ التي يحملها ضدّ الإسلام والمسلمين مُحاوِلاً التغطيةَ عليها بأساليبَ عديدة؛ فالعمدةُ ظل من خلال مواقفه النبيلة يناصر القضايا الإسلاميّة والعربيّة عبر السنوات الماضية؛ فهو من القلائل من قادة وساسة الغرب الذين يُمَثِّلُون الصوتَ النزيه الذي ينبغي أن يكون نابعًا دائمًا من ضمير الغرب الذي لايفتر يتفاخر بالعدل والمساواة وحرية الرأي: المبادئ التي تتكسر دائمًا على صخرة الواقع ؛ لأنه لاينادي بها عن صدق ونزاهة ، وإنما ينادي بها عن غرض أو مرض .
وقد فضح السيد العمدة بآرائه وتصريحاته الصادقة اليهودَ ، ووقف مواقفَ عديدةً شَكَّلَتْ للصهاينة ضربات مؤلمة للغاية على كل من المستويين السياسي والإعلامي ، وتناولت المشروع الصهيوني في فلسطين بانتقاد شديد ، وأداء الحكومة الصهيونية بملام لاذع ، وعارضت – على أساس متين من المصداقية – العملية العسكرية الأمريكية الغربية للعراق . كما وقف موقفًا مشرفًا عن العلاّمة المفكر الداعية المؤلّف المكثار الدكتور يوسف القرضاوي حين دافع عنه وأصَرَّ على استضافته بلندن ، رغم الحملات المكثفة التي شنها ضدّه الإعلام الغربي الصهيوني لتشويه سمعة الدكتور.
ومن هنا ظلّت الدوائر الصهيونية تترصّد الفرصةَ لإيقاعه في الفخّ ، وتناوله بالعقاب ، حتى يكون عبرة لكل من تحدث نفسُه بالتجرأ على ممارسة حرية التعبير بشأن اليهود الذين هم أقدس جنس بشريّ على وجه الأرض !.
أما الكاتب والمؤرخ البريطاني "ديفيد إرفينج" فكان دنبُه أنّه فَكَّرَ تفكيرًا نابعًا من حرية الرأي وعبّر عما تَوَصَّل إليه تفكيره بحرية عن قضية "الهولوكوست" اليهودية أي المحرقة النازية التي أودت – كما يزعم الصهاينة – بـ 6 ملايين يهوديّ ؛ فقد أعلن "ديفيد" أكثر من مرة إنكارَه لهذه القضية التي جعلها الغربُ قضيةً مقدسةً وجعل الدفاعَ عنها أقدسَ ما تعنيه كلمة الدفاع. ورغم أن الرأيَ الذي أبداه الكاتب والمؤرخ البريطاني ينبني على أبحاث ودراسات أجراها على أرض الواقع أكّدت له أن "الهولوكوست" هي أصلاً الكذبة الصهيونية الكبرى التي اصْطُنِعَتْ حجةً قويةً ومُبَرِّرًا صلبًا لاحتلال العالم.
وقد صدق "ديفيد" عندما قال في كتابه "الهولوكوست الأخير":(/1)
"إن اليهود في موقفهم الاستغلالي لقضية المحرقة يثبتون قدرةً عجيبةً في التأثير على الفكر الغربيّ خصوصًا ؛ بل والمؤسف أيضًا أن نجد من بين العرب من يكاد يصدّقهم في مقولتهم هذه التي تُثْبِتُ أفعالُهم عكسَها ؛ فما فعلته إسرائيلُ في هجمات بربريّة وحشيّة على مناطق عربيّة ، مثل جنوب لبنان ، يؤكّد النزعة الدموية الخالية من التوجّه الإنساني لديهم . ويكفي أن نتذكّر هنا مجزرةَ "قانا" ومقولةَ "ديفيد ليفي" الأخيرة بأنّه سيحرق لبنان . ثم أيُّ عنصريّة أبشعُ من تشريد شعب كامل ، وقتل أبنائه والتصدّي للعالم كله من أجل الوصول إلى حلّ عادل يعطي أصحابَ الأرض من الفلسطينيين بعضَ حقّهم وليس كلَّه".
وأضاف الكاتب والمؤرخ البريطاني قائلاً:
"إنّ المحرقة لاشكّ أنّها وإن وقعت جزئيًّا غير مقبولة إنسانيًّا ، إلاّ أنّ الفعل الإسرائيليّ لايختلف بحال من الأحوال في بشاعته عن بشاعة المحرقة إن كانت حقيقة على الصورة التي يتناقلها اليهود".
على كل فإنّ الغرب الذي يدافع عن حرية التعبير لحد الاستماتة ؛ ولحدّ أنه يتضامن مع الدنمارك – البادئة في نشر الرسوم الكاريكاتوريّة المسيئة إساءة بالغة لرسولنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم – في نشر الرسوم، بحجة حرية التعبير، ليزيد المسلمين استياءً وتأذّيًا وسخطاً ولاسيّما بعدما شاهدهم يحتجون ضدّ ذلك في العالم كله احتجاجًا صارخًا منقطع النظير؛ ولحد أنّ "حزب الشعب الدانماركي" اليميني يطالب حكومتَه بسحب الجنسيّة من أئمة مسلمين لأنهم عملوا على حشد الدعم العربي الإسلامي ضد هذه الرسوم التي تدلّ على ممارسة حق حرية التعبير، التي قامت بها صحيفة "بولاندس بوستن" عندما بادرت إلى نشرها ؛ ولحدّ أنّ رئيس الوزراء الدانماركي يرفض رفضًا باتًّا أن يعلن اعتذارَه عن هذه الإساءة إلى مسلمي العالم رغم إعلان عدد من الدول الإسلامية مقاطعةَ البضائع الدانماركيّة ورغم ملاحظته فعليًّا للخسائر الاقتصادية التي بدأت تلحق دولتَه جراء المقاطعة . وذلك لأنه يرى أن اعتذاره عن ذلك يمثّل – تمثيلاً صارخًا – جرحًا لروح حرية الرأي والتعبير ودوسًا واضحًا لهذا الحق الإنساني النبيل ! ولحدّ أن رئيس أمريكا الحاليّ "بوش" الابن – الذي يعتبره العالم كله الذي يؤمن بالعدل والمنطق ولاسيّما المسلمون أكبر إرهابي في العالم بجميع معاني الإرهاب ودلالاته وتفسيراته – يضغط على عملائه في العالم الإسلامي بأن يسيطروا على "العنف" و"التطرف" اللذين يمارسهما المسلمون الذين يقومون بالتظاهرات والاحتجاجات ضدّ الرسوم المسيئة إلى نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ولحدّ أن "بوش" و وزيرته الخارجية "رايس" يضغطان ضغطاً قويًّا على الحكومة الأفغانية العميلة لأمريكا بقيادة عميلها "حامد قرضاي" أن تمتنع عن إنزال العقاب على مرتدّ أفغاني مدعو بـ"عبد الرحمن" ارتدّ عن الإسلام منذ 15 عامًا وارتدى المسيحيّة المزعومة ، فواجه حسب الدستور الأفغاني محاكمة ضدّه وكاد يُعْدَمُ شنقًا. ذلك أنّ المرتدّ مارس – عند الغرب وأمريكا – حرية الرأي والفكر والاعتقاد عندما ارتدّ عن الإسلام واعتنق المسيحيّة . وقد طلعت الصحف لدينا بنبأ الضغط الأمريكي والضغوط الأمريكية أيّامًا عديدة ولاسيما يوم السبت : 25/ مارس 2006م (24/صفر 1427هـ) .
وانهارت الحكومة الأفغانية – حسب ما كان مُتَوَقَّعًا لكونها عميلة لأمريكا والغرب – ورضيت بالإفراج عن المرتدّ بحجّة أنه يعاني أمراضًا عقلية واختلالاً فكريًّا ؛ فقد قالت الصحف لدينا يوم الثلاثاء : 28/ مارس 2006م (27/صفر 1427هـ) إن المحامين الرسميين في أفغانستان لَوَّحُوا بأنّ المعتقل المرتدّ رهن التحقيق والمحاكمة قد يُطْلَق سراحُه على أساس فحص عقليّ . وجاء الضغط الغربي بشأن المرتدّ على الحكومة الأفغانية مؤكِّدًا أن الحكم بقتله لايكون إلاّ خرقًا لحرية الاعتقاد والفكر ؛ ولحدّ أنّ وزير الإصلاحات الإيطاليّة "روبرتو كالديرولي" يقدم ، بحجة الوقوف بجانب قضية ممارسة حق حرية التعبير المتمثلة في نشر الرسوم المسيئة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، على ارتداء "شورت" – قميص – يحمل الرسوم المسيئة ، حتى إن الوزير المهين اضطرَّ تحت ضغط الرأى العامّ العالمي وعلى دعوة من رئيس وزرائه "سيلفيوبيرلسكوني" أن يستقيل من منصبه ، مُؤَكّدًا على أنه ليس نادمًا على ارتدائه القميص، ومدافعًا عن مواقفه المناهضة للإسلام، ومطالِبًا العالمَ الغربي بالتعاطي بالمثل مع العالم الإسلامي . والجدير بالذكر أنّ إقدام الوزير الإيطالي المذكور على ارتداء القميص الحامل للرسوم المسيئة جَرَّ إلى أنّه أقدم المسلمون الغاضبون على إحراق القنصلية الإيطاليّة في "بنغازي" الليبية ، مما أدّى إلى مقتل 11 شخصًا وإصابة 55 .(/2)
إنّ الغرب المستميت في سبيل الدفاع عن حرية التعبير والاعتقاد ، لايكاد يحتمل أن يقول عاقل مايراه ويعتقده ويتوصّل إليه في ضوء دراساته وأبحاثه وقراءة الواقع المتمثل في سياقات التاريخ والملابسات المكتنفة له ، إذا كان يمسّ ذلك المصلحةَ الصهيونيةَ الصليبيةَ . فكأنّ حريّة التعبير والفكر منحصرة فيما وراء هذه المصلحة، ولاسيّما فيما يتعلّق بالإسلام والمسلمين والقيم الإنسانية النبيلة التي يمثِّلها الإسلام .
إنّ قراءة سلوكيّات الغرب بمجموعها من خلال التعامل الذي ظلّ يمارسه مع الإسلام والمسلمين يؤكّد بوضوح أنّه يعتبر الإسلام عدوًّا رقم واحد ، وأنّه لايخاف إلاّ هذا المارد الذي لايخضع لأيّ مُعْتَقَد ودين خرافي ولأيّ "مبدأ" يفسد على الإنسان إنسانيته . وكمثال على ذلك من بين الأمثلة الكثيرة التي تفوق الحصرَ، نذكر في هذا السياق ما نشرته الصحف العالمية ووسائل الإعلام مؤخرًا ، من أن إحدى الدول الغربية وهي "هولندا" رصدت شروطاً لمن يهاجر إليها ، من بينها مشاهدة فيلم إباحيّ في إطار امتحان جديد للمهاجرين من دول ليست بينها أمريكا وبلدان الاتحاد الأوربيّ؛ حيث أصبح لزامًا على أيّ شخص يرغب في الهجرة إلى "هولندا" الخضوعُ لامتحان يثبت قدرتَه على التَّأَقْلُم مع القيم الليبراليّة في هذا البلد . ويتضمّن الامتحانُ مشاهدةَ لقطات إباحيّة من فيلم فاحش دون إعراب عن شعور بالاشمئزاز والصدمة . وأضاف النبأ أن الامتحان يهدف إلى اختبار أهلية التأقلم مع القيم الهولندية خصيصًا لدى المسلمين الراغبين في الهجرة إلى هولندا . وذلك للحدّ من وصول مزيد من المهاجرين المسلمين .
فذلك كله فيما يتعلق بحرية الفكر والرأي. فإذا رحتَ تختبر مدى مصداقية الديموقراطية التي يتباهى بها الغربُ وقائدتُه أمريكا وجدتَ أنّها ليست إلاّ وسيلةً لنشر "القيم" التي أنتجها الغربُ لإفساد إنسانية الإنسان ، وانتزاعه من طور الإنسانية إلى طور البهيمية . وعلى رأسها "القيمتان" : الماديّة الجامحة والشهوة الجنسية المسرفة المتخطية كلَّ حدّ ؛ فالدعوةُ إلى إشباع الحاجتين و"احترام" القيمتين هما المطلب الأمثل لدى الغرب . ونشر ثقافته الداعية لذلك ، وحضارته المتمثّلة فيه ، وأسلوب حياته المُتَبَلْوِر في المفاسد التي جَنَتْ على الإنسانية ، هو المجموع الذي يسميه الغرب "الديموقراطيةَ" و"العدل" و"المساواة" و"الحرية التعبيريّة".
ألا ترى أن قتل الزاني والزانية لدى الغرب تصوّرٌ غيرُ إنساني ، وأن تنفيذَ حدّ السرقة وحشيّةٌ ، وأن الاختلاط ، بين الذكور والإناث، وممارسة الجنس خارج إطار الزواج الشرعيّ عملٌ بالحريّة التي ينالها الإنسانُ ولادةً، وأن مغازلة الفتيات مع الفتيان بشكل سافر علني حقٌّ من الحقوق التي لابدّ من ممارستها لكل فتى وفتاة ، وأن ممارسة الجنس ودواعيه في الشوارع والحدائق والأمكنة العامّة حقٌ من الحقوق التي يتمتع بها كلُّ إنسان يولد من أب وأمّ ويُطْلَق عليه كلمة الإنسان . ومن هنا فهذه "القيم" كلُّها من دعائم الديموقراطية الغربيّة وأساسيّاتها . ولذلك عندما احتلّت أمريكا أفغانستان والعراق نشرت هذه "القيم" وغيرها من "المبادئ" التي تعمل على ترسيخها في أرض أفغانستان وأرض العراق قبل أن توفّر فيهما ما يبقي على حياة أهلهما من الغذاء والدواء وما يستر عوراتهم من الكساء . فأغرقت أمريكا البلدين بالأفلام الإباحيّة ، حتى تمتص من أبنائهما الدينَ الإسلامي وقيمه التي تبعثهم على "العنف" و"التطرف" و"الإرهاب" وتغرس فيهم قيم الغرب الماديّة الإباحية التي تبعث على "الاعتدال" و"الانفتاح" و"التأقلم" مع كل فكر فاسد وافد متعارض مع الدين الإسلامي وقيمه. وسمحت أمريكا بتدافع الصهاينة والمبشرين المسيحيين إلى أفغانستان والعراق ليقوموا بنشاطاتهم المُخَطَّطَة لنزع المسلمين من حضن الإسلام إلى اليهودية والمسيحية تحت ستار المساعدات والإغاثات والإعانات ؛ فانتشرت الكنائس ولاسيّما في العراق ، وتحركت الصهيونية بشكل رهيب لم يعرفه عهد من العهود السابقة .
ولاعجب إذا كان "بوش" و"توني بلير" كلاهما قد تَبَاهَيا أكثر من مرة أنهما يُمَثِّلان حضارةً متقدمةً ويحاولان زرعَها في كل من أفغانستان والعراق ، والمناطق المجاورة التي لاتعرف لحد الآن مثلَها في النبالة والتنّور والتحضّر، وأنّ أهلهما المسلمين متخلفون بدائيون يُمَثِّلُونَ حثالةً إنسانيةً ، فهم يكرهون حضارتَنا ويُعَادُونَ ثقافتَنا ، ولابدّ من تلقينهم درسَ التحضّر والتنوّر ! .(/3)
ويفضح هذين الممثلين الكبيرين البارزين في تاريخ اليوم للحضارة الغربية أنّهما يؤيّدان ماديًّا ومعنويًّا وعلى مرأى ومسمع من العالم وبوقاحة ليس بعدها وقاحة عددًا من الديكتاتوريات في العالم التي تمارس ضدّ شعوبها من الاعتداءات ما يعتبره الغربُ المتعاطي مع العالم الإسلامي بالازدواجية اعتداءات أيضًا بمقياسه ؛ فالديموقراطية التي يفاخر بها الغرب ليست إلاّ خاضعة لمصالحه ؛ فعندما تقتضي المصلحة أن يغزو دولةً من الدول تتبدّى له فيها كثير من السوءات التي تدعوه مُلِحّةً إلى غزوها لزرع "جنّة" الديموقراطيّة فيها وإزالة جميع مساحات "النار" منها . وقد أكّدت المشاهد الأفغانستانية وبعدها العراقية أن الغرب لاتعنيه معاناة الشعوب والأمم ، وإنما تعنيه المصالح المتنوّعة . إن القضية العراقية بصفة خاصّة أثبتت كون "بوش" وعشيقه "توني بلير" أكبر مجرمين في التأريخ المعاصر وأشنع مجرمين بين الفراعنة الحكام الذين دَرَجُوا عبر التأريخ البشريّ؛ ولكنّ الغرب المتظاهر بالعدل والمساواة والإنصاف والحقوق الإنسانية لم يرفع جدّيًّا وبشكل مثمر صوتَه لإيقافهما موقف المجرمين وإدانتهما بارتكاب الجرائم الحربية البشعة التي يشاهدها العالم كل لحظة ومحاكمتهما فعقابهما عقابًا رادعًا . وقد تأكّد كذبهما وتلفيقهما للأسباب التي تَذَرّعا بها لغزو العراق وأيضًا لغزو أفغانستان ؛ حيث إن "بوش" لم يقدم لحد اليوم دليلاً قاطعًا على إدانة القاعدة بتفجيرات 11/ سبتمبر2001م ، الأمر الذي اتخذه وسيلة لغزو أفغانستان وتدميرها عن آخرها .
وما دام الحديث يدور حول تباهي الغرب بـ"الديموقراطية" يطرح هناك سؤال نفسه طرحًا مُلِحًّا : لماذا لاتزال أمريكا ودولُ الغرب مُصِرَّةً على معارضة "حماس" التي فازت بأغلبية في الانتخابات العامة التي صَوَّتَ فيها الشعب الفلسطيني لصالحها . إذا كانت الديموقراطيةُ تعني فيما تعنى احترامَ إرادةِ الشعب فيما يتعلّق بإدارة البلاد ؛ فما هو السبب في الإصرار الأمريكيّ على الامتناع عن التعاون مع حماس التي كسبت إرادةَ شعبها ؟ وما هو الداعي لأمريكا والغرب على الإجماع على ممارسة الضغط عليها للتخلّي عن مبادئها التي تتبنّاها للدفاع عن الشعب الفلسطيني ومقاومة الاعتداء الإسرائيلي الذي تقف أمريكا والغرب بجانبه .
إنّه ليس السبب إلاّ الحقد على الإسلام والمسلمين ، ومعاداة القضايا العربية العادلة ، وتأييد إسرائيل في عدوانها الوحشي على الشعب الفلسطيني والأراضي الإسلامية العربية، الأمر الذي ينصبّ في خانة المصالح الغربية الأمريكية الصليبية الصهيونيّة ذات الأهداف الكثيرة .
وأعود لقضيّة حرية التعبير المزعومة لدى الغرب، لأشير إلى أن رئيس تحرير القسم الثقافي بصحيفة "جيلاندس بوستن" – المسؤول عن نشر الرسوم الكاريكاتوريّة المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم – الذي كان قد أعلن عن خداع أو صدق نيّة اعتزامَه على نشر رسوم كاريكاتوريّة مماثلة ساخرة من المحرقة النازيّة ضدّ اليهود المعروفة بـ"الهولوكوست" نقلاً عن مسابقة أعلنتها صحيفة إيرانية ، قد مُنِحَ إجازةً إجباريّةً، رغم أنه كان قد تَراجَعَ في اليوم نفسه عن تصريحاته حول نشر رسوم ساخرة من "الهولوكوست" مُعْتَبِرًا أنّ إعلانه عن ذلك كان خطأ وأنّه سيلتزم بالخطّ التحريري الذي تُقَرِّرُه إدارة الصحيفة ؛ لكن تصريحاته الأخيرة الواضحة لم تُرْضِ المسؤولين عن الصحيفة ، حتى أرغموه على تقبّل إجازة إجبارية .
وفي السياق نفسه جدير بالذكر أن الصحيفة المذكورة التي أقدمت على نشر رسوم مسيئة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، سبق أن رفضت في شهر أبريل 2003م نشر رسوم مسيئة إلى سيدنا المسيح – عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام – خشيةَ ردود الفعل الغاضبة من قبل قراء الصحيفة من أبناء الغرب الذين معظمُهم يدين بالمسيحية المشوّهة .
وكأنّ الصحيفة حين نشرت الرسوم الساخرة من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تجاهلت ردود فعل المسلمين الغاضبة ، أو أنّها فرّقت بين النبيين – عليهما الصلاة والسلام – لأن ثانيهما نبيُّ المسلمين وحدهم على زعم الغرب . والمسلمون ونبيهم يليقون بكل إساءة ، لأنهم غثاءٌ كغثاء السيل ، ولا قيمة لهم عند الغرب !!.
إن هذا التعامل بل العبث بحقيقة حرية الفكر والتعبير لايحسنه إلاّ الغرب المتكبّر المتنكّر لكل فضيلة وقيمة لدى الشرق ولاسيما المسلمين الذين يحمله كبره على اعتبارهم غير "متحضّرين" .
(تحريرًا في الساعة 10 من الليلة المتخللة بين الثلاثاء والأربعاء 27-28/ صفر 1427هـ = 28-29/ مارس 2006م)
نور عالم خليل الأمين(/4)
الغرب والإسلام رسالة إلى صمويل هانتنجتون صاحب " صدام الحضارات "
إذا كان الجهاد من أجل تحرير الأرض العربية الإسلامية في فلسطين والعراق من المحتلين القتلة اللصوص مصاصي الدماء .. إذا كان هذا الجهاد يقوم به أعداء العالم المتحضر – كما أطلق عليهم رئيس المحتلين أولئك في تصريحاته إثر ضرب مبنى الأمم المتحدة بالعراق - فمن يكون هذا العالم المتحضر إذن غير جماعات مشتقة من أولئك القتلة اللصوص مصاصي الدماء ؟ ،
وأليس عجيبا أن الذين يطلق عليهم رئيس المحتلين أولئك أنهم أعداء الحضارة اليوم هم أحفاد صانعي الحضارة في التاريخ في وقت كان أسلاف الرئيس ما يزالون في طور مبكر من أطوار التطور الحيوي في شجرة الحياة عند دارون ، لا ندري أي طور كان على وجه التحديد ؟
أم أن القوة الغاشمة التي يتمتع بها المحتلون القتلة اللصوص مصاصو الدماء تبيح لهم – وقد فقدوا فضيلة الحياء – أن يستفرغوا من جوفهم العفن ما شاء لهم حياؤهم المفقود ؟ ومفهومهم للحضارة الموؤد ؟
إنها إذن قضية الحضارة وقد تلطخت بالعهر على أقلام المبشرين من كهنتها الكذابين
ومن هؤلاء االكهنة جاء أشهرهم اليوم السيد صمويل هنتنجتون
يقول صمويل هننجتون في حديث له إلى صحيفة " دي سايت " الألمانية تحت عنوان " الحدود الدموية للإسلام " كشف فيه عن أبعاد نظريته في صدام الحضارات ، وعلاقتها بأحداث 11 سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن :: ( في الحقيقة توجد منافسة تاريخية منذ ميلاد الإسلام في القرن السابع والاحتلال العربي لشمال أفريقيا والشرق الأوسط وأجزاء من أوربا ، وفي القرن التاسع عشر تغير الحال حينما بدأ الغرب احتلال الشرق الأوسط واكتمل هذا في القرن العشرين ) [1] ، هذا هو " مربط الثأر" الذي كان وراء ما دبجته يراعته من قبل تحت عنوان صراع الحضارات . .
إن السيد صمويل هنتنجتون إنما نال شهرته بمقولة لم يدرسها عن " صداع الحضارات " ثم أذاعها الشمامسة الذين تكاثروا كالذباب من حوله ، ممن تلقفوها كمقدمة إعلامية لممارسة ما بيتوه ضد حضارة لم يكن لهم في بنائها غير ما هو أحط من أسلحة الدمار الشامل
يقول الدكتور إيكيهارد شولتس أستاذ الدراسات العربية جامعة لايبتزج ألمانيا نقلا عن موقع الإنترنت " إسلام أون لاين " بتاريخ 9\8 \2003( إن أطروحة صراع أو صِدَام الحضارات التي كثر الحديث عنها في الآونة الأخيرة إنما هي في رأي البعض بالعالم الإسلامي جزء من الدعاية الغربية لفرض حضارتها على الشعوب الأخرى، وبالتالي الهيمنة على العالم ومحاولة رخيصة -لا بل غبية- لتمرير هذه التصورات )
ثم يبين الدكتور إيكهارد مدى جهل صمويل هنتنجتون بالموضوع الذي التصق به بالمصادفة فيقول ، ( إنه سرعان ما يتضح للقارئ الحصيف أن كتاب هنتنجتون وما يحتويه –إن صرفنا النظر عن عنوانه – لا يتعدى كونه دراسة تحليلية لثمانية أجزاء مختلفة من العالم سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، ولم يتطرق هنتنجتون فيه إلى جوهر الحضارة ولا حتى بالقدر الذي يوحي به عنوان الكتاب. فإن كان الكاتب جادًّا فعلاً في تحليل صراع الحضارات لكان عليه أولاً أن يبدأ بتحليل حضارته أو تلك الثقافة التي ينتمي إليها ويدعو لقيمها. غير أننا لا نُنكر على هنتنجتون نجاحه في إصدار هذا الكتاب؛ حيث إن نجاحه لا يعود إلى مضمون الكتاب بل إلى الترويج لفكرة أسماها صراع الحضارات والتي أصبحت حديث المقاهي.
إن أطراف أي صراع حقيقي لا بد أن تكون متكافئة ليس حضاريًّا فحسب بل أيضاً اقتصاديًّا وعسكريًّا، وأن تكون الرغبة في التصارع متبادلة وتمثل إرادة الطرفين.
وانطلاقاً من هذا ربما نتفق مع هنتنجتون في أن هناك فعلاً صراعا حضاريا، غير أن هذا الصراع ينطلق من طرف واحد وهو الحضارة الغربية التي تسعى لفرض نفسها بصفتها الحضارة البديلة أو المختارة أو الأرقى التي ينبغي فرضها على الشعوب الأخرى.
ومن هنا يحق للعالم الإسلامي أن يسأل تحديداً عن نوع أو نمط الحضارة التي يريد الغرب فرضها عليه.
هل هي حضارة حقوق الإنسان والتجارة المتكافئة والتبادل الحضاري واحترام سيادة الدول؟
أم حضارة اجتياح السلع الاستهلاكية الغربية للأسواق ودعم النظم المستبدة ما دامت موالية للغرب وتحقق المخطط الإستراتيجي للدول الكبرى..
حضارة صعود الجسد وجراحات التجميل وماكدونالدز والكوكا كولا؟
إنه لمن المسلم به – في رأي الكثير من مفكري العالم الإسلامي وغير الإسلامي- أن انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية قد حفز الغرب إلى البحث عن عدو جديد يتناسب مع مقاييسه ومواصفاته.(/1)
وإذا ما نظرنا إلى الخريطة السياسية للعالم العربي والإسلامي لأدركنا مدى المشاكل الجمة والشائكة التي تعاني منها هذه الدول، وبالتالي تنامي الحركات الإسلامية الباحثة عن بديل نتيجة خيبة أمل شعوب هذه الدول ويأسها من الأنظمة القائمة في تحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية والديمقراطية، كل هذه الأسباب والعوامل مجتمعة جعلت من الإسلام المرشح الأول لوضعه في الإطار الذي رسمه له الغرب.
إننا نرى أن أي شكل من أشكال الديمقراطية والقيم المرتبطة بها التي تُفرض من خارج الحدود إنما تؤدي بالتالي وبصورة حتمية إلى انتقاص في السيادة الوطنية لتلك الدولة ومصادرة قرارها السياسي
وأنا على يقين من أن العالم العربي على أتم الوعي بهذه الحقيقة
لذا فقد آن الأوان للتصدي لهذه المشكلة بإطلاق الحريات السياسية تدريجيًّا وإشاعة الحد الأدنى من الديمقراطية
ولا يشترط في هذه الديمقراطية أن تسترشد بنفس القيم ونفس الآليات الموجودة في الديمقراطية الغربية
بل يجب أن تراعي الظروف المحلية الخاصة ومنظومة القيم الأخلاقية والدينية، وما يقدمه الدين الإسلامي من مقدمات وأنظمة وحلول للمعضلات المختلفة التي يواجهها المجتمع.
إن تم ذلك فسيشكل – وبحق- مصدر قوة لهذه الأنظمة، وليس مصدر ضعف أو خطر كما يتصور البعض أحيانًا
وبالتالي يتم إسقاط كافة الحجج والذرائع وسحْب البساط من تحت أقدام المتباكين على واقع الديمقراطية وحقوق الانسان في العالم العربي ). اهـ
أما إذا كان السيد صمويل ما يزال مصرا على التحضير لصراع حضاري لحساب قوى رأسمالية معروفة فإننا نقول له :
إذا كنت تدعو – رغائبيا أو ربما موضوعيا – إلى حتمية الصدام بين الحضارة الغربية والإسلام فماذا تتصور عن نتائجه ؟
هل يمكن أن تكون النتيجة المستهدفة في انتصار الحضارة التي تقوم على العرقية وتعمل وفقاً لسياسة التطهير العرقى ، والإبادة البشرية والتصفية الجسدية : في أمريكا " الهنود الحمر " حيث كان الأوروبيون على علم بوجود القارة الأميركية قبل كولومبوس بفترة طويلة، ثم قرروا فتح القارة بهدف "نهب" ثرواتها فقط.
وكما يقول شافيز رئيس فنزويلا في تصريح له نشرته الجزيرة بتاريخ 13\10\2003 أن ( جنود الاجتياح رفعوا صليب المسيح وباسم الرب هاجموا شعبا وارتكبوا مجزرة في حقه ونهبوه وزرعوا الأمراض" التي قضت على الهنود. )
وهكذا كان الأمر في الأندلس
وفي الشرق الأوسط ( فلسطين والعراق )
وأفريقيا ( مئات الملايين في تصدير السود إلى أمريكا … )
و في شرق أوربا ، : البوسنة والهرسك … وبلاد البلقان ، والشعوب الإسلامية الخارجة من ظلمات الاتحاد السوفيتي
وحلف الناتو الذي أعلن عدواته للإسلام حسب تصريح الأمين العام لحلف الناتو في صحف 3\1995. ؟
وفي شرقنة الإسلام ،
وفي التفرقة العنصرية ،
لكن ما ذا تظنون أنكم فاعلون بالمسلمين في نفس السياق ؟ ألست تتكلم إذن باسم حضارة غبية لا ترى أبعد من وقع أقدامها .
كيف لكم أن تطهروا العالم من المسلمين ؟ مليار مسلم ؟ هنا تظهر عناية الله بالمسلمين في التكاثر وزيادة النسل .
إنكم لا تبتعدون في سياستكم تلك عن غباء السياسة الإسرائيلية التي تظن أنها يمكن أن تسحق مائتي مليون عربي يتنظرون بهم واقعة كبرى عند منعطف تاريخي قادم .
فعناصر المقاومة في الإسلام مكفولة : بالقنبلة الذٌُرية ، في مواجهة القنبلة الذٌَرية .وبالمقاومة الخالدة في بقاء قدس أقداس هذه الحضارة " القرآن". وببشارة الرسول r لنا " بدأ الإسلام غريباً . وسيعود غريباً كما بدأ " ، وعندئذ يكون تراجعه الحالي – وهذا ما لم تفهمه - لحساب نقائه القادم .
إن الاستمرار في هذا الغباء الصدامي الصمويلي لن تجنى منه الإنسانية غير المواجع والآلام . ولكنه ــ أبداً ــ لن يحقق أغراضكم في إزالة " الآخر " وتلك عمق أعماق سياساتكم …
إننا نقول لقيادات الحرب في صفوفكم صفوف الحضارة الغربية الهاوية نحو الهاوية .. لقد وسعناكم في إطار أهل الكتاب . ففي أي إطار وسعتمونا أنتم ؟ وبماذا سميتمونا ؟
هل وسعتنا حقوق الإنسان الصادرة عنكم وهي حقوق مشروطة بالتخلص من حركة النهضة الإسلامية ؟
هل وسعتنا حريتكم الفكرية ، وهي تحتضن مقولات الفسق والفجور في روايات سلمان رشدى وما أشبهه ، ولا تسع بحثاً علمياً حول مصداقية إبادة اليهود في ألمانيا كتبه روجيه جارودى ؟ هل وسعتنا علمانيتكم ، وهي مشروطة بالتخلص من الإسلام باعتباره لا يدين بالعلمانية ؟
هل وسعنا نظامكم العلماني ــ في شرق أوربا ــ البوسنة والهرسك وكوسوفا وبقية المسلسل ؟ هل وسعتنا علما نيتكم التي باسمها اليوم تستصدر فرنسا قانونا بتحريم الحجاب على تلامذة المدارس المسلمات وتسمح في الوقت نفسه بتمييز المسيحية واليهودية فتسمح للمسيحيات بالصليب إذا كان صغيرا ، ولليهود بالطاقية اليهودية إذا كانت صغيرة مع العلم مسبقا أن الصغير والكبير متروك لتقدير الخبراء !! وأنه في مجال الحجاب لا صغير ولا كبير؟(/2)
هل وسعتنا ديموقراطيتكم وهي مشروطة بالتخلص من الإسلام باعتباره ملتزما بشريعة إلهية ؟
هل وسعتنا ديموقراطيتكم التي تعلن الفيتو على احتمال قيام دولة إسلامية في العراق ؟
وهل وسعتنا ديموقراطيتكم وهي مشروطة بتربعكم فوق عرش القوة فإذا اهتز العرش سلكتم طريق الهمج والبرابرة بحجة الأمن كأحط ما تكون الحجة عند النظم الديكتاتورية ؟
وهل وسعتنا ديموقراطياتكم التي ضاقت بالمسلمين في الولايات المتحدة كما ضاقت بحرية البحث الأكاديمي في الجامعات والمراكز المختصة بشئون الشرق الأوسط في الولايات المتحدة الأمريكية فذهبت تصدر حاليا التعليمات والقرارات التي تخنق هذه الدراسات وتصادر فرص إنتاج أكاديمي عالمي جديد من وزن إدوارد سعيد باسم محاربة الإرهاب ؟
هل وسعتنا نظم عدالتكم القانونية التي تقنن استثناء رئيس وزراء " بيرلسكوني " من المحاكمة باسم الحصانة ؟
وما معنى الحصانة أليس اسما مهذبا كالأسماء التي برعتم فيها لما هو في حقيقته تعطيل القانون ؟ وهي عدالة سرعان ما انقلبت إلى تقنين الظلم والظلمات عندما جرحتكم أحداث الحادي من سبتمبر واسأل وزير عدلكم مستر شكروفت ؟
هل وسعتنا قوانينكم الدولية التي تصدر ضد مجرمي الحرب ثم يستثنى منها جنودكم وقياداتكم عندما تقتلون المسلمين ؟
هل وسعتنا قوانينكم الأمنية في محكمة النقض في الولايات المتحدة التي تلغي حكما من القضاء – بدرجة أقل – لصالح المعتقل ، بادعاء دستورية قانون السرية في حالات المقبوض عليهم من المسلمين بعد الحادي عشر من سبتمبر : ( 5000 معتقل منذ أكثر من سنتين لم توجه التهمة لغير ثلاثة ولم تتم إدانة أكثر من واحد ) 19\6\ 2003 ، ؟
هل وسعتنا نظمكم التربوية وأنتم الذين لا زالت مناهجكم تلقن تلاميذكم الأكاذيب والأحقاد ضد الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية ــ كما هو ثابت في الدراسات التي تناولت هذا الموضوع في مصادركم نفسها ؟
إذا أردنا أن نجيب من منطلق قيمي فتعال نتفق أولا على المبدأ : أن يكون الحل في انتصار الحضارة التي تسمح للآخر بأن يوجد على ظهر هذه الأرض . حلو ؟ اتفقنا ؟
الحل هو في انتصار الحضارة التي تتعايش في ظلها الأقليات والطوائف .
الحل هو في انتصار الحضارة التي تؤمن للثقافات المختلفة أن تعبر عن ذاتها ؟
الحل هو في انتصار الحضارة التي تسمح للأفكار المختلفة بأن تعبر عن ذاتها في كافة أرجاء المعمورة ولو وقفت منها ( حضارتكم الرائدة ) موقف النقد والنكران .
الحل هو في انتصار الحضارة التي تؤمن بأنه " لا إكراه في الدين "256 البقرة .الحل هو في انتصار الحضارة التي تمتثل أمر الله في قوله تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتُقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } 8 الممتحنة. الحل هو في انتصار الحضارة التي تؤمن بقوله تعالى { يا أيها الناس إنٌا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا .. } 13 الممتحنة .
ما رأيك ؟
أتجد هذا في مقدسات حضارتك ؟ طبعا لا ، وإلا لم تكن لتدعو – راغبا – إلى الصدام مع الآخر متسترا – كذبا - بالموضوعية
الحل إذن – وهذا للأسف ما لن يعجبك - هو في انتصار الحضارة الإسلامية ، فهي التي انطوت ــ مع الخلاف ــ على السماحة ، ومع الإنكار على التسامح ، ومع التكفير على الذمة : نظرياً كما انطوت على ذلك عمليا ..ولحكمة عليا : ــ وربما كانت هذه الحكمة للذي نحن فيه - ... ضمن الإسلام ( لأهل الكتاب ) ، موقعاً حصيناً في المجتمع الإسلامي . وقام المسلمون على تقدير هذا الموقع ، ولم يخامرهم قط خاطر التطهير العرقي ، أو إبادة " الآخر " ...
لقد كانت الحضارة الإسلامية وعاء انصهرت فيه القوميات والجنسيات والعروق والشعوبيات ، ابتداء من أقصى الشرق في الصين ، مروراً بفارس ، والشرق الأوسط ، وتركيا والأندلس وشرق أوربا ...وأفريقيا
وكما يقول شيخ الأزهر الراحل ( الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق إبراهيم جاد الحق رحمه الله ) في رسالة له إلى مؤتمر برلمان " أديان العالم" الذي انعقد في شيكاغو في الفترة من 28/8 إلى 4/9/1993 . ( إن المسلمين لم يقترفوا في تاريخهم الطويل ما يشينهم . فلم يضطهدوا شعباً ولم يُكرهوا أحداً على الدخول في الإسلام . ولم يقوموا بعمليات تطهير عرقي أو تفرقة عنصرية ، ولم يحدث أن أبادوا أتباع دين من الأديان الأخرى . وليس أدل على ذلك من أن البلاد التي دخلت في الإسلام ــ منذ كان وفي العصور المتعاقبة وللآن ــ مازال بها الجمع الغفير من الديانات الذين كانوا بتلك البلاد حين دخلها الإسلام ، ولو كان الحكم الإسلامي وقتذاك قد مارس ما يمارسه أصحاب الديانات الأخرى في العصر الحاضر ما بقى في بلاد المسلمين من أتباع الأديان الأخرى أحد) مجلة الأزهر ــ ديسمبر 1993.(/3)
وانظر إلى ما يقوله الأستاذ الدكتور أحمد طربين ــ أستاذ التاريخ الإسلامي - عن معاملة الدولة العثمانية للمسيحيين : ( يبدو أن كثيراً ممن كتب في هذا الموضوع ، يرى أن الدولة العثمانية أساءت معاملة غير المسلمين ، وخاصة بعد أن ضمت إليها العالم العربي الإسلامي ... وبالمقابل فإن عديداً من المؤرخين المنصفين يرون أن السلاطين برغم اعتقادهم في قرارة نفوسهم بأن المسيحيين لابد أن يكونوا حلفاء طبيعيين للقوى الأوربية المسيحية المعادية للعالم الإسلامي ، فإنهم لم يتجاوزوا حدود معاملة المسلمين السمحة ــ السابقة ــ بل كان تسامح الأتراك العثمانيين مع مسيحيي الولايات العربية أشد وضوحاً من تسامحهم مع مسيحيي البلقان الذين كانوا في بلادهم أغلبية تتآمر مع النمسا . كما يرون أن الدولة العثمانية حافظت على أملاكهم وحرية عبادتهم وكنائسهم ، وفتحت لهم أوسع أبواب العمل الحر في الزراعة والصناعة والتجارة ، فانتظموا في سلك الحرف المختلفة على قدم المساواة مع زملائهم المسلمين ، وكانوا معهم في تعاطف وود ، بل إنهم برزوا في ميدان التجارة الخارجية لصلتهم مع الأوربيين ، وتكونت منهم طبقة برجوازية غنية ، وها هي ذي سجلات المحاكم الشرعية في مختلف الحواجز العربية تشهد بذلك ... ) المجلة العربية للعلوم الإنسانية بجامعة الكويت العدد 31 صـ 269.
إن عجز الحضارة الأوربية المعاصرة عن دور التسامح هذا هو الذي يشكك في إمكانية التعدد الحضاري بعيداً عن مظلة الإسلام .
إنها إذن قضية الحضارة وقد أصابها الزيف على يد اللصوص أو غرقت في النزف على أنياب القتلة أو تلطخت بالعهر على أقلام المبشرين من كهنتها الكذابين
إن الإسلام هو المرشح الوحيد لوراثة الحضارة المعاصرة قبيل أن تسقط ــ لمصلحة الإنسانية ــ وليقوم بنفس الدور الذي قام به في وراثة الحضارة اليونانية والرومانية والفارسية من قبل . هناك كانت الوراثة بأن ضم العمل إلى العلم خلافا لليونان . واليوم فإن الوراثة بأن يضم الإيمان إليهما خلافا لأوربا .
وهذا لا يعنى أن الحضارة الإسلامية تنحصر ضمن قيود ضيقة ، أو أنها خاضعة دائماً لتفاصيل ما تم إنجازه في تاريخ الحضارة الإسلامية .
إن أقصى ما نقرره من قيود للحضارة الإسلامية لا يتعدى ثلاثية : العلم والعمل والإيمان . وهي بعد ذلك ــ ومع ذلك ــ تقبل أن تتم إنجازها في صور متعددة ولكنها متقاربة ، فيصبح التعدد هنا كالتنوع داخل الجنس الواحد ، فيخرج إلى الوجود حضارة إسلامية ينتجها العرب ، كما يخرج إليه حضارة إسلامية ينتجها الفرس ، أو حضارة إسلامية ينتجها العثمانيون ، أو حضارة إسلامية تنتجها أوربا .
إن الجمع بين أركان الحضارة الثلاثة التي هي العلم والعمل والإيمان هو مجمع تحديات المستقبل بالنسبة للإنسان على هذه الأرض ، وهنا تبدو لنا ملامح نصرة الإسلام في مستقبل صنع الحضارة خصوصاً إذا لاحظنا بعض الظواهر التي تبدو أمامنا منذ الآن ومن أهمها : أن العالم الإسلامي صائر حتماً إلى ولادة جديدة ، وهذا هو مصدر الفزع عند كهنة الحضارة الغاربة
لقد فاتت الفرصة على اليابان لوراثة هذه الحضارة فيما يقوله هارولد لاسكي ( لقد كان من الممكن أن تتعلم اليابان كيف تكون قنطرة بين الشرق والغرب ، ولكن يبدو أنها لم تستفد شيئاً سوى ذلك الدرس الغث : الاستعمار الاقتصادي ، لقد اكتشفت " المهارة " في لندن وبرلين وباريس ونيويورك ، ولكنها ــ أي اليابان لم تكتشف مثلهم الهدف الكبير الذي تهب له هذه المهارة..) محنة الديموقراطية ج1 ص 12-13 .
إنه إذا كانت الصين ــ فيما يقال ــ تتطلع بمليارها إلى وراثة هذه الحضارة المتداعية فقد يتساءل البعض منا : ــ لم لا نتطلع بدورنا ــ إن صلح أمرنا كما يقول الدكتور رشدي فكار في كتابه نهاية عمالقة ص 137 – 138 ــ إلى مكاننا في هذه الوراثة ؟ بمليارنا الإسلامي الذى يرتكز على الوطن العربي والذي يمتد إسلامياً في آسيا وافريقيا ؟
الآخرون المتطلعون إلى هذه الوراثة يتفاوتون في ارتكازهم على وحدة الأرض ، أو وحدة اللغة ، أو وحدة التاريخ ، أو وحدة العقيدة ، بينما نحن المسلمين نرتكز على هذه الركائز جميعاً ؟
و يتفاءل بعض المفكرين الغربيين المنصفين – وهم قلة - بوراثة الإسلام لهذه الحضارة المتداعية ، إذ يقول روجيه جارودى ( لقد سبق للإسلام أن أنقذ امبراطوريات متهافتة من الفناء في القرن السابع الميلادى.)(/4)
ولعل هذا هو ما يبيته القدر للإسلام مرة أخرى أن يرث الحضارة المعاصرة ليعطيها ما قد فقدته : هدف الإيمان ، أن تكون الحضارة لله . يقول الله تعالى : { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده . } 128 الأعراف . ويقول تعالى { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادى الصالحون . } 105 الأنبياء . ويقول تعالى { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التى باركنا فيها } 137 الأعراف ويقول تعالى { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطؤوها } 27 الأحزاب . ويقول r ( بدأ الإسلام غريباً ويعود غريباً كما بدأ ) صحيح مسلم.
لكن السؤال الذي ينبغي أن يلح على المسلمين اليوم هو : إذا كان الإسلام هو المرشح لإنقاذ هذه الحضارة أو لوراثتها ، فهل المسلمون المعاصرون مرشحون أيضاً لهذه الوراثة ؟ إنه كما يقول بعض المفكرين ــ الدكتور يحيى الرخاوى ــ لا يمكننا ذلك ( طالما نحن لا نفعل إلا أن نكرر حياتهم على مستوى أفشل وبمحتوى أضحل ) . ( ولن يغير من الأمر شيئاً أن نضيف إلى نموذجهم نشاطاً خاصاً بالجانب الوجدانى القلبى المتدين ..
وليس بديلاً ما ندعيه من ممارسات إسلامية لمجرد أن اللافتة تعلن شيئاً مختلفاً عن لافتتهم ، نمارس تحته ما يملونه علينا .
ولن ينفعنا أن نشق أنفسنا إلى نصفين : فنعيش حياتنا العلمية والسياسية والاقتصادية بأسلوب علمانى تمت صياغته هناك . ونعيش حياتنا الروحية بتسليم عاطفي حالم .
ولن يصلح من شأننا أن نستغل الحماس للإسلام لتجميع طاقات الشباب لتحقيق تغيير يؤدى في النهاية إلى الوجه الآخر من نفس الحضارة العلمانية التي نشيع قرب غروبها) .
ثم يستمر قائلاً : ( ليس بالضرورة أن يكون تأزم حال المسلمين يعنى تأزم الإسلام . فكما نكرر دائماً : " أزمة جيل ليست بأزمة مصير " و " أزمة نخبة ليست بأزمة أمة " ) 16\1\ 1984.
ومهما يكن فإن المسلم المرشح لهذا الدور لن يتحقق عن طريق الإشباع الاستهلاكي ، والتطلع إلى شهوات الدنيا ومتاعها أو جمع فتات موائد الكبار من الصواريخ وأسلحة الدمار .وإنما يتحقق مستعيداً لذاته ، وبنائه ، كإنسان في عصر عزت فيه إنسانية الإنسان .
فهو بملياره الذي نطمع أن يتحلى في سلوكه بالقرآن ، يمثل الإنسان المتوازن المتعادل روحاً وجسداً ونفساً .. المتعادل في مشيته وإنفاقه ، بل حتى في صوته الخاشع لربه ، ومنه يستمد الهدى والنور .
الإنسان الذي يعيد إلى التصميم الهندسي للحضارة كما أراده الله : جانب الإيمان في ثلاثيته : العلم والعمل والإيمان .
هذا المسلم بسلوكه المتميز يمكنه أن يكون هو أداة التصحيح لمواريث هذه الحضارة ،- بعد أن تسقط - بإرجاع مشروعها الجديد إلى طريق " الحضارة لله " .
الإسلام ممثلاً في عصر النبوة بالوحي الخالد ، والسنة الشريفة والاجتهادات البناءة في تراث المسلمين هو الذي يشق طريقه الآن إلى قلوب البسطاء في كل مكان ، كما يشق طريقه إلى العمالقة في حضارة الغرب ، بعد أن أعيتهم الطرق ، طالبين النجاة لعقل كرمه الله ، وإنسان أسلم وجهه لله . ولكن ذلك كله لن يكون إلا وفق سنن الله في الكون .
إن العناية الإلهية تظللنا في جميع أدوار حياتنا ، ولكن من العناية الإلهية أيضاً أن يكون هذا الكون خاضعاً لنظام ، وأن تكون الحضارة خاضعة لقوانين . إنه لا عناية بغير النظام . ولا رحمة بغير القوانين . ! كيف نطلب الرحمة بإبطال القوانين ؟ كيف نطلب الرحمة باللارحمة ؟ قوانين الله في التغيير ، قوانين الله في النصر ، قوانين الله في الحصول على الدنيا ، قوانين الله في عموم البلاء ، قوانين الله في التلاؤم بين الحكام والمحكومين ، قوانين الله في نمو المال ، قوانين الله في أكل الحلال ، قوانين الله في الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، قوانين الله في قبول الدعاء أورده …
فهل يبدو على الأفق الدامي وارث قريب ؟
وإذا كان السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله في لبنان قال في تصريح له بتاريخ الأربعاء 17 سبتمبر 2003 في افتتاح المؤتمر الدولي للإعلام العربي والإسلامي في بيروت ( أما آن للعرب والمسلمين أن ييأسوا من أمريكا … ) ، فإن لنا أن نترجمها إلى عبارة أكثر عمومية وأقل دبلوماسية : ( أما آن للعرب والمسلمين أن ييأسوا من الغرب … )
في صحيح مسلم بسنده عن أبي نضرة قال كنا عند جابر بن عبد الله فقال يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم . قلنا : من أين ذاك ؟ قال: من قبل العجم يمنعون ذاك
ثم قال : يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مدى . قلنا : من أين ذاك ؟ قال: من قبل الروم
ثم سكت هنية ثم قال قال رسول الله : يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثيا لا يعده عددا .
والله أعلم
[1] \ جريدة الأسبوع 16 سبتمبر 2002 ص(/5)
الغرب والإسلام صراع موضوعي بين حضارتين
إننا نؤكد - والأحداث تشهد - أن المسئولين في الغرب عندما اختاروا موقع العداء للإسلام وحضارته ، ووصفوه بوكر الأفعى ، كما فعل نيكسون ، فإن ذلك لم يرجع في الأعم الأغلب ــ كما يشيع البعض ــ إلى سوء عرض منا ، أو سوء فهم منهم ، ولم يرجع إلى ما عليه حال المسلمين اليوم من تخلف ، أو ما عليه حال بعضهم من تطرف ، ولكنه يرجع إلى اختلاف جذري في أصول كل من الحضارتين، وفي الوقت الذي يدركون فيه ذلك يدركون تحرك كل منهما نحو العالمية ، فيجعلهم ذلك يفزعون إلى خططهم المدروسة في الإساءة إلى الإسلام ، وتشويه صورته عمداً ، وبكل ما يملكون من وسائل الدفاع عن الذاتية الخاصة جريا على منهجهم الذاتي في ( إبادة الآخر) .
إن علينا أن نعترف بأن هناك تناقضاً بين النسق الإسلامى ــ أو بتعبير آخر بين الحضارة الإسلامية ــ والحضارة التى تسمى " غربية تارة ، وأوربية أو أمريكية تارة ، وعالمية تارة أخرى " . وهو تناقض موضوعي : تماماً كما يكون التناقض بين المحافظة على " ذات " في مقابل المحافظة على " ذات " أخرى .
وإني لأحيي الأستاذ الفاضل الدكتور محمد سليم العوا في تعليقه على ظاهرة من ظواهر الانمياع الثقافي بمقاله بجريدة الأسبوع 16\2\2004 وهي ظاهرة تفشي الاحتفال بما يسمى "عيد الحب : عيد فالنتين " في بلادنا الإسلامية : وأستسمحه في نقل جزء من تعليقه بنصه : إذ يقول : (وكنت عندما يسألني بعض شبابنا عن السبب الذي من أجله أقول لهم لا تحتفلوا بهذا اليوم أرده إلي تميزنا الديني والثقافي والحضاري. وأقول له إن كان لليوم علاقة بالقديس (أو القديسين) المقتولين، فإنه إذن عيد للمسيحية الغربية لا شأن له بالمسيحية الشرقية وكنائسها الوطنية. وإن كان لا شأن له بذلك، فهو عادة ثقافية وحضارية لا أصل لها عندنا، ولو أن كل ذوي حضارة قبلوا عادات الحضارات الأخري، وانتحلوها وقلدوهم فيما يصنعون فيها، لذابت حضارتهم وانمحت هويتهم وفقدت خصوصيتهم الثقافية التي دونها لا يكونون …..!! وكنت أذكر دائما أنه إذا كان قولنا للمخالفين في الدين هو ' لكم دينكم ولي دين' فإنه كذلك يكون قولنا للمخالفين ثقافيا وحضاريا، لئلا نذوب فيهم أو تفني مميزات ثقافتنا فيما نستورده من تقاليدهم وعاداتهم.)
ثم ينتقل سيادته إلى التعليق على مشاركة إحدى الصحف القومية في الترويج لهذه الظاهرة ، والأدهى من ذلك إدماجها ضمن صفحتها الدينية وتوريط فضيلة المفتي بكلمة عن الحب الأخلاقي في الإسلام فيما أرادت به الصحيفة أن يكون تأييدا لهذه الاحتفالات لم يقصده المفتي: يقول الأستاذ الدكتور محمد سليم العوا ( ما الذي يدعوني اليوم إلي هذا الحديث كله؟ يدعوني إليه ما صنعته احدي كبريات الصحف القومية العربية في مصر: لقد خصصت صفحتها الدينية يوم الجمعة الموافق 22 ذي الحجة 1424ه 13/2/2004 كاملة لموضوع الحب. واستصدرت فتوي من مفتي مصر تقول إن الحب من أهم الأركان الأخلاقية في الإسلام. وصدٌîرت حديثها عن الموضوع كله بأنهم (أي الغربيون) اكتشفوا الاحتفال بعيد الحب مؤخرا وهو في الإسلام صورة الشاعر الصوفي الكبير عمر بن الفارض الملقب بسلطان العاشقين.
وشتان بين ما يعبر عنه الحب باعتباره قيمة أخلاقية إسلامية كما قال فضيلة المفتي وبين ما يعبر عنه الحب عند الصوفية من ناحية، وبين ما يعبر عنه الاحتفال بيوم القديس فالنتين من أنواع الحب وصور ممارسته من ناحية أخري.
إنني لا أستطيع أن أكتفي بتخطئة المقارنة بين المفهومين. ولا أجد في قلمي الجرأة علي كتابة الوصف اللائق بما صنعته الصحيفة القومية المصرية(!) ولم يسيطر علي نفسي شئ منذ طالعت صفحتها الدينية يوم الجمعة الماضي أكثر من حديث الرسول صلي الله عليه وسلم: ' لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتي لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وراءهم. قالوا: اليهود والنصاري يا رسول الله؟ قال: فمن غيرهم' ؟
وأنا أهدي هذا الحديث الشريف، بل هذا المقال كله، إلي القائمين علي أمر تلك الصحيفة وصفحتها الدينية. لعلي أكون قد قمت ببعض واجب النصيحة الواقع عليٌî لهم!! )
ولقد اسعدني ما وجدته من توافق مع سيادته في تقرير مبدأ " الخصوصية الحضارية " ، وإن كنت لا ازعم أنه قد يصل بيننا إلى حد تقرير مبدأ حتمية الصراع ، و قد نلتقي عند تقرير مبدأ " التدافع " ففيه الكفاية إذ هو على كل حال – وفي حده الأدنى – يمثل الصورة المهذبة من صور الصراع(/1)
أما الذين ينكرون واقع الصراع بين الحضارات أصلا فإنهم يتجاهلون ذلك كله ثم يتجاهلون أن راية الصراع فيما يخص صراع الغرب مع الحضارة الإسلامية إنما ظهرت أولا في الجهة الأخرى ، أي في الجهة التي لا يملكون حق التحدث باسمها ، كما يتجاهلون أن فلسفة الصراع والبقاء للأصلح هي الفلسفة المتربعة على عرش الفكر المعاصر لم تتزحزح عنه منذ دارون إلى هربرت سبنسر إلى مختلف موديلات الفكر المعاصر بغير استثناء ، فكأنهم واعين أو غير واعين يساعدون الصراع على أن يأتي صرعا لنا من جهة العدو على غير استعداد .
يتحدثون عن التفاعل ، ويتحدثون عن التبادل ، ويتحدثون عن التلاقح ، ويتحدثون عن الحوار – كأنما انحسر المفكر إلى أقبية الدبلوماسية ، فلم لا يتحدثون أيضا عن التضارب ، وعن التعارض وعن التناقض ، وإلا فأين ذهبت حضارات السومريين والفينيقيين والبابليين والكلدانيين وعاد وثمود والمصريين القدماء ؟ ولماذا ذهبت حضارة الهنود الحمر ، وحضارة الأندلس ، وما الذي حققته الحروب الصليبية ، وحروب المغول والتتر ، وحروب " التعديل الحضاري " بين القوميات الصاعدة في القرنين التاسع عشر والعشرين ؟ وأخيرا فلم لا يتحدثون عن التدافع ثم التصارع كوعاء تاريخي واقعي لذلك كله ؟
كيف يفسر لنا هؤلاء تكالب الغرب على إزهاق جميع محاولات نهوض الأمة العربية والإسلامية في العصر الحديث – على الأقل – بدءا من محمد علي إلى الشريف حسين وجمال الدين الأفغاني وحسن البنا وعبد الناصر وصدام حسين مهما اختلفنا مع بعضهم في بعض أعمالهم أو توجهاتهم ؟
كيف يفسرون لنا المذبحة التي تجري لعلمائنا اليوم في العراق ثم في باكستان ثم في الصفوف المذهولة والصامتة من زملائهم في كافة البلاد العربية الإسلامية الذين ينتظرون دورهم أو يحاولون التبرؤ من ماضيهم ، أو يبحثون عمن يشتريهم لقاء تبرئتهم أو إطلاق سراحهم ، ثم في الأجيال المتفرجة والتي لم تظهر بعد من شبابنا وأطفالنا ومن لم يولد بعد منهم ، وما هو متوقع نتيجة لذلك من تأثير مرعب لا يقل عن تأثير محاكم التفتيش في العلماء في القرون الوسطى ؟ وكيف لأحد أن يدعوهم بعد إلى ممارسة العلم بدلا من ممارسة اللهو والرقص والدعارة ؟
كيف يفسر لنا هؤلاء مأساة علمائنا الذين أصبحوا بين يوم وليلة موضع المطاردة بدلا من التمجيد وموضع التحقير بدلا من الإجلال والتخليد ، وصاروا يتعرضون اليوم لمذبحة أخذت تجري وسط تعتيم إعلامي جبان خاضع لتهديدات السيد رامسفيلد الوقحة .. مقارنة بما يحدث من إعلام صاخب لو أن راقصة باتت في ليلها عكرة المزاج ، أو بما يحدث من تخصيص قناة فضائية كاملة عربية – مثلا – لما يسمى " ستار أكاديمي " لانتخاب أفضل راقص أو راقصة أو مغن أو مغنية ، بعد مرورهم ومرورهن بتجربة معيشية يومية مختلطة كاملة لأيام متتالية ليل نهار لست أدري مداها ، !! ، وأخرى لعرض عدد معين من الفتيات للزواج تحت شعار " مع الهوا سوا " كأنه سوق نخاسة عصرية أربعا وعشرين ساعة كل يوم ولمدة ثلاثة شهور أو أكثر ؟ ؟
كيف يتواقح هؤلاء المنكرين منا لواقع الصراع بين الحضارتين – من أمثال علي حربي في حلقة أخيرة من حلقات الاتجاه المعاكس بقناة الجزيرة - ليتوجهوا باللوم "إلى طبيعة الأمة " تبرئة لأسيادهم من جريمة الصراع الذي هم أعلنوه والذي هم حتَّموه ، بل من جريمة محاولة إزهاق قيم الخير والإصلاح والنهضة وفي قمتها العلم والعلماء ؟
كيف يفسر هؤلاء ما نشهده من ملاحقة العلماء في بلادنا اغتيالا وإذلالا وتجريما وتجريحا واعتقالا وتجويعا وتشهيرا في مسلسل بدأ بيحيى المشد ، وهاهو ينشط بعلماء العراق ، ثم بعلماء باكستان ، وهم كما يقول الأستاذ سالم الفلاحات في مقاله القيم بهذه الجريدة الألكترونية " الشعب " بتاريخ 13\2\2004 بخصوص أبي النووية الإسلامية عبد القدير خان وزملائه وتلاميذه من علماء باكستان ( الذين لو وافقوا لاشترتهم امريكا بالمليارات لخدمة مشروعها وحرمان امتهم من علمهم.. العلماء الباكستانيون الذين استطاعوا تجنيب باكستان احتلالاً هندياً تلوح به الهند بين الفنية والاخرى، لم يمنعه حسن الخطاب او توجيه السلاح للأهل والأصدقاء والجيران انما منطق «واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل»، ولا يفل الحديد إلا الحديد، والمتمثل بامتلاك سلاح الردع الذي تمكن العلماء الباكستانيون من تسخيره وتطويره دفاعاً عن السيادة الباكستانية امام التهديد الهندي المستمر.
كيف تسوغ الحكومة الباكستانية والرئيس الباكستاني مطاردة شبابها العلماء الأفذاذ تحت ذريعة «امريكية المنشأ» وهي أن العلماء تعاونوا مع إيران وليبيا { وكوريا الشمالية } في هذا المجال ونقلوا لها خبراتهم؟ وما المانع من ذلك؟ أليس هذا هو الأصل إن صح؟ … )(/2)
وما رأي الدكتور فاروق الباز والدكتور أحمد زويل اللذين يخدمان المشروع الأمريكي وهما يعلنان الأسف لعدم توافر الظروف المناسبة لخدمة بلادهم ؟؟ هل لأنهما كانا يتوقعان مصير الدكتور يحيى المشد وعبد القدير خان فآثرا السلامة ؟ أم ماذا ؟ { وهل يعتقدان حقا أن الأفق العلمي الذي يشيدانه في بلد المهجر ليس من المحرمات على غيره }
إنه الصراع بين حضارتين
وهو الصراع الذي يمكن لنا أن نتعامل معه إيجابا بشرط أن نفهم أسبابه ودواعيه
وفهمنا لأسابه ودواعيه لا يمكن أن يظهر ما لم نتحرر من غسيل المخ المنصب فوق رءوسنا منذ أكثر من قرن ، من أبواق الرافعين رايات الاستسلام " والتحضر " !! ، الجاثمين تحت أقدام التغريب والعولمة ، المتغزلين في محاسن " وحدانية الحضارة " بشرط أن تأتي زاحفة تحت تضاعيف ثياب بوش ، أو مدهونة بأصابع شارون ، أو متبرجة بخنوثة مايكل جاكسون ، أو متخفية وراء نفاقيات العلمانية ، أو متلقحة بأكاذيب التنوير ، او متسلحة بقبائح الأباتشي والدبابات ؟.
ومن هنا فنحن إن تفاءلنا فإنما نتفاءل برايات الزاحفين علينا من شياطين " الأورأمريصهيونية " من حيث إنهم وبمكر الله وحده قد تكفلوا بفضح ما غرقنا فيه من ألغاز ، كشرط أوَّليّ للتعامل مع هذا الصراع الحضاري القديم الجديد .
********
إنه صراع بين حضارتين تستند كل منهما إلى عقيدة مناقضة للأخرى سواء لاحظنا العلمانية التي تقوم عليها حضارتهم منذ عصر النهضة أو رجعتهم أخيرا إلى دين ، وإذا كانت علمانيتهم مشهورة فإن رجعتهم إلى الدين تحتاج إلى تأكيد
نجد شهادة الدكتور ادوارد سعيد في مقاله بمجلة " الكتب : وجهات نظر " عدد إبريل 2003 - ص 20إذ يقول :
( والولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي تبدي بشكل علني تمسكها بأهداب الدين ، فحياة الأمة مشبعة بالإحالات على الله من قطع النقد إلى المباني العامة إلى الشهادات اللغوية من مثل " بالله نؤمن " " إلى بلاد الله " " بارك الله أمريكا " إلخ ، والقاعدة التي يقوم عليها حكم بوش مؤلفة من حوالي 60 إلى 70 مليون رجل وامرأة ، يؤمنون مثله بأنهم التقوا يسوع المسيح وأنهم وجدوا على الأرض من أجل إتمام عمل الله في بلاد الله . …
إننا بإزاء ديانة نورانية نبوية ذات قناعة راسخة برسالتها الرؤيوية التي لا علاقة لها ألبتة بواقع الأمور وتعقيداتها ..)
ومن مقال الدكتور ديفيد بلانكس أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بمجلة " الكتب وجهات نظر " بعدد إبريل 2003 ص
( قد يكون مستغربا بالنسبة لبعض غير الغربيين أن يكتشفوا أن الأمريكيين عموما شديدو التدين ، فالأمريكيون الذين يؤمنون بالله أكثر بكثير من نظرائهم الأوربيين والإسرائيليين ، وهم أكثر انتظاما في حضورهم الصلوات في أماكن العبادة ، ، وتبين دراسة أجريت أخيرا بعنوان " مسح التعرف على الهوية الدينية الأمريكية عام 2001 أن الأمريكيين أقل علمانية مما يفترضه كثير من غير الأمريكيين ، وقد تبين من الاستطلاع أن 75 % وصفوا موقفهم بأنه ديني أو ديني إلى حد ما )
ويقول ( لماذا يؤيد الإنجيليون إسرائيل ؟ هذا ليس نتيجة للإعلام أو الضغط اللوبي اليهودي أو أي عامل خارجي آخر ، ومع أن قيادتهم تتحدث بلغة الأمن فإن معظم المؤمنين يؤيدون إسرائيل لأسباب دينية ، أي تلك الأسباب التي وردت في سفر الرؤيا ، آخر أسفار العهد الجديد الذي يتنبأ بهرمجدون ، وهي المعركة الأخيرة مع المسيخ الدجال التي سوف تنتهي بانتصار المسيح وبداية مملكته على الأرض ، وفي استطلاع أجرته معهم المقابلات أنهم يؤمنون بأن نبوءات الكتاب المقدس سوف تتحقق وقال 36% إنهم يؤيدون إسرائيل لماذا ؟ لأنهم يؤمنون بنبوءة الكتاب المقدس بضرورة أن تكون الغلبة لإسرائيل قبل أن يعود المسيح إيذانا بقيام القيامة ، ونهاية العالم ، ويعتقد حوالي 25% ممن استطلعت آراؤهم أن الكتاب المقدس تنبأ بهجمات الحادي عشر من سبتمبر ، فماذا نفعل مع إحصاءات كهذه ؟ إنها في أوهن الظروف تبين أنه على من يشعرون أنه يمكن أن يكسبوا الدعم للقضية الفلسطسنية عن طريق الشكوى من اللوبي اليهودي أن يعيدوا النظر في موقفهم فليس من الممكن كسب اليمين المسيحي )
ثم يقول الكاتب : ( تصور سلسلة من الروايات الجديدة عن سفر الرؤيا تحظى بشعبية كبيرة السكرتير العام للأمم المتحدة على أنه المسيخ الدجال ) !!
فهل يكون من المفيد أن يخطط العرب لمناقشة هذه العقيدة داخل الوسط الأمريكي عن طريق مجموعة من رجال الدين المسيحي الذين لا يؤمنون بهذا التفسير من رجال الكنيسة الأرثوذكسية والكاثوليكية . ومن ثم يكون هذا هو الحوار الديني الذي تحتاج إليه البشرية اليوم تجنيبا لها من حروب لا يعلم خاتمتها إلا الله ؟
ربما
لكن يظل من المؤكد بطلان الظن بأن هذا التناقض ــ أو الصراع ــ يرجع ــ فحسب ــ إلى ثأر تاريخى ، أو كراهية انفعالية متبادلة أو إلى سوء الفهم بين الجانبين . كلا ليس الأمر كذلك .(/3)
ليست القضية – فحسب - أننا طرنادهم من الشرق الأوسط قديماً ، حيث هو في نظرهم قد كان مستعمرة أوربية : يونانية ، ثم رومانية ، لقرون طويلة ، ثم قضى عليها الإسلام .
وليست القضية – فحسب - أننا طرنادهم ــ كما يعتقدون ــ من الجزيرة العربية ، تلك التي يقول عنها القس الشهير " زويمر " ؛ : إن للمسيح الحق في استرجاع الجزيرة العربية ؛ ــ نعم هكذا ــ أو طبقاً لقول القس جيمس كانتين مؤسس الإرسالية الأمريكية عام 1889 ( إن من واجبنا أن نعيد ( !! ) هذه المنطقة إلى أحضان المسيحية ) .
ليست القضية– فحسب - أننا أنزلنا المسيح إلى منصب النبوة ، وحرمناه مجد الألوهية .
وليست القضية– فحسب - أنهم ضربونا بقبضات شديدة استمرت قرنين فيما يسمى الحروب الصليبية .
وليست القضية – فحسب - أنهم افتروا على الله الكذب وشتموا رسول الله ، وهتكوا مقدساتنا ، وقذفوا أمهاتنا وكتبوا في أعراضنا ما لم يكتبه " اليهود " عن " مريم " .
وليست القضية– فحسب - أنهم طردونا من الأندلس ، أو أزاحونا من وسط فرنسا ، أو أزهقوا وجودنا في مناطق من أوربا الشرقية وشمال البحر الأبيض المتوسط ..
وليست القضية– فحسب - أنهم سفحوا دماءنا في افريقيا ، وأوربا ، وقطعوا شرايينا في آسيا ، وتركوها تسفح أنهاراً وجداول ..
وليست القضية – فحسب - أنهم أخرجوا فلذات أكبادنا من فلسطين واستوردوا إليها مطاريد اوربا ومن لا يكادون يعرفون أكثر من أسماء قبائلهم ممن يسمون " الفلاشا " ..
ليست القضية ذلك فحسب .
لو أن القضية كانت ذلك ــ فحسب ــ لجاز لبعض أبواقهم أن يخدروا وعينا بكلام عن نسيان الماضي ، وتصفية الأحقاد ، واستقبال النظام العالمي الجديد " بأيد متشابكة وقلوب مفتوحة " .. كلا
لو أن القضية كانت كذلك أو بعض ذلك لجاز لبعض دروايشهم أن يعلنوا استغرابهم لما يدور على ساحة التاريخ والجغرافيا بيننا وبينهم في حين أنه لقد كانت حروب ضارية بينهم وبين اليابان مثلا ثم انتهت المسألة وتم غلق الملف ورجعوا حبايب (!!)
إن اليابان ليست في وارد القياس على حالنا وحالهم
إن التناقض بين ذاتية الحضارة الإسلامية ، وذاتية تلكم الحضارة الغربية ، أو " الأوربية ، أو " العالمية " تناقض موضوعي تحركه النظرة إلى المستقبل ، أكثر مما تحركه مواريث التاريخ ، أو عقم الحاضر …تناقض يتحرك بطبيعته من كونهما حضارتين متنافستين على "المستقبل " .حضارتين تتصف كل منهما " بالعالمية " …فالإسلام دين " عالمي " وحضارة عالمية ، باستثناء ما أسفر عنه تاريخ كل منهما من فرق أساسي ، فبينما درجت حضارتهم منذ نشأتها على الإصرار على إبادة الآخر كان للحضارة الإسلامية منهج مختلف يقوم على الاعتراف به ومحاولة احتوائه . .
هذه الحضارة ــ الغربية ــ تعلن على الأشهاد أنها حضارة " إنسانية" وتصدر إلى أنحاء العالم قيمها ومفاهيمها فيما تسميه " الديموقراطية " و"حقوق الإنسان " والعولمة و" قرارات مجلس الأمن " . حضارة أخذت تدس أنفها في كل دولة ، ومدينة ، وشارع ، وزقاق ، وبيت ... " أخذت تقول : نعم ، وتقول : لا ، في شئون السياسة والاقتصاد ، والتربية ، والإعلام ، والحرب ، والثقافة والرياضة ، وأوقات العمل ، وأوقات الفراغ .. وهى تتسرب بكلمتها تلك تحت شعار " العالم الذى أصبح كقرية " عن طريق : الخبر ، والجندى ، والكمبيوتر ، والمعلومات والقروض ، والمنتديات ومراكز البحوث ، والسلام الزائف ، والمؤتمرات ، أنظر مقال محمد حسنين هيكل الذى تضمن بياناً عن معركة تطويع العقل المصري لقبول الصلح مع إسرائيل ، وكيف أنفق الغرب على هذه المؤتمرات في مدى عامين أو ثلاثة ما يساوى " تكاليف حرب كبرى : جريدة الخليج 21/5/1996 .
وهى مستعدة لإدخال كلمتها عن طريق النظريات المزيفة عن " نهاية التاريخ " ، لفوكوياما ، أو عن طريق كلمة وقحة لمأجور مؤتمرات يقول لك: أنت تأكل خبزهم فيكف ترفض " هُمْ " !! فبدلا من ان يفكر كيف يحررنا من خبزهم يدعونا إلى أن نكون عبيدا للقمتهم .
نعم ، حضارة تزعم أنها إنسانية ، عالمية ، والإسلام رسالة عالمية أيضاً . ومن هنا كان التناقض شيئاً غير قابل للنسيان أو القياس على حالهم مع اليابان . كان التناقض بين حضارتهم وبين الإسلام ــ كدين وحضارة ــ تناقضاً موضوعياً ، ومعركة على " المستقبل " في المكان والزمان .
وللأسف فإنهم يدركون هذه الحقيقة أكثر مما ندركها نحن ... فهم أساتذة " تاريخناً " الذي نتعلمه منهم ... وهم أساتذة الاجتماع والنفس .. وهم أساتذة الاقتصاد ... وأساتذة الفلك والفضاء ...وهم أساتذة الاستراتيجية ، والسياسة ، والحضارة ...
هم يدركون بمقتضى أستاذيتهم لعلم الحضارة : أنه لا مكان في العالم لحضارتين " عالميتين " ... إلا أن يقع بينهما تنافس ، وتزاحم ، وتدافع ، وتآكل في الحدود ، وصراع على محل " القلب " .. وإذن فسيلعنهم تاريخهم إن تركوا فريستهم ـ نحن ـ بعد أن اصطكت الركب ، وناخت الأقدام ...(/4)
إنهم يدركون هذه الحقيقة ويحسبون أنهم يلعبون " الآن " الدور الأخير في معركتهم مع هذه الحضارة " الإسلامية " ليقذفوا بها إلى مكان سبق أن قذفوا إليه " الهنود الحمر " !!
هم يدركون هذه الحقيقة ويعلمون ـ أكثر مما علموا عن الهنود الحمرـ أنهم يتعاملون مع حضارة " عاتية " دوختهم واستعصت عليهم ـ في وقت أصبح فيه وُرٌاث هذه الحضارة في أضعف حالاتهم وأحط أحوالهم .. ولذا فإن ضعفنا لا ينسيهم خطورة حضارتنا ، ولا ينسيهم خطورة انبعاث هذه الحضارة مرة أخرى . إن ضعفنا ـ الذي يعيرنا به أفراد منا يسيلون بكلماتهم كما يسيل الحوض بالماء النازل فيه ـ هذا الضعف لا ينسيهم قصوائية المعركة التي تدور ، ولكنه يُسيِّل لعابهم لضربتنا الضربة الأخيرة ، وللقضاء علينا القضاء النهائي . إنهم يعتقدون أنهم أمام الفرصة التاريخية التي إن أضاعوها فسوف تدور الدائرة عليهم من جديد .
لذا فإنهم يصفٌوننا جغرافياً ، ويصفٌوننا جسدياً ، ويصفٌوننا تاريخياً ، ويصفٌوننا حضارياً ..
يزهقون قطرات الدم الأخيرة من عروق حضارتنا من حقيقة ذاتنا . من جوهر وجودنا .
إنهم يدركون أن المعركة معركة حضارية موضوعية بين حضارتين عالميتين تتنافسان على " المستقبل " . ومن هنا فإنهم يلعبون معنا اللعبة بوجه جامد ، وعصب بارد ، وبسمة " المشفق " على " الذبيح " . كأنه يقول : لماذا تتعب نفسك ، وتتعبنا معك ، فأنت قدرنا ، ونحن لا نتركك .. فتعال ساعدنا على أن نوسدك أحضان الفناء .
إنهم يقتلوننا ؟ نعم . وهم يقتلوننا بإشفاق ؟ ربما!!
كيف ذاك ؟ لأن نظرتهم إلى القضاء علينا نظرة موضوعية !! تماماً كالذي يذبح شاة .. ويربت على وجهها ، وربما ... يقبلها ، ثم يذبح !!
هكذا حالهم معنا ، وهكذا حالنا معهم !! يقتلوننا بالمذاهب الفلسفية ، وبالروح العلمية ، ومناهج البحث .يقتلوننا ويستغربون : لماذا لا نُقتٌل ؟ !
وللأسف ـ الذي يصل إلى حد الكارثة ـ ينخدع البعض منا ببسمة القاتل ، فينهضون إلى مساعدته بهدهدة الذبيح . نعم ؛ ولقد ساعدناهم ، وساعدناهم من قبل كثيراً .
ساعدناهم بالاعتداء على ذاتية الإسلام . ساعدناهم بتفكيك النسق الإسلامي . وساعدناهم بتزييف " الكلمات " و " المصطلحات " الإسلامية . أفهمونا أن الغرب قد جاء إلينا من أجل " الاستعمار " .وابتلعنا الكلمة ، وقد كان الصحيح أن يقولوا إنه جاء إلينا من أجل "الاستخراب " وأفهمونا أن استعمارهم ــ أو استخرابهم ــ هو من أجل " القطن " ، لتشغيل مصانع النسيج في يوركشاير ؟ والآن ماذا بعد " القطن " ؟ وأفهمونا أن استعمارهم ــ أو استخرابهم ــ هو من أجل قناة السويس . والآن ماذا بعد قناة السويس .. ؟ وأفهمونا أن استعمارهم ـ أو استخرابهم ـ قد جاء من أجل بترول العراق ، والآن ـ أو بعد الآن ـ ماذا يكون بعد البترول ؟ !
" تعمية " على الهدف في عملية الصراع الحضارى ؟!
ذلك أنه قد كان لنا ـ وما يزال ـ زعماء فكر هم خريجو كلية فكتوريا، والميردى دييه ، وقهاوى باريس ، وشارع الشانزلزييه ، وقبعات التخرج في عقر جامعاتنا !! فلم يكن لفمهم ـ وهو ممتلئ بشرابهم ـ أن ينطق بأن القضية صراع حضارات . وعندما ظهرت الكلمة بعد أن انكشف الغطاء ــ في صراعنا معهم ـ عن التأخر الحضارى الذى " نتمتع " به ، ... بعد أن ظهرت الكلمة وأنها " صراع الحضارات " ، جرى تزييفها مرة أخرى فقالوا : هو صراع حضارى ؛ ولكنه يعنى أن " نتحضر " مثلهم . أن نعيش كما يعيشون . ونغني كما يغنون ، ونرقص كما يرقصون ، ونلبس البذلة كما يلبسون . ونحلق الذقن كما يحلقون . ونكشف العورات كما يكشفون ، ونأكل بالشوكة كما يأكلون . ونشرب كما يشربون ، أن نتحضر بمثل ما يتحضرون .
وليتهم أرادوا من ذلك أن نأخذ العلم كما يأخذون ، والقوة كما يأخذون ، والجد كما يجدون ، أن من حضارتهم " الوسائل " التى تعيد الحياة إلى حضارتنا ، والقوة إلى " وجودنا " ؛ والسلامة إلى " نسقنا " !!
لا ولكنهم يهدفون إلى أن نخسر حضارتنا ، ونفقد ذاتنا ونعيش بحضارتهم وننماع في ذاتهم . أزاحوا الفهم الصحيح لحقيقة صراع الحضارات وأنه صراع يدور بين حضارتين تتمتع إحداهما ـ اليوم ـ بالسيادة على العالم ، وتنزوى أخراهما في جمود .
صراع بين حضارتين ، إحداهما يمكن أن نسميها " إنسانية " بحق !! أى يستقل بها الإنسان فلسفة وتوجهاً ، وتطبيقاً ، وأخرى " إسلامية " إلهية !!
نعم : فالإسلام دين حضارة ؛ وقد وضع حجر الحضارة الإسلامية على الأرض في تلك الزاوية التى كتب عليها قوله تعالى { إنى جاعل في الأرض خليفة . } 30 البقرة .
فالحضارة وفقاً للمفهوم الإسلامى مقصد شرعي ومراد إلهى ، يصنع وفق التكليف الإلهى ، وقيام حضارة مقابلة تتصف بالإنسانية دون " الإلهية " ، هو إعلان لمعركة حضارية موضوعية بالمفهوم الصحيح لهذه الكلمة . لن تنتهى هذه المعركة في تصورهم إلا بإبادة الإسلام وحضارة الإسلام . ولن تنتهى في تصورنا إلا بصنع الحضارة وفقاً للتكليف الشرعى .(/5)
في ظل هذا التصور عن الصراع الموضوعي المستقبلي بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية يصبح من الطبيعي أن نستحضر النظرة الماضوية عن هذا الصراع من أجل تجنيدها في معركة لا مفر منها . الحروب الصليبية : سقوط الأندلس ... سقوط الدولة العثمانية ... سقوط القدس ، سقوط بغداد ، تخلخل الخرطوم
تفكك القوميات ... هجوم الاستعمار .. زرع العلمانية في قلب الأمة وأحشائها . الهجوم الصريح على الإسلام ...
تزييف الإسلام ومحاولة صنع “ الإسلام الجديد “ الذى أوصت به مؤتمرات التبشير . تزييف في الاقتصاد . ، في التربية في اللغة ، في الأدب ، في الفن في الأخلاق ... وصولاً إلى تشويه الذاتية الإسلامية ثم القضاء عليها في معركتها الأخيرة : زحفاً من الشمال بكتيبة صهيومسيحية أو إسرائيلية ... .. وزحفاً من الجنوب بكتيبة تنصير ... أو وثنية ...!
وإطباقاً في النهاية من بعد العراق على سوريا وإيران والجزيرة العربية ، ثم مصر . !! وفقا لخطة منهم معلنة ، وهنا ، وهنا فقط تنتهى ــ في حسبانهم ــ الحروب الصليبية !
لكن هل ينتهى التاريخ ؟!
قائمة سوداء غليظة السواد ، منقوعة في السم ، ملطخة بالدم ، مصنوعة من الأشلاء ...
********
والحق أن عداءهم لنا لم ينشأ مع ظهور الإسلام ــ وإن كان قد تضاعف معه أضعافا ــ ولكنه كان قبل الإسلام ، ومع قوة الإسلام ، والآن مع مظنة صحوته ..
أتعرفون ماذا قال هيرودت عن طريقة جمع أحجار الأهرامات ؟ أتعرفون كيف اغتصب اسم " مصر " على أيديهم فصار إيجبت بينما اسم مصر هو هو منذ وجود الهيروغليفية والعبرية والفينيقية والآرامية والأشورية ، ولم تحفظها من الاندثار غير العربية ؟ أتعرفون كيف أطلقت أكذوبة " مصر هبة النيل " لتحرم المصريين من شرف العمل والكفاح والجهد الذي كان وسيلة ترويض هذا النيل وتهذيبه والاستفادة منه ؟ كم من شعوب مر عليها النيل فلم يجعل منها هبته ؟
إنهم هم المصريون الذين اضطهدوا على يد الفتح الاسكندرى (اليونان ــ البطالمة ) ثم على يد الرومان حتى تخلصت مصر من اضطهادهم على يد الإسلام ؟
وصل اضطهاد الرومان للمصريين والتنكيل بهم الذروة في عصر الامبراطور ــ دقلديانوس (284 م) فكانت أول سنة من حكمه مبدأ اتخذه المصريون لتقويمهم المعروف بتاريخ الشهداء أو التقويم القبطى ؟ ثم استمر الاضطهاد بعد ذلك أربعة قرون تقريباً كانت حصيلتها نشأة الرهبانية وفرارها إلى جبل المقطم وغيره من الصحارى وإنشاء الأديرة ؟
وجاء الإسلام فأرجع إلى مصر اسمها وأمنها وسلامها وحرمتها ؟
ولم يكن العرب غرباء على مصر قبل الإسلام : اسألوا الجيولوجيا تقول لكم إن صحراء مصر الشرقية جزء من التكوين الخاص بالبلاد العربية، والبحر الأحمر ليس إلا أخدوداً أو شقا بين الجانبين .واقرءوا سورة الفجر لتروا كيف جمع القرآن الكريم بين العرب البائدة ومصر ( عاد وثمود … ومصر ) :{ ألم تر كيف فعل ربك بعاد ، إرم ذات العماد ، التى لم يخلق مثلها في البلاد ، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ، وفرعون ذى الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد . }.
ولم يصبح العرب غرباء على مصر بعد دخول الإسلام بعد أن صار حقا لكل من اعتنقه على السواء ، وأصبح الإسلام رسالة لمصر كما هو رسالة لبقية البلاد العربية . ولذلك قصة مجيدة تطول
*******
إننا نؤكد أن هؤلاء عندما اختاروا موقع العداء للإسلام وحضارته ، ووصفوه بوكر الأفعى ، كما فعل نيكسون ، فإن ذلك لم يرجع في الأعم الأغلب ــ كما يشيع البعض ــ إلى سوء عرض منا ، أو سوء فهم منهم ، ولم يرجع إلى ما عليه حال المسلمين اليوم من تخلف ، أو ما عليه حال بعضهم من تطرف ، ولكنه رجع إلى اختلاف جذري في أصول كل من الحضارتين، وفي الوقت الذى يدركون فيه ذلك يدركون تحرك كل منهما نحو العالمية ، فيجعلهم ذلك يفزعون إلى خططهم المدروسة في الإساءة إلى الإسلام ، وتشويه صورته عمداً ، وبكل ما يملكون من وسائل الدفاع عن الذاتية الخاصة .(/6)
وشهد شاهد في جريدة عصرية ، إذ قال قبيل سقوط الاتحاد السوفيتي : ( لا أعتقد أن الأحداث سبق أن تدافعت وتراكمت على الأمة العربية في شكل سلسلة من التحديات المعقدة والمرهقة بمثل ما جرى في الآونة الأخيرة . حتى يبدو الأمر وكأننا قوم مستهدفون من الشرق والغرب على حد سواء . وأنه بينما يعم المجتمع الدولى بأسره موجة من التفاؤل .... في ظل الوفاق العالمى بين القوتين ... فإن الأمر يبدو مغايراً تماماً في عالمنا العربى { ولو أدرك جوهر القضية لقال الإسلامى : أنظر أفغانستان ، وباكستان والفلبين ، وقبرص وأريتريا ، وجنوب السودان .. إلخ .} الذى هبت عليه رياح التشاؤم وتولدت في ربوعه أحاسيس القلق ، من مجرد رصد ما هو قادم إلينا وما يجرى تصديره لأوطاننا، بدءاً من هجرة اليهود السوفيت ، ومروراً بمحاولات تغيير الأوضاع القانونية لمدينة القدس ، { يشير إلى قرار الكونجرس باعتبار القدس عاصمة موحدة لإسرائيل } ووصولاً إلى النوايا الرامية لإبقاء بؤر التوتر على حالها كأنها أشبه بسرطان ينخر في جسد الأمة ، سواء في لبنان أو في الخليج ، إضافة إلى ما يجرى في الضفة والقطاع من ممارسات بربرية يشيب لها الولدان { الأهرام 5\4\1990 ص 8 }.
ويشهد رئيس تحرير الجريدة فيقول . ( كان انزعاجنا شديداً ونحن نتحدث عن هجرة اليهود السوفيت إلى الأرض العربية المحتلة في إسرائيل . وكنا محقين في انزعاجنا وتحسبنا للأخطار ، رغم أننا كنا نتخوف من هجرة عشرات أو بضع مئات الألوف ، وبحد أقصى نصف مليون مهاجر إلى إسرائيل خلال خمس سنوات . الآن ماذا نقول وماذا نفعل وقد تكشفت الخيوط ، واتضحت معالم الصورة { عفوا معالم الصورة كانت واضحة منذ قيام إسرائيل في شعارها من النيل إلى الفرات } فإذا بما كنا نتخوف منه من قبل لا يمثل إلا أقل القليل مما تتوعدنا به من مخاطر هذه المؤامرة الكبرى { عفوا إنها كبرى منذ الصليبية والأندلس } .إذن فهو خروج يهودى كبير آخر ، يذكرنا بالخروج اليهودى من أوربا في أعقاب الحرب العالمية الثانية الذى اتجه إلى فلسطين الجريحة عام 1947 وساهم في صنع نكبتها .. ) . ( إن القضية ليست قضية مخاطر تهدد شعب الضفة وغزة فقط ، ولا الشعب الفلسطينى ككل ، وإنما قضية مخاطر تهدد الدول العربية كلها .. بعضها مهدد بالخطر عاجلاً والآخر لن يتأخر طويلاً . ) الأهرام 6\4\1990
ويقول الصحفي الكبير صلاح الدين حافظ بعد رحلة إلى أمريكا : ( إن الانحياز الأوربى الأمريكى للمسيحيين في " الشرق " عامة ، وفي " مصر " خاصة ، ليس حباً لذواتهم ، ولكن تحت تصور أنهم سلاح تفكيك لوحدة الأمة وعنصر طعن ضد الأغلبية .
وبقدر ماهناك في الغرب الأوربى الأمريكى من نقد أحياناً للإسلام والمسلمين ، فإن هناك أيضاً نقداً واضحاً لأقباط مصر على وجه الخصوص، وحين تساءلنا بعجب جاءت الإجابة أكثر عجباً .. ذلك أن أقباط مصر ما زالوا يرفضون الانحياز " الأعمى " للمسيحيين " الأوربيين والأمريكيين ، ويفضلون بقاءهم كجزء من قوميتهم المصرية ، ومن حضارتهم العربية .. ) .
ثم يقول صلاح الدين حافظ : ( علينا أن نستشرف المستقبل ونستعد له . والمستقبل الذى أراه ــ بتواضع شديد ــ هو الذى سوف تعود فيه حركة التاريخ إلى الصدام التاريخى القديم .. صدام الغرب الأبيض مع الشرق الملون .خاصة إذا نجحت خطة تفكيك الاتحاد السوفيتى الجارية الآن ، لأنها تمثل التجربة الأولى وبعدها تتوالى المحاولات . { وقد نجحت } صراع المستقبل لن يتركز حول صراع الأيديولوجيات السياسية الذى ساد خلال نصف القرن الأخير بين الماركسية والرأسمالية . ولكن صراع المستقبل سوف يكون صراع قوميات ، وديانات) { صح النوم } حيث الاستقطاب سيكون حاداً بين حضارات الغرب البيضاء الحديثة ، وبين حضارات الشرق وديانته القديمة ، بما فيها حضارات اليابان والصين والهند ، والعرب والأفارقة ، مرة أخرى صراع ديانات وقوميات . ) .(/7)
ويقول الكاتب السياسى اليساري ! الأستاذ محمد سيد أحمد عما يدور حالياً بيننا وبين الغرب ( هل هى صيغة عصرية للحروب الصليبية ؟ ) معلقاً بذلك ــ فيما ينقله عنه الدكتور محمد عصفور - على الأخطار الكامنة في المخططات الأوربية ، لأنها تطرح صورة للمواجهات عن منطقة البحر المتوسط توحى بأنها بين أوربا المسيحية من جانب والصحوة الإسلامية من جانب آخر ، وأن أوربا المسيحية أصبحت تستخدم الدولة اليهودية درعاً لها فيما سوف يبدو لعرب عديدين صيغة عصرية للحروب الصليبية على مشارف القرن الواحد العشرين ، وأن هناك مشاعر مكبوتة عارمة وإحساساً طاغياً بالإحباط عم أمتنا العربية بأسرها وأن مخططات السلام لابد وأن تبدو في مثل هذا السياق مؤامرة صليبية صهيونية تستهدف تجريد الأمة العربية من روحها ومن هويتها .) وقد نبه الأستاذ محمد سيد أحمد – منذ اثني عشرة عاما - إلى أن المؤسسات الأوربية ليست فقط بصدد ضم إسرائيل إليها ، بل إنها في الوقت نفسه تعمل من أجل حث الأقطار العربية على التسليم بدور متميز لإسرائيل في المنطقة أنظر جريدة الوفد 5/8/1991 ، والأهالى 13/7/1991.
فليقولها صريحة : صراع ديانات أو حضارات !! دماء مسفوحة في قدس الذاتية ؟ صح !!هكذا قلنا منذ مطلع القرن الماضي وهكذا ندفع اليوم فاتورة الحساب ! آسف : لم نقلها نحن منذ مطلع القرن الماضي ، ولكن قالها قوادهم ومخططوهم ، وسياسيوهم ، ومؤتمراتهم … !! قالها القس زويمر ، والقس جيمس كانتين ، والقس ينغ ، والقس اكسنفلد ، والقس سيمون أنظر سعيد حارب في كتابه ( الخليج العربى أمام التحدى العقدى . ) والغارة على العالم الإسلامى ،
وقالها ويليام جيفورد ويلجراف في المؤتمر التبشيرى بلكنو ( متى توارى القرآن ومكة عن بلاد العرب ، يمكننا أن نرى العربى يتدرج في سبيل الحضارة (!!!) التى لم يبعدها عنه إلا محمد وكتابه . ) .
وقالها اللورد هانوتو ( إن الدين الإسلامى يبعث في الإنسان الخمول والكسل ولا يوقظه منهما ، وإن تقدم المسلمين مستحيل ونجاحهم بعيد لأن الإسلام معتقدهم يحول دون ذلك ، وأن كل حكومة انفصلت عن الشرق وسارت على منهاج أوربا علماً ومدنية نجحت . ) .
قالوها ثم جاءت سلسلة الأحداث لتصدق ما قالوا : في تركيا ، ومصر ، وفلسطين ، ولبنان ، وقبرص ، وفي شرق أوربا في بلغاريا ، ويوغوسلافيا ..
وفي الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتى ، وفي الفلبين ، وكشمير ، وأندونيسيا ، وفي نيجيريا وأريتيريا وتنزانيا وجنوب السودان.. إلخ وفيما يحدث للمتحجبات في فرنسا ، وبلجيكا وألمانيا وبريطانيا (!!)
لكن هل وصلنا بهذا إلى القاع الذى لا قاع بعده ، وعندئذ لم يبق إلا الصعود كما يقول أصحاب التغيير المادى الميكانيكى للأحداث ؟ ! كلا ، فهناك في اتجاه القاع – حسب خطة العدو – ما هو أسفل منه ، إلى باطن الأرض . إلى عملية الاستئصال . لا تستغربوا . واقرءوا ما حدث للهنود الحمر ثم اقرءوا مراسيم الملكة جوانا " عودة إلى الأندلس " !!
هذه نواياهم أما نحن فطريق النجاة أمامنا في مصدر وجودنا : الله والقرآن والرسول .(/8)
الغرب والإسلام عداؤهم لنا بين سوء العرض وسوء الفهم وسوء القصد
أما يزال من بيننا من هو غارق في جلد الذات فينسب الصورة المشوهة عن الإسلام في الغرب وما أدت إليه من تجذير عداوته للإسلام .. ينسبها إلي سوء العرض منا بدلا من سوء القصد منهم ؟ إمعانا لا في جلد الذات فحسب ولكن في تجميل التابع لصورة المتبوع مما يعود بالتجميل علي الطرفين ؟
ليست القضية أن المسلمين هم المسئولون عن عداء الغرب لهم ، حيث يسيئون عرضهم للإسلام ... ولكنها علي العكس من ذلك ، أنهم في الغرب يتجاوزون سوء العرض هذا – مع التسليم بوجوده - ويفهمون عرضيته أوجانبيته أوهامشيته ، ويذهبون إلي عمق علاقتهم بالحضارة الإسلامية ؛ باعتبارها خطراً موضوعياً علي حضارتهم . إنه من السطحية والسذاجة ــ إن لم يكن من التآمر ــ أن يظن البعض منا أن المسألة ترجع إلي طريقة عرض الإسلام... وتنتهي المشكلة .
وإلا فإنه في كل دين ، وفي كل مذهب ، وفي كل نظرية ، وفي كل أيديولوجية هناك من يسئ العرض ، ولا أحد من غير الهازلين يتوقف عند أولئك الذين ينبتون علي هامش هذه الأديان والمذاهب ممن يسيئون العرض ؛ جهلاً أو قصداً .... في المسيحية هناك من يسئ العرض . وفي الديموقراطية هناك من يسئ العرض . وفي الليبرالية هناك من يسئ العرض . وفي الاشتراكية هناك من يسئ العرض . ولا تكون هناك نهاية المطاف .
ويبتلي الإسلام بمن يسئ العرض من المبشرين والمستشرقين والجهلاء .. تماماً كما هو الحال مع غيره ، لكنه هو وحده الذي يقولون عنه : لولا سوء العرض ...
يا سادة : لا تضيفوا إلي سوء العرض منا سوء الظن بهم !!!...
يا سادة : إن في الغرب رجالاً يحققون ، ويدققون ويذهبون إلي المصادر الأصلية ، كعلماء وخبراء وفلاسفة ، وإعلاميين ، واستراتيجيين ....فما هي القضية إذن ..
ليست القضية إذن قضية سوء فهم ، نشأ من سوء عرض .. فما هي القضية إذن : ؟
القضية أنهم هناك يدركون الخطر الموضوعي الذي يأتيهم من انبعاث الحضارة الإسلامية مرة أخري ، ثم يذهبون يشوشون علي منطلقاتهم وأهدافهم ويستأجرون العملاء من سماسرة الثقافة والإعلام ليشيعوا مقولات ساذجة تبعدنا عن أصل المشكلة وتضللنا عن جوهر القضية .
وإلا فقولوا لنا هل كان أرنست رينان المستشرق الفرنسي الشهير متأثراً بسوء عرض الجهلاء منا للإسلام وهو يقدم كراهيته للإسلام في ذورته الأكاديمية : إذ يقول في خطاب افتتاحي في الكوليج دوفرانس حول تصنيف الشعوب السامية في تاريخ الحضارة ..( . الشرط الأساسي لتمكين الحضارة الأوربية من الانتشار هو تدمير كل ماله صلة بالسامية الحقة : تدمير سلطة الإسلام الثيروقراطية ، لأن الإسلام لا يستطيع البقاء إلا كدين رسمي ، وعندما يختزل إلي وضع دين حر وفردي فإنه سينقرض . { برافو } هذه الحرب الدائمة، الحرب التي لن تتوقف إلا عندما يموت آخر أولاد إسماعيل بؤسا ، أو يرغمه الارهاب { أي إرهاب يعني ؟!! } علي أن ينتبذ في الصحراء مكاناً قصيا .
الاسلام هو النفي الكامل لأوربا ، الإسلام هو التعصب ، الإسلام هو احتقار العلم ، القضاء علي المجتمع المدني ، إنه سذاجة الفكر السامي المرعبة ، يضيٌق الفكر الإنساني ، يغلقه دون كل فكرة دقيقة دون كل عاطفة لطيفة ، دون كل بحث عقلاني ، ليضعه أمام حشو سرمدي : " الله هو الله " .المستقبل هو إذن لأوربا ولأوربا وحدها ، ستفتح أوربا العالم ، وتنشر فيه الدين الذي هو الحق، الحرية ، احترام البشر ، هذا الاعتقاد القائل بأن ثمة شيئاً ما إلهياً في صلب الإنسانية{ عقيدة التجسد !! } ) !! أنظر كتاب " الإسلام اليوم لمارسيل بوازار " بحث الحبيب الشطي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي ووزير خارجية تونس الأسبق صـ 34 ــ 35 طبعة 1986 ــ اليونسكو .
فهل تريدون منا أن نصدق ان أرنست رينان تأثر بسوء العرض منا ؟
أو فقولوا لنا لماذا يكتب " باول شمتز " المستشرق الألماني المعروف مثلاً في كتابه " الإسلام قوة الغد العالمية " ــ قبيل الحرب العالمية الثانية ــ ليُحذر من تواكب الحركة الإسلامية مع الحركة القومية الإسلامية " وما يمثله ذلك من خطر محدق بالغرب !! يقول المؤلف ( إن انتفاضة العالم الإسلامي صوت نذير لأوربا ، وهتاف يجوب آفاقها يدعو إلي التجمع والتساند الأوربي لمواجهة هذا العملاق الذي بدأ يصحو ويزيل النوم عن عينيه. فهل يسمع الهتاف أحد ؟ ألا من يجيب ) .انظر كتابه " الإسلام قوة الغد " ترجمة د. محمد عبد الغني شامة صـ 356(/1)
. حتي إنه ليقلل من أهمية افتقاد العالم الإسلامي للتقدم التكنولوجي في هذه المعركة التي ينذر قومه بها ، إذ يقول ( من الممكن أن يعارض المرء هذا الرأي .. فإن الإسلام فقد سيطرته علي بعض الأشياء المادية ، وخاصة ما يتصل بالحرب ، فهو لم يلحق بالتقدم التكنولوجي الحديث . ولا أستطيع أن أدرك لماذا لم يعوض الشرق الإسلامي ما فاته في هذا الميدان ، إذ لا تحتاج العلوم الحديثة إلي طبيعة عقلية خاصة ، بل يتطلب الإلمام بها والتفوق فيها الخبرة وتوجيه الخبراء ، ومن المؤكد أنه غالباً ما يحدث أن تكون حضارة ذات منزلة عالية في التقدم التكنولوجي .. هي أقل درجة من حضارة أخري لم تبلغ تطورها بعد في هذا المجال ما بلغته الأولي ، إذن فهناك احتمال كبير في أن يصبح شعب ظهر حتى الآن أن مواهبه في الناحية التكنولوجية ضعيفة سيداً علي شعب آخر استولت التكنولوجيا علي حواسه ومشاعره ، فلم ينقذه أحد .. لماذا لا يتعلم العالم الإسلامي ما تعلمناه في مجال التكنولوجيا ، وفي مقابل هذا : سوف يكون من الصعب علينا استعادة التعاليم الروحية التي فقدتها المسيحية ، بينما لم يزل الإسلام يحافظ عليها . ) (1) .
ويبني المؤلف تحذيره علي ما يلمسه من مصادر القوة التي يملكها العالم الإسلامي ؛ وهي : الموقع الجغرافي ، والخصوبة البشرية ، والثروات والمواد الخام والدين الإسلامي ( الذي له قوة سحرية علي تجميع الأجناس البشرية تحت راية واحدة بعد إزالة الشعور بالتفرقة العنصرية من نفوسهم ، وله من الطاقة الروحية ما يدفع المؤمن به علي الدفاع عن أرضه وثرواته ، بكل ما يملك مسترخصاً في سبيل ذلك كل شئ حتى روحه .. يحرص علي التضحية بها فداء لأوطان الإسلام . ) .
ثم يتساءل : ( أي قوة وجدانية بعثت هذه الإرادة اليوم في الشرق ؟ ) ثم يجيب ( قوة الوحدة الفكرية للإسلام ، ووجود الإحساس الحي للدين الإسلامي ، فهو ينتصر في كل مكان ينزل فيه الميدان مع الأيديولوجيات الأخرى ) .
بل إنه ليستشعر الخطر من مجرد أداء المسلمين لفريضة الحج واتجاههم إلي القبلة في صلواتهم .. إذ يقول ( إن اتجاه المسلمين نحو مكة ــ وطن الإسلام ــ عامل من أهم العوامل في تقوية وحدة الاتجاه الداخلي بين المسلمين ، وأسلوب يضفي علي جميع نظم الحياة في المجتمع الإسلامي طابع الوحدة ، وصفة التمسك . ).
بل إن ناشر الكتاب الألماني يقدم له بهذه العبارة ( باول شمتز عاش في القاهرة عدة سنوات ويعرف جيداً الأسس التي ينبثق عنها تطلع الشعوب الإسلامية إلي الاستقلال ، الذي يعد أهم مشكلة سياسية في الوقت الحاضر ، وهذا الكتاب يوضح الخطر المتوهج الذي يمر عليه الإنسان في أوربا بكل بساطة ، وفي غير اكتراث ، فأصحاب الإيمان بالإسلام يقفون اليوم { قبيل الحرب العالمية الثانية } في جبهة موحدة معادية للغرب ... وهذا الكتاب هو نداء وتحذير يجب أن يلقى الاحترام الجدي من أجل مصالح الغرب وحدها. ) .هكذا ، فهل كتب باول شمتز ما كتب لما وجده من سوء عرض للإسلام يرتكبه بعض الجهلاء من هنا أو من هناك ؟ !!!
أو فقولوا لماذا نشر المفكر الأمريكي " صامويل هانتنجتون " الأستاذ بجامعة هارفارد كتابه المعروف باسم ( صدام الحضارات ) وفيه يبشر لصدام مستقبلي هائل بين الديانات والثقافات الحديثة ممثلة في الثقافة الأوربية الأمريكية الغربية من ناحية ، وبين الديانات والثقافات القديمة .. لكنه خص الحضارة العربية الإسلامية بأكثر قدر من التركيز لأنها ـ كما يعتقد ـ ستكون أولي تلك الحضارات القديمة وأقدرها علي الازدهار وتحدي الغرب قريباً ، ولذلك يقول الرجل : ( يجب علي الغرب الاستعداد من الآن لصدام المستقبل هذا ، بل العمل علي إجهاض قوة الحضارات الأخرى ، خاصة الإسلامية قبل أن تكتمل . ) .
وهناك دراسة أخري نشرتها مجلة الايكونومست البريطانية في 8 يناير عام 1994 ، ركزت علي أن مستقبل العالم مهدد بقوتين كامنتين أمامهما فرصة البزوغ ، بل الصدام مع الآخرين : هما اليابان والقوة الإسلامية المنتظرة! مقال صلاح حافظ ــ الخليج 25/2/1994 .
وها هو الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية ــ ريتشارد نيكسون : يدرك السمة الحضارية للإسلام ، حيث يقول ( إن الإسلام ليس ديناً فقط ، وإنما هو أساس حضارة رئيسية ، إننا نتحدث عن العالم الإسلامي بصفته كياناً واحداً ــ ليس لأن هناك مكتباً إسلامياً يوجه سياساته ، ولكن لأن الدول منفردة تشترك في اتجاهات سياسية وثقافية مشتركة مع الحضارة الإسلامية ككل . ) (انتهزوا الفرصة ــ ترجمة حاتم غانم ، طبعة فبراير 1992 صـ 40 .) .فهل فهم نيكسون ذلك من سوء العرض للإسلام ؟(/2)
ثم يقول ريتشارد نيكسون : ( للعمل في العالم الإسلامي فإن علي صناع السياسة الأمريكية المناورة داخل وكر أفعي من سم النزاعات الأيديولوجية والصراعات الوطنية ) .والمدهش أنه يعترف بعد ذلك بأن بعض الأمريكيين ( يتغاضون عن حقيقة أن الإسلام لا يشمل مبدأ ارهاب وأن ثلاثة قرون قد مرت منذ أن انشغل المسيحيون في حروب دينية في أوربا . ) فهل من سوء عرضنا فهم نيكسون ؟ .
ثم يعترف بفضل الحضارة الإسلامية فيقول : ( بينما ذبلت أوربا في العصور الوسطي تمتعت الحضارة الإسلامية بعصرها الذهبي ، وقد أسهم الإسلام بمجهودات هائلة في مجال العلوم والطب ، والفلسفة ، وفي كتابه "عصر الإيمان " لاحظ ول ديورانت أن الإنجازات الهامة في كل الميادين قد تحققت علي يد مسلمين في هذه الفترة ، وكان ابن سينا أعظم الكتاب في الطب ، والرازي أعظم طبيب ، والبيروني أعظم جغرافي ، وابن الهيثم أعظم صانع للآلات البصرية ، وجابر أعظم كيميائي .. وكان العلماء العرب فاعلين في تطوير الفكرة العلمية .. وعندما دفع الرجال العظام من عصر النهضة الأوربية إلي الأمام حدود المعرفة .. فقد رأوا أكثر لأنهم وقفوا علي أكتاف العمالقة من العالم الإسلامي . ).
ثم يقول ريتشارد نيكسون ( إن حضارتنا ليست متفوقة علي حضارتهم الموروثة ، إن شعوب العالم الإسلامي كانوا أكثر مقاومة لجاذبية الشيوعية من مقاومة أولئك في الغرب ، وإن رفضهم الواسع للمادية وثقافة الغرب الأخلاقية المسموح بها ـ أي في الغرب ـ رجعت عليهم بالفضل . )
وطيلة خمسة قرون من 700 إلي 1200 م ــ كما يقول نيكسون ــ فإن العالم الإسلامي تقدم وتفوق علي العالم المسيحي فيما يتعلق بالقوة الجيوبوليتيكية ، ومستوي المعيشة ، والمسئولية الدينية ، وتقدم القوانين ، ومستوي تعلم الفلسفة ، والعلوم والثقافة .
ثم يرجع انحسار الحضارة الإسلامية إلي انتصارها في الحروب الصليبية ، كما يرجع تفوق الغرب إلي انهزامه إذ يقول ( إن عقوداً من الحرب قلبت الطاولات ، وكما كتب ديورانت : إن الغرب خسر الحرب الصليبية ، لكنه ربح العقائد (!! ) ، وتم طرد كل محارب مسيحي من أرض اليهودية والمسيحية المقدسة ( كذا !! ) . لكن الإسلام استنزف نتيجة انتصاره المتأخر ، ودمر وخرب علي يد المغول ــ بالمقابل ــ في عصر من ظلام الغموض والفقر ، بينما المهزوم مدفوعاً بالجهد ونسيان الهزيمة تعلم كثيراً من عدوه ، ورفع الكاتدرائيات في السماء ، وعبر بحور العقل ، وحوٌل لغاته الجديدة إلي لغة دانتي وفيلون ، وتحرك بروح معنوية عالية إلي النهضة ) فهل كتب نيكسون ما كتب تحت سوء عرض منا للإسلام .
وحين أصدر جان بيرك المستشرق الفرنسي ترجمته لمعاني القرآن عام 1990 وجدناه يبرر اهتمامه بتقديم معاني القرآن للغرب بقوله ( لأن الكثير من المفكرين والناس الآن ينبذون الصورة المادية للحياة المعاصرة ، ويرفضون مجتمع الاستهلاك ، هذا المجتمع المادي المحض .. ويفضلون علي المدنية المعاصرة مدنية الإسلام الروحية وينادون بالعودة إليها ) ، ولما كان قد قدم في ترجمته للقرآن الكريم معاني القرآن مشوهة فكأنه أراد أن يقول للمفكرين الغربيين الذين أصبحوا يرفضون حضارة الغرب الآن ويرون أنها علي وشك الانهيار، لأنها فقدت الأساس الروحي والأخلاقي .. يريد أن يقول لهم : وهذا هو الإسلام أيضاً ملئ بالخرافات والتناقضات .. ) ألخ مقال رجب البنا صـ 9 ، الأهرام 6/3/1994 .
أما جان بيرك نفسه فيكاد يلتمس لنفسه العذر فيما يكون قد حدث من مخالفة في ترجمته للقرآن الكريم يعتذر بالرجوع إلي وجوب الأخذ بالمنهج التاريخي إذ يقول : ( يبقي صحيحاً القول بأن الديناميكية الدينية ذاتها تتطور عبر التاريخ ــ ليس في مبادئها وأصولها بالطبع ، ولكن في صياغتها وأشكالها وتطبيقاتها ، فتلك أشياء خاضعة للتأقلم والتطور وتختلف باختلاف العصور والأزمات ) الأهرام 29/7/1995 .
ومن الواضح لدينا أن استثناءه ( المبادئ والأصول ) من عملية التأقلم.. الخ ، ليس إلا تغطية لفظية لهدفه من الترجمة ، وهو إيصال الديناميكية الدينية التاريخية إلي ( صياغة ) المبادئ والأصول ، وما ذلك إلا صياغة كلمات الله تعالي ما دمنا بصدد ترجمة القرآن الكريم خلافا لتصريحه ، وهذا المنهج التاريخي هو المدخل " الحديث " لنسف أصالة المسلمات الإسلامية .
فهل ذهب جان بيرك إلي ذلك نتيجة سوء فهم أوسوء عرض .(/3)
أهو سوء عرض منا ذلك الذي جعل منصٌراً مثل : بروس ج. نيكولز يدرك حقيقة الإسلام بدقة يغبط عليها حين يقول : إن الإسلام هو أكثر من عقيدة دينية ، إنه نظام متكامل للحياة والدين. فالإسلام يدمج كل المؤسسات الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية علي أسس الإيمان والاقتناع والالتزام بقبول الله رباً ، والاستسلام كلية لإرادته ، ثم يستمر قائلاً : ( إن مركز الابداع في الإسلام هو التوحيد ، أي الشهادة بأن لا إله إلا الله ، والتوحيد يعني أن الله هو الخالق أو السبب الجوهري لكل الوجود والنشاط ، ويؤكد أن الإنسان هو المسئول عن تحقيق إرادة الله ) . ثم يستمر قائلاً ( ففي المؤتمر الإسلامي الدولي الذي عقد في لندن في نيسان (أبريل) 1976م حول " الإسلام وتحديات العصر " ، تم تقديم الإسلام كنظام متكامل من القيم ومصدر إلهام لكل منجزات العلم والدراسات الإنسانية والمصدر الوحيد الراسخ للإيمان والسلوك . ) أنظر كتاب " التنصير : خطة لغزو العالم الإسلامي " وهي تضم مجموعة أعمال المؤتمر الذي عقد عام 1978 بكولورادوا بالولايات المتحدة الأمريكية ، ونشرته دار MARK ، ونشر بالعربية صـ 214
فكيف يمكن القول إذن بأنهم يحاربون الإسلام لأنهم لم يفهموه ، وانهم لم يفهموه لسوء في عرضنا ؟ .
انظروا مثلاً إلي الفهم الصحيح للإسلام الذي يقدمه المنصر كينيث أ . كراج عن الإسلام ، حيث يقول :
( دعونا نواصل الحديث عن الجسور ، إن للقرآن والإنجيل أرضية مشتركة من الإيمان بالخلق : " هو (الله) الذي يقول كن فيكون "
إن الخلق المبدع هو لله والأرض الطيبة كذلك ، والتي ينظر إليها علي أنها مسكن الإنسان ومجال نشاطه و"الأمانة" التي حملها
والإنسان هو " خليفة " الرب في "حكم" النظام الطبيعي
وهو في ذلك مسير بإرادة إلهية
وتفهم الغاية الإلهية بالنسبة للعالم من خلال تسخيره للإنسان الفلاح والزارع والتقني والفنان والعالم الذي يمتلك ويستكشف
ويستغل العالم بتفويض إلهي
كما أنه يكون مسؤولاً عن أعماله هذه أمام الرب
فالإنسان مخلوق أدني من الرب ، وهو عبد للسلطة الإلهية ، وخليفة ومندوب في مواجهة الطبيعة .
من هذا المنطلق توجد جوانب عديدة من الفهم المشترك تساعدنا علي القيام باتخاذ الموقف الصحيح في وجه كل ما من شأنه أن يتعدى علي الكرامة الإنسانية والمجال الإلهي ، وليس فقط فيما يتعلق بالقضايا المعاصرة كالسلطة والبيئة ، والمسؤولية عن الموارد والعدل الاجتماعي والتراحم ، بل بأكثر من هذا ،
والقرآن ( سورة 2 : 33 وما بعدها ) يري أن الشيطان هو رأس الاتهام، فبعد أن اعترض علي خلافة الإنسان ، ثم تمرد علي الرب لنفس السبب ، فإن هدفه التاريخي هو إغواء البشر وتشتيت وإفساد العمل البشري والثقافة حتى يستطيع أن يثبت للرب خطأ ما قام به بتكريمه للدور الإنساني ، وهذه الموضوعات مثيرة جداً
وإذا كان من الواجب " أن ندع الرب يكون رباً " يجب علينا كذلك " أن نجعل الإنسان يكون إنساناً "
. ومن هنا بالطبع كانت ضرورة الهدي كما يطلق عليه الإسلام ، والذي يسترشد به الإنسان في أزمة مصيره عبر التاريخ ، ومن هنا أيضاً جاء تعاقب الأنبياء المرسلين لتحذير وتوجيه الاستجابة البشرية ، إذن فالنظرة القرآنية إلي الأنبياء في التاريخ لا تختلف كثيراً عن مرامي أمثلة المسيح عن الكرم والكرامين والرسل ، فخصوصية مهمة اليهود غير واردة ، ولكن مسؤولية الإنسان أمام الرب في تسخير الطبيعة عبر التاريخ حقيقة هامة في المفهوم الإسلامي للخلق، وفي مكانة النبوءة المتميزة في التاريخ .
هنا تبرز بالطبع بعض العقبات ، ولكن قبل أن نتطرق إليها هنالك بعض السمات القرآنية الأخرى لمخلوقية الإنسان الأساسية ، والتي تساعدنا في مهمتنا ، فالطبيعة تحت وصاية الإنسان هي بالنسبة للقرآن دنيا من الآيات، وهذا اللفظ موجود في كل صفحة من صفحات القرآن تقريباً ، إن الآيات تشد الانتباه ، وهذا هو أساس العلم كله فالإنسان يلاحظ ويراقب ويصنف ، ثم يسخر الظواهر الطبيعية ، والإسلام هنا يشعر بالفخر والاعتزاز في تشجيعه السيادة الإنسانية من خلال اليقظة الماهرة والقيام بالجهد اللازم وبكل دقة ، ونحن ننحني لننتصر ، فالطبيعة لم تعط العلوم من خلال طرح بيانات معينة ، بل حقق ذلك الإنسان من خلال التساؤلات التي طرحها علي الطبيعة "والتي" قامت بالرد عليها .
غير أن اليقظة التي تتطلبها هذه الآيات هي أكثر بكثير من كونها عقلانية . ) .
ثم يقول : ( إن النفور الموروث لا يزول بسهولة ، وكثيراً ما يؤكد القرآن علي أنه قدم بطريقة تسهل علي الناس فهمه ، فالقرآن ليس طلمساً قصد به إخفاء الحقيقة من خلال التعبير والأخبار ، كما تدعي ذلك فئة من الأحبار . ) .(/4)
ثم يقول : (لقد رأينا كيف يشرع الإسلام فيما يخص الله ، والإنسان ، وإضافة إلي ذلك يري القرآن أن هذا التشريع يلائم الطاعة في وجود شروط معينة تمثلها بصورة عامة الدولة الإسلامية التي أُنيط بها النظام السياسي منذ الهجرة
ويأتي بعد ذلك نمط الحياة اليومي (الصلوات اليومية الخمس والصوم والحج والزكاة )
ونظام التكافل الاجتماعي في الأمة الإسلامية
وعلي ضوء هذا فقد نظر الإسلام إلي الإنسان علي أنه يمكن أن يتحسن حتى يبلغ درجة الكمال ، فالإسلام واثق بأن التشريع في القرآن والرحمة في المجتمع والسنة التي يمكن أن تحتذي والانضباط في الأنماط الاجتماعية والرعاية التي يمكن أن يوفرها نظام الحكم الإسلامي ستكون كافية لتحقيق واجب الإنسان والدعوة الموجهة إليه لعبودية الله ....
إن الكتاب المقدس الذي يدعو إلي أن عيسي هو المخلص يلزمه أن يواجه الحيرة الأساسية والكراهية الراسخة في الإسلام لهذا المفهوم ، ولكن حتي هنا وبسبب صعوبة المهام التي نواجهها هنالك بعض الأمور اللاهوتية العقيدية التي ينبغي توضيحها :
انطلاقاً من مقطع هام في القرآن (4 : 157 وما يليها ) ونتيجة لاعتبارات أخري في اللاهوت الإسلامي ، فإن الإسلام يري :
أ - أن المسيح لم يصلب .
ب - أن الصلب ما كان من الواجب أن يحدث .
جـ - أن الصلب لا حاجة له أن يحدث .
فالإسلام ينكر حدوث الواقعة تاريخياً ويرفض احتمال حدوثها علي أساس أخلاقي كما يرفض الضرورة لها علي أساس عقائدي . ) .
ثم يقول : ( فالمسلمون يعتقدون أن يسوع ما كان ينبغي أن يتعذب بهذا المعني الذي يتضمن عجز الرب في الدفاع عن خادمه ( بل وأكثر من هذا إن قلنا ابنه ! ) . ومن هذا المنطلق فإن الرب " يودع قدرته " في حقيقة أن المسيح لم يمت
علاوة علي ذلك فإن تحمل عقاب الإثم نيابة عن الآخرين ليس من الأخلاق في شئ . فالقرآن يقول { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخري } ( سورة 6 : الأنعام ) . إذ ليس من العدل معاقبة (أ) لذنب ارتكبه ، (ب) ، ولهذا فالمسلمون يشعرون بأن فكرة البديل النصرانية هي فكرة غير أخلاقية إلي حد بعيد . ) .
ثم يقول : ( ولكن هل هذه المعاناة التي تفتدي الإنسان ضرورية للقدرة الكلية الإلهية ، فالإسلام يقول أن رحمة الله تسع جميع مخلوقاته والقرآن يؤكد : { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } . ( 82 يس) . وهذا يعني أن المغفرة الإلهية عمل مهيب يحدث دون جهد ، ولهذا فإن فكرة " المخلص " الذي " مكن " الرب من أن يغفر لنا توحي بالعجز الرباني
فهل يحتاج الرب أبداً " للمساعدة " من أجل تحقيق إرادته ؟
وهذا يوضح أننا نحتاج لأن نكون فطنين وحذرين جداً فيما نقوله أثناء الدعوة { يقصد تبشير المسلم } خشية الوقوع في مفاهيم خاطئة
ما هي الطريقة التي يمكن أن نوضح بها " "ضرروة " الصليب باعتباره شكل ومضمون القدرة الربانية في المغفرة ؟
هل يمكن لمغفرتنا ــ إذا جاز التعبير ــ أن تكون مشكلة الرب ؟ . ) (1) .
هكذا يفهم المنصر الإسلام
بسم الله ما شاء الله
رؤية ولا شيخَ أزهرِِ لها
إذن فالأمر في دائرة التنصير لا يرجع إلي سوء الفهم ، أو سوء العرض ، ولكنه يرجع إلي ما يقول جورج بيترز في بحثه بعنوان " نظرة شاملة عن إرساليات التنصير العاملة وسط المسلمين " .: ( إنني أميل إلي الاتفاق مع فاندر وزويمر وفريتك وآخرين فيما ذهبوا إليه من أن الإسلام حركة دينية معادية للنصرانية
مخططة تخطيطاً يفوق البشر (!!!) لمقاومة إنجيل ربنا يسوع المسيح
إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تناقض مصادره الأصلية أسس النصرانية ، وترفض بكل وضوح موثوقية وصحة الإنجيل وأبوة الرب ، وأن المسيح ابنه ، وضرورة موته وكفايته لمفهوم الخلاص ، وتبرير بعثه .
إنه الخلاف الأكبر في النصرانية وفي الكتاب المقدس أملنا في الخلاص .
ولكن محرك هذا الخلاف هو الإسلام وليس النصرانية
وفي ذات الوقت فالنظام الإسلامي هو أكثر النظم الدينية المتناسقة اجتماعياً وسياسياً ، ويفوق في ذلك النظام الشيوعي (!!) .. )
هكذا ليست المسالة في سوء الفهم إذن
ولكن العقدة ليست هنا ، !! العقدة في التوصيل الأمين ، توصيل هذه الرؤية إلى جماهيرهم ، هنا ينغلق الباب ويأتي المنصر نفسه ، ليعلن الحرب وليقول ( ولكن هذه الحقيقة يجب ألا تحبط عزم المنصرين ... )
ثم يقول : ( إن الإله الموجود فينا !! أعظم من الإله الموجود في العالم ، وأعظم حتي من الإله الذي يتحدث عنه الدين الإسلامي . ) (1)
هكذا كأنما القضية تأتي انطلاقا من أرضية الشرك للاختيار بين الآلهة
و أليس هذا بالنص ما قاله المسئول الأمريكي المدعو بويكين ؟.</="TEXT-ALIGN: justify; TEXT-KASHIDA: 0%"><SPAN lang=AR-SA style="FONT-SIZE: 16pt">بقلم : د. عبد الله فهد النفيسي<o:p></o:p></SPAN>
</="TEXT-ALIGN: justify; TEXT-KASHIDA: 0%"><SPAN lang=AR-SA style="FONT-SIZE: 16pt"><![if !supportEmptyParas]><![endif]> <o:p></o:p></SPAN>(/5)
</="TEXT-ALIGN: justify; TEXT-KASHIDA: 0%"><SPAN lang=AR-SA style="FONT-SIZE: 16pt">تصريحات وخطب الجنرال وليام بويكين نائب وكيل وزارة الدفاع الأميركية لشؤون المخابرات ودعم الجهد الحربي الأخيرة ضد الإسلام والمسلمين كدين وكأمة وقوله بأن المسلمين يعبدون (وثناً) وليس (إلهاً حقيقياً) وإن الحرب ضد الإسلام والمسلمين ليس فقط مشروعة بل واجبة بالنسبة للمسيحيين واليهود، قوله هذا لم يأت من فراغ وليس فلتة لسان أو زلة شخصية بل هو اتجاه راسخ في الولايات المتحدة اتباعه يفوق عددهم السبعين مليوناً من المواطنين الأميركان الذين يتركزون في وسط الغرب </SPAN><SPAN dir=ltr style="FONT-SIZE: 16pt">Mid-West</SPAN><SPAN dir=rtl></SPAN><SPAN lang=AR-SA style="FONT-SIZE: 16pt"><SPAN dir=rtl></SPAN> والجنوب عموماً ولهم مئات الكنائس والمعابد وعندهم قنوات تلفازية كثيرة ومئات الإذاعات المنشورة فوق الأراضي الأميركية وفي أنحاء عديدة من أقطار العالم ومن إعلام هذا التيار الصهيو- مسيحي التالية أسماؤهم: جيري فالويل وبات روبرتسون وبيلي غراهام وغيرهم وقد سبق هؤلاء الجنرال بويكين ومنذ أشهر بسب القرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وسلم ووصفه روبرتسون بكافة الأوصاف المشينة ولم يفعل المسلمون شيئاً ولم يحركوا ساكناً ولا تحركت حكوماتهم ولو كان المسلمون فعلاً إرهابيين لكان روبرتسون الآن في بيت الدود.<o:p></o:p></SPAN>
</="TEXT-ALIGN: justify; TEXT-KASHIDA: 0%"><SPAN lang=AR-SA style="FONT-SIZE: 16pt">التيار الصهيو - مسيحي إذن تيار راسخ في الولايات المتحدة وقد كتب في هذا الموضوع الكثير من الكتب في الولايات المتحدة نفسها وفي أوروبا ومن أشهر وأثمن ما كتب في هذا الموضوع كتاب بول ميركلي الموسوم (الصهيونية المسيحية 1891- 1948 (</SPAN><SPAN dir=ltr style="FONT-SIZE: 16pt">The Politics Of<SPAN style="mso-spacerun: yes"> </SPAN>Christian</SPAN><SPAN dir=rtl></SPAN><SPAN style="FONT-SIZE: 16pt"><SPAN dir=rtl></SPAN> </SPAN><SPAN dir=ltr style="FONT-SIZE: 16pt">Zionism</SPAN><SPAN dir=rtl></SPAN><SPAN lang=AR-SA style="FONT-SIZE: 16pt"><SPAN dir=rtl></SPAN>)<SPAN style="mso-spacerun: yes"> </SPAN>يتتبع فيه ميركلي العلاقة بين الحركة الإنجيلية المسيحية والحركة الصهيونية وأن الأولى حضرت كل مؤتمرات الصهاينة وشاركت في مداولاتها وحرضت الصهاينة على السعي لتأسيس وطن قومي يهودي في فلسطين وشاركت مشاركة فعالة في التحضير الدبلوماسي والسياسي لهذا الأمر ومن أراد أن يتفصل فليقرأ كتاب ميركلي القيم ومن لم يجده فليقرأ كراسة محمد السماك المنشورة في بيروت (دار النفائس) وعنوانها (الصهيونية المسيحية) وهي كراسة قيمة وثمينة وثرية من حيث المعلومات، وقد تفصل في هذا الموضوع يوسف الحسن في أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه بعنوان: (البعد الديني لسياسة الولايات المتحدة) وقد نشرت هذه الأطروحة في سلسلة مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت وهي أطروحة قيمة وثمينة وثرية للمهتمين بمتابعة تفاصيل هذا الأمر.<o:p></o:p></SPAN>
</="TEXT-ALIGN: justify; TEXT-KASHIDA: 0%"><SPAN lang=AR-SA style="FONT-SIZE: 16pt"><![if !supportEmptyParas]><![endif]> <o:p></o:p></SPAN>
</="TEXT-ALIGN: justify; TEXT-KASHIDA: 0%"><SPAN lang=AR-SA style="FONT-SIZE: 16pt">خلاصة فكر التيار الصهيو- مسيحي الذي يحكم الآن في البيت الأبيض أنه ينبغي أن يحرص جميع المسيحيين المنضوين تحته على دعم الكيان الصهيوني بكل الوسائل وتحريض جميع يهود العالم إلى الهجرة إلى فلسطين والتجمع هناك ذلك أن (قيامة المسيح) حسب معتقد هذا التيار لن تحدث إلا إذا تحولت كل أرض فلسطين إلى أرض يهودية، ومحاولة رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي لملمة الموضوع والحديث عن تحقيق مع بويكين لا ينفي رسوخ هذا التيار في الإدارة الأميركية.<o:p></o:p></SPAN>
</="TEXT-ALIGN: justify; TEXT-KASHIDA: 0%"><SPAN lang=AR-SA style="FONT-SIZE: 16pt"><![if !supportEmptyParas]><![endif]> <o:p></o:p></SPAN>
</="TEXT-ALIGN: justify; TEXT-KASHIDA: 0%"><SPAN lang=AR-SA style="FONT-SIZE: 16pt">لا شك أن هذا التداخل الديني مع المجهود الأميركي الجيو - سياسي في الأفغان والعراق وعموم العالم الإسلامي سوف ينعكس بإذن الله على عموم الوضع الاستراتيجي الأميركي في العالم الإسلامي لو أحسن المسلمون التعاطي معه بالشكل المطلوب.<o:p></o:p></SPAN>
فأين القضية إذن ؟ هل ترجع كما يشيع البعض إلي سوء الفهم أو سوء العرض ؟(/6)
وإذا كان البعض يحاول أن يعتذر عن ذلك بجهل الأمريكان الذي يشهد به الكاتب الدكتور ديفيد بلانكس أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بمجلة " الكتب وجهات نظر " بعدد إبريل 2003 ص عن مستوي الجهل السياسي الذي يتمتع به المواطن الأمريكي قائلا ( إن معظم الناس لا يقرءون حتي الصحف ناهيك عن الكتابة إليها وعموما تكشف رسائل القراء وجهة النظر المتطرفة سواء كانت في اتجاه اليمين أم ناحية اليسار ) ثم يقول : ( أما فيما يتعلق بالإسلام والعرب والشرق الأوسط علي وجه الخصوص فهو لا يعرف شيئا ألبتة بل ولا يهتم كثيرا بذلك ) ثم يقول : ( وهناك الكثير الذي يمكن قوله فمعظم الأمريكيين لا يقرءون صحيفة واشنطن بوست ونيويورك تايمز بل إن شبكة سي إن إن الدولية التي يعتبرها المراقبون في الخارج مرجعا ليست متاحة داخل الولايات المتحدة ، ولا يشاهدها الأمريكيون بالمرة ، )
فإننا يجب أن نفهم أنه الجهل الإرادي التلقيني المبرمج غير المعذور
انظروا ما جاء عن برمجة هذه العداوة المغرضة التي تصل إلي جذور البرامج الدراسية في الغرب : وقولوا لنا : هل تقررت بدافع سوء عرض منا للإسلام. يقول مارسل بوازار : ( في الولايات المتحدة الأمريكية تتهم لجنة من جميعة دراسات الشرق الأوسط الكتب المدرسية برداءة الاعلام عن الإسلام ، وبالأخطاء فيما يتعلق بالوقائع التي تتضمنها عن المسلمين ، نتائج التحقيق الذي قامت به اللجنة مفزعة .. كتب التاريخ العام المدرسية تخصص عموماً 8 % علي أبعد تقدير من محتواها للشرق الأدنى والأوسط ، معظم هذه المادة غير كافية ، فضلاً عن أنها تعالج أساساً الحضارات القديمة ، حضارات بلاد الرافدين ووادي النيل ولا تتحدث عملياً عن تاريخ الثقافة الإسلامية ، ومن جهة أخري : محررو هذه الكتب المدرسية يُظهرون مثل المدرسين مسبقات كامنة ، معززة بتحرير ناقص ، وببحث قليل الدقة وبتقديم غير سديد، وهكذا فإن التلاميذ الأمريكيين عندما سئلوا لم يجيبوا عن الإسلام إلا كدين وكثيرا منهم زعموا أنهم لا يعرفون المسلمين إلا في منظور حركة المسلمين السود " بلاك مسلم " .
وأجريت مؤخراً دراسة أخري محددة جغرافياً بمنطقة واشنطن استنتج منها أن 15 % فقط من الكتب المدرسية المتوافرة يمكن أن ينصح بها كأدوات تربوية ، أما الانتقادات الرئيسية فهي الآتية : ــ
ــ قلما قدم الإسلام كإحدى ديانات التوحيد الكبرى في العالم .
ــ حوكم التاريخ والحضارة العربية بميزان المعايير العرقية الخالصة .
ــ استخدمت قوالب فظة ، مقدمة في أسلوب تحقيري لوصف حضارة العرب.(1) .
وفي الكتب المدرسية الفرنسية :
يخص الرسول r الذي مازال يكتب بطريقة مغلوطة : ــ
بنعوت قيمية محددة .
محمد الفقير يشعر بالأمن بفضل زواجه .
وخلال سفره التقى بيهود ونصاري .
وبتكريسه أوقات فراغه للتأمل حصلت له رؤى " علي طريقة الأنبياء" وقرر التبشير : بـ " الرب ــ الله . " .
أخرج من مكة فظل مشغولاً باسترجاعها .
منذ البداية التجأ للعنف .
مكنه فنه في قيادة الجموع (!!) من توحيد أنصاره الذين زرع فيهم روح التعصب ووعدهم بالجنة إذا ماتوا في سبيل " الحرب المقدسة " .
أما تقديم الإسلام ــ في تلك الكتب المدرسية فإنه يجمع جميع القوالب: التعصب ، الخضوع ، الاهمال ، الاستسلام .. إلخ .. الإيمان الإسلامي ليس جديداً ــ قلد واستعار كثيراً ، خاصة من اليهودية ، عقيدته هي من أكثر العقائد بساطة ، وممارساته الثقافية محدودة جداً .
الفتح العربي يوصف دائماً بـ " الصاعق " كتاب مدرسي واحد أشار إلي أن دوافع التوسع لم تكن دينية حصرا ، أما بالنسبة للكتب الأخرى فتفسير ذلك هو في الجبلة الحربية للعرب الذين أعمتهم رغبتهم في فرض الإيمان علي الكفار .
تضيف إلي ذلك بعض الكتب : الضعف الداخلي للدول التي ستفتح ، ورغبة البدو في الخروج من الصحراء الحارقة للاستيلاء علي المدن .
أدت الحرب المقدسة إلي صراع رهيب بين الصليب والهلال ، سبب المسلمون ( الذين يسمون سراسنة ) خراباً مخيفاً في حوض البحر الأبيض المتوسط .
وأخيراً عندما يعالج مؤلفو هذه الكتب الثقافة الإسلامية لا يخشون الوقوع في التناقض : فبينما الحرب المقدسة قضت بالاختفاء علي كل فرد غير مسلم .. نجد أن اليهود والمسيحيين في الأراضي المفتوحة هم الذين كان لهم نصيب الأسد في ميلاد الحضارة الإسلامية ، هذه الأخيرة التي ليست سوي اقتباس : خليط وانتحال .. طابعها الجوهري هو افتقاد الأصالة .. لدرجة أن بعض الكتب المدرسية في تمارينها ــ التي من المفروض أن تشغل فكر التلميذ النقدي ــ تطلب في سؤال إيحائي أن يشرح : " في أي مجال تفتقد الحضارة الإسلامية الأصالة ؟ " .
كل شئ فيها تقليد : العلوم الطبيعية والإنسانية ، الفن ، الأدب ، وحتي المعمار ، ــ وهو مجال يعترف فيه للمسلمين ــ عادة ــ بالتفوق ــ ليست حسب الكتب المدرسية سوي تقليد .(/7)
وفي التعديلات التربوية الأخيرة التي أعدت في فرنسا يبدو الإسلام كثقافة ماض " مشرٌحة " وكدين للفقراء ، تمت مماثلتة مع العمال المهاجرين غير المتخصصين : لم تعد صورة المجتمع صورة قوة تناحرية خطيرة ، كما تستخلصها الكتب المدرسية القديمة ، بل هي بالأحري شبيهة بصورة حضارة ميتة تصٌدر يدها العاملة .
هل يعود السبب لتبرير إيديولوجي ؟ أم لتأثيرات عرقية ؟ أم لقصور مؤلفي الكتب المدرسية ؟ يظل السؤال مطروحاً ، لكن مما لا شك فيه أن ظلماً دائماً انصب علي الإسلام والمسلمين . ) مارسيل بوازار : " الإسلام اليوم " صـ 26 ــ 29 .
أليس هذا هو التلقين المبرمج الذي تتعرض له أجيال الغرب في دراستهم للإنسانيات ، والإسلاميات ؟
ثم يأتي سماسرة الغرب من أشباه المثقفين منا الذين لم يقرءوا – بفهم – كتابا في التراث الإسلامي على ما به من نقاشات محتدمة بين ما احتواه من المتن والشرح والحاشية والتعليق أولئك الذين لا يحسون بالقذى في عيونهم ليسقطوا تهمة التلقين على المناهج الدينية الإسلامية ذرا للرماد في العيون عما عليه التلقين هناك وتبريرا للعبث الجاري في المناهج الدراسية الإسلامية بأوامر أمريكية ؟
إننا نؤكد أن سادة هؤلاء عندما يختارون موقع العداء للإسلام وحضارته ، ويصفونه بوكر الأفعى ، كما فعل نيكسون ، فإن ذلك لا يرجع في الأعم الأغلب ــ كما يشيع البعض ــ إلي سوء عرض منا ، أو سوء فهم منهم ، ولا يرجع إلي ما عليه حال المسلمين اليوم من تخلف ، أو ما عليه حال بعضهم من تطرف ، ولكنه يرجع إلي سوء قصد منهم بإدراكهم الاختلاف الجذري في أصول كل من الحضارتين، وبإصرارهم علي إبادة الآخر وفقا لما درجوا عليه في إقامة حضارتهم الخاصة
ومن هنا فإنهم يفزعون إلي خططهم التلقينية المدروسة في الإساءة إلي الإسلام ، وتشويه صورته عمداً ، وبكل ما يملكون من وسائل الدفاع عن الذاتية الخاصة لوجودهم الحضاري .
(1) المصدر السابق صـ 356 .
(1) أنظرالمصدر السابق .من صـ 274 إلي صـ 281 .
(1) المصدر السابق : التنصير خطة لغزو العالم الإسلامي من صـ 549 إلي صـ 568 .
(1) أنظر كتاب " الإسلام اليوم " لمارسيل بوازار ، ترجمة ونشر اليونسكو ، صـ 22 إلي صـ 30 .(/8)
الغرب وخيار الشعب المسلم
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله وبعد، فإن الأيام تبدي حيناً بعد حين ازدواج معاير الغرب، وتشهد للقائلين بأن علمانيته ونظمه الديمقراطية قائمة على معاداة الدين.
فكثيراً ما يتبجح الغربيون بالديمقراطية، وينادون باحترام كلمة الشعب، وفي طيات ذلك مخادعات فهم يعدون القوانين الصادرة عن ممثلي الشعب في البرلمان والتي ربما لم تعبر عن رأي جل الشعب إلاّ بالتخرص، فمن قال إن من انتخب فلاناً فقد وافقه في كل ما يقول ويُصدِر!
ومع ذلك هم يعدون تلك التشريعات البرلمانية دساتير مقدسة لايجوز لأحد تجاوزها، والحجة هي احترام خيار الشعب المظنون بل ربما المدعى عليه كذباً وتلفيقاً.
ومع أن هذا النموذج الغربي للديمقراطية يتصادم مع مبادئ الإسلام، القاضية بأن الحكم لله "أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" [لأعراف:54]، فهو _سبحانه_ أعلم بمصالح من خلق، وأرحم بهم من أنفسهم، ولهذا فإن المسلم لايكون مسلماً حتى يرضى بحكم الله ويسلم له، فإن خالف رأي الأغلبية حكم الله وحكم رسوله _صلى الله عليه وسلم_ فلا عبرة به عنده، ولا ينبغي لمن يليه أمر المسلمين أن يخالف كلام الله وكلام رسوله _صلى الله عليه وسلم_ لأهواء بشرية، وعقول أرضية، قاصرةٌ نظراتُ أصحابها على بعض زخرف الحياة الدنيا.
إن الديمقراطية الغربية -في أحسن أحوالها- قائمة على عدم التزام الدين في شئون الحكم دون تقصد لمخالفته، فلا يلزم من النظام الغربي الديمقراطي مخالفة الدين في كافة تفاصيله ورفض دستوره وأحكامه بنداً بنداً، ولا يجب على الديمقراطي العلماني مخالفة الدين في كل جزئية ليبني قانونه الخاص، ولكنه يأخذ منه ماء شاء، ويحكم بالوضع على ما شاء، فهم يقولون: "دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر"، فإذا أعطى الله قيصراً عطية فلا يلزم ردها على كل حال، وإذا جاءهم المرسوم الرباني أو الدستور (الكتاب) فلهم أن يؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض أو يتخذوا بين ذلك سبيلاً!
ولهذا فإنك لاتعجب إذا وافق خيار الديمقراطية الحق والصواب، وليس تلك تزكية لها، بل كفى بها إثماً أن تخالف الشرع ولو في مسألة واحدة تتخذ ديناً وشريعة مقدسة لا تجوز مخالفتها.
بيد أن العجب يتبدى والحقيقة تتجلى عندما يخرج الغرب عن قاعدته فيرفض الديمقراطية ويأباها إذا وافقت خياراً صحيحاً ارتضاه شعب مسلم، بل يهدد ويتوعد ويلوح بالعقوبات، فما أسرع أن نسى الغرب الديمقراطية يوم اختار الشعب المسلم (حماس) حكومة لدولته، عندها ركل الغرب الديمقراطية وشرع في محاولات لتغير خيار الشعب وتفريغه من محتواه بالضغط والتهديد تصريحاً وإيماءً، من أجل أن تتنكر حماس لشعبها، الذي اختارها بناء على سيرتها الأولى.
وعندما اختارت الشعوب المسلمة خيار المقاطعة لدولة لم يأخذ حكماؤها على أيدي سفهائها المستهزئين بالرسل _عليهم السلام_، عندها عد سفهاء الأحلام من حكامهم خيار الشعب همجية وبربرية.
وليت شعري أين الديمقراطية وأين التمدن والحرية أفي سجون البريطانيين بالبصرة! أم في دول لا تراعي المواثيق الدولية القاضية باحترام الأنبياء.
والشاهد أن هذه خيارات الشعوب المسلمة يرفضها اليوم من ينادي بالديمقراطية.
فما أقبح أن يزعم الغربيون بعد ذلك تمسكهم بمبادئ ديمقراطية لا تعادي دين المسلمين، وأشد من ذلك أن يغتر بهذا البلهاء من المستغربين، ورجاؤنا أن تفتح هذه الأحداث أعينهم المغمضة على حقائق الواقع، وتغلق أفواههم الصائحة بشعارات الغرب، ليسمعوا وينظروا، وبعدُ: "مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" [الأعراف:178]، جعلني الله وإياك من أهل هدايته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/1)
الغرب يقرأ عن الإسلام ... وقفة تأمل
محمد جلال القصاص
لا شك أن كثيرا من الناس ليسو من أهل التدقيق والبحث العلمي ، بل يضيق صدرهم بعرض الخلافات والترجيح بين الآراء ، ويبحثون عن الخلاصة التي تكون في جملة أو جملتين .
هكذا الناس من يوم كانوا . وارجع إلى السيرة النبوية تجد أن مراحل الصراع الأولى في العشرين عاما الأولى من بعثة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت بين عدد محدود جدا ، ثم دخل عوام الناس في دين الله أفواجا بعد الفتح ، وخرجوا مع أول داع للكفر في ديارهم وهم يرددون ( كذّاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر ) .
هكذا كانوا يحسبونها فلم يفقهوا ولم يتعلموا .
والناس هي الناس .
حين تتحدث إلى النصارى تجد أنهم يتكلمون عن شخص آخر غير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي نعرفه ، يتكلمون عن سفاك للدماء مِزّواج للنساء .... الخ . و ( ما هكذا كان النبي )
يتكلمون عن شريعة لا تعرف إلا القتل و ( الرّق ) ، ولا ترضى بـ ( الآخر ) إلا ذميا .. إلى آخر ما يقال .
وبغض النظر عن أن في ( الكتاب المقدس ) بعهديه القديم والجديد ، ما يستحى من ذكره في مجال النساء والقتل والتعدي على أنبياء الله بل والتعدي على ذات الله القدوس ،وأن تاريخ النصارى في هتك الأعراض وسفك الدماء لا يُعرف مثله اللهم من إخوانهم اليهود بغض النظر عن هذا كله فإنني أريد أن أشير إلى شيء هو :
أن النصارى لهم مصادرهم الخاصة التي يتلقون منها في جُمْلةٍ أو جملتين . ولا يصغون إلينا إلا نادرا .
وهذا ما يحدث الآن إنهم يقرءون عن الإسلام من هذه المصادر التي ترسم لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صورة لا يرضى بها أي مسلم . ففي أحسن كلامهم يتكلمون عن شخصية مقاتلة ذات مهارة قيادية فذّة ، ولكنهم يرفضون أن يقال عنه إنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
هذا ما يحدث اليوم .
ولا بد أن نكون هناك ونتكلم نحن عن نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما هو أهله . ولكن كيف ؟
السبل اليوم أيسر وأكثر ، فهناك الفضائيات يمكننا التواجد عليها أو البث إليهم من خلالها كما يفعلون هم ويبثون كفرهم إلينا . وهناك غرف البالتوك التي لم يلتفت إليها طلبة العلم الشرعي إلى اليوم ، وهناك الحديث في الملمات التي تشرئب لها الأعناق كحادث سبّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأحداث الشرق الأوسط الساخنة ، فعلينا أن نحلل الحدث من وجهة نظر إسلامية ونتكلم عن أنفسنا . كيف نحن وكيف ننظر للآخر .
ولكن الفرصة تضيع بأيدي بعض رجالنا .
يضيعها من يتكلمون عن محبة ( الآخر ) ، وهو حق لا أنازع فيه ، وصورة لا بد أن تتضح لعامة الناس من النصارى وغيرهم ، ولكن سياق الحديث الذي يُتَكلم فيه عن محبة الآخر هو ما أتحفظ عليه .
نحرص على مد الجسور مع الآخر وإظهار القواسم المشتركة التي يمكن التعايش من خلالها ، وننادي بالتعايش ، وهم عندهم مؤسسات تنصيرية ذات آلات إعلامية ونفوذ في الدوائر الرسمية وإمكانات اقتصادية ضخمة تعادل إمكانات عدد من الدول الإسلامية ، هذه المؤسسات تسوق حديثنا الذي نتكلم فيه عن التعايش والاعتراف بالنصرانية بأنها دين منزل من عند الله ، وغير ذلك مما يقال تسوقه لقومها على أنه اعتراف بما هم عليه ، وأن الإسلام يقرهم ، ولا يتنكر للنصرانية إلا حفنه من المتشددين هناك .
وزاد الطين بله حين تسربت أحاديث ( محبة الآخر ) المبتورة إلى أفواه بعض من المحسوبين على الصحوة الإسلامية .
وقف أحمد ديدات ـ رحمه الله رحمة واسعة وأعلى الله درجته ـ في الدنمارك هذه بعد إحدى مناظراته ـ وهي متداولة في السوق ـ يقول للمسلمين هناك حدثوهم بالإسلام دعوهم يطلعون على ما عندنا ، قولوا لهم : عندنا حل لمشاكلكم كلها ... قولوا لهم : لا نقر السفاح ولا زنى المحارم ، ولا المثلية الجنسية ، قولوا لهم ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، قولوا لهم كتابكم محرف ... . ودعوهم يقبلون أو يرفضون .
وهو والله السبيل .
إننا اليوم نحتاج إلى وضوح في الطرح مع الآخر . . . نكلمه عن أننا نحب له الخير ، ونكره له الكفر ، ونتكلم له بأنه ليس على شيء ، وإن مات على كفره فهي نار تلظى .. نار لا تبقي ولا تذر . وأن الأحبار والرهبان يكذبون عليه فيما يتعلق بحق نبينا وحق ديننا الإسلام .فليس هذا الذي يقرأ عنه هو محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي نعرفه ، ولا هو الإسلام الذي نقره .
وعلى أذكيائنا ومتحدثينا أن ينظروا في المآلات ويعلموا من المستفيد من كلامهم(/1)
الغرب... تاريخ طويل من الثقافة العنصرية
بسام البليبل
من كليرمونت الفرنسية إلى كوبنهاغن الدانماركية.
عرفت العلاقات بين الغرب والمسلمين صراعاً عنيفاً امتد قروناً طويلة، بدءاًَ بالحروب الصليبية وسقوط الأندلس، ومروراً بالاستعمار الحديث للعالم العربي والإسلامي، وأخيراً بزرع الكيان الصهيوني العنصري في ربوع أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، واستمراراً في إذكاء روح التعصب والعنصرية بالتهجم على قيم العالم العربي والإسلامي وحضارته ومقدساته التي زادت في السنوات الأخيرة ولا سيما بعد انتهاء الحرب الباردة لتأخذ شكلاً جديداً من التعصب المنهجي المنظم.
فمن مدينة كليرمونت الفرنسية وفي أواخر القرن الحادي عشر أطلق البابا أوربان الثاني الفرنسي الأصل حربه الصليبية المقدسة صائحاً في المجمع المحتشد لسماع خطابه:( روحوا في الدرب المؤدي إلى القبر المقدس، انتزعوا هذه الأرض من الشعب الكافر، امنحوها لأنفسكم) بأمر يسوع المسيح.
واليوم وفي مطلع القرن الواحد والعشرين وفي ظل النظام العالمي الجديد ـ الذي تبنى واحدية الثقافة وواحدية الحضارة ـ ومن كوبنهاغن الدانماركية، أطلقت صحيفة "يولاندز بوسطن" شرارة العداء ـ من جديد ـ للإسلام والمسلمين من خلال رسوم مسيئة للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام لا تندرج بأي حال من الأحوال إلا فيما يسمى بعنصرية الكراهية وعنصرية الفكر، لأن المقالات العدوانية والرسوم البذيئة التي تتهجم على قيم العالم العربي والإسلامي، وحضارته ومقدساته لا تعمل في فراغ منفصل عن الثقافة الفكرية والسياسية المتطرفة والدعاوة العدائية المنهجية المتعمدة، على خلفية نظرية صراع الحضارات التي تعتبر إحكام القبضة التي يمارسها اليهود المسيحيون على القدس سلطة ضرورية نحو النصر التام للمنظومة الفكرية الغربية، وإن فقدان الغرب للمدينة المقدسة حسب رأيهم مماثل فقدان المسلمين لمكة المكرمة، الأمر الذي يفسّر المناصرة المطلقة للكيان الإسرائيلي على حساب القضايا العربية والإسلامية.
فهل عنصرية المجتمع الغربي الحديث ظاهرة جديدة أم أنها كانت موجودة دائماً تختبئ وراء مجموعة متصلة من التبريرات والأفكار والنظريات المتمرسة على تبرير أشد أفعال الغرب بربرية باسم الله، أو باسم الحضارة المسيحية، أو باسم العالم الحر.
وكيف نقرأ هذه الصور المسيئة وأهدافها ودوافعها، وكيف نتقبل ما يروجه الغرب من أنها مظهر من مظاهر حريته الفكرية والصحافية والاجتماعية فيما يتناسى الغرب المتحرر أن حرية الرأي تفقد حصانتها عندما يكون من شأنها أن تجعل من هذا الرأي تحريضاً أكيداً على الكراهية والاستغلال والعدوان وامتهان الأديان.
وهل علينا أن نذكّر الصحف الغربية تلك أن مجرد إضفاء هدف أخلاقي أو ديني أو تحرري على ممارستها المتطرفة والمتعصبة والحاقدة لن يخفي الدوافع الحقيقية وراءها، ولن يجعل من هذه الممارسات أمراً مشروعاً يمكن قبوله بأي شكل من الأشكال، فالحرب التي تشنّها الأقلام المتعصبة إنما هي استمرار للحرب ولكن بوسائل مختلفة.
الحرية والانتظام العام:
إن مبدأ التناسب بين المسؤولية والحرية تمتد جذوره بعمق في الضمير الإنساني، ولكن تعددت طرائق توصيفه وتنظيمه من قبل القوانين الوضعية، مثلما أضفت عليه الشرائع السماوية الكثير من معايير الانضباط الدينية ومكارم الأخلاق المثالية.
فإذا ما أردنا مناقشة تلك الصور المسيئة للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام انطلاقاً من قوانين حرية الرأي والمعتقد العربية والإسلامية فإنها ولا شك تكون قد خرقت الكثير من الممنوعات والمحرمات، وما يعاقب عليه القانون ويأثّم عليه الشرع، الشرع الإسلامي الحنيف الذي جاء مكرماً للعقل والحرية ولكن ضمن دستور أخلاق القرآن الكريم ومثله العليا التي جمعت ما بين صيغة "افعلوا ما يبدو لكن حسناً " تبعاً لإلهام اللحظة، وصيغة الواجب الصارم بقوله تعالى "فاتقوا الله ما استطعتم" بهذه الكلمات يلفت القرآن الكريم أنظارنا إلى التكامل الوشيج بين واقعية الوسائل ومثالية القيمٍ، وبين الخضوع للقانون وحرية الفطرة.
(وقد يرى الغرب في ذلك تناقضاً لأن الضمير الذي يخاطبه القرآن ليس ذلك الضمير الغربي الفارغ والمتروك دون مرشد روحي غير حالته الفطرية، ودون زاجر ديني غير ذاتيته الخاصة)، لذلك فإن مناقشة هذه القضية من وجهة النظر الغربية وقيم الحرية الفكرية والمعتقدية التي يؤمن بها تجد لها ولاشك غطاء واسعاً ما بين قوانينه الوضعية، ومرونته الأخلاقية، وتحولاته المعتقدية حيث أطاح المفكر العقلاني الغربي بجانب كبير من مسيحيته الكاثوليكية التقليدية، بحيث أصبح الغربيون يضعون معاييرهم التي يعتقدون بها لأنفسهم، ويصنعون الحقيقة التي ينشدونها وفق أمزجتهم.(/1)
وإذا ما توافق كل فريق منا مع نفسه ومعتقداته، وقيمه، فإنهم يستمرون بالتمادي ونستمر بالغضب، يستمرون بالعدوان ونستمر بالشجب، ودون أن نتوقف وقفة المتأمل المدقق بالدافع الكامن وراء نشر هذه الصور، التي لم تكن نتاج حرية إعلامية قط، أو جهل معرفي بديننا الإسلامي على الإطلاق كما يعتقد البعض، لن نستطيع اتخاذ القرار الصائب والموقف الحازم البنّاء لمعالجة هذه المشكلة وما سيتأسس عليها لاحقاً من مواقف وتجاذبات ، مع الدعوة إلى تحويل هذا الغضب المنفعل إلى غضب عاقل يساهم في إذكاء روح التحفز والتسامي لأنه وعلى الدوام يكمن الصواب في الأسدّ لا في الأشد.
الأفكار هي التي تقود العالم
لذلك وتأسيساً على ما سبق أحذر من خطر الوقوع في فخ الانسياق وراء ما يدفعنا الغرب إلى المضي فيه من مناقشة لهذه الصور المسيئة للرسول الكريم على أنها مظهر من مظاهر الديمقراطية وحرية الرأي، لأن الغرب وانطلاقاً من معرفته المسبقة برفضنا لهذا الحوار المؤسس على الإساءة الوقحة للرسول الكريم وما سيترتب على هذه الإساءة من موقف إسلامي غاضب إنما يريد تأكيد مزاعمه التي تقول إن ما يحكم العلاقة فيما بيننا وبينهم إنما هو خلاف بين حضارة متقدمة تؤمن بثقافة الحوار، وأخرى بدائية تؤمن بثقافة العنف.
والحقيقة إن رفضنا لما يدعوننا إليه من حوار إنما هو رفض لما يتذرعون به من حرية رأي تخفي أيديولوجية تعصبية استبعادية لا تؤمن بالتعدد والتنوع الثقافي والحضاري ما خلا ثقافة وحضارة الغرب ـ والتي تجرد الآخر مسبقاً ـ من مقومات التكامل والتماثل التي يجب احترامها والاعتراف بها في شريك الحوار.
وإن رفضنا للحوار القائم على الإساءة للرسول الكريم هو رفض لما نراه ثقافة تحريضية تصادمية من خلال تصوير الآخر بصورة عدوانية قمعية تطرفية تكاد تكون دعوة للتحارب لا للتحاور.
وإن رفضنا للحوار الذي يحكمه منطق الاستعلاء والغطرسة والبذاءة الغربية هو انتصار لمنطقنا الذي تحكمه الكلمة الطيبة، والحكمة والموعظة الحسنة، وقوله عزّ من قائل: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم" أي إلى كلمة مستوية لا يختلف فيها القرآن والتوراة والانجيل.
لذلك فإنني أؤكد مرة ثانية على أن المضي في هذا الحوار ـ على أنه مسألة رأي ـ هو تبسيط وتسطيح لهذه القضية، وإقرار بعفوية هذه الصحيفة الدانماركية، ومن تبعها في نشر هذه الصور المسيئة، وإغفال للمحرك الأساسي الكامن وراء هذا الموضوع، الذي هو جزء لا يتجزأ من فكرة دينية ومشروع سياسي يريد القول بأن الإسلام لا يتطابق ولا يتماشى مع التحضر والديمقراطية، وأن العالم العربي والإسلامي في حالة حرب وعداء ضد القيم الغربية وأنها وحدها الأنظمة الغربية قادرة على تطوير العالم الثالث.
إن الغرب الذي يؤمن بأن الأفكار هي التي تقود العالم لا شك أنه كان منساقاً بهدي تراثه الثقافي العنصري، وما استجد لديه من أفكار في أواخر القرن العشرين بشّر بها أمثال الأمريكي (صاموئيل هنتنغتون) والفرنسي (لوران مراويك) والبريطاني الأصل (برنارد لويس) الذي كان من أول المبشرين بهذه النظرية في مقال كتبه عام 1990 ( جذور التعصب الإسلامي) داعياً إلى لبننة الشرق الأوسط مع تقوية الكيان الإسرائيلي.
ثم ما لبث أن انبرى أحد الغربيين إلى القول: بعد تاريخ 11 سبتمبر 2001 بدأت المعركة الأولى في حرب الحضارات، تماماً مثلما اعتبرت حادثة "بيرل هاربر" أول معركة في الحرب العالمية الثانية من منظور الولايات المتحدة الأمريكية، في حين رأى البعض الآخر إن الغرب الذي حقق انتصاره الأيديولوجي الساحق على الاتحاد السوفيتي ومنظومته الاشتراكية فيما يمكن اعتباره الحرب الثالثة أو ما كان يسمى بالحرب الباردة، إنما بدأ حربه الرابعة للتو مع الشرق الأوسط الذي أصبح بديلاً للشرق المنافس الذي كان يمثّله القطب السوفيتي.
نعم لقد اختفت المعارك العسكرية التقليدية فاتحة المجال للحرب غير المتوازنة، قوة عظمى وحيدة قائدة لكل الدول تحارب إرهاباً متواجداً باستمرار وعدواً ساهم بخلقه فكر غربي تعصبي مصلحي وآلة إعلامية غربية ساحقة لتوفير الدافع الموضوعي للشعوب الغربية والذرائع السائغة تجاه المؤسسات الأممية في هذه الحرب التي يصورونها على أنها استباقية ووقائية، إخفاءً لسيكولوجية عدوانية توسعية وتحقيقاً لمصالح اقتصادية، واستحواذاً على موارد ومقدرات ضرورية لاستمرار الحضارة الاستهلاكية الغربية.
الخيار الديمقراطي وبدائل القوة
فهل ما أشرنا إليه من فكر تعصبي غربي، ونزعة عدوانية، هو محض مبالغات توافق عقد الارتياب والمؤامرة التي يُتهم بها العرب، أم أنها حقائق يجب الوقوف عندها ودراستها وتحليلها بعناية واتخاذ المواقف والوسائل اللازمة لردعها؟
وهل على العالم العربي ـ وتحت تأثير الصدمة العاطفية من سفاهة الرأي التي نالت أعز رموزه الدينية ـ أن يعزف عن المطالبة بحرياته المصادرة، وخياره الديموقراطي؟(/2)
وهل على العالم العربي أن يكتفي بالشجب والاستنكار ومناشدة المؤسسات الأممية وضمائر الغربيين ورفع لواء التسامح والسلام لمواجهة مستجدات الألفية الثالثة، أم أن على العالم العربي أن يبحث عن الطرائق الناجعة في الخروج من أزمته الحادة التي يعيشها منذ قرنين من الزمن مع إصراره على عدم تبديل أساليبه التقليدية، وأيديولوجياته الرثة الغارقة في الروتين البيروقراطي، والارتجال السياسي، والانغلاق العقلي، والمفتقرة إلى الجدوى والفعالية والتجديد، واعتماد فلسفة حياة قادرة على تدبر أمر التوازنات الإقليمية والدولية، فضلاً عن الاحتياجات والمشاكل الداخلية..؟ أعتقد أننا بحاجة إلى أيديولوجية جديدة تفسح لنا المجال للانتقال من حالة السكون وسلبية الاعتزال إلى حالة الحركة وإيجابية المشاركة ومن اللامبالاة والفلسفة الهروبية إلى نزعة التسامي وفلسفة المواجهة، ولن يتحقق هذا دون اعتماد الخيار الديمقراطي الذي يعتقد الكثيرون منا أنه مشروع غربي بامتياز وكأنهم ينحازون إلى ما روّجه الغرب من واحدية الحضارة ومن أن الديمقراطية إنما هي مشروع غربي لا تناسب الشرق الراكد، وأن الهويات القلقة لا تملك إلا الانكفاء على نفسها، وأن أصحاب الدعاوة القومية لا يملكون إلا أن يتحصنوا وراء متاريسهم ـ متناسين أننا أصحاب حضارة عربية إسلامية ساهمت من خلال علاقة التكامل والتماثل مع الحضارات الأخرى بما وصل إليه الغرب الآن وأن قيم الحرية والديمقراطية ليست من نتاج أمة ما أو دولة ما، وإنما هي نتاج تطور تاريخي طويل، وتفاهم واحتكاك خصيب بين ثقافات وحضارات الأمم كافة لذلك وانطلاقاً من هذه الناحية ومن عالمية الكرامة وحقوق الإنسان تغدو الديمقراطية قابلة للتطبيق، بل يجب تطبيقها في جميع المجتمعات بصرف النظر عن أية تباينات أو تناقضات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، مع ما يمكن اعتباره شرطاً أساسياً لدخولنا النادي الديمقراطي العالمي ألا وهو الحفاظ على الهوية والخصائص الذاتية لكل أمة.
نعم لقد آن الأوان للنظم العربية اعتماد الخيار الديمقراطي وتوفير الحريات السياسية والفكرية والشخصية لشعوبها بما يكفل تحرير وتوجيه إمكانات العقل العربي في مواجهة العالم الحديث وغطرسته العدوانية، وإطلاق الطاقات المجتمعية من عقالها الذي أوثقته به النظم الإرادوية التعبوية وتلك ذات الواحدية السياسية ردحاً طويلاً من الزمن ظل فيها المواطن العربي ولا يزال يحلم في المشاركة في صناعة قراره السياسي الوطني فيما ترتب له مواطنيته وإنسانيته حق المشاركة في إدارة المجتمع العالمي شأنه شأن أي مواطن في العالم ولا سيما بعد أن أصبح العالم قرية كونية صغيرة.
والأمر الذي يجعل المطلب الديمقراطي مطلباً ملحّاً وحيوياً لدولنا العربية في ظل النظام العالمي الجديد الذي يسعى إلى إخضاع العالم لسلطة واحدة، وثقافة واحدة، ونظام اقتصادي واحد، وإلى قرارات أممية أقل ما يقال عن عدالتها أنها عدالة مصلحة الأقوى في ظل علاقات دولية في محصلتها ليست إلا علاقات قوى.
أقول: إن المطلب الديمقراطي صار ملحّاً انطلاقاً من كون الديمقراطية في هذه الحالة ما هي إلا دفاع عن الذات اعتماداً على أن الديمقراطية إنما هي وعي عميق بالانتماء وعامل تعزيز للحمة الوطنية والاجتماعية، مثلما هي عامل أساسي في إجراء التحول بدل الانسجام، والتكيف وخلق الحركة بدل السكون والاستكانة، وعندئذ تؤمّن الدول العربية لنفسها جبهة داخلية متينة تشكّل المعادل الموضوعي لتوازن القوى الذي تعذر بناؤه استراتيجياً في مواجهة التفوق الغربي، وهذا ما يجنّب الدول العربية أيضاً البدائل المحدودة بين نزعة التزمت القائمة على الاعتزال والانغلاق أو ربما الدخول في حرب ليس في مكنتنا مواجهتها وتحمّل أعبائها أو الالتجاء إلى نزعة المسايرة وما تطلبه من مساومات وتسويات وتنازلات لن تكون في محصلتها إلا على حساب النظم والشعوب.
ودون أن تتحقق هذه الديمقراطية، ديمقراطية الالتزام بالداخل الوطني لا ديمقراطية الارتهان للخارج الأجنبي، وديمقراطية التكامل مع الآخر لا ديمقراطية التماهي بالآخر مع الحفاظ على جوهر الديمقراطية بعيداً عن التشويه والمسخ. ودون أن تمنح النظم العربية شعوبها كامل حقوقها وحرياتها التي لا تقبل التجزئة لن يكون للموقف العربي واحتجاج الشارع العربي على المعايير الدولية المزدوجة والاستهانة الغربية بكل ما هو مقدس أية فعالية على الأرض، وأية مصداقية لدى هذا الغرب، ولكن عبر ما أتلمس من تحول ديمقراطي بسيط ظهرت ملامحه في السنوات الأخيرة لدى بعض الدول العربية ـ ببطء، وعلى استحياء ـ فإني آمل أن يتفهم الغرب ويعي هذا الغضب العارم الذي اجتاح الشارع العربي والإسلامي ذلك أن الشعوب العربية الصبورة والمكافحة، وبعد صمت طويل، يبدو أنها بدأت تأخذ المبادرة وآمل ألا تضيعها لتردد قول النابغة:(/3)
صبورٌ على ما يكره المرء كلّه سوى الظلمِ إني إن ظُلِمْتُ سأغضبُ
طريق الغضب
فليأخذ هذا الغضب العاقل طريقه ـ بعيداً عن العنف ـ متسلحاً بكافة الوسائل السلمية الكفيلة بإسماع صوته للمجتمعات الغربية ليأخذوا برسالة الخلاص في المسيحية الأولى التي تُكْبِر الندم والتوبة عما اجترحوه بحق الإسلام والمسلمين.
وليأخذ هذا الغضب العربي طريقه إلى مسامع الحكام العرب ـ وبهدي من نهج مَن سبقهم من أمثال عبد الملك بن مروان ـ ليقوموا بما يجب عليهم من تذكير للغرب بأن بلادنا العربية لن تبقى لهم على الدوام حديقة خلفية لمباهجهم، وأسواقاً تجارية لمنتجاتهم، ومستودعات لا تنضب لاحتياجاتهم، وموارد لا تنتهي لحضارتهم.
أما عبد الملك بن مروان فقد كتب له ملك الروم: "إنكم قد أحدثتم في طواميركم أي صحفكم شيئاً من ذكر نبيكم فاتركوه وإلا كتبنا في دنانيرنا ـ وكان العرب يتعاملون بالدنانير الرومانية ـ من ذكره ما تكرهون " شأن ما فعلته صحيفة يولاندز بوسطن اليوم" فعظم ذلك في صدر عبد الملك بن مروان، فأرسل إلى خالد بن يزيد بن معاوية، وكان أديباً عالماً، فقال: يا أبا هاشم إحدى بنات طبق! أي ألمّت بنا إحدى الدواهي ـ فقال خالد: أفرخَ الله روعك يا أمير المؤمنين، حرّم دنانيرهم، واضرب للناس سكاكاً بها ذكر الله تعالى وذكر رسول الله "ص" ولا تعفهم مما يكرهون، فضرب الدنانير سنة خمس وسبعين، وكان أول من ضربها في الإسلام.
وليأخذ هذا الغضب العربي طريقه إلى المحافل الدولية لممارسة الدبلوماسية الفاعلة بدلاً من سفرائنا غير الفاعلين الذين منعهم رئيس وزراء الدنمارك من مقابلته فسكتوا صاغرين بدلاً من أن يأخذوا بحزم أحد السفراء المسلمين الذي وفد على أحد الأباطرة ممن اعتادوا على أن يمثل الناس أمامهم ساجدين، فقال له وزيره: إن السفير القادم إلينا من السفراء الذين لا يسجدون إلا لله. فأجاب الإمبراطور: إذاً فلتبنوا بيني وبينه جداراً واجعلوا فيه باباً صغيراً لا يسمح بالدخول منه إلا لمن كان ساجداً.
ولشدّ ما كانت مفاجأة الإمبراطور عظيمة عندما رأى السفير يدخل من الباب الصغير ولكن ليس برأسه لأنه أعطى ظهره للباب ودخل راجعاً إلى الخلف.
أم أن سفراءنا العرب يفضلون أسلوب السفير الجاهلي ـ وأظنهم كذلك ـ الذي وفد إلى كسرى، وما أن مثل أمامه حتى ألقى إليه كسرى وسادة مطرّزة بصورته ليجلس عليها إكراماً له، ولشد ما كانت مفاجأة كسرى عظيمة ولكن هذه المرة بسبب آخر، عندما أبصر السفير الجاهلي وقد وضع الوسادة على رأسه وجلس على الأرض.
وعندما سأل كسرى ترجمانه عن السبب، أجاب السفير الجاهلي متعجلاً إنه أبصر صورة كسرى على الوسادة فرأى أن مكانها على رأسه لا تحته.
وتقول الرواية إن كسرى قد أعجب بعقله، ولكن أكبر الظن أن كسرى قد استهان به وبمن أرسله!!.
محام وأديب سوري ـ الرقة(/4)
الغرب... ثقافة الصّراع وإبادة الآخر
نايف ذوابه 13/2/1427
13/03/2006
حوار الآخر وحوار الأديان وحوار الحضارات وحقوق الإنسان، شعارات الغرب البرّاقة لم تعد تنطلي على أحد بعد أن خدعنا بها الغرب ردحاً من الزمن، وقد كان جمهرة المثقفين والناشطين السياسيين المتشدقين بها يتطلعون إلى الغرب كمثل أعلى وقدوة، فأصبحت عبئاً عليهم وقذاة في عيونهم.
لم تعد الخدعة والكذبة الكبرى تنطلي على أحد بعد أن امتُحنت هذه الشعارات على أرض بلادنا، فافتُضح كذب هذه الشعارات وانتهازيتها، وتبين أنها شعارات خاوية من معاني الشرف الذي يحاول أن يسبغه عليها موظفو وزارة الخارجية الأمريكية؛ فقد أصبحت دميمة ومملّة على الرغم من كل عمليات التجميل والماكياج الدائبة التي تجري لهذه المصطلحات من قبل موظفي دائرة العلاقات العامة الأمريكيين، الذين هبّوا لتحسين صورة وجه أمريكا في العالم الإسلامي، وقد أدركت (كارين هيوز) من خلال جولتها في الشرق الأوسط -وخاصة السعودية وتركيا- مدى صعوبة بل جسامة المهمة واستحالتها؛ فقد اتّسع الخرق على الراقع، ولا أظن أن البرامج التي خصصتها الجزيرة مؤخراً لاستضافة موظفي الخارجية الأمريكية بمجدية نفعاً لهم، حتى لو تكلموا باللغة العربية المطعمة أو المطهمة بالعامية المحلية؛ ليتألّفوا بها قلوب المسلمين، ومهما ألقَوْا من الابتسامات العريضة على شاشات الفضائيات، وخاطبوا جماهيرها الغفيرة مباشرة؛ فهؤلاء رأوا بأم أعينهم أفعال أمريكا المشينة في أبو غريب وأقفاص غوانتانامو وأفغانستان، وأمثالنا العربية أفصح وأبلغ من كل هرطقات الساسة الأمريكان؛ فقد قالت العرب: ليس راءٍ كمن سمع!! وصور سجن أبي غريب لن تمّحي من ذاكرة المسلمين، وستظل تهتف بهم تنشد منهم الثأر لحرماتهم التي انتُهكت، وضجّت من دناءتها جدران المكان!!
لم تعد تنطلي محاولات التزوير وسوق الأضاليل على الشعوب، بما فيها الشعوب الغربية نفسها؛ لأنها ترى وتسمع حكوماتها تتحدث بلسانين، وتكيل بمكيالين، وتقيس بألف مقياس ومقياس حسب الحالة، ووفق الظرف، والمدّعِي والمدّعَى عليه .... وخلاصة القول: الشعوب لا تنظر إلى دموع التماسيح التي تذرفها أمريكا على حقوق الإنسان في بلادنا بل تنظر إلى ما تفعله يداها!!
ثقافة الصراع وإبادة الآخر جزء لا يتجزأ من ثقافة الغرب؛ أليست الثقافة الغربية وريثة الحضارتين اليونانية والرومانية، ثقافة الصراع بين الآلهة، ثم الصراع بين الدين والدولة، والصراع بين الإنسان والطبيعة، والصراع بين الإنسان والآلة، ثم صراع الحضارات عند هنتنغتون؟!
فكرة الصراع في الغرب جزء من بنيتهم الثقافية قديماً وحديثاً. صراع ينتهي بإبادة الآخر؛ فهناك صراع بين الآلهة فوق جبال الأوليمب، وصراع في الإلياذة والأوديسة بين أثينا وإسبارطة، صراع الدولة الرومانية مع الفرس، صراع المسيحية مع الإسلام، وزحف هذا الصراع إلى أمريكا في عملية الهنود الحمر.
"والسلوك اليهودي في فلسطين ليس مرده إلى التلمود، ولكنه الاستعمار الاستيطاني الذي يشبه الاستعمار الأبيض للقارة الأمريكية وجنوب إفريقية، حيث أُبيد السكان الأصليون ... فتقديس الصهاينة للعنف إفراز طبيعي للحضارة الغربية العنصرية الاستعمارية التي كانوا يتحركون في إطارها، والصهيونية لم تتحول إلى حقيقة إلا عبر التشكيل الاستعماري الغربي، وهي تدور في إطاره، وتدرك العالم من خلال خريطته المعرفية، وليس من خلال التوراة أو التلمود أو البروتوكولات".
هذا "الصراع الأيدلوجي الذي أسس له دارون والصراع الاجتماعي عند سبنسر وصراع القوميات عند نيتشة".
شعارات الديموقراطية وحقوق الإنسان والحوار مع الآخر شعارات مضروبة لا يشتريها أحد، يُسمح بها طالما كانت الأمور تحت السيطرة لحساب التفوق الأبيض. أما إذا اهتز التفوق الأبيض أو تحرّكت ضدّه نذر الخطر من بعيد على مرمى قارات ومرمى قرون فإن الإبادة للآخر تتكشف لتكون هي الأساس. إبادة الآخر في الأندلس، إبادة الآخر المسلم في أوروبا الشرقية والبلقان، وآسيا الصغرى والقوقاز، وإبادة الآخر في الجزائر وفلسطين والعراق وفيتنام... إبادة الآخر في أمريكا نفسها التي بدأت كمشروع استيلاء ونهب لقارة بأكملها من أهلها الأصليين، ولم يكن هناك بديل للبندقية، وكان العنف هو الوسيلة لتحقيق الهدف في أقصر وقت ممكن وبأقل جهد!!
يقول نعوم تشو مسكي في (تواريخ الانشقاق)، وهي حوارات أُجريت معه وطُبعت في كتاب ترجمه محمد نجار يقول: "الولايات المتحدة وُجدت وأُسست على دمار السكان الأصليين للبلاد. فقبل أن يكتشف كولومبس أمريكا، فقد قُدّر السكان الذين كانوا يعيشون شمال (ريوجراند) من (12-15) مليون نسمة، إلا أنهم تقلصوا مع بداية هذا القرن –يعني القرن العشرين- إلى مائتي ألف نسمه فقط".(/1)
وكتب جورج واشنطن في إحدى رسائله إلى المفوض للشؤون الهندية يقول: "إن طرد الهنود من أوطانهم بقوة السلاح لا يختلف عن طرد الوحوش المفترسة من غاباتها"!!
وسن الكونغرس عام 1830م قانون ترحيل الهنود بالقوة من شرق المسيسبي إلى غربه، فصار من حق كل مستوطن أن يطرد الهندي من بيته وأرضه، وأن يقتله إذا لم يستجب لصوت العقل"!!
وقد استخدم الأمريكيون لإبادة سكان البلاد الأصليين -بالإضافة إلى القتل وهدم المدن والقرى- وسائل أكثر وحشية وحقداً؛ فقد قاموا بنشر وباء الجدري بين قبائل الهنود بوساطة التلويث المتعمّد بجراثيم هذا الوباء للأغطية التي أُرسلت لهم، كما اعترف بذلك (وليم براد فور) حاكم ولاية بليموت الذي يرى أن نشر الجدري بين الهنود يدخل السرور والبهجة على قلب الله!!
انظر إلى بهتانهم كيف يفترون على الله؛ إذ يصوّرونه ظالماً، وفي أبشع صور الظلم – قاتلهم الله، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- وهو القائل في الحديث القدسي على لسان رسوله الكريم: يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً!!
وفي أواخر القرن التاسع عشر اجتاحت القوات الأمريكية الفلبين، وارتكبت أبشع الفظائع هناك. يقول أحد أعضاء الكونغرس ضمن تقرير له على إثر زيارة قام بها إلى الفلبين: "إن الجنود الأمريكيين قتلوا كل رجل وامرأة، وكل سجين وأسير، وكل مشتبه به ابتداءً من سن العاشرة، وهم (أي الجنود الأمريكيون) يعتقدون أن الفلبيني ليس أفضل كثيراً من كلبه، وخصوصاً أن الأوامر الصادرة لهم من قائدهم فرانكين قالت لهم: " لا أريد أسرى، ولا أريد سجلات مكتوبة". وفي ألمانيا وبعد انهيار قوات الرايخ أسفر القصف الجوي العشوائي الأمريكي على المدنيين عن خمسمائة وسبعين ألف قتيل، وثمانمائة ألف جريح.
وفي هيروشيما باليابان قُتل عشرات الآلاف من المدنيين بالقنبلة النووية، وبعد ثلاثة أيام من ذلك الحدث أُلقيت على ناجازاكي قنبلة أخرى مماثلة، ولم يكن لفظاعة قنبلة هيروشيما، وما نجم عنها من أهوال وفواجع، لم يكن لذلك رادع من ضمير عن تكرار ذلك العمل الرهيب!! مما يعني الإصرار على القتل والتدمير، وبدم بارد كما يُقال، علماً بأن إمبراطور اليابان كان قد اقترح قبل ذلك أي قبل إلقاء القنابل الدخول في مفاوضات الاستسلام.
وبعد تسأل أمريكا بوقاحة: لماذا يكرهها العالم؟!
ويستبدّ بك العجب من صلف هؤلاء ووحشيتهم التي بلغت حد الهوس والهذيان والجنون...!!
وبالمقابل إزاء هذا الصلف وهذه الوحشية –أيضاً- تعولمت مشاعر العداء والكراهية لأمريكا، إلى الحد الذي أصبح يُشار به إلى الأمريكي بـ"الكريه"!
ومازال الأمريكان يستغرقون في السؤال الذي لا يحتاج إلى جواب...(/2)
الغربة
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الأخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وأهلاً بكم ومرحباً مجدداً في حلقة جديدة من برنامجكم المتجدد (الحياة كلمة) كلمتنا لهذا المساء هي عن الغربة وأحب أن أنوه أيضاً أن كلمتنا للجمعة القادمة ستكون حول نفس الموضوع إيماناً بأن الموضوع ذو أبعاد كثيرة وله مجالات متشعبة ربما أو بالتأكيد لن نفي بها في حلقة واحدة، فسيكون ذلك على مدى حلقتين بمشيئة الله عز وجل، أحب أن أذكر بعد أن أرحب بفضيلة الدكتور سلمان بن فهد العودة ضيفنا الدائم حياك الله يا شيخ!
الشيخ سلمان:
مرحباً بكم جميعاً.
مقدم البرنامج:
أحب أن أذكر بأرقام الهواتف من داخل المملكة العربية السعودية أرقامنا وهي كالمعتاد 014418855، ومن خارج المملكة العربية السعودية الرقم الدولي المعتاد 0096614410680، فضيلة الدكتور ربما وهذا ما لمسته من خلال الموقع الإلكتروني ما يمكن أن نتكلم عنه غربة دون أن يتكلم المشاركون أو الناس وننتظر أيضاً كل من يستمع أو يشاهد أبعاد معاني الغربة المعنوية هنالك غربة للنفس هنالك غربة للفكر، هناك غربة للهاجس، هناك غربة أحياناً وأنت بين أهلك ووطنك، هذه المعاني المعنوية لو ألقينا الضوء عليها.
الشيخ سلمان:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أولاً: الغربة هي دائماً تعني وجود شيء يقل نظيره فالشيء النادر يسمى غريباً، ولهذا قد تكون الغربة معنى محموداً وقد تكون بضد ذلك وأحياناً الناس إذا صدر شيء غير مألوف من شخص أو من جهة قالوا هذا أمر غريب لأنه ليس من معدنه، وكذلك العرب تقول: الشيء من معدنه لا يستغرب.
إذن: الغرب قد تكون غربة أشخاص قد تكون غربة أوطان، قد تكون غربة لغة، قد تكون غربة أخلاق، قد تكون غربة نفس، قد تكون غربة أفعال وأحوال، الغربة غالباً ما تكون متصلة في كثير من الأحيان بالندم لأن الإنسان لما يكون لوحده يستوحش حتى لو كان على صواب, ولهذا يبدأ يراجع نفسه ويسأل نفسه هل أصاب أم أخطأ
وَاِرَحمَتا لِلغَريبِ في البَلَدِ ال *** نازِحِ ماذا بِنَفسِهِ صَنَعا
فارَقَ أَحبابَهُ فَما اِنتَفَعوا *** بِالعَيشِ مِن بَعدِهِ وَلا اِنتَفَعا
والغربة قد تكون مقرونة بالحنين والشوق والرغبة للمألوف للنفس والأهل والزوج والولد والبلاد التي عاشها الإنسان:
أيها الركب الميمم أرضي *** أقر من بعضي السلام لبعض
إن جسمي كما علمت بأرض *** وفؤادي ومالكيه بأرض
قد قضى الله بالفراق علينا *** فعسى باجتماعنا سوف يقضى
الغربة أحياناً قد تكون مقرونة بالذل والاضطهاد والشعور بالانكسار مثلما يقول الشاعر:
وما كان غضّ الطرف منا سجيّة *** ولكننا في مذحج غربان
فغض الطرف عند العرب عادة ما يطلق على معنى تمرير بعض الأشياء وعدم الوقوف عندها وعدم رفع الرأس وعدم اتخاذ المواقف القوية والصلبة كما قال:
فَغُضَّ الطَرفَ إِنَّكَ مِن نُمَيرٍ *** فَلا كَعباً بَلَغتَ وَلا كِلابا
فهنا هو يقول:
وما كان غضّ الطرف منا سجيّة ليس من عادتنا وطبعنا أننا نقبل الضيم ولكننا نقبله لأننا غرباء.
وأيضاً الغربة قد تكون من معانيها السجن فالسجين غريب حتى لو كان في أهله وبلده لأنه يشعر بالعزلة عن الحياة وعن العمل وعن العلاقات المختلفة ويشعر بالانفراد ولهذا من أشد معاني الغربة السجن وأظن أبو فراس الذي كان يقول:
أَقولُ وَقَد ناحَت بِقُربي حَمامَةٌ *** أَيا جارَتا هَل تَشعُرينَ بِحالي
أَيا جارَتا ما أَنصَفَ الدَهرُ بَينَنا *** تَعالَي أُقاسِمكِ الهُمومَ تَعالَي
إذن: الغربة ترتبط بعدد من المعاني النفسية قد تكون الغربة غربة الوطن بفراق الإنسان لبلده، وقد تكون غربة الدين كما في حالات كثيرة وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم « إِنَّ الإِسْلاَمَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ».
قد تكون الغربة غربة اللغة أيضاً مثل كلام المتنبي:
مَلاعِبُ جِنَّةٍ لَو سارَ فيها *** سُلَيمانٌ لَسارَ بِتَرجُمانِ
وَلَكِنَّ الفَتى العَرَبِيَّ فيها *** غَريبُ الوَجهِ وَاليَدِ وَاللِسانِ
وهذا مع الأسف موجود الآن يعني حتى في بلاد العرب والمسلمين حينما تنتقل من بلد إلى بلد مهاجراً أو سائحاً أو زائراً تجد فوارق اللغة تكبر وتنمو حتى إن كل شعب لا يكاد يبين ولا يكاد يفهم بوضوح وسلاسة لغة الشعوب الأخرى وهذه من الفواصل التي تكبر بين الشعوب الإسلامية بدلاً من أن تكون اللغة العربية أو على الأقل قدر من الاتصال باللغة العربية يساعد على سرعة التفاهم بين هذه الشعوب بعضها وبعض.(/1)
أيضاً هناك غربة النفس، غربة الروح فبعض الناس ليس لديه القدرة على التكيف فقد يكون غريب وهو في بيته مع زوجته، غريب مع أطفاله، غريب مع أسرته، مع زملائه وهذا يرجع إلى حالة نفسية من الشعور المفرط بالاغتراب وعدم القدرة على فهم الآخرين وعدم القدرة على تعاطي ألوان من السعادة والرضا والبوح والأنس معهم وهي قضية وإن كانت بسيطة وعفوية إلا أنها بحاجة إلى يقظة وبحاجة إلى تدريب، فكثير من الناس لا يجدون متعة في الحياة يبحثون عنها بعيداً وهي على مقربة منهم والسبب هو عدم قدرتهم على التكيف مع الآخرين عدم قدرتهم على اقتباس الحكمة والأعجوبة، العرب كانوا يسمون الدهر (أبا العجائب أو أبا العجب) وحتى واحد من كبار السن كان يقول:
مضى العمر ولم يبق لي نهمة في لذة لا في أكل ولا في شرب ولا في نساء ولا في شيء، قالوا: فماذا بقي لك؟
قال: بقي منادمة الرجال، ومحادثة الرجال واقتباس طرائف الحكمة منهم.
فهذه من اللذات التي تبقى حتى بعد الشيخوخة والهرم وأذكر أن أحد الشعراء يقول في معنى بيت عن أنه يأسى لشاب يتوجع من الدهر ويتطلع سرعة زواله ويقول له كيف إذا كبرت وأصبحت شيخاً؟!
فهكذا نقول إذا كان الشباب –أحياناً- غير قادرين على التكيف مع مجتمعهم ومع من حولهم، مع من هو أكبر منهم سناً أو مع الغريب أو مع الجديد فكيف إذا كبروا؟ سيكونون أبعد عن ذلك فهذا من معاني الغربة.
من معاني الغربة التي قفزت في ذهني البارحة كان معي أحد الشباب يدير معي بعض هذه الموضوعات والأحاديث غربة الإنسان لما يكون يحلم بأحلام أشبه بأحلام اليقظة منها بالواقع ويعتبر أن هذه أهداف يسعى إليها فيكون عنده أهداف بعيدة وغير واقعية وهو يحاولها دون أن يملك إمكانية أو آلة، فيترتب على ذلك شعوره المفرط بالغربة عن الزمان وعن الواقع ويبدأ ينحي باللائمة على الناس وعلى الدهر وعلى الزمن ويسب الدهر والله صبحانه وتعالى يقول: «يُؤْذِينِى ابْنُ آدَمَ ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ ، بِيَدِى الأَمْرُ ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ » .
وكما كان الشافعي يقول:
نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا *** وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا
فتجد هذا الشاب يعيب الناس ويعيب الزمان ويكثر من ذكر الفتنة وغير ذلك وقد تكون الفتنة منه لأنه وضع نفسه في غير محلها، وهنا أذكر الطرفة التي يروى أن مجموعة كان منهم أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف فمرت بهم غنم من بعيد فقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: اللهم إن كان سبق في علمك أني ألي الخلافة وأن أكون خليفة فأسقنا من لبنها.
فلما اقتربوا منها وجدوها تيوساً كلها، ففي ذلك إشارة إلى أن من حكمة الله أن الإنسان يضع نفسه في موضعها، فمن الغربة وأيضاً كان بعض السلف يقول:
إني أرثي لاثنين، أرثي لإنسان يطلب العلم وليس معه آلته يعني إنسان ينتقل من حلقة إلى حلقة ومن درس إلى درس ومن مكان إلى مكان وهو لا يملك الإمكانية لا يملك العقل والتفكير والقدرة والاستيعاب والحفظ والفهم، وأرثي كذلك لإنسان عنده الإمكانية ومع ذلك هو معرض، وهذا من عدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فالأول الذي كان يطلب العلم وليس أهلاً له كان أخلق به أن يذهب إلى زرع أو ضرع أو تجارة أو عمل ينتفع به والثاني أيضاً الذي يملك آلة طلب العلم ولكنه معرض كان خليقاً بمن يرشده إلى استثمار هذه الطاقة الموجودة عنده فيما يناسبها.
مقدم البرنامج:
طيب فضيلة الدكتور تكلمنا إذاً عن معاني معنوية للغربة وكان حري بنا أن نبدأ الحلقتين بها، قبل أن نتكلم عن المعنى الحسي وما عرف اصطلاحاً فيه في غربة الناس وعلى الأقليات المسلمة والعربية المهاجرة إلى خارج الدول الإسلامية والعربية يجب أيضاً أعتقد أن نقف مع الحديث الذي ذكرته قبل قليل وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن الإسلام وأن بدايته غربة ونهايته غربه ثم أخبر (فطوبى للغرباء) ما المقصود بالغرباء هنا؟
الشيخ سلمان:
والله إن هذا خليقاً أن يوقف عنده أولاً لأنه حديث صحيح رواه مسلم وغيره حديث ابن عمر وأبي هريرة وجماعة من الصحابة - « بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ». وفي بعض الألفاظ أنهم قالوا من الغرباء يا رسول الله؟
قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس ويصلحون ما أفسد الناس من سنتي أو النزاع من القبائل. إلى غير ذلك من الألفاظ الواردة في تعريف الغرباء فهذا الحديث يجب أن لا يفهم منه معنى سلبي بمعنى أن الناس في بعض الأحوال ينكفئون على أنفسهم وينقمعون عن العمل وعن الحراك والعراك وبذل الجهد ويرضون لأنفسهم بأن يرددوا بعض الألفاظ وبعض الأحاديث التي لم يفهموها على وجهها وكأنهم يعزرون لأنفسهم فالنبي صلى الله عليه وسلم مثلاً يقول:(/2)
(بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا) لا شك أن بداية الإسلام كانت على يده صلى الله عليه وسلم في بمكة الغربة الأولى ولهذا بعضهم كانوا يقولون: بدأ الإسلام برجل وسينتهي الإسلام برجل الرجل الأول صلى الله عليه وسلم الذي كان هو النبي صلى الله عليه وسلم وبدأ الإسلام به غريباً.
هل استسلم لهذه الغربة؟ هل أحاط نفسه بمثل هذا الإحساس وهذا التعاظم؟ أم أنه نزل صلى الله عليه وسلم للميدان بكل آلياته وإمكانياته وقدراته فكان النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً يأتي إلى الكعبة وفيها الأصنام وكان يدعو قريشاً وكان يغشاهم في أسواقهم في عكاظ ومجنة وبني مجاز ويجلس معهم ويستدفئ بالنار التي عندهم ويأكل من طعامهم ويحادثهم ثم يعرض عليهم أمر الدعوة إلى الله صبحانه وتعالى ويردون عليه فيتحمل هذا الرد بصبر وأريحيه ولا ينعكس هذا على الإحساس النفسي أنا أعتقد أن هذا معنى يجب أن نلتقطه جيداً.
النبي صلى الله عليه وسلم عانى ما عانى وهو المؤيد بالوحي من السماء وينزل عليه جبريل وكان ربه سبحانه يقول له:
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ*وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ*الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ*وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يشعر شعوراً مفرطاً بالغربة يجعله يستوحش من الناس أو لا يتعايش مع الناس، في الجاهلية كان هناك من يسمون بالحنفاء وهم كثير ممن كانوا يعبدون الله قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وكانوا ينتقضون ما عليه أهل الجاهلية من الوثنية والشرك والانحرافات الأخلاقية وشرب الخمور وغيرها ومنهم يعني كثير ممن كانوا يقولون الشعر ومن وغيرهم وكانوا يتكلمون في قضايا الإلهيات ولكنهم لم يحدثوا إصلاح أو تغييراً في المجتمع لم يكن عندهم قوة الروح وقوة النفس فاستسلموا لهذه الأحاديث والمشاعر السلبية وانكفئوا عن الناس وابتعدوا عنهم ولم يحدثوا أثراً حميداً في مجتمعاتهم، وهكذا يجب أن نقتبس ونلتمس هذا الدرس من الرسول صلى الله عليه وسلم بمعنى أن من أكبر الخطأ أن تجد من شباب الأمة ومن الصالحين من دائماً يكثر من (الله المستعان) و (لا حول ولا قوة إلا بالله) وفسد الزمان، وتغير الزمان.
وما الزمان إلا الإنسان وكان على رضي الله عنه يقول:
الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم، ونحن جزء من الزمان والزمن إنما هو وعاء ويستوعب ما يفعله الناس وما يقعون فيه، وحتى ما يقع في الزمان من متغيرات سواء كانت متغيرات تقنية أو متغيرات اجتماعية أو متغيرات سياسية ليست شر محض بل هي بحسب ما يمكن للإنسان أن يوظفه، يمكن أن توظف في أشياء إيجابية توظف في إرشاد، في بناء، في تغيير بعض المفاهيم الراسخة التي كنا نعتقد أن الواقع لا يصلح إلا بها فمن طبع الناس إذا نشئوا على شيء معين الآباء مثلاً أو الساسة أو المعلمون المربيون إذا نشئوا وكبروا على نمط معين يظنون أن تغير هذا النمط يعني فساد الحياة فيريد الله صبحانه وتعالى أن يلقنهم الحياة يمكن أن تصلح بآلاف الطرق، وليس بطريق واحد ومعتاد الناس عليه طريق وربما يصعب نقلهم عنه بشكل مفاجئ، ولكن يمكن أن يتغير الناس وتصبح أمور جديدة ويتكيفون معها بشكل جيد وصحيح إذاً حديث « بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ ». هو حديث صحيح ويجب أن نقول:
حتى لو فرض أن إنساناً ما أو مجموعة من الناس أو حتى الأمة كلها استشعرت الغربة يجب ألا يكون استشعاراً سلبياً يعني الانكفاء على الذات، والبعد عن معايشة الآخرين، والتكيف معهم، والانتفاع بهم ونفعهم مع أنواع الحكم بأن مكان ما أو زمان ما في غربة.
هذا أمر يتفاوت يعني في العصور الأولى كان الناس يتكلمون عن مثل هذه المعاني ونحن نجد -مثلاً- المتنبي وهو يعني في القرون المتقدمة ومع ذلك لما تقرأ شعره:
فَلَمّا صارَ وُدُّ الناسِ خِبّاً *** جَزَيتُ عَلى اِبتِسامٍ بِاِبتِسامِ
وَصِرتُ أَشُكُّ فيمَن أَصطَفيهِ *** لِعِلمي أَنَّهُ بَعضُ الأَنامِ
فهو ينظر إلى الناس نظرة ريبة وهكذا في أزمنة متقدمة أئمة العلم والحديث والتفسير كان منهم من يتشكى زمانه وأذكر أيضاً الخطابي له كتاب في الخلطة والغربة وتكلم فيه بكلام كثير وذكر فيه القصص وأذكر من ضمن القصص أنه كان يقول:
أقلي علي اللوم يا أم مالك *** وذمي زماناً ساد فيه الفلافس
وساع إلى السلطان ليس بناصح *** ومحترس من مثله وهو حارس
فمن الوقت القديم والناس يذمون السلطان، ويذمون الزمان، ويذمون الأحوال ويقولون هذا آخر الزمان وبعضهم كانوا يتوقعون أن الساعة قد قربت وأذكر السيوطي وأيضاً العراقي مثلاً في القرن التاسع تكلموا في قضية آخر الزمان والمهدي الذي يأتي آخر الزمان وكان العراقي يقول:
والظن أن التاسع المهدي أي: أن المجددين انتهوا فالتاسع هو المهدي والظن أن التاسع المهدي من ولد النبي أو المسيح المهتدي فالأمر أقرب ما يكون
وذو الحجا متأخر ويسود غير مسود(/3)
ونحن الآن في القرن الرابع عشر دخلنا القرن الخامس عشر وتبين أن هذه كانت ظنون وكانت توقعات أناس وإن كانوا أخيار أو فضلاء إلا أنهم شطحوا في مثل هذه الأمور.
مقدم البرنامج:
إذن: فهم هذا الحديث أو فهمه بوضع نسبي والمعتبر في ذلك هو تشكل هذا المفهوم كمخرجات على الواقع.
الشيخ سلمان:
نعم، وقد يكون في الزمن الواحد، الآن نحن في هذا العصر نجد للمسلمين حضوراً وتمكناً في بلاد غير إسلامية وفي بلاد إسلامية وتجد أن المساجد تزدحم بالمصلين في معظم بلاد الإسلام وتجد منارات الإسلام ترتفع شامخة في العواصم في تركيا:
وكم بالأستانة من معالم *** أثارت في حناياي الشجونا
معانى ليس تعدلها معانى *** تفجر في فؤادي هدى مبينا
تزيد الكافرين أسى وغيظاً *** إذا نظروا وترضي المؤمنينا
ومن ينظر مآذنها يجدها *** رماحاً في صدور الكافرينا
فنحن نجد أن مظاهر الحضور الإسلامي مظاهر كبيرة جداً، ومظاهر الغربة موجودة أيضاً كلها تسير جنباً إلى جنب ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: « إِنَّ الإِسْلاَمَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ».
هو الذي قال صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا ». وهو الذي قال صلى الله عليه وسلم : « لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِى أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ » .
وهو الذي قال صلى الله عليه وسلم : « مَثَلُ أُمَّتِى مَثَلُ الْمَطَرِ لاَ يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ ».
مقدم البرنامج:
سأفتح معك فضيلة الدكتور يمكن الصفحات الحسية لمعنى الغربة وما يعانيه حقيقة كثير من الأقليات الإسلامية والعربية في بلد المهجر، وبلد المهجر هذا أياً كان سواء كان بلداً غربياً أم بلداً شرقياً في أقاصي الغرب أم في أقاصي الشرق المهم أنه خارج نطاق بلد المواطن أو الإنسان المسلم العربي الأم، ربما أكثر قضية يعاني منها يمكن من خلال كثير من الحلقات والاتصال من الخارج أنها كيفية الاندماج في المجتمع الغربي بالذات أو المجتمع غير المسلم أو غير العربي؟
هو معلوم أن الإشكالية مهمة جداً وهو حسب ذكرهم أوفى بالتزامته الدينية والتربوية والأخلاقية هذا يعني أنه في عزلة من الاندماج الحضاري مع مجتمعه، وإن أوفى بالتزاماته الحضارية تجاه مجتمعه الذي هو فيه فإنه قد يفقد كثيراً من مكتنزاته التربوية والقيمية.
الشيخ سلمان:
لاشك أنها مشكلة كبيرة أولاً: هذه متصلة ومرتبطة بالعالم الإسلامي فالمجموعات ولا أريد أن اسميها بالأقليات أو بالجاليات المجموعات الإسلامية في أمريكا وأوربا وغيرها من بلاد العالم هي في الغالب قد تكون مجموعات أصلية من أهل البلد وهذا هو الأكثر الأحاديث عنهم المجموعات التي هاجرت من بلاد الإسلام إلى بلاد الغرب سواء هاجرت لمقاصد اقتصادية أو علمية أو مخاوف سياسية أو غير ذلك هذا متصل بالعالم الإسلامي.
تأتي مثلاً إلى بلاد المغرب العربي مصر، الشام فتجد أن الكثير يحلمون حلم بالهجرة إلى أوربا ويظنون أن الهجرة إلى أوربا تعني الهجرة إلى بلد يدر سمناً وعسلاً وخيراً وبراً وعطاءً، فيهاجر الكثير إلى هنالك ثم لا يجدون العمل قد يجدون الحكومات التي تعطيهم مقابل البطالة حتى يجدوا عملاً ولكن الكثير منهم يكونون في الملاجئ الكثير منهم لا يجدون عملاً فيتحولون إلى مخدرات، يتحولون إلى تزوير الهويات، يتحولون إلى عمليات الزواج المبطن من أجل الحصول على جنسية أو على إقامة الكثير منهم ينتهي بهم المطاف إلى السجون ومع الأسف أكثر نزلاء السجون في تلك المناطق هم من المسلمين.
هذه قضية مؤلمة ولكني أنا لم أقلها إلا بعدما تأكدت أنها قضية صحيحة وهذا لا يعني أن المسلمين دائماً هم في هذا الموقع لا، هناك إنجازات كبيرة لمسلمين لهم تفوق وتقدم ورسوخ وهناك مراكز إسلامية وهناك جهود حثيثة ولكن أيضاً هناك الكثيرون ممن يهيمون على وجوههم ويحلمون بالهجرة إلى بلاد أوربا والغرب ويعتقدون أنها أفضل بكثير من بلادهم من حيث تيسيرات العمل ووجود الفرص الوظيفية فإذا ذهبوا وجدوا أن الأمور ليست على ما يرام ووجدوا أنهم أمام طرق كثير جداً.
إذن: هذا متصل بالبلاد العربية والإسلامية من حيث أهمية توفير فرص العيش الكريم لشعوبها.(/4)
كذلك متصل من الناحية السياسية فنحن نعرف مثلاً أن الملايين من العراقيين كانوا ولا يزال الكثير منهم لاجئين ومهاجرين في كل مكان في العالم مع أنه بلد نفطي وكذلك في بلاد أخرى بلاد مغاربية في فلسطين مثلاً في لبنان في غيرها، إذاً هناك ظروف وأوضاع سواءً كانت سياسية أو اجتماعية أو أمنية أو غير ذلك تلجئ الكثير، إذاً من الصعب أن ندرس قضية الجاليات أو المجموعات الإسلامية في أوربا دون أن نتكلم عن العالم الإسلامي، وحاجة العالم الإسلامي إلى نهضة أو يقظة تتبناها الحكومات ويتبناها رجال الأعمال ويتبناها المخلصون لأوطانهم وبلادهم تجعل هذه البلاد قادرة على الاستيعاب، فهناك بلاد أوربية ليس لديها نفط وليس لديها إمكانيات ولكن عندها أنظمة جيدة وتجد أنها تؤوي هؤلاء المهاجرين وتضمن لهم الإقامة وتضمن لهم السكن وتضمن لهم المال حتى يتوفر لهم عمل ينبغي أن تكون البلاد الإسلامية محاضن تحتوي على أصحابها بدلاً من أن تكون بلاداً طاردة تطرد شبابها إلى أماكن شتى في بلاد أوربا وغيرها.
فهذه قضية من القضايا الأساسية والمهمة، طبعاً الجانب الثاني كون العالم الإسلامي الآن يعيش فترة ضعف وهذا أقل ما يمكن أن يوصف به العالم الإسلامي إذا أردنا أن نتكلم باتزان نقول:
إن النظام العربي والإسلامي يعيش حالة ضعف شديد جداً وهذا الضعف انعكس على نظرة العالم للعرب وللمسلمين، وبالتالي فالشعوب والشباب والناس الذين ينتسبون إلى هذه البلاد ينظر إليهم هذه النظرة، نظرة إلى مغلوب، نظرة إلى مهزوم، نظرة إلى ضعيف، وبعكس ما ينظر إلى الناس الذين ينتمون إلى دول وإلى حكومات لها قوة ولها رسوخ فينظر إليهم نظرة إكبار ونظرة تعظيم، ولذلك كلما قلبت الموضوع وجدت أن المواجع الأكثر ضراوة وشدة هي فيما يتعلق بأوضاع العالم الإسلامي وأهمية السعي إلى وجود قدر من الجهود الإصلاحية نحن لا نتكلم الآن عن قضية –مثلاً- ما كانوا يتحدثون عنه في مسألة المواجهة، قضية إصلاح داخلي يضمن أن تظل هذه الشعوب تجد في بلادها ما يغنيها بحيث لا يسافر إلى بلاد الغرب إلا من لديهم مثلاً مصالح معينة أو طموح أو تجارة رابحة أو علم أو معرفة أو اقتباس أما أن تذهب مجموعات من الناس حتى هناك ما يسمى بالهجرة غير المشروعة ونحن نعرف أنه بين المغرب وبين أوربا عشرة كيلو مترات فقط يعني المناطق المحتلة من قبل إسبانيا تراها وأنت في المغرب في طنجة وسواها، مناطق ليس يفصل بينها إلا نطاق ضيق جداً، فهناك الهجرة غير المشروعة وهناك الناس الذين يموتون وكثيراً ما نسمع سواءً من الصومال أو من المغرب أو من مناطق كثيرة وأعداد كبيرة قد تموت في عرض البحر من خلال الهجرة غير المشروعة ولا يوجد ما يثبت أعدادهم ولا أوضاعهم ولا شخصياتهم.
فأعتقد أن ثمت مشكلة كبيرة جداً وهذا الوضع ينعكس على المجموعات الإسلامية الموجودة في أوربا وأمريكا، أنه هناك –أحياناً- نظرة عنصرية وهذا نجده في فرنسا، ونجده في أوربا، ونجده حتى في ألمانيا، وفي بلجيكا، وفي الدانمرك وقبل أمس الأمم المتحدة أصدرت أشبه بتوصية فيما يتعلق الدانمرك والإشارة إلى قدر من الممارسات العنصرية والمثيرة للكراهية بين الأمم والشعوب المسلمين نالوا حظهم من هذا الجانب وأعتقد بالتأكيد أنه على سبيل المثال نحن الآن نسمع قصة الأخ الأستاذ حميدان التركي –فك الله أسره- في أمريكا ومحاكمته، فأقول:
لو كان يحاكم كما يحاكم مواطن أمريكي عادي هل تصل الأمور إلى هذا الحد؟ لا.
ولو كان يحاكم بالقانون الذي حوكم به الجنود الأمريكان في العمارة الذين عملوا مجزرة أو الذين عملوا ما عملوا في أبو غريب وعملوا ما عملوا في الفلوجة أو في غيرها وتمت تبرئة الكثير منهم والتستر على جرائم فضحها الإعلام فضحتها الكاميرات هل يمكن أن يقع ما يقع؟ قطعاً لا.(/5)
إذن: المجموعات الإسلامية في أمريكا وفي أوربا تعاني كثيراً من هذه النظرة على الأقل من قبل بعض الأحزاب العنصرية وبعض المجموعات فضلاً عن أن المجموعات الإسلامية نفسها بأمس الحاجة إلى توعية بدورها ومهمتها، وجود روابط أنا لا أنكر أنه من ضمن الملايين التي تعد بالعشرات في أوربا قد تزيد على خمسين مليون من المسلمين أنه يوجد مراكز إسلامية يوجد مساجد يوجد جهود كبيرة يوجد شخصيات مؤثرة لها حضور يوجد أنشطة جميلة يوجد مدارس كل هذا صحيح ولكن لما تنظر إلى مجموع الناس العاملين تجد أن الغالبية أناس هم عالة على ذلك المجتمع ما استطاعوا أن يقرءوا المجتمع بشكل صحيح ولا استطاعوا أن يتكيفوا معه ولا استطاعوا أن يستقلوا بقيمهم وحضارتهم فأنا أعتقد أن الاندماج كما عبرت عنه في المجتمعات الغربية أعتقد أن الاندماج يتحقق من خلال القدرة على كون الإنسان يتمسك بقيمه بشكل صحيح ثم يندمج مع الآخرين وليس يعني الذوبان المطلق في هؤلاء الناس، الكثير من المسلمين ليس لديهم الاستقلال والاعتزاز بدينهم وقيمهم وليس لديهم أيضاً القدرة على الاندماج الواعي الصحيح وليس الاندماج الفاشل من خلال مثلاً الانخراط في أنشطة قد تكون محظورة حتى في قوانين ذلك المجتمع.
أعتقد أن الإسلام يفرض على أصحابه أن يحترموا قوانين المجتمعات التي يعيشون فيها إذا اضطر إلى المجيء إليها هذا أمر لابد منه، فمن غير الصحيح أن يكون المسلم –مثلاً- نموذجاً لخرق القوانين، للغش، للتزوير، للخداع، لتعاطي السلع الممنوعة والمحرمة، لمثل هذه الممارسات التي هي ضد القانون وهي ضد الإسلام أيضاً، فهذه شهادة زور يقدمها أي مسلم لدينه وتخيل إنساناً لا يعرف الإسلام ثم كلما سأل عن مجموعة هي رمز للتخلف والضعف وجد أن هذه المجموعة تنتمي إلى الإسلام فيداخله شك بأن الدين الذي ينتمون إليه هو الذي علمهم مثل هذه المعاني فتكون هذه شهادة مزورة نقدمها نحن ضد ديننا.
مقدم البرنامج:
لكن لا أدري فضيلة الدكتور حديثك شط في أشياء كثيرة جداً كل جدول مضيت فيه أنا ودي أن أستوقفك عنده لكن الوقت لا يسمح لنا ولذلك أنا فقط أقف مع آخر نقطة، أنت تكلمت فضيلة الدكتور أنه يجب على المسلم أن يعتز بدينه والاعتزاز بالدين هو أصل حياته في المجتمع الذي ينتمي إليه وأن يجب مع ذلك أن يحترم قوانين هذا المجتمع، كثيراً منهم الآن يقول أو بعضهم يقول أنه بعد أحداث سبتمبر لا مجال أن نعتز لأنه إذا اعتززت فأنا أحارب بالضبط مثلما ذكرت قبل قليل النظرة العنصرية لي كمسلم وعربي، فكيف تطالبني أن أعتز بديني والاعتزاز هذا معناه عملياً أن أظهر كثيراً من الأشياء الخاصة بديني كمسلم وبقوميتي كعربي وهذا يجلب لي كثير من المشاكل؟
الشيخ سلمان:
ليس مطلوباً أن الإنسان يجر إلى نفسه المشاكل، ولا مطلوب أن الإنسان يتجاهل ويتغافل عن الواقع الذي يعيشه، لكن الاعتزاز هو شعور قلبي قبل أن يكون ممارسة عملية يعني أن يكون عند الإنسان وليس الحديث أيضاً عن فترة مؤقتة وليس الحديث عن بلد معين، إنما أقصد أن فكرة ما يسمى بالاندماج، فالآن أوربا، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، معظم الدول الأوربية –كما تفضلت- بعد أحداث سبتمبر بدأت تحاول أن تقدم إسلاماً أوربياً –إن صح التعبير- وتفرض على المسلمين أن يتطبعوا بهذا الأمر ومن هنا وجدنا كثيراً من القوانين مثل منع الحجاب في أماكن عديدة مثل منع الطالبة المحجبة من دخول المدارس مثل فرض بعض الأشياء أعتقد أن ليس الاندماج يعني الذوبان، ليس يعني الاستسلام مع أن المجتمع له قوة لكن لا يعني الاستسلام لا، المسلمون بأمس الحاجة إلى أن يجمعوا بين الاعتزاز بدينهم وقيمهم والتمسك به والانتماء إليه وبين القدرة على التعرف على المجتمع الذي يحيط بهم والاندماج معه بشكل صحيح الاندماج من خلال الأخلاق الفاضلة، الاندماج من خلال التعرف الذي أعرفه بخبرتي القليلة أن الكثير من المسلمين لم يستطيعوا أن يقيموا علاقات جيدة مع جيرانهم ومن حولهم، طبعاً هناك حالات لكن ليس هذا هو الوضع الغالب، طيب لماذا لا يكون وجود المسلم في أي مجتمع في قرية في مدينة فرصة لأن يتعرف على الناس لأن يتحدث معهم يحدثهم عن تاريخه عن أصوله هم أناس يهاجرون ويسافرون إلى كل مكان من أجل السياحة ومن أجل التعرف على الأشياء الغريبة هذا إنسان بينهم فلماذا لا يكون ثمت فرصة للتعرف؟ ومن خلال هذا التعرف سيعرفهم على الإسلام والعادات والقيم والأخلاقيات والتاريخ، أعتقد أن ثمت حاجة ملحة إلى ذلك هذا المعنى الذي هو كيف يستطيع الإنسان أن يندمج مع المحافظة هو بدون شك ليس معنى سهلاً ولا يمكن حتى في حلقات أن نتحدث عنه، هناك مؤتمرات عقدت في بريطانيا وفي غيرها وتُعقد من أجل معالجة هذه المعضلة والخروج منها بحل.
مقدم البرنامج:
طيب فضيلة الدكتور كثير من المتصلين ينتظرون على الخط ووقت الحلقة يبدو أنه قصير هذه المرة، دكتور عبد القادر من فرنسا تفضل.
المداخل:(/6)
السلام عليكم ورحمة الله، كيف حالك يا شيخ سلمان، شيخ من خلال بعض المشاكل كما قال فضيلة الشيخ سلمان مرفوضة وعموماً مشاكل الجالية المسلمة بعد أحداث سبتمبر ...
المداخل:
السلام عليكم كيف حالك يا أخي، كيف حالك يا دكتور سلمان؟ إن شاء الله يبارك فيك، نور الله قلبك والله يخليك يا دكتور وجميع المسلمين إن شاء الله، أنا إنسان غريب عن الدين وعمري ثلاثين سنة والآن رجعت ولكن رجعتي ضعيفة شوي، فودي بنصيحة منك أنك تقويني أني أرجع لديني وأني أرجع لربنا صبحانه وتعالى وجزاك الله عني وعن المسلمين كل خير.
مقدم البرنامج:
جزاك الله خير.
الدكتور عبد القادر يتكلم عن غربة الوطن ويتكلم عن التمييز ما بعد أحداث سبتمبر ويتكلم عن مشاريع قوانين جديدة الآن تطبخ لقضية منع النقاب وأن هنالك كامل الاستفزاز في الاختبارات وأشياء كثيرة.
الشيخ سلمان:
أنا أقول هذا الذي يقوله الدكتور عبد القادر هو جزء من المشكلة قارن أو دعنا نسأل كم عدد اليهود مثلاً في فرنسا وكم عدد المسلمين؟ وما حجم تأثير اليهود وما حجم تأثير المسلمين؟ المسلمون دائماً يميلون إلى الشكوى والتضجر وأنا أؤمن بأن هناك ممارسة عنصرية تدار ضد المسلمين منذ القديم وليست أمراً جديداً فهناك ثارات تاريخية وهناك أحاسيس قومية سلبية في أوربا ضد العالم الإسلامي لا أقول من أيام الحروب الصليبية بل كانت الحروب الصليبية ربما من آثارها، هذا أمر لا يُنكر، لكن أيضاً علينا دائماً أن نبحث عن حصتنا في المشكلة يعني هذا العدد الهائل والكبير من المسلمين المقيم في فرنسا أو في أوربا أو حتى أمريكا، السؤال: ما هو الدور الذي استطاعت هذه المجموعات الإسلامية أن تقوم به فتفرض احترامها على الناس لو أنها أدت عملها بشكل صحيح، ودعني أشيد بأعمال إيجابية في أمريكا وفي أوربا منظمات إسلامية استطاعت أن تفرض نفسها على الإعلام وتفرض نفسها على السياسة وتتكلم بشكل جيد وتدافع عن قضايا المسلمين وتحاول أن تجمع الأصوات الإسلامية وتعبر عنها هناك حراك جيد ولكن بالمقابل الجالية الإسلامية ليست دائماً ضمن هذا الحراك، هذا الحراك ربما تمارسه نخبة من العاملين للإسلام ومن المخلصين وقد تجد بعض الدعم أحياناً من العالم الإسلامي، لكن المسلمون في أوربا وأمريكا يمكن أن يتحولوا إلى ثقل كبير بل يمكن أن يتحولوا إلى وسيلة ضغط حتى على القرار السياسي فضلاً عن غيره وأعتقد أن العالم الإسلامي والحكومات الإسلامية تستطيع أن تعمل الشيء الكثير.
مرة قابلنا الأخوة في منظمة (كير) في الولايات المتحدة الأمريكية ووجدنا أن هؤلاء الأخوة لديهم مشاريع طموحة جداً بالتعريف بالإسلام، بالتعريف بالرسول صلى الله عليه وسلم ، التعريف بقضايا المسلمين حتى سواء قضية فلسطين أو لبنان أو العراق أو غيرها ولديهم إمكانيات هائلة، لكنهم يطرحون سؤالاً دائماً الدعم كيف نستطيع أن نغطي تكاليف –مثلاً- هذا الشريط الذي سوف نبثه أو هذا الفيلم أو هذه الرسالة أو هذا المؤتمر الذي نعقده، أو هذه حتى الرسائل التي يقومون ببثها سواءً عبر الإيميلات أو غيرها إلى أعداد كبيرة جداً من الناس، اليهود بمجرد ما توجد قضية معينة لهم فيها رأي يمطرون الشخص المقصود بسيل من الرسائل قد تبلغ إلى مئات الآلاف وهذا يحصل مثلاً في الكونجرس لما يصوت على قضية ويظهر رأي لأحد النواب لا يخدم اليهود يقومون بالتصدي له ويتواصون حتى يأتي عليه كم هائل من الاتصالات الهاتفية والإيميلات وغيرها يجعله يعيد النظر في قراره وفي كلامه ويشكك فيه وربما يعني أصبح لديه حتى شك عقلي بما يقول أحياناً لكثرة المخالف لأن ليس كل الناس يملك يقيناً بما يقول.(/7)
فأعتقد أن الجالية الإسلامية تواجه بدون شك مثلما ذكر الأستاذ عبد القادر قضية رفض بسبب مواقفها –مثلاً- في قضية المرأة أو في قضية النقاب، أو اللحية أو المحافظة على الصلاة والدين وتهم الإرهاب جاهزة ومعلبة ترمى بالمسلمين وأحياناً يكون هناك أعمال وأخطاء يمارسها بعض المسلمين ويتم توظيفها إعلامياً بشكل كبير وأحياناً يكون هناك أشبه ما يكون بالشائعات التي قد تكون مدارة مخابراتياً، قد تكون حقيقة جزئية ولكن تم تضخيمها ونفخها من أجل أغراض معينة هذا كله يحدث الآن ولست أريد أن أنزه المسلمين عن أن يكون عند بعضهم من الشباب سواء كانوا من أهل البلاد الأصلية أو من غيرها أن عندهم بعض النزعات –أحياناً- التي هي غير مقبولة بل مردودة فيما يتعلق بأعمال عنف ليست في مكانها ولا زمانها ولا الشريعة تجيزها ولكنها تكون نتيجة انطلاقات غير مدروسة هذا يحدث، ولكن أعتقد أنه يُوظف إعلامياً بشكل كبير، الجالية الإسلامية بحاجة إلى قيادة، بحاجة إلى دعم قوي وحتى من الحكومات الإسلامية بحاجة إلى توافق فيما بينها لأن الجالية الإسلامية منقسمة على نفسها صحيحاً وقد تكون أكثرية مثلاً في فرنسا أكثرية مغاربية بلا شك وربما في كثير من دول أوربا لكن يوجد جالية تركية كما في ألمانيا، يوجد جالية كردية، يوجد جالية عراقية، لبنانية فأحياناً يكون هناك انتماءات معينة هذه الانتماءات تظهر في الاختلاف حتى في المساجد، الاختلاف في المواقف السياسية، الاختلاف حتى في دخول رمضان، صدقني هناك من يصوم رمضان والآخر لم يصم، وهناك من يحتفلون بعيد الفطر بينما زملاؤهم صائمون بقية رمضان وهم في مدينة واحدة أحياناً.
مقدم البرنامج:
نأخذ ثلاثة اتصالات وأختم فيها، تركي من الكويت تفضل.
المداخل:
السلام عليكم، ممكن أسأل الشيخ؟
مقدم البرنامج:
يسمعك الشيخ تفضل.
يعطيك العافية يا شيخ
الشيخ سلمان:
مرحباً أخي تركي
المداخل:
في عندي سؤال الوالدة اعتمرت وهي كانت لابسة النقاب وهي ما تدري فعليها شيء يا شيخ.
مقدم البرنامج:
شكراً لك، أحمد من الأردن تفضل
المداخل:
السلام عليكم إن شاء الله بخير
الشيخ سلمان:
بخير الله يبارك فيك يا أحمد
المداخل:
يا شيخ يطول عمرك يا ربي إيش رأيك في اغتراب المسلم بدولة إسلامية تحت ظل الإسلام يعني أكبر دولة إسلامية يعني أنا من مواليد المملكة العربية السعودية ولي الآن عمري 26 سنة نزلت الآن إلى الأردن لي فيها حوالي أسبوع لأني أتزوج بنت من مواليد المملكة العربية السعودية عمرها الآن 23 وأنا عمري الآن 26 سنة وإلى الآن أعامل كأني البارح جيت على البلد فأيش رأيك بالعنصرية أو في أكثر من العنصرية هذه مثلاً فأرجو أنك تفيدني بها الخصوص.
مقدم البرنامج:
شكراً لك أحمد، علي من السعودية تفضل
المداخل:
السلام عليكم أسعد الله مساءكما بكل خير كيف حالك يا شيخ سلمان.
الشيخ سلمان:
مرحبا أخي علي
المداخل:
ذكرتم طال عمرك في بداية الحلقة حديث النبي صلى الله عليه وسلم (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً) هذا الحديث وغيره من الأحاديث كثير من أصحاب المفاهيم الخاطئة أصبحوا يتترسون ويصطفون تحت مفاهيم مغلوطة استخدموها من خلال فهم مغلوط لكثير من الأحاديث سؤالي فضيلة الشيخ هناك الكثير من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة تُفعل حسب الحاجة والمصلحة لخدمة مفاهيم وأغراض خاصة وقد تكون خاطئة أيضاً كيف نستطيع أن نرشد المفاهيم المتعددة لهذه النصوص؟ وكيف نستطيع أن نجعلها تتوافق مع مصالح الأمة مجتمعة بعيداً عن التوظيف الضيق الذي يخدم مصالح ضيقة جداً قد لا تخدم في النهاية مصالح الأمة وجزاكم الله خيراً.
مقدم البرنامج:
شكراً جزيلاً لك
مقدم البرنامج:
عبد الله يقول: عمري ثلاثين سنة كنت غريباً ورجعت ضعيفاً.
الشيخ سلمان:
الحمد لله أنت على خير يا أخي عبد الله وما دام رجعت فباب الله تعالى مفتوح « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِىءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِىءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ». ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن للجنة باباً قبل المغرب مسيرة سبعين عاماً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها {فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، أنت على خير إن شاء الله وأسأل الله أن يأخذ بيدك ودائماً قل في صلاتك {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (5) سورة الفاتحة، وأنت تدري من تخاطب أنت تعبد الله الآن وتستعين به تمد يدك وتطلب منه أن يأخذ بيدك إلى الصواب وفي كل الأعمال والتصرفات ألا يكلك إلى نفسك وحبذا أن يكون بيني وبينك اتصال مباشر يا أخ عبد الله.
مقدم البرنامج:
تركي من الكويت والدته اعتمرت لابسة النقب.
الشيخ سلمان:(/8)
ما دامت جاهلة ليس عليها شيء وإلا فالمرأة المحرمة لا تنتقب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : لاَ تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ وَلاَ تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ.
أحمد يتكلم عن الاغتراب في دولة مسلمة هو من مواليد المملكة وتزوج أيضاً من مواليد المملكة ويعاني من نوع من أنواع الاغتراب.
الشيخ سلمان:
هو يتحدث عن العنصرية في المملكة وهذه قضية تحدثت عنها حتى قبل البارحة كان عندنا جلسة في أحد المساجد وجاء الحديث عن هذه القضية.
مرة أنا قابلت دكتوراً هو كبير الأطباء في مستشفى من أكبر مستشفيات المملكة وهو أيضاً يحمل الجنسية السعودية لكن فيه شباب ظنوا أنه ليس كذلك فتكلموا ورموه بحجارة وشيء من هذا القبيل وهو تكلم معهم ووجههم.
فأقول: بدون شك هذه قضية تحتاج إلى تربية وهي أمور مؤلمة نحن في هذا البلد الطيب في المملكة العربية السعودية نستقبل الملايين من الناس في الحج في العمرة في الزيارة بما وهب الله هذه البلاد وحباها من الاستقرار والخير والمال والثروة أعتقد أننا بأمس الحاجة إلى أمرين لا غنى عنهما ولو أفلحنا فيهما سوف نصبح فعلاً دولة كبرى مثل ما وصف الأخ أحمد.
القضية الأولى: تربية الناس وخصوصاً الشباب وأيضاً العاملين والموظفين سواء كانوا في المطارات أو كانوا عسكريين أو كانوا ممن لهم علاقة بأحوال الناس أن يكون هناك حرص شديد عل معرفة القيم الأخلاقية في التعامل مع الآخرين والصبر عليهم ومعاملتهم بالمساواة هذه قضية ضرورية جداً.
القضية الثانية: القوانين أيضاً أن تكون القوانين واضحة وشفافة وسلسة للجميع أيضاً سواءً كانوا من أهل البلد أو من غير أهل البلد.
وَلَم أَرَ في عُيوبِ الناسِ شَيئاً كَنَقصِ القادِرينَ عَلى التَمامِ
وما يتعلق بالجانب الأخلاقي لا يتم بقرار وإنما يتم من خلال وعي من خلال ضخ هذا الحديث والتذكير به والتحريض عليه وأظن أننا مضطرون إلى ذلك فنحن في موقع تاريخي وفي تحد يفرض علينا مثل هذا المعنى، وملاحظة الأخ أحمد أنا أقول أنها في الجملة لها أصل.
مقدم البرنامج:
علي يتكلم عن توظيف الأحاديث والنصوص توظيفاً ضيقاً.
الشيخ سلمان:
بالضبط يعني البارحة أحد الشباب ركب معي في السيارة وقال عندي أسئلة وكان من ضمن الأسئلة طبعاً كان أعجبني في هذا الشاب أنه وإن كان يحمل فكراً يمكن أن نقول عنه أنه مغلق إلا أنه كان صاحب أدب جميل في أخذه وعطائه وهذه بالنسبة لي تعتبر مؤشراً إيجابياً، لكن كان هذا الشاب مثلاً يجادلني في مسألة فإذا قلت له الكلام قال: القرآن يقول غير هذا –مثلاً- أنت تقول للشباب لا تذهبوا للعراق لكن القرآن يقول غير هذا.
قلت: ماذا يقول القرآن؟
قال: يقول {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}.
قلت: من هم الذين استنصرونا في الدين؟
وتطبيق هذه الآية على المحل على واقعة معينة فهو يرفض النقاش لأنه يقول أنت الآن أمام القرآن.
فأقول: أي مسلم لما يكون أمام قرآن كلام ربنا سبحانه أو أمام كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا أحد يعترض عليه إطلاقاً، ولكن الاختلاف في الفهم، ولذلك البعض –مثلاً- يقول حتى الأخ البارحة يقول: لا نأخذ بكلام فلان ولا بكلام مالك والشافعي أو أحمد أو أبي حنيفة وإنما نأخذ بكلام الله وكلام رسوله، فأقول:
الإمام مالك والشافعي وأحمد وابن تيمية وابن باز وفلان وعلان من أين أخذوا؟ لم يأخذوا من التوراة ولا من الإنجيل ولا من الكتب السابقة ولا من الفلسفة وإنما أخذوا من القرآن وأخذوا من السنة فكثيراً من المفاهيم القرآنية والمفاهيم النبوية يختلف الناس في دلالتها، يختلف الناس في فهمها ولا يحق لأحد أن يأخذ القرآن كأنه يضعه في غدره وفي جيبه ويحتج به لفهمه الخاص، فأنت لست ناطقاً باسم القرآن ولا معك ملك يشهد لك أن ما تقوله أنت وتفهمه أنت هو الصحيح، الآخرون أيضاً لهم حظ من النظر والقرآن نزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (195) سورة الشعراء، في القرآن ما هو صريح الدلالة متفق على معناه عند الخاص والعام وهذا لا إشكال فيه وفي القرآن ما هو محتمل لأكثر من معنى فأن يحوزه الإنسان لمعنى دون آخر أو يطبقه على حال معينة حتى أني ذكرت أن ابن عمر رضي الله عنه جاءه رَجُلاَنِ فِى فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالاَ إِنَّ النَّاسَ قَدْ ضُيِّعُوا ، وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ وَصَاحِبُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ فَقَالَ يَمْنَعُنِى أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِى . فَقَالاَ أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ) فَقَالَ قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ ، وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ . هذا الكلام في صحيح البخاري.(/9)
إذن: أحياناً تطبيق الآية على المحل يحتاج إلى نظر وأيضاً اختيار مفهوم معين للآية يحتاج إلى نظر وأعتقد أن من المهم في هذه المرحلة لطلبة العلم والعلماء والدعاة أن يقدموا نصوص الكتاب والسنة بالمفاهيم الإيجابية، نحن ذكرنا مثلاً في مسألة (بدأ الإسلام غريباً) كيف يمكن أن يكون هنا مفهوم إيجابي لا يقول إنسان أنا الغريب وأنا وريث النبوة وكأن الآخرين لا حظ لهم من الدين والإيمان وكأنه هو وحده الذي يريد الجنة ويسعى إليها والآخرون قد شطوا عن سواء السبيل.
مقدم البرنامج:
شكراً لك فضيلة الدكتور وأنا بدوري أشكرك
الشيخ سلمان:
وأنت أيضاً بارك الله فيك
مقدم البرنامج:
وباسم البرنامج مجدداً الحقيقة على هذا العطاء، بدوري أيها الأخوة والأخوات أيضاً أشكركم لإنصاتكم مستمعين ومشاهدين وأذكر أن الحلقة القادمة ستكون أيضاً متواصلة في موضوع الغربة والأقليات الإسلامية والعربية التي تعيش خارج بلدها، سنتكلم في الأسبوع القادم بمشيئة الله عز وجل عن إشكالية التربية ونستمر في إشكاليات الاندماج مع المجتمع وسنتكلم عن إشكاليات التلقي الفتاوى، نلتقيكم إن شاء الله تعالى الأسبوع القادم، دمتم بخير وسلام الله عليكم ورحمته تعالى وبركاته(/10)
الغرور
يتناول الدرس ماهية الغرور وأسبابه، وآثاره الوخيمة على الداعية وعلى العمل الإسلامي، وما هي مظاهر وعلامات المغتر، وأهم الوسائل المعينة على التخلص من هذا الداء .معنى الغرور : لغة: يطلق الغرور على عدة معان، أهمها:
لغة: يطلق الغرور على عدة معان، أهمها:
الخداع: سواء أكان للنفس أم للغير، أو للنفس وللغير معاً، ومنه قوله تعالى:} وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا[120]{ “سورة النساء”.
ما يؤدي إلى الغرور، وما يوقع فيه:ومنه قوله سبحانه:} يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ[5]{ “سورة فاطر”.
اصطلاحا : 'هو إعجاب العامل بنفسه إعجاباً يصل إلى حد احتقار، أو استصغار كل ما يصدر عن الآخرين بجنب ما يصدر عنه، ولكن دون النيل من ذواتهم، أو الترفع على أشخاصهم'.
ولا شك أن من كان بهذه المثابة فهو مخدوع، وتبعا لذلك، فإننا يمكن أن نفهم مدى التلاقي بين المعنى الاصطلاحي، والمعنى اللغوي.
أسباب الغرور:
ولما كان الغرور شدة الإعجاب بالنفس، فإن أسبابه التي تؤدي إليه وبواعثه التي توقع فيه، هي جملتها أسباب الإعجاب بالنفس، ويزاد عليها:
1- إهمال النفس من التفتيش والمحاسبة: ذلك أن بعض الدعاة قد يبتلى بالإعجاب بالنفس، ولإهماله نفسه من التفتيش والمحاسبة، يتمكن الداء منه، ويتحول إلى احتقار، أو استصغار ما يقع من الآخرين بالإضافة إلى ما يقع منه، وبذلك يصير مغروراً. ولعل هذا هو السر في وصية الإسلام بالتفتيش في النفس، ومحاسبتها أولًا بأول:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[18]{ “سورة الحشر”.
2- الإهمال أو عدم المتابعة والأخذ باليد من الآخرين: فقد يصاب بعض الدعاة بآفة الإعجاب بالنفس، ويكون من ضعف الإرادة، وخور العزيمة، وفتور الهمة بحيث لا يستطيع التطهّر بذاته من هذه الآفة، وإنما لابد له من متابعة الآخرين، ووقوفهم بجواره، وأخذهم بيده، وقد لا يلتفت الآخرون إلى ذلك، فيقعدون عن أداء دورهم وواجبهم، وحينئذ تتمكن هذه الآفة من النفس وتتحول بمرور الزمن إلى غرور، ولعل ذلك هو السر في تأكيد الإسلام على النصيحة، حتى جعل الدين كله منحصراً فيها، وراجعاً إليها:
إذ يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” الدِّينُ النَّصِيحَةُ”رواه مسلم وأبوداود والنسائي وأحمد.
ولعله السر أيضاً في دعوته إلى التضامن، والتعاون بين المسلمين؛ إذ يقول الله تعالى:} وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى... [2] {“سورة المائدة”.
ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ” رواه أبوداود .
3- الغلو أو التشدد في الدّين: فبعض الدعاة قد يقبل على منهج الله في غلو وتشدد، وبعد فترة من الزمان ينظر حوله، فيرى غيره من الدعاة يسلكون المنهج الوسط، فيظن - لغفلته أو عدم إدراكه طبيعة هذا الدين - أن ذلك منهم تفريط أو تضييع، ويتمادى به هذا الظن إلى حد الاحتقار والاستصغار لكل ما يصدر عنهم، وبالإضافة إلى ما يقع منه، وذلك هو الغرور. ولعل ذلك هو بعض السر في دعوة الإسلام إلى الوسطية، بل وتحذيره من الغلوّ أو التشدد في الدّين:
إذ يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرهط الذين عزموا على التبتل واعتزال الحياة:”أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي”رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد.
ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلَاثًا” رواه مسلم وأبوداود وأحمد. يعني: المتعمّقين، المجاوزين الحدود في أقوالهم، وأفعالهم.
ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”...إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ” رواه النسائي وابن ماجه.
ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ”رواه البخاري والنسائي وأحمد.(/1)
4- التعمق في العلم، لا سيما غرائب وشواذ المسائل مع إهمال العمل: ذلك أن بعض الدعاة قد يكون كل همه التعمق في العلم لاسيما غرائب وشواذ المسائل، مع إهماله العمل، وربما لاحظ - أثناء طرح هذه المسائل - غفلة بعض الدعاة عنها وعدم إلمامهم بها، إما لأنها ثانوية لا يضر - الجهل بها، وإما لأنه لا يترتب عليها عمل، فيخطر بباله أن هؤلاء لا يتقنون من مسائل العلم شيئاً، وإن أتقنوا فإنما هو قليل في جانب ما لديه من الغرائب والشواذ، وما يزال هذا الخاطر يتردد في نفسه، ويلح عليه حتى يتحول إلى احتقار واستصغار ما لدى الآخرين، بالإضافة إلى ما عنده، وذلك هو داء الغرور.
ولعل ذلك هو السر في دعوة الإسلام إلى أن يكون السعي في طلب العلم دائما حول النافع والمفيد: إذ كان من دعائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”...اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا”رواه مسلم والنسائي .
بل وأكد على أن يكون هذا العلم مقرونا بالعمل، وإلا كان الهلاك، والبوار؛ إذ يقول الله سبحانه وتعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[2]كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3]{ “سورة الصف” . وقال تعالى:} أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[44]{ “سورة البقرة”.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ”رواه البخاري ومسلم وأحمد.
5- الوقوف عند الطاعات مع نسيان المعاصي والسيئات: ذلك أن من شأن البشر - سوى النبيين - الصواب والخطأ، وإذا غفل العامل عن ذلك؛ فإنه كثيراً ما يقف عند الطاعة، أو الصواب في الوقت الذي ينسى فيه المعصية أو الخطأ، وتكون العاقبة الإعجاب بالنفس، المقرون باحتقار ما يقع فيه الآخرون إلى جانب ما يصدر عنه، وهذا هو الغرور.
وقد لفت سبحانه وتعالى النظر إلى هذا السبب أو الباعث، وهو يمدح صنفا من المؤمنين يؤدي الطاعة، ويخاف أن يكون قد وقع منه ما يحول بينه، وبين قبولها، فقال:} إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ[57]وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ[58]وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ[59]وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ[60]أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ[61]{ “سورة المؤمنون”. عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: }وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ...{ أَهُوَ الَّذِي يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ قَالَ:” لَا يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ أَوْ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيُصَلِّي وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ”رواه الترمذي وابن ماجه .
كما لفت النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى ذلك حين دعا إلى أن يكون التعويل بعد الفراغ من العمل على فضل الله ورحمته، لا على العمل نفسه، وإلا كان الغرور والضياع، فقال:”لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ” قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:” وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغْدُوا وَرُوحُوا وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا”رواه البخاري ومسلم وابن ماجه والنسائي وأحمد.
6- الركون إلى الدنيا: وقد يعلم بعض الدعاة بأنه مبتلى بآفة الإعجاب بالنفس، بيد أنه لركونه إلى الدنيا، وانغماسه فيها، ربما يعتريه الكسل، فلا يستطيع أن يجمع همته لمداواة نفسه، بل قد يأخذ في التسويف، وتأخير التوبة، وبمرور الزمن يتحول الإعجاب بالنفس إلى داء أكبر وأبعد، ألا وهو الغرور. وقد لفت القرآن الكريم النظر إلى هذا السبب أو إلى هذا الباعث، من خلال ذم الدنيا، والتحذير منها، إذا اتخذها الناس هدفاً أو غاية:(/2)
قال تعالى:} اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ[20]{“سورة الحديد” .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ إِنْ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ”رواه البخاري -واللفظ له- وابن ماجه .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ:' ارْتَحَلَتْ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً وَارْتَحَلَتْ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ' .
7- رؤية بعض ذوي الأسوة والقدوة على حال دون الحال التي ينبغي أن يكونوا عليها :
من أخذ أنفسهم بالعزيمة في غالب الأحيان، إلى حال أقل منها من أخذ أنفسهم بالرخص في بعض الأوقات. وربما رأى ذلك من يحاول الاقتداء والتأسي بهم، ولقلة رصيده من الفقه، أو لعدم اكتمال تربيته يتوهم أنهم بذلك دونه في العمل بمراحل، ويظل هذا الوهم يلاحقه ويلح عليه، حتى يتحول إلى الإعجاب بالنفس، ثم الغرور. ولعل ذلك هو بعض السر في دعوة الإسلام إلى البعد عن مواطن التهم، من خلال بيان وجه حق في سائر التصرفات المباحة، التي ربما تؤدي إلى سوء الظن:
عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ” فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:” إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا سُوءًا أَوْ قَالَ شَيْئًا”رواه البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجه وأحمد. قال ابن دقيق العيد:'وهذا - أي التحرز من كل ما يوقع في التهم - متأكد في حق العلماء، ومن يقتدى بهم، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب سوء الظن بهم، وإن كان لهم فيه مخلص؛ لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم' .
8- مبالغة بعض الدعاة في إخفاء ما يصدر عنهم من أعمال: فبعض الدعاة قد يحمله الحرص على تحقيق معنى الإخلاص إلى أن يبالغ في إخفاء ما يصدر عنه من عمل، فلا يظهر منه إلا القليل، وربما رأى بعض من لم تنضج تربيتهم بعد، هذا الذي يظهر فقط، فيتوهم أن عمل هؤلاء قليل في جنب عمله، ويظل هذا الوهم يساوره، ويلحّ عليه، حتى يقع في أحبولة الإعجاب بالنفس، ثم الغرور.
ولعل دعوة الإسلام إلى إبراز الأعمال الطيبة، والتعرض بها للناس - فوق كونها تحريضاً لهم على الاقتداء والتأسي - فيها إشارة إلى هذا السبب، مع بيان طريق الخلاص منه:
إذ يقول الله تعالى:} إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[271]{ “سورة البقرة”.
وإذ يَقُوُلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ”ومسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي والدارمي وأحمد.(/3)
9- تفرقة بعض ذوي الأسوة والقدوة، في معاملة المتأسّين أو المقتدين: فقد يغيب عن بالهم الأسلوب الأمثل في معاملة المتأسين أو المقتدين، فتراهم يقربون البعض ويفسحون صدورهم له، ويتغاضون عن هفواته وأخطائه، في الوقت الذي يعرضون فيه عن البعض الآخر، ويضيقون به ذرعاً، ويفتحون عيونهم على أدنى الهفوات والزلات التي تقع منه، وربّما كان في الصنف الأول من لم تكتمل تربيتهم، ولم تنضج شخصياتهم بعد، ويشاهد هذه التفرقة في المعاملة، فيخطر بباله أنها نابعة مما لديه من إمكانات ومواهب، لا توجد عند الآخرين، ويظل هذا الخاطر يلحّ، حتى يكون الإعجاب بالنفس، ثم الغرور. ولقد سد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب من خلال:
حرصه على معاملة أصحابه بالسوية: إذ كان من هديه صلى الله عليه وسلم كما يقول واصفوه:' أن يعطي كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه' رواه الترمذي في'الشمائل' .
ويوم أن كانت الحاجة تلجئه صلى الله عليه وسلم إلى التفريق في المعاملة، ولا يفهم جليسه الحكمة من وراء ذلك، كان يبين صراحاً: فَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى رَهْطًا وَسَعْدٌ جَالِسٌ فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ:” أَوْ مُسْلِمًا” فَسَكَتُّ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ أَوْ مُسْلِمًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ:” يَا سَعْدُ إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ” رواه البخاري ومسلم وأبوداود والنسائي وأحمد.
آثار الغرور على الدعاة :
فمن آثاره على الدعاة فوق ما قدمنا في آفة الإعجاب بالنفس:
1- الوقوع في غوائل المراء والجدل : فالمغرور - لحبه لذاته، ورؤيته لعمله، واحتقاره لأعمال الآخرين - يحاول دائما الانتصار لنفسه، والغلبة لها بالحق أو بالباطل، ويزين له الشيطان أن أفضل وسيلة توصل إلى ذلك إنّما هي المراء والجدل، وينطلي عليه هذا التزيين؛ فيقع فيه، وحينئذ تضيع عليه الأوقات، ويذهب العمر سدى، وذلك هو الضلال والضياع. وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى ذلك فقال:”مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ” رواه أبوداود وابن ماجه .
كما حض على التحرر من المراء والجدل بأوجز عبارة، وألطف أسلوب، فقال:”أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ” رواه أبوداود.
2- الوقوع في حبائل التكبر في الأرض بغير الحق : فالغرور حين يتمكن من النفس؛ يتحول من مجرد استصغار واحتقار ما يصدر عن الآخرين من أعمال، إلى ترفعٍ وتعالٍ على هؤلاء، وللترفع والتعالي، أو التكبر عواقب وخيمة، وآثار ضارة، سنقف عليها بالتفصيل أثناء الحديث عن ' آفة التكبر'.
3- الاستبداد بالرأي : فالمغرور لرؤيته نفسه، يعتقد أن ما يصدر عنها سداد لا خطأ فيه، وأن ما يصدر عن الآخرين خطأ لا سداد فيه، ومثل هذا إذا دعي إلى حقّ عليه النزول عليه، والإذعان له؛ فيبقى مستبداً برأيه، واستبداده برأيه يجعله يعيش حياته غارقاً في الأخطاء، حتى يهلك مع الهالكين.
آثار الغرور على العمل الإسلامي:
1- سهولة اختراقه من قبل أعداء الله: الأمر الذي يؤدي إلى ضربه، أو على الأقل إجهاضه، فلا يؤتي ثماره إلا بعد تكاليف كثيرة وزمن طويل.
2- انقلاب العامة والبسطاء من الناس عليه، ونيلهم منه لا سيما في أوقات الشدائد والمحن: نظراً لأنهم لم يروا من المنتسبين إليه إلا غروراً يتجلى في الازدراء والاحتقار لأعمالهم، وهذا وحده فيه ما فيه.
مظاهر الغرور:
1-دوام التحقير والتسفيه لأعمال الآخرين حتى وإن كانت خيراً .
2- كثرة الحديث عما يصدر عن النفس من أعمال، مع مدحها والرفع من شأنها .
3- صعوبة الإذعان، والانقياد للحق، حتى وإن كان صادراً عمن هو أهل له .
علاج الغرور:(/4)
1- الوقوف على العواقب، والآثار المترتبة على الغرور: فإن الوقوف على ذلك يحرك النفس من داخلها، ويجعلها - إن كان لا يزال فيها خير - تسعى جاهدة للتخلص من هذا الداء، قبل أن يأتي يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، وقبل أن تتمنى الرجعة إلى الدنيا لتدارك التقصير، فلا تجاب:} حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ[99]لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[100]{ “سورة المؤمنون” .
2- التنبيه إلى ضرورة التوسط والاعتدال في كل شيء: حتى في الطاعات، والمباحات؛ لئلا يكون هناك غرور، أو قعود.
3-التذكير بأن الأعمال وإن كانت ضرورة لابد منها، فإنها ليست سبب النجاة حتى يعول العبد عليها: وإنّما النجاة محض تفضل من الله سبحانه وتعالى، كما يشير إلى ذلك التعبير بالإدخال في كثير من آي القرآن الكريم، إذ يقول سبحانه:} وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا[57]{ “سورة النساء” وكما يشير إلى ذلك حديث:”لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ” قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:” وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغْدُوا وَرُوحُوا وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا”رواه البخاري ومسلم وابن ماجه والنسائي وأحمد.
4- دوام النظر في كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم: فان ذلك يطلعنا على سير وأخبار الأنبياء والصالحين، وكيف كانوا يخافون من الهفوات أن تقع منهم- مع أن رصيدهم من الطاعات ضخم وكبير- حتى نقتدي ونتأسى، حكى القرآن عن آدم وحواء قولهما:}قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[23]{ “سورة الأعراف” وحكى عن نوح قوله:} وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ[47]{ “سورة هود” وحكى عن إبراهيم قوله: }وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ[82]{ “سورة الشعراء” وغير هذا كثير .
5- الوقوف علي سير وأخبار السلف: حيث كانوا يعملون العمل الكثير، المراعى فيه الصدق والإخلاص، ثم لا يعولون عليه، بل إنهم ليتهمون أنفسهم في كثير من الأحوال، فإن ذلك مما يحرك العواطف، والأحاسيس للاقتداء أو على الأقل المحاكاة.
6- التوجيه إلى الاشتغال بأمهات وأصول المسائل، مع الإعراض عن الشواذ والغرائب: لما في ذلك من الحفاظ على الأوقات، والانتفاع بالأعمار.
7- مقاطعة المغترين، والابتعاد عن صحبتهم: مع الارتماء في أحضان العارفين بربهم، المقدّرين له حق قدره، الذين يعملون العمل، ولا يتكلون عليه، خشية أن يكون قد وقع منهم ما يحول دون قبوله، على النحو الذي قدمنا في مدح الحق سبحانه وتعالى لهم: :} إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ[57]...{ الآيات “سورة المؤمنون”
8- محاسبة النفس أولا بأول، وتأديبها حتى تقلع عن كل الأخلاق الذميمة: وصدق رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ يَقُولُ:”الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ثُمَّ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ”رواه الترمذي وابن ماجه .
9- متابعة الآخرين له، وقيامهم بواجبهم نحوه من النصيحة مقرونة بشروطها وآدابها، ثم حمله - بمختلف الأساليب - على قبول هذه النصيحة، وتنفيذها مهما كانت شاقة أو صعبة .
10- التأخير عن المواقع الأمامية، ولو لفترة من الزمان حتى يبرأ من هذه الآفة، وتعود نفسه إلى فطرتها، وإشراقها.
11- اتباع المحيطين به للآداب الشرعية في الثناء والاحترام، والانقياد حتى يقطع الطريق على الشيطان، وتستأصل من النفس هذه الآفة.
12- حرص المحيطين به على إبراز بعض الأعمال الطيبة أمام المبتلين بداء الغرور؛ لئلا ينفرد بهم الشيطان، ويهلكهم.
13- حرص ذوي الأسوة والقدوة على معاملة المقتدين أو المتأسين بالسوية؛ لئلا يبقى للشيطان مسلك إلى النفس، فتسلم من وسوسته، وكيده.
14- الاستعانة بالله عز وجل، فإنه سبحانه يعين من دعاه، ولجأ إليه ولاذ به: } وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[69]{ “سورة العنكبوت” .
من كتاب: آفات على الطريق للدكتور/السيد محمد نوح(/5)
الغزو الفكري للعالم الإسلامي ...
الأستاذ الدكتور ناصر عبد الكريم العقل( أستاذ ورئيس قسم العقيدة بكلية أصول الدين جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الأمين وبعد: فإنه من البدهيات التي لا يتمارى فيها العارفون أن الكفار - وبالأخص أهل الكتاب - لا يألون جهداً في التأثير على المسلمين في عقيدتهم وسلوكهم ويودون لو يكفرون مثلهم، أو يرتدون عن دينهم ( الإسلام ) على الأقل. لذلك كانوا - دائماً وأبداً - على طول التاريخ الإسلامي لا يتركون وسيلة تخدم غرضهم هذا إلا سلكوها، أحياناً بالوسائل الخفية وهذا هو الغالب حين تكون الأمة الإسلامية قوية مهيبة مهيمنة وأحياناً بالوسائل المعلنة والخفية عندما يكون الكفار في مركز أقوى وهذا هو ما حصل في العصور المتأخرة حين قويت الدول الغربية، وضعف المسلمون وركنوا إلى الذل والخمول، وإلى التمسح بالقبور والمشاهد والأضرحة وتقديس الأموات والأحياء والتوكل عليهم من دون الله. وإنه لمن أخطر وأشد الوسائل التي سلكها الغربيون للكيد للمسلمين - أخطبوط الغزو الفكري الرهيب، وهو غزو مركز هادف، ومدروس ومنظم، تعاونت فيه قوى تملك إمكانيات مادية ومعنوية وبشرية هائلة تبدأ بالاستشراق ثم الابتعاث، فالتبشير والاحتلال، والإعلام، ثم المؤسسات والمنظمات المتخصصة لهذا المجال، كالماسونية والصهيونية وما شاكلهما. تاريخ الغزو الفكري الحديث: أشرت آنفاً إلى أن كيد الكفار للإسلام والمسلمين مستمر وهو سنة من سنن الله في الحياة، لكنه يتغير في أشكاله ووسائله وأساليبه بمتغيرات الحياة وإمكانات البشر. لذلك تجد له في العصر الحديث طابعاً مميزاً يختلف في شكله ووسائله عن أسلوبه في القرون الإسلامية الأولى، والسبب في ذلك أن فترة الركود الفكري التي خيمت على العالم الإسلامي والتي تزيد على خمسة قرون مضت، تعتبر فاصلاً زمنياً بين تخلف الأمة والحضارة الإسلامية عن قيادة البشرية، وظهور الحضارة لجاهلية الغربية وتسلمها لهذه القيادة فإن المسلمين خلال هذه القرون، وإن كانوا قد تفوقوا عسكرياً في ظل الدولة العثمانية، حتى نهاية القرن الثاني عشر الهجري، إلا أنهم كانوا يتقهقرون عقائدياً وعلمياً وفكرياً لأسباب ربما يكون أهمها: 1- كثرة البدع والخرافات وانتشار الطرق الصوفية الفاسدة وتعلق عامة المسلمين بالقبور وتقديس الأموات والأحياء، ومن ثم ضعف الصلة بالله تعالى والبعد عن السنن الثابتة. 2- دعوى بعض الفقهاء المتأخرين بإغلاق باب الاجتهاد في الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانية أحوج ما تكون إلى تبني واستيعاب التقدم العلمي حيث كان الغرب قد بدأ من حيث انتهت الحضارة الإسلامية في الأندلس وبدأت النهضة العلمية والفكرية في الغرب تسير سيراً حثيثاً على أيدي خريجي الجامعات الإسلامية من أبناء الغرب - البعثات الغربية إلى المدارس الإسلامية - وهم كثيرون ( ): وقد كانوا طلائع الغربيين على الحياة والحضارة الإسلامية. وما تلا ذلك من دراسة العلوم الإسلامية والاستفادة منها من قبل الغربيين، تلك الاستفادة التي بدأت تظهر ثمارها في الغرب بعد قيام الخلافة العثمانية وحين هم المسلمون - في القرنين الأخيرين بأن يفيقوا، وجدوا الغرب قد سبقهم في مضمار العلم، والتقدم المدني والصناعي سبقاً بعيداً، فأصيبوا بصدمة الانبهار، وعقدة الشعور بالنقص، فضعفت عندهم المناعة والمقاومة أمام الاحتلال والغزو الفكري. ومع الغزو الفكري، الذي جاء من الغرب ن عبر الاحتلال ن والتبشير وفي أحضانه - نشأت الاتجاهات العلمانية الحديثة في العالم الإسلامي امتداداً للاتجاه المادي الحديث في الغرب وهذا الغزو يتمثل في حركات التبشير والاستشراق والاحتلال أولاً. ثم في البعثات واستيراد الأنظمة الغربية من قبل المسلمين أنفسهم ثانياً. لذلك سأعرض بإيجاز لتاريخ هذه الحركات كلها إن شاء الله: أ - تاريخ الاتجاه العقلي في الغرب ( ): لقد ظل التدين النصراني (الكنسي المحرف) هو السائد في الغرب، ونصوصه هي المتحكمة في حياة الناس ومصائرهم ن وظل الأمر كذلك طيلة القرون السبعة عشر الميلادية، بالرغم من الآراء التحررية، التي أعلنها بعض المفكرين وطلاب البعثات الغربية، الذين درسوا في المدارس والجامعات الإسلامية، في الأندلس والمغرب، والذين اتصلوا ( عبر الحروب الصليبية ) بالشرق الإسلامي، وبالرغم من ظهور تلك الموجة التحررية من أمثال لوثر ( 1438م - 1546 )، وكالفن ( 1509 - 1564م ).. حيث كانت لآراء هذين وأمثالهما أكبر الأثر في تحرر الغرب من سلطات الكنيسة المتحكمة، وعصابات ما يسمى (برجال الدين) هناك، ومع ذلك بقي سلطان الكنيسة هو الأقوى، يُحرق ويشرد ويقتل المفكرين، وفي القرن الثامن عشر بدأ سلطانها يتقهقر بتقدم العلم وتنور العقول، وظهر الاتجاه إلى سيادة العقل أو ما يسمى ( بالتنوير ) والتحرر من تعاليم الكنيسة المتحجرة ( ) وتحكيم(/1)
العقل، وإطلاقه من إساره، لينظر ويبدع، ويستنبط ويمارس الحياة ويفكر في ملكوت السماوات والأرض ما استطاع، وكان هذا الاتجاه الذي تأثرت به أوربا أثناء اتصالها بالمسلمين، يعتبر بحق أساس التقدم العلمي الباهر الذي وصل إليه الغرب الآن. ومع هذه الحركة العقلية حدثت ردة الفعل ضد الدين - كل دين - عنيفة بسبب موقف تعاليم الكنيسة الباطلة، فحدث هذا الانفصام المزعوم بين الدين والعلم، فقامت هذه الحضارة الغربية على المادية البحتة والعلمانية والإلحاد، فكان من جراء ذلك أن أصيبت البشرية بالخواء الروحي الذي لا يقل خطراً على مصير الإنسانية من تعنت الكنيسة من قبل، فاتجه العلم والتقدم إلى تهديد البشرية بالدمار وكلما زاد التقدم العلمي في الغرب زادت الفجوة بين الدين والحياة الواقعية، وبين المادة والروح، فأنشأ هذا الفصام أجيالاً حائرة قلقة، لا تعرف للفضيلة قيمة ولا للسعادة معنى، تحمل حتفها بعلمها وتقدمها، فاعتنقت مذاهب نكدة فاسدة تعذبت بها أيما عذاب . كالشيوعية والفوضوية ( )، والوجودية، وكثرت النظريات الهدامة وحركات الهيبز والإباحية، وجاءت هذه التيارات المتناقضة كلها إلى العالم الإسلامي وساهمت في نشأة الاتجاهات والمذاهب الهدامة وأبرزها العلمانية بين المسلمين. هذا وكان لليهود والمنظمات والمؤسسات التي تخدمهم أكبر الأثر في توجيه هذه التيارات لإفساد الأديان والأخلاق. ب- الدراسات الاستشراقية: عندما نبحث تاريخ الاستشراق، نجد أنه مر بمرحلتين أولاهما - ولا تهمنا كثيراً في مثل هذا البحث - مرحلة سلبية بالنسبة للغربيين، وهي مرحلة النقل والتلمذة على المسلمين، حين كانت أوربا ترسل بعثاتها العلمية للاستفادة من الحضارة الإسلامية، المزدهرة في الأندلس والمغرب ومصر والشام، وسائر بلاد المسلمين، وهذه المرحلة مبكرة جداً، ولم يكن فيها المستشرقون إلا مجرد نقلة وعالة على المسلمين، وما كانت دوافعهم إلا إفادة قومهم وبلادهم في الغالب، وهذه الحركة الاستشراقية الأولى هي التي بدأت منها بذور التنور الفكري والعلمي في أوربا فيما بعد، كما ذكرت آنفاً. وهذه المرحلة كانت قبل الحروب الصليبية وقبل سقوط الأندلس الإسلامية. أما المرحلة الثانية من مراحل الاستشراق: فهي مرحلة هادفة من قبل الغربيين وهي مرحلة دراسة الإسلام أولاً - وهو المهم - عقيدة وشريعة وتاريخاً، ودراسة سائر أحوال الشرق وأديانه وعلومه وتاريخه . والذي يهمنا هو الجانب الإسلامي في هذه الدراسات. وهذه المرحلة تبدأ مع نهاية الحروب الصليبية وأفول الحضارة الإسلامية في الأندلس مع نهاية القرن الخامس عشر الميلادي ( )، حيث بدأت دراسة الإسلام وتاريخه، بأسلوب لا يخلو من العصبية، من أمثال: بوستل ( 1505 - 1581م ) وفاتيه ( 1613 - 1667م ) والباجو (توفي: 1520م ) والأب ماراتشي ( 1602 - 1700م ) ( ). ومع بداية القرن التاسع عشر بدأت الدراسات الاستشراقية بأسلوب أشمل وأكثر تنظيماً، بروح دينية صليبية ويهودية واستعمارية غربية حاقدة ماكرة، أكثر من ذي قبل . لأنها واكبت الاحتلال الغربي للعالم الإسلامي، وكانت أهم دوافعها خدمة هذا الاحتلال لزعزعة كيان المسلمين مادياً ومعنوياً، كما أنها انبثقت عن روح الانتقام من الأمة الإسلامية التي غزت أوربا في عقر دارها، وطردتها من الشرق كله، وقضت على الدولة النصرانية، ولا ننسى أن الغرور العلمي المتغطرس الذي يحمله الغربيون بعد تقدمهم الحضاري، جعلهم يدرسون الإسلام بروح الناقد المحتقر، والخصم والحكم، والعدو المنتصر والمتشفي المنتقم. ومع الاحتلال الغربي للعالم الإسلامي، في القرن التاسع عشر، بدأت البحوث والدراسات والأفكار الاستشراقية، تغزو العالم الإسلامي من الداخل، وتشكل عاملاً أساسياً من عوامل نشر وإبراز الاتجاهات العلمانية والمذاهب الهدامة وكانت كلها تدور حول الآتي ( ): أ- إثارة الشبه والاعتراضات في العقيدة الإسلامية. ب- الطعن في صحة القرآن لكريم والسنة النبوية والرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته. ج- التشكيك والتهكم بالمغيبات بدعوى أنها تخالف العلم الحديث ولا تثبت علمياً. د- إثارة الشبه حول الشريعة الإسلامية في أصولها ومناهجها، ودعوى أنها من بقايا العصور المظلمة، ولا تصلح للعصر الحديث ن ومن ثم إبعادها عن مجال التطبيق. هـ- إعادة تقييم الإسلام، عقيدة، وشريعة، وتاريخاً من جديد على ضوء العلم المادي الحديث، ومن ثم التطاول لإدانة الإسلام. و- فصل الأجيال المسلمة بكل وسيلة عن ماضيهم الإسلامي، وربطهم بالغرب بدعوى الاحتياج والمسايرة والتطور. وكل هذه البحوث والدراسات صارت هي المرتكز الأول في الاتجاهات الفكرية الحديثة كما سنرى بعد إن شاء الله. ج- الاحتلال الغربي لديار الإسلام: قد لا يهمنا كثيراً تاريخ الاستعمار قبل القرن الثامن عشر، لأنه لم يكن ذا خطر بالنسبة لموضوعنا هذا، فالاستعمار الهولندي والبرتغالي لبلاد الإسلام كان قبل هذا التاريخ، وكانت(/2)
أهم دوافعه مادية وانتقامية، لم تحمل فكراً غازياً. فأول استعمار غربي - كان له خطره وأثره الحضاري - على العالم الإسلامي، تلك الحملة التي قام بها نابليون بونابرت، إمبراطور فرنسا، على مصر عام 1797م حتى عام 1801م ( ) فلهذه الحملة أثر كبير في تكوين عقليات بعض المسلمين، الذين أصيبوا بالانبهار والإعجاب بمظاهر ما يسمى بالمدنية والتقدم العلمي، الذي كانت تحمله الفرقة الفرنسية، فقد جهز نابليون حملته بأشياء كثيرة من مظاهر الإنتاج الغربي، وبفريق من العلماء والباحثين في سائر التخصصات العلمية، منها مجموعة من المستشرقين المتخصصين بالدراسات الشرقية والإسلامية، مما كان له أكبر الأثر عند ضعاف العقول، من أنصاف المتعلمين من المسلمين، الذين ألفوا حياة الركود والسلبية والتواكل، وفقدوا صفاء العقيدة وسلامتها بسبب هيمنة الأفكار والطقوس الصوفية والقبورية السائدة. وقبل ذلك بدأت حرب الإنجليز في الهند المسلمة بعد عام 1756م فأسست بريطانيا شركة الهند الشرقية ثم تحولت هذه الشركة إلى حكومة عام 1858م ( ) فعملوا على القضاء على قوة الإسلام، وانتشاره هناك بشتى الوسائل، واهتموا بإيجاد فرق واتجاهات عقلية، لإضعاف العقيدة الإسلامية، التي تجعل المسلم يشعر بالاستعلاء والعزة، وعدم الاستسلام للأجنبي، فأيدوا حركة السيد أحمد خان، التي قامت ( ) على تقريب المسلمين للإنجليز والدعوة إلى قبول الاحتلال والرضا به، والتقليل من أهمية الجهاد، وتفسير العقيدة والفكر الإسلامي على ضوء الفكر الغربي ليساير الحياة الغربية. وبعد الحرب العالمية الأولى اقتسم الغربيون بلاد الإسلام كغنائم فاحتل الفرنسيون الشام عام 1920م والإنجليز العراق أيضاً عام 1920م وقبل ذلك كانت مصر تحت الاحتلال الإنجليزي منذ عام 1882م ثم السودان منذ عام 1889م ( )، كما كانت الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي منذ عام 1830م ( ) ثم تونس، وليبيا التي احتلها الإيطاليون. وكان للإنجليز نصيب الأسد من البلاد الإسلامية فبقي تحت سيطرتهم الهند وجنوب الجزيرة العربية والخليج العربي والعراق ومصر والسودان وغيرها. وقد ركز المحتلون الغربيون، أثناء إقامتهم في العالم الإسلامي، على الأمور التالية ( ): - تشجيع التبشير ( ) وتمكينه في البلاد الإسلامية. - فصل الدين ( الإسلام ) عن الدولة والحياة، وإلغاء العمل بالشريعة الإسلامية. - تربية جيل من أبناء المسلمين على الفكر والسلوك الغربي وعزله عن عقيدته وتاريخه وأمته، ثم اصطفاء نخبة من هؤلاء ليصنعهم الغرب على عينه، وقد ولاهم مقاليد البلاد بعد خروجه منها، فعاثوا فيها فساداً. - توجيه مناهج التعليم والتربية والإعلام والثقافة والفكر والأدب، وغيرها، وصبغها بالصبغة الغربية الخالصة، وإبعاد المفاهيم الإسلامية الأصيلة. - العمل بكل وسيلة على عرقلة النهضة الإسلامية فكرياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً لتبقى بحاجة إلى الغرب، فيأمن عودة روح الجهاد بين المسلمين، لذلك اهتم كل الاهتمام بضرب الحركات الإسلامية. - إثارة الشبه والشكوك وتشجيع المثيرين لها بين أنصاف المثقفين والشباب الناشئين. - عرض الأفكار والنظريات والفلسفات الغربية الهدامة وإيجاد خلايا لها بين المسلمين كالشيوعية، والاشتراكية ن والوجودية، والقومية، والوطنية، والإباحية . ألخ، وتمكين أصحاب تلك الاتجاهات في الداخل من مراكز القيادة والتوجيه. - تشتيت بلاد الإسلام، جغرافياً بتقسيمها إلى دويلات، وفكرياً بتشجيع الفرق والأقليات غير الإسلامية، وسياسياً بإيجاد الاتجاهات السياسية والأحزاب لكل دولة. - بث الأفكار الثورية، والاتجاهات الفوضوية، وتشجيع وإثارة المراهقين فكرياً وسياسياً لضمان عدم الاستقرار السياسي في البلاد الإسلامية. وذلك بتكوين وتشجيع الأحزاب السياسية التي تحتوي الأفراد ذوي الميول الحادة وحب المعارضة وعشاق الشهرة. د- التبشير [ التنصير ]: أما التنصير فإنه بدأ في جاوة وسيلان ( من العالم الإسلامي ) منذ مطلع القرن الثامن عشر الميلادي ( )، وفي القرن التاسع عشر ظهر التنصير بشكل منظم في العالم الإسلامي كله، فانتشرت الإرساليات، والمدارس التبشيرية في كل مكان، وكان التنصير هو الأداة الأولى التي يسخرها الاحتلال لأغراضه المتعددة، فقد عرف المنصرين على الواقع المؤلم الذي يعيشه المسلمون الذين أخذوا يبحثون عن خلافتهم، حين ضيعوها بجمودهم وخمولهم، وتواكلهم، فغزاهم المنصرون في عقر دارهم ووصل الأمر بهم - أي النصارى - إلى أنهم كانوا يعقدون مؤتمراتهم لهدم كيان المسلمين والكيد للإسلام في سائر بلاد الإسلام وخاصة المدن الزاخرة بالعلماء والمثقفين والمفكرين. فعقدوا ي القاهرة أكثر من مؤتمر تنصري. وكذلك في القدس أكثر من مرة أيضا. وفي تونس وقسطنطينة الجزائر وفي لكنوء بالهند وفي بيروت وفي أدنبره ( ) فيا ترى أين المسلمون؟ ! هـ - انفتاح العالم الإسلامي على الغرب: لقد تفطن بعض سلاطين الدولة(/3)
العثمانية مبكرا لأهمية التقدم العلمي للدولة الإسلامية خاصة من الناحية العسكرية حين رأى الدول النصرانية قد سبقت في هذا المضمار فقد استعان السلطان سليم الثالث بالنظم الغربية العسكرية واستجلب المهندسين الأجانب لتعليم المسلمين الصناعات والنظم العسكرية المبتكرة عام 1796 م لكنه لقي ( ) معارضة من بعض العلماء - خوفا على الروح الإسلامية - دون أن يوجد البديل أو يهتموا في تعمير وتقدم الدولة الإسلامية من الداخل وبإمكانات المسلمين أنفسهم مما كان له أسوأ الأثر فيما بعد ووقفت الإنكشارية ( من الجيش التركي ) مع هؤلاء والسلطان سليم الثالث حين حاول التطوير لم يعمل بوسائل الحيطة لحفظ الكيان الإسلامي فكريا وعقائديا , ثم جاء السلطان محمود الثاني وقضى على الانكشارية عام 1828 م فتمكن من إدخال النظم والصناعات العسكرية الحديثة ( ) أيضا. وكذلك فعل محمد علي في مصر عام 1805 م فقد أرسل بعثات من أبناء المسلمين للدراسة في الغرب وفي الوقت نفسه افتتح والي تونس كلية العلوم الحربية كل أساتذتها غربيون ( ) لكنه حين فعل ذلك لم يحتط للحفاظ على الروح الإسلامية لدى المتعلمين من أبناء المسلمين مما جعلهم بدافع إعجابهم بمعلميهم الغربيين يتصفون بالنزعة العلمانية بل يحاولون تقليدهم تقليدا أعمى حدا بهم إلى التنكر لدينهم وأمتهم. وفي إيران أيضا افتتحت كلية للعلوم والفنون عام 1852 م قامت على أساس غربي بحت. ( ) لقد كانت هذه الخطوات تبدوا طبيعية تقتضيها المصلحة أول الأمر إنما كانت تنقصها الحكمة والحيطة والوعي من قبل المسلمين أنفسهم لا سيما بعض العلماء الذين رفضوا بشدة الاستفادة من الغرب دون قيد أو شرط والحكام الذين قبلوا وأقبلوا على الاستفادة من الغرب دون قيد أو شرط كلا الفريقين جنى على الإسلام ولا شك وعلى أبناء المسلمين الذين تعلموا العلوم الوافدة. المهم أن الصراع انتهى آخر الأمر بانتصار المستغربين وخسرت الأمة الموقف المعتدل الذي يفيد من الغرب بقدر ما يقوي الأمة ويلحقها بمن سبقها في مضمار الصناعات والعلوم النافعة التي لا تصدم مع العقيدة الإسلامية ويقيم الحياة والدولة الإسلامية على الإسلام. فحاء بعد ذلك السلطان عبد المجيد عام 1839 م في تركيا فأعلن ما يسمى ( بالإصلاح ) ورفع شعارات الحرية الشخصية والحرية الفكرية بالمفهوم الغربي وتسوية المسلين بغير المسلمين وأدخل التنظيمات المستوردة من الغرب. وكذلك فعل إسماعيل في مصر ( 1863- 1876 ) فدعا إلى أن مصر قطعة من أوربا , وأكثر من الغربيين فيها وأنشأ المحاكم المختلطة وعدل الأنظمة والقوانين طبق القانون الفرنسي؟ ( ) وفي هذه الأثناء عاد كثير من المبتعثين - من أبناء المسلمين - من الغرب إلى بلادهم. وكثرت البعثات الجديدة وجاءت تحمل أفكار الغربيين لا علومهم وتقدمهم جاءت بأفكار جاهلية لا تمت إلى الإسلام ولا إلى العلم والتقدم بصلة فبدأت حركة التغريب في العالم الإسلامي على أيدي هؤلاء دون وعي ولا بصيرة ولا تعقل تدفعها أهواء المستغربين وأطماع أساتذتهم الغربيين حيث بدأ على أيدي هؤلاء ما يسمى بحركة اليقظة أو النهضة وتشكلت بذور الاتجاهات العلمانية الحديثة التي نحن بصدد بحثها , وكان أوائل البعثات إلى الغرب رفاعة الطهطاوي من مصر ( 1801 م - 1873 ) وخير الدين التونسي ( 1830 م - 1879 ) ( ) وكلاهما درس في فرنسا في وقت متقارب وكانت الحضارة الغربية في أوج تقدمها فأعجبا بالغرب إعجابا ملك عليهما عقليهما وذهلا للفارق بين أوضاع المسلين وحال الغرب هناك فجاء ككل منهما بهذه النفسية المنهزمة والعقلية الغربية فأخذ ينادي بشعارات غربية دون بصيرة - وعن -حسن نية وصدق عاطفة فيما يبدو - وأخذ يشيد بالغرب والغربيين وينادي بالحرية والتغني بالأمجاد الجاهلية القديمة والوطنية والتسامح الديني تقليدا للغرب وحاول كل مهما أن يخضع تعاليم الإسلام وأصوله للمفاهيم الغربية التي تأثر بها فلقد دعا كل منهما إلى تقليد الغربيين حتى في أساليب المعيشة والأخلاق، وهذا لا شك خطأ وإن كان عن حسن نية !. وفي الهند انبرى السيد أحمد خان ( 1817 م - 1898 م ) ( ) الذي زار أوربا وأعجب بالغرب أيما إعحاب فدعا المسلين إلى مصالحة الإنجليز وبذل جهودا جبارة في إخماد الثورة ضد الإنجليز التي قامت عام 1857 م ثم أعلن عن حركته العلمانية المستغربة والتي قامت على الأصول التالية: ( ) - تجديد الفكر الإسلامي وتفسير القرآن على ضوء العلوم الغربية الحديثة. - الاتصال المباشر بالغرب وخاصة الإنجليز - والنهل من علومهم دون تحفظ ولا تمحيص. - إعادة النظر والتشكيك في المغيبات والأصول الإسلامية التي لا تصدقها ولا تؤمن بها العقلية الحديثة في الغرب. - شرعية الاحتلال الإنجليزي لبلاد المسلمين، وتغيير مفهوم الجهاد لدى المسلمين ليتفق مع الأفكار الغربية ولا يكون موجه ضد الاحتلال، والدعوة إلى التسامح الديني بين المسلمين والكفار وبرهن على ذلك(/4)
بتفسير التوراة والإنجيل. - الاهتمام بنهضة المسلمين علمياً وفصل العلم عن الدين، والإيمان بالمبدأ العلماني المادي ( ). وعلى هذا يبدو أن حركة السيد أحمد خان هي أول اتجاه علماني فكري حديث قام بشكل منظم في العالم الإسلامي. ثم جاء ضياء كوك ألب (1875م) في تركيا ودعا بصراحة إلى سلخ تركيا من ماضيها القريب (الإسلامي)، وتكوينها تكويناً قومياً وطنياً يرجع بها إلى حضاراتها القديمة، قبل الإسلام ( )، وبذلك وجد الاتجاه الثاني، من الاتجاهات الفكرية الحديثة في العالم الإسلامي، بعد اتجاه السيد أحمد خان. بعد ذلك اندلعت الاتجاهات الفكرية العلمانية في كل مكان، مع الاتجاهات السياسية والقومية والطائفية وغيرها، وبدأ تيارها الجارف يجتاح العالم الإسلامي كله، ممثلاً في جهود الاحتلال، والتنصير، والأساتذة والموظفين الغربيين، والطوائف والأقليات غير المسلمة، والمستغربين من أبناء المسلمين، واتخذ شتى الوسائل، من جمعيات سرية وعلنية، وصحف ومجلات ونشرات، ومدارس، ودور نشر، وأحزاب، وقد خلت الساحة - اللهم إلا القليل - من العلماء المسلمين الأكفاء، لصد هذا التيار، عن وعي وإيجابية وجدارة. وهكذا جنى المسلمون، حين ألقوا فلذات أكبادهم في أحضان الغرب - جنوه علقماً يتجرعونه ولا يكادون يسيغونه، فقد جاء أبناؤهم غزاة ناقمين على دينهم وحضارتهم وأمتهم، جاءوا بالأفكار الهدامة والأخلاق الهابطة، والرذيلة، ولم يفيدوا من العلم والتقدم شيئاً يذكر. كما ينبغي أن لا ننسى الدور الذي لعبته الأقليات غير المسلمة في العالم الإسلامي، خاصة النصارى - وبالأخص نصارى لبنان - فقد نشطت هذه الأقليات في نشر الأفكار والمفاهيم الغربية، ومناهضة الخلافة، والجامعة الإسلامية، والاعتراض وإثارة الشبه حول تطبيق الإسلام نظاماً ودستور دولة، بدعوى عدم ملاءمته للعصر، ولأن الجماهير ليست كلها مسلمة، وكان ذلك باسم الحرية الدينية، والتطور، وحرية الفكر، وقد نشطت هذه الأقليات في تقويض الدولة الإسلامية، وترويج الأفكار الهدامة عبر الجمعيات والصحف والترجمة والتأليف والمدارس ( )، لأنها تملك أفضل الوسائل لذلك. واجتاحت الأمة الإسلامية تيارات عاصفة، عقائدياً وفكرياً وسياسياً واقتصادياً، وكان أخطرها تلك الاتجاهات العلمانية التي باتت تقوض أسس الإسلام، وعقائده الأصيلة من الداخل، وفي نفوس الأجيال الناشئة، لتهدم البناء الإسلامي من قواعده - ولن تفلح بإذن الله - ونشطت هذه الاتجاهات مع نهاية القرن التاسع عشر الميلادي نشاطاً هائلاً، وقد خلا لها الجو، وكان أكثر رواد هذه الاتجاهات من تلامذة المستشرقين ( )، الذين صنعهم الغرب على عينه. ولم يطلع ليل القرن الميلادي العشرين، إلا وقد آتت هذه الجهود ثمارها النكدة في المسلمين، وهيمنت طلائع العلمانية في تركيا ومصر، وسائر بلاد المسلمين، وبدأت على يد هؤلاء معركة ما يسمى بالصراع بين القديم والجديد ( )، والحق أنها معركة التحرر من الإسلام من الداخل، فقامت حركة منظمة قوية على أيدي عصابات متماسكة يحكمها، الهدف الواحد والمصير الواحد، وتوزعت حسب تخصصات أفرادها وقدراتهم، في السياسة والأدب والفكر والتعليم والثقافة، وغيرها، ومنهم من ساهم في أكثرها كالدكتور طه حسين !. وأكثر ما تتضح الاتجاهات العلمانية التي تهمنا، في تلك المؤلفات التي انهالت على الناس في كل جوانب الإسلام وأصوله إنكاراً أو تشكيكاً وتشويهاً وتحريفاً، أو تهكماً وسخرية بقيم الإسلام ومثله ومطالبة باستبداله بالإنتاج الغربي الراقي - على حد زعمهم - بصراحة حيناً وبالمراوغة والمكر أحياناً، فكان النصف الأول - من هذا القرن - كله بحق عهد الإنتاج الفكري للاتجاهات العقلية الحديثة، حيث ساهم أكثر روادها في هدم جانب أو أكثر من جوانب الفكر والسلوك الإسلامي. ففي عام 1900م أخرج قاسم أمين كتابيه: ( تحرير المرأة )، ( المرأة الجديدة ) ( ). ثم نشر سلامة موسى كتابه: ( اليوم والغد ) وهو مجموعة مقالات نشرت بين عامي 1925م - 1926م دعا فيه إلى ترك الإسلام واللغة العربية صراحة ( ). وكتب الدكتور طه حسين كتابه ( الشعر الجاهلي ) عام 1926م طعن فيه بصحة بعض القصص التي وردت في القرآن وزعم أن القرآن نتاج بشري، وأشياء أخرى تمس العقيدة في الصميم ( )، ثم مقالاته وبحوثه وكتبه تباعاً، فيها التشكيك والطعن في الإسلام بكل وسيلة سواء ما كان في غير الإسلاميات مثل: ( مستقبل الثقافة في مصر )، ( وفي الأدب الجاهلي ) و ( حديث الأربعاء )، ونحوها، أو ما كان في إسلامياته ولا تقل خطراً عما قبلها مثل: ( على هامش السيرة ) و ( الفتنة الكبرى )، التي لم تسلم منها العقيدة الإسلامية وقد تجرد فيها من كل شيء حسب مبدئه إلا من الدس والطعن والتشكيك في القيم والأخلاق الإسلامية ! وكتب الشيخ علي عبد الرازق كتابه ( الإسلام وأصول الحكم ) عام 1925م زعم فيه أن الإسلام لا صلة له بالدولة، أنه بريء من التدخل في السياسة(/5)
والحكم والقضاء. وكتب الدكتور محمد حسين هيكل كتابه ( حياة محمد - 1935م ) اهتم فيه بالجانب الإنساني، في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وترك جوانب الوحي والنبوة والغيب وأنكر المعجزات، بدعوى أن العلم الحديث لا يصدقها وعرض السيرة النبوية على نمط الدراسات الغربية المادية. وكتب الدكتور أحمد أمين موسوعته الإسلامية، في تاريخ الحياة العقلية للأمة الإسلامية في ( فجر الإسلام وضحاه وظهره ) أكد فيه أثر الجانب العقلي في العقيدة الإسلامية، وقد تأثر بالعقلية المادية الغربية في بعض دراساته وهذا ما سأعرض له في مقالة أخرى إن شاء الله. وكتب الشيخ محمود أبو رية كتابه ( أضواء على السنة المحمدية ) طعن فيه بالسنة النبوية وحجيتها طعناً مكشوفاً، كما طعن في عدالة بعض الصحابة رضي الله عنهم. وكتب محمد أحمد خلف الله ( رسالة ماجستير ) زعم فيها أن القرآن اشتمل على الخرافات والأساطير، وطبعها في كتاب بعنوان ( الفن القصصي في القرآن ). هؤلاء من المشاهير والرواد في مصر وحدها ولم تكن تركيا وبقية بلاد العالم الإسلامي بأقل حظاً منها. فالاتجاهات العلمانية في تركيا قد واكبت أو سبقت أختها في مصر والشام، وقد تمخضت عن الثورة الكمالية، بجهود رواد جمعية الاتحاد والترقي، الذين هم من أقوى دعاة العلمانية والتجديد وإلغاء الخلافة والشريعة الإسلامية من الأرض وتحرير الشرق من الدين بزعمهم ( ) ! وقد اتخمت المكتبة الإسلامية، والصحف والمجلات ومناهج التعليم بهذه الأفكار في العالم الإسلامي كله، وكما أتت هذه الاتجاهات ثمارها فكرياً، كذلك أتت ثمارها عملياً وسياسياً، فتمخضت عن العلمانية في تركيا أولاً، ثم في العالم الإسلامي كله تباعاً. ثم عن القوميات والوطنيات التي مزقت أرض الإسلام وشتت المسلمين ثم عن الاشتراكية، والناصرية، والشيوعية، والبعثية، والرأسمالية، وتسلطت العصابات على رقاب المسلمين، فجاست خلال الديار، وعاثت في الأرض فساداً. في هذا الجو المتوتر المشحون بالفتن نمت وترعرعت وأثمرت جهود أعداء الإسلام في غزو المسلمين فكرياً في عقر دارهم، فالله أسأل أن يعيد للمسلمين عزهم وهيبتهم ومجدهم بالعود الحميد إلى دينه وصراطه المستقيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. الحواشي ( ) أذكر منهم على سبيل المثال: 1- جريردي أورالياك (938 - 1003م) ابتعث إلى الأندلس ودرس في جامعاتها الإسلامية ثم رجع، فكان أوسع علماء عصره في بلده ( فرنسا ) حتى وصل إلى البابوية وأنشأ مدارس عربية بين قومه. 2- قسطنطين الإغريقي - توفى عام ( 1087 م) رحل إلى بغداد وخرسان والشام ومصر والقيروان والهند ثم رجع إلى بلاده. 3- ميخائيل سكوت ( 1175 - 1236م ) رحل إلى الأندلس وتعلم فيها وترجم كثيراً من الكتب الإسلامية إلى لغات غربية، وألف كثيراً من الكتب نقلاً عن المسلمين. 4- رايمند ولوليو ( 1235 - 1314 ). تعلم العربية وحفظ القرآن، ثم رجع إلى باريس، وانضم إلى الرهبانية وأشرف على مدرسة لتعليم العربية في ميراما، وتخرج منه رهبان كثيرون ودعا إلى تعليم اللغات الشرقية في أوربا.. للإفادة من الحضارة الإسلامية، وألف كثيراً من الكتب التي أفادها من العلوم الإسلامية وكانت سبباً في بذور الوعي في بني قومه. 5- بوستل ( 1505 - 1581م ) تعلم العربية وكثيراً من اللغات الشرقية واشترى كثيراً من المخطوطات الإسلامية وصار أستاذاً للعربية والعبرية في عهد فرانسوا الأول، حيث تخرج على يديه نفر من طلائع المستشرقين، ثم أستاذاً للعربية في جامعة فيينا، وألف كثير من الكتب عن الإسلام والمسلمين راجع ( المستشرقون ) لنجيب العقيقي ص 133 - 135، 120، 121، 127، 128، 171، 172 المجلد الأول. ( ) راجع الفكر الإسلامي الحديث للدكتور محمد البهي ص281 إلى 288. ( ) وكثر المفكرون الذين قادوا الحركة العقلية أمثال ولف ولسنج ونيتشة في ألمانيا، وفولتير وبيلي ولاندي في فرنسا، ولوك في إنجلترا، فكانت ثورة عقلية عارمة شملت جميع أوجه الحياة ونشاطاتها العلمية والعملية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ( ) مثل الحركات الثورية الدموية، وعصابات التخريب والاختطاف والاغتيالات والسرقات. ( ) راجع ( المستشرقون ) نجيب العقيقي ص54 المجلد الأول. ( ) راجع ( المستشرقون ) نجيب العقيقي ص 360 - 361 المجلد الأول. ( ) راجع في ذلك: 1- الاستشراق والمستشرقون لمصطفى السباعي ص 21 - 25. 2- أجنحة المكر الثلاثة - عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ص 94 - 98. 3- الفكر الإسلامي الحديث - د. محمد البهي 48 - 63. ( ) راجع الإسلام والثقافة العربية لنور الجندي ص18. ( ) راجع المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها د عبد الرحمن عميرة ص275. ( ) راجع الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار للدكتور محمد البهي ص41، 42، 43. ( ) راجع تاريخ الأمة العربية ( عصر الانبعاث ) محمد سعد أطلس من ص 74 إلى ص 87. ( ) المصدر السابق. ( ) راجع الكتب(/6)
التالية: - التبشير والاستعمار لمصطفى الخالدي وعمر فروخ الطبعة الخامسة 1973م - الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية الطبعة الثانية 1397هـ. - أجنحة المكر الثلاثة - عبد الرحمن بن حسن حنبكة - فصل خطط العدو لغزو الإسلام ص 201. - الفكر الإسلامي الحديث من ص 27 إلى ص 47. ( ) درج الكتاب والباحثون - تبعاً للغربيين - على تسمية حركات التنصير بـ ( التبشير ) وهذا خطأ فاحش لأن هذا النشاط إنما يسمى تبشيراً من المنطلقات والأهداف النصرانية التي تبشر بالدعوة إلى الديانة النصرانية المحرفة فلذلك أرى أن يسمى ( التنصير ). ( ) راجع الغارة على العالم الإسلامي - تأليف شاتليه تعريب محب الدين الخطيب ومساعد اليافي. ص30 - 31. ( ) المصدر السابق من ص 49 إلى 141، والإسلام والثقافة الغربية لأنور الجندي ص 90. ( ) انظر الإسلام والحضارة الغربية - محمد محمد حسين ص12، 13. ( ) - المصدر السابق ( ) - المصدر السابق ( ) المصدر السابق ( ) - انظر الفكر العربي المعاصر - أنور الجندي ص 74 ( ) - راجع الإسلام والحضارة الغربية - د. محمد محمد حسين ص 18 وما بعدها. ( )راجع العروة الوثقى لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ص 412 مقالة لجمال الدين ( الدهريون في الهند ) والفكر الإسلامي الحديث - د محمد البهي ص 38- 42 والصراع بين الفكرة الإسلامية والمفكرة الغربية لأبي الحسن الندوي ص 71. ( ) المصادر السابقة. ( ) المصادر السابقة. ( ) راجع الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية لأبي الحسن الندوي ص39 وما بعدها. ( ) نذكر من هؤلاء أمثال: شبلي شميل، وفرح أعلون، وفرنسيس مراش، ورزق الله حسون، ويعقوب صنوع، وأديب إسحاق، وفيليب حتى، وجرجي زيدان. ( ) من اشهر هؤلاء: الدكتور طه حسين، والدكتور أحمد زكي أبو شادي، وسلامة موسى، والدكتور أحمد زكي ( محرر مجلة العربي ). ( ) راجع الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر الجزء الثاني ص190 إلى 287 طبعة عام 1389. ( ) راجع الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية ص 108 الطبعة الثالثة. ( ) انظر الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر ص221 - 228. ( ) المصدر السابق. ( ) حتى قال أحد زعمائهم وهو ( ناظم بك ) " إننا نحن العثمانيين لا يمكن أن نترقى إلا إذا نبذنا الدين وراء ظهورنا وعصرنا العلماء عصراً نمحقهم به محقاً " ص132 عدد 29 صفر عام 1331هـ من مجلة المنار المجلد 16 ج2، وقال أحد الباشوات: " لو كان في بدني شعرة تؤمن بفلان - وذكر خاتم الرسل وسيد العرب والعجم صلى الله عليه وسلم - لقلعتها مع اللحم الذي حولها وألقيتها. المصدر السابق نفسه ص133.(/7)
الغزو الفكري - أسئلة وأجوبة
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
مكتب الدعوة و الإرشاد بسلطانة
س1: ما هو تعريف الغزو الفكري في رأيكم؟
ج: الغزو الفكري هو مصطلح حديث يعني مجموعة الجهود التي تقوم بها أمة من الأمم للاستيلاء على أمة أخرى أو التأثير عليها حتى تتجه وجهة معينة. وهو أخطر من الغزو العسكري؛ لأن الغزو الفكري ينحو إلى السرية وسلوك المسارب الخفية في بادئ الأمر فلا تحس به الأمة المغزوة ولا تستعد لصده والوقوف في وجهه حتى تقع فريسة له وتكون نتيجته أن هذه الأمة تصبح مريضة الفكر والإحساس تحب ما يريده لها عدوها أن تحبه وتكره ما يريد منها أن تكرهه. وهو داء عضال يفتك بالأمم ويذهب شخصيتها ويزيل معاني الأصالة والقوة فيها والأمة التي تبتلى به لا تحس بما أصابها ولا تدري عنه ولذلك يصبح علاجها أمرا صعبا وإفهامها سبيل الرشد شيئاً عسيراً.
س2: هل يتعرض العرب عامة والمملكة خاصة لهذا النوع من الغزو؟
ج: نعم يتعرض المسلمون عامة ومنهم العرب لغزو فكري عظيم تداعت به عليهم أمم الكفر من الشرق والغرب ومن أشد ذلك وأخطره:
1- الغزو النصراني الصليبي.
2- الغزو اليهودي.
3- الغزو الشيوعي الإلحادي.
أما الغزو النصراني الصليبي فهو اليوم قائم على أشده، ومنذ أن انتصر صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين الغازين لبلاد المسلمين بالقوة والسلاح أدرك النصارى أن حربهم هذه وإن حققت انتصارات، فهي وقتية لا تدوم؛ ولذا فكروا في البديل الأفضل وتوصلوا بعد دراسات واجتماعات إلى ما هو أخطر من الحروب العسكرية وهو أن تقوم الأمم النصرانية فرادى وجماعات بالغزو الفكري لناشئة المسلمين؛ لأن الاستيلاء على الفكر والقلب أمكن من الاستيلاء على الأرض فالمسلم الذي لم يلوث فكره لا يطيق أن يرى الكافر له الأمر والنهي في بلده؛ ولهذا يعمل بكل قوته على إخراجه وإبعاده ولو دفع في سبيل ذلك حياته وأغلى ثمن لديه، وهذا ما حصل بعد الانتصارات الكبيرة للجيوش الصليبية الغازية، أما المسلم الذي تعرض لذلك الغزو الخبيث فصار مريض الفكر عديم الإحساس فإنه لا يرى خطرا في وجود النصارى أو غيرهم في أرضه بل قد يرى أن ذلك من علامات الخير ومما يعين على الرقي والحضارة، وقد استغنى النصارى بالغزو الفكري عن الغزو المادي؛ لأنه أقوى وأثبت وأي حاجة لهم في بعث الجيوش وإنفاق الأموال مع وجود من يقوم بما يريدون من أبناء الإسلام عن قصد أو عن غير قصد وبثمن أو بلا ثمن؛ ولذلك لا يلجئون إلى محاربة المسلمين علانية بالسلاح والقوة إلا في الحالات النادرة الضرورية التي تستدعي العجل كما حصل في غزو أوغندة أو باكستان أو عندما تدعو الحاجة إليها لتثبيت المنطلقات وإقامة الركائز وإيجاد المؤسسات التي تقوم بالحرب الفكرية الضروس كما حصل في مصر وسوريا والعراق وغيرها قبل الجلاء.
أما الغزو اليهودي فهو كذلك؛ لأن اليهود لا يألون جهداً في إفساد المسلمين في أخلاقهم وعقائدهم، ولليهود مطامع في بلاد المسلمين وغيرها، ولهم مخططات أدركوا بعضها ولا زالوا يعملون جاهدين لتحقيق ما تبقى، وهم إن حاربوا المسلمين بالقوة والسلاح واستولوا على بعض أرضهم فإنهم كذلك يحاربونهم في أفكارهم ومعتقداتهم؛ ولذلك ينشرون فيهم مبادئ ومذاهب ونحلا باطلة كالماسونية والقاديانية والبهائية والتيجانية وغيرها ويستعينون بالنصارى وغيرهم في تحقيق مآربهم وأغراضهم.
أما الغزو الشيوعي الإلحادي فهو اليوم يسري في بلاد الإسلام سريان النار في الهشيم نتيجة للفراغ وضعف الإيمان في الأكثرية وغلبة الجهل وقلة التربية الصحيحة والسليمة، فقد استطاعت الأحزاب الشيوعية في روسيا والصين وغيرهما أن تتلقف كل حاقد وموتور من ضعفاء الإيمان وتجعلهم ركائز في بلادهم ينشرون الإلحاد والفكر الشيوعي الخبيث وتعدهم وتمنيهم بأعلى المناصب والمراتب فإذا ما وقعوا تحت سيطرتها أحكمت أمرها فيهم، وأدبت بعضهم ببعض وسفكت دماء من عارض أو توقف حتى أوجدت قطعانا من بني الإنسان حرباً على أممهم، وأهليهم وعذابا على إخوانهم وبني قومهم، فمزقوا بهم أمة الإسلام وجعلوهم جنودا للشيطان يعاونهم في ذلك النصارى واليهود بالتهيئة والتوطئة أحيانا وبالمدد والعون أحيانا أخرى، ذلك أنهم وإن اختلفوا فيما بينهم فإنهم جميعا يد واحدة على المسلمين يرون أن الإسلام هو عدوهم اللدود؛ ولذا نراهم متعاونين متكاتفين بعضهم أولياء بعض ضد المسلمين فالله سبحانه المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.
س3: ما هي الوسائل التي يستخدمها الغرب لترويج أفكاره؟
ج: الوسائل التي يستخدمها الغرب لترويج أفكاره كثيرة منها:
1- محاولة الاستيلاء على عقول أبناء المسلمين وترسيخ المفاهيم الغربية فيها لتعتقد أن الطريقة الفضلى هي طريقة الغرب في كل شيء سواء فيما يعتقده من الأديان والنحل أو ما يتكلم به من اللغات أو ما يتحلى به من الأخلاق أو ما هو عليه من عادات وطرائق.(/1)
2- رعايته لطائفة كبيرة من أبناء المسلمين في كل بلد وعنايته بهم وتربيتهم حتى إذا ما تشربوا الأفكار الغربية وعادوا إلى بلادهم أحاطهم بهالة عظيمة من المدح والثناء حتى يتسلموا المناصب والقيادات في بلدانهم وبذلك يروجون الأفكار الغربية وينشئون المؤسسات التعليمية المسايرة للمنهج الغربي أو الخاضعة له.
3- تنشيطه لتعليم اللغات الغربية في البلدان الإسلامية وجعلها تزاحم لغة المسلمين وخاصة اللغة العربية لغة القرآن الكريم التي أنزل الله بها كتابه والتي يتعبد بها المسلمون ربهم في الصلاة والحج والأذكار وغيرها، ومن ذلك تشجيع الدعوات الهدامة التي تحارب اللغة العربية وتحاول إضعاف التمسك بها في ديار الإسلام في الدعوة إلى العامية وقيام الدراسات الكثيرة التي يراد بها تطوير النحو وإفساده وتمجيد ما يسمونه بالأدب الشعبي والتراث القومي.
4- إنشاء الجامعات الغربية والمدارس التبشيرية في بلاد المسلمين ودور الحضانة ورياض الأطفال والمستشفيات والمستوصفات وجعلها أوكارا لأغراضه السيئة وتشويق الدراسة فيها عند الطبقة العالية من أبناء المجتمع ومساعدتهم بعد ذلك على تسلم المراكز القيادية والوظائف الكبيرة حتى يكونوا عونا لأساتذتهم في تحقيق مآربهم في بلاد المسلمين.
5- محاولة السيطرة على مناهج التعليم في بلاد المسلمين ورسم سياستها، إما بطريق مباشر كما حصل في بعض بلاد الإسلام حينما تولى دنلوب القسيس تلك المهمة فيها أو بطريق غير مباشر عندما يؤدي المهمة نفسها تلاميذ ناجحون درسوا في مدارس دنلوب وتخرجوا فيها فأصبح معظمهم معول هدم في بلاده وسلاحا فتاكا من أسلحة العدو يعمل جاهدا على توجيه التعليم توجيها علمانيا لا يرتكز على الإيمان بالله والتصديق برسوله وإنما يسير نحو الإلحاد ويدعو إلى الفساد.
6- قيام طوائف كبيرة من النصارى واليهود بدراسة الإسلام واللغة العربية وتأليف الكتب وتولي كراسي التدريس في الجامعات حتى أحدث هؤلاء فتنة فكرية كبيرة بين المثقفين من أبناء الإسلام بالشبه التي يلقنونها لطلبتهم أو التي تمتلئ بها كتبهم وتروج في بلاد المسلمين حتى أصبح بعض تلك الكتب مراجع يرجع إليها بعض الكاتبين والباحثين في الأمور الفكرية أو التاريخية ولقد تخرج على يد هؤلاء المستشرقين من أبناء المسلمين رجال قاموا بنصيب كبير في إحداث الفتنة الكبرى وساعدهم على ذلك ما يحاطون به من الثناء، والإعجاب وما يولونه من مناصب هامة في التعليم والتوجيه والقيادة، فأكملوا ما بدأه أساتذتهم وحققوا ما عجزوا عنه لكونهم من أبناء المسلمين ومن جلدتهم ينتسبون إليهم ويتكلمون بلسانهم فالله المستعان.
7- انطلاق الجيوش الجرارة من المبشرين الداعين إلى النصرانية بين المسلمين وقيامهم بعملهم ذلك على أسس مدروسة وبوسائل كبيرة عظيمة يجند لها مئات الآلاف من الرجال ولقد تعد لها أضخم الميزانيات وتسهل لها السبل وتذلل لها العقبات يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]، وإذا كان هذا الجهد منصبا على الطبقة العامية غالبا فإن جهل الاستشراق موجه إلى المثقفين كما ذكرت آنفا وأنهم يتحملون مشاق جساما في ذلك العمل في بلاد إفريقيا وفي القرى النائية من أطراف البلدان الإسلامية في شرق آسيا وغيرها ثم هم بعد كل حين يجتمعون في مؤتمرات يراجعون حسابهم وينظرون في خططهم فيصححون ويعدلون ويبتكرون فلقد اجتمعوا في القاهرة سنة 1906 م. وفي ادنمبرج سنة 1910م وفي لكنوا سنة 1911م وفي القدس عام 1935م وفي القدس كذلك في عام 1935م ولا زالوا يوالون الاجتماعات والمؤتمرات فسبحان من بيده ملكوت كل شيء وإليه يرجع الأمر كله.(/2)
8- الدعوة إلى إفساد المجتمع المسلم وتزهيد المرأة في وظيفتها في الحياة وجعلها تتجاوز الحدود التي حد الله لها وجعل سعادتها في الوقوف عندها وذلك حينما يلقون بين المسلمين الدعوات بأساليب شتى وطرق متعددة إلى أن تختلط النساء بالرجال وإلى أن تشتغل النساء بأعمال الرجال، يقصدون من ذلك إفساد المجتمع المسلم والقضاء على الطهر والعفاف الذي يوجد فيه وإقامة قضايا وهمية ودعاوى باطلة في أن المرأة في المجتمع المسلم قد ظلمت وأن لها الحق في كذا وكذا ويريدون إخراجها من بيتها وإيصالها إلى حيث يريدون في حين أن حدود الله واضحة وأوامره صريحة وسنة رسول الله جلية بينة يقول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:59]، ويقول سبحانه: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ [النور:31] الآية. ويقول وَإَِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]، ويقول: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزراب:33]، ويقول : { إياكم والدخول على النساء قال رجل من الأنصار يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال الحمو الموت }، وقال: { لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما }.
9- إنشاء الكنائس والمعابد وتكثيرها في بلاد المسلمين وصرف الأموال الكثيرة عليها وتزيينها وجعلها بارزة واضحة في أحسن الأماكن وفي أكبر الميادين.
10- تخصيص إذاعات موجهة تدعو إلى النصرانية وتشيد بأهدافها وتضلل بأفكارها أبناء المسلمين السذج الذين لم يفهموا الإسلام ولم تكن لهم تربية كافية عليه وخاصة في إفريقيا حيث يصاحب هذا الإكثار من طبع الأناجيل وتوزيعها في الفنادق وغيرها وإرسال النشرات التبشيرية والدعوات الباطلة إلى الكثير من أبناء المسلمين.
هذه بعض الوسائل التي يسلكها أعداء الإسلام اليوم في سبيل غزو أفكار المسلمين وتنحية الأفكار السليمة الصالحة لتحل محلها أفكار أخرى غريبة شرقية أو غربية، وهي كما نرى جهودا جبارة وأموالا طائلة وجنودا كثيرين، كل ذلك لإخراج المسلمين من الإسلام وإن لم يدخلوا في النصرانية أو اليهودية أو الماركسية إذ يعتقد القوم أن المشكلة الرئيسية في ذلك هي إخراجهم من الإسلام، وإذا تم التوصل إلى هذه المرحلة فما بعدها سهل وميسور، ولكننا مع هذا نقول إن الله سيخيب آمالهم ويبطل مكرهم ويضعف كيدهم، لأنهم مفسدون وهو سبحانه لا يصلح عمل المفسدين.
قال الله تعالى وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، وقال سبحانه: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [الطارق:15-17]، وإن الأمر يحتاج من المسلمين وقفة عقل وتأمل ونظر في الطريق التي يجب أن يسلكوها والموقف المناسب الذي يجب أن يقفوه وأن يكون لهم من الوعي والإدراك ما يجعلهم قادرين على فهم مخططات أعدائهم وعاملين على إحباطها وإبطالها ولن يتم لهم ذلك إلا بالاستعصام بالله والاستمساك بهديه والرجوع إليه والإنابة له والاستعانة به، وتذكر هديه في كل شيء وخاصة في علاقة المؤمنين بالكافرين، وتفهم معنى سورة الكافرون، وما ذكره سبحانه في قوله: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وقوله: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
أسأل الله سبحانه أن يهيئ لهذه الأمة من أمرها رشدا وأن يعيذها من مكايد أعدائها ويرزقها الاستقامة في القول والعمل حتى تكون كما أراد الله لها من العزة والقوة والكرامة، إنه خير مسئول وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/3)
الغزو الفكريّ ووسائله
رئيسي :عقائد :السبت 8 شوال 1425هـ - 20 نوفمبر 2004 م
أولا : ما هو الغزو الفكري؟
الغزو الفكري: هو مصطلح حديث يعنى:' مجموعة الجهود التي تقوم بها أمة من الأمم للاستيلاء على أمة أخري، أو التأثير عليها حتى تتجه وجهة معينة'. وهو أخطر من الغزو العسكري؛ لأن الغزو الفكري ينحو إلى السرية، وسلوك المسارب الخفية في بادي الأمر، فلا تحس به الأمة المغزوة، ولا تستعد لصده والوقوف في وجهه حتى تقع فريسة له، وتكون نتيجته أن هذه الأمة تصبح مريضة الفكر والإحساس، تحب ما يريده لها عدوها أن تحبه، وتكره ما يريد منه أن تكرهه.
وهو داء عضال يفتك بالأمم، ويُذهب شخصيتها، ويزيل معاني الأصالة والقوة فيها، والأمة التي تبتلى به لا تحس بما أصابها، ولا تدري عنه؛ ولذلك يصبح علاجها أمراً صعباً، وإفهامها سبيل الرشد شيئاً عسيراً.
ثانيًا: هل يتعرض المسلمون لهذا النوع من الغزو؟
نعم يتعرض المسلمون عامة ومنهم العرب لغزو فكري عظيم، تداعت به عليهم أمم الكفر من الشرق والغرب ومن أشد ذلك وأخطره:
- الغزو النصراني الصليبي.
- الغزو اليهودي.
- الغزو الشيوعي الإلحادي.
أما الغزو النصراني الصليبي: فهو اليوم قائم على أشده، ومنذ أن انتصر صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين الغازين لبلاد المسلمين بالقوة والسلاح؛ أدرك النصارى أن حربهم هذه- وإن حققت انتصارات فهي- وقتية لا تدوم، ولذا فكروا في البديل الأفضل، وتوصلوا بعد دراسات واجتماعات إلى ما هو أخطر من الحروب العسكرية، وهو أن تقوم الأمم النصرانية فرادي وجماعات بالغزو الفكري لناشئة المسلمين؛ لأن الاستيلاء على الفكر والقلب أمكن من الاستيلاء على الأرض،
فالمسلم الذي لم يلوث فكره لا يطيق أن يري الكافر له الأمر والنهى في بلده، ولهذا يعمل بكل قوته على إخراجه وإبعاده ولو دفع في سبيل ذلك حياته وأغلى ثمن لديه، وهذا ما حصل بعد الانتصارات الكبيرة للجيوش الصليبية الغازية.
أما المسلم الذي تعرض لذلك الغزو الخبيث فصار مريض الفكر عديم الإحساس، فإنه لا يري خطراً في وجود النصارى، أو غيرهم في أرضه، بل قد يري أن ذلك من علامات الخير، ومما يعين على الرقى والحضارة.
أما الغزو اليهودي: فهو كذلك لأن اليهود لا يألون جهداً في إفساد المسلمين في أخلاقهم وعقائدهم. ولليهود مطامع في بلاد المسلمين وغيرها، ولهم مخططات أدركوا بعضها، ولا زالوا يعملون جاهدين لتحقيق ما تبقى. وهم وإن حاربوا المسلمين بالقوة والسلاح، واستولوا على بعض أرضهم، فإنهم كذلك يحاربونهم في أفكارهم ومعتقداتهم؛ ولذلك ينشرون فيهم مبادئ ومذاهب ونحلاً باطلة: كالماسونية والقاديانية، والبهائية، والتيجانية، وغيرها، ويستعينون بالنصارى وغيرهم في تحقيق مآربهم وأغراضهم.
أما الغزو الشيوعي الإلحادي: فقد استطاعت الأحزاب الشيوعية وغيرها أن تتلقف كل حاقد وموتور من ضعفاء الإيمان، وتجعلهم ركائز في بلادهم ينشرون الإلحاد، وتعدهم وتمنيهم بأعلى المناصب والمراتب، فإذا ما وقعوا تحت سيطرتها؛ أحكمت أمرها فيهم، وأدبت بعضهم ببعض، وسفكت دماء من عارض، أو توقف، حتى أوجدت قطعاناً من بنى الإنسان حرباً على أممهم وأهليهم، وعذاباً على إخوانهم وبنى قومهم، فمزقوا بهم أمة الإسلام، وجعلوهم جنوداً للشيطان يعاونهم في ذلك النصارى واليهود بالتهيئة والتوطئة أحياناً، وبالمدد والعون أحياناً أخرى؛ ذلك أنهم- وإن اختلفوا فيما بينهم- فإنهم جميعاً يد واحدة على المسلمين، يرون أن الإسلام هو عدوهم اللدود؛ ولذا نراهم متعاونين متكاتفين، بعضهم أولياء بعض ضد المسلمين.
ثالثًا: الوسائل التي يستخدمها الغرب لترويج أفكاره:
هي كثيرة، ومنها:
1- محاولة الاستيلاء على عقول أبناء المسلمين وترسيخ المفاهيم الغربية فيها: لتعتقد أن الطريقة الفضلى هي طريقة الغرب في كل شيء سواء فيما يعتقده من الأديان والنحل، أو ما يتكلم به من اللغات، أو ما يتحلى به من الأخلاق، أو ما هو عليه من عادات وطرائق.
3- رعايته لطائفة كبيرة من أبناء المسلمين في كل بلد وعنايته بهم وتربيتهم: حتى إذا ما تشربوا الأفكار الغربية وعادوا إلى بلادهم أحاطهم بهالة عظيمة من المدح والثناء حتى يتسلموا المناصب والقيادات في بلدانهم، وبذلك يروجون الأفكار الغربية، وينشئون المؤسسات التعليمية المسايرة للمنهج الغربي، أو الخاضعة له.
3- تنشيطه لتعليم اللغات الغربية في البلدان الإسلامية، وجعلها تزاحم لغة المسلمين، وخاصة اللغة العربية لغة القرآن الكريم: التي أنزل الله بها كتابه، والتي يتعبد بها المسلمون ربهم في الصلاة والحج و الأذكار وغيرها. ومن ذلك تشجيع الدعوات الهدامة التي تحارب اللغة العربية، وتحاول إضعاف التمسك بها في ديار الإسلام في الدعوة إلى العامية، وقيام الدراسات الكثيرة التي يراد بها تطوير النحو وإفساده، وتمجيد ما يسمونه بالأدب الشعبي، والتراث القومي .(/1)
4- إنشاء الجامعات الغربية، والمدارس التبشيرية في بلاد المسلمين: ودور الحضانة، ورياض الأطفال، والمستشفيات والمستوصفات، وجعلها أوكاراً لأغراضه السيئة وتشويق الدراسة فيها عند الطبقة العالية من أبناء المجتمع، ومساعدتهم بعد ذلك على تسلم المراكز القيادية، والوظائف الكبيرة؛ حتى يكونوا عوناً لأساتذتهم في تحقيق مآربهم في بلاد المسلمين.
5- محاولة السيطرة على مناهج التعليم في بلاد المسلمين: برسم سياستها إما بطريق مباشر كما حصل في بلاد الإسلام حينما تولى [دنلوب] القسيس تلك المهمة فيها، أو بطريق غير مباشر عندما يؤدي المهمة نفسها تلاميذ ناجحون درسوا في مدارس [دنلوب] وتخرجوا فيها، فأصبح معظمهم معول هدم في بلاده، وسلاحاً فتاكاً من أسلحة العدو يعمل جاهداً على توجيه التعليم توجيهاً علمانياً لا يرتكز على الإيمان بالله، والتصديق برسوله، وإنما يسير نحو الإلحاد، ويدعو إلى الفساد.
6- قيام طوائف كبيرة من النصارى واليهود بدراسة الإسلام، واللغة العربية، وتأليف الكتب وتولى كراسي التدريس في الجامعات: حتى أحدث هؤلاء فتنة فكرية كبيرة بين المثقفين من أبناء الإسلام بالشبه التي يلقنونها لطلبتهم، أو التي تمتلئ بها كتبهم، وتروج في بلاد المسلمين حتى أصبح بعض تلك الكتب مراجع يرجع إليها بعض الكاتبين والباحثين في الأمور الفكرية، أو التاريخية، ولقد تخرج على يد هؤلاء المستشرقين من أبناء المسلمين رجال قاموا بنصيب كبير من إحداث الفتنة الكبرى، وساعدهم على ذلك ما يحاطون به من الثناء والإعجاب، وما يولونه من مناصب هامة في التعليم والتوجيه والقيادة، فأكملوا ما بدأه أساتذتهم، وحققوا ما عجزوا عنه لكونهم من أبناء المسلمين، ومن جلدتهم ينتسبون إليهم، ويتكلمون بلسانهم فالله المستعان.
7- انطلاق الجيوش الجرارة من المبشرين الداعين إلى النصرانية بين المسلمين وقيامهم بعملهم ذلك على أسس مدروسة وبوسائل كبيرة عظيمة: يجند لها مئات الآلاف من الرجال، ولقد تعد لها أضخم الميزانيات، وتسهل لها السبل، وتذلل لها العقبات { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ[8]}[سورة الصف].
وإذا كان هذا الجهد منصباً على الطبقة العامية غالباً، فإن جهد الإستشراق موجه إلى المثقفين- كما ذكرت آنفا-ً وإنهم يتحملون مشاقاً جساماً في ذلك العمل في بلاد أفريقيا، وفي القرى النائية من أطراف البلدان الإسلامية في شرق آسيا، ثم هم بعد كل حين يجتمعون في مؤتمر يراجعون حسابهم وينظرون في خططهم، فيصححون ويعدلون ويبتكرون. فلقد اجتمعوا في القاهرة سنة 1906، وفي ادنمبرج سنة 1910، وفي لكنوا سنة 1911، وفي القدس 1935 م، وفي القدس كذلك في عام 1935 م. ولا زالوا يوالون الاجتماعات والمؤتمرات فسبحان من بيده ملكوت كل شيء واليه يرجع الأمر كله.
8- الدعوة إلى إفساد المجتمع المسلم، وتزهيد المرأة في وظيفتها في الحياة، وجعلها تتجاوز الحدود التي حد الله لها وجعل سعادتها في الوقوف عندها: وذلك حينما يلقون بين المسلمين الدعوات بأساليب شتى وطرق متعددة إلى أن:
تختلط النساء بالرجال، والى أن تشتغل النساء بأعمال الرجال، يقصدون من ذلك إفساد المجتمع المسلم، والقضاء على الطهر والعفاف الذي يوجد فيه، وإقامة قضايا وهمية، ودعاوى باطلة في أن المرأة في المجتمع المسلم قد ظُلمت، وأن لها الحق في كذا وكذا؛ يريدون إخراجها من بيتها، وإيصالها إلى ما يريدون.
في حين أن حدود الله واضحة، وأوامره صريحة، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جلية بينة، يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[59]}[سورة الأحزاب]. ويقول سبحانه:{ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ...[31]}[سورة النور]. ويقول: {...وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ...[53]}[سورة الأحزاب]. ويقول: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى...[33]}[سورة الأحزاب]. ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ] فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ قَالَ: [الْحَمْوُ الْمَوْتُ]رواه البخاري ومسلم.
وقال: [...أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ]رواه الترمذي.(/2)
9- إنشاء الكنائس والمعابد وتكثيرها في بلاد المسلمين: وصرف الأموال الكثيرة عليها، وتزيينها وجعلها بارزة واضحة في أحسن الأماكن، وفي أكبر الميادين.
10- تخصيص إذاعات موجهة تدعو إلى النصرانية، وتشيد بأهدافها: وتضلل بأفكارها أبناء المسلمين السذج الذين لم يفهموا الإسلام ولم تكن لهم تربية كافية عليه، وخاصة في إفريقيا يصاحب هذا الإكثار من طبع الأناجيل، وتوزيعها في الفنادق وغيرها، وإرسال النشرات التبشيرية والدعوات الباطلة إلى الكثير من أبناء المسلمين.
هذه بعض الوسائل التي يسلكها أعداء الإسلام اليوم في سبيل غزو أفكار المسلمين، وتنحية الأفكار السليمة الصالحة لتحل محلها أفكار أخرى غربية شرقية، أو غربية، وهى كما نرى جهوداً جبارة وأموالاً طائلة وجنوداً كثيرين كل ذلك لإخراج المسلمين من الإسلام- وإن لم يدخلوا في النصرانية، أو اليهودية، أو الماركسية- إذ يعتقد القوم أن المشكلة الرئيسية في ذلك هي إخراجهم من الإسلام، وإذا تم التوصل إلى هذه المرحلة، فما بعدها أسهل وميسور.
ولكننا مع هذا نقول إن الله سيخيب آمالهم، ويبطل مكرهم، ويضعف كيدهم؛ لأنهم مفسدون وهو سبحانه لا يصلح عمل المفسدين. قال الله تعالى: { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[30]}[سورة الأنفال]. وقال سبحانه: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا[15]وَأَكِيدُ كَيْدًا[16]فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا[17]}[سورة الطارق].
وإن الأمر يحتاج من المسلمين وقفة عقل وتأمل ونظر في الطريق التي يجب أن يسلكوها، والموقف المناسب الذي يجب أن يقفوه، وأن يكون من الوعي والإدراك ما يجعلهم قادرين على فهم مخططات أعدائهم، وعاملين على إحباطها وإبطالها، ولن يتم ذلك إلا بالاستعصام بالله، والاستمساك بهديه، والرجوع إليه، والاستعانة به، وتذكر هديه في كل شيء، وخاصة في علاقة المؤمنين بالكافرين وتفهم معنى سورة 'الكافرون' وما ذكره سبحانه في قوله: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ...[120]}[سورة البقرة]. وقوله: { وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا...[217]}[سورة البقرة].
أسال الله سبحانه أن يهيئ لهذه الأمة من أمرها رشداً، وأن يعيذها من مكائد أعدائها، ويرزقها الاستقامة في القول والعمل حتى تكون كما أراد الله لها من العزة والقول والكرامة. إنه خير مسئول وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من 'الغزو الفكريّ ووسائله' لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله(/3)
الغضب آداب وأحكام
د. نايف بن أحمد الحمد 22/12/1426
22/01/2006
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد : " فإن الغضب عدو العقل، وهو له كالذئب للشاة قلَّ ما يتمكن منه إلا اغتاله " (1) , والغضب من الصفات التي ندر أن يسلم منه أحد بل تركه بالكلية صفة نقص لا كمال -كما سيأتي بيانه- " والغضب ينسي الحرمات ، ويدفن الحسنات ، ويخلق للبريء جنايات " (2) وقد قيل :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** ولكن عين السخط تبدي المساويا (3)
كما قيل :
وعين البغض تبرز كل عيب *** وعين الحب لا تجد العيوبا (4)
وكثير منا لا يحسن الغضب إن غضب , ولم نرب أنفسنا وأولادنا كيف نغضب ولماذا نغضب وفي هذه الخاطرة جمعت ما يَسَّر الله - تعالى - جمعه من آيات ، وأحاديث , وحكم , وشعر , وغيرها مما يتعلق بهذا الموضوع سائلا المولى جل جلاله التوفيق والسداد .
تعريف الغضب:
عَرَّف الغضبَ جمعٌ من علماء اللغة وغيرهم ، واختلفت العبارات ، واتفقت الثمرة فكلمة ( الغضب ) يدرك معناها الصغير ، والكبير بلا تكلف أو تعب فتوضيح الواضحات - كما يقال - من الفاضحات ، وقد يزيده غموضا وإشكالا قال المناوي –رحمه الله تعالى – " والغضب كيفية نفسانية وهو بديهي التصور "ا.هـ (5) ومع ذلك لابد من ذكر شيء من ذلك :
قال القرطبي -رحمه الله تعالى- " والغضب في اللغة : الشدة ، ورجل غضوب أي شديد الخلق ، والغضوب الحية الخبيثة ؛ لشدتها , والغضبة : الدرقة من جلد البعير يطوى بعضها على بعض سميت بذلك لشدتها " ا.هـ (6)
وقيل في معناه : تغيُّر يحصل عند فوران دم القلب ليحصل عنه التشفي في الصدر . (7)
وقيل : الغضب إرادة الإضرار بالمغضوب عليه .
أسباب الغضب :
بواعث الغضب ، وأسبابه كثيرة جدا ، والناس متفاوتون فيها ، فمنهم مَن يَغضب لأمر تافه لا يُغضب غيره وهكذا ، فمِن أسباب الغضب :
أولا : العُجب : فالعجب بالرأي والمكانة والنسب والمال سبب للعداوة إن لم يُعقل بالدين وذلك برده ودفعه فالعجب قرين الكِبْر وملازم له , والكِبْر من كبائر الذنوب فقد قال النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- ( لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقال ذرة من كِبر ) (8) وقال النبي –صلى الله عليه وسلم- ( ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع أمر العوام ) (9) وعن ابن عباس –رضي الله عنهما – مرفوعا ( المهلكات ثلاث إعجاب المرء بنفسه وشح مطاع وهوى متبع ) (10). ولهذا فقد كان السلف يُحذرون من أسباب العُجب ، ولو لم تكن مباشرة فعن سليم بن حنظلة قال : بينا نحن حول أُبي بن كعب نمشي خلفه إذ رآه عمر فعلاه بالدرة ، فقال : أنظر يا أمير المؤمنين ما تصنع ؟ فقال : "إن هذا ذلة للتابع وفتنة للمتبوع" (11).
وجاء أن يحيى بن زكريا لقي عيسى بن مريم -صلى الله عليهما وسلم- فقال : أخبرني بما يُقرِّب من رضا الله ، وما يُبعد من سخط الله ؟ فقال : " لا تغضب " . قال : الغضب ما يبدئه وما يعيده ؟ قال : " التعزز والحمية والكبرياء والعظمة " (12).
ثانيا / المراء : قال عبد الله بن الحسين : " المراء رائد الغضب فأخزى الله عقلا يأتيك به الغضب " ا.هـ (13) وللمراء آفات كثيرة منها : الغضب لهذا فقد نهى الشارع عنه قال النبي –صلى الله عليه وآله وسلم – ( أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا ) (14).
ثالثا : المزاح
إن المزاح بدؤه حلاوة *** لكنما آخره عداوة
يحتد منه الرجل الشريف *** ويجتري بسخفه السخيف (15)
فتجد بعض المكثرين من المزاح يتجاوز الحد المشروع منه : إما بكلام لا فائدة منه ، أو بفعل مؤذ قد ينتج عنه ضرر بالغ ثم يزعم بعد ذلك أنه كان يمزح ؛ لذا قال النبي –صلى الله عليه وسلم- ( لا يأخذن أحدكم متاع صاحبه جادا ولا لاعبا ) (16)
وقال أبو هقان :
مازح صديقك ما أحب مزاحا *** وتوق منه في المزاح مزاحا
فلربما مزح الصديق بمزحة *** كانت لباب عداوة مفتاحا
ذكر خالد بن صفوان المزاح فقال : يَصُكُّ أحدكم صاحبه بأشد من الجندل , ويُنشقه أحرق من الخردل , ويُفرغ عليه أحرَّ من المرجل ثم يقول : إنما كنت أمازحك .
قال محمود الوراق :
تَلََقَّى الفتى أخاه وخدنه *** في لحن منطقه بما لا يُغتفر
ويقول كنت ممازحا وملاعبا *** هيهات نارك في الحشا تتسعر
ألهبتها وطفقت تضحك لاهيا *** مما به وفؤاده يتفطر
أو ما علمت ومثل جهلك يتقى *** أن المزاح هو السباب الأكبر (17)
وقال عمر بن عبد العزيز –رحمه الله تعالى – " إياك والمزاح فإنه يجر القبيح ويورث الضغينة " (18)
واحذر ممازحة تعود عداوة *** إن المزاح على مقدمة الغضب
وقال ميمون بن مهران –رحمه الله تعالى- " إذا كان المزاح أمام الكلام كان آخره اللطم والشتام " .(/1)
رابعا : بذاءة اللسان وفحشه : بشتم أو سب أو تعيير مما يوغل الصدور , ويثير الغضب ، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يبغض الفاحش البذيء ) (19) .
ومن أسباب الغضب أيضا : الغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه قال الغزالي -رحمه الله تعالى- " ومن أشد البواعث عليه عند أكثر الجهال : تسميتهم الغضب شجاعة ورجولية وعزة نفس وكِبر همة "ا.هـ (20).
أنواع الغضب :
الأول : الغضب المحمود : وهو ما كان لله –تعالى- عندما تنتهك محارمه ، وهذا النوع ثمرة من ثمرات الإيمان إذ أن الذي لا يغضب في هذا المحل ضعيف الإيمان قال تعالى عن موسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بعد علمه باتخاذ قومه العجل ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأعراف :150) .
أما غضب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فلا يُعرف إلا أن تنتهك محارم الله –تعالى- فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم - شيئا قط بيده ، ولا امرأة ، ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله -عز وجل- (21).
ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال : خرج رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم - على أصحابه وهم يختصمون في القدر فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب فقال : ( بهذا أمرتم ؟ أو لهذا خلقتم ؟ تضربون القرآن بعضه ببعض بهذا هلكت الأمم قبلكم ) فقال عبد الله بن عمرو : ما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ما غبطت نفسي بذلك المجلس وتخلفي عنه . (22) ، وما أكثر ما تنتهك محارم الله تعالى في هذا الزمان علنا وسرا ، فكثير من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لا همَّ لها سوى نشر الرذيلة ، ومحاربة الفضيلة ، وإشاعة الفاحشة ، وبث الشبهات ، وتزيين المنكر ، وإنكار المعروف ، والاستهزاء بالدين وشعائره فهذا كله مما يوجب الغضب لله –تعالى- وهو من الغضب المحمود ، وعلامة على قوة الإيمان ، وهو ثمرة لحفظ الأوطان ،وسلامة الأبدان ، وتظهر ثمرة الغضب هنا بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والرد على الشبهات أما السكوت المطبق مع القدرة على التغيير فسبب للهلاك فعن زينب بنت جحش –رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- استيقظ من نومه وهو يقول : (لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) - وحلق بأصبعه وبالتي تليها - قلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال :(نعم إذا كثر الخبث) (23) .
وكذلك من الغضب المحمود : الغضب لما يحدث للمسلمين من سفك للدماء ، وانتهاك للأعراض ، واستباحة للأموال ، وتدمير للبلدان بلا حق .
الثاني : الغضب المذموم :
وهو ما كان في سبيل الباطل والشيطان كالحمية الجاهلية ، والغضب بسبب تطبيق الأحكام الشرعية ، وانتشار حلق تحفيظ القرآن الكريم ، ومعاداة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بسبب محاربتهم للرذيلة ، وكذا الدفاع عن المنكرات كالتبرج والسفور ، وسفر المرأة بلا محرم ، ويظهر ذلك جليا في كتابة بعض كُتَّاب الصحف فتجد أحدهم يغضب بسبب ذلك ، ولا همَّ له سوى مسايرة العصر !! سواء وافق الشرع المطهر أو خالفه فالحق عندهم ما وافق هواهم والباطل ما حدَّ من مبتغاهم قال تعالى ( لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) )أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (النور:52) .
الثالث : الغضب المباح :(/2)
وهو الغضب في غير معصية الله –تعالى- ولم يتجاوز حدَّه كأن يجهل عليه أحد , وكظمه هنا خير وأبقى قال تعالى ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(آل عمران : 134) ومما يُذكر هنا أن جارية لعلي بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء , فتهيأ للصلاة , فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه , فرفع علي بن الحسين رأسه إليها، فقالت الجارية : إن الله -عز وجل - يقول :(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) فقال لها : قد كظمت غيظي . قالت (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) فقال لها : قد عفا الله عنك . قالت : (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال : اذهبي فأنت حرة (24).
وتغضب حتى إذا ما ملكتَ *** أطعتَ الرضا وعصيتَ الغضب (25)
وقال نوح بن حبيب : كنت عند ابن المبارك فألحوا عليه . فقال : هاتوا كتبكم حتى أقرأ . فجعلوا يرمون إليه الكتب من قريب ومن بعيد ، وكان رجل من أهل الري يسمع كتاب الاستئذان فرمى بكتابه فأصاب صلعة ابن المبارك حرفُ كتابه فانشق ، وسال الدم , فجعل ابن المبارك يعالج الدم حتى سكن ثم قال : سبحان الله كاد أن يكون قتال ثم بدأ بكتاب الرجل فقرأه (26).
قال ابن حبان –رحمه الله تعالى- " والخلق مجبولون على الغضب ، والحلم معا ، فمن غضب وحلم في نفس الغضب فإن ذلك ليس بمذموم ما لم يخرجه غضبه إلى المكروه من القول والفعل على أن مفارقته في الأحوال كلها أحمد " (27) ا.هـ
درجات الناس في قوة الغضب :
الأولى : التفريط : ويكون ذلك بفقد قوة الغضب بالكلية أو بضعفها .
الثانية : الإفراط : ويكون بغلبة هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين ولا تبقى للمرء معها بصيرة ونظر ولا فكرة ولا اختيار .
الثالثة : الاعتدال : وهو المحمود وذلك بأن ينتظر إشارة العقل والدين (28).
علاج الغضب :
( ما أنزل الله داء إلا وأنزل له شفاء ) (29) ومن الأدوية لعلاج داء الغضب :
أولا : الاستعاذة بالله من الشيطان
قال تعالى ( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (فصلت:36) عن سليمان بن صرد -رضي الله عنه – قال : كنت جالسا مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ورجلان يستبان فأحدهما احمر وجهه , وانتفخت أوداجه , فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ( إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد ) فقالوا له : إن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال :( تعوذ بالله من الشيطان ) فقال : وهل بي جنون . (30). قال ابن القيم -رحمه الله تعالى – " وأما الغضب فهو غول العقل يغتاله كما يغتال الذئب الشاة وأعظم ما يفترسه الشيطان عند غضبه وشهوته " (31) ا.هـ
ثانيا : تغيير الحال
عن أبى ذر -رضي الله عنه -أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال ( إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع) (32).
ثالثا : ترك المخاصمة والسكوت
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي –رحمه الله تعالى " ومن الأمور النافعة أن تعلم أن أذية الناس لك وخصوصا في الأقوال السيئة لا تضرك بل تضرهم إلا إن أشغلت نفسك في الاهتمام بها , وسوغت لها أن تملك مشاعرك , فعند ذلك تضرك كما ضرتهم , فإن أنت لم تصنع لها بالا , لم تضرك شيئا " (33) .
يخاطبني السفيه بكل قبح *** فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلما *** كعود زاده الإحراق طيبا
عن ابن عباس -رضي الله عنهما -عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال ( علموا وبشروا ولا تعسروا وإذا غضب أحدكم فليسكت ) (34). قال ابن رجب -رحمه الله تعالى- " وهذا أيضا دواء عظيم للغضب ؛ لأن الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليه في حال زوال غضبه كثيرا من السباب وغيره مما يعظم ضرره , فإذا سكت زال هذا الشر كله عنده , وما أحسن قول مورق العجلي -رحمه الله- ما امتلأتُ غضبا قط ولا تكلمتُ في غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت " (35) ا.هـ
قال سالم ابن ميمون الخواص :
إذا نطق السفيه فلا تجبه *** فخير من إجابته السكوتُ
سكتُّ عن السفيه فظن أني *** عييتُ عن الجواب وما عييتُ
شرار الناس لو كانوا جميعا *** قذى في جوف عيني ما قذيتُ
فلستُ مجاوبا أبدا سفيها *** خزيتُ لمن يجافيه خزيتُ (36)
وقيل :
ولقد أمر على السفيه يسبني *** فمررت ثمَّتَ قلتُ لا يعنيني
وقال الصفدي :
واستشعر الحلم في كل الأمور ولا *** تسرع ببادرة يوما إلى رجل
وإن بليت بشخص لا خلاق له *** فكن كأنك لم تسمع ولم يقل
رابعا : الوضوء
عن عطية السعدي -رضي الله عنه - قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ( إن الغضب من الشيطان ؛ وإن الشيطان خلق من النار ، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ ) (37).(/3)
وفي حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- مرفوعا (ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه ، وانتفاخ أوداجه فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق وضوء) (38) .
خامسا : استحضار الأجر العظيم لكظم الغيظ
فمن استحضر الثواب الكبير الذي أعده الله تعالى لمن كتم غيظه وغضبه كان سببا في ترك الغضب والانتقام للذات , وبتتبع بعض الأدلة من الكتاب والسنة نجد جملة من الفضائل لمن ترك الغضب منها :
1/ الظفر بمحبة الله تعالى والفوز بما عنده قال تعالى ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:134) ومرتبة الإحسان هي أعلا مراتب الدين .
وقال تعالى ( فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى:37) .
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ( ثلاثة مَن كنَّ فيه آواه الله في كنفه , وستر عليه برحمته وأدخله في محبته ) قيل : ما هن يا رسول الله ؟ قال : ( مَن إذا أُعطي شكر , وإذا قَدر غفر , وإذا غَضب فتر) (39).
2/ ترك الغضب سبب لدخول الجنة
عن أبي الدرداء -رضي الله عنه – قال : قلت : يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة . قال : (لا تغضب ولك الجنة) (40).
3/ المباهاة به على رؤوس الخلائق
عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال (مَن كظم غيظا وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره في أي الحور شاء) (41).
4/ النجاة من غضب الله تعالى
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال : قلت يا رسول الله ما يمنعني من غضب الله ؟ قال (لا تغضب) (42) فالجزاء من جنس العمل ، ومن ترك شيئا لله عوضه الله تعالى خيرا منه.
وقال أبو مسعود البدري –رضي الله عنه- : كنت أضرب غلاما لي بالسوط فسمعت صوتا من خلفي ( اعلم أبا مسعود ) فلم أفهم الصوت من الغضب قال : فلما دنا مني إذا هو رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فإذا هو يقول : ( اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود ) قال : فألقيت السوط من يدي . فقال : ( اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام ) قال : فقلت لا أضرب مملوكا بعده أبدا (43).
وكان أبو الدرداء –رضي الله عنه - يقول " أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب واحذر أن تظلم من لا ناصر له إلا الله " (44) ا.هـ
5/ زيادة الإيمان
قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ( وما من جرعة أحب إلي من جرعة غيظ يكظمها عبد ، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانا) (45).
6/ كظم الغيظ من أفضل الأعمال
عن ابن عمر -رضي الله عنهما-قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- (ما من جرعة أعظم أجرا ثم الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله ) (46).
قال ابن تيمية –رحمه الله تعالى-: " ما تجرع عبد جرعة أعظم من جرعة حلم عند الغضب ، وجرعة صبر عند المصيبة ، وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم ، وهذا هو الشجاع الشديد الذي يصبر على المؤلم ، والمؤلم إن كان مما يمكن دفعه أثار الغضب ، وإن كان مما لا يمكن دفعه أثار الحزن ، ولهذا يحمر الوجه عند الغضب لثوران الدم عند استشعار القدرة ، ويصفر عند الحزن لغور الدم عند استشعار العجز " ا.هـ (47)
سادسا : الإكثار من ذكر الله تعالى
قال تعالى ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28) فمن اطمئن قلبه بذكر الله تعالى كان أبعد ما يكون عن الغضب قال عكرمة -رحمه الله تعالى -في قوله تعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ )(الكهف:24) " إذا غضبت " (48).
سابعا : العمل بوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(/4)
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلا قال للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أوصني . قال ( لا تغضب ) فردد مرارا قال (لا تغضب ) (49). وهنيئا لمن امتثل هذه الوصية وعمل بها ولا شك أنها وصية جامعة مانعة لجميع المسلمين ، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي –رحمه الله تعالى-" هذا الرجل ظن أنها وصية بأمر جزئي , وهو يريد أن يوصيه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بكلام كلي , ولهذا ردد . فلما أعاد عليه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- , عرف أن هذا كلام جامع , وهو كذلك ؟ فإن قوله : ( لا تغضب ) يتضمن أمرين عظيمين : أحدهما : الأمر بفعل الأسباب , والتمرن على حسن الخلق , والحلم والصبر , وتوطين النفس على ما يصيب الإنسان من الخلق , من الأذى القولي والفعلي . فإذا وفق لها العبد , وورد عليه وارد الغضب , احتمله بحسن خلقه , وتلقاه بحلمه وصبره , ومعرفته بحسن عواقبه , فإن الأمر بالشيء أمر به , وبما لا يتم إلا به , والنهي عن الشيء أمر بضده , وأمر بفعل الأسباب التي تعين العبد على اجتناب المنهي عنه , وهذا منه . الثاني : الأمر - بعد الغضب - أن لا ينفذ غضبه : فإن الغضب غالبا لا يتمكن الإنسان من دفعه ورده , ولكنه يتمكن من عدم تنفيذه . فعليه إذا غضب أن يمنع نفسه من الأقوال والأفعال المحرمة التي يقتضيها الغضب . فمتى منع نفسه من فعل آثار الغضب الضارة , فكأنه في الحقيقة لم يغضب . وبهذا يكون العبد كامل القوة العقلية , والقوة القلبية " ا.هـ (50)
قال ميمون بن مهران : جاء رجل إلى سلمان -رضي الله عنه -فقال : يا أبا عبد الله أوصني . قال : لا تغضب . قال : أمرتني أن لا أغضب وإنه ليغشاني ما لا أملك . قال : فإن غضبت فاملك لسانك ويدك (51).
ثامنا : النظر في نتائج الغضب
فكثير الغضب تجده مصابا بأمراض كثيرة كالسكري والضغط والقولون العصبي وغيرها مما يعرفها أهل الاختصاص , كما أنه بسببه تصدر من الغاضب تصرفات قولية أو فعلية يندم عليها بعد ذهاب الغضب روي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال " لذة العفو يلحقها حمد العاقبة , ولذة التشفي يلحقها ذم الندم " (52). وقيل : من أطاع الغضب أضاع الأرب .
وقال الكريزي :
ولم أر في الأعداء حين اختبرتهم *** عدوا لعقل المرء أعدى من الغضب (53)
وقال ابن رجب -رحمه الله تعالى- " والغضب هو غليان دم القلب المؤذي عنه خشية وقوعه أو طلبا للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعد وقوعه ، وينشأ من ذلك كثير من الأفعال المحرمة كالقتل والضرب وأنواع الظلم والعدوان ، وكثير من الأقوال المحرمة كالقذف والسب والفحش , وربما ارتقى إلى درجة الكفر كما جرى لجبلة بن الأيهم " (54) ا.هـ وكثيرا ما نسمع أن والدا قتل ولده ، أو ولدا قتل والده فضلا عن غيرهم بسبب الغضب ، وكم ضاع من خير وأجر وفضل بسبب الغضب ، وكم حلت من مصيبة ودمار وهلاك بسبب الغضب ، وبسبب ساعة غضب قطعت الأرحام ، ووقع الطلاق ، وتهاجر الجيران ، وتعادى الإخوان ، وقامت بين الدول الحروب ... عن وائل -رضي الله عنه- قال : إني لقاعد مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم - إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة فقال : يا رسول الله هذا قتل أخي . فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ( أقتلته ) ؟ فقال : إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة . قال : نعم قتلته . قال : ( كيف قتلته ) ؟ قال : كنت أنا وهو نحتطب من شجرة فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته (55).
قال مروان بن الحكم في وصيته لابنه عبد العزيز : " وإن كان بك غضب على أحد من رعيتك فلا تؤاخذه به عند سورة الغضب ، واحبس عنه عقوبتك حتى يسكن غضبك ثم يكون منك ما يكون وأنت ساكن الغضب منطفئ الجمرة فإن أول من جعل السجن كان حليما ذا أناة " ا.هـ (56).
وكتب عمر بن عبد العزيز –رحمه الله تعالى-إلى عامل من عماله " أن لا تعاقب عند غضبك ، وإذا غضبت على رجل فاحبسه فإذا سكن غضبك فأخرجه فعاقبه على قدر ذنبه " (57) ا.هـ
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى – " إن الغضب مرض من الأمراض ، وداء من الأدواء فهو في أمراض القلوب نظير الحمى والوسواس والصرع في أمراض الأبدان فالغضبان المغلوب في غضبه كالمريض والمحموم والمصروع المغلوب في مرضه والمبرسم المغلوب في برسامه " (58) ا.هـ وقال -رحمه الله تعالى – " إذا اقتدحت نار الانتقام من نار الغضب ابتدأت بإحراق القادح ، أَوْثِقْ غضبك بسلسلة الحلم فإنه كلب إن أفلت أتلف " (59) ا.هـ(/5)
وقال المعتمر بن سليمان : كان رجل ممن كان قبلكم يغضب , ويشتد غضبه فكتب ثلاث صحائف , فأعطى كل صحيفة رجلا , وقال للأول : إذا اشتد غضبي فقم إلي بهذه الصحيفة وناولنيها . وقال للثاني : إذا سكن بعض غضبي فناولنيها . وقال للثالث : إذا ذهب غضبي فناولنيها . وكان في الأولى : اقصر فما أنت وهذا الغضب إنك لست بإله إنما أنت بشر يوشك أن يأكل بعضك بعضا . وفي الثانية : ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء . وفي الثالثة : احمل عباد الله على كتاب الله فإنه لا يصلحهم إلا ذاك (60) .ا.هـ
تاسعا : أن تعلم أن القوة في كظم الغيظ ورده
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال ( ليس الشديد بالصُّرَعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) . (61) قال ابن القيم –رحمه الله تعالى – " أي مالك نفسه أولى أن يسمى شديدا من الذي يصرع الرجال " ا.هـ (62).
وقال ابن تيمية –رحمه الله تعالى – " ولهذا كان القوي الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب حتى يفعل ما يصلح دون ما لا يصلح فأما المغلوب حين غضبه فليس هو بشجاع ولا شديد " (63) ا.هـ
وقال الزرقاني -رحمه الله تعالى- " لما كان الغضبان بحالة شديدة من الغيظ , وقد ثارت عليه شدة من الغضب , فقهرها بحلمه , وصرعها بثباته ، وعدم عمله بمقتضى الغضب كان كالصرعة الذي يصرع الرجال ولا يصرعونه " (64) ا.هـ
ليست الأحلام في حال الرضا *** إنما الأحلام في حال الغضب
وعن أنس -رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مر بقوم يصطرعون فقال ( ما هذا ) ؟ فقالوا : يا رسول الله فلان ما يصارع أحدا إلا صرعه . فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم – ( أفلا أدلكم على مَن هو أشد منه رجل ظلمه رجل فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه ) (65).
ألا إن حلم المرء أكرم نسبة *** تسامى بها عند الفخار حليم
فياربِّ هب لي منك حلما فإنني *** أرى الحلم لم يندم عليه كريم
قال المسترشد بالله في وصيته لقاضيه علي بن الحسين الزينبي " أن يجعل التواضع والوقار شيمته , والحلم دأبه وخليقته , فيكظم غيظه عند احتدام أواره واضطرام ناره مجتنبا عزة الغضب الصائرة إلى ذلة الاعتذار " (66) ا.هـ
عاشرا : قبول النصيحة والعمل بها
فعلى من شاهد غاضبا أن ينصحه ، ويذكره فضل الحلم ، وكتم الغيظ ، وعلى المنصوح قبولُ ذلك قال ابن عباس -رضي الله عنهما- استأذن الحر بن قيس لعيينة فأذن له عمر فلما دخل عليه قال : هي يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزْل( أي العطاء الكثير) ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى همَّ به . فقال له الحر : يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199) وإن هذا من الجاهلين . والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه , وكان وقافا عند كتاب الله. (67) . قال ابن القيم رحمه الله تعالى :" وهكذا الغضبان فإنه إذا اشتد به الغضب يألم بحمله فيقول ما يقول ، ويفعل ما يفعل ؛ ليدفع عن نفسه حرارة الغضب فيستريح بذلك , وكذلك يلطم وجهه , ويصيح صياحا قويا , ويشق ثيابه , ويلقي ما في يده ؛ دفعا لألم الغضب , وإلقاء لحمه منه , وكذلك يدعو على نفسه وأحب الناس إليه فهو يتكلم بصيغة الطلب والاستدعاء والدعاء , وهو غير طالب لذلك في الحقيقة فكذلك يتكلم بصيغة الإنشاء وهو غير قاصد لمعناها , ولهذا يأمر الملوك وغيرهم عند الغضب بأمور يعلم خواصهم أنهم تكلموا بها دفعا لحرارة الغضب وأنهم لا يريدون مقتضاها فلا يمتثله خواصهم بل يؤخرونه فيحمدونهم على ذلك إذا سكن غضبهم , وكذلك الرجل وقت شدة الغضب يقوم ليبطش بولده أو صديقه فيحول غيره بينه وبين ذلك فيحمدهم بعد ذلك كما يحمد السكران والمحموم ونحوهما من يحول بينه وبين ما يهم بفعله في تلك الحالة " (68) ا.هـ
والحلم آفته الجهل المضرُّ به *** والعقل آفته الإعجاب والغضب
الحادي عشر : أخذ الدروس من الغضب السابق
فلو استحضر كل واحد منا قبل أن يُنفذ غضبه الحاضر ثمرةَ غضبٍ سابقٍ ندم عليه بعد إنفاذه لما أقدم على ما تمليه عليه نفسه الأمارة بالسوء مرة ثانية , فمنع الغضب أسهل من إصلاح ما يفسده قال ابن حبان –رحمه الله تعالى – " سرعة الغضب من شيم الحمقى كما أن مجانبته من زي العقلاء , والغضب بذر الندم فالمرء على تركه قبل أن يغضب أقدر على إصلاح ما أفسد به بعد الغضب " (69) ا.هـ
لا تغضبن على قوم تحبهم *** فليس ينجيك من أحبابك الغضب (70)
الثاني عشر : اجتناب وإزالة أسباب الغضب : وقد ذكرت جملة منها .(/6)
قال الشيخ السعدي –رحمه الله تعالى – " ومن الأسباب الموجبة للسرور وزوال الهم والغم : السعي في إزالة الأسباب الجالبة للهموم , وفي تحصيل الأسباب الجالبة للسرور , وذلك بنسيان ما مضى من المكاره التي لا يمكنه ردُّها , ومعرفته أن اشتغال فكره فيها من باب العبث والمحال , وأن ذلك حمق وجنون " (71) ا.هـ
الثالث عشر : معرفة أن المعاصي كلها تتولد من الغضب والشهوة فتركهما إغلاق لباب من أبواب العصيان :
قال ابن القيم رحمه الله تعالى " ولما كانت المعاصي كلها تتولد من الغضب والشهوة , وكان نهاية قوة الغضب القتل , ونهاية قوة الشهوة الزنى جمع الله –تعالى- بين القتل والزنى , وجعلهما قرينين في سورة الأنعام , وسورة الإسراء , وسورة الفرقان , وسورة الممتحنة , والمقصود أنه سبحانه أرشد عباده إلى ما يدفعون به شر قوتي الغضب والشهوة من الصلاة والاستعاذة " ا.هـ (72).
الرابع عشر : قال ابن حبان -رحمه الله تعالى- " لو لم يكن في الغضب خصلة تذم إلا إجماع الحكماء قاطبة على أن الغضبان لا رأي له لكان الواجب عليه الاحتيال لمفارقته بكل سبب " ا.هـ (73) لذا فقد قال النبي –صلى الله عليه وآله وسلم – ( لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان ) (74) قال ابن القيم –رحمه الله تعالى- " إن الفقهاء اختلفوا في صحة حكم الحاكم في الغضب على ثلاثة أقوال وهي ثلاثة أوجه في مذهب احمد : أحدها : لا يصح و لا ينفذ ؛ لأن النهي يقتضي الفساد . والثاني : ينفذ . والثالث : إن عرض له الغضب بعد فهم الحكم نفذ حكمه , وإن عرض له قبل ذلك لم ينفذ " ا.هـ (75) وقال معللا المنع " إنما كان ذلك لأن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه , ويمنعه من كمال الفهم , ويحول بينه وبين استيفاء النظر , ويعمي عليه طريق العلم والقصد " ا.هـ (76) لهذا كان من وصية أمير المؤمنين عمر لأبي موسى الأشعري –رضي الله عنهما- في القضاء " وإياك والغضب والقلق والضجر " (77).
صور من هدي السلف عند الغضب
سب رجل ابن عباس -رضي الله عنهما – فلما فرغ قال : يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها ؟ فنكس الرجل رأسه واستحى (78).
وقال أبو ذر –رضي الله عنه- لغلامه : لِمَ أرسلت الشاة على علف الفرس ؟ قال : أردت أن أغيظك . قال : لأجمعن مع الغيظ أجرا أنت حر لوجه الله تعالى (79).
وأسمع رجل أبا الدرداء – رضي الله عنه- كلاما , فقال : يا هذا لا تغرقن في سبنا ودع للصلح موضعا فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه .
قال الأحنف بن قيس –رحمه الله تعالى – لابنه : يا بني إذا أردت أن تؤاخي رجلا فأغضبه , فإن أنصفك وإلا فاحذره (80).
إذا كنت مختصا لنفسك صاحبا *** فمن قبل أن تلقاه بالود أغضبه
فإن كان في حال القطيعة منصفا *** وإلا فقد جربته فتجنبه
وقال محمد بن حماد الكاتب :
فأعجب من ذا وذا أنني *** أراك بعين الرضا في الغضب (81)
وأختم بما رواه عطاء بن السائب عن أبيه قال : صلى بنا عمار بن ياسر -رضي الله عنه- صلاة فأوجز فيها فقال له بعض القوم : لقد خففت أو أوجزت الصلاة ، فقال : أما على ذلك فقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ، فلما قام تبعه رجل من القوم هو أنه كنى عن نفسه فسأله عن الدعاء ثم جاء فأخبر به القوم ( اللهم بعلمك الغيب , وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي , وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي اللهم , وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة , وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب , وأسألك القصد في الفقر والغنى , وأسألك نعيما لا ينفد , وأسألك قرة عين لا تنقطع , وأسألك الرضاء بعد القضاء , وأسألك برد العيش بعد الموت , وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك ضراء مضرة ولا فتنة مضلة , اللهم زينا بزينة الإيمان , واجعلنا هداة مهتدين ) (82) والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم وزاد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
________________________________________
(1) إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان /49 .
(2) قرى الضيف 4 / 224 يتيمة الدهر 4/224 .
(3) صبح الأعشى 9/196 جمهرة الأمثال 1/356 الأغاني 12/250ونسبه لعبد الله بن معاوية الجعفري .
(4) ثمار القلوب في المضاف والمنسوب 1/327 المستطرف في كل فن مستظرف /455 .
(5) فيض القدير 6/81 .
(6) تفسير القرطبي 1/150 .
(7) التعريفات /168 .
(8) رواه مسلم (91) من حديث ابن مسعود –رضي الله عنه- .
(9) رواه أبو داود (4341) والترمذي (3058) من حديث أبي ثعلبة الخشني –رضي الله عنه- وقال "حسن غريب" وصححه ابن حبان (385) .
(10) رواه البزار (3366) والبغوي (33) بإسناد ضعيف .
(11) رواه ابن أبي الدنيا في التواضع (51) كما رواه الدارمي (527) والخطيب في الجامع (925) من قول سعيد بن جبير.
(12) الزهد (44) .
(13) البيان والتبيين 1/208 .
(14) رواه أبو داود ( 4800) من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-.
(15) أدب الدنيا والدين /309 .(/7)
(16) رواه أحمد 4/221 وأبو داود (5003) والترمذي (2160) من حديث يزيد بن سعيد-رضي الله عنه- وقال الترمذي : " حسن غريب" .
(17) الآداب الشرعية لابن مفلح 2/221 .
(18) رواه ابن أبي شيبة 7/243 .
(19) رواه الترمذي (2003) وابن حبان (5693) من حديث أبي الدرداء –رضي الله عنه- وقال الترمذي : " حسن صحيح " .
(20) إحياء علوم الدين 3/173 .
(21) رواه مسلم (2328) .
(22) رواه أحمد 2/178 وابن ماجه (85) واللفظ له قال البوصيري –رحمه الله تعالى - "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات " ا.هـ مصباح الزجاجة 1/14.
(23) رواه البخاري ( 3402) ومسلم (2880) .
(24) رواه البيهقي في الشعب (8317) .
(25) قرى الضيف 1/49 يتيمة الدهر 1/49 .
(26) رواه البيهقي في الشعب (8320) .
(27) روضة العقلاء /141 .
(28) أنظر : إحياء علوم الدين 3/179.
(29) البخاري ( 5354) .
(30) رواه البخاري ( 3108) .
(31) التبيان في أقسام القرآن /265 .
(32) رواه أحمد 5/152 وأبو داود(4782) وصححه ابن حبان (5688) .
(33) الوسائل المفيدة للحياة السعيدة /25 .
(34) رواه أحمد 3/239 والطيالسي (2608) والبخاري في الأدب (245) .
(35) جامع العلوم والحكم 1/ 146 وأنظر قول مورق في الزهد /305 .
(36) روضة العقلاء /140 .
(37) رواه أحمد 4/226 وأبو داود (4784) .
(38) رواه أحمد 3/61 والترمذي (2191) والحاكم 4/551 وقال الترمذي : "حديث حسن صحيح " .
(39) رواه الحاكم 1/214 وقال : "هذا حديث صحيح الإسناد ". والبيهقي في الشعب 4/154 وضعفه.
(40) رواه الطبراني في الأوسط (2353) وفي مسند الشاميين (21) قال المنذري :" رواه الطبراني بإسنادين أحدهما صحيح " ا.هـ الترغيب والترهيب 3/300 وروى نحوه ابن حبان في روضة العقلاء /138.
(41) رواه أحمد 3/440 وأبو داود (4777) والترمذي ( 2493) وقال : هذا حديث حسن غريب .
(42) رواه ابن حبان (296) .
(43) رواه مسلم ( 1659) .
(44) البيان والتبيين 1/456.
(45) رواه أحمد1/327 من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما- .
(46) رواه أحمد 2/128 والبخاري في الأدب (1318) وابن ماجه (4189) قال البوصيري -رحمه الله تعالى- " هذا إسناد صحيح رجاله ثقات " ا.هـ المصباح (1496) .
(47) الاستقامة 2/272 .
(48) رواه ابن جرير 15/226 والبيهقي في الشعب ( 8296) .
(49) رواه البخاري ( 5765) .
(50) بهجة قلوب الأبرار /136 .
(51) خرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (610) وانظر: جامع العلوم والحكم 1/147 .
(52) المستطرف /406 .
(53) روضة العقلاء /222 .
(54) جامع العلوم والحكم 1/147 .
(55) رواه مسلم (1680) .
(56) جمهرة خطب العرب 2/191 .
(57) المستطرف /415 .
(58) إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان /53 .
(59) الفوائد /50 .
(60) المستطرف /415 .
(61) رواه البخاري (5763) ومسلم (2609) .
(62) حاشية ابن القيم على مختصر سنن أبي داود 13/271.
(63) الاستقامة 2/271 .
(64) شرح الزرقاني 4/327 .
(65) رواه البزار قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- " البزار بإسناد جيد " .ا.هـ فتح الباري 10/519 .
(66) صبح الأعشى 10/275 .
(67) رواه البخاري (4366) .
(68) إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان /47 .
(69) روضة العقلاء /138 .
(70) المدهش 2/298 .
(71) الوسائل المفيدة /16 .
(72) زاد المعاد 2/463 .
(73) روضة العقلاء /140 .
(74) رواه البخاري (6739) ومسلم (1717) من حديث أبي بكرة- رضي الله عنه- .
(75) إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان /65 .
(76) إعلام الموقعين 1/217 .
(77) رواه الدارقطني 4/206 ووكيع في أخبار القضاة 1/70 و283 و ابن عساكر في تاريخ دمشق 32/70.
(78) المستطرف /201 .
(79) البيان والتبيين 1/456 المستطرف /201 .
(80) المستطرف / 203 وروي ذلك عن لقمان -عليه السلام – كما في روضة العقلاء /91 .
(81) قرى الضيف 5/44 صبح الأعشى 9/198 يتيمة الدهر 5/44 .
(82) رواه ابن أبي شيبة 6/44 وأحمد 4/264 والنسائي ( 1305) واللفظ له وصححه ابن حبان (1971) .(/8)
الغضب
الحَمْدُ لِلَّهِ نحمده ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ? يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً? [النساء:1]. ? يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران: 102]. ?يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
فإن الغضب خلق من الأخلاق المنافية للصبر ولا سيما الغضب الذي يخرج الإنسان عن طوره وسمته، أو الغضب للباطل وللهوى والشهوة. هذا الغضب رذيلة من الرذائل الخلقية إذا تحكم في نفوس الناس وتمكن من مجتمعاتهم كان له أسوأ الأثر في حياتهم، ونتائج بشعة في تمزيق روابط المودة بينهم ، فالإنسان حين يشتد غضبه و يزداد غيظه, يفقد الرشد والصواب، ويصبح وحشاً ضارباً لا يدري ما يفعل، يظن أنه بذلك يظهر بمظهر المحترم لنفسه المحافظ على سمعته وكرامته ، والواقع أنه يظهر بمظهر الطائش الأحمق .. إذ يتصرف تصرفات رعناء تفسد عليه حياته ويخسر دنياه وآخرته. لذلك كله جعل الإسلام من صفات المتقين الذين يستحقون رضوان الله عدم الاستسلام للغضب، كما قال الله تعالى في وصفهم?...وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ? [آل عمران: 134] . والغيظ هو أشد الغضب وقد ربى النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته على الأخلاق العظيمة وحذرهم ونهاهم عن الأخلاق السيئة والصفات الذميمة ومنها الغضب.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أوصني، قال: "لا تغضب" فردد مراراً قال: "لا تغضب".
أيها المؤمنون إن هيجات الغضب كثيرة متدافعة ولا سيما في واقعنا المعاصر المليء بالفتنة والإثارات وإن دفع عوامل الغضب وضبط النفس بطولة لا يستطيعها إلا الأشداء أقوياء الإرادة والإيمان، فليس من السهل إذا اغتاظ الإنسان أن يضبط نفسه ويكظم غيظه، ويكف عن الانتقام ممن أغضبه أو غاظه، ولذلك جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - البطولة في الناس هي ضبط النفس عن الاندفاع بعوامل الغضب.
ففي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" .
وفي صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما تعدون الصُرعة فيكم؟" فقالوا: الذي لا تصرعه الرجال، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب" .
إن امتلاك النفس عند الغضب بطولة إنسانية فعلاً، تعتمد على العقل وقوة الإيمان والإرادة، أما بطولة المصارعة فهي امتياز جسدي يعتمد على قوة العضلات والتدريب الجسدي.
إننا نسرف في بغضنا وعداوتنا وفي خصوماتنا وتعاملنا، ساءت أخلاقنا وضاقت علينا البلاد فما عادت تسعنا.
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها لكن أخلاق الرجال تضيق
إن النفوس ملئت حقداً وكراهية وكبراً وأنانية من الكثير منا إلا من رحم الله. وما ذاك إلا لأن الإيمان بالله والخوف منه جل وعلا قد ضعف أو ذهب من النفوس والقلوب إلا ما شاء الله.
يدفعنا الغيظ والغضب والحمية الجاهلية إلى أمور سيئة قبيحة لا يرض الله عنها ولا رسوله، ولا تتفق مع عقل ولا دين ولنذكر نماذج وأمثلة من هذا الذي نقوله:
فإذا ما تحدثنا عن الأسر وما يحصل فيها من مآسي نتيجة الغضب غير المحمود نجد عجباً.
أحدهم يأتي منزله فلا يرى الطعام قد جهز لسبب أو لآخر فيقيم الدنيا ولا يقعدها ويملأ البيت صراخاً وعويلاً، وقد تمتد يده إلى زوجته ضرباً واعتداءاً دون مراعاة لأحوالها وظروفها وقد ترد عليه الزوجة معتذرة أو ناقدة فلا يزيده ذلك إلا حماقة وجهالة. وقد يغضب أحدهم على امرأته لأنها ولدت بنات ولم تلد ذكوراً وهذه حماقات وضلالات، وقد يشتد به الغضب ويطلّق امرأته، ويهدم كيان أسرته لسبب تافه لا يستحق ذلك كله، وقد يتجاوز حدود الشرع في طلاقه ولا يلتزم بحدود الله فقد يطلق امرأته ألف طلقة أو مائة ألف فتبين منه ثم يندم حين لا ينفع الندم.
قال ابن عباس - رضي الله عنه - لرجل طلق امرأته عدد نجوم السماء: يكفيك منها هقعة السماء، وهي ثلاث نجوم تشبه الأثافي.(/1)
وقد تسهم المرأة كذلك في صب الزيت على النار ببذاءة لسانها وقلة صبرها وكثرة مطالبها ولو اتقينا الله تعالى وتعاملنا بالمعروف لكان الأمر ولكانت الحالة على خلاف ماهي عليه الآن.
ذكر لي بعض الفضلاء بأن رجلاً عَمَرَ له منزلاً جميلاً وأثثه أحسن ما يكون الأثاث جمالاً ورونقاًَ وفي أثناء غيابه قام أحد أبناءه الصغار بالعبث واللعب فقطع عليه بعض الفرش وكسر بعض الأثاث ، فلما جاء ورأى ما حدث جن جنونه وانهال على ولده الصغير ضرباً وركلاً حتى فقد وعيه ثم لما رأى الابن بين يديه جثة هامدة حمله إلى المستشفى باحثاً له عن علاج، ولكن الأمر كان خطيراً وأدخل الابن العناية المركزة وأصيب بشلل، فجعل الرجل يبكي من حماقته وسرعة غضبه وما أحدثه في منزله وأسرته، ولو تعامل مع الأمر بهدوء واتزان لما حصل كل ذلك.
وترى في علاقاتنا الاجتماعية ومعاملاتنا فيما بيننا أموراً منكرة يؤججها الغضب والحسد ويذكي أوارها، لقد تقطعت الصِلات وانعدم التعاون والتسامح ونفخ الشيطان في نفوسنا، غضباً . فهذا جار غضب على جاره وأعلن عليه الحرب ، والحرب أولها كلام بسبب أن ولده ضرب ولده، أو أن خشبة وضعها على جداره أو لدخوله عشر سنتمترات عليه، ونحو ذلك من الأمور التي لو اتقينا الله فيها لحُلت المشاكل بأيسر الأمور وأقل التكاليف لكنا نشكو إلى الله قسوة قلوبنا وجفاف الخير والحب والتسامح من نفوسنا. لقد غدت حياتنا مادية صرفة متأثرين بالحضارة المادية المعاصرة التي لا تجعل للدين ولا للأخلاق والقيم أي مكان في قاموسها. ألاَ من رجعة صادقة إلى ديننا نجد فيه ذاتنا وسعة ديننا في الدنيا والآخرة.
هذه المحاكم التي تضج بالعداوات والخصومات وتضيق الأماكن بالمترددين عليها يومياً، ما سببها وما قصتها إن الغضب والحمية الجاهلية تدفع بنا إلى المغالبة والفجور في الخصومات واستحلال المحرمات والفساد الكبير في الأرض، بدفع الرشوة وتغيير الأحكام .. حتى ملئت البلاد ظلماً وجوراً ، ولو اتقينا الله وأمنا بلقائه لكانت الحال غير الحال ولا يغير الله ما بنا إلا إذا غيرنا أمورنا وأحوالنا.
هذه الصراعات الحزبية والانتصار لها بالحق وبالباطل وتهميش الإسلام، ما أسبابها ما حقيقتها إنها غضب وغيظ وانتصار للأهواء والشهوات والمصالح والمنافع والدفاع المستميت عنها، ولكنها تغلف كل هذه بأغلفة كاذبة من الديمقراطيات والحزبيات وغير ذلك من المسميات التي تخفي وراءها ما تخفيه حتى غدت بلادنا ممزقة مفككة ، متناثرة في أهدافها وولاآتها، وكأن تهديد الله للسابقين من أهل سبأ مدوياً ومجلجلاً في أجوائنا حيث قال: ?... فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ... ? [سباء:19] وما ظلمنا الله ولكن نحن الظالمين لأنفسنا، ألا من توبة صادقة ورجوع إلى الله.
إن واجب المؤمن أن يروض نفسه على الصبر وتحمل الأذى وأن يكون بطيء الغضب سريع الفيء والرجوع. وعلى المؤمن أن يكون غضبه لله دفاعاً عن دينه وجهاداً لأعداء الله الذين يكذبون الله ورسوله ويحاربون دينه كما قال تعالى: ?قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ(14)وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ... ? [التوبة:14-15] وهذه كانت حال النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان لا ينتقم لنفسه ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، ولم يضرب بيده خادما ولا امرأة إلا أن يجاهد في سبيل الله، خدمه أنس عشر سنين فما قال له أف قط، ولا قال له لشيء فعله، لم فعلت كذا، ولا لشيء لم يفعله ألا فعلت كذا. كان خلقه - صلى الله عليه وسلم - القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه. وكان - صلى الله عليه وسلم - لشدة حيائه لا يواجه أحداً بما يكره، بل تعرف الكراهية في وجهه. وحين قال له أحد الجفاة في قسمة الغنائم: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، شق عليه - صلى الله عليه وسلم - ، وتغير وجهه وغضب، ولم يزد على أن قال: "قد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر". وكان إذا رأى أو سمع ما يكرهه الله ، غضب لذلك، وقال فيه ولم يسكت، دخل بيت عائشة يوماً فرأى ستراً فيه تصاوير ، فتلون وجهه وهتكه، وقال: "إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور". ولما شُكي إليه الإمام الذي يطيل بالناس صلاته حتى يتأخر بعضهم عن الصلاة معه بسبب ذلك، غضب عليه الصلاة والسلام واشتد غضبه، ووعظ الناس وأمر بالتخفيف.
ولما رأى النخامة في قبلة المسجد ، تغيظ، وحكها وقال : " إن أحدكم إذا كان في الصلاة، فإن الله حيال وجهه فلا يتنخمن حيال وجهه في الصلاة " .(/2)
ولما شفع أسامة بن زيد في المخزومية التي سرقت غضب - صلى الله عليه وسلم - من تلك الشفاعات التي تعطل حدود الله وقال: " أتشفع في حد من حدود الله، ثم خطب في الصحابة قائلاً إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - سؤاله لربه بقوله: " أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا".
الخطبة الثانية
أيها المؤمنون : هناك وصفة علاجية أرشد إليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - من يغضب وأمره أن يتبعها لتدفع عنه ثورة الغضب وتسكنه:
أولها: أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عند الغضب، ففي الصحيحين عن سليمان بن صرد قال : استب رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن جلوس، وأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمر وجهه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إني لأعلم كلمة لو قالها ، لذهب عنه ما يجد لو قال :أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقالوا للرجل : ألا تسمع، ما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : إني لست بمجنون ".
ثانياً: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من ثار غضبه أن يجلس ويلصق بالأرض وتجميد كل حركة يمكن أن تؤدي إلى آثار سيئة قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الترمذي ومسند الإمام أحمد: "ألا إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، أفما رأيتم إلى حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه، فمن أحس من ذلك شيئاً، فليلزق في الأرض".
وقال في حديث آخر أخرجه الإمام أحمد وأبو داوود "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع".
ثالثاً: أوصى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من اعترته ثورة الغضب بأن يتوضأ والغرض من ذلك تبريد حرارة الغضب ، والانشغال بأمر من أمور العبادة ليصرف النفس عن توترها الغضبي، وانفعالها الناري قال - صلى الله عليه وسلم - : "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ".
رابعاً: رغّب النبي - صلى الله عليه وسلم - من يغضب إلى أن يصبر ويكتم غيظه ابتغاء مرضاة الله تعالى وحسن جزاءه، فقال: "ما تجرع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله عز وجل".
ومما ينبغي أن يدركه الإنسان أن سرعة الانفعال والغضب يؤثر على صحته وحياته وإن من الجنون أن يغضب إنسان لريال فيصاب من الغضب بمرض لا يكفي ماله لعلاجه.
وإن من الأمور التي تمنع من تولد الغضب أن لا يكون الإنسان شديد التطلع ، كثير الأسئلة، أُذنا لكل قائل وناقل والبحث عما يقوله الناس فيه، فيجلب على نفسه بلاءً ويوجد في قلبه أحقاداً وكراهية وغما هو في غنا عنها. وهذا الأمر هام وضروري للقادة والزعماء فليحذروا أشد الحذر من النقلة الأفاكين الذين يلتقطون الكلمة فيزيدون عليها تسعة وتسعين كذبة في تقاريرهم ..
ومن الأدوية النافعة لتطهير النفس من الغضب حسن الاكتفاء في المعيشة والرضا بما قسمه الله، فلا تشغل قلبك هماً أيها المؤمن بما ليس في يدك، وتنسى نعم الله عليك، فإن من يصنع ذلك يعيش في هم ونكد وشقاء وحسد وصدق القائل:
وأتعب خلق الله من بات حاسداً لمن بات في نعمائه يتقلب
ثم إن مرور الزمن من أنجع الأدوية في سكون الغضب، فإذا نزل بك الغضب وثار ثائره لديك فلا تطاوعه فيما يمليه عليك في الحال، بل تربص، ولا تأت أمراً من الأمور إلا بعد أن يمر عليه وقت، فإن الإنسان في حال غضبه وانفعاله وثورته لا يقدر على تبصر الصواب وتمييز الرشد. اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت ، أنت أهل التقوى وأهل المغفرة..
صحيح البخاري باب الحذر من الغضب لقول الله تعالى والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين برقم 5765 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
صحيح البخاري باب الحذر من الغضب لقول الله تعالى والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين برقم 5763 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
صحيح مسلم باب فضل من يملك نفسه ثم الغضب وبأي شيء يذهب الغضب برقم 2608 من عبد الله ابن مسعود.(/3)
صحيح البخاري: باب الصبر على الأذى وقول الله تعالى إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب برقم 5749 ، وصحيح مسلم: باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه برقم 1062، واللفظ للبخاري عن الأعمش قال سمعت شقيقا يقول قال عبد الله : قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسمة كبعض ما كان يقسم فقال رجل من الأنصار والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله قلت أما لأقولن للنبي صلى الله عليه وسلم فأتيته وهو في أصحابه فساررته فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وتغير وجهه وغضب حتى وددت أني لم أكن أخبرته :"قال قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر".
صحيح البخاري: باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله وقال الله جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم برقم 5758 من حديث عائشة رضي الله عنها.
صحيح البخاري: باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله برقم 5760 عن عبد الله رضي الله عنه قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي رأى في قبلة المسجد نخامة فحكها بيده فتغيظ : قال:" إن أحدكم إذا كان في الصلاة فإن الله حيال وجهه فلا يتنخمن حيال وجهه في الصلاة".
صحيح البخاري: باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان برقم 6406 عن عائشة رضي الله عنها : أن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" أتشفع في حد من حدود الله ثم قام فخطب قال يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها".
سنن النسائي، كتاب السهو. باب نوع آخر. الحديث رقم: 1299، و صحيح ابن حبان ذكر جواز دعاء المرء في الصلاة بما ليس في كتاب الله برقم1971 عن عطاء بن السائب عن أبيه قال ثم كنا جلوسا في المسجد فدخل عمار بن ياسر فصلى صلاة خففها فمر بنا فقيل له يا أبا اليقظان خففت الصلاة قال أو خفيفة رأيتموها قلنا نعم قال أما إني قد دعوت فيها بدعاء قد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مضى فأتبعه رجل من القوم قال عطاء اتبعه أبي ولكنه كره أن يقول اتبعته فسأله عن الدعاء ثم رجع فأخبرهم بالدعاء اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة العدل والحق في الغضب والرضا وأسألك القصد في الفقر والغنا وأسألك نعيما لا يبيد وقرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك وأسألك الشوق إلى لقائك ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين". وصححه الألباني في صحيح النسائي برقم 1237، 1738.
صحيح البخاري: برقم 5764، اب الحذر من الغضب لقول الله تعالى والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين، من حديث سليمان بن صرد. وصحيح مسلم باب فضل من يملك نفسه ثم الغضب وبأي شيء يذهب الغضب برقم2610.
سنن الترمذي (وشرح العلل)، بابُ ما أخبَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلِيهِ وسَلَّم أصحابهُ بما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ، برقم: 286. وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي برقم 385. وفي ضعيف الجامع 1240.
سنن أبي داود باب ما يقال عند الغضب. برقم 4782. وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم 4000.
سُنَنُ أبي دَاوُد، باب ما يقال عند الغضب، برقم: 4784. وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود برقم 1025، وفي ضعيف الترغيب برقم 1647.
سنن ابن ماجه.باب الحِلمْ.برقم: 4189. وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم 3377، وفي صحيح الأدب المفرد برقم 990. ...(/4)