يا أخت أندلس صبرًا وتضحية وطول صبر على الإرزاء والنوب
ذهبت في لجة الأيام ضائعةً ضياع أندلس من قبل في الحِقبِ
5-عدم إجابة الدعاء: المسلمون التاركون لشعيرة الأمر بالمعروف النهي عن المنكر عندما ينزل بهم العقاب يتجهون إلى الله عز وجل يدعونه، ولكنه لا يستجيب لهم كما جاء في حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ ] .
6- الأزمات الاقتصادية: قد تحل الأزمات الاقتصادية بالمجتمع المفرّط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فتتلاطم به أمواج الفقر، ولقد وصلت الأزمات ببعض المجتمعات الإسلامية إلى حال من الفقر يرثى لها حتى أصبح الفرد يكدح في سبيل الحصول على لقمة العيش فلا يجدها؛ مما قد يحوجه إلى ما في أيدي النصارى الذين يسخرون طاقاتهم لتنصير المسلمين فيؤدي ذلك إلى وقوع المسلم في التنصير خاصة أن انشغاله بلقمة العيش قد ينسيه كثيرًا من أمور دينه؛ مما يبعده عنه ويهوّنه عليه.
7- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يوجب الوقوع في الشهوات والإغراق فيها: لا شك أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سبب غرق أبناء المجتمع في الملذات والأهواء التي تقعد بهم عن معالي الأمور؛ حتى صار الناس مرتبطين بالدنيا, أصحاب نفوس ضعيفة, غير جادين , فالشاب الذي أصبحت حياته كلها شهوته؛ هل يستطيع أن ينعتق من إسار الدنيا ويجد في تحصيل العلم النافع؟
وهذه الحقيقة أدركها كل البشر حتى الوثنيون منهم؛ فإن اليابان ـ مثلاً ـ لما بعثت أول بعثة من أبنائها للتعليم في بلاد الغرب , ورجع أولئك المبتعثون متحللين من مبادئهم , ذائبين في الشخصية العربية , منغمسين في الشهوات الفردية , لم يكن من اليابانيين إلا أن أحرقوهم جميعاً على مرأى من الناس ليكونوا عبرة لغيرهم، ثم ابتعثوا بعثة أخرى , وأرسلوا معهم مراقبًا كان يقدم عنهم تقاريراً متواصلة تبين حريتهم ومحافتهم على تقاليدهم الوثنية وغيرها.
8- الإهمال في أخذ العدة: سواء كانت عدة معنوية بقوة القلوب وشجاعتها , أو عدة مادية محسوسة تجهز لمقاومة الأعداء , فإن الاستعداد لا يتقنه إلا أصحاب الهمم , أما صرعى الشهوات فليسوا أهلاً لذلك.
9- تغير مسار الأمة في عدد من البلاد الإسلامية : وهي عقوبة جد خطيرة , فالمنافقون لم يكتفوا بإشاعة المنكرات؛ بل مضوا يخططون لسلخ الأمة عن دينها جملة؛ حتى تتحول إلى أمة علمانية لا دين لها , تقبل أن تحكم بأي شريعة , وأن يشيع فيها أي انحراف فكري أو خلقي.
وهذا التحول أخطر من سيطرة الكافرين والمنافقين عسكريًا على البلاد الإسلامية , وهذا بسبب غياب المصلحين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر عن الساحة , أو ضعفهم في أداء رسالتهم.
إن قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قضية مصيرية , يترتب عليها احتفاظ الأمة بمسارها الإسلامي.
اسم الكتاب : من وسائل دفع الغربة …. تأليف: سلمان بن فهد العودة(/3)
العقول الفارغة !!
مشاري بن عبد الله السعدون
</TD
لقد أهتم الإسلام بالعقل اهتماما واضحا, حيث جعله مناط التكليف, وموضع التكريم, الذي به تتحقق أهلية الإنسان لكي يصبح خليفة في الأرض, يسعى في أعمارها كما قال تعالى ((...هوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا...)) ذلك أن العقل هو المحور والموجه لهذا البناء, وتلك الخلافة. فالحضارة تقوم على عقول نيرة وأفهام راسخة تنطلق من أرضيات صلبة.
ولقد خاطب القران الكريم العقل الواعي, ورسم له حدود السكون , وحدود الحركة, فأصبح العقل المسلم بعد هذا كله....عقلاً مدركاً حكيماً رشيداً يميز الأمور, قبل أن يصدر حكماً تجاهها.
فضرب أمثلة عن الأمم البائدة وكيفية استخراج العظات والعبر من خلال سيرها..قال تعالى:(( {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }يوسف109.
والعقل المسلم من أوثق العقول فهماً وإدراكاً نظير ما يستند عليه في فهمه, ومعرفته, واستقائه من المنهج الإلهي, فهو حرٌ لا يخضع لأي مؤثر خارجي سوى منهجه الذي ينطلق منه ويستند عليه.
ولكن مع التردي الحاصل لأمة الإسلام , وخاصة في هذه الأوقات , والتي أصبحت فيه أمتنا كلأً مباحاً لأمم الاستكبار والغطرسة, فأصبح العقل المسلم عقلا رتيباً خاملاً ينزع في تفكيره إلى الأمعية , والتبعية وبذلك تاه العقل المسلم بين ركامات الحضارة الغربية , وبهارجها, والتي يحسبها الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا, وانطبقت عليه مقولة العلامة ابن خلدون في مقدمته: (( المهزوم دائما مغرم بتقليد المنتصر – نظرية التابع والمتبوع - )), وانعكس هذا الأمر جلياُ على أمور الحياة بعمومها... , مما أخرج نتاجاً قبيح الطعم, والمظهر, والذي تولى كِبر هذا التوهان, وهذا الانحراف المشين للعقل المسلم.... هي وسائل الإعلام, بكل ارتباطاتها وما تصل إليه أذرعتها الناطقة والمؤثرة, والتي أخذت على عاتقها حرف العقول المسلمة عن مبتغاها إلى مبتغى, وأهواء القائمين عليها من أساطين الإعلام الغربي, وملاكه.(/1)
فالإعلام بكل وسائله أصبح له دور رئيس, وكبير في ا لتلاعب بالعقول, والتأثير على, الشعور, والمشاعر, وذلك من خلال اختلاق, واستعمال مختلف الحيل الكلامية, ورسم صور كاذبة, وتمرير تلفيقات مختلقة عن طريق ربطها بجزء بسيط من الحقيقة, لعلمهم أن هاتيك الحيل لا تنتشر, ولا يحفلُ بها المتلقي إلا من خلال خلطها ببعض الحق المجتزئ, ولعل إعلامنا العربي بجميع أنواعه سواءً الحكومي منه أو الفضائي خير مثال على ما يحدثه الإعلام من خللٍ كبير في التصورات, والأحكام بل تعدى ذلك كله في كثير من الأحيان إلى التأثير المباشر في منظومة القيم الإسلامية, والتي تحكم سير المرء المسلم في هذه الحياة, وهذا التأثير – المباشر - يطلق عليه دارسي علم الاتصال الإعلامي بنظرية الحقنة (injection theory ) والتي نجدها واضحة جلية من خلال سيل الرسائل الإعلامية الموجهة لتغيير بعض المفاهيم والقيم الإسلامية, والتي في مجملها تهدف إلى زعزعة استقرار العقلية المسلمة, لكي تؤمن بالتغيير السلبي المراد, ولعل في بعض القضايا المطروحة سواء على الشأن الداخلي أو الخارجي أكبر دليل على ذلك..... وخذوا على ذلك أمثلة توضح بجلاء مدى عمق العملية المنفذة, والمدارة بحرفية تامة لتغييب الرأي الحر, وسلب الإرادة الحرة التي لا تخضع إلا لميزان القيم السماوية.... فخيار المقاومة أصبح إرهابا !!... وتمسك المرأة المسلمة بعزتها وعفافها وحجابها .. أصبح تخلفاً !!.. والزج بها في غياهب كل مجهول – مرة في نوعها ككائن حي ( الجندر ) ومرة في فكرها وأخرى في حقوقها السياسية - أصبح تقدماً.!! ... ومع ذلك , وغير ذلك آمن , وصدق بهذه المقولات الدعية أصحاب العقول الفارغة ..... والذين أصبحوا , وللأسف الشديد خطاً رافدا, وداعما لكي تغريب يراد للمجتمعات المسلمة, فهم غنيمة باردة للمستهدفين , وان كنت حقيقة لا أعجب من هذه الاستماتة, وهذا الاستبسال البطولي من قبل الطابور الخامس – طابور المستغربين - بالرغبة بضم أولئك الفئام من الناس ,ولكن العجب الأكبر, والأكثر خطراً , والذي يحز في النفس حقيقة هو الانقياد الأعمى والبليد من قبل أصحاب العقول الفارغة ممن بلغ سن الرشد, ولا زالت روح المراهقة – بكل ما تعنيه هذه الكلمة - تدب في دمه وأوصاله ألهذا الحد تعمل وسائل الإعلام عملها المشين في عقله, وفي مفاهيمه, وفي اعتقاده حتى تجعله يحسب كل صيحة عليه, أين الثبات أين الشخصية السوية التي تحلل بوعي, وتدرس بروية, وتراجع بدقة.. قبل أن تصدر حكما تجاه أي حدث يُثار .... ومن تأمل هذا الأمر حق التأمل وجد أننا أما عملية جدُ خطيرة يراد من خلالها إحداث تغييراً معرفيا لعقلية المسلم (cognitive change), ولذلك نحن بحاجة ماسة لزرع الثقة بالنفس المسلمة , وتربيتها وتعليمها أكثر مما هي عليه, وإذكاء روح التحدي, وروح المقاومة, وروح المنافسة, والثبات على المواقف التي ترتكز على عقيدة صلبة , وراسخة. لان التغيير الذي تُحدثه هذه الوسائل لم يأتي إلا من خلال الضعف الحاصل في تكوين الأفراد وضعف بنائهم الذاتي المتمثل في عدم تغلغل واستقرار مكونات ثقافتهم في شخوصهم, وهذا الأثر البالغ التي تحدثه هذه الوسائل نجد انه يؤثر أكثر في المراهقين, ومحدودي الثقافة الأصيلة لمجتمعهم وقيمهم الإسلامية, مما جعلهم أكثر عرضة لمحتوى الرسائل الإعلامية الموجهه والمخالفة لمنظومة قيم المجتمع الإسلامي. فلذلك يجب على ذوي الرأي في المجتمع المسلم مراجعة الذات والأخذ على أيدي السفهاء من أبنائه, والنصح لهم لكي لا ينحدروا بأمتهم إلى أمور لا تحمد عقباها.
وقى الله أمتنا ومجتمعاتنا كل بلاء ومكروه.
صحيفة الحياة(/2)
العقيدة أولا وأخيرا
إبراهيم محمد عيسى
تقديم:-
الإيمان في اللغة: - قال أبن فارس في مادة (أم ن): الهمزة والميم والنون (أصلان متقاربان أحدهما للأمانة التي هي ضد الخيانة ومعناها يكون القلب: والآخر التصديق، وأما التصديق فقول الله تعالى (وما أنت بمؤمن لنا) يوسف (17) أي مصدق لنا وقال بعض أهل العلم: أن المؤمن في صفات الله تعالي، هو من يصدق ما وعد معبوده من الثواب وقال أحرون: هو مؤمن لأوليائه يؤمنهم عذابه ولا يظلمهم هذا قد عاد إلى المعنى الأول) وقال الأزهري في (تهذيب اللغة) (2/452- 452) وأما الإيمان فهو مصدر آمن يؤمن أيماناً وأتفق أهل العلم من اللغويين وغيرهم علي أن الإيمان معناه التصديق.
أما في الشريعة..فلإطلاقه حالتان:
الأولى:-
أن يطلق مقرونا بالإسلام يفسر بالاعتقادات الباطنة كما في حديث جبريل وما في معناه وكقوله تعالى: (الذين أمنوا وعملوا الصالحات) في كثير من الآيات.وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم من أحييته منا فأحيه علي الإسلام ومن توفيته منا فتوفه علي الإيمان) الحاكم- وذلك إن الأعمال بالجوارح إنما يتمكن منها في الحياة أما عن الموت فلا يبقى غير قول القلب وعمله.
الثانية:
أن يطلق علي الإفراد غير مقترن بذكر الإسلام فحينئذ يراد به الدين كله، القول والعمل كقوله تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلي النور): (من يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين) (المائدة 5) ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس (هل ترون ما الإيمان بالله وحده؟ ) قالوا الله ورسوله أعلم قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان/ مسلم في الصحيحين كذلك: (الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاه قول لا إله إلا الله وأدناه إماطة الأذى عن الطريق). وسمى الله الصلاة إيماناً في قوله: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) أي صلاتكم الأولى إلى بيت المقدس (البقرة 143) وهذا هو المعني الذي قصده السلف كما نقله الشافعي - رحمه الله - عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم إجماعاً قالوا: إن الإيمان اعتقاد وقول وعمل. وهذا المعنى هو الذي أراد البخاري إثباته في كتاب (الإيمان) وعليه بوب أبوابه كلها فقال: (باب أمور الإيمان) و (باب الصلاة من الإيمان) وباب: (الزكاة من الإيمان)... إلخ إذن الإيمان عبارة عن ثلاثة أشياء: -
الأول: هو الاعتقاد الجازم وبكل ما ثبت بالضرورة إنه جاء من عند الله تعالى على نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولابد مع هذا من الرضا والارتياح النفسي.
الثاني: إعلان هذه العقيدة بالقول أو غيره من كل ما يدل عليه ظاهرا.
الثالث: العمل بكل ما أمر الله به من فريضة أو نافلة والإنهاء بما نهى الله عنه في سره وعلانيته بقلبه وجوارحه.
فثبت لنا أن الإيمان.. قول وعمل.
أي قول بالقلب واللسان وعمل بالقلب واللسان والجوارح وفيما يلي بيان كل منها:
(1) قول القلب: وهو تصديقه وإيقانه قال تعالي (والذي جاء بالصدق وصدق به أوليك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين) [الزمر 33-34].
وقال تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا) [الحجرات 15] أي صدقوا ثم لم يشكوا.
(2) قول اللسان: وهو النطق بالشهادتين والإقرار بلوازمها قال تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [الأحقاف 13].
(3) عمل القلب: وهو النية والإخلاص والمحبة والانقياد والتوكل على الله ولوازم ذلك وتوابعه قال تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجه) [الأنعام52].
وقال تعالى: (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلي ربهم يتوكلون) [الأنفال 2]
(4) علم اللسان والجوارح: - فعمل اللسان ما لا يؤدى إلا به كتلاوة القرآن وسائر الأذكار وعمل الجوارح ما لا يؤدي إلا بها كالقيام والركوع والمشي في مرضاة الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور) [فاطر 29].
http://marsd.net المصدر:(/1)
العقيدة أولا
أيها الأخوة :
فإن من أهم القضايا التي تشغل بال أهل العلم ، بل يجب أن تشغل بال كل مسلم ما يتعلق بالعقيدة ، من حيث فهمها ونشرها والعمل بها ، والتأثر بها في الحياة الفردية والاجتماعية ، والحياة العلمية والعملية. فإن العقيدة بلا ثمرة لا تفيد صاحبها، لا في الدنيا ولا في الآخرة .
والعقيدة ليست مجرد علم يحصل فحسب ، ولا أيضا مجرد عمل يظهر فحسب ، بل العقيدة هي الإسلام ، من حيث التعامل ، ومن حيث المواقف ، فهي الدين .
ولقد ضاق في العصر الحديث لدى كثير من المسلمين مفهوم العقيدة ، حتى كاد أن يحصر في جانب معين من جوانب المعرفة.
ولم يكن الخطأ في هذا المفهوم حاصلا من قبل أصحاب الأهواء والبدع فحسب ، بل (مع الأسف) حصل تضييق مفهوم العقيدة حتى عند بعض من ينتسبون إلى السنة ، حتى كادت تنحصر لدى بعض المثقفين والمفكرين وطلاب العلم ، في مجرد العلم والمعرفة ، وعند فريق آخر في مجرد التعامل مع الآخرين ، وهذان مسلكان على طرفي نقيض ، بينما العقيدة نهج كامل ، فهي دين الفطرة ، وهي سبيل المؤمنين ، وهي نهج السلف الصالح .
وحصر العقيدة في الأمور العلمية المعرفية إنما هو منهج منحرف . لم يكن يعرف في تاريخ الإسلام إلا الإسلام من جميع الجوانب، من حيث الاعتقاد ، ومن حيث العلم ، ومن حيث العمل ، والسلوك ، ومن بعد ما ظهرت الفرق الكلامية. وبعد ما ظهرت الأهواء .
وكذلك حصر العقيدة في مجرد التعامل مع الآخرين ، والموقف منهم ، وأسلوب تناول الأحداث والأحكام ، دون التركيز على الجانب العلمي والمعرفي أمر طارئ كذلك لم يحدث إلا عند بعض أهل الأهواء ، كالخوارج ومن سلك سبيلهم.
ولقد أسهمت الاتجاهات الحديثة التي يدفعها الغزو الفكري، كالعلمانية، والشعوبية والقومية أو غيرها ، في حصر العقيدة في زاوية من زوايا الحياة لدى المسلم ، بل في زاوية من زوايا النفس لدى المسلم ، فلذلك لما ظهرت الصحوة المباركة بحمد الله في العقود المتأخرة وبدأت تتحسس أمور الإسلام الحقيقية ، وبدأت تتلمس المسار الصحيح لاستئناف الإسلام - ظهرت أصوات كثيرة (منها ما يحمل شعارات إسلامية) تستنكر أن يكون للعقيدة أثر علمي في حياة الناس ، أو أن تتدخل العقيدة في شؤون الحياة.
ومن ثم نشأت مفاهيم باطلة ومنحرفة وخطيرة ، مثل الفصل بين الشريعة والعقيدة ، أو اعتبار العقيدة شيئاً معرفيا فكرياً ثقافياً لا صلة له بالعمل والتعامل ، أو اعتبار العقيدة مسلكاً شخصياً إنما يسلكه طائفة من البشر ربما يوصفون بضيق الأفق أو بالأصولية أو السلفية أو نحو ذلك.
وهذه الصحوة المباركة التي بحمد الله عمت البلاد الإسلامية ، بل عمت الأرض كلها لم تسلم في بعض شرائحها من التأثر بهذه المفاهيم الخاطئة سلباً أو إيجاباً، إفراطاً أو تفريطاً ، ومع ذلك فإن الصحوة بحمد الله صحوة فيها رشد على وجه العموم ، ويشهد لها العقلاء المنصفون بأنها تتلمس الحق ، وأنها تتحرى النهج السليم ، وأنها تحرص على اقتفاء السنة. فعلى هذا وجب على أهل العلم وطلابه أن ينيروا الطريق لأبناء الصحوة ، وأن يسددوهم ، وأن يبينوا لهم ما قد يقع عند بعضهم من خطأ في المفاهيم أوفي التعامل أو في السلوك. وهذا هو مقتضى النصيحة.
وقفات مع عقيدة السلف
للشيخ: ناصر بن عبدالكريم العقل(/1)
العقيدة الصادقة وأثرها في التقدم العلمي عند المسلمين
على كثرة ما نقرأ عن النهضة العلمية التي واكبت الثقافة الإسلامية عبر العصور , فإننا لا نكاد نرى مرجعا وافيا, أو مؤلفا ضايفا يعكف في تخصص وعمق على دراسة الوشائج المتينة بين ذلك التقدم العملي الذي أحرزه المسلمون في كفاءة واقتدار, وبين العقيدة الإسلامية الصادقة التي وقرت في قلبوهم, وعمرت بها أرواحهم, وكانت هي الزاد الدافع والطاقة الحافزة لهم على ما حققوه من نهضة علمية خلاقة , وجهد علمي مبين.
وكم نحن الآن في حاجة ملحة إلى بعث هذا المعنى وشرحه ، وتعميقه لدى الناس , ولا سيما عند أبنائنا من الشباب حتى نواجه دعاوى كثير من المستشرقين والمستغربين الذين يدعون – في تعصب مقيت وذاتية ضيقة – أن هذا العصر الذي نحياه مدين للغرب بما آل إليه من فكر علمي ، ومنهاج تجريبي، وأن المسلمين السابقين – إن كان لهم دور في بعض الميادين مثل الطب أو الفلك أو الطبيعة إن هم إلا نقلة مقلدون ، وليسوا روادا مبدعين.
وتناسوا ما تحلى به المسلمون الأوائل من مثابرة على البحث الدقيق، والمصابرة على التنقيب المتأني في ظروف (تقنية) صعبة ومن خلال إمكانات (اتصالات) قاسية، فلقد كان على الباحث المسلم آنذاك – ولم يكن هناك باحث غيره – أن يستهلك عصارة عينيه على ذبالات الزيت والشموع, وأن يستنفذ جميع جهده في نسخ مؤلفاته المخطوطة بأقلام بدائية على قراطيس معتمة.
ولعمرا لله، إن هذا كله وغيره من ضروب المشقة، وألوان المعاناة لهو أمر جد يسير إزاء المحاولات المتوالية، والحيل المتتالية في سبيل الحصول على مرجع يطلع عليه، أو سفر يهتدي به، فكل صعب يهون بجانب هذا الأمر الشاق, إذ لا مطبعة حينذاك تفرز ألوف الألوف من النسخ، كما نرى الآن، وإنما هي أحاد من المخطوطات اليدوية لا يدرك أحدها إلا بالجهد الجهيد، والعناء الشديد.
وبالرغم من ذلك كله فقد تمتع هؤلاء الأسلاف العباقرة من المسلمين بعناد صارم، وإصرار حازم، حتى خلفوا لنا تراثا عجبا، كان له في الآفاق دويه وصداه، وكان له في حياة البشرية وآثاره التي ما زالت الإنسانية تجترها حتى اليوم في صور متباينة ، وألوان شتى.
فأية طاقة هائلة تلك التي دفعت هؤلاء الباحثين الرواد إلى إبداع هذا التراث الأًصيل, مستعذبين في سبيل ذلك كل صعب وشاق ؟
إذا كان مفكرو العالم قد شغلوا بتناول هذا التراث الفذ من جوانب عدة دون أن يعنوا كثيرا بالبواعث التي جعلت من مبدعي هذا التراث علماء أجلاء يفتحون لخلفائهم أبواب البحث العلمي الصحيح, ويضعون أيديهم على طرائق الاتجاه التجريبي الدقيق, فما أحرانا أن ندق اليوم هذا الباب دقا حثيثاً إنصافاً للحق وإبرازا لدور العقيدة الإسلامية الجليلة التي كانت وراء ذلك التراث العظيم ..
إذ لم يعد يكفي التنبيه إلى تأثير هذا التراث العلمي الخلاق في النهضة الأوربية, أو التنويه بأئمة البحث والتجريب من أمثال الحسن بن الهيثم, وجابر بن حيان, وابن النفيس, وغيرهم من ذوي الأفكار الرائدة التي أثرت دون جدال على فكر روجر بيكون, وفرنسيس بيكون، وجون ستيورت مل, وهارفي وأمثالهم.
نعم، لم يعد هذا الواقع الجهير كافيا للتعرف على فضل الإسلام الحنيف على عمارة الكون، وحضارة الإنسان, ومن ثمة كان جديراً بنا مدارسة العامل الأساسي, والوازع الأصيل الذي جعل علماء المسلمين يتسنمون قمة الحضارة, ويحتلون محل الصدارة في مواكب المعلمين الخالدين بما قدموا للإنسانية من أساس سليم لمنهج فكري قويم.
لقد عزى نفر من الدارسين ذلك التقدم العلمي عند المسلمين الأوائل إلى بعض العوامل التي هي إلى العرض أقرب منها إلى الجوهر في هذا المجال، وإننا مهما بدت أمامنا الأسباب المتصلة بالتقدم العلمي عند المسلمين – لا نرى على قمة هذه الأسباب جميعا إلا سببا واحدا أصيلا، ألا وهو "العقيدة الإسلامية الصادقة " التي أوحى بها إلى محمد صلى الله عليه وسلم، والتي ربى عليها النبي عليه الصلاة والسلام تلاميذه الذين أشاعوها بدورهم في قلوب المؤمنين المخلصين من التابعين، وتابعي التابعين، رضوان الله عليهم أجمعين.
إنها العقيدة الدافعة التي كان الاستشهاد في سبيلها هو أسمى ما يأمل أصحابها الإبطال الذين هتف أحدهم ذات يوم:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً **** على أي جنب كان في الله مصرعى
هؤلاء قوم لم يملكوا – أمام قلوبهم العامرة بالإيمان – إلا أن يكونوا طلاب علم ورواد حضارة.(/1)
فقد كان تقدير العلم والاحتفال به من صميم جوهر العقيدة الإسلامية التي احترمت الإنسان وسمت بعقله، ودعته إلى التفكير في خلق السموات والأرض، ولم تفرض عليه مصادرات مسلما بها دون برهان، أو قضايا مبهمة تفتقر إلى بيان، بل فتحت أمامه الآفاق لاكتناه المعلوم، واكتشاف المجهول حتى يعمر الكون، ويتقدم العمران، وبهذا استحق الإنسان أن يكون – بحق – خليفة في الأرض مصداقاً لقول الخالق سبحانه وتعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) الآية 30 سورة البقرة ).
وان يكون جديرا بالتكريم الإلهي والحكيم (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر)(الآية 70 سورة الإسراء ).
ومن ثمة انطلق المسلمون يدفعهم إيمانهم الصادق، وتحفزهم عقيدتهم الحقة, يبحثون فيما حولهم من كائنات، وينقبون عن حقائق الأشياء، ويتدبرون صنع الله الذي أتفق كل شيء, وبهذا يزدادون إيمانا مع إيمانهم، ثم هم إلى هذا يفيدون الفائدة العظمى مما سخر الله لهم في هذا الكون العامر بما ينفع الناس، وهكذا يجمعون بين النظر والعمل, أو بين العقيدة الخالصة والسلوك العلمي البناء ..
فجعلوا من البحث العلمي الحافل بالمجاهدة أشبه ما يكون بالطقوس العلمية التي تعبر عن الإيمان المتدفق الفياض, فهم لم يبحثوا في السنن الكونية ليكونوا علماء، أو ليقول الناس عنهم ذلك، ولكن ليتقربوا إلى الله عز وجل، وليكونوا عبادا قانتين له مذعنين لأوامره، عاكفين على تأمل خلقه الأكمل، ونظامه الإبداع الأجمل، وعنايته المثلى بالعالمين.
وهكذا التقت فطرة العقيدة التي فطر الله الناس عليها، وفطرة السنن الكونية، فتم الاتساق بين الذات الباحثة، والموضوع المبحوث، فلله ما أروع الاتساق !! وأبدع الاتفاق !!.
ومن هنا رأينا أن هؤلاء المسلمين الذين دفعهم إيمانهم إلى البحث العلمي كانوا يرجون التوفيق دائما من الله وحده، ويبتهلون إليه سبحانه كلما حزبهم أمر فكري أو استعصت عليهم مسألة علمية مؤمنين – بصدق – بأن الله سبحانه وتعالى الذي حثهم على التفكير والبحث لا بد فاتح لهم بقدرته أبواب العلم الموصدة, ما داموا مخلصين له الدين، متجهين إليه، قاصدين وجهه, ولله در حجة الإسلام الإمام " أبو حامد الغزالي " رضي الله عنه عندما يقرر " أردنا أن نطلب العلم لغير الله فأبى العلم إلا أن يكون الله".
ورضي الله عن عالم قريش الإمام الشافعي عندما ينشد في ابتهال عميق
شكوت إلى وكيع سوء حفظي **** فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور **** ونور الله لا يهدى لعاصي
ولك أن تعيش الآن مع الطبيب المسلم العالم ابن سينا مع مقيل في عقيدته لكنه في هذا الفن مبدع ودافعه إلى العلم دينه من دون شك وإن أفسده التشيع الغالي المنحرف لك أن تقضي بعض الوقت لتستمع إليه وهو يتحدث في ترجمته الذاتية التي نقلها عنه تلميذه عبدا لواحد الجوزجاني:" وكلما كنت أتحير في مسألة, أو لم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس, ترددت إلى الجامع وصليت، وابتهلت إلى مبدع الكل, حتى فتح لي المنغلق، وتيسر المتعسر". وهذا دافع إيماني من دون شك تمكن من قلب المفكر المسلم، ودفعته إلى الابتهال إلى المبدع الأعظم ليفتح له مغاليق العلم ؟.
ولنستمر في الإنصات إلى حديث الشيخ الرئيس:"ثم عدلت إلى "الإلهي" وقرأت "كتاب ما بعد الطبيعة"فما كنت أفهم ما فيه، والتبس علي غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظاً، وأنا مع ذلك لا أفهمه، ولا المقصود به، وأيبست من نفسي, وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه، وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين, وبيد دلال مجلد ينادي عليه, فعرضه علي فرددته رد مبرم, معتقدا أن لا فائدة في هذا العلم, فقال لي اشتر مني هذا فإنه رخيص, أبيعكه بثلاثة داراهم, وصاحبه محتاج إلى ثمنه، فاشتريته فإذا هو كتاب "أبي نصر الفارابي" في "أغراض كتاب ما بعد الطبيعة".
ويستطرد ابن سينا فيقول:"ورجعت إلى بيتي، وأسرعت إلى قراءته, فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب, ثم يقول: " وتصدقت في ثاني يوم بشيء كثير على الفقراء شكرا الله تعالى " (منطق المشرقيين – تصنيف الرئيس أبي علي بن سينا).
نعم أرأيت كيف شكرا لله تعالى الذي فاض عليه بالفهم والاستيعاب وهذا شأن المسلم يشكر الله على توفيقه للخير وكل فتح في العلم والعمل, ذلك هو ابن سينا صاحب كتاب "القانون " الذي ظل المنهل الوحيد لطلاب الطب والمشتغلين به في أوروبا حتى القرن السابع عشر. ولايخفى على المختص أن ابن سيناء مرجع في الطب وليس حجة في غيره ولاينظر لما كتبه في الإلهيات البتة وإنما نقول هذا إنصافا للحق وتأدبا مع الإسلام الذي أمر بالإنصاف في كل شيء مع القريب والبعيد.(/2)
ثم هذا هو عالم الطبيعة, ومؤسس علم الضوء في كتابه الأشهر "المناظر" ذلكم هو الحسن بن الهيثم الذي يحكي عن نفسه فيقول:"اشتهيت إيثار الحق، وطلب العلم، واستقر عندي أنه ليس ينال الناس من الدنيا شيئاً أجود, ولا أشد قرابة إلى الله من هذين الأمرين.
ولعلنا نذكر أن كتب الكندي التي كان يوجهها إلى الخليفة المعتصم, وابنه احمد كان يستهلها ويختتمها جمعيا بالدعاء إلى الله بالتوفيق لطالب المعرفة؛ لأن التأييد والتوفيق والعون من الله تعالى، خالق كل شيء، والمبدع المدبر، الفاعل القادر، مما يشير إلى تأصل الروح الإسلامية في قلب الكندي، وإلى عقيدته التي يؤمن بها، ويخلص لها، ويدعو إليها.
أما ابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية – ونسبت في غفلة من الزمن إلى العالم الانجليزي هارفي – فقد نصحه طبيبه المختص – في مرض وفاته – بتناول قليل من النبيذ كدواء، لكن ابن النفيس رفض شرب الخمر ولو دواء قائلا:"لا أريد أن ألقى الله وفي بطني شيء من الخمر" فما أصدق الإيمان !!.
وطيب الله ثرى العالم الكيميائي المسلم الأشهر جابر بن حيان الذي كثيرا ما صرح بأن مصدر علمه هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم, فيقول مثلا في المقالة الرابعة والعشرين من كتاب "الخواص الكبير": "فو الله مالي في هذه الكتب إلا تأليفها ، والباقي علم النبي صلى الله عليه وسلم" وعلى هذا الضوء يمكن أن نفهم اسم الكيمياء الذي أطلق على أبحاث جابر إذ هو اسم معرب من اللفظ العبراني, واصله: كيم يه – أي "إنه من الله".
وقد عنى جابر بن حيان بأبرز السلوكيات العلمية التي ينبغي أن يتحلى بها العلماء، وقد كان الإسلام عنده أهم مصدر يجب أن يستمد منه العالم أخلاقه، وكم نصح العلماء في مقالته آنفة الذكر بأن يثابروا على البحث العميق، والدرس الدقيق مهما اشتد العناء دون يأس، ثم هو يستشهد في هذا بقول الله عز وجل : "ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" (الآية 87 سورة يوسف) .
وأنت تحس عند هذا العالم المسلم الجليل بقوة الدافع الديني نحو البحث العلمي في وصيته التي يرويها عن أستاذه جعفر الصادق" ومنها قوله لمن يريد أن يكون باحثاً عالماً:"ابدأ الطهر بأن تفيض على بدنك ماء نظيفا في موضع نظيف، ثم تلبس ثيابا طاهرة نظيفة, ثم تستخير الله ألف مرة, وتقول في استخارتك : اللهم ! إني أستخيرك في قصدي فوفقني، وأزغ الشيطان عني إنك تقدر عليه ، ولا يقدر عليك ".
ثم تستمر الوصية في النصح بالصلاة والابتهال والدعاء العميق ومنه: "اللهم إني قد مددتهما إليك – أي يديه ـ طالبا مرضاتك، وأسألك ألا تردهما خائبتين" .
ويستطرد الدعاء كما يلي في ضراعة ضارعة: "اللهم ! إني قصدتك فتفضل علي بموهبة العقل الرصين، وإرشادي في مسلكي إلى الصراط المستقيم ".
فأكرم بهؤلاء من قوم طلبوا العلم لله! فرفعهم الله بعلمهم، ولم يطلبوه شهوة في شهرة، أو طمعا في مال، أو زلفى إلى جاه أو سلطان..
كما طلبوا العلم للعمران، وهو مناط خلافة الإنسان في الأرض وليس للدمار والفناء، وهكذا اتفق نبل الدافعية الإيمانية, ونبل الغاية العصماء, إذ انتشر العلماء والمسلمون في الأرض, فانتشر في ركابهم ما أفاء الله به عليهم من معرفة بناءة, وعلم مفيد.
والله أعلم بمارده حين يضع العلماء في موقف خشيته، وتقواه إذ يقول عز وجل: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) (الآية 28 سورة فاطر ).
وأي موقف أرقى وأسمى من هذا الموقف, ولعلنا ندرك أن الخشية هنا ليست مجرد موقف سلبي، ولكنها عمل إيجابي فعال, إنها سلوك نابع من طاعة الله, والائتمار بأمره, والانتهاء بنهيه، والإيمان به بعقيدة راسخة، والقيام على شريعته, والأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر.
ذلك أن العلماء ..يدركون مواطن العظمة في الشهادة ( أي ما يرى أو يدرك بالحواس ) , فيستدلون بها على مواطن العظمة في الغيب، وهي مسائل تحتاج إلى المعاناة العقلية، والمجاهدة النفسية التي لا قبل بها إلا لأولى العزم ..وقليل ما هم.
ويذكرنا هذا بسحرة فرعون الذين ألقوا ساجدين من خشية الله " قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون" (الآيتان 121 ، 122 سورة الأعراف ) وذلك عندما أدركوا ـ وهم العلماء الخبراء في فنهم ـ أن ما أتى به موسى ليس هو بالسحر، ولكنه الآية المعجزة من رب العالمين.
ولله ما أوثق الرباط بين التقوى الحقة والعلم الحق في قول الله سبحانه وتعالى :" واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم " (الآية 282 سورة البقرة " .
ولئن دفعت العقيدة الإسلامية الصادقة أبطال المسلمين إلى الدفاع عنها في فتوحات الأمصار والبلدان، فقد حفزتهم هي أيضا إلى الحرص عليها في فتوحات العلم والعرفان، فاستحقوا بهذا سيادة الأرض, وهي سيادة لم تقم على تسلط جبروت أو طغيان, وإنما نبعت من ذل العبودية الخالصة للواحد البارئ الديان ..لا شريك له.(/3)
العقيدة الصحيحة والعقيدة الفاسدة (4/10)
د. علي محمد الصلابي 3/6/1426
09/07/2005
العقيدة ليست مختصّة بالإسلام، بل كل ديانة أو مذهب لا بدّ لأصحابه من عقيدة يقيمون عليها نظام حياتهم، وهذا ينطبق على الجماعات والأفراد والأمم الشعوب، والعقائد منذ بدء الخليقة إلى اليوم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها قسمان:
الأول: يمثل العقيدة الصحيحة، وهي تلك العقائد التي جاءت بها الرسل الكرام في أي زمان ومكان، وهي عقيدة واحدة؛ لأنها منزلة من العليم الخبير الحكيم العزيز.
والقسم الثاني: يشمل العقائد الفاسدة على كثرتها وتعددها، وفسادها ناشئ من كونها نتاج أفكار البشر، ومن وضع مفكريهم وعقلائهم، وعلمهم محدود ومقيد بقيود بشرية متمثلة في العادات والتقاليد والأفكار, وأحياناً يأتي فساد العقيدة من تحريفها، وتغييرها وتبديلها، كما هو الحال للعقيدة اليهودية والنصرانية في الوقت الحاضر، فإنهما حُرّفتا منذ عهد بعيد، ففسادهما كان من هذا التحريف، وإن كانت عقيدة سليمة في الأصل (1).
أين العقيدة الصحيحة اليوم؟
العقيدة الصحيحة لا توجد إلا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنهما محفوظتان, لحفظ الله لهما قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9] والعقائد في غير الإسلام -وإن كان في بعضها قليل من الحق- فإنها لا تمثل الحق، ولا تجليه؛ فالعقيدة الصحيحة السليمة لا توجد في اليهودية ولا في النصرانية، ولا في كلام الفلاسفة ...وإنما توجد في الإسلام في أصليه: الكتاب والسنة, نديّة, طريّة, صافية مشرقة، تملاْ الفؤاد إيماناً ونوراً وحياة ويقيناً، (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ...)[الشورى: من الآية52]. (3) وتقنع العقل بالحجة والبرهان (...إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[الروم: من الآية24] وتنسجم مع الفطرة (...فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا...)[الروم: من الآية30]
ماذا تعني العقيدة ؟
العقيدة الإسلامية ضرورية للإنسان؛ أنه بدونها ائه ضائع يفقد ذاته ووجوده، والعقيدة الإسلامية وحدها التي تجيب عن لتساؤلات التي شغلت ولا تزال تشغل الفكر الإنساني، بل تحيّره: من أين جئت؟ ومن أين جاء هذا الكون؟ وما دورنا في هذا الكون؟ ما علاقتنا بالخالق الذي خلقنا؟ وهل هناك عوامل غير منظوره وراء هذا العالم المشهود؟ وهل هناك مخلوقات عاقلة مفكرة غير هذا الإنسان؟ وهل بعد هذه الحياة من حياة أخرى نصير إليها؟ وكيف تكون تلك الحياة إن كان الجواب بالإيجاب؟
لا توجد عقيدة سوى العقيدة الإسلامية اليوم تجيب عن هذه الأسئلة إجابة صادقة مقنعة و كل من لم يعرف العقيدة، و من لم يعتنقها فإن حاله لن يختلف عن حال ذلك الشاعر البائس (2) الذي لا يدري شيئاً :
***
جئت، لا أعلم من أين، ولكني أتيت
ولقد أبصرت، قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري!!
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود
هل أنا حرٌّ طليق أم أسير في قيود
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود
أتمنّى أنني أدري ولكني
لست أدري!!
وطريقي ما طريقي؟ أطويل أم قصير
هل أنا أصعد أم أنا أهبط فيه وأغور
أأنا السائر في الدرب أم الدرب تسير؟
أم كلانا واقف والدهر يجري
لست أدري!!
ليت شعري وأنا في عالم الغيب الأمين
أتراني كنت أدري أنني فيه دفين
وبأني سوف أبدو وبأني سأكون
أم تراني كنت لا أدرك شيئاً؟
لست أدري!!
أتراني قبلما أصبحت إنساناً سوياً
كنت محواً أو محالاً أم تراني كنت شيئاً
أًلهذا اللغز حلٌّ؟ أم سيبقى أبدياً
لست أدري .... لماذا لست أدري
لست أدري!! (3)
وهذا الشاعر الملحد فقد معرفة الحقائق الكبرى؛ فأصبح في هذه الحيرة والقلق والشك والأمراض النفسية, وأين هو من المسلم الذي يدري ويعرف معرفة مستيقنة كل هذه الحقائق، فإذا هو يجد برد اليقين، وهدوء البال، وإذا هو يسير في طريق مستقيم إلى غاية مرسومة يعرف معالمها، ويدري غايتها.
قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (4)
وقال تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (5)
واستمع إلى الشاعر البائس يتحدث عن الموت والمصير:
***
إن يك الموت قصاصاً: أي ذنب للطهارة؟
وإن كان ثوباً، أي فضل للدّعارة
وإذا كان وما فيه جزاء أو خسارة
فَلِمَ الأسماء إثم وصلاح
لست أدري
إن يك الموت رقاداً بعده صحو طويل
فلماذا ليس يبقى صحونا هذا الجميل
ولماذا المرء لا يدري متى وقت الرحيل
ومتى ينكشف الستر فيدري؟
لست أدري
إن يك الموت هجوعاً يملأ النفس سلاماً(/1)
وانعتاقاً لا اعتقالاً وابتداءً لا ختاماً
فلماذا لا أعشق النوم ولا أهوى الحمام؟
ولماذا تجزع الأرواح منه
لست أدري
أوراء القبر بعد الموت بعث ونشور؟
فحياة، فخلود، أم فناء فدثور؟
أكلام الناس أصدق أم كلام الناس زور؟
أصحيح أن بعض الناس يدري
لست أدري
إن أكن أُبعث بعد الموت جثماناً وعقلا
أترى أُبعث بعضاً أم تُرى أُبعث كُلا
أتُرى أُبعث طفلاً أم تُرى أُبعث كهلا؟
ثم هل أعرف بعد الموت زلالتي؟
لست أدري (6)
(لست أدري ) تلك هي الإجابة عن التساؤلات الخالدة، وليست هي قول شاعر فحسب
( فسقراط) الفيلسوف الذي يُعدّ من عمالقة الفلاسفة، يقول بصريح العبارة: (الشيء الذي لا أزال أجهله جيداً أنني لست أدري) (7) بل إن(اللاأدريّة) مذهب فلسفي قديم .
( فسقراط) الفيلسوف الذي يعد من عمالقة الفلاسفة، يقول بصريح العبارة: (الشيء الذي لا أزال أجهله جيداً أنني لست أدري) (8) بل إن( اللاأدريّة) مذهب فلسفي قديم .
إنه الضلالة. الضلالة عن الحقيقة إنه الشقاء: شقاء القلب تعاسة النفس وضياع الضمير المثقل المكدود، وكم في الحياة من أمثال هذا الشاعر البائس الضالّ، بعضهم يستطيع أن يفصح عن شكوته وحيرته، وبعضهم يحسّ ويعاني وتبقى أفكاره حبيسة نفسه الشقية(9).
بالإسلام وحده يصبح الإنسان يدري، يدرى من أين جاء، والى أين المصير، يدري لماذا هو موجود وما دوره في هذه الحياة. قال تعالى:( أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (10).
إن البشرية تخبط في دياجير الظلام، وانتكست في مهاوي الشرك، وضلّت عن سواء السبيل، وانحرفت عن منهج التوحيد، الذي جاء به الأنبياء والرسل، فأُصيبت البشريّة في عقلها وفكرها وقلبها بالشرك، وما ينبثق عنه من ضياع في المنهج والفكر والعقيدة والأخلاق، فانحرفت اليهودية عن التوحيد الذي جاء به موسى عليه السلام، على دراية من أحبارهم وعلمائهم ولذلك غضب الله عليهم، وأضاعت النصارى الحق الذي جاء به عيسى عليه السلام فضلّوا سواء السبيل.
فأصبحت البشرية في ظلمه شديدة قبل نزول القرآن وبزوغ فجر الإسلام، كانت البشرية قبل نزول القرآن تعجّ بركام العقائد والتصوّرات المنحرفة في ذات الله، وفي الكون وفي الحياة وفي الإنسان والموت، وفي الجزاء وفي الحساب وفي الكتب السماوية وفي رسل الله وفي أقدار الله وقضائه، وأصبحت البشرية بين إفراط وتفريط بعيدة عن الصراط المستقيم، حائدة عن الوسطيّة والاعتدال، والاستقامة فبعض البشر زعم أن الملائكة بنات الله، ثم عبدوا الملائكة كما فعل مشركو العرب، وبعضهم قالوا: عيسى ابن الله كما فعلت النصارى، وبعضهم قالوا: عزيز ابن الله كما فعلت اليهود. ووصفوا المولى -عز وجل- بصفات لا تليق به من صفات النقص، وشبّهوه بمخلوقاته، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وشاعت بين البشرية عبادة الأصنام، إما بوصف تماثيل للملائكة، أو بوصف تماثيل للأجداد، وإما لذاتها، وكانت الكعبة، التي بُنيت لعبادة الله وحده، تعجّ بالأصنام؛ إذ كانت تحتوي على ثلاثمائة وستين صنماً غير الأصنام الكبرى في جهات متفرقة.
ومما يدل على أن اللات والعزى ومناة كانت تماثيل لملائكة كما جاء في القرآن الكريم في سورة النجم: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (11)
وانتشرت بين الناس عبادة الكواكب، وكانت قبيلة حمير تعبد الشمس و كنانة تعبد القمر، ولخم وحزام المشتري، وطي تعبد سهيلاً وقيس تعبد العبور. وأسد تعبد عطارد، وقد جاء عن هذا في سورة فصلت (... لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (12)
وجاء في سورة النجم (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى) (13).
وكثرت الإشارات إلى خلق النجوم والكواكب وربوبية الله سبحانه لها كبقية خلائقه. ونفى ألوهية الكواكب وعبادتها.(/2)
لقد سادت الصورة الشائعة للتصورات في الجزيرة العربية حيث عبادة الأصنام، وفي بلاد فارس حيث الديانة المجوسيّة، وفى بلاد الشام والرومان حيث النصرانيّة المنحرفة، واليهوديّة المغضوب عليها، وأصبحت البشرية شرقاً وغرباً، جنوباً وشمالاً تعجّ بركام من بقايا العقائد السماويّة المنحرفة، تجثم على ضمير البشرية في كل مكان، والذي كانت تنبثق منه أنظمتهم وأوضاعهم وآدابهم وأخلاقهم (14) ومن ثم كانت عناية الإسلام الكبرى موجهة إلى تحرير العقيدة، وتحديد الصورة الصحيحة التي يستقر عليها الضمير البشري في حقيقة الألوهيّة وعلاقتها بالخالق، وعلاقة الخالق بها
فتستقرّ عليها نظمهم وأوضاعهم، وعلاقتهم الاجتماعية والاقتصاديه والسياسية، وأدبهم وأخلاقهم كذلك. فما يمكن أن تستقر هذه الأمور كلها، إلا أن تستقر حقيقة الألوهية، وتتبين خصائصها واختصاصاتها.
وعُني الإسلام (في أصليه الكتاب والسنة) بإيضاح طبيعة الخصائص والصفات الإلهية المتعلقة بالخلق والإرادة والهيمنة والتدبير .. ثم بحقيقة الصلة بين الله والإنسان ... فلقد كان لمعظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه العقائد والفلسفات، مما يتعلق بهذا الأمر الخطير-الأثر في الضمير البشري وفى الحياة الإنسانيه كلها.
فالذي يعرف الجاهلية هو الذي يدرك قيمه الإسلام، ويعرف كيف يحرص على رحمة الله المتمثلة فيه، ونعمة الله المحققة به أن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها ... إن هذا كله لا يتجلّى للقلب والعقل، كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية– السابقة للإسلام واللاحقة – عند إذن تبدو هذه العقيدة رحمة ... رحمة حقيقية ... رحمة للقلب والعقل، ورحمة بالحياة والأحياء، رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق وقرب وأنس، وتجاوب مع الفترة مباشر عميق (4 ).
|1|2|3|4|
--------------------------------------------------------------------------------
1- انظر العقيدة في الله ص (11).
2- انظر العقيدة في الله ص ( 12)
3- هو إيليا أبو ماضي من قصيدة له طويلة بعنوان (الطلاسم) من ديوانه ( الجداول) ص (106 ).
4- الجداول ص (106 )
5- سورة الروم آية : 40
6- سورة الداريات آية : 56
7- الجداول ص (107)
8- الدين لدراز ص (69)
9- انظر: العقيدة في الله ص (15)
10- سوره تبارك ، آية 22
11- سورة النجم :الآيات (19-28)
12- سوره فصلت آية 37
13- سوره النجم آية 49
14- خصائص التصور الاسلامى ومقوماته (46,42)(/3)
العقيدة الصحيحة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه. أما بعد:
فلما كانت العقيدة الصحيحة هي أصل دين الإسلام وأساس الملة رأيت أن تكون هي موضوع المحاضرة.
ومعلوم بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة أن الأعمال والأقوال إنما تصح وتقبل إذا صدرت عن عقيدة صحيحة فإن كانت العقيدة غير صحيحة بطل ما يتفرع عنها من أعمال وأقوال كما قال تعالى: (ومن يكفر بالإيمان ففد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين).
وقال تعالى: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين). والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقد دل كتاب الله المبين وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم على أن العقيدة الصحيحة تتلخص في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، فهذه الأمور الستة هي أصول العقيدة الصحيحة التي نزل بها كتاب الله العزيز، وبعث الله بها رسوله محمدا عليه الصلاة والسلام.
ويتفرع عن هذه الأصول كل ما يجب الإيمان به من أمور الغيب.
وجميع ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم وأدلة هذه الأصول الستة في الكتاب والسنة كثيرة جدا، فمن ذلك قول الله سبحانه: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين)الآية. وقوله سبحانه: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) الآية.
وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا). وقوله سبحانه: (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير).
أما الأحاديث الصحيحة الدالة على هذه الأصول فكثيرة جدا.
منها الحديث الصحيح المشهور الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن جبريل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال له: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ". الحديث وأخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة.
وهذه الأصول الستة: يتفرع عنها جميع ما يجب على المسلم اعتقاده في حق الله سبحانه وفي أمر المعاد وغير ذلك من أمور الغيب.
أولا الإيمان بالله
من الإيمان بالله سبحانه الإيمان بأنه الإله الحق المستحق للعبادة دون كل ما سواه لكونه خالق العباد والمحسن إليهم والقائم بأرزاقهم والعالم بسرهم وعلانيتهم، والقادر على إثابة مطيعهم وعقاب عاصيهم، ولهذه العبادة خلق الله الثقلين وأمرهم بها كما قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين).
وقال سبحانه: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون، الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناة وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون).
وقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب لبيان هذا الحق والدعوة إليه، والتحذير مما يضاده كما قال سبحانه: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت). وقال تعالى (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون).
وقال عز وجل: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير أن لا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير). وحقيقة هذه العبادة هي إفراد الله سبحانه بجميع ما تعبد العباد به من دعاء وخوف ورجاء وصلاة وصوم وذبح ونذر وغير ذلك من أنواع العبادة على وجه الخضوع له والرغبة والرهبة مع كمال الحب له سبحانه والذل لعظمته.
وغالب القرآن الكريم نزل في هذا الأصل العظيم. كقوله سبحانه: (فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص). وقوله سبحانه: (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه). وقوله عز وجل: (فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)، وفي الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا".
ومن الإيمان بالله أيضا الإيمان بجميع ما أوجبه على عباده وفرضه عليهم من أركان الإسلام الظاهرة وهي:
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا، وغير ذلك من الفرائض التي جاء بها الشرع المطهر.
وأهم هذه الأركان وأعظمها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.(/1)
فشهادة أن لا إله إلا الله تقتضي إخلاص العبادة لله وحده ونفيها عما سواه، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود بحق إلا الله فكل ما عبد من دون الله من بشر أو ملك أو جني أو غير ذلك فكله معبود بالباطل، والمعبود بالحق هو الله وحده كما قال سبحانه: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل).
وقد سبق بيان أن الله سبحانه خلق الثقلان لهذا الأصل الأصيل وأمرهم به، وأرسل به رسله وأنزل به كتبه، فتأمل ذلك جيدا وتدبره كثيرا ليتضح لك ما وقع فيه اكثر المسلمين من الجهل العظيم بهذا الأصل الأصيل حتى عبدوا مع الله غيره، وصرفوا خالص حقه لسواه، فالله المستعان.
ومن الإيمان بالله سبحانه، الإيمان بأنه خالق العالم ومدبر شئونهم والمتصرف فيهم بعلمه وقدرته كما يشاء سبحانه وأنه مالك الدنيا والآخرة ورب العالمين جميعا لا خالق غيره، ولا رب سواه، وأنه أرسل الرسل وأنزل الكتب لإصلاح العباد ودعوتهم إلى ما فيه نجاتهم وصلاحهم في العاجل والآجل، وأنه سبحانه لا شريك له في جميع ذلك، كما قال تعالى: (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل). وقال تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين).
ومن الإيمان بالله أيضا الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العليا الوارد ة في كتابه العزيز، والثابتة عن رسوله الأمين من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، بل يجب أن تمركما جاءت بلا كيف مع الإيمان بما دلت عليه من المعاني العظيمة التي هي أوصاف لله عز وجل يجب وصفه بها على الوجه اللائق به من غير أن يشابه خلقه في شيء من صفاته كما قال تعالى (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) وقال عز وجل: (فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون).
وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، وهي التي نقلها الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتابه "المقالات عن أصحاب الحديث وأهل السنة" ونقلها غيره من أهل العلم والإيمان.
قال الأوزاعي رحمه الله: سئل الزهري ومكحول عن آيات الصفات فقالا: أمروها كما جاءت. وقال الوليد بن مسلم رحمه الله: سئل مالك، والأوزاعي، والليث بن سعد وسفيان الثوري رحمهم الله عن الأخبار الواردة في الصفات، فقالوا جميعا: أمروها كما جاءت بلا كيف. وقال الأوزاعي رحمه الله: كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله سبحانه على عرشه ونؤمن بما ورد في السنة من الصفات. ولما سئل ربيعة بن عبد الرحمن شيخ مالك رحمة الله عليهما عن الاستواء قال: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ المبين وعلينا التصديق ". ولما سئل الإمام مالك رحمه الله عن ذلك قال: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة" ثم قال للسائل: ما أراك إلا رجل سوء! وأمر به فأخرج.
وروي هذا المعنى عن أم المؤمنين أم سلمة رضى الله عنها. وقال الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك رحمه الله عليه: "نعرف ربنا سبحانه بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه".
وكلام الأئمة في هذا الباب كثير جدا لا يمكن نقله في هذه العجالة، ومن أراد الوقوف على كثير من ذلك فليراجع ما كتبه علماء السنة في هذا الباب مثل كتاب "السنة" لعبد الله بن الإمام أحمد، وكتاب "التوحيد" للإمام الجليل محمد بن خزيمة وكتاب "السنة" لأبي القاسم اللالكائي الطبري، وكتاب "السنة" لأبي بكر بن أبي عاصم، وجواب شيخ الإسلام ابن تيمية لأهل حماة، وهو جواب عظيم كثير الفائدة قد أوضح فيه رحمه الله عقيدة أهل السنة، ونقل فيه الكثير من كلامهم والأدلة الشرعية والعقلية على صحة ما قاله أهل السنة، وهكذا رسالته الموسومة بالتدمرية فقد بسط فيها المقام وبين فيها عقيدة أهل السنة بأدلتها النقلية والعقلية والرد على المخالفين بما يظهر الحق ويدمغ الباطل لكل من نظر في ذلك من أهل العلم بقصد صالح ورغبة في معرفة الحق.
وكل من خالف أهل السنة فيما اعتقدوا في باب الأسماء والصفات فإنه يقع ولابد في مخالفة الأدلة النقلية، والعقلية مع التناقض الواضح في كل ما يثبته وينفيه.
. أما أهل السنة والجماعة فأثبتوا لله سبحانه ما أثبنه لنفسه في كتابه الكريم أو أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة إثباتا بلا تمثيل ونزهوه سبحانه عن مشابهة خلقه تنزيها بريئا من التعطيل، ففازوا بالسلامة من التناقض وعملوا بالأدلة كلها، وهذه سنة الله سبحانه فيمن تمسك بالحق الذي بعث به رسله وبذل وسعه في ذلك وأخلص لله في طلبه أن يوفقه للحق ويظهر حجته كما قال تعالى: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق). وقال تعالى: (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا).(/2)
وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره المشهور عند كلامه على قول الله عز وجل: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) كلاما حسنا في هذا الباب يحسن نقله هاهنا لعظم فائدته. قال رحمه الله ما نصه: "للناس في هذا المقام مقالات كثيرة جذا ليس هذا موضع بسطها وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا". وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير، بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال: "من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه. فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى".
ثانيا: الإيمان بالملائكة
الإيمان بهم إجمالا وتفصيلا فيؤمن المسلم بأن لله ملائكة خلقهم لطاعته ووصفهم بأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون).
وهم أصناف كثيرة منهم الموكلون بحمل العرش، ومنهم خزنة الجنة والنار، ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد.
ونؤمن على سبيل التفصيل بمن سمى الله ورسوله منهم كجبريل، وميكائيل، ومالك خازن النار، وإسرافيل الموكل بالنفخ في الصور، وقد جاء ذكره في أحاديث صحيحة، وقد ثبت في الصحيح عن عائشة رضى الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم " أخرجه مسلم في صحيحه.
ثالثا: الإيمان بالكتب
يجب الإيمان إجمالا بأن الله سبحانه قد أنزل كتبا على أنبيائه ورسله لبيان حقه والدعوة إليه، كما قال تعالى:(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) الآية. وقال تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) لآية.
ونؤمن على سبيل التفصيل بما سمى الله منها كالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن.
والقرآن الكريم هو أفضلها وخاتمها، وهو المهيمن عليها والمصدق لها، وهو الذي يجب على جميع الأمة اتباعه وتحكيمه مع ما صحت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله سبحانه بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا إلى جميع الثقلين، وأنزل عليه هذا القرآن ليحكم به بينهم وجعله شفاء لما في الصدور وتبيانا لكل شيء وهدى ورحمة للمؤمنين. كما قال تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون). وقال سبحانه: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للسلمين). وقال تعالى (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون). والآيات في هذا المعنى كثيرة.
رابعا: الإيمان بالرسل
يجب الإيمان بالرسل إجمالا وتفصيلا، فنؤمن أن الله سبحانه أرسل إلى عباده رسلا منهم مبشرين ومنذرين ودعاة إلى الحق، فمن أجابهم فاز بالسعادة، ومن خالفهم باء بالخيبة والندامة، وخاتمهم وأفضلهم هو نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله سبحانه: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت). وقال تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل). وقال تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين).
ومن سمى الله منهم أو ثبت عن رسول الله تسميته آمنا به على سبيل التفصيل والتعيين كنوح وهود وصالح وإبراهيم وغيرهم عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
خامسا: الإيمان باليوم الآخر
وأما الإيمان باليوم الآخر فيدخل فيه الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت كفتنة القبر وعذابه ونعيمه، وما يكون يوم القيامة من الأهوال والشدائد والصراط والميزان والحساب والجزاء ونشر الصحف بين الناس فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، ويدخل في ذلك أيضا الإيمان بالحوض المورود لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالجنة والنار، ورؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتكليمه إياهم، وغير ذلك مما جاء في القرآن الكريم والسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب الإيمان بذلك كله وتصديقه على الوجه الذي بينه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
سادسا: الإيمان بالقدر
وأما الإيمان بالقدر فيتضمن الإيمان بأمور أربعة:(/3)
الأمر الأول: أن الله سبحانه قد علم ما كان وما يكون، وعلم أحوال عباده وعلم أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم وغير ذلك من شئونهم، لا يخفى عليه من ذلك شيء سبحانه وتعالى كما قال سبحانه (إن الله بكل شيء عليم) وقال عز وجل: (لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما).
والأمر الثاني: كتابته سبحانه لكل ما قدره وقضاه كما قال سبحانه: (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ). وقال تعالى: ( وكل شيء أحصيناه في إمام مبين). وقال تعالى: (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير).
الأمر الثالث: الإيمان بمشيئته النافذة فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، كما قال سبحانه: (إن الله يفعل ما يشاء). وقال عز وجل: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون). وقال سبحانه (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين). الأمر الرابع: خلقة سبحانه لجميع الموجودات لا خالق غيره ولا رب سواه، كما قال سبحانه: (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل). وقال تعالى: (يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون).
فالإيمان بالقدر يشمل الإيمان بهذه الأمور الأربعة عند أهل السنة والجماعة خلافا لمن أنكر بعض ذلك من أهل البدع. ويدخل في الإيمان بالله اعتقاد أن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وأنه لا يجوز تكفير أحد من المسلمين بشيء من المعاصي التي دون الشرك والكفر كالزنا، والسرقة، وأكل الربا، وشرب المسكرات، وعقوق الوالدين، وغير ذلك من الكبائر ما لم يستحل ذلك، لقول الله سبحانه: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). ولما ثبت في الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و "أن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان".
ومن الإيمان بالله الحب في الله والبغض في الله والموالاة في الله والمعاداة في الله، فيحب المؤمن المؤمنين ويواليهم، ويبغض الكفار ويعاديهم.
وعلى رأس المؤمنين من هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأهل السنة والجماعة يحبونهم ويوالونهم ويعتقدون أنهم خير الناس بعد الأنبياء لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " متفق على صحته.
ويعتقدون أن أفضلهم أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق ثم عثمان ذو النورين ثم علي المرتضى رضى الله عنهم أجمعين، وبعدهم بقية العشرة المبشرين بالجنة ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويعتقدون أنهم في ذلك مجتهدون من أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر، ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين به ويتولونهم ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين ويترضون عنهن جميعا.
ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسبونهم ويغلون في أهل البيت، ويرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله عز وجل إياها، كما يتبرؤون من طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل.
وجميع ما ذكرناه في هذه الكلمة الموجزة في العقيدة الصحيحة التي بعث الله بها رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وهي عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله سبحانه ".
وقال عليه الصلاة والسلام: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة فقال الصحابة: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي." وهي العقيدة التي يجب التمسك بها والاستقامة عليها والحذر مما خالفها.
وأما المنحرفون عن هذه العقيدة والسائرون على ضدها فهم أصناف كثيرة:
فمنهم عباد الأصنام والأوثان والملائكة والأولياء والجن والأشجار والأحجار وغيرها، فهؤلاء لم يستجيبوا لدعوة الرسل بل خالفوهم وعاندوهم كما فعلت قريش وأصناف العرب مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكانوا يسألون قضاء الحاجات وشفاء(/4)
المرضى والنصر على الأعداء، ويذبحون لهم وينذرون لهم، فلما أنكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وأمرهم بإخلاص العبادة لله وحده استغربوا ذلك وأنكروه، وقالوا: (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب). فلم يزل صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله وينذرهم من الشرك ويشرح لهم حقيقة ما يدعو إليه حتى هدى الله منهم من هدى ثم دخلوا بعد ذلك في دين الله أفواجا فظهر دين الله على سائر الأديان بعد دعوة متواصلة وجهاد طويل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم والتابعين لهم بإحسان. ثم تغيرت الأحوال وغلب الجهل على أكثر الخلق حتى عاد الأكثرون إلى دين الجاهلية، بالغلو في الأنبياء والأولياء ودعائهم والاستغاثة بهم وغير ذلك من أنواع الشرك، ولم يعرفوا معنى لا إله إلا الله كما عرف معناها كفار العرب فالله المستعان.
ولم يزل هذا الشرك يتفشى في الناس إلى عصرنا هذا بسبب غلبة الجهل وبعد العهد بعصر النبوة.
وشبهة هؤلاء المتأخرين هي شبهة الأولين وهي قولهم: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله). (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى).
وقد أبطل الله هذه الشبهة وبين أن من عبد غيره كائنا من كان فقد أشرك به وكفر، كما قال تعالى: (ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله). فرد الله عليهم سبحانهبقوله: (قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون).
فبين سبحانه في هذه الآيات أن عبادة غيره من الأنبياء والأولياء أو غيرهم هي الشرك الأكبر وإن سماها فاعلوها بغير ذلك وقال تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربنا إلى الله زلفى). فرد الله عليهم سبحانه بقوله: (إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار).
فأبان بذلك سبحانه أن عبادتهم غيره بالدعاء والخوف والرجاء ونحو ذلك كفر به سبحانه، وأكذبهم في قولهم أن آلهتهم تقربهم إليه زلفى.
ومن العقائد الكفرية المضادة للعقيدة الصحيحة والمخالفة لما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام ما يعتقده الملاحدة في هذا العصر من أتباع ماركس ولينين وغيرهما من دعاة الإلحاد والكفر سواء سموا ذلك اشتراكية أو شيوعية أو بعثية أو غير ذلك من الأسماء فإن من أصول هؤلاء الملاحدة أنه لا إله والحياة مادة، ومن أصولهم إنكار المعاد وإنكار الجنة والنار والكفر بالأديان كلها. ومن نظر في كتبهم ودرس ما هم عليه علم ذلك يقينا، ولا ريب أن هذه العقيدة مضادة لجميع الأديان السماوية ومفضية بأهلها إلى أسوأ العواقب في الدنيا والآخرة.
ومن العقائد المضادة للحق ما يعتقده بعض الباطنية وبعض المتصوفة من أن بعض من يسمونهم بالأولياء يشاركون الله في التدبير ويتصرفون في شئون العالم ويسممونهم بالأقطاب والأوتاد والأغواث وغير ذلك من الأسماء التي اخترعوها لآلهتهم وهذا من أقبح الشرك في الربوبية وهو شر من شرك جاهلية العرب، لأن كفار العرب لم يشركوا في الربوبية وإنما أشركوا في العبادة، وكان شركهم في حال الرخاء، أما في حال الشدة فيخلصون لله العبادة كما قال الله سبحانه: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ). أما الربوبية فكانوا معترفين بها لله وحده كما قال سبحانه: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله). وقال تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون). والآيات في هذا المعنى كثيرة.
. أما المشركون المتأخرون فزادوا على الأولين من جهتين: إحداهما: شرك بعضهم في الربوبية.
والثانية: شركهم في الرخاء والشدة كما يعلم ذلك من خالطهم وسبر أحوالهم ورأى ما يفعلون عند قبر الحسين والبدوي وغيرهما في مصر،. وعند قبر العيدروس في عدن، والهادي في اليمن وابن عربي في الشام، والشيخ عبد القادر الجيلاني في العراق، وغيرها من القبور المشهورة التي غلت فيها العامة وصرفوا لها الكثير من حق الله عز وجل، وقل من ينكر عليهم ذلك ويبين لهم حقيقة التوحيد الذي بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، ومن قبله من الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
ونسأله سبحانه أن يردهم إلى رشدهم وأن يكثر بينهم دعاة الهدى، وأن يوفق قادة المسلمين وعلماءهم لمحاربة هذا الشرك.
ومن العقائد المضادة للعقيدة الصحيحة في باب الأسماء والصفات عقائد أهل البدع من الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم في نفي صفات الله عز وجل وتعطيله سبحانه من صفات الكمال ووصفه عز وجل بصفة المعدومات والجمادات والمستحيلات تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.(/5)
ويدخل في ذلك من نفى بعض الصفات وأثبت بعضها كالأشاعرة فإنه يلزمهم فيما أثبتوه من الصفات نظير ما فروا منه في الصفات التي نفوها وتأولوا أدلتها فخالفوا بذلك الأدلة السمعية والعقلية، وتناقضوا في ذلك تناقضا بينا.
أما أهل السنة والجماعة فقد أثبتوا لله سبحانه ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على وجه الكمال، ونزهوه عن مشابهة خلقه تنزيها بريئا من شائبة التعطيل فعملوا بالأدلة كلها ولم يحرفوا ولم يعطلوا، وسلموا من التناقض الذي وقع فيه غيرهم- كما سبق بيان ذلك- وهذا هو سبيل النجاة، والسعادة في الدنيا والآخرة وهو الصراط المستقيم الذي سلكه سلف هذه الأمة وأئمتها، ولن يصلح آخرهم إلا ما صلح به أولهم وهو اتباع الكتاب والسنة، وترك ما خالفهما.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى(/6)
العقيدة الطحاوية
الحمد لله رب العالمين، قال العلامة حجة الإسلام أبو جعفر الوراق الطحاوي- بمصر- رحمه الله: هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة: أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدين ويدينون به رب العالمين. نقول في توحيد الله (1) معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله ولا يعجزه شيء ولا إله غيره. قديم(2) بلا ابتداء دائم بلا انتهاء، لا يفنى ولا يبيد ولا يكون إلا ما يريد. لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام ولا يشبه الأنام. خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤنة، مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة.
ما زال بصفاته قديما قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته. وكما كان بصفاته أزليا كذلك لا يزال عليها أبديا. ليس بعد الخلق استفاد اسم (الخالق) ولا بإحداث البرية استفاد اسم السم (الباري). له معنى الربوبية ولا مربوب ومعنى الخالق ولا مخلوق ، وكما أنه محيي الموتى بعدما أحيا، استحق هذا الاسم قبل إحيائهم وكذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم. ذلك بانه على كل شيء قدير وكل شيء إليه فقير. وكل أمر عليه يسير. لا يحتاج إلى شيء (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).
خلق الخلق بعلمه وقدر لهم أقدارا ضرب لهم آجالا، ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته. ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن.
يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلا، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلا. وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله، وهو متعال عن الأضداد والأنداد، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ولا غالب لأمره.
آمنا بذلك كله وأيقنا أن كلا من عنده.
وأن محمدا عبده المصطفى ونبيه المجتبى ورسوله المرتضى وأنه خاتم الأنبياء وإمام الأتقياء وسيد المرسلين وخبيب رب العالمين. وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى. وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى بالحق والهدى وبالنور والضياء.
وأن القران كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولا وأنزله على رسوله وحيا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده سقر حيث قال: (سأصليه سقر). فلما أوعد الله بسقر لمن قال (إن هذا إلا قول البشر) علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر. ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر. فمن أبصر هذا اعتبر وعن مثل قول الكفار انزجر وعلم أنه بصفاته ليس كالبشر.
والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق به كتاب ربنا (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) وتفسيره على ما اراده الله تعالى وعلمه وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كما قال ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا. فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه.
ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام علم ما حظر عنه علمه ولم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصافي المعرفة وصحيح الإيمان فيتذبذب بين الكفر والإيمان والتصديق والتكذيب والإقرار والإنكار موسوسا تائها شاكا لا مؤمنا مصدقا ولا جاحدا مكذبا.
ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم، إذ كان تأويل الرؤية ـ وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ـ بترك التأويل ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين.
ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه، فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية. وتعالى عن الحدود والغايات(3) والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات.
والمعراج حق. وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقضة إلى السماء ومن ثم إلى حيث شاء الله من العلا. وأكرمه الله بما شاء وأوحى إليه ما أوحى (ما كذب الفؤاد ما رأى). فصلى الله عليه وسلم في الأخرة والأولى.
والحوض الذي أكرمه الله تعالى به حق. والشفاعة التي ادخرها له حق، كما روي في الأخبار. والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق. وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص منه. زكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه، وكل ميسر لما خلق له. والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله والشقي من شقي بقضاء الله.(/1)
وأصل القدر سر الله في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل. والتعمق والنظر في ذلك ذريعة للخذلان وسلم للحرمان ودرج الطغيان. فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة. فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه ونهاهم عن مرامه كما قال تعالى في كتابه (لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون) فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين.
فهذه جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم، لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود(4). فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر. ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود وترك طلب العلم المفقود.
ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم. فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء قد كتبه الله تعالى فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائنا لم يقدروا عليه. جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه.
وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقد ذالك تقديرا محكما مبرما ليس فيه ناقض ولا معقب ، ولا مزيل ولا مغير . ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه، وذالك من عقد الإيمان وأصول المعرفه والإعتراف بتوحيد الله تعالى وبربوبيته،كما قال تعالى في كتابه (وخلق كل شيْ فقدره تقديرا) وقال تعالى (وكان أمر الله قدرا مقدورا).
فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيما،وأحضر للنظر فيه قلبا سليما، لقد إلتمس بوهمه في فحص الغيب سرا كتيما . وعاد بما قال فيه أفاكا أثيما.
والعرش والكرسي حق، وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه.
وتقول إن الله اتخذ إبراهيم خليلا وكلم موسى تكليما، إيمانا وتصديقا وتسليما. ونؤمن بالملائكة والنبيين والكتب المنزلة على المرسلين. ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين.
ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين،ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين.
ولا نخوض في الله ولا نماري في دين الله ولا نجادل في القران، ونشهد أنه كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين فعلمه سيد المرسلين محمدا صلى الله عليه وسلم. وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين، ولا نقول بخلقه ولا نخالف جماعة المسلمين.
ولا نكفر أحدل من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله(5). ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله. نرجوا للمحسنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته ولا نأمن عليهم ولا نشهد لهم بالجنة(6). ونستغفر لمسيئهم ونخاف عليهم ولا نقنطهم.
والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، وسبيل الحق بينهما لأهل الفلبة. ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه.(7)
والإيمان هو الإقرار باللسان والنصديق بالجنان(8). وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق، والإيمان واحد وأهله في أصله سواء(9). والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى.
والمؤمنين كلهم أولياء الرحمن وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقران.
و الإيمان هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى. ونحن مؤمنون بذلك كله لا نفرق بين أحد من رسله، ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به. وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين (مؤمنين) وهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وإن شاء عذبهم في النار بعدله ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته ثم يبعنهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته ولم ينالوا من ولايته. اللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به.
ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم. ولا ننزل أحد منهم جنة ولا نارا، ولا نشهد عليهم بكفر ولا شرك ولا بنفاق ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى.
ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف.
ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يدا من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة.
ونتبع السنة والجماعة ونتجنب الشذوذ والخلاف والفرقة. ونحب أهل العدل والأمانة ونبغض أهل الجور والخيانة.
وقول الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه.
ونرى المسح على الخفين ي السفر والحضر كما جاء في الأثر.(/2)
والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما.
ونؤمن بالكرام الكاتبين، فإن الله قد جعلهم علينا حافظين. ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين. وبعذاب القبر لمن كان أهلا له. وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم. والقبر روضة من رياض الجنة وأو حفرة من حفر النيران.
ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة والعرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب والصراط والميزان. والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان، وأن الله خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلا. فمن شاء منهم إلى الجنة فضلا منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلا منه.
والخير والشر مقدران على العباد، واىستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به فهي من مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل وبها يتعلق الخطاب وهو كما قال الله تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).
وأفعال العباد خلق من الله وكسب من العباد، ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم(10)، وهو نفسير \\\"لا حول ولا قوة إلا بالله\\\". نقول لا حيلة لأحد ولا حركة لأحد ولا تحول لأحد من معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله.
وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضاؤه وقدره. غلبت مشيئته المشيئات كلها. وغلب قضاؤه الحيل كلها، يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبدا، تقدس عن كل سوء وحين وتنزه عن كل عيب وشين (لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون).
وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات، والله تعالى يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات ويملك كل شيء ولا يملكه شيء، ولا غنى عن الله طرفة عين، ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر وصار من أهل الحين.
والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى.
ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم. ولا نذكرهم إلا بخير وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.
ونثبت الخلافة بعد رسو ل الله صلى الله عليه وسلم أولا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم لعي بن أبي طالب رضي الله عنه. وهو الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون.
وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالجنة نشهد لهم بالجنة، على ما شهد لهم رسو ل الله صلى الله عليه وسلم وقوله الحق، وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح، وهو أمين هذه الأمة، رضي الله عنهم أجمعين.
ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذرياته المقدسين من كل رجس فقد برئ من النفاق.
وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل.
ولا نفضل أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء.
ونؤمن بما جاء من كراماتهم وصح عن الثقات من رواياتهم.
ونؤمن بأشراط الساعة من خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه السلام من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها وخروج دابة الأرض من موضعها. ولا نصدق كاهنا ولا عرافا ولا من يدعي شيئا يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
ونرى الجماعة حقا وصوابا والفرقة زيغا وعذابا. ودين الله في الأرض والسماء واحد وهو دين الإسلام. قال الله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) وقال: (ورضيت لكم الإسلام دينا) وهو بين الغلو والتقصير وبين التشبيه والتعطيل وبين الجبر والقدر وبين الأمن والإياس.
فهذا ديننا واعتقادنا ظاهرا وباطنا، ونحن برءاء إلى الله من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه.
ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان ويختم لنا به ويعصمنا من الأهواء المختلفة والآراء المتفرقة والمذاهب الردية مثل: المشبهة والمعتزلة والجهمبة والجبرية والقدرية وغيرهم من الذين خالفوا السنة والجماعة وحالفوا الضلالة، ونحن منهم برءاء وهم عندنا ضلال وأردياء.
وبالله العصمة والتوفيق. تم الكتاب. br>
--------------------------------------------------------------------------------
تعليقات الشيخ ابن باز
1) قوله (نقول في توحيد الله... إلخ).
اعلم أن التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب ينقسم إلى أقسام ثلاثة: حسب استقراء النصوص من الكتاب والسنة، وحسب واقع المكلفين.(/3)
القسم الأول: توحيد الربوبية: وهو توحيد الله بأفعاله سبحانه، وهو الإيمان بأنه الخالق الرازق المدبر لأمور خلقه المتصرف في صونهم في الدنيا والآخرة لا شريك له في ذلك كما قال تعالى:
(الله خالق كل شيء)وقال سبحانه: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر) الآية. وهذا النوع قد أقر به المشركون عباد الأوثان وإن جحد أكثرهم البعث والنشور، ولم يدخلهم في الإسلام لشركهم بالله في العبادة، وعبادتهم الأصنام والأوثان معه سبحانه، وعدم إيمانهم بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
القسم الثاني: توحيد العبادة ويسمى توحيد الألوهية وهي العبادة، وهذا القسم هو الذي أنكره المشركون فيما ذكر الله عنهم سبحانه بقوله: (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب . لأجعل الآلة إله واحدا لإن هذا لشيء عجاب). وأمثالها كثير، وهذا القسم يتضمن إخلاص العبادة لله وحده، والإيمان بأنه المستحق لها، وأن عبادة ما سواه باطلة، وهذا هو معنى لا إله إلا الله؟ فإن معناها لا معبود حق إلا الله كما قال الله عز وجل: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) الآية من سورة الحج.
القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات: وهو الإيمان بكل ما ورد في كتاب الله العزيز وفي السنة الصحيحة عن رسول الله من أسماء الله وصفاته وإثباتها لله سبحانه على الوجه الذي يليق به من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، كما قال الله سبحانه (قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد . ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد) وقال عز وجل (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) وقال عز وجل (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) وقال سبحانه في سورة النحل (ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم) والآيات في هذا المعنى كثيرة. والمثل الأعلى هو الوصف الأعلى الذي لا نقص فيه. وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان، يمرون آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت ويثبتون معانيها لله سبحانه إثباتا بريئا من التمثيل وينزهون الله سبحانه عن مشابهة خلقه تنزيها بريئا من التعطيل. وبما قالوا تجتمع الأدلة من الكتاب والسنة وتقوم الحجة على من خالفهم. وهم المذكورون في قوله سبحانه (والسابقون الأولون من المهجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) جعلنا الله منهم بمنه وكرمه، والله المستعان.
(2) قوله (قديم بلا ابتداء ..) ذها اللفظ لم يرد في أسماء الله الحسنى كما نبه الشارح رحمه الله وغيره، وإنما ذكره كثير من علماء الكلام ليثبتوا به وجوده قبل كل شيء. وأسماء الله توقيفية لا يجوز إثبات شيء منها إلا بالنص من الكتاب العزيز أو السنة الصحيحة، ولا يجوز إثبات شيء منها بالرأي كما نص على ذلك أئمة السلف الصالح. ولفظ القديم لا يدل على المعنى الذي أراده أصحاب الكلام، لأنه يقصد به في اللغة العربية المتقدم على غيره وإن كان مسبوقا بالعدم كما في قوله سبحانه: (حتى عاد كالعرجون القديم) وإنما يدل على المعنى الحق بالزيادة التي ذكرها المؤلف وهي قوله: \\\"قديم بلا ابتداء\\\" ولكنه لا ينبغي عده من أسماء الله الحسنى لعدم ثبوته من جهة النقل، ويغني عنه اسمه سبحانه (الأول) كما قال عز وجل (هو الأول والآخر). والله ولي التوفيق.(/4)
(3) قوله (تعالى عن الحدود والغايات ...) هذا الكلام فيه إجمال قد يستغله أهل التأويل والإلحاد في أسماء الله وصفاته وليس لهم بذلك حجة، لأن مراده رحمه الله تنزيه الباري سبحانه عن مشابهة المخلوقات، لكنه أتى بعبارة مجملة تحتاج إلى تفصيل حتى يزول الاشتباه. فمراده (بالحدود) يعني التي يعلمها البشر، فهو سبحانه لا يعلم حدوده إلا هو سبحانه لأن الخلق لا يحيطون به علما، كما قال عز وجل: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) ومن قال من السلف بإثبات الحد في الاستواء أو غيره فمراده حد يعلمه الله سبحانه ولا يعلمه العباد. وأما (الغايات والأركان والأعضاء والأدوات) فمراده رحمه الله تنزيهه عن مشابهة المخلوقات في حكمته وصفاته الذاتية من الوجه واليد والقدم ونحو ذلك، فهو سبحانه موصوق بذلك لكن ليست صفاته مثل صفات الخلق. ولا يعلم كيفيتها إلا الله سبحانه. وأهل البدع يطلقون مثل هذه الألفاظ لينفوا بها الصفات بغير الصفات التي تكلم الله بها وأثبتها لنفسه حتى لا يفتضحوا وحتى لا يشنع عليهم أهل الحق. والمؤلف الطحاوي رحمه الله لم يقصد هذا المقصد لكونه من أهل السنة المثبتين لصفات الله وكلامه في هذه العقيدة يفسر بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا ويفسر مشتبهه بمحكمه، وهكذا قوله (لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات) مراد الجهات الست المخلوقة، وليس مراده نفي علو الله واستواءه على عرشه، لأن ذلك ليس داخلا في الجهات الست بل هو فوق العالم ومحيط به. وقد فطر الله عباده على الإيمان بعلوه سبحانه وأنه في جهة العلو، وأجمع أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان على ذلك. والأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة المتواترة كلها تدل على أنه في العلو سبحانه، فتنبه لهذا الأمر العظيم أيها القارئ الكريم وأعلم أنه الحق وما سواه باطل، والله الموفق.
(4) مراده رحمه الله بالعلم المفقود هو علم الغيب زخز مختص بالله عز وجل، ومن ادعاه من الناس كفر لقول الله سبحانه: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) الآية، وقوله عز وجل: (قل لا يعلم من في السموات والإرض الغيب إلا الله) الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: \\\"مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله\\\" ثم تلى (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام ..) الآية. والأحاديث صحيحة وكثيرة وردت في الباب تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب مع أنه أفضل الخلق وسيد الرسل فغيره من باب أولى. وهو صلى الله عليه وسلم لا يعلم من ذلك إلا ما علمه إياه سبحانه. ولما تكلم أهل الإفك في عائشة رضي الله عنها لم يعلم ببراءتها إلا بنزول الوحي، ولما ضاع عقدها في بعض أسفاره صلى الله عليه وسلم بعث جماعة في طلبه ولم يعلم مكانه حتى أقاموا البعير فوجدوه تحته. والأدلة من الكتاب والسنة في هذا كثيرة والحمد لله.
(5) قوله (ولا نكفر أحدا ...) مراده رحمه الله أن أهل السنة والجماعة لا يكفرون المسلم الموحد المؤمن بالله واليوم الآخر بذنب يرتكبه، كالزنا وشرب الخمر وأمثال ذلك، ما لم يستحل ذلك، فإن استحله كفر، لكونه بذلك مكذبا لله ولرسوله وخارجا عن دينه. أما إذا لم يستحل ذلك فإنه لا يكفر عند أهل السنة والجماعة بل يكون ضعيف الإيمان وله حكم ما تعاطاه من المعاصي في التفسيق وإقامة الحدود وغير ذلك حسبما جاء في الشرع المطهر. وهذا هو قول أهل السنة خلافا للخوارج والمعتزلة ومن سلك مسلكهم الباطل فإن الخوارج يكفرون بالذنوب والمعتزلة يجعلونه في منزلة بين المنزلتين، يعني بين الإسلام والكفر في الدنيا وأما الآخرة فيتفقون مع الخوارج بأنه مخلد في النار. وقول الطائفتين باطل بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة. وقد التبس أمرهما على بعض الناس لقلة علمه، ولكن أمرهما بحمد الله واضح عند أهل الحق كما بينا وبالله التوفيق.
(6) مراده رحمه الله إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة كالعشرة ونحوهم كما يأتي ذلك في آخر كلامه، مع العلم بأن من عقيدة أهل السنة والجماعة الشهادة للمؤمنين والمتقين على العموم بأنهم من أهل الجنة وأن الكفار والمشركين والمنافقين من أهل النار، كما دلت على ذلك الآيات الكريمات والسنة والمتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله سبحانه (إن المتقين في جنات ونعيم) وقوله عز وجل (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) الآية. في آيات كثيرات تدل على هذا المعنى، وقوله سبحانه في الكفار (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور) وقوله سبحانه (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا) في آيات أخرى تدل على هذا المعنى، وبالله التوفيق.(/5)
(7) هذا الحصر فيه نظر فإن الكافر يدخل في الإسلام بالشهادتين إذا كان لا ينطق بهما، فإن كان ينطق بهما دخل في الإسلام بالتوبة مما أوجب كفره، وقد يخرج من الإسلام بغير الجحود لأسباب كثيرة بينها أهل العلم في باب حكم المرتد، من ذلك: طعنه في الإسلام أو النبي صلى الله عليه وسلم أو استهزائه بالله أو بكتابه أو بشيء من شرعه سبحانه، لقوله سبحانه (قل أبالله وآيته ورسوله كنتم تستهزئون . لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) الآية. ومن ذلك عبادته للأصنام أو الأوثان أو دعوته الأموات والاستغاثة بهم وطلبهم منهم المدد والعون ونحو ذلك، لأن هذا يناقض قول \\\"لا إله إلا الله\\\"، لأنها تدل على أن العبادة حق لله وحده ومنها الدعاؤ والاستغاثة والركوع والسجود والذبح والنذر ونحو ذلك. فمن صرف منها شيئا لغير الله من الأصنام والأوثان والملائكة والجن وأصحاب القبور وغيرهم من المخلوقين فقد أشرك بالله ولم يحقق قول \\\"لا إله إلا الله\\\"، وهذه المسائل كلها تخرجه عن الإسلام بإجماع أهل العلم. وهي ليست من مسائل الجحود وأدلتها معلومة من الكتاب والسنة, وهناك مسائل أخرى كثيرة يكفر بها المسلم وهي لا تسمى جحودا وقد ذكرها العلماء في (باب حكم المرتد) فراجعها إن شئت، وبالله التوفيق.
(8) هذا التعريف فيه نظر وقصور، والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر. وقد ذكر الشارح ابن أبي العز جملة منها فراجعها إن شئت. وإخراج العمل من الإيمان هو قول المرجئة وليس الخلاف بينهم وبين أهل السنة فيه لفظي بل هو لفظي ومعنوي ويترتب عليه أحكام كثيرة يعلمها من تدبر كلام أهل السنة وكلام المرجئة، والله المستعان.
(9) قوله (والإيمان واحد وأهله في أصله سواء) هذا فيه نظر بل هو باطل، فليس أهل الإيمان فيه سواء بل هم متفاوتون تفاوتا عظيما، فليس إيمان الرسل كإيمان غيرهم، كما أنه ليس إيمان الخلفاء الراشدين وبقية الصحابة رضي الله عنهم مثل إيمان غيرهم، وهكذا ليس إيمان المؤمنين كإيمان الفاسقين. وهذا التفاوت بحسب ما في القلب من العلم بالله وأسمائه وصفاته وما شرعه لعباده وهو قول أهل السنة والجماعة خلافا للمرجئة ومن قال بقولهم، والله المستعان.
(10) هذا غير صحيح، بل المكلفون يطيقون أكثر مما كلفهم به سبحانه ولكنه عز وجل لطف بعباده ويسر عليهم ولم يجعل عليهم في دينهم حرجا فضلا منه وإحسانا. والله ولي التوفيق.(/6)
العقيدة العسكرية الإسلامية
بقلم اللواء الركن
محمد جمال الدين محفوظ
ماهية العقيدة العسكرية
يعبر اصلاح »العقيدة العسكرية« [1]عن السياسة العسكرية المرسومة التي تعبر عن وجهات النظر الرسمية للدولة في أمور الصراع المسلح، ويشمل كل ما يتعلق بطبيعة الحرب وغايتها (من وجهة نظرها) وطرق إدارتها، والأسس الجوهرية لإعداد البلاد والقوات المسلحة للحرب. وعلى هذا الأساس فإن العقيدة العسكرية لأية دولة تقوم بصياغتها القيادة السياسية والعسكرية العليا، ذلك لأننا في عصر لا تقتصر فيه الحروب على القتال بين الجيوش في ميدان القتال، بل إن الدولة برمتها »تدخل الحرب« بكل قدرتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنفسية بالإضافة إلى قوتها المسلحة.
وتتحول عناصر العقيدة العسكرية للدولة إلى قوانين ومبادئ ونظريات تدرس لقادة ورجال الجيش في الكليات والمعاهد والمدارس العسكرية المختلفة، كما يتم التدريب عليها في وقت السلم سواء في خلال التدريب اليومي أو المناورات السنوية، وأخيراً تطبق هذه القوانين والمبادئ والنظريات عملياً في الحرب إذا نشبت بين دولة وأعدائها، وتعد الحرب في هذه الحالة بوتقة اختبار لسلامة العقيدة العسكرية ونظرياتها، وهذا مبدأ معروف في العلم العسكري، حتى إذا انتهت الحرب شرع كل طرف في استخلاص الدروس المستفادة وإدخال ما يلزم من تحسين وتطوير لنظرياته ومبادئه الحربية.
وبديهي أن يكون لكل دولة عقيدتها العسكرية الخاصة بها وذلك بالنظر لظروفها الاقتصادية والجغرافية وأهدافها السياسية إلى غير ذلك من العوامل الاستراتيجية.
الإسلام وتنظيم شؤون الحرب
والواقع أن الإسلام باعتباره حضارة كاملة، وأنه نظم كافة أمور الحياة ديناً ودنيا، قد عالج أمور الحرب باعتبارها ظاهرة اجتماعية، ووضع خير المناهج والمبادئ بكل ما يتصل بها من حيث أهدافها وقوانينها وآدابها. والباحث المحقق لا يجد في الإسلام كل ما تحتويه النظريات العسكرية المعمول بها في الشرق أو الغرب فحسب، بل إنه ليكتشف بالتحليل والمقارنة أن نظريات الإسلام الحربية تتجاوز تلك النظريات وتتفوق عليها سواء من الناحية الفنية البحتة أو من حيث نبل المقاصد والأهداف.
وقد نشأت في المدينة بعد الهجرة أول مدرسة عسكرية في تاريخ العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائدها ومعلمها الأول، وعلى أساس مبادئ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة القولية والعملية والتقريرية قامت نظريات العسكرية الإسلامية في مختلف شؤون الحرب والقتال[2]، مثل: أسباب الحرب وأهدافها –آداب الحرب- بناء الجيش القوي – بناء المقاتل – إعداد القادة – التدريب على القتال – الحرب النفسية – المخابرات والأمن ومقاومة الجاسوسية – الانضباط والجندية وتقاليدها – بناء الروح المعنوية وإرادة القتال – إعداد الأمة للحرب – الصناعة الحربية واقتصاديات الحرب... الخ
وهكذا تكوّن أول جيش في تاريخ الإسلام والمسلمين، وتعلم رجاله في المدرسة العسكرية الإسلامية على يد قائدها ومعلمها الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أذِنَ اللهُ لهم بالقتال طبّقوا ما تعلموه في المعركة فكانوا مضرب الأمثال في الكفاية القتالية والشجاعة والعبقرية الحربية، وكانوا دائماً منصورين على أعدائهم بإذن الله.
وجملة القول أن تنظيم الإسلام لأمور الحرب قامت عليه وعلى نظرياته المدرسةُ العسكرية الإسلامية كما قام أيضاً جيش الإسلام بقادته ورجاله، ودخل الجيش الإسلامي »بوتقة الحرب« فماذا كانت النتيجة؟
انجازات العسكرية الإسلامية في التاريخ
إن أعظم الأدلة التي تبرز النتائجَ التي حققتها العسكرية الإسلامية شهادةُ التاريخ.. فلقد حققت الجيوش الإسلامية من المهام والانجازات ما أصبح من الحقائق التاريخية التي لا تنازع والتي نذكر منها على سبيل المثال:
أولاً – تأمين الدعوة وقيام الدولة الإسلامية:
وهذا ما حققه جيش الإسلام في عصر النبوة، الذي حارب فيه المسلمون أكثر من عدو، فقد حاربوا المشركين واليهود والروم، وكانوا في كل معاركهم يواجهون عدواً متفوقاً عليهم في العدد والعدة، لكن نصر الله كان حليفهم.
ثانياً – الفتوحات الإسلامية:
وفي أقل من مائة عام امتدت الفتوحات الإسلامية من حدود الصين شرقاً إلى شاطئ الأطلسي غرباً، وقد بلغ عدد القادة الفاتحين في أيام الفتح الإسلامي ستة وخمسين ومائتي قائد (256) منهم ستة عشر ومائتا (216) من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم مؤسس المدرسة العسكرية الإسلامية ومعلمها الأول، وأربعون من التابعين بإحسان رضي الله عنهم.
ولو أردنا أن نلخص ما ينطوي عليه هذا الانجاز العظيم في تاريخ المسلمين في كلمة واحدة فإننا نقول إن معناه الواضح هو أن »العسكرية الإسلامية« قد هزمت كلا من العسكرية الفارسية والعسكرية البيزنطية.
ثالثاً – إتقان الحرب البحرية:(/1)
ولقد أتقن العرب – أبناء البادية – بناء الأساطيل وفنون الحرب البحرية، وبلغوا درجة من الكفاية استطاعوا بها هزيمة أسطول بيزنطة وهو أعظم قوة بحرية في زمانهم. يقول ابن خلدون: »إن المسلمين تغلبوا على لجة بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) وإن أساطيلهم سارت فيها جائية وذاهبة من صقلية إلى تونس، والرومان والصقالبة والفرنجة تهرب أساطليهم أمام البحرية العربية، ولا تحاول الدنو من أساطيل المسلمين التي ضريت[3] عليه كضراء الأسد على فريسته«.
رابعاً – القدرة على الحرب في جبهتين:
ومن أعظم إنجازات العسكرية الإسلامية أن الأمة الإسلامية الناشئة استطاعت أن تفتح جبهتين وأن تدير دفة الحرب في كل منهما بكل كفاية واقتدار، وكان ذلك في مواجهة أعظم قوتين عالميتين في ذلك الوقت هما فارس وبيزنطة.. وذلك مثل فريد في التاريخ الحربي لم تبلغه أقوى الأمم وأعظمها خبرة في الحروب..
فالمعروف من وجهة نظر فن الحرب أن الحرب في جبتهين من أصعب المواقف التي تواجه القيادة، فهي تنطوي على مشكلات بالغة الصعوبة والتعقيد وتتطلب كفاية إلى أقصى حد في الإدراة والتخطيط والقتال، ويكفي أن نعلم أن العسكرية الألمانية لم تهزم في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) إلا حين فتح الحلفاء أمامها جبهة ثانية للقتال.
خامساً – اتقان كل أشكال العمليات الحربية:
ولقد أثبت المسلمون عملياً أنهم – طبقاً للمعايير المقررة في العلم العسكري – قادرون على القيام بجميع العمليات الحربية على اختلاف أشكالها ومستوياتها بكفاية عالية مثل الدفاع والهجوم والمطاردة والانسحاب والقتال في المدن والقرى ومهاجمة المواقع الحصينة والحصار واقتحام الأسوار وعبور الأنهار ومسير الاقتراب الطويل وأعمال الوقاية والحراسة وأعمال المخابرات والحرب النفسية ومفازر (دوريات) الاستطلاع والقتال والإغارة.. الخ.
ويقول كلاوزفير: »يمكن للقوات العسكرية المدربة جيداً أن تقوم بجميع الأعمال الحربية..«
سادساً – الحرب فوق مختلف أنواع الأراضي:
والمعروف أن أساليب القتال تختلف طبقاً لطبيعة الأرض التي يجري فوقها القتال، فهناك مثلاً فرق كبير بين القتال في الأراضي الصحراوية والقتال في الأراضي الزراعية وهكذا.. ويحتاج كل نوع من هذه الأراضي إلى إعداد خاص للقوات التي تقاتل عليه من حيث التدريب والتسليح وتشكيلات القتال..
ولقد أثبت المسلمون قدرتهم الفائقة على القتال فوق مختلف أنواع الأراضي، فلقد حاربوا فوق الأراضي الصحراوية والجبلية والزراعية، وحاربوا داخل المدن والقرى وواجهوا الموانع المائية كالأنهار فعبروها، هذا فضلاً على الحرب البحرية.
سابعاً – مواجهة كل أشكال التنظيم الحربي:
حارب المسلمون أشكالاً مختلفة من أشكال التنظيم الحربي، فقد واجهوا الجيوش المنظمة وغير المنظمة، وحتى الجيوش المنظمة لم تكن على نمط واحد من التنظيم، فبدهي أن تنظيم جيوش فارس كان مختلفاً عن تنظيم جيوش بيزنطة، فضلاً عن اختلاف نظريات كل جيش في إدارة المعارك. وعلى الرغم مما ينطوي عليه ذلك من مشاكل معقدة فإن المسلمين استطاعوا أن يقهروا أعداءهم على اختلاف تنظيماتهم.. كذلك أثبت المسلمون قدرتهم وكفايتهم في إدارة البلاد المفتوحة وهو أمر ينطوي على الكفاية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية بالإضافة إلى الكفاية العسكرية..
دراسة العسكرية الإسلامية واجب حضاري
أرأيت عظمة الإنجازات العسكرية الإسلامية؟
أليس في كل ذلك ما يستحق الدراسة على النحو الذي يتكافأ وقدر هذه الأمة وبطولاتها الخالدة؟
أليس من الأمور الغريبة التي تلفت النظر أن رجال العسكرية في كثير من الدول العربية والإسلامية لا يدرسون إلا ما يُنقل إليهم من الغرب أو الشرق من نظريات حربية وأعمال قادة وتاريخ حربي؟
إن أخطر ما يترتب على ذلك من آثار هو أن يرسخ في الأذهان الاعتقاد الخاطئ بأنه ليس للإسلام نظريات حربية، ولا أعمال قادة، ولا تاريخ حربي يستحق الدراسة، وهو أمر لا تخفى بواعثه على الفطن »والمؤمن كيّس فطن«، فإن ترسيخ هذا الاعتقاد هو جانب من الحرب الحضارية التي تستهدف طمس معالم الحضارة الإسلامية، ومنع قيامها من جديد، كما تستهدف طمس معالم العسكرية الإسلامية التي هي بحق أحد الجوانب الرائدة من حضارة الإسلام.
من أجل ذلك فإن واجب الأمة الإسلامية وهي تسعى نحو بناء نهضتها الحضارية الشاملة أن تتصدى لكل محاولة تستهدف تحويل أبنائها عن مقوماتهم الأساسية وقطعهم عن كل ما هو أصيل من حياتهم، وتحويل اتجاهاتهم بعيداً عن كل ما يتصل بالقيم والدين والأخلاق والكيان النفسي الذاتي.. يقول إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: »كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول: يا بني إنها شرف آبائكم فلا تضيّعوا ذكرها«.
-----------------------------------------------------------------------------
مجلة الأمة، العدد الرابع، ربيع الآخر 1401 هـ(/2)
-----------------------------------------------------------------------
[1] لفظ »العقيدة العسكرية« تعريب كلمة (Doctrine) وهي لاتينية الأصل وتعني: »النظرية العملية والفسلفية«. وقد ورد في المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية أن »العقيدة« هي الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده.
[2] انظر كتابنا »المدخل إلى العقيدة والاستراتجية العسكرية الإسلامية« للتعرف على نظريات العسكرية الإسلامية.
[3] ضَرِيَ عليه: يعني لزمه أو أولع به. والمراد أن أساطيل المسلمين كانت دائماً تلاحق وتطارد أساطيل الأعداء.
*****************(/3)
العقيدة الواسطية
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وكفي بالله شهيداً .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ، لا شريك له إقراراً به وتوحيداً ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً .
أما بعد فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة ــ أهل السنة والجماعة ــ وهو الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، والبعث بعد الموت ، والإيمان بالقدر خيره وشره .
ومن الإيمان بالله : الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه ، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل .
بل يؤمنون بأن الله سبحانه " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " . فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته ، ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه ، لأنه سبحانه لا سمى له ولا كفوء له ولا ند له .
ولا يقاس بخلقه سبحانه تعالى ، فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره ، وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً من خلقه .
ثم رسله صادقون مصدقون ، بخلاف الذين يقولون عليه مالا يعلمون . ولهذا قال سبحانه وتعالى : " سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين " ، فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل ، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب .
وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات ، فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون . فإنه الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدقين والشهداء والصالحين .
وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن حيث يقول : " قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد " .
وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتابه حيث يقول : " الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم " ، وقوله سبحانه : " هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم " . وقوله سبحانه : " وتوكل على الحي الذي لا يموت " ، وقوله : " إنه هو العليم الحكيم " - " وهو الحكيم الخبير * يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها " " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " وقوله : " وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه " وقوله : " لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما " .
وقوله : " إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين " ، وقوله : " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " وقوله : " إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً " .
وقوله : " ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله " ، وقوله : " ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد " .
وقوله : " أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد " .
وقوله : " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء " .
وقوله : " وأحسنوا إن الله يحب المحسنين " - " وأقسطوا إن الله يحب المقسطين " - " فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين " - " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " . وقوله : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " .
وقوله : " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " وقوله : " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص " . وقوله : " وهو الغفور الودود " .
وقوله : " بسم الله الرحمن الرحيم " " ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما " " وكان بالمؤمنين رحيما " " ورحمتي وسعت كل شيء " " كتب ربكم على نفسه الرحمة " " وهو الغفور الرحيم " " فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين " .
وقوله : " رضي الله عنهم ورضوا عنه " " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه " . وقوله : " ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه " " فلما آسفونا انتقمنا منهم " وقوله : " ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم " ، وقوله : " كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " .
وقوله : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر " . وقوله : " ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " " كل شيء هالك إلا وجهه " .(/1)
وقوله : " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " - " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " وقوله : " واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا " - " وحملناه على ذات ألواح ودسر * تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر " - " وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني " .
وقوله : " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير " . وقوله : " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء " .
وقوله : " أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون " - " إنني معكما أسمع وأرى " - " ألم يعلم بأن الله يرى " - " الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين * إنه هو السميع العليم " - " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " .
وقوله : " وهو شديد المحال " ، وقوله : " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين " .
وقوله : " ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون " ، وقوله : " إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا " ، وقوله : " إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا " ، وقوله : " وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم " ، وقوله : " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " .
وقوله عن إبليس : " فبعزتك لأغوينهم أجمعين " ، وقوله : " تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام " .
وقوله : " فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا " - " ولم يكن له كفوا أحد " .
وقوله : " فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " - " ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله " .
وقوله : " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا "- "يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " .
وقوله : " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا * الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا " .
وقوله : " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ، سبحان الله عما يصفون * عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون " " فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون " " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " .
وقوله : " الرحمن على العرش استوى " في سبع مواضع ، في سورة الأعراف قوله : " إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش " وقال في سورة يونس عليه السلام : " إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش " .
وقال في سورة الرعد : " الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش " وقال في سورة طه : " الرحمن على العرش استوى " ، وقال في سورة الفرقان : " ثم استوى على العرش " .
وقال في سورة ألم السجدة : " الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش " ، وقال في سورة الحديد : " هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش " .
وقوله : " يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي " " بل رفعه الله إليه" " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " " يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا."
وقوله : " أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير " " هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير " .
وقوله : " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم " " لا تحزن إن الله معنا " .
وقوله : " إنني معكما أسمع وأرى " " إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون " " واصبروا إن الله مع الصابرين" "كم من فئة قليلة غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله والله مع الصابرين " .
وقوله : " ومن أصدق من الله حديثا " " ومن أصدق من الله قيلا " .
وقوله : " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم " " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " - وقوله : " وكلم الله موسى تكليما "-" منهم من كلم الله" - "ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه" - "وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجياً."
وقوله : " وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين " " وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة " .(/2)
وقوله : " ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين " " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " " وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون " " يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل " " واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته " .
وقوله : " إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون " " وهذا كتاب أنزلناه مبارك " " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله " " وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون" " قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين" " ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين " .
وقوله :" وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة " " على الأرائك ينظرون " "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " " لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد " .
وهذا الباب في كتاب الله تعالى كثير . من تدبر القرآن طالباً للهدى منه ، تبين له طريق الحق .
فصل
ثم في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه .
وما وصف الرسول به ربه عز وجل من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول ، وجب الإيمان بها كذلك .
فمن ذلك مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر ، فيقول من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألنى فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ " متفق عليه .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن التائب من أحدكم براحلته " الحديث متفق عليه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة " متفق عليه .
وقوله : " عجب ربنا من قنوط عباده وقرب خيره ، ينظر إليكم أذلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فراجكم قريب " حديث حسن .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة فيها رجله " وفي رواية : " عليها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض فتقول قط قط " متفق عليه .
وقوله : " يقول تعالى يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار " متفق عليه . وقوله : " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه وليس بينه وبينه ترجمان" .
وقوله في رقية المريض : " ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك ، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء ، اجعل رحمتك في الأرض ، اغفر لنا حوبنا وخطايانا ، أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ " حديث حسن رواه أبو داود وغيره . وقوله : " والعرش فوق الماء والله فوق العرش ، وهو يعلم ما أنتم عليه " حديث حسن رواه أبو داود وغيره .
وقوله للجارية : " أين الله ؟ قالت في السماء ، قال من أنا ؟ قالت أنت رسول الله ، قال اعتقها فإنها مؤمنة " رواه مسلم .
وقوله : " أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت " حديث حسن ، وقوله : " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه ، فإن الله قبل وجهه ، ولكن عن يساره أو تحت قدمه " متفق عليه .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم رب السموات السبع والأرض ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شئ ، فالق الحب والنوى ، منزل التوراة والإنجيل والقرآن ، أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها ، أنت الأول فليس قبلك شئ ، وأنت الآخر فليس بعدك شئ ، وأنت الظاهر فليس فوقك شئ ، وأنت الباطن فليس دونك شئ ، اقض عني الدين وأغنني من الفقر " رواية مسلم .
قوله : اللهم رب السموات ... الخ تضمن الحديث إثبات أسمائه .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لما رفع الصحابة أصواتهم بالذكر : " أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً . إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته " متفق عليه .
" إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على الصلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها افعلوا " متفق عليه .
إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربه بما يخبر به
إيمان الفرقة الناجية
فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك كما يؤمنون ما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ، بل هم الوسط في فرق الأمة ، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم .
فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة .
وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدوية وغيرهم .
وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم .(/3)
وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية .
وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الرافضة والخوارج .
فصل
وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به في كتابه وتواتر عن رسوله وأجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن على خلقه ، وهو سبحانه معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون كما جمع بين ذلك في قوله : " هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير " .
وليس معنى قوله : " وهو معكم " أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجهه اللغة ، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته ، وهو موضوع في السماء ، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان .
وهو سبحانه فوق عرشه رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته ، وكل هذا الكلام الذي ذكره الله - من أنه فوق العرش وأنه معنا - حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف ، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة مثل أن يظن أن ظاهر قوله ( في السماء ) أن السماء تظله أو تقله ، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان ، فإن الله قد وسع كرسيه السموات والأرض وهو يمسك السموات والأرض أن تزولا ، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره .
فصل
وقد دخل في ذلك الإيمان بأنه قريب مجيب كما جمع بين ذلك في قوله : " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب " الآية - وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحته " وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته ، لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته فإنه سبحانه ليس كمثله شئ في جميع نعوته ، وهو عال في دنوه قريب في علوه .
فصل
ومن الإيمان بالله وكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود ، وأن الله تكلم به حقيقة ، وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة ، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً ، وهو كلام الله حروفه ومعانيه ، ليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف ؟
فصل
وقد دخل أيضاً فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبه وبملائكته وبرسله ، الإيمان بأن المؤمنون يرونه يوم القيامة عياناً بأبصارهم كما يرون الشمس صحواً ليس بها سحاب ، وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته ، يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة ، ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله تعالى .
فصل
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه . فأما الفتنه فإن الناس يمتحنون في قبورهم ، فيقال للرجل : من ربك وما دينك ومن نبيك ؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، فيقول المؤمن ربي الله ، والإسلام ديني ومحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيي .وأما المرتاب فيقول هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته ، فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحةً يسمعها كل شئ إلا الإنسان ، ولو سمعها الإنسلن لصعق - ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى فتعاد الأرواح إلى الأجساد .
وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون ، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاةً عراةً غرلاً وتدنو منهم الشمس ويلجمهم العرق ، فتصيب الموازين فتوزن بها أعمال العباد .
فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون . وتنشر الدواوين ، وهي صحائف الأعمال - فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره ، كما قال سبحانه وتعالى " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " .
ويحاسب الله الخلائق ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه ، كما وصف ذلك في الكتاب والسنة ، وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته فإنه لا حسنات لهم ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها .
وفي عرصة القيامة الحوض المورود للنبي - صلى الله عليه وسلم - ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل ، آنيته عدد نجوم السماء طوله شهر وعرضه شهر ، من يشرب منه شربةً لا يظمأ بعدها أبداً .(/4)
والصراط منصوب على متن جهنم وهو الجسر الذي بين الجنة والنار يمر الناس على قدر أعمالهم فمنهم من يمر كلمح البصر ، ومنهم من يمر كالبرق ، ومنهم من يمر كالريح ، ومنهم من يمر كالفرس الجواد ، ومنهم من يمر كركاب الأبل ، ومنهم من يعدو عدواً ، ومنهم من يمشي مشياً ، ومنهم من يزحف زحفاً ومنهم من يخطف خطفاً ويلقى في جهنم فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس. بأعمالهم فمن مر على الصراط دخل الجنة ، فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتص لبعضهم من بعض ، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة .
وأول من يستفتح باب الجنة محمد - صلى الله عليه وسم - ، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته .
الشفاعة
وله - صلى الله عليه وسلم - في القيامة ثلاث شفاعات : أما الشفاعة الأولى فيشفع في أهل الموقف حتى يقضي بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء ، آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه .
وأما الشفاعة الثانية فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة ، وهاتان الشفاعتان خاصتان له .
وأما الشفاعة الثالثة فيشفع فيمن استحق النار ، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم ، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها ، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها .
ويخرج الله من النار أقواماً بغير شفاعة بل بفضله ورحمته ، ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا ، فينشئ الله لها أقواماً فيدخلهم الجنة .
وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء والآثار من العلم المأثور عن الأنبياء . وفي العلم الموروث عن محمد - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ما يشفي ويكفي فمن ابتغاه وجده .
فصل في القدر
وتؤمن الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشره . والإيمان بالقدر على درجتين كل درجة تتضمن شيئين .
فالدرجة الأولى الإيمان بأن الله تعالى عليم بالخلق وهم عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق فأول ما خلق الله القلم قال له اكتب قال ما أكتب ؟ قال أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة . فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه . جفت الأقلام وطويت الصحف كما قال تعالى : " ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير " وقال : " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير " وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء ، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات فيقال له اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ونحو ذلك فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديماً ومنكروه اليوم قليل .
وأما الدرجة الثانية : فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان ، وما لم ينشأ لم يكن ، وأنه ما في السموات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه لا يكون في ملكه ما لا يريد . وأنه سبحانه على كل شئ قدير من الموجودات والمعدومات ، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه . ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله ونهاهم عن معصيته . وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا يحب الكافرين ولا يرضى عن القوم الفاسقين ، ولا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد .
والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلى والصائم وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة والله خالقهم وقدرتهم وإرادتهم كما قال تعالى : " لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين " .
وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مجوس هذه الأمة . ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها .
فصل في الايمان قول وعمل(/5)
ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل . قول القلب واللسان ، وعمل القلب واللسان والجوارح ، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج بل الأخوة الإيمانية مع المعاصي كما قال سبحانه : " فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف " وقال : " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم " ولا يسلبون الفاسق الملئ الإسلام بالكلية ولا يخلدونه في النار كما تقول المعتزلة بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله : " فتحرير رقبة مؤمنة " وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى : " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا " وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، ولا ينتهب نهبةً ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن " .
ونقول هو مؤمن ناقص الإيمان ، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ، فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم بكبيرته .
فصل في الصحابة
ومن أصل أهل السنة السنة والجماعة سلامة قلوبه وألسنتهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما وصفهم الله به في قوله تعالى : " والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " وطاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم ويفضلون من أنفق من قبل الفتح وهو صلح الحديبية وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل ، ويقدمون المهاجرين على الأنصار ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - . بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالعشرة وثابت بن قيس بن شماس وغيرهم من الصحابة .
ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ويثلثون بعثمان ويربعون بعليً - رضي الله عنهم - ، دلت عليه الآثار وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي - رضي الله عنهما - بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر - أيهما أفضل ؟ فقدم قوم عثمان وسكتوا وربعوا بعلي . وقدم قوم علياً وقوم توافقوا ، لكن استقر أمر أهل السنة على عثمان ثم علي ، وإن كانت هذه المسألة - مسألة عثمان وعلي ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة ، وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر وعمر ثم عثمان ثم علي ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله .
ويحبون أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله حيث قال يوم غدير خم " أذكركم الله في أهل بيتي " .
وقال أيضاً للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن قريش يجفو بني هاشم - فقال : " والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي " وقال : " إن الله اصطفى بني إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل كنانة واصطفى من كنانة قريشاً واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم " .
ويتولون أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة خصوصاً خديجة - رضي الله عنها - أم أكثر أولاده وأول من آمن به وعاضده على أمره وكان لها منه المنزلة العالية ، والصديقة بنت الصديق - رضي الله عنها - التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " .(/6)
ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم ، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كاذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره ، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر حتى إنهم يغفر لهم السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم لأن لهم من الحسنات التي تمحوا السيئات ما ليس لمن بعدهم .
وقد ثبت بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم خير القرون وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه أوأتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -الذي هم أحق الناس بشفاعته أو أبتلى ببلاء في الدنيا كفر به عنه . فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور .
ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح ، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما من الله عليهم به من الفضائل علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء . لا كان ولا يكون مثلهم ، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله .
فصل في الكرامات
ومن أصول أهل السنة التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات .
في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات والمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها عن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر فرق الأمة وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة .
فصل في صفات أهل السنة
ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باطناً وظاهراً واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار اتباع وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : " عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة " . ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم - ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس ، ويقدمون هدى محمد - صلى الله عليه وسلم - على هدى كل أحد ، ولهذا سموا أهل الكتاب والسنة وسموا أهل الجماعة لأن الجماعة هي الإجماع وضدها الفرقة ، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين ، والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين ، وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أوظاهرة مما له تعلق بالدين والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشر في الأمة .(/7)
ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة ، ويرون إقامة الحج والجهاد والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً . ويحافظون على الجماعات ويدينون بالنصيحة للأمة ويعتقدون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " وشبك بين أصابعه . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " ويأمرون بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضا بمر القضاء ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ويعتقدون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً " ويندبون إلى أن تصل من قطعك ، وتعطى من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ، ويأمرون ببر الوالدين وصلة الأرحام وحسن الجوار والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل والرفق بالمملوك وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطاعة على الخلق بحق أو بغير حق ويأمرون بمعالى الأخلاق وينهون عن سفسافها وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - لكن لما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة . وفي الحديث عنه أنه قال : " هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب ، هم أهل السنة والجماعة ، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون ، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى أولو المناقب المأثورة والفضائل المذكورة ، وفيهم الأبدال ، وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة " .
نسأل الله أن يجعلنا منهم وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدنا وأن يهب لنا من لدنه رحمةً إنه هو الوهاب ، والله أعلم .
وصلى الله على محمداً وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
شيخ الإسلام ابن تيمية(/8)
العقيدة سؤال وجواب
للشيخ/ محمد بن جميل زينو
السؤال ... الجواب ... الدليل من القرآن ... الدليل من الحديث
لماذا خلقنا الله تعالى؟ ... خلقنا لنعبده وَلاَ نشرك بِهِ شيئاً ... (وَمَا خَلَقتُ الجنَّ والإِنسَ إِلاَّ ليعبُدُون) [الذّاريات: 56] ... ( حقُّ الله عَلَى العبادِ أَنْ يعبدوه وَلاَ يشركوا بِهِ شيئاً) (متّفق عَلَيهِ)
كَيْفَ نعبد الله؟ ... كَمَا أمرنا الله ورسوله مَعَ الإخلاص ... ( وَمَا أُمروا إِلاَّ ليَعبدوا اللهَ مخلصينَ لَهُ الدّين) [البيّنة: 5] ... ( مَن عمِلَ عمَلاً لَيْسَ عَلَيهِ أمْرُنا فَهُوَ رَدٌّ) [أَيْ مردود] (رواه مسلم)
هَلْ نعبد الله خوفاً وطمعاً؟ ... نعم نعبده خوفاً وطمعاً ... (وادْعوه خَوفاً وطَمَعاً) أَيْ خوفاً من نارهِ وطمعاً فِي جنّته [الأعراف: 56] ... ( أسألُ اللهَ الجنّة وأعوذ بِهِ مِن النّار) (صحيح رواه أبو داود)
مَا هُوَ الإحسان فِي العبادة؟ ... مراقبة الله وحده الَّذِي يرانا ... ( إنّ الله كَانَ عليكم رقيباً) [النّساء] (الَّذِي يراك حينَ تقومُ) [الشّعراء] ... ( الإحسانُ أَنْ تعبُدَ اللهَ كأنّك تراه فإن لَمْ تكن تراهُ فإنَّه يراك) (رواه مسلم)
لماذا أرسل الله الرّسل؟ ... للدّعوة إِلَى عبادته ونفي الشريك عَنْهُ ... (ولقد بَعثنا فِي كلّ أُمّةٍ رسولاً أَنْ اعبدوا الله واجتنبوا الطَّاغوت) [النَّحل] ... (الأنبياء إخوةٌ ودينُهُم واحد) [أَيْ كلُّ الرسل دعوا إِلَى التّوحيد] (متّفق عَلَيهِ)
مَا هُوَ توحيد الإله؟ ... إفراده بالعبادة كالدّعاء والنّذر والحُكم ... (فاعْلَم أنّه لا إله إِلاَّ الله) أَيْ لاَ معبود بحقّ إِلاَّ الله [محمد: 19] ... ( فليكن أوّل مَا تدعوهم إِلَيْهِ شهادة أَنْ لا إله إِلاَّ الله) [أَيْ إِلَى أَنْ يوحّدوا الله] (متّفق عَلَيهِ)
مَا معنى لاَ إله إِلاَّ الله؟ ... لاَ معبود بحقّ إِلاَّ الله ... ( ذَلِكَ بأنّ اللهَ هو الحقُّ وأنّ مَا يدعونَ مِنْ دونهِ الباطل) [لقمان: 30] ... ( من قَالَ لآ إله إِلاَّ الله وكَفَرَ بِمَا يُعبدُ مِن دون الله حَرُمَ مالُه ودمُه) (رواه مسلم)
مَا هُوَ التّوحيد فِي صفات الله؟ ... إثبات مَا وصَفَ اللهُ بِهِ نفسَه أَوْ رسوله ... ( لَيْسَ كمثله شيءٌ وَهُوَ السّميع البصيرُ) [الشورى: 11] ... (ينزِلُ ربُّنا تبارك وتعالى فِي كلّ ليلةٍ إِلَى السّمَاء الدُّنْيَا) [نزولاً يليق بجلاله] (متّفق عليه)
مَا هِيَ فائدة التّوحيد للمسلم؟ ... الهداية فِي الدُّنْيَا والأمن فِي الآخرة ... (الَّذِينَ آمنوا ولم يلبِسوا إيمانهُم بظلمٍ أولئك لهم الأمنُ وهُم مهتدون) [الأنعام] ... ( حَقُّ العباد عَلَى الله أَنْ لاَ يُعَذّب من لاَ يُشرك بِهِ شيئاً) (متّفق عَلَيهِ)
أين الله؟ ... الله عَلَى السّمَاء فَوْقَ العرش ... (الرَّحْمن عَلَى العرش استوى) (أَيْ علا وارتفع كَمَا جاء فِي البخاري) [طه: 5] ... ( إنّ الله كتب كتاباً إنّ رحمتي سبقت غضبي فَهُوَ مكتوبٌ عنده فَوْقَ العرش) (رواه البخاري)
هَلْ الله معنا بذاته أم بعلمه؟ ... الله معنا بعلمه يسمعنا ويَرانا ... ( قَالَ لاَ تخافا إنّني مَعَكُما أسْمَعُ وأرى) (أَيْ بحفظي ونصري وتأييدي) [طه] ... ( إنّكم تدعون سميعاً قريباً وَهُوَ معكم) [أَيْ بعلمه يسمعكم ويراكم] (رواه مسلم)
مَا هُوَ أعظم الذّنوب؟ ... أعظم الذّنوب الشرك الأكبر ... ( يَا بُنيَّ لاَ تُشْرِك باللهِ إن الشّركَ لظُلْمٌ عظيم) [لقمان: 13] ... (سُئِلَ صلى الله عليه وسلم أيُّ الذَّنب أعظم؟ قَالَ: أَنْ تدعو للهِ ندّاً وَهُوَ خلقك) (رواه مسلم)
مَا هُوَ الشّرك الأكبر؟ ... هُوَ صرف العبادة لغير الله كالدّعاء ... (قُلْ إنّما أدعوا ربِّي وَلاَ أُشركُ بِهِ أحداً) [الجن: 20] ... ( أكبرُ الكبائر الإشراكُ باللهِ) (رواه البخاري)
مَا هُوَ ضرر الشرك الأكبر؟ ... الشّرك الأكبر يسبب الخلود فِي النّار ... (إنّه مَن يُشرِك باللهِ فَقَدْ حرّمَ اللهُ عَلَيهِ الجنّة ومأواهُ النّار)[المائدة:] ... ( من ماتَ يُشرِك باللهِ شيئاً دخل النّار ) (رواه مسلم)
هَلْ ينفع العمل مَعَ الشّرك؟ ... لاَ ينفع العمل مَعَ الشّرك ... ( وَلَوْ أشركوا لحبط عنهم مَا كانوا يعملون) [الأنعام: 88] ... (من عمِلَ عملاً أشرك معيَ فِيهِ غيري تركتُه وشِرْكَه) (حديث قدسي رواه مسلم)
هَلْ الشّرك موجود فِي المسلمين؟ ... نعم موجود بكثرة مَعَ الأسف ... ( وَمَا يؤمِنُ أكثَرُهُم باللهِ إِلاَّ وهم مشرِكون) [يوسف: 106] ... ( لاَ تقوم السّاعة حتّى تلحق قبائل مِن أُمّتي بالمشركين وحتى تُعبَد الأوثان) (صحيح رواه الترمذي)
مَا حكم دعاء غيرِ الله كالأولياء؟ ... دعاؤهم شرك يُدخل النّار ... ( فَلاَ تدعُ مَعَ اللهِ إلهاً آخر فتكون مِنَ المُعذّبين) (فِي النّار) [الشعراء: 213] ... ( من ماتَ وَهُوَ يدعو مِن دون الله نِدّاً دخل النّار) (رواه البخاري)(/1)
هَلْ الدّعاء عبادة لله تعالى؟ ... نعم الدّعاء عبادة لله تعالى ... ( وقال ربّكم ادُعوني أستجب لكم) [غافر: 60] ... ( الدّعاء هُوَ العبادة) (رواه الترمذي وقال حديث صحيح)
هَلْ يسمع الأموات الدّعاء؟ ... الأموات لاَ يسمعون الدّعاء ... ( إنّك لاَ تسمع الموتى) [النمل] ( وَمَا أنت بمُسمعٍ من فِي القبور) [فاطر] ... ( إنّ للهِ ملائكةً سيّاحين فِي الأرض يُبَلّغوني عَنْ أُمّتي السّلام) (رواه أحمد)
هَلْ نستغيث بالأموات أَوْ الغائبين؟ ... لاَ نستغيث بهم بل نستغيث باللهِ ... (إِذْ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم) [الأنفال: 9] ... ( كَانَ إِذَا أصابه هَمٌّ أَوْ غَمٌّ قَالَ: يَا حيُّ يَا قيّوم برحمتك أستغيث) (رواه الترمذي)
هَلْ تجوز الاستعانة بغير الله؟ ... لاَ تجوز الاستعانة إِلاَّ بالله ... (إيّاك نَعبدُ وإيّاك نستعين) [الفاتحة: 5] ... ( إِذَا سألت فاسأل الله وَإِذَا استعنت فاستعن بالله) (رواه الترمذي)
هَلْ نستعين بالأحياء الحاضرين؟ ... نعم، فيما يقدرون عَلَيهِ ... (وتعاوَنوا عَلَى البرّ والتّقوى وَلاَ تعاونوا عَلَى الإثمِ والعُدوان) [المائدة: 2] ... (واللهُ فِي عونِ العبد مَا دام العبدُ فِي عونِ أخيه) (رواه مسلم)
هَلْ يجوز النّذر لغير الله؟ ... لاَ يجوز النّذر إِلاَّ لله ... (ربِّ إنّي نذرتُ لكَ مَا فِي بطني مُحرَّراً فَتَقَبّل منّي) [آل عمران: 35] ... (من نذر أَنْ يُطيعَ اللهَ فلْيُطِعه ومن نذر أَنْ يعصِيَه فَلاَ يَعْصِه) (رواه البخاري)
هَلْ يجوز الذبح لغير الله؟ ... لاَ يجوز لأنّه مِن الشرك الأكبر ... ( فصلّ لربّك وانْحر) (أَيْ اذبح لله فقط) [الكوثر: 2] ... (لعَنَ الله مَن ذبح لِغير الله) (رواه مسلم)
هَلْ يجوز الطّواف بالقبور؟ ... لاَ يجوز الطّواف إِلاَّ بالكعبة ... (وَلْيَطّوَّفُوا بالبَيتِ العَتيق) (أَيْ الكعبة) [الحج: 29] ... ( من طاف بالبيتِ سبعاً وصلّى ركعتين كَانَ كعتق رقبة) (رواه ابن ماجه)
هَلْ تجوز الصلاة والقبر أمامك؟ ... لاَ تجوز الصّلاة إِلَى القبر ... (فَولّ وجهكَ شَطْرَ المسجِدِ الحَرام) (أَيْ استقبل الكعبة) [البقرة: 144] ... ( لاَ تجلسوا عَلَى القبور، وَلاَ تصلّوا إليها) (رواه مسلم)
مَا حكم العمل بالسّحر؟ ... العمل بالسّحر من الكفر ... ( ولكنّ الشّياطينَ كفروا يُعلّمونَ النّاس السّحر) [البقرة: 102] ... ( اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسّحر) رواه مسلم)
هَلْ يجوز الذّهاب إِلَى الكاهن والعرّاف؟ ... لاَ يجوز الذّهاب إليهما ... ( هَلْ أُنبئكم عَلَى من تنزّل الشّياطين تنزل عَلَى كلّ أفّاكٍ أثيم) [الشعراء: 221-222] ... ( من أتى عرّافاً فسأله عَنْ شيء لَمْ تقبل لَهُ صلاة أربعين ليلة) (رواه مسلم)
هَلْ نصدّق العرّاف والكاهن؟ ... لاَ نصدّقهما فِي إخبارهما عَنْ الغيب ... ( قل لاَ يعلم من فِي السَّمَاوَات والأرضِ الغيب إِلاَّ الله) [النمل: 65] ... ( من أتى عرّافاً أَوْ كاهناً فصدّقه بِمَا يقول فَقَدْ كفر بِمَا أُنزل عَلَى محمد) (صحيح رواه أحمد)
هَلْ يعلم الغيب أحد؟ ... لاَ يعلم الغيبَ أحدٌ إِلاَّ الله ... ( وعِنده مفاتِحُ الغَيب لاَ يعلمها إِلاَّ هُوَ) [الأنعام: 59] ... ( لاَ يعلم الغيبَ إِلاَّ الله) (حسن رواه الطّبراني)
بماذا يجب أَنْ يحكم المسلمون؟ ... يجب أَنْ يحكموا بالقرآن والسنّة النّبويّة ... ( وأنِ احكم بينهم بِمَا أنزل الله) [المائدة: 49] ... (الله هُوَ الحكم وإليه المصير) (حسن رواه أبو داود)
مَا حكم العمل بالقوانين المخالفة للإسلام؟ ... العمل بِهَا كفر إِذَا أجازها ... ( ومن لَمْ يحكم بِمَا أنزل الله فأولئك هم الكافرون) [المائدة: 44] ... ( وَمَا لَمْ تحكم أئمّتهم بكتاب الله ويتخيّروا مما أنزل الله إِلاَّ جعل الله بأسهم بينهم) (حسن رواه ابن ماجه)
هَلْ يجوز الحلف بغير الله؟ ... لاَ يجوز الحلف إِلاَّ بالله ... ( قل بلى وربّي لتبعثنّ) [التغابن: 7] ... ( من حلف بغير الله فَقَدْ أشرك) (صحيح رواه أحمد)
هَلْ يجوز تعليق الخرز والتّمائم للشفاء؟ ... لاَ يجوز تعليقها لأنّه من الشّرك ... ( وإن يمسسكَ اللهُ بضرٍّ فَلاَ كاشفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ) [الأنعام: 17] ... (من علّق تميمةً فَقَدْ اشرك) [التميمة: مَا يُعلّق مِن العين] (صحيح رواه أحمد)
بماذا نتوسّل إِلَى الله تعالى؟ ... نتوسّل بأسمائه وصفاته والعمل الصّالح ... (وللهِ الأسماء الحسنى فادعوه بها) [الأعراف: 18] ... ( أسألك بكلِّ اسمٍ هُوَ لكَ سمّيتَ بِهِ نفسك) (صحيح رواه أحمد)
هَلْ يحتاج الدّعاء لواسطة مخلوق؟ ... لاَ يحتاج الدّعاء لواسطة مخلوق ... (وَإِذَا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أُجيب دعوة الدّاعِ إِذَا دعان)
[البقرة: 186] ... ( إنّكم تدعون سميعاً قريباً وَهُوَ معكم) [أَيْ بعلمه يسمعكم ويراكم]
(رواه مسلم)(/2)
مَا هِيَ واسطة الرّسول صلى الله عليه وسلم؟ ... واسطة الرّسول صلى الله عليه وسلم هِيَ التّبليغ ... ( يَا أيّها الرَّسُول بلّغ مَا أنزل إليك من ربّك) [المائدة: 67] ... (اللّهم هَلْ بلّغت اللّهم اشهد) [جواباً لقول الصحابة نشهد أنّك قد بلّغت] (رواه مسلم)
ممّن نطلب شفاعة الرّسول صلى الله عليه وسلم؟ ... نطلب شفاعة الرّسول صلى الله عليه وسلم من الله ... ( قل للهِ الشّفاعة جميعاً) [الزمر: 44] ... ( اللّهم شفّعه فيّ) [أَيْ شفّع الرّسول صلى الله عليه وسلم فيّ] (رواه الترمذي وقال حديث حسن)
كَيْفَ نحبّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ ... المحبّة تكون بالطّاعة واتّباع الأوامر ... ( قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يُحببكم الله) [آل عمران: 31] ... ( لاَ يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إِلَيْهِ من والده وولده والنّاس أجمعين) (رواه البخاري)
هَلْ نبالغ فِي مدح الرّسول صلى الله عليه وسلم؟ ... لاَ نبالغ فِي مدح الرّسول صلى الله عليه وسلم ... ( قل إنّما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليّ أنّما إلهكم إله واحد)[الكهف: 110] ... (إنّما أنا بشرٌ مثلكم) (رواه أحمد وصححه الألباني)
من هُوَ أوّل المخلوقات؟ ... من البشر آدم، ومن الأشياء القلم ... ( إِذْ قَالَ ربّك للملائكة إنّي خالقٌ بشراً من طين) [ص: 71] ... (إنّ أوّل مَا خلق الله القلم) (رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح)
من أيّ شيءٍ خُلِقَ محمّد صلى الله عليه وسلم؟ ... خلق الله محمّداً صلى الله عليه وسلم من نطفة ... (هُوَ الَّذِي خلقكم من ترابٍ ثمّ مِن نطفة) [غافر: 67] ... (إنّ أحدكم يجمع خلقه فِي بطن أمّه أربعين يوماً نطفة) (متّفق عَلَيهِ)
مَا حكم الجّهاد فِي سبيل الله؟ ... الجهاد واجب بالمال والنّفس واللّسان ... ( اِنْفروا خفافاً وثِقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم) [التّوبة: 41] ... ( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) (صحيح رواه أبو داود)
مَا هُوَ الولاء للمؤمنين؟ ... هُوَ الحبّ والنصرة للمؤمنين والموَحّدين ... (والمُؤمنون والمؤمناتُ بعضهم أولياء بعض) [التّوبة: 71] ... (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً) (رواه مسلم)
هَلْ تجوز موالاة الكفّار ونصرتهم؟ ... لاَ تجوز مولاة الكفّار ونصرتهم ... ( ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم)
(أَيْ الكافرين) [المائدة: 51] ... ( إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء) [لأنّهم من الكفّار] (متّفق عَلَيهِ)
من هُوَ الوليّ؟ ... الوليُّ هُوَ المؤمنُ التّقيّ ... ( ألآ إنّ أولياء اللهِ لاَ خوفٌ عليهم وَلاَ هم يحزنون الَّذِينَ آمنوا وكانوا يتّقون) ... ( إنّما وليِّي اللهُ وصالح المؤمنين) (متّفق عَلَيهِ)
لماذا أنزل اللهُ القرآن؟ ... أنزل الله القرآن للعمل بِهِ ... (اِتّبعوا مَا أنزل إليكم من ربّكم وَلاَ تتّبعوا من دونه أولياء) [الأعراف: 3] ... ( اِقرأوا القرآن واعملوا بِهِ وَلاَ تأكلوا بِهِ وَلاَ تستكثِروا به) (رواه أحمد)
هَلْ نستغني بالقرآن عَنْ الحديث؟ ... لاَ نستغني بالقرآن عَنْ الحديث ... ( وأنزلنا إليكَ الذّكر لتبيّن للنّاس مَا نُزّل إليهم) [النَّحل: 44] ... ( ألا وإنّي أوتيت القرآن ومثله معه) (صحيح رواه أبو داود)
هَلْ نقدّم قولاً عَلَى قول الله ورسوله؟ ... لاَ نقدّم قولاً عَلَى قول الله ورسوله ... ( يَا أيّها الذّين آمنوا لاَ تُقدّموا بَيْنَ يدي اللهِ ورسوله) [الحجرات: 1] ... ( لاَ طاعة لأحدٍ فِي معصية الله إنّما الطّاعة فِي المعروف) (متّفق عَلَيهِ)
مَاذا نفعل إِذَا اختلفنا؟ ... نعود إِلَى الكتاب والسنّة الصحيحة ... (فإن تنازعتم فِي شيءٍ فردّوه إِلَى الله والرّسول) [النساء: 59] ... ( تركت فيكم أمرين لَنْ تضلّوا مَا تمسّكتم بهما: كتاب الله وسنّة رسوله) (صحيح لغيره رواه مالك)
مَا هِيَ البدعة فِي الدّين؟ ... كلُّ مَا لَمْ يقم عَلَيهِ دليل شرعي ... ( أم لهم شركآء شرعوا لهم من الدّين مَا لَمْ يأذن بِهِ الله) [الشورى: 21] ... ( من أحدث فِي أمرنا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ ردّ) [أَيْ غير مقبول] (متّفق عَلَيهِ)
هَلْ فِي الدّين بدعة حسنة؟ ... لَيْسَ فِي الدّين بدعة حسنة ... ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) ... ( إيّاكم ومحدثات الأمور فإن كلّ محدثة بدعة وكلّ بدعة ضلالة) (صحيح رواه أبو داود)
هَلْ فِي الإسلام سنّة حسنة؟ ... نعم، كالبادئ بفعل خير لِيُقتدى بِهِ ... ( واجعلنا للمتّقين إماماً) (أَيْ قدوة فِي فعل الخير) [الفرقان: 74] ... ( من سنّ فِي الإسلام سنّة حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بِهَا من بعده) (رواه مسلم)
هَلْ يكتفي الإنسان بإصلاح نفسه؟ ... لاَ بدَّ مِن إصلاح نفسه وأهله ... ( يَا أيّها الَّذِينَ آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً) [التحريم: 6] ... (إنّ الله تَعَالَى سائلٌ كلّ راعٍ عمّا استرعاه أحفظ ذَلِكَ أم ضيّعه)
(حسن رواه النسائي)(/3)
متى ينتصر المسلمون؟ ... إِذَا عمِلوا بكتاب ربّهم وسنّة نبيّهم ... ( يَا أيّها الَّذِينَ آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم) [محمد: 7] ... ( لاَ تزال طائفة من أمّتي منصورين) (صحيح رواه ابن ماجه)
من هم أفضل النّاس بَعْدَ الرّسل؟ ... هم أصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ... ( والسّابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) [التّوبة: 100] ... ( خير النّاس قرني ثُمَّ الَّذِينَ يلونهم ثُمَّ الَّذِينَ يلونهم) (متّفق عَلَيهِ)
من هم أفضل الصّحابة؟ ... أبوبكر ثُمَّ عمر ثُمَّ عثمان ثُمَّ عليّ رضي الله عنهم أجمعين ... ( إِلاَّ تنصروه فَقَدْ نصره الله إِذْ أخرجه الَّذِينَ كفروا ثاني اثنين إِذْ هما فِي الغار إِذْ يقول لصاحبه لاَ تحزن إنّ الله معنا) [التّوبة: 40] ... (فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء المهديين الرّاشدين تمسكوا بِهَا وعضوا عَلَيْهَا بالنّواجذ) (رواه أبو داود)
مَا حكم من يقول بتحريف القرآن؟ ... الَّذِي يقول بتحريف القرآن كافر ... ( إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا لَهُ لحافظون) [الحجر: 9] ... ( تركت فيكم أمرين لَنْ تضلّوا مَا تمسّكتم بهما كتاب الله وسنّة رسوله)
من هم (المغضوب عليهم) ومن هم (الضّالون)؟ ... المغضوب عليهم هم اليهود والضّالّون هم النّصارى ... ( غير المغضوب عليهم وَلاَ الضّالين) [الفاتحة: 7] ... ( اليهود مغضوب عليهم والنّصارى ضُلاّل) (الترمذي عَنْ عدي بن حاتم)(/4)
العقيدة
بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف التوحيد:
في اللغة: مشتق من وحّد الشئ إذا جعله واحداً، فهو مصدر وحّد يوحد، أي جعل الشئ واحداً.
وفي الشرع: إفراد الله سبحانه بما يختص به من الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات.
أقسامة
ينقسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام:
1- توحيد الربوبية
2- توحيد الألوهية
3- توحيد الأسماء والصفات
شرح شهادة أن لا إله إلا الله
شرح وأنَّ محمدًا عبده رسول الله
شرح وأن عيسى عبدالله ورسوله
القسم الأول: توحيد الألوهية:
ويقال له: توحيد العادة باعتبارين، فباعتبار إضافته إلى الله يسمى: توحيد الألوهية، وباعتبار إضافته إلى الخلق يسمى توحيد العبادة. وهو إفراد الله عز وجل بالعبادة.
غتاميتحف ااهلتدة هو الله تعالى. قال تعالى ( ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون دونه الباطل)(1)
العبادة تطلق على شيئين:
الأول: التعبد فهي بمعنى التذلل لله عز وجل بفعل أوامره، واجتناب نواهيه محبة وتعظيماً.
الثاني: المتعبد به فمعناها كما قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الظاهرة، والباطنة.
ومثال ذلك: الصلاة ففعلها عبادة، وهو التعبد. ونفس الصلاة عبادة، وهو المتعبد به.
فإفراد الله بهذا التوحيد: أن تكون عبداً لله وحده متفرده بالتذلل محبه وتعظيماً.
قال تعالى (لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً)(2). وقال تعالى ( الحمدلله رب العالمين)(3) فوصفه سبحانه بأنه رب العالمين كالتعليل لثبوت الألوهية له، فهو الإله؛ لأنه رب العالمين، وقال تعالى ( يا أيها الناس ابعدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم)(4). فالمنفرد بالخلق هو المستحقّ للعبادة.
إذ من السفه أن تَجعل المخلوق الحادث الآيل للفناء إلهاً تعبده فهو في الحقيقة لن ينفعك لا بإيجاد ولا بإعداد، ولا بإمداد، فمن السَّفه أن تأتي إلى قبر إنسان صار رميماً تدعوه، وتعبده، وهو بحاجة إلى دعائك، وأنت لست بحاجة إلى أن تدعوه. فهو لايملك لنفسه نفعاً ولا ضرًّا فكيف يملكه لغيره ؟!!
ولو كان أرفع البشر عند الله مرتبة، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه)(4).
وهذا القسم كَفَرَ به، وجَحَدَه عامة الخلق، ومن أجل ذلك أرسل الله الرسل ، وأنزل الكتب قال تعالى ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فعبدون)(5). ومع هذا فأَتْباعُ الرسل قلة قال عليه الصلاة والسلام (فرأيت النبي ومعه رهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد)(6)
------------------------------------------------
(1) سورة لقمان الآيه30
(2) سورة الإسراء الآية22
(3) سورة الفاتحة الآيه2
(4) سورة البقرة الآيه 130
(5) الأنبياء الآيه25
(6) من حديق ابن مسعود صحيح البخاري كتاب الطب/باب من اكتوى او كوى غيره /رقم الحديث 5270
القسم الثاني: توحيد الربوبية:
هو إفراد الله عز وجل بالخلق، والملك، والتدبير.
فإفراده بالخلق:
أن يعتقد الإنسان أنه لا خالق إلا الله. قال تعالى: ( ألا له الخلق والأمر)(1). فهذه الجملة تفيد الحصر لتقديم الخبر، إذ أن تقديم ما حقة التأخير يفيد الحصر. وقال تعالى (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض)(2). فهذه الآية تفيد اختصاص الخلق بالله.
وأما ماورد من إثبات خالق غير الله كقوله تعالى (فتبارك الله احسن الخالقين). وكقوله، صلى الله عليه وسلم يقال لهم –يعني للمصورين- : (أيحوا ما خلقتم)(3) فهذا ليس خلقاً حقيقة، وليس إيجاداً بعد عدم ، بل هو تحويل للشيء من حال إلى حال، وأيضاً ليس شاملاً، بل محصور بما يتمكن الإنسان منه، ومحصور بدائرة ضيقة، فلا ينافي قولنا: إفراد الله بالخلق.
وأما إفراد الله بالملكـ :
فأن نعتقد أنه لا يملك الخلق إلا خالقهم كما قال تعالى (والله ملك السموات والأرض)(4) وقال تعالى (قل من بيده ملكوت كل شيء)(5) . وأما ما ورد من إثبات المُلْكِية لغير الله كقوله تعالى ( إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين)(6) وقال تعالى (أو ما ملكتم مفاتحه)(7). فهو مُلْك محدود لا يشمل إلا شيئاً يسيراً من هذه المخلوقات، فالإنسان يملك ما تحت يده، ولا يَمْلك ماتحت يد غيره، وكذا هو مُلك قاصر من حيث الوصف، فالإنسان لايَمْلِك ماعنده تمام المُلك، ولهذا لا يتصرف فيه إلا على حسب ما أُذن له فيه شرعاً.
فمثلاً: لو أراد أن يحرق ماله، أو يعذب حيوانه، قلنا: لايجوز. أمّا الله سبحانه وتعالى فهو يَملك ذلك كله مُلكًا عَامًّا شاملاً.
وأما إفراد الله بالتدبير:
فهو أن يعتقد الإنسان أنه لامُدَبر إلا الله وحده.وأما تدبير الإنسان فمحصور بما تحت يده، ومحصور بما أذن له فيه شرعاً.(/1)
وهذا القسك كم التوحيد لم يعارض فيه المشركون الذين بُعِثَ فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كانوا مقرين به قال تعالى ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز الحكيم)(8)
فهم يُقِرُّون بأن الله هو الذي يدبر الأمر، وهو الذي بيده ملكوت السموات والأرض. وليم ينكر أحدٌ معلوم من بني آدم، فلم يقل أحد من المخلوقين: إن للعالم خالقين متساويين..
فلم يجحد أحد توحيد الربوبية لا على سبيل التعطيل، ولا على سبيل التشريك، إلا ما حصل من فرعون فإنه أنكر على سبيل التعطيل مكابرة، فإنه عطل الله من ربوبيته وأنكر وجوده قال تعالى حكاية عنه (فقال أنا ربكم الأعلى)(9) (وما علمت لكم من إله غيري)(10). وهذا مكابرة منه لأنه يعلم أن الرب غيره كامل قال الله تعالى (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوًّا)(11). وقال تعالى حكاية عن موسى وهو يناظره (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض)(12). فهو في نفسه مُقرٌّ بأن الرب هو الله عز وجل.
وأنكر توحيد الربوبية على سبيل التشريك المجوس حيث قالوا: إن للعالم خالقين هما الظلمة،والنور، ومع ذلك لم يجعلوا هذين الخالقين متساويين..
فهم يقولون: إن النور خير من الظلمة؛ لأنه يخلق الخير، والظلمة تخلق الشر ، والذي يخلق الخير خير من الذي يخلق الشر.
وأيضاً: فإن الظلمة عدم لايضيء، والنور وجود يضيء، فهو أكمل في ذاته.
ويقولون ايضاً بفرق ثالث وهو: أن النور قديم على اصطلاح الفلاسفه واختلفوا في الظلمة هل هي قديمة، أو محدثة؟ على قولين.
دلالة العقل على أن الخالق للعالم واحد:
قال تعالى: ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض)(13)
إذ لو أثبتنا للعالم خالقين لكان كل خالق يريد أن ينفرد بما خلق ويستقل به كعادة الملوك، إذ لايرضى أن يشاركه أحد.
وحينئذٍ إذا أراد السلطان، فإما أن يعجز كل واحد منهما عن الآخر، أو يسيطر أحدهما على الآخر، فإن عجز أحدهما عن الآخر ثبتت الربوبية للقادر، وإن عجز كل منهما عن الآخر زالت الربوبية منهما جميعاً؛ لأن العاجز لا يصلح أن يكون ربًّا.
--------------------------------------------------------------------
(1) سورة الاعراف ، الآية:54
(2) سورة فاطر الآيه:3
(3) صحيح البخاري (كتاب اللباس/باب عذاب المصورين يوم القيامه) رقم 5495
(4) سورة آل عمران الآيه189
(5) سورة المؤمنون الآيه88
(6) سورة المؤمنون الآيه6
(7) سورة النور الآية61
(8) ورة الزخرف الايه9
(9) سورة النازعات الآيه24
(10) سورة القصص الآيه 38
(11) سورة النمل الآية 14
(12) سورة الاسراء الآيه 102
(13) سورة المؤمنون الآيه91
القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات:
وهو إفراد الله - عز وجل - بما له من الأسماء والصفات.
وهذا يتضمن شيئين:
الأول: الإثبات، وذلك بأن نثبت لله - عز وجل - جميع أسمائه وصفاته التي أثبتها لنفسه في كتابه أو سنة نبيه r.
الثاني: نفى المماثلة، وذلك بأن لا نجعل لله مثيلاً في أسمائه وصفاته؛ كما قال تعالى: )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير( [الشورى: 11]. فدلت هذه الآية على أن جميع صفاته لا يماثله فيها أحد من المخلوقين؛ فهي وإن اشتركت في أصل المعنى، لكن تختلف في حقيقة الحال، فمن لم يثبت ما أثبته الله لنفسه؛ فهو معطل، وتعطيله هذا يشبه تعطيل فرعون، ومن أثبتها مع التشبيه صار مشابهاً للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ومن أثبتها بدون مماثلة صار من الموحدين.
وهذا القسم من التوحيد هو الذي ضلت فيه بعض الأمة الإسلامية وانقسموا فيه إلى فرق كثيرة؛ فمنهم من سلك مسلك التعطيل، فعطل، ونفى الصفات زاعماً أنه منزه لله، وقد ضل، لأن المنزه حقيقةً هو الذي ينفي عنه صفات النقص والعيب، وينزه كلامه من أن يكون تعمية وتضليلاً، فإذا قال: بأن الله ليس له سمع، ولا بصر، ولا علم، ولا قدرة، لم ينزه الله، بل وصمه بأعيب العيوب، ووصم كلامه بالتعمية والتضليل، لأن الله يكرر ذلك في كلامه ويثبته، )سميع بصير(، )عزيز حكيم(، )غفور رحيم(، فإذا أثبته في كلامه وهو خال منه؛ كان في غاية التعمية والتضليل والقدح في كلام الله - عز وجل ـ، ومنهم من سلك مسلك التمثيل زاعماً بأنه محقق لما وصف الله به نفسه، وقد ضلوا لأنهم لم يقدروا الله حق قدره؛ إذا وصموه بالعيب والنقص، لأنهم جعلوا الكامل من كل وجه كالناقص من كل وجه.
وإذا كان اقتران تفضيل الكامل على الناقص يحط من قدره، كما قيل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
فكيف بتمثيل الكامل بالناقص؟! هذا أعظم ما يكون جنايةً في حق الله - عز وجل ـ، وإن كان المعطوف أعظم جرماً، لكن الكل لم يقدر الله حق قدره.
فالواجب: أن نؤمن بما وصف الله وسمى به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله r، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف ، ولا تمثيل.
هكذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم.(/2)
فالتحريف في النصوص، والتعطيل في المعتقد، والتكييف في الصفة، والتمثيل في الصفة، إلا أنه أخص من التكييف؛ فكل ممثل مكيف، ولا عكس، فيجب أن تبرأ عقيدتنا من هذه الأمور الأربعة.
ونعني بالتحريف هنا: التأويل الذي سلكه المحرفون لنصوص الصفات؛ لأنهم سموا أنفسهم أهل التأويل، لأجل تلطيف المسلك الذي سلكوه؛ لأن النفوس تنفرُ من كلمة تحريف، لكن هذا من باب زخرفة القول وتزيينه للناس، حتى لا ينفروا منه.
وحقيقة تأويلهم: التحريف، وهو صرف اللفظ عن ظاهره؛ فنقول: هذا الصرف إن دل عليه دليل صحيح؛ فليس تأويلاً بالمعنى الذي تريدون، لكنه تفسير.
وإن لم يدل عليه دليل؛ فهو تحريف، وتغيير للكلم عن مواضعه؛ فهؤلاء الذين ضلوا بهذه الطريقة، فصاروا يثبتون الصفات لكن بتحريف؛ قد ضلوا، وصاروا في طريق معاكس لطريق أهل السنة والجماعة.
وعليه لا يمكن أن يوصفوا بأهل السنة والجماعة؛ لأن الإضافة تقتضي النسبة، فأهل السنة منتسبون للسنة؛ لأنهم متمسكون بها، وهؤلاء ليسوا متمسكين بالسنة فيما ذهبوا إليه من التحريف.
وأيضاً الجماعة في الأصل: الاجتماع، وهم غير مجتمعين في آرائهم؛ ففي كتبهم التداخل، والتناقض، والاضطراب، حتى إن بعضهم يضلل بعضاً، ويتناقض هو بنفسه.
وقد نقل شارع "الطحاوية" عن الغزالي - وهو ممن بلغ ذروة علم الكلام - كلاماً إذا قرأه الإنسان تبين له ما عليه أهل الكلام من الخطأ والزلل والخطل، وأنهم ليسوا على بينة من أمرهم.
وقال الرازي وهو من رؤسائهم:
نهاية إقدام العقول عقال
وأرواحنا وفي وحشة من جسومنا
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
وأكثر سعي العالمين ضلال
وغاية دنيانا أذى ووبال
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ثم قال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: )الرحمن على العرش استوى( [طه: 5] )إليه يصعد الكلم الطيب( [فاطر: 10]؛ يعني: فأثبت، وأقرأ في النفي: )ليس كمثله شيء( [الشورى: 11]، )ولا يحيطون به علماً( [طه: 110]؛ يعني: فأنفي المماثلة، وأنفي الإحاطة به علماً، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
فتجدهم حيارى مضطربين، ليسوا على يقين من أمرهم، وتجد من هداه الله الصراط المستقيم مطمئناً منشرح الصدر، هادئ البال، يقرأ في كتاب الله وفي سنة رسوله r، ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات؛ فيثبت؛ إذ لا أحد أعلم من الله بالله، ولا أصدق خبراً من خبر الله، ولا أصح بياناً من بيان الله؛ كما قال تعالى: )يريد الله ليبين لكم( [النساء: 26]، )يبين الله لكم أن تضلوا( [النساء: 176]، )ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء( [النحل: 89]، )ومن أصدق من الله قيلاً( [النساء: 122]، )ومن أصدق من الله حديثاً( [النساء: 87]. فهذه الآيات وغيرها تدل على أن الله يبين للخلق غاية البيان الطريق التي توصلهم إليه، وأعظم ما يحتاج الخلق إلى بيانه ما يتعلق بالله تعالى وبأسماء الله وصفاته حتى يعبدوا الله على بصيرة؛ لأن عبادة من لم نعلم صفاته، أو من ليس له صفة أمر لا يتحقق أبداً؛ فلابد أن تعلم من صفات المعبود ما تجعلك تلتجئ إليه وتعبده حقاً.
ولا يتجاوز الإنسان حده إلى التكييف أو التمثيل؛ لأنه إذا كان عاجزاً عن تصور نفسه التي بين جنبيه؛ فمن باب أولى أن يكون عاجزاً عن تصور حقائق ما وصف الله به نفسه، ولهذا يجب على الإنسان أن يمنع نفسه عن السؤال بـ "لِمَ" و"كيف" فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وكذا يمنع نفسه من التفكير بالكيفية.
وهذا الطريق إذا سلكه الإنسان استراح كثيراً، وهذه حال السلف رحمهم الله، ولهذا لما جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله قال: يا أبا عبدالله! )الرحمن على العرش استوى(، كيف استوى؟ فأطرق برأسه وقال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً".
أما في عصرنا الحاضر؛ فنجد من يقول إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة، فيلزم من هذا أن يكون كل الليل في السماء الدنيا؛ لأن الليل يمشي على جميع الأرض؛ فالثلث ينتقل من هذا المكان إلى المكان الآخر، وهذا لم يقله الصحابة رضوان الله عليهم، ولو كان هذا يرد على قلب المؤمن؛ لبينه الله إما ابتداءً أو على لسان رسوله r: أو يقيض من يسأله عنه فيجاب، كما سأل الصحابة رسول الله r أين كان الله قبل أن يخلق السماوات والأرض، فأجابهم(1).
فهذا السؤال العظيم يدل على أن كل ما يحتاج إليه الناس فإن الله يبينه بأحد الطرق الثلاثة.
والجواب عن الإشكال في حديث النزول(2): أن يقال: ما دام ثلث الليل الأخير في هذه الجهة باقياً، فالنزول فيها محقق، وفي غيرها لا يكون نزول قبل ثلث الليل الأخير أو النصف، والله - عز وجل - ليس كمثله شيء، والحديث يدل على أن وقت النزول ينتهي بطلوع الفجر.(/3)
وعلينا أن نستسلم، وأن نقول: سمعناً، وأطعنا، واتبعنا، وآمنا؛ فهذه وظيفتنا
----------------
(1) البخاري: كتاب بدء الخلق/ باب ما جاء في قول الله تعالى: )وهو الذي يبدأ الخلق(.
(2) البخاري: كتاب التهجد/باب الدعاء والصلاة آخر الليل، ومسلم: كتاب صلاة المسافر/ باب الترغيب في الدعاء والذكر آخر الليل.
شرح شهادة أن لا إله إلا الله:
قوله: (أن) مخففة من الثقيلة، والنُّطق بأن مُشَدَّدة خطأ؛ لأنَّ المشددة لايمكن حذف اسمها، والمخفَّفة يمكن حذفه.
قوله: (لا إله) أي: مألوه، وليس بمعنى آله، والمألوه هو المعبود محبة وتعظيماً، وتحبة وتعظمة – القلوب- لما تعلم من صفاتة العظيمة ، وأفعاله الجليلة.
قوله: (إلا الله) أي: لا مألوه إلا الله، ولهذا حكي عن قريش قولهم: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشئٌ عجاب)(1)
أما قوله تعالى: (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شئ)(2) فهذا تألُّه باطل؛ لأنَّه بغير حق فهو منفيٌّ شرعاً. وإذا انتفى وقوعًا فلا قرار (مثل كلمة خبيثة كشجرةٍ خبيثة اجتثَّت من فوق الأرض ما لها من قرار)(3)
وبهذا يحصل الجمع بين قوله تعالى (فما أغنت عنهم آلهتهم) وبين قوله تعالى عن قريش ( أجعل الآلة إلهاً واحداً) وبين قوله تعالى ( إن هي إلا أسماء سميتموها) فهذه الآلة مجرد أسماء لا معاني لها، ولا حقيقة، إذ هي باطلة شرعًا لاتستحق أن تُسمَّى آلهة؛ لأنها لاتنفع ولا تضر، ولاتخلق ولاترزق.
0000000000000
(1) سورة ص/5
(2) سورة هود/101
(3) سورة ابراهيم/26
قوله: (وأنَّ محمدًا عبده ورسوله)
محمد: وهو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب القرشي الهاشمي خاتم النبيين.
وقوله: (عبده) أي: ليس شريكًا مع الله.
وقوله: (ورسوله) أي: ليس كذبًا على الله.
فالرسول صلى الله عليه وسلم، عبدٌ مربوب، جميع خصائص البشريَّة تلحقة ماعدا شئ واحد، وهو ما يعود بأسافل الأخلاق، فهو ممنوع منه، قال تعالى {قل إني لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضرًّا إلا ما شاء الله}(1) وقال تعالى {قل إني لا أملك لكم ضرًّا ولا رشدًا}(2) وقال تعالى {قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدًا}(3)
فهو بشر مثلنا إلا أنه يوحى إليه قال تعالى {قل إنما أنا بشر مثلكم يُحى إليَّ إنَّما إلهكم إله واحد}(4)
ومن قال: أن الرسول،صلى الله عليه وسلم، ليس له ظل، أو أن نوره يطفئ ظله إذا مشي في الشمس فكله كذب باطل، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها (كنت أمدّ رجلي بين يديه وتعتذر بأن البيوت ليس فيها مصابيح). فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم له نور لم تعتذر رضي الله عنها ولكنه الغلو الذي أفسد الدين والدنيا والعياذ بالله
أما الرسالة؛ فهو رسول أرسله الله – عزوجل – بأعظم شريعة إلى جميع الخلق، فبلغها غاية البلاغ، مع أنه أوذي وقوتل، حتى إنهم جاؤوا بسلا الجزور وهو ساجد عند الكعبة ووضعوه على ظهره، كل ذلك كراهيةً له ولما جاء به، ومع ذلك صبر، يلقون الأذى والأنتان والأقذار على عتبة بابه، لكن هذا للنبي الكريم امتحان من الله – عز وجل ـ؛ لأجل أن يتبين صبره وفضله، يخرج ويقول: "أي جوار هذا يا بني عبد مناف؟"(3)، فصبر صلى الله عليه وسلم؛ حتى فتح الله عليه، وأنذر أم القرى ومن حولها، ثم إنه حمل هذه الشريعة من بعده أشد الناس أمانةً وأقواهم على الاتباع؛ الصحابة رضي الله عنهم، وأدوها إلى الأمة نقيّة سليمة، ولله الحمد.
ونحب الرسول صلى الله عليه وسلم لله وفي الله؛ فحب الرسول صلى الله عليه وسلم من حبّ الله، ونقدمه على أنفسنا وأهلنا وأولادنا والناس أجمعين، وأحببناه من أجل أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونحقق شهادة أن محمداً رسول الله، وذلك بأن نعتقد ذلك بقلوبنا، ونعترف به بألسنتنا، ونطبق ذلك في متابعته صلى الله عليه وسلم بجوار حنا، فنعمل بهديه، ولا نعمل له.
وحق الرسول صلى الله عليه وسلم علينا مايلي:
1- نؤمن بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- نحبه لحبنا الله عز وجل.
3- نحقق شهادة أنَّ محمدًا رسول الله.
أما ما ينقض تحقيق هذه الشهادة، فهو:
1- فعل المعاصي؛ فالمعصية نقص في تحقيق هذه الشهادة؛ لأنك خرجت بمعصيتك من اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
2- الابتداع في الدين ما ليس منه؛ لأنك تقربت إلى الله بما لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، والابتداع في الدين في الحقيقة من الاستهزاء بالله، لأنك تقرّبت إليه بشيء لم يشرعه.
000000000000
(1) الاعراف/188
(2) الجن/21
(3) الجن/22
(4) فصلت/6
قوله: "وإن عيسى عبدالله ورسوله"، الكلام فيها كالكلام في شهادة أن محمداً رسول الله، إلا أننا نؤمن برسالة عيسى، ولا يلزمنا اتباعه إذا خالفت شريعته شريعتنا.
فشريعة من قبلنا لها ثلاث حالات:
الأولى: أن تكون مخالفة لشريعتنا؛ فالعمل على شرعنا.
الثانية: أن تكون موافقة لشريعتنا؛ فنحن متبعون لشريعتنا.(/4)
الثالثة: أن يكون مسكوتاً عنها في شريعتنا، وفى هذه الحال اختلف علماء الأصول: هل نعمل بها، أو ندعها؟
والصحيح أنها شرع لنا، ودليل ذلك:
1- قوله تعالى: )أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده( [الأنعام: 90].
2- قوله تعالى: )لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب( [يوسف: 111].
وقد تطرّف في عيسى طائفتان:
الأولى: اليهود كذبوه، فقالوا: بأنه ولد زنى، وأنّ أمه من البغايا، وأنه ليس بنبي، وقتلوه شرعاً؛ أي: محكوم عليهم عند الله أنهم قتلوه في حكم الله الشرعي؛ لقوله تعالى عنهم: )إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم( [النساء: 157]، وأما بالنسبة لحكم الله القدري؛ فقد كذبوا، وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه، ولكن شبه لهم، فقتلوا المشبّه لهم وصلبوه.
الثانية: النصارى قالوا: إنه ابن الله، وإنه ثالث ثلاثة، وجعلوه إلهاً مع الله، وكذبوا فيما قالوا.
أما عقيدتنا نحن فيه: فنشهد أنه عبد الله ورسوله، وأن أمه صديقة؛ كما أخبر الله تعالى بذلك، وأنها أحصنت فرجها، وأنّها عذراء، ولكن مثله عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له: كن؛ فيكون.
وفي قوله: "عبدالله"، رد على النصارى.
وفي قوله: "ورسوله"، رد على اليهود.
قوله: "وكلمته ألقاها إلى مريم"، أطلق الله عليه كلمة؛ لأنه خلق بالكلمة عليه السلام؛ فالحديث ليس على ظاهره؛ إذ عيسى عليه السلام ليس كلمة؛ لأنه يأكل، ويشرب، ويبول، ويتغوط، وتجري عليه جميع الأحوال البشرية، قال الله تعالى: )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون( [آل عمران: 59].
وعيسى عليه السلام ليس كلمة الله؛ إذ إن كلام الله وصف قائم به، لا بائن منه، أما عيسى؛ فهو ذات بائنة عن الله – سبحانه - ، يذهب ويجيء، ويأكل الطعام ويشرب.
قوله: "ألقاها إلى مريم"، أي: وجّهها إليها بقوله: )كن فيكون(؛ كما قال تعالى: )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون( [آل عمران: 59].
ومريم ابنة عمران ليست أخت موسى وهارون عليهما السلام كما يظنه بعض الناس، ولكن كما قال الرسول r كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم(1)، فهارون أخو مريم، ليس هارون أخا موسى، بل هو آخر يسمى باسمه، وكذلك عمران سمي باسم أبي موسى.
قوله: "وروح منه"، أي: صار جسده عليه السلام بالكلمة، فنفخت فيه هذه الروح التي هي من الله؛ أي: خلق من مخلوقاته أضيفت إليه تعالى للتشريف والتكريم.
وعيسى عليه السلام ليس روحاً، بل جسد ذو روح، قال الله تعالى: )ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام( [المائدة: 75].
فبالنفخ صار جسداً، وبالروح صار جسداً وروحاً.
قوله: "منه"، هذه هي التي أضلّت النصارى، فظنوا أنه جزء من الله، فضلوا وأضلوا كثيراً، ولكننا نقول: إن الله قد أعمى بصائركم؛ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور؛ فمن المعلوم أن عيسى عليه السلام كان يأكل الطعام، وهذا شيء معروف، ومن المعلوم أيضاً أن اليهود يقولون: إنهم صلبوه، وهل يمكن لمن كان جزءاً من الرب أن ينفصل عن الرب ويأكل ويشرب ويدّعى أنه قتل وصلب؟
وعلى هذا تكون "من" للابتداء، وليس للتبعيض؛ فهي كقوله تعالى: )وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه( [الجاثية: 13]؛ فلا يمكن أن نقول: إن الشمس والقمر والأنهار جزء من الله، وهذا لم يقل به أحد.
فقوله: "منه"؛ أي: روح صادرة من الله – عز وجل ـ، وليست جزءً من الله كما تزعم النصارى.
وأعلم أن ما أضافه الله إلى نفسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: العين القائمة بنفسها، وإضافتها إليه من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، وهذه الإضافة قد تكون على سبيل عموم الخلق؛ كقوله تعالى: )وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه( [الجاثية: 13]، وقوله تعالى: )إن أرضي واسعة( [العنكبوت: 56].
وقد تكون على سبيل الخصوص لشرفه، كقوله تعالى: )وطهر بيتي للطائفين( [الحج: 26]، وكقوله تعالى: )ناقة الله وسقياها( [الشمس: 13]، وهذا القسم مخلوق.
الثاني: أن يكون شيئاً مضافاً إلى عين مخلوقة يقوم بها، مثاله قوله تعالى: )وروح منه( [النساء: 171]؛ فإضافة هذه الروح إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى خالقه تشريفاً؛ فهي روح من الأرواح التي خلقها الله، وليست جزءً أو روحاً من الله؛ إذ أنّ هذه الروح حلت في عيسى عليه السلام، وهو عين منفصلة عن الله، وهذا القسم مخلوق أيضاً.
الثالث: أن يكون وصفاً غير مضاف إلى عين مخلوقة، مثال ذلك قوله تعالى: )إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي( [الأعراف: 144]، فالرسالة والكلام أضيفا إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، فإذا أضاف الله لنفسه صفة؛ فهذه الصفة غير مخلوقة، وبهذا يتبين أن هذه الأقسام الثلاثة: قسمان منها مخلوقان، وقسم غير مخلوق.(/5)
فالأعيان القائمة بنفسها والمتصل بهذه الأعيان مخلوقة، والوصف الذي لم يذكر له عين يقوم بها غير مخلوق؛ لأنه يكون من صفات الله، وصفات الله غير مخلوقة.
وقد اجتمع القسمان في قوله: "كلمته، وروح منه"؛ فكلمته هذه وصف مضاف إلى الله، وعلى هذا، فتكون كلمته صفة من صفات الله.
وروح منه: هذه أضيفت إلى عين، لأن الروح حلت في عيسى، فهي مخلوقة.
قوله: "أدخله الله الجنة" إدخال الجنة ينقسم إلى قسمين:
الأول: إدخال كامل لم يسبق بعذاب لمن أتمّ العمل.
الثاني: إدخال ناقص مسبوق بعذاب لمن نقص العمل.
فالمؤمن إذا غلبت سيئاته حسناته إن شاء الله عذّبه بقدر عمله، وإن شاء لم يعذّبه، قال الله تعالى: )إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء( [النساء: 116].
0000000000000
(1) مسلم: كتاب الآداب/ باب النهي عن التكني بأبي القاسم وما يستحب من الأسماء.(/6)
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده وروسوله .
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -وشر الأأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
وبعد ...
فإن العقيقة من السنن الثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكنها تكاد تكون من السنن المنسية التي لا يعمل بها إلا قليل من الناس ولذا قمت بإعداد هذا البحث ونشره من أجل إحياء سنة من سنن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولتعريف الناس بهذه السنة وبأحكامها وما يتعلق بها حتى تجد طريقها إلى التطبيق العملي وحتى تحل السنن محل العادات الجاهلية التي اعتاد عليها كثير من الناس حتى غدت أحكام الشرع غريبة لدى المسلمين وللأسف الشديد وصارت العادات الجاهلية والبدع المحدثة هي السائدة والغالبة .
وقد عرّفت العقيقة في اللغة والاصطلاح وجمعت كل ما وقفت عليه من الأحاديث الواردة في العقيقة من كتب السنة المشرفة وحاولت اسقصائها بقد الوسع والطاقة ، وذكرت كلام العلماء والفقهاء في مسائل العقيقة المختلفة وبيّنت بالتفصيل حكم العقيقة وشروطها وأوجه الانتفاع بها وما يتعلق بذلك وقد بذلت جهدي ووسعي في هذا البحث فإن أصبت فمن الله وحده وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان .
وأسال الله العلي العظيم أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به عامة المسلمين إنه سميع قريب مجيب .
د. حسام الدين عفانه
أبوديس/القدس
في الثالث عشر من رجب 1415 هـ
الموافق ، السادس عشر من كانون أول 1994 م
الفصل الأول
ما يتعلق بالعقيقة
المبحث الأول
تعريف العقيقة لغة واصطلاحاً
أولاً : تعريف العقيقة لغة :
هي الشَعر الذي يولد به الطفل لأنه يشق الجلد .
قال امرؤ القيس :
يا هند لا تنكحي بوهةً ... عليه عقيقته أحسَبَا
وهي مأخوذة من عق ، يَعِقُ ويعَقُ فنقول عق عن ابنه بمعنى حلق عقيقته أي شعر رأسه أو ذبح الشاة المسماة عقيقة ، قال ابن منظور :[ وقيل للذبيحة عقيقة لأنها تذبح فيشق حلقومها ومريئها وودجاها قطعاً كما سميت ذبيحة بالذبح وهو الشق ] (1) وقال الجوهري :[ وشعر كل مولود من الناس والبهائم الذي يولد عليه عقيقة ... ومنه سميت الشاة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه عقيقة ].(2)
ثانياً : تعريف العقيقة اصطلاحاً :
هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم سابعه شكراً لله سبحانه وتعالى على نعمة الولد ذكراً كان أو أنثى .(3)
وقد عرفها د.محمد أبو فارس بقوله :[ هي الشاة التي تذبح عن المولود ...].(4)
وهذا التعريف غير جامع لأن فيه قصراً للعقيقة على الشياه فقط وهذا على قول من لا يجيز العقيقة من الإبل والبقر وهو قول مرجوح كما سيأتي بيانه .
فالأولى أن نعبر بقولنا هي الذبيحة فإن ذلك يعم الغنم والبقر والإبل حيث تصح العقيقة من هذه الأنواع كما سيأتي .
المبحث الثاني
مشروعية العقيقة
ثبتت مشروعية العقيقة بالسنة النبوية من قول النبي- صلى الله عليه وسلم - ومن فعله كذلك .
فمن السنة القولية وردت أحاديث كثيرة منها :
1. روى الإمام البخاري بسنده عن محمد بن سيرين : حدثنا سلمان بن عامر الضبي قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :( مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دمه وأميطوا عنه الأذى ) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد والدارمي والبيهقي .(5)
__________
(1) لسان العرب 9/325 .
(2) الصحاح 4/1527 .
(3) المغني 9/458 ، المجموع 8/426 ، نيل الأوطار 5/149 ، الخرشي 3/46 ، سبل السلام 4/179 .
(4) أحكام الذبائح ص 168 .
(5) فتح الباري 12/9 ، عون المعبود 8/30 ، سنن الترمذي 4/98 ، سنن النسائي 7/166 ، سنن البيهقي 9/299 ، مسند أحمد 7/17 ، سنن ابن ماجة 3165 .(/1)
2. عن سمرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى ) رواه أبو داود واللفظ له والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وأحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وقال الترمذي : حسن صحيح . وقال الشيخ ناصر الدين الألباني : صحيح .(1)
3. عن أم كرز الكعبية قالت : سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول :( عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ) رواه أبو داود واللفظ له وأحمد والبيهقي .(2)
4. وفي رواية أخرى لحديث أم كرز أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة فقال :
( نعم عن الغلام شاتان وعن الأنثى واحدة ، لا يضركم ذكراناً أم إناثاً ) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وأحمد ، وقال : الترمذي حديث صحيح . وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وقال الألباني : صحيح . وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط : حديث صحيح .(3)
5. عن يوسف بن ماهك قال : دخلنا على حفصة بنت عبد الرحمن فسألناها عن العقيقة فأخبرتنا أن عائشة أخبرتها أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال :( عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة ) رواه ابن حبان واللفظ له وأحمد والترمذي وابن ماجة وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط : إسناده صحيح .(4)
6. وفي رواية أخرى للحديث السابق :( أن عائشة أخبرتهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرهم عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ) رواه الترمذي ، وقال : حسن صحيح . والبيهقي وقال الألباني : صحيح .(5)
7. عن اسماء بنت يزيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( العقيقة حق عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ) رواه أحمد والطبراني . قال الهيثمي رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله محتج بهم .(6)
8. عن أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال :( مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى ) قال الهيثمي رواه البزار ورجاله رجال الصحيح .(7)
9. عن يزيد بن عبد المزني عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :( يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم ) رواه الطحاوي والطبراني في الأوسط والكبير وقال الهيثمي : ورجاله ثقات .(8)
10. عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي- صلى الله عليه وسلم - أمر بتسمية المولود يوم سابعه ووضع الأذى عنه والعق ) رواه الترمذي وقال حسن غريب .(9)
11. عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( إذا كان يوم سابعه فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى وسموه ) رواه الطبراني في الأوسط والكبير ورجاله كما قال الهيثمي .(10)
12. عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( للغلام عقيقتان وللجارية عقيقة ) قال الهيثمي : رواه البزار والطبراني في الكبير وفيه عمران بن عيينة وثقه ابن معين وابن حبان وفيه ضعف .(11)
وقال الشيخ الألباني أخرجه الطحاوي بسند جيد في الشواهد وذكر أن طريق الطحاوي سالمة من الضعف .(12)
وأما السنة الفعلية الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنها أحاديث :
1. عن عكرمة عن ابن عباس :( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً ) رواه أبو داود (13). وقال النووي : رواه أبو داود بإسناد صحيح (14). وقال الألباني : وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري وقد صححه عبد الحق الإشبيلي في الأحكام الكبرى (15). وقال شعيب الأرناؤوط : وأخرجه ابن الجارود والطبراني وإسناده صحيح .(16)
2. وفي رواية أخرى لحديث ابن عباس :( أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين بكبشين كبشين ) رواه النسائي وقال الألباني : صحيح .(17)
__________
(1) عون المعبود 8/28 ، الترمذي 4/101 ، النسائي 7/166 ، ابن ماجة 2/1057 ، المستدرك 4/237 ، سنن البيهقي 9/299 ، صحيح سنن النسائي 3/885 ، إرواء الغليل 4/385 ، مسند أحمد 5/7-8 ،12-17-18.
(2) عون المعبود 8/27 ، المسند 6/422 ، سنن البيهقي 9/301 .
(3) عون المعبود 8/26 ، سنن الترمذي 4/98 ، سنن النسائي 7/165 ، سنن ابن ماجة 2/1056 ، صحيح سنن النسائي 3/885 ، الإحسان 12/128 ، إرواء الغليل 4/391 ، سنن البيهقي 9/200 .
(4) الإحسان 12/126 ، سنن الترمذي 1513 ، سنن ابن ماجة 3163 ، المسند 6/31 .
(5) سنن الترمذي 4/96 ، سنن البيهقي 9/301 ، صحيح سنن الترمذي 2/92 ، إرواء الغليل 4/389 .
(6) مجمع الزوائد 4/57 ، وانظر فتح الباري 12/9 ، الفتح الرباني 13/121 .
(7) مجمع الزوائد 4/58 .
(8) إرواء الغليل 4/389 ، مجمع الزوائد 4/58 .
(9) سنن الترمذي 5/132 ، نيل الأوطار 5/152 .
(10) مجمع الزوائد 4/58 .
(11) المصدر السابق .
(12) إرواء الغليل 4/392 .
(13) عون المعبود 8/30 .
(14) المجموع 8/428 .
(15) إرواء الغليل 4/379 .
(16) الإحسان 12/130 .
(17) صحيح سنن النسائي 3/885 ، إرواء الغليل 4/380 .(/2)
3. عن بريدة أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - :( عق عن الحسن والحسين ) رواه أحمد والنسائي والطبراني (1)، وقال الألباني : صحيح (2). وقال الأرناؤوط : وإسناده صحيح على شرط مسلم .(3)
4. عن أنس بن مالك قال :( عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حسن وحسين بكبشين ) رواه ابن حبان وقال محققه : حديث صحيح .
وأخرجه الطحاوي في مشكل الآثار وأبو يعلى والبزار والبيهقي (4)، وصححه عبد الحق في الأحكام الكبرى وقال الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح (5). وقال الساعاتي ورجاله ثقات .(6)
5. عن عائشة قال :( عق رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عن حسن وحسين يوم السابع وسماهما وأمر أن يماط عن رأسهما الأذى ) رواه ابن حبان وقال محققه : إسناده حسن (7). والبيهقي وقال النووي : بإسناد حسن (8)، ورواه الحاكم ووافقه الذهبي .(9)
6. وعن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - :( عق عن الحسن والحسين وقال : قولوا بسم الله والله أكبر اللهم لك وإليك هذه عقيقة فلان ) رواه البيهقي بإسناد حسن كما قال النووي .(10)
7. عن عبد الله بن عمرو :( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين عن كل واحد منهما كبشين اثنين مثلين متكافئين ) قال الشيخ الأرناؤوط : أخرجه الحاكم بسند حسن في الشواهد .(11)
8. وعن جابر بن عبد الله :( أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين ) رواه أبو يعلى والطبراني ، قال الشيخ الألباني :[ ورجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير المغيرة بن مسلم وهو القسملي وهو ثقة لكن أبا الزبير مدلس وقد عنعنه ولولا ذلك لقلت بصحته وقال الهيثمي : رواه أبو يعلى ورجاله ثقات ].(12)
وقال الساعاتي : رجاله ثقات .(13)
المبحث الثالث
معنى قول الرسول- صلى الله عليه وسلم - كل غلام مرتهن بعقيقته
ورد في الحديث عن سمرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمَّى ويحلق رأسه ) (14)، وفي رواية عند أحمد والنسائي :( كل غلام رهين بعقيقته ) (15)، وفي رواية عند الترمذي وابن ماجة :( كل غلام مرتهن بعقيقته ) (16)، وقد اختلف العلماء في تفسير ذلك :
1. قال الخطابي :[ قال أحمد : هذا في الشفاعة يريد أنه إن لم يعق عنه فمات طفلاً لم يُشفع في والديه . وقوله رهينة بإثبات الهاء معناه مرهون فعيل بمعنى مفعول والهاء تقع في هذا للمبالغة ، يقال فلان كريمة قومه أي محل العقدة الكريمة عندهم ].(17)
وقول أحمد [ هذا ] روى البيهقي مثله عن عطاء الخراساني حيث روى بسنده عن يحيى بن حمزة قال :[ قلت لعطاء الخراساني ما مرتهن بعقيقته ؟ قال : يحرم شفاعة ولده ].(18)
2. وقيل أن المعنى أن العقيقة لازمة لا بد منها فشبه المولود في لزومها وعدم انفكاكه منها بالرهن في يد المرتهن وقال النوربشتي أي أنه كالشيء المرهون لا يتم الانتفاع به دون فكه ، والنعمة إنما تتم على المنعم عليه بقيامه بالشكر ووظيفته والشكر في هذه النعمة ما سنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو أن يعق عن المولود شكراً لله تعالى وطلباً لسلامته .(19)
3. وقيل أن المعنى أن الغلام مرهون بأذى شعره ويدل على ذلك قوله :( فأميطوا عنه الأذى ).(20)
4. وقيل أنه مرهون بالعقيقة بمعنى أنه لا يسمى ولا يحلق شعره إلا بعد ذبحها (21)، ولم يرتض ابن القيم هذه التفسيرات للحديث وردها وقال : وفيه نظر لا يخفى فإن شفاعة الولد في الوالد ليست بأولى من العكس وكونه والداً له ليس للشفاعة فيه .
__________
(1) المسند 5/355 ، سنن النسائي 7/166 من حديث ابن عباس مرفوعاً .
(2) صحيح سنن النسائي 3/884 .
(3) الإحسان 12/131 .
(4) الإحسان 12/125 ، وانظر سنن البيهقي 9/299 .
(5) إرواء الغليل 4/382 ، مجمع الزوائد 4/58 .
(6) الفتح الرباني 13/124 .
(7) الإحسان 12/127 .
(8) المجموع 8/428 ، وانظر سنن البيهقي 9/299-300 .
(9) المستدرك 4/237 .
(10) المجموع 8/428 .
(11) الإحسان 12/130 .
(12) إرواء الغليل 4/382-383 ، مجمع الزوائد 4/59 .
(13) الفتح الرباني 13/124 .
(14) سبق تخريجه .
(15) الفتح الرباني 13/13 ، صحيح سنن النسائي 3/885 .
(16) صحيح سنن الترمذي 2/94 ، صحيح سنن ابن ماجة 2/206 .
(17) معالم السنن 4/264-265 .
(18) سنن البيهقي 9/299 .
(19) الإحسان 12/131-132 الهامش ، فتح الباري 12/12 ، نيل الأوطار 5/150 .
(20) معالم السنن 4/265 .
(21) نيل الأوطار 5/150 .(/3)
وكذا سائر القرابات والأرحام وقد قال تعالى :( يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا ) ، وقال تعالى :( وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) ، وقال تعالى :( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ) ، فلا يشفع أحد لأحد يوم القيامة إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ، فإذنه سبحانه وتعالى في الشفاعة موقوف على عمل المشفوع له من توحيده وإخلاصه . ومن الشافع من قربه عند الله ومنزلته ليست مستحقة بقرابة ولا بنوة ولا أبوة .
وقد قال سيد الشفعاء وواجههم عند الله لعمه وعمته وابنته :( لا أغني عنكم من الله شيئاً ) وفي رواية :( لا أملك لكم من الله شيئاً ) وقال في شفاعته العظمى لما يسجد بين يدي ربه ويشفع :( فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ) فشفاعته في حد محدود يحدهم الله سبحانه له ولا تجاوزهم شفاعته .
فمن اين يقال أن الولد يشفع لوالده فإذا لم يعق عنه حبس عنه الشفاعة له ولا يقال لمن يشفع لغيره أنه مرتهن ولا في اللفظ ما يدل على ذلك والله سبحانه وتعالى يخبر عن ارتهان العبد بكسبه كما قال تعالى :( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) وقال تعالى :( أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا ) فالمرتهن هو المحبوس إما بفعل منه أو فعل من غيره ، وأما من لم يشفع لغيره فلا يقال له مرتهن على الإطلاق ، بل المرتهن هو المحبوس عن أمر كان بصدد نيله وحصوله ولا يلزم من ذلك أن يكون بسبب منه بل تحصيل ذلك تارة بفعله وتارة بفعل غيره .
وقد جعل الله سبحانه النسيكة عن الولد سبباً لفك رهانه من الشيطان الذي يعلق به من حين خروجه إلى الدنيا وطعن في خاصرته فكانت العقيقة فداء وتخلصاً له من حبس الشيطان له وسجنه في أسره ومنعه له من سعيه في مصالح آخرته التي إليها معاده فكأنه محبوس لذبح الشيطان له بالسكين التي أعدها لأتباعه وأوليائه وأقسم لربه أنه ليستأصلن ذرية آدم إلا قليلاً منهم فهو بالمرصاد للمولود من حين يخرج إلى الدنيا فحين يخرج يبتدره عدوه ويضمه إليه ويحرص على أن يجعله في قبضته وتحت اسره ومن جملة أوليائه وحزبه فهو أحرص شيء على هذا ... فكان المولود بصدد هذا الارتهان فشرع الله سبحانه للوالدين أن يفكا رهانه بذبح يكون فداه فإذا لم يذبح عنه بقي مرتهناً به فلهذا قال عليه الصلاة والسلام :( الغلام مرتهن بعقيقته فأريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى ) فأمر بإراقة الدم عنه الذي يخلص به من الارتهان ، ولو كان الارتهان يتعلق بالأبوين لقال فأريقوا عنكم الدم لتخلص إليكم شفاعة أولادكم . فلما أمرنا بإزالة الأذى الظاهر عنه وإراقة الدم الذي يزيل الأذى الباطن بارتهانه علم أن ذلك تخليص للمولد من الأذى الباطن والظاهر ، والله أعلم بمراده ورسوله .(1)
البمحث الرابع
الحكمة من مشروعية العقيقة
لا شك أن للعقيقة حكماً وفوائد كثيرة منها :
1. الشكر لله سبحانه وتعالى على نعمة الولد فإنها من أعظم النعم ، والأولاد من زينة الحياة الدنيا ، قال تعالى :( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (2)، وفطر الله الإنسان على السرور والبهجة عند قدوم المولود فكان حرياً بالإنسان أن يشكر الله الخالق الواهب وقد رود في الأثر عن الحسين - رضي الله عنه - في تهنئة من رزق مولوداً أن يقال له :( بارك الله لك في الموهوب وشكرت الواهب وبلغ أشده ورزقت بره ) (3)، فالعقيقة نوع من أنواع الشكر لله تعالى والتقرب إليه .
2. فيها فكاك المولود وفديته كما فدى الله سبحانه إسماعيل الذبيح بالكبش وكان أهل الجاهلية يفعلونها ويلطخون رأس المولود بالدم ، فأقرها الإسلام ونهى عن تلطيخ رأس المولود بالدم .
وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ما يذبح عن المولود إنما ينبغي أن يكون على سبيل النسك كالأضحية والهدي فقال :( من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل ) فجعلها على سبيل الأضحية التي جعلها الله نسكاً وفداء لإسماعيل عليه السلام . وغير مستبعد في حكمة الله في شرعه وقدره أن يكون سبباً لحسن إثبات الولد ودوام سلامته طول حياته في حفظه من ضرر الشيطان حتى يكون كل عضو منها فداء كل عضو منه .(4)
3. الإعلان والأخبار بأن هذا الشخص قد رزق مولوداً وسماه كذا فيظهر ذلك بين الناس من الأهل والجيران والأصدقاء فيقدم هؤلاء لتهنئة وحضور عقيقته مما يؤدي إلى زيادة روابط الألفة بين المسلمين .
__________
(1) تحفة المودود ص 57-59 .
(2) الكهف الآية 46 .
(3) الأذكار ص 246 .
(4) تحفة المودود ص 54-55 .(/4)
4. فيها نوع من أنواع التكافل الاجتماعي في الإسلام حيث أن الذي يعق عن ولده يذبح الذبيحة ويرسل منها للفقراء والأصدقاء والجيران أو يدعوهم إليها ويساهم هذا الأمر في تخفيف معاناة الفقراء والمحتاجين .(1)
المبحث الخامس
هل يكره تسمية العقيقة بهذا الإسم ؟
ذهب بعض أهل العلم إلى كراهة تسمية العقيقة بهذا الإسم وقالوا الأولى أن تسمى نسيكة أو ذبيحة .(2)
احتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال :( سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة فقال : لا أحب العقوق ، وكأنه كره الإسم . فقالوا : يا رسول الله إنما نسألك عن أحدنا يولد له . قال : من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي .(3)
وقال الشيخ ناصر الدين الألباني : حسن صحيح .(4)
وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط : وهذا سند حسن .(5)
والحديث رواه البيهقي من طريقين الأول طريق عمرو بن شعيب المذكورة أعلاه ، والثانية عن زيد بن أسلم عن رجل من بني ضمرة عن أبيه فذكره ثم قال :[ وهذا إذا انضم إلى الأول قويا ].(6)
قال الإمام الباجي :[ قوله - صلى الله عليه وسلم - لا أحب العقوق ظاهره كراهية الإسم لما فيه من مشابهة لفظ العقوق وآثر أن يسمى نسكاً ].(7)
وقد أجاب التوربشتي عن ذلك بقوله :[ هذا الكلام وهو أنه كره الاسم غير سديد إدرج في الحديث من قول بعض الرواة ولا يدري من هو وبالجملة فقد صدر عن ظن يحتمل الخطأ والصواب .
والظاهر أنه ها هنا خطأ لأنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر العقيقة في عدة أحاديث ولو كان يكره الاسم لعدل عنه إلى غيره ، ومن سنته تغيير الإسم إذا كرهه والأوجه أن يقال يحتمل أن السائل ظن أن اشتراك العقيقة مع العقوق في الاشتقاق مما يوهن أمرها فأعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الذي كرهه الله تعالى من هذا الباب هو العقوق لا العقيقة ].(8)
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمال اسم العقيقة في أحاديث منها :
أ. حديث سمرة - رضي الله عنه - :( كل غلام رهينة بعقيقته ... ).
ب. وحديث سلمان بن عامر الضبي - رضي الله عنه - :( مع الغلام عقيقته ).
جـ. وحديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها :( العقيقة عن الغلام شاتان ... ).
د. وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - :( مع الغلام عقيقته ... ).(9)
ففي هذه الأحاديث استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - لفظ العقيقة فدل على الإباحة لا على الكراهة وفقهاؤنا يستعملون هذه اللفظة في كتبهم ولا يستعملون لفظة نسيكة ).(10)
المبحث السادس
حكم العقيقة
اختلف الفقهاء في حكم العقيقة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنها سنة مؤكدة وهذا قول جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين والفقهاء وهو قول الشافعية والمالكية والمشهور المعتمد في مذهب الحنابلة وبه قال الجمهور من العترة .(11)
ونقل هذا القول عن ابن عباس وابن عمر وعائشة وفاطمة بنت رسول الله وبريدة الأسلمي والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وعطاء والزهري وأبو الزناد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم كثير .(12)
قال ابن القيم :[ فأما أهل الحديث قاطبة وفقهاؤهم وجمهور أهل السنة ، فقالوا : هي من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ).(13)
القول الثاني : إنها فرض واجب وهذا قول الظاهرية وعلى رأسهم صاحب المذهب وابن حزم ونقل عن الحسن البصري وهو راية عن الإمام أحمد اختارها جماعة من الحنابلة وهو قول الليث بن سعد .(14)
القول الثالث للحنفية وقد اختلفت الروايات في مذهبهم في حكم العقيقة والذي تحصل لي بعد البحث ثلاثة أقوال لهم هي :
أ. أنها تطوع من شاء فعلها ومن شاء تركها ، قاله الطحاوي في مختصره وابن عابدين في العقود الدرية (15)، وهذا موافق لقول الجمهور بشكل عام .
__________
(1) انظر أحكام الذبائح ص 169 ، تربية الأولاد في الإسلام 1/99-100 .
(2) فتح الباري 12/4 ، نهاية المحتاج 8/137 ، المنتقى 3/101 ، تحفة المودود ص 42 .
(3) انظر نيل الأوطار 5/152 ، سنن البيهقي 9/300 ، المستدرك 4/238 ، المجموع 8/427-428 .
(4) صحيح سنن النسائي 3/884 .
(5) الإحسان 12/132 .
(6) سنن البيهقي 9/300 .
(7) المنتقى 3/101 .
(8) الفتح الرباني 13/113 .
(9) سبق تخريج هذه الأحاديث .
(10) انظر تحفة المودود ص 42 .
(11) مغني المحتاج 4/293 ، المجموع 8/429 ، بداية المجتهد 1/275 ، الإقناع 2/282 ، كفاية الأخيار ص 534 ,المغني 9/459 ، نيل الأوطار 5/150 ، الفروع 3/563 ، كشاف القناع 3/24 ، تحفة المودود ص 32 ، أحكام الذبائح ص 170 ، الفقه الإسلامي وأدلته 3/637 .
(12) المغني 9/459 ، المجموع 8/447 .
(13) تحفة المودود ص 32 .
(14) المحلى 6/234 ، المجموع 8/447 ، المغني 9/459 ، الإنصاف 4/110 ، زاد المعاد 2/326 ، تحفة المودود ص 43 .
(15) مختصر الطحاوي ص 299 ، العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 2/212 .(/5)
ب. أنها مباحة قاله المنبجي ونقله ابن عابدين عن جامع المحبوبي .(1)
جـ. أنها منسوخة يكره فعلها وهو منقول عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة حيث قال :[ أما العقيقة فبلغنا أنها كانت في الجاهلية وقد فعلت في أول الإسلام ثم نسخ الأضحى كل ذبح كان قبله ].(2)
وقال الخوارزمي الكرلاني :[ كان في الجاهلية ذبائح يذبحونها منها العقيقة ومنها الرجيبة ... وكلها منسوخ بالأضحية ].(3)
وأما ما نسب لأبي حنيفة من قوله أنها بدعة فهو مردود وباطل ، قال العيني :[ هذا افتراء فلا يجوز نسبته إلى أبي حنيفة وحاشاه أن يقول مثل هذا ] (4)، وقد تطاول ابن حزم على أبي حنيفة وتهجم عليه فقال :[ ولم يعرف أبو حنيفة العقيقة فكان ماذا ؟ ليت شعري إذا لم يعرفها أبو حنيفة ما هذا بنكرة فطالما لم يعرف السنن ].(5)
وليت ابن حزم رحمه الله التمس عذراً لأبي حنيفة رحمه الله لكان أولى من هذا اللمز.
وأحسن الشوكاني إذ قال :[ وحكى صاحب البحر عن أبي حنيفة أن العقيقة جاهلية محاها الإسلام وهذا إن صح حمل على أنها لم تبلغه الأحاديث الواردة في ذلك ] (6)، وهكذا ينبغي أن نحسن الظن بعلمائنا فهم أتقى وأورع من أن يتعمدوا مخالفة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
أدلة الجمهور على أن العقيقة سنة :
1. عن سلمان بن عامر الضبي قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :( مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى ).
2. عن سمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى ).
3. عن أم كرز قالت : سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول :( عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ).
4. عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين .
5. عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة .(7)
وجه الاحتجاج بهذه الأحاديث :
قال الجمهور أن هذه الأحاديث تدل على أن العقيقة سنة مستحبة أكدها النبي- صلى الله عليه وسلم - بقوله وفعله ، حيث أنه قد عق الحسن والحسين رضي الله عنهما .
وقالوا أيضاً أن الأمر في حديث عائشة مصروف عن الوجوب إلى الندب ويؤيد ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلها لرغبة المسلم واختياره ، وما كان سبيله كذلك لا يكون واجباً ، فقد جاء في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : سئل النبي- صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة فقال :( لا يحب الله العقوق ) كأنه كره الاسم وقال :( من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك ).(8)
وقالوا أيضاً أنها لو كانت واجبة لكان وجوبها معلوماً من الدين لأن ذلك مما تدعو الحاجة إليه ، وتعم به البلوى فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبين وجوبها للأمة بياناً عاماً كافياً تقوم به الحجة ، وينقطع معه العذر .(9)
6. واحتجوا أيضاً بالإجماع على أنها سنة قال ابن قدامة :[ والإجماع ، قال أبو الزناد : العقيقة من أمر الناس كانوا يكرهون تركه ] (10)، وقول أبي الزناد من أمر الناس تفيد أن العقيقة متروكة لرغبتهم لم يوجبها الشارع ولو كانت واجبة لما تركوها كما أن ترك الواجب يكون حراماً وليس مكروهاً فقط .
7. وقالوا أنها ذبيحة لسرور حادث فلم تكن واجبة كالوليمة والنقيعة .(11)
8. وقالوا أيضاً فعله - صلى الله عليه وسلم - لها لا يدل على الوجوب إنما يدل على الاستحباب .(12)
9. وقالوا إنها إراقة دم من غير جناية ولا نذر فلم تجب كالأضحية .(13)
واحتج الظاهرية ومن وافقهم على أنها واجبة بما يلي :
1. حديث سلمان بن عامر الضبي السابق وفيه :( مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً ).
2. وحديث أم كرز السابق وفيه :( وعن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ).
3. وحديث سمرة السابق وفيه :( كل غلام رهينة بعقيقته ).
__________
(1) اللباب في الجمع بين السنة والكتاب 2/648 ، حاشية ابن عابدين 6/336 .
(2) الموطأ برواية محمد ص 226 ، وانظر بدائع الصنائع 6/2968 .
(3) الكفاية على الهداية 8/428 .
(4) الفتح الرباني 13/124 .
(5) المحلى 6/241 .
(6) نيل الأوطار 5/150 .
(7) سبق تخريج هذه الأحاديث .
(8) سبق تخريجه وانظر نيل الأوطار 5/150 .
(9) تحفة المودود ص 47 .
(10) المغني 9/459 ، وانظر أحكام الذبائح ص 173 .
(11) المغني 9/459 ، والنقيعة هي طعام يصنع عند قدوم المسافر .
(12) تحفة المودود ص 48 ، سبل السلام 4/180 .
(13) المهذب 8/426 ، مع المجموع .(/6)
وقد ساق ابن حزم هذه الأحاديث بإسناده بعدة روايات ثم قال :[ فهذه الأخبار نص ما قلنا وهو قول جماعة من السلف ] (1)، ثم ذكر آثاراً عن جماعة من السلف منهم : حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر ، وابن عباس ، وعطاء ، وابن عمر ، وبريدة الأسلمي ، ثم قال :[ أمره عليه الصلاة والسلام بالعققة فرض كما ذكرنا لا يحل لأحد أن يحمل شيئاً من أوامره عليه الصلاة والسلام على جواز تركها إلا بنص آخر وارد بذلك وإلا فالقول بذلك كذب وقفو لما لا علم لهم به ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) (2)، هذه حجج ابن حزم على الوجوب .
4. واحتج غيره على وجوبها بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بها وعمل بها ، وقال الغلام مرتهن بعقيقته ومع الغلام عقيقة .(3)
قالوا وهذا يدل على الوجوب من وجهين : أحدهما قوله مع الغلام عقيقة وهذا ليس إخباراً عن الواقع بل عن الواجب ثم أمرهم بأن يخرجوا عنه هذا الذي معه ، فقال : أهريقوا عنه دماً .(4)
5. واحتجوا أيضاً بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن :( الرسول - صلى الله عليه وسلم - امر بتسمية المولود يوم سابعه ووضع الأذى عنه والعق ).(5)
6. واحتجوا بحديث يوسف بن ماهك وفيه ان عائشة أخبرتهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - :( أمرهم عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة ).(6)
وجه الاستدلال بهذين الحديثين أن فيهما الأمر النبوي بالعقيقة والأصل في الأمر أن يحمل على الوجوب .
7. واحتجوا أيضاً بحديث يزيد ب عبد المزني عن أبيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال :( يعق عن الغلام ولايمس رأسه بدم ) (7)، وقالوا هذا خبر بمعنى الأمر .(8)
واحتج الحنفية بما يلي :
أولاً : بالنسبة للقول الأول عند الحنفية الذي يرى أن العقيقة مستحبة فأدلتهم عليه هي أدلة الجمهور السابقة .
ثانياً : بالنسبة للقول بأنها مباحة فاحتجوا عليه بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده السابق ، وفيه :( من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك ... الخ ) وهو يفيد الإباحة كما قالوا .(9)
ثالثاً : وأما قولهم بأنها منسوخة فدليلهم ما ذكره الكاساني :[ ولنا ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :( نسخت الأضحية كل دم كان قبلها ، ونسخ صوم رمضان كل صوم كان قبله ونسخت الزكاة كل صدقة كانت قبلها ) والعقيقة كانت قبل الأضحية فصارت منسوخة بها كالعتيرة ، والعقيقة ما كانت قبلها فرضاً بل كانت فضلاً وليس بعد نسخ الفضل إلا الكراهة بخلاف صوم عاشوراء ].(10)
واحتجوا أيضاً بما رواه أبو يوسف في الآثار عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم أنه قال :[ كانت العقيقة في الجاهلية فلما جاء الإسلام رفضت ] وبما رواه أبو يوسف أيضاً عن ابي حنيفة عن رجل عن محمد بن الحنفية :[ أن العقيقة كانت في الجاهلية فلما جاء الأضحى رفضت ].(11)
واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده السابق وفيه :( سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة ، فقال : لا يحب الله العقوق ).
واحتجوا أيضاً بحديث أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :( لما ولدت فاطمة حسناً ، قالت : ألا أعق عن ابني بدم ؟ قال : لا ، ولكن احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره فضة على المساكين والأوفاض . ففعلت ذلك فلما ولد حسيناً فعلت مثل ذلك ) وفي رواية أخرى قال عليه السلام :( لا تعقي عنه ) رواه الإمام أحمد وقال الهيثمي : رواه أحمد والطبراني في الكبير وهو حديث حسن .(12)
وقال الساعاتي :[ وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل ، فيه لين وله شواهد تعضده ولعل الحافظ الهيثمي حسن لذلك ].(13)
مناقشة وترجيح :
بعد إجالة النظر والفكر في أدلة العلماء في هذه المسألة يتضح لنا رجحان قول جمهور أهل العلم بأن العقيقة سنة مؤكدة وليست فرضاً واجباً كما قال الظاهرية وليست مكروهة أو منسوخة كما قال بعض الحنفية .
ومما يؤكد لنا هذا الترجيح :
إن الأدلة التي ساقها الظاهرية ومن وافقهم على وجوب العقيقة مصروفة عن ظاهرها بالنص وهو قوله عليه الصلاة والسلام :( من ولد له ولد فأحب أن يسنك عنه فلينسك ) فعلق ذلك على المحبة والاختيار فهذه قرينة منصوصة صرفت الأمر من الوجوب إلى الندب ، وأحاديثهم محمولة على تأكيد الاستحباب جمعاً بين الأخبار .
وأما أدلة الحنفية على كراهيتها أو نسخها فالجواب عنهما بما يأتي :
__________
(1) المحلى 6/336 .
(2) المحلى 6/337 ، والحديث الذي ذكره ابن حزم رواه البخاري ومسلم .
(3) انظر تحفة المودود ص 43 .
(4) المصدر السابق ص 46 .
(5) سبق تخريجه .
(6) سبق تخريجه .
(7) سبق تخريجه .
(8) تحفة المودود ص 47 .
(9) اللباب 2/648 .
(10) بدائع الصنائع 6/2968 .
(11) كتاب الآثار ص 238 .
(12) مجمع الزوائد 4/57 .
(13) الفتح الرباني 13/126-127 ، والأوفاض أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محتاجون كانوا في المسجد أو في الصفة . المصدر السابق .(/7)
1. إن الحديث الذي احتج به الحنفية أولاً :( نسخت الأضحية كل دم كان قبلها ...) حديث ضعيف لا يصح الاحتجاح به ، وقد روي هذا الحديث من عدة طرق ذكراها الدارقطني في سننه وبين ضعفها كما يلي :
أ. حدثنا ابي أن محمد بن حرب نا أبو كامل نا الحارث بن نبهان نا عتبة بن بقظان عن الشعبي عن علي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( محى ذبح الأضاحي كل ذبح قبله ... ) هذا الحديث فيه عتبة بن يقظان وهو متروك كما قال الدارقطني (1)، وقال الحافظ في التقريب : ضعيف .(2)
ب. نا محمد بن يوسف بن سليمان الخلال نا الهيثم بن سهل نا المسيب بن شريك نا عبيد المكتب عن عامر عن مسروق عن علي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( نسخ الأضحى كل ذبح ... ) هذه الرواية فيها المسيب بن شريك قال فيه يحيى بن معين :[ ليس بشيء . وقال أحمد : ترك الناس حديثه . وقال مسلم : متروك ].(3)
جـ. نا محمد بن عبد الله الشافعي نا محمد بن تمام بن صالح النهراني بحمص نا المسيب بن واضح نا المسيب بن شريك عن عتبة بن يقظان عن الشعبي عن مسروق عن علي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن ونسخ صوم رمضان كل صوم ونسخ غسل الجنابة كل غسل ونسخت الأضاحي كل ذبح ) (4)، وفيه أيضاً المسيب بن شريك وعتبة بن يقظان وعرفت ما قيل فيهما فلا يحتج بهما ، وقال صاحب التعليق المغني على الدار قطني :[ حديث علي مروي من طرق وكلها ضعاف لا يصح الاحتجاج بها ] (5)، وقال النووي :[ اتفق الحفاظ على ضعفه ].(6)
وأجاب ابن حزم عن احتجاجهم بنسخ الأضحى كل ذبح قبله بقوله :[ واحتج من لم يرها واجبة برواية واهية عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين :( نسخ الأضحى كل ذبح كان قبله ) وهذا لا حجة فيه لأنه قول محمد بن علي ، ولا يصح دعوى النسخ إلا بنص مسند إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ].(7)
وقال الإمام أحمد في الأحاديث المعارضة لأحاديث العقيقة :[ ليست بشيء ولا يعبأ بها ].(8)
وادعاء الحنفية بأن الأضحية نسخت العقيقة باطل لأن الأضحية شرعت في السنة الثانية للهجرة وعق النبي عن الحسن والحسين في السنتين الثالثة والرابعة ، وحديث أم كرز في العقيقة كان عام الحديبية وهو في السنة السادسة للهجرة والعقيقة عن إبراهيم ابن رسول الله كانت سنة ثمان للهجرة ، فكيف ينسخ المتقدم المتأخر وهذا باطل .(9)
وأما احتجاج الحنفية بحديث :( لا يحب الله العقوق ) فلا دلالة فيه على كراهة العقيقة لأن بقية الحديث تثبتها وهي :( من ولد له فأحب أن ينسك عن ولده فلينسك ).
قال البغوي :[ وليس هذا الحديث عند العامة على توهين أمر العقيقة ولكنه كره تسميتها بهذا الإسم على مذهبه في تغيير الاسم القبيح إلى ما هو أحسن منه فأحب أن يسميها من نسيكة أو ذبيحة أو نحوها ].(10)
وأما الجواب عن احتجاجهم بحديث :( لا تعقي ) ما قاله الحافظ العراقي في شرح الترمذي يحمل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عق عنه ثم استأذنته فاطمة أن تعق هي عنه أيضاً فمنعها .
وقال الحافظ بن حجر :[ ويحتمل أن يكون منعها لضيق ما عندهم حينئذ فأرشدها إلى نوع من الصدقة أخف ، ثم تيسر له عن قرب ما عق به عنه ].(11)
وقال ابن القيم :[ ولو صح قوله لا تعقي عنه لم يدل ذلك على كراهية العقيقة لأنه عليه الصلاة والسلام أحب أن يتحمل عنها العقيقة فقال لها :( لا تعقي ) وعق هو عليه الصلاة والسلام عنهما وكفاهما المؤنة ].(12)
وقال الشوكاني :[ قوله :( لا تعقي ) قيل يحمل هذا على أنه قد كان- صلى الله عليه وسلم - عق عنه ، وهذا متعين ].(13)
هذا هو الظاهر لأن الأحاديث قد ثبتت ثبوتاً لا مجال للشك فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين فحصل أصل السنة بعق الرسول عنهما ولا داع لأن تعق فاطمة عنهما مرة ثانية . والله أعلم .
المبحث السابع
شروط العقيقة
أولاً : أن تكون العقيقة من الأنعام وهي الضأن والمعز والإبل والبقر ولا تصح العقيقة بغير هذه الأنواع كالأرنب والدجاجة والعصفور وهذا قول جماهير أهل العلم من الفقهاء والمحدثين وغيرهم .(14)
__________
(1) سنن الدار قطني 4/281 ، التعليق المغني على الدار قطني 4/278 .
(2) التقريب ص 232 .
(3) التعليق المغني على الدار قطني 4/279 .
(4) سننالدار قطي 4/281 .
(5) التعليق المغني على الدارقطني 4/278 .
(6) المجموع 8/386 .
(7) المحلى 6/241 .
(8) تحفة المودود ص 37 .
(9) انظر التعليق المغني على الدارقطني 4/279-280 .
(10) شرح السنة 1/263-264 .
(11) فتح الباري 12/13 .
(12) تحفة المودود ص 37-38 .
(13) نيل الأوطار 5/155 .
(14) انظر المجموع 8/448 ، الخرشي 3/47 ، بداية المجتهد 1/376 ، كفاية الأخيار 535 ، فتح الباري 6/10 .(/8)
وخالف في ذلك ابن حزم الظاهري فقال :[ ولا يجزئ في العقيقة إلا ما يقع عليه اسم الشاه إما من الضأن وإما من الماعز فقط ولا يجزئ في ذلك من غير ما ذكرنا لا من الإبل ولا من البقر الإنسية ولا من غير ذلك ] (1)، ونقل هذا القول عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر وهو رواية عن الإمام مالك وهو البندنيجي من الشافعية .(2)
واحتج هؤلاء بظاهر الأحاديث التي ذكر فيها لفظ الشاة والكبش كحديث ابن عباس :( عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً ) وكحديث أم كرز :( عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة ) قالوا لفظ الشاة يطلق على الواحدة من الضأن والمعز .
قال ابن حزم :[ واسم الشاة يقع على الضائنة والماعز بلا خلاف ] (3)، واحتج ابن حزم أيضاً بما رواه بسنده عن يوسف بن ماهك أنه دخل على حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر وقد ولدت للمنذر بن الزبير فقلت لها :( هلا عققت جزوراً عن ابنك قالت : معاذ الله كانت عمتي عائشة تقول على الغلام شاتان وعلى الجارية شاة ) (4)، وأما الجمهور فيمكن الاحتجاج لهم بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :( مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً ) ولم يذكر دماً فما ذبح عن المولود على ظاهر هذا الخبر يجزئ كذا قال ابن المنذر (5) وفيه ضعف .
ولعل الأصح في الاحتجاج لقول الجمهور هو قياس العقيقة على الأضحية والهدي كما ذهب إليه كثير من العلماء ، قال الإمام مالك :[ وإنما هي - العقيقة - بمنزلة النسك والضحايا ] (6)، وأشار إليه النووي وابن قدامة وغيرهما (7). وكذلك نقل عن جماعة من السلف جواز العقيقة من الإبل والبقر فعن قتادة :( أن أنس بن مالك كان يعق عن بنيه الجزور ) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح قاله الهيثمي (8) وعن أبي بكرة أنه نحر عن ابنه عبد الرحمن جزوراً فأطعم أهل البصرة .(9)
وأما إدعاء ابن حزم بأن ذكر الشاة في الأحاديث يعني عدم جواز أن تكون العقيقة من الإبل والبقر فمردود لأن الأحاديث لا تحصر العقيقة في الشياه وإنما ذلك سبيل التمثيل ولأنه المتيسر للناس أكثر من الإبل والبقر واعتاد الناس على ذبح الشياه أكثر من الإبل والبقر .(10)
قال الشوكاني :[ ولا يخفى أن مجرد ذكرها - الشاة - لا ينفي إجزاء غيرها ] (11)، هذا من جهة ومن جهة أخرى لا نسلم أن لفظ الشاة خاص بالضأن والمعز صحيح أنه المشهور في ذلك ولكن ورد في اللغة إطلاق الشاة على البقر وغيرها ، قال ابن منظور :[ والشاة الواحد من الغنم تكون للذكر والأنثى وقيل الشاة تكون من الضأن والمعز والظبا والبقر والنعام وحمر الوحش ] (12)، وخلاصة القول أنه يجوز أن تكون العقيقة من الضأن والمعز والإبل والبقر كما قال الجمهور .
ووقع خلاف في الأفضل من هذه الأنواع :
- فقال الشافعي وبعض المالكية أن البدنة والبقرة أفضل من الغنم قالوا لأنها نسك فوجب أن يكون الأعظم فيها أفضل قياساً على الهدايا .(13)
- وقال الإمام مالك :[ الضأن أفضلها ثم المعز أحب إليه من الإبل والبقر لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين بشاة شاة ].
ثانياً : أن تكون العقيقة سليمة من العيوب وهذا مذهب جمهور أهل العلم (14). والمقصود بالعيوب هي ذاتها التي تمنع الإجزاء في الأضحية كما نص عليه كثير من أهل العلم .
قال الإمام مالك :[ وإنما هي - العقيقة - بمنزلة النسك والضحايا لا يجوز فيها عوراء ولا عجفاء ولا مكسورة القرن ولا مريضة ... ].(15)
وقال الإمام الترمذي :[ وقال أهل العلم لا يجزئ العقيقة من الشاة إلا ما يجزئ في الأضحية ].(16)
وبناء على ذلك لا يجزئ في العقيقة العرجاء البين عرجها ، ولا العوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها ، ولا العجفاء الهزيلة ، ولا العمياء ، ولا الكسيرة ، ولا الكسيحة .
__________
(1) المحلى 6/234 .
(2) شرح السنة 11/264 ، المنتقى 3/103 ، فتح الباري 6/10 .
(3) المحلى 6/237 .
(4) المحلى 6/236 ، تحفة المودود ص 56 .
(5) الموطأ بهامش المنتقى 3/103 .
(6) المجموع 8/429 ، المغني 9/463 .
(7) مجمع الزوائد 4/59 ، وانظر الفتح الرباني 13/124 ، تحفة المودود ص 65 ، شرح السنة 11/264 .
(8) تحفة المودود ص 65 .
(9) أحكام الذبائح ص 177 .
(10) نيل الأوطار 5/156 .
(11) لسان العرب 7/244 .
(12) كفاية الأخيار ص 535 ، بداية المجتهد 1/376 والهدايا جمع هدي .
(13) المنتقى 3/103 ، كفاية الأخيار ص 535 .
(14) المجموع 8/429-430 ، المغني 9/463 ، شرح السنة 11/267 ، حاشية العدوي على الخرشي 3/47 ، بداية المجتهد 1/377 ، كفاية الأخيار ص 535 ، تحفة المودود ص 63 .
(15) الموطأ بهامش المنقى 3/103 .
(16) سنن الترمذي 4/101 .(/9)
والعقيقة قربة يتقرب بها العبد إلى الله سبحانه وتعالى فينبغي أن تكون سليمة من العيوب سمينة فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً . وخالف ابن حزم فأجاز المعيبة ولم يشترط سلامة العقيقة من العيوب وإن كان الأفضل عنده هو السلامة من العيوب فقال :[ ويجزئ المعيب سواء كان مما يجوز في الأضحية أو كان مما لا يجوز فيها والسالم أفضل ].(1)
وقول الجمهور أقوىوأولى وقد ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول :( ائتوني به أعين أقرن ).
وقال ابن قدامة :[ يستحب استشراف العين والأذن كما ذكرنا في الأضحية سواء لأنها تشبهها فتقاس بها عليها ].(2)
ثالثاً : أن تتوافر الأسنان المطلوبة في العقيقة كما هو الحال في الأضحية فلا تجوز العقيقة بالغنم إلا إذا أتمت الشاة سنة من عمرها وهذا القول بناء على إلحاق العقيقة بالأضحية .
نقل الخلال في الجامع أن الإمام أحمد قال :[ وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :( من ولد له فأحب أن ينسك عنه فليفعل ) فالدليل على أنه إنما يجزئ فيها ما يجزئ في النسك سواء من الضحايا والهدايا ولأن ذبح مسنون إما واجباً وإما استحباباً يجري مجرى الهدي والأضحية في الصدقة والهدية والأكل والتقرب إلى الله فاعتبر فيها السن الذي يجزئ فيهما ولأنه شرع بوصف التمام والكمال ولهذا شرع في حق الغلام شاتان وشرع أن تكونا متكافئتين لا ينقص أحدهما عن الأخرى فاعتبر أن يكون سنهما سن الذبائح المأمور بها ولهذا جرت مجراها في عامة أحكامها ].(3)
قال ابن قدامة :[ وجملته أن حكم العقيقة حكم الأضحية في سنها ] (4)، وقال ابن رشد :[ وأما سن هذا النسك وصفته فسن الضحايا وصفتها الجائزة ].(5)
وقال النووي :[ المجزئ في العقيقةهو المجزئ في الأضحية فلا تجزئ دون الجذعة من الضأن أو الثنية من المعز والإبل والبقر هذا هو الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور وفيه وجه حكاه الماوردي وغيره أنه يجزئ دون جذعة الضأن وثنية المعز والمذهب الأول ].(6)
والوجه الذي حكاه الماوردي نصره الشوكاني وقال أنه الحق (7)، فلا يشترط عنده أن تتوافر في العقيقة الأسنان المطلوبة شرعاً في الأضحية .
المبحث الثامن
ما هو الأفضل في العقيقة
العقيقة قربة يتقرب بها العبد إلى ربه عز وجل فينبغي أن تكون أطيب ما تكون من حيث السلامة من العيوب وبلوغ السن المطلوب شرعاً كما سبق وكذلك ينبغي استسمانها واستعظامها واستحسانها وأن تكون خالية من كل ما تنفر منه الطباع السليمة .
وقد رود في الحديث عن أم كرز :( عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ).
قال أبو داود :[ سمعت أحمد قال : مكافئتان مستويتان أو متقاربان ] (8)، ووقع في رواية أخرى ( مثلان ) رواه أبو داود أيضاً .
ولا بأس أن تكون العقيقة من الذكور والإناث لما في حديث أم كرز :( لا يضركم اذكرانا من أم إناثاً ). والذكر أفضل إذا كان أسمن وأطيب ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام عق عن الحسن والحسين بالكباش .
والأفضل في لونها البياض قياساً على الأضحية ، وقالت عائشة :( ائتوني به أعين أقرن ).(9)
وورد عن الإمام أحمد أنه سئل عن العقيقة :[ تجزئ بنعجة أو حمل كبير ؟ قال : فحل خير ].(10)
المبحث التاسع
العقيقة أفضل من التصدق بثمنها ولو زاد
إن إحياء السنن مطلوب للمسلم لذلك نص الفقهاء على أن العقيقة أفضل من التصدق بثمنها ولو زاد الثمن عن قيمة العقيقة وإنني خلال بحثي لموضوع العقيقة لم أجد أحداً من أهل العلم قال بإخراج القيمة في مسألة العقيقة وكلهم فيما أعلم على أن الأصل هو اتباع السنة النبوية في هذا المقام ، قال النووي :[ العقيقة أفضل من التصدق بثمنها عندنا وبه قال أحمد وابن المنذر ] (11)، بل أن الإمام أحمد يرى أنه يستحب للمسلم إن كان معسراً أن يستقرض ويشتري عقيقة ويذبحها وقد ورد عدة نصوص في هذه المسألة منها :
1. قال الخلال :[ باب ما يستحب من العقيقة وفضلها على الصدقة أخبرنا سليمان ابن الأشعث قال : سئل أبو عبد الله وأنا أسمع عن العقيقة أحب إليك أو يدفع ثمنها للمساكين ؟ قال : العقيقة ].
2. وفي رواية أبي الحارث وقد سئل عن العقيقة أن استقرض قال أحمد :[ رجوت أن يخلف الله عليه ، أحيا سنة ].
__________
(1) المحلى 6/434 .
(2) المغني 9/463 .
(3) تحفة المودود ص 63 .
(4) المغني 9/369 .
(5) بداية المجتهد 1/377 .
(6) المجموع 8/429 .
(7) نيل الأوطار 5/156 .
(8) عون المعبود 8/25 .
(9) المغني 9/460 ، الفتح الرباني 13/121 ، عون المعبود 8/27 ، فتح الباري 6/9 .
(10) تحفة المودود ص 63 .
(11) المجموع 8/433 ، وانظر الإنصاف 4/110 .(/10)
3. وقال له صالح ابنه :[ الرجل يولد له وليس عنده ما يعق أحب إليك أن يستقرض ويعق عنه أم يؤخر ذاك حتى يوسر ؟ قال : أشد ما سمعنا في العقيقة حديث الحسن عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :( كل غلام مرتهن بعقيقته ) وإني لأرجو أن استقرض أن يعجل الله الخلف لأنه أحيا سنة من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتبع ما جاء عنه .(1)
وعقب ابن المنذر على هذه الروايات بقوله :[ صدق أحمد إحياء السنن واتباعها أفضل وقد ورد فيها من الأخبار التي رويناها مالم يرد في غيرها ].(2)
وقال بان القيم معقباً على كلام الإمام أحمد ما نصه :[ وهذا لأنه سنة ونسيكة مشروعة بسبب تجدد نعمة الله على الوالدين وفيها سر بديع موروث عن فداء إسماعيل بالكبش الذي ذبح عنه وفداه الله به فصار سنة في أولاده بعده أن يفدي أحدهم عند ولادته كما كان ذكر اسم الله عليه عند وضعه في الرحم حرزاً له من ضرر الشيطان ... ] إلى أن قال :[ فكان الذبح في موضعه أفضل من الصدقة بثمنه ولو زاد في الهدايا والأضاحي فإن نفس الذبح وإراقة الدم مقصود فإنه عبادة مقرونة بالصلاة كما قال تعالى :( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) وقال :( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ففي كل ملة صلاة ونسيكة لا يقوم غيرهما مقامهما ولهذا لو تصدق عن دم المتعة والقرآن بأضعاف القيمة لم يقم مقامه ].(3)
المبحث العاشر
هل يصح الاشتراك في العقيقة ؟
وتوضيح المسألة : أن يشترك سبعة أشخاص في جزور أو بقرة عن سبعة أولاد أو يشترك سبعة بعضهم يريد اللحم وبعضهم يريد العقيقة في جزور أو بقرة .
والمسألة فيها قولان :
1. القول الأول : يجوز ذلك وهو قول الشافعية، قال النووي :[ ولو ذبح بقرة أو بدنة عن سبعة أولاد أو اشترك فيها جماعة جاز سواء أرادوا كلهم العقيقة أو أراد بعضهم العقيقة وبعضهم اللحم كما سبق في الأضحية ].(4)
2. القول الثاني : لا يجوز ذلك فإذا أراد أن يعق ببقرة أو جزور فيجوز ذلك عن مولود واحد فقط وهو قول الحنابلة ونص عليه الإمام أحمد (5). قال الخلال في جامعة باب حكم الجزور عن سبعة :[ أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد أنه قال لأبي عبد الله - الإمام أحمد - يعق بجزور وقال الليث قد عق بجزور . قلت : يعق بجزور عن سبعة ؟ أنا لم اسمع في ذلك بشيء ورأيته لا ينشط لجزور عن سبعة في العقوق .(6)
فالحنابلة يرون أن الرأس من البقر أو الإبل يجزئ عن مولود واحد فقط ولا يصح أن تكون البقرة عن سبعة ولا الناقة عن سبعة وهو قول المالكية فيما يظهر لي .(7)
وحجة الشافعية القياس على الأضحية والهدي حيث يجوز الاشتراك في الأضحية والهدي والبدنة أو البقرة عن سبعة أشخاص فقد ورد في الحديث عن جابر قال :( نحرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة ) رواه الترمذي وقال هذا حديث صحيح حسن والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم .(8)
وحجة الحنابلة في عدم الجواز عدم ورود دليل على ذلك (9)، وعلل ابن القيم عدم جواز الاشتراك في العقيقة بكلام لطيف حيث قال :[ لما كانت هذه الذبيحة جارية مجرى فداء المولود كان المشروع فيها دماً كامله لتكون نفس فداء نفس وأيضاً لو صح فيها الاشتراك لما حصل المقصود من إراقة الدم عن الولد فإن إراقة الدم تقع عن واحد ويحصل لباقي الأولاد إخراج اللحم فقط والمقصود نفس الإراقة عن الولد وهذا المعنى بعينه هو الذي لحظه من منع الاشتراك في الهدي والأضحية ولكن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق وأولى أن تتبع وهو الذي شرع الاشتراك في الهدايا وشرع في العقيقة عن الغلام دمين مستقلين لا يقوم مقامهما جزور ولا بقرة والله أعلم ] (10)، كذا قال وينبغي أن يقال سبع جزور ولا سبع بقرة .
ومع أن الحنابلة ممن يرون أن حكم العقيقة هو حكم الأضحية إلا أنهم استثنوا هذه المسألة من ذلك كما ذكر المرداوي :[ ويستثنى من ذلك أنه لا يجزئ فيها شرك في بدنة ولا بقرة ].(11)
وقال ابن القيم :[ ولا يجزئ الرأس إلا عن رأس هذا بتمامه تخالف فيه العقيقة الأضحية والهدي ].(12)
__________
(1) تحفة المودود ص 50-51 .
(2) المغني 9/460 .
(3) تحفة المودود ص 51 .
(4) المجموع 98/429 ، وانظر مغني المحتاج 4/293 .
(5) الإنصاف 4/113 ، كشاف القناع 3/25 ، الفروع 3/564 .
(6) تحفة المودود ص 64 .
(7) لم أقف على نص صريح عن المالكية في هذه المسألة إلا ما قاله الباجي في مسألة التوأمين كما سيأتي في آخر هذه المسألة .
(8) سنن الترمذي 4/89-91 .
(9) كشاف القناع 3/25 .
(10) تحفة المودود ص 64 .
(11) الإنصاف 4/113 .
(12) تحفة المودود ص 64 .(/11)
ويلحق بهذه المسألة ما لو ولدت امرأة توأمين فبم يعق عنهما ؟ قال الحافظ ابن حجر :[ فلو ولد إثنان في بطن استحب عن كل واحد عقيقة . ذكره ابن عبد البر عن الليث وقال : لا أعلم عن أحد من العلماء خلافه ] (1)، وقال الباجي :[ لا يجوز الاشتراك فيها فلا يعق عن ابنين بشاة واحدة وإذا ولدت المرأة توأمين ففي كل واحدة شاة ].(2)
المبحث الحادي عشر
في تفاضل الذكر والأنثى في العقيقة
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
القول الأول : عن الغلام شاتان وعن الأنثى شاة واحدة وبه قال الشافعية والحنابلة والظاهرية وهو قول ابن عباس وعائشة وإسحاق وأبو ثور وغيرهم (3). إلا أنه ينبغي أن يعلم أن الظاهرية يرون أن الشاتين عن الغلام على سبيل الوجوب فلو عق عن الغلام شاة واحدة لا يجزئ (4)، وهو قول الشوكاني (5)، بخلاف بقية العلماء المذكورين أعلاه ، فيرون أن الأكمل والأفضل شاتان عن الغلام فإن لم يتيسر فتجزئ شاة عن الغلام . قال النووي :[ السنة أن يعق عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة ، فإن عق عن الغلام شاة حصل أصل السنة ] (6)، وقال المرداوي :[ إن خالف وعق عن الذكر بكبش أجزأ ].(7)
القول الثاني : يذبح عن الغلام شاة واحدة وكذلك الأنثى شاة واحدة وبه قال الإمام مالك والهادوية ، ونقل عن ابن عمر وعروة بن الزبير واسماء بنت أبي بكر .(8)
القول الثالث : أن العقيقة عن الغلام فقط ولا عقيقة عن الأنثى وهذا منقول عن الحسن البصري ومحمد بن سيرين وقتادة وشقيق بن سلمة .(9)
أدلة الفريق الأول : احتجوا بما يلي :
1. حديث أم كرز وفيه سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول :( عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ) ، وفي رواية أخرى :( عن الغلام شاتان وعن الأنثى واحدة لا يضركم ذكراناً كن أم إناثاً ).
2. حديث حفصة أن عائشة أخبرتها أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال :( عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة ).
3. وفي رواية أخرى أن عائشة :( أخبرتهم أن الرسول أمرهم عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ).
4. حديث أسماء بنت يزيد أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال :( العقيقة عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ) وقد أخذ الظاهرية بظاهر هذه الأحاديث وتمسكوا بألفاظها فأوجبوا عن الغلام شاتان وعن الأنثى شاة .
5. حديث عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده وفيه :( من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ).(10)
وهذه الأحاديث ظاهرة في التفاضل بين الذكر والأنثى في العقيقة وقد علل ابن القيم هذا التفاضل بين الذكر والأنثى بقول :[ وهذه قاعدة الشريعة فإن الله سبحانه وتعالى فاضل بين الذكر والأنثى وجعل الأنثى على النصف من الذكر في المواريث والديات والشهادات والعتق والعقيقة كما رواه الترمذي وصححه من حديث أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( أيما امرئ مسلم أعتق مسلماً كان فكاكه من النار يجزئ كل عضو منه عضواً منه ، وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزىء كل عضو منهما عضواً منه ). وفي مسند الإمام أحمد من حديث مرة بن كعب السلمي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :( أيما رجل أعتق رجل مسلماً كان فكاكه من النار يجزئ بكل عضو من أعضائه عضواً من أعضائه ، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار يجزئ بكل عضو من أعضائها عضواً من أعضائها ). رواه أبو داود في السنن فجرت المفاضلة في العقيقة هذا المجرى لو لم يكن فيها سنة كيف والسنن الثابتة صريحة بالتفضيل (11)، وقال ابن القيم أيضاً :[ إن الله سبحانه وتعالى فضل الذكر على الأنثى كما قال :( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ) آل عمران الآية 36 . ومقتضى هذا التفاضل ترجيحه عليها في الأحكام وقد جاءت الشريعة بهذا التفضيل في جعل الذكر كالأنثيين في الشهادة والميراث والدية فكذلك ألحقت العقيقة بهذه الأحكام ].(12)
أدلة الفريق الثاني : احتجوا بما يلي :
1. عن ابن عباس :( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشا ).
2. عن أنس بن مالك قال :( عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن والحسين بكبشين ).(13)
__________
(1) فتح الباري 12/9 .
(2) المنتقى 3/103 ، وانظر حاشية العدوي على شرح الخرشي 3/47 .
(3) المجموع 8/447-448 ، المغني 9/460 ، بداية المجتهد 1/376 ، المحلى 6/241 .
(4) المحلى 6/242 .
(5) السيل الجرار 4/91 .
(6) المجموع 8/429 .
(7) الإنصاف 4/110 .
(8) الخرشي 3/47 ، بداية المجتهد 1/376 ، سبل السلام 4/181 ، المجموع 8/447 ، شرح السنة 11/265 .
(9) المجموع 8/448 ، المغني 9/460 ، تحفة المودود ص 52 ، بداية المجتهد 1/376 ، المحلى 6/242 .
(10) سبق تخريج هذه الأحاديث .
(11) تحفة المودود ص 53-54 .
(12) زاد المعاد 2/331 .
(13) سبق تخريج الحديثين .(/12)
3. روى أبو داود بسنده عن عبد الله بن بريدة قال : سمعت أبي بريدة يقول :( كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران ) رواه أبو داود والنسائي وأحمد والبيهقي وقال الحافظ في التلخيص : وسنده صحيح . وقال الشيخ الألباني : حسن صحيح . وصححه الحاكم وقال : على شرط الشيخين . ووافقه الذهبي . وقال الشيخ الألباني : إنما هو على شرط مسلم .(1)
4. عن ابن عمر أنه كان يعق عن ولده بشاة شاة للذكور والإناث .
5. عن عروة بن الزبير أنه كان يعق عن بنيه الذكور والإناث بشاة شاة . رواهما مالك في الموطأ وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط : وإسنادهما صحيح .(2)
6. عن أسماء بنت أبي بكر :( أنها كانت تعق عن بنيها وبني بنيها شاة شاة الذكر والأنثى ).(3)
7. قالوا إن هذا ذبح متقرب به فاستوى فيها الذكر والأنثى كالأضحية والهدي وهذا ما تدل عليه الأحاديث السابقة من استواء الذكر والأنثى في العقيقة .(4)
أدلة الفريق الثالث : واحتجوا بما يلي :
1. بحديث سلمان بن عامر الضبي قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :( مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً ... ).
2. وعن سمرة أنه عليه الصلاة والسلام قال :( كل غلام مرتهن بعقيقته ... ).
3. وعن أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال :( مع الغلام عقيقة ... ). (5)
تمسك هؤلاء بظاهر قوله عليه الصلاة واسللام :( مع الغلام ) والغلام اسم الذكر دون الأنثى (6). وقال ابن قدامة محتجاً لهؤلاء :[ لأن العقيقة شكر للنعمة الحاصلة بالولد والجارية لا يحصل بها سرور فلا يشرع لها عقيقة ] (7)، وهذا التعليل مستبعد عن هؤلاء العلماء الأجلاء فكيف لا يحصل بولادة الأنثى سورو عند المسلم وهو يعلم أن ذلك بيد الله سبحانه ولقد نعى الله على أهل الجاهلية تشاؤمهم بقدوم الأنثى وأبطل ذلك قول تعالى :( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ).(8)
فلا يقبل من المسلم أن يتذمر إذا رزق ببنت أو بنات فإن الأمور كلها بيد الله سبحانه وتعالى وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل من ربى البنات وعلمهن وأدبهن وصبر عليهن وأنهن يكن له حجاباً من النار .
مناقشة وترجيح :
الذي يظهر للناظر والمتمعن في أدلة العلماء في هذه المسألة أن قول الجمهور هو أرجحها لما يلي :
1. إن حديث ابن عباس ورد برواية أخرى وفيها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - :( عق عن الحسن والحسين بكبشين كبشين ) قال الشيخ الألباني عن الرواية الأولى لحديث ابن عباس :[ صحيح لكن في رواية النسائي كبشين كبشين وهو الأصح ].(9)
2. إن الروايات التي ذكرت شاتين عن الغلام تضمنت زيادة على الأخرى وزيادة الثقة مقبولة لا سيما إذا جاءت من طرق مختلفة المخارج كما هو الشأن هنا .(10)
3. أن الأحاديث التي ذكرت شاتين عن الغلام من قول النبي- صلى الله عليه وسلم - والتي ذكرت شاة عن الغلام من فعله وإذا تعارضا فالقول مقدم على الفعل لأن القول عام وفعله يحتمل الاختصاص به - صلى الله عليه وسلم - .(11)
4. إن قصة الذبح عن الحسن والحسين كانت عام أحد والعام الذي بعده والذي ثبت عن أم كرز أنها سألت الرسول - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية أي سنة ست للهجرة ، فقد روى ابن حزم بسنده عن أم كرز قالت :( أتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بالحديبية أسأله عن لحوم الهدي فسمعته يقول : على الغلام شاتان وعلى الجارية شاة ، لا يضركم ذكراناً كانت أم إناثاً ) ، فيؤخذ من هذا أن حديث أم كرز متأخر عن قصة العقيقة عن الحسن والحسين فيكون الحكم للقول المتأخر لا للفعل المتقدم .(12)
__________
(1) عون المعبود 8/33 ، صحيح سنن أبي داود 2/548 ، التلخيص الحبير 4/147 ، سنن البيهقي 6/101 ، المستدرك 4/238 ، إرواء الغليل 4/389 .
(2) موطأ مالك بهامش المنتقى 3/102 ، شرح السنة 11/265 الهامش .
(3) شرح السنة 11/265 .
(4) المنتقى 3/102 ، بداية المجتهد 1/376 .
(5) سبق تخريج هذه الأحاديث الثلاثة .
(6) تحفة المودود ص 52 .
(7) المغني 9/460 .
(8) سورة النحل الآيتان 58-59 .
(9) صحيح سنن أبي داود 2/547 .
(10) المحلى 6/242 ، زاد المعاد 2/330 ، إرواء الغليل 4/384 .
(11) زاد المعاد 2/330 .
(12) المحلى 6/242 ، زاد المعاد 2/331 .(/13)
5. روى ابن حزم بسنده عن جعفر محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده :( أن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقت عن الحسن والحسين حين ولدتهما شاة شاة )، ثم قال ابن حزم :[ لا شك في أن الذي عقت به فاطمة رضي الله عنها هو غير الذي عق به رسول الله فاجتمع من هذين الخبرين عق عن كل واحد منهما بكبش وعقت فاطمة عن كل واحد منهما بشاة فحصل عن كل واحد منهما كبش وشاة كبش وشاة ].(1)
ويمكنني القول بأنه يمكن الجمع بين أدلة الجمهور وأدلة الفريق الثاني فنعمل بموجب تلك الأدلة مجتمعة فيكون الأكمل والأفضل في هذه السنة النبوية ذبح شاتين عن الغلام وإن لم يتيسر ذلك أو اقتصر على شاة واحدة عن الغلام أجزأ وحصل المقصود بهذه السنة .
قال الإمام النووي :[ السنة أن يعق عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة فإن عق عن الغلام شاة حصل أصل السنة ].(2)
وقال الصنعاني :[ يجوز أنه - صلى الله عليه وسلم - ذبح عن الذكر كبشاً لبيان أنه يجزئ وذبح الأثنين مستحب ].(3)
وأما ما احتج به الفريق الثالث على عدم مشروعية العقيقة عن الأنثى فترده الأحاديث الثابتة في ذلك كحديث أم كرز وعائشة واسماء ولعل هذه الأحاديث لم تبلغهم . والله أعلم .
المبحث الثاني عشر
التصرف بالعقيقة
أولاً : الانتفاع بها :
حكم العقيقة بعد ذبحها حكم الأضحية من حيث التصرف فيها عند أهل العلم فتوزع أثلاثاً ، ثلث لأهل البيت وثلث للصدقة وثلث للهدية .
قال النووي :[ ويستحب أن يأكل منها ويتصدق ويهدي كما قلنا في الأضحية ] (4)، واستحب كثير من أهل العلم أن لا يتصدق بلحمها نيئاً بل يطبخ ويتصدق به على الفقراء بإرساله لهم وفضلوا ذلك على دعوة الفقراء إلى بيت صاحبها .
ولو دعا إليها قوماً فلا بأس في ذلك فيجوز لصاحبه أن يأكل منها وأن يطبخها ويرسل منها إلى الفقراء ويجوز أن يدعو اصدقائه وأقاربه وجيرانه والفقراء إلى أكلها في بيته فله أن يتصرف فيها كيفما يشاء . قال محمد بن سيرين من التابعين :[ إصنع بلحمها كيف شئت ] (2) وفضل الإمام أحمد طبخها :[ فقد قيل له : تطبخ العقيقة ؟ قال : نعم . قيل له : يشتد عليهم طبخها . قال : يتحملون ذلك ].
قال ابن القيم :[ وهذا لأنه إذا طبخها فقد كفى المساكين والجيران مؤنة الطبخ وهو زيادة في الإحسان وفي شكر هذه النعمة ، ويتمتع الجيران والأولاد والمساكين بها هنيئة مكفية المؤنة فإن من أهدي إليه لحم مطبوخ مهيأ للأكل مطيب كان فرحه وسروره به أتم من فرحه بلحم نيء يحتاج إلى كلفة وتعب ].(5)
وقد ورد عن الإمام مالك أنه عق عن ولد له فوصف لنا كيف صنع بالعقيقة ، قال مالك في المبسوط :[ عققت عن ولدي وذبحت ما أريد أن أدعو إليه إخواني وغيرهم ، وهيأت طعامهم ، ثم ذبحت شاة العقيقة فأهديت منها للجيران ، وأكل منها أهل البيت ، وكسروا ما بقي من عظامها فطبخت ، فدعونا إليها الجيران فأكلوا وأكلنا ، قال مالك : فمن وجد سعة فأحب له أن يفعل هذا ومن لم يجد فليذبح عقيقة ثم ليأكل وليطعم منها ].(6)
واستحب بعض أهل العلم أن تعطى القابلة رجل العقيقة واحتجوا بما ورد عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين رضي الله عنهما :( أن ابعثوا إلى بيت القابلة برجل وكلوا وأطعموا ولا تكسروا منها عظماً ) رواه أبو داود في المراسيل والبيهقي ، وقال الشيخ الأرناؤوط وفيه انقطاع (7)، ورواه الحاكم في المستدرك وصححه ولم يوافقه الذهبي ، وفي سنده حسين بن زيد العلوي فيه ضعف .(8)
روى الخلال أن الإمام أحمد سئل عن العقيقة :[ قيل : يبعث منها إلى القابلة بشيء . قال : نعم ].(9)
ثانياً : حكم جلده وسواقطها :
يرى الإمام أحمد ان جلد العقيقة ورأسها ونحو ذلك يباع ويتصدق بثمن ذلك ، فقد روى الخلال أن أحمد سئل في العقيقة :[ الجلد والرأس والسقط يباع ويتصدق به ، قال : يتصدق به ].(10)
ومنع المالكية بيع أي شيء منها ، قال الإمام مالك :[ ولا يباع من لحمها شيء ولا جلدها ] (11)، وقال ابن رشد :[ وأما حكم لحمها وجلدها وسائر أجزائها فحكم لحم الضحايا في الأكل والصدقة ومن البيع ].(12)
ثالثاً : هل يكره كسر عظام العقيقة ؟
في المسألة قولان :
__________
(1) المحلى 6/243 .
(2) المجموع 8/429 .
(3) سبل السلام 4/182 .
(4) المجموع 8/430 .
(2) المغني 9/ 463
(5) تحفة المودود ص 59-60 .
(6) المنتقى 3/104 .
(7) زاد المعاد 2/332 ، سنن البيهقي 9/302 .
(8) تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج 2/539 .
(9) تحفة المودود ص 67 .
(10) تحفة المودود ص 70 ، كشاف القناع 3/31 .
(11) الموطأ بهامش المنتقى 3/103 .
(12) بداية المجتهد 1/377 .(/14)
الأول : قال الشافعية والحنابلة يستحب أن تذبح العقيقة وتقطع على المفاصل ولا تكسر عظامها وتطبخ جدولاً (1)، ونقل هذا عن عائشة وعطاء وابن جريج (2)، ونص على ذلك الإمام أحمد ، فقد روى الخلال عن عبد الملك بن عبد الحميد أنه سمع أبا عبد الله يقول في العقيقة :[ لا يكسر عظمها ولكن يقطع كل عظم من مفصله فلا تكسر العظام ].(3)
الثاني : وذهب الإمام مالك إلى جواز كسر عظمها بل استحب ذلك ، لمخالفة أهل الجاهلية الذين كانوا لا يكسرون عظم الذبيحة التي تذبح عن المولود وبه قال الزهري وابن حزم الظاهري .(4)
قال ابن رشد :[ واستحب كسر عظامها لما كانوا في الجاهلية يقطعونها من المفاصل ].(5)
وقد احتج الفريق الأول بما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين رضي الله عنهما :( أن ابعثوا إلى بيت القابلة برجل وكلوا وأطعموا ولا تكسروا منها عظماً ) رواه البيهقي وغيره وهو ضعيف كما سبق .
واحتجوا أيضاص بما ورد عن عائشة أنها قالت :( تقطع جدولاً ولا يكسر لها عظم ) سبق تخريجه وجعله الألباني مدرجاً في الحديث من كلام عطاء وأيد ذلك بما ذكره البيهقي :[ وكان عطاء يقول تقطع جدولاً ولا يكسر لها عظم ] (6).
واحتج الفريق الثاني بأنه لم يثبت في كسر عظامها نهي مقصود ، قال ابن حزم :[ ولم يصح في المنع من كسر عظامها شيء ].(7) وقالوا إن كسر عظامها فيه مخالفة لأهل الجاهلية ، قال الباجي :[ إنما قاله مالك - أي كسر عظامها - لأن أهل الجاهلية كانوا إذا عقوا عن المولود لم يكسروا العظام وإنما كانت العقيقة تفصل من ذلك ما وافقهم ، وفي الجملة كسر عظامها ليس بلازم وإنما لا يجوز تحري الامتناع عنه ، والعقيقة في ذلك كسائر الذبائح وربما كان لها مزية المخالفة لفعل أهل الجاهلية ].(8)
وقالوا أن العادة جرت بكسر العظام ، وفي ذلك مصلحة لتمام الانتفاع بها ولا مصلحة تمنع من ذلك ولم يصح في المنع من ذلك ولا في كراهته سنة يجب المصير إليها .(9)
والذي يظهر لي أنه لا بأس بكسر عظامها إن احتيج لذلك ، وإن استطاع الجزار تقطيعها على المفاصل فهو أفضل لما ورد في الآثار وإن لم يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد وردت عن عدد من السلف كعائشة وعطاء وجابر كما ذكره البيهقي وغيره .(10)
وخاصة أن القائلين بعدم تكسير عظامها ذكروا وجوهاً في الحكمة من ذلك تميل إليها النفس ذكرها ابن القيم وهي :
1. أنها جرت مجرى الفداء استحب أن لا تكسر عظامها تفاؤلاً بسلامة أعضاء المولود وصحته وقوتها وبما زال من عظام فدائه من الكسر .
2. إظهار شرف الإطعام وخطره إذا كان يقدم للآكلين ويهدى إلى الجيران ويطعم للمساكين فاستحب أن يكون قطعاً كل قطعة تامة في نفسها لم يكسر من عظامها شيء ولا نقص العضو منها شيئاً ، ولا ريب أن هذا أجل موقعاً وأدخل في باب الجود من القطع الصغار .
3. أن الهدية إذا شرفت وخرجت عن حد الحقارة وقعت موقعاً حسناً عند المهدي إليه ودلت على شرف نفس المهدي وكبر همته ، وكان في ذلك تفاؤلاً بكبر نفس المولود وعلو همته وشرف نفسه (11). والله أعلم .
المبحث الثالث عشر
حكم تلطيخ رأس المولود بشيء من دم العقيقة
للعلماء في هذه المسألة قولان :
القول الأول : ذهب جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث إلى كراهة تلطيخ رأس المولود بشيء من دم العقيقة .(12)
القول الثاني : ذهب الحسن البصري وقتادة من التابعين وابن حزم الظاهري إلى أن ذلك مستحب ونقله ابن حزم عن ابن عمر (13)، واحتج هؤلاء بما رواه همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال :( كل غلام رهينة بعقيقة تذبح عنه يوم السابع ويحلق ويدمى ) فكان قتادة إذا سئل عن الدم كيف يصنع به قال :[ إذا ذبحت العقيقة أخذت منها صوفة واستقبلت بها أوداجها ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل على رأسه مثل الخيط ثم يغسل رأسه بعده ويحلق ].(14)
وروى ابن حزم بسنده عن ابن عمر قال :[ يحلق رأسه ويلطخه بالدم ].(15)
__________
(1) الجدول جمع جدل وهو كل عظم موفر كما هو لا يكسر أي تقطع عضواً عضواً ، لسان العرب 2/211 .
(2) المجموع 8/430 ، المغني 9/463 ، المحلى 6/240 ، مغني المحتاج 4/394 ، كشاف القناع 3/30 .
(3) تحفة المودود 60/61 .
(4) الخرشي 3/48 ، الموطأ بهامش المنتقى 3/103 ، المنتقى 3/103 ، المحلى 6/234 .
(5) بداية المجتهد 1/377 .
(6) سنن البيهقي 9/302 ، إرواء الغليل 4/396 .
(7) المحلى 6/240 ، انظر المجموع 8/430 .
(8) المنتقى 33/103-104 .
(9) تحفة المودود ص 62 .
(10) سنن البيهقي 9/302 .
(11) تحفة المودود ص 62 .
(12) المجموع 8/432 ، المغني 9/462 ، عون المعبود 8/28 ، الخرشي 3/48 ، بداية المجتهد 1/377 ، الإنصاف 4/112 .
(13) المحلى 6/234 ، المجموع 8/432 ، المغني 9/462 .
(14) عون المعبود 8/27 .
(15) المحلى 6/436 .(/15)
وقد أجاب الجمهور على هذا الاستدلال وبينوا أن هذا القول شاذ وأن الرواية المحفوظة لحديث سمرة ( يسمى ) وليس ( يدمى ) وهذا بيان ما قالوه :
1. قال أبو داود صاحب السنن بعد روايته للحديث المذكور :[ هذا وهم من همام ويدمى ]. قال أبو داود :[ خولف همام في هذا الكلام وهو وهم من همام وإنما قالوا
يسمى . فقال : همام : يدمى . قال أبو داود وليس يؤخذ بهذا ].(1)
2. وقال أبو داود بعد أن ساق الرواية الثانية لحديث سمرة وفيها :( يسمى ) ، قال أبو داود :[ ويسمى أصح ، كذا قال سلام بن أبي مطيع وإياس بن دغفل وأشعث عن الحسن . قال : ويسمى ، ورواه أشعث عن الحسن عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال : ويسمى ](2)
3. نقل الخلال عن الإمام أحمد أنه سئل :[ فيحلق رأسه ؟ قال : نعم . قلت : فيدمى ؟ قال : لا هذا من فعل الجاهلية . قلت : فحديث قتادة عن الحسن كيف ويدمى ؟ فقال : أما همام فيقول : ويدمى وأما سعيد فيقول ويسمَّى ].
وقال في رواية الأثرم :[ قال ابن عروبة : يسمى ، وقال همام : يدمى . وما أراه إلا خطأ ].(3)
4. ويرى الشيخ ناصر الدين الألباني أن رواية الحديث بلفظ :( ويسمى ) هي التي ينشرح لها الصدر لاتفاق الأكثر عليها ولا سيما أن لها متابعات وشواهد بخلاف رواية ( ويدمى ) فهي غريبة وأكد كلام أبي داود في تخطئة همام في قوله ( ويدمى ) وإن كان ثقة فقال :[ وهذا وإن كان بعيداً بالنسبة للثقة فلا بد من ذلك حتى يسلم لنا حفظ الجماعة فإنه إذا كان صعباً تخطئة الثقة الذي زاد على الجماعة فتخطئة هؤلاء ونسبتهم إلى عدم الحفظ أصعب ].(4)
5. وأكد الجمهور قولهم بأن التدمية كانت من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أبطلها ويدل على نسخها وإبطالها ما يلي :
أ. حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : سمعت أبي بريدة يقول :( كنا في الجاهلية إذا ولد لأحد غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها ، فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران ).(5)
ب. عن عائشة رضي الله عنها في حديث العقيقة قالت :( وكان أهل الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة ويجعلونه على رأس الصبي فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل مكان الدم خلوفاً ) رواه البيهقي وهذا لفظه (6)، وقال النووي بإسناده صحيح .(7)
وقال الألباني :[ بإسناد رجاله ثقات لكن فيه عنعنة ابن جريج لكن قد صرح بالتحديث عند ابن حبان فصح الحديث والحمد لله ] (8)، ورواه ابن حبان وقال المحقق : إسناده صحيح (9).
والخلوف : بفتح الخاء هو طيب معروف مركب يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب وتغلب عليه الحمرة والصفرة ، قاله الإمام النووي .(10)
ج. عن يزيد بن عبد المزني عن أبيه أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - قال :( يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم ).(11)
فهذه الأحاديث تدل على نسخ التدمية وأنها كانت من أمر الجاهلية ، قال ابن رشد :[ وجميع العلماء على أنه كان يدمى رأس الطفل في الجاهلية بدمها وأنه نسخ في الإسلام بحديث بريدة ... ].(12)
6. قالوا لقد ورد في حديث سلمان بن عامر الضبي :( ... وأميطوا عنه الأذى ) وهذا يفسر بترك ما كانت الجاهلية تفعله في تلطيخ رأس المولود بدم العقيقة (13).
وقالوا أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( أميطوا عنه الأذى ) والدم أذى فيكف يؤمر بأن يصاب بالأذى ويلطخ به ؟(14)
7. وقالوا : أن الدم نجس فلا يشرع إصابة الصبي به كسائر النجاسات .(15)
بعد هذا الاستعراض لحجج الفريقين نرى أن قول الجمهور هو الأصح وأن التدمية غير جائزة وأن تدمية رأس المولود كانت من أمر الجاهلية ونسخها الإسلام . قال ابن القيم :[ ولما أقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقيقة في الإسلام وأكد أمرها وأخبر أن الغلام مرتهن بها . نهاهم أن يجعلوا على رأس الصبي من الدم شيئاً وسن لهم أن يجعلوا عليه شيئاً من الزعفران لأنهم في الجاهلية إنما كانوا يلطخون رأس المولود بدم العقيقة تبركاً به فإن دم الذبيحة كان مباركاً عندهم حتى كانوا يلطخون منه آلهتهم تعظيماً لها أنفع للأبوين وللمولود وللمساكين وهو حلق الرأس بالزعفران الطيب الرائحة الحسن اللون بدلاً عن الدم الخبيث الرائحة النجس العين ، والزعفران من أطيب الطيب وألطفه وأحسنه لوناً ].(16)
المبحث الرابع عشر
حكم اجتماع الأضحية والعقيقة
إذا وافقت أيام نحر الأضحية يوم الأضحى وأيام التشريق الثلاثة اليوم السابع للمولود أو نحوه فهل تجزئ الأضحية عن العقيقة ؟
للعلماء فيها قولان :
__________
(1) عون المعبود 8/27-28 .
(2) عون المعبود 8/29 .
(3) تحفة المودود ص 35-36.
(4) إرواء الغليل 4/387-388 .
(5) سبق تخريجه .
(6) سنن البيهقي 9/303 .
(7) المجموع 8/428 .
(8) إرواء الغليل 4/389 .
(9) الإحسان 12/124 .
(10) المجموع 8/429 .
(11) سبق تخريجه .
(12) بداية المجتهد 1/377 .
(13) الخرشي 3/48 .
(14) تحفة المودود ص 36 .
(15) عون المعبود 8/29 .
(16) تحفة المودود ص 56 .(/16)
القول الأول : قال الحسن البصري ومحمد بن سيرين : الأضحية تجزئ العقيقة .(1)
وبه قال الإمام أحمد في رواية عنه وهي الأظهر في مذهبه . فقد ورد عنه في رواية ابن حنبل أنه قال :[ أرجو أن تجزئ الأضحية عن العقيقة إن شاء الله تعالى لمن لم يعق ].(2)
وروى حنبل عن الإمام أحمد أنه اشترى أضحية ذبحها عنه وعن أهله وكان ابنه عبد الله صغيراً فذبحها وأراد بذلك العقيقة والأضحية .(3)
ويرى هؤلاء أن المقصود بالأضحية والعقيقة يحصل بذبح واحد فإن الأضحية عن المولود مشروعة لو صلى ركعتين ينوي بهما تحية المسجد وسنة المكتوبة ن أو صلى بعد الطواف فرضاً أو سنة مكتوبة وقع عنه وعن ركعتي الطواف ، وكذلك لو ذبح المتمتح والقارن شاة يوم النحر أجزأ عن دم المتعة وعن الأضحية .(4)
وقالوا أيضاً فيها نوع شبه من الجمعة والعيد إذا اجتمعتا ، أي أن من حضر صلاة
العيد فيجزئ ذلك عن صلاة الجمعة كما هو مذهب الحنابلة .(5)
القول الثاني : وقال المالكية لا تجزئ الأضحية عن العقيقة (6)، وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد فقد روى الخلال عن عبد الله بن أحمد قال :[ سألت أبي عن العقيقة يوم الأضحى تجزئ أن تكون أضحية أو عقيقة ؟ قال : إما إضحية أو عقيقة على ما سمى ].(7)
ويرى هؤلاء أن كلاً من الأضحية والعقيقة ذبحان بسببين مختلفين فلا يقوم الذبح الواحد منهما كدم التمتع ودم الفدية .(8)
الفصل الثاني
ما يتعلق بالعاقّ ووقت الذبح
المبحث الأول
من يتولى العقيقة " من يعق عن المولود "
اختلف الفقهاء فيمن يتولى العقيقة على عدة أقوال :
القول الأول : يعق عن المولود أبوه ولا يلزم أحداً من الأقارب غير الأب وهذا قول الحنابلة والمالكية .(9)
قال المرداوي :[ لا يعق غير الأب على الصحيح في المذهب ونص عليه أكثر الأصحاب ] (10)، ويستدل لهم بما ورد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه عليه الصلاة والسلام قال :( من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فليفعل ) قالوا هذا يقتضي أن العقيقة في مال الأب عن ابنه ولذلك قال :( فأحب أن ينسك عنه ولده فليفعل ) فأثبت ذلك في جهة الأب عن الابن .(11)
ونقل عن الإمام أحمد أنها على الأب :[ قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي : سألت أحمد عن الرجل يخبره والده أنه لم يعق عنه هل يعق عن نفسه ؟ قال : ذلك على الأب ].(12)
واحتجوا أيضاً بأن الأب هو المأمور بها في الأحاديث كما في قوه عليه الصلاة والسلام :( فأهريقوا عنه دماً ).(13)
القول الثاني : إن المولود إن كان له مال فهي في ماله فإن لم يكن له مال وله أب فهي على الأب فإن لم يكن له أب وله أم فهي على الأم وبهذا قال ابن حزم .(14)
القول الثالث : يعق عن المولود من تلزمه نفقته من مال العاق لا من مال المولود ، هذا ما قاله الإمام النووي وهو مذهب الشافعية .(15)
وهذا القول من الشافعية اقتضاهم أن يؤولوا ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عق عن الحسن والحسين بعدة تأويلات ذكرها النووي بقوله :[ قال الأصحاب وهو متأول على أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أباهما بذلك أو أعطاه ما عق به . أو أن أبويهما كانا عند ذلك معسرين فيكونان في نفقة جدهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ].(16)
وقد رد الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس هذه التأويلات فقال :
1. إن القول بأن النبي- صلى الله عليه وسلم - أمر أباهما بالعقيقة مجرد دعوى تحتاج إلى برهان واحتمال بعيد بل معارض بما رواه البيهقي ومالك وأبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى فاطمة أن تعق عن الحسن بقوله :( لا تعقي ).
2. والقول أن أباهما كانا معسرين فيكونان في نفقة جدهما رسول الله دعوى تحتاج إلى بينة ، والبينة قائمة على خلاف ذلك ، فالحديث المتقدم عن أبي رافع ينص على أن فاطمة رضي الله عنها كانت تريد أن تعق عن الحسن فأمرها الرسول- صلى الله عليه وسلم - ألا تعق عنه …
3. والقول بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعطى أباهما ليعق عنهما قول لا بينة عليه والدلائل والأخبار المتقدمة تدل على خلاف ذلك .(17)
__________
(1) شرح السنة 11/267 .
(2) تحفة المودود ص 68 ، وانظر الإنصاف 4/111 ، كشاف القناع 3/29 ، الفروع 3/564 .
(3) تحفة المودود ص 68 .
(4) تصحيح الفروع 3/514 ، بهامش الفروع .
(5) تحفة المودود ص 69 .
(6) حاشية العدوي 3/48 .
(7) تحفة المودود ص 68 ، وانظر الإنصاف 4/111 .
(8) تحفة المودود ص 68 .
(9) كشاف القناع 3/24 ، المنتقى 3/101 .
(10) الإنصاف 4/112 .
(11) المنتقى 3/101 .
(12) تحفة المودود ص 46 .
(13) المصدر السابق .
(14) المحلى 6/335 .
(15) المجموع 8/432 ، مغني المحتاج 4/293 .
(16) المجموع8/432 ، وانظر فتح الباري 12/13 .
(17) أحكام الذبائح ص 183-184 .(/17)
القول الرابع : يعق عن المولود غير الأب وغير من تلزمه نفقة المولود وبه قال الحافظ ابن حجر والشوكاني والصنعاني (1)، وحجة هؤلاء ما ورد في حديث سمرة ( تذبح عنه يوم سابعه ) قال الحافظ ابن حجر :[ وقوله :( تذبح ) بالضم على البناء للمجهول فيه أنه لا يتعين للذابح ].(2)
وقال الشوكاني :[ قوله :( يذبح عنه يوم سابعه ) وفيه دليل على أنه يصح أن يتولى ذلك الأجنبي كما يصح أن يتولاه القريب عن قريبه ] (3)، ويؤيد ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد عق عن الحسن والحسين .
مناقشة وترجيح : إن الأمر متسع فيمن يتولى العقيقة وأولى الناس بالعق هو الأب أو من تلزمه نفقة المولود .
ولو رغب أحد الأقارب في تولي العقيقة فلا بأس في ذلك ، فإذا عق الجد و الأخ أو العم أو الخال وإن لم تكن النفقة واجبة عليهم فيكون بعمله ذلك قد أصاب السنة إن شاء الله .
المبحث الثاني
حكم من لم يعق عنه ، هل يعق عن نفسه إذا بلغ ؟
للفقهاء في المسألة قولان :
القول الأول : يستحب لمن لم يعق عنه صغيراً أن يعق عن نفسه كبيراً وبه قال عطاء والحسن ومحمد بن سيرين وهو قول القفال الشاشي من الشافعية ورواية عن أحمد وعلق الشوكاني القول به إن صح الحديث المذكور أدناه .
القول الثاني : لا يعق عن نفسه ، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد .(4)
واستدل للأولين بما روي :( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن نفسه بعد النبوة ) وهذا الحديث تكلم عليه المحدثون كلاماً طويلاً أذكر خلاصته :
روى البيهقي :[ بسنده عن عبد الله بن محرر عن قتادة عن أنس :( أن النبي- صلى الله عليه وسلم - عق عن نفسه بعد النبوة ) قال عبد الرزاق إنما تركوا عبد الله بن محرر لحال هذا الحديث . ثم قال : وقد روى من وجه آخر عن قتادة . ومن وجه آخر عن أنس وليس بشيء ] (5)، قال الحافظ ابن حجر :[ وكأنه اشار بذلك إلى أن الحديث الذي ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن نفسه بعد النبوة لا يثبت وهو كذلك ] ثم ذكر روايات الحديث عند البزار وأبو الشيخ والطبراني ونقل عن البزار قوله :[ تفرد به عبد الله وهو ضعيف وذكر الحافظ أن الضياء المقدسي أخرج الحديث في الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين أي أنه صححه .(6) وقال النووي :[ وهذا حديث باطل ، قال البيهقي : هو حديث منكر ... فهو حديث باطل وعبد الله بن محرر ضعيف متفق على ضعفه . قال الحافظ : متروك ].(7)
ويستدل للآخرين : بأن العقيقة مشروعة في حق الوالد فلا يفعلها الولد إذا بلغ فالسنة ثبتت في حق غيره . وقالوا أيضاً أن الحديث الذي احتج به الفريق الأول ليس ثابتاً ولو ثبت يمكن أن يحمل على أنه خاص به - صلى الله عليه وسلم - .(8)
مناقشة ترجيح : إن الحديث الذي احتج به الفريق غير ثابت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا يصلح دليلاً لهم . ولم يرد أيضاً ما يمنع من العقيقة حال الكبر ووردت آثار عن بعض السلف تجيز ذلك منها :
1. عن الحسن البصري قال :[ إذا لم يعق عنك فعق عن نفسك وإن كنت رجلاً ].(9)
2. وقال محمد بن سيرين :[ عققت عن نفسي ببختية بعد أن كنت رجلاً ].(10)
3. ونقل عن الإمام أحمد أنه استحسن إن لم يعق عن الإنسان صغيراً أن يعق عن نفسه كبيراً وقال :[ إن فعله إنسان لم أكرهه ].(11)
وبناء على ما تقدم فلا بأس أن يعق الإنسان عن نفسه حال الكبر إن لم يعق عنه حال الصغر والله أعلم .
المبحث الثالث
في وقت العقيقة
وردت الأحاديث النبوية التي تحدد وقت العقيقة باليوم السابع من ولادة المولود منها :
1. حديث سمرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى ).
2. حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - :( أمر بتسمية المولود يوم سابعه ووضع الأذى عنه والعق ).
3. حديث عائشة قالت :( عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حسن وحسين يوم السابع وسماهما وأمر أن يماط عن رأسهما الأذى ).(12)
__________
(1) فتح الباري 12/6 ، نيل الأوطار5/150-153 ، سبل السلام 4/183 .
(2) فتح الباري 12/13 .
(3) نيل الأوطار 5/150 .
(4) المجموع 18/431 ، المغني 9/461 ، شرح السنة 11/264 ، المحلى 6/240 ، الإنصاف 4/113 ، مغني المحتاج 4/293 ، الفروع 3/564 ، كشاف القناع 3/25 ، فتح الباري 12/12-13 ، كفاية الأخيار ص 535 ، تحفة المودود ص 69 ، نيل الأوطار 5/153 .
(5) سنن البيهقي 9/300 .
(6) انظر فتح الباري 12/12-13 .
(7) المجموع 8/431-432 .
(8) المغني 9/461 ، فتح الباري 12/13 ، تحفة المودود ص 69 .
(9) المحلى 2/240 ، شرح السنة 11/264 .
(10) شرح السنة 11/264 ، والبختية : الأنثى من الجمال البخت وهي جمال طوال الأعناق .
(11) تحفة المودود ص 69 .
(12) سبق تخريج هذه الأحاديث .(/18)
فمن هذه الأحاديث يؤخذ أن الوقت المستحب للعقيقة هو اليوم السابع من الولادة وهذا باتفاق علماء المسلمين للأحاديث الواردة في ذلك .(1)
وبين العلامة ابن القيم الحكمة من اختصاص العقيقة باليوم السابع للولادة فقال :[ وحكمة هذا والله أعلم أن الطفل حين يولد يكون أمره متردداً بين السلامة والعطب ولا يدري هل هو من أمر الحياة أو لا . إلى أن تأتي عليه مدة يستدل بما يشاهد من أحواله فيها على سلامة بنيته وصحة خلقته وأنه قابل للحياة وجعل مقدار تلك المدة أيام الأسبوع فإنه دور يومي كما أن السنة دور شهري ... والمقصود أن هذه الأيام أول مراتب العمر فإذا استكملها انتقل إلى الثالثة وهي السنين فما نقص عن هذه الأيام فغير مستوف للخليقة وما زاد عليها فهو مكرر يعاد عند ذكره اسم ما تقدم من عدده فكانت السنة غاية لتمام الخلق وجمع في آخر اليوم السادس منها فجعلت تسمية المولود وإماطة الأذى عنه وفديته وفك رهانه في اليوم السابع ].(2)
وبعد اتفاق العلماء على أن اليوم السابع هو المستحب للعقيقة اقتداء برسول الله- صلى الله عليه وسلم - الذي عق عن الحسن والحسين فيه اختلفوا في بعض فروع هذه المسألة :
أولاً : حكم ذبح العقيقة قبل اليوم السابع :
في المسألة قولان :
القول الأول : أجاز الشافعية والحنابلة ذبح العقيقة قبل اليوم السابع من الولادة ونقله ابن حزم عن محمد بن سيرين من التابعين .(3)
قال ابن القيم :[ والظاهر أن التقيد بذلك - السابع - استحباب وإلا فلو ذبح عنه في الرابع أو الثامن أو العاشر أو ما بعده أجزأت ].(4)
القول الثاني : وهو للمالكية لا يجوز قبل اليوم السابع وهو قول ابن حزم الظاهري والأمير الصنعاني (5)، لأنه خلاف النص لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - :( تذبح عنه يوم سابعه ) فيه تحديد لوقتها فلا تشرع قبله .(6)
ثانياً : حكم ذبح العقيقة بعد اليوم السابع :
للفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوال :
القول الأول : لا يجوز ذبح العقيقة بعد اليوم السابع وهذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك وبه قا الأمير الصنعاني وصاحب عون المعبود .(7)
ودليلهم الأحاديث السابقة حيث وقع فيها تحديد وقت ذبح العقيقة باليوم السابع .
القول الثاني : يجوز ذبح العقيقة في السابع الثاني " اليوم الرابع عشر " وفي السابع الثالث " الحادي والعشرون " ولا يجوز بعد ذلك . وهذا قول في مذهب الإمام الشافعي وهو رواية ابن حبيب عن الإمام مالك ونقل عن عائشة وإسحاق .(8) ورواية عن أحمد :[ قال صالح بن أحمد : قال أبي في العقيقة تذبح يوم السابع فإن لم يفعل ففي أربعة عشر فإن لم يفعل ففي أحد وعشرين ].(9)
وقال الإمام الترمذي بعد ان ساق حديث سمرة :[ والعمل على هذا عند أهل العلم يستحبون أن يذبح عن الغلام العقيقة يوم السابع فإن لم يتهيأ يوم السابع فيوم الرابع عشر فإن لم يتهيأ عق عنه يوم إحدى وعشرين ].(10)
وحجة هؤلاء ما رواه البيهقي بسنده عن إسماعيل بن مسلم عن قتادة عن عبد اله بن بريدة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( العقيقة تذبح لسبع ولأربع شعر ولإحدى وعشرين ) رواه البيهقي (11)، وذكر الحافظ ابن حجر أن الطبراني أخرجه من رواية إسماعيل بن مسلم عن عبد الله بن بريدة وإسماعيل ضعيف وذكر الطبراني أنه تفرد به (12)، فالحديث ضعيف كما قال الشيخ الألباني (13)، وورد هذا الحديث موقوفاً على عائشة رواه الحاكم في المستدرك بسنده عن عطاء عن أم كرز وأبي كرز قالا :( نذرت امرأة من آل عبد الرحمن بن أبي بكر إن ولدت امرأة عبد الرحمن نحرت جزوراً . فقالت عائشة رضي الله عنها : لا بل السنة أفضل عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة تقطع جدولاً ولا يكسر لها عظم فيأكل ويطعم ويتصدق وليكن ذلك يوم السابع فإن لم يكن ففي أربعة عشر فإن لم يكن ففي إحدى وعشرين ) وقال الحاكم : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي .
__________
(1) بداية المجتهد 1/376 ، الإنصاف 4/111 ، المحلى 6/234 ، المجموع 8/431 ، المغني 9/461 ، عون المعبود 8/28 .
(2) تحفة المودود ص 75-76 .
(3) المجموع 8/431 ، المغني 9/461 ، المحلى 6/240 .
(4) تحفة المودود ص 50 .
(5) الخرشي 3/47 ، المحلى 6/240 ، المنتقى 3/102 ، سبل السلام 4/181 .
(6) المحلى 6/240 ، سبل السلام 4/181 .
(7) الخرشي 3/47 ، المنتقى 3/101 ، سبل السلام 4/181 ، عون المعبود 8/28 .
(8) المجموع 8/431 ، المغني 9/461 ، المنتقى 3/101-102 .
(9) تحفة المودود ص 48 ، وانظر فتح الباري 12/12 .
(10) صحيح سنن الترمذي 2/94 .
(11) سنن البيهقي 9/303 .
(12) فتح الباري 12/12 ، وانظر مجمع الزوائد 4/59 .
(13) إرواء الغليل 4/395 .(/19)
وقال الشيخ الألباني :[ رجاله كلهم ثقات معروفون رجال مسلم غير إبراهيم بن عبد الله وهو السعدي النيسابوري وهو صدوق كما قال الذهبي في الميزان . وغير أبي عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني وهو حافظ كبير مصنف ويعرف بابن الأحزم توفي سنة 344 له ترجمة في التذكرة (3/76-77) قلت - الألباني - : وعلى هذا فظاهر الإسناد الصحة ولكن عندي علتان ] (1)، ثم ذكر أن فيه اقطاعاً وشذوذاً وإدراجاً .
وحجتهم في هذا الحديث أن هذا تقدير والظاهر أن عائشة لا تقول ذلك إلا توقيفاً .(2)
القول الثالث : تجوز العقيقة في أي وقت كان بعد اليوم السابع مع مراعاة الأسابيع على الرواية الصحيحة عند لحنابلة وبه قال ابو عبد الله البوشجي من أئمة الشافعية وبدون ذلك عند الشافعية في المختار عندهم على أن لا يتجاوز البلوغ . وهي رواية أخرى عند الحنابلة وهو قول ابن حزم الظاهري وعلى حسب الإمكان بدون تحديد (3) وهو قول الليث بن سعد ومحمد بن سيرين .(4)
قال في كفاية الأخيار :[ والمختار أن لا يتجاوز بها النفاس فإن تجاوزته فيختار أن لا يتجاوز بها الرضاع فإن تجاوز فيختار أن لا يتجاوز بها سبع سنين فإن تجوزها فيختار أن لا يتجاوز بها البلوغ ].(5)
وقال ابن حزم :[ فإن لم تذبح في اليوم السابع ذبح بعد ذلك متى أمكن فرضاً ].(6)
ثالثاً : حكم العقيقة إذا مات المولود قبل اليوم السابع :
للفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوال :
القول الأول : تستحب العقيقة عن المولود إذا مات قبل اليوم السابع وهذا قول الشافعية ، قال النووي :[ لو مات المولود قبل اليوم السابع استحب العقيقة عندنا ].(7)
القول الثاني : قال ابن حزم بوجوب العقيقة عن المولود إذا مات مطلقاً سواء قبل اليوم السابع أو بعده .(8)
القول الثالث : قال الإمام مالك لا تستحب العقيقة عن المولود إذا مات قبل اليوم السابع وبه قال الحسن البصري .(9)
رابعاً : حكم العقيقة إذا مات المولود بعد اليوم السابع ولم يعق عنه في اليوم السابع فهل يعق عنه بعد موته ؟
للفقهاء في هذه المسألة أقوال :
القول الأول : قال ابن حزم بوجوب العقيقة عن المولود الميت مطلقاً كما سبق .(10)
القول الثاني : يستحب أن يعق عن المولود في هذه الحالة ، وهذا القول هو اصح وجهين في مذهب الشافعية ذكرهما الرافعي .
القول الثالث : تسقط العقيقة في هذه الحالة وهو وجه آخر عند الشافعية (11)، وهو مقتضى قول المالكية ، والله أعلم .
خامساً : هل يحسب يوم الولادة في الأيام السبعة أم لا ؟
في المسألة قولان :
القول الأول : قال الإمام مالك لا يعد اليوم الذي ولد فيه إن ولد نهاراً أي بعد الفجر وإن ولد قبل الفجر حسب ضمن الأيام السبعة وهو قول في مذهب الشافعية ورجحه
الأسنوي وقال إن الفتوى عليه عند الشافعية وتبعه الحافظ العراقي في شرح الترمذي.(12)
القول الثاني : وقال الشافعية يحسب يوم الولادة من الأيام السبعة وبه قال عبد الملك بن الماجشون من المالكية .(13)
سادساً : حكم الذبح قبل الولادة :
لا يجوز الذبح قبل الولادة لأن سببها لم يوجد وهذا باتفاق الفقهاء ، قال النووي :[ وإن ذبحها قبل الولادة لم تجزه بلا خلاف بل تكون شاة لحم ].(14)
سابعاً : أفضل وقت للذبح نهاراً :
قال النووي :[ يستحب ذبح العقيقة في صدر النهار كذا نص الشافعي عليه في البويطي وتابعه الأصحاب ].(15)
وقال بعض الشافعية يستحب ذبحها عند طلوع الشمس .(16)
وقال المرداوي من الحنابلة :[ يستحب ذبح العقيقة ضحوة النهار ].(17)
وقال بعض المالكية :[ تذبح نهاراً من فجر السابع لغروبه قياساً على الهدي لا على الأضحية ] (18)، وعند المالكية اختلاف في مبدأ وقت الإجزاء . فقيل وقتها وقت الأضحية ، أي ضحى . وقيل بعد الفجر قياساً على قول مالك في الهدي (19). وجعل بعض المالكية وقتها على ثلاثة أقسام :
الأول : مستحب ، وهو الضحوة إلى الزوال .
الثاني : مكروه ، بعد الزوال إلى الغروب وبعد الفجر إلى طلوع الشمس .
الثالث : ممنوع ، وهو ذبحها ليلاً فلا تجزئ إذا ذبحت ليلاً .(20)
ثامناً : حكم ذبح العقيقة ليلاً :
__________
(1) إرواء الغليل 4/395-396 .
(2) المغني 9/461 .
(3) الإنصاف 4/112 ، الفروع 3/564 ، المحلى 6/234 ، كفاية الأخيار ص 534 ، المجموع 8/431 .
(4) تحفة المودود ص 49-50 ، المحلى 6/240 .
(5) كفاية الأخيار ص 534 .
(6) المحلى 6/234 .
(7) المجموع 8/448 .
(8) المحلى 6/234-235 .
(9) المنتقى 3/101 ، المجموع 8/448 .
(10) المحلى 6/234 .
(11) المجموع 8/432 .
(12) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/112 ، بداية المجتهد 1/376 ، الفتح الرباني 13/130 ، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/282 ، كفاية الأخيار ص 534 .
(13) كفاية الأخيار ص 534 ، بداية المجتهد 1/376 .
(14) المجموع 8/431 وانظر الإنصاف 4/111 ، كشاف القناع 3/35 .
(15) المجموع 8/432 .
(16) كفاية الأخيار ص 535 .
(17) الإنصاف 4/110 ، وانظر كشاف القناع 3/25 .
(18) الخرشي 3/47 .
(19) بداية المجتهد 1/377 .
(20) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/112 .(/20)
يجوز ذبحها ليلاً ، قال ابن رشد :[ ولا شك أن من أجاز الضحايا ليلاً أجاز هذه - العقيقة - ليلاً ] (1)، ومنع من ذلك بعض المالكية كما سبق في الحكم الذي قبله .
الرأي المختار في وقت العقيقة والفروع المتعلقة به :
لا ريب أن أفضل وقت للعقيقة هو اليوم السابع للولادة لما جاء في الأحاديث المذكورة في أول هذه المسألة . ولو ذبح العقيقة قبله أو بعده فإن أصل السنة يحصل إن شاء الله تعالى ولا بأس بذلك لأن المقصود من العقيقة يحصل فلا أظن أن التحديد بالسابع حتمي ولكنه الأفضل ولا أرى جواز تقديم العقيقة عن الولادة لأن سببها لم يقع بعد .
ولا أميل إلى العق عن المولود الميت سواءً مات قبل اليوم السابع أو بعده لأن العقيقة إشعار بالسرور بسلامة المولود ولم يسلم .
ولا بأس بذبح العقيقة في أي ساعة من ليل أو نهار حسب ظروف الشخص وأحواله . والذبح ليلاً جائز ولا شيء فيه وخاصة مع وجود وسائل الإضاءة فلا يخطئ الذابح في الذبح ومع وجود وسائل التبريد فلا يتعرض اللحم للتلف . والله أعلم .
المبحث الرابع
التسمية والنية عند ذبح العقيقة
ما يقال عند ذبح العقيقة :
تجب التسمية عند ذبح العقيقة كغيرها من الذبائح لأن التسمية واجبة عند الذبح كما هو مذهب جمهور أهل العلم ويرى الشافعية أن التسمية على العقيقة مستحبة كقولهم في الذبائح .(2)
وينوي قائلاً :( بسم الله والله أكبر اللهم لك وإليك هذه عقيقة فلان ).
وقد ورد هذا في حديث عائشة :( عق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن والحسين وقال : قولوا بسم الله والله أكبر واللهم لك وإليك هذه عقيقة فلان ) رواه البيهقي (3)، وقال النووي : بإسناد حسن .(4)
وفي رواية أخرى عن عائشة قالت :( فعق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن والحسين شاتين شاتين يوم السابع وأمر أن يماط عن رأسه الأذى وقال : اذبحو على اسمه وقولوا بسم الله الله أكبر منك ولك هذه عقيقة فلان ... ).
قال الهيثمي :[ رواه ابو يعلى والبزار باختصار ورجاله رجال الصحيح خلا شيخ أبي يعلى إسحاف فإني لم أعرفه ] (5)، ولا يشترط التلفظ في ذلك ، قال ابن المنذر :
[ وإن نوى العقيقة ولم يتكلم به أجزأه إن شاء الله ].(6)
قائمة المصادر
القرآن الكريم .
الآثار لأبي يوسف القاضي .
الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان .
أحكام الذبائح في الشريعة الإسلامية د. محمد أبو فارس .
الأذكار للإمام النووي .
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل للشيخ ناصر الدين الألباني
الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل لموسى بن أحمد الحجاوي المقدسي
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف لعلاء الدين المرداوي .
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين الكاساني .
بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد الحفيد .
تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج لابن الملقن .
تحفة المودود في أحكام المودود لابن القيم .
تربية الأولاد في الإسلام للشيخ عبد الله علوان .
تصحيح الفروع لعلاء الدين المرداوي .
التعليق المغني على سنن الدارقطني لشمس الحق الأبادي .
تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني .
التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير للحافظ ابن حجر العسقلاني .
حاشية ابن عابدين على الدر المختار للعلامة ابن عابدين .
حائشة الدسوقي على الشرح الكبير لمحمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي .
حاشية العدوي على شرح الخرشي لعلي بن أحمد العدوي المالكي .
زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم .
سبل السلام شرح بلوغ المرام للأمير الثنعاني .
سنن ابن ماجة .
سنن أبي داود .
سنن البيهقي .
سنن الترمذي .
سنن الدارقطني .
سنن النسائي .
السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار لمحمد بن علي الشوكاني .
شرح الخرشي على سيدي خليل للخرشي .
شرح السنة للإمام البغوي .
الصحاح للجوهري .
صحيح سنن ابن ماجة للألباني .
صحيح سنن أبي داود للألباني .
صحيح سنن الترمذي للألباني .
صحيح سنن النسائي للألباني .
العقود الدرية على الفتاوي الحامدية لابن عابدين .
عون المعبود شرح سنن أبي داود لشمس الحق الآبادي .
فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني .
الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشاباني لأحمد عبد الرحمن البنا .
الفروع لمحمد مفلح الحنبلي .
الفقه الإسلامي وأدلته لِ د. وهبه الزحيلي .
كشاف القناع عن متن الإقناع لمنصور بن يونس البهتوي .
كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار لتقي الدين الحسيني الحصني الدمشقي .
الكفاية على الهداية لجلال الدين الخوارزمي الكرلاني .
اللباب في الجمع بين السنة والكتاب لعلي بن زكريا المنبجي .
لسان العرب للعلامة ابن منظور .
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ الهيثمي .
المجموع شرح المهذب للإمام النووي .
المحلى لابن حزم الظاهري .
__________
(1) بداية المجتهد 1/377 .
(2) المجموع 8/428 .
(3) سنن البيهقي 9/303 .
(4) المجموع 8/428 .
(5) مجمع الزوائد 4/58 .
(6) تحفة المودود ص 74 .(/21)
مختصر الطحاوي لأبي جعفر الطحاوي .
المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم .
المسند للإمام أحمد بن حنبل الشيباني .
معالم السنن للإمام الخطابي .
المغني شرح مختصر الخرتي لابن قدامة المقدسي .
مغني المحتاج إلى معرف ألفاظ المنهاج للخطيب الشربيني .
المنتقى شرح الموطأ للإمام الباجي .
موطأ الإمام مالك بن أنس برواية محمد بن الحسن الشيباني .
المهذب لأبي إسحاق الشرايزي .
نهاية المحتاج شرح المنهاج للرملي الشافعي .
نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار لمحمد بن علي الشوكاني .
فهرس الموضوعات
الموضوع ... الصفحة
المقدمة
الفصل الأول :( ما يتعلق بالعقيقة )
المبحث الأول : تعريف العقيقة
المبحث الثاني : مشروعية العقيقة .
المبحث الثالث : معنى قول الرسول كل غلام مرتهن بعقيقته
المبحث الرابع : الحكمة من مشروعية العقيقة
المبحث الخامس : هل يكره تسمية العقيقة بهذا الإسم
المبحث السادس : حكم العقيقة واختلاف الفقهاء فيه الراجح في حكم العقيقة .
المبحث السابع : شروط العقيقة
المبحث الثامن : ما هو الأفضل في العقيقة
المبحث التاسع : العقيقة أفضل من الصدقة بثمنها
المبحث العاشر : الاشتراك في العقيقة
المبحث الحادي عشر : تفاضل الذكر والأنثى في العقيقة
المبحث الثاني عشر : التصرف في العقيقة ( الانتفاع بها )
حكم جلدها وسواقطها
كسر عظامها
المبحث الثالث عشر : حكم تلطيخ رأس المولود بدمها
المبحث الرابع عشر : اجتماع الأضحية والعقيقة
الفصل الثاني :( ما يتعلق بالعاق ووقت الذبح )
المبحث الأول : من ينوي العقيقة
المبحث الثاني : حكم من لم يعق عن نفسه هل يعق إذا بلغ
المبحث الثالث : وقت العقيقة
ذبح العقيقة قبل اليوم السابع
ذبح العقيقة بعد اليوم السابع
العقيقة عن المولود الميت
العقيقة قبل الولادة
القول المختار في وقت العقيقة
المبحث الرابع : التسمية والنية عند ذبح العقيقة
قائمة المصادر
فهرس الموضوعات(/22)
العلاج ... أخيرًا ' الوسواس القهري '
مفكرة الإسلام : ' نصيحتي لكل مصاب بهذا المرض أن يتخذ الخطوة الصحيحة ويتجه إلى الطبيب النفسي ولا يلتفت إلى من يزعم أن هذا المرض نتيجة لضعف الإيمان أو مطاوعة الشيطان ... الخ فهذا المرض مثله مثل الصداع والمغص, فهل يزعم أحد أنك ضعيف الإيمان لمجرد إصابتك بالمغص مثلا ؟ الإجابة هي لا بالطبع, النصيحة الثانية هي الصبر والاستمرار على العلاج, فمن خلال خبرتي الشخصية لا تظهر بوادر التحسن على مريض الوسواس القهري إلا بعد شهر, وأحيانًا ثلاثة أشهر كما أن فترة العلاج قد تمتد إلى سنة, نعم قد يعتقد المريض أن الموضوع طويل ولكنه على كل حال يستحق الجهد والصبر ولا يمكن تخيل مدى الراحة والاطمئنان التي يشعر بها المريض عندما يشفيه الله ويعافيه من هذا المرض '.
هذه الكلمات أطلقها أحد مرضى الوسواس القهري بعدما ثابر في العلاج لمدة وصلت إلى ثمانية أشهر, وهو يرسل رسالة عبر أحد المواقع الإسلامية لكل من شاركه جحيم المعاناة بهذا المرض أن اصبروا واستمروا ولا تفقدوا الأمل, ففقدان الأمل هو أعظم خسارة لقيمة الإنسان, وهو يوجه النصيحة إلى إخوانه بالالتزام بالعلاج والصبر عليه فهما أعظم معين بعد الله تعالى على عبور الأزمة والمحنة.
إننا ونحن نعرض لوسائل العلاج المستخدمة لعلاج مرض الوسواس القهري نؤكد على أنه لا يصح الاستغناء بها عن المعالج والطبيب المتخصص لأنه الأقدر بإذن الله تعالى على تشخيص كل حالة على حدة تشخيصًا دقيقًا وتحديد العلاج ونوعه وجرعاته المناسبة لكل حالة بمفردها ولكن غرضنا فقط ها هنا توضيح بعض الأمور التي قد يختلط فهمها على المريض أو المحيط الأسرى أو الأصدقاء في التعامل مع مرض الوسواس القهري.
اختيار العلاج:
إن أول ما ينبغي لفت الانتباه إليه هو نوع العلاج المستخدم لعلاج مرضى الوسواس القهري وأنه يختلف تبعًا لاختلاف العديد من العوامل, ويتم تحديد النوع بناء على درجة شدة الوسواس وضعفه ومدى تأثيره على المستوى المعرفي فقط أي على مستوى الأفكار فقط أم على المستوى السلوكي أيضًا أي على مستوى الأفعال القهرية, ففي الحالات البسيطة يستخدم العلاج المعرفي السلوكي فقط, وعند شدة الوساوس القهرية يستخدم الدواء بمفرده أو بمعونة العلاج السلوكي والمعرفي, ويختلف كذلك تبعًا لعمر المريض ففي صغار السن غالبًا ما يستعمل العلاج المعرفي والسلوكي فقط.
في الغالب فإن مريض الوسواس القهري يؤنب نفسه على هذه الوساوس ويقوم بتحميل لنفسه مسؤولية هذه الوساوس وأن سببها يرجع لضعف إيمانه وسوء علاقته بربه, وهذا الهاجس المحطم للأمل لا بد من نفيه فهو خلاف الواقع والحقيقة, فالسبب الحقيقي وراء ما يجد في عقله أو سلوكه من وساوس وأفكار إنما هو مرض يجب علاجه لإزالة هذه الآلام والضغوط النفسية, ثم بعد ذلك وقبله نضمن لك أنك لست مسؤولاً عن أفعالك هذه المرضية بنص أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: [[إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به]] وما روي عن أبي هريرة في صحيح مسلم أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوا إليه فسألوه: 'إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال: أوقد وجدتموه ؟ قالوا: نعم قال: ذاك صريح الإيمان'، ومن هذه الأحاديث استنبط العلماء رحمهم الله تعالى أن حديث النفس والخطاب الداخلي للإنسان لا يؤاخذ به المرء ما لم يتحول إلى كلام أو فعل, كلام بنطق اللسان بأحرف مفهومة وصوت مسموع أو فعل الجوارح وسلوكياتها, وعندما سئل صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة أخبر بأنها محض الإيمان أو صريح الإيمان, والمقصود من ذلك ليس وصف الوسواس نفسه أن من أصابه ذلك فقد بلغ ذروة الإيمان أو الفهم الخاطئ الآخر أن الشيطان لم يجد شيئًا يوسوس به لهذا العبد, فلجأ لهذا الحل وهو التشكيك بمقام الله تعالى والمقدسات, كلا كل هذا فهم خاطئ وتصور منقوص بل قصد النبي صلى الله عليه وسلم من وصف هذه الحال أن العبد قد بلغ محض الإيمان وصريحه باستعظامه النطق بتلك الوساوس, وأنه يخاف من الله لو نطق بتلك الوساوس والأفكار, فهذا هو صريح الإيمان ومحضه, وفي هذا ما فيه من مدح صاحب هذه الوساوس لا على إصابته بها, فهي بلاء للعبد وليست ذنبًا, بل على صبره عليها وخوفه من إغضاب ربه تعالى.(/1)
لا بد من ملاحظة الأسباب التي تؤدي بكثير من مرضى الوسواس القهري للامتناع عن التوجه للعلاج مبدئيًا أو للتهرب من العلاج بعد المواظبة عليه لفترة أو الانقطاع عنه فجأة, فلا بد من الاستعداد لهذه الأسباب بالتعرف عليها أولاً وتحديد حجمها ثانيًا واتخاذ التدابير الوقائية التي تمنع حدوثها وتقلل من آثارها السلبية, ويلحظ المعالج أن العلاج من الوسواس القهري يواجه آثارًا نفسية زرعها الوسواس في النفس البشرية وهو يسعى إلى تغييرها, وتكون هذه الآثار قد أخذت حجمًا كبيرًا من النفس, فانتزاعها يكون من الصعوبة بمكان يظهر به أن الهرب من العلاج أسهل من مواجهة اقتلاع هذه الآثار, فعلى المعالج فهم هذا الأمر خاصة عندما تظهر أول إشارة له وتتمثل في عبارة المريض المتكررة عندما يوجهه المعالج إلى الامتناع عن سلوك معين أنه لا يستطيع, فقد حاول وحاول ولم يفلح, ولا تجد المريض على استعداد لبذل الجهد في التغيير, فافهم مباشرة أن هناك تأثيرات أخرى مرتبطة بهذا الفعل الذي تبتغي تغييره وأنك لم تصل بعدُ إلى لب المشكلة أو كل الأعراض, فأعد البحث وغص في أعماق النفس حتى تكتشف ما المعوق الذي يعوق التقدم ولا يكن ظنك أن الحل الوحيد لمريض الوسواس هو الضغط والضغط باستمرار حتى ينفد ما يقوله المعالج.
لا بد من التأكيد أن الأدوية والعقاقير المستخدمة في علاج مرضى الوسواس القهري لا تندرج ضمن أدوية المخدرات أو المهدئات وما شابه ذلك, كلا بل هي تندرج تحت مجموعات تعالج الحفاظ على تركيزات بعض المواد في الخلايا العصبية فهي لا تؤدي للإصابة بالإدمان ما دام التعامل معها يتم في حدود الجرعات الطبية المحددة من الطبيب حتى مع الاستخدام لفترات طويلة.
علاج مرض الوسواس القهري يتمثل في محورين رئيسين هما:
[1] العلاج الدوائي: من خلال التجربة والأبحاث والإحصائيات ثبت أن العلاج بالأدوية له أثر فعال في تحقيق جزء كبير من التقدم للشفاء بإذن الله تعالى عند مريض الوسواس القهري وتوجد عدة مجموعات تستخدم للعلاج ومن ضمنها ولعلها أكثرها استخدامًا وتحقيقا للاستجابة لدى المريض هي مجموعة تقوم بتثبيط استرجاع مادة السيروتونين إلى داخل الخلية العصبية فقد ثبت أن تركيز مادة السيروتونين له أثر كبير في الإصابة بالمرض وشدته وضعفه والمجموعة التي تعالج تركيز هذه المادة لها آثار جانبية أقل مقارنة بباقي المجموعات الدوائية وقد لا يحدث تحسن ملحوظ خلال أول وثاني شهر وعندها يلزم الطبيب زيادة الجرعة, وهنا يتنبه المريض ألا يسرع باليأس من العلاج أو الشعور أنه لا يفيد, فلا بد من مرور وقت لا يقل عن شهر إلى شهرين من الاستمرار على العلاج حتى يمكن للطبيب تحديد الجرعة المناسبة للتأثير وبدء البرنامج العلاجي وإذا لم يحدث تحسن ملموس وحقيقي خلال شهرين إلى ثلاثة فلا بد من تغيير العلاج إلى مجموعة أخرى أو إضافة دواء جديد للبرنامج العلاجي وبالمقابل إذا حدث التحسن يبدأ الطبيب بزيادة الجرعة تدريجيًا.
لا بد من التنبيه لمن استعملوا العلاج الدوائي وظهرت عليهم علامات التحسن ألا يتوقفوا عن أخذ الجرعات الدوائية إلا بإرشادات الطبيب المختص لأن البعض من المرضى بحاجة إلى الاستمرار في العلاج حتى مع ظهور التحسن خاصة عند شدة درجة الوسواس.
أحد المشاكل الرئيسية في علاج مرض الوسواس القهري أنه لا يوجد علاج مناسب محدد لكل مريض بل لا بد من وجود مساحة للتجربة سواء على مستوى الجرعات أو على مستوى نوع الدواء.
[2] العلاج المعرفي والسلوكي ويتضمن العلاج المعرفي والعلاج السلوكي وهما:
1ـ العلاج المعرفي: وهو علاج التصورات المصاحبة للسلوكيات القهرية فالقاعدة تؤكد أن تصرفاتنا وسلوكياتنا تجاه الأشياء لا تنبع أو تصدر من حقيقة تلك الأشياء بل من تصوراتنا لحقائق تلك الأشياء وهي قاعدة لو استوعبها مريض الوسواس وكذا الإنسان السليم من المرض لأزاحت عن كاهل كل منهما عبئًا ثقيلا وحملا عظيما في فهم واستيعاب من أين ينشأ التصرف والسلوك ثم المثابرة حتى يتم الاقتناع به فيتحول إلى مصدر للسلوكيات الإنسانية ولنضرب مثالاً على ذلك فهذا الذي يوسوس مثلا أن يديه متسختان ومن أجل ذلك فهو يقوم بغسلهما مرة واثنتان وعشر وعشرين وأكثر لا بد أن يعلم في الحقيقة أنهما نظيفتان بمجرد الأولى أو الثانية على الأكثر ولكنه يستمر في الغسيل لا لشيء إلا لهذا التصور الخاطئ أنهما ما زالتا متسختين ومثله الأب أو الأم المحبين لأبنائهم ثم يطرأ على ذهن الواحد منهم أنه سيؤذي ولده بالقتل أو غيره من وسائل الإيذاء وتتملك الفكرة عقل الشخص حتى يبدأ بالشك في نفسه وهذا هو عين الوهم فكيف يفعل ذلك وهو الذي يفيض حنانا وحبا على أولاده فهي فكرة باطلة لا بد من دفع تصورها وتيقن بطلانها وأنها لا يمكن أن تحدث فلا بد من التخلص منها ودفعها.
2ـ العلاج السلوكي: ويشتمل على قسمين هما:(/2)
ـ1ـ العلاج بالتعرض: ويتم بأن يتعرض المريض لمصدر القلق وسبب الخوف, فمثلاً من يخشى من إيذاء من يحب بالسكين وبناءً عليه فهو يتجنب رؤيتها والإمساك بها وتواجدها في نفس الغرفة معه, نقوم بتعريضه للسكين ببرامج علاج تدريجية والتأكيد على أنه لن يستعملها فيما يخاف, وأن هذا وهم سيزول مع كثرة التعرض لمصدر الخوف الوهمي, وبتكرار مرات التعرض يقل القلق ويتعود المريض على مصدر خوفه ويفهم أنه ليس كذلك حتى يصل إلى الدرجة التي يتأكد فيها أنه لا داعي لهذا الخوف والقلق.
ـ2ـ العلاج بمنع الاستجابة: ولكي يتم الجزء السابق من العلاج بنجاح لا بد من وقف الطقوس المتكررة التي كان الشخص المريض يقوم بها للقضاء على القلق مثل إخفاء السكاكين ووضعها خارج البيت تمامًا كما في الحالة السابقة, أو طقوس الغسيل والتطهير المستمر للأيدي والجسد حال ملامسة مريض مثلاً أو خلافه مما يسبب الشعور بالقلق لدى المريض, فنحن نعرضه لسبب قلقه ولا نعطيه الفرصة للتخلص من هذا القلق بالطقوس المعتادة, ومن ثم ومع التكرار يقل القلق ولا بد, فهو يرى نفسه ما زال حيًا لم يؤذِ أحدًا ولم يمت بالجراثيم نتيجة الاحتكاك بأسباب الإصابة المتوهمة في عقله.
هذه هي المحاور الرئيسية لعلاج مريض الوسواس القهري ويتبقى لدينا كجزء من العلاج التنبيه على طبيعة دور الأسرة والأشخاص المحيطين لمريض الوسواس القهري أعاننا الله وإياكم على ما يحب ويرضى اللهم آمين.(/3)
العلاج بالرقية و أخذ الأجر عليها
السؤال :
نطرح على فظيلتكم حالة خاصة راجين منكم توضيح الحكم الشرعي فيها هل هي حلال أم حرام ؟ وهل يجوز ممارستها ؟ أو حراما يجب الإقلاع عنها ؟ وهي كما يلي :
لي ولد يبلغ من العمر 12 سنة و نصف منذ حوالي سنة ظهر عليه ما يلي :
إذا سمع القرآن يقرأ أو هو كان يقرأه و أغمض عيناه يبدأ رؤية أشياء لأماكن أو لأشخاص إذا كان في أي منها أمور شيطانية ( سحر منها ) موجودة في مكان أو الشخص وضع له سحر يعرف بوجوده ويبطل مفعوله ، هذا من جهة .
و من جهة ثانية معالجة الأمراض بالنسبة للأشخاص مثل, آلام العظام من الجسد , العجز الجنسي , الصلح بين زوجين , و زواج بعض اللواتي لم يتزوجن ......إلخ .
و يقوم بمعالجة ما سبق ذكره بالرقي بواسطة الزيت أو الماء المرقى عليه مع العلم أنه لا يطلب مقابل محدد و إنما يقبض ما يمنح له تلقائيا .
كما أحيط فظيلتكم علما أنه بعد ظهور هذا الأمر عليه اتصلت ببعض الأئمة و الذين يمارسون الرقى من حفظة القرآن الكريم لاستفسارهم في الأمر و بعد معاينتهم له و جلوسهم معه أكدوا مايلي :
عدم مسه من طرف الجن .
عدم تعامله مع الشياطين .
كما إن أحد الأئمة قال عنه ما يلي : إن هذه الحالة إلهام من الله عز وجل بها له , أو هي موهبة منذ الولادة في العلاج النفسي .
فلما سبق بقيت حائرا , الرجاء منكم الإجابة على عن استفساري , شرعا , هل تحل ممارستها , أم هي حرام يجب الامتناع عنها ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إن ما ذكرتَه من حالة ولدك لا يُحسن تقييمها من لم يعاينها منه مباشرةً ، و لا يمكننا إعطاء حكم تفصيليٍ فيها ، و لكن إذا ثبت أنّه لا يتعامل مع الجن ، و لا يستعين بهم ، و لا يتجاوز في رقيته للمرضى ما أجازه الشارع من الكتاب و السنّة فلا بأس في ذلك إن شاء الله ، و إن أُُُعطيَ على ذلك أجراً جاز له أخذه ، فقد روى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرُّوا بِمَاءٍ فِيهِمْ لَدِيغٌ أَوْ سَلِيمٌ فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ فَقَالَ هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ إِنَّ فِي الْمَاءِ رَجُلا لَدِيغًا أَوْ سَلِيمًا فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى شَاءٍ فَبَرَأَ فَجَاءَ بِالشَّاءِ إِلَى أَصْحَابِهِ فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَ قَالُوا أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْراً كِتَابُ اللَّهِ ) .
و روى الشيخان و أبو داود و الترمذي و أحمد عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - أَنَّ نَاساً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَتَوْا عَلَى حَىٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَلَمْ يَقْرُوهُمْ ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ فَقَالُوا هَلْ مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ رَاقٍ فَقَالُوا إِنَّكُمْ لَمْ تَقْرُونَا ، وَلاَ نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً . فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعاً مِنَ الشَّاءِ ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ، وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ ، وَيَتْفِلُ ، فَبَرَأَ ، فَأَتَوْا بِالشَّاءِ ، فَقَالُوا لاَ نَأْخُذُهُ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلُوهُ فَضَحِكَ وَقَالَ « وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ ، خُذُوهَا ، وَاضْرِبُوا لِى بِسَهْمٍ » .
و لكن إذا اعتقد الناس في ذلك الصبي شيئاً من الولاية أو الإلهام ( كما نسبتم إلى أحد المشائخ ) فالأولى الكف عن العلاج كي لا يُفتن الناس في عقائدهم ، و يتعلّقوا في الخَلقِ بدَل الخالق ، ظناً منهم أنّه يضر أو ينفع من تلقاء نفسه .
كما يجب الحذر من المبالغة في هذا الأمر ، و نسبة أمور لم تحدث إلى ذلك الصبي ، أو المبالغة عند رواية ما حَدَث .
فإذا انتفت هذه الموانع كلّها جاز له أن يَرقي ، و إن مُنح أجراً على ذلك ، و لكن لا يتّخذها مهنةً ينصرف إليها أو يتفرّغ لها بالكلّيّة ، لأنّ هذا مخالف لهدي السلف الصالح رضوان الله عليهم ، و لو كان خيراً لسبقونا إليه .
و الله تعالى أجلّ و أعلم و أحكم .(/1)
العلاقات الاجتماعية ... رؤية مشتركة
مفكرة الإسلام : هناك بعض العلاقات الزوجية تكون على درجة جيدة من التوافق والتآلف بالرغم من وجود بعض السمات السلبية في شخصية أحد الزوجين.
فقد يكون أحدهما ضيق الأفق بينما الآخر بعيد النظر وحكيم ، أو أحدهما عنيد بينما الآخر لين .. وغير ذلك ، والمهم أن يكون لكل سمة سلبية في أحد الزوجين ما يقابلها إيجابيًا في الطرف الآخر ، والتي من خلالها يستطيع أن يتحمل شريكه في هدوء دون شعور بعبء أو معاناة.
تأثيرات العلاقات الاجتماعية
من الممكن أن تستمر تلك العلاقات لفترات طويلة دون مشاكل تُذكر ، ولكن هذا يحدث إذا كان الطرفان يعيشان بمعزل عن المجتمع المحيط بها ، ولكننا جميعًا محاطون بشبكة من العلاقات الاجتماعية الممتدة والمتشعبة فيها الأقارب والمعارف والأصدقاء والزملاء.
وكل واحد من هؤلاء له تأثير ما علينا وعلى علاقاتنا بشكل أو بآخر ، فنظرة امتعاض من أحدهم أو عدم رضا من آخر عن موقف ما تجعلنا تلقائيًا نراجع أنفسنا ونتساءل عن السبب وهل من عيب فينا ؟
فالبعض يرى أن هذا الزوج متسامح أكثر من اللازم مع زوجته ، بينما آخرون يرون أن الفتاة بريئة وساذجة وتحتاج إلى توعية وبعض آخر لا يرضيهم تقبل الزوجة لوقاحة زوجها ، وهكذا يصبح أولئك الزوجات والأزواج مرتعًا خصبًا لإسداء الآراء والنصائح من حولهم.
أهل الزوجين
إن الزواج ليس ارتباطًا بين الزوجين فحسب ، وإنما هو ارتباط بين عائلتين ، بل وفي بعض الأحيان تنجم المشاكل الزوجية بسبب التدخل العائلي في شؤون الزوجين ، أو بسبب سوء الإرشاد العائلي لهما ، كأن تستشير الزوجة أمها في مشاكلها الزوجية أو يستشير الزوج والده فيشيران عليهما من خلال تجاربهما الشخصية ، والتي قد لا تكون ناجحة فينعكس فشل الأهل في تجاربهم الزوجية على حياة الزوجين الجديدين.
وقد يكون من بين الآباء والأمهات من يكون نصيبهم من الوعي والتعليم قليل فيصبحون عقبة أمام أولادهم يطفئون الأنوار ويقتلون الآمال ويجرعون أولادهم السم على أنه العلاج المناسب لحياتهم الزوجية ، أو أنهم يوقدون النار عوضًا عن إطفائها.
التدخل السلبي في حياة الزوجين:
1ـ تدخل الآباء: للآباء دور ضعيف ومتواضع وخاصة في التدخل السلبي في حياة أولادهم الزوجية ويندر أن يقوم الأب بتسميم أفكار ولده تجاه زوجته أو ابنته تجاه زوجها ، ولكن في أغلب الأحوال قد ينقاد الأب خلف زوجته في حملتها الشعواء ضد زوجة الولد أو تسميم أفكار ابنته ضد زوجها.
2ـ تدخل الأمهات: للأمهات دور كبير وأساسي في التأثير على حياة أولادهم لأن كل من أم الزوجة وأم الزوج تملك التأثير الواسع والنصيحة الصادقة.
فأم الزوج: قد يكون لها دور سلبي في حياة ابنها بعد زواجه .. فالأم تحس أن ابنها الذي كان يعيش في كنفها ويقضي معها الوقت الطويل ويبادلها المشاعر والعواطف أخذته منها زوجته التي سلبتها حقها ونصيبها في ابنها ، وسيطرت على اهتمامه ومشاعره وفازت بالنصيب الأكبر ، وليس لها من سلاح هنا إلا أن تتدخل في شؤون ابنها ، وقد توغر صدر ابنها على زوجته بحجة النصيحة.
وهناك من الأمهات من تتسم بالعقل والحكمة والعطاء الفياض لابنها ولزوجته وأولادهما الصغار ، ولا تتدخل في حياتهما الزوجية إلا بالشكل الإيجابي اللائق.
وأم الزوجة: فهي قد تتدخل بشكل سلبي في حياة ابنتها انطلاقًا من شعورهما أن ابنتها ضعيفة وصغيرة وساذجة وقليلة الحيلة وتحتاج إلى من يقف معها ويساعدها لنيل حقوقها ، لأن الابنة ليس لديها خبرة كافية في الحياة ، وتكون الأم قلقة على ابنتها المتزوجة ومتشككة في قدرتها على أن تكون ربة بيت وزوجة وأمًا للأولاد ، فقد تعترض الأم على ابنتها بسبب تسامحها الشديد مع زوجها ، وتحثها على أن تعود زوجها الاعتماد على نفسه حتى ترتاح عندما يأتيها الصغار.
نصيحة .. ولكنها ضارة
وغالبًا ما تأتي تلك النصائح بوازع من الحب لأحد الأطراف والخوف عليه ، أو لرغبة بعضهم المجردة في تقمص دور الحكيم الواعظ , وأغلب تلك النصائح يصب في معنى واحد هو أن لا تسمح للطرف الآخر أن يتعامل معك بهذا الأسلوب أو ذاك ، ويجب أن تجعله يعتاد على كذا وكذا.
ومن غير المتوقع أن تجدي تلك النصائح أو أن تغير من واقع الأمر شيئًا ، حتى وإن بدت هي التي ستفرض نوع العلاقة بينهما وتحدد الشكل النهائي لتلك العلاقة مهما حاول أحدهما تغيير تلك الحقيقة , بل إنها قد تؤدي إلى تنغيص الحياة الزوجية ونثر الأشواك في طريقها بغير مبرر.
هذا التدخل الخارجي السلبي يفسد العلاقة بين الزوجية ويغير أكثر مما يفيد خاصة إذا كان مفروضًا على الطرفين دون رغبتهما , وليس من الحكمة الاستماع للنصيحة إلا إذا كان هناك بالفعل حاجة إليها ، ويجب أن تكون ممن هم على درجة كبيرة من الوعي والحكمة؛ لأن الغالبية العظمى من الناس يرون الأمور من منظورهم الخاص ، ويأتي حكمهم على المواقف من خلال خبراتهم الشخصية بل وأحيانًا مقرونة بعقدهم الخاصة.(/1)
الرؤية المشتركة والعلاقات الاجتماعية
وهنا يأتي دور الرؤية المشتركة بين الزوجين في علاقتهما بالآخرين من الأقارب والأصدقاء ، فيتفق الزوجان منذ البداية على شكل العلاقة مع:
الأقارب: وهم أهل الزوج ، أهل الزوجة ، طبيعة الزيارات ، طبيعة العلاقات ، حجم التدخل في حياتهما ، مواعيد الزيارة ، مدة الزيارة ، وغير ذلك من الأمور.
الأصدقاء: وهم أصدقاء الزوج ، صديقات الزوجة ، مواعيد لقائهم ومكان لقائهم ، شكل العلاقة معهم.
وعلى الزوجين الاتفاق عند وقوع خلاف أو مشكلة بينهما إلى من يشتكيان ، ومن الذي يتدخل للإصلاح بينهما ، فلا ينبغي بث الشكوى لمن لا دخل له ، أو لأطراف متعددة حتى وإن كان من باب تفريغ شحنة الغضب أو الإحباط المشتعلة بداخله ، لكي لا تصبح خصوصيات الحياة الزوجية مثارًا للمناقشات العامة وإبداء الآراء لكل من هب ودب ، فهذه أمور تفسد ولا تفيد وتعمق الخلافات وتزيد المشاكل تعقيدًا ولا تحل من الأمر شيئًا.
الحكمة أساس السعادة
يجب أن يكون هناك حكمة فيما نقول ولمن نقول ، كما لا ينبغي الاستماع لكل ما يُقال أو التأثر بكل ما يُثار من حديث ، وهذا الأمر يتطلب ثقة عالية بالنفس وتعقلاً شديدًا واستعدادًا فطريًا لعدم التأثر بالآخرين ، ويجب الوعي بتلك الأمور حتى نحصن أنفسنا من التدخل السلبي للآخرين في حياتنا.
وقفة مع الزوجة المسلمة
عزيزتي الزوجة المسلمة:
من أجلِّ صفات الزوجة المسلمة أن تبر أهل زوجها وتصل الرحم لتدخل على زوجها الفرح والسرور وتتقرب إلى الله بهذه العبادة انطلاقًا من قوله صلى الله عليه وسلم: [[إن من أبر البر أن يحفظ الرجل أهل ود أبيه]].
واعلمي أيتها الزوجة أن زوجك يحب أهله أكثر من أهلك ، كما أنك أيضًا تحبين أهلك أكثر من أهله ، وأن الزوج لن يقبل إهانة توجه إلى أمه مهما تبلد فيه إحساس البر تجاهها ، فاحذري أن تطعنيه بازدراء أهله أو انتقاصهم أو أذيته فيهم فإن ذلك يدعوه إلى النفرة منك.
إن تفريط الزوجة في احترام أهل زوجها تفريط في احترامه ، وإن لم يقابل الزوج ذلك بادئ الأمر بشيء فلن يسلم حبه إياها من الخدش والنقص والتكدير.
إن الرجل الذي يحب أهله ويبر والديه إنسان صالح فاضل جدير بأن تحترمه زوجته وترجو فيه الخير ، والزوجة التي تعتقد أنها بإيقاعها بين زوجها وأهله ليتفرغ لها وحدها ويكون لأولاده وحدهم ، امرأة ساذجة تدفن رأسها في الرمال غير صالحة ولا تقية ، إن عقوق الرجل والديه دمار عليه وعلى زوجته وأولاده؛ لأن العقوق من المعاصي التي تُعجل عقوبتها في الدنيا فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[اثنان يعجلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين]] [رواه البخاري].
ومن أرادت الاستزادة في هذا الموضوع فلترجع إلى مقال: إلى الزوجة المسلمة .. كيف تعاملين أمك الثانية ؟(/2)
العلاقة الخاصة والحب بين الزوجين
إن العلاقة الجنسية والجوانب العاطفية المحيطة بالجماع بالغة الأهمية في تعميق العلاقة الوجدانية بين الرجل والمرأة، لما فيها من إرواء للشهوة وجلب للسعادة والنشوة المصاحبة لتلك العملية، مما يجعلها تضيف روحًا من البهجة والمودة والرحمة على تلك العلاقة المقدسة.
وهناك ثلاث علاقات عاطفية تؤثر في استمرار ونجاح الحياة الزوجية وهي:
1ـ الميل الجنسي إلى شريك الحياة.
2ـ العلاقة الوجدانية بين الشريكين.
3ـ الحب العائلي.
وأعني بالميل الجنسي نحو شريك الحياة أي الرغبة الجنسية للزوج والزوجة بشكل يتحقق به التكيف العام بينهما، وبعبارة أوضح عندما يجد كلا الطرفين أن الطرف الآخر مرغوب فيه جنسيًا ومغريًا للإقبال عليه.
أما العلاقة الوجدانية بين الزوجين فهي التوافق النفسي والروحي في المشاعر والأحاسيس والأماني والطموحات التي تحقق الألفة والمحبة بينهما ومشاركة كل منهما الآخر، فيقاسم كل منهما الآخر أفراحه ونجاحه وآلامه وجراحه، وهذا يسمى بالحب المعنوي.
أما الحب العائلي فيتمثل في قوة العاطفة نحو الأبناء خاصة وبقوة المودة بين أسرتي الزوجين بشكل عام، فإذا توافرت هذه الثلاثة فإن الحياة الزوجية تصبح موفقة دون شك، وعدم وجود أحد هذه المقومات لا يعني أن الحياة الزوجية في خطر وأنها لن تستمر، بالطبع لا ولن, فمما لا شك فيه ستكون أقل في المتعة والراحة النفسية.
[أسرار السعادة الزوجية ـ محمد محمود عبد الله]
وإذا كان الميل الجنسي أو العلاقة الجسدية بين الرجل وزوجته من أركان العلاقة العاطفية، إذن فالمقصود طبعًا ليس فقط هو قضاء الوطر والشهوة، وإنما هذه العملية ما هي إلا تعبير عن علاقة أعمق وأشمل ولذلك سماها القرآن مودة ورحمة، فقضاء الشهوة محطة من محطات الحب والعشق تسبقه محطات وتليه محطات.
فالمحطات التي تسبقه مختصرة في قوله تعالى: {وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ} [البقرة: 223] وحديث النبي صلى الله عليه وسلم:' هلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك '، والمحطات التي تليها مختصرة في قوله تعالى: {الرَّفَث} وحديث عائشة رضي الله عنه في غسلها مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي بيان كيفية التعامل بين الزوجين لتحقيق السعادة الزوجية قال تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم/21] وقال تعالى: {وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 223].
وفي الآية يأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يقدموا لأنفسهم، وهي التهيئة المعنية والإعداد النفسي قبل تمام العملية الجنسية، فكلا الزوجين مطالب أن يقدم للآخر الركن المعنوي والراحة النفسية والانسجام الروحي من معين لا ينضب، وهو معين المودة والرحمة.
ولقد آن الأوان أن نقول إن الزوجة لم تعد فقط آلة إخصاب، وإن كان ذلك من أهم أدوارها التي خصها الله بها، وإنما هي شريكة للرجل في التمتع في اللذة الحلال، ولا بد أن تكون إيجابية، لأنه كلما كانت المرأة أكثر فاعلية في الحوار الجنسي زادت المتعة وتسامت السعادة.
فقضية الجنس ليست قضية هامشية في حياة الرجل والمرأة السويين، ولا هي من الرجس طالما كانت في الحلال، ولا يجوز إطلاقًا إهمالها أو تركها لتتحكم فيها نصائح ورواسب العاهرات في الإعلام.
وعلى المرأة أن تتعلم وتتفنن في الحب، ولا يجوز لها أن تجهل أهمية رسالتها الجنسية، فبدلاً من أن تحسبها تبعة مضلة بالآداب، عليها أن تكرس لها وقتًا يتناسب مع أهميتها.
والمرأة المثالية تدرك لأهمية دور المرأة في الجماع منذ الليلة الأولى للزواج، ومدى تأثير ذلك الدور ليس فقط في نفس الرجل، وإنما في نفس المرأة ذاتها، وبالتالي في الحياة الزوجية.
وكذلك كي يكون الاتصال الجنسي طبيعيًا وجميلا ومستحبًا، لا بد وأن تساهم الزوجة مع الرجل في الوصول بهذا العمل إلى القمة التي ينشدها زوجها والتي يجب أن تنشدها أيضًا.
وهذه بعض الأدلة من الكتاب والسنة تؤكد على هذا الأمر:
قد ورد في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يؤكد على ضرورة مشاركة المرأة للرجل في اللقاء بصدق وإيجابية، ومن ذلك ما يرويه جابر فيقول: ' كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، فلما رجعنا وكنا قريبًا من المدينة، قلت: يا رسول الله إني حديث عهد بعرس. قال: أتزوجت ؟ قلت نعم. قال: بكرًا أم ثيبًا ؟ قلت: بل ثيبًا قال: فهلا بكرًا تلاعبها ؟! وفي رواية تلاعبها وتلاعبك ' رواه الخمسة، وفي رواية لمسلم فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك ؟ أو قال: تضاحكها وتضاحكك ؟ '
إذن فالزوجة المحترمة والمتدينة ينبغي أن تتحلى بالحياء والستر عن كل الناس، ولكن مع الزوج فحياؤها أن تتجمل له وأن تتحبب له وأن تقر عينه وتحفظ نفسه عن كل ما سوى الحلال: فحالها وحال زوجها كما في قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} البقرة/187.(/1)
وقد اعتبر القرآن العروب إحدى صفات الزوجة المثالية وذلك في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة: 35ـ37].
وعربت المرأة إذا تحببت إلى زوجها، وقال ابن الأثير في 'النهاية' العَرابة هي التصريح بالكلام في الجماع والمقصود من لفظة العرب هو فاعلية المرأة في الاستجابة لزوجها بالتدلل والتلطف والمداعبة.
وللمرأة المثالية أسوة حسنة في السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها التي كانت تشارك النبي صلى الله عليه وسلم متعة وملذاته وأفراحه، حتى إنها لتحدثنا عن ذلك فيما يرويه البخاري ومسلم في صحيحيهما فتقول: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء بيني وبينه تختلف أيدينا عليه، فيبادرني حتى أقول: دع لي، دع لي وهذا التفاعل يكون له أكبر الأثر في نفس الزوجين، وتوثيق العلاقة العاطفية بينهما، فيسود الحب والود والدفء والحنان والعاطفة في الحياة الزوجية والأسرية. [فن العلاقات الزوجية ـ محمد الخشت ـ بتصرف]
هذا وإن كان الجميع قد يعرف ما قبل الجماع وهو ما ذكره الله تعالى في قوله: {وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ} ولكن الكثيرين لا يعرفون مساحة ما بعد ذلك، إنها المساحة التي ترتوي فيها الروح ويمتلئ فيها القلب بالدفء بعد قضاء الشهوة وفيها يتزود الزوجان بزاد من الرقة والمحبة الصافية.
والمداعبة بعد الجماع تكون بابًا لمتعة صافية ليس فيها توقع لأي شيء، بل هي تلذذ بدون توقعات أو انتظار للحظة بعينها، ولا مانع أن يكون هذا التلذذ والتمتع الرقيق، الذي يبث فيه كل طرف لشريكه مشاعره ويعبر له عن مكنون نفسه وخلاصة حبه، أن يكون ذلك باباً لمتعة جديدة بمعاودة اللقاء مرة أخرى، والتوجيه النبوي للرجل أن يتوضأ تنشيطًا للعود.
والمداعبة قد تأخذ أية صورة يحبها ويتفق عليها الزوجان وتحقق لهما المتعة والسعادة، ولا تقتصر على الفراش، بل قد تكون في الاغتسال معًا، أو غيره من أشكال التلطف والمداعبة التي يحبها الزوجان، وهي من أسرارها ولهما أن يبدعا فيها كما يحبان ما دامت تحقق لهما الإحصان والسكن وتخلو من محرمات حرمها الله.
وخلاصة القول:
إن العلاقة الجنسية الناجحة التي تروي ظمأ كلا من الطرفين باب من أبواب السعادة والراحة النفسية والقبول والرضى عن الآخر، الذي يولد ارتباطًا ومحبة عاطفية ووجدانية عميقة تسمو بعد ذلك عن كل شيء وإن كانت العلاقة الجنسية تمدها بالتجدد والشوق للآخر.
وهذه العلاقة مع فطرتها وقابلية كل من الرجل والمرأة لممارستها، لأنها سنة الحياة أودعها الله في البشر، ولكن المتعة والسعادة فن يجب تعمله من الرجل والمرأة حتى تتحول تلك الممارسة إلى أنشودة حب وسعادة وعفاف وإحصان لكل من الرجل والمرأة.
وكل محطة من محطات هذا اللقاء له فنه وأدبياته وممارسته فخذ بقواعده النبوية نضمن لك بتوفيق الله وإعانته قمة السعادة الزوجية وأعلى صور تحقيق السكن
وإلى حين اللقاء لكم منا أطيب الأماني وأرق التحيات
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/2)
العلاقة الزوجية بين المثالية والواقعية
يجنح بعض الكتاب فيما يخص العلاقة الزوجية إلى اعتماد منهج يصور الحياة الزوجية الصحيحة على أنها جنة الله في الأرض، احترام متبادل، حب ودفء في المشاعر، رعاية للصغار، احترام للأقارب، وحدة وتجانس في كل شيء في الأفكار والأمزجة وحتى في علاقة الفراش، وأنه إذا لم تتوافر المعاني بتلك الدرجة في المثالية فإن الحياة ربما تتحول إلى جحيم لا يطاق فما العمل وما الحل؟
الفهم الصحيح هو الحل:
فالحياة الزوجية ليست لحظات متلاحقة من بث الشوق والهيام ومن فناء الجسدين الواحد في الآخر إنما أيضًا 'ثلاث وجبات كل يوم' و'هل فكرت في إخراج وعاء القمامة أيتها الزوجة؟'.
* صحيح أن الحب هو أساس العلاقة الزوجية، ولكن ليس هو كل شيء، فيجانبه أمور كثيرة تتعلق بالحياة والمعيشة، وليس لنا أن نلوم الزوج السعيد إذا ما رأيناه يكرس وقتًا كثيرًا لعمله، فهو يلتمس مسؤولياته الجديدة ويريد أن ينجح، وخير للمرأة أن تقول لنفسها إن تصرفه حيالها على ما فيه من عدم اكتراث ظاهر، دليل على أنها أصبحت في نظره رفيقًا مألوفًا ومريحًا، وأنه بات واثقًا من أن علاقته بها غدت من الرسوخ بحيث لم تعد بحاجة إلى تدليل مستمر وإبداء دائم لتعلقه بشخصها'.
أو كل البيوت تبنى على الحب؟
ونحن هنا نتساءل ماذا لو كان عنصر الحب ضعيفًا في العلاقة الزوجية أو انتفى .. هل يهدم البيت ويحدث الانفصال؟ أم يتعايش الزوجان بواقعية؟
يرد على السؤال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما جاء رجل يستشيره في طلاق امرأته، فقال له عمر: لا تفعل، فقال الرجل: ولكني لا أحبها قال عمر رضي الله عنه: ويحك وكم من البيوت يبنى على الحب؟ فأين الرعاية وأين التذمم؟ وهنا ويقصد عمر رضي الله عنه أن البيوت إذا عز عليها أن تبنى على الحب فهي خليقة أن تبنى على ركنين آخرين شديدين هما:
1ـ الرعاية: التي تثبت الراحم في جوانبها ويتكافل بها أهلها البيت في معرفة ما لهم وما عليهم من الحقوق والواجبات.
2ـ التذمم: وهو التحرج من أن يصبح الرجل مصدرًا لتفريق الشمل وتقويض البيت وشقوة الأولاد، وما قد يأتي من وراء هذه السيئات من نكد العيش وسوء المصير.
* وفي رواية أخرى قال عمر لامرأة تبغض زوجها وتقول له ذلك: 'بلى فلتكذب إحداكن ولتجمل ـ أي تقول القول الجميل ـ فليس كل البيوت تبنى على الحب ولكن معاشرة على الإحسان والإسلام'.
نعم: البيوت تحتاج إلى المجاملة والمداراة والمسامحة أحيانًا كثيرة، حتى وإن كان الرجل يحب زوجته وزوجته تحبه؛ لأن الحب يمر بأوقات فتور، وإنما يزكيه الكلام الطيب والمجاملة والمديح والثناء على المحبوب.
* وقول عمر بن الخطاب 'فليس كل البيوت تبنى على الحب' يعني أن هناك رسالة عظيمة للبيت المسلم ألا وهي تربية الأبناء وتقويم سلوكهم والعبور بهم إلى بر الأمان، والعشرة بين الرجل وزوجته على العسر واليسر والحلو والمر، كل هذا يقوي الرابطة الزوجية ويجعل منها رباطًا قويًا لا تنفصم عراه بسهولة.
هذا هو مبدأ الواقعية في الحياة الزوجية.
* ما أتفه الكلام الرخيص الذي ينعق به المتحذلقون باسم 'الحب' وهم يعنون به نزوة العاطفة المتقلبة ويبيحون به الانفصال بينا لزوجين وتحطيم المؤسسة الزوجية بل خيانة الزوجة لزوجها أليست لا تحبه؟ وخيانة الزوج لزوجته أليس لا يحبها؟ وما يهجس في هذه النفوس التافهة الصغيرة معنى أكبر من نزوة العاطفة الصغيرة المتقلبة، ونزوة الميل الحيواني المسعور .. ومن المؤكد أنه لا يخطر لهم أن في الحياة من المروءة والنبل والتجمل والاحتمال، ما هو أكبر وأعظم من هذا الذي يتشدقون به في تصور هابط هزيل .. ومن المؤكد طبعًا أنه لا يخطر لهم على خاطر .. الله .. فهم بعيدون عنه في جاهليتهم المزروعة فما تستشعر قلوبهم ما يقول الله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19].
* العلاقة الزوجية تنمو بالأحداث اليومية:
إن العلاقة الزوجية لا تنمو نموًا صحيًا بمجرد تقديم هدية هنا أو باقة ورد وقت المناسبات، وإنما تنمو من خلال الحديث اليومي سيؤثر تأثيرًا عميقًا في شعور الزوج تجاه الزوج الآخر.
حب الزواج أقل خيالية وأكثر عمقًا في واقع الحياة [وهذا هو الحب الواقعي] إن الحب يكبر مع كبر الزوجين، ومع مواجهتهما لمشكلات الحياة وتحدياتها، ومع اشتراكهما معًا في التغيير والتكيف مع علاقتهما المتغيرة باستمرار.(/1)
وهناك من الأزواج من قد يعاني من الصعوبات حتى يصل كل منهما في محبته أن يعتقد أن الحب قد اختفى وزال تمامًا، إلا أن كل طرف منهما لا يدرك أن سبب شعوره هذا هو المرحلة التي هما فيها، وأن هناك الكثير من العلاقات الزوجية ممن يصل طرفاها لهذا المستوى ثم يتجاوزانه إلى اكتشافه في نوعية ناضجة ومتميزة من الحب، فيمكن للأزواج من خلال مواجهة التحديات والاختلافات بوعي ورعاية، ومن خلال تطبيق مهارات الكلام والاستماع أن يبدءا برحلة شيقة وبناء نوع جديد من العلاقة العاطفية.
وقد وجدت بعض الأبحاث أنه كلما بذل الزوجان جهدًا لتجاوز خلافاتهما، كلما ساعد هذا كلاهما على النمو الفردي، وهذا بدوره يزيدهما قدرة عل النجاة الاستمرار ونحن نرى أن الحياة الزوجية أشبه بقرص من العسل تبنيه نحلتان، وكلما زاد الجهد فيه زادت حلاوة الشهد فيه.
عندما تذكر أنفسنا أن الحياة ليست مثالية وليست مجردة من المتاعب فإننا بهذه النظرة نكون أكثر قدرة على التعامل مع التحديات بعقل وحكمة.
وفي الحقيقة فإنك حين تذكر نفسك دائمًا بحتمية المشكلات التي تتعامل معها، فإن ذلك لن يجعل حياتك مثالية، ولكن ذلك يضع الأمور في جو أكثر صحة، ويجعل الحياة تبدو أقل ازدحامًا بالمشاكل.
خلاصة القول هي:
إنه من الخطورة بمجال أن نجعل العلاقة الزوجية التي هي قوام البشرية وكأنها طلاسم وبحار عميقة لا يخوض غمارها إلا الفارس المغوار، وهذا من التكلف فالموضوع أسهل من ذلك بكثير، والمتأمل في القرآن الكريم يجده قد وضع القواعد الضابطة لهذه العلاقة بأوضح عبارة وأوجزها، وتراه يستخدم العبارات الموصية المؤدية للمعاني بطريقة حانية صافية، فتراه يتحدث عن المودة والرحمة والسكن، وكيف أن المرأة لباس الرجل، وأهمية أن يقدم الرجل لنفسه مع أهله، وكيف يربي لقمان ابنه وكيف يبر الأبناء بالأباء، وكيف تكون النفقة، وكيف يكون الخلاف وكذلك العقاب، وكيف تبدأ الحياة الزوجية وكيف تنتهي والكثير والكثير.
والذي يفسر ذلك بوضوح وجلاء تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته، وكيف تتصور مجتمع الصحابة تصورًا صحيحًا يتعامل مع الآيات والأحاديث والنفس الإنسانية أيما تعامل، وإن كنا لا نرى بأسًا في أن يتعلم الإنسان بعض الأمور التي تمكنه من جعله سعيدًا مع أهله ويتفن فن السعادة حتى يحولها إلى عادة ولكن الذي ننهى عنه هو الإغراق في النظريات والفلسفات والتقعر والإسفاف عند الكلام في هذه الأمور، فكيف نجعل الأمر الفطري الذي غرسه الله في أنفسنا جميعًا ورجالاً ونساء بهذه الصعوبة، فالمرأة تحب الرجل والرجل يحب المرأة، وهذا فطري ولكل واحد منهما طباع وتفاهمها وتفهمهما لبعضهما هو مفتاح النجاح.
وإلى لقاء قريب السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المراجع:
1ـ فن السعادة الزوجية / محمد الخشت.
2ـ الخلافات الزوجية في ضوء الكتاب والسنة / رعد كامل الحيالي.
3ـ الخلافات الزوجية وحلول علمية.
4ـ في ظلال القرآن ـ سيد قطب.
5ـ التفاهم في الحياة الزوجية د/مأمون مبيض.
6ـ لا تهتم بصغائر الأمور مع أسرتك د/ ريتشارد كارلسون(/2)
العلاقة العاطفية ... رؤية مشتركة
لا يطارد الإسلام المحبين ولا يصادر بواعث الحب والغرام ، ولا يجفف منابع الود والاشتياق ، ولكنه يهذب الشيء المباح حتى لا ينفلت الزمام، ويقع المرء في الحرام والهلاك، وليس هناك مكان للحب في الإسلام إلا في واحة الزوجية.
إن من صفات الأزواج والزوجات الرائعين في الحياة الزوجية، أنهما يحافظان على حبهما الزوجي ويحرصان على تنميته وتطويره ليكون متوقدًا دائمًا؛ لأن هناك كثيرًا من الزيجات تفاجئ 'بموت الحب' بين الطرفين فتصبح علاقتهما الزوجية علاقة جافة قاتلة، ولولا الأبناء لما استمرا في زواجهما، ولكن هناك صنف آخر يشع الحب في نفسيهما من خلال العبارات والنظرات والإشارات.
إن كثيرًا من الملتزمين يرون في الحب منقصة ومذمة، ويرون فيه ضعة ومذلة، وهذا خطأ جسيم، وفهم خاطئ، فتراه لا يتودد إلى زوجته، ولا يعرف للغزل سبيلاً، ولا للمداعبة طريقًا.
ولو نظر إلى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ ورأى حبه الشديد لعائشة ـ وكيف كان يداعبها ويلاطفها؟ لعلم كيف يكون الحب بين الأزواج من شيم الكمال، وليس من صفات النقص. لقد كان صلى الله عليه وسلم يحث بعض صحابته على الزواج بالأبكار .. لماذا؟
من أجل المداعبة والملاعبة والملاطفة، وقد كان في ذلك صريحًا وواضحًا.
'فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك'
وهنا يبرز سؤال مهم هو: لماذا يكون الشغف والوله عند العصاة، ولا يكون عند الطائعين في الحلال؟
وقد ذكر القرآن شغف امرأة العزيز: {قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً} [يوسف:30] ولكن يوسف عليه السلام ـ أبى طريق العصاة والأزواج أولى بهذا الشغف الذي يملأ القلوب طالما أنه في الحلال، فالحب يعطي للحياة الزوجية طعمًا آخر لا يتذوقه إلا المخلصون الأوفياء.
العلاقة العاطفية .. رؤية مشتركة
إن من أهم الأشياء لبناء الحياة العاطفية الناجحة: التفاهم بين الزوجين، والتفاهم يكون في البداية في كيفية اختيار شريك الحياة على أسس صحيحة من الدين والكفاءة الشخصية والعائلية، وبعد ذلك في الأمور المهمة والأساسية في الحياة الزوجية مثل الأولاد وكيفية تربيتهم والقيام على شئونهم، وكذلك الأمور المالية وكيفية الإنفاق، وأخيرًا المسائل الجنسية وكيفية إشباع رغبة الزوجين من الآخر.
وإذا تم التفاهم على قدر كبير من الأمور السابقة، فلابد بعدها أن يتعرف كل من الرجل والمرأة على طبيعة الآخر، وكيف تفكر المرأة وكيف يفكر الرجل؟ وكيف يعبر كل منهما عن مشاعره؟
وبعد ذلك لا بد من الاستفادة من العلاقة الجسدية لبناء علاقة عاطفية ناجحة ومثمرة؛ لأن هذه العلاقة تولد الشوق والحيوية بالنسبة لكلا الطرفين.
والأهم من ذلك كله أن يتعلم الزوجان قاعدتين مهمتين لبيوت سعيدة هما:
أن البيوت تُبنى على الحب، وأن دمار البيوت يبدأ من جفاف المشاعر، فيجب المحافظة على أجواء البيوت هادئة ومستقرة ومعين متجدد للحب والدفء والحنان.
اغترف مما في القلب إن الله تعالى لم يخلق لنا العواطف إلا لنتبادلها، ونتعامل بها، وهي كسائر ما خلق الله لنا فيها حكمة ومنفعة.
يقول الشيخ محمد حسين في كتابه 'العشرة الطيبة للمرأة':
أرأيت أيها الزوج العاقل لو أن إنسانًا أعطاه الله نعمة المال الكثير فكنزه ولم يستثمره ولم ينفق منه على نفسه ولا على من يجب عليه النفقة عليهم .. ما تقول فيه؟
إن المال جعله الله ليتداول بين الناس لا ليكنزوه، وكذلك كنوز العواطف التي تملكها في قلبك لزوجتك ولا يصل منها إليها ما يكفيها، ولهذا لا يقنعها ملكك لها وكنزها في قلبك، بل ستشكك في وجودها عندك.
أنفق أيها الفتى على أهلك ولا تحرمهم رفدك فيزداد منها بعدك، قل لها بملء الفم، واغترف مما في القلب، ولا تجعلها تشعر أبدًا أنك بخيل القلب حتى لو كنت سخي اليد.
قالت إحداهن: ماذا يريد الزوج مني؟ وربما قالت بعض الزوجات: ماذا يريد الزوج مني؟
ألا يجد طعامه مطهيًا وثوبه مكويًا وبيته نظيفًا وأولاده رائعين، وحاجاته مهيأة إنه لا يطلب مني طلبًا إلا حققته، ولا يريد حاجة إلا سارعت في تنفيذها.
ماذا يريد الزوج أكثر من ذلك؟
أيتها الزوجة إن الزوج بحاجة إلى العاطفة التي أنت مصدرها .. إنه بحاجة إلى الابتسامة المشرقة من فيك التي تبدد ظلمات الكآبة التي تعترضه في الحياة، إنه يريد أن يرى الإنسانة التي تعنى به وتظهر له الاهتمام الكبير وتشعره أنه بالنسبة إليها قطب الرحى وأساس السعادة إنه يريد أن يسمع كلمة الشوق والشكر والحب والرغبة في الأنس به واللقاء.
إن كلمة شكر وامتنان من الزوجة مع ابتسامة عذبة تسديها إلى الزوج بمناسبة شرائه متاعًا إلى البيت، أو ثوبًا لها، تدخل عليه من السرور الشيء الكثير، قولي له الكلمة الطيبة لو كان نصيب المجاملة فيها كبيرًا لتجدي منه الود والرحمة والتفاهم، مما يحقق لك الجو المنعش الجميل.(/1)
رددي بين الحين والآخر عبارات الإعجاب بمزاياه، واذكري له اعتزازك بالزواج منه، وأنك ذات حظ عظيم، فإن ذلك يرضي رجولته ويزيد تعلقه بك، قابليه وقت دخوله بالكلمة الحلوة العذبة وتناولي منه ما يحمل بيديه، وأنت تلهجين بذكره وانتظاره إياه، فذلك كله من الكلمة الطيبة التي تأتي بالسعادة لا تكلفك شيئًا وتعود عليك بالنفع العظيم.
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'إن في الجنة غرفًا يرُى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائمًا والناس نيام'. [أخرجه أحمد والحاكم].
ومما لا تتم السعادة الزوجية إلا به تحبب كل من الزوجين إلى صاحبه، وإظهار صدق المودة، وتبادل الكلمات الحنونة، فإن ذلك أحسن ما تستقيم به أحوال الزوجين، وأفضل ما تُبنى عليه حياتهما ولما امتدح الله حور الجنة ذكر من جميل أوصافهن كونهن: {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:37] والعروب: هي المتحببة إلى زوجها.
والحياة الزوجية التي يفقد من قاموسها الكلمات الطيبة الجميلة، والعبارات الدافئة حياة قد أفلت أنجم السعادة فيها.
عزيزي القارئ:
ما هي عناصر الحب الحقيقي ؟
هل هناك ما يسمى بأعمال الحب ؟
كيف ينمو الحب بين الزوجين ؟
ما وسائل تنمية الحب بين الزوجين ؟
إذا أردت التعرف على إجابة الأسئلة المطروحة، وإذا أردت المزيد من التفاصيل في هذا الموضوع فلتراجع على موقعنا المقال التالي: كيف تبني علاقة عاطفية ناجحة؟(/2)
العلاقة بين الإبداع الأدبي والدين
د. زينب بيره جكلي
حين نقرأ قصصا لبعض الحداثيين المتغربين نرى فيها هجوما على الدين وتحللا من الأخلاق ، ويدافع أصحابها عما اقترفوه بمقولة الفن للفن وأنه لاعلاقة للإبداع بالدين والخلق ، فهل هذه المقولة صحيحة أم أنها مهرب ووسيلة إسكات للطرف الآخر ؟
إن كلمة أدب تعني الدعوة ، وقد انتقل مفهومها من الدعوة المادية إلى الدعوة إلى مكارم الأخلاق، ثم صارت تشير إلى التعبير عن تجربة شعورية تعبيرا تشترك فيه اللغة مع الصورة والموسيقى للدلالة عن المعنى المراد .
أما الدين فهو الطاعة والعادة والشعور ، والإسلام .
والعلاقة بين هذا الطرف وذاك هي علاقة مبنية على طاعة الأديب لمن يدين له، وعلى محاسبة نفسه حسب شريعته، واتباعها في سلوكياته القولية والعملية ، ولهذا فإن الدين الإسلامي يطالب الأديب أن يلتزم الحسن من القول ليقدم ثمرة طيبة للمجتمع بل للإنسانية جمعاء ، وقد حدد الله سبحانه في سورة الشعراء ما يجب على الأديب أن يلتزمه ، وطبق الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ، فلما قال النابغة الجعدي :
علونا السماء عفة وتكرما وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا
غضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له : أين المظهر يا أبا ليلى ؟ فقال : الجنة بك يا رسول الله ، فهدأت نفسه وقال: أجل إن شاء الله ، كما توعد الهجائين بقوله ( من قال في الإسلام هجاء مقذعا فلسانه هدر )، وندد بمن دعا إلى عصبية وجعل ميتته جاهلية ،ونفى طويسا لأنه وصف امرأة لخاطب لها وصفا دقيقا ، وبهذا يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أول من حدد العلاقة بين الدين والأدب بوصفه كلمة طيبة أو خبيثة كأي كلام يفوه به صاحبه .
وقد استوعب هذا الصحابة رضوان الله عليهم فأشاد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحكم زهيربن أبي سلمى، وسجن الحطيئة لهجائه الزبرقان ، ثم نفذ الخلفاء أو كثير منهم هذا فقتل وضاح اليمن لفجره في أدبه ، وبشار بن برد لزندقته فيه ، ورد ابن وكيع التنيسي من شعر أبي الطيب المتنبي قوله في فخره :
أي محل أرتقي وأي عظيم أتقي
وكل ما قد خلق الله وما لم يخلق
محتقر في همتي كشعرة في مفرقي
وقال : (هذه أبيات فيها قلة ورع وهذا ما لا أحب إثباته في ديوانه لخروجه عن حد الكبر إلى حد الكفر )
وقد وجد المسلمون في أفياء الدين متسعا من القول فوصفوا ومدحوا ورثوا ، ودعوا إلى تعليم أولادهم الشعر ، يقول عبد الملك بن مروان لمؤدب أولاده ( علمهم الشعر يمجدوا وينجدوا )، ولكن بعض الأدباء والنقاد تجاوزوا الحد وعدوا الأدب إقامة للوزن ، وتخيراً للفظ وسهولة في المخرج ، وقال الجرجاني في شعر أبي نواس ( فلو كانت الديانة عارا على الشعر ، وكان سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشاعر لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين ، ولكن الأمرين متباينان ، والدين بمعزل عن الشعر ) فرد عليه الشيباني : (لولا أن أبا نواس أفسد شعره بهذه الأقذار يعني الخمور لاحتججنا بشعره ).
وفي العصر الحديث دعا د. رجب بيومي إلى حذف كل مايخالف الدين من فكر أو فجر كالذي في كتاب ألف ليلة وليلة ولكن طه حسين عارضه في ذلك ، وكان اختلاط أبنائنا في العصر الحديث بالغرب وتأثرهم بمفاهيمه النقدية بل لنقل بسمومه الفكرية أثر في تحول الفكر ووقوع الشباب في حيرة من أمره بعد أن زين له المنكر من القول والفعل ، ومجدت له مدارس أدبية هي في واقعها مخالفة لديننا ، فالرومانسية تشكك المرء ، وتهون الرذيلة ويكفي للدلالة على ذلك أن نقرأ أسماء دواوين شعرائها من مثل ( البغي الفاضلة ، واللص الشريف والمومس الطاهرة !!... )ويتغنى أصحابها بسوداوية الحياة ويعبرون عما يسمونه ظلم القدر ، ويقدسون المرأة ويجعلونها معبودتهم والعياذ بالله ، وطلاسم إيليا أبي ماضي وغزل أبي شادي شاهد على ذلك .
والواقعية والحداثية تحاربان الدين علانية ويعدانه أفيون الشعوب ، وتحاربان الثوابت ويعدونها رجعية ويطلب أدباؤهما أن تزول الرقابة عن الأدب ويوردون في آدابهم من مثل : ( يا قاهرة ، يا مئذنات ملحدة ، ياكافرة ) ، ويعلن بعضهم ( موت الله ، أو تشرده ) لعنهم الله ، ويقولون ( الإنسان مصدر التشريع لا الله ) ويقول أدونيس ( دربي أنا من دروب الإله والشيطان ) ،و( أمحو لغة الخطيئة ) ، وقصص بعضهم تمثل الضياع والثورة على الدين ويسمونه تقاليد ،ونشرا للرذيلة ، وفعلا كانت مقولة بعضهم ( سقط الفن ) كلمة صحيحة فقد سقط فنيا مضمونا وشكلا حين هوجمت اللغة العربية ودعي إلى أن تكون بلا قواعد أو ضوابط ، أو دعي إلى تسكينها ، أو أن يلجأ إلى الغموض باسم الإيحاء بل قال محمود درويش ( طوبى لشيء غامض ، طوبى لشيء لم يصل ) وسموا ( جثة بالية ) لأنها مكبلة بفكر معين ونظام معين ، كما هاجموا التاريخ بكلام لايليق بأديب أن يفوه به ز(/1)
إن الكلام أداة توصيل للأفكار والمشاعر ، وهو يخاطب شغاف القلوب ، وكل إناء بما فيه ينضح ، وفكرة الفن للفن لا تبرر الفجر والكفر بأي حال من الأحوال ، ومن رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، وتصوير الأدب للانحرافات وللشر والرذيلة يجب أن يتوقف ، وإن واقع العرب والمسلمين اليوم بحاجة إلى تصحيح للأوضاع ، ليعيشوا في عز بعد ذل ،والأدب يشارك في مهمة الدعوة إلى الخير ، ولئن حصل انفصام بين الأدب والدين والأخلاق فإن على الأدباء رسالة هامة ألا وهي إيقاظ العقول والقلوب ، ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة .)(/2)
العلاقة بين الجنسين قبل الخطبة و عقد القران
السؤال :
أعرف شخصاً غريباً عني أبدى لي رغبته في الزواج مني ، و طلب مني أن أساعده أوّلا في إصلاح حال إحدى الفتيات لتكون أكثر استقامة لأنّه كما قال يخاف عليها من غدر الذئاب المفترسة في زماننا ، و هو يقوم بهذه المهمة بناء إنفاذاً لوصيّةٍ أوصاه بها خال الفتاه قبل أن يموت .
السؤال : هل يجوز لي أن استمر في علاقتي مع هذا الشاب و أساعده على تحقيق هدفه ، و مهتافته باستمرار ، و السؤال عنه ؟ علماً بأنّ رغبته صادقة في الارتباط بي ؟ و هو شخص طيب و عاقل و يكبرني بإحدى عشرةَ سنةً ، أمّا أنا ففي السادسة عشرة من العمر ، و قد أتممت حفظَ القران الكريم و الحمد لله .
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
أوّلاً : بالنسبة لسعيك إلى إصلاح صاحبتك ، هذا من الأعمال الصالحة ، فأحسني النيّة و احتسبي الأجر عند الله ، فقد تكونين سبباً في هدايتها ، و يكون لك من الأجر مثل أجرها ، من غير أن ينقص ذلك من أجرها شيئاً ، فقد روى مسلمٌ و أصحاب السنن و أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا ) .
و روى الشيخان و غيرهما عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنّه سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ يقول لعليّ رضي الله عنه : ( وَ اللَّهِ لأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ) .
ثانياً : إذا كان الشاب الذي ذكرتِه في سؤالك جادّاً في رغبته الزواج منك ، و هو ممّن يُرتضى خُلُقُه و دينه ، فهذا خيرٌ ساقه الله إليك ، فلا تضيّعيه ، لأنّ في ردّ الأخيار فتحٌ لباب الفتنة على مصراعيه ، و ذريعة لشيوع الفساد و تفشي الرذائل و الفواحش ، فقد أخرج أحمد و ابن ماجة و الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَ فَسَادٌ عَرِيضٌ » .
و إذا أردتم الزواج فإن الله يأمركم أن تأتوا البيوت من أبوابها ، و باب النكاح هو أن يخطبك من وليّ أمرك ، ثمّ يعقد عقداً مستوفياً للشروط الشرعيّة ، فإن فَعَل ذلك ، فلا بأس في أن تتصلي به أو تحدّثيه أو تقابليه ، أو غير ذلك ممّا أحلّه الله للزوجين من أمور .
أمّا إن كان الأمر مجرّد كلام عبر الهاتف أو وعدٍ بالزواج تبرران به إقامة علاقة بينكما أو لقاءاتٍ بخلوةٍ أو بدون خلوةٍ فهذه أمور غير جائزةٍ ، لأنّ الخطبة ليست أكثر من وعدٍ بالزواج قد يتحقق و قد يتعثّر ، فلا تأخذ شيئاً من أحكام الزواج ، و لا يصير بها المحظور مشروعاً ، فاتّقِ الله و لا يستدرجنّك شيئٌٌٌ إلى ما لا يُرضيه تعالى ، و حكّمي الشرعَ في حياتك و علاقاتك ، ففي ذلك السعادة الحقيقيّة في الحياة ، و النجاة و الفلاح بعد الممات .
و بالله التوفيق .(/1)
العلامة بن قعود .. العالم الداعية المحتسب
12-10-2005
بقلم د. سعد بن مطر العتيبي
"...كان يلجأ بعد الله إلى العلماء الكبار كالشيخ الكبير عبدالرزاق عفيفي .. فكان يشكو إليه بعض ما يعتب عليه أقرانه مما لم يدركوه من أمور الواقع ، فيجد من الشيخ عبد الرزاق رحمه الله عوناً له على الثبات ..."
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه .. أما بعد ..
فكم في حياة الكبار من خَفِيَّات مفيدة ، من حقِّنا أن نعرفها ، ومن الإحسان إلينا أن يدونوها لنا إن استطاعوا ، أو يحدثونا بها لندونها عنهم إن استطعنا ، فكتابة المذكرات من مثلهم ، تورِّث علماً وتجربة يُنيرها العلم الذي يحملون .. فهي ليست ( ماركة تجارية ) تظهر في تخبطات قومية ، أو تهورات ناصرية ، أو إيديولوجية حرباوية في قوالب انحنائية ، تتنازعها شيوعية بائدة ولبرالية خادعة ، ولا حتى في تعجلات شبابية ، أو تعالمات تكفيرية ، أو تلبيس شيطاني يتخذ من قَدْح أهل العلم قُربة ! .. كلا ..
إنَّ حياة الكبار لها طعم آخر ، إنَّها لون أصيل ثابت ، وتلك ألوان صناعية متقلبة باهتة .. إنَّها الدروس العملية النافعة .. فكم في سير أعلام النبلاء من حكاية واقعة عملت في قلوب القارئين ما لم تعمله أسفار العلم التي حوتها مكتباتهم ، ومرت عليها أعينهم .. وكم في المذكرات من تاريخ لم يؤرّخ في سواها ، كما في مذكرات العلامة الأديب الأريب الشيخ / علي الطنطاوي رحمه الله تعالى .. فكم فيها من نزهة للقلوب وراحة للنفوس وعبرة للمتعظ ، مع ما حوته من الفوائد المشار إليها .
نقول إنا لله وإنّا إليه راجعون ، رحم الله شيخنا العلامة الجليل / عبد الله بن حسن بن محمد بن حسن بن عبد الله بن قعود .. العالم الفقيه الداعية المحتسب ، هكذا نحسبه ولا نزكي على ربنا أحدا .. وهنا أُبيِّن : لا أريد أن أتحدث عن حياة شيخنا العلمية والعملية العامرة ، ولا عن جهوده في الاحتساب ، كلا ، فذاك شيء يطول الحديث عنه ، فلا يناسب مثل هذا المقام .. وإنَّما أريد أن أسجل شيئاً من وفاء تلميذٍ لشيخه ، بذكر بعض الدروس المستفادة من حياته - مما يخطر الآن على البال - على سبيل الإيجاز الشديد .. لعلّ درساً منها يعلق بنفس أبيّة طاهرة ، فترث عن الشيخ شيئاً من الإرث العملي المنحوت من منهاج النبوّة .. فهكذا ينبغي أن تكون مراثي العلماء ..
لعل بعض شبابنا لم يتيسر له الجلوس بين يدي هذا الشيخ الجليل ، ومهما قلت لأقرِّب لهم صورةً من حياته ومعنى للجلوس بين يديه ، فسيقصر الوصف عن حقيقة مذاق جلسة من تلك الجلسات التي كنّا نستكثر الزمن بينها وبين تاليتها - وإن لم يفصل سوى ساعات في بعض الأحايين - ونحن نُقَبِّل جبينه تقربا إلى الله عز وجل بتوقير ورثة الأنبياء - وهو يشيعنا عند باب داره ، وحتى يصل إلى باب سيارة أحدنا رغما عنّا ، أو وهو يتقهقر إلى مظلة باب الدار ويلوح لنا بيديه ، ووجه إلينا حتى ننصرف ! إذْ لم تُجْد محاولاتنا في إقناعه بالاكتفاء بالتوديع عند الباب حتى صرنا نقرِّب له حذاءه - دون علمه - لعلمنا بعزمه على السير معنا - ولو حافياً - حتى ننصرف !
كانت بداية صلتي بالشيخ رحمه الله في حضور خُطَبه وصلاة الجمعة خلفه في جامع الملك عبد العزيز رحمه الله الواقع بحي المربع من مدينة الرياض ، إذْ كنت أحضر في معية والدي - رحمه الله وجعل قبره روضة من رياض الجنة و أسكنه فسيح جنته - وكنا نخرج من خطبه بموعظة ممزوجة بالفقه والتأصيل والتربية مزجا عجيبا ترسِّخه نغمة الصوت الصادقة ، والعبرة الخاشعة ، والبكاء الذي لا تجدي محاولات الشيخ في كبته ! ومن يقرأ كتابه ( أحاديث الجمعة ) يجد فيها شيئا مما ذكرت ، ومن يستمع بعض تسجيلات خطبه يدرك كثيراً مما وصفت ، ومن حضر تلك الجُمع تذكّر أكثر مما أحاول استذكاره .. كان روّاد خُطبه نُخَبٌ مُتميِّزة من العلماء ، وأذكر منهم العلامة الجليل شيخ الحنابلة الشيخ / عبد الله بن عقيل ، والشيخ الجليل العلامة / عبد الرحمن البراك حفظهما الله ، وأمَّا من يحضرها من طلبة العلم فقد لا أكون مبالغاً لو قلت : إنَّهم جلّ المصلين خلفه !
ثم شاء الله عز وجل أن نقترب من الشيخ أكثر ، إذ كنت أتصل به كثيراً لأعرض عليه بعض ما يشكل عليَّ من المسائل أثناء الدراسة ، ولا سيما فيما يتعلق بالتخصص ( السياسة الشرعية ) ، والشيخ على علم بهذا الفنّ ، بل قد مارس بعض مجالاته عملياً أثناء عمله في ديوان المظالم ، وكنت أجد أجوبة تدلّ على عمق علمي ، يستند فيها الشيخ إلى النصّ ويرعى فيها المقصد ..(/1)
ولمّا رأيت من الشيخ انشراحاً ، عزمت وبعض زملائي على أنّ نتقدم إلى الشيخ بطلب دروس خاصّة في فنّ السياسة الشرعية ، فوجدنا منه ترحيباً عجيباً ، ولم نلبث أن حدّدنا الوقت والكتب ، وبدأنا القراءة على الشيخ .. فأنهينا عليه - بحمد الله — كتاب السياسة الشرعية ، للإمام أبي العبّاس ابن تيمية ، وكتاب : مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ، لأبي عبد الله البعلي ، والاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ، لأبي الحسن البعلي ، وكتاب : الطرق الحكمية ، للعلامة ابن قيم الجوزية ، وكتباً أخرى موسمية ، وبعض البحوث العلمية ، إضافة إلى بعض الكتب التي بدأناها ولم ننهها ، بسبب اشتداد المرض عليه رحمه الله ، ورفع الله درجته وأجزل الله مثوبته ..
كان هذا الدرس خاصّاً ، فلم يكن يحضره سوى بعض الزملاء - ومنهم الآن القضاة والأساتذة الأكاديميون ، و والله لقد كنّا نجد الشيخ - أحياناً - واقفاً الباب ينتظرنا ! ويصرح لنا بمدى اهتمامه وحبه لهذا الدرس !
ومع ما يستفاد منه من التواضع والسمت الحسن ، كان مما يميز درس الشيخ - رحمه الله ورفع درجته وأجزل الله مثوبته - استحضاره السوابقَ القضائية والتاريخية ، مما له صلة بموضوع كثير من الدروس .. وهذا في حد ذاته ، مطلب أندر من الكبريت الأحمر كما يقال .. وفي ظلال هذه الجلسات العلمية التي تعقد في مكتبة الشيخ المنزلية ، كان المجال خصباً للتعرّف على منهج الشيخ في البحث والترجيح ، والتطبيق الفقهي على الوقائع ..
فكان مما استفدناه منه في هذه الجلسات : أنَّ الشيخ - رحمه الله - لا يأبه بأي قول ليس له مستند من الكتاب والسنّة ، مهما كان قائله ، وهذا من آثار تتلمذه على الشيخ ابن باز رحمه الله ! و كان يرى أنَّ ابن باز رحمه الله هو مجدِّد فقه الحديث في الجزيرة العربية .. وحكى لنا - رحمه الله - بدايات اعتماده للأخذ بفقه أهل الحديث ، قائلاً : كنت أتردد على ورّاق بحي البطحاء بالرياض ، فوقع نظري ذات مرّة على كتاب : نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار ، للعلامة الشوكاني ، فلمّا تصفحته ، أُعجبت به كثيراً ، فاشتريته واقتنيته ، ومن ثمّ تأثرت بمنهجه في الاستدلال .
وكان رحمه الله يحتفظ بنسخة من ( بلوغ المرام ، للحافظ ابن حجر رحمه الله ) عليها تعليقات الشيخ ابن باز رحمه الله ، وتصحيحاته وتعقيباته ، وبعضها بخط الشيخ ابن باز رحمه الله ، وكان يخرجه لنا إذا ما عرض لنا حديث للشيخ ابن باز تعقيب عليه .. فقد كان يستذكر تلك الأحاديث من بين بقية الأحاديث .. ومما استفدناه منه رحمه الله : أنَّ على طالب العلم أنّ لا يكون متذبذبا ، تتجاذبه الأقوال والآراء ، بل عليه أن لا يقبل قولاً إلا بحجة ، وإذا ثبت لديه القول بالحجة ، فلا ينتقل عنه إلا أن يتيقن حجة أقوى من حجته السابقة .. وكم في هذه الفائدة من فقه وعلم ..
ومما استفدناه من سيرته العطرة ، أنَّ على طالب العلم أن يلزم غرز العلماء الكبار ، ليعرف ما يأتي وما يذر ، فيحيى عن بيِّنة ، ولا يقع فريسة لكاتب فارغ ، أو متعالم جاهل .. لقد كان الشيخ على صلة قوية بمشايخه ، وكان يلجأ بعد الله عز وجل إليهم .. ومنهم على سبيل المثال ، العلامة الجليل الفقيه الأصولي الكبير الشيخ : عبد الرزاق عفيفي رحمه الله .. فكان يشكو إليه بعض ما يعتب عليه أقرانه مما لم يدركوه من أمور الواقع ، فيجد من الشيخ عبد الرزاق رحمه الله عوناً له على الثبات وردّ الشبهات .. فهذه وسيلة من وسائل التبصّر في الدين ، والثبات على الحق ..
ومما يزيدك حباً للشيخ ، اهتمامه بالعلم الأصيل ، دون التعلق بالتوابع والاستكثار من الإجازات ، وما إليها ، وهي قاعدة قديمة عنده ، بل إنَّ من تطبيقاتها القديمة لديه - وقد ناقشته فيها لعدم تسليمي له بها - : أنَّه ختم القرآن على أحد القراء في المسجد النبوي ، فلما انتهى طلب منه المقريء أنّ يتبعه لداره ، ليكتب له الإجازة في قراءة حفص عن عاصم ، فأبى شيخنا ذلك ، وقد دُهش المقريء لمَّا قال له الشيخ : ما جئت للإجازة ، إنَّما جئتك لأضبط القراءة ! وإنَّما لم أسلِّم لشيخي بالامتناع عن الإجازة ، لأنَّ إجازات القرآن والقراءات ، لا زالت بعافية ولله الحمد ، فلا تُعطى إلا لمن يستحقها ، بخلاف غيرها ، وكتاب الله عز وجل ، لا يُتقنه من لم يأخذه من أفواه القراء المتقنين ..
قلت : وأمَّا ما وافقت شيخي فيه بهذا الشأن ، فهو مقْته على اللهث وراء الإجازات التجمُّلية، والانشغال بها عن العلم ، حتى رأيت من بعض الطلبة من لا همّ له إلا هي ، يرحل ويضعن من أجلها ، ورأيت من يحضر بعض مجالس العرض في آخر جلسة فقط ، ليسمع حديثاً واحداً أو لا يسمع شيئاً ؛ ليدوَّن اسمه فيمن حضر ! والله المستعان !(/2)
وأمَّا سعة أفق الشيخ وعنايته بشؤون الأمّة ، وحبِّه لجمع الشمل ، وتوحيد الكلمة ، وقدراته الدبلوماسية في هذا الشأن ، فشيء قد لا يخطر على البال ! ولو تركت لقلمي المجال ، لربما طال المقام وفاتت المناسبة دون أقدم لمحبيه عنه شيئاً .. ولكن أكتفي بذكر طرفٍ - حرّج علينا الشيخ نشره في حياته - ليكشف لنا شيئاً من جهوده العملية في متابعة شؤون الأمّة التي لا تحدّها الأقاليم ..
مرّة كان الحديث في الدرس عن الشفاعة - فيما أظن - وأثناء القراءة ، ضحك الشيخ فلفت انتباهنا ، ثم سكت مبتسماً برهة ، ونحن نبادله الابتسامة نتحيّن ما بعدها ، وحينها أدرك الشيخ مبتغانا ، وكاد يعود بنا حيث وقفنا ، ولكن النّفوس قد تهيئت لأمر تردّد فيه الشيخ ، فلم ندعه حتى نطق ، فقصَّ علينا القصّة التالية ( أسوقها كما أتذكرها قدر المستطاع ) قال : ذات مرّة اتصل بي الشيخ عبد العزيز ( يعني ابن باز - رحمه الله - وكان ابن باز حياً حين إخبارنا بالقصة ) بعد صلاة العصر ، وقال : يا شيخ عبد الله ! أريد أن تأتيني الآن ! فاتجهت إليه وأنا أُفكِّر : ماذا يريد الشيخ في هذا الوقت الذي هو وقت راحته في العادة .. ولما وصلت داره ، وجدته في انتظاري ، يترقب مجيئي إليه وبيده ظرف مغلق .. فرحب بي ثم سارَّني قائلاً : يا شيخ عبد الله ، تذْكِرتُك إلى باكستان جاهزة ، وأريد أن تسلِّم هذا الخطاب لأخينا ضياء الحق بنفسك ! .. وحكى لي قصة الظرف باختصار .. فحاولت أن أعتذر لبعض الأشغال الخاصة ، فلم يترك لي الشيخ مجالا ، وقال : استعن بالله ، وستجد الإخوة في انتظارك هناك ! .. قال : فجهزت نفسي وسافرت إلى هناك ، ولما وصلت مطار إسلام آباد ، وجدت جمعاً من الإخوة في استقبالي ، وسرنا إلى حيث كان الرئيس ضياء الحق رحمه الله ، ووجدنا ضياء الحق عند مدخل المبنى ، فاستقبلنا ورحب بنا ترحيبا قوياً ، ثم جلسنا وسلمته الخطاب ، فنظر فيه ، ثم قال : إن شاء الله .. إن شاء الله .. ولمَّا هممنا بالانصراف ، قال : بلّغ سلامنا للشيخ ابن باز .. وإن شاء الله يسمع ما يسره ( أو كلاماً نحو هذا ) . قال : وكان الشيخ قد قال لي : هذا الخطاب فيه شفاعة خاصّة في أخينا نجم الدين أربكان ، لعلّ الله ييسر له الخروج من السجن .. وكان نجم الدين أربكان - وفقه الله - قد سُجن حينها بأمر من الرئيس التركي الجنرال الهالك كنعان إيفرين - عليه من الله ما يستحق .. قلنا : يا شيخ عبد الله ! وما علاقة ضياء الحق بالموضوع ؟ لماذا اختاره الشيخ ووجه له الرسالة ؟! قال : سألت الشيخ - يعني ابن باز - فقال : له به علاقة صداقة قديمة ! لعلّ الله ينفع به .. لعلّ الله ينفع به .. ثم سألنا الشيخ جميعاً بصوت متقارب : هل كان لهذه الشفاعة أثر ؟ قال الشيخ : نعم لم نلبث حتى سمعنا خبر إطلاق سراح نجم الدين أربكان ، وما إن خرج حتى بدأ في تأسيس حزبه الإسلامي باسم جديد .
قلت : وأمَّا ما لم يذكره شيخنا عبد الله ابن قعود - رحمه الله - لنا أثناء سرده لهذه القصّة ، فهو : لماذا اختار شيخنا ابن باز شيخَنا ابن قعود لهذه المهمّة ؟ بل لماذا كان يختاره ممثلاً عنه في عدد من المهام الدقيقة ، والاستجابة للدعوات الخارجية الموجهة إليه من عدد من المؤتمرات الإسلامية ! بل لماذا أرسله لمناقشة مدعي النبوة في الولايات المتحدة الأمريكية ، وهي قصة أخرى عجيبة ! ولعلَّ مما يمكن اندراجه في الجواب : أنَّ شيخنا ابن قعود - رحمه الله ورفع درجته وأجزل الله مثوبته - سلفي حقيقة ، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ، علم ، وفهم ، ومرونة شرعية على نهج المرسلين ، ذلَّة على المؤمنين وعزّة على الكافرين ..
لقد كان له عناية بالحركة الإسلامية في تركيا ، ذكر بعضها في محاضرة ألقاها في جامعة الملك سعود في حشد كبير من الأساتذة والطلاب والمهتمين تحت عنوان : ( الدعوات الإصلاحية وأثرها في المجتمع ) ، وله رحلات أجنبية عديدة حضر خلالها مؤتمرات دولية ولقاءات عامّة ، ووقف فيها على كثير من المواقف التي تتطلب مرونة شرعية يتقنها أيَّما إتقان ، مع ما وهبه الله عز وجل من خلق و معرفة بذوقيات التعامل الخارجي ورسمياته . حتى في طريقة أداء العبادة في بعض الأحوال : ومن ذلك أنَّه كان بصحبة أحد المبتعثين في الولايات المتحدة الأمريكية ، فحان وقت صلاة العصر ، وكانوا في أحد المطارات الأمريكية الدولية ، فسارّه الطالب المبتعث : يا شيخ حان وقت الصلاة ، وأريد أن أرفع صوتي بالأذان ؟ فردًَّ الشيخ : لا .. ثم بدأ الشيخ مباشرة يؤذن بصوت عادي - كأنما يحدثني - ونحن نسير ، نحو الصالة الأخرى لنطير منها إلى المطار المحلي ، ثم قال لي : لا ضرورة لرفع الصوت .. الحمد لله الدين يسر .. هذا قد يضرّ ، ونحن اثنان .. أو كلاماً نحو هذا ..(/3)
أتذكر هذه القصّة ، ونحوها من قصص علمائنا الذين نشأوا في طاعة الله بالعبادة وطلب العلم ، و ابيضّت لحاهم في ذلك غير محرِّفين ولا منْحرفين ولا مغَيِّرين .. وأتذاكرها أحياناً مع الزملاء الذين أشرت إليهم ، فلا ينتهي عجبُنا من الشيخ ، ومعرفته بدقائق من الواقع العالمي ، لا يعرفها كثيرون من أصحاب الشأن ، وقد سألت عددا من الأكاديميين العسكريين عن علاقة ضياء الحق بكنعان إيفرين من الناحية التاريخية ، فقال لي بعضهم : كان الضبّاط الباكستانيون يَتَخَرَّجون في الكليات العسكرية التركية ! .. ولكن ضياء الحق سبق هذه المرحلة ، وأمَّا هل في هذا جواب يُفسِّر الواقعة ، أو أنَّ جوابها في غيره ؟! فالله تعالى أعلم ..
كما لا ينتهي عجبُنا من نابتة لا تعرف قدر علمائنا الكبار ، وتظنّ أنَّهم لا يدركون من أمر الواقع إلا دون ما هم يدركون .. ولا ينتهي عجبنا كذلك من فئة تظنّ أنَّ علماء الأمة لا حقَّ لهم في الاهتمام بأمر المسلمين ، فما شأن أهل الآخرة بأهل الدنيا ، وكأنَّ علماءنا لم يبطلوا العلمانية من جذورها ، ويُفنَّدوا مقالات دعاتها من أساسها ..
ثم عجبنا ممن يزعمون الثقافة ويتزعمونها - رغماً عنها - ثم هم يحاولون التنقّص من كبار العلماء مباشرة أو من خلال النيل من المؤسسات الشرعية التي ولاَّهم عليها ولاة أمرنا - وفقهم الله لما يرضيه - وكأنَّهم أوصياء حتى على الشريعة التي لم يتخصصوا فيها ! فتجدهم ينقدون الفتاوى ، ويسيؤون فهم النصوص ، بل إنَّهم لا يحسنون قراءة بيانات أهل العلم في الأمور العامة التي يرون وجوب بيانها للنّاس ، نصحاً للأمَّة ، وحذراً من كتم العلم ، ودرءاً لما يُتَوَقَّع من الفتن .
وترد على خاطري خواطر من المشهد الإعلامي - الذي يفتقد الشرعية النظامية بمخالفة كثير من مواد السياسة الإعلامية - حول هذا المعنى ، منها : هل هذا التحصيل العلمي ، والفقه الشرعي ، والوعي الدعوي ، ووقار المشيخة ، وتجربة السنين ، هل هذا كلّه هو الألم الذي يستنطق الأعداء بالخوف والتخوف والتنادي لحصار الخير الذي بلغ الآفاق ؟ وهل جيل الصحوة الذي ينقاد للعلماء - امتثالاً لأمر الله عز وجل - أشدّ رهبة في صدورهم من الله ؟ وهل هؤلاء قوم يفقهون ! لنجد أي سندٍ لما يتقوّلون ؟ ..
وأنا في خضم هذه الأفكار .. أتذكر بعض آي الكتاب ، فأجدني أردَّد قول الله عز وجل : {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ } (الحشر 13) .(/4)
العلم وأهميته في الإسلام
1- تعريف العلم.
2- أقسام العلم:
1/2 من حيث الاستدلال والنظر.
2/2 من حيث تعليم الله تعالى للعبد.
3/2 من حيث المحتوى.
3- حكم طلب العلم.
4- فضل العلم:
1/ 4 استشهاد الله سبحانه وتعالى أهلَ العلم على أجل مشهود.
2/ 4 أن الله تعالى نفى التسوية بين العلم والجهل.
3/4 رفعة درجات أهل العلم.
4/4 أن أهل العلم هم أهل الخشية.
5/4 أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب المزيد من العلم.
6/4 الاستشهاد بأقوال أهل العلم يوم القيامة.
7/4 أن أهل العلم هم المنتفعون بأمثال القرآن.
8/4 أن العلم سلطان على الناس.
9/4 أن العلم شرط في قبول العمل.
10/4 طلب العلم طريق إلى الجنة.
11/4 أن الفقه في الدين سبب من أسباب الحصول على الخير.
12/4 أن العلم من أجلِّ النعم.
13/4 أن العلم كالغيث.
14/4 أن أهل العلم أحد صنفي ولاة الأمر.
15/4 رضا الملائكة بطالب العلم.
16/4 أن العلم يستثنى صاحبه من اللعن.
17/4 إيواء الله سبحانه وتعالى لطالب العلم.
18/4 أن أهل العلم يغبطون.
19/4 دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأهل العلم بالنضارة.
20/4 مباهاة الملائكة بطلبة العلم.
21/4 تقديم أهل العلم في الولايات الدينية.
22/4 أن العلم ميراث النبوة.
23/4 استغفار الحيتان وغيرها لطالب العلم.
24/4 لا تنجح الدعوة إلا بالعلم.
5- آداب طالب العلم:
1/5 إخلاص النية لله تعالى.
2/5 العمل بالعلم ودوام المراقبة والخشية.
3/5 صيانة العلم.
4/5 القيام بشعائر الإسلام وظواهر الأحكام.
5/5 المحافظة على المندوبات الشرعية القولية والفعلية.
6/5 التواضع والسكينة ونبذ الخيلاء والكبر.
7/5 القناعة والزهادة.
8/5 التحلي بمكارم الأخلاق وجميل الخصال والخلال.
9/5 تطهير الباطن والظاهر من الأخلاق الرديئة.
10/5 التفرغ والمحافظة على الأوقات.
11/5 الجد والاجتهاد ودوام الحرص على الازدياد.
12/5 حسن اختيار رفقاء الطلب.
13/5 إجلال الشيخ والتأدّب عنده وتعظيم حرمته.
14/5 احترام العلماء من غير تقديس واتباعهم من غير تقليد.
15/5 رحابة الصدر في مسائل الخلاف.
6- معوقات تحصيل العلم:
1/6 كثرة الأشغال والصوارف.
2/6 الكبرياء وعزّ النفس.
3/6 سيطرة الشهوات والهوى.
4/6 ازدحام العلم وعدم التدرج في طلبه.
5/6 التعصب المقيت.
6/6 الجهل بالطرق الموصلة إلى العلم.
7- الباعث على الطلب.
8- نماذج من العلماء الذين تعلموا في الكبر.
9- ملحقات البحث (قصص ـ أبيات شعرية ـ محامد ـ أدعية ـ مراجع للتوسع).
1- تعريف العلم:
العِلْم مصدر علِم يعلَم، وهو أصل واحد يدلّ على أََثرٍ بالشيء يتميَّز به عن غيره، وهو نقيض الجهل.
قال الجويني: "العلم: معرفة المعلوم على ما هو به في الواقع".
وقال ابن القيم: "هو نقل صورة المعلوم من الخارج وإثباتها في النفس".
وقال الجرجاني: "هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع".
انظر: مقاييس اللغة (4/109)، ولسان العرب (مادة عَلم).
الورقات (8).
الفوائد (91).
التعريفات (191).
2- أقسام العلم:
1/2 ينقسم العلم من حيث الاستدلال والنظر إلى قسمين:
علم ضروري: وهو ما يكون إدراك المعلوم فيه ضروريًا، بحيث يُضطَرّ إليه من غير نظر ولا استدلال، كالعلم بأن النار حارّة.
علم نظري: وهو ما يحتاج إلى نظر واستدلال، كالعلم بوجوب النية.
2/2 وينقسم العلم من حيث تعليم الله تعالى للعبد إلى:
1- العلم اللدُني: وهو علم إلهي لدني يهبه الله سبحانه لمن يمنّ عليه من عباده.
2- العلم المكتسَب: وهو علم يدركه العبد بطلبه.
3/2 كما ينقسم العلم من حيث المحتوى إلى قسمين:
1- علم المقاصد: هو العلم الذي يحتوي على المسائل الصحيحة والحق النافع الذي يقوله الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
2- علم الوسائل: هو ما أعان على علوم المقاصد، من العلوم العربية وعلوم الكون وغيرهما.
شرح الأصول الثلاثة لابن عثيمين (19).
تيسير اللطيف المنان للسعدي، ضمن المجموعة الكاملة: قسم التفسير (8/394).
المرجع السابق (8/ 394).
الأدلة القواطع والبراهين للسعدي، المجموعة الكاملة، قسم الثقافة (2/346).
4- فضل العلم:
1/4 استشهاد الله سبحانه وتعالى أهلَ العلم على أجل مشهود وهو توحيده:
قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
قال ابن كثير: "قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ} وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام".
وقال ابن القيم: "استشهد سبحانه بأولي العلم على أجلّ مشهود عليه وهو توحيده، وهذا يدلّ على فضل العلم وأهله".
2/4 أن الله تعالى نفى التسوية بين العلم والجهل:(/1)
قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
قال أبو حيان: "وفي الآية دليل على فضل قيام الليل، وأنه أرجح من قيام النهار، ولما ذكر العمل ذكر العلم فدلّ أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين، فكما لا يستوي هذان، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي".
وقال ابن القيم: "نفى سبحانه التسويةَ بين أهل العلم وبين غيرهم، وهذا يدل على غاية علوّهم وشرفهم".
3/4 رفعة درجات أهل العلم:
قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
قال الطبري: "يرفع الله الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين الذين لم يؤتَوا العلم بفضل علمهم درجاتٍ إذا عملوا بما أمروا به".
قال ابن حجر: "قيل في تفسيرها: يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم، ورفعة الدرجات تدلّ على الفضل؛ إذ المراد به كثرة الثواب، وبها ترتفع الدرجات، ورفعتها تشمل المعنوية في الدنيا بعلوّ المنزلة وحسن الصيت، والحسية في الآخرة بعلوّ المنزلة في الجنة".
4/4 أن أهل العلم هم أهل الخشية:
قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
قال النسفي: "وتقديم اسم الله تعالى وتأخير العلماء يُؤْذن أن معناه أن الذين يخشَون الله من عباده العلماء دون غيرهم".
وقال السعدي: "فكلّ من كان بالله أعلم كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية الله الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء مَنْ يخشاه، وهذا دليل على فضيلة العلم، فإنّه داعٍ إلى خشية الله، وأهل خشيته هم أهل كرامته".
5/4 أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب المزيد من العلم:
قال الله جل جلاله: {وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً} [طه:114].
قال الكرماني: "طلب زيادة العلم يدلّ على فضله، إذ لولا فضله لما أمر الله تعالى بطلبه".
وقال ابن القيم: "وكفى بهذا شرفًا للعلم أن أمر نبيّه أن يسأله المزيد منه".
6/4 الاستشهاد بأقوال أهل العلم يوم القيامة:
قال سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَاذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَاكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الروم:56].
قال ابن كثير: "أي: فيردّ عليهم المؤمنون العلماء في الآخرة كما أقاموا عليهم حجة الله في الدنيا".
وقال السعدي: "أي: منّ الله عليهم بهما، وصار وصفا لهم، العلم بالحق، والإيمان المستلزم إيثار الحق، وإذا كانوا عالمين بالحق مؤثرين له لزم أن يكون قولهم مطابقًا للواقع، مناسبًا لأحوالهم".
7/4 أن أهل العلم هم المنتفعون بأمثال القرآن:
قال تعالى:{وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
قال البغوي: "أي: ما يعقل الأمثال إلا العلماء الذين يعقلون عن الله".
وقال ابن كثير: "أي: وما يفهمها ويتدبّرها إلا الراسخون في العلم المتعلمون عنه".
وكان بعض السلف إذا مرّ بمثَل لا يفهمه يبكي ويقول: لست من العالمين.
8/4 أن العلم سلطان على الناس:
قال تعالى:{إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بِهَاذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يونس:68].
وقال عز من قائل: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ (156) فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات:156، 157].
قال ابن القيم: "والمقصود أن الله سبحانه سمى علم الحجة سلطانًا لأنها توجب تسلّط صاحبها واقتداره، فله بها سلطان على الجاهلين، بل سلطان العلم أعظم من سلطان اليد، ولهذا ينقاد الناس للحجة ما لا ينقادون لليد، فإن الحجة تنقاد لها القلوب".
9/4 أن العلم شرط في قبول العمل:
قال الله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} [الكهف:110].
قال ابن القيم: "فهذا هو العمل المقبول الذي لا يقبل الله من الأعمال سواه، وهو أن يكون موافقًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرادًا به وجه الله، ولا يتمكّن العامل من الإتيان بعمل يجمع بين هذين الوصفين إلا بالعلم؛ فإنه إن لم يعلم ما جاء به الرسول لم يمكنه قصده، وإن لم يعرف معبوده لم يمكنه إرادته وحده، فلولا العلم لما كان عمله مقبولاً، فالعلم هو الدليل على الإخلاص، وهو الدليل على المتابعة".
10/4 طلب العلم طريق إلى الجنة:
قال الله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ءاتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} [القصص:14].
قال الزجاج: "فجعل إتيان العلم والحكمة مجازاة على الإحسان؛ لأنهما يؤديان إلى الجنة التي هي جزاء المحسنين".(/2)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة)).
قال النووي: "وفيه فضل المشي في الطلب العلم، ويلزم من ذلك الاشتغال بالعلم الشرعي".
وقال ابن حجر: "فيه بشارة بتسهيل العلم على طالبه، لأن طلبه من الطرق الموصلة إلى الجنة".
وقال ابن أبي جمرة: "ظاهر الحديث يدلّ على أنّ من حاول أمرًا ليكون له عونًا على طلب العلم سهّل الله عليه الوصول إلى الجنة".
11/4 أن الفقه في الدين سبب من أسباب الحصول على الخير:
عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)).
قال ابن بطال: "فيه فضل العلماء على سائر الناس، وفيه فضل الفقه في الدين على سائر العلوم، وإنما يثبت فضله لأنه يقود إلى خشية الله والتزام طاعته وتجنّب معاصيه".
وقال أبو محمد الأندلسي: "يترتب على هذا من الفقه أن من منَّ عليه بأحد هذين الوجهين فليستبشر بالخير العظيم والفضل العميم، إذ إن الشارع عليه السلام قد جعل ذلك علامة على من أراده الله للخير ويسّره إليه، وكيف لا تحقّ لهم البشارة وبهم يرسل الله الغيث، ويرحم البلاد والعباد".
12/4 أن العلم من أجلّ النعم:
قال تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:15].
قال النسفي: "وفي الآية دليل على شرف العلم، وتقدّم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجلّ النعم، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلاً على كثير من عباده".
13/4 أن العلم كالغيث:
عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكبير، وكانت منها أجادب مسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به))().
قال القرطبي: "ومقصود هذا الحديث ضرب مثل لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من العلم والدين، ولمن جاءهم بذلك، فشبّه ما جاء به بالمطر العام الذي يأتي الناس في حال إشرافهم على الهلاك فيصيبهم ويغيثهم"().
وقال ابن القيم: "شبه صلى الله عليه وسلم العلم والهدى الذي جاء به بالغيث؛ لما يحصل بكلّ واحد منهما من الحياة والمنافع والأغذية والأدوية وسائر مصالح العباد، فإنها بالعلم والمطر... ثم قال: فقد اشتمل هذا الحديث الشريف العظيم على التنبيه على شرف العلم والتعليم، وعظم موقعه، وشقاء من ليس من أهله"().
14/4 أن أهل العلم أحد صنفي ولاة الأمر:
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
قال ابن القيم: "ولما كان كل من الجهاد بالسيف والحجة يسمى سبيلَ الله فسّر الصحابة رضي الله عنهم قوله: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] بالأمراء والعلماء فإنهم المجاهدون في سبيل الله؛ هؤلاء بأيديهم، وهؤلاء بألسنتهم، فطلب العلم وتعليمه من أعظم سبيل الله عز وجل"().
قال ابن عثيمين: "فولاية أهل العلم في بيان شريعة الله، ودعوة الناس إليها، وولاية الأمراء في تنفيذ شريعة الله، وإلزام الناس بها"().
15/4 رضا الملائكة بطالب العلم:
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سلك طريقاً يبتغي منه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم))().
قال الخطابي: "قوله: ((إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم)) يتأول على وجوه، أحدها: أن يكون وضعها الأجنحة بمعنى التواضع والخشوع تعظيماً لحقه وتوقيراً لعلمه. وقيل: وضع الجناح معناه الكف عن الطيران للنزول عنده. وقيل: معناه المعونة وتيسير السعي له في طلب العلم، والله أعلم"().
وقال أبو يحيى زكريا الساجي: كنا نمشي في بعض أزقة البصرة إلى باب بعض المحدثين، فأسرعنا المشي، وكان معنا رجل ماجن متّهم في دينه، فقال: ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة لا تكسروها، كالمستهزئ، فمازال من موضعه حتى جفّت رجلاه وسقط().
16/4 أن العلم يستثنى صاحبُه من اللعن:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم ومتعلم))().(/3)
قال الطيبي: "وكان من الظاهر أن يكتفي بقوله: ((وما والاه)) لاحتوائه على جميع الخيرات والفاضلات ومستحسنات الشرع، لكنه خصّص بعد التعميم دلالةً على فضل العالم والمتعلم، وتفخيماً لشأنهما صريحاً، وإيذاناً بأن جميع الناس سواهما همج"().
وقال ابن القيم: "وما كان طريقاً إليه من العلم والتعلم لحق المستثنى من اللعنة، واللعنة واقعة على ما عداه؛ إذ هو بعيد عن الله وعن محابه وعن دينه"().
17/4 إيواء الله سبحانه وتعالى لطالب العلم:
عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟! أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله إليه...))().
قال المهلب: "فيه من الفقه أن من جلس إلى حلقة فيها علم أو ذكر أنه في كنف الله وفي إيوائه، وهو ممن تضع له الملائكة أجنحتها، وكذلك يجب على العالم أن يؤوي من جلس إليه متعلماً؛ لقوله: ((فآواه الله إليه))"().
وقال ابن حجر: "وفي الحديث فضل ملازمة حلق العلم والذكر، وجلوس العالم والمذكّر في المسجد"().
قال ابن القيم: "فلو لم يكن لطالب العلم إلا أن الله يؤويه إليه ولا يعرض عنه لكفى به فضلاً"().
18/4 أن أهل العلم يغبَطون:
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلِّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها))().
قال ابن بطال: "ترجم البخاري لهذا الباب: باب الاغتباط في العلم والحكمة؛ لأن من أوتي الحكمة مثل هذه الحال فينبغي أن يغبط وينافس فيها"().
وقال ابن حجر: "دلّ الحديث على أن الغبطة لا تكون إلا بأحد أمرين: العلم أو الجود، ولا يكون الجود محموداً إلا إذا كان بعلم"().
19/4 دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأهل العلم بالنضارة:
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نضّر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربّ حامل فقه ليس بفقيه))().
قال المنذري: "معناه الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة والحسن، فيكون تقديره: جمّله الله وزيّنه، وقيل غير ذلك"().
وقال ابن القيم: "ولو لم يكن في فضل العلم إلا هذا وحده لكفى به شرفاً؛ فإن النبي دعا لمن سمع كلامه ووعاه وحفظه وبلغه أهله"().
وقال ملا علي قاري: "وقد استجاب الله دعاءه؛ فلذلك تجد أهلَ الحديث أحسنَ الناس وجهاً وأجملهم هيئة، وروي عن سفيان أنه قال: ما مِن أحد يطلب الحديث إلا وفي وجهه نضرة أي بهجة صورية أو معنوية"().
20/4 مباهاة الملائكة بطلبة العلم:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلّ عنه حديثاً مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: ((ما أجلسكم؟)) قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنّ به علينا، قال: ((آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟)) قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: ((أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة))().
قال النووي: "معناه: يظهر فضلكم لهم، ويريهم حسن عملكم، ويثني عليكم عندهم"().
21/4 تقديم أهل العلم في الولايات الدينية:
عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم إسلاماً أو سناً))().
قال ابن القيم: "فقدّم في الإمامة تفضيله العلم على تقدّم الإسلام والهجرة... وهذا يدلّ على شرف العلم وفضله، وأن أهله أهل التقدّم إلى المراتب الدينية"().
22/4 أن العلم ميراث النبوة:
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بخطّ وافر))().
قال ابن القيم: "هذا من أعظم المناقب لأهل العلم؛ فإن الأنبياء خير خلق الله، فورثتهم خير الخلق بعدهم، ولما كان كلّ موروث ينتقل ميراثه إلى مورثه إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده، ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به إلا العلماء كانوا أحقَّ الناس بميراثهم"().
23/4 استغفار الحيتان وغيرها لطالب العلم:(/4)
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ طالب العلم ليستغفر له مَن في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء))().
قال الخطابي: "وقيل في قوله: ((وتستغفر له الحيتان في جوف الماء)): إن اللهَ قد قيّض للحيتان وغيرها من أنواع الحيوان بالعلم على ألسنة العلماء أنواعاً من المنافع والمصالح والإرفاق، فهم الذين بيّنوا الحكمَ فيها فيما يحلّ ويحرم منها، وأرشدوا إلى المصلحة في بابها، وأوصوا بالإحسان إليها ونفي الضرر عنها، فألهمها الله الاستغفار للعلماء مجازاة على حسن صنيعهم بها وشفقتهم عليها"().
24/4 لا تنجح الدّعوة إلا بالعلم:
قال تعالى: {قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
قال ابن القيم: "وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، بل لا بدّ في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حدٍّ يصل إليه السعي، ويكفي هذا في شرف العلم أن صاحبه يحوز به هذا المقام، والله يؤتي فضله من يشاء"().
تفسير القرآن العظيم (227).
مفتاح دار السعادة (1/50).
البحر المحيط (7/402).
مفتاح دار السعادة (1/51).
جامع البيان (28/19).
فتح الباري (1/141).
تفسير النسفي (3/86).
تفسير السعدي (689).
الكواكب الدراري (2/2).
مفتاح دار السعادة (1/50).
تفسير القرآن العظيم (1029).
تفسير السعدي (145).
معالم التنزيل (6/243).
تفسير القرآن العظيم (1013).
انظر: معالم التنزيل للبغوي (4/243).
مفتاح دار السعادة (1/61).
مفتاح دار السعادة (1/82).
إعراب القرآن (4/136).
رواه مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن (2699).
المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج (17/34).
فتح الباري (1/160).
بهجة النفوس (1/109).
رواه البخاري في العلم، باب: من يرد الله به خيرًا يفقهه (71)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب: النهي عن المسألة (1037).
شرح صحيح البخاري (1/154).
بهجة النفوس (1/107).
تفسير النسفي (2/594-595).
رواه البخاري في العلم، باب: فضل من تعلم وعلم (79)، ومسلم في الفضائل، باب: بيان مثل ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم (2282).
المفهم (6/3).
مفتاح دار السعادة (1/62).
مفتاح دار السعادة (1/73).
كتاب العلم (17).
رواه أبو داود العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة (2683)، وابن ماجه: كتاب العلم، باب فضل العلماء (223)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6297).
معالم السنن (4/169).
انظر: مفتاح دار السعادة (1/66).
رواه الترمذي في الزهد (2323)، وابن ماجه في الزهد (4112)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1891).
انظر: فيض القدير للمناوي (3/547).
مفتاح دار السعادة (1/32).
رواه البخاري: العلم، باب من قعد حيث انتهى من المجلس (66) ومسلم: السلام، باب من أتى مجلساً فوجد فرجة فجلس فيها (2176).
انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/148).
فتح الباري (1/157).
مفتاح دار السعادة (1/126).
رواه البخاري في العلم، باب: الاغتباط في العلم والحكمة (73)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: فضل من يقوم بالقرآن (816).
شرح صحيح البخاري (9/158).
فتح الباري (1/166).
أخرجه أحمد (1/436)، وأبو داود في العلم، باب: فضل نشر العلم (3660)، والترمذي في العلم، باب: ما جاء في الحثّ على تبليغ السماع (2656)، وابن ماجه في المقدّمة، باب: من بلغ علما (230)، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3108).
الترغيب والترهيب (1/108).
مفتاح دار السعادة (1/126).
المرقاة (1/288).
رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن (2701).
شرح صحيح مسلم (17/23).
رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: من أحق بالإمامة؟ (673).
مفتاح دار السعادة (1/76).
رواه الترمذي في العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة (2682)، وابن ماجه في كتاب العلم، باب: فضل العلماء (223)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6297).
مفتاح دار السعادة (1/70).
رواه الترمذي في العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة (2682) وابن ماجه في كتاب العلم، باب: فضل العلماء (223)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6297).
معالم السنن (4/169-170).
مفتاح دار السعادة (1/154).
5- آداب طالب العلم:
1/5 إخلاص النية لله تعالى:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تعلّم علماً مما يبتغَى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) يعني ريحها.(/5)
قال الإمام أحمد: "العلم لا يعدله شيء لمن صحّت نيته"، قالوا: كيف ذلك؟ قال: "ينوي رفع الجهلَ عن نفسه وعن غيره".
وعن عمر بن ذر أنه قال لوالده: يا أبي، ما لك إذا وعظت الناس أخذهم البكاء، وإذا وعظهم غيرك لا يبكون؟! فقال: يا بني، ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة.
وقال ابن جماعة الكناني بعدما بيّن فضل العلم: "واعلم أن جميع ما ذكر من فضل العلم والعلماء إنما هو في حقّ العلماء العاملين الأبرار المتقين، الذين قصدوا به وجه الله الكريم، والزلفى لديه في جنات النعيم، لا من طلبه بسوء نية وخبث طوية، أو لأغراض دنيوية، من جاه أو مال أو مكاثرة في الأتباع والطلاب".
وقال أبو يوسف: "أَريدوا بعلمكم اللهَ تعالى، فإني لم أجلس مجلساً قطّ أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلُوَهم، ولم أجلس مجلساً قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى افتَضَح".
2/5 العمل بالعلم ودوام المراقبة والخشية:
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل).
وقال الشافعي: "ليس العلم ما حفِظ، العلم ما نفع".
وقال بعض السلف: "يا حملة العلم، اعملوا فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيَهم، يخالف عملهم علمهم، ويخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حِلقاً يباهي بعضهم بعضاً، حتى إنّ الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدَعَه، أولئك لا يصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله تعالى".
ومن ذلك دوام مراقبة الله تعالى في السر والعلن، وملازمة خشيته سبحانه، قال الإمام أحمد: "أصل العلم الخشية".
وقال الزهري: "إن للعلم غوائل، فمن غوائله أن يترك العمل به حتى يذهب، ومن غوائله النسيان، ومن غوائله الكذب فيه، وهو شر غوائله".
وسئل سفيان الثوري: طلب العلم أحبّ إليك أو العمل؟ فقال: "إنما يراد العلم للعمل، فلا تدع طلب العلم للعمل، ولا تدع العمل لطلب العلم".
3/5 صيانة العلم:
وذلك بأن لا يتّخذه سلما يتوصل به إلى أغراض دنيوية وأطماع أرضية من جاه أو مال أو سمعة أو شهرة أو خِدمة أو تقدم على الأقران.
قال الشافعي: "ودِدت أن الخلقَ تعلموا هذا العلم على أن لا ينسب إليّ حرف منه".
4/5 القيام بشعائر الإسلام وظواهر الأحكام:
ومن ذلك المحافظة على الصلاة في مساجد الجماعات، وإفشاء السلام للخواص والعوام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإظهار السنن، وإخماد البدع، وغير ذلك من الأحكام الظاهرة ليحصل التأسّي به، وليصون عرضه عن الوقيعة والظنون المكروهة.
5/5 المحافظة على المندوبات الشرعية القولية والفعلية:
ومن ذلك تلاوة القرآن الكريم بتفكّر وتدبّر، والإكثار من ذكر الله تعالى بالقلب واللسان، والإلحاح في الدعاء والتضرع بإخلاص وصدق، والاعتناء بنوافل العبادات من الصلاة والصيام والصدقة وحج بيت الله الحرام، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من فضائل الأقوال والأعمال التي يراد العلم لأجلها.
6/5 التواضع والسكينة ونبذ الخيلاء والكبر:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (تعلّموا العلم، وتعلّموا له السكينةَ والوقار، وتواضعوا لمن تعلّمون، وليتواضع لكم من تعلِّمون، ولا تكونوا جبابرة العلماء، ولا يقوم علمكم مع جهلكم).
وكتب الإمام مالك إلى الرشيد: "إذا علمت علماً فليُرَ عليك أثره وسكينته وسمته ووقاره وحلمه".
وقال الإمام الشافعي: "لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذلّ النفس وضيق العَيش وخدمة العلماء أفلح".
7/5 القناعة والزهادة:
قال ابن جماعة الكناني: "أقلّ درجات العالم أن يستقذر التعلق بالدنيا؛ لأنه أعلم الناس بخستها وفتنتها وسرعة زوالها وكثرة تعبها ونصبها، فهو أحقّ بعدم الالتفات إليها والاشتغال بهمومها".
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "لقد جئت من بلاد شنقيط ومعي كنز قلّ أن يوجد عند أحد، وهو القناعة، ولو أردت المناصب لعرفت الطريق إليها، ولكني لا أوثر الدنيا على الآخرة، ولا أبذل العلم لنيل المآرب الدنيوية".
8/5 التحلّي بمكارم الأخلاق وجميل الخصال والخلال:
قال ابن سيرين: "كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم".
وعن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: قال لي أبي: "يا بني، ائت الفقهاء والعلماء، وتعلّم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإنّ ذاك أحبّ إليّ لك من كثير من الحديث".
وعن أبي زكريا العنبري قال: "علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كجسم بلا روح".
وأشرف الليث بن سعد على بعض أصحاب الحديث فرأى منهم شيئاً فقال: "ما هذا؟ أنتم إلى يسير من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم".
9/5 تطهير الباطن والظاهر من الأخلاق الرديئة:(/6)
فمن ذلك الغلّ والحسد والبغي والغضب لغير الله تعالى والغش والكبر والرياء والعجب والسمعة والشهرة والبخل والشحّ والبطر والطمع والفخر والخيلاء والمداهنة والتزين للناس وحب المدح والثناء والعمى عن عيوب النفس والاشتغال عنها بعيوب الخلق والغيبة والنميمة والبهتان والكذب والفحش في القول واحتقار الناس.
قال ابن جماعة: "فالحذر الحذر من هذه الصفات الخبيثة والأخلاق الرذيلة؛ فإنها باب كل شر، بل هي الشر كله، وقد بلي بعض أصحاب النفوس الخبيثة من فقهاء الزمان بكثير من هذه الصفات إلا من عصم الله تعالى، ولا سيما الحسد والعجب والرياء واحتقار الناس، وأدوية هذه البلية مستوفاة في كتب الرقائق، فمن أراد تطهير نفسه منها فعليه بتلك الكتب".
10/5 التفرغ والمحافظة على الأوقات:
وذلك بأن لا يضيع شيئاً من أوقات عمره في غير ما هو بصدده من العلم والعمل إلا بقدر الضرورة، وقد كان بعضهم لا يترك الاشتغالَ بالعلم لعروض مرض خفيف أو ألم لطيف، بل كان يستشفي بالعلم، ويشتغل به بقدر الإمكان.
قال الشافعي: "لو كلفت شراءَ بصلة لما فهمت مسألة".
وقال بعضهم: "لا يَنال هذا العلم إلا من عطّل دكّانه، وخرّب بستانه، وهجر إخوانَه، ومات أقرب أهله فلم يشهد جنازته".
11/5 الجدّ والاجتهاد ودوام الحرص على الازدياد:
قال الشافعي: "حقّ على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كلّ عارض دون طلبه".
وقال سعيد بن جبير: "لا يزال الرجل عالماً ما تعلّم، فإذا ترك التعلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون".
12/5 حسن اختيار رفقاء الطلب:
قال ابن جماعة الكناني: "الذي ينبغي لطالب العلم أن لا يخالط إلا من يفيده أو يستفيد منه... فإن شرع أو تعرض لصحبة من يضيع عمره معه ولا يفيده ولا يستفيد منه ولا يعينه على ما هو بصدده فليتلطّف في قطع عشرته من أول الأمر قبل تمكّنها، فإن الأمور إذا تمكّنت عسرت إزالتها".
13/5 إجلال الشيخ والتأدّب عنده وتعظيم حرمته:
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (من حقّ العالم عليك إذا أتيته أن تسلِّم عليه خاصَّة، وعلى القوم عامّة، وتجلس قُدَّامه، ولا تشِر بيديك، ولا تغمِز بعينَيك، ولا تقُل: قال فلان خلافَ قولك، ولا تأخذ بثوبِه، ولا تُلحَّ عليه في السؤال، فإنّه بمنزلة النخلة المُرطبة التي لا يزال يسقط عليك منها شيء).
وعن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (إن من حق العالم ألا تكثر عليه بالسؤال، ولا تُعنِّته في الجواب، وألا تُلحَّ عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشينّ له سرًّا، ولا تغتابنّ عنده أحدًا، ولا تطلبنّ عثرته، وإن زلّ قبلت معذرته، وعليك أن توقّره وتعظّمه لله ما دام يحفظ أمر الله، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجةٌ سبقت القوم إلى خدمته).
وقال الشافعي: "كنت أصفح الورقة بين يدي مالك صفحاً رفيقاً هيبة له، لئلا يسمع وقعها".
وقال طاوس: "إنّ من السنة أن توقِّر العالم".
14/5 احترام العلماء من غير تقديس، واتباعهم من غير تقليد:
قال الشيخ ابن عثيمين: "إن على طلبة العلم احترام العلماء وتقديرهم، وأن تتسع صدورهم لما يحصل من اختلاف بين العلماء وغيرهم، وأن يقابلوا هذا بالاعتذار عمن سلك سبيلاً خطأ في اعتقادهم، وهذه نقطة مهمة جداً، لأن بعض الناس يتتبع أخطاء الآخرين، ليتخذ منها ما ليس لائقاً في حقهم، ويشوّش على الناس سمعتهم، وهذا من أكبر الأخطاء، وإذا كان اغتياب العامّي من الناس من كبائر الذنوب، فإن اغتياب العالم أكبر وأكبر، لأن اغتياب العالم لا يقتصر ضرره على العالم بل عليه وعلى ما يحمله من العلم الشرعي".
15/5 رحابة الصدر في مسائل الخلاف:
قال ابن عثيمين في معرض بيان آداب طالب العلم: "أن يكون صدره رحباً في مواطن الخلاف الذي مصدره الاجتهاد؛ لأن مسائل الخلاف بين العلماء إما أن تكون مما لا مجال للاجتهاد فيه، ويكون الأمر فيها واضحاً، فهذه لا يعذَر أحد بمخالفتها، وإما أن تكون مما للاجتهاد فيها مجال، فهذه يعذر فيها من خالفها".
أخرجه أحمد (2/338)، وأبو داود في كتاب العلم، باب: طلب العلم لغير الله (3664)، وابن ماجه في المقدمة، باب: الانتفاع بالعلم والعمل به (2852)، وصححه الحاكم (1/160)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (3112).
انظر: كتاب العلم لابن عثيمين (ص27).
انظر: العقد الفريد لابن عبد ربه.
تذكرة السامع والمتكلم (ص13).
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص69).
انظر: الجامع لأخلاق الراوي، واقتضاء العلم العمل (35-36).
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص15).
انظر: حاشية تذكرة السامع (ص16-17).
انظر: جامع بيان العلم (1/107-108).
انظر: حلية الأولياء (7/12).
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص19).
انظر: الزهد لوكيع (275).
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص15-16).
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص71-72).
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص18).(/7)
انظر: حلية طالب العلم (ص12).
انظر: الجامع لأخلاق الراوي (1/79).
انظر: الجامع لأخلاق الراوي (1/80).
انظر: أدب الإملاء والاستملاء (2).
انظر: شرف أصحاب الحديث (122).
تذكرة السامع والمتكلم (ص24).
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص27).
انظر: الجامع لأخلاق الراوي للخطيب.
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص27).
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص28).
تذكرة السامع والمتكلم (ص83).
انظر: جامع بيان العلم وفضله (1/580) رقم (992)، والجامع للخطيب (1/199).
انظر: إرشاد الطالب (ص78-79).
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص88).
انظر: جامع بيان العلم (1/459).
كتاب العلم (ص41).
كتاب العلم (ص28).
6- معوقات تحصيل العلم:
1/6 كثرة الأشغال والصوارف:
قال ابن جماعة وهو ينصح طلابَ العلم: "ولا يَغْتر بخدع التسويف والتأميل، فإن كل ساعة تمضي من عمره لا بدل لها ولا عوض عنها، ويقطع ما يقدر عليه من العلائق الشاغلة والعوائق المانعة عن تمام الطلب وبذل الاجتهاد وقوة الجدّ في التحصيل فإنها كقواطع الطريق...".
2/6- الكبرياء وعزّ النفس:
يقول الشافعي: "لا يطلب أحدٌ هذا العلم بالملك وعزّ النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذلّ النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح".
3/6- سيطرة الشهوات والهوى:
قال ابن القيم: "قد يتحصّل له العلم المطلوب والعلم بطريقه، ولكن في قلبه إرادات وشهوات تحول بينه وبين قصد هذا المطلوب النافع وسلوك طريقه، فكلما أراده اعترضته تلك الشهوات والإرادات، وحالت بينه وبين القصد المطلوب".
4/6- ازدحام العلم وعدم التدرّج في طلبه:
قال الماوردي: "فينبغي لطالب العلم ألا يني في طلبه، وينتهز الفرصة به، فربما شحّ الزمان بما سمع، وضنّ بما منح، ويبتدئ من العلم بأوله، ويأتيه من مدخله، ولا يتشاغل بطلب ما لا يضرّ الجهل به فيمنعه ذلك من إدراك ما لا يسعه جهله، فإن لكلّ علم فضولاً مذهلة وشروراً مشغلة، متى صرف إليها نفسه قطعته عما هو أهم منها".
5/6- التعصّب المقيت:
قال القاسمي وهو يعدّد أدب المعلم: "وأن يقتلع ـ أي: المعلم ـ جذورَ التعصب من قلوب المتعلمين، ويحبّبهم إلى الإنصاف، فإن التعصب سبب تفريق الناس بعضهم عن بعض وجذوة حجب العقول عن الحق...".
6/6- الجهل بالطرق الموصلة إلى العلم:
قال ابن القيم: "ولكن أكثر الناس غلط في تحصيل هذا المطلوب النافع، إما في عدم تصوّره ومعرفته، وإما في عدم معرفته الطريق الموصلة إليه؛ فهذان غلطان سببهما الجهل...".
تذكرة السامع والمتكلم (70).
انظر: تذكرة السامع والمتكلم (71).
رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (26).
أدب الدنيا والدين (58).
جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب (25).
رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (26).
7- الباعث على الطلب:
قال الماوردي: "واعلم أن لكلّ مطلوب باعثاً، والباعث على المطلوب شيئان: رغبة أو رهبة، فليكن طالب العلم راغباً وراهباً، أما الرغبة ففي ثواب الله تعالى لطالبي مرضاته وحافظي مفترضاته، وأما الرهبة فمن عقاب الله تعالى لتاركي أوامره ومهملي زواجره، فإذا اجتمعت الرغبة والرهبة أدّتا إلى كنه العلم".
أدب الدنيا والدين (54).
8- نماذج من العلماء الذين تعلّموا في الكبر:
ابن حزم: هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي.
قال أبو بكر محمد بن طرخان التركي: قال لي الإمام أبو محمد عبد الله بن محمد: أخبرني أبو محمد بن حزم أن سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة، فدخل المسجد، فجلس ولم يركع فقال له رجل: قم فصلّ تحية المسجد، وكان قد بلغ ستا وعشرين سنة، قال: فقمت وركعت، فلما رجعنا من الصلاة على الجنازة دخلت المسجد، فبادرت بالركوع، فقيل لي: اجلس اجلس ليس ذا وقت صلاة، وكان بعد العصر، قال: فانصرفت وقد حزنت، وقلت للأستاذ الذي رباني: دلّني على دار الفقيه أبي عبد الله بن دحُّون، قال: فقصدته وأعلمته بما جرى، فدلني على موطأ مالك فبدأت به عليه، وتتابعت قراءتي عليه، وعلى غيره نحواً من ثلاثة أعوام، وبدأت بالمناظرة.
الكسائي: هو أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن فيروز الأسدي، مولاهم الكوفي، الملقب بالكسائي.
قال الفرّاء: إنما تعلم الكسائي النحو على كبر.
وكان سبب تعلمه أنه جاء يوماً وقد مشى حتى أعيى، فجلس إلى قوم فيهم فضل، وكان يجالسهم كثيراً فقال: قد عَييْت، فقالوا له: تجالسنا وأنت تلحن؟! فقال: كيف لحنت؟ فقالوا: إن كنت أردت من التعب، فقل: "أعييت"، وإن كنتَ أردتَ من انقطاع الحيلة والتحيّر في الأمر فقل: "عييت" مخفّفة، فأنف من هذه الكلمة، وقام من فوره، فسأل عمن يعلم النحو، فأرشدوه إلى معاذ الهراء، فلزمه حتى أنفد ما عنده.
القفّال: هو أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي الخرساني.(/8)
قال الذهبي: "حَذق في صنعة الأقفال حتى عمل قفلاً بآلاته ومفتاحه، زنة أربع حبات، فلما صار ابن ثلاثين سنة آنس من نفسه ذكاء مفرطا، وأحبّ الفقه، فأقبل على قراءته حتى برع فيه، وصار يضرب به المثل، وهو صاحب طريقة الخرسانيين في الفقه".
انظر: السير (18/199).
انظر: السير (9/133).
انظر: نزهة الأولياء (68).
السير (17/406).
9- ملحقات البحث: (قصص – أبيات شعرية – محامد – أدعية – مراجع للتوسع).
قصص:
قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: بقيت بالبصرة في سنة أربع عشرة ومائتين ثمانية أشهر، وكان في نفسي أن أقيم سنة، فانقطعت نفقتي، فجعلت أبيع ثياب بدني شيئاً بعد شيء، حتى بقيت بلا نفقة، ومضيت أطوف مع صديق لي إلى المشيخة، وأسمع منهم إلى المساء، فانصرف رفيقي ورجعت إلى بيتٍ خالٍ، فجعلت أشرب الماء من الجوع، ثم أصبحت من الغد، وغدا عليّ رفيقي فجعلت أطوف معه في سماع الحديث على جوع شديد، فانصرف عني وانصرفت جائعاً، فلما كان من الغد غدا عليّ، فقال: مُرْ بنا إلى المشايخ، قلت: أنا ضعيف لا يمكنني، قال: ما ضعفك؟ قلت: لا أكتمك أمري، قد مضى يومان ما طعمتُ فيهما شيئاً، فقال: قد بقي معي دينار، فأنا أواسيك بنصفه، ونجعل النصف الآخر في الكراء، فخرجنا من البصرة وقبضت منه النصف دينار.
أبيات:
لمحبرة تجالسني نهاري أحبّ إلي من أنس الصديق
ورزمة كاغد في البيت عندي أحبّ إلي من عِدل الرقيق
ولطمة عالم في الخد مني ألذّ لديّ من شرب الرحيق
قال الشافعي:
تعلّم فليس المرء يولد عالماً وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده صغير إذا التفت عليه المحافل
وإن صغير القوم إن كان عالماً كبير إذا ردّت إليه المحافل
وقال أيضاً:
العلم مغرس كل فخر فافتخر واحذر يفوتك فخر ذاك المغرس
واعلم بأن العلم ليس يناله من همّه في مطعم أو ملبس
محامد:
1. الحمد لله الذي له الأسماء الحسنى وكامل الصفات، فاوت بحكمته بين المخلوقات، ورفع أهل العلم أعلى الدرجات، فقال سبحانه {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أبان لنا طرق الخيرات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أكمل الخلق وخير البريات، اللهم صل على محمد القائل: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة))، وعلى آله وأصحابه الذين فضلهم الله بالعلم النافع والأعمال الصالحات، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم المعاد.
2. الحمد لله الذي جعل العلم ضياءً والقرآن نوراً، ورفع الذين أوتوا العلم درجات عليّة، وكان ذلك في الكتاب مسطوراً، وجعل العلماء ورثة الأنبياء، وكفى بربك هادياً ونصيراً، نحمده تعالى حمداً كثيراً، ونشكره عز وجل وهو القائل: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كما {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المرشد الحكيم والمعلم العظيم، بشر به المسيح والكليم، واستجيبت به دعوة إبراهيم: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [البقرة:129]. اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد المبعوث رحمة ومنة، بخير كتاب وأفضل سنة، والقائل: ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة))، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه القائمين بالحق والدعاة إليه بالألسنة والأسنّة، وعلى التابعين لهم بإحسان في التعلم والتعليم.
3. الحمد لله الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم. أحمده سبحانه وأشكره، رفع منار العلم وأشاد بالعلماء والمتعلمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المربيّن وقدوة العلماء والسالكين، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه الهداة المتقين، ومن سار على هديهم، وسلك سبيلهم إلى يوم الدين.
4. الحمد لله الذي أعلى معالم العلم وأعلامه، وأظهر شعائر الشرع وأحكامه، وبعث رسلاً وأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين إلى سبل الحق هادين، وأخلفهم علماء إلى سَنن سُنَنِهم داعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رفع الذين آمنوا والذين أتوا العلم درجات، وسلك بهم بفضله ورحمته وكرمه طريق الجنات، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، حث ّ على طلب العلم، وبيّن فضائله، وحذّر من أوحال الجهل وأوضح غوائله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله الأطهار، وأصحابه البررة الأخيار، والتابعين لهم بإحسان في كل الأمصار، ما تعاقب الليل والنهار.(/9)
5. الحمد لله الذي أظهر دينه المبين، ومنعه بسياج متين، فحاطه من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سخَّر لدينه رجالاً قام بهم وبه قاموا، واعتزَّ بدعوتهم وجهادهم وبه اعتزوا، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، كان يربّي ويعلّم ويدعو، ويصوم ويقوم ويغزو، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أدعية:
1. اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها.
2. لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك، نستغفرك لذنوبنا، ونسألك رحمةً، اللهم زدنا علماً، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمةً، إنك أنت الوهاب.
3. اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً، الحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار.
4. اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، ورزقاً طيباً.
5. اللهم فقهنا في الدين، وعلمنا التأويل.
6. أماتنا الله وإياكم على السنة والجماعة، ورزقنا الله وإياكم اتباع العلم، ووفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.
مراجع للتوسع:
- أخلاق العلماء للآجري.
- أخلاق حملة القرآن للآجري أيضاً.
- شرف أصحاب الحديث.
- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع.
- الفقيه والمتفقه.
- اقتضاء العلم العمل أربعتها للخطيب البغدادي.
- جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر.
- أدب الإملاء والاستملاء للسمعاني.
- تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة.
- كتاب العلم لابن عثيمين.
- حلية طالب العلم لبكر أبو زيد.
- التعالم لبكر أبو زيد أيضا.
تقدمة الجرح والتعديل (363-364).
انظر: الجامع لأخلاق الراوي والسامع (1/101).
ديوان الشافعي (70-71).
ديوان الشافعي 53).
رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب: التعوذ من شر ما عمل (2722).
رواه أبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها، وصححه الحاكم (1/540)، ووافقه الذهبي.
أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
أخرجه الطبراني في الدعاء (669) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
من دعاء الإمام أحمد، انظر: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/345).(/10)
العلم أولا ثم العمل!!
الشيخ محمد الهدار ـ صحيفة أخبار بنغازي / الشبكة
الحمد لله خلق الإنسان علمه البيان وصلوات الله وسلامه على سيد ولد عدنان سيدنا محمد بن عبدالله القائل ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ) وبعد ...
فمما لا شك فيه أن العلم له المكانة العالية في الإسلام ويكفي لتدليل على ذلك أن أول أمر نزل من أوامر القرآن وأول كلمة من كلماته قوله تعالى ( اقرأ ) فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن مكانة العلم في الإسلام لا تدانيها مكانة وقال الله أيضا في كتابه : " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب " وقال عز من قائل " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " وزيادة في بيان فضل العلم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستزادة منه فقال سبحانه : " وقل رب زدني علما " ولقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانة العلم وفضيلة طلب العلم في حديث يدفع كل من قرأه بتدبر إلى المسارعة في طلب العلم وإفناء العمر في سبيل تحصيله فقال : " من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله تعالى به طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإنه يستغفر للعالم من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب إن العلماء ورثة الأنبياء و إن الأنبياء لم يورثوا دينار ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن اخذ به اخذ بحظ وافر " .
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حيا به أبدا الناس موتى وأهل العلم أحياء
وقد قيل : كفى بالعلم شرفا أن الجاهل إذا قيل له إنك جاهل يكره ذلك ويتمنى لو لم تقل له ..
وقال الحسن : لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم ، تعلموا العلم فإن تعلمه خشية ، وطلبه عبادة ، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد ،وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة ، وهو الأنيس في الوحدة ، والصاحب في الخلوة ، والدليل على الدين والصبر على الضراء والسراء والقريب عند الغرباء ، ومنار سبيل الجنة ، يرفع الله به أقواما في الخير فيجعلهم سادة هداة يقتدى بهم ،أدلة في الخير تقتفى آثارهم وترمق أفعالهم ، وترغب الملائكة في خلتهم ،وبأجنحتها تمسحهم ،لأن العلم حياة القلوب ونور الأبصار ، به يبلغ الإنسان منازل الأبرار ، وبه يطاع الله عز وجل وبه يعبد وبه يوحد ، وبه يمجد وبه تواصل الأرحام ، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء..
هذا والدعوة في كتاب الله للقراءة تعتبر دعوة كما قال بعضهم دعوة إلى العلم ودعوة إلى المعرفة ودعوة إلى البحث والنظر ودعوة إلى الحق واليقين ومعنى ذالك أن الإسلام منذ اللحظة الأولى حض على العلم وأشاد بالمعرفة ، والقرآن الكريم حافل بالآيات التي تدعوا إلى البحث والنظر ، واكتشاف نواميس الكون وكنوز الأرض ،يقول الحق جل وعلا "قل انظروا ماذا في السموات والأرض" " قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشأ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير " .
هذا والعلم المشاد به لا يقتصر على العلوم الشرعية بل يشمل كل العلوم التي تحتاجها الأمة ، وقد اتفق الفقهاء على أن كل العلوم التي تفيد الأمة طلبها فرض كفاية بما في ذلك العلوم الشرعية ، وقصر فضل العلم على العلوم الشرعية دون سواها سبب أدى ويؤدي إلى تأخر الأمة عن ركب الحضارة والتقدم ، ولا يمكن للمسلمين أن يصيروا خير أمة أخرجت للناس كما قال بعض العلماء إلا إذا تفوقوا على سائر الأمم في اتجاهين وفي آن واحد معا :
الاتجاه الأول : هو الاتجاه القيمي الأخلاقي ، بمعنى أن يكونوا مثالا يحتذي في معاملاتهم وفي سلوكياتهم وما يتمسكون به ويدعون إليه من قيم رفيعة وأخلاق سامية .
الاتجاه الثاني : فيتمثل في تفوقهم في امتلاك أسباب القوة بمختلف انواعها وأشكالها ؛ القوة الاقتصادية والسياسة والفكرية والعسكرية والعلمية ، وهذا يعني أن يطورا وباستمرار معارفهم وعلومهم في شتى المجالات الآنف ذكرها ...
يقول الرسول صلى الله وعليه وسلم " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" وبالتأكيد لا يقصد عليه السلام ذلك المفهوم الضيق للقوة بل يقصد القوة بكل جوانبها وأشكالها ، القوة في البدن والروح والإرادة والعقل والعلم " .
ومما ينبغي معرفته أن أهم عامل يساعد عل التحصيل العلمي الجيد والنافع تقوى الله سبحانه قال تعالى قال تعالى :" واتقوا الله ويعلمكم الله " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم " .
وقد قيل :
لو كان العلم بلا تقى شرفا لكن أشرف المخلوقات إبليس
وقد قيل :
لا تحسبن العلم ينفع وحده ما لم يتوج ربه بخلاق
فالإنسان الحي حياة حقيقية بما تعنيه الكلمة هو الذي يعلم ويعمل وقد صاغ أحدهم هذا المعنى نظما فقال :-(/1)
ليس الحياة بأنفس ترددها أن الحياة حياة العلم والعمل
وأعود فأقول عن العلم وفضله تأكيدا لما سبق : رحم الله الإمام عليا حين قال : " العلم خير من المال ، العلم يحرسك وانت تحرس المال ، والعلم حاكم والمال محكوم ، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكوا بالإنفاق " .
وقيل لأبي عمر بن العلاء : " هل يحسن بالشيخ أن يتعلم ؟ قال : إن كان يحسن به أن يعيش فإنه يحسن به أن يتعلم " .
وقال الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء : " إن الخاصية التي يتميز بها الإنسان عن البهائم هي العلم فالإنسان إنسان بما هو شريف لأجله وليس ذلك بقوة شخصه ، فإن الجمل أقوى منه ولا بعظمته فإن الفيل أعظم منه ولا بشجاعته فإن السبع أشجع منه ولا بأكله فإن الثور أوسع يطنا منه ولا بجماعه فإن أخس العصافير أقوى على السفاد منه بل لم يخلق إلا للعلم . " .
هذا هو الإسلام في حثه على العلم وطلبه وتعليمه والعمل به وبيان مكانة أهله ؛ وبعدا لمن يرى الإسلام دين تخلف وخرافات وما ذكرت لكم في شأن العلم والحث عليه وبيان حكم الإسلام من العلوم الإنسانية قليل من كثير، وغرفة من بحر ، وغيض من فيض وما أجمل قول القائل :
يقولون في الإسلام ظلما بأنه يصد بنيه عن طريق التعلم
فإن كان ذا حقا فكيف تقدمت أوائله في عهده المتقدم
وإن كان ذنب المسلم اليوم جهله فماذا على الإسلام من جهل مسلم :
هل العلم في الإسلام إلا فريضة وهل أمة سادت بغير تعلم
لقد أيقظ الإسلام للمجد والعلا بصائر أقوام عن المجد نوم
وأنشط بالعلم العزائم وابتنى لأهله مجدا ليس بالمتهدم
وأطلق أذهان الورى من قيودها فطار بأفكار عن المجد حوم
وفك أسار القوم حتى تحفزوا نهوضا إلى العلياء من كل مجتم
وختام القول : إن الأمة الإسلامية لا يكمن لها أن تنهض إلا بالعلم ولا يمكن لها أن تتبوأ مكان الصدارة إلا بالعلم ، ولا يمكن لها أن تقضي على التخلف والأمراض والفقر إلا بالعلم ، ولا يمكن لها أن تقود غيرها إلا بالعلم ، ولا يمكن لها أن تنهي تفرقها المذموم إلا بالعلم ، فالعلم هو الأساس لوحدتها ، هو الأساس لفلاحها أفرادا وجماعات ، فالعلم مأمور به قبل العمل لأنه أساس له قال الله تعالى : " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم " .(/2)
العلم بأسباب النزول
أ.د. محمد بكر إسماعيل
بسم الله الرحمن الرحيم
العلم بأسباب النزول
بقلم: أ. د /محمد بكر إسماعيل
العلم بأسباب النزول من الأمور المهمة التى لا غنى للمفسر والمحدث والفقيه عنها.
فهو يعين على فهم المراد من كلام الله تعالى على وجهه تطمئن النفس إليه.
وقد تقدم بيان شئ من ذلك في مقدمة هذا المبحث، وعند ذكر أقساع أسباب النزول، فقد قلنا هناك: إن منها ما يبين الإبهام ويرفع الإجمال، ويزيل الإشكال، وضربنا لذلك أمثلة، نضيف هنا أمثلة أخرى لكي تتحقق – أيها القارئ الكريم– من أهمية هذا العلم في تقرير الأحكام، وبيان المعانى والمقاصد المرادة من كلام الله عز وجل، ثم نمضى بعد ذلك فى بيان ما تبقى من الفوائد التى يحتاج إليها الباحثون فى العلوم الشرعية بوجه عام، وتفسير القرآن الكريم بوجه خاص .
1. ... وقع لبعض التابعين إشكال فى عموم قوله تعالى (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران:188) فلما عرفوا سبب النزول زال الإشكال اطمأنوا أنهم ليسوا داخلين فى عموم الآية وأنها خاصة باليهود. فقد روى البخارى ومسلم وغيرهما أن مروان قال لبوابه: اذهب يا نافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل يعذب ، لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية أنها نزلت في أهل الكتاب، ثم تلا: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران:187) الآية، قال ابن عباس سألهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن شئ فكتموه إياه وأخذوا بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه.
2. ... ما وقع لبعض الصحابة من فهم قوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة:158) فقد روى البخارى ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن عروة ابن الزبير رضي الله عنه قال لها: أرأيت قوال الله: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة:158) فما أرى على أحد حرج أن لا يطوف بهما؟ فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختى إنها لو كانت على ما أولتها كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها إنما أنزلت لأن الأنصار قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التى كانوا يعبدونها، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فأنزل الله: ((إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة:158) الآية. قالت عائشة: ثم قد بين الرسول – صلى الله عليه وسلم – الطواف بهما فليس لإحد أن يدع الطواف بهما.(/1)
3. ... وقد تأول جماعة من السلف قول الله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة:93) على غير الوجه المراد منها فوقعوا فى حرج عظيم، ولولا معرفة سبب نزولها ما رجعوا عن تأويلهم الفاسد وفهمهم السقيم. روي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين فقدم الجارود على عمر فقال: إن قدامة شرب فسكر فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟ قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول. وذكر الحديث فقال عمر: يا قدامة إنى جالدك. قال: لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدنى. قال عمر: ولم؟ قال لأن الله يقول: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) الآية. فقال عمر: أنك أخطأت التأويل يا قدامة، ءاتقيت الله اجتنبت ما حرم الله. وفى رواية فقال: لم تجلدنى؟ بينى وبينك كتاب الله، فقال عمر: وأى كتاب الله تجد أن لا أجلدك قال : إن الله يقول في كتابه: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) الآية. فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا شهدت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بدراً وأحداً والخنق والمشاهد، فقال عمر: ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذراً للماضين، وحجة على الباقين، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم الخمر، وحجة على الباقين لأن الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90) فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا فإن الله قد نهى عن أن يشرب الخمر، قال عمر: صدقت. وما قاله ابن عباس صحيح، يؤيده ما رواة البخارى عن أنس أن الخمر لما حرمت قال بعض القوم ( قد قتل قوم وهى فى بطونهم، فأنزل الله: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) الآية.
ومن هذه الأحاديث نعلم أن الغفلة عن أسباب النزول تؤدى حتماً إلى فساد التأويل، وأن العلم بها ضروري فى تصحيح الفهم ودفع الاشتباه.
قال الشاطبى فى الموافقات ج3 ص349 وما بعدها ( وهذا شأن أسباب النزول فى التعريف بمعانى المنزل، بحيث لو فقد ذكر السبب لم يعرف من المنزل معناه على الخصوص، دون تطرق الاحتمالات وتوجه الإشكالات) .
وبعد؛ فهذه هى أهم الفوائد التى يجنيها كل من عرف أسباب النزول عن طريق الروايات الصحيحة. وهناك فوائد أخرى نرجئ الكلام عليها فى مقال آخر إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق.(/2)
________________________________________
العلم بالسنن الربانية
رئيسي :الرقائق :
لقد وجه القرآن الكريم المسلمين نحو الوعي بعالم الشهادة، فحثهم على النظر والتدبر والاستقراء؛ للكشف على قوانين المادة وسنن الاجتماع، كما نبّه إلى أهمية التعرف على السنن التاريخية، والإفادة من ذلك في الاعتبار وبناء الحضارة، وكيفية المحافظة عليها من السقوط.
وقد أرشد القرآن الكريم إلى هذه السنن، فذكرها نصّاً في بعض الأحيان كقوله تعالى:{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ[137]}[سورة آل عمران] . وأحياناً أخرى فهمت من النص دلالة وفحوى كقوله تعالى:{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[10]}[سورة الأنعام] .وذكرها تارة مضافة إلى الله كقوله تعالى: {... سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ[85]}[سورة غافر] . وذكرها تارة أخرى مضافة إلى أقوام كقوله تعالى: {...إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ...[55]}[سورة الكهف] .
وهذه السنن صارمة؛ تتسم بالاطراد والشمول والثبات، قال تعالى:{...فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا[43]}[سورة فاطر] . وقال تعالى:{ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا[77]}[سورة الإسراء] .
فينبغي إذنْ معرفتها وتدبرها واستيعابها والاستفادة منها، لقوله تعالى:{ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[26]}[سورة النساء] . ومن خلال السنن في كتاب الله، وسنة رسوله نفهم التاريخ على حقيقته، ونعرف عوامل البناء والأمن والاستقرار والتقدم، وعوامل الهدم والخوف والانحطاط والتخلف.
وهذه السنن مرتبطة بالأمر والنهي، والطاعة والمعصية، والإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، فالإنسان إذا أتى الأمر واجتنب النهي ووقف عند حدود الله، أصاب خير السنة الربانية، وإذا أهمل الأمر وخالفه، وارتكب المنهي عنه، ووقع في حدود الله، أصاب شر السنة الربانية.
وقد انتبه إلى أثر السنن في المجتمعات والاعتبار بها ابن تيمية رحمه الله فقال:'ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا، ولولا القياس واطراد فعله وسنته؛ لم يصح الاعتبار بها؛ لأن الاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره كالأمثال المضروبة في القرآن'[ جامع الرسائل، ص 55].
إن معرفة أثر السنن في الأنفس والمجتمعات ضروري لمعرفة طبيعة هذا الدين، وطبيعة الجاهلية المقابلة... وقد جاء الحديث عنها في القرآن المكي، في مواضع كثيرة، وجاء تصويرها في مواقف كثيرة؛ ليفهم المسلمون طبيعة الصراع بين الجاهلية والإسلام على حقيقته، وليكونوا على بيّنة من مباينة السبل، واختلاف المناهج والتوجهات والأهداف بينهم وبين الكافرين، ومن أمثال ذلك: قوله تعالى:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ[13]وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ[14]}[سورة إبراهيم] .
وقوله تعالى:{ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ[88]قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ[89] }[سورة الأعراف] .
ومن هنا تأتي أهمية ربط عمل الدعاة بالجهد والعمل وفق السنن التي لا تحابي، فالنتائج التي قد يتطلع إليها أكثر المؤمنين إيماناً سوف يجنيها أكثر الكافرين كفراً ، إذا وافق المقدمات الصحيحة المؤدية إليها، وربط الأسباب بمسبباتها، بينما ينتظرها المؤمن ارتكازاً على إيمانه وحده واعتماداً على ورعه وتقواه، دون أن يطلبها من مقدماتها التي خلقها الله طريقاً إليها، فأنى يستجاب له! .(/1)
ومرجع ذلك إلى أن السنن الربانية في الحياة البشرية دقيقة كل الدقة، منتظمة أشد الانتظام، لا تحيد ولا تميل، ولا تجامل ولا تحابي، ولا تتأثر بالأماني وإنما بالأعمال، وهي في دقتها وانتظامها وجديتها كالسنن الكونية سواء بسواء.
سنن : الابتلاء، التمحيص، التمكين:
ومن أهم هذه السنن التي نبّه إليها القرآن الكريم: سنة الابتلاء، فهي تضع المؤمن على محك الاختبار، لقوله تعالى:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [2] وَلَقَدْ فَتَنَّا الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ[3]}[سورة العنكبوت] . وقوله:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإلَيْنَا تُرْجَعُونَ[35]}[سورة الأنبياء] .
ومن ثبات تلك السنة أنها قد بسطت في وحي الله وعلمها أناس قبل أن تقرأ في القرآن الكريم: فهذا ورقة بن نوفل يقول للنبي بعد سماعه خبر نزول الوحي لأول مرة:' يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ ' فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم في تعجب: [ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ]، قال:' نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ ' رواه البخاري ومسلم.
وهذا قيصر الروم يقول في حديثه مع أبي سفيان:' سَأَلْتُكَ كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ فَزَعَمْتَ أَنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ وَدُوَلٌ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ' رواه البخاري ومسلم.
وفي الحديث: [ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا فَقُلْتُ رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً قَالَ اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ] رواه مسلم.
ولعلم الله عز وجل أن الابتلاء هو الوسيلة لتمييز الصفوف وتمحيص القلوب؛ جعله سنة ماضية، فحملُ الأمانة لا يصلح له كل الناس، بل يحتاج إلى قوم مختارين، وهم الصفوة الذين يعدّون لهذا الأمر إعداداً خاصّاً ليحسنوا القيام به.
ومن النتائج المترتبة على سنة الابتلاء لاحقاً: سنة التمحيص، فالمؤمن من جهة يتعرض للمحنة، فيُصقل معدنه من أثرها، والمنافق من جهة ثانية لا يستطيع الصمود أمام الفتنة، فينكص على عقبيه؛ ولهذا جعل الله التمحيص مَعْبراً لتنقية الصف المؤمن من أدعياء الإيمان، فيقع به التمييز بين الدر الثمين والخرز الخسيس، كما في قوله تعالى:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ...[179]}[سورة آل عمران] . وقوله تعالى:{...وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[154]}[سورة آل عمران] .
وعلى ضوء سنة التمحيص تتحقق سنة أخرى، وهي سنة التمكين، إذ يمكّن الله للمؤمنين في الأرض بعد أن يثبتوا استحقاقهم للنصر بلجوئهم إليه وحده في وقت المحنة، وتجردهم له، وتطلعهم إليه في زمن الشدة، مستيقنين من نزول نصره بعد الأخذ بكافة الأسباب المأمور بها شرعاً من صبر وتقوى وإعداد.
وقد أدرك أهل العلم والبصيرة هذه الحقيقة؛ فعندما سئل الإمام الشافعي رحمه الله:'أيما أفضل للرجل: أن يمكّن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكّن حتى يبتلى'.
ومحصّلة هذه السنن: أن بعضها يمسك برقاب بعض كحلقات السلسلة يشد بعضها بعضاً، فلا تمكين بلا تمحيص، ولا تمحيص بلا ابتلاء؛ إذ متى تحققت أوائلها؛ تحققت أواخراها، إنها سنن ساطعة وحقائق ثابتة.
وجدير بالإشارة أن الحكمة من صرامة وثبات السنن الربانية: هو أن تنضبط الموازين، وتستقر معايير الحكم على الأشياء والمواقف والأحداث والرجال؛ لكن من ناحية أخرى: لا ينبغي أن يغتر المؤمن بهذا الاطراد والاستمرار؛ لأنه قد يورث الغفلة، قال تعالى:{لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَذِينَ كَفَرُوا فِي البِلادِ [196] مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَاًوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المِهَادُ[197]}[سورة آل عمران] .
فحين يشاهد المؤمن الكفار وهم يسعون في الأرض ويمكّنون اقتصاديّاً وسياسيّاً وعسكريّاً، وتفيض عليهم كنوز الأرض وخيراتها؛ فليعلم أن ذلك ليس تمكين الرضا، بل يندرج ضمن تمكين الاستدراج، أو سنة الإملاء؛ فمن سنن الله الجارية أن يملي للكفار قبل أن يهلكهم:{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإلَيَّ المَصِيرُ[48]}[سورة الحج] .(/2)
كما ينبغي ألا يغتر المؤمن بديمومة وامتداد النعم، فدوامها ينسي ـ عادة ـ أنها قد تزول في الدنيا بسبب من الأسباب، أو تضمحل وتذهب بموت الإنسان، ولذلك نبّه القرآن الكريم إلى الاعتبار بفنائها وزوالها:{أَفَرَأَيْتَ إن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ [205] ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ [206] مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ[207]}[سورة الشعراء] .
سنن: التغيير، التداول، النصر:
من أهم دلالات سنة التغيير أن التغيير يبدأ من النفس سواء بالارتقاء، أو بالانتكاس والهبوط:{...إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ...[11]}[سورة الرعد] . فإذا وجدت الأسباب فالنتائج تتبعها؛ إذ إن حدوث التغيير من الله مترتب على حدوثه من البشر سلباً وإيجاباً.
ونتيجة لذلك: فالتغيير في واقع الدعوة ومحيط الدعاة يتوقف على بذلهم ما في الوسع؛ لتتوجه الجهود إلى العمل الجاد في التغيير الذي يبدأ من داخل النفس، ومن داخل الصف المسلم، ومن ثَمّ: تنفذ فيهم سنة الله في التغيير؛ بناءً على تعرضهم لهذه السنة من خلال سلوكهم وأعمالهم:{وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ[69]}[سورة العنكبوت] . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة يمثلون الجماعة التي أخذت على عاتقها مسؤولية التغيير، وحماية الحق الذي آمنت به، وإن كان من وراء ذلك جفوة الأهل وسخط العشيرة وعذاب الملأ من قريش ونكالهم.
فلم يصرفهم الاضطهاد والفتنة عن أن يضطلعوا بأعباء الدعوة، ويسعوا جاهدين إلى تغيير ما بأنفسهم وتغيير واقعهم من واقعٍ شركي إلى واقع إيماني، فترى تغيير الأنفس في النماذج الكثيرة من الجيل الأول الذي ما إن يشهد أن لا إله إلا الله، حتى يعود من فوره إلى بيته ليحطم الأصنام التي طالما عبدها، ويقطع العلائق والوشائج التي طالما وثقها حتى مع أقرب الناس إليه.
وتلك الحال الإيمانية الحية التي تمت نتيجة المجاهدة للنفس والشيطان قد أثمرت بالفعل تغييراً جذريّاً وانفصالاً كلياً عن الحياة السابقة، حيث انخلع المسلم من البيئة الجاهلية وعُرفها وتصورها وعاداتها وروابطها، وتلألأت عقيدة التوحيد في نفسه، وصار مع المؤمنين، مانحاً إياهم ولاءه وحبه.
وللتنبيه: فإن الفترة السابقة لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم تعدّ من أحلك الفترات في تاريخ البشرية وأكثرها ضلالاً وضياعاً؛ والعالم البشري كله كان يعيش حالة مزرية تحتاج إلى جهد ضخم وعمل هائل لتغيير أوضاعه وعقائده وأنظمته، وانتشال الناس من هذا الواقع المؤلم الرهيب، فكان الإعداد لتلك المهمة الضخمة يبدو ظاهراً جليّاً في كل مرحلة من مراحل الدعوة، بل في كل خطوة من خطواتها، فالأمر كله جدّ ونَصَب وصبر وبلاء.
فمنذ نزلت:{قُمْ فَأَنذِرْ[1]}[سورة المدثر] . قام النبي صلى الله عليه وسلم قياماً جهاديّاً متواصلاً، نازل به قومه قريش والعرب قاطبة، ثم اليهود والدولة البيزنطية، فجاهد الناس بالقرآن:{...وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً[52]}[سورة الفرقان] . كما جاهدهم بالحديد حتى يستقيموا على دين الله:{...وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَاًسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[25]}[سورة الحديد] .
وهذا ما أعلنه بقوله: [بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ] رواه أحمد.
ومن السنن الربانية: مداولة الأيام بين الناس، من الشدة إلى الرخاء، ومن الرخاء إلى الشدة، ومن النصر إلى الهزيمة، ومن الهزيمة إلى النصر: قال تعالى:{إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[140]}[سورة آل عمران] . وهذه السنة نافذة بحسب ما تقتضيه سنة تغيير ما بالأنفس:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ...[53]}[سورة الأنفال] .
وهنا يضع الله عز وجل أيدينا على سر عظيم، وهو ارتباط المداولة بين الأمم والدول والمجتمعات مع التغيير النفسي والذاتي في الأمة؛ فسقوط الحضارات ونهوضها، والأمم في ارتفاعها وهبوطها، مرتبطة بهذا التغيير النفسي في مسارها عبر التاريخ والحاضر والمستقبل، وهي سنة ماضية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.(/3)
يقول رشيد رضا رحمه الله في 'تفسير المنار'10/42:'... إن أَنْعُمَ الله تعالى على الأقوام والأمم منوطة ابتداءً ودواماً بأخلاق وصفات وعقائد وعوائد وأعمال تقتضيها، فما دامت هذه الشؤون لاصقة بأنفسهم متمكنة منها، كانت تلك النعم ثابتة بثباتها، ولم يكن الرب الكريم ينتزعها منهم انتزاعاً بغير ظلم ولا ذنب، فإذا هم غيّروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق وما يترتب عليها من محاسن الأعمال غيّر الله عندئذٍ ما بأنفسهم وسلب نعمته منهم'. وهذا السلب يكون بالإدالة عليهم؛ بتسليط عدو عليهم يستأصل شأفتهم، ويكون ذلك سبباً في انهيارهم، وزوال ملكهم جزاء فسقهم وعصيانهم.
ومن أسباب الفتن وزوال النعم: أن يفشو فيهم الظلم، وعدم إقامة العدل، والجهر بالمعاصي، فيأخذهم الله بالسنن، ويبتليهم بالأمراض والفقر، ويجعل بأسهم بينهم، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: [ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ] رواه ابن ماجة.
وقد تكون الإدالة على المسلمين بتخلف النصر عنهم حين يتركون طاعة الرسول، أو يطمعون في الغنيمة كما حدث في غزوة أحد، أو حين يركنون لكثرة العدد، ويعجبون بأنفسهم، وينسون سندهم الأصيل كما وقع في غزوة حنين. وحينئذ تكون الغلبة لغيرهم بصفة مؤقتة، لحكمة هي استكمال حقيقة الإيمان ومقتضاه من الأعمال، ومتى تحقق ذلك جاء النصر؛ لأن 'الهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس هموداً وكلالاً وقنوطاً، فأما إذا بعثت الهمة، وأذكت الشعلة، وبصّرت بالمزالق، وكشفت عن طبيعة المعركة وطبيعة العقيدة وطبيعة الطريق: فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد'[طريق الدعوة في ظلال القرآن، ص 248].
إن سنة النصر لا تتخلف متى استوفيت الشروط، وأهمها:
الاستقامة على منهج الله بطاعة أمره واتباع رسوله: قال تعالى:{...إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[7]}[سورة محمد] . وقال تعالى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ [171] إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ [172] وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ[173]}[سورة الصافات] .
وجاءت عوامل النصر جلية واضحة في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [45] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[46]}[سورة الأنفال] .
وإذا تخلفت هذه الأسباب؛ تخلف النصر بطبيعة الحال، وربما حلت الهزيمة؛ لأن سنن الله تعالى لا تحابي ولا تجامل أحداً من الخلق، ولا تجاري أهواء البشر، وإنما تساير أعمالهم، وإنّ الذين يرثون الكتاب وراثة بالاسم وشهادة الميلاد، ولا يترجمون ما فيه من الأوامر والنواهي واقعاً سلوكيّاً، ثم يقولون: سيغفر لنا!.. لا يستجيب الله لهم حتى يعودوا إلى العمل بما أمرهم الله في كتابه المنزل:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثوا الكِتَابَ يَاًخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإن يَاًتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَاًخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ[169]}[سورة الأعراف] .
وبناءْ على ذلك، فإن السنن لا تحيد ولا تميل مع الأماني، وإنما تتأثر بالأعمال الجيدة والجهود المنظمة والمخططات المحكمة؛ للوصول إلى النتائج المحددة المطلوبة. ومعنى ذلك: أنه لا يمكن أن يكون النصر بغير اتخاذ الأسباب سواء أتعلق الأمر بالمؤمنين أم بالكفار.(/4)
سؤال مهم: قد يتبادر إلى الذهن وهو: ماذا يحدث لو وافق المسلمون السنن الإلهية في التغيير واستيفاء شروط النصر، فأخذوا بالأسباب واستكملوا الإعداد للجهاد، غير أن أعداءهم كانوا أكثر كفاءة منهم تخطيطْا وتنظيمْا وقوة؟
والجواب: إن المؤمنين حين يغيرون ما بأنفسهم، ويستكملون أدوات النصر لا يضرهم تفوق الأعداء عليهم؛ لأن سنة أخرى تتدخل، وهي وعد الله بالتمكين والنصر لعباده المؤمنين:{وَكَانَ حَقاً عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ[47]}[سورة الروم] . {...وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً[141]}[سورة النساء] . {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ[51]}[سورة غافر] . وقد يتأخر ويبطئ نصر الله لحكمة ما، لكن في نهاية المطاف هو آتٍ لا محالة:{حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَاًسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ[110]}[سورة يوسف] .
من 'مجلة البيان' العدد 115 ، 116 مقال:'العلم بالسنن الربانية' د. محمد أمحزون(/5)
العلم والترجمة في عهد الخليفة المأمون
بقلم : أ. د. عبد الفتاح مصطفى غنيمة
وُلِدَ المأمونُ في عام 170هـ أبوه هارون الرشيد وأمه فارسية ونشأ في حجر الخلافة وتهيأ له من أسباب التربية والتثقيف الكثير، وكانت مظاهر الذكاء والنجابة والبعد عن سفاسف الأمور من أهم سماته .. كما اشتهر بالحزم وحسن التدبير والطموح إلى الكمال، وكان استعداده الفطري أن يكون قائد أمة فقد حبتْه قدرةُ الله فنَ الخطابة وكان جهير الصوت وحسن اللهجة، كما كان على عرفان بشؤون الحياة. وكان حسن التوفيق في اختيار حاشيته وأهل الشورى حوله من ذوي العلم والحنكة، وقد اشتهر أيضًا بالحلم والعفو والكرم والبصر بالسياسة وشغف بالعلم والأدب والحوار الهادف .
كان هذا الخليفة عالمًا من كبار العلماء. مثقفًا واسع الثقافة، يجيد كثيرًا من العلوم يهب العلم وقته ورعايته، كما يهب العلماء عطفه وعنايته .
روى بعضُ المؤرخين: "أن المأمون لما دخل بغداد واستقر فيها ، أمر أن يدخل عليه من الفقهاء والمتكلمين وأهل العلم جماعة يختارهم لمجالسته ومحادثته واختير لمجالسته مائة رجل، ظل يختارهم واحدًا بعد الآخر حتى حصل منهم عشرة" كما كان يسهم مع العلماء في الحوار العلمي، ويستنهض العلماء إلى النقاش الحاد، فأوجد مجالس للمناظرة بين العلماء حيث كانت أسعد ساعات العمر هي التي يستمع فيها إلى الحوار المتبادل في موضوع واحد، وكان العلماء يتجادلون ويتناظرون في شتى المسائل العلمية ويقول بعض المؤرخين: "أراد بعقد هذه المجالس إزالة الاختلاف بين المتناظرين في المسائل الدينية وتثبيت عقائد من زاغوا عن الدين، وبذلك تتفق كلمة الأمة في المسائل الدينية التي كانت مصدر ضعفهم".
ويقول البعض الآخر أنه "أراد أن يجعل مجلسه (محكمة) يتنازع فيها الخصوم: وكان يدلى بحجته والمتنازعون هم العلماء، ثم تحكم المحكمة فيجب أن ينفذ حكمها.. ويجب أن يذعن المتنازع لحكم المحكمة، فلا يقول قائل برأي إلا ما قضت به المحكمةُ..".
وبلغت في عهده الصالونات والمجالس العلمية الذروة.. فوصلت به دولة العلم إلى أوج قوتها. وقويت في عهده حركة النقل والترجمة من اللغات الأجنبية – وخاصة من اليونانية والفارسية – إلى العربية – فأرسل البعوث إلى القسطنطينية لإحضار المصنفات الفريدة في الفلسفة والطب والعلوم التطبيقية والموسيقي .. ولم تكد تلك الذخائر النفيسة تصل إلى بغداد حتى عهد المأمون إلى جماعة من العلماء – منهم "حنين بن إسحاق" (194-264هـ) (809-877م) و"الحجاج بن نصر" و"ابن البطريق" (المتوفى 184هـ - 800م)، و"قسطا بن لوقا" البعلبكي تُوُفِيَّ حوالي (300هـ - 912م) و"ثابت بن قرة" المتوفى عام (288هـ -900م) وهم يشكلون المرحلة الأكثر تألقًا في حركة الترجمة العربية. في ترجمتها، وكان "قسطا بن لوقا" يشرف على الترجمة من اللغات اليونانية والسريانية والكلدانية إلى العربية، كما كان "يحيى بن هارون" يشرف على الترجمة من الفارسية القديمة .
ويشير "القفطي" إلى تميز "حنين" في الترجمة، وأنه هو الذي أوضح مؤلفات "أبقراط" و"جالينوس" ولخصهما بأفضل السبل، وكشف غموضهما. ويذكر "ابن أبي أصيبعة" أن "حنينًا" قدم تلخيصًا سريانيًا لكتاب "جالينوس" حول العقاقير البسيطة، وأن ترجماته كانت أكثر سلامة لغويًا، وتعطي الانطباع بأنها نتيجة امتلاك سلس وعميق للغة وليست نتيجة جهد قلق. وقد ظهر هذا الأمر في التكييف السهل للأصل اليوناني وفي الدقة المدهشة للتعبير المنتج دون إسهاب .
أما "يحيى بن البطريق" فقد كان يهتم بكل كلمة يونانية ودلالتها، ثم يقدم الكلمة العربية المقابلة لها بالمعنى ويترجمها، ثم يأخذ كلمة أخرى وهكذا تنتهى الترجمة. وتعتبر هذه الترجمة رديئة.. حيث أن الكلمات اليونانية ليس لها كلها مقابل بالعربية وهكذا تبقى كلمات يونانية في اللغة العربية.
وقد ذكر "ابن العبرى" في كتابه مختصر تاريخ الدول، إن "قسطا بن لوقا" أحد مشاهير الأطباء ونقلة العلوم في الإسلام – تبحر في الفلسفة والتنجيم والهندسة والحساب والموسيقي، وكان يجيد اللغة اليونانية وجيد العبارة بالعربية. ولذا فقد نقل كتبًا كثيرة من اليونانية إلى العربية، واشتهر بحسن النقل فصيحًا باللسان العربي واليوناني والسرياني.. ويشير "ماكس مايرهوف" إلى ما نقله "قسطا"، أنه ترجم الكثير من المؤلفات الطبية والرياضية والفلكية كما ترجم إلى جانبها مؤلفات فلسفية نذكر منها:(/1)
كتاب في أوجاع النقرس، كتاب في الروائح وعللها، كتاب في النبض ومعرفة الحميات، كتاب في الأخلاط الأربعة، كتاب في الكبد وما يعرض فيها من الأمراض، كتاب في الأغذية، كتاب في دفع ضرر السموم، كتاب في المدخل إلى علم الهندسة، كتاب في النوم والرؤيا، كتاب في الدم، كتاب في الفرق بين النفس والروح، كتاب في شكل الكرة الاسطوانية، كتاب في الهيئة وتركيب الأفلاك، كتاب في ترجمة "ديوفنطس" في الجبر والمقابلة، كتاب في الأوزان والمكاييل، كتاب بالاستدلال بالنظر إلى أصناف البول، كتاب في شكوك "إقليدس"، كتاب القصد، كتاب المدخل إلى المنطق وغيرها.
وقال بعض المؤرخين أن المأمون كان يدفع ثمن الكتاب المترجم ذهبًا ويقولون: إنه "أي الخليفة هو الكاسب، وفي عهده أيضًا بدأ كثير من المسلمين في دراسة الكتب التي ترجمت إلى العربية وعملوا على إيضاحها وتفسيرها والتعليق عليها وإصلاح أغلاطها. واشتهر من هؤلاء "أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي" (185-253هـ) 801-867م) – وهو عربي الجنسية من قبيلة كندة اليمنية – وقد نبغ في الطب والفلسفة وعلم الحساب والمنطق والهندسة وعلم النجوم، وحذا في تأليفه حذو "أرسطو".. وترجم كثيرًا من الكتب اليونانية إلى العربية وشرح غوامضها فمثلاً نقل كتاب الجغرافيا في المعمور من الأرض لـ"بطليموس"، وكان سريانيًا، وقد نقله "الكندي" إلى العربية نقلاً جيدًا. كما نقح ما ترجمه غيره من المترجمين .. وكان هذا العالم معاصرًا للمأمون ثم للخلفاء المعتصم والواثق والمتوكل .
ويقول أحد المستشرقين أن عصر المأمون كان: "أزهى عصور بني العباس في تاريخ النهضة العلمية في العصر العربي، إذ كان المأمون نفسه من أساطين العلم – يختار أصحابه ورجال الدولة من الصفوة الأفذاذ من الشرق والغرب؟ ذلك إلى جانب المستشارين المفكرين والمترجمين، الذين ملأ بهم بلاطه وزين بهم ملكه كما قيل أيضًا أن بلاطه كان يموج بجمهرة عظيمة من رجال العلم والأدب والشعر والأطباء والفلاسفة الذين استدعاهم من جهات متعددة من أنحاء العالم، وشملهم جميعًا بعنايته وعطفه وتشجيعه مهما اختلفت جنسياتهم ودياناتهم..
وفي عهده وصل النشاط في مكتبة "بيت الحكمة" التي أنشأها والده الخليفة هارون الرشيد إلى ذروته.. وقد نقل إليها المأمون كتب الفلاسفة من جزيرة "قبرص"، إذ أنه عندما هادن صاحب تلك الجزيرة أرسل إليه يطلب كتب اليونان.. ويقال أن المأمون اغتبط بهذه الكتب أيما اغتباط وقد خصص في المكتبة خزانة خاصة لكتبه كما خصص خزانة لكتب والده الرشيد كما طلب كتبًا من ملك الروم، الذي أرسل إليه الكثير من الكتب.
وقد صنفت كتب هذه المكتبة حسب موضوعاتها واختار لها المأمون المترجمين ممن لهم خبرة علمية بالموضوع إلى جانب اتقان اللغة المنقولة منها، وكان من هذه الكتب كتاب "كلوديوس بطليموس" (127-180م) في الجغرافيا السماوية فأمر المأمون بترجمته وسموه "المجسطى" وقام بترجمته "ثابت بن قرة" حيث نجح "بطليموس" في التدليل على أن الأرض ثابتة وهي مركز الكون. وهو من كبار علماء الفلك اليونان الذين استقروا بالإسكندرية تحت حكم الرومان . ويقال أن المأمون نقل إلى بغداد من الكتب اليونانية المكتوبة بالقلم ما يثقل مائة بعير.
وأكثر الكتب المنقولة عن الفارسية في عهد المأمون من قبيل الآداب والأخبار والسير والأشعار وبعضها في النجوم مما نقله "آل نوبخت" و"علي بن زياد التميمي" وغيرهم أمثال "جبلة بن سالم" و "عبد الله بن المقفع" والأخير وهو المترجم لكتب "كليلة ودمنة" و"الأدب الكبير" و"الأدب الصغير" و"مزدك" و"اليتيمة" ونقل العرب عن اللغة الهندية الكثير من كتب الطب والنجوم والرياضيات والحساب والأسمار والتواريخ ومن مشاهير المترجمين عن الهندية منكة الهندي وكان يعرف الفارسية أيضًا.
والمأمون أول من نادى بأن يكون نشاط مكتبة "بيت الحكمة" موقوفًا على سخاء الخلفاء والأمراء، فهيأ للعلماء أرزاقًا ثابتة يتقاضونها من أوقاف ثابتة يكفي ريعها لكل المطلوب للعلماء والطلاب .
وقال كثير من المؤرخين: "إن جميع النهضات العلمية العربية إنما هي فروع للأصل الذي أنبته المأمون .. وأن ما جرى في عهده من ترجمات للتراث اليوناني يُعتَبَر مضرب الأمثال".
والمأثور عن المأمون أنه كان يقدر العلماء سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين.. فقد رُوِيَ أنه أكرم "يوحنا البطريق" – وكان أمينًا على ترجمة الكتب القديمة.. كما رفع منزلة "سهل بن سابور" وابنه "سابور".(/2)
كما رُوي أنه كان يضطهد أحيانًا أعداء العلم وجفاة الفلسفة وقد عرف التاريخ كثيرًا من أرباب الشهرة الذين قضوا في سجنه الشهور أو السنين لأنهم كانوا يعادون الفلسفة، ظنًا منهم أن منها ما يعدو على الدين فيفسده، ويقول المرحوم الإمام محمد عبده – رحمه الله – في كتابه "الإسلام دين العلم والمدنية مستفهمًا: هل رأيت في غير الإسلام رئيسًا دينيًا يضطهد أعداء العلم وجفاة الفلسفة". ثم يجيب طيب الله ثراه، على هذا السؤال بقوله: "لعلك لا تجده أبدًا".
وفي عهده أيضًا نبغ علماء الفلك فقاسوا طول الدرجة الأرضية وحددوا درجة كالطول 66 ميلاً وثلثين، وهذا التقدير قريب من القياس الصحيح الذي انتهى إليه العلماء .
كما بُنِيَ في عهده عدة مراصد وجهزت بأدوات شتى مثل مقياس الرتفاع والاسطرلاب والمزولة (الساعة الشمسية).
وفي عهده كذلك نبغ المسلمون في علم الجغرافيا، حيث دخلت عهدًا جديدًا، وحلت كتابات المسلمين فيها محل كتابات اليونان، وأصبحت بعد تصحيحها لأخطاء اليونان الأصل الحقيقي الذي بدأ منه لتقدم الأوروبي فيما بعد. "والحق أن القياس المأموني لخط منصف النهار (أي الذي تم في عهد المأمون) كان أصح من القياسين اليونانيين السابقين وأكثرهما ذيوعًا وانتشارًا فيما بعد .
وفي عهد المأمون رسم سبعون رجلاً من علماء العرب خريطة للأرض بالاستعانة بخريطة "بطليموس" مع الإشارة إلى تصحيحات كثيرة .. وقد صوروا هذه الخريطة العالم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره وعامره ومساكن الأمم والمدن إلى غير ذلك وقد رأى المسعودي هذه الخريطة وتكلم عنها .
ويقول الأستاذ "كراتشكوفسكي" أنه لم يبق شيء من هذه الخريطة .. وإن كانت المعلومات التي لديه عنها صحيحة لدرجة تسمح بتكوين فكرة عنها؛ ولكن إعادة تصورها بحذافيرها يكاد يكون أمرًا مستحيلاً إذ لايزال هناك غموض كثير يكتنف طبيعة الأسس التي رسمت عليها .
أما الأستاذ "ليليفيل" فيقرر أنه توجد بقايا منها. ورسم فعلاً تلك الخريطة في أطلسه .. كما يقول أنه إذا قورنت البقايا التي تحت أيدينا من رسم الأرض المأموني، بخريطة "بطليموس" اتضح لنا تصحيحات كثيرة في مجموع الخريطة. فالتحسينات التي أدخلها العرب على وضع الجزيرة العربية والمناطق حول دجلة والفرات هي تصحيحات ذات شأن ، بالإضافة إلى التصحيحات القيمة التي أدخلوها على المناطق الممتدة من قادس في أسبانيا إلى السند في الهند .
وكان المأمون فوق ذلك كله يؤثر العلماء على الوزراء .. فقد قيل إنه كان "لتمامة بن الأشرس" – وكان من أبرز رجالات العلم والأدب – مكانة عند المأمون فوق مكانة الوزراء .. وأراده ليكون وزيرًا بعد قتل "الفضل بن سهل"، فأبى وقال: "إني لم أر أحدًا تعرض للخدمة والوزارة إلا لم يكن لتسلم حاله، ولا تدوم منزلته".
فقبل المأمون ذلك منه وهذا المنحى الذي نحاه المأمون يرجع إلى بصره بأسرار الشريعة وعلمه بدقائق الدين وتفوقه في فهم أنواع الخلاف بين المسلمين وتعمقه في دراسة النفس البشرية .. لذا فإن المأمون في علمه وعرفانه أهل للاحتذاء .
* * *(/3)
العلم والدعوة والصراع المفتعل
تعد قضية التعارض بين طلب العلم والدعوة إلى الله عز وجل من أكثر القضايا الساخنة في أدبيات الصحوة الإسلامية اليوم، ويأخذ نقاش هذه القضية مكاناً رحباً في الكتابات الدعوية، وفي المناقشات والمداولات، وفي التساؤلات التي تطرح على المهتمين، بل إنها تعتبر من أكثر القضايا التي تطرح في ميدان الصراع والتنافس في ساحة العمل الإسلامي.
ومنشأ الصراع والجدل حول هذه القضية يتمثل في أن فئة من الناس ترى أن ارتباط العلم بالدعوة ارتباط وثيق؛ فالدعوة دون علم دعوة بلا رصيد، بل حقيقة الدعوة هي تبليغ ما يعلمه المرء من الدين للناس، ومن ثم فلا يسوغ -لدى هؤلاء- المشاركة في الدعوة لمن لم يتأهل التأهل العلمي الكافي.
وتنظر فئة أخرى إلى أن مشكلات المسلمين اليوم عديدة، وأنها تحتاج لحشد الطاقات وجمع الجهود. والتفرغ للتحصيل العلمي يعطل كثيراً من هذه الطاقات التي يحتاج إليها، ويضيف هؤلاء أن طلب العلم لا ينتهي بصاحبه إلا حين يغادر الدنيا، ثم إن كثيراً من مشكلات المسلمين -في نظر هؤلاء- لا تحتاج إلى كبير علم في معالجتها ومواجهتها.
ومهما حاول كاتبٌ البحث المستفيض للقضية والسعي لوضع النقاط على الحروف في هذه القضية فستبقى مجالاً للنقاش والأخذ والعطاء، فحجم هذه القضية أكبر من أن يحيط به كاتب غير مبرأ من الهوى والمقررات السابقة، لكنها محاولة لوضع إضاءات على الطريق علها أن تقرب المسافة بين فئات ممن يعيشون جدلاً حول هذا القضية.
1 - لاشك أن العلم الشرعي ضرورة ملحة، وأن جزءاً من مشكلات الأمة اليوم يعود إلى الجهل بحقيقة الدين، ومن ثم فجيل الصحوة يجب أن يضع التحصيل العلمي ضمن أولوياته، ويجب على المؤسسات والجمعيات الإسلامية أن تضع رفع المستوى العلمي ضمن برامجها التي تقدمها للمنتمين لها، وأن تسعى لمحو الأمية الشرعية لدى العاملين للإسلام مهما كان ميدانهم.
2 - وكما أن الصحوة يراد منها تربية ناشئتها على طلب العلم والعناية به، فعليها كذلك أن تساهم في نشره والدعوة إليه، وأن تقوم بتبني برامج لتعليم الناس، وأن تستفيد من معطيات التقدم المادي ونتاج التقنية المعاصرة في ذلك.
3 - لا ينبغي التهوين من شأن العلم وقيمته، أو احتقار من يعنى بطلبه وجمع مسائله.
4 - التصدر للدعوة ولعامة الناس، واتخاذ المواقف التي تسير الدعوة ينبغي أن يكون لطلبة العلم الناضجين، والإخلال بذلك يحول الدعوة إلى ميدان من التخبط والاضطراب، ويفتح مجالاً واسعاً للآراء الشخصية والاجتهادات الفردية، ويؤدي إلى الانحراف والزيغ.
5 - دعوة عامة المسلمين لترك المنكرات الظاهرة، وفعل الواجبات المعلومة من دين الله بالضرورة، أمر يجب على المسلمين أجمع، وليس قاصراً على طلبة العلم وحدهم.
6 - دعوة المرء لأمر محدد يعلمه، ونشره للعلم في حدود ما يعلم أمر ربى النبي صلى الله عليه و سلم عليه أصحابه؛ إذ أمر النبي صلى الله عليه و سلم مالك بن الحويرث وأصحابه حين انصرفوا أن يعلموا قومهم، كما روى ذلك هو إذ يقول:أتينا النبي صلى الله عليه و سلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة فظن أنا اشتقنا أهلنا وسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه وكان رفيقا رحيما فقال:«ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم»([1])، والمدة التي قضاها مالك وأصحابه غير كافية للتأهل العلمي التام.
وقال صلى الله عليه و سلم :«بلغوا عني ولو آية»([2])، وقال «نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه؛ فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه»([3])
7 - هناك مشاركات دعوية مهمة يمكن أن يقوم بها كل فرد مسلم مهما قل نصيبه من العلم مادام قادراً عليها، ومن ذلك: الأعمال الإغاثية، والأدوار التنظيمية في المؤسسات الدعوية، والأعمال المساندة للدعاة وأهل العلم كالرصد والأرشفة والتوثيق، وهي أدوار حين ترتبط بطلاب العلم تمثل إهداراً لطاقاتهم، وربما إشغالاً لهم بما لا يحسنون، وتعلمهم لذلك يفوت عليهم أوقاتاُ هم أحوج إلى صرفها لميادين العلم والتعليم .
8 - هناك أعمال دعوية ضرورية يحتاج فيها إلى أصحاب التخصصات كالترجمة والكتابة الأدبية والنقد، والأعمال المالية، والتطوير الإداري وغيرها... وكل هذه اليوم من ضرورات العمل الدعوي.
9 - حين لا يوجد لدى أحد من الشباب الحماس والقدرة والميول للعلم الشرعي فينبغي ألا تبدد طاقته في ذلك وأن يصرف جهده إلى ما يفيد، وإلى ذلك يشير ابن القيم إذ يقول :« ومما ينبغي أن يتعمد حال الصبي ، وما هو مستعدٌ له من الأعمال، ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوقٌ له، فلا يحمله على غيره، ما كان مأذوناً فيه شرعاً، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعدٌ له لم يفلح، وفاته ما هو مهيأ له»([4]).
--------------------------------------------------------------------------------(/1)
([1]) رواه البخاري (6008) ومسلم (674)
([2]) رواه البخاري (3461)
([3]) رواه أبو داود(3660) والترمذي (2656) وابن ماجه (230)
([4]) تحفة المودود (243)(/2)
مقدمة
أسباب ضعف المسلمين في هذا العصر
أقسام العلم الشرعي من حيث الحكم
نصوص في فضل العلم وأهله
طلب العلم في الصغر، وبعض أقوال العلماء فيه
الرحلات في طلب العلم
مقارنة بين العلم والمال
آثار الجهل على الأمم وفضائل العلم عليها
وسائل التعلم
بعض صفات طالب العلم
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، _صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيراً_.
أما بعد:
فإن العلم من المصالح الضرورية التي تقوم عليه حياة الأمة بمجموعها وآحادها، فلا يستقيم نظام الحياة مع الإخلال بها، بحيث لو فاتت تلك المصالح الضرورية لآلت حال الأمة إلى الفساد، ولحادت عن الطريق الذي أراده لها الشارع. (1)
يقول الإمام الشاطبي - رحمه الله -: "والحفظ لها – أي: للمصالح الضرورية - يكون بأمرين:
أحدهما: ما يقيم أركانها، ويثبت قواعدها، وذلك بمراعاتها من جانب الوجود.
والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم" (2).
والعلم - بلا ريب - يسلك في هذه المصالح الضرورية التي تجب مراعاتها من الجانبين المذكورين، وذلك للأسباب التالية:
أسباب كون العلم ضرورة شرعية
1- لأن حاجتنا إليه لا تقل عن حاجتنا إلى المأكل والمشرب والملبس والدواء، إذ به قوام الدين والدنيا.
2- لأن المستعمرين - بل المحتلين الحاقدين - إنما احتلوا بلاد المسلمين لأسباب كثيرة، بيد أن من أهمها جهل المسلمين.
3- انتشار المذاهب الهدامة، والنحل الباطلة، وما حدث ذلك إلا لأنها وجدت قلوباً خالية، فتمكنت منها، فإن القلوب التي لا تتحصن بالعلم الشرعي، تكون عرضة للانخداع بالضلالات، والوقوع في الانحرافات.
وهنا أنبه إلى أن الصحوة الإسلامية اليوم بحاجة إلى طلاب العلم، فلقد التقيت بكثير من الشباب الأخيار، في هذه البلاد وفي غيرها، فآلمني أن العلم الشرعي ينقص كثيراً منهم. بالرغم من حرصهم على الخير، وحماسهم للدعوة، وغيرتهم على الدين.
ومن ذلك: أنني ذهبت إلى بلد من البلدان، فوجدت فيها صحوة إسلامية مباركة، فسرني ذلك وأفرحني، ولكن ساءني كثيراً أني وجدت هناك جرأة على الفتوى، وألفيت قيادات كثير من الشباب هناك بعيدة كل البعد عن العلم الشرعي!! فتساءلت: هل تقاد الدعوات بقيادات غير متمكنة من العلم الشرعي؟! وما مصير تلك الجماعات والحركات؟!
لا شك أنه لا يصح أن تقاد الدعوات بأولئك، وأن جهود هذه الدعوات وآمالها سوف تذهب هدراً ؛ لأن القيادة عندما تكون جاهلة بأمر دينها، جاهلة بكتاب ربها، وسنة نبيها؛ فإنها تعجز عاجلاً أو آجلاً عن القيام بواجبات الدعوة.
إن من العجيب أن يتفق الناس على أنه لا يمكن لأحد أن يصمم بيتاً إلا أن يكون مهندساً، عالماً بهذا الفن، في حين يتساهلون في أمر في غاية الأهمية، وهو: أمر الدعوة، فيقودها رجال ينقصهم العلم الشرعي!!
4- إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
لعل هذه هي أهم الأسباب التي تجعل العلم ضرورة شرعية -بإيجاز-.
أسباب ضعف المسلمين في هذا العصر
يمكن تلخيص تلك الأسباب فيما يلي:
1- غياب تأثير المسجد: فإن المسجد في كثير من بلاد المسلمين اليوم تؤدى فيه الصلوات الخمس فحسب، بل لقد رأيت في بعض المساجد أن المؤذن يؤذن قبل أن يفتح المسجد، وإذا أراد أحد أن يتنفل كثيراً بعد الصلاة قال له المؤذن: جزاك الله خيراً، صل في بيتك.
هكذا أصبح المسجد لأداء هذه الركعات فقط، فغابت مهمة المسجد عن حياة الأمة، فوصلت الأمة إلى حال يرثى لها، على حين كان المسجد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم هو منطلق القيادة، والريادة، والتخطيط، والعلم والتعليم.
2- قلة العلماء العاملين: الذين ينذرون أنفسهم لبذل العلم ونشره، إنك اليوم تجد في كل بلد من بلاد المسلمين آلافاً من حملة المؤهلات العليا (الماجستير، والدكتوراه)، في التخصصات الشرعية، ولكن عندما تبحث عن العلماء العاملين المبلغين، الذين يجاهدون بعلمهم في سبيل الله ، لرفع الجهل عن الأمة، فإنك تجدهم قلة يعدون على الأصابع.
بل إنني لم أجد في بعض بلاد المسلمين ما أعده على الأصابع من أولئك العلماء، فلقد سألت عن العلماء هناك، فقيل لي: هنا العالم فلان، والعالم فلان، و...، فذهبت إليهم - وليتني لم أذهب، "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه!!"- وجدت فيهم إخلالاً وعدم التزام، وضحالة وضعفاً، حقا إن أحدهم قد يحفظ بعض النصوص، لكننا لسنا بحاجة إلى حفظة نصوص، ولسنا بحاجة إلى العلماء الذين اهتموا بالمناصب، وأهملوا العلم الذي تعلّموه، وإنما نحن بحاجة إلى العلماء العاملين الأكْفَاء المجاهدين.
__________
(1) - أصل هذه الرسالة محاضرتان ألقاهما المؤلف ثم سمح لنا بإخراجهما مطبوعتين فجزاه الله خيرا.
(2) - الموافقات 2/8.(/1)
3- سوء خطط التعليم في مراحل الدراسة المختلفة في البلاد الإسلامية: فإن خطط التعليم في كثير من البلاد الإسلامية سيئة للغاية: إما خطط علمانية،أو يسارية، مستوردة من الشرق أو الغرب، والقليل منها ما يوجد في خططها بصيص من نور.
4- ضعف الهمم والعزائم: فتجد أن الشيخ يبدأ في درس من الدروس العلمية ومعه عدد كبير من الطلاب، ثم يأخذ العدد في التناقص، حتى لا يبقى مع الشيخ إلا قلة يعدون على أصابع اليد.
والعلة في هذه الظاهرة أن الحماس هو الذي يطغى على حياتنا، ويحكم تصرفاتنا، وقل بيننا من يتصف بالثبات، وبعد النظر، وسعة الأفق، والتصرف عن اقتناع وتأمل مع الجدية وتحمل المصاعب.
5- انفتاح الدنيا، والانشغال بملذاتها وحطامها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم " (1) فأصبح الكثير يحزن لما يصبه في دنياه أكثر من حزنه لما يصيب آخرته.
6- كثرة وسائل الترفيه واللهو ونحوها من المعوقات التي تقعد بالمرء عن معالي الأمور، وتشغله عن الغايات السامية.
إن الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أي مفسده
7- التخصصات الجزئية التي أضعفت العلوم الشرعية: لقد كان العالم في السابق عالماً بعامة فنون الشريعة: من تفسير، وحديث، وعقيدة، وأصول، وفقه...، أما الآن فالفقه -مثلاً- ينقسم قسمين: فهناك متخصصون في الفقه، ومتخصصون آخرون في أصول الفقه، وعلى هذه الشاكلة فصلت علوم الشريعة بعضها عن بعض، وأصبحت الجامعات تخرج لنا أنصاف متعلمين، تسأل أحدهم، فيعتذر عن الإجابة بأن ذلك ليس من تخصصه، والمصيبة أن ذلك صار أمراً مستساغاً مسلماً (2).
فلنلق نظرة خاطفة إلى ما كان عليه بعض علماء الأمة السابقين، كالطبري -مثلاً- الذي إن نظرت إليه في التفسير فهو في القمة، أو في الحديث فهو في الذروة، أو في اللغة فهو قوي العبارة، سليم الأسلوب، وهكذا.
وكابن تيمية الذي نجد كتبه تحقق في أقسام مختلفة من أقسام الكليات الشرعية، فبعضها في قسم التفسير، وبعضها في قسم الحديث، وبعضها في قسم العقيدة، وبعضها في قسم الفقه، وبعضها في القضاء، وفي الدعوة، وفي التاريخ، وفي السياسة الشرعية.
فتأمل وقارن بين علم هؤلاء وعلم أولئك.
8- الانهزام النفسي أمام بعض العلوم المادية، والنظر إلى التخصصات الشرعية نظرة دونية: فمثلاً يجتمع بعض الشباب في مجلس، ويسأل بعضهم بعضاً: أين تدرس؟ فيقول بكل زهو وافتخار: أدرس في كلية الطب، ثم يرفع الآخر رأسه، ويقول: أدرس في كلية الهندسة، ثم يطأطئ الثالث رأسه، ويقول: معدلي ضعيف؛ فدخلت كلية الشريعة (3).
هذه مأساة لا بد أن نعترف بها في واقعنا المؤلم في أغلب بلادنا الإسلامية.
لقد كنت أتحدث مع عدد من المتخصصين، فكان مما قالوا: من المآسي التي رأيناها أن بعض علماء الأزهر يفتخرون أن أبناءهم يدرسون في كليات الطب والهندسة، وهذا نابع من خلل في نفوسهم، وانهزام في قلوبهم، ووهن في نظرتهم إلى انتمائهم وتخصصهم، فقد تسأل بعضهم عن أبنائه، أين يدرسون؟ فيقول: أحدهم في الطب، والثاني في العلوم، والثالث في الطب أيضاً، والرابع في الحقوق.
ومن عجائب انقلاب المفهومات أنك تسأل بعض المتعلمين: أين تخرجت؟ فيقول: تخرجت في أمريكا - يقولها بكل اعتزاز - وتسأل الآخر السؤال نفسه، فيقول: لم يسمح لي أبي، فدرست في داخل بلدي - يقولها بمرارة -.
هذا كله ناجم عن الهزيمة النفسية التي أدت إلى تشوه التصورات، وتحول النظرات، فصرنا إلى حال من الضعف والتأخر يرثى لها.
إن العزة كل العزة في دراسة العلوم الشرعية، والعناية بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولكن الطعنات النُّجل التي وجهتها وسائل التغريب إلى جسد الأمة، التي ما زالت ترجع القهقري عن مقومات عزها، وأسباب ريادتها؛ أقول: إن هذه الطعنات أدت إلى الهزيمة النفسية المقيتة؛ فأفرزت ما أفرزت من الويلات.
أقسام العلم الشرعي من حيث الحكم
العلم الشرعي ثلاثة أقسام:
أولها: فرض العين: وهو تعلم المكلف ما لا يتأدى الواجب -الذي يتعين عليه فعله- إلا به، كأركان الإسلام والإيمان ونحوهما.
ثانيهما: فرض الكفاية: وهو تحصيل ما لا بد للناس منه في إقامة أمور دينهم ودنياهم، فإذا قام به بعضهم سقط عن الباقين.
ثالثها: المستحب: وهو التبحر في أصول الأدلة، والإمعان فيما وراء القدر الذي يحصل به فرض الكفاية، ومن تخصص في علم وجوباً، أصبح غيره من العلوم له نفلاً.
نصوص في فضل العلم وأهله
__________
(1) - البخاري 2988 ومسلم 2961.
(2) - وليست المشكلة في اعتذاره عن الإجابة، ولكن بتخريج أشباه طلاب علم.
(3) - وهذا في غير هذه البلاد، لأن كليات الشريعة عندنا لا تقبل إلا من معدله مرتفع، وطالب الشريعة في بلادنا يرفع رأسه عاليا، وله مكانته الاجتماعية الرفيعة.(/2)
قال الله _تعالى_: "وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً" (طه: من الآية114). "هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" (الزمر: من الآية9). "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" (المجادلة: من الآية11). "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" (فاطر: من الآية28).
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم :" من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " متفق عليه (1).
وإن في هذا الحديث لدحضاً للمفهومات الخاطئة تجاه العلوم الشرعية لدى كثير من شباب المسلمين المصابين بالهزيمة النفسية.
ويقول صلى الله عليه وسلم :" بلغوا عني ولو آية " (2)، ويقول: " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة " (3).
ويقول -عليه الصلاة والسلام-: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (4).
ويقول: " طلب العلم فريضة على كل مسلم " (5). ويقول -صلوات الله وسلامه عليه-: " ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله - تعالى - وما والاه، وعالم أو متعلم " (6) ويقول: " من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع " (7).
ويقول: " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " ثم قال: " إن الله وملائكته وأهل السماء والأرض، حتى النملة في حجرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير " (8).
ويقول صلى الله عليه وسلم " فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر " (9).
طلب العلم في الصغر، وبعض أقوال العلماء فيه
إن من أنفس النصائح التي نقدمها للشباب أن نحثهم على الإقبال على العلم في هذه السن، فإنها فرصة حري بالعاقل اغتنامها، فقد يعجز في المستقبل عما يستطيعه اليوم.
وللعلماء في ذلك أقوال كثيرة، توحي بأهمية الطلب في الصغر، وتميزه عن الطلب في الكبر. قال الحسن: "طلب العلم في الصغر كالنقش في الحجر" (10).
وقال علقمة: "أما ما حفظت وأنا شاب، فكأني أنظر إليه في قرطاسة أو ورقة" (11) وذلك من قوة حفظه له.
وقال الحسن بن علي لبنيه وبني أخيه: "تعلموا العلم، فإنكم إن تكونوا صغار قوم تكونوا كبارهم غداً، فمن لم يحفظ فليكتب" (12).
العلم صيد والكتابة قيده
فمن الحماقة أن تصيد غزاله ... قيد صيودك بالحبال الواثقه
وتتركها بين الخلائق طالقه
وقال عروة بن الزبير لبنيه: "هلموا إلي فتعلموا مني، فإنكم توشكون أن تكونوا كبار قوم. إني كنت صغيراً لا ينظر إلي، فلما أدركت من السن ما أدركت جعل الناس يسألونني، وما شيء أشد على امرئ من أن يسأل عن شيء من أمر دينه فيجهله" (13).
وروي عن لقمان أنه قال لابنه: "يا بني جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بالحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء" (14).
وقال: "يا بني لا تتعلم العلم لتباهي به العلماء، وتماري به السفهاء، وترائي به في المجالس، (15) ولا تدع العلم زهداً فيه، ورغبة في الجهالة، يا بني اختر المجالس على عينك، فإذا رأيت قوماً يذكرون الله فاجلس معهم، فإنك إن تك عالماً ينفعك علمك، وإن تك جاهلاًَ يعلموك، ولعل الله يطلع عليهم برحمة فتصيبك معهم، وإذا رأيت قوماً لا يذكرون الله فلا تجلس معهم، فإنك إن تك عالماً لا ينفعك علمك، وإن تك جاهلاً يزيدوك غياً" (16).
__________
(1) - البخاري في كتاب العلم: 10، وفي الخمس: 7، ومسلم في كتاب الإمارة جـ3 برقم175.
(2) - رواه البخاري في كتاب الأنبياء: 5.
(3) - رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء جـ4 برقم 38.
(4) - رواه مسلم في كتاب الوصية جـ3 برقم14.
(5) - ابن ماجة، المقدمة 1/224، وهو حسن بطرقه.
(6) - رواه الترمذي 4/2322 وقال: حسن غريب.
(7) - رواه الترمذي 5/2647 وقال: حسن غريب.
(8) - رواه الترمذي 5/2685 وقال: حديث حسن غريب.
(9) - رواه الترمذي 5/2685.
(10) - المدخل إلى السنن الكبرى رقم 640 وقال المحقق: رواه ابن عبد البر في بيان العلم 1/82.
(11) - المدخل إلى السنن الكبرى رقم 642 وعزاه المحقق إلى ابن سعد في الطبقات 6/87 عن الحماني.
(12) - المدخل إلى السنن الكبرى (632) وعزاه المحقق إلى ابن عبد البر 1/82 بسنده عن عبد الله بن الإمام أحمد.
(13) - بيان العلم وفضله لابن عبد البر.
(14) - المدخل إلى السنن الكبرى (445) وعزاه المحقق إلى ابن عبد البر في بيان العلم 1/106.
(15) - ما مضى من هذا الأثر معنى حديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا لتتحدثوا به في المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار". رواه الحاكم في المستدرك 1/86، وروى أوله ابن ماجة المقدمة 1/254، وقال في الزوائد: رجال إسناده ثقات. ورواه ابن حبان في صحيحه.
(16) - جامع بيان العلم وفضله.(/3)
وقال: "يا بني إن الحكمة أجلست المساكين في مجالس الملوك" (1).
وهذا القول الأخير واضح تماماً لمن قرأ التاريخ وسير العلماء، فإن أكثرهم كانوا من المساكين والضعفاء الذين لا يؤبه لهم، ومع ذلك جلسوا في مجالس الملوك، فلئن جلس الملوك بالقوة الحسية، فقد جلس العلماء بالقوة المعنوية على قلوب الناس.
وقال: "كما ترك الملوك لكم الحكمة – أي: العلم - فاتركوا لهم الدنيا" (2).
الرحلات في طلب العلم
الرحلة في طلب العلم أمر معروف عبر التاريخ، وبخاصة في هذه الأمة، وعلى وجه أخص عند السلف - رضي الله عنهم -.
ومن أقوى الرحلات التي خلدها القرآن الكريم، رحلة موسى -عليه السلام- إلى الخضر، كما في سورة الكهف.
ومن النماذج الرائعة في هذا الباب:
رحلة جابر بن عبد الله رضي الله عنه إلى بلاد الشام مسيرة شهر؛ ليسمع حديثاً واحداً من عبد الله بن أنيس، وهو: " يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً " (3).
رحلة أبي أيوب الأنصاري من المدينة إلى عقبة بن عامر بمصر؛ ليسمع حديثاً واحداً، وهو: " من ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة " (4).
وسمع الحديث فور وصوله إلى مصر، ورجع مباشرة إلى المدينة.
وقال بسر بن عبيد الله: "إن كنت لأركب إلى مصر من الأمصار في الحديث الواحد".
وقال أبو العالية: "كنا نسمع الحديث عن الصحابة، فلا نرضى حتى نركب إليهم فنسمعه منهم"، وذلك لإرادة علو الإسناد.
واليوم لو دعي بعض طلبة العلم إلى محاضرة لقالوا: يكفينا أن نذهب إلى محلات التسجيل، ونشتري المحاضرة بعد أن يتم تسجيلها.
فليقارن طلبة العلم اليوم حالهم بحال أولئك الأفذاذ، أولي الهمم العالية، فلعله أن يكون في ذلك حافز لهم على الجد والتشمير.
حال السلف الصالح في طلب العلم
لقد كان حال سلف الأمة في طلب العلم حالاً عجيباًاستثمروا فيه أوقاتهم، وأفنوا شبابهم؛ فحصلوا منه ما يدعو إلى الدهشة، ويبهر الألباب، ويستنهض الهمم.
قال أبو زرعة: "كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث (أي: مليوناً)، فقيل له: ما يدريك؟ قال: ذاكرته وأخذت عليه الأبواب" (5).
وأنا أسأل: كم منا من يحفظ ألف حديث؟!
بل كم منا من يحفظ الأربعين النووية حفظاً دقيقاً؟!
وقال سليمان بن شعبة: "كتبوا عن أبي داود أربعين ألف حديث، وليس معه كتاب".
وقال أبو زرعة الرازي: "أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" (الإخلاص:1)، وفي المذاكرة ثلاثمائة ألف حديث" (6).
وألف الإمام أبو بكر بن العربي تفسيره الكبير في ثمانين جزءاً، وله عدة مؤلفات: كـ (شرح الترمذي)، و(الموطأ)، و(أحكام القرآن الكبرى والصغرى)، و(العواصم من القواصم)، و(المحصول في الأصول)، وكلها تصانيف من أعلى طبقة.
وترك ابن أبي الدنيا ألف مؤلف.
وألف الحاكم - صاحب المستدرك - ما يزيد على ألف جزء.
وألف ابن عساكر تاريخه في ثمانين مجلداً.
وقال عنه أبو المواهب: لم أر مثله، ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه؛ من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة.
وسمع محمد بن إسحاق من ألف وسبعمائة شيخ، وقد رحل في طلب العلم وعمره عشرون سنة، ورجع وعمره خمس وستون سنة.
أما الإمام البخاري فقد رحل إلى كثير من البلدان، وسمع من أكثر من ألف شيخ. وكان يستيقظ من النوم، فيوقد السراج، ويكتب الفائدة تمر بخاطره، ثم ينام، ثم ينتبه حتى إنه في بعض الليالي يعمل هذا عشرين مرة.
وأما ابن تيمية فيكفي ما قال عنه الذهبي: إنه أشهر من أن يُعرَّف به.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي، عن أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي: "كان من أفاضل العالم، وأذكياء بني آدم، مفرط الذكاء، متسع الدائرة، كان يقول: إني لا يَحِلُّ لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة؛ أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره. وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عمر الثمانين ما كنت أجد وأنا ابن عشرين سنة".
ونحن إذا بلغ أحدنا ستين سنة قيل له: "مت قاعدا".
وكان ابن عقيل هذا يقول: وإن أَجَلَّ تحصيل عند العلماء بإجماع العلماء هو الوقت، فهو غنيمة تنتهز فيه الفرص، فالتكاليف كثيرة.
وقد ألف - رحمه الله - كتابه (الفنون) في ثمانمائة مجلد، وله كتاب صغير في عشرين مجلدا!!
وقال ابن عقيل الوراق: "إن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه وتلاميذه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة. قالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال لهم: أتنشطون لكتابة تاريخ العالم من وقت آدم -عليه السلام- إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم يكون قدره؟ فذكر نحوا مما ذكره في التفسير، فردوا بمثل ذلك. فقال: إنا لله... ماتت الهمم. فاختصره في نحو ما اختصر التفسير".
__________
(1) - جامع بيان العلم وفضله.
(2) - جامع بيان العلم وفضله.
(3) - رواه مسلم 2859.
(4) - رواه البخاري 2310 ومسلم 2580.
(5) - صفة الصفوة 2/337.
(6) - صفة الصفوة 4/88.(/4)
فإن كان تلاميذ ابن جرير الطبري قد ماتت هممهم، فهل نجد في القاموس وصفا معبرا نطلقه على طلاب اليوم؟.. طلاب اليوم الذين إذا كتب الأستاذ وريقات معدودة تكاسلوا عن الكتابة معه، ومتابعته وتدوين شرحه، ثم إذا جاء آخر السنة صوروا ما اجتمع ببضعة ريالات، ثم حفظوه في بضع ساعات، وألقوه في أوراق الامتحانات، وهذا آخر عهدهم به - إلا من وفقه الله -
قال الخطيب: "وسمعت السمسمي يحكي أن أبا جعفر الطبري مكث أربعين سنة يكتب كل يوم أربعين ورقة".
وهذا الذي يكتبه علم قوي عميق، قد نظل في فهم بعض عباراته أوقاتا طويلة، في حين أن عامة طلبة اليوم - برغم تفرغهم - يكتب أحدهم في أربعة أشهر أربعين ورقة، نقلا ضعيفا مهلهلا.
ويقول محمد كرد علي في كتابه (كنوز الأجداد) في ترجمة ابن جرير: "وما أثر عنه أنه أضاع دقيقة من حياته في غير الإفادة والاستفادة".
والبرهان على ذلك ما رواه المعافى بن زكريا عن بعض الثقات أنه كان بحضرة ابن جرير قبل موته، فذكر له دعاء عن جعفر بن محمد، فاستدعى محبرة وصحيفة فكتبه، فقيل له: أفي مثل هذه الحال؟ فقال: ينبغي للإنسان ألا يدع اقتباس العلم حتى الممات، ثم توفي بعد ذلك بنحو ساعة أو أقل منها - رحمه الله -.
فقارن هذه الحال بحال بعض طلبة الجامعات عندنا اليوم، فإن أحدهم إذا أصيب بزكام طلب إجازة ثلاثة أيام، فإذا جاء آخر السنة فوجئ الأستاذ بالأعذار الشرعية، وغير الشرعية، تنهال عليه من الطلاب، يعتذرون عن طلب العلم، وفي كليات شرعية لأسباب واهية.
وقال الفارسي: سمعت أبا المعالي الجويني يقول: أنا لا أنام ولا آكل عادة، إنما أنام إذا غلبني النوم، ليلا كان أم نهارا، وآكل إذا اشتهيت الطعام في أي وقت كان، وكانت لذته ونزهته في مذاكرته للعلم، وطلب الفائدة، من أي نوع كان.
وأذكر في ختام هذه النماذج مثالا من حياة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - كما كتبها أحد تلاميذه: (1)
كان - رحمه الله - يشغل جل وقته في تعليمه، وتلقينه لطلابه، على اختلاف مراتبهم، وتباعد درجاتهم.
فكان يجلس في مسجد الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بعد صلاة الصبح لصغار الطلاب، فيدرسون عليه مبادئ النحو في (الآجرومية)، ثم يأتي بعدهم المتوسطون في العمر، ثم يأتي من بعدهم الكبار بالألفية.
وكل واحد من هذه الطوائف الثلاث يعطى ما يناسبه من المسائل، والبحث، والدروس.
فإذا انتهت دروس النحو شرع في دروس الفقه، فأخذ الطلاب يقرءون عليه (مختصر المقنع)، عن ظهر قلب، ثم يشرع في شرحه وبيان معانيه، ثم يعيدون الدرس بعد شرحه بقراءة أحدهم، واستماع الباقين.
وبعد انتهائهم من درس الفقه، يشرعون في درس الحديث، والكتاب المفضل لديهم هو (بلوغ المرام)، لمطابقته لكتب الأحكام، وسيره معها، فهو دليلها ومستمد أحكامها، ومستند تفريعها، فيوضح ألفاظه، ويبين أحكامه، ويبرز فوائده.
وكل ما تقدم من دروس النحو، والفقه، والحديث في جلسة واحدة من جلساته، والتلاميذ على حلقته الكبيرة ما بين وارد وصادر، وهو في مجلسه كالنبع الصافي، والمورد العذب الذي لا ينضب، على كثرة الواردين، وازدحام الناهلين، ثم يذهب إلى بيته، فيلبث فيه بقدر ما يفرغ من حاجاته الضرورية، ثم يعود إلى مجلسه في المسجد ضحى، فيأتي كبار الطلاب، ويشرعون في القراءة عليه في الكتب الكبار، والمراجع الضخام، ثم يعود إلى بيته قبل الظهر، ويستريح فيه حتى تحين صلاة الظهر.
وبعد الفراغ من الصلاة يقام الدرس بحضور كبار التلاميذ وصغارهم بأحد الأمهات الست، وبعد الفراغ منها يقرأ عليه الطلاب في كتب العقيدة؛ ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكتب غيرهما في عقائد السلف.
ويستمر الدرس حتى صلاة العصر، وبعد الصلاة إلى قرب المغرب، وهو في جلسة واحدة؛ لاستقبال الطلاب فوجا بعد الآخر، وهم ما بين الكتب: في التوحيد، أو الحديث، أو الفقه، أو النحو.
وبعد صلاة المغرب يخصص وقتا لعلم الفرائض، فإذا قرب العشاء شرع في درس عام، فقرأ عليه القارئ تفسير ابن كثير، وهو يعلق على التفسير والآيات الكريمات بما يرى الحاجة تدعو إلى ذكره وإلحاقه، حتى صلاة العشاء، وبعد صلاة العشاء يبدأ في استقبال بعض حاجات الناس، ثم ينام، ثم يقوم ليصلي الليل.
وهكذا.. فقد فرغ كل أوقاته، وصرف جميع حالاته؛ في خدمة العلم وتحصيله ونشره.
هذا.. واستمر على هذه الحالة من عام 1339هـ إلى عام 1382هـ، إلا في حالات أسفاره، أو مرضه، إلا أنه في السنوات العشر الأخيرة بدأت المسئوليات تأخذ بعض وقته (2).
فرحم الله أولئك الأفذاذ الذين عطروا تاريخ الأمة عبر عصوره المتلاحقة.
مقارنة بين العلم والمال
عقد ابن القيم - رحمه الله تعالى - مقارنة بين العلم والمال، يحسن إيرادها في هذا المقام، فقد فضل العلم على المال من عدة وجوه، أهمها:
__________
(1) - وهو الشيخ: عبد الله بن منيع، عضو هيئة كبار العلماء.
(2) - انظر مجلة البحوث الإسلامية العدد (18).(/5)
أن العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الملوك والأغنياء.
أن العلم يحرس صاحبه، وصاحب المال يحرس ماله.
أن العلم يزداد بالبذل والعطاء، والمال تذهبه النفقات - عدا الصدقة -.
أن العلم يرافق صاحبه حتى في قبره، والمال يفارقه بعد موته، إلا ما كان من صدقة جارية.
أن العلم يحكم على المال، فالعلم حاكم، والمال محكوم عليه.
أن المال يحصل للبر والفاجر، والمسلم والكافر، أما العلم النافع فلا يحصل إلا للمؤمن.
أن العالِم يحتاج إليه الملوك ومن دونهم، وصاحب المال يحتاج إليه أهل العدم والفاقة والحاجة.
أن صاحب المال قد يصبح معدما فقيرا بين عشية وضحاها، والعلم لا يخشى عليه الفناء، إلا بتفريط صاحبه.
أن المال يُعَبِّدُ الإنسان للدنيا، والعلم يدعوه لعبادة ربه.
أن المال قد يكون سببا في هلاك صاحبه، فكم اختطف من الأغنياء بسبب مالهم!! أما العلم ففيه حياة لصاحبه، حتى بعد موته.
سعادة العلم دائمة، وسعادة المال زائلة.
أن العالِم قدره وقيمته في ذاته، أما الغني فقيمته في ماله.
أن الغني يدعو الناس بماله إلى الدنيا، والعالِم يدعو الناس بعلمه إلى الآخرة.
فانظر - يرعاك الله - أي هذين الطريقين تختار !!
آثار الجهل على الأمم وفضائل العلم عليها
إن أمة ترضى بالجهل، وتتقاعس عن العلم، وتنصرف عن العناية به وبأهله؛ إنها لخليقة بأن تدفع الثمن غاليا، والضريبة مضاعفة.
فلقد شهدت السنن الربانية، وسطر التاريخ، ونطق الواقع، بأن للجهل آثارا ضخمة وخيمة على الأمة، سواء على مستوى الفرد، أو على مستوى المجتمع، ومن أبرزها:
1- ضعف الإيمان وقلة التقوى، فإن الجاهل لا يدري ماذا يتقي، ولا يعلم الطريق إلى نجاته على بصيرة.
2- ازدياد المعاصي، وانتشار الفواحش والفتن والحسد وعبادة الدنيا، وظهور سائر الآفات.
لقد اطلعت على تقرير عن إحدى المؤسسات الإصلاحية، وفيه إحصائية عجيبة عن نزلاء تلك الإصلاحية - وكلهم ممن ارتكب جرما أخلاقيا أو نحوه - فوجدت أغلبهم من العوائل التي يكثر فيها الجهل، في حين وجدت أن بعض الأحياء التي فيها نسبة عالية من المتعلمين تقل فيها الجريمة، بل إن الجرائم التي تحدث فيها غالبا ليست من أهلها.
3- الجهل يؤدي إلى ضعف الهيبة أمام الأعداء، ويقود إلى الحاجة إليهم، وإلى ما يحملونه من انحرافات في الفكر والسلوك.
4- الجهل يقيد الأمة بأغلال التخلف في جميع المجالات: العقدية، والأخلاقية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والصناعية... وغيرها.
5- وبسبب الجهل تكثر المشكلات الأسرية، وتضعف التربية، ويضيع الأبناء، ويجني المجتمع ثمارا شائكة مرة من جراء ذلك.
6- الخمول والكسل وضعف الهمم والقصور عن إدراك المعالي وهي نتائج حتمية للجهل.
ومن يتهيب صعود الجبال ... يعش أبد الدهر بين الحفر
أما الأمة التي تولي العلم وأهله عناية فائقة، فتقبل على التحصيل، وتسخر طاقاتها في سبيله، وتجعل من أهل العلم موجهين لها؛ فإنها تعيش في ظلال العلم الوارفة، وتتقلب في رياضه الغناء، ممثلا ذلك في:
1- الإيمان بالله، المبني على العلم والعمل بمقتضى الدليل.
2- معرفة الله حق المعرفة، وخوفه ورجائه، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف.
3- اجتناب المنكرات؛ للعلم بعواقبها الوخيمة، وآثارها الأليمة عاجلا وآجلا، وإنقاذ الأمة من الهلاك، مع الالتزام بالطاعات والقربات.
4- القيام بحقوق كل ذي حق: من الوالدين، والأرحام، والجيران، وغيرهم؛ لأن العلم بحقوقهم يحمل المرء على أدائها والوفاء بها.
5- السعادة النفسية، واللذة الحسية، الدنيوية والأخروية.
6- تحكيم شريعة الله في جميع شئون الحياة: فشتان ما بين أمة عالمة، بصيرة، وأمة جاهلة، حقيرة.
وسائل التعلم
1- تقوى الله - سبحانه وتعالى - قال الله عز وجل (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) (البقرة: من الآية282). وهي أهم الوسائل وأعظمها، فبدونها لا تجدي الوسائل الأخرى.
2- ملازمة العلماء والمشايخ في المساجد والبيوت، وإني لأحث طلاب العلم على العناية بهذه الوسيلة، واغتنام فرصة كثرة العلماء، وطلاب العلم الكبار في هذا البلد، فلقد كنا منذ نحو عشرين عاما نتمنى أن نجد هذه الأعداد من العلماء الذين جلسوا للتعليم، فلا نجد في الرياض مثلا إلا اثنين أو ثلاثة.
ولقد ذهبت إلى كثير من بلدان المسلمين فلم أجد للعلماء حضورا مذكورا في الساحة، وإن وجد قلة منهم، فقد تُلفِيَ لديهم خللا في العقيدة، وخللا في السلوك (1).
ومن هنا فإني أخص الإخوة المقيمين في هذا البلد من طلاب العلم بالحض على اهتبال الفرصة، واستغلال فترة وجودهم في هذا الجو العلمي العاطر.
3- المدارس والمعاهد والجامعات، وأخص الشرعية منها.
4- القراءة مع الزملاء والأصدقاء وطلاب العلم.
__________
(1) - وهذا لا يعني عدم وجود علماء أجلاء، مع سلامة في العقيدة والمنهج، ولكنني أتحدث عن الحالة الغالبة.(/6)
5- كثرة الاطلاع والقراءات الخاصة المرتبة المنتقاة، والاسترشاد في هذا السبيل بآراء ذوي العلم والرأي، مع الحزم في التنفيذ والمتابعة.
6- إعداد البحوث الدقيقة التي يتم فيها تحرير المسائل، واستخلاص النتائج، وسبر أغوار القضايا.
7- المحافظة على الأوقات، وحسن ترتيبها، والحرص على استغلالها، بحيث يعطى كل ذي حق حقه، بدون غلو ولا جفاء.
8- الاستماع إلى ما في أشرطة التسجيل من محاضرات وندوات ودروس علمية، فهي وسيلة معينة على طلب العلم، وإن كانت غير خاصة به.
هذه الوسائل بمجموعها يمكن بها تحقيق طلب العلم، وأما الاقتصار على بعضها فقد يكون غير كاف لتحقيقه على الوجه المطلوب.
بعض صفات طالب العلم
الإخلاص لله - تعالى - وذلك بأن يبتغي بعلمه وجه الله والدار الآخرة، لا أن يبتغي به الرياء، أو السمعة، أو عرضا من الدنيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا؛ لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة " (1) (2).
وعلى طالب العلم أن يقرن الإخلاص بتقوى الله ومراقبته، (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) (البقرة: من الآية282).
الصبر وتحمل المشاق وسعة الصدر فإن العلم جهاد لا شهوة، وما أحسن ما قال الشاعر:
إذا كان يؤذيك حر المصيف
ويلهيك حسن زمان الربيع ... ويبس الخريف وبرد الشتا
فأخذك للعلم قل لي متى؟!
التواضع في طلب العلم، والحذر من الكبر والغرور، فإنه لا ينال العلم مستح ولا مستكبر.
ومن لم يذق ذل التعلم ساعة ... تجرع كأس الجهل طول حياته
التفرغ للعلم، والإقبال عليه، والانصراف إلى تحصيله؛ فإن العلم إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه.
توقير العلماء، وحفظ مكانتهم، وعدم تجريحهم، أو انتقاضهم (3).
أن يكون شعار الطالب: "الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها".
التأدب مع مشايخه ومدرسيه، وحسن الإصغاء والتلقي، ولباقة النقاش وإتقانه.
البعد عن الجدال والمراء العقيم، " لا جدال إلا بالحق".
واجبات طالب العلم
1- الورع والتقوى والعمل بالعلم: يجب على طلاب العلم بصفة خاصة أن يكونوا ورعين، تقاة بررة، وأن يعملوا بعلمهم، ويلتزموا بالإسلام عقيدة وسلوكا، قولا وعملا.
وعلى الرغم من وجوب كثير من طلاب العلم الذين يعملون بعلمهم، ويلتزمون الاستقامة في سلوكهم، فإن هناك بعض الطلاب الذين لا يحرصون على الالتزام الصحيح بالدين، فترى المخالفات الشرعية في هديه الظاهر، وفي بيته، وفي كثير من تصرفاته. وهذا الفصام النكد لدى هذا الصنف من الطلاب لن ينتج للأمة علماء عاملين مؤثرين.
2- بذل العلم للناس عامهم وخاصهم، وتوعيتهم بأمور دينهم، ونشر الخير بينهم، فإن كتم العلم وحجبه عن الأمة أمر خطير، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم " من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " (4).
3- الدعوة إلى الله على بصيرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومجالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي يجب على طلاب العلم الدخول فيها مجالات كثيرة، يطول الحديث عنها، فليرجع إليه في مواضعه. (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104).
4- القدوة الصالحة، فإن الناس ينظرون إلى طالب العلم نظرة خاصة، فعليه أن يجعل من نفسه مثالا رائعا، وألا يكون سببا في ضلال الناس، فلئن كانت المعصية في حق غيره واحدة، فهي في حقه عدة معاص، لأن الناس يتأسون به، وكم يسمع الناس من احتجاج العوام لاقتنائهم مثلا أجهزة الفساد كالفيديو وغيره بأن طالب العلم الفلاني يقتني في بيته هذا الجهاز، سواء كان ذلك حقا أو باطلا. فليتفطن طلاب العلم لذلك، فإن كانت زلة العالم مضروبا بها الطبل، فإنهم قريبون من ذلك.
5- الاستمرار في طلب العلم حتى الممات، والحذر من الشعور بالاستغناء والاكتفاء والاستعلاء، ولنا في سلف الأمة خير مثال في هذا الباب، فإن الإمام الطبري - كما مر معنا - لم يتوقف عن طلب العلم حتى قبل موته بلحظات. هذا في حين أن بعض المنسوبين إلى طلب العلم إذا حصل على شهادة عالية توقف هنالك، وانصرف عن الطلب، ومن نماذج ذلك أن أحد طلاب العلم لما أنهى رسالته العلمية باع كتبه، وهذه مأساة ورجوع إلى الوراء، وفهم سقيم لحقيقة العلم.
كما أن بعض طلاب العلم إذا حصل مثلا على شهادة (الدكتوراه) شعر بالاستعلاء على غيره، وهذا شعور مهين، يوحي بمرض القلب، وينم عن شخصية ناقصة، واحتقار للآخرين.
__________
(1) - عرف الجنة: ريحها.
(2) - رواه ابن ماجة، المقدمة 1/252 وأحمد في المسند 2/338.
(3) - وهناك من جعل من انتقاص العلماء وتجريهم ديدنا له، وسلما لشهرته، وهذا ليس له من خلاق، وانظر رسالة المؤلف: لحوم العلماء مسمومة.
(4) - رواه أبو داود في سننه، كتاب العلم 4/9 وابن ماجة، المقدمة 1/264.(/7)
6- الجرأة في الحق: وهذه صفة عزت في الأمة، وندر أهلها، فعظمت الحاجة إلى الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، الذين لا يخافون على أنفسهم، ولا أموالهم، ولا غيرها، في ذات الله - تعالى - أمثال أبي سعيد الخدري، الذي أنكر على مروان بن الحكم - وهو الخليفة - تقديم الخطبة على الصلاة يوم العيد، وذلك أمام الناس.
وأمثال سلطان العلماء العز بن عبد السلام، وما أكثر مواقفه في الصدع بالحق، كموقفه يوم أمسك بلجام فرس السلطان في السوق، ونهره وأنكر عليه وجود الخمر في البلاد، وقال له: أبوك خير منك، فلم نر الخمر في عهده، وشدد عليه النكير أمام الناس، والسلطان لا يزيد على أن يعتذر إليه، ويعده، ويطلب منه أن يفلته، فلم يفلته إلا بعد أن أصدر أمرا بإغلاق جميع الحوانيت.
فلما أطلقه قال له الناس: يا عز هذا ملك جبار ظالم، ألم تخش بطشه؟! فقالها العز مدوية تملأ سمع التاريخ: إنني تصورت عظمة الله - سبحانه وتعالى - فأصبح بين يدي كالقط.
وأمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، صاحب المواقف الكثيرة أيضا، كموقفه مع (قازان) ملك التتار لما قدم لغزو دمشق، حيث خرج إليه شيخ الإسلام، وقال له: إنك تزعم أنك مسلم، ومعك قاض، وإمام ومؤذن، وها أنتذا تغزونا؛ وأبوك وجدك كانا كافرين، وما فعلا فعلك، بل عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت.
فانكسر الملك، وطلب من الشيخ أن يدعو له، وانصرف عن غزو المسلمين.
وكان الناس يتصورون أنه سوف يبطش بالشيخ.
فما أحوج الأمة اليوم إلى هذه الأمثلة الرائعة، ما أحوجها إلى الذين يجهرون بكلمة الحق، ولا يبالون بجور الظالمين، ولا ببطش المستكبرين.
7- الوعي الكامل الشامل بواقع الأمة، والتفاعل مع قضايا المجتمع، وعدم الانعزال عن هموم الناس، وإن مما يبعث على الحزن أن نجد كثيرا من طلاب العلم من أبعد الناس عن واقع أمتهم، وهذا يذكرنا بما كان عليه بعض طلاب العلم عندما دخل الاستعمار سوريا، حيث كانوا يتناقشون ويتجادلون: هل يجوز زواج الحنفية من الشافعي أو لا؟! وهل يجوز زواج الشافعية من الحنفي أو لا؟! فبعضهم منع ذلك، وبعضهم أجاز قياسا على الكتابية. والجيوش المدججة الصليبية تبسط نفوذها على بلاد الشام!!
ويحدثني شخص كان في بلد يعاني فيه المسلمون المآسي، من انتهاك الحرمات، ومطاردة الدعاة.
يقول: فذهبت إلى درس عالم من العلماء في ذلك البلد، فجلست في حلقته، فبدأ الشيخ بحمد الله والثناء عليه، ثم قال: مسألة: إذا نبت للمرأة لحية، فهل يجوز أن تحلقها أو لا؟
يطرح الشيخ هذه المسألة، ويناقش هذا الموضوع، والمسلمون في السجون، والنساء تنتهك أعراضهن، والأيتام يعانون آلام الحرمان والقهر، فيا للعجب!!
وإن مما يدعو للعجب أيضا: أن هناك طلبة علم لا يعرفون عن الجهاد الأفغاني شيئا.. ولا يعلمون عن الجهاد في الفلبين شيئا، بل إن هناك من لا يعلم أن ثمة بلدا اسمه (الفلبين)، فضلا عن أن يعلم ما يدور فيه من مآسي المسلمين.
وربما قال بعضهم: إننا بحاجة إلى من يحفظ كتاب الله، ويحفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويتفقه في علم الشريعة، ولسنا بحاجة إلى تتبع ما يدور في الواقع العالمي أو المحلي، وهذا خطأ وفهم سقيم، يعارض ما يدعو إليه القرآن الكريم من معرفة سبيل المجرمين، وما فيه من حديث واضح عن واقع الأمة.
نماذج مما قاله بعض الشعراء في
طلب العلم وفضله
يقول الشاعر:
من قاس بالعلم الثراء فإنه ... في حكمه أعمى البصيرة كاذب
ويقول آخر:
العلم مبلغ قوم ذروة الشرف
يا صاحب العلم مهلا لا تدنسه
العلم يرفع بيتا لا عماد له ... وصاحب العلم محفوظ من التلف
بالموبقات فما للعلم من خلف
والجهل يهدم بيت العز والشرف
ويقول آخر:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... وأجسادهم دون القبور قبور
ويقول آخر:
بالعلم والعقل لا بالمال والذهب
العلم كنز فلا تفنى ذخائره ... يزداد رفع الفتى قدرا بلا طلب
والمرء ما زاد علما زاد بالرتب
وقال غيره:
الناس من جهة التمثال أكفاء
فإن يكن لهم في أصلهم شرف
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه
ففز بعلم تعش حيا به أبدا ... أبوهم آدم والأم حواء
يفاخرون به فالطين والماء
على الهدى لمن استهدى أدلاء
والجاهلون لأهل العلم أعداء
الناس موتى وأهل العلم أحياء
ويقول أحد العلماء لصاحبه:
أأبيت سهران الدجى وتبيته ... نوما وتبغي بعد ذاك لحاقي!
ويقول أحد الشعراء:
اصبر على مر الجفا من معلم
ومن لم يذق مر التعلم ساعة
ومن فاته التعليم وقت شبابه ... فإن رسوخ العلم في نفراته
تجرع ذل الجهل طول حياته
فكبر عليه أربعا لوفاته
ولا يعني هذا أن ييأس من فاته التعلم في مقتبل عمره، ولكن الموقف الصحيح أن يحاول أن يستدرك ويقارب.
ويقول الشاعر:
أخي لن تنال العلم إلا بستة
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ... سأنبيك عن تفصيلها ببيان
وصحبة أستاذ وطول زمان
ويقول الآخر محذرا:
لا تصحب الكسلان في حالاته
عدوى البليد إلى الجليد سريعة ... كم صالح لفساد آخر يفسد(/8)
كالجمر يوضع في الرماد فيخمد
ويقول الآخر:
بقدر الكد تكتسب المعالي
تروم العز ثم تنام ليلا ... ومن طلب العلا سهر الليالي
يغوص البحر من طلب اللآلي
ويقول الآخر مبينا انتفاعه بعلمه:
علمي معي حيثما يممت ينفعني
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي ... قلبي وعاء له لا بطن صندوق
أو كنت في السوق كان العلم في السوق
ملحوظات وتنبيهات حول طلب العلم
أولا: لا بد من الشمول والتوازن في طلب العلم، وعدم الانشغال بالفروع عن الأصول، فيأخذ طالب العلم من التفسير، والحديث، والعقيدة، والفقه، والأصول، والسياسة، والاقتصاد، والإعلام، والوعي بواقع الأمة، ويوازن بين استمداده من هذه الفنون، ولا ريب أن المرء لا يستطيع أن يكون متخصصا في كل هذه العلوم، ولكن له أن يتخصص في واحد منها، ثم يكون في الوقت نفسه على صلة وثيقة بالعلوم الأخرى، أما أن يكون متخصصا في علم وجاهلا في العلوم الأخرى، فلسنا إلى هذا الطالب بحاجة (1).
ثانيا: التورع في الفتوى، والتأني في إطلاقها، فإني أرى طلاب علم يستعجلون في الفتوى، في زماننا هذا، مع أن الأسلاف - رضي الله عنهم - كانوا يتدافعون الفتوى، ويشفقون من الإقدام عليها، فما بال طلاب العلم اليوم يتناهبونها، ولا يأبهون بخطورتها؟!
جاء رجل من العراق إلى مالك بن أنس - رحمه الله - فسأله عن أربعين مسألة، فأفتاه في ثلاث مسائل فقط - في إحدى الروايات - واعتذر عن سبع وثلاثين مسألة، فقال له السائل: نضرب إليك أكباد الإبل، ولا تعرف إلا ثلاث مسائل!! فقال له الإمام: اركب راحلتك، وقل لمن أرسلك: إنني وجدت مالك بن أنس لا يعلم في العلم شيئاً.
وبهذا التواضع والتورع في الفتوى نال الإمام مالك المنزلة الرفيعة، والمكان المرموق بين العلماء.
ثالثا: أُحذر من أنصاف المتعلمين الذين يحسبون أنهم يعلمون، وهم لا يعلمون، بل هم خراب البلاد والعباد.
وأدعو طلاب العلم دعوة صادقة إلى التفقه في الدين، من منابعه الأصيلة الصافية؛ ليكونوا - بإذن الله - علماء عاملين مخلصين، وليكونوا على الثغور، فيحموا الأمة من الضياع، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسألوهم، فأفتوهم بغير علم، فضلوا وأضلوا " (2).
فليستثمر الشباب وجود العلماء بينهم، وليطلبوا العلم على أيديهم؛ ليسدوا مسدهم عند رحيلهم، فتلك سنة الله التي لا تتخلف.
اقتضاء العلم العمل
تبرز الحاجة إلى التفقه في هذا الموضوع من خلال ما يلي:
أولاً: حاجة الأمة إلى العلماء المؤثرين العاملين، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
ثانياً: كثرة المتعلمين وقلة العاملين: إن المتعلمين في هذه البلاد وفي غيرها كثيرون- كما تدل على ذلك الإحصائيات- ما بين متخصصين في العلم الشرعي، ومشتغلين بعلوم أخرى، لكن أكثر هؤلاء المتعلمين يعيشون أمية في العمل، كما قال أبو شقرة: "أمية الحرف وأمية الولاء" (3).
إن هؤلاء المتعلمين جميعاً - على اختلاف تخصصاتهم - يدركون وجوب الالتزام بأمر الله ، ومع ذلك نجد البون شاسعاً بين الإحصائيات الرسمية لأعداد المتعلمين، وما يوحي لنا به الواقع من أمية في الولاء والالتزام والعمل.
ثالثاً: عدم إدراك كثير من المتعلمين لخطورة إهمالهم لأمر الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم وتقصيرهم في الالتزام به، وهانحن أولاء اليوم نتجرع غصص هذا التقصير على مستوى الأفراد والمجتمعات.
رابعاً: القصور الواضح في مناهج التعليم، فإن مناهج التعليم في العالم الإسلامي تتحمل مسؤولية عظمى في الفصل بين العلم والعمل، فإنها تخرج لنا قراء مقصرين، ولم تنتج لنا علماء عاملين.
إن مفردات المناهج في جانبها النظري قد تكون جيدة عموماً، وبخاصة في هذه البلاد، ولكن المأساة تأتي من الجانب التطبيقي العملي فيها، فإنك مثلاً تجد تلك المناهج تعلم الطالب كثيراً من الأحكام من الواجب، والحلال والحرام، فهو يتعلم أن صلاة الجماعة واجبة، وأن التدخين حرام، وأن الربا حرام، وأن الإسبال وحلق اللحية حرام، ولو أجاب في الامتحان بخلاف هذه الأحكام لكان مخطئاً.
فإذا جاء التطبيق وجدنا كثيراً من الطلاب لا يصلون مع الجماعة، ويتعاطون التدخين، ويتعاملون مع البنوك الربوية، ويسبلون ثيابهم، ويحلقون لحاهم، ومع ذلك لا يخطئون، ولا يرسبون، وبذلك صارت المؤسسات التعليمية في العالم الإسلامي تخرج حفظة للنصوص فحسب.
__________
(1) - وبخاصة إذا تخصص في علم من علوم الدنيا، أما المتخصص في العلوم الشرعية فلا يلزم أن يتعلم العلوم المادية.
(2) - رواه البخاري في كتاب العلم: 34، ومسلم في كتاب العلم جـ4 برقم 13.
(3) - أي أن الأميين على قسمين: أميون لا يقرءون ولا يكتبون، وأميون لا يطبقون ما تعلموا. انظر مجلة كلية أصول الدين العدد الثالث.(/9)
دخلت جامعة إسلامية في إحدى بلدان المسلمين فهالني ما رأيت؛ رأيت الطلاب يختلطون مع الطالبات، ورأيت طالبات قد بدت عوراتهن، وتخلين عن حيائهن، في تلك الجامعة الإسلامية، التي تحتوي على كليات شرعية، فأي جيل سوف تخرجه للأمة مثل هذه الجامعة؟!
هذا في حين نرى الكليات التجريبية تعتني بالمزج بين النظرية والتطبيق في مناهجها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
خامساً: إعجاب كثير من طلاب العلم بألقابهم، ونسيانهم لرسالتهم في أمتهم ومجتمعاتهم: فإن كثيراً من الطلاب انشغلوا بالبحث عن الألقاب العلمية، مثل: لقب (دكتور)، ثم لما حصلوا على الألقاب دخلهم الغرور والعجب، فقصروا في تبليغ علمهم بلاغاً مبيناً، فلو أتيت إلى بعضهم، وقلت له: ألا تلقي كلمة في الناس بعد الصلاة في المسجد؟ لقال لك: أنا ألقي كلمة في مسجد!! أنا أكون واعظاً!! أنا الدكتور فلان أنزل إلى هذا المستوى!! وإن لم يبدها لك فقد أسرها في نفسه.
نعم.. هكذا يقول بلسان مقاله، أو بلسان حاله.
ولو دعي لإلقاء محاضرة رسمية، فيها الأبهة والسمعة لاستجاب سريعاً.
أين هؤلاء من حال الصحابة - رضوان الله عليهم - الذين كان الرجل منهم يحفظ بضع آيات، فيرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى البوادي ليعلم الناس؟! ولقد كان معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ليعلمهم؛ كان يحفظ أربعين أو خمسين حديثاً فقط.
وجوب اقتران العلم بالعمل
إن ارتباط العلم بالعمل قضية كبرى، ومسألة جوهرية في حياة العلماء وطلاب العلم، فإن العمل هو المقصود الأعظم من العلم، وبدونه لا قيمة للعلم، ولا فائدة من ورائه.
ومن هنا جاءت نصوص الكتاب والسنة الكثيرة تؤكد وجوب ربط العلم بالعمل، وتحذر من الفصل بينهما، وجاءت الأقوال الكثيرة عن السلف، وأنشد الشعراء ما جادت به قرائحهم حول هذه القضية.
أما الآيات:
فقال الله - تعالى -: "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ" (الفاتحة: من الآية7) قال العلماء: المغضوب عليهم: هم الذين لم يعملوا بعلمهم، والضالون: هم الذين يعملون على جهل وضلال، هذه آية نرددها في كل يوم عدة مرات، فهل فقهناها وأدركنا المقصود منها؟!
وقال - سبحانه - منكراً على بني إسرائيل: "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ" (البقرة:44).
وقال عز وجل : "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ" (آل عمران:187).
وقال - جل وعلا -: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ" (الصف:2، 3).
وقال - تعالى -: "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ" (صّ: من الآية29). قال الحسن: تدبر آياته: اتباعه بعمله.
وقال ابن عباس في قوله - تعالى -: "يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ" (البقرة: من الآية121) يتبعونه حق اتباعه.
وقال - عز اسمه - مشنعاً على اليهود: "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ" (الجمعة: من الآية5).
هذه بعض الآيات حول الموضوع.
وأما الأحاديث فكثيرة جدا، ومنها: قول الرسول صلى الله عليه وسلم :" لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟ " حديث صحيح الإسناد (1).
وقال - عليه الصلاة والسلام -: " يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه، فيقال: أليس كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فقال: كنت آمركم بالمعروف ولا أفعله، وأنهاكم عن المنكر وآتيه " رواه الشيخان (2).
وعن زيد ابن أرقم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها " رواه مسلم (3).
وقال صلى الله عليه وسلم : " مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة التي تضيء للناس وتحرق نفسها " رواه البزار وصححه الألباني (4).
__________
(1) - الترمذي 2417 وانظر صحيح الترغيب والترهيب 1/126.
(2) - البخاري 3094 ومسلم 2989.
(3) - مسلم 2722.
(4) - انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/128.(/10)
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون"، وفي رواية: " ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به" رواه ابن أبي الدنيا، وابن حبان، والبيهقي، وصححه الألباني في: (صحيح الترغيب والترهيب) (1).
هذه طائفة من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم حول موضوعنا، تبين اقتضاء العلم العمل، وتوضح خطورة الفصل بينهما، سواء على مستوى العلماء، أو طلبة العلم، أو كل من تعلم أدنى شيء من العلم.
وأما أقوال السلف فكثيرة جداً أيضاً في هذا المعنى، فلنقف على قليل منها:
قال أبو هريرة: "مثل علم لا يعمل به كمثل كنز لا ينفق منه في سبيل الله - عز وجل -".
وقال سهل بن عبد الله: "الدنيا جهل وموات إلا العلم، والعلم كله حجة إلا العمل به، والعمل كله هباء إلا الإخلاص، والإخلاص على خطر عظيم حتى تختم به".
وقال عمر بن الخطاب: "لا يغرركم من قرأ القرآن، ولكن انظروا من يعمل به".
وقال حبيب بن عبيد الرحبي: "تعلموا العلم، واعقلوه، وانتفعوا به، ولا تتعلموا لتتجملوا به، فإنه يوشك إن طال بكم العمر أن يتجمل بالعلم كما يتجمل الرجل بثوبه".
وقال أبو قلابة: "إن أحدث الله لك علماً فأحدث له عبادة، ولا يكن إنما همك أن تحدث به الناس".
وقال الحسن: "همة العلماء الرعاية، وهمة السفهاء الرواية".
وقال الفضل بن عياض: "لا يزال العالم جاهلاً بما علم حتى يعمل به، فإذا عمل به كان عالماً".
وقال مالك بن دينار: "العالم الذي لا يعمل بعلمه بمنزلة الصفا إذا وقع عليه القطر انزلق عنه"، وقال: "تلقى الرجل ما يلحن حرفاً، وعمله لحن كله".
وقال أيوب: "لا خبيث أخبث من قارئ فاجر"، أي: من متعلم فاجر.
وقال الأوزاعي: "أنبئت أنه كان يقال: ويل للمتفقهين لغير العبادة".
ومن أقوال الشعراء في هذا المعنى:
اعمل بعلمك تغنم أيها الرجل
والعلم زين وتقوى الله زينته ... لا ينفع العلم إن لم يحسن العمل
والمتقون لهم في علمهم شغل
وقال أبو الأسود:
يا أيها الرجل المعلم غيره
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... هلا لنفسك كان ذا التعليم
كيما يصح به وأنت سقيم
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
عار عليك إذا فعلت عظيم
وكتب عبد الله بن المبارك إلى إسماعيل بن علية لما ولي الصدقات:
يا جاعل العلم له بازيا
احتلت للدنيا ولذاتها
فصرت مجنونا بها بعدما
أين رواياتك فيما مضى
ودرسك العلم بآثاره
تقول: أكرهت فماذا؟ كذا
لا تبتغ الدنيا بدين كما ... يصطاد أموال المساكين
بحيلة تذهب بالدين
كنت دواء للمجانين
عن ابن عون وابن سيرين؟
وتركك أبواب السلاطين
زل حمار العلم في الطين
يفعل ضلال الرهابين
وقال أبو إسماعيل الإلبيري يحث ابنه على العلم والعمل:
وإن أعطيت فيه طول باع
فلا تأمن سؤال الله عنه
وإن ألقاك فهمك في مهاو
لقد صاحبت أعلاما كبارا
ويقبح بالفتى فعل التصابي
ولو وافيت ربك دون ذنب
ولم يظلمك في عمل ولكن ... وقال الناس إنك قد علمتا
بتوبيخ: علمت فهل عملتا؟
فليتك ثم ليتك ما فهمتا
ولم أرك اقتديت بمن صحبتا
وأقبح منه شيخ قد تفتى
ونوقشت الحساب إذن هلكتا
عسير أن تقوم بما حملتا
آفات العلم
ونختم هذه الرسالة ببيان أهم آفات العلم ليكون طالب العلم على حذر منها:
1- المعاصي:
فهي آفة الآفات، وتقضي على العلم كما تأكل النار الحطب، وكم من نظرة محرمة أدت إلى فقد كثير من العلم، أو لقمة من مال مشتبه أو محرم حولت العلم إلى سراب.
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
وأخبرني بأن العلم نور ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
ونور الله لا يعطى لعاص
وصدق الله العظيم: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" (فاطر: من الآية28).
2- الكبر والغرور:
من تواضع لله رفعه، وما زاد عبد لله ذلاً إلا زاده الله رفعة، والكبر مهلك لصاحبه، مفن لعلمه، ولا يجتمع الكبر والعلم في قلب رجل، وإن حمل أعلى الشهادات وحفظ من الكتب أثقالاً، وروى البخاري في الأدب، وأحمد في المسند؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تعلموا العلم، وتعلموا له السكينة والوقار، وتواضعوا لمن تتعلمون منه، ولا تكونوا جبابرة العلماء ".
3- المراء والمخاصمة والجدل:
روى الإمام أحمد، وأبو داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المراء في القرآن كفر " (2).
وقال بعض السلف: إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له باب العمل وأغلق عليه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شراً أغلق عليه باب العمل، وفتح له باب الجدل، وقال إبراهيم النخعي: "ما خاصمت قط"، وقال الجزري: "ما خاصم ورع قط".
__________
(1) - صحيح الترغيب والترهيب 1/125،126.
(2) - انظر صحيح الجامع 6563.(/11)
فالحذر الحذر من الجهل بعد العلم، والضلالة بعد الهدى، والمجادلة الشرعية هي ما عناها الله بقوله: "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (العنكبوت: من الآية46).
4- كتم العلم:
لا شيء يزيد بالإنفاق كما يزيد العلم، و"من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" رواه الترمذي، وقال: حديث حسن (1).
وكتم العلم يؤدي إلى نسيانه وذهابه، والماء إذا لم يجر أسن، وكذا العلم إذا كتم ذهب، وهذا أمر مشاهد محسوس.
5- الانشغال بالدنيا:
من آفات العلم التهافت على الدنيا والانشغال بها عن الآخرة، يقول أحد السلف: "لو كلفني أهلي شراء بصلة ما عرفت مسألة من العلم".
فكيف بمن همه الدنيا، بها يصبح وعليها يمسي، ورحم الله الألبيري حيث يقول:
وما يغنيك تشييد المباني
جعلت المال فوق العلم جهلا
وبينهما بنص الوحي بون ... إذا بالجهل نفسك قد هدمتا
لعمرك في القضية ما عدلتا
ستعلمه إذا طه قرأتا
6- المداهنة في دين الله والسكوت عن الحق وعلى الباطل:
وارتكاب ما يسقط الهيبة ويخرم المروءة لدى العامة، وهذا مما يضر بالعالم ويسيء إليه وإلى علمه، ويعد من آفات العلم المعنوية.
كذلك فإن التعجل بالفتوى يؤثر على سمعة العالم وفتاويه، حتى إنه ولو حسنت حاله بعد ذلك يبقى أثره في أذهان الناس وتصعب إزالته.
7- النسيان:
أعظم آفات العلم، ولذلك امتن الله على رسوله، صلى الله عليه وسلم فقال: " سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى" (الأعلى:6)، وعلاج النسيان بالمذاكرة وبذل العلم، وترك أسباب ذهابه، كالمعاصي وغيرها.
هذه بعض آفات العلم، فعلى طالب العلم أن يكون على بينة منها حتى لا يجهل بعد الهدى، ويعمى بعد النور.
هذا وأسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يتقبله مني، وأن ينفع به المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
بعض الأسئلة الواردة في المحاضرة
س1: هل يعني كلامك يا فضيلة الشيخ أن نغفل التخصصات التجريبية، ونتجه إلى التخصصات الشرعية؟
جـ1: أنا لا أدعو إلى ترك التخصصات التجريبية، بل هي من فرض الكفاية الذي تأثم الأمة بتركه، ولكم عانينا المآسي من فقد الأطباء المسلمين الصالحين، وفقد المهندسين وغيرهم، حيث جاءنا أعداؤنا باسم الطب، وباسم الهندسة، وباسم الفيزياء ونحوها، فدخلوا بلاد المسلمين، فأدخلوا تلك العلوم، وأدخلوا معها ضلالهم وفسادهم.
ولكن المطلوب من طالب العلم أن يحيط من العلم الشرعي بفرض العين الذي لا يعذر مسلم بجهله، فإذا تحقق ذلك وجب علينا تحقيق التوازن بين التخصصات، فيكون هناك متخصصون في الشريعة، ومتخصصون في الطب، ومتخصصون في الهندسة، ومتخصصون في الاقتصاد، وفي غير ذلك من العلوم، مع أن على المتخصصين في العلوم التجريبية أن يستثمروا ما يستطيعون من الوقت في الاستزادة من علوم الشريعة.
س2: هل من المعقول أن تكون الصحوة الإسلامية كلها علماء؟
جـ2: وهل من المعقول أن تكون الصحوة كلها ليس فيها علماء! إن المؤكد أنه لا يمكن أصلاً أن تكون الصحوة كلها من العلماء، ولكن المراد أن يحصل الجميع الحد الأدنى من العلم، ثم لا بد بعد ذلك من أن يكون في كل بلد عدد من العلماء يقودون الصحوة ويرشدونها، إذ لا يصح - كما أشرت في أثناء كلامي - أن تكون قيادة الصحوة في أيدي أناس غير متمكنين من العلم الشرعي، فهذا أمر خطير وعواقبه وخيمة.
وإن من العجيب أن تجد الناس يستنكرون أن يعمل أحد في الطب أو يتحدث فيه، وهو لا يحمل مؤهلاً طبياً، في حين لا يرون بأساً أن يأخذوا دينهم عن أنصاف المتعلمين أو الجهال.
كما أن من العجيب أن تجد من يتكلم في شؤون الدعوة بكل جرأة وطلاقة، ثم إذا سئل عن أيسر القضايا الفقهية لم يحر جواباً.
س3: أنا طالب في كلية الشريعة، وأريد أن أكون طالباً للعلم الشرعي، ولكن لا أجد أنني حريص على العلم، حيث إننا نطلب من الشيخ أن يحذف عنا أغلب المنهج، فما تعليقكم على ذلك؟
جـ3: هذا يرجع إلى قلة الإخلاص، وعدم الإحساس بحاجة الأمة إلى هذا العلم، فالطالب يشعر فقط أنه بحاجة إلى شهادة، فيسعى لنيلها بأي وسيلة، ولو استشعر أن الله سيحاسبه عن ذلك؛ لما طلب من الأستاذ أن يحذف من المنهج شيئاً، بل لقال للأستاذ عندما يحذف جزءاً من المنهج: يا أستاذ هذه خيانة للأمة، ولقال للأستاذ الذي يشرح بدون إعداد ولا تحضير: لماذا لم تحضر يا أستاذ؟!
ولكن الأساتذة وجدوا طلاباً كسالى، فضعفت هممهم و"كما تكونون يول عليكم".
س4: ما جواب الشيخ عمن يقول: إن طلب العلم يعوق عن الدعوة؟
جـ4: لا خير في دعوة بدون علم، وقد قال الإمام البخاري: (باب العلم قبل القول والعمل)، قال الله - تعالى -: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ" (محمد: من الآية19) فجاء العلم قبل العمل في هذه الآية.
__________
(1) - سنن الترمذي 2649.(/12)
ولا يعني هذا أن يتخلى طالب العلم عن الدعوة، ويقول: لن أدعو حتى أستكمل العلم، فهذا أيضا خطأ وانحراف، وإنما الواجب أن تتزامن الدعوة مع العلم، فإن الفصل بين العلم والعمل تفريط وشطط، ولقد كان الصحابة يقولون: كنا لا نتجاوز العشر آيات حتى نعلم ما فيها من العلم والعمل.
فعلى طالب العلم أن يجمع بين الأمرين، في توازن وتكامل، فإن ذلك هو الفقه عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم .(/13)
العلماء بين الدور المنشود والدور المفقود ...
غير خاف على من له علم ومعرفة بدين الإسلام؛ أن للعلماء من رفيع المنزلة وعلو المكانة وسبق الفضل ما لا يزاحمهم فيه غيرهم من أصناف الناس، ففضائلهم في الكتاب والسنة مشهورة، ومناقبهم فيهما منشورة، فهم الواسطة بين الله وبين عباده في تبليغ الشريعة والدلالة عليه جل وعلا، قال سفيان بن عيينة: «أرفع الناس منزلة مَنْ كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء»، فالعلماء خلفاء الرسل في أممهم ووارثوهم في علمهم، يحتاج إليهم الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحاكم والمحكوم. فالواجب عليهم عظيم بقدر ما تبوؤوه في الأمة من المكانة والمنزلة، فبصلاحهم وقيامهم بما فرض الله عليهم من النصح والبيان يصلح معاش الناس ومعادهم، ولهذا قيل: إن زلة العالم كالسفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير.
ولقد أخذ الله على أهل العلم ميثاق البيان وعدم الكتمان، كما قال ـ تعالى ـ: {وَإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]، وذم الكاتمين للحق المعرضين عن القيام به، فقال ـ تعالى ـ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 140]، وقال ـ تعالى ـ: {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} [البقرة: 159].
وإن وجوب البيان والنصح للأمة على أهل العلم ليتأكد في أزمنة الفتن وأيام المحن التي تنطمس فيها سبل الهدى، ويلتبس فيه الحق بالباطل، وتستحكم فيها الأهواء، ويتبع الناس فيها كل ناعق، ويخفى فيها الحق على طالبه، ولذلك شبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفتن بقطع الليل المظلم؛ أي: الأسود الذي لا نور فيه، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا»(1).
ولقد مرت أمة الإسلام عبر تاريخها بأزمات كثيرة وفتن متلاحقة، قيَّض الله فيها للأمة من أهل العلم والفضل وأهل النصح والعدل من أنقذ بهم الأمة وحفظ بهم الملة، فأثر العلماء ودورهم في إخراج الأمة من الفتن والنجاة بها من متلاطم المحن مشهور مذكور، فمعهم مصابيح الدجى ومشاعل الهداية التي يُخرج الله بها الناس من الظلمات إلى النور. وقد بشر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الأمة بالعز والسناء والرفعة، وأنه لن يزال فيها قائم بأمر الله حتى تقوم الساعة، ففي حديث المغيرة وغيره قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون»(2)، وأهل العلم هم أئمة هذه الطائفة الظاهرة المنصورة.(/1)
ولا ريب أن أمة الإسلام اليوم في شرق الأرض وغربها؛ تمر بمرحلة بالغة الحساسية والخطورة، هي أحوج ما تكون فيها إلى أهل العلم الراسخين في علومهم، العاملين لدينهم، الناصحين لأمتهم، العالمين بواقع الأمة وما يحيط بها من أخطار. فهؤلاء بهم تسير السفينة ويبلغ المقصود، بل الأمة اليوم بحاجة إلى كل جهد من أبنائها المشفقين البررة، فكيف يسوغ في مثل هذه الظروف الحرجة من تاريخ أمتنا أن يترجل الفارس، وأن ينزوي أهل العلم والخير عن ساحات البيان والنصح ومواقع التأثير والإصلاح! بل الواجب على كل صاحب علم وخير أن يساهم في نصح الأمة بما يستطيع من قول أو رأي أو عمل، وأن يتقدم كل ناصح إلى ميادين الدعوة والبناء بإخلاص وجدٍّ وعلم وبصيرة، فإن نصر الله ـ عز وجل ـ ونصر دينه واجب على أهل الإيمان، قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]. ومن رحمة الله وسعة فضله أن نصر المؤمنين لله ولدينه لا يحده حد ولا يقف عند رسم، بل إن استقامة الواحد منا في نفسه من نصرنا لله تعالى، فينبغي أن لا يحقر أحدنا في هذا السبيل شيئاً، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات»(3)، فكل جهد في نصر دين الله والذب عن أمة الإسلام نافع مبرور مهما قل في أعين الناس وصغر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ لما رأى لنفسه على من دونه فضلاً: «هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم»(4)، ورواه النسائي بلفظ: «إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها؛ بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم»(5). وفي لفظ آخر: «ابغوني الضعيف؛ فإنكم إنما تُرزقون وتُنصرون بضعفائكم»(6).
إن نجاح أهل العلم في الاضطلاع بدورهم وفي إنقاذ الأمة، والخروج بها من حلقات الفتن وسلاسل المحن، والإبحار بها نحو الغايات العظام؛ لا يمكن بلوغه ولا سبيل إلى دركه إلا بأسباب تمخر بها سفينة الأمة عباب هذه الأمواج المتلاطمة، فإن السفينة لا تجري على اليبس. وهذه الأسباب سلسلة من خصال البر؛ من إخلاص العمل لله تعالى، وإصلاحه بمتابعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتقوى الله ـ تعالى ـ في السر والعلن، والنصح للأمة، والتحلي بأحسن الأخلاق من العلم والحلم واللين والرفق والصبر، وغير ذلك من صفات الخير التي تتحقق بها صفات أئمة المتقين التي ينتظمها قول الله ـ تعالى ـ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وقوله ـ تعالى ـ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
إن كثيراً من أهل العلم الذين يحملون همَّ هداية الأمة وإصلاح أوضاعها لا يخفى عليهم ما لهذه الأسباب من الأهمية والأثر؛ إلا أن هناك سبباً رئيساً غائباً غفل عنه كثيرون، وهو لا يقل أهمية عن الأسباب المتقدمة لإنجاح دور العلماء المنشود في إنقاذ الأمة من الفتن والمحن، ألا وهو تواصل أهل العلم فيما بينهم وتواصيهم بالبر والتقوى والصبر والمرحمة وتعاونهم في ذلك. إن أهل العلم بحاجة ماسة إلى أن يمدوا بينهم جسور المحبة والألفة والاجتماع والأخوة والمشورة، فإن كثيراً من الخير وحظاً وافراً من الإصلاح يتحقق بذلك.
ويتأكد هذا التواصل والتواصي في النوازل الكبار والأزمات الجسام لأمور عديدة؛ أبرزها ما حوته النقاط التالية:
أولاً: أن معالجة ما تمر به الأمة من أخطار، ومواجهة ما يعصف بها من أحداث؛ أمر يفوق جهود الأشخاص ويتجاوز طاقات الأفراد مهما كانت ألمعية عقولهم ورسوخ علومهم، وقد كان سلفنا يقولون في بعض ما يرد عليهم من مسائل العلم: هذه مسألة لو وردت على عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لجمع لها أهل بدر! فإذا كان هذا هديهم في المسائل الشخصية الفردية، فكيف بالنوازل المصيرية التي يتأثر بها واقع الأمة ويرتسم بها مستقبلها؛ أيسوغ أن يبت فيها فرد أو يستقل بها رأي؟! فليت شعري؛ من الذي تقوى درعه على تلك السهام؟! فلا بد من تضافر الجهود، وتراص الصفوف، ونبذ الاعتداد بالنفس، والاستبداد بالرأي، وتضخيم الذات، اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا.
ثانياً: أن جزءاً كبيراً مما أصاب الأمة ويصيبها من الفتن والنكبات؛ إنما هو بسبب ما جرى في الأمة من التنازع والفرقة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها، وأمرائها وكبرائها؛ هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها».(/2)
ثالثاً: أن مما يؤكد ضرورة أهل العلم إلى وصل ما بينهم في أيام الفتن وتواصيهم بالحق والصبر؛ أن الفتن أعاذنا الله منها تُغيّر القلوب، وتشوش عليها بما تبعثه من الشبهات المانعة من معرفة الحق والحائلة دون قصده، ولهذا وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفتن بأنها كقطع الليل المظلم، كما جاء في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم»(7)، ووصفها أيضاً بأنها عمياء صماء، كما في سنن أبي داود (3706) من حديث حذيفة. وإنما وصفت الفتنة بذلك؛ لأن الإنسان يعمى فيها عن أن يرى الحق، وأن يسمع فيها كلمة الحق.
رابعاً: أن واجب النصيحة للأمة يتطلب من أهل العلم ورثة الأنبياء أن يبذلوا وسعهم في دلالة الأمة على خير ما يعلمونه لهم، وأن يحذروهم شر ما يعلمونه لهم، وإنما يبلغ الناصح ذلك بالاجتهاد في تبين الصواب ومشاورة أولي الألباب من إخوانه، فقد أثنى الله على أهل الإيمان بهذا، فقال في سياق الثناء عليهم: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الشورى: 38]. وما كان أغنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أن يشاور أحداً وقد تكفل الله له بالهداية والنصر، ومع ذلك فقد أمره الله ـ تعالى ـ بمشاورة أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ فقال ـ تعالى ـ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، ولقد بادر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الأخذ بذلك حتى قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ كما في الترمذي: «ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-»، فواجب على ورثته أن يتأسوا به. قال بعض البلغاء: من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العقلاء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذ ربما زل، والعقل الفرد ربما ضل.
وقال بشار بن برد:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن *** برأي نصيح أو نصيحة حازمِ
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة *** فإن الخوافي قوة للقوادمِ
ولا طريق إلى تحصيل ذلك مع هذا التقاطع الذي يخيم على علاقة كثير من أهل العلم والفضل، ويعد من أكبر العوائق دونه.
خامساً: أن كثيراً من الشر وفساد ذات البين الواقع بين أهل العلم؛ منشؤه ما يكون بينهم من تباعد وتقاطع يورثهم بذور الجفوة التي يسقيها سعاة الباطل ونزغات الشيطان، فالتواصل والتواصي ضمان لتضييق الدائرة على أسباب الفرقة، وهو كفيل بمحو بذور الجفوة، وإشاعة الألفة والمحبة، ومما قيل: المحبة شجرة أصلها الزيارة.
----------------------
(1) رواه مسلم، رقم (169) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري، رقم (6767)، ومسلم، رقم (3545).
(3) رواه البخاري، رقم (5997).
(4) رواه البخاري، رقم (2681).
(5) رواه النسائي، رقم (3127).
(6) رواه النسائي، رقم (3128).
(7) رواه مسلم، رقم (169).
خالد بن عبد الله المصلح(/3)
العلماء مالهم وما عليهم
عائض القرني
العلماء مالهم وما عليهم، وما أتيت هذه الليلة لأسرد عليكم النصوص في فضل العلم والعلماء، فهي معروفة لديكم، لكني أتيتكم في هذه الساعة، وفي هذه الأيام، وفي هذا الوقت الحرج بالذات؛ لكي نقف جميعاً، يقف العلماء في صف، ونقف نحن شباب الصحوة في صف، ونرى ما هي الحقوق التي تلزمنا للعلماء فنؤديها.
دينٌ لعينك عندي ما وفيت به
يا طالما كذبت عيني عيناكِ
ونقف أمام العلماء لنسألهم حقوقنا، نحن لنا حقوق وديون على العلماء، لكن بعد أن نسلمهم حقوقهم؛ نأخذ حقوقنا، ثم ننفصل في مجلس المصالحة، و{البيعان بالخيار ما لم يتفرقا } فإذا تفرقا فقد وجب البيع.
عناصر هذه المحاضرة ثلاثة:
أولها: فضل العلم والعلماء.
الثاني: ما هو حق العلماء على الأمة.
الثالث: ما هو حق الأمة على العلماء.
أما فضل العلم: فيكفي من ذلك قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: [[كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله، وكفى بالجهل مذلةً أن يتبرأ منه من هو فيه ]].
العلم يدعيه كل إنسان، جهلة يدعون أنهم علماء، لشرف العلم، وقال ابن عبد البر : ومن أحسن الكلام ما قال علي بن أبي طالب : [[قيمة كل امرئٍ ما يحسنه ]]؛ فقيمتك المعلومات التي في ذهنك إذا اتقيت الله وعملت بها، وقيمة المرء ليست بجسمه ولا بوزنه ولا بلحمه ولا بشحمه إنما هي بالفضل الذي يحمله، وبالمواثيق التي لله عليه إذا عمل بها.
يقول سبحانه وهو يستشهد على ألوهيته: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] والشاهد هنا َأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران:18] قال ابن كثير في تفسيره : وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام، وأيُّ خصوصية أن يجعلهم الله معه ومع ملائكته يشهدون بألوهيته، فلقد ميزهم عن الناس لفضلهم ولمكانتهم. قال سبحانه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] بعدما ذكر الله الآيات الكونية، والشرعية، وذكر ما للعلماء من منزلة، قال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] ومفهوم المخالفة في الآية: أن غير العلماء لا يخشون الله.
ووجد في العلم التجريبي التكنولوجي، والعلم الطبيعي المادي، أن أكثر الناس عودة إلى الإسلام من نبغ في هذا العلم، الذين ألفوا كتاب: الله يتجلى في عصر العلم ؛ من العلماء البارزين أسلموا وأعلنوا إسلامهم، وهم جماعة من الأمريكان، وكثير منهم أعلن إسلامه مثل: كريسي موريسون ، وأظن أن أليكسيس كارل صاحب كتاب: الإنسان لا يقوم وحده أعلن إسلامه؛ لأنه تعمق في حياة الإنسان.
العالم المثالي
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].
والجواب مسكوت عنه، وتقديره: أنهم لايستوون، وأن العلماء أفضل، والله يقول: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43] لا يفهم الآيات البينات، ولا يعقل مقاصد الأمور ولا تأويل الحوادث إلا أهل العلم.
ويقول سبحانه: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] ثم يقول سبحانه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
ولسنا بحاجة يا شباب الصحوة! ويا أبطال التوحيد! ويا حملة الرسالة! لسنا بحاجة إلى أناس يحفظون النصوص، ثم لا يكون لها أثر في واقعهم، وحياتهم، وسلوكهم، وأمتهم، كما سيأتي في العناصر المقبلة إن شاء الله.
حاجتنا إلى عالم يمشي قرآناً على الأرض، يقول سبحانه للرسول عليه الصلاة والسلام، وهو في أول الطريق: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] قال البخاري في صحيحه : فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، أمة متعلمة.
هل العلم في الإسلام إلا فريضة
وهل أمة سادت بغير التعلم
من الذي فتح منائر العقل؟!
من الذي خاطب الضمير بالعلم إلا محمد عليه الصلاة والسلام؟!
لما ثار الفرنسيون على الكنيسة عام (1887م)؛ كان سبب ذلك: أن الكنيسة كانت تحارب العلم، كانوا إذا اكتشف مكتشف علماً ذبحوه، أو اخترع مخترع جهازاً؛ قتلوه وشنقوه، وظنوا أن كل دين سوف يحارب العلم حتى الإسلام، ففصلوا بين الإسلام وحياة الناس، وهذا خطأ، والله عزوجل يقول للرسول عليه الصلاة والسلام: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114] لم يطالبه بالتزود من شيء إلا من العلم.
هو العضب المهند ليس ينبو
تصيب به مضارب من أردت
وكنزٌ لا تخاف عليه لصاً
خفيف الحمل يوجد حيث كنت
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددت(/1)
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ والإِيمَان [القصص:80] يوجد في الساحة علم بلا إيمان، عندنا دكاترة يحملون رسالة الدكتوراه، لكن لا يصلون الفجر في جماعة!! وعندنا دكاترة قطعوا أرحامهم، ودكاترة استهزءوا بالدين، ودكاترة تهجموا على شباب الصحوة والملتزمين، ودكاترة تجرءوا على اقتحام الشريعة!! أين العلم؟!! يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] وقال تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ [النمل:66].
إذا ما لم يزدك العلم خيراً فليتك ثم ليتك ما علمتا
وإن ألقاك فهمك في مهاوٍ
فليتك ثم ليتك ما فهمتا
مشيت القهقرى وخبطت عشوى
لعمرك لو وصلت لما رجعتا
وإذا لم يصل الأستاذ إلى اليقين، كيف يستمر؟ ولذلك يقول الناظم:
لعلك يا أستاذ ما زرت أحمدا
رسول الهدى المبعوث من خير هاشمِ
فوالله لو قد زرته الدهر مرة
لما كنت نهباً للقصور القشاعمِ
لما انفصل العلم عن الإيمان، صار العلم طاغوتاً يُعبد من دون الله.
نشرت جريدة الهدف قبل اجتياح الكويت في افتتاحيتها مقالاً تقول: امرأة فنزولية تلد كلباً، ووجد أنه صحيح، عقموا المرأة بمني كلب!! وهل هذا يجوز في الإسلام؟
إنه حرام بالإجماع!! لكنهم ما سألوا الإيمان، عندهم علم، فاخترعوا وتطورا وتقدموا لكن ما ضبطوه بالإيمان، والله تعالى يشترط في العالم أن يكون مؤمناً: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ [الروم:56].
غيث الرسالة
أيها الفضلاء! يقول عليه الصلاة والسلام، وهو يصف رسالته، ودعوته، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث }.
أي أسلوب؟! وأي فصاحة؟! وأي إبداع؟!
قال: الهدى والعلم، لماذا؟
أليس العلم هدى؟
بلى.
أليس الهدى علم؟
بلى.
لماذا فصل العلم عن الهدى؟
لأن العلم هو العلم النافع كما قال ابن تيمية ، والعمل: هو العمل الصالح.
{كمثل الغيث } وقال الغيث لمعنيين:
الأول: أن الغيث صافٍ من السماء، ينزل على القلوب.
والثاني: أن الغيث فيه غوثٌ للأرواح، فرسالته عليه الصلاة والسلام كالغيث للأرواح.
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له
وأنت أحييت أجيالاً من الرممِ
أنا وأنت، وأبي وأبوك، وجدي وجدك، كنا رعاة إبل وغنم، حتى أتى محمدٌ عليه الصلاة والسلام، فقال: استيقظوا فاستيقظنا، وقال: افتحوا الدنيا بلاإله إلا الله فكبرنا وفتحنا بالعلم، وهو أمي لايقرأ ولايكتب، ولكن فجر حصائل العقول بمفاتيح العلم، فسرت في غياهب الدياجير تبني بدوراً في سماء الفضل.
وفي الصحيح عن معاوية رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين } ومفهوم المخالفة، وهو ليس حجة عند الأحناف، لكن مفهوم المخالفة حجة عند الجمهور: أن من لم يرد الله به خيراً لا يفقهه في الدين.
أنت الآن تجد العلمانيين عنده شهادة دكتوراه في هندسة التربة، وعنده دكتوراه في مرض الدوسنتاريا في البقر، وعنده دكتوراه في السرطان في الحمير، لكن لا يعرف الوضوء ولا التيمم ولا المسح على الخفين، لماذا؟
لأن الله ما أراد به خيراً، فهو يفقه كل شيء إلا الإسلام، موسوعةٌ في كل شيء إلا في صحيح البخاري وصحيح مسلم والفقه والتفسير؛ لأنه يعلم علماً ظاهراً ولا يعلم علماً باطناً.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر}.
يا أيها الإخوة! ما هو ميراثه عليه الصلاة والسلام؟ أين قصوره؟ أين دوره؟
كفاك عن كل قصرٍ شاهق عمد
بيتٌ من الطين أو كهفٌ من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدةً
نصب الخيام التي من أروع الخيم
إذا ملوك الورى صفوا موائدهم
على شهيٍ من الأكلات والأدم
صففت مائدة للروح مطعمها
عذبٌ من الذكر أو هديٌ من الكلم
نقف وهذه الليلة الخالدة نحن والعلماء أمام الله، ثم أمام الناس، ثم أمام البلاد، لنسألهم هل أنقصنا من حقهم شيئاً؟
ونسأل حقنا عندهم؟ ولعل الله أن يؤلف بين الشبيبة والرواد، وبين الرواد والشبيبة ليصلح الحال.
رفعة منزلة العلماء
والعلم من فضله يرفع الفقير، ويعلي المسكين، ويجعل المولى سيداً، فهذا عطاء بن أبي رباح مفتي الدنيا، نادى سليمان بن عبد الملك : لايفتي في المواسم إلا عطاء بن أبي رباح ؛ كان عبداً، أشلَّ، أفطس، ضعيف البنية، هزيلاً، أحنف، لكن حمل علماً! فكان الخلفاء والأمراء يأخذون طريقهم في الدور ليسألوه سؤالاً.
وكان ابن أبي الجعد مولىً عند سيده، فأعتقه، وقال له سيده: ما أعتقتك حباً فيك، لكنك لا تحسن تجارة، ولا نساجةً، ولا خشابةً، فعليك بالعلم، قال: فطلبت العلم، فاستأذن عليَّ أمير المدينة أن يزورني بعد سنة فما أذنت له.(/2)
كان مشغولاً، طرق عليه الباب أن يأذن له، فما أذن له.
لماذا رُصِدَ لابن تيمية هذا الرصد العالمي الهائل، فقد ألف فيه أكثر من أربعين كتاباً من الغرب، أما الشرق فمئات الكتب، لماذا رصد له؟ ألمنصبه؟
لا. ليس معه منصب! ما تولى ابن تيمية منصباً أبداً.
ألتجارته؟
ما عنده إلا ثوب وكسرة خبز.
ألأسرته؟
لا. أسرته لا تستطيع تحميه.
لكن للعلم الذي حمله، وللعمل الذي قام به، والإنتاج الهائل الذي قدمه للأمة عليه رضوان الله.
تقدم شاعراً فيهم خطيباً
ولولاه لما ركبوا وراءه
هذه بعض اللمحات.
يسجن الإمام أحمد من أجل فتنة القول بخلق القرآن، يأبى ذلك ويرفض فتبقى الأمة في الشوارع وتملأ سكك بغداد .
يقول الخليفة للناس: ادخلوا البيوت؟
قالوا: لا ندخل البيوت والإمام أحمد في السجن.
قال: أنصتوا؟
قالوا: لا ننصت حتى نسمع أحمد .
أخرج المعتصم جيشاً يطوقُ الطرقات، وأعلن حالة استنفار في جيشه الذي حطم به الروم، وهزم به أهل عمورية ، وأحرق المدن، يريد أن يطوق هذا الهيجان الإيماني فيأبون، يقولون: نريد أن نسمع كلام أحمد أولاً.
يا عباد الله! قالوا: عباد الله حتى نسمع كلام أحمد، فيقول أحمد الكلمة فتخرج الأمة معه، وينتصر الحق، ويثبت المنهج الرباني، ويكون الرصيد العالمي للإمام أحمد أنه رجل عامة، كماسأذكر ذلك إن شاء الله.
يقول الشاطبي في الاعتصام : وذلك أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد سواء ضموا إليهم العوام أم لا. فهم أهل الاجتهاد، وهم أولو الأمر، وهم أهل الريادة والقيادة العلمية، ولاعبرة بغيرهم.
وقال ابن تيمية في كتاب الفتاوى (4/97): وعيب المنافقين للعلماء -كالعلمانيين- بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قديم، من زمن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأما أهل العلم، فكانوا يقولون: هم الأبدال لأنهم أبدال الأنبياء وقائمون مقامهم.
وهناك حديثٌ في الأبدال لكني إلى الآن أتتبع طرقه ولم أرَ أنه صحيحٌ ولو أن بعض المحدثين المتأخرين يصححونه، لكن الأبدال هم أبدال الأنبياء الذين يخلفونهم في حمل الرسالة، وحمل العقيدة، وتقديمها للأمة هؤلاء هم الأبدال.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/9): فقهاء الإسلام ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام، فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء؛ بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب.
طاعة العلماء
أيها الأحباب! هذه مكانة العلماء، أن يطاعوا بأمر الله، إذا قالوا نفذ أمرهم، لكن إذا قالوا عن الكتاب والسنة لا بآرائهم، إذا اتقوا الله، إذا قالوا كلمة الحق، إذا تقدموا وأنكروا المنكر، حينها لزم على الأمة أن تطيعهم في طاعة الله.
وقال الشافعي في الرسالة : فإن من أدرك علم أحكام الله تعالى في كتابه نصاً واستدلالاً، ووفقه الله للقول والعمل بما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الريب، ونورت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] متى تكون إماماً؟
بم تنال الإمامة في الدين؟
بالصبر واليقين. من تعلم وعمل فهو الرباني، وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].
وقال البخاري في الصحيح: باب (انحسار العلم وقلة العلماء) وذكر انقباض العلم، وقال: كيف يقبض العلم؟ وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم : [[أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خشيت اندراس العلم، وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً ]]. ثم أورد حديث ابن عَمْرو الصحيح: {إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا }. أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
آفات العلم
أيها الإخوة! هذا فضل العلم، ولكن تدخل على العلماء وعلى طلبة العلم آفات وأخطر الآفات ثلاث:
الكبر، الرياء، الحسد.
عقارب طلبة العلم، وحيات العلماء ثلاث:
الكبر، والرياء، والحسد، أعاذنا الله من ذلك.
أما الرياء: فقال الرسول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين : {من راءى راءى الله به، ومن سَمَّعَ سَمَّعّ الله به } {أول من تسعر بهم النار ثلاثة، ومنهم: عالم تعلم العلم ليقال: عالم، وقد قيل، قال: فخذوه إلى النار }. وهذه آفة، لا يدركها إلا الفطناء من المخلصين، وهي خطورة عظيمة تتصدى لطلبة العلم، وتقف لهم بالمرصاد.
المسألة الثانية: الكبر.(/3)
والكبر آفة عظيمة، ومن تكبر على الله وضعه، وحقيقٌ بمن حمل الكبر أن يذله الله عزوجل، وألا يجعل له قبولاً، وإنه مزرٍ مزرٍ ولكن بالعلماء أزرى وأزرى.
والعالم إذا تكبر، وقبض جبينه، وتكبر على عباد الله، وارتفع عليهم، انسلخت محبته من القلوب، وذهبت بشاشته وملاحته، وما أحبته الأرواح، وما انقاد له الناس، وأصبح مبغوضاً في أوساطهم، وهذه سنة الله في المتكبرين.
يقول أحد الشعراء في المتكبرين:
وجوههم من سواد الكبر عابسةٌ
كأنما أُوردوا غصباً إلى النار
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم
يا ويحهم من مناكيد وفجار
ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً
أهدوك من نورهم ما يتحف الساري
تروى وتشبع من سيماء طلعتهم
بذكرهم ذكروك الواحد الباري
قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس عن هذه الآفات، وعن أصحاب الحديث: إن بعضهم يقدح في بعض؛ طلباً للتشفي، ويخرجون ذلك مخرج الجرح والتعديل، الذي استعمله القدماء في هذه الأمة للذب عن شرع الله، والله أعلم بالمقاصد.
أكثر غيبتنا الآن في الجرح والتعديل، تغتاب فلاناً فأقول: استغفر الله، فيقول: ليس قصدي أن أغتابه، إنما قصدي أن أخبر الناس به، الحاج موسى وموسى الحاج، أنت ما قصدت إلا غيبته، بل بعض الاستغفار والدعاء غيبة، كما إذا ذكر لك رجل، وقال: ما رأيك في فلان؟ فتقول: استغفر الله. فهل تستغفر من الذنب؟! إنك تطعنه بالخنجر من الاستغفار، وهذا عيب على طريقة الذاكرين.
ومنها: الغيبة إذا ذكر لك رجل، قلت: هداه الله، وما قصدك الدعاء لكنك تقصد شيئاً فطلبت الدعاء له، وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام في منشور من الفتاوى موجود.
وذكر الغزالي في الإحياء : عن الحسن قال: (عقوبة العلماء موت القلب). نعوذ بالله من موت القلب، وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة، إظهار التزهد وهو يريد أن يجمع الدنيا، ويستولي على المناصب، ويجمع الدنانير والدراهم، وأن يترك رسالته.
عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى
ومن يشتري دنياه بالدين أعجب
وأعجب من هذين من باع دينه
بدنيا سواه فهو من ذين أعجب
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175-176]. نزلت هذه الآيات في عالم من بني إسرائيل، وهذا قياسٌ يطرد في كل عالم ترك منهج الله، وترك الدعوة إلى الله، وأخلد إلى حطام الدنيا، وكتم علمه، ولم ينكر المنكر، ينسلخ من قداسة العلم، ومن شرعية الكلمة، فللكلمة شرعية.
لكن لا يحملها إلا العلماء، شرعية الكلمة، متى يقول، فيسمع له، إذا حمل جلباب العلم، وكأس العلم، وسيف العلم.
قال ابن الجوزي في صيد الخاطر (ص:442): (وينضاف إليه مع الجهل بها -أي: بالسنن- حب الرياسة، وإيثار الغلبة في الجدل، فتزيد قسوة القلب): فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا [المائدة:13].
أيها الفضلاء! ولكن يبقى في بعض الناس رقة، وخير وفضل، ويبقى في أهل العلم بقية؛ هم أهل الصدارة والريادة.
قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/174): (وددت لو أن جسمي قرظ بالمقاريظ، وأن الخلق كلهم أطاعوا الله عز وجل).
يقول: يا ليت جسمي قطع تقطيعاً وأن الخلق أطاعوا الله!
يا ليتني قدمت جسمي فداءً لهذه الأمة وأنهم أطاعوا الله.
قال: (فعرض قوله على بعض المتقدمين) فقال: (إن كان أراد بذلك النصيحة للخلق، وإلا فلا أدري، ثم غشي عليه) أغمي عليه من كثرة البكاء، ومن خطورة هذه الكلمة التي تدل على النصيحة وعلى الصدق.
وقد قرأت عن الإمام أحمد أنه قال: (يا ليت الله يجعلني فداءً لأمة محمد عليه الصلاة والسلام).
يقول: ليتني أفديهم، وبالفعل تقدم الإمام أحمد للسياط، وجلد، وعرض للسيف، ومع ذلك ما تزحزح من أجل رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن أجل أمة الرسول عليه الصلاة والسلام.
فتىً كلما فاضت عيون قبيلةٍ
دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى
لها الليل إلا وهي من سندس خضر
الرد إليهم عند المسألة والتنازع:
أما الرد إليهم: فأوجب الله علينا ذلك عند المسألة وعند التنازع، فقال: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
سمعت شاباً أفتاه بعض العلماء في مسألة في الجهاد، فقال: أنا لا أقبل فتوى هذا العالم.
قلت: لماذا؟
قال: لأنه لا يقبل فتوى القاعدين في شأن الجهاد، وإنما يقبل فيها فتوى المجاهدين.
قلت: يا أخي! ولماذا؟(/4)
قال: لأن هذا العالم يفتي وهو تحت المكيف، والمجاهدون يفتون وهم في الجبهة، فأنا أطلب فتوى المجاهد؛ لأنه في الجبهة، وأما فتاوى العالم القاعد تحت المكيف فأنا لا أطلب فتواه. قلت: إن العلم لا يأتي بالمكيفات وغيرها، والفتوى ليست لقاعد ولا لمجاهد، الفتوى أوصلها الله وأسندها لأهل الذكر، وأهل الذكر إن كانوا في الجبهة سألناهم، وإن كانوا تحت المكيف سألناهم، والمكيف حلال بالإجماع وليس بحرام، والمكيف لا يدخل إلى تكييف العالم فيلغي علمه ونصوصه وإنما يبقى المكيف في الجدار، ويبقى قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، في رأس العالم فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] أما مجاهد أو غير مجاهد، قاعد أو غير قاعد، فلا علاقة لهذا بالفتوى، وإنما: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
فإذا أشكلت عليكم المسائل فعودوا إلى كبار العلماء، إلى طلبة العلم الأجلاء، إلى الدعاة الناصحين، إذا استطاعوا أن يفتوكم في ذلك، وإلا فمن هو أعلم وأعلم وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76].
يقول سبحانه: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83].
من الذين يستنبطونه؟
إنهم العلماء، لأنك تأتي بنص لعامي وعالم، فالعالم يدرك من جلالة ومقصد النص ما لا يدركه العامي:
وإن تَفُقِ الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
يقول المتنبي لسيف الدولة : (إذا كنت ذكياً وأنت من البشر، فإن المسك من دم الغزال، لكن ريحه مسك، يباع القليل من المسك بقناطير الذهب، ولكن كيلوات الدماء من دم الغزال لا يباع بدرهم).
وإن تَفُقِ الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
إذاًَ كيف نرد إليهم؟
إذا أشكلت علينا مشكلة، أو أتتنا أزمة، أو ألمَّ بنا حادث، هرعنا إلى العلماء، وقلنا: يا علماء الإسلام! يا أهل الحل والعقد! يا نجوم الأمة! هذه مسألة معضلة، أفتونا مأجورين فيها، فإنا نطلب فتواكم، فهذا واجبنا أن نرد إليهم.
ولقد رأيت بعض الناس يقول: أصبحت الثقة غير متبادلة، وعلينا أن نفتي أنفسنا الآن؛ لأن الموقف يتطلب شجاعة وحماساً، ولا يتطلب أن نعود إلى هؤلاء، لماذا؟
وهل الفتوى بالحماس والشجاعة؟!
أو بكبر الجسم والعضلات؟!
إنما الفتوى بالعلم، وكان الصحابة يتدافعون الفتيا خوفاً من الله، وفي أثر مرسل لا يصح مرفوعاً فيما أعلم: [[أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار ]].
يقول أحد التابعين لبعض طلبة التابعين:[[والذي نفسي بيده إنكم تفتون في مسائل لو عرضت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر ]] لكن ما بالك إذا كان الشاب في الخامسة عشر من عمره، يتربع، يناقش هيئة كبار العلماء في أكبر المسائل، ويقول: خالفوا الأدلة، الذي ظهرت لي بعد طول تأمّل.
كم عمرك حتى طال التأمل؟!
ومن أنت حين تقول: الذي ظهر لي بعد طول تأمل، والذي عليه ترجيحي وترجيح أصحابي، أن هذه المسألة كيت وكيت؟!
فالواجب الاحترام، وأهل العلم لهم تجربة، ولهم عقل، ولهم قدم، وسوف أبرر لماذا يكون لهم عقل وعلم، ثم نطالبهم بحقنا عليهم؟ لأن لنا عليهم حقوقاً.
حماية أعراضهم:
اعلموا -رحمكم الله- أن لحوم العلماء مسمومة، وأن عادة الله فيمن تَنَقَّصَهم معلومة، وأن أسوار من استهزأ بهم مهدومة.
هذه كلمة قالها ابن عساكر .
فمن تَنَقَّص العلماء، وتعرض لهم: أذله الله، وأخزاه، وقمعه، وأنزل به كارثة أو نازلة، وهذا أمر معلوم.
بل التعرض للعلماء تعرض للإسلام مباشرة، وانتهاك قداسة العلماء انتهاك لقداسة الإسلام.
فحذارِ حذارِ! وإنما أنبه غيركم وأما أنتم فإنكم -إن شاء الله- لديكم من العلم والتقوى، والورع والوعي، ما تدركون ذلك، لكن إياك أعني واسمعي يا جارة.
يقول بعض المفسرين في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [الرعد:41].
قالوا: موت العلماء، أورده الشوكاني وغيره، موت العلماء نقصان الأرض من أطرافها، وموت عالم ثلمةٌ في الإسلام، وموت العالم زلزال في الأمة، وموت العالم جرح لا يندمل إلا بعالم آخر، وكانت الأمة إذا مات عالمها، بكوا كثيراً وحزنوا، وسألوا الله أن يبدله بمثله أو بخير منه.
ومعلوم أيها الإخوة! أنَّا عرفنا من الأشخاص من كان مذهبه التنقص في العلماء، فأصابه الله بخيبة، ولم يجعل له قبولاً، وصار عرضه منتهكاً عند شباب الإسلام، ولم يحفظ الله عليه عورته؛ لأنه لم يحفظ حرمة العلماء.
عذر العلماء إذا أخطئوا
الثالث من حقوق العلماء على الأمة عذرهم إن أخطئوا في اجتهادهم.(/5)
أولاً أيها الأحباب! ليس العلماء معصومين، لأنه من عقيدة أهل السنة ليس معصوماً إلا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أما العالم فليس معصوماً، قد يخطئ وقد يذنب، تجوز عليه الكبائر في الجملة، ولكن قد يتوب منها، وقد يأتي بمسألة يظنها صحيحة وهي خطأ، ويأتي بوجهة نظر وهي متردية لا تساوي شيئاً، لكن لا تسقط عدالته ولا تذهب كلمته.
يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح كما ورد عن عمرو بن العاص : {إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد } فإذا اجتهد وبحث عن الأدلة، رأى دليلين في موطن التعارض، رأى من عمومات النصوص، وحاول أن يجتهد، لكنه أخطأ، فله أجر واحد لأنه أخطأ، وإن أصاب فله أجران؛ أجر الاجتهاد وأجر الصواب.
ولابن تيمية رسالة بديعة اسمها: رفع الملام عن الأئمة الأعلام وقد عذر اختلاف أهل العلم في مسائل الفروع التي يختلف فيها، وفيها يجري الاجتهاد.
ومن أعذارهم:
أولاً: أن الدليل قد يبلغ هذا العالِم ولا يبلغ العالِم الآخر؛ فقد يكون وصلك الدليل لكن لم يصلني أنا، مثل: تحريك الإصبع، فأنا -مثلاً- لا أحرك إصبعي في الصلاة وأنت تحركها، فتسألني: لماذا لا تحرك إصبعك؟
أقول: ما وصلني الدليل، فهذا تَعَذَّر عليه، ولك أجر واحد أنك اجتهدت بحسب ما وجدت، ولا تبطل صلاتك، وتبقى المسائل الفرعية مختلفٌ فيها.
ثانياً: أن يكون الدليل عندك ثابتٌ وعندي منسوخ.
تقول: هذا الحديث لماذا لا تعمل به؟
أقول: منسوخ. فلا تحمل عليَّ، ولا تشنع ولا تغضب عليَّ، فقد اجتهدت فأخطأت.
وثالثاً: أنه قد يكون عندك الحديث صحيحٌ، وعندي ضعيف؛ والتصحيح والتضعيف -يا أيها الفضلاء- أمرٌ اجتهادي، لك أن تصحح الحديث ولي أن أضعفه بطرقي الخاصة، ولذلك تجد حديثاً يصححه ابن حجر ويضعفه -مثلاً- من بعده كالسخاوي -مثلاً- أو الألباني ، ويصحح ابن تيمية حديثاً ويضعفه ابن القيم ، فلا حرج والمسألة فيها سعة، إنما الصدق، والنصيحة، والإخلاص، والجد في طلب الدليل.
ورابعاً: أنك قد تفهم من الدليل ما لا أفهم أنا، مثل قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141] فهم الأحناف من هذه الآية: أنها تدخل فيها الثمار والحبوب والخضروات، فقالوا: في الخضروات زكاة، حتى الجرجير عند الأحناف فيه زكاة، والخس والبقدونس.
وقال الجمهور: لا. وإنما فيما يحصد فقط؛ لأن الله يقول: يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141] والجرجير والخس والبقدونس لا تحصد.
فماذا نفعل؟! هل نضلل الأحناف؟
لا. بل نقول: اجتهدوا فربما أخطئوا ولهم أجر واحد، والجمهور لهم أجران، وهكذا المسائل، ومن عَبَدَ الله على مذهب أبي حنيفة نجا بإذن الله، أو على مذهب مالك ، أو على مذهب أحمد ، أو على مذهب الشافعي ، شريطة أن يبحث طالب العلم عن الدليل في أي مذهبٍ كان، ويعمل به، ويتمسك بدليل عن المعصوم، ولا يسعه إلا ذاك.
ربط الشباب بالعلماء
الرابع: من حقوق العلماء على الأمة: ربط الشباب بهم.
فالفوضى لا تصلح، فوضى بدون قيادة فكرية علمية لا تصلح، كلٌ يخطب، وكلٌ يعمل، وكلٌ يوجه، وكلٌ يتحمس، لا. لا بد من علماء للمسيرة:
لا يصلح القوم فوضى لا سراةَ لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
والبيت لا يبتنى إلا بأعمدةٍ ولا عماد إذا لم تُرس أوتاد
الأوتاد: العلماء، نراجعهم، وللخطيب أن يعود إلى العالم قبل صلاة الجمعة، فيقول: أترى أن أخطب في هذا الموضوع؟
أترى أن أثير هذه المسألة؟
أترى أن أورد هذا الكلام؟
يسأله لأنه أكبر منه وأعلم وأفضل، وقد يمنحك الله بركةً على لسانه، ويجري حقاً على فمه، فيكون لك الحق فتعمل به... وهكذا.
وإذا وسد الأمر إلى غير أهله، إذا تقلد الأمور العلمية أناسٌ جهلة، وقادوا الأمة إلى مهاوٍ ومزالق، وهم جهلة، وقد سبق معنا: {فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا } والله المستعان!.
نطالب أهل الفضل، وأهل العلم، وأهل السنة ، أن يتقدموا المسيرة، ولا يتركوا الميدان للجهلاء السفهاء، من سفهة البغاة العلمانيين:
عذرت البدن إن هي قارعتني فما بالي وبال ابن اللبون
هذا البيت لجرير ، ومعناه يقول: أنا أعذر أن يصارعني الجمل الهائج أما ابن اللبون، ابن سنة فلا أستطيع له، أنا لا أبارزه، وهذا أمر معلوم في الفِطَر والأحوال.
حق الأمة على العلماء
عائض القرني
وصلنا الآن إلى حقوقنا على العلماء، وأنا أقدمها هذه الليلة إلى العلماء حفظهم الله ورعاهم بصفتي من إخواني ومن زملائي المجتمعين في هذا الجمع الحافل، أرفعها بالدعاء والثناء والسلام والتحية إلى أصحاب الفضيلة علماء الأمة نطالبهم بها، علَّ الله أن يحفظهم ويرعاهم للأمة رواد خير وفضل.
أطالبهم بأربعة مطالب، وهي متحققة إن شاء الله في الكثير أو بعضها:
الأول: عدم الكتمان، نطالبهم ألا يكتموا الحق.
الثاني: ألا يقولوا على الله إلا الحق، لا يأتي أحد بافتراء على الله، لا يحكم بغير حكم الله، لا يأتوا بحكم ويقولون: هو من عند الله وما هو من عند الله.(/6)
الثالث: أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر.
الرابع: أن ينزلوا إلى الناس ويكونوا علماء عامه مع الأمة، في أوساط الأمة، في مجالس الأمة، في مساجد الأمة، يقودون الشبيبة، ويوجهون الأمة إلى مرضاة الله.
عدم كتمان العلم
أما عدم الكتمان: فهو مطلب أساسي، والكتمان مصيبة، وكبيرة من الكبائر، نعوذ بالله من ذلك، فكتمان الحق جبن، وكتمان الحق انهزام في الشخصية، وكتمان الحق فشل، وعندما تصبح هذه الظاهرة عند العالِم تنتهي الأمة فلا تصدقه، ولا تثق به، ولا تنضوي تحت لوائه، ولا تذهب معه، ولا تشيد به، وتصبح الأمة بعيدة كل البعد عنه، كيف يكتم وعنده جوهر، وعنده وثيقة، وعنده نصوص في صدره؟!
يقول الله محذراً من الكتمان: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160].
ما هي بركة العلم؟
لماذا الكتمان؟!
ولماذا الخوف؟! الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب:39] أي: يبلغون ما أنزل الله من الكلام رضي من رضي وسخط من سخط، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط، نحن لا نداري الناس بالعلم الذي نحمله، ولا نترضى أمزجة الناس، ولا نسترضي الناس بسخط الله، فإن عند ابن حبان مرفوعاً: {من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عليه وأرضى عليه الناس }. وهذه سنة الله، والعالم يوم يرضي الله ولو سخط الناس، لكن سترضى عنه الأمة، ويرضى عنه الناس جميعاً.
يقول سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187]. والكتمان يعني: التغطية، إغلاق المعلومات في قدر من الضغط ثم القفل عليها، ففي وقت الحاجة تضطرب الأمة، فعندما تريد منه رأياً، وحكماً، يكتم ويسكت، تسأله: تكلم؟
أفتنا؟
قال: الحكمة الحكمة، إنها حكمة مدفونة، حكمة ميتة، نريد حكمة حية، لا نريد حكمة لم يفهمها أبو بكر ، ولا عمر ، ولا ابن تيمية ، ولا العز بن عبد السلام ، الحكمة: وضع الشيء في موضعه، وليس معناها: الموت! أو إماتة الحق! لا، هذه ليست مرادفة.
يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجامٍ من نار }. علم أن الأمة تحتاج إلى مسألة، إلى مقولة، إلى خطبة، ولكنه كتم! يسألونه فيحوص من هنا ومن هنا، يأتي من فوق ومن تحت ومن يمين ومن شمال حتى لا يصل إلى المقصود كتماناً، هذا هو الخور، والأمة ليست بحاجة إلى هذا الصنف أبداً، ولا تجد الأمة لهم مكاناً في صفوفها، ولا استعداداً لتقبل كلام هذا الصنف، وقد أثبت التاريخ ذلك.
والكتمان أصيب به بنو إسرائيل، قال سبحانه: وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:37].
قيل: أهل العلم، عندهم رسائل وعندهم آيات وأحاديث ولكنهم كتموها، وما أعطوها الأمة حتى وجد من بعض العلماء من يبخل على الشباب بدرس أو محاضرة، وكأنه ينفق عليك من جيبه ومن لحمه ودمه، وإذا ألقى كلاماً قطر بالقطارة عليك، كأنه يعد عليك الكلام عداً، هذا بخل بالعلم، والبخل بالعلم حرام.
قول الحق ولو كان مراً
المسألة الثانية: ألا يقولوا على الله إلا الحق.
أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [الأعراف:169] أما أخذنا عليهم الميثاق ألا يخافوا في الله لومة لائم؟!
ألم يؤخذ عليهم أن يقولوا كلمة الحق صريحةً هادئةً حكيمةً تصل القلوب؟!
الكلمة قوية، أقوى من شعاع الشمس، وأقوى من الذرة، والأمة تحتاج إلى كلمة العالم، يقولها في وقتها وفي مكانها، حينها يشكره الله، ويثيبه الله، ويرفع منزلته، وهذا واجب طلبة العلم، والدعاة، والأخيار، أن يقولوا كلمة الحق، لكن فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] بهدوء، وبصدق، وبإخلاص، ولا يكتم على الأمة كلمات الحق، ولا يخرس ألسنتهم، ولا يعكفوا في بيوتهم، لكن يصلوا إلى الحق بحكمة وهدوء وانضباط واتزان ليبلغوا دين الله، وينصروا هدفهم الذي هو إعلاء إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
أما أن يقول العلماني كلمته، ويبرز علينا من الشاشة، ويتكلم من الصحف والمجلات، ويستهزئ بالخيرين، ويكون جريئاً متحدياً، وإذا قلنا له: لا، قالوا: عليكم بالحكمة:
إذا عير الطائي بالبخل مادرٌ وعير قساً بالفهاهة باقل وقال السهى للشمس أنت كسيفة وقال الدجى للبدر وجهك حائل
فيا موت زر إن الحياة ذميمةٌ ويا نفس جدي إن دهرك هازل(/7)
قُلْ كلمة الحق، ولو ذهب رأسك في كلمة الحق، لماذا أتباع برجنيف تسحق جماجمهم تحت الدبابات في أفغانستان ؟!
لماذا أذناب شامير -إسرائيل- في سيناء تشدخ رءوسهم تحت المجنزرات، يريدون أن يثبتوا عقيدتهم وعقيدتنا التوحيد، لكن بلا طيش، ولا تهور، ولا عجلة، لكن حمل الواثق الذي يحمل مبادءه، ويؤديها في رسوخ، وفي ثقة، وفي حكمة، ويطالب بحقه الإسلامي الشرعي الذي فرضه الله.
أنا وأنت لو اعتدي على منزلنا وعلى أرضيتنا وسيارتنا، ما رضينا، نذابح أنا وأنت، ونقاتل، لكن الإسلام يُنْتَهَك، والمنكرات تفشو، والحدود تُنْتَهَك، ومع ذلك نفسي نفسي، لكن الله تعالى يقول: أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [الأعراف:169] والله تعالى يقول للعلماء وللدعاة ولطلبة العلم: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل:116] لا تحللوا المحرم، ولا تحرموا المحلل. وعجبت لكاتبٍ أديبٍ من هذه البلاد في الشرق الأوسط ، جعل نفسه مفتياً، وهذا هو العجب العجاب، وأظنه لا يحفظ حديثاً من صحيح البخاري أو صحيح مسلم .
وأتحداه أن يحفظ حديثاً ويخرجه لنا، أو يحفظ مسألةً فقهيةً وينسبها إلى كتاب من كتب أهل العلم، وأتى يقرر علينا في عين العاصفة قضية القضايا وبقية القضايا، ويناقشنا في مسائل هي لهيئة كبار العلماء وليست له:
ويُقْضَى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يُسْتَشْهَدون وهم شهود
أنت لست هناك، تفرض على الأمة، أنت لست أميناً، وليس لك مكان فقه على الأمة، طهر كيانك أولاً.
وقرأت له أيضاً مقابلة نشرت في مجلة الدعوة قبل ثمان سنوات، يقول: ما رأينا النور في الجزيرة العربية منذ ثلاثة آلاف سنة، وعرضت فتواه على بعض العلماء، فقال: إن كان اعتقد ما يقول فقد ارتد عن الإسلام، وأقول له: أنت ما رأيت النور منذ ثلاثة آلاف سنة، فنقول: صدقت أما أنت فما رأيت النور، لكن نحن عشنا النور، وشربنا النور، ومشينا في النور، نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35] وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]:
أين ما يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أَينا إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه
قد مشينا في ضياء الوحي حباً واهتدينا ورسول الله قاد الركب تحدوه خطاه
فكيف يكون هؤلاء متكلمون بلسان الأمة، ومتحدثون عن شريعة الأمة؟!
يفاوض على مسائل ليست له، هي لابن تيمية ، ابن باز وابن عثيمين ولأمثالهم من هيئة كبار العلماء والفضلاء أما له فلا، لا نقبل.
عليه أولاً: أن يتوضأ ويصلي معنا!
عليه أولاً: أن يتوب، ويعلن إسلامه، ويتخلى عن الرجس والوثنية، ثم يتكلم لنا في المعتقد والشريعة.
قال سبحانه: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً [النساء:50].
انظر كيف يكذبون على الله، يقولون: حلال وحرام؟!
رأيت في مجلة وهو موجود في شريط: (الفتاة السعودية والعلمانيون) توثيق هذا الكلام موجود، رأيت مفتياً أتوا به على حد قول جمال : عاوز مفتي بفرخة!! ماذا يقول جمال : أطلب من المصريين أن يعطوني مفتياً وأعطيه فرخة، إذا أردت مفتياً يفتيني في مسألة أعطيته دجاجة ويفتيني فتوى على الكيف!!
ولذلك وجد من يفتي بفرخة، ووجد قرَّاء بفرخة، اففتح جمال ذات مرة مشروعاً في أسوان فأتوا بقارئ قالوا: اقرأ سورة فيها ذكر جمال ، فتأمل هذا القارئ واستعرض القرآن، فوجد لفظة (جمال) في سورة النحل، يقول فيها: لَكُم فِيهَاَ جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النحل:6] والله يذكر الإبل والبغال والخيل والحمير، ولا يذكر جمالاً ، فأتى المقرئ فقال: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النحل:6] فالتفت جمال ، وقال: يفتح عليك. اكتشف لفظ (جمال) في القرآن، هذه قراءة بفرخة!!.
فهذا المفتي في إحدى المجلات النسائية قيل له: أتزور المرأة المقبرة؟
قال: نعم، يجوز لها أن تزور بمحرم. ما شاء الله! هم في المسارح لا يشترطون المحرم، والسفر إلى بنكوك وباريس لا يشترطون أن تزور المرأة بمحرم، وتسافر في المطارات بلا محرم، لكن عند المقبرة بمحرم حتى لا يخرج عليها الموتى، هذه فتوى بفرخة، فتوى على الكيف.
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النساء:50].
انظر كيف يدجلون على الأمة؟ يضحكون على لحانا؟!!، هل أصبحت الأمة بقراً؟!
ما أصبح في الأمة مثقفون يفهمون الحرام والحلال!! حتى طالب ابتدائي يعرف أن بعض المسائل التي يفتيها بعض الناس خطأ، ولكن علماؤنا -إن شاء الله- منزهون عن ذلك، وهم بمنزلةٍ عاليةٍ رفيعة.
نسأل الله أن يثبتهم وأن يزيدهم توفيقاً لقول الحق لا يخشون في الله لومة لائم.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(/8)
واجبنا عليهم وواجب الأمة أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، العالم إذا نزل ليغير المنكر نزلت الأمة معه، كان ابن تيمية يدرس بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ثم ينزل بالعصا والمقص، عنده مقص في جيبه، فينزل في الأسواق أما العصا فيقيم بها الحدود والتعزير، وأما المقص فيأتي إلى من أطال شعره على مذهب البطائحية فيقص شاربه، ويقص جمام الناس التي تخالف السنة، لأنها فرقة خالفت السنة وأصبح لهم شعار خاص، ثم يقف إلى الموازيين والمكاييل يغيرها، وإلى أصحاب الفاكهة، ويسلم على الباعة ويَعِظُهم، ويأمر من أسبل إزاره بتقصير إزاره في السوق.
فإنك شمسٌ والملوك كواكبٌ إذا طلعت لم يَبْدُ منهن كوكبُ
يقود ابن تيمية الأمة في أحلك الظروف، أتى التتار، فأتى إلى السلطان وقال له: اخرج قاتل الكفار؟
قال السلطان: هؤلاء التتار يغلبونا، قال: لا. قاتلهم بالسياط الشرعية، والسيوف المحمدية، وأنا معك، فوالله لننتصرن، قال السلطان: قل: إن شاء الله، قال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً!
قال: أخاف أن أهزم؟
قال: إما أن تقاتل وإلا قطعنا عنك البيعة، ولا بيعة لك بعد اليوم، ومعنى ذلك: أن ابن تيمية إذا قال: لا بيعة، انتهت المسألة، انتهت الدنيا!
فنزل السلطان وقاتل مع الناس، ونصر الله المسلمين فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45].
يقول سبحانه عن العلماء وطلبة العلم: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63].
يقول: أين العلماء؟ أين طلبة العلم؟ أين الدعاة؟
لماذا لا ينهوا هؤلاء السفهاء الذين قست البلاد وقحطت بسبب ذنوبهم وأخطائهم وتعدياتهم؟ أين طلبة العلم؟ أين شباب الصحوة؟
لَوْلا يَنْهَاهُمُ [المائدة:63] أي: هلَّا لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63] قال بعض المفسرين: لبئس ما كان يصنع الربانيون من العلماء بتركهم النهي عن المنكر والأمر بالمعروف.
وقال آخرون: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63] الذين يقولون الإثم، ويأكلون السحت، وكلا المعنيين صحيح.
وقال سبحانه: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104] كلمة الحق ثقيلة لكن تحتاج إلى رجال، وعند ابن حبان عن أبي ذر وهو حديث صحيح، قال عليه الصلاة والسلام: {قل الحق ولو كان مراً }. الحق مثل العلقم، الحق فيه تقديم الرءوس؛ لكن قل الحق ولو كان مراً.
{أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وسيد الشهداء: حمزة -عم الرسول عليه الصلاة والسلام- ورجل قال كلمة حق عند سلطان فقتله } هذا سيد الشهداء.
والأمة تحتاج إلى كلمة حق هادئة، بكلامٍ لين، تصل كلمة الحق ليكون فيها خير للأمة وللعباد وللبلاد ولولاة الأمر.
ذكر الذهبي عن ابن أبي ذئب ؛ العالم الكبير قرين الإمام مالك ، وكان محدث المدينة ، جلس في المسجد، فدخل المهدي الخليفة العباسي، فقام الناس له إلا ابن أبي ذئب لم يقم، ولم يتزحزح من مكانه:
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت وإذا نطقت فإنني الجوزاء
قال المهدي : يا ابن أبي ذئب ! قام الناس لي ولم تقم أنت؟ قال: أردت أن أقوم لك فذكرت قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] فتركت القيام لذاك اليوم.
قال المهدي : اجلس! والله ما بقيت شعرةٌ في رأسي إلا قامت.
كلام يقيم الميت، يحيي العظام بإذن الله.
أتى ابن أبي ذئب إلى أبي جعفر قبل المهدي ، قال أبو جعفر : أسألك بالله يا ابن أبي ذئب هل أنا خيرٌ أم الحسن بن الحسن ؟ لأن الحسن هذا يجادله، ويقاتل على الخلافة، من أولاد علي بن أبي طالب قال: اعفني يا أمير المؤمنين! قال: عزمت عليك. قال: ورب هذا البيت إنك ظالم. خذها أو اتركها -يقول: ظلمت الأمة، لا أقول لك: عادل وأنت ظالم- ثم ذهب.
فكان الإمام أحمد يمجد ابن أبي ذئب كثيراً، ويدعو له.
وأتى النابلسي فقال لتلاميذه: من كان عنده عشرة أسهم فليرمِ النصارى بسهمٍ، ويرمي الفاطميين بتسعة؛ وهم حُكَّامُه في القاهرة ، لكنهم كانوا ملاحدة زنادقة.
قال: ويرمي الفاطميين بتسعة أسهم، فسمع السلطان فاستدعاه، وقال: يا نابلسي ! سمعنا عنك فتيا خطيرة. قال: ما هي؟ قال: سمعنا أنك تقول: من كان عنده عشرة أسهم فيرمينا بسهمٍ ويرمي النصارى بتسعة.
قال: الفتيا خطأ.
قال: ما هي؟
قال: يرميكم بتسعة ويرمي النصارى بسهم، فذبحه ذبحة ما ذُبِحَ بها أحد من الناس.(/9)
وطلعات العز بن عبد السلام يأتي إلى السلطان يأمره وينهاه، فيرفض السلطان، فيخرج العز بن عبد السلام على حمار، فتخرج الأمة وراءه من القاهرة ويقولون للسلطان: والله لا نبقى في القاهرة ولنخرجن مع العز بن عبد السلام حتى تعيده، فيخرج السلطان وراء العز بن عبد السلام يطلب منه أن يعود ويترجاه، فقال: لا أعود حتى تنفذ الشروط:
منها: أننا متى أردنا أن نبيعكم بعناكم وسلمنا ثمنكم لبيت المال؛ لأنهم موالي قطز ، وقرابته موالي يباعون ويشترون في العهد الأول، وحرج بهم في السوق مرتين، يقول: من يشتري قطز ؛ قطز صاحب عين جالوت ؛ البطل، الشهم، الشجاع، الذي لما حضر المعركة، واحتدت السيوف، وبدأت الرماح تخطف الرءوس أخذ خوذته ووضعها تحت قدمه، وقال: وإسلاماه وإسلاماه وإسلاماه! فسمعته الأمة فثبتت ونصرهم الله، وهو بطل، مع ذلك غضب عليه العز ؛ لأنه أراد أن يتخلف عن الجهاد، فقال: إما أن تجاهد أو أبيعك وأسلم ثمنك لبيت المال، فجاهد.
ويقولون: طرق عليه السلطان يريد ذبحه، فخرج مسرعاً، وقال: اللهم ارزقني الشهادة، ولكن يقول لابنه عبد اللطيف : أبوك أهون على الله من أن يرزقه الشهادة، يقول: ربما كنت مذنباً فلا يمنحني هذا الشرف العظيم والوسام الرفيع.
ودخل الأوزاعي على عبد الله بن علي عم أبي جعفر المنصور ، وكان سيف ذاك مسلطاً، والسيوف على رأسه، فقال للأوزاعي : ما رأيك في الدماء التي سفكناها؟
قال: حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة } قالالأوزاعي : فرأيت وزراءه -يعني: وزراء عبد الله بن علي - ضموا ثيابهم خوفاً من دمي أن يرش ثيابهم، فثبت.
وسأله عن الأموال؟
قال: إن كانت حلالاً فحساب، وإن كانت حراماً فعقاب.
قال: اخرج، فخرج وأنجاه الله.
قالوا للأوزاعي : كيف استطعت أن تتحدث؟
قال: والله ما دخلت عليه إلا تصورت عرش الرحمن بارزاً يوم القيامة، فصغر في عيني كأنه الذباب.
ودخل ابن السماك على أبي جعفر فجلس عنده؛ ابن السماك العالم، الداعية، الواعظ، فأتى الذباب يطير على أنف أبي جعفر المنصور الخليفة، فَيُطَيِّر الذباب فيعود على أنفه، فيطيره فيعود على أنفه، قال أبو جعفر يا ابن السماك ! -يريد أن يهينه أمام الناس- لماذا خُلق الذباب؟
يعني: ما هو السر في خلق الله للذباب؟ قال: ليذل به أنوف الطغاة.
والنماذج تستمر، والأمة في حشد هائل تتحرى من أهل العلم أن ينهوا عن المنكر ويأمروا بالمعروف كما أمرهم الله.
على العلماء أن يكونوا علماء عامة
الرابع: أن ينزلوا للناس، ويكونوا علماء عامة، علماء السلف علماء عامة، لا يعرف السلف عالماً في برجٍ عالٍ، تلقى الإمام أحمد في الطريق، وعلى الرصيف، وفي المسجد، وتطرق بيته فيفتح لك، ويفرش لك الفراش، ويجلس معك، ويقدم لك الماء، العالم مع الأمة في ضمائر وقلوب الأمة يعيش، بخلاف المفكرين العصريين؛ لأنهم أتونا بمسألة قالوا: لا بد من العزلة الشعورية، ولا بد أن تربي نفسك أولاً، ثم تأتي إلى الناس في لقاءات خاصة، على مذهب كانت وديكارت .
لكن علماء السنة علماء عامة، أبو بكر تجده في السوق يبيع ويشتري ويفتي، وعمر وعثمان وعلي وابن تيمية .
ابن تيمية أين وقته؟
دائماً مع الناس، ينام معهم، ويصحو معهم، ويعلمهم، ويلقنهم، ويفتيهم، ومع العامة، لأنه وجد بعض الناس يدندن بالتهويل من شأن المواعظ للعامة.
وهل الأمة إلا عامة؟!
وهل ثلاثة أرباع الأمة إلا عامة؟!
وهل القاعدة الشعبية إلا عامة؟!
تجلس معهم، تعلمهم الفاتحة، وأمور الدين، ومسلمات العقيدة.
نحن لا نحتاج إلى علم سيبويه في (حتى) يقولون: حضرته الوفاة، قال: أموت وفي نفسي شيء من (حتى) رحم الله سيبويه نفع بالنحو، لكن دقائق المسائل، وهذه الحتحتة، لا نريدها الآن، نريد العلم المؤصل المشهور، أن يعرض على الناس مبسطاً سهلاً، أما في المسألة أربعة عشر قولاً، قال ابن أبي ذئب ، وقال مالك ، وقال ابن تيمية ، وقال الروياني ، وقال الشافعي ، والراجح، فالتفريع لطلبة العلم، لكن الناس يحتاجون إلى علم سهل مبسط، ويحتاجون إلى عالم يجلس معهم، ويقودهم، وإن التقصير الذي نلحظه من بعض العلماء أنهم ما نزلوا إلى الشباب.
فيا أيها العلماء! لا تلوموا الشباب إذا أخطئوا في تصرف، أو هاجوا، أو ماجوا، أو تحمسوا؛ لأنكم أنتم المسئولون في عدم ضبط وتعليم وقيادة الشباب.
ويا أيها العلماء! لا تصفوا الشباب بالتهور، ولا بالتطرف، ولا بالطيش، ولا بالعجلة؛ لأنكم أنتم أو بعضكم الذين لم تجلسوا للشباب في مجالس طويلة تتحدثون إليهم، وتربونهم، وتمسكون من جأشهم، وتربطون على قلوبهم، وتحبسون أعصابهم.
شباب الصحوة لا يقتنعون إلا بعلماء ودعاة، ومهما أتيت إليهم بالدساتير فلا يمكن أن يقفوا؛ لأنهم مقتنعون بآراء.(/10)
لكن يوم تسمع العالم يحاورهم، ويلقنهم، ويثبت أمامهم؛ حينها يشكرون له، ويهدأون وينضبطون ويسلكون معه.
فمطالبتنا الجادة: أن نتصل نحن ونتقدم إلى العلماء.
يقول أحد العلماء العصريين: إذا تقدم العلماء خطوة فعلى الشباب أن يتقدموا إليهم عشر خطوات، وهذا صحيح، علينا ألا ننتظر من العلماء أن يزورونا في بيوتنا، ويطرقون علينا الباب، إنما نحن نأتيهم، ونُقَبِّل رءوسهم، ونتواضع لهم، ولا نسميهم زنادقة، نعوذ بالله!
بعضهم سمعته -نعوذ بالله- يقول في بعض العلماء، يظن أنهم أخطئوا في فتوى، وقال: هؤلاء عملاء، ما معنى عملاء؟
تقول للعلماء ورثة الأنبياء: عملاء، وبعضهم يسميهم: مرتزقة، وهذا خطأ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف:5].
هم نجوم الأرض، لكن نطرق أبوابهم، لا يطرقون هم أبوابنا، وننتظرهم نحن في الشمس ولا ينتظرونا هم، ونقف نسلم عليهم، ونأخذ بألبابهم، ونبجلهم، وندعو لهم، ولكن عليهم -أيضاً- أن يقفوا لنا، ويفتحوا أبوابهم، ويجلسوا ويتحدثوا لنا طويلاً بالمحاضرات، بالندوات، بالفتيا، بالوعظ، بالتربية، عندنا علماء آلاف كثر، وكلهم نجوم متى ما نزلوا ومتى ما صدقوا، ومتى ما أخلصوا؟!!
فنسأل الله أن يثبتهم ويزيدهم علماً، ونسأل الله أن يرزقنا حكمةً وسداداً في الرأي ورشداً.
هذا ما للعلماء علينا، وهذا مالنا على العلماء.
وللعلماء علينا أن ندعو الله لهم بظهر الغيب، ونطلب منهم أن يدعوا لنا بالثبات والسداد والفقه في الدين، وحينها تتصل المسيرة، ويصلح الحال، ويزيل الله شراً عن البلاد والعباد، وتقوم أمور الأمة على هدى من الله، وهدى من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها الأخيار! انتهت محاضرة (العلماء مالهم وما عليهم) وأشكركم على صنيعكم في حضوركم، وعلى إنصاتكم في استماعكم.
رفع الله منازلكم، وغفر ذنوبكم، وأصلح بالكم، وأحق لكم الحق، ورزقكم اتباعه، وأبطل عنكم الباطل، ورزقكم اجتنابه.
وما بقي من وقت فللأسئلة، وسلام الله وصلاته على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(/11)
العلماء هم الدعاة
يتناول الدرس أهمية الحديث عن الدعاة وعن العلماء، في ظروفنا المعاصرة خاصة حينما انتشر مفهوم خاطيء عند الناس في هذا العصر، وهو: مفهوم التفريق بين العالم والداعي، وبين العلم والدعوة، وبين الفقه في الدين والفقه في الدعوة، وما نتج عن هذا المفهوم من ظواهر خطيرة في الدين، وفي السلوك، وفي الأفكار، وفي المفاهيم .
الحديث عن الدعاة وعن العلماء، أصبح في ظروفنا المعاصرة أمرًا ضروريًا، خاصة حينما انتشر مفهوم خاطيء عند الناس في هذا العصر، وهو: مفهوم التفريق بين العالم والداعي، وبين العلم والدعوة، وبين الفقه في الدين والفقه في الدعوة، وما نتج عن هذا المفهوم من ظواهر خطيرة في الدين، وفي السلوك، وفي الأفكار، وفي المفاهيم. ومنشأ الموضوع في ذهني: أني رأيت كثيرًا من الدعاة، والحركات الإسلامية المعاصرة التي تتصدر الدعوة في العالم الإسلامي، قد نشأ عندها هذا الفصام، وهذا الانفصال المبتدع بين الداعي إلى الله، وبين العالم، أو بين الممارس للدعوة إلى الله - أو المحترف للدعوة- وبين العالم والشيخ، أو بين العلماء وطلاب العلم، وبين الدعاة وأتباع الحركات الدعوية.
ونظرًا لما لهذا الانفصام والخلل من عواقب وخيمة قد تؤدي إلى الافتراق المذموم؛ فلابد من الحديث عن هذا الأمر على وجه النصح لا على وجه النقد، وسأتحدث في هذا الموضوع عن بعض المسائل؛ لأن الموضوع متشعب وطويل، وهو ذو شجون.
المسألة الأولى : في التعريفات المتعلقة بالعنوان: [العلماء هم الدعاة].
مفهوم العلماء : فالعلماء المقصود بهم :العالمون بشرع الله، والمتفقهون في الدين، والعاملون بعلمهم على هدى وبصيرة، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلف الأمة.. الداعون إلى الله على هدى وبصيرة - وهي الحكمة التي وهبهم الله إياها-:} وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا[269] { 'سورة البقرة' والحكمة: العلم والفقه.
فعلى هذا فالعلماء بهذا التعريف: هم الدعاة بداهة، والعلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء هم الدعاة، فأجدر من يتصدر الدعوة بعد الأنبياء ـ وقد انقضت النبوة وانتهت ـ: هم الدعاة؛ لأنهم ورثتهم. والأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا، إنما ورثوا هذا العلم. والدعوة إنما تكون بالعلم؛ فأهل العلم هم الدعاة.
والعلماء: هم حجة الله في أرضه على الخلق، والحجة لا تقوم إلا على لسان داعية بفقهه وبعلمه وبقدوته. فعلى هذا؛ فالعلماء هم أجدر الناس بالدعوة.
والعلماء: هم أهل الحل والعقد في الأمة، وهم أولو الأمر الذين تجب طاعتهم كما قال غير واحد من السلف في تفسير قوله تعالى:} أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ [59] { 'سورة النساء' . قال مجاهد: هم أولوا الفقه والعلم، وإذا كانوا هم أولي الأمر؛ فولايتهم للدعوة من باب أولى.
والعلماء: هم المؤتمنون على مصالح الأمة العظمى ـ على دينها، ودنياها، وأمنها ـ ومن باب أولى أن يكونوا هم المؤتمنون على الدعوة.
والعلماء: هم أهل الشورى الذين ترجع إليهم الأمة في جميع شئونها ومصالحها، وإذا كانوا يستشارون في جميع مصالح الأمة ـ في دينها ودنياها ـ فمن باب أولى أن يكونوا هم أهل الشورى في الدعوة.
والعلماء: هم أئمة الدين، والإمامة في الدين فضل عظيم، وشرف ومنزلة رفيعة، كما قال تعالى:} وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِئَايَاتِنَا يُوقِنُونَ [24] { 'سورة السجدة' .
والإمامة في الدين تقتضي بالضرورة الإمامة في الدعوة، وما الدين إلا بالدعوة، وما الدعوة إلا بالدين.
والعلماء: هم أهل الذكر، والذكر بالعلم والدعوة، كما قال تعالى:} فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ[43] { 'سورة النحل'. فعلى هذا هم أهل الدعوة إلى الله تعالى.
والعلماء: أفضل الناس كما قال تعالى:} يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[11] { 'سورة المجادلة' وأفضل الناس هو الداعي إلى الله.
والعلماء: هم أزكى الناس، وأخشاهم لله، كما قال تعالى:} إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء[28] { 'سورة فاطر'. وإذا كانوا هم كذلك، فهم الأجدر أن يكونوا هم الدعاة على هذه الصفات، وهم الأجدر أن يكونوا هم القواد والرواد في الدعوة.
والعلماء: هم الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر. إذًا فالعلماء هم الدعاة.
والعلماء: هم الذين أشهدهم الله على توحيده، وقرن شهادتهم بشهادته ـ سبحانه ـ وبشهادة ملائكته، وفي هذا تزكيتهم وتعديلهم، فقال تعالى:} شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ[18] {'سورة فاطر'. ومن كانوا كذلك فهم المؤتمنون على الدعوة، وهم الأولى بقيادتها وريادتها.(/1)
هذا على وجه العموم، فالعلماء هم أهل هذه الخصال، ولا يلزم أن تتوفر هذه الخصال في كل عالم، فالكمال لا يكون إلا لله سبحانه لكنهم لا شك أنهم هم أهل هذه الخصال في جملتهم.
والعلماء: لا يمكن أن تخلوا الأرض منهم، وهذا دفعًا لدعوة قد يدعمها بعض الجهلة ممن ينتسبون للدعوات والحركات المعارضة وغيرهم وهي زعم بعضهم: أنه لا يوجد علماء قدوة، أو أن العلماء الذين يمكن الاقتداء بهم مفقودون، أو أنهم يتهمون بمطاعن تسقط اعتبارهم، أو نحو هذا من الدعاوى التي لا تجوز شرعًا ـ بل هي مخالفة للواقع، ومخالفة لصريح النصوص؛ فإن الله تكفل بحفظ هذا الدين، وتكفل بحفظ طائفة من الأمة تبقى ظاهرة منصورة، أمرها بيّن ـ وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا بأهل الحجة والقدوة، وهم العلماء، والصفات التي ذكرتها، تتوفر في كل مكان، وكل وقت بحسبه ـ قوة وضعفًا ـ لكن لا يمكن أن يخلو كل الزمان، وكل المكان في الأرض من العلماء إلى قيام الساعة.
مفهوم الدعاة : أما بالنسبة للدعاة: وقد عرفنا أن العلماء هم الدعاة، لكن تنزلاً للمصطلحات والألفاظ، فإنا نقول: الدعاة هم الداعون إلى الله، على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، على بصيرة - وهي الفقه في الدين -. وأول من تتوفر فيه هذه الصفات هم العلماء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم، أُمِرَ أن يقول بأن سبيله: الدعوة إلى الله على بصيرة، ولا تأتي البصيرة إلا بالعلم والفقه في الدين، قال تعالى:} قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى[108] { 'سورة يوسف' ولاشك أن أتباع الأنبياء بالأولى هم العلماء.
مفهوم الدعوة :هي السعي لنشر دين الله،عقيدة وشريعة وأخلاقًا، وبذل الوسع في ذلك. ويتحقق هدف الدعوة إلى الله بـ : العلم والعمل والقدوة، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح، وهذه الأركان أكثر ما تتوفر في العلماء.
إشكالات مفترضة ، وجوابها : وهنا لابد من الاستدراك، فقد يرد سؤال عند بعض الناس :
أولاً: هل يعني هذا أنه لا يدعو إلى الله إلا عالم ؟ بالطبع لا، بل على كل مسلم عرف شيئًا من الدين، وتبصر به: أن يدعو إليه بعد التبصر، وفقه المسألة التي يدعو إليها، وإنما أقصد أن الذي تتوجه إليه النصوص الشرعية، والذي عليه عمل السلف: أن قيادة الدعوة، وريادتها، وتوجهها، لابد أن تكون من العلماء، وفي العلماء ـ وأقصد : أن العلماء لابد أن يتصدروا الدعوات في كل أمر ذي بال، ولابد أن نجعلهم هم القادة، وهم المرجع، وهم الموجهون في الدعوة إلى الله، ولا يكونوا مجرد مستشارين عند الحاجة كما يفعل كثير من أصحاب الدعوات.
فالعلماء لابد أن يكونوا هم المتصدرون للدعوة، وإن لم يكن الأمر كذلك، فإن في الأمر خللاً لابد من استدراكه، وخطأ لابد من تصحيحه، بل إن لم يكن الأمر كذلك؛ فإن الدعوة ستنحرف- لا قدّر الله .
ثانيًا: ربما يقال: أن العلماء لم يرفعوا راية الدعوة ؟ فأقول: هذا الإشكال لا يصح؛ لأنه ناتج عن قصور في النظرة للعلماء، ذلك أن الأصل في أهل العلم: أنهم يسعى إليهم لأخذ العلم عنهم، ولا يسعوا إلى الناس..وأن يكون لهم سمت أساسه التواضع، وأن يكون لهم حق على الأمة، كما أن الأصل في العلماء: أن لا يرفعوا فوق رءوسهم رايات،ولا يرفعوا شعارات، ولا يطلبوا الانتماءات إليهم ونحو ذلك مما هو من لوازم بعض الدعوات المعاصرة . فالعلماء يُقصدون، ويجب أن يلتف حولهم عامة الناس، وطلبة العلم – خاصة- .
ورفع الرايات والشعارات للدعوات من قبل من لهم شأن في الأمة ليس هو من هدي السلف، فمن رفعه الله بالعلم والتقوى وجب على الأمة أن ترفع قدره. وأقصد: أن إخضاع العلم للدعاية، أو للشعارات، أو الانتماءات لم يكن من خصال السلف، بل هو من خصال أهل الأهواء والفرق.
أما أهل السنة: فهديهم السنة والجماعة وهي ليست شعارًا يرفع، إنما هي سبيل المؤمنين، وصراط الله المستقيم، وسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثانية: بيان أن الأصل في الكتاب والسنة وما اتفق عليه جمهور سلف الأمة أن العلماء هم الدعاة:
وأن الدعاة ـ أصلاً ـ هم العلماء، وأن غيرهم تبع لهم. فكما أسلفت: كل طالب علم، وكل مسلم عليه أن يدعو إلى الله بقدر وسعه، وعلى بصيرة في الأمر الذي يدعو إليه ـ وكل ذلك مشروط بالتبعية لأهل العلم، لأنهم هم قادة الأمة، وهم أهل الحل والعقد فيها، وهم جماعتها .
المسألة الثالثة: في التفصيل في هذه الظاهرة التي أشرت إليها:
وهي: الفصل بين علماء الشرع، أهل الفقه في الدين، وبين الدعاة. أو بين العلم والدعوة ـ أي طلب العلم الشرعي والدعوة، وهذا الفصل تركز في أذهان كثير من المسلمين، لأسباب كثيرة، سأذكر شيئًا منها فيما بعد.(/2)
وهذا المفهوم الخاطئ لم يتركز في الأذهان فقط، بل حتى في الواقع أي فيما تعيشه الدعوات، وما يعيشه الدعاة في كثير من بلاد العالم الإسلامي، وكما أسلفت كان التفريق بين العلماء والدعاة من سمات أهل البدع، حيث إنهم اتخذوا رءوسًا جهالاً. والداعية عند أهل الأهواء والبدع: هو من يخضع لأهوائهم، ويلتزم بها، ويقول بمقولاتهم وينشرها وينتصر لها، ولو لم يفقه من الدين شيئًا.
ونجد هذا جليًا في الفرق الأولى، كالخوارج، فإن دعاتهم ليس هم العلماء الأكابر، لا فيهم ولا من غيرهم، بل بضاعتهم في الفقه والعلم قليلة، وعلى غير طريق سليمة. وكذلك الرافضة: دعاتهم جهالهم، بل أجهل الناس وأقلهم أحلامًا، وهكذا المعتزلة، والقدرية، وأهل الكلام، وسائر الفرق على هذه السمة ـ غالبًا على تفاوت بينهم. فأهل الافتراق هم الذين يفصلون بين الدعوة وبين الفقه في الدين؛ لأنهم ـ أصلاً ـ يقل فيهم الفقه في الدين. وأكثر زعاماتهم ودعاتهم إنما يمتازون بالولاء للافتراق، وبالولاء للمقولات التي هم عليها ـ ولا يفقهون من الدين إلا القليل، ومنهم من لا يفقه شيئًا.. وأغلب دعاة هذه الفرق والذين نشروها في الأقاليم الإسلامية قديمًا من العوام ومن الجهلة الذين لهم أهداف وأغراض شخصية أو شعوبية، أو عصبيات، أو من يسيطر عليهم الجهل المهلك.
المسألة الرابعة :
أن هذه الخصلة سمة ظاهرة، وبدأت تظهر في كثير من الدعوات المعاصرة، وكثير من الحركات الإسلامية ـ وإن كانت في خارج هذه البلاد أكثر- لكن لا يسعنا إلا أن نتكلم عنها لأسباب:
أولها : أننا لا بد أن نحمل هموم جميع المسلمين في كل بقاع الأرض، وهذا واجب شرعًا على كل داعية. فعل كل عالم أن يحمل هم المسلمين في جميع بقاع الأرض. والمسلمون الأصل فيهم أنهم أمة واحدة، ومقتضى النصح والإشفاق عليهم: بيان ما فيهم من خير وتشجيعهم عليه، وبيان ما فيهم من أخطاء، والتنبيه عليها، ونصحهم بالعدول عنها. ومن هذا المنطلق سأتوقف كثيرًا عند ذكر بعض ظواهر الخطأ في هذا الموضوع، في بعض الحركات الإسلامية خارج هذه البلاد.
وثانيها : أن بعض هذه الظواهر ـ أي الفصل بين العلماء والدعاة ـ بدأت تظهر عند طوائف الشباب ـ عندنا ـ ، وبعض المفكرين، وبعض المثقفين، لسبب أو لآخر. فمن هنا كان لابد من الكلام عن أوضاع الدعوات المعاصرة، بمجملها، في جميع العالم الإسلامي، وليس في بلد واحد.
أعود إلى هذه الخصلة ـ أو هذه السمة التي وقع فيها كثير من الدعاة والدعوات المعاصرة، وهي: أن الدعاة عندهم غير العلماء، والداعية غير الشيخ، وهذا المفهوم بدأ يتركز في أذهان بعض الشباب وقد تأصلت هذه المفاهيم حتى في أعمال الدعاة، وفي حركاتهم، وفي مواقفهم، وفي مناهجهم، فصاروا يفصلون بين العالم والشيخ وبين الداعية. وأدى ذلك الفصل إلى عواقب وخيمة.
فالداعية عندهم: هو من ينشط في الدعوة، لتحقيق مراد أصحابها، أو لتحقيق أهدافها، أو يواليها ويرفع شعارها، ويجمع الناس حوله على هذا الشعار.. هذا هو الداعية عند كثير من الدعوات المعاصرة ـ بصرف النظر عن علمه وفقهه، بل الغالب أنه من قليلي الفقه وقليلي العلم الشرعي . والمشايخ بمفهوم هؤلاء ـ القاصر ـ ليسوا دعاة، ولا يصلحون لأن يسهموا في الدعوة أو يدخلوا في إطارها ـ أو نطاقها، لأن فيهم وفيهم. وبسبب هذا الفصل ظهرت أمور، ستشير إلى شيء منها .
المسألة الخامسة : من نتائج الفصل بين العالم وبين الداعية:
بسبب فصل بعض الدعاة بين الشيخ 'العالم' والداعية، ظهرت أمور سلبية نراها جلية في كثير من الدعوات الإسلامية، ومن هذه الأمور:
أولاً: اتخاذهم رؤساء جهالاً: أغلبهم لا يفقهون من الدين إلا ما يحلو لهم. وغاية ما يملك بعضهم من العلم، إنما هو مجرد أفكار وثقافات أشتات، زَادُ كثيرٍ منهم: مجرد العواطف والحركة، حتى كاد أن يكون مصطلح الداعية عندهم من ليس بعالم، وأن العالم ليس بداعية، وأحيانًا يقولون: فلان داعية أي: ليس بعالم، وفلان شيخ من المشايخ أي: ليس بداعية! وهذا وقوع فيما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم ، من اتخاذ رءوس جهال، يفتون بغير علم، فيَضِلُوا ويُضِلُوا.
ثانيًا: قلة وجود العلماء والمشايخ، المتفقهين في الدين، المتضلعين في العلوم الشرعية بينهم، وفي أكثر الدعوات المعاصرة: مع أن وجود أهل العلم المتفقهين في الدين؛ شرط من شروط الدعوة إلى الله، خاصة في الدعوات الكبرى، التي ينضوي تحت لوائها جماعات وفئام من الناس. فهذه لا ينبغي أن يفقد فيها العالم، أو أن يكون العالم فيها مغمورًا، أو لا يتصدر الدعوة.(/3)
ثالثًا : قصور النظرة في فهم قدر العلماء والمشايخ، وبمنزلتهم عند كثير من أتباع هذه الدعوات: فمن هنا وجد من بعضهم اتهام للعلماء بالقصور، أو التقصير، أو قلة الوعي، أو أي نوع من أنواع التنقيص؛ لتبرير عدم صلة الدعاة بالعلماء. بل إن بعض الدعاة يرفع نفسه ودعوته على حساب الكلام في أعراض العلماء، وهذا الأمر ـ وإن كان مؤلماً ـ لكن لابد من ذكره، ولابد من السعي لعلاجه.
رابعًا: تورط بعض شباب الأمة بالانتماء للشعارات والقيادات الدعوية، وليس للمشايخ والعلماء: بل أصبح الانتماء للشعار والجماعة أكثر منه للسنة والجماعة وأهل العلم.
خامسًا: فصل الشباب عن أئمتهم وعن مشايخهم وعن علمائهم: ومن ثَمَّ حجبهم عن: النظرة الشرعية الشمولية للدعوة إلى الله، وغاياتها ومناهجها، وحجبهم عن الاهتداء بهدي أئمة السنة قديمًا وحديثًا، بل إن بعض الجماعات تربي شبابها على جوانب من مناهج السلف تخدم أهدافها، أو تخدم الجماعة وشعاراتها، وتغفل الجوانب الأخرى والسنة والعلم وسير أهل العلم، وهذه من أساليب أهل الأهواء وأهل البدع، يأخذون من الأئمة ما يحلو لهم من قول أو فعل، ويتركون الباقي. وهذا خلل في النظرة، وخلل في النهج.
سادسًا: نتج عن الفصل بين الدعاة والعلماء: كثرة الشعارات والأهواء والانتماءات والافتراقات والعصبيات لجماعات أو لأشخاص، مع العلم أن الأمة لا يجمعها على السنة والخير إلا علماؤها. ومهما بالغت الجماعات والدعاة في أي مكان وزمان للسعي إلى جمع المسلمين دون الاسترشاد بأهل العلم، ودون أن يجعلوا العلماء قادة وموجهين ومرشدين وأئمة للدعوات؛ فإن الشمل لن يجتمع.
نعم لن يجتمع شمل الأمة إلا بالالتفاف حول علمائها. وهذا الخلل سبب رئيسي في كون الجماعات تتنافر ولا تتفاهم، وتفترق وتفرّق أكثر مما تجتمع وتجمع، وواقعها شاهد بذلك.
سابعًا: نتج عن العزل بين العلماء وبعض الدعوات المعاصرة: وأقول البعض حتى لا نظلم الذين هم على الاستقامة؛ أن نشأت لبعض الدعوات مناهج وأفكار وكتب ومؤلفات معزولة عن السنن، وعن العلوم الشرعية بشموليتها، بل وحتى بتفصيلاتها. وصارت كل طائفة تأخذ من العلوم الشرعية ما يناسب أوضاعها، وهذا أسلوب من الأساليب الخاطئة التي تخالف منهج السلف، حتى نشأ للدعوة في العالم الإسلامي علم يشبه علم الكلام لدى الجماعات في ارتباطه بالأهواء والأشخاص، لا بارتباطه بالسنة والأئمة.
وقد برزت في الآونة الأخيرة، نتيجة لهذا الفصل بين الدعاة والعلماء: دعوات كبرى، قوامها وركائزها رؤساء ليسوا بعلماء، وتعتمد على أفكار وحركات محدثة، تخالف هدي الإسلام، وعلى عواطف لا تضبطها القواعد الشرعية، ولا المصالح المعتبرة.
ثامنًا : كما نتج عن هذا: التقصير في طلب العلم الشرعي على أصوله ومناهجه السليمة الصحيحة، بل ونتج عن ذلك عند أصحاب الدعوات التي تفصل بين العلماء والدعاة: الحيلولة بين أتباعها وبين تحصيل العلم من المشايخ. بل كثيرًا ما ترد إشكالات من بعض الشباب في شتى بلاد العالم الإسلامي، من صرف بعض الدعاة لأتباعهم عن العلماء بذرائع شتى، حتى أن بعضهم قد يعاقب الشاب الذي ينتمي إليه لماذا جلس يطلب العلم الشرعي على الشيخ فلان !!
ونتيجة لذلك حصل الخلل في المفهوم، فقد فهم بعض الدعاة بسبب العزلة بينهم وبين المشايخ: أن المشايخ خصوم، أو أعداء للدعوة، أو أن لديهم ما يضر بالمنتسب للدعوة، أو ما يشوش أفكاره عليها. وسبب ذلك: أن في دعواتهم أمراضًا ومصائب لا يرضاها العلماء، وقد ينتقدونها. ومن هنا تعللوا بصرف شبابهم عن العلماء وأهل العلم والفقه في الدين. وهذا مسلك خطير يجب ألا يستمر عليه من ينشد الحق والإصلاح، ولذلك وجب مناصحة أولئك الدعاة، وبيان الحق لهم.
تاسعًا: ظهرت فئام من الجماعات والدعاة والشباب في البلاد الإسلامية وغيرها: على قلة في الفقه، وضعف في العلم، أو تتلمذوا على الأقل علمًا واتخذوا شيوخهم الأصاغر، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك حيث قال:'إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَاعَةِ أَنْ يُلْتَمَسَ العِلْمُ عِنْدَ الأَصَاغِرِ' رواه الطبراني في الكبير والأوسط وابن المبارك في الزهد واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد . وهذا ـ والله أعلم ـ يشمل الأصاغر في العلم والقدر والسن ـ وكل ذلك حاصل في هؤلاء .(/4)
أو شيوخهم: كتبهم، وما يرشحونه من كتب فكرية أو ثقافية. وأغلب ما تعتمد هذه الجماعات على الكتب الفكرية والثقافية أكثر من الكتب الشرعية، بل فيهم من يتنكر لكتب السلف. وقادتهم ـ مع الأسف ـ جهالهم. وأحكامهم: أهواؤهم، مما أدى إلى الخلط والخبط والاضطراب عند بعض هؤلاء في العقائد وفي الأحكام، وفي المواقف، وفي التعامل مع الآخرين، وفي النظرة إلى قضايا الأمة الكبرى، وفي التصرفات الطائشة التي تحدث من بعضهم، وفي صدور الأحكام المتعجلة، ونحو ذلك من المظاهر التي نراها في فئة من الشباب - وإن كانت والحمد لله قليلة- ولكن القليل في مثل هذه الأمور لا ينبغي الاستهانة به، بل ينبغي علاجه؛ لأنه إذا كثر قد يصعب، بل قد يستحيل علاجه.
المسألة السادسة:كلمة إنصاف:
وسأتكلم فيها عن نوعين من الدعاة:
النوع الأول : غالب الشباب من طلاب العلم الشرعي عندنا في هذه البلاد، أشهد أني أرى عليهم علامات الرشد، والالتفات حول العلماء، والاسترشاد بأهل العلم والتلقى عنهم ـ وهذه ظاهرة سارة، وهي الأصل، وينبغي أن نشجع الشباب عليها، وسائر طلاب العلم، كما أني أرى من المظاهر السارة للشباب هنا: استقامة العقيدة، واستقامة السلوك، والحرص على تلقي العلم الشرعي بمناهجه وأساليبه الصحيحة من مصادره الأصلية: كتب السلف المستمدة من الكتاب والسنة، وتلقيه على أهله، وهم العلماء، والمشايخ الذين هم القدوة. وهذه ظاهرة تبشر بالخير، وهي نتيجة طبيعية لأخذ العلم الشرعي عن أهله، لكن مع ذلك هناك بعض الظواهر التي أشرت إليها والتي هي ـ أحيانًا ـ قد تكون من النتائج التي تصحب مثل هذا الإقبال الكبير على الخير، والحمد لله فإن غرس الله ظهر، وريح الإيمان هبت، وإقبال الشباب منقطع النظير، وهذا الإقبال على الخير والصحوة المباركة أمر يجب أن نفرح به، وأن نستبشر به في الجملة وهي علامة خير، ولله في ذلك حكمة يعلمها. ولا يمكن أن يكون هذا الإقبال على الخير مجرد ظاهرة اجتماعية، أو مجرد رد فعل لأوضاع سيئة- كما يقال- الأمر أكبر من ذلك، الأمر هو من مراد الله، ومن سننه التي لا تتبدل ولا تتخلف، فقد بلغ السيل الزبى، وقد طغى الزبد، ولابد أن يذهب الزبد جفاء، ولا يمكن ذهابه إلا بجهود بشر، والبشر الذين يصطفيهم الله لابد أن يكونوا على علم وفقه في الدين، وأظن أن الله هيأ هذا الجيل الطيب؛ ليقوم بدور عظيم طالما تخلف عنه المسلمون في هذا العصر من نصرة الإسلام، ونصرة الحق، وهذا قدر الله وأمره، وهو سنة الله، ولا راد لسنة الله، لكن مع ذلك قد يأتي الخير ببعض الشر وبعض الشذوذ مثل: التشدد في الدين، أو الأهواء ونزعات الافتراق، مصداقًا لخبر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لابد من علاج هذه الظواهر، والتي تنشأ بشكل طبيعي بين ثنايا الاتجاه العارم إلى الخير.
النوع الثاني : وهو الدعوات في الخارج، لابد من كلمة إنصاف في حقها، لأني حين تكلمت عن بعض الظواهر المخالفة للسنة فيها ولديها كان كلامي فيه شيء من العموم، وأنا قصدت أن أبدأ به مع أنه كان من الأولى أن أنصفها أولاً، بأن أقول أو أذكر الجوانب الإيجابية والخيرة في الدعوات في سائر العالم الإسلامي. لكن عذري أن الموضوع متعلق بمسألة معينة: وهي الفصل بين العلماء والدعاة، فكان لابد من إشعاركم بهذه المظاهر، ثم أعود فَأُقًوِّمُ بقدر جهدي الدعوات المعاصرة في شتى العالم الإسلامي وغير الإسلامي، التي تحمل لواء الدعوة فأقول:
إن فيها خيرًا كثيرًا برغم ما يعتريها من نواقص ومن خلل. وإذا قارناها بأحوال المسلمين، فإنها أصلح من أحوال عامة المسلمين، ورجالها ودعاتها وشبابها لاشك أنهم أحسنوا حين قاموا بواجب قصر فيه غيرهم، ويكفيهم أنهم احتسبوا الدعوة إلى الله ـ سبحانه وتعالى ورفعوا راياتها وتحملوا المشاق والعداء من أجل الإسلام. وانتصروا للإسلام في قضاياه الخارجية والداخلية، كل منهم بقدر جهده وبأسلوبه، وهذا فضل لهم لابد أن يذكر ويشكر. وحقهم علينا النصح والإرشاد والتسديد والعون على البر والتقوى والدعاء لهم بالغيب.
ثم إن الدعوات المعاصرة ليست كلها وقعت فيما ذكرت،وإنما البعض منها، وإلا ففيها من هو في الجملة على السنة والاستقامة في السلوك والعمل والنهج، وفيها من يتلقى من العلماء، وفيها الأسوة، وفيها القدوة، لكنها ليست هي الكثير. بل الأكثر من أصحاب الشعارات والدعوات الكبرى هم من ذكرت ممن تكثر فيهم الأخطاء، وما هم فيه من أخطاء يستوجب التحذير منها أولاً. وثانيًا: يستوجب النصح لهم والإرشاد والبيان، وأحسبهم إن شاء الله ممن يريد الحق ويسعى إليه، لأنهم كما أحسبهم إن شاء الله ممن يريد الحق ويسعى إليه، وما رفعوا لواء الدعوة إلا حسبة لله، وإلا بحثًا عن الحق، ومن هنا أتعشهم فيهم وأنتم كذلك: أن يكونوا من رواد الحق وأن يقبلوا النصيحة.
المسألة الأخيرة:الحل:(/5)
الحل ينبغي أن تتبناه جماعة المسلمين المتمثلة في علمائها وطلاب العلم فيها، أو طائفة منهم تنوب عن سائرهم وتتصدى للحل.
وأرى أن ترفع مثل هذه المشكلات المعلقة بالدعاة والدعوات بعرض وافٍ ومفصل لأهل العلم، ونعرضها على العلماء بأفرادهم ومؤسساتهم وبهيئاتهم في كل بلد بحسبه، ولا مانع أن جميع أحوال العالم الإسلامي تعرض على علماء بلد معين أو أكثر إذا رئي أنهم هم الأمثل، وأن منهجهم هو الأسلم، لكن مع ذلك لابد - وقد طرح الموضوع - أن نسهم جميعًا في بيان بعض وجوه الخلل، ونقترح الحلول، كما أرى على جهة البسط أن من الحل لمثل هذه الظاهرة، وهي الفصل بالجفوة المفتعلة بين العلماء والدعوة، أو بين العلم والدعوة ما يلي :
أولاً : ضرورة اهتمام العلماء وطلبة العلم بهذا الأمر: دراسة ومعالجة، وأن تتفرغ طائفة من المشايخ من أهل العلم الشرعي وأهل الفقه في الدين لهذا، وتعطف على الحلول للنصح بها لهؤلاء الذي وقعوا فيها. ومن ذلك: تأليف الكتب والرسائل التي تعالج هذه القضايا، والإسهام بالمقالات وغيرها في وسائل الإعلام المشروعة وغير ذلك.
ثانيًا:لابد أن تنتقل طائفة من العلماء وطلاب العلم المؤهلين في البلاد الإسلامية: ليرشدوا الناس، ويرشدوا الدعاة، وإن كان هذا هو خلاف الأصل، فالأصل أن العلماء يسعى إليهم ويسافر من أجلهم ويؤخذ العلم عنهم، ولا يسعوا هم إلى الناس لكن أرى أنه لا مانع في هذه الظروف العصيبة، وفي هذا العصر والوضع الذي نعيشه: أن تسافر طائفة من العلماء وتنتقل إلى شتى أقاليم المسلمين، بل وحتى إلى البلدان غير الإسلامية التي يوجد بها مسلمين، ويوجد بها دعوة إلى الله. لابد أن تتحمل طائفة من العلماء السفر والذهاب إلى أولئك بل وربما الإقامة بينهم، لتعلمهم الفقه الشرعي، ولإرشادهم فيما يجب أن يسترشد به في أمور دينهم ودنياهم، خاصة في أمور الدعوة.
ثالثًا: يجب على جميع منتسبي الدعوات ـ وخاصة الذين يتصدرون للدعوة أن يتفقهوا في الدين: ويطلبوا العلم على أهله وبالطرق الشرعية الصحيحة، وأن يكون هذا من مناهج الدعوات نفسها بأن تكثر من الدروس الشرعية، ومن حلق الذكر والعلم، أو لا تمنع منسوبيها من تلقي العلم عن أهل الفقه في الدين، بل تسعى إلى دفعهم إلى ذلك؛ تحقيقًا للخبر الذي وعد الله به كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [مَنْ يُرِدْ الله بِهِ خَيْرًا، يُفَقِّهُ فِي الدِّينِ] رواه البخاري ومسلم.
رابعًا: أرى ضرورة المناصحة المباشرة من كل من يرى خطأ في هذه الدعوات: لكل من نراهم أو نستطيع أن نتصل بهم، ولو بالمراسلة . نعم تجب مناصحة هؤلاء الدعاة من كل مسلم يرى هذه الأخطاء، ولا ينبغي له السكوت عليها، لأن هؤلاء الدعاة بل وعامة المسلمين لهم حق على كل من يرى انحرافًا أو خطأ فيهم ـ وخاصة الأخطاء الخطيرة التي ربما تؤدي إلى الاختلاف والافتراق . ولا نأمن أن تكون فتنة على الجميع إذا تركت.
والمناصحة تكون بالأسلوب الشرعي الذي يحقق المصلحة وأقصد بهذا أن بعض وجوه المناصحة القائمة الآن والتي لا تخلو من التجريح والتشهير أخشى ألا تجدي ولا تفيد، بل ربما تؤدي إلى تمادي بعض الناس في الأخطاء؛ لأن أكثر وسائل النصح من المؤلفات والكتب التي كتبت وتكتب في نقد بعض الدعوات والدعاة فيها شيء من التهجم والقسوة والتجريح والسب واللمز والحكم باللوازم.
وهذا لا أظنه أسلوب إصلاح، فأسلوب الإصلاح هو:
أن تتغاضى عند المناصحة عما يثير في الخصم العناد، أو التمادي في باطله، وتسلك المسالك التي هي أقرب إلى الإشفاق والنصيحة وحب الخير وحب الاستقامة للآخرين. وهذا هو المنهج الذي يحسن أن يسلك في تقويم الدعوات جميعًا، خاصة في هذا الوقت.
فالمناصحة يجب أن تتركز على النقد الهادف المنصف المشفق الناصح، وأن يصحبها شيء من الرفق، وإقامة الدليل ، وبيان الحجة دون الإشارة إلى الخطأ الجارح، أو اللمز به، أو السب، أو التجريح، أو غير ذلك. ولا مانع عند البيان والتقويم العام من ذكر أخطاء الدعوات، ولكن بشرط ألا نشخص ولا نشهر ولا نسمي لغير ضرورة، وإنما على القاعدة الشرعية التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينصح بها وهي: [مَا بَالُ أَقْوَامٍ]. فأسلوب المناصحة الشرعي يجب أن يكون بعيدًا عن التهجم والقدح والتجريح، أو الإلزام بما لا يلزم، أو حتى الإلزام بالخطأ، وإن كان واضحًا صريحًا.
خامسًا: من الوسائل التي لعلها تنفع: ينبغي على الدعاة والمشايخ وأهل العلم أن يعززوا من دور المؤسسات، والمنظمات الإسلامية، والمراكز الإسلامية النزيهة: كندوة الشباب- على سبيل المثال- وغيرها من المراكز والمؤسسات المشابهة، فإن فيها خيرًا كثيرًا ـ ولو أنها دعمت وسخرت لها بعض طاقات أهل العلم؛ لتحقق من خلالها نفع كثير، لأن لها صلة بكثير من المراكز والدعوات، وعندها من الإمكانات والتجارب والوسائل ما لم يوجد عند أفراد العلماء الدعاة .
وأخيرًا(/6)
فإنه لابد من تصحيح المفاهيم بكل وسيلة مشروعة بالكتاب، وبالكلمة، وبالمناصحة الشخصية، وبوسائل الإعلام، وبالأشرطة.. وتصحيح المفاهيم يجب أن يبني على الأسس الشرعية التي تهدف إلى الإصلاح، وأن نتفادى فيها كل ما يحول بيننا وبين إصلاح أحوال الآخرين من إخواننا المسلمين.
والمناصحة كذلك لابد أن تبنى على: العدل في القول، والإنصاف في الحكم، وحسن الظن، وهو أن الأصل في المسلمين الخير، والأصل فيهم حسن القصد، وهذا أساس التعامل بين المسلمين، ثم بعد ذلك لا مانع من توجيه الخطأ والنصح فيه.. وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من رسالة:'العلماء هم الدعاة' د. ناصر بن عبد الكريم العقل(/7)
العلماء وقضايا الأمة عبد الله محمد زُقَيْل*
إن للعلماء مكانةً عظيمةً في الأمة الإسلامية ، فهم حملة الشريعة ، وورثة الرسالة ، فالأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم ، ومهمة العلماء في الإسلام تختلف عن رجال الدين في الأديان الأخرى ، لذلك من الخطأ أن يقال عن علماء الأمة (رجال الدين) قال الشيخ بكر أبو زيد في معجم المناهي اللفظية ( ص 280 ) : '' ولهذا لا تجد في المعاجم الإسلامية ما يسمى برجال الدين ، وإنما تسربت بواسطة المذاهب المادية وخاصة العلمانية '' .ا.هـ.
والأمة الإسلامية عندما تنزل بها النوازل وتصابُ بالفتن المدلهمة فإن الناس تَشْخَصُ أبصارهم وأفئدتهم إلى العلماء العاملين ينتظرون منهم المواقف المشرفة ، ولا شك أن انزواء العلماء عن أحداث الأمة يعطي المجال للأصاغر والرويبضة للخوض فيها ، بل قد تكون العواقب وخيمةً .
ولقد سجل لنا التاريخ مواقف مشرفة لبعض العلماء غيرة على نبينا صلى الله عليه وسلم ونصرة له عندما شُتم وطُعن فيه وكانت مواقفهم إما بالإنكار على أرض الواقع أو بالإجابة على فتوى ، ومن أشهرها موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من النصراني عساف الذي سب الرسول صلى الله عليه وسلم ، فوقعت محنة عظيمة ، ضرب فيها شيخ الإسلام وسجن ، فألف بسببها كتابه العظيم : '' الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم '' .
وهذ ا السبكي - رحمه الله - في '' السيف المسلول على من سب الرسول '' يبين سبب تأليفه للكتاب فيقول : كان الداعي إليه أن فُتيا رفعت في نصراني سب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلم ، فكتبت عليها : يقتل النصراني المذكور كما قتل النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن الأشرف ، ويطهر الجناب الرفيع من ولوغ الكلب ... وليس لي قدرة أن أنتقم بيدي من هذا الساب الملعون ، والله يعلم أن قلبي كاره منكر ، ولكن لا يكفي الإنكار بالقلب ها هنا ، فأجاهد بما أقدر عليه من اللسان والقلم ، وأسأل الله عدم المؤاخذة بما تقصر يدي عنه ، وأن ينجيني كما أنجى الذين ينهون عن السوء ، إنه عفو غفور .ا.هـ
وهذا ابن عابدين في رسائله يقول عن شخص تطاول على النبي صلى الله عليه وسلم : وإن كان لا يشفي صدري منه إلا إحراقه وقتله بالحسام .
فهذه بعض المواقف للعلماء المتقدمين ... وفي حادثة الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم هذه الأيام برزت مواقف رائعة للعلماء وطلاب العلم بل حتى العوام والأطفال وكبار السن فقاموا قومة رجل واحد محبةً وغيرةً ونصرةً للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن عكر صفوها ما تفرد به بعض إخواننا - عفا الله عنهم - من دعوة إلى مؤتمر في أرض الدولة التي أساءت إلى نبينا صلى الله عليه وسلم الدنمارك ولمَّا تقدم اعتذاراً أو تراجعاً عن موقفها ، وهو مؤتمر لم يُرجع فيه إلى العلماء ، فكان صوتاً مخالفاً لرأيهم ، بل سبب فرقة في الآراء بين الناس ، فليتهم استشاروا من هم أعلم منهم وإنما شفاء العي السؤال ، ولكن جاء خبر انعقاد مؤتمر نصرة النبي صلى الله عليه وسلم في البحرين مفرحاً ومخففاً والآمال معقودة عليه في الخروج بقرارات قوية نصرة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم .(/1)
العلمانية التاريخ والفكرة ... ... ...
يتردد كثيراً في وسائل الإعلام والمنتديات وعلى المنابر مصطلح " العلمانية " والقليل من الناس من غير المتخصصين من لديه معلومات دقيقة , أو مفاهيم محددة واضحة عن العلمانية, ولعلي في هذه الكتابة أسهم في بيان وتوضيح وكشف هذه الجوانب عن العلمانية , مع الاعتراف بصعوبة ذلك في الكتابة الصحفية , لما تستدعيه من الاختصار والإيجاز, ولما عودته الصحف للناس من البساطة والخطابية وعدم التوثيق العلمي الأكاديمي المتعارف عليه في الجامعات.
أصل العلمانية ترجمة للكلمة الإنجليزية " secularism " , وهي من العلم فتكون بكسر العين , أو من العالم فتكون بفتح العين , وهي ترجمة غير أمينة ولا دقيقة ولا صحيحة , لأن الترجمة الحقيقية للكلمة الإنجليزية هي " لا دينية أو لا غيبية أو الدنيوية أو لا مقدس" , لكن المسوقون الأول لمبدأ العلمانية في بلاد الإسلام علموا أنهم لو ترجموها الترجمة الحقيقية لما قبلها الناس ولردوها ونفروا منها, فدلسوها تحت كلمة العلمانية لإيهام الناس أنها من العلم, ونحن في عصر العلم, أو أنها المبدأ العالمي السائد والمتفق عليه بين الأمم والشعوب غير المنحاز لأمة أو ثقافة .
وكان أول من طرح هذا المصطلح في الساحة الثقافية العربية نصارى بلاد الشام في القرن التاسع عشر , وكان أول من طرح هذا المصطلح - حسب علمي - " إلياس بقطور " وهو نصراني لبناني في معجم (عربي / فرنسي) ثم طرحه بعده " البستاني " في معجميه الذَين ألفهما .
• العلمانية بضاعة غربية :
لقد نشأت العلمانية في الغرب نشأة طبيعية نتيجة لظروف ومعطيات تاريخية - دينية واجتماعية وسياسية وعلمانية واقتصادية - خلال قرون من التدريج والنمو الطبيعي ، والتجريب والتكامل , حتى وصلت لصورتها التي هي عليها اليوم , وأهم هذه الظروف والمعطيات التي برزت وأنضجت التجربة العلمانية في الغرب هي :
1- طبيعة الديانة النصرانية ومبادئها الأساسية التي تقوم على الفصل بين الدين والدنيا , أو بين الكنيسة والدولة ونظم الحياة المختلفة , فهي ديانة روحية شعائرية لا شأن لها بنظم الحياة وشؤون الحكم والمجتمع , يعبر عن ذلك الشاعر النصراني " دع ما لله لله , وما لقيصر لقيصر " ..! ولهذا فإن النصارى أمماً وشعوباً حين يندفعون للبحث عن تنظيم أمور حياتهم, في العلمانية أو غيرها, لا يشعرون بأي حرج من ناحية دينهم ومعتقداتهم , بل إن طبيعة دينهم تدفعهم لهذا الأمر , ولذلك فإن نشأة العلمانية وانتشارها وسيادتها في المجتمعات الغربية أمر طبيعي .
2- الصراع الذي نشأ بين الكنيسة والكشوف العلمية في جوانب الحياة المختلفة , فعلى الرغم من أن الديانة النصرانية ديانة روحية صرفة إلا أن المؤسسة الكنسية تبنت بعض النظريات العلمية القديمة في بعض العلوم , ثم بمرور الزمن جعلتها جزء من الدين يحكم على كل من يخالفها بالردة والمروق والهرطقة , وحين تطورت العلوم الطبيعية تبين أن الكثير من تلك النظريات كانت خاطئة وخلاف الصواب والحقيقة , وانبرت الكنيسة تدافع عن تلك الأخطاء باعتبارها من الدين , واشتعلت الحرب , وسقط ضحايا التزمت الخرافي والتعصب الأعمى غير المبرر من علماء الطبيعة ما بين مقتول ومحروق ومشنوق , ومارست الكنيسة أقصى درجات القمع الفكري والبدني على معارضيها بزعمها , وجنت الكنيسة على الدين حين صورته للناس دين الخرافة والدجل والكذب , بسبب إصرارها على أن تنسب إليه ما هو منه براء .
وحين تكشفت للناس الحقائق وقامت البراهين القاطعة على صحة أقوال أهل العلم انحازوا للحقيقة ونبذوا الكنسية ودينها ، أو على الأصح ردوا الديانة النصرانية المحرفة إلى أصلها وطبيعتها وحقيقتها ، لا شأن لها بالعلم والحياة والنظم والكشوف ، فكان ذلك دفعة جديدة لسادة العلمانية ، تدعمها الكشوف العلمية والعقول المفكرة ، وقد أدى انتصار العلم في النهاية إلى ثورة علمية وكشوف جغرافية ، فكان أن … :(/1)
3- قامت في الغرب حركة اجتماعية فكرية سياسية شاملة نفضت غبار الماضي ، وثارت على كل قديم ، واحتدمت نيران الصراع بين القوى الاجتماعية والسياسية الجديدة والقوى القديمة التي يمثلها الإقطاع وطبقات النبلاء ، وانحازت الكنيسة أيضاً للقوى القديمة ، بينما كانت القوى الجديدة تطالب بالحريات المساواة ، وترفع شعار حقوق الإنسان ، ويدعمها العلم وحقائقه ، وتطور الحياة وسنتها ... فالتفت الشعوب والجماهير حول القوى الجديدة الداعية إلى التقدم الاجتماعي والتطور الفكري والسياسي ، وكان يدعم هذا التوجه ما عاشته الشعوب من ظلم واستغلال بشع في ظل الإقطاع والكنيسة ، وكانت العلمانية اللادينية هي اللافتة والراية التي اجتمعت القوى الجديدة تحتها, وبانتصار هذه القوى انتصرت العلمانية, واندحرت النصرانية وأخذت القوى الجديدة تبشر بعصر جديد يسعد فيه الإنسان، وتحل جميع مشكلاته، ويعم السلام والرفاهية والرخاء جميع الشعوب، وهو ما لم يتحقق إلا بعضه كما سنرى بعد قليل .
• نتائج العلمانية في الغرب :
حين تحرر الإنسان الغربي من سيطرة الكنيسة والإقطاع تحرر من سيطرة الخرافة والدجل والظلم، ورافق ذلك بزوغ فجر التقدم الصناعي والثورة العلمية، وحين أخذت الشعوب الغربية بالنهج العلماني الجديد في إطار المستجدات العلمية والفكرية والسياسية الجديدة كانت نتائج ذلك :
أ- التقدم العلمي الهائل :
إذ أن العقل الغربي الذي كان أسير الأساطير تاريخياً، والخرافة دينياً وعلمياً، تحرر من ذلك كله وانطلق يبحث ويجرب ويفكر ويتقصى ، فأبدع في هذا المجال بما لم تعرفه البشرية في تاريخها، وقدم الغرب للإنسانية من نتائج علمه ثورة صناعية هائلة غيرت وجه الأرض وطبيعة علاقة الإنسان بالبيئة المادية من حوله .
ب- الرخاء الاقتصادي الواسع الذي أصبحت تعيشه الشعوب الغربية ولم تحرمه شعوب العالم الأخرى :
إذ إن منجزات العلم وظفت في العديد من جوانبها لرفاهية الإنسان في ضرورياته من غذاء وكساء وعلاج وسكن وخدمات، بل تجاوز كثير من الشعوب توفير الضروريات إلى التوسع في الكماليات بصورة مميزة لم تعرف لها البشرية مثيلاً في الجملة وبصورة عامة .
ج- الاستقرار السياسي :
واستبعاد صور وأشكال العنف في التعبير عن الآراء والتوجهات السياسية ، وترسيخ آليات وأخلاقيات وقوانين وأعراف للحوار أو الصراع السياسي، وتوفير ضمانات للحريات السياسية في آلياته ووسائله وأساليبه- لا في فلسفته ومحتواه الفكري- أمن وسلام على الشعوب الغربية بعد عصور الدماء والتطاحن والثورات ، وأصبح مثالاً يحتذى من كافة شعوب الأرض ، ويسعى الجميع لاستيراده وتطبيقه باعتباره نهاية التاريخ ، وغاية التطور، وسقف الحضارة الذي لا يمكن تجاوزه
د- احترام حقوق الإنسان وحرياته :
وبالذات الإنسان الغربي، وبالمفهوم الغربي أيضا للحقوق والحريات، حيث أصبح زعيم أكبر وأقوى دولة في العالم يحقق معه ويحاكم كأي فرد مهما ضعف وتضاءل من شعبه، وبحيث أصبحت السيادة للقانون، ودور السلطة هو حماية القانون وتنفيذه وخدمة الأمة وحمايتها والنزول على رأيها ورغبتها، مع الأخذ في الاعتبار أن المفاهيم الغربية عن حقوق الإنسان والحريات ليست هي المفاهيم الصحيحة ، ولا الأولى والأجدى لحياة الإنسان ، بسبب منطلقاتها المادية الإلحادية الإباحية، لكنها بلا شك تحتوي على قدر لا بأس به من قيم العدل والمساواة والإنصاف بمعايير القوانين الوضعية .
هـ - انتشار الإلحاد بجميع صوره وأشكاله في حياة الغربيين :
نتيجة لهزيمة الكنيسة والدين في مواجهة العلمانية ، مما أدى لتحييد الدين عن شئون الحياة العامة، واقتصاره على الجانب الفردي الاختياري في حياة الإنسان ولأول مرة في تاريخ البشرية تقوم دول وأنظمة ومعسكرات عالمية تتبنى الإلحاد في أشد صوره غلواً وتطرفاً ومادية ، وتصادم فطرة الإنسان , وتصادر ضرورات العقل في الإيمان ومستلزماته تحت شعار تقديس العقل ، وإنما هو تسفيه العقل والعياذ بالله .
و- السيطرة الغربية على شعوب العالم الأخرى ، واستعمارها، واستعبادها ، واستغلال خيراتها ، والتنافس بين الدول الغربية في ذلك :(/2)
مما تسبب في قيام حربين عالميتين ذهب ضحيتها عشرات الملايين من البشر ، وما زال التهديد قائماً بحرب ثالثة قد تكون سببا في دمار الأرض والقضاء على الحضارة البشرية ومنجزاتها عبر التاريخ, فالغرب نتيجة للثورة العلمية والقوة الاقتصادية والكشوف الجغرافية وتراجع المد الإسلامي في الأندلس وغيرها ، أخذت أساطيله تمخر عباب البحار والمحيطات، وتتسابق للاستيلاء على الممالك والأقاليم، وتقاسمت العالم ، ونهبت ثرواته، واستغلت شعوبه، وصادرت عقائده، وتجاهلت خصائص كل أمة وقيمها وثقافتها، وقامت حروب التحرر المقاومة للاستعمار، وسالت دماء الشعوب أنهاراً، وتم في النهاية جلاء القوى العسكرية الاستعمارية من أغلب بقاع العالم، ولكن بعد أن فرض الغرب رؤيته وأفكاره وأيديولوجيته، وربى على ذلك النخب الفكرية والسياسية في شعوب ما سمي بالعالم الثالث، وسلّمها زمام الأمر من بعده، فواصلت حمل راية العلمانية، وتطرفت في تطبيقها بالحديد والنار كما سترى فيما يأتي من حديث .
ز - العجز عن حل المعضلة الإنسانية التاريخية في غرس اليقين والطمأنينة في نفس الإنسان، والإجابة على تساؤلاته الكبرى المصيرية الملازمة له عبر تاريخه عن حقيقة وجود وبيان ماهيته ورسالته ودوره ووظيفته وإلى أين مآله ومصيره ونهايته .
هذا الأمر الذي كان محور اهتمام المذاهب والفلسفات والمبادئ والنظريات ، وموضوع الملل والنحل والرسالات السماوية هو ما بشرت العلمانية في بداياتها بأنها بالعلم ستصل فيه إلى الإجابات الشافية الكافية وأنه لا مشكلة للإنسان بعد اليوم .
ولكن ها نحن بعد أن عاشت الحضارة الغربية قرابة ثلاثة قرون في ظل العلمانية نرى الإنسان الغربي يعيش مأزقا نفسيا روحياً فكرياً وجودياً أشد عمقاً وتأزماً من مأزقه حين بشرت العلمانية بحل معضلته ، على الرغم من التقدم المادي والرفاه المعيشي الذي يعيشه هذه الأيام وصدق القائل سبحانه ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكَا ).
• وسائل وطرائق العلمانية من الغرب للشرق:
لقد بزغ نجم العلمانية وعلا شأنه في الغرب في ظل الظروف التي أشرنا إليها ، وقد صاحب ظهورها في الغرب انحطاط وتخلف وهزائم في الشرق، مما أتاح للغرب أن يستلم زمام قيادة ركب الحضارة البشرية بما أبدعه من علم وحضارة ، وما بذله من جهد وتضحية ، فكان أمراً طبيعياً أن يسعى الغرب لسيادة نموذجه الحضاري الذي يعيشه وأن يسوقه بين أمم الأرض لأنه بضاعته التي لا يملك غيرها ، ولأنه أيضا الضمانة الكبرى لبقاء الأمم الأخرى تدور في فلك التبعية له وتكدح في سبيل مدنيته وازدهار حضارته ، وكان تسويق الغرب للعلمانية في الشرق الإسلامي من خلال الوسائل والطرق الآتية :
1- من خلال الاحتلال العسكري الاستعماري :
فقد وفدت العلمانية إلى الشرق في ظلال الحرب العسكرية، وعبر فوهات مدافع البوارج البحرية، ولئن كانت العلمانية في الغرب نتائج ظروف ومعطيات محلية متدرجة عبر أزمنة متطاولة، فقد ظهرت في الشرق وافداً أجنبياً متكامل الرؤى والإيديولوجيات والبرامج ، يطبق تحت تهديد السلاح وبالقسر والإكراه، كمن يصرّ على استنبات نبتات القطب الجليدي في المناطق الاستوائية ، وفي هذا من المصادمة لسنن الله في الحياة ما يقطع بفشل التجربة قبل تطبيقها، لأن الظروف التي نشأت فيها العلمانية وتكامل مفهومها عبر السنين تختلف اختلافاً جذرياً عن ظروف البلدان التي جلبت إليها جاهزة متكاملة في الجوانب الدينية والأخلاقية والاجتماعية والتاريخية والحضارية ، فالشرط الحضاري الاجتماعي التاريخي الذي أدى إلى نجاح العلمانية في الغرب مفقود في الشرق بل في الشرق نقيضة تماماً - و أعني بالشرق هنا الشرق الإسلامي - , ولذلك فلا عجب إن كانت النتائج مختلفة تماماً كما سنرى , وحين نشأت الدولة العربية الحديثة كانت عالة على الغربيين الذين كانوا حاضرين خلال الهيمنة الغربية في المنطقة ومن خلال المستشارين الغربيين أو من درسوا في الغرب واعتنقوا العلمانية ، فكانت العلمانية في أحسن الأحوال أحد المكونات الرئيسية للإدارة في مرحلة تأسيسها وهكذا بذرت بذور العلمانية على المستوى الرسمي قبل جلاء جيوش الاستعمار عن البلاد التي ابتليت بها .(/3)
2- من خلال البعثات التي ذهبت من الشرق إلى الغرب لطلب العلم والتقدم , فعاد الكثير منها بالعلمانية لا بالعلم ، ذهبوا لدراسة الفيزياء والأحياء والكيمياء والجيولوجيا والفلك والرياضيات فعادوا بالأدب واللغات والاقتصاد والسياسة والعلوم الاجتماعية والنفسية ، بل وبدراسة الأديان وبالذات الدين الإسلامي في الجامعات الغربية ، ولك أن تتصور حال شاب مراهق ذهب يحمل الشهادة الثانوية ويلقى به بين أساطين الفكر العلماني الغربي على اختلاف مدارسه ، بعد أن يكون قد سقط إلى شحمة أذنيه في حمأة الإباحية والتحلل الأخلاقي وما أوجد كل ذلك لديه من صدمة نفسية واضطراب فكري ، ليعود بعد عقد من السنين بأعلى الألقاب الأكاديمية ، وفي أهم المراكز العلمية بل والقيادية في وسط أمة أصبح ينظر إليها بازدراء ، وإلى تاريخها بريبة واحتقار ، وإلى قيمها ومعتقداتها وأخلاقها - في أحسن الأحوال - بشفقة ورثاء . إنه لن يكون بالضرورة إلا وكيلاً تجارياً لمن علّموه وثقّفوه ومدّنوه ، وهو لا يملك غير ذلك ، ولئن كان هذا التوصيف للبعثات الدراسية ليس عاماً ، فإنه الأغلب وبالذات في أوائل عصر البعثات ، وما " طه حسين " و" رفاعة الطهطاوي " إلا أمثلة خجلى أمام غيرهم من الأمثلة الصارخة الفاقعة اللون مثل " زكي نجيب محمود" و" محمود أمين العالم " و"فؤاد زكريا" و "عبدالرحمن بدوي" وغيرهم الكثير .. ولئن كان هذا الدور للبعثات العلمية تم ابتداء من خلال الابتعاث لعواصم الغرب فإن الحواضر العربية الكبرى مثل "القاهرة - بغداد - دمشق" أصبحت بعد ذلك من مراكز التصدير العلماني للبلاد العربية الأخرى، من خلال جامعاتها وتنظيماتها وأحزابها وبالذات لدول الجزيرة العربية , وقلّ من يسلم من تلك اللوثات الفكرية العلمانية، حتى أصبح في داخل الأمة طابور خامس ، وجهته غير وجهتها وقبلته غير قبلتها ، وإنهم لأكبر مشكلة تواجه الأمة لفترة من الزمن ليست بالقليلة .
3- من خلال البعثات التبشيرية :
فالمنظمات التبشيرية النصرانية التي جابت العالم الإسلامي شرقاً وغرباً من شتى الفرق والمذاهب النصرانية جعلت هدفها الأول زعزعة ثقة المسلمين في دينهم ، وإخراجهم منه ، وتشكيكهم فيه ، حتى وإن لم يعتنقوا النصرانية ، وليس أجدى من العلمانية وسيلة لهذا الغرض ، والأمر ليس من باب التخمين والافتراض بل نطقت بهذا أفواههم وخطته أقلامهم ، وإن شئت فارجع إلى كتاب "الغارة على العالم الإسلامي" مثلا ليبين لك ذلك .
وهؤلاء المبشرين : إما من الغربيين مثل "زويمر" و "دنلوب", وإما من نصارى العرب مثل "أديب إسحاق" و "شلبي شميل" و "سلامة موسى" و "جرجي زيدان " وأضرابهم .. ومنهم من كان يعلن هويته التبشيرية ويمارس علمنة أبناء المسلمين "كزويمر"ومنهم من كان يعلن علمانيته فقط ، ويبذل جهده في ذلك "كسلامة موسى"و"شبلي شميل" .
4- من خلال المدارس والجامعات الأجنبية :
ففي أواخر الدولة العثمانية وحين سيطر الماسونيون العلمانيون على مقاليد الأمر سمح للبعثات التبشيرية والسفارات الغربية بإنشاء المدارس والكليات، وانتشرت في بلاد الشام والأناضول انتشار النار في الهشيم ، وخرجت أجيال من أبناء وبنات المسلمين أصبحوا بعد ذلك قادة الفكر والثقافة ودعاة التحرير والانحلال . ومن الأمثلة على ذلك الجامعة الأمريكية في بيروت ، والتي في أحضانها نشأت العديد من الحركات والجمعيات العلمانية، وقد سرت العدوى بعد ذلك إلى الكثير من الجامعات والمؤسسات التعليمية الرسمية في العديد من البلاد العربية والإسلامية ، وقد قام خريجوا هذه المدارس والجامعات بممارسة الدور نفسه حين عادوا لبلدانهم أو ابتعثوا للتدريس في بعض البلدان الأخرى ، وإن المتابع لما ينشر من مذكرات بعض العلمانيين في البلاد التي لم تبتلى بهذه المدارس ليتبين له بجلاء ووضوح الدور الكبير الذي قام به العلمانيون العرب من الذين استقدموا للتدريس في تربية طلابهم وإقناعهم بالعلمانية، سواء من خلال التنظيمات الحزبية أو من خلال البناء الفكري الثقافي لأولئك الطلاب .
5- من خلال الجمعيات والمنظمات والأحزاب العلمانية :
التي انتشرت في الأقطار العربية والإسلامية، مابين يسارية وليبرالية وقومية وأممية وسياسية واجتماعية وثقافية وأدبية، بجميع الألوان والأطياف وفي جميع البلدان, حيث أن النخب الثقافية في غالب الأحيان كانوا إما من خريجي الجامعات الغربية أو الجامعات السائرة على النهج ذاته في الشرق، وبعد أن تكاثروا في المجتمع عمدوا إلى إنشاء الأحزاب القومية أو الشيوعية أو الليبرالية ، وجميعها تتفق في الطرح العلماني ، وكذلك أقاموا الجمعيات الأدبية والمنظمات الإقليمية أو المهنية ، وقد تختلف هذه التجمعات في أي شيء إلا في تبني العلمانية , والسعي لعلمنة الأمة كل من زاوية اهتمامه، والجانب الذي يعمل من خلاله .(/4)
ومن الأمور اللافتة للنظر أن أشهر الأحزاب العلمانية القومية العربية إنما أسسها نصارى بعضهم ليسوا من أصول عربية، أمثال "ميشيل عفلق" و"جورج حبش" ، والكثرة الساحقة من الأحزاب الشيوعية العلمانية إنما أسسها يهود مليونيرات أمثال "كوريل".
6- من خلال البعثات الدبلوماسية :
سواء كانت بعثات للدول الغربية في الشرق، أو للدول الشرقية في الغرب، فقد أصبحت في الأعم الأغلب جسوراً تمر خلالها علمانية الغرب الأقوى إلى الشرق الأضعف من خلال الإيفاد ، و من خلال المنح الدراسية وحلقات البحث العلمي، والتواصل الاجتماعي، والمناسبات والحفلات ، ومن خلال الضغوط الدبلوماسية والابتزاز الاقتصادي، وليس بِسِرٍّ أن بعض الدول الكبرى أكثر أهمية وسلطة من القصر الرئاسي أو مجلس الوزراء في تلك الدول الضعيفة التابعة .
7- من خلال وسائل الإعلام المختلفة :
من مسموعة أو مرئية أو مقروءة، لأن هذه الوسائل كانت من الناحية الشكلية من منتجات الحضارة الغربية- صحافة أو إذاعة أو تلفزة - فاستقبلها الشرق واستقبل معها فلسفتها ومضمون رسالتها، وكان الرواد في تسويق هذه الرسائل وتشغيلها والاستفادة منها إما من النصارى أو من العلمانيين من أبناء المسلمين , فكان لها الدور الأكبر في الوصول لجميع طبقات الأمة ، ونشر مبادئ وأفكار وقيم العلمانية ، وبالذات من خلال الفن ، وفي الجانب الاجتماعي بصورة أكبر .
هكذا سرت العلمانية في كيان الأمة ، ووصلت إلى جميع طبقاتها قبل أن يصلها الدواء والغذاء والتعليم في كثير من الأحيان، فكان كما يقول المثل "ضغث على إبالة"، ولو كانت الأمة حين تلقت هذا المنهج العصري تعيش في مرحلة قوة وشموخ وأصالة لوظفت هذه الوسائل الإعلامية توظيفاً آخر يتفق مع رسالتها وقيمها وحضارتها وتاريخها وأصالتها .
8- من خلال التأليف والنشر في فنون شتى من العلوم وبالأخص في الفكر والأدب :
فقد جاءت العلمانية وافدة في كثير من الأحيان تحت شعارات المدارس الأدبية المختلفة، متدثرة بدعوى رداء التجديد والحداثة، معلنة الإقصاء والإلغاء والنبذ والإبعاد لكل قديم في الشكل والمضمون وفي الأسلوب والمحتوى, ومثل ذلك في الدراسات الفكرية المختلفة في علوم الاجتماع والنفس والعلوم الإنسانية المختلفة، حيث قدمت لنا نتائج كبار ملاحدة الغرب وعلمانييه على أنه الحق الطلق، بل العلم الأوحد ولا علم سواه في هذه الفنون . وتجاوز الأمر التأليف والنشر إلى الكثير من الكليات والجامعات والأقسام العلمية التي تنتسب لأمتنا اسماً ولغيرها حقيقة ، وإن كان الأمر في أقسام العلوم الأخرى من طب وهندسة ورياضيات وفيزياء وكيمياء وأمثالها يختلف كثيرا ولله الحمد والمنة ، وهي الأقسام التي وجهها أبناء الأمة الأصلاء ممن لم يتلوثوا بلوثات العلمانية، فحاولوا أن ينقلوا للأمة ما يمكن أن تستفيد منه من منجزات التقدم الغربي مع الحفاظ على هويتها وأصالتها وقيمها .
9- من خلال الشركات الغربية الكبرى التي وفدت لبلاد المسلمين مستثمرة في الجانب الاقتصادي
لكنها لم تستطع أن تتخلى عن توجهاتها الفكرية، وقيمها وأنماط حياتها الاجتماعية ، وهذا أمر طبيعي، فكانت من خلال ما جلبته من قيادات إدارية وعمالة فنية احتكت بالشعوب الإسلامية سبباً مهما في نشر الفكر العلماني وقيمه الاجتماعية و انعكاساته الأخلاقية والسلوكية، ولعل من المفارقات الجديرة بالتأمل، أن بعض البلدان التي كانت تعمل فيها بعض الشركات الغربية الكبرى من أمريكية وبريطانية لم تبتلى بالتنظيمات اليسارية، ولم تنشأ إلا في هذه الشركات في أوج اشتعال الصراع بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الغربي.
• بعض ملامح العلمانية الوافدة:
لقد أصبح حَمَلة العلمانية الوافدة في بلاد الشرق بعد مائة عام من وفودهم تياراً واسعاً منفذاً غالباً على نخبة الأمة وخاصتها في الميادين المختلفة, من فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية ، وكان يتقاسم هذا التيار الواسع في الجملة اتجاهان :
أ- الاتجاه اليساري الراديكالي الثوري، ويمثله - في الجملة - أحزاب وحركات وثورات ابتليت بها المنطقة ردحاً من الزمن ، فشتت شمل الأمة ومزقت صفوفها ، وجرت عليها الهزائم والدمار والفقر وكل بلاء ، وكانت وجهة هؤلاء الاتحاد السوفييتي قبل سقوطه، سواء كانوا شيوعيين ، أو قوميين عنصريين .
ب- الاتجاه الليبرالي ذي الوجهة الغربية لأمريكا ومن دار في فلكها من دول الغرب ، وهؤلاء يمثلهم أحزاب وشخصيات قد جنوا على الأمة بالإباحية والتحليل والتفسخ والسقوط الأخلاقي والعداء لدين الأمة وتاريخها .
• وللاتجاهين ملامح متميزة أهمها :(/5)
1- مواجهة التراث الإسلامي ، إما برفضه بالكلية واعتباره من مخلفات عصور الظلام والانحطاط والتخلف - كما عند غلاة العلمانية - ، أو بإعادة قراءته قراءة عصرية - كما يزعمون - لتوظيفه توظيفاً علمانياً من خلال تأويله على خلاف ما يقتضيه سياقه التاريخي من قواعد شرعية، ولغة عربية، و أعراف اجتماعية. ولم ينجو من غاراتهم تلك حتى القرآن و السنة ، إمّا بدعوى بشرية الوحي ، أو بدعوى أنه نزل لجيل خاص أو لأمة خاصة ، أو بدعوى أنها مبادئ أخلاقية عامة ، أو مواعظ ورقائق روحية لا شأن لها بتنظيم الحياة ، ولا ببيان العلم وحقائقه ، ولعل من الأمثلة الصارخة للرافضين للتراث ، والمتجاوزين له "أدونيس" و "محمود درويش" و "البياتي" و "جابر عصفور" ومن لفّ لفهم وشايعهم وهم كثر لا كثرهم الله .
أما الذين يسعون لإعادة قراءته وتأويله وتوظيفه فمن أشهرهم "حسن حنفي" و "محمد أركون"و "محمد عابد الجابري" و "حسين أمين" ومن على شاكلتهم ، ولم ينجُ من أذاهم شيء من هذا التراث في جميع جوانبه .
2- اتهام التاريخ الإسلامي بأنه تاريخ دموي استعماري عنصري غير حضاري ، وتفسيره تفسيراً مادياً ، بإسقاط نظريات تفسير التاريخ الغريبة العلمانية على أحداثه، وقراءته قراءة انتقائية غير نزيهة ولا موضوعية، لتدعيم الرؤى والأفكار السوداء المسبقة حيال هذا التاريخ ، وتجاهل ما فيه من صفحات مضيئة مشرقة ، والخلط المتعمد بين الممارسة البشرية والنهج الإسلامي الرباني ، ومحاولة إبراز الحركات الباطنية والأحداث الشاذة النشاز وتضخيمها، والإشادة بها ، والثناء عليها ، على اعتبار أنها حركات التحرر والتقدم والمساواة والثورة على الظلم مثل "ثورة الزنج" و "ثورة القرامطة" ومثل ذلك الحركات الفكرية الشاذة عن الإسلام الحق ، وتكريس فكرة مفادها أنها من الإسلام بل هي الإسلام مثل القول بوحدة الوجود، والاعتزال وما شابه ذلك من أمور تؤدى في نهاية الأمر إلى تشويه الصور المضيئة للتاريخ الإسلامي لدى ناشئة الأمة، وأجياله المتعاقبة .
3- السعي الدؤوب لإزالة أو زعزعة مصادر المعرفة والعلم الراسخة في وجدان المسلم ، والمسيرة المؤطرة للفكر والفهم الإسلامي في تاريخه كله ، من خلال استبعاد الوحي كمصدر للمعرفة والعلم ، أو تهميشه - على الأقل - وجعله تابعاً لغيره من المصادر كالعقل والحس ، وما هذا إلا أثر من آثار الإنكار العلماني للغيب ، والسخرية من الإيمان بالغيب ، واعتبارها - في أحسن الأحوال - جزء من الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية ، والترويج لما يسمي بالعقلانية والواقعية والإنسانية ، وجعل ذلك هو البديل الموازي للإيمان في مفهومه الشرعي الأصيل ، وكسر الحواجز النفسية بين الإيمان و الكفر ، ليعيش الجميع تحت مظلة العلمانية في عصر العولمة . وفي كتابات " محمد عابد الجابري " و" حسن حنفي " و" حسين مروة " و" العروي " وأمثالهم الأدلة على هذا الأمر .
4- خلخلة القيم الخلقية الراسخة في المجتمع الإسلامي ، والمسيرة للعلاقات الاجتماعية القائمة على معاني الأخوة والإيثار والطهر والعفاف وحفظ العهود وطلب الأجر وأحاسيس الجسد الواحد ، واستبدال ذلك بقيم الصراع و الاستغلال والنفع وأحاسيس قانون الغاب والافتراس والتحلل والإباحية , من خلال الدراسات الاجتماعية والنفسية ، والأعمال الأدبية والسينمائية والتلفزيونية ، مما هز المجتمع الشرقي من أساسه ، ونشر فيه من الجرائم والصراع ما لم يعهده أو يعرفه في تاريخه ، ولعل رواية "وليمة عشاء لأعشاب البحر" - السيئة الذكر - من أحدث الأمثلة على ذلك، والقائمة الطويلة من إنتاج"محمد شكري" و "الطاهر بن جلون" و "الطاهر طار" و "تركي الحمد" وغيرهم الكثير تتزاحم لتؤدي دورها في هدم الأساس الخلقي الذي قام عليه المجتمع، واستبداله بأسس أخرى .
5- رفع مصطلح الحداثة كلافتة فلسفية اصطلاحية بديلة لشعار التوحيد ، والحداثة كمصطلح فكري ذي دلالات محددة تقوم على مادية الحياة ، وهدم القيم والثوابت، ونشر الانحلال والإباحية ، وأنسنة الإله وتلويث المقدسات ، وجعل ذلك إطاراً فكرياً للأعمال الأدبية ، والدراسات الاجتماعية ، مما أوقع الأمة في أسوأ صور التخريب الفكري الثقافي .
6- استبعاد مقولة الغزو الفكري من ميادين الفكر والثقافة ، واستبدالها بمقولة حوار الثقافات ، مع أن الواقع يؤكد أن الغزو الفكري حقيقة تاريخية قائمة لا يمكن إنكارها كإحدى مظاهر سنة التدافع التي فطر الله عليها الحياة ، وأن ذلك لا يمنع الحوار ، لكنها سياسة التخدير والخداع والتضليل التي يتبعها التيار العلماني ، ليسهل تحت ستارها ترويج مبادئ الفكر العلماني ، بعد أن تفقد الأمة مناعتها وينام حراس ثغورها ، وتتسلل في أجزائها جراثيم وفيروسات الغزو العلماني القاتل .(/6)
7- وصم الإسلام بالأصولية والتطرف وممارسة الإرهاب الفكري ، عبر غوغائية إعلامية غير شريفة ولا أخلاقية ، لتخويف الناس من الإلتزام بالإسلام ، والاستماع لدعاته ، وعلى الرغم من وقوع الأخطاء - وأحياناً الفظيعة - من بعض المنتمين أو المدعين إلى الإسلام ، إلا أنها نقطة في بحر التطرف والإرهاب العلماني الذي يمارس على شعوب بأكملها ، وعبر عقود من السنين ، لكنه عدم المصداقية والكيل بمكيالين ، والتعامي عن الأصولية والنصرانية واليهودية الموغلة في الظلامية والعنصرية والتخلف .
8- تمييع قضية الحل والحرمة في المعاملات والأخلاق ، والفكر والسياسة ، وإحلال مفهوم اللذة والمنفعة والربح المادي محلها ، واستخدام هذه المفاهيم في تحليل المواقف والأحداث ، ودراسة المشاريع والبرامج ، أي فك الارتباط بين الدنيا والآخرة في وجدان وفكر وعقل الإنسان ، ومن هنا ترى التخبط الواضح في كثير من جوانب الحياة الذي يعجب له من نور الله قلبه بالإيمان ، ولكن أكثرهم لا يعلمون .
9- دق طبول العولمة واعتبارها القدر المحتوم الذي لا مفرمنه ولا خلاص إلا به ، دون التمييز بين المقبول والمرفوض على مقتضى المعايير الشرعية ، بل إنهم لَيصرخون بأن أي شئ في حياتنا يجب أن يكون محل التساؤل دون التفريق بين الثوابت والمتغيرات مما يؤدي إلى تحويل بلاد الشرق إلى سوق استهلاكية لمنتجات الحضارة الغربية ، والتوسل لذلك بذرائعيه نفعية محضة لا يسيرها غير أهواء الدنيا وشهواتها .
10- الاستهزاء والسخرية والتشكيك في وجه أي محاولة لأسلمة بعض جوانب الحياة المختلفة المعاصرة في الاقتصاد والإعلام والقوانين ، ولعل الهجوم المستمر على المملكة العربية السعودية بسبب احتكامها للشريعة في الحدود والجنايات من هذا المنطلق ، وإن برّروا هجومهم وحقدهم تحت دعاوى حقوق الإنسان وحرياته ، ونسوا أو تناسوا الشعوب التي تسحق وتدمر وتقتل وتغصب بعشرات الآلاف ، دون أن نسمع صوتاً واحداً من هذه الأصوات النشاز يبكي لها ويدافع عنها ، لا لشيء إلا أن الجهات التي تقوم بانتهاك تلك الحقوق ، وتدمير تلك الشعوب أنظمة علمانية تدور في فلك المصالح الغربية .
11- الترويج للمظاهر الاجتماعية الغربية ، وبخاصة في الفن والرياضة وشركات الطيران والأزياء والعطور والحفلات الرسمية وقضية المرأة ، ولكن كانت هذه شكليات ومظاهر لكنها تعبر عن قيم خلقية ، ومنطلقات عقائدية ، وفلسفة خاصة للحياة ، من هنا كان الاهتمام العلماني المبالغ فيه بموضة المرأة ، والسعي لنزع حجابها ، وإخراجها للحياة العامة ، وتعطيل دورها الذي لا يمكن أن يقوم به غيرها ، في تربية الأسرة ورعاية الأطفال ، وهكذا العلمانيون يفلسفون الحياة . يعطل مئات الآلاف من الرجال عن العمل لتعمل المرأة ، ويستقدم مئات الآلاف من العاملات في المنازل لتسد مكان المرأة في رعاية الأطفال ، والقيام بشؤون المنزل ، ولئن كانت بعض الأعمال النسائية يجب أن تناط بالمرأة ، فما المبرر لمزاحمتها للرجل في كل موقع ؟!
12- الاهتمام الشديد والترويج الدائم للنظريات العلمانية الغربية في الاجتماع والأدب ، وتقديم أصحابها في وسائل الإعلام ، بل وفي الكليات والجامعات على أنهم رواد العلم ، وأساطين الفكر وعظماء الأدب ، وما أسماء "دارون" و "فرويد" و "دوركايم" ولا "الأنسنية" و "البنيوية" و "السريالية" وغير هذا الكثير مما لا يجهله المهتم بهذا الشأن ، وحتى أن بعض هذا قد يتجاوزه العلمانيون في الغرب ، ولكن صداه ما زال يتردد في عالم الأتباع في الشرق ، وكأننا نحتاج لعقود من الزمن ليفقه أبناؤنا عن أساتذتهم هذه المراجعات
د. عوض بن محمد القرني ... ...(/7)
العلمانية الجاحدة ثم الآن العلمانية المستترة
الكاتب: الشيخ د.سعيد بن ناصر الغامدي
العلمانية SECULARISM :
- ترجمتها الصحيحة = اللادينية ، لا علاقة لها بمصطلح العلم ، أو الدنيوية ، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين .
- في الجانب السياسي ، اللادينية في الحكم .
- تعريف العلمانيين للعلمانية . انظر : موسوعة السياسة 4/179 .
تأسيسها وتطورها :
1 - طاغوتية رجال الدين النصارى واستبدادهم بالدين والسياسة ( الرهبانية ، الفساد .... ، صكوك الغفران ) .
2 - وقول الكنيسة ضد العلم والفكر المتحرر ، تشكيلها محاكم التفتيش لعلماء التجريب :
أ - كوبرنيكوس : نشر عام 1543 م كتاب الأجرام السماوية ، فحرمت الكنيسة هذا الكتاب .
ب - جردانوا : صنع التلسكوب فعذب وعمره 70 وتوفي سنة 1642 م .
جـ - ديكارت : دعا إلى تطبيق المنهج العقلي في الفكر والحياة ( فلسفة الشك ) .
د - بيكون : ظهر بمدئه التجريبي وطلب تطبيقه على كل شيء .
هـ - سبنوزا : صاحب مدرسة النقد التاريخي ، كان مصيره الحرق .
و - جون لوك : طالب بإخضاع الوحي للعقل .
ز - جاليلو : استخدم التلسكوب فقتلته الكنيسة .
3 - ظهر مبدأ العقل والطبيعة ، أخذ العلمانيون يدعون إلى تحرير العقل وإضغاء صفات الإله على الطبيعة .
4 - نتيجة للصراع بين الكنيسة والحركات السالفة جاءت الثورة الفرنسية 1789 م ، أول حكومة لا دينية علمانية .
مراحل الثورة وشخصياتها :
أ - عصر التنوير الذي مهد لإرهاصات الثورة :
[ جان جاك روسو ] سنة 1778 م ، ألف كتاب ( العقد الاجتماعي ) يعتبر الجيل الثورة .
[ منتسيكو ] له ( روح القوانين ) .
[ سبينوزا ] يهودي يعتبر رائد العلمانية باعتبارها منهجاً للحياة والسلوك ، له ( رسالة اللاهوت والسياسة ) .
[ فولتير ] مؤلف كتاب ( القانون الطبيعي ) .
[ كانت ] مؤلف كتاب ( الدين في حدود العقل وحده ) عام 1804 م .
[ وليم جودين ] مؤلف كتاب ( العدالة السياسة ) 1793 م ، وفيه دعوة للعلمانية بصراحة .
ب - [ ميرابو ] خطيب وزعيم فيلسوف الثورة الفرنسية .
جـ - تحرك الماسون واليهود مستغلين أخطاء الكنيسة والحكومة الفرنسية المعتمدة على الكنيسة وركبوا موجة الثورة لتحقيق أهدافهم .
د - سارت الجموع الغوغائية لهدم الباستيل وشعارها الخبز ثم تحول شعارها إلى [ الحرية والمساواة والإخاء ] ثم شعار [ تسقط الرجعية ] وهو شعار ملتوي يقصد به الدين .
نضوج العقل العلماني في تصوراته ومشاريعه المستقبلية إلى عقود قادمة بعيدة :
1 - الدفع بذوي النفوس المريضة والعقول الجاهلة لضرب الإسلاميين .
2 - استغلال الجهل الحاصل بين الإسلاميين في شؤون العلمانية لتمرير أعمالهم .
3 - المرأة والطفل .
4 - المقررات الدراسية ، الدخول منها ، مثلاً الفاء السيرة من منهج التاريخ ، واستبداله بتاريخ العالم المعاصر : تاريخ أمريكا والثورة الفرنسية ، التأكيد على القيم النبيلة في العصر الجاهلي .
5 - عداء الحركات الإسلامية والشخصيات المخلصة .
6 - عمل المرأة وتهيئتها لذلك من خلال التعليم مثل الهندسة والإحياء .
7 - تهوين المنكر لتمريره من خلال أن القضايا العميقة والمهمة هي التقدم المادي وأشباه ذلك .
8 - أن أمتنا أمة حضارة وذوق ووجدان = كالرسم والموسيقى والنحت .
9 - تشويه صورة الإسلام من خلال بدائل هزيلة وتشويه الشخصيات الإسلامية ، من خلال المؤلفات والمسلسلات .
10 - العقلانية .
11 - المجيء بحجج لتبرير عزل الدين = السياسة نجسة ، الاقتصاد الربوي ضرورة عالمية ، الأدب جمال وذوق ، الفكر العالمي ، إنسانية الثقافة .
12 - تشويه التاريخ الإسلامي باسم الدراسة الموضوعية .
13 - التشكيك في ثبوت السنة وصحة المصطلح وأصول الفقه ، والفقه .
هـ - تغلغل اليهود باسم العلمنة وإذابة الفوارق الدينية وتحولت الثورة من ثورة على مظالم رجال الدين إلى ثورة على الدين نفسه .
و - ظهرت نظرية التطور والارتقاء في أصل الأنواع لدارون عام 1859 م لتصبح هذه النظرية وسيلة لانهيار العقيدة الدينية ونشر الإلحاد .
ز - ظهرت نظرية نيتشه ( السوبرمان ) وفلسفتهم على أن الإله مات وحل محله الإنسان الأعلى .
ح - ظهرت نظرية دوركايم اليهودي المسماة العقل الجمعي جمع فيها بين حيوانية الإنسان وماديته .
ط - ظهرت نظرية فرويد اليهودي التي تعتبر الإنسان حيواناً جنسياً ، الجنس أساس كل الدوافع .
ي - ظهرت نظرية كارل ماركس اليهودي المادية الجدلية / التفسير المادي للتاريخ ، الاشتراكية ، أفيون الشعوب .
ك - ظهرت نظرية سارتر الوجودية .
ل - ظهرت نظرية كولن ولسن الوجودية الجديدة الداعية إلى الإلحاد .
الأفكار والمعتقدات :
1 - العلمانية العامة = فصل الدين عن الحياة الخاصة = فصل الدين عن بعض جوانب الحياة .
2 - بعضهم ينكر وجود الله ، وبعضهم يؤمن بوجوده سبحانه ولكن لا علاقة بين الله وحياة الإنسان .(/1)
3 - الحياة تقوم على أساس العلم المطلق وتحت سلطان العقل والتجريب ، العقلانية .
4 - إقامة حاجز بين عالمي الروح والمادة ، القيم الروحية لديهم قيم سلبية ضارة .
5 - إقامة الحياة على أساس مادي بحت .
6 - فصل الدين عن الحياة ، فصل الدين عن السياسة .
7 - تطبيق مبدأ النفعية ( البراجماتيزم ) على كل شيء في الحياة .
8 - تطبيق مبدأ الميكافيلية في فلسفة الحكم والسياسة والأخلاق والعلاقات .
9 - نشر الإباحية والفوضى الخلقية وتهديم كيان الأسرة تحت شعار حرية المرأة .
معتقدات العلمانية في العالم الإسلامي والعربي :
1 - الطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة .
2 - الزعم بأن الإسلام استنفذ أعراضه وهو عبارة عن طقوس وشعائر روحية فردية .
3 - الزعم بأن الفقه الإسلامي مأخوذ من القانون الروماني .
4 - الزعم بأن الإسلام لايتلاءم مع الحضارة والتقدم لأنه يدعو للرجعية والتخلف .
5 - الدعوة إلى تحرير المرأة - عمل المرأة .
6 - تشويه الحضارة الإسلامية والتشكيك في التاريخ الإسلامي .
7 - الإشادة بالحركات الهدامة والفرق الضالة والزعم بأنها حركات إصلاح وتحرر(/2)
العلمانية المكشوفة..
كتبه فضيلة الشيخ عيسى الغيث
إن أحد التحديات الخطيرة – بل الأخطر- التي تواجه أهل السنة والجماعة في هذا العصر، لهي كشف وإسقاط اللافتات الزائفة والمقولات الغامضة وفضح الشعارات الملبسة ، التي تتخفى وراءها العلمانية الكافرة بأفكارها وتجمعاتها وأفرادها، لتبث سمومها في عقول وقلوب أبناء وبنات هذه الأمة . ولفضح ومواجهة هذه الملة ؛ لا بد أولاً أن يصل مستوى المواجهة إلى المستوى المطلوب من الحسم والوضوح في نفوس أهل السنة أنفسهم قبل غيرهم ، فإنه بدون هذا الحسم وبدون هذا الوضوح يعجز الجميع عن أداء الواجب في هذه الفترة - الحرجة - ..
ونظراً لما أصاب كثيراً من أفكار بعض المسلمين من انحراف وغبش في هذا العصر، ولما يثيره أعداء الأمة والعقيدة والفكر والمنهج الإسلامي – الظاهرون منهم والمستترون - من شبهات وأباطيل في مجموعة من الوسائل التي فتحت أبوابها لهم على المصراعين والتي يجب أن تغلق في أوجه مخالفي الدين والثوابت والمبادئ وليس العادات والتقاليد كما يزعمون، وما تسمح به الحرية المنضبطة .. وعندما تفتح – أسفاً - لهم فلتفتح لحماة العقيدة بالمثل- على الأقل -.. ومن الضروري أن يقوم حماة الدين والعقيدة من أهل السنة والجماعة علماء ومفكرين ومثقفين وأدباء وغيرهم بتجلية تلك الأمور والشبهات والأباطيل والذي هو نوع من الجهاد في زماننا هذا..كما ورد في السنة الجهاد باللسان ..وما هو من وسائلة من مقروء ومسموع ومرئي ..إننا في زمان تفجر المعلومات فهذا الإنترنت والستالايت والاتصالات وجميع أنواع التقنية والتكنولوجيا التي جعلت العالم كالقرية الصغيرة فالشبهة التي تلقى في الغرب تصل بلمحة البصر إلى الشرق والشهوة التي ترمى في الشرق تصل قبل تمام كمالها إلى الغرب وهكذا .. فكما أن لهذه الاختراعات والصناعات إيجابيات فمنها سلبيات والحكيم الموفق الذي يدرأ مفسدة السلبيات وإن كان فيها مصالح ويسد ذرائعها عن نفسه وأهله ومجتمعه بشتى الوسائل ؛ ويجلب الإيجابيات للجميع بشتى الطرق ..
إن العلمانية نظام طاغوتي جاهلي كافر يتنافى ويتعارض تماماً مع الشهادتين وهما أول أركان الإسلام..وبغض النظر عن الأنواع سواء كان من المعسكر الشيوعي – الماركسي الاشتراكي – الشرقي الساقط الهالك أو كان من المعسكر الرأسمالي – الليبرالي – الغربي الذي أفتتن به حيث استقبل بيته الأبيض واستدبرت الكعبة ، أو غيرهما ..
إن الغياب المذهل لكثير من حقائق الإسلام عن عقول وقلوب كثير من الناس والغبش الكثيف الذي أنتجته الأفكار المنحرفة ؛ جعل الكثير من الناس يثيرون شبهات متهافتة ، لم تكن لتستحق أدنى نظر لولا الواقع المؤلم لأكثر المجتمعات..ومن هذه الشبهات استصعاب بعض الناس إطلاق لفظ الكفر أو الجاهلية على من أطلقها الله تعالى عليه وشرع لها حد الردة ، فنشأ الفكر التأصيلي المزعوم الضال من فئام قد يحسبون على الأمة ورجالها وهم قد تشربوا الإرجاء حتى الثمالة .. مما دعا كبار علمائنا لتبني مواجهة هذا الخلل العقدي ببيان بطلان تلك الكتب وخطأ أصحابها الذين يشرعون للباطل ويبررونه وهو أشد من فعله دون اعتقاده .. فأصبح الواقع الضاغط يلجئ أولئك المتعالمين لتسويغ كثير من الجاهليات وتعليق الإيمان بالقول دون العمل .. وكرد فعل للغلو التكفيري شبه المطلق الخارجي خرج عنه عدم تكفير شبه مطلق مرجئ..فدين الله كامل وعقيدته وتوحيده لا يقبل التجزئة ، وقد جاءت الدعوات التجديدية لإرساء التوحيد في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات بما فيها الحاكمية وعلى رأسها دعوة إمامنا المجدد محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – ونصرة الدعوة السلفية من إمامنا المناصر محمد بن سعود – رحمه الله - والذي ترتب عليه توحيد شامل للعقيدة في القلب واللسان والعمل دون استثناء أو اختيار أو انتقاء فبارك الله فيها ونصرها وحفظها حتى يومنا هذا منارة للمسلمين وتاجاً على رؤوسهم ونوراً لهم في الظلمات بعقيدتها السلفية ودعوتها النقية التي تبنتها الدولة لأنها دولة الإسلام والمسلمين .. وفيها قبلتهم وعليها إمامهم ومنها علماؤهم ..فلا مكان لمن خالف الدين والعقيدة والثوابت .. والحرية مكفولة بشرط الإسلام وشريعته ..(/1)
إن ما نراه في بعض المجتمعات من دعوات جاهلية متبجحة لفصل الدين عن الدولة بل وعن الحياة كلها حتى صار القائل بأن السياسة والاقتصاد من الدين غريباً محتقراً مستهجناً ..أما القائل ( الدين لله والوطن للجميع ) فهذا تقدمي ، وشعار ( لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين ) فهذا تنوري .. وخرجت شعارات ( المدرسة العقلية ) المهزومة .. وشعار ( حكم الشعب بالشعب ) وشعار ( الحرية الشخصية ) وشعار ( الأمة مصدر السلطات ) وشعار ( حرية الثقافة والفكر )!! وحاولوا تطمين وتهدئة البسطاء فرفعوا شعار ( تطوير الشريعة ) و( مرونة الشريعة لتلبية حاجات العصر) وشعار ( تقنين الشريعة ) و(تجديد الفقه ) وكلها كلمات أريد بها باطل .. وجعلوا الدين في المسجد والقلب والوجدان فقط .. فمنعوه أولاً عن العمل والتطبيق ثم منعوه حتى بالقول واللسان ثم جعلوا مجرد الإيمان به في القلوب تهمة الظلام والرجعية والتخلف .. ولم يبق من التشريع الإسلامي سوى بعض قوانين الأحوال الشخصية.. وجعلوا الصفحات الدينية في المجلات مجرد ( فكر ديني ) .. وإن أطلقوا مصطلح العقيدة سموه ( إيديولوجيا ) !! ومع ذلك فلا يجوز أن ينسينا أي مذهب جاهلي حين بيانه وكشفه وجهاده أن نغفل غيره ولو قلَّ عنه أهمية مكانية أو زمانية أو كمية أو كيفية ..
نسأل الله الهدى والرشاد فمنه وحده التوفيق والسداد وهو على كل شيء قدير . هذا مقال كتبه فضيلة الشيخ عيسى الغيث في زاويته الأسبوعية - وحي الخاطر - بملحق الرسالة بجريدة المدينة الاثنين 25/11/1421ه(/2)
العلمانية النبتة الغريبة عن الحضارة الإسلامية
د. محمد عمر دولة*
مصطلح (العلمانية) يعني (اللادينية)؛ فهي دعوة إلى هجران التعاليم الدينية كلها, وفي الحياة السياسية تعني فصل الدين عن الدولة. ويلاحظ أنه لا علاقة لاسم العلمانية (SECULARISM) باصطلاح العلم (SCIENCE).
ما هو سبب ظهور العلمانية في الغرب؟
ظهرت هذه الفكرة في القرن السابع عشر في أوروبا نتيجة المعارك الكنسية مع العلم والعقل والحرية الفردية. فقد كانت محاولةً لحبس الدين في ضمائر الأفراد, وردّة فعل للسجن الطويل الذي مارسته الكنيسة على أهلها, فخنقت حريات الأفراد, وحبست ملكات العقل, وحاربت حقائق العلم. فهي دعوة إلى تقهقر الكنيسة إلى الشعائر والمشاعر الشكلية, وتقوقع الدين في المراسم والمواسم؛ ليعود الشعار "أعط ما لقيصر لقيصر, وما لله لله".
ما هي الجذور الفكرية للعلمانية؟
يضاف للمشكلة الكنسية, وانقلابها إلى "عاملٍ مُعوِّقٍ عن الحياة, مضادٍّ للعلم والحضارة والتقدم والرقي, محقّرٍ للإنسان ونزعاته الحيوية, مُهْمِلٍ للحياة الدنيا"1، يُضاف إليها الدور اليهودي؛ إذ ليس غريباً "أن يكون اليهود وراء فصل الدين عن الدولة", كما صرح بذلك الكاتب الأمريكي وليام غاي كار في كتابه (أحجار الشطرنج)؛ "بغية القضاء على الدين الذي حرّفوه, بتعطيله عن المجتمع داخل جدران الكنيسة"2؛ لأنّ العلمانية تذيب الفوارق الدينية الهائلة بين اليهود وغيرهم من الشعوب والأمم3, ولا يخفى هاهنا دور أدبيات المفكرين اللادينيين من اليهود وغيرهم من (الليبراليين)، الذين يسحبون ذيل التجربة الغربية مع الكنيسة على ما سوى ذلك من الأديان؛ ولذلك نجد أنّ أُسُسَ العلمانية مستمدةٌ من كتاب (أصل الأنواع) لـ(دَارْوِن) 1859م القائل بنظرية التطوُّر, وكتابات (نيتشه) عن الإنسان الأعلى (السوبرمان), وأدبيات (دور كايم) عن (العقل الجمعي)، وتحليل (فرويد) للسلوك الإنساني بـ (الغريزة الجنسية), وكتابات (كارل ماركس) عن (المادية الجدلية والتاريخية), وأدبيات سارتر عن (الوجودية)...
كيف انتقلت (اللادينية) إلى العالم الإسلامي؟
لابدّ للجواب على هذا السؤال الكبير من استدعاء جملة من الدعائم التي سوّغت لبعض النُّخَب في العالم الإسلامي تسويق هذه الفكرة، في زحمة استيراد عوامل النهضة على طريقة التحديث الغربي؛ إسقاطاً لتجربة الغرب, وتغييباً لذاتية الشرق ومقوماته الحضارية.
فأُولى هذه الدعائم: الإرساليات الأجنبية بمختلف أنشطتها التبشيرية, التي كان لها أضرار جسيمة؛ إذ "لم يتوانَ المُرْسَلُون في إطار التوسع وتكريس الهيمنة عن تدعيم خليط من رجال الأعمال والمغامرين السياسيين والمستعمرين والمستشرقين في عملياتهم التوسعية، التي تهدف إلى استطلاع المنطقة، وترسيخ دعائم السيطرة الأوروبية في أذهان الأهالي، ومحاولة احتواء الثوابت الدينية والمذهبية عندهم"4.
وثانية هذه الدعائم: الاستشراق وأيديولوجية الهيمنة ؛ إذ لم يكن القصد من الدراسات الاستشراقية تجريد الشرق من كل مزاياه الفكرية فحسب, وإنما تأسيس خطاب فكري للآخرين؛ يبرّر من خلاله للمركزية العرقية الأوروبية زعزعةَ ثقة الشعوب الشرقية بذاتها وبمعاييرها، وتدمير مجتمعاتها وعوامل الاستمرارية والثبات عندها.
وقد عملت في سبيل تحقيق هاتين الرغبتين على تسخير طائفة من الكُتّاب الحاقدين, الذين أسقطوا عداوتهم على دراسة الإسلام؛ بناءً على الصُّوَر المشوّهة في أذهانهم؛ فجاءت غالب بحوثهم في منتهى التعصب والإجحاف والتزوير, وكانت عبارة عن تبريرٍ لأطماع الغرب الباحث عن مستعمرات وراء البحار, واستلحاقٍ لأهل الشرق الباحثين عن طريق للخروج من الانحطاط.
وقد بثوا سمومهم الصليبية طعناً في القرآن وتشكيكاً في السنة, وإحياءً للخلافات والنعرات والعصبيات في التاريخ الإسلامي, وإبرازاً للصفحات السوداء ـ فقط! ـ من تراث الحضارة الإسلامية. فقد مثّلتِ الدراسات الاستشراقية جنايةً على الإسلام والإنسان وتنكّبتِ الموضوعيةَ العلمية, وكشفت الروح الصليبية التي تحكم كتابات (غولد زيهر)، و(شاخت)، و(مونتغمري وات)، و(نويل ج. كولسون)، و(مرجليوث)، و(يودوفيتش)، و(رينان)5..(/1)
وثالثة هذه الدعائم: المسألة الاستعمارية القائمة على النّرجسية العرقية الغربية, كما يجده دارس أدبيات ما قبل الاستعمار من تكريس فكرة أحقية الغرب في استتباع العالم ببَلْوَرَة المفاهيم المركزية الغربية, وتظافرها مع التبشير باسم (العقل) و(العقلانية) و(الموضوعية العلمية). فالمتأمِّل في كتابات (هيجل 6(مثلاً يرى نموذجاً من طغيان الفكرة الاستكبارية الغربية؛ التي كانت أساساً ومبرِّراً للحملات الاستعمارية الصليبية، حيث شحن كتبه بالافتراء على الحضارات الأخرى وتحقيرها؛ ليسوِّغ إلحاقها بالتبعية إلى المركزية الغربية كما في مقولاته المشهورة: "لا توجد فلسفة بالمعنى الحقيقي إلا في الغرب"، و"في الطبعِ الشرقيِّ الروحُ غارقةٌ في الطبيعة"، و"الفكر هنا غيبيٌّ تماماً"؛ وبناءً على ذلك تأسست أيديوجية الشعب المتحضر المسيطر على غيره من الشعوب المتوحّشة، كما عبّر (هيجل) عن ذلك بأنه "الحق الذي يملكه الشعب المسيطر على التاريخ العالمي؛ لأنه ممثل الدرجة الراهنة لروح العالم، أما بقية الشعوب فهي بلا حقوق ولا يحسب لها حساب في التاريخ العالمي"؛ لأنّ بقية الشعوب "برابرة لم يبلغوا ـ بَعْدُ ـ نفس اللحظة الجوهرية؛ لذلك نتعامل مع استقلالها كشيء شكلي".
فقد أصبح الاستعمار ـ إذن ـ عملاً (إنسانياً) يسوّغ غزو الشعوب المسماة بالمتوحشة، وفي ذلك يقول (فيري) بكل جرأة واستكبار: "لا بد من القول علنا أن الأعراق المتفوّقة لديها كامل الحق إزاء الأعراق الأدنى".
ورابعة هذه الدعائم: عقلية الاستتباع التي ارتضاها نخبة من ذوي الانبهار بقدرات الاستكبار الغربي ومن فيهم (قابلية الاستعمار) ـ بتعبير مالك بن نبي ـ ومن قَبْلِه علاّمة الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله القائل: "إنّ المغلوب مُولعٌ بتقليد الغالب". فقد عاش بعض (المُتَعَالِمين) من العالم الإسلامي اغتراباً كاملاً عن المقوّم الحضاري, واستجابةً عارمةً للنداء الاستكباري؛ حيث صدّق عليهم الاستعمار ظنه فاتبعوه, واستخفّهم ببُنَاه المعرفية وفلسفته المادية فأطاعوه؛ وصاروا معاولَ هدمٍ في صرح الثقافة الإسلامية ـ كما تراه في كتابات (طه حسين)، و(أحمد أمين)، و(علي عبد الرازق) ـ, وعواملَ نقضٍ لمقوّمات الهويّة والذاتيّة الحضاريّة. فقد صنع الاستعمار هذه النُخَب على عينه، وربّى عقولها ووجداناتها وتوجّهاتها ِوفق فلسفات مرجعيّته الفكرية؛ حتى غدَوْا متنكِّرين لِقيَمهم الدينية, مستكبرين على ثقافتهم الذاتيّة.
إذن، فقد كانت أخطر دعائم العلمانية في البلاد الإسلامية: استقطاب الخطاب الاستعماري فئاتٍ أصبحت تمثل منظومة الاستكبار الغربية, لكنها غريبةٌ معزولةٌ في ديار الإسلام، "جُزُرٌ في أوطانها" بتعبير (غريغوار)7. ويكفي في بيان استضعاف هذه النخبة وانهزامها واستتباعها ما كتبه أحد روادّها (د.طه حسين): "لقد التزمنا أمام أوروبا أن نذهب مذهبها في الحكم, ونسير سيرتها في الإدارة, ونسلك طريقها في التشريع، التزمنا هذا كلّه أمام أوروبا، وهل كان إمضاء معاهدة الاستقلال ومعاهدة إلغاء الامتيازات إلا التزاماً صريحاً قاطعاً أمام العالم المتحضر بأن نسير مسيرة الأوروبيين في الحكم والإدارة والتشريع؟ فلو أننا هممنا الآن أن نعود أدراجنا، وأن نجبي النظم العتيقة لما وجدنا إلى ذلك سبيلاً و لوجدنا أن أمامنا عقاباً لا تُجاز ولا تُذلّل, عِقاباً نقيمها نحن, وعِقاباً تقيمها أوروبا؛ لأننا عاهدناها أن نسايرها ونجاريها في طريق الحضارة الحديثة"8!
لماذا فشلت المناهج العلمانية في بلاد المسلمين؟
من أهم أسباب الفشل الذريع الذي وجدته العلمانية في العالم الإسلامي: أنها كانت مصادمةً للثوابت الدينية, وأنّ الذين استوردوها قد أغفلوا الفروق بين الواقع الغربي والواقع المسلم, فأسقطوا التجربة الكَنَسِيَّة البابويةَ المحاربةَ للعلم على واقعٍ مخالفٍ تماماً؛ فهي شجرةٌ قُطِعت من جذورها. ورحم الله مالك بن نبي حيث قال: "إن شيئاً ما قد يموت إذا قُطِع عن وسطه الثقافي المعتاد"9، وإنّ "الفرد إذا فقد صِلََته بالمجال الثقافي فإنه يموت ثقافياً" ، وكما أنّ لكل مجتمع "مقبرة يستودعها موتاه, فإن لديه مقبرةً يستودعها أفكاره الميتة, الأفكار التي لم يعد لها دور اجتماعي"10، وإنّ من أخطر أشكال العدوى: "ذلك الذي ينقل الأمراض الاجتماعية من جيل إلى جيل"11، و"هذه الجراثيم الخاصة أفكار معدية, أفكارٌ تهدم كيان المجتمعات وتعوق نموها"12.
وأخيرا نُسجّل ـ بناءً على انبتات العلمانية في ديارنا ـ أنّ تحضُّرَ الإنسان لا يكون إلا بتحدُّره من ثقافته كما يتحدَّر الجُمان، وأنّ الخروج من الانحطاط ليس بحثاً وراء المحيطات ولا استغراباً أو استيراداً للفلسفات, بل هو تحرير للذات، وانبعاث للثقافة من مكنونات الأمة, واستنهاض ما فيها من قدرات.
----------
[1] العلمانيّون والإسلام، للشيخ محمد قطب: 16ـ17 .
[2] أساليب الغزو الفكري، د. علي محمد جريشة: 60.(/2)
[3] راجع: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي: 2/690.
[4] راجع: مقدّمات الاستتباع، غريغوار منصور مرشو: 52 – 53.
[5] راجع: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية، الصادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في مطلع الخامس عشر الهجري. وهو كتاب نافع يقع في مجلدين كبيرين.
[6] انظر: كتابين لـ(هيجل): دروس في تاريخ الفلسفة، وأساليب فلسفة الحقوق.
[7] مقدمات الاستتباع: 53.
[8] مستقبل الثقافة في مصر، طه حسين: 1/36 – 37.
[9] مشكلة الثقافة، مالك بن نبي: 55.
[10] المرجع السابق: 50.
[11] مشكلة الثقافة: 46.
[12] المرجع السابق: 14.(/3)
العلمانية بين تسييس الكفر وتكفير السياسة
أد : يحيى هاشم حسن فرغل
لماذا يتخندق المسلمون في مركز الدفاع ضد تهمة العلمانية لهم بتكفير الآخر والإرهاب تحت مفهوم تديين السياسة وتسييس الدين ؟ بينما هي ترتكب جريمة تكفير السياسة وتسييس الكفر ؟
أليس اعتراضهم على تسييس الدين يعني تسييس الكفر
وأليس اعتراضهم على تديين السياسة يعني تكفيرالسياسة ؟
وأليس هذا معنى قولهم : لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة ولكن بصورة أدق ؟
و " من فمك أدينك " كما جاء في الكتاب المقدس ؟
وإذا كان من حقهم أن يقولوا :" لا دين في السياسة " باعتبار فهمهم المستورد ماكيافيليا لأبعاد السياسة .. أفلا يسلبون عن أنفسهم الحق في أن يقولوا لا سياسة في الدين باعتبار جهلهم الحقيقي بأبعاد الدين ؟
وإذا كانوا في مقياس الحقيقة مخطئين في معنى السياسة أفلا يكونون من باب أولى مخطئين في فهمهم لمعنى "الدين " ؟
وإذا كان شيخ الأزهر قد روج للعلمانية ضمنا في موقفه من فرنسا وهي تمنع الحجاب ، فإن شيخ الأوقاف قد أجازها صراحة بمنطق أنها بكسر العين تعني العلم ، وبفتحها تعني العالم وكلاهما مقبول إسلاميا ( في حديث له بتليفزون القاهرة بتاريخ 3\3 \ 2004
وشيخ الأوقاف أشبه في هذا ببابا الفاتيكان لو أنه افتراضا سئل عن الإسلام فقال إنه مقبول في نظر الكنيسة لأنه يعني السلام
وبابا الكنيسة لا يمكن أن يفعل ذلك لأنه يدرك ما لم يدركه شيخ الأوقاف من أن الكلام عن المصطلحات إنما يرجع فيه إلى واضعيها ، ولو اردنا عربيا أن نتكلم عن العلم لقلنا علمية ، ولو اردنا أن نتكلم عن العالم لقلنا عالمية أما أن تنطق علمانية فخطؤها عربيا يعني أن نرجع إلى الذين نحتوها لنعرف منهم ماذا يريدون ؟
هذا وإن كان بعض الكتاب يحاولون فض الاشتباك بين الإسلام والعلمانية حيث عرف معجم لاروس الفرنسي العلمانية بأنها "فصل الكنيسة عن الدولة"séparation de l’Eglise et de l’Etat قائلين : إنه أدق تعريف لها ،( لأنه يضعها في سياقها الثقافي والاجتماعي، ويكشف عن حدودها الزمانية والمكانية، على خلاف التعريف المبهم الذي يستخدمه أنصاف المثقفين في الوطن العربي، حين يجردون العلمانية من سياقها التاريخي ويسبغونها بصبغة عالمية، فيعرفونها بأنها "فصل الدين عن الدولة".) فإن التطبيق الواقعي لها في منبتها وتسويقها آل إلى وضع الدين موضع الكنيسة واخذوا يطالبون بإبعاد الدين عن الدولة في مختلف ممارساتها الخاصة بتنظيم شئون الحياة في السياسة والتربية والإعلام والثقافة والفن والعلم على السواء ،واسألوا أوربا وفي المقدمة منها فرنسا لماذا تمنع الحجاب ؟ وهذا ما بدا تطبيقه بتوسع مندفع منذ ما يقرب من قرن ، في بعض البلاد الإسلامية مثل تركيا ، وببطء محسوب في بلاد أخرى مثل مصر
ومظاهر ذلك تفوق الحصر بالرغم من ذر الرماد في العيون عندما نصت في دساتير بعض هذه الدول على أن الإسلام هو دين الدولة ، وأن الشريعة مصدر للتشريع .
الدين لله والوطن للجميع
لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة
لا دخل للدين في معاهدات الصلح والتطبيع مع العدو( وزارات ومؤسسات بدءا من الرئاسة إلى الخارجية إلى الحزب ، إلى المجلس النيابي إلخ )
لا حجاب للمشتغلات بالتدريس والخروج على شاشة التليفزيون
لا دخل للدين بحرية المرأة في الملبس والاختلاط في الشارع أو النوادي أو دور التعليم
لا دخل للدين بالفن وهو شعار وزارة الثقافة بأكملها وهي تصدر الكتب وتقيم المؤتمرات وتنتج أو تراقب المسرحيات والأفلام
لا حزب سياسيا بشعار ديني
لا دخل للدين في الاقتصاد والبنوك مهما كانت ربوية ( وزارات بكاملها )
لا دخل للدين بالسياحة ( وزارة بأكملها )
لا دخل للدين بملابس الرياضيين المكشوفة للجماهير
لا دخل للدين فيما أصدره المشرعون من قوانين مخالفة في جرائم وآداب
لا دخل للقضاء بالدين عند تطبيق قوانين مخالفة في جرائم وآداب
واسألوا وزارات التربية والتعليم والإعلام والثقافة والرياضة عن رأيها في نفس الموضوع(/1)
...
العلمانية وثمارها الخبيثة
رئيسي :فرق ومذاهب وأديان :
يتناول الدرس كلمات موجزة عن 'العلمانية وثمارها الخبيثة' في بلاد المسلمين؛ لعلها تُؤتي ثمارها في تبصير المسلمين بحقيقة هذه الدعوة، ومصادرها، وخطرها على ديننا، وآثارها المميتة، حتى نسارع في التحصن منها، ومقاومتها، وفضح دُعاتها، والقضاء عليها - بإذن الله - حتى نعود إلى ديننا، وتعود لنا العزة .
فإن أمتنا الإسلامية اليوم تمر بقترة من أسوأ فترات حياتها، فهي الآن ضعيفة مستذلة، قد تسلط عليها أشرار الناس من اليهود والنصارى، وعبدة الأوثان، وما لذلك من سبب إلا البُعد عن الالتزام بالدين الذي أنزله الله لنا هداية ورشادًا، وإخراجًا لنا من الظلمات إلى النور . قد كان لانتشار العلمانية على المستوى الرسمي، والفكري، والإعلامي الأثر الأكبر في ترسيخ هذا البُعد وتثبيته، والحيلولة دون الرجوع مرة أخرى إلى نبع الهداية ومعدن التقوى .
من هنا كانت هذه الكلمات الموجزة عن 'العلمانية وثمارها الخبيثة' في بلاد المسلمين؛ لعلها تُؤتي ثمارها في تبصير المسلمين بحقيقة هذه الدعوة، ومصادرها، وخطرها على ديننا، وآثارها المميتة، حتى نسارع في التحصن منها، ومقاومتها، وفضح دُعاتها، والقضاء عليها - بإذن الله - حتى نعود إلى ديننا، وتعود لنا العزة كما كانت:
} وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ[8]{ 'سورة المنافقون'.نسأل الله من فضله التوفيق والإرشاد والسداد .
ما هي العلمانية ؟
لن نتعب في العثور على الجواب الصحيح، فقد كفتنا القواميس المؤلفة في البلاد الغربية، التي نشأت فيها العلمانية مؤنة البحث والتنقيب، فقد جاء في 'القاموس الإنجليزي' أن كلمة: ' علماني ' تعني:
1- دنيوي، أو مادي .
2- ليس بديني، أو ليس بروحاني .
3- ليس بمترهب، ليس برهباني .
وجاء أيضاً في القاموس نفسه: [ العلمانية : هي النظرية التي تقول: إن الأخلاق والتعليم يجب أن لا يكونا مبنيين على أسس دينية] .
وفي 'دائر المعارف البريطانية' نجدها تذكر عن العلمانية أنها: حركة اجتماعية، تهدف إلى نقل الناس من العناية بالآخرة إلى العناية بالدار الدنيا فحسب . وحينما تحدثت عن العلمانية، تحدثت عنها ضمن حديثها عن الإلحاد، وقد قسمت دائرة المعارف الإلحاد إلى قسمين:
إلحاد نظري .
إلحاد عملي ، وجعلت العلمانية ضمن الإلحاد العملي .
وما تقدم ذكره يعني أمرين :
أولهما: أن العلمانية مذهب من المذاهب الكفرية، التي ترمي إلى عزل الدين عن التأثير في الدنيا، فهو مذهب يعمل على قيادة الدنيا في جميع النواحي السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية، والقانونية، وغيرها، بعيدًا عن أوامر الدين ونواهيه .
ثانيهما: أنه لا علاقة للعلمانية بالعلم- كما يحاول بعض المراوغين أن يلبس على الناس، بأن المراد بالعلمانية: هو الحرص على العلم التجريبي والاهتمام به، فقد تبين كذب هذا الزعم وتلبيسه بما ذكر من معاني هذه الكلمة في البيئة التي نشأت فيها- . ولهذا ، لو قيل عن هذه الكلمة: 'العلمانية' إنها:' اللادينية؛ لكان ذلك أدق تعبيرًا وأصدق' وكان في الوقت نفسه أبعد عن التلبيس، وأوضح في المدلول .
كيف ظهرت العلمانية؟
كان الغرب النصراني في ظروفه الدينية المتردية هو البيئة التي نبتت فيها شجرة العلمانية، وقد كانت فرنسا بعد ثورتها المشهورة هي أول دولة تُقيم نظامها على أسس الفكر العلماني، ولم يكن هذا الذي حدث من ظهور الفكر العلماني والتقيد به - بما يتضمنه من إلحاد ، وإبعاد للدين عن كافة مجالات الحياة، بالإضافة إلى بغض الدين ومعاداته، ومعاداة أهله - لم يكن هذا حدثًا غريبًا في بابه، ذلك لأن الدين عندهم حينئذ لم يكن يمثل وحي الله الخالص الذي أوحاه إلى عبده ورسوله المسيح عيسى ابن مريم - عليه السلام - ، وإنما تدخلت فيه أيدي التحريف والتزييف، فبدلت وغيرت وأضافت وحذفت ، فكان من نتيجة ذلك أن تعارض الدين المُبدَّل مع مصالح الناس في دنياهم ومعاملاتهم، في الوقت نفسه الذي تعارض مع حقائق العلم الثابتة، ولم تكتفِ الكنيسة - الممثلة للدين عندهم - بما عملته أيدي قسيسيها ورهبانها من التحريف والتبديل، حتى جعلت ذلك دينًا يجب الالتزام والتقيد به، وحاكمت إليه العلماء المكتشفين، والمخترعين، وعاقبتهم على اكتشافاتهم العلمية المناقضة للدين المبدل، فاتهمت بالزندقة والإلحاد، فقتلت من قتلت، وحرَّقت من حرَّقت، وسجنت من سجنت . ومن جانب آخر فإن الكنيسة - الممثلة للدين عند النصارى - أقامت تحالفًا غير شريف مع الحكام الظالمين ، وأسبغت عليهم هالاتٍ من التقديس ، والعصمة ، وسوَّغت لهم كل ما يأتون به من جرائم وفظائع في حق شعوبهم، زاعمة أن هذا هو الدين الذي ينبغي على الجميع الرضوخ له والرضا به .(/1)
من هنا بدأ الناس هناك يبحثون عن مهرب لهم من سجن الكنيسة ومن طغيانها، ولم يكن مخرجهم الذي اختاروه إذ ذاك، إلا الخروج على ذلك الدين - الذي يحارب العلم ويناصر المجرمين - والتمرد عليه، وإبعاده وطرده، من كافة جوانب الحياة السياسية، والاقتصادية، والعلمية، والأخلاقية، وغيرها .
وإذا كان هذا الذي حدث في بلاد الغرب النصراني ليس بغريب ، فإنه غير ممكن في الإسلام، بل ولا متصور الوقوع، فوحي الله في الإسلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلا هو ممكن التحريف والتبديل، ولا هو ممكن أن يُزاد فيه أو يُنقص منه، وهو في الوقت نفسه لا يحابي أحدًا، سواء كان حاكمًا أو محكومًا، فالكل أمام شريعته سواء، وهو أيضًا يحافظ على مصالح الناس الحقيقية، فليس فيه تشريع واحد يُعارض مصلحة البشرية، وهو أيضًا يحرص على العلم ويحض عليه، وليس فيه نص شرعي صحيح يُعارض حقيقة علمية، فالإسلام حق كله، عدل كله.
ومن هنا فإن كل الأفكار والمناهج التي ظهرت في الغرب بعد التنكر للدين والنفور منه، ما كان لها أن تظهر، بل ما كان لها أن تجد آذانًا تسمع في بلاد المسلمين، لولا عمليات الغزو الفكري المنظمة، والتي صادفت في الوقت نفسه قلوبًا من حقائق الإيمان خاوية، وعقولاً عن التفكير الصحيح عاطلة، ودينًا في مجال التمدن ضائعة متخلفة .
صور العلمانية:
للعلمانية صورتان، كل صورة أقبح من الأخرى:
الصورة الأولى : العلمانية الملحدة : وهي التي تنكر الدين كلية، وتنكر وجود الله الخالق، ولا تعترف بشيء من ذلك، بل وتحارب وتعادي من يدعو إلى مجرد الإيمان بوجود الله، وهذه العلمانية على فجورها ووقاحتها في التبجح بكفرها، إلا أن الحكم بكفرها أمر ظاهر، فلا ينطلي أمرها على المسلمين ، ولا يُقبل عليها من المسلمين إلا رجل يريد أن يفارق دينه، وخطر هذه الصورة من العلمانية من حيث التلبيس على عوام المسلمين خطر ضعيف، وإن كان لها خطر عظيم من حيث محاربة الدين، ومعاداة المؤمنين وحربهم وإيذائهم بالتعذيب، أو السجن أو القتل .
الصورة الثانية : العلمانية غير الملحدة- والعلمانية في جميع صورها وأشكالها هي في الحقيقة ملحدة ، سواء منها ما ينكر وجود الله ، وما لا ينكر ؛ لأن أصل الإلحاد في لغة العرب معناه : العدول عن القصد ، والميل إلى الجور والانحراف . وإنما قلنا علمانية ملحدة ، وغير ملحدة ، جريًا على ما اشتهر عند الناس اليوم : أن الإلحاد يطلق على إنكار وجود الله فقط :
وهي علمانية لا تنكر وجود الله ، وتؤمن به إيمانًا نظريًا: لكنها تنكر تدخل الدين في شئون الدنيا، وتنادي بعزل الدين عن الدنيا، وهذه الصورة أشد خطرًا من الصورة السابقة؛ من حيث الإضلال والتلبيس على عوام المسلمين، فعدم إنكارها لوجود الله ، وعدم ظهور محاربتها للتدين- فكثير من الناس لا يظهر لهم محاربة العلمانية غير الملحدة للدين؛ لأن الدين انحصر عندهم في نطاق بعض العبادات ، فإذا لم تمنع العلمانية مثلاً الصلاة في المساجد، أو لم تمنع الحج إلى بيت الله الحرام؛ ظنوا أن العلمانية لا تحارب الدين، أما من فهم الدين بالفهم الصحيح، فإنه يعلم علم اليقين محاربة العلمانية للدين، فهل هناك محاربة أشد وأوضح من إقصاء شريعة الله عن الحكم في شتى المجالات- وهذا يغطي على أكثر عوام المسلمين حقيقة هذه الدعوة الكفرية، فلا يتبينون ما فيها من الكفر؛ لقلة علمهم ومعرفتهم الصحيحة بالدين، ولذلك تجد أكثر الأنظمة الحاكمة اليوم في بلاد المسلمين أنظمة علمانية، والكثرة الكاثرة، والجمهور الأعظم من المسلمين لا يعرفون حقيقة ذلك .
ومثل هذه الأنظمة العلمانية اليوم، تحارب الدين حقيقة، وتحارب الدعاة إلى الله، وهي آمنة مطمئنة أن يصفها أحد بالكفر والمروق من الدين؛ لأنها لم تظهر بالصورة الأولى، وما ذلك إلا لجهل كثير من المسلمين، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا وسائر المسلمين ، وأن يفقه الأمة في دينها حتى تعرف حقيقة هذه الأنظمة المعادية للدين. ولهذا فليس من المستبعد أو الغريب عند المسلم الفاهم لدينه أن يجد في كلمات أو كتابات كثير من العلمانيين المعروفين بعلمانيتهم ذكر الله سبحانه وتعالى، أو ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، أو ذكر الإسلام، وإنما تظهر الغرابة وتبدو الدهشة عند أولئك الذين لا يفهمون حقائق الأمور .(/2)
والخلاصة: أن العلمانية بصورتيها السابقتين كفر بواح لاشك فيها ولا ارتياب، وأن من آمن بأي صورة منها وقبلها فقد خرج من دين الإسلام، وذلك أن الإسلام دين شامل كامل، له في كل جانب من جوانب الإنسان: الروحية، والسياسية، والاقتصادية، والأخلاقية، والاجتماعية، منهج واضح وكامل، ولا يقبل ولا يُجيز أن يشاركه فيه منهج آخر، قال الله تعالى مبينًا وجوب الدخول في كل مناهج الإسلام وتشريعاته:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً[208] {'سورة البقرة'. وقال تعالى مبينًا كفر من أخذ بعضًا من مناهج الإسلام، ورفض البعض الآخر:} أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[85]{ 'سورة البقرة'. والأدلة الشرعية كثيرة جدًا في بيان كفر وضلال من رفض شيئًا محققًا معلومًا أنه من دين الإسلام، ولو كان هذا الشيء يسيرًا جدًا، فكيف بمن رفض الأخذ بكل الأحكام الشرعية المتعلقة بسياسة الدنيا - مثل العلمانيين - من فعل ذلك فلاشك في كفره .
والعلمانييون قد ارتكبوا ناقضًا من نواقض الإسلام، يوم أن اعتقدوا أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، وأن حكم غيره أفضل من حكمه، قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله:' ويدخل في القسم الرابع - أي من نواقض الإسلام - من اعتقد أن الأنظمة القوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام، أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين، أو أنه كان سببًا في تخلف المسلمين، أو أنه يُحصر في علاقة المرء بربه، دون أن يتدخل في شئون الحياة الأخرى' 'وكتاب العقيدة الصحيحة للشيخ عبدالعزيز بن باز ص30'.
بعض الثمار الخبيثة للعلمانية :
1- رفض الحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى ، وإقصاء الشريعة عن كافة مجالات الحياة: والاستعاضة عن الوحي الإلهي المُنزَّل على سيد البشر صلى الله عليه وسلم بالقوانين الوضعية التي اقتبسوها عن الكفار المحاربين لله ورسوله، واعتبار الدعوة إلى العودة إلى الحكم بما أنزل الله، وهجر القوانين الوضعية، اعتبار ذلك تخلفًا ورجعية وردة عن التقدم والحضارة، وسببًا في السخرية من أصحاب هذه الدعوة واحتقارهم، وإبعادهم عن تولي الوظائف التي تستلزم الاحتكاك بالشعب والشباب، حتى لا يؤثروا فيهم .
2- تحريف التاريخ الإسلامي وتزييفه ، وتصوير العصور الذهبية لحركة الفتوح الإسلامية ، على أنها عصور همجية تسودها الفوضى ، والمطامع الشخصية .
3- إفساد التعليم وجعله خادمًا لنشر الفكر العلماني وذلك عن طريق :
بث الأفكار العلمانية في ثنايا المواد الدراسية بالنسبة للتلاميذ ، والطلاب في مختلف مراحل التعليم .
تقليص الفترة الزمنية المتاحة للمادة الدينية إلى أقصى حد ممكن .
منع تدريس نصوص معينة لأنها واضحة صريحة في كشف باطلهم .
تحريف النصوص الشرعية عن طريق تقديم شروح مقتضبة ومبتورة لها، بحيث تبدو وكأنها تؤيد الفكر العلماني، أو على الأقل أنها لا تعارضه .
إبعاد الأساتذة المتمسكين بدينهم عن التدريس ، ومنعهم من الاختلاط بالطلاب ، وذلك عن طريق تحويلهم إلى وظائف إدارية أو عن طريق إحالتهم إلى المعاش .
جعل مادة الدين مادة هامشية ، حيث يكون موضعها في آخر اليوم الدراسي، وهي في الوقت نفسه لا تؤثر في تقديرات الطلاب .
4- إذابة الفوارق بين حملة الرسالة الصحيحة ، وهم المسلمون ، وبين أهل التحريف والتبديل والإلحاد ، وصهر الجميع في إطار واحد ، وجعلهم جميعًا بمنزلة واحدة من حيث الظاهر ، وإن كان في الحقيقة يتم تفضيل أهل الكفر والإلحاد والفسوق والعصيان على أهل التوحيد والطاعة والإيمان : فالمسلم والنصراني واليهودي والشيوعي والمجوسي والبرهمي كل هؤلاء وغيرهم، في ظل هذا الفكر بمنزلة واحدة يتساوون أمام القانون، لا فضل لأحد على الآخر إلا بمقدار الاستجابة لهذا الفكر العلماني . وفي ظل هذا الفكر يكون لا حرج فيه ، كذلك لا حرج عندهم أن يكون اليهودي أو النصراني أو غير ذلك من النحل الكافرة حاكمًا على بلاد المسلمين . ويحاولون ترويج ذلك في بلاد المسلمين تحت ما سموه بـ 'الوحدة الوطنية ' . بل جعلوا 'الوحدة الوطنية ' هي الأصل والعصام، وكل ما خالفها من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم طرحوه ورفضوه ، وقالوا:هذا يعرض الوحدة الوطنية للخطر !! .
5- نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية ، وتهديم بنيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الاجتماعية ، وتشجيع ذلك والحض عليه : وذلك عن طريق :
القوانين التي تبيح الرذيلة ولا تعاقب عليها ، وتعتبر ممارسة الزنا والشذوذ من باب الحرية الشخصية التي يجب أن تكون مكفولة ومصونة .(/3)
وسائل الإعلام المختلفة من صحف ومجلات وإذاعة وتلفاز التي لا تكل ولا تمل من محاربة الفضيلة ، ونشر الرذيلة بالتلميح مرة ، وبالتصريح مرة أخرى ليلاً ونهارًا .
محاربة الحجاب وفرض السفور والاختلاط في المدارس والجامعات والمصالح والهيئات .
6- محاربة الدعوة الإسلامية عن طريق :
تضييق الخناق على نشر الكتاب الإسلامي ، مع إفساح المجال للكتب الضالة المنحرفة التي تشكك في العقيدة الإسلامية ، والشريعة الإسلامية .
إفساح المجال في وسائل الإعلام المختلفة للعلمانيين المنحرفين لمخاطبة أكبر عدد من الناس لنشر الفكر الضال المنحرف ، ولتحريف معاني النصوص الشرعية ، مع إغلاق وسائل الإعلام في وجه علماء المسلمين الذين يُبصِّرون الناس بحقيقة الدين .
7- مطاردة الدعاة إلى الله ، ومحاربتهم ، وإلصاق التهم الباطلة بهم ، ونعتهم بالأوصاف الذميمة ، وتصويرهم على أنهم جماعة متخلفة فكريًا ، ومتحجرة عقليًا ، وأنهم رجعيون ، يُحاربون كل مخترعات العلم الحديث النافع ، وأنهم متطرفون متعصبون لا يفقهون حقيقة الأمور ، بل يتمسكون بالقشور ويَدعون الأصول .
8- التخلص من المسلمين الذين لا يهادنون العلمانية ، وذلك عن طريق النفي أو السجن أو القتل .
9- إنكار فريضة الجهاد في سبيل الله ، ومهاجمتها واعتبارها نوعًا من أنواع الهمجية وقطع الطريق:
وذلك أن الجهاد في سبيل الله معناه القتال لتكون كلمة الله هي العليا، وحتى لا يكون في الأرض سلطان له القوة والغلبة والحكم إلا سلطان الإسلام، والقوم - أي العلمانيين - قد عزلوا الدين عن التدخل في شئون الدنيا، وجعلوا الدين - في أحسن أقوالهم - علاقة خاصة بين الإنسان وما يعبد، بحيث لا يكون لهذه العبادة تأثير في أقواله وأفعاله وسلوكه خارج مكان العبادة . فكيف يكون عندهم إذاً جهاد في سبيل إعلاء كلمة الدين ؟!!
والقتال المشروع عند العلمانيين وأذنابهم إنما هو القتال للدفاع عن المال أو الأرض ، أما الدفاع عن الدين والعمل على نشره والقتال في سبيله، فهذا عندهم عمل من أعمال العدوان والهمجية التي تأباها الإنسانية المتمدنة !!
10- الدعوة إلى القومية أو الوطنية: وهي دعوة تعمل على تجميع الناس تحت جامع وهمي من الجنس، أو اللغة، أو المكان، أو المصالح، على ألا يكون الدين عاملاً من عوامل التجميع ، بل الدين من منظار هذه الدعوة يُعد عاملاً من أكبر عوامل التفرق والشقاق، حتى قال قائل منهم :'والتجربة الإنسانية عبر القرون الدامية ، دلَّت على أن الدين - وهو سبيل الناس لتأمين ما بعد الحياة - ذهب بأمن الحياة ذاتها ' .
هذه هي بعض الثمار الخبيثة التي أنتجتها العلمانية في بلاد المسلمين ، وإلا فثمارها الخبيثة أكثر من ذلك بكثير .
والمسلم يستطيع أن يلمس كل هذه الثمار، أو جُلها في غالب بلاد المسلمين، وهو في الوقت ذاته يستطيع أن يُدرك إلى أي مدى تغلغلت العلمانية في بلدٍ ما اعتمادًا على ما يجده من هذه الثمار الخبيثة فيها . والمسلم أينما تلفت يمينًا أو يسارًا في أي بلد من بلاد المسلمين يستطيع أن يدرك بسهولة ويسر ثمرة، أو عدة ثمار من هذه الثمار الخبيثة، بينما لا يستطيع أن يجد بالسهولة نفسها بلدًا خاليًا من جميع هذه الثمار الخبيثة .
من رسالة:'العلمانية وثمارها الخبيثة' للشيخ/ محمد شاكر الشريف(/4)
العلمانية وخديعة استبعاد الدين
[الكاتب: يحيى هاشم حسن فرغل]
زعموا أن العلمانية سر التقدم في العالم المعاصر الذي ما حدث إلا بخلع الدين.. ولقد زيفوا فيما زعموا.. ثم كذبوا..
أما أنهم زيفوا فذلك أنهم - ضمن " حرب المصطلحات " كما بينا في المقال الأسبق - أدخلوا إلى البيئة الإسلامية مصطلح العلمانية، لغير مشكلة فيها، ثم استوردوا له المشكلة، ونادوا بدوره في حلها!!
وأما أنهم كذبوا فلأن الدولة الدينية مازالت في صلب الدولة الحديثة شديدة التطور في أوربا وأمريكا
وقد بينا في مقال سابق أنه في علاقة الغرب بنا كانت حروبهم معنا دينية، ليس ذلك فحسب في حروبهم التاريخية المتقادمة ضدنا في الحروب الصليبية، أوفي حروبهم ضد المسلمين في الأندلس ولكن في حروبهم ضد المسلمين في عقر دار العصر الحديث عصر التنوير والحداثة لإبعاد المسلمين عن دينهم أولا ثم لتنصيرهم من بعد ذلك وهاهو التنصير في فرصته التاريخية ومرحلته الجديدة بدءا من العراق.
وسوف نبين في مقال قادم نشاط كنائس الغرب في مجال السياسة نشاطا يلقى الاحتفال والاحترام والاعتراف والتقدير من الجماهير والرأي العام وأصحاب النفوذ على السواء إلى حد اشتراك العلمانيين أنفسهم في " زفة " هذا التقدير.
وسنبين هنا تداخل المفاهيم الدينية في بنية الدولة في الغرب وخططها السياسية مما يلقي على دعاة العلمانية بتهمة خداع الرأي العام الإسلامي في دعوتهم إياه إلى استبعاد الدين بحجة التقدم!!
ونهتم بأن نذكر من ذلك كله ما كان قبل ظهور مجموعة بوش والمحافظين الجدد قبيل الحادي عشر من سبتمبر 2001 رفعا لتوهم أنها حالة عابرة.. كما أننا لم نقتصر على ملابسات خاصة بأحزاب المحافظين أو المتشددين رفعا لتوهم أنها حالة حزبية معزولة.. كما أننا لن نذهب بعيدا في التاريخ رفعا لتوهم أنها حالة ماضوية كما يود العلمانيون لنا أن نفهم.
وإذا كان من المشهور اليوم ظهور التلاحم بين السياسة والدين في مجال البروتستنت - في نموذج المحافظين الجدد - فسوف نهتم هنا بإبراز ذلك التلاحم في مجال الكاثوليك.. وإذا كان من المشهور اليوم اشتغال رجال السياسة بالدين فسوف نهتم هنا غالبا بإبراز اشتغال رجال الدين بالسياسة.
وفيما يختص ببيان تداخل المفاهيم الدينية في بنية الدولة في الغرب وخططها السياسية:
يقول الأمير شكيب أرسلان: (هل يظن الناس عندنا في الشرق أن نهضة من نهضات أوربا جرت دون تربية دينية؟ أفلم يقل رئيس نظار ألمانيا في الرايستاغ منذ ثلاث سنوات - نشر الأمير كتابه عام 1930 -: إن ثقافتنا مبنية على الدين المسيحي؟) [أنظر لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم: طبعة 1965 / ص 147].
وفي ألمانيا الديموقراطية قبل الاتحاد الذي تم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي - وقد كانت تقوم على تعاليم ماركس وإنجلز ولينين أصبح مارتن لوثر - بالرغم من ذلك - أحد آبائها الأيديولوجيين، حيث اعتبرته المدرسة الماركسية من خلال إنجلز رائدا لثورة اجتماعية سياسية لم يكن عنده الجرأة على استيعاب ما يترتب عليها!!
أما في ألمانيا الاتحادية - وأيضا بعد اندماج الألمانيتين بالطبع - فإن الدين ملتصق بالدولة تحمي مؤسساته ومصالح هذه المؤسسات سواء كانت لوثرية أو كاثوليكية، والكنائس في ألمانيا تعتبر أغنى كنائس العالم، والتعليم الديني إجباري في المدارس إلى سن الرابعة عشرة، إذ يفرض على الطالب البروتستانتي تعلم اللوثرية، وعلى الطالب الكاثوليكي تعلم الكاثوليكية.
وفي بريطانيا: أين هو الفصل بين الكنيسة والدولة؟ أليس ملك بريطانيا هو رئيس الكنيسة في الوقت نفسه؟
وإذا كان العلماني المعروف الأستاذ أحمد بهاء الدين أراد أن يخفف عنا هذه الحقيقة بقوله: (ملكة انجلترا هي رئيسة الكنيسة الإنجليزية ولكنها لا تأمر أو توجه ناقلة رأي الكنيسة إلى البرلمان المنتخب من الشعب)، فإن الحقيقة لا تنتهي عند هذه النقطة كما يريد لنا الكاتب أن نفهم، لأن السؤال هو: وما دور البرلمان المنتخب من الشعب بعد أن تنقل إليه الملكة رأي الكنيسة؟
واقرءوا معنا قصة الإفخاريستا... يقول الأمير شكيب أرسلان: (لم يحدث في التاريخ أن مسألة من مسائل انجلترا الداخلية أخذت في الأهمية الدور الذي أخذته قصة " الأفخاريستا " وهي قصة تحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح..(/1)
وأصل هذه العقيدة ما رواه الإنجيل من أن السيد المسيح عليه السلام قبل صعوده إلى السماء تمشى مع تلاميذه وودعهم، وبينما هو على المائدة تناول لقمة من الخبز وقال: كلوا هذا جسدي، وشرب جرعة من الخمر وقال: اشربوا هذا دمي، فتكونت من هذه الكلمات في النصرانية عقيدة معناها أن الخبز والخمر يستحيلان إلى جسد الرب تماما حقيقة لا مجازا، ولما كان القسيس هو خليفة المسيح كان لابد له كل يوم عند التقديس في الكنيسة أن يتناول لقمة من الخبز ويشرب رشفة من الخمر وهو يتلفظ الكلمات التي تفوه بها السيد المسيح عليه السلام في أثناء عشائه مع الحواريين. فمتى فعل ذلك تحول هذا الخبز وهذا الخمر إلى جسد الرب حقيقة لا مجازا، ولذلك يوضع هذا الخبز ويسمونه القربان في حُق ثمين فوق المذبح من الكنيسة، ويسجدون له، وذلك باعتبار أن هذا القربان هو الإله نفسه، ويسمون وجود الله فيه بالحضور الحقيقي.
وقد كانت هذه العقيدة هي عقيدة المسيحيين جميعا ولا يزال عقيدة أكثرهم إلى اليوم، إلا أنه عندما جرى الإصلاح البروتستانتي تغير الاعتقاد عند أتباعه بقضية الحضور الحقيقي، وقالوا: إن هذا مجاز لا حقيقة، وأنه مجرد رمز وتذكار، وعدلوا عن وضع القربان فوق المذبح والسجود له باعتبار أنه هو الإله بذاته، وصاروا في كنائس البروتستانت يجعلون هذا القربان في تجويف خاص به من الحائط.
ولكن الكنيسة الإنجليكانية - الكنيسة العليا في انجلترا - لم يتفق رأيها في قضية القربان: أن يكون التحول فيه حقيقيا أو مجازيا؟ وأصبحت مسألة خلافية بين اليمين والوسط واليسار، وخيف فيها من انشقاق عام. عندئذ أمرت الحكومة البريطانية بتأليف مجمع من الأساقفة تحت رياسة أسقف كانتربري لحل المشكلة، فانعقد المجمع زمنا طويلا ولم يوفق إلى حل. وأخيرا ألحت الحكومة على هؤلاء الأساقفة بأن يبتوا في القضية، فحكموا بالأكثرية - مع مخالفة ستة من المطارنة - بأن الخبز والخمر يستحيلان في قداس الكاهن إلى جسد المسيح ودمه، وعليه يجب عبادتهما والسجود لهما ووضعهما في أعلى المذبح لا في كوة حائط الكنيسة، يعني انهم رجعوا في ذلك إلى العقيدة الكاثوليكية.
هذا ولما كان القانون الأساسي لبريطانيا يوجب القول بالفصل في جميع القضايا الدينية لمجلس اللوردات ولمجلس العموم، عملا بكتاب الصلاة الذي هو مرجع الأمة الإنجليزية أحيل حكم المطارنة هذا إلى مجلس اللوردات، وكانت للمناقشات فيه جلسات متعددة بلغت من اهتمام الملأ ما لم تبلغه المناقشات في أية مسألة.. وأخيرا؛ أيد مجلس اللوردات بالأكثرية قرار مجمع الأساقفة، فلما جاءت القضية إلى مجلس العموم نقضوا قرار مجلس اللوردات وحكم مجمع الأساقفة، وقرروا أن الخبز والخمر لا يستحيلان بداهة إلى جسد السيد المسيح ودمه، واستندوا في ذلك إلى كتاب الصلاة المشار إليه سابقا، وعلى إثر هذا القرار من مجلس العموم استعفى رئيس أساقفة كنتربري من منصبه!!).
ويعلق الأمير شكيب ارسلان فيقول: (أين فصل الدين عن السياسة وأنت ترى أن مسالة دينية بحتة تطرح في مجلس اللوردات ومجلس النواب ويفصلان فيها، فإن لم تكن هاته المسألة دينية فما الديني إذن؟ وإن لم يكن مجلسا الشيوخ والنواب مختصين بالسياسة فما المجالس التي تختص بالسياسة بعدهما؟ فليتأمل القارئ المنصف مدى التضليل الذي يقوم به المضللون من المسلمين.. إما جهلا وتعاميا عن الحقيقة وإما خدمة للاستعمار الأوربي الذي ليس له غرض أعز عليه من أن يأتي على بنيان الإسلام من القواعد) [أنظر كتاب " لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم": للأمير شكيب أرسلان / ط 1965 / الهامش ص 97 - 101].(/2)
ولنستمع إلى شهادة الشاعر والفيلسوف الإنجليزي الشهير ت. س. إليوت في كتابه " ملاحظات نحو تعريف الثقافة " إذ يقرر أن الثقافة الأوربية العلمانية لم تقتلع المسيحية من جذورها ولكنها تعايشت معها وليس ذلك راجعا إلى مصالحة بين المسيحية والعلمانية ولكنه راجع إلى تملك الدين لناصية الثقافة في أي شعب إذ أن (تكوين دين هو تكوين ثقافة أيضا) أما عن أوربا المسيحية بالذات فإنه يقول: (إن سنن المسيحية المشترك هو الذي جعل أوربا ما هي)، وإذ يقول: (حين ندافع عن ديننا فلا بد لنا في معظم الأمر من أن نكون مدافعين عن ثقافتنا في الوقت نفسه والعكس بالعكس)، ويقول: (في المسيحية نمت فنونا وفي المسيحية تأصلت قوانين أوربا، وليس لتفكيرنا كله معنى أو دلالة خارج الإطار المسيحي)، (وقد لا يؤمن فرد أوربي بأن الإيمان المسيحي حق، ولكن ما يقوله ويصنعه ويأتيه كله من تراثه في الثقافة المسيحية ويعتمد في معناه على تلك الثقافة)، ويقول: (نحن مدينون لتراثنا المسيحي بأشياء كثيرة إلى جانب الإيمان المسيحي، فمن خلال ذلك التراث تنبع فنوننا، ومن خلاله نلقي مفهومنا للقانون الروماني الذي فعل ما فعل في تشكيل العالم الغربي، ومن خلاله نلقى مفاهيمنا عن الأخلاق الخاصة والعامة) [أنظر كتابه " ملاحظات نحو تعريف الثقافة ": ص 80، 145، 146].
ومن هنا يمكننا القول بأن أوربا مسيحية حتى في علمانيتها.
وفي هذا المعنى يقول الدكتور محمد عصفور: (إن عديدين من الفقهاء لا يترددون في أن يضفوا على الديموقراطية نفسها الطابع الديني، فمنهم من ردها إلى أصول مسيحية، ومنهم من اعتبر الديموقراطية العلمانية ذات طبيعة دينية، أو متعصبة دينيا حتى إن زعمت الفصل بين الدين والدولة) [جريدة الوفد: في 17\ 7\1987].
وكأنه يشير في هذا إلى القاعدة العلمانية المأخوذة من الكتاب المقدس: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وكأن العلمانية هي الأقرب إلى المسيحية من الكنيسة عندما كانت الكنيسة تمارس السلطة السياسية انحرافا منها وشهوة دنيوية ، وكأن العلمانية في بلادنا لا تصادم الإسلام فحسب ولكنها أحد أوجه النشاط التبشيري التابع للكنيسة، ومن ثم كان لابد للعلمانية من أن تبدي الاحترام إلى حد الانحناء أمام الكنيسة والفاتيكان على الخصوص.
أما في الولايات المتحدة فقد أوضح الدكتور يوسف الحسن الدبلوماسي بدولة الإمارات أن الدين يهيمن على أخطر القرارات السياسية والدولية وذلك في رسالته للدكتوراة بعنوان "الاتجاهات الصهيونية في الحركة الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة"، التي قدمها لكلية الاقتصاد والعلوم السياسة بجامعة القاهرة بإشراف الأستاذ الدكتور إبراهيم درويش ومشاركة الأستاذ الدكتور كمال أبو المجد والدكتور محمد عصفور وقد أجيزت الرسالة بامتياز ومرتبة الشرف مع تبادل الرسالة مع الجامعات الأجنبية.
وتبين الرسالة أن أخطر معتقدات هذه المسيحية الصهيونية تلك النبوءة التوراتية عن عودة اليهود إلى فلسطين، وإقامة دولتهم وملكهم فيها، وترتبط هذه النبوءة بشطر آخر يربط بين إقامة دولة إسرائيل وبين التبشير بعودة المسيح ليحكم باسم النصرانية ألف عام قبل أن تقوم القيامة. كذلك ترتبط بنبوءة لاهوتية عن قرب نهاية العالم حينما تغزو جيوش " السوفييت " وإيران والعرب والأفارقة والصين!! دولة إسرائيل.. عندئذ يعود المسيح إلى الأرض بجيش من القديسين لمعاقبة غير المؤمنين وتحطيمهم في معركة تقع بسهل المجدل بفلسطين.
ولقد كسبت الصهيونية اليهودية الكثير من وراء سيطرة هذه النبوءات على عقول الساسة الأمريكيين والإنجليز والبروتسانت والرؤساء الأمريكان: ويلسون، وروزفلت، وكارتر، وريجان، والرؤساء الإنجليز: بالمرستون وبلفور وتشرشل وغيرهم - هكذا قبل أن يظهر على المسرح " محافظون جدد " ولا يحزنون، كما يحاول بعضهم أن يقزم القضية ويحصرها في أمثال بوش، ورامسفيلد، وولفوفتز وبيرد وأمثالهم.
وتستخدم الحركة الأصولية الصهيونية المسيحية نفس الأساليب والوسائل التي تستخدمها المنظمات والمؤسسات غير الدينية للتأثير في السياسة العامة، وقد ملكت في العقود الأخير وأدارت احدث أدوات الاتصال الجماهيري من محطات مسموعة ومرئية، وصارت لها مؤسساتها ولجانها وقنواتها،وقدرت ثرواتها بالمليارات، وبلغ مجموع ما قدمه الأمريكيون من تبرعات ومساهمات لهذه الكنائس في عام واحد هو 1982 حوالي واحد وستين مليارا من الدولارات. وقدرت نسبة الأمريكيين المستمعين والمشاهدين لبرامجها عام 1980 بحوالي 47% من مجمل السكان.(/3)
ويواصل الدكتور محمد عصفور تلخيصه لنتائج الرسالة المشار إليها فيقول: (وحتى ندرك ما تملكه الحركة الأصولية المسيحية الصهيونية من قوة اقتصادية هائلة يكفي أن نعلم أن ما أنفقته إحدى منظماتها على الدعاية في محطات التليفزيون وكذلك على التنظيم والتعبئة السياسية خلال انتخابات 1984 حوالي مائة مليون دولار، وهو يفوق ما أنفقه ريجان ومنافسه مونديل معا خلال الانتخابات، ولا تقتصر اهتمامات الحركة بمساندة إسرائيل وإن كانت تستحوذ على جانب كبير من نشاطها - فهي بالإضافة لذلك لها اهتمامها بصياغة السياسة الأمريكية الخارجية سواء بالنسبة لبرامج المساعدات الدولية وبخاصة في العالم الثالث، أو طبع السياسة الخارجية بطابع العداء للشيوعية (!!)، وزرع هذا العداء في العقل الشعبي وفي فلسفة المجتمع وتسخيره دوليا لإقرار سياسة دولية إرهابية).
هذه السياسة الدولية الإرهابية ضد المدنيين التي تمتد منذ إسقاط الأسطول الأمريكي في الخليج في عام 1988 أثناء حرب الخليج طائرة مدنية أغلبها مسلمون أهلكت ركابها الثلاثمائة إلى سلسلة المذابح والدمار الذي يتساقط فوق رءوس المسلمين في بيوتهم وشوارعهم ونواديهم ابتداء من فلسطين وأفغانستان والعراق وهلم جرا!
فهل قرأت عقول ساستنا ودعاتنا وعلمانيينا وأبناء جلدتنا من عرب المهجر ومسلميهم مثل هذه الدراسة الجادة قبل أن تلتصق رقابنا بمذبح هذه العقيدة الصهيونية المسيحية بعقود، أم أنها انتظرت حتى تكتشف ببلاهة شماعة رامسفيلد وولفوفيتز كأنهم " أمسكوا الديب من ديله " وإذا بهم لا يمسكون غير ديل صناعي مقطوع؟ مع الاعتذار للمثل الشعبي، أم أنهم علموا وتعاموا بفعل التماهي العلماني بينهم وبين هذه الصهيونية المسيحية " الدينية "؟
ويعلق الدكتور محمد عصفور فيقول: (إنه من الشاذ أن تكون أقوى الأحزاب الأوربية هي الأحزاب المسيحية وأن تكون أقوى الحركات السياسية هي الحركة الأصولية المسيحية ثم تحظر في بلادنا الأحزاب الدينية؟)
ولنقطع هنا سياق هذا التعليق الذي كتبه الدكتور محمد عصفور منذ عشرين عاما لنسوق ردا على مثل سؤاله صدر منذ أيام قلائل من الدكتور بلتاجي وزير السياحة - سابقا - والإعلام حاليا بمصر في قناة فضائية وهو يبرر عدم السماح بإنشاء حزب إسلامي في مصر بحجة أن إنشاء هذا الحزب رسميا - بالرغم من الاعتراف بوجوده فعليا - يعني أن غير المنتمين إليه ليسوا مسلمين، متجاهلا أن مثل هذه الحجة لو صحت فإنها تعني عدم السماح بإنشاء أي حزب في أي مكان في العالم، لأن أي حزب من الأحزاب في جميع أنحاء العالم سوف توجه إليه التهمة الساذجة نفسها، في حين أنه لا يضم ولا يدعي أنه يضم جميع الأفراد الذين ينتمون إلى عقيدة الحزب، وإنما هو على أقصى تقدير يدعي أنه يضم من " يتبرع للعمل الحركي لهذا الحزب " أو ذاك، والمحاكمة أوالمحاسبة في هذا ترجع لبرنامج الحزب المسموح به قانونا: إن كان يدعي هذا الأمر أو ذاك، ولو طبقنا هذا المقياس على إنشاء الحزب " الوطني الديموقراطي " الذي ينتمي إليه الوزير نفسه لكان معنى ذلك أن في قيامه اتهاما لغير من ينتمي إليه باللاوطنية واللاديموقراطية، وهو ادعاء ظاهر البطلان.
كما ادعى الوزير أن السماح بإنشاء حزب إسلامي يعني السماح بإنشاء حزب مسيحي؟ ولم لا؟ وحجة الوزير في عدم السماح بذلك أن إنشاء أحزاب إسلامية وأخرى مسيحية يعني إثارة الفرقة الطائفية منطلقا من عقيدة الحزب الواحد الأحد، متناسيا أن للمسيحيين - دون غيرهم - في مصر مؤسستهم الأقوى من أي حزب، وهي الكنيسة بما لها من صلاحيات صارمة في جميع المجالات، فإنشاء حزب لهم لا يعنيهم كثيرا، وهو ليس إلا تحصيل حاصل من درجة اقل في حال قيامه، متجاهلا في الوقت نفسه فلسفة إنشاء الأحزاب نفسها - في الفكر الديموقراطي الذي اصبح الجميع يدعيه - وأنها تقوم على فلسفة الاعتراف بواقع التعددية والممارسة السلمية مختلفة تماما عن الفلسفة الإستئصالية للحزب الواحد الذي أخذ يتوارى عن الساحة السياسية في العالم منذ سقوط الاتحاد السوفيتي
لكنها العقلية العلمانية التي تتكشف من رماد بيئة استئصالية لازالت تداعب عقول الكثيرين.
ولنرجع إلى تعليق الدكتور محمد عصفور إذ يقول موجها كلامه إلى العلمانيين: (أن يسائلوا أنفسهم: كيف تسيطر المعتقدات بل والأساطير الدينية إلى هذا الحد على مصائر الشعوب؟ وعليهم أن يستمعوا إلى ما يقوله القس الأمريكي " بريان هيهيو " من أن الكنائس الأمريكية مؤسسات رئيسية، وأنها وإن لم تكن أحزابا سياسية إلا أن دورها واضح في تشكيل وتعبئة جمهور من الأنصار الملتزمين بمنهجها في المسائل السياسية الخارجية).(/4)
ويقول الدكتور محمد عصفور في تعليقه على رسالة الدكتور يوسف الحسن: (على الرغم من أن مبدأ الفصل بين الدولة والكنيسة مبدأ دستوري مقرر بالتعديل الدستوري الأمريكي الأول إلا أن للكنيسة والدين هيمنتهما على الحياة الأمريكية في شتى مناحيها، وارتكازا على هذا الواقع أعلنت الحركة المسيحية الأصولية عن أهدافها السياسية بصراحة شديدة، ولذلك قال قادتها: (إن حركتهم تعني الاستيلاء على الولايات المتحدة الأمريكية ومؤسساتها).
وقال أحد زعمائها: (نحن ثوريون، نعمل على قلب التركيبة الحالية في الولايات المتحدة الأمريكية.. نحن نتحدث عن مسحنة الولايات المتحدة الأمريكية) ولهذا السبب فإنه - وإن بدا أن السلطة السياسية يتقاسمها الحزبان الديموقراطي والجمهوري إلا أن الحركة الأصولية المسيحية والمسيحية السياسية عامة تكون القوة السياسية الغالبة، ليس فقط من خلال التحالف مع اليمين الرجعي في الحزب الجمهوري -!! - وإنما كذلك من خلال التحكم في العملية الانتخابية والتأثير الشديد في ملايين الناخبين الذي تجندهم الحركة لمؤازرة هذا المرشح للرياسة أو ذاك، ولم يكن من المبالغة أن تعتبر الحركة المسيحية الأصولية: " أهم ظاهرة سياسية في القرن العشرين "، وأن يتوقع لها اللاهوتي الإنجليزي " جيمس بار " أن تستمر خمسمائة عام على الأقل " ولم تبق هذه الظاهرة الدينية السياسية مقصورة أو محصورة في نطاق ما تبشر به هذه الحركة، وإنما هي امتدت إلى انتخابات الرياسة الأمريكية بل وانتخابات الكونجرس الأمريكي، فقد لوحظ - وبحق - أن الشعب الأمريكي انتخب في العقد الأخير رئيسين يؤمنان بأهمية الدين في المجتمع الأمريكي وبحلول عام 1980 كان ثلاثة من المرشحين لرياسة الجمهورية يرفعون نفس الشعار، كما كان واضحا أن مسألة الدين قد احتلت الصدارة في مناقشات الحملات لعام 1984 سواء على شكل التغطية الصحفية، أو التعليقات الإعلامية، أو في تأثير ذلك في المجتمع نفسه، وبينما أعلن كارتر عام 1976 عن شعاره وإيمانه بعقيدة الولادة الثانية كمسيحي Bron Aqain عبر ريجان في 23 أغسطس 1984 في خطاب له بمدينة كنساس عن إيمانه بدور الدين في المجتمع الأمريكي رغم تأكيد التعديل الدستوري الأول لمبدأ الفصل بين الدين والسياسة أو الفصل بين الكنيسة والدولة، ومما جاء في خطابه قوله: " يلعب الدين دورا حاسما في الحياة السياسية لأمتنا) [أنظر سلسلة مقالات للدكتور محمد عصفور بجريدة الوفد حوالي 17\7\1988].
وأخيرا ليقل لنا العلمانيون في بلادنا: هل يسمحون بوضع شعار ديني على ورق البنكنوت كما هو الحال في أوراق البنكنوت الأمريكية؟
ويقول الأستاذ الدكتور محمد البهي عن العلمانية في أوربا بوجه عام: (إن الموطن الذي ولد فيه الفكر العلماني - وهو إنجلترا وفرنسا وألمانيا - لم يأخذ بالاتجاه العلماني في التطبيق في الحياة العملية: التاج البريطاني لم يزل حاميا للبروتستنت، وفرنسا لم تزل حامية للكثلكة في صورة عملية، والدولة في انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا رغم إعلان أنها علمانية تساعد المدارس الدينية من ضرائبها التي تجبيها من المواطنين مع علمها باستقلال هذه المدارس في برامجها التعليمية، وببعدها عما تجريه الدولة من تفتيش على النفقات التي تنفقها) [ص: 30]
وعندما كتب الدكتور البهي ثلاث مقالات بمجلة الأزهر عام 1985 عن المستشرقين والمبشرين واعتبرت بعض دوائر الفاتيكان أنها تنطوي على بعض الإحراج لشئون التبشير الكاثوليكي كان أول احتجاج وصل إلى وزارة الخارجية المصرية هو احتجاج سفارة الولايات المتحدة الأمريكية تلاه احتجاجات أخرى عديدة من السفارات الغربية التي تمثل في بلادها أكثرية بروتستنتية أو كاثوليكية على السواء، مما يدل على أن الدولة العلمانية الغربية لم تزل ترعى المسيحية كدين والكنيسة الأوربية كسلطة دينية وتحرص على تمكينها من مباشرة رسالتها، كحرصها على حماية أملاك الكنيسة الأوربية وكحرصها على جباية الضرائب الخاصة بالكنيسة الأوربية عن طريق أجهزتها الإدارية.
وحتى رجال الدولة أنفسهم في ممارستهم السياسية العامة للمجتمع يخضعون في ظروف معينة لملاءمة أنفسهم مع تقاليد الكنيسة الأوربية، وعلى سبيل المثال: دوق أوف وندسور وأنتوني إيدن في انجلترا: كلاهما اضطر إلى ترك الوظيفة العامة أو عدم السعي إليها لأن سلوك كل منهما في حياته الزوجية لا يتفق مع ما تراه الكنيسة الأوربية من تقاليد في الزواج.
والجنرال ديجول في فرنسا أقال وزير التربية الاشتراكي في وزارته بعد أن عاد للحكم في المرة الثانية بسبب عدم موافقة الوزير على مساعدة المدارس الدينية في فرنسا من مدارس الجيزويت والفرير بمبلغ ستين مليونا من الجنيهات الاسترلينية في ميزانية 1963 من غير حق التفتيش عليها من قبل وزارة التربية.(/5)
ودولة الفاتيكان لم تزل تقوم من جانبها بدور كبير في سياسة البلاد ذات الأغلبية الكاثوليكية عن طريق الأحزاب السياسية التي تسمى بالديموقراطية المسيحية وكذلك في السياسة الدولية العالمية، فالأحزاب الديموقراطية المسيحية هي أجهزة للعمل على رسم الخطة لتنفيذ اتجاه الفاتيكان بالدرجة الأولى وعن طريقها حالت الكنيسة الأوربية دون أن تتطرف العلمانية إلى النوع الثاني الذي يقيم البلشفية دينا بدل المسيحية أو عملت على إسقاطها بعد قيامها [أنظر العلمانية والإسلام بين الفكر والتطبيق" للأستاذ الدكتور محمد البهي نشرة مجمع البحوث الإسلامية ص 44 وما بعدها].
وجاك شيراك عندما سعى لمنع المحجبات المسلمات من المدارس العامة بدعوى العلمانية الفرنسية كان حريصا على تمرير الصليب والطاقية حصرا عندما استثنى الرموز ذات الحجم الصغير.
وفي بلد مثل فرنسا لعبت دورا بارزا في تاريخ الفكر العلماني ينص مشروع دستور الاتحاد الاوربي الجديد على أن المسيحية هي الإطار الثقافي الذي يتميز به الاتحاد ويشكل أساس الهوية الأوربية، ومعروف أن الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان هو الذي أشرف على أو تولى صياغة مشروع هذا الدستور، وكان هو أحد المعترضين على قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي لأنها دولة إسلامية سوف تخل بالهوية الاوروبية.. [من مقال أحمد عباس صالح بجريدة الشعب الألكترونية بتاريخ 5\7\2003].
ومن هنا تتبين المغالطة الخبيثة التي تروجها العلمانية في بلادنا: في القول بأن التقدم الأوربي تحقق عن طريق استبعاد الدين أو فصله عن الدولة، وتتبين دلالة الصرخة التي انفلق عنها رأس العلماني الذي عاين مكانة البابا في الولايات المتحدة الأمريكية عندما قال: (هل وقعنا نحن المسلمين ضحية لعبة شديدة الخبث خرجنا منها بلا صواريخ ولا دين، بل بالفقر والكفر، بينما احتفظ الآخرون بدينهم ووضعوا أعلامهم فوق القمر).
ولا نريد أن نذهب بعيدا فالصلة القائمة هناك بين الدين والدولة لا تعني انفصالا كما لا تعني اندماجا وهي في الوضعية نفسها للصلة بين السلطات المختلفة في كيان الدولة: وهو فصل يتم تحت مظلة الدولة الواحدة ويظهر لنا أن الأمر لا يعدو أن يكون نوعا من الفصل بين السلطات: سلطة التشريع، وسلطة القضاء، وسلطة التنفيذ، وسلطة رجال الدين، مع إعطاء كل سلطة حقها الكامل في التأثير على الحياة الدنيا، وهو نموذج لا يمكن نقله إلينا أيضا لأنه لا سلطة في الدين الإسلامي لما يسمى رجال الدين، ولن الدين الإسلامي لا يسمح بان يكون له مكان دون مكان المشروعية العليا.
وبهذا بينا قوة تداخل المفاهيم الدينية في بنية الدولة في الغرب وخططها السياسية مما يعني انه على العلمانيين في بلادنا أن يراجعوا أنفسهم ويكفوا عن الزعم بان التقدم مرتبط باستبعاد الدين عن تنظيم شئون الحياة الدنيا اللهم إلا إن كانوا بقايا فلول العلمانية الماركسية.
وسنبين في المقال القادم - إن شاء الله - أنه في علاقة الغرب بنا كانت حروبهم معنا دينية، ليس ذلك فحسب في حروبهم التاريخية المتقادمة ضدنا في الحروب الصليبية، أوفي حروبهم ضد المسلمين في الأندلس ولكن في حروبهم ضد المسلمين في عقر دار العصر الحديث عصر التنويروالحداثة!!
كما نبين إن شاء الله نشاط كنائس الغرب في مجال السياسة نشاطا يلقى الاحترام والاعتراف والتقدير من الجماهير والرأي العام وأصحاب النفوذ على السواء.(/6)
العلمانية ودورها في تشويه العلاقة بين الدين والعلم
[الكاتب: يحيى هاشم حسن فرغل]
يفترض طه حسين في كتابه "من بعيد" - الذي نشر عام 1935 - ونشر فيه بحثا تحت عنوان "بين العلم والدين" حتمية الخصومة بين العلم والدين، ثم يقرر أن حل هذه الخصومة إنما يكون بإقامة حكومة لادينية، ذلك أنه بعد أن يستعرض أسباب هذه الخصومة في رأيه، يتحدث عن السبيل لإزالة هذه الخصومة.
فيقول: (السبيل هو إقامة حكومة لادينية تعتمد فكرة الوطنية ذلك أن فكرة الوطنية وما يتصل بها من المنافع الاقتصادية والسياسية الخالصة قامت الآن في تكوين الدول وتدبير سياستها مقام فكرة الدين، أو مقام هذه النظريات الفلسفية الميتافيزيقية التي كانت تقوم عليها)، ثم يقول: (وإنما تقوم الحكومة الحديثة في أقطار الأرض المتحضرة الآن على أساس سياسي خالص من المنفعة الاقتصادية والمدنية لا أكثر ولا اقل، وقد فرغ الناس من هذا وأصبحوا لا يفكرون في أن الحكومة تقوم على الدين أو لا تقوم عليه).
وإذن فإن طه حسين ورواده وأتباعه يعرضون علينا العلمانية - وما يزالون منذ أكثر من سبعين عاما - باعتبارها حلا لقضية العلاقة بين العلم والدين، ضمن ما تتعرض لحله من أمور أخرى!!
ولن نتعرض في هذا المقال لما فرغنا من بيانه في مقالات أخرى من كذب هذه الدعوى في جوانب مختلفة من حيث توصيفها لعلمانية الغرب، نشأة ومآلا او صحة قياس الحالة الإسلامية عليها، أو صلاحيتها للتجذر في بيئة إسلامية، أو قياس مدى النجاح الذي حققته هذه الدعوة في الغرب أو في الشرق على السواء.
ولكنا نعنى هنا بالذات ببطلان دعواها في توصيف العلاقة بين العلم والدين.
نذهب إلى أن نقد التيارات الفكرية المعاصرة - ومنها العلمانية - في خصومتها مع الدين تتم ضمن نظرية شاملة؛ ترى أن هذه التيارات تنطلق جميعا من وجهة نظر معينة في العلاقة بين الدين والعلم، وتقدم رؤيتها من خلال معتقدات … فهي دين بوجه ما. وترتكز مقاومة هذه التيارات - في ضوء هذه النظرية على تصحيح العلاقة بين الدين والعلم، وإبراز معتقدية الأسس التي تقوم عليها تلك التيارات، وضرب القواعد التي تنطلق منها.
ومن هنا تبرز أهمية دراسة العلاقة بين العلم والدين. ونحن لا نعني هنا بدراسة هذه العلاقة بسرد أدوارها التاريخية التي مرت بها في الحضارات المختلفة، بقدر ما نعني بدراسة وضعية هذه العلاقات في نظر المفكرين المعاصرين.
وهنا يمكننا أن نصنف هذه الأنظار إلى ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: يري ضرورة "الفصل" بينهما فصلا تاما. بحيث يكون لكل منهما مجاله الخاص، يقرر بحرية ما يشاء دون تدخل من الطرف الآخر على وجه الإطلاق. فهو فصل في الوسائل والنتائج على السواء.
يقول أميل بوترو في كتابه "العلم والدين": (لقد ظن البعض في نهاية القرن التاسع عشر أن المشكلة بين الدين والعلم حلت بوضعهما في ثنائية حاسمة يصبح فيها كل منهما مطلقا على طريقته، ومتميزا عن صاحبه تميز الذكاء والعاطفة، أو تميز العقل والقلب، واستنادا إلى هذه الثنائية لاح إمكان وجودهما معا في صدر إنسان واحد، بحيث يقومان جنبا إلى جنب، على أن يتفادى كل منهما بحث مبادئ الآخر ووسائله ونتائجه).
أ) ويبدو أن هذا الاتجاه هو ما تحاوله المسيحية المعاصرة، إذ لا يرى المسيحي المعاصر بأسا في التناقض بين ما يقرره العلم في الجامعة، وبين ما تقرره المسيحية في الكتاب المقدس:
# فالأناجيل - على سبيل المثال - تقرر نسب المسيح على نحوين متناقضين تماما بين ما جاء في إنجيل متى وإنجيل لوقا.
# والعهد القديم من الكتاب المقدس - على سبيل المثال أيضا - يقرر ظهور الليل والنهار والصباح في اليوم الأول قبل خلق الشمس والنجوم في اليوم الرابع، وهذا ما يتعارض مع العلم.
# وفيه أن الله خلق النبات في اليوم الثالث قبل أن يخلق الشمس في اليوم الرابع، وهذا ما يتعارض مع العلم أيضا.
# وفيه أن خلق العالم يرجع إلى حوالي ستة آلاف عام لا أكثر وهذا يتعارض مع العلم كذلك.
# وفيه أن الطوفان عندما حدث اكتسح المعمورة كلها وأنه حدث في القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد وهو عصر ظلت معه وبعده حضارات سابقة في مصر وبابل دون مساس، وهذا يتعارض مع العلم أيضاً. [أنظر "دراسة الكتب المقدسة فى ضوء المعارف الحديثة " لموريس بوكاى نشر دار المعارف ص 41 إلى ص 47 ص 53].
وهذه معارضات لا تحتمل التملص، ولا تحتمل التوفيق. وهنا كان لابد للاتجاه الديني المسيحي من أن يلجأ إلى وضع العلاقة بين العلم والدين في وضعية الفصل بينهما.
يذهب المسيحي إلى الكنيسة ليستمع في هدوء تام إلى تلك الروايات المتعارضة مع العلم، كما يمارس عملية الاتحاد بجسد المسيح المرفوضة علميا. ثم يخرج من الكنيسة ليقرر في الجامعة أو في المعمل أو في مركز البحوث العلمية : أمورا تتعارض تماما مع ما استمع إليه هناك.(/1)
وقد لجأ إلى هذا الحل أيضا - الفصل التام بين العلم والدين - بعض المستغربين من المسلمين الذين اعتنقوا مذاهب الحادية - وضعية، أو وضعية منطقية أو مادية، أو ماركسية الخ - وعندما طعنوا في السن، أو رجعوا إلى أوطانهم وجدوا صراعا داخليا لم يصل بهم إلى حد الاعتراف بالإلحاد أمام أنفسهم، أو أمام الناس فباركوا هذا الحل ونادوا بالفصل، وتوزيع الاختصاص، وقالوا: نمارس الدين في ساعة هي للوجدان، ونمارس العلم في ساعة هي للعقل، أو كما يقول - بعضهم - جعلوا في صدورهم بيتين، أو غرفتين - أو قلبين؟؟ - غير مبالين بقوله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه}.
إن هؤلاء المستغربين عندما فعلوا ذلك لم يفعلوه لمعارضة بين العلم والإسلام، ولكن لمعارضة بين الإسلام وما اعتنقوه من مذاهب.
ومن الأغاليط الشائعة أن هؤلاء يروجون للعلم على أساس أنه هو الذي يتجاوب مع "العقل" ويغذيه بينما الدين يخص العاطفة، وهم في ذلك واهمون أو جاهلون بالتطور الذي صار إليه العلم: فالعلم يتصل بالمشاهدات والخبرات اليومية المباشرة ليستخرج منها مبادئ، أما العقل فهو يتصل بالبديهيات الجلية ليستخرج منها فلسفة.
يقول فيليب فرانك في كتابه "فلسفة العلم" - ص 33 -: (وضع مبادئ نستطيع أن نستنبط منها تطبيقات وحقائق مشهودة هو ما نسميه اليوم "علما" والعلم لا يهتم كثيرا بما إذا كانت هذه المبادئ معقولة أم لا، فهذا أمر لا يعنى العالِم كعالِم، وفى كثير من الكتب الدراسية نجد ما ينص على أنه ليس من المهم إطلاقا أن تكون هذه المبادئ معقولة، وتذكر هذه الكتب أن مبادئ علوم القرن العشرين كالنسبية ونظرية الكم ليست معقولة على الإطلاق، ولكنها متناقضة فى ظاهرها ومشوشة، وعندما ظهرت مبادئ النسبية وميكانيكا الكم قال بعض الناس؛ ربما أمكن استنباط نتائج مفيدة من هذه المبادئ، ولكن المبادئ نفسها غامضة، بل هي في ظاهرها متناقضة، إنها تخدم غرضا معينا إلا أنها ليست جلية).
وما يزيد الأمر وضوحا في الانفصال الذي يزداد يوما بعد يوم بين مجال التفكير العلمي والتفكير الفلسفي أو العقلي، ما يقوله فيليب فرانك: (كثير من المصطلحات التي كانت تستخدم من قبل في لغة العلم لم يعد ممكنا أن تستخدم الآن، لأن المبادئ العامة المعاصرة تستخدم الآن مصطلحات أكثر نأيا عن لغة الفطرة السليمة 0 فالتعبيرات من طراز "العقل" و "المادة" و "السبب" و "النتيجة" هي اليوم مجرد تعبيرات فطرة سليمة 0 وليس لها مكان في الحديث العلمي الدقيق، وعلينا لكي ندرك هذا التطور أن نقارن بين فيزياء القرن العشرين، وسالفتها فى القرن الثامن عشر والتاسع عشر، لقد استخدمت الميكانيكا النيوتونية مصطلحات مثل "الكتلة" و "القوة " و "الموضع" و "السرعة" بمعنى يبدو قريبا - إلى حد ما - من استخداماتها في الفطرة السليمة، وفى نظرية أينشتاين للجاذبية نجد مصطلحات مثل "إحداثيات الحدث" أو "الجهود الممتدة الكمية" وهى مصطلحات تحتاج إلى سلسلة طويلة من التفسيرات لكي ترتبط بلغة الفطرة السليمة، ونجد هذا الأمر أكثر صحة في مصطلحات نظرية الكم مثل "الدالة الموجبة" و "مصفوفات الموضع"... الخ، وقد تحدث أينشتاين فى محاضرة له في أكسفورد عام 1933 عن "الفجوة التي يتزايد اتساعها بين المفاهيم والقوانين الأساسية من ناحية والنتائج التي يجب أن نربطها بخبرتنا من ناحية أخرى وهى الفجوة التي تتسع باضطراد"، يقول هربرت دنجل؛ إنني عندما أؤكد على ضرورة تحرير الفلسفة العلمية من تطفل المفاهيم "المستساغة" و "مفاهيم الفطرة السليمة" فإني لا أفعل ذلك للحط من قيمة الفطرة السليمة، وإنما لأن الخطر الأكبر إنما يكمن اليوم في هذا التشويش) [أنظر فلسفة العلم ص 70 – 71].
ولكن المستغربين عندنا عندما يستلهمون الغرب فإنهم يرجعون عادة لما هم عليه من كسل عقلي وانتهازية ثقافية يرجعون إلى معلومات قديمة مستهلكة، فينطلقون إلى إعلان الخصومة بين الدين والعلم توهما منهم أنه – أي العلم – هو الذي يمثل العقل فوجب في تقديرهم أن تكون الخصومة بين الدين والعقل أصلا، ومن ثم بينه وبين العلم تبعا، وكان الحل الذي " اهتدوا " إليه في استبقاء ما يسمى "الفصل" بدلا مما يسمى "الخصومة"، ظنا منهم أن الفصل بين أمرين يقبل المعايشة بينهما، كما هو الحال في الفصل القائم بين العقل والقلب مع استمرار المعايشة القائمة بينهما، وابتدع بعضهم لهذا الفصل صيغة تشبيهية مخففة أطلق عليها "الغرفتين" وقالوا: نمارس الدين في ساعة هي للوجدان، ونمارس العلم في ساعة هي للعقل، أو كما فعل – بعضهم –: جعلوا في صدورهم بيتين، أو غرفتين، إحداهما للعلم والثانية للدين دون مراجعة من إحداهما للأخرى.(/2)
وإذا كان هذا الحل قد نادى به بعض المستغربين من بعض المسلمين فإن الإسلام لم يكن ليقبل هذا الحل: من ناحية لأنه هو الإسلام الشامل للعقل والقلب والجسد جميعا، ولأنه غير مضطر لشيء من ذلك من ناحية أخرى، لأنه كما يقول موريس بوكاي عن القرآن: (إن القرآن لا يخلو فقط من متناقضات الرواية - وهى السمة البارزة في مختلف صياغات الإنجيل، بل هو يظهر أيضا - لكل من يشرع في دراسته بموضوعية وعلى ضوء العلوم - التوافق التام مع المعطيات العلمية) [دراسة الكتب المقدسة فى ضوء المعارف الحديثة " لموريس بوكاى ص 285].
ونحن لا نشير إلى هذا التوافق الذي أشار إليه بوكاي باعتباره صياغة نموذجية للعلاقة بين العلم والدين، فلهذا كلام مقبل، ولكن باعتباره دليلا على عدم اضطرار المسلم إلى وضعية "الفصل".
ب) وبعد؛ فهل وضعية "الفصل" هذه مقبولة علميا أو مقبولة دينيا؟
وللرد على هذا السؤال نقول بالنفي، على المستويين، العلمي والديني.
أما العلمي؛ فلأن البحث العلمي في شخصية الإنسان ينتهي إلى كونها وحدة متداخلة متكاملة لا تستقر بغير التمازج والتوافق بين عناصرها المختلفة. فليس في مقدور إنسان أن ينشئ في داخله قلبين، أو أن يعزل في صدره بين حجرتين لتكون إحداهما مخزنا لقرارات تنكرها مخزونات الحجرة الأخرى، وكما يقول أميل بوترو عن هذه الوضعية: (إن المشكلة حلت بذلك في عالم التصورات أما في عالم الواقع فليس الأمر كذلك، إذ أين نجد في الإنسان الحد الفاصل بين العقل والقلب؟ وأين نجد في الطبيعة الحد الفاصل بين الأجسام والأرواح؟...).
إنه لا مفر تحت وضعية الفصل هذه من أن تصير شخصية الإنسان إلى أحد أمرين: إما المرض والانحلال، وإما التوثب لغلبة أحد الجانبين للآخر، وهذا هو سر الانفصال الذي يتغلغل في شخصية الأوربي المعاصر، المتعرض لتيار العلم وتيار الدين، أو هو سر الانغلاق الذي يحتمي فيه بتيار ضد تيار آخر.
وأما على المستوى الديني: فهذه الوضعية مرفوضة إسلاميا، لأن الإسلام هو الإسلام الشامل، هو الذي يحتوى الشخصية من جميع أقطارها، ولا يرضى لها بغير ذلك وانظر ما كتبناه في ذلك في مقالنا السابق بعنوان " لا علمانية مع الإسلام " وهكذا ينبغي أن يكون الدين.
الاتجاه الثاني:
الوضعية الثانية المقترحة لإرساء العلاقة بين العلم والدين: هي وضعية (التوفيق) بينهما في النتائج: وإن اختلفت الوسائل.
ومن الواضح أن هذا الشعار - شعار التوفيق - إنما يرفع في ظل سيادة العلم، فهو يعنى أن يكون المرجع في عملية التوفيق هذه إلى العلم لا إلى الدين، ومعنى هذا أن يعاد تفسير الدين أو نصوصه أو معطياته - عندما يبدو أنها تتعارض مع العلم - لكي تتفق مع مقررات العلم التي يستقل بتقريرها بحرية كاملة، دون وصاية من أحد.. وشرط هذا التوفيق أن يبدو النص الديني متقبلا للتفسير الجديد، دون محاولة التخلص منه.
ويبدو أن هذا الاتجاه تمارسه المسيحية جزئيا عندما يكون هذا التوفيق ممكنا، كما يمارسه بعض الدعاة في الإسلام وهو سهل عليهم، لما سبق أن قررناه عن خلو القرآن من التناقض مع العلم.
ونحن نقر هذا الاتجاه في مجال الدعوة التي تستهدف الهداية، ولا نقره في مجال تأصيل القضية: قضية صياغة العلاقة بين العلم والدين. ذلك لأنه في مجال الدعوة يباح للداعية أن يؤثر في المدعو بما يتيسر له من وسائل مقبولة ومستحبة، إذ العبرة في الوصول إلى هداية المدعو، وعندئذ للداعية أن يتوسل لذلك بالقدوة الشخصية، وله أن يتوسل لذلك بنوع من السلوك المحبب، وله أن يتوسل لذلك باعتماد المدعو لوسيلة الفلسفة أو العقل، وله أن يتوسل لذلك باعتماد المدعو لوسيلة الوجدان، وله أن يتوسل لذلك باعتماد المدعو لوسيلة "العلم"... الخ.
إذ العبرة في النهاية بجذب المدعو إلى ساحة النجاة، وأمن الإيمان، بالمقياس الذي يرتاح إليه. أما في مقياس النظر الأصولي في وضعية العلاقة بين العلم والدين، فذلك الوضع - وضعية التوفيق - غير مقبول في مقياس الفلسفة العلمية أو في مقياس العقيدة الدينية على السواء.
أ) أما انه غير مقبول في باب الفلسفة العلمية فذلك: لأن العلم لا يقر بمشروعية استفادة الدين به، وهو يرى أن تصديقه لبعض حقائق الدين إنما يقع اتفاقا – أي مصادفة -، أو هو على أحسن الفروض ظاهرة تفتقر إلى تفسير تجريبي مفتوح على المستقبل، وهو على كل حال اتفاق لا قيمة له في نظر المنهج العلمي.
ومن وجهة نظر المنهج العلمي، وكما يقول أحد فلاسفة الإلحاد المعاصرين - أرنست هيكل 1840 / 1919 -: (الأديان تقوم على الوحي، والعلم لا يعرف إلا التجربة، ولا قيمة في نظره لأي فكرة إذا لم تكن تعبيرا مباشرا عن وقائع، أو نتيجة لاستنباط محدود قائم على القوانين الطبيعية).(/3)
وكما يقول أحد الفلاسفة المعاصرين - أميل بوترو -: (إن العلم أصبح يكفى نفسه في نموه وتطوره، وإن أول سمة للروح العلمية من الآن فصاعدا هي عدم التسليم بأي مبدأ للبحث، وأي مصدر للمعرفة سوى التجربة، فالعلم يوضع في نظر العالِم كأنه أمر أولي مطلق، ومن العبث أن يطلب منه اتفاقه مع أي شيء...)، (وبالرغم من أن العلم الحديث يتسم بالتواضع، ويعترف بنسبية المعلومات التي يتوصل إليها ولا يدعى لها الصحة المطلقة إلا أن ذلك لا يعني - في مفهوم العلم التجريبي - أنه يعترف بأن خارج الميدان الذي يتحرك فيه العلم يوجد ميدان آخر يباح لأنظمة أخرى أن تعيش فيه، ولكنه على العكس من ذلك يعمل على أن يمنع العقل البشرى من ارتياد أي ميدان ليس في متناول العلم، لأنه إذا كان ثمة شئ لا يمكن أن يعرفه العلم فهذا الشيء من باب أولى لا يمكن أن يعرفه أي نظام آخر).
والعلم وفقا لإحساسه - المزيف - بالكفاية التي يختص بها نفسه فانه حين يقول: إني أعلم، فمعنى ذلك أن الشيء الذي يعلمه موجود بالنسبة للمعرفة البشرية، وحين يقول العلم: لا أعلم فهذا يعنى إن أحدا لن يدعي المعرفة. وبناء على ذلك فإن العلم الحديث المتواضع العارف لحدوده ليس أكثر ملاءمة للدين من العلم الدجماطيقي – أي القطعي -، فالدين من وجهة نظر العلم - في الحالتين - ليس إلا مجموعة تصورات تعسفية. ولا يكفى - من وجهة نظر العلم - أن نتعلل بأن ما نتمسك به مما يتجاوز حدود العلم يمكن أن يأخذ مكانته باعتباره "اعتقادا" لأن "الاعتقاد" من وجهة النظر العلمية ليس له قيمة إلا إذا كان ثمرة ملاحظة وتجريب.
ب) أما أن هذا الاتجاه - أعنى وضعية التوفيق على أساس العلم - غير مقبول دينيا:
فذلك لأن هذا التوفيق - وقد أشرنا إلى أنه يتم على أساس العلم - يلغى جوهرية الدين ويسقطه من منزلته. ذلك لأن جوهر الدين يقوم في كونه متبوعا لا تابعا، إنه كلمة الوحي ولا يمكن أن تنتظر كلمة الوحي أو تتعطل أو تتحور تبعا لكلمة العلم مهما تكن درجته من الظن أو درجته من اليقين.
# والدين بغير وحي ليس دينا.
# والدين بغير اتَباع ليس دينا.
وعلى هذا فإن الدين ينكر هذه الوضعية المقترحة وضعية "التوفيق" بينه وبين العلم، وهى كما قلنا تقوم - عصريا - على سيادة كلمة العلم.
وقد يقول قائل: إن هذه التبعية ليست للعلم إلا لأنه حق، والدين لا يتعارض مع الحق، وهذا شبيه بما قاله ابن رشد في كتابه " فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال " في التوفيق بين الدين والفلسفة.
وهنا نحيل مرة أخرى إلى المنهج إجمالا فنقول: منهجيا من الذي يحق له أن يعلن أنه توصل إلى "الحق"؟ الوحي؟ أم جهد بشرى في الفلسفة؟ أم جهد بشرى في العلم؟
من الواضح أن "الدين" لا يمكن أن يتنازل عن سيادته المنهجية إلا بالتنازل عن كيانه وجوهره.
كما نود فيما يأتي أن نفصل الكلام في هذه المسألة بعض التفصيل من ناحية المسائل التي يتقدم بها العلم لتوضيح بطلان المطابقة بين العلم والحق؛
مسائل العلم يمكن تصنيفها إلى ثلاث مجموعات:
1) النظريات؛ كنظرية النشوء والارتقاء.
2) والقوانين؛ كقانون الجاذبية.
3) والوصف المباشر للوقائع؛ مثل إحصائية لحركة المرور في شارع أو ميدان، أو الكشف عن أطوار التكوين للجنين.
ومن الواضح أنه لا مجال لافتراض التعارض بين الدين الصحيح وبين الوصف المباشر للوقائع وذلك لسبب بسيط هو أن هذا الوصف لم يكن يوما - ولن يكون - ملكا للعلم على أي نحو من الأنحاء. إنه مقدمة للدخول في العلم؛ والعلم إنما يبدأ بوضع هذا الوصف في نظرية أو قانون.
يقول فيليب فرانك في كتابه "فلسفة العلم": (إن مجرد تسجيل المشاهدات لا يزودنا إلا بنقاط "راقصة"، وأن العلم لا يبدأ إلا إذا استطردنا من هذه الخبرات المستساغة "خبرات الفطرة السليمة" إلى الأنماط البسيطة للوصوف التي نسميها "نظريات" [انظر فلسفة العلم لفيليب فرانك ص 24 ومابعدها]، لنتخيل أننا أسقطنا جسما في الهواء. وليكن مثلا قصاصه ورق خفيفة "مثل ورقة السيجارة" فماذا يحدث؟ إذا فعلنا ذلك مرات عديدة - مئات أو آلاف المرات - فسوف نلحظ أن تحرك الورقة يختلف في كل مرة عن تحركها في المرات الأخرى. وتراكم هذه المشاهدات ليس علما. وليست هذه هي الطريقة التي يعمل بها الفيزيائي ما لم تكن في مجال غير متقدم كثيرا حيث لا يكاد يعرف عنه أي شيء) [فلسفة العلم ص 24 - 25].(/4)
ومن جهة أخرى يقول فيليب فرانك أيضا: (من المهم أن نتذكر دائما أن العلم ليس جمعا للحقائق. فليس هناك علم يبنى بهذه الطريقة. فإذا جمعنا نصوصا تبين الأيام التي يسقط فيها الجليد على لوس أنجلوس فهذا ليس علما، ولا يكون لدينا علم إلا إذا وضعنا مبادئ نستطيع أن نستنبط منها الأيام التي سوف يسقط فيها الجليد على لوس أنجلوس. وفوق ذلك إذا كانت المبادئ التي نضعها تبلغ من التعقيد حدا مثلما تبلغه الخبرة ذاتها فلن يكون ذلك اقتصادا ولن يكون علما بمعناه المحدد. إن عددا كبيرا من المبادئ يستوي مع مبدأ واحد شديد التعقيد... إذا لم يكن هناك عدد صغير من المبادئ، وإذا لم يكن هناك تبسيط فلن يكون هناك علم وإذا قال امرؤ إنه لا يريد معادلات، وأن ما يريده هو مجرد الحقائق كلها، فإنه يكون ساعيا فقط إلى الخطوة التمهيدية للعلم، وليس إلى العلم نفسه) [فلسفة العلم لفيليب فرانك ص 66 - 67].
فإذا نحن استبعدنا الحقائق المفردة من مجال بحث العلاقة بين العلم والدين ينتقل بنا الكلام عن هذه العلاقة في مجال النظريات والقوانين العلمية.
وهنا نعود لمناقشة القول بأن العلم يمثل "الحق".. لنحيل إلى ما تقرر في الأوساط العلمية من أنه لا يقين في العلم، وإنما ظنون وظنون، تقدم للتجربة، لتمتحن فيها، لتتعدل إلى ظنون أخرى لتقدم للتجربة، لتمتحن مرة أخرى، وهكذا بغير نهاية، وهذه هي نقطة الضعف في العلم، وهى سر الاستمرار والتقدم فيه أيضا.
إن الاتجاه الوضعي المعاصر يذهب إلى اعتبار القانون العلمي اختراعا وليس كشفا.
يقول فيليب فرانك: (يبحث العالم عن صيغة يستطيع المرء أن يستنبط منها الوقائع المشاهدة ويتطلب العثور عليها تصورا خلاقا من جانب العالم. وإذا أردنا أن نصف هذا العثور على الصيغة فإن هناك طريقتين لهذا الوصف؛ فيمكننا أن نقول : إن هذه الصيغة من اختراع العالِم، وأنه لم يكن لها وجود قبل أن يعثر عليها العالِم. إننا نقارنها باختراع مثل اختراع التليفون الذي لم يكن موجودا قبل أن يخترعه "الكسندر جراهام بل" فالفرض أو الصيغة هي نتاج للتصور البشري، هي نتاج لقدرة العالِم على الاختراع. ويجب اختبارها بالتجربة الحسية. والطريقة الثانية يمكن أن نقول: إن الصيغة كانت موجودة دائما ضمن الحقائق المتطورة، وقد اكتشفها العالِم كما اكتشف كولومبس أمريكا والعالم ليس مخترعا، إنه "يبصر" الصيغة "بفطرة الباطن"... فالعالم يستخدم البصيرة في اكتشاف الصيغة).
وهنا يأتى السؤال: أي الطريقتين نختار؟
يقول فيليب فرانك: (تتفق الطريقة الأخيرة في وصف نشاط العالِم مع تقاليد الفلسفة المدرسية "الكلاسيكية").
وهذه الفلسفة كانت - كما يقول هانزريشنباخ -: (تعتقد بوجود بصيرة رؤية بواسطة العقل تناظر الرؤية بواسطة العين، وهذا التماثل بين الرؤية بالعقل والرؤية بالعين هو الذي دعا الفلسفةالتقليدية إلى القول بأن البدهيات غنية عن البرهان) [أنظر فلسفة العلم ص37].
أما الطريقة الأولى التي تصف العالِم بأنه مُخترع فهي - كما يقول فيليب فرانك -: (أقرب إلى خط الفلسفة الوضعية، والفلسفة الذرائعية)، ويقول: (يقول المحدثون من العلماء إن الفروض والصيغ من نتائج التخيل، وإنما تختبر بالتجربة والخطأ..) [فلسفة العلم ص 34، 35].
وسواء كان هذا أو ذاك فهي تتزحزح عن مرتبة اليقين.
إن العلماء يصرحون اليوم بأن التجربة تعزز الفرض ولا تثبته، وانه لا يوجد ما يسمى "التجربة الحاسمة".
يقول فيليب فرانك: (إن الفرض لا يمكن "إثباته" فالتجربة "تعزز" أحد الفروض فإذا لم يجد شخص ما حافظته في جيبه فإن ذلك يعزز الفرض بوجود لص بالمقربة، ولكنه لا يثبت هذا الفرض، فقد يكون هذا الشخص قد ترك حافظته في بيته، ومن ثم فإن الحقيقة المشاهدة قد تعزز فرضا آخر بأنه نسيها. وأية مشاهدة تعزز كثيرا من الفروض. والمشكلة هي أن تحدد درجة التعزيز المطلوبة، فالعلم يشبه قصة بوليسية. إن كل الحقائق قد تعزز فرضا معينا، ولكن الفرض الصحيح قد يكون مختلفا اختلافا كليا. ومع ذلك يجب أن نقر بأنه ليس لدينا معيار للحقيقة في العلم غير هذا المعيار).
ويقول بيير دوهيم: (إن التجربة الحاسمة في الفيزياء أمر مستحيل) [فلسفة العلم ص 36، ص 55].
ومن ذلك يتبين لنا أن ما يقدمه العلم من النظريات والقوانين لا يصل إلى مرتبة اليقين. وهي - أي هذه النظريات والقوانين ليست "الحق" الذي ترتعد أمامه الفرائص، ويتحدى الإيمان، أو يستولي عليه. وعند هذه النقطة من البحث فإن العلم الخالص يلتزم الصمت، لتتقدم " الفلسفة العلمية " لتحتل منصته في المناقشة.
ومن هنا ندخل إلى الاتجاه الثالث في تحرير العلاقة بين العلم والدين.
هذا الاتجاه الثالث: يرى بين يديه الحالة الواقعة في المواجهة بين الدين والفلسفة العلمية - المتخفية وراء العلم - ليكون لأحدهما الكلمة العليا.
وهنا يظهر تياران:(/5)
أ) تيار إسلامي: يجعل الكلمة العليا للدين، وعندئذ فهو يعترف للعلم بوسائله، ولكنه "يستخدمها" لأهدافه العليا، ليصل منها إلى "نتائج" تتفق مع هذه الأهداف ولا تختلف معها. وإذن فهي معركة بين "الفلسفة العلمية" والدين، ينبغي في نظر هذا التيار أن تنتهي، لا بالقضاء على العلم، ولكن بإخضاعه للدين باعتباره خادما له، أو وسيلة من وسائله. وإنك لتجد الأمر على هذا النحو - أي صيرورة العلم خادما للعقيدة - في أشد البيئات تمسحا بشعار العلم.
ففي مقال نشرته البرافدا في عام 1949 يقول رئيس أكاديمية العلوم في الاتحاد السوفيتي س. أ. فاينلوف تحت عنوان "لينين والمسائل الفلسفية للفيزياء الحديثة": (إن الفيزياء السوفيتية!! تبنى عملها على ما اعتنق العالِم من "المادية الديالكتيكية" وليس العكس)، وفى مقال آخر نشرته مجلة أسبوعية إنجليزية "ناتشر" في مايو 1950 يقول أحد أعضاء هذه الأكاديمية: (إننا أعلنا مرارا ولا نزال نعلن أن العلم إنما هو علم حزبي طبقي).
ولسنا بحاجة إلى أن نؤكد أن هذه الوضعية هي السائدة في الجانب المنتصر من الحضارة المعاصرة إذ يقوم العلم بدوره كخادم للعقيدة السائدة؛ تلك التي تقوم على مفاهيم المتعة الحسية، والقوة المادية، والسيطرة على الآخر، وهى مفاهيم ورثتها الحضارة الأوربية المعاصرة عن الحضارة الرومانية القديمة وأكدتها أنظار الفلاسفة الذين قيض لهم السيطرة على العقل الحديث.
وهذا الاتجاه لا يفترق في جوهره عن الدور الذي كان يمارسه رجال اللاهوت في العصور الوسطى في أوربا، وكما يقول الأستاذ إسماعيل مظهر في مقدمته لترجمة كتاب "بين الدين والعلم": (قامت لدى اللاهوتيين فكرة ثابتة في أن العلم لا يصح أن يبشر فيه بأقل مخالفة لما جاءت به الأسفار المقدسة والمتون).
هكذا الأمر في جميع الحضارات والعصور؛ يحتل العلم مكانته تحت توجيه الدين، والفرق بين حضارة وأخرى، وبين عصر وآخر إنما يأتي من طبيعة الإيمان الذي تعتنقه الحضارة أو يعتنقه العصر، وإنه في ظل العقيدة الإسلامية لم يجد العلم نفسه في حالة حصار أو إحباط، وإنما كان الأمر على العكس من ذلك، وجد العلم نفسه - والعقل أيضا - محررا من أغلال النظم المزيفة الصادرة عن غير الله تعالى، مالكا الأمان في رحاب النظام الإلهي، ومن ثم كان من الطبيعي أن تأخذ النزعة العلمية في الحضارة الإسلامية أعلى مقام أخذته في التاريخ.
ولسنا نريد أن نكتب في هذا المقام كلاما مكررا عن أستاذية الحضارة الإسلامية للمنهج التجريبي الذي قامت عليه الحضارة الحديثة، فهذا ما شهد به المؤرخون جميعا، ولكني أكتب لأنبه إلى تحديد وضعية العلاقة بين كل منهما، لأنه بدون هذا التحديد سندخل في متاهات محيرة ومهاو مدمرة، لا تقل خطورة عن الظن بحتمية التعارض بينهما.
وكما أوضحنا فان هذه الوضعية لا يمكن أن تقوم على الفصل بينهما - كما هو الأمر في التاريخ القديم والحديث على السواء - كما لا يمكن أن تقوم على فكرة التكامل لأن هذا التكامل مرفوض إسلاميا، بقدر ما هو مرفوض واقعيا.إنه لابد من أن يقوم العلم بدوره المقدور له دائما؛ تابعا للدين.
وإذا كنا قد أثبتنا ذلك من الناحية التاريخية فإن إثباته من الناحية النظرية لا يقل أهمية؛ ذلك أن العلم لا يمكنه أن يمارس دوره إلا في ظل مجموعة من القيم تقوده في الطريق، وكما يقول الأستاذ فانيفاربوش الرئيس الفخري لمعهد ماساشوستش للتكنولوجيا: (الذي يتبع العلم اتباعا أعمى ولا يتبع إلا العلم يصل إلى سد لا يستطيع أن يتجاوزه ببصره).
ويكفى أن نضرب هنا مثلا قدمه بعض المهتمين بالقضية لحالة قد يظن أنها خالصه للعلم، تلك هي إذا ما أردت من أحد العلماء أن يصمم لك طائرة، إن الأمر في هذه الحالة لا يمكن الخطو إليه خطوة واحدة إلا في ظل مجموعة من القيم، وذلك أنه لو استعمل العالم - مثلا - مادة ثقيلة أكثر مما يجب لكان مخطئا، لما يؤدى إليه ذلك من عجز الطائرة عن التحليق، لكننا في هذه الحالة نكون قد استنجدنا بحكم قيمي، يوضح لنا أهمية "التحليق"، وكذلك الأمر في تعلقه بجوانب أخرى من هذه العملية حيث نستند إلى مجموعة من القيم الأخرى التي توضح الغاية المرجوة من صنع الطائرة، وقد تتضارب الغايات التي يهدف المرء إليها فيحاول صنع طائرة صالحة للعمل بأدنى تكلفة ممكنة، أو طائرة تستطيع التحليق إلى أعلى ارتفاع ممكن، أو قد تكون الغاية هي السرعة القصوى، أو المتانة القصوى، أو السلامة القصوى، ومن المحتمل أن تكون الأهداف المتباينة مما لا يمكن تحقيقه إلا بوسائل متباينة، لذلك فسلوك العالِم يتوقف في النهاية على تقرير الهدف الذي نقدمه له وتقرير هذا الهدف يتوقف على تقرير القيمة التي نعتنقها.
وكما يقول أحد فلاسفة العلم: (إنك إذا سألت عالِما عن الطريق الواجب عليك أن تسلكه؟ لكان جوابه الوحيد الذي يمكنه الإدلاء به هو؛ هذا يتوقف إلى حد بعيد على المكان الذي تقصده).(/6)
وإذا كان ذلك يبين لنا أنه لابد من أن يعمل العلم في ظل مجموعة من القيم السائدة، فإنه ينبغي أن يكون من الواضح أننا إن لم نبادر إلى تنمية هذه القيم وتصحيحها بوصاية العقيدة والإيمان، فإن العلم يصبح أداة طيعة للقيم المنهارة المدمرة. وتتضح خطورة هذه القضية أكثر ما تتضح في ظل التقدم الهائل الذي أحرزه العلم الحديث.
ولقد كان الفيلسوف الفرنسي المعاصر هنري برجسون على حق حينما قال: (يتطلب جسدنا المتوسع - بفعل التقدم العلمي الحديث - زيادة في الروح..)
وكما يقول العالم الفيزيائي المعاصر الشهير لويس دي برولي: (على قدر ما تتزايد الوسائل التي أودعها العلم والتقدم الصناعي تحت أيدينا للعمل وبالتالي للتدمير فإن الخراب الذي نستطيعه يصبح مداه أعظم اتساعا، والجراح التي تتولد عن ذلك لا تشفى سريعا).
ويكفى أن نشير هنا إلى إمكانية واحدة رهيبة يشير إليها العالم الشهير؛ تلك هي أنه منذ أكثر من نصف قرن يستخدم الفوضويون القنابل على نطاق واسع ويلقونها على الناس في الأماكن العامة، أما الآن فان العصابات الدولية أصبحت قريبة من تصنيع القنبلة الذرية: "فكيف يكون الأمر لو نجح الفوضويون الجدد في استخدامها في تهديد مدن بأسرها"؟
هنا نمسك بتلابيب المأساة وجوهرها الحقيقي؛ إن كل زيادة في قوة التأثير - يقدمها العلم - تزيد حتما القدرة على الإضرار وكما زادت قدرتنا على الغوث والإعانة زادت قدرتنا على الإساءة ونشر الدمار.
هنا يصبح لمشكلة القيم مغزى أعظم مما كان لها في أي عصر من العصور. بل إن خطر هذه المشكلة - مشكلة - القيم - يعود ليؤثر في الوضع الذي يحتله العلم نفسه، وليتقاضاه ثمن ما قدمه من مساعدة للقيم المنهارة. ويكفى أن نشير هنا إلى نقطة تغيب عن كثير من الناس، تلك هي أنه إذا كان العلم الحديث قد ازدهر في ظل قيمة "الحرية" فإنه في الآونة الأخيرة - وبفضل ما أحرزه من تقدم رهيب - أصبح من الضروري أن يدخل شيئا فشيئا إلى قبضة السلطة الحاكمة، إذ أين هي السلطة التي تجد أن بإمكانها أن تبتعد عما يحدث في معسكر العلم مع ما يمثله ذلك من تهديد خطير لأهداف المجتمع، إن الدولة هنا لا تجد مناصا من أن تعنى بالبحث العلمي أكثر من ذي قبل، بل تجد نفسها مضطرة إلى السيطرة على أسرار معينة، ومضطرة أيضا إلى أن تخضع النشاط العلمي للتنظيم والتفتيش اللذين لم يتعود عليهما.
وكما يقول لويس دي برولي عالم الفيزياء الذي سبق أن ذكرناه: (إنه حتى في الولايات المتحدة لم يعد العلماء الذين يعرفون أسرار الذرة يملكون حرية الحركة..).
وهنا يتعرض العلم الحديث لدور تاريخي مناقض للدور الذي انتعش في ظله، وتعود مشكلة القيم لتؤكد دورها الرئيسي في قيادة العلم.
وإذا كنا قد توصلنا إلى هذه النتيجة وهى قيادة القيم للعلم، فإنه من الواضح أن نسلم بقيادة العقيدة له، لأن القيم لا تستقى إلا من العقيدة، ولا تقوم إلا عليها. وهنا نود أن نعلن أن الإسلام وحده هو الذي يقدم مجموعة القيم التي تضع العلم في مناخ يسمح له بالنمو إلى حيث يشاء، وتقوده في نفس الوقت في طريق التقدم "بالإنسان".
ويكفى أن نشير هنا إلى حقيقة، تلك هي؛ أن من يوكل إليه صياغة هذه القيم ينبغي أن يحيط علما بكل شئ، إنه إذا كان الإنسان جزءا من هذا الكون، يؤثر فيه ويتأثر به فإنه من المقرر أنه لا يمكن أن تعرف الجزء معرفة دقيقة حتى تعرف الكل الذي ينتمي إليه.
وكما يقول الأستاذ مونتاجيو أحد علماء الأنثروبولوجيا المرموقين وهو بصدد الدعوة لاستخدام العلم في تحسين حاضر البشر ومستقبلهم: (إن التعليم الضئيل شئ خطر، وإنه لمن الضروري والحالة هذه التزام أعظم جانب من الحذر عند بحث جميع المشكلات أو التوصيات التي تهدف إلى التحكم لا في حياة الأحياء فحسب، بل أيضا في حياة الذين لم يولدوا بعد).
ومن هنا فإننا نقول: إن الكلمة في هذا المقام لمن يحيط علما بالكون، إنها ليست للعلم أو الفلسفة أو الإنسان، وإنما هي للوحي الذي يعبر عمن يحيط علما بكل شئ.
# {وكان الله بكل شئ محيطا}.
# {إن الله قد أحاط بكل شئ علما}.
# {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء}.
# {وخلق كل شئ فقدره تقديرا}.
# {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}.
إن الله سبحانه وتعلى هو وحده صاحب الكلمة لأنه وهو صانع الإنسان يصبح من ثم - ونزولا على منطق التكنولوجيا أيضا - ليس لأحد غيره باعتباره الصانع أن يرسم لك طريقة بناء المصنوع أو تشغيله. وأنت إذا تجاوزت الصانع في تشغيل المصنوع، انتهيت إلى تدمير المصنوع، هذه بديهية مستقاة من منطق العلم ومن عالم الصناعة معا، ومن هنا فإننا إذا كنا بصدد صياغة القيم التي تقود العلم في طريق الإنسان كان لا مفر لنا من الالتجاء إلى صانع الإنسان، ويصبح الأمر من ثم لا مجال فيه للدعوة إلى علمنة القيم، وإنما ينقلب الوضع لتعود الرأس إلى مكانها الطبيعي، وليصبح العلم هو الرجلين اللتين تخطوان بالإنسان وفقا للتوجيه الصادر من الدين.(/7)
والنتيجة النهائية لما كتبناه هي أنه يلزم في الوقت الراهن أن نهتم بوضعية العلاقة بين العلم والدين، وأنه لا مفر واقعيا ونظريا من أن يحتل العلم مكانته في هذه الوضعية: تابعا مطيعا للدين. وهذا هو التعبير الصحيح عن التيار الإسلامي في وضعية المواجهة بين العلم والدين، تنتهي فيه هذه المواجهة إلى تسليم العلم قياده للدين.
ب) وهناك تيار علماني إلحادي يجعل الكلمة العليا للعلم؛ وعندئذ فهو ينكر على الدين نتائجه ووسائله على السواء، ويحاول أن يقتلعه من جذوره. كما كان يتصور طه حسين في كتابه الذي اقتطفنا منه في أول المقال، وإذن فهي معركة بين العلم والدين، ينبغي في نظر هؤلاء أن تنتهي بالقضاء على الدين.
وينطلق "الإلحاد العلمي" هنا من قواعد تنتمي إلى "الفلسفة العلمية ولا تنتمي إلى العلم ذاته" لأن العلم في أبوابه الأصلية - النظريات والقوانين - يعلن أنه يقوم على الظن لا على اليقين.
والفكر الإسلامي لا ينبغي له أن يهاب هذا الموقف، فهو مفروض عليه سواء أراد أو لم يرد. إنه لم يعد كافيا في الدفاع عن الدين ضد الإلحاد المستند إلى العلم "كذبا" أن نقتصر على بيان اختلاف المجال في كل من الدين والعلم من ناحية، أو بيان التوافق بينهما من ناحية أخرى، فهذا الموقف يدخل السرور على عتاة الإلحاد العلمي لأنهم يدركون قصوره، إنما الموقف الذي ينبغي أن نقتحمه؛ هو موقف الحسم، على المستوى النظري على الأقل، والحسم هنا أمر مطلوب لمنع التداعيات الفاسدة التي يمكن أن تترتب عادة على الميوعة السائدة في هذا المجال، وهو حسم واجب وجوب الحسم الذي نراه في قضية موازية؛ العلاقة بين الدين والسياسة، إن اللبس والدعايات المأجورة تنفث سمومها من حيث ترك الإجابة على السؤال الآتي: أيهما يخدم الآخر؛ الدين يخدم العلم؟ الدين يخدم السياسة؟
هنا نقطة الانحراف، هنا يسمع فحيح الأفعى، وكلاهما من جحر العلمانية.
يجب أن نحسم الأمر:
# السياسة هي التي تخدم الدين.
# العلم هو الذي يخدم الدين.
# والدين - وبالتحديد الدين الإسلامي – لا مكان فيه ألبتة لما يسمى "رجل الدين" أو "المؤسسة الدينية".
وقد استدللنا على ذلك.
هنا يجب أن ننتقل من الدفاع إلى الهجوم، والهجوم هنا ينبغي أن يتجه إلى ضرب القواعد التي يستند إليها الإلحاد المعاصر "العلمي" في محاربته للدين؛ وهذه القواعد في تقديري ثلاثة:
القاعدة الأولى: الزعم بإنكار كل الغيبيات التي لا يمكن إخضاعها للملاحظة والتجربة.
القاعدة الثانية: الزعم بأن حتمية القوانين الطبيعية من ناحية وقوانين التطور التقدمي من ناحية أخرى يمكن الاستغناء بهما عن افتراض وجود الله وعلمه وإرادته كتفسير لوجود العالم وحركته وتغيره.
القاعدة الثالثة: ادعاء كفاية المنهج العلمي في المعرفة من ناحية، والقيم من ناحية أخرى، والاستغناء به عن المناهج المعرفية الأخرى التي تقوم بها الفلسفة الميتافيزيقية أو الدين. وهنا نجد المجال مفتوحا أمام الباحثين لضرب هذه القواعد.
وبهذا يتم في تقديرنا قتل حشرات العلمانية التي خربت طويلا في ثقافة العصر، ودمرت إمكانية التقدم في بلادنا الإسلامية والعربية منذ أكثر من قرن.
ولهذا بحث منجز، نرجو أن نقدمه مستقبلا.
والله أعلم(/8)
العلمانية وفصل الدين عن الدولة
دعوة قديمة جديدة
الحلقة الأولى
طريف السيد عيسى
alsayed_59@hotmail.com
مافتئ دعاة العلمانية يروجون لدعوتهم تلك بفصل الدين عن الدولة داعمين تلك الدعوة بحجج وأدلة حتى غدت تلك الدعوة لسان حال أكثر الأحزاب السياسية حتى كاد يكون هذا المبدأ بدهيا لايحتاج عند أصحابه الى كبير عناء في التدليل عليه ,والمناقشة في صحته ,ويستندون في هذه الدعوة الى وقائع التاريخ ,والى طبيعة الدين , ووظائف الدولة في العصر الحديث .
ومما لاشك فيه أن الصراع العنيف الذي قام في أوربا في عصور النهضة بين الدين والعلم أدى الى فصل الدين عن الدولة والى منع رجال الدين من التدخل في السياسة العامة , فقدر لهذه النهضة أن تشق طريقها نحو البناء وقدر للبشرية أن تتخلص من الحروب الدموية التي كان يشنها رجال الدين على مخالفيهم واستطاعت الحضارة الحديثة أن تأخذ طريقها في التقدم العلمي والبناء والتطور .
ودعاة العلمانية يبررون دعوتهم بأن أي دولة يجب أن تتوفر فيها ثلاثة عناصر رئيسية :
1-تستمد الدولة سلطانها من الشعب .
2-الدولة لكل المواطنين بغض النظر عن المعتقد أو العرق فلا تميز بين فئة وفئة.
3-أن تكون تقدمية متطورة .
ويقول دعاة العلمانية أن الدين لايسمح بتحقق هذه الشروط باعتبار أن مبادئه ثابتة لاتتطور , وأن الدين يجعل لرجال الدين السلطة , وأن الدين يعطي لأتباعه الحق بالتميز والتعالي على الآخرين , اضافة الى حجج ومبررات يدعيها دعاة العلمانية .
ان كل هذه المبررات تسقط أمام الحقائق التي يتلقاها العقل بالاستقراء والتحليل من خلال حقائق تاريخية ومن خلال مبادئ الدين .
وقبل الدخول في تفنيد هذه الحجج لابد أن نعطي تعريفا للعملمانية معتمدين على مراجع دعاة العلمانية ومؤسسيها حيث هناك عدة تعاريف للعلمانية :
-العلمانية هي اللادينية أو الدنيوية أما نسبتها للعلم فهي ترجمة خاطئة لكلمة secularism بالانكليزية وsecularite بالفرنسية فلفظ العلم ومشتقاته هو science .
-تقول دائرة المعارف البريطانية ان مادة secularism حركة اجتماعية تهدف لصرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة الى الاهتمام بالدنيا وحدها .
-وجاء في قاموس العالم الجديد للوبستر شرحا مفصلا بأنها الروح الدنيوية أو الاتجاهات الدنيوية أو نظام من المبادئ والتطبيقات يرفض أي شكل من أشكال العبادة أو الاعتقاد بأن الدين والشؤون الكنسية لادخل لها في شؤون الدولة .
-وجاء في معجم أكسفورد عدة معاني : فهي دنيوي أو مادي , ليس دينا ولا روحيا , التربية اللادينية , السلطة اللادينية , الحكومة المناقضة للكنيسة .
-وجاء في المعجم الدولي الثالث على أنها اتجاه في الحياة أو في أي شأن خاص يقوم على مبدأ أن الدين أو الاعتبارات الدينية يجب ألا تتدخل في الحكومة أو استبعاد هذه الاعتبارات استبعادا مقصودا .
-ويقول المستشرق أر بري في كتابه الدين والشرق الأوسط : ان المادية العلمية والانسانية والمذهب الطبيعي والوضعية كلها أشكال اللادينية ,واللادينية صفة مميزة لأوربا وأمريكا .
-كما أن جون هوليوك يقول : العلمانية لاتعني فقط فصل الدين عن الدولة بل فصل القيم الانسانية والأخلاقية والدينية عن الحياة في جانبها العام والخاص , وان مثل هذا الكلام قاله مفكرين غربيين كثر .
وبعد تقديم عدة تعريفات للعلمانية والتي كلها تصب في التعريف الذي اصبح متعارف عليه وهو فصل الدين عن الدولة بل فصل كل القيم عن الحياة في جانبيها العام والخاص .
ونعود الآن لمبررات وحجج أصحاب هذه الدعوة لنناقشها بهدوء .
أولا – منطلقات لابد منها :
1-يعرف الدين على أنه مجموعة من النظم والمبادئ في العقيدة والعبادة تربط الناس قيما بينهم ليشكلوا أمة معنوية واحدة .
2-الدولة هي مكونة من السكان والأرض والحكومة والسيادة بحيث تقوم مجموعة من الشعب بتأمين الحق والعدل بين المواطنين .
3-يجب أن تكون العلاقة بين الدين والدولة علاقة ايجابية بحيث تشرف الدولة على التعاون بين الناس من حيث الايمان والأخلاق والتشريع وقرر علماء الاجتماع أن الدين من أكبر المؤثرات في قيام المجتمع وبناء الحضارة .
ثانيا – أسباب الانحراف والسلبية في علاقة الدين بالدولة :
التطرق لهذه الأسباب يقودنا الى الحديث عن الديانات السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والاسلام .(/1)
1-اليهودية : وهي ديانة سماوية كسائر الديانات تأمر بالايمان بالله تعالى وحده لاشريك له واحسان المعاملة مع الناس , فكانت نبوة موسى عليه السلام تعليم بني اسرائيل وتحريرهم من العبودية للفراعنة وتهذيب أخلاقهم , ومع مرور الزمن بدأ الانحراف حتى غدت اليهودية ديانة طائفة تدعوا للتمييز بين اليهود وغيرهم في المعاملات والعبادات والأخلاق فنجد أن الربا محرم بين يهودي ويهودي آخر لكنه حلال بين يهودي وشخص آخر من أتباع الديانة غير اليهودية , كما شمل الانحراف طريقة التعامل مع الآخر غير اليهودي بالقسوة والعنف حيث جاء في التثنية : حين تقرب من مدينة كي تحاربها استدعها الى الصلح فان أجابتك الى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك وان لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها واذا دفعها الرب الهك الى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف , وأما النساء والأطفال والبهائم وكل مافي المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك , هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم الذين هنا ,وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب الهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما – التثنية 20\10-16.
كما أن عقيدة شعب الله المختار جعلت اليهود يعتقدون أن من حقهم السيطرة على كل شعوب الأرض .
اضافة الى بعض التشريعات التي تدعوا للكسل من خلال اعتقادهم بحرمة العمل يوم السبت .
ان هذه الظواهر وغيرها تجعل من المستحيل تحقق علاقة ايجابية بين الدين والدولة فهي لاتؤمن بمساواة الشعوب في الحقوق والواجبات كما أن نظرتها للانسانية نظرة استعلائية .
وبالنظر الى دولة بني صهيون اليوم فانها قامت على أساس ديني مستغلة العاطفة الدينية عند اليهود واعدة اياهم بقيام دولة اسرائيل الكبرى حيث جاء في التثنية :كل مكان تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم من البرية ولبنان ومن النهر الى البحر الغربي يكون تخمكم – 11\24.
2-المسيحية :
لم تأتي المسيحية بتشريع بل كانت تعتمد على شريعة موسى عليه السلام الا بعض ما كانت تقتضيه طبيعة تطور الحياة وبذلك فالديانة المسيحية مرت بعدة مراحل .
فكانت المرحلة الأولى هي مرحلة السلام والمسالمة واصلاح أخلاق اليهود ورفع الظلم ولا تتدخل في شؤون الحكم والدولة حيث جاء في انجيل متى 5\17 أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله .
فكانت رسالة تهذيب واصلاح وسمو روحي , كما أنها لم تكن نظام كهنوتي يجعل من رجال الدين وسيلة للسيطرة على الناس ودعا عيسى عليه السلام الى عدم تقديس أي من البشر كما حصل من انحراف في اعطاء القداسة لرجال الدين من أنهم يغفرون الخطايا ويدخلون الجنة من يشاؤون ويحرمون منها من يشاؤون .
وبذلك بقيت الديانة المسيحية في القرون الثلاثة الأولى من الميلاد تدعوا الى الحب والتسامح والرحمة والموعظة الحسنة ولم تقف أي موقف مناوئ للدولة .
ثم جاء عهد جديد منذ 324ميلادي حيث أعلن الامبراطور قسطنطين حماية المسيحية من الاضطهاد وقام باعفاء القس من كثيرمن الأعباء السياسية وعفى أملاك الكنيسة من الضرائب ثم جاء الامبراطور ثيو دو سيوس وسار على خطى قسطنطين وفي عام 394ميلادي أعلن مجلس شيوخ روما أنها في حماية المسيح وتم منح الكنيسة ورجالها امتيازات متنوعة منها الاعفاء من الضرائب وعقد المحاكم في الكنائس ومع بداية القرن الخامس للميلاد أصبح لرجال الدين مكانة تتميز عن الشعب مما جعلهم يسيطرون على مقاليد الأمور فأصبحوا يتدخلون في الشؤون السياسية فيتوجون الأباطرة ويعزلونهم وهكذا حتى جاء أحد أساقفة روما ليعلن أن العالم تحكمه قوتان قوة الكنيسة وقوة الملك والأولى متفوقة على الثانية لأن الكنيسة مسؤولة أمام الله عن أعمال الملوك أنفسهم وبهذا التوسع في الصلاحيات لرجال الكنيسة اباحوا لأنفسهم التدخل في شؤون الدولة وأصبح الامبراطور خاضعا لرجال الكنيسة بالكامل .
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل نصب رجال الدين من أنفسهم قضاة على الناس وكل المحاكم تعود لهم وفتحوا السجون الخاصة بهم حتى اصبحت الكنيسة دولة داخل الدولة ووصل الأمر برجال الدين أن يفرضوا عقوبات قاسية بحق الامبراطور فمثلا يضطر الامبراطور للوقوف أمام باب رجل الدين ثلاثة أيام حافي القدمين عاري الرأس حتى يأذن له البابا بالدخول وهذا ماحصل مع الامبراطور هنري الرابع عام 1076 , بل وصل الأمر أن يركع الامبراطور بين يدي البابا كما حصل مع الامبراطور فردريك حين حرمه البابا عام 1177.(/2)
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل ضاقت الكنيسة ذرعا بكل من يخالفها في الدين ومن هذا المبدأ أعلنت الكنيسة حربا صليبية على المسلمين دامت مائتي سنة تقريبا ولم يتوقف الأمر على المسلمين بل شملت المسيحيين الذين وصفتهم الكنيسة بالهراطقة فدارت حرب على الألبيين وكل ذنبهم أنهم اختلفوا مع الكنيسة حول مبادئ روما وفي تفسير الانجيل , بل شملت الحرب على كل من ينتقد ثراء رجال الكنيسة من أمثال لوثر ومذبحة سانت بارتلمي عام 1572 خير شاهد على الاضطهاد الذي تعرض له بعض المسيحيين والتاريخ لاينسى محاكم التفتيش ضد المسلمين واليهود .
لقد طارد رجال الدين كل أصحاب الفكر والفلسفة والاصلاح فتم حرق كنائسهم ومكتباتهم فلم يسلم منهم أبيلارد وروجربيكون وبرونو وجاليلو وغيرهم وهكذا وقفت الكنيسة موقف العداء للفكر .
وبسبب هذا الظلم والسيطرة والقسوة كان لابد أن ينفجر بركان يدمر كل من كان يجلس على فوهته ولم يكن للانجيل دور في هذا الانفجار بل أن السبب هو رجال الدين وتصرفاتهم فبدأ الصراع وبدأت ثورة ترفض سيطرة رجال الدين على الحياة العامة فقرر البرلمان الانكليزي عام 1301 أن ليس للبابا حق التدخل في الشؤون الداخلية ثم تبعه مجلس طبقات الأمة في فرنسا عام 1302ثم بدأت الحركة تتسع للوقوف بوجه فساد رجال الدين فتحرك لوثر وجون هس وكلفني وغيرهم وهكذا بدأت حركة الانتفاضة ضد طغيان رجال الدين حتى جاء القرن الثامن عشر لتكون ثورة عامة ضد المسيحية وعقائدها والسبب في ذلك هم الأحبار والرهبان فكانت الثورة الفرنسية 1789 لتكلل هذه الحركة نصر المظلومين على رجال الدين ومنذ ذلك الوقت بدأت دعوة فصل الدين عن الدولة , فتم ابعاد رجال الدين عن السياسة وخضعت الكنيسة لقانون الدولة وبذلك انتهى تدخلهم السافر في السياسة وشؤون الدولة .
3-الاسلام :
جاء محمد صلى الله عليه وسلم برسالة متممة لرسالات الأنبياء السابقين من حيث الدعوة الى توحيد الخالق والايمان بالرسل والحث على مكارم الأخلاق فشمل الاسلام نظاما متكاملا للحياة والكون من حيث العقيدة والعبادة والمعاملة والأخلاق .
فدعا الى الايمان باله واحد كامل هو خالق الخلق والكون ومافيه حيث قال تعالى في سورة الأنعام آية 2- خالق كل شئ - .
والانسان لايستطيع الاهتداء الى أسرار الكون والانسان الا بالعلم والتفكر فكانت للعلم مكانة عظيمة في الاسلام بل اعتبر فرضا من فروض الدين وعبادة يثاب عليها حيث قال صلى الله عليه وسلم تعلموا العلم فان تعلمه لله خشية وطلبه عبادة .
كما رفض الاسلام كل شئ يمت للخرافة والوهم بل دعا لاستخدام الوسائل التي توصل الانسان للحقيقة من خلال السمع والبصر والفؤاد حيث قال تعالى في سورة الاسراء – ولاتقف ماليس لك به علم , ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا -.
كما قرر الاسلام أنه لاتوجد واسطة بين الانسان والله ولايجوز اكراه أحد على دين معين ولايملك أحد ان يغفر الذنوب ولايملك أحد اكراه الضمير والعقول على الاعتقاد بشئ بالقوة وبذلك نفى الاسلام كل اشكال الكهانة والرهبنة وألغى طبقة رجال الدين بل في الاسلام فقهاء وعلماء يبينون للناس حكم الله فلا يحلون ولا يحرمون .
وجعل الاسلام من العبادة رابط بين الانسان والله عن طريق المراقبة والخشية والحاجة الى عون الله تعالى في التغلب على كل القيم الباطلة والفاسدة والتحرر من العبودية للبشر مهما بلغت مكانتهم .
كما دعا الاسلام لتهذيب النفس والجوارح وتقوية روابط التعاون بين بني البشر لأن الفرد في نظر الاسلام هو جزء من مجموع وبالتالي عليه مراعاة ذلك حتى لايطغى على الآخرين تحت أي حجة أو مبرر , وبذلك تنوعت العبادات في الاسلام من صلاة وصيام وصوم وزكاة وحج ودعاء وغيرها من العبادات العملية والقولية وكل هذه العبادات تلعب دورا في تهذيب النفس حيث يقول الله تعالى في سورة العنكبوت – ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر – ويقول عن الزكاة في سورة التوبة – تطهرهم وتزكيهم – ويقول عن الحج في سورة الحج – ليشهدوا منافع لهم – ويقول صلى الله عليه وسلم عن الصوم – رب صائم ليس له من صيامه الا الجوع والعطش –
ثم جاء الاسلام بالآداب التي تقوي الشخصية وتعلم الفرد على تحمل المشاق وتنمي روح التعاون بين الناس وتقضي على روح الانعزالية والفردية وتقديس الذات على حساب المجموع .(/3)
ثم جاءت الشريعة الاسلامية بالقوانين لمختلف نواحي الحياة سواء على المستوى الشخصي أو المستوى العام ابتداء من البيت الى السوق والعمل الى الحقوق والواجبات في داخل الدولة وخارجها , وكان الهدف من هذه القوانين توفير السعادة والسلام والرحمة والكرامة على اساس من اليسر وعدم تحميل الانسان فوق طاقته وقدرته فكانت هذه القوانين تدور حول الحقوق والواجبات ابتداء من الحرية في اختيار العقيدة الى حق التعلم والعمل وباختصار كانت مقاصد الشريعة تجتمع في الضروريات الخمس وهي الدين والعقل والنفس والمال والعرض .
وتميزت هذه القوانين بالعدل بحيث يعطى كل ذي حق حقه دون تفريق بين مكونات المجتمع فلا يجحف انسان بحق انسان مهما كانت مكانته سواء كان حاكما أو محكوما , ولقد شدد الاسلام على الظلم تشديدا عظيما حيث يقول الله تعالى في سورة الزخرف – فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم - .
ولم تقتصر العدالة على المسلمين بل شملت غير المسلمين فلقد قال صلى الله عليه وسلم ألا من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته وانتقصه أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة , فكانت عدالة مطلقة .
ثم تميزت هذه القوانين بالمساواة وهي متممة للعدل وبدون عدل لاتكون مساواة, فالجميع أمام القانون سواء حتى وان تفاضل الناس من حيث العلم والمكانة وبذلك ألغى الاسلام كل اشكال الطبقية يقول عليه الصلاة والسلام – والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها -.
والقوانين الاسلامية تساوي بين الناس بغض النظر عن عقيدتهم وعرقهم , بل انها تركت لغير المسلم في قضايا الزواج والأمور الخاصة بدين معين غير الاسلام ان يتحاكموا الى دينهم فالخمر في الاسلام محرم لكنه ترك لغير المسلم أن يتعامل به اذا كان غير محرم في دينه .
وتميزت القوانين الاسلامية بالتيسير فلم تكلف الناس بما لايطيقون أو بما يصطدم مع طبيعة الانسان قال الله تعالى في سورة البقرة – لايكلف الله نفسا الا وسعها – وعندما يصل الأمر في تنفيذ قانون ما ويؤدي الى المشقة أو توقع الهلكة فأجاز الاسلام عدم تنفيذ ذلك القانون مثل أكل لحم الميتة والدم بما يسد رمقه ويكفي حاجته ويحول بينه وبين الهلاك حيث يقول الله تعالى في سورة النحل – انما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به , فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان الله غفور رحيم - .
وتميزت القوانين الاسلامية برعاية المصالح للناس بحيث تذهب الضرر وتحقق الخير وتطهر الروح وتدفع عنها الضرر وتقوم الاعوجاج وتصلح المجتمع لذلك شرعت الأحكام لمصالح العباد واصلاح المجتمع وحكم ذلك قاعدة مهمة وهي قول الرسول صلى الله عليه وسلم – لاضرر ولا ضرار – وبذلك لبت القوانين حاجة الناس وضروراتهم , والأصل بهذه القوانين أنها تراعي المصلحة العامة واذا تعارضت مصلحتان عامتان فتقدم الأكثر تعلقا بمصلحة المجموع ولم ينسى الاسلام أن المصالح قد تتغير وتتبدل من زمن لآخر وهنا ترك المشرع فسحة من أجل مراعاة المصلحة في كل زمان ومكان ضمن الضوابط الشرعية حيث تتغير الأحكام بتغير الأزمان .
ان الاسلام نظام شامل متوازن دعا الى عقيدة تحرر العقل وتدعوا للعلم وعبادة تسموبالروح وخلق ينمي الشخصية ويدعوا للتعاون وتشريع يحقق المصالح ويضمن العدل والمساوة والتطور في ضوء المستجدات دون جمود .
العلمانية وفصل الدين عن الدولة
دعوة قديمة جديدة
الحلقة الثانية
طريف السيد عيسى
alsayed_59@hotmail.com
منظومة التشريع الاسلامي
قبل أن ندخل في صلب الموضوع أنقل ماقاله غير المسلمين بحق التشريع الاسلامي ومن قبل جهات صاحبة أختصاص .
-يذكر العلامة مصطفى أحمد الزرقاء رحمه الله تعالى في كتابه المدخل الفقهي العام الجزء الأول مايلي:في الثاني من تموز عام 1951 عقدت شعبة الحقوق الشرقية من المجمع الدولي للحقوق المقارنة مؤتمرا في كلية الحقوق من جامعة باريس للبحث في الفقه الاسلامي برئاسة المسيو ميو أستاذ التشريع الاسلامي في كلية الحقوق بجامعة باريس حضره عددا من أساتذة الحقوق في الجامعات العربية والغربية ومن المستشرقين ,وفي خلال بعض النقاشات وقف أحد الأعضاء وهو نقيب محاماة سابق في باريس فقال : أنا لا أعرف كيف أوفق بين ماكان يحكى لنا عن جمود الفقه الاسلامي وعدم صلوحه أساسا تشريعيا يفي بحاجات المجتمع العصري المتطور ,وبين مانسمعه الآن في المحاضرات ومناقشاتها مما يثبت خلاف ذلك تماما ببراهين النصوص والمبادئ .
وفي ختام المؤتمر وضع المؤتمرون تقرير نقتطف منه :أن مبادئ الفقه الاسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لايمارى فيها .وان اختلاف المذاهب الفقهية في هذه المجموعة الحقوقية العظمى ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات , ومن الأصول الحقوقية , هي مناط الاعجاب , وبها يستطيع الفقه الاسلامي أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة والتوفيق بين حاجاتها , أنتهى كلام الشيخ – ص 6-9 .(/4)
وكما قيل والفضل ماشهدت به الأعداء , فعجيب أمر قومنا يزهدون بما عندنا ويذهبون شرقا وغربا يريدون منا أن نأخذ بتشريعات لاتمت لبيئتنا بصلة كما أنهم يريدون منا أن ننسلخ عن أصالتنا التي ذخرت بتراث فقهي مجيد بما يحتويه من مبادئ وأسس ومرونة تمكنه من الاستجابة لكل الحاجات في كل زمان وبيئة.
والآن نأتي الى النظام التشريعي في الاسلام حيث سيتم تناوله من خلال ركيزتين أساسيتين :
أولا – وضع التشريعات والأنظمة الوضعية .
ثانيا - التشريع الاسلامي
أولا – وضع التشريعات والأنظمة الوضعية :
معلوم أن القانون يتكون تدريجيا فيخضع للتعديل والاستبدال والالغاء فكلما أرتقت مدارك الانسان ومعارفه كلما أرتقى في التشريع .
ولكن تبقى هذه القوانين هي من صناعة البشر الذين مهما أو توا من الكمال فانهم يبقون بشرا لايستطيعون اقامة قانون خالد صالح لكل زمان ومكان .
والاختلاف في القوانين بين أمة وأخرى دليل على الاختلاف في العادات والأعراف وثقافة المجتمع وعقيدته حيث أن لكل أمة خصوصيات , فهل يعقل أن نجعل من خصوصيات الآخرين مرجعية لنا .
ومن خلال التدقيق في كل القوانين الوضعية نجد أنها تفتقد الى المبادئ الأخلاقية والتي تنبع من وازع الضمير ومحاسبة النفس ومراقبة التصرفات والسلوكيات .
كما أن هذه القوانين تفتقد للكمال والصلوحية ولاتستطيع الموازنة والتوافق بين النظرة الى الكون والانسان والحياة مما يجعل فيها ثغرات دائمة وتشوهات مزمنة .
كما أن هذه القوانين تفتقر الى العدالة فهي قد تكون عادلة مع رعايا الدولة ولكنها ظالمة ومجحفة بحق الآخرين خارج الدولة , وبما أنها من صناعة البشر فيتم تفسير هذه القوانين بما يخدم مصالح هذه الدول فيتم التلاعب بها كلما أقتضت مصلحتهم لذلك.
وبمراجعة متأنية ومنصفة للمائة عام الأخيرة نقف على كوارث وجرائم ارتكبت بحق البشرية وباسم هذه القوانين .
ثانيا – التشريع الاسلامي :
- قلنا في الحلقة الأولى أن الاسلام دين ودولة فهو عقيدة تحرر العقل من الجهل والخرافة والانغلاق, وأخلاق تهذب النفس وتدعوها نحو الفضائل, وعبادة روحية تربط الانسان بخالقه ليبقى دائما في حالة مراقبة لتصرفاته وسلوكه, وتشريع ينظم شؤون الحياة وعلاقة الانسان مع خالقه وعلاقته مع نفسه وعلاقته مع الآخرين على مستوى المجتمع والدولة .
- ولتحقيق هذه المنظومة المتوازنة جاء الاسلام بتشريع شامل ومتوازن فلقد شمل جميع القواعد والأسس والمبادئ اللازمة لاقامة حياة اجتماعية ضمن الدولة .
ولاننكر أنه في بعض الأحيان ترتكب أخطاء في التطبيق لكن هذه الأخطاء لاتستوجب استبعاد الشريعة ونظامها فطالما أن هناك مبدأ فهو المرجع ولاقداسة لاجتهادات الأشخاص .
- وبالعودة الى النظام الاسلامي فاننا نجده تضمن كل متطلبات القوانين والأحكام على المستوى الخاص والعام فكان نظاما بمبادئ عامة وردت في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وتركت مساحة واسعة للاجتهاد بالتفصيلات حسب مقتضيات الزمان والمكان والبيئة والظروف والمستجدات .
- ان التشريع الاسلامي نظاما ربانيا ارتضاه خالق الكون للبشرية فهو خالقها ويعلم ماينفعها ويضرها فوضع لها نظاما صالحا لها في كل عصر ومصر فهل يعقل أن نستبدل النظام الرباني بنظام بشري مازال الى اليوم يعاني من ثغرات قاتلة .
-كما أن النظام الاسلامي خلا مما يسمى طبقة رجال الدين الذين عانت منهم البشرية في بعض الديانات, فلم يعرف الاسلام لا في عهد النبوة ولا في عهد الراشدين ولا في العهود الأخرى طبقة رجال الدين , بل هناك فقهاء وعلماء دورهم توضيح وتبيان أحكام الشريعة فلا يحرمون حلالا ولا يحلون حراما ولم يعرف هؤلاء الفقهاء بأي ميزة تميزهم عن باقي أفراد المجتمع الا بعلمهم وهذا ماجعل العامة يحترمونهم ويجلونهم ويقدرونهم بل حتى أن أركان الدولة كانت تهابهم لأنهم يدركون دورهم في الوقوف بوجه الأخطاء والانحرافات وقد حفل تاريخ الاسلام بمواقف العلماء ضد بعض الولاة الذين حادوا أحيانا عن الطريق .
ان هؤلاء العلماء كانوا مثل الأطباء في تشخيصهم للمرض ثم وصف العلاج المناسب وشأنهم شأن أصحاب الاختصاصات الأخرى .
-ان التاريخ الاسلامي حافل بآلاف المواقف التي تؤكد بعد العلماء عن السيطرة على أركان الدولة وهيمنتهم على الحياة العامة بل نجد مواقفهم صارمة بحق الولاة الذين انحرفوا ومن هذه المواقف :(/5)
-الفقيه منذر بن سعيد في الأندلس أيام عبد الرحمن الناصر الذي أنشأ مدينة الزهراء وأنفق عليها الأموال الطائلة حتى أنه أتخذ للصرح الممرد قبة من ذهب وفضة فما كان من الفقيه منذر الا أن وقف وبحضور الناصر مؤنبا له قائلا ماكنت أظن أن الشيطان أخزاه الله يبلغ بك هذا المبلغ , ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين , مع ما آتاك الله وفضلك على العالمين , حتى أنزلك منازل الكافرين , فاقشعر الناصر لهذا القول وقال له انظر ماتقول فرد عليه منذر ألم تقرأ قول الله تعالى : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون , فوجم الناصر ودموعه تجري ثم قام شاكرا للفقيه منذر وأمر بنقض القبة , انه موقف لرد انحراف الناصر في استخدام المال العام وبذلك كان الفقيه وكيلا عن أموال الشعب وليس رجل دين يبتز أموال الشعب .
-لما ثار بعض سكان لبنان على عاملها علي بن عبد الله بن عباس فقام بتفريقهم وأجلاهم عن ديارهم ولما علم امام الشام وعالمها الامام الأوزاعي بذلك كتب الى والي لبنان يذكره بالنصوص التي تدعوا للعدل والانصاف بحق الآخرين فما كان من الوالي الا أن أعادهم الى قراهم وبيوتهم , فهل كان الفقهاء رجال دين يساعدون على الظلم والاضطهاد .
ان بطون الكتب تحدثنا عن مواقف ستبقى درة في جبين التاريخ في مواقف الفقهاء والعلماء .
فلمصلحة من يتم الترويج لهذه الدعوة في بيئة تختلف عن البيئة التي نشأت فيها , ان حال هؤلاء كمن يمارس الاضطهاد تجاه أفكاره نفسها لأنهم يريدون استنبات شجرة غريبة في بيئة غريبة غير بيئتها .
ان حال هؤلاء حال رجل نظر فابصر ففكر ثم دبر فتوصل الى فكرة عبقرية كما يزعم فخرج علينا بنظرية كما يزعم قائلا لنا نريد أن نخرج السمك من الماء من أجل أن تعيش في البر وتقطع علاقتها الوجودية مع الماء , ثم عمل مابوسعه من أجل أن يتأقلم السمك مع المحيط الجديد فسخر لذلك كل الامكانيات والوسائل لنجاح تجربته ولكن من حوله نصحوه وقدموا له البراهين أن تجربته فاشلة وأنه يمارس جريمة بحق السمك لكنه لم يسمع لهم بل شكك بكل نصائحهم واثار حولها الشبهات وبعد فترة أكتشف فشل تجربته , وبدل أن يعترف بجريمته بحق هذا الكائن وفشله الذريع بدا يكيل التهم للبيئة المحيطة .
ان من يريد استنبات شجرة العلمانية لايسمعون نصحا ولا يقبلون رأيا ويصرون على مناطحة الصخور فهل هؤلاء مستعدين بعد تجاربهم الفاشلة أن يغيروا فكرهم ومنهجهم وبذلك يكونون مخلصين لشعوبهم وأمتهم وهذا افضل مايمكن أن يفعلوه .
على هؤلاء أن يدركوا أن المسلمين مهما أعتراهم الضعف والتراجع وتقليد الغالب لكنهم رغم كل ذلك حددوا مكانهم ومرجعيتهم وهذا الأمر قد حسم لصالح الاسلام فلماذا يصر هؤلاء على مواقفهم وكل يوم يفاجئون بفشل جديد يلاحقهم .
وبما أن السمك لايعيش الا في الماء وكذلك الاسلام هو المرجعية التي لانعيش بدونها , وهذا لايمنع من الاعتراف بخلل وقع هنا أو هناك في بعض التجارب سواء في الماضي أو الحاضر وهذا يدعونا الى دراسة هذه التجارب بموضوعية فنصوب ماوقع من أخطاء وانحرافات وننمي ماتحقق من نجاحات ونطور مايحتاج الى تطوير في ضوء المقاصد العامة للشريعة الاسلامية حتى نضمن تجربة ناجحة تستفيد منها البشرية(/6)
العلمانيون وفكرهم وممارساتهم
الكاتب: الشيخ د.سعيد بن ناصر الغامدي
العلمانيون هم كل من ينسب أو ينتسب للمذهب العلماني ، وينتمي إلى العلمانية فكرا أو ممارسة0
وأصل العلمانية ترجمة للكلمة الإنجليزية " secularism " , وهي من العلم فتكون بكسر العين , أو من العالم فتكون بفتح العين , وهي ترجمة غير أمينة ولادقيقة ولا صحيحة ,لأن الترجمة الحقيقية للكلمة الإنجليزية هي "لادينية أولا غيبية أو الدنيوية أولا مقدس"
نشأت العلمانية في الغرب نشأة طبيعية نتيجة لظروف ومعطيات تاريخية ـ دينية واجتماعية وسياسية وعلمانية واقتصادية ـ خلال قرون من التدريج والنمو ، والتجريب , حتى وصلت لصورتها التي هي عليها اليوم 0
ثم وفدت العلمانية إلى الشرق في ظلال الحرب العسكرية،وعبر فوهات مدافع البوارج البحرية،ولئن كانت العلمانية في الغرب نتائج ظروف ومعطيات محلية متدرجة عبر أزمنة متطاولة،فقد ظهرت في الشرق وافدا أجنبيا في الرؤى والإيديولوجيات والبرامج ،يطبق تحت تهديد السلاح وبالقسر والإكراه، لأن الظروف التي نشأت فيها العلمانية وتكامل مفهومها عبر السنين تختلف اختلافا جذريا عن ظروف البلدان التي جلبت إليها جاهزة متكاملة في الجوانب الدينية والأخلاقية والاجتماعية والتاريخية والحضارية ، فالشرط الحضاري الاجتماعي التاريخي الذي أدى إلى نجاح العلمانية في الغرب مفقود في البلاد الإسلامية بل فيها النقيض الكامل للعلمانية ولذلك كانت النتائج مختلفة تماماً كما , وحين نشأت الدولة العربية الحديثة كانت عاله على الغربيين الذين كانوا حاضرين خلال الهيمنة الغربية في المنطقة ومن خلال المستشارين الغربيين أو من درسوا في الغرب واعتنقوا العلمانية ، فكانت العلمانية في أحسن الأحوال أحد المكونات الرئيسية للإدارة في مرحة تأسيسها وهكذا بذرت بذور العلمانية على المستوى الرسمي قبل جلاء جيوش الاستعمار عن البلاد الاسلامية التي ابتليت بها .
ومن خلال البعثات التي ذهبت من الشرق إلى الغرب عاد الكثير منها بالعلمانية لا بالعلم ، ذهبوا لدراسة الفيزياء والأحياء والكيمياء والجيولوجيا والفلك والرياضيات فعادوا بالأدب واللغات والاقتصاد والسياسة والعلوم الاجتماعية والنفسية ، بل وبدراسة الأديان وبالذات الدين الإسلامي في الجامعات الغربية ، ولك أن تتصور حال شاب مراهق ذهب يحمل الشهادة الثانوية ويلقى به بين أساطين الفكر العلماني الغربي على اختلاف مدارسه ، بعد أن يكون قد سقط إو أسقط في حمأة الإباحية والتحلل الأخلاقي وما أوجد كل ذلك لديه من صدمة نفسية واضطراب فكري ، ليعود بعد عقد من السنين بأعلى الألقاب الأكاديمية ، وفي أهم المراكز العلمانية بل والقيادية في وسط أمة أصبح ينظر إليها بازدراء ، وإلى تاريخها بريبة واحتقار ، وإلى قيمها ومعتقداتها وأخلاقها ـ في أحسن الأحوال ـ بشفقة ورثاء . إنه لن يكون بالضرورة إلا وكيلا تجاريا لمن علموه وثقفوه ومدنوه ، وهو لا يملك غير ذلك
ثم أصبحت الحواضر العربية الكبرى مثل "القاهرة_بغداد_دمشق" بعد ذلك من مراكز التصدير العلماني للبلاد العربية الأخرى،من خلال جامعاتها وتنظيماتها وأحزابها وبالذات لدول الجزيرة العربية وقلّ من يسلم من تلك اللوثات الفكرية العلمانية ، حتى أصبح في داخل الأمة طابور خامس ، وجهته غير وجهتها ، وقبلته غير قبلتها ، إنهم لأكبر مشكلة تواجه الأمة لفترة من الزمن ليست بالقليلة .
ثم كان للبعثات التبشيرية دورها، فالمنظمات التبشيرية النصرانية التي جابت العالم الإسلام شرقاً وغربا من شتى الفرق والمذاهب النصرانية ، جعلت هدفها الأول زعزعت ثقة المسلمين في دينهم ، وإخراجهم منه ، وتشكيكهم فيه 0
ثم كان للمدارس والجامعات الأجنبية المقامة في البلاد الاسلامية دورها في نشر وترسيخ العلمانية
ثم كان الدور الأكبر للجمعيات والمنظمات والأحزاب العلمانية التي انتشرت في الأقطار العربية والإسلامية، مابين يسارية وليبرالية وقومية وأممية وسياسية واجتماعية وثقافية وأدبية،بجميع الألوان والأطياف ،وفي جميع البلدان حيث أن النخب الثقافية في غالب الأحيان كانوا إما من خريجي الجامعات الغربية أو الجامعات السائرة على النهج ذاته في الشرق،وبعد أن تكاثروا في المجتمع عمدوا إلى إنشاء الأحزاب القومية أو الشيوعية أو الليبرالية ، وجميعها تتفق في الطرح العلماني ، وكذلك أقاموا الجمعيات الأدبية والمنظمات الإقليمية أو المهنية ، وقد تختلف هذه التجمعات في أي شيء إلا في تبني العلمانية ، والسعي لعلمنة الأمة كل من زاوية اهتمامه،والجانب الذي يعمل من خلاله.(/1)
ولا يمكن إغفال دور البعثات الدبلوماسية :سواء كانت بعثات للدول الغربية في الشرق،أو للدول الشرقية في الغرب،فقد أصبحت في الأعم الأغلب جسورا تمر خلالها علمانية الغرب الأقوى إلى الشرق الأضعف ، من خلال المنح الدراسية وحلقات البحث العلمي،والتواصل الاجتماعي،والمناسبات والحفلات ، ومن خلال الضغوط الدبلوماسية والابتزاز الاقتصادي،وليس بسر أن بعض الدول الكبرى أكثر أهمية وسلطة من القصر الرئاسي أو مجلس الوزراء في تلك الدول الضعيفة التابعة .
ولا يخفى على كل لبيب دور وسائل الإعلام المختلفة ، مسموعة أو مرئية أو مقروءة ، لأن هذه الوسائل كانت من الناحية الشكلية من منتجات الحضارة الغربية-صحافة أو إذاعة أو تلفزة-فاستقبلها الشرق واستقبل معها فلسفتها ومضمون رسالتها،وكان الرواد في تسويق هذه الرسائل وتشغيلها والاستفادة منها إما من النصارى أو من العلمانيين من أبناء المسلمين فكان لها الدور الأكبر في الوصول لجميع طبقات الأمة ، ونشر مبادئ وأفكار وقيم العلمانية ، وبالذات من خلال الفن ، وفي الجانب الاجتماعي بصورة أكبر .
ثم كان هناك التأليف والنشر في فنون شتى من العلوم وبالأخص في الفكر والأدب والذي استعمل أداة لنشر الفكر والممارسة العلمانية0
فقد جاءت العلمانية وافدة في كثير من الأحيان تحت شعارات المدارس الأدبية المختلفة،متدثرة بدعوى رداء التجديد والحداثة،معلنة الإقصاء والإلغاء والنبذ والإبعاد لكل قديم في الشكل والمضمون وفي الأسلوب والمحتوى ومثل ذلك في الدراسات الفكرية المختلفة في علوم الاجتماع والنفس والعلوم الإنسانية المختلفة،حيث قدمت لنا نتائج كبار ملاحدة الغرب وعلمانييه على أنه الحق الطلق،بل العلم الأوحد ولاعلم سواه في هذه الفنون،وتجاوز الأمر التأليف والنشر إلى الكثير من الكليات والجامعات والأقسام العلمية التي تنتسب لأمتنا اسما ،ولغيرها حقيقة 0
ولايسطيع أحد جحد دور الشركات الغربية الكبرى التي وفدت لبلاد المسلمين مستثمرة في الجانب الاقتصادي
هكذا سرت العلمانية في كيان الأمة ، ووصلت إلى جميع طبقاتها قبل أن يصلها الدواء والغذاء والتعليم في كثير من الأحيان، ولو كانت الأمة حين تلقت هذا المنهج العصري تعيش في مرحلة قوة وشموخ وأصالة لوظفت هذه الوسائل توظيفا آخر يتفق مع رسالتها وقيمها وحضارتها وتاريخها وأصالتها .
بعض ملامح العلمانية
لقد أصبح حَمَلة العلمانية الوافدة في بلاد الشرق بعد مائة عام من وفودهم تيارا واسعا نافذا متغلبا في الميادين المختلفة فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية ، وكان يتقاسم هذا التيار الواسع في الجملة اتجاهان :
أ-الاتجاه اليساري الراديكالي الثوري،ويمثله - في الجملة - أحزاب وحركات وثورات ابتليت بهاء المنطقة ردحا من الزمن ، فشتت شمل الأمة ومزقت صفوفها ، وجرت عليها الهزائم والدمار والفقر وكل بلاء ، وكانت وجهة هؤلاء الاتحاد السوفييتي قبل سقوطه،سواء كانوا شيوعيين أمميين ،أو قوميين عنصريين .
ب-الاتجاه الليبرالي ذي الوجهة الغربية لأمريكا ومن دار في فلكها من دول الغرب ، وهؤلاء يمثلهم أحزاب وشخصيات قد جنوا على الأمة بالإباحية والتحليل والتفسخ والسقوط الأخلاقي والعداء لدين الأمة وتاريخها .
وللاتجاهين ملامح متميزة أهمها :
1- مواجهة التراث الإسلامي ، إما برفضه بالكلية واعتباره من مخلفات عصور الظلام والانحطاط التخلف ـ كما عند غلاة العلمانية ـ ، أو بإعادة قراءته قراءة عصرية ـ كما يزعمون ـ لتوظيفه توظيفا علمانيا من خلال تأويله على خلاف ما يقتضيه سياقه التاريخي من قواعد شرعية ،ولغة عربية ،و أعراف اجتماعية ،ولم ينج من غاراتهم تلك حتى القرآن و السنة ، إمّا بدعوى بشرية الوحي ، أو بدعوى أنه نزل لجيل خاص أو لأمة خاصة ، أو بدعوى أنة مبادئ أخلاقية عامة ، أو مواعظ روحية لاشأن لها بتنظيم الحياة ، ولا ببيان العلم و حقائقه ، ولعل من الأمثلة الصارخة للرافضين للتراث ، والمتجاوزين له "أدونيس " و "محمود درويش" و "البياتي " و " جابر عصفور ".
أما الذين يسعون لإعادة قراءته وتأويله وتوظيفه فمن أشهرهم "حسن حنفي " و " محمد أركون "و "محمد عابد الجابري " و " حسين أمين " ومن على شاكلتهم ، ولم ينج من أذاهم شيء من هذا التراث في جميع جوانبه .(/2)
2- اتهام التاريخ الإسلامي بأنه تاريخ دموي استعماري عنصري غير حضاري ، وتفسيره تفسيرا ماديا ، بإسقاط نظريات تفسير التاريخ الغريبة العلمانية على أحداثه ،وقراءته قراءة انتقائه غير نزيهة ولا موضوعية،لتدعيم الرؤى والأفكار السوداء المسبقة حيال هذا التاريخ ، وتجاهل مافية من صفحات مضيئة مشرقة ، والخلط المعتمد بين الممارسة البشرية والنهج الإسلامي الرباني ، ومحاولة إبراز الحركات الباطنية والأحداث الشاذة النشاز وتضخيمها،والإشادة بها ، والثناء عليها ، على اعتبار أنها حركات التحرر والتقدم والمساواة والثورة على الظلم مثل "ثورة الزنج"و"ثورة القرامطة" ومثل ذلك الحركات الفكرية الشاذة عن الإسلام الحق ، وتكريس أنها من الإسلام بل هي الإسلام مثل القول بوحدة الوجود ،والاعتزال وما شابه ذلك من أمور تؤدى في نهاية الأمر إلى تشويه الصور المضيئة للتاريخ الإسلامي لدى ناشئة الأمة،وأجياله المتعاقبة .
3- السعي الدؤوب لإزالة أو زعزعة مصادر المعرفة والعلم الراسخة في وجدان المسلم ، والمسيرة المؤطرة للفكر والفهم الإسلامي في تاريخه كله ، من خلال استبعاد الوحي كمصدر للمعرفة والعلم ، أو تهميشه ـ على الأقل ـ وجعله تابعاً لغيره من المصادر ، كالعقل والحس ، وما هذا إلا أثر من آثار الإنكار العلماني للغيب ، والسخرية من الإيمان بالغيب ، واعتبارها ـ في أحسن الأحوال ـ جزء من الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية ، والترويج لما يسمي بالعقلانية والواقعية والإنسانية ، وجعل ذلك هو البديل الموازي للإيمان في مفهومه الشرعي الأصيل ، وكسر الحواجز النفسية بين الإيمان الكفر ، ليعيش الجميع تحت مظلة العلمانية في عصر العولمة ، وفي كتابات " محمد عابد الجابري " و" حسن حنفي " و" حسين مروة " و" العروي " وأمثالهم الأدلة على هذا الأمر .
4- خلخلة القيم الخلقية الراسخة في المجتمع الإسلامي ، والمسيرة للعلاقات الاجتماعية القائمة على معاني الأخوة والإيثار والطهر والعفاف وحفظ العهود وطلب الأجر وأحاسيس الجسد الواحد ، واستبدال ذلك بقيم الصراع و الاستغلال والنفع وأحاسيس قانون الغاب والافتراس ، والتحلل ، والإباحية من خلال الدراسات الاجتماعية والنفسية ، والأعمال الأدبية والسينمائية والتلفزيونية ، مما هز المجتمع الشرقي من أساسه ، ونشر فيه من الجرائم والصراع ما لم يعهده أو يعرفه في تاريخه ، ولعل رواية "وليمة عشاء لأعشاب البحر"-السيئة الذكر-من أحدث الأمثلة على ذلك،والقائمة الطويلة من إنتاج"محمد شكري"و"الطاهر بن جلون"و"الطاهر طار"و"تركي الحمد"وغيرهم الكثير تتزاحم لتؤدي دورها في هدم الأساس الخلقي الذي قام عليه المجتمع،واستبداله بأسس أخرى .
5- رفع مصطلح الحداثة كلافتة فلسفية اصطلاحية بديلة لشعا ر التوحيد ، والحداثة كمصطلح فكري ذي دلالات محددة تقوم على مادية الحياة ، وهدم القيم والثوابت ،ونشر الانحلال والإباحية ، وأنسنة الإله وتلويث المقدسات ، وجعل ذلك إطارا فكرياً للأعمال الأدبية ، والدراسات الاجتماعية ، مما أوقع الأمة في أسوأ صور التخريب الفكري الثقافي .
6- استبعاد مقولة الغزو الفكري من ميادين الفكر والثقافة ، واستبدالها بمقولة حوار الثقافات ، مع أن الواقع يؤكد أن الغزو الفكري حقيقة تاريخية قائمة لايمكن إنكارها كإحدى مظاهر سنة التدافع التي فطر الله عليها الحياة ، وأن ذلك لا يمنع الحوار ، لكنها سياسة التخدير والخدع والتضليل التي يتبعها التيار العلماني ، ليسهل تحت ستارها ترويج مبادئ الفكر العلماني ، بعد أن تفقد الأمة مناعتها وينام حراس ثغورها ، وتتسلل في أجزائها جراثيم وفيروسات الغزو العلماني القاتل .
7- وصم الإسلام بالأصولية والتطرف وممارسة الإرهاب الفكري ، عبر غوغائية ديماغوجية إعلامية غير شريفة ، ولا أخلاقية ، لتخويف الناس من الالتزام بالإسلام ، والاستماع لدعاته ، وعلى الرغم من وقوع الأخطاء ـ وأحياناً الفظيعة ـ من بعض المنتمين أو المدعين إلى الإسلام ، إلا أنها نقطة في بحر التطرف والإرهاب العلماني الذي يمارس على شعوب بأكملها ، وعبر عقود من السنين ، لكنه عدم المصداقية والكيل بمكيالين ، والتعامي عن الأصولية والنصرانية ، واليهودية ، والموغلة في الظلامية والعنصرية والتخلف .
8- تمييع قضية الحل والحرمة في المعاملات والأخلاق ، والفكر والسياسة ، وإحلال مفهوم اللذة والمنفعة والربح المادي محلها ، واستخدام هذه المفاهيم في تحليل المواقف والأحداث ، ودراسة المشاريع والبرامج ، أي فك الارتباط بين الدنيا والآخرة في وجدان وفكر وعقل الإنسان ، ومن هنا ترى التخبط الواضح في كثير من جوانب الحياة الذي يعجب له من نور الله قلبه بالإيمان ، ولكن أكثرهم لا يعلمون .(/3)
9- دق طبول العولمة واعتبارها القدر المحتوم الذي لامفرمنه ولاخلاص إلابه ، دون التمييز بين المقبول والمرفوض على مقتضى المعايير الشرعية ، بل إنهم لَيصرخون بأن أي شئ في حياتنا يجب أن يكون محل التساؤل دون التفريق بين الثوابت والمتغيرات مما يؤدي إلى تحويل بلاد الشرق إلى سوق استهلاكية لمنتجات الحضارة الغربية ، والتوسل لذلك بذرائعيه نفعية محضة لا يسيرها غير أهواء الدنيا وشهواتها .
10- الاستهزاء والسخرية والتشكيك في وجه أي محاولة لأسلمة بعض جوانب الحياة المختلفة المعاصرة في الاقتصاد والإعلام والقوانين ، وإن مرروا هجومهم وحقدهم تحت دعاوى حقوق الإنسان وحرياته ، ونسوا أو تناسوا الشعوب التي تسحق وتدمر وتقتل وتغصب بعشرات الآلاف ، دون أن نسمع صوتاً واحداً من هذه الأصوات النشاز يبكي لها ويدافع عنها ، لالشيء إلا أن الجهات التي تقوم بانتهاك تلك الحقوق ، وتدمير تلك الشعوب أنظمة علمانية تدور في فلك المصالح الغربية .
11- الترويج للمظاهر الاجتماعية الغربية ، وبخاصة في الفن والرياضة وشركات الطيران والأزياء والعطور والحفلات الرسمية و الاتكاء القوي علىقضية المرأة ، ولكن كانت هذه شكليات ومظاهر لكنها تعبر عن قيم خلقية ، ومنطلقات عقائدية ، وفلسفة خاصة للحياة ، من هنا كان الاهتمام العلماني المبالغ فيه بموضة المرأة ، والسعي لنزع حجابها ، وإخراجها للحياة العامة ، وتعطيل دورها الذي لايمكن أن يقوم به غيرها ، في تربية الأسرة ورعاية الأطفال ، وهكذا العلمانيون يفلسفون الحياة . يعطل مئات الآلاف من الرجال عن العمل لتعمل المرأة ، ويستقدم مئات الآلاف من العاملات في المنازل لتسد مكان المرأة في رعاية الأطفال ، والقيام بشؤون المنزل ، ولئن كانت بعض الأعمال النسائية يجب أن تناط بالمرأة ، فما المبرر لمزاحمتها للرجل في كل موقع .
12- الاهتمام الشديد والترويج الدائم للنظريات العلمانية الغربية في الاجتماع والأدب ، وتقديم أصحابها في وسائل الإعلام ، بل وفي الكليات والجامعات على أنهم رواد العلم ، وأساطين الفكر وعظماء الأدب ، وما أسماء " دارون " و " فرويد " و " دوركايم " وأليوت وشتراوس وكانط " وغيرهم بخافية على المهتم بهذا الشأن ، وحتى أن بعض هؤلاء قد تجاوزه علمانيو الغرب ، ولكن صداه مازال يتردد في عالم الأتباع في البلاد الاسلا(/4)
العلمانيّة وانكشاف الأجندة الخفيّة
أنور بن علي العسيري 23/6/1425
09/08/2004
في حراكنا الإعلاميّ والثقافيّ المحليّ يلحظ المتابع المحايد روابط تكاد تشكّل حلقة واحدة متّصلة رغم تقطّع مراحل ظهورها، وتنوّع وسائل التعبير عن نفسها.. الأجندة الخفيّة التي تحالفت وتناغمت في معزوفة ذات رؤية مرحليّة واستراتيجيّة واحدة؛ تكشف عُريها عبر الأعمدة الصحفيّة الناريّة التي تقذف حمم مهاجمة الصالحين، ومحاولة تهديم بيوت الدّعاة، وَ وَصْم المخيّمات الدّعويّة الشبابيّة بتفريخ الإرهاب، وإلصاق تهم التكفير والتفجير بمراكز الشباب الصيفيّة، ودعوة المسؤولين إلى الأخذ بيد الحزم سلاحًا للوقوف ضد تنامي الدّعوة ومحاولة توجيه الناس للخير.. والعذر العلمانيّ لديهم هو أنّنا مجتمع مسلم مئة في المئة ولا نحتاج مزيدَ إسلام!!
ويتوّج كل هذه الهجمة المفتعلة من تيار القلّة الشّاذة عقد ندوة هنا أو مؤتمر هناك؛ لتوجيه أصابع الاتهام(الخفيّ) إلى الدّعاة بتكريس وترسيخ منهجيّة أداء العنف في عقل شباب الصحوة التاريخي.
هي حملة شرسة قطفت من ثمار التفوّق المادي الأمريكيّ العالميّ تفوّقها الوهميّ
تنكئ على معطى خارجيّ، وتنظر إلى أيّ تقدّم تناله دولة المركز الليبرالي متنفسًا لها لتدعيم وجود صوتها في مجتمعنا.
ومنذ أنْ حلّت كارثة العلمانية في عقول بعض أبنائنا الذين انتقلوا الى الغرب لتعلّم التطوّر التقنيّ فانسلت ونتيجة لظروف غيابهم عن الدين منذ نشأة الكثير منهم وماكان يعيشه مجتمع النشأة من تخلّف ماديّ قياسًا بهول صدمة التفوق الحضاريَّة منذ حلول هذا الداء الإقصائيّ في هذه العقول وفكر تحطيم الدين في قلب المجتمع المسلم هو الفكر الرائج، والذي يراهن عليه هذا التيار لهزيمة فريق الاستمساك بالثوابت الأصيلة، والتي يُنظر إليها على أنّها بوابة الماضي الذي يجب إهماله للدخول في عالم الحداثة العالميّة.
هذه الرؤية شغلت في إطار الوضوح الرقم صفر..لأنّها علمت يقينًا بقوّة الدين في تشكيل حياة المجتمع ما جعلها تهرول نحو منابر الإعلام تتسربل برداء حبّ الدين وتسعى زاحفة إلى هدمه من الخلف..عاشت هذه الأقلام سنين تتدثر بهذا الأداء (الخفيّ)منهج حياة تؤسّس على قاعدته مزيدًا من تهيئة العقول الشّابة، واختراق الصف إلا أنّها فشلت فشلا ذريعًا في تكوين قاعدة مجتمعيّة، أو تجسيد نموذج حداثيّ علمانيّ صالح للحياة في وسط مجتمع إسلاميّ يمجّد القدوة الشرعيّة ويحتفي بها طريقًا للحياة.
ورغم انهزامها إلا أنّ ظروف التغيّر العالميّ فتح مسار التعبير الأكثر وضوحًا لهذه الفئة الضّالة للاستقواء بالأجنبيّ، واعتباره قادرًا على إحداث التغيير المستقبليّ المنشود وفق خططهم لعلمنة أرض الحرمين متى هجم هذا التصوّر الغربيّ بقوّة مادّته وسطوته العالميّة على وطننا الإسلاميّ الحرّ
وتعتبر الكتابات الصحافيّة التي انتشرت في أصقاع الصفحات هذه الأيام نموذجًا يسجل لحظة تاريخيّة في حياة مجتمعنا المسلم على مدى ارتباط هذا الفكر بالسيد الغربيّ!وعلى مدى التناسب الطّرديّ بين الشهرة وتخريب قيم المجتمع، فكلما نزع قلم إلى نزع حياء المجتمع وضرب قيمه كلما ازدادت شهرته، وبزغ نجمه في الإعلام المحتكر من قبل سلاطين الفكر الاقصائي المستغرب والأمثلة والشواهد كثيرة.
قلم : يبارك قرار تخفيض عدد المخيّمات الصيفيّة باعتبارها مراكز تفريخ الإرهاب والبديل الاحتفاء بنجوم الفنّ، وفتح أماكن للتطعيس وملاهي للرقص حتى ينجو المجتمع من تطرّف رجال الدّين!
قلم آخر: يقفز إلى الوراء بعيدًا وهو يخاطب المسؤولين من موقع مسؤوليته الصحافيّة، وخوفه على أبناء وطنه من التطرف بالحزم في وجه الدعاة المتجولين الذين يجوبون القرى والهجر يحملون بضاعة لا اله إلا الله محمد رسول الله.
يدعو هذا القلم إلى منع هؤلاء وتحديد أسماء رسميّة محدّدة للظهور في الإعلام بدل فتح المجال لكلّ داعية؛ فمجتمعنا مسلم عن بكرة أبيه ولا يحتاج مزيد إسلام !
قلم ثالث: يتوجّع من حال وطنه الذي استشرى في جسده نور الدين!! تنتشر مراكزه الصيفيّة في كل مكان، وتحلّق في أجوائه المخيّمات الصيفيّة، ويطالب بالتحديث وتغيير نظرة المجتمع للحياة، وزرع البسمة بدل اقتطافها، وذلك لا يتمّ إلا بمشروع مبارك لاحياء مزيد من الحفلات الموسيقيّة وفتح المجال أمام المرأة لمنافسة الرجل في عمليّة اختلاط لا تجد من ورائها أيّ فرصة حقيقيّة لبناء سوق عمل سعوديّ منتج بقدر ماهي دعوة لإحلال الفساد وتطبيع الانحراف في مجتمع آمن لم ير ولم يسمع من قبل شذوذًا بمباركة أبنائه!
أقلام تنحدر من أعلى قمم المسؤوليّة الأخلاقيّة تهوي بالأمة ألف خريف وهي لا تدري..وأصوات تعالت حاسرة عبر الفضائيّات التي انتشرت انتشار النار في الهشيم لتفتح لهم (وبأموالنا) منافذ تأثير لم تحلم بها عقولهم القاصرة عن فهم أيّ شيء.(/1)
هاهم يمتطون كراسي التقديم والإعداد ليعلنوا عن هجومهم الرامي إلى إلصاق تهمة التطرّف بفكرنا الديني،ّ وتوزيع الجرائم على المجتمع كل وفق تخصصه؛ فهذه الفئة تقتل إبداع النساء، وأخرى تحرمها من الميراث، وثالثة تمنعها من العمل، ورابعة تعتبر التحدّث عن الاعتدال سلوك غير طبيعي ينتهزه رجال الدعوة لعبور نفق الإرهاب ناسية أو متناسية أنّ الإسلام دين الاعتدال، وأنّ علماءنا ودعاتنا أهل منهج الوسطيّة عقيدة لا تملّقًا وتقية!!
ومتجاوزين التاريخ الإسلاميّ العتيق الذي نزل وحيًا من السماء، وانتقل انطلاقًا من ارض الحرمين الشريفين مشكّلا أبناء هذه الجزيرة قدوات يتطلع إليهم الجميع منذ فجر التاريخ الإسلاميّ.
إنّ هذه الدعوات تهدف (إضافة إلى علمنة البلاد) إلى محاولة تحطيم القدوات الإسلاميّة التي يتقدمها أبناؤنا من علماء ودعاة إجلاء في صفوف المواجهة الحضاريّة الإسلاميّة مع الآخر إلى تقديم نماذج جديدة من القدوات المحليّة للعالم الإسلاميّ .. الرذيلة وطنها، والإسلام خصمها فتحلّ بارتفاع أسهم هذه النماذج نكبة كبرى في عالمنا الإسلاميّ عن بكرة أبيه؛ إذْ بانهيار المركز تتفتّت الأطراف.
دعوات خطرة وغايات هرمة وانتهازية مقيتة ومحاولات تصفية حسابات بالية في موطن يعيش أزمة وتربص شديدين ينبغي على من ملك فكرا نيرا أو قلما طيعا أن يدرك خطورة المرحلة وإسلامية هذه البلاد التي حباها الله بالحرمين الشريفين فذلك اعز وأنقى من لخضوع لولاية الغرب وحجز مقاعد التبعية الحداثية لمن يريد محاربة دين هذه البلاد والاعتداء على مقدساتها(/2)
فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله تعالى
ذكر بعض أهل العلم أن العمليات الفدائية القائمة في فلسطين والشيشان محرمة وسماها بالعمليات الانتحارية فما هو قولكم في ذلك ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب : حين نرجع إلى كتب اللغة وعلماء الشريعة وننظر في تعريف المنتحر لغة وشرعاً لا نرى تشابهاً بين المنتحر الذي يقتل نفسه طلباً للمال أو جزعاً من الدنيا ، وبين الفدائي الذي بذل نفسه وتسبب في قتلها من أجل دينه وحماية عرضه .
والتسوية بين الانتحار المحرم شرعاً بالكتاب والسنة والإجماع وبين العمليات الاستشهادية تسوية جائرة وقسمة ضيزى . ومعاذ الله أن يستوي رجل قتل نفسه في سبيل الشيطان وآخر قدّم نفسه ودمه في طاعة الرحمن ، فو الله ما استويا ولن يتساويا ، فالمنتحر يقتل نفسه من أجل نفسه وهواه نتيجة للجزع وعدم الصبر وقلة الإيمان بالقضاء والقدر ونحو ذلك ، وذاك الفدائي يقتل نفسه أو يتسبب في قتلها بحثاً عن التمكين للدين وقمعاً للأعداء وإضعافاً لشوكتهم وزعزعة لسلطانهم وكسراً لباطلهم .
وأيّ فرق في الشرع بين العمليات الاستشهادية وبين الاقتحام على العدو مع غلبة الظن بالموت وقد تواترت الأدلة عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الاقتحام والانغماس في العدو وقتالهم وظاهر هذا ولو تحقق أنهم يقتلونه ويريقون دمه .
فإن قيل هذا المنغمس في العدو قُتل بيد العدو وذاك الفدائي بفعله فيقال ثبت في الشرع أن المتسبب في قتل النفس والمشارك في ذلك حكمه حكم المباشر لقتلها ، وهذا قول أكثر أهل العلم وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد فكلهم قالوا بوجوب القصاص على المتسبب بالقتل قصداً كأن يحفر بئراً ليقع فيها فلان ، فوقع فمات . وخالف في ذلك بعض أهل العلم فقال بتحريم التسبب بالقتل ووجوب الدية ولكنه لا يوجب قصاصاً .. وفيه نظر . فقول الجمهور أقوى دلالة وأظهر حجة وهو الذي أفتى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأدلته كثيرة يمكن مراجعتها في كتب الفقهاء فليس هذا مجال الاستطراد في تقريرها فالقليل يرشد إلى الكثير والأصل دليل على الفرع .
وخلاصة الأمر أن من ألقى بنفسه في أرض العدو أو اقتحم في جيوش الكفرة المعتدين أو لغم نفسه بمتفجرات بقصد التنكيل بالعدو وزرع الرعب في قلوبهم ومحو الكفر ومحق أهله وطردهم من أراضي ومقدسات المسلمين فقد نال أجر الشهداء الصابرين والمجاهدين الصادقين . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( منْ خير مَعَاش الناس لهم رجل ممسكُُ عِنَان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل والموت مظانّه .. ) . رواه مسلم ( 1889 ) من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن بعجة بن عبد الله عن أبي هريرة رضي الله عنه .
فيا أهل الجهاد ويا أهل الاستشهاد ويا أهل الغيرة على حرمات المسلمين ومقدساتهم صبراً فهي موتة واحدة فلتكن في سبيل الله قال تعالى { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) } .
وروى الإمام مسلم في صحيحه ( 1915 ) من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من قتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سبيل الله فهو شهيد ... ) .
والمقصود أن العمليات الاستشهادية القائمة في فلسطين والشيشان وبلاد كثيرة من بلاد المسلمين هي نوع من الجهاد المشروع وضرب من أساليب القتال والنكاية بالعدوقال تعالى { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) } .
وقد أثبتت هذه العمليات فوائدها وآتت ثمارها وعمتّ مصلحتها وأصبحت ويلاً وثبوراً على اليهود المغتصبين وإخوانهم النصارى المفسدين ، وهي أكثر نكاية بالكفار من البنادق والرشاشات وقد زرعت الرعب في قلوب الذين كفروا حتى أصبح اليهود وأعداء الله يخافون من كل شيء وينتظرون الموت من كل مكان ، زيادة على هذا هي أقل الأساليب الشرعية خسائر وأكثر فعّالية .
وقد ذكرت بعض الدراسات أن هذه العمليات كانت سبباً في رحيل بعض اليهود من أراضي المسلمين في فلسطين وأدت هذه العمليات إلى تقليل نسبة الهجرة إلى أرض فلسطين والإقامة فيها .
وهذا دليل على تحقق المصالح الكثيرة في هذه العمليات الشريفة .(/1)
وقد بحثت هذه المسألة في غير موضع وذكرت عشرات الأدلة على جواز مثل هذه العمليات ومشروعيتها فلا حرج في الإقدام عليها في سبيل قهر اليهود والنصارى ولا سيما الإسرائيليون المعتدون الذين يعتقدون أنهم لا يقهرون وأن دولتهم خلقت لتبقى .
قاله
سليمان بين ناصر العلوان
7 / 2 / 1422 هـ(/2)
العلوج ... عندما يتغير معناها!!
نظرة في النكات السياسية المتعلقة بالحرب على العراق
طارق حميدة
tariq_hamida@hotmail.com
العلوج.. تلك الكلمة التي اشتهر بها وزير الإعلام العراقي الأسبق محمد سعيد الصحاف إبان أسابيع الحرب الثلاثة، هذه المفردة شغلت الكثيرين ونقبوا في المعاجم اللغوية وكتب التاريخ للوصول الى معناها.
والراجح فيها أنها تعني الحمير الوحشية.. وقد استعارها المسلمون وأطلقوها على جنود الأعاجم، غير العرب، تشبيها لهم بالحمير إذ سيقوا لمحاربة الاسلام دين الحق، ولأنهم يساقون للهزيمة المؤكدة، وليس بهم قدرة على الثبات أمام جحافل المسلمين، وسيكون حالهم كما وصف القرآن “حُمُرٌ مستنفرة فرت من قسورة"، أي سيفرون كما تفر الحمير الوحشية من الأسود.
وتجمع هذه الاستعارة بين عدة أوصاف هي ( الغباء لتشبيههم بالحمير، وكونهم أجانب وأغراباً حيث إن الحمير وحشية لا أهلية، والجبن والفرار:حيث يستبطن الوصف الصورة القرآنية)، وذلك في إطار الحرب النفسية ضد الخصوم، تهويناً من شأنهم وتجريئاً لجند المسلمين عليهم.
ولم تكد تسقط بغداد ويختفي الوزير الصحاف، حتى انتشرت العديد من النكات السياسية حول الشأن العراقي، ذات أسلوب مغاير للنكات التي قيلت أيام الحرب.
وفي هذا المقال محاولة للتعريج على عددٍ منها، مع الإشارة إلى دلالاتها النفسية والاجتماعية والسياسية، علماً بأن قسماً من هذه النكات هو مما نشر في وسائل الإعلام، فضلاً عما جرى تداوله بين الفلسطينيين.
الذئب العربي ... والكلب الأجنبي!!
لكن في البداية أرى من المناسب التنويه إلى شائعة جرى تداولها في الشارع السعودي أواخر التسعينات من القرن الماضي، قبيل العدوان على العراق، لكونها تصف الوجود الأمريكي في المنطقة، بحجة حمايتها من العدوان العراقي.
حيث تقول الحكاية:
إن وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت قد زارت المملكة العربية السعودية ، ولم يذهب الأمير عبد الله، ولي العهد في حينها( الملك الحالي) لاستقبالها، وتشاغل عنها بالصيد في البراري ، غير أنها لحقت به حيث استقبلها في خيمته ، وخلال الزيارة قال إنه (راح يسولف لها سالفة الراعي والذيب) .. وفحواها، أن ذئباً قد تسلط على قطيع غنم ، فلا يكاد يمر يوم دون أن يفترس منها ، فنصحه بعض من حوله باستجلاب عدد من الكلاب لحماية القطيع وما عليه إلا أن يقدم لها المئونة اللازمة ... وبالفعل ( يتابع ولي العهد، كما تقول الشائعة)، فقد استجاب لرأيهم، لكن الراعي لاحظ أن هذه الكلاب- التي لا تأكل إلا اللحم- أصبحت تكلفه أكثر مما كان يكلفه الذئب.
تقول القصة : بأن ولي العهد قد نظر إلى الوزيرة الأمريكية نظرة ذات مغزى ... وأنها ابتلعت ريقها، ثم قفلت راجعة .
هذا ما سمعته من زميل لي كان يعمل قبل سنوات مدرساً في العربية السعودية، وقد روى القصة على أنها حقيقة واقعة، تناقلها الشارع السعودي في تلك الفترة، وكذلك فقد روى تلك القصة أيضاً، باعتبارها واقعة حقيقية، الأستاذ عبد الباري عطوان، في أحد مقالاته قبيل الحرب على العراق، فيما أذكر.
والذي أرجحه شخصياً، من واقع خبرتي وقراءاتي المتواضعة في الشائعات والأدب الشعبي، أن هذه القصة ليست أكثر من أسطورة معاصرة من قبيل الأماني/ التفكير الرغبي ( wishful thinking)، والذي هو أقرب إلى أحلام اليقظة ... تتضمن رؤية وتحليل الجماهير للواقع، وما تتمناه من القيادة.
فهذه الجماهير ترى بأن الفاتورة التي تدفعها من ميزانيتها وكرامتها للأمريكان، أكبر وأخطر بكثير مما يشكله التهديد العراقي، متمثلاً بالرئيس العراقي السابق صدام حسين وجيشه وحزبه، فضلاً عن أن العراق قد فعل ما فعل بإغراء واستدراج أمريكيين.
إن هذه الإشاعة تتمنى أن تقف القيادة موقفا مشرفا عزيزا، تصرخ فيه بوجه الأمريكان أنكم كلاب لم تأتوا لحمايتنا، كما تزعمون، وإنما جئتم لنهب خيراتنا وإذلالنا، وقد آن أن تغربوا عن وجوهنا.
والملاحظ أن الجماهير في هذه الشائعة تتمنى على القيادة الحالية، أن تفعل ما يروى بأن الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز فعله، عندما تحدى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر قائلا له: هل ترى هذه الأشجار، وأشار إلى نخلات أمامه، لقد عاش آبائي وأجدادي مئات السنين على ثمارها ونحن مستعدون أن نعود للخيام ونعيش مثلهم ونستغني عن البترول، ولم يقبل بالتنازل والخضوع.
واضح أن الجماهير تريد من يرفض الذل، لأن الذين امتلأت قلوبهم بالوهن إيثاراً للدنيا وخوفاً من الموت ... هم الذين يسحقون تحت الأقدام.. لكون ضريبة الذل أكبر بكثير من ضريبة العزة.
سلام العالم في موت الزعيمين!!
تأتي النكتة اليونانية، كما أوردتها صحيفة فلسطينية نقلاً عن إحدى وكالات الأنباء، عشية العدوان على العراق، على شكل فزورة أو سؤال يقول:
- إذا تحطمت الطائرة التي تقل بوش وبلير، فمن سيكون الناجي؟
الجواب:العالم بأسره!!.(/1)
ربما يتوقع السامع في البداية، أن يكون الناجي أحد الزعيمين، لوجود مظلة، مثلاً، أو ارتدائه شيئا قد يساعد في سلامته، لكن تأتي المفاجأة في اتجاه مغاير، يصور واقع العجز والسلبية تجاه زعيمي أمريكا وبريطانيا، مع علم الجميع بأن ما يفعلانه خطر وشر على البشرية بشكل أو بآخر، ولا يملك سكان هذا العالم، كما يتصوره اليونانيون، إلا أن يحلموا ويتمنوا أن تتحطم بالزعيمين الطائرة ويموتا كي يسلم العالم.
إن هذا النمط من النكات الشعبية يكثر في البلدان التي تستسلم للعجز والسلبية وهو ما فصله كاتب هذه السطور، في مقال سابق بعنوان (النكتة العربية وأحلام اليقظة)، وهنا نلاحظ كيف أن شعوباً وحكومات تستسلم وتخنع أمام عدوان دولتين في العالم.
طراطير.. ..وأوغاد !!
تقول إحدى النكات التي انتشرت في الأيام الأولى من العدوان:
إن صحافياً سأل رئيس الوزراء البريطاني توني بلير عن سر التحالف أو القرابة التي تجمعه بالرئيس الأمريكي جورج بوش ، فأجاب بلير : هم من الأوغاد.. ونحن من الطراطير !!
والعبارتان من قاموس الوزير الصحّاف .. لكن مقصود النكتة أن تبرز علاقة التبعية والذيلية البريطانية للأمريكان ..إنها علاقة بين شريرهو بوش وخادم تابع هو بلير، وصفته النكتة بأنه (طرطور) يتابع (وغداً)، وليست علاقة بين ندين !!.
إنه النفط
وعن دوافع الحرب على العراق تحدثت نكتة سويسرية، بالقول:
" إن الخطة لما بعد الحرب جاهزة ، والعراق سيقسم إلى ثلاث مناطق : بنزين عادي ،وبنزين سوبر ، وبنزين خالٍ من الرصاص "!! .
وذلك في إشارة إلى الثروات النفطية التي كانت المسبب الرئيس للعدوان .. وبالتالي فلا صحة لكل الدعاوى والمزاعم التي تتحدث عن تحرير الشعب العراقي، وتجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل.
شماتة
وعندما أظهرت الوقائع كثيراً من أكاذيب ومزاعم "الحلفاء " حول مجريات الحرب، خاصة فيما يتعلق بالخسائر أو عدم السيطرة على المدن العراقية، فقد سخر من ذلك العرب والأوروبيون على حد سواء .. فمثلاً تساءل مقدم برامج في تلفزيون ألماني متهكماً:
س_ ماذا نسمي الهدف الذي يضعه فريق في مرماه خلال مباراة بكرة القدم ؟!
ج_ نيران صديقة !
لقد أكد الحلفاء بأن من وقع من القتلى والجرحى في صفوفهم، وما سقط من الطائرات وتدمير الآليات، بأنها جاءت بسبب (نيران صديقة)، وذلك كيلا تؤثر هذه الأخبار سلباً على جنودهم، ولتطمين شعوبهم أن أولادهم ليسوا في خطر، وكيلا ترفع معنويات العراقيين، وتخفيفاً من وقع الخسارة، على اعتبار أن(ضرب الحبيب زبيب!!) كما يقال.
وهنا تلقفت النكتة هذه العبارة لترد على الحلفاء، قائلة لهم: إنه لا فرق كبيراً بين من يقتل في المعركة بنيران معادية أو صديقة، فالنتيجة واحدة هي الخسارة ...وذلك كاللاعب الذي يُدخل هدفاً في مرماه!! .
وعلى نفس المنوال قالت نكتة روسية:
إن الرئيس العراقي أعلن إسقاط طائرة بريطانية ، إلا أن بوش نفى ذلك وأكد أن الأمريكيين هم الذين أسقطوها!!.
وهنا كما في النكتة السابقة، فإنه لا يقلل من الخسارة مَن الذي أسقط الطائرة، ولكن المهم أنها أُسقطت، فضلاً عن أن الإصابة بنيران صديقة دليل على الارتباك والاضطراب وسوء التخطيط، وكذلك فإن إسقاط الأمريكيين طائرة بريطانية، ليس عملا بطوليا لهم حتى ينتزعوا هذا الشرف من العراقيين، كما أن إدخال لاعب هدفاً في مرماه لا يشرفه، بل يستحق بسببه التوبيخ، وربما ما هو أكبر.
ونلاحظ هنا كيف أن الغربيين يشمتون بما يصيب الأمريكان والبريطانيين، ويسخرون من تبريراتهم وتفسيراتهم السخيفة، لكنها شماتة العاجز المتمني.
أم قصر ... والورع الأمريكي !!
ومن النكات الفلسطينية القريبة من المعنى السابق تلك التي تسخر من ادعاء الأمريكان، في بداية الحرب، أنهم دخلوا بلدة أم قصر، ثم تبين كذب مزاعمهم، حيث جاءت على شكل سؤال وجواب هكذا:
س : ليش فات الأمريكان على' أم قصر' وبعدين خرجوا ؟؟
جـ : لأنُّو ' أبو قصر' ما كان موجود في البيت!!
وهنا يضحك السامعون، لأن أم قصر بلدة وليست امرأة متزوجة من شخص يُكنّى بأبي قصر، ولأن عدم دخول البيوت في غياب الرجال ليس من تقاليد الأمريكان، وإنما هو سلوك منبثق عن ثقافتنا العربية الإسلامية ... وهناك أسباب أخرى للضحك سنأتي على ذكرها فيما بعد.
النكتة صورة وتشبيه تمثيليّ يتضمن المشبه والمشبه به ووجه الشبه، حيث إن النكتة، في الحقيقة، إنما هي انعكاس لصورة الواقع في النفوس.
الصورة الظاهرية للنكتة تتحدث عن شخص توجه إلى بيت، ولمّا لم يجد الرجل هناك قفل راجعاً..ولكن لماذا ضحكنا ملء أشداقنا، تهكماً عليه وسخرية منه، والمفروض أنه تصرف بشكل يستدعي الاحترام حين لم يدخل بيتاً في غياب الرجال؟؟ .(/2)
إننا في الواقع نسخر، بشماتة واحتقار، من شخص قصد بيتاً بنية سيئة وهو مطمئن إلى غياب الرجال، فلما أراد الدخول لقضاء مآربه الخسيسة، استقبلته النساء، أم قصر وأخواتها، بالبصاق في وجهه، وبالأحذية على أم رأسه ... وفاجأه الرجال هناك فهشموا وجهه ودغدغوا جسمه، ومرغوا أنفه بالتراب، فعاد يجر أذيال الخيبة، مجللاً بالخزي والعار ... وإذا ما سأله البعض، وهم يعلمون، لماذا قفل راجعاً ولم يدخل، فإنه يجيب:لأنه لا رجال في البيت!.
إنها ذات الصورة، فالأمريكان قدموا إلى العراق لغايات خسيسة وأغراض غير شريفة، هي احتلال الأرض وانتهاب الخيرات وإذلال الشعب ... وقد كان الغزاة الجبناء الأنذال، يمنون أنفسهم بغياب الرجال أو موت الرجولة، ولكن خاب ظنهم إذ كان الرجال لهم بالمرصاد، فلقنوهم درساً لن ينسوه، بل إن النساء هن الأخريات قد أبلين بلاءً حسناً وقاومن ببسالة وضراوة.
وإذ قفل الأمريكان يجرون أذيال الخيبة والهوان، مدحورين عن أبواب المدن العراقية، وفي مقدمتها أم قصر، على صغر حجمها وقربها الشديد من الحدود، وبالتالي سهولة الوصول إليها وإمكانية دخولها واقتحامها .. فقد كانت لذلك رمزاً للبطولة والتحدي وصد العدوان.
ومثل هذه النكتة ترد عليهم بأن السبب الحقيقي هو أنهم لا يقدرون على تحقيق هذا الهدف، شأنهم شأن ذاك الخسيس الذي رده الرجال عن غرضه الحقير، فتظاهر بأنه رجع لعدم وجود الرجال في البيت، متظاهراً بالشرف والعفة، ليخفي تحتهما ما يعلمه الجميع، وقد كان غاية ما يتمناه ألا يكون هناك رجال.
وقد يحسن أن نذكر بأن تشبيه الأرض بالمرأة أماً وزوجاً وحبيبة، مما يكثر في ثقافتنا الشعبية وأدبنا الرسمي، وانطلاقاً من ذلك يشبه العدوان على الأرض بالاعتداء على العرض، كما يدافع الرجال عن أرضهم دفاعهم عن أعراضهم، ومن هنا أمسكت النكتة باسم البلدة' أم قصر ‘.
وفي ثقافتنا، وربما في غيرها كذلك، يكون الرجال رجالاً بدفاعهم عن حرماتهم وأوطانهم ... وتُسلب منهم هذه الصفة إن جبنوا عن ذلك.
وحول أم قصر أيضا التي ادعت قوات التحالف سيطرتها عليها مرارا، قالت نكتة روسية:
إن قوات التحالف أعلنت سيطرتها على أم قصر ،وهي رابع أم قصر ينجحون في الاستيلاء عليها منذ بدء المعارك !!.
ولو كان الأمر كذلك فكيف يتكرر؟؟..فإذا كانوا يعلنون للمرة الرابعة إسقاط أم قصر، فهذا يعني أنها لم تكن أسقطت من قبل حيث إنه لا يوجد في الواقع سوى أم قصر واحدة.
وعلى نفس المنوال يشرح المذيع الألماني هارالد شميدت لماذا تأخر الأمريكيون في الوصول إلى مشارف بغداد، مع أنه كان بإمكانهم الوصول إليها بسرعة أكبر ؟ والجواب : لأن سي إن إن اضطرت لإعادة تصوير المشاهد مرات عدة !! ، وذلك في سخرية واضحة من وسائل الإعلام الأمريكية، التي كانت تعلن الوصول إلى العاصمة العراقية قبل وقوع ذلك حقيقة، ثم يثبت العكس...فالنكتة هنا تتهكم قائلة إن الأمر لا يعدو كونه فيلما سينمائيا، لأن إعادة المشهد للتصوير لا يكون في المعارك الحقيقية وإنما فقط في الأفلام الهوليودية، إذا استعرنا تعبير الصحاف آنذاك!
مصير القيادة ؟!
مصير القيادة العراقية، وبالذات الصحاف وصدام، كما سقوط بغداد، شكّل لغزاً محيراً، شغل الكثيرين فور احتلال العراق، ولذلك فإن النكتة قد سعت إلى الإجابة عن هذا السؤال الكبير.
حيث تخيلت إحدى النكات، الوزير الصحاف مقتولاً تحيط به الملائكة، في حين ذكرت نكتة أخرى بأن الرئيس صدام حسين قد تنكر ونزل إلى أحد شوارع العاصمة، حيث توجه إلى أحد بائعي شراب السوس وطلب كأساً ليبل ريقه، فما كان من البائع إلا أن أدى التحية قائلاً: تفضل سيدي الرئيس. فاستغرب كيف عرفه وهو على تلك الهيئة ..فأجابه البائع: أنا الصحاف، وفي رواية: أنا طارق عزيز.
وكأن هذه النكات تريد أن تعقد موازنة بين الأمس واليوم، وتقول سبحان مغير الأحوال مالك الملك!!.
لقد شمت الأوروبيون بالإنجليز والأمريكان وسخروا منهم وهم يُقتلون بنيران صديقة!! ، وكذلك عندما تأخروا في احتلال المدن العراقية... لا حبا في العراق ولا تأييداً للعرب، ولكن رفضاً للعدوان والجشع الذي تمثله الدولتان.
وكذلك فقد وقف قطاع كبير من الجمهور العربي مع العراق بجامع الأخوة العربية والإيمانية، ورفضاً للعدوان، وليس بالضرورة تأييداً للنظام العراقي.
ولما كانت الشعوب في الغالب سلبية تنتظر النصر أن يتنزل من السماء دون جهد منها، فقد علقت آمالاً عظيمة على العراق وقيادته وحلقت بأمانيها في أعالي السماء، وخاصة بعدما امتص العراق الصدمة الأولى ورأى الناس صور الأسرى والقتلى من قوى التحالف، مما أنعش الأماني والأحلام والآمال، والتي ضاعفها الوزير الصحاف بأسلوبه الواثق غالباً، وفجأة وبدون مقدمات، إذا ببغداد تسقط ويختفي الصحاف الذي نفى بشدة قبل ساعات، أن يكون الأمريكان على أبواب العاصمة العراقية !!.(/3)
ولنا أن نتخيل هذا الجمهور المحبط المغيظ المقهور كيف " سينتقم " من الصحاف، على وجه الخصوص، الذي جعله يحلق بآماله إلى أعالي السماء ثم تركه يسقط إلى الهاوية بدون "باراشوت".
ولذلك فإن الكثير من النكات التي أعقبت سقوط بغداد قد استهدفت الصحاف، وأوسعته شتماً، وحمّلته كامل المسئولية عن الهزيمة. بل إن الملاحظ مشاركة وسائل الإعلام العربية في هذا الاستهداف وتحميله المسئولية، جاعلة منه كبش فداء عن الأمة بمستوييها الرسمي والشعبي، سواء منها مَن تواطأ أو من شارك في العدوان، أو من قصّر في النصرة.
فمن ذلك النكتة التي تنسب إلى الصحاف القول بأن التمثال الذي سقط ليس لصدام بل لشبيهه !! أو أن هذه التماثيل أنزلت للصيانة.
أو تصريحه ،بحسب النكتة، الذي يقول فيه بأن الشعب العراقي لا يسرق وإنما هي شركات لنقل الأثاث !.
وأشدها، في رأيي، تلك التي تقول بأن الصحاف قد قتل وأن الملائكة قبل البدء بمحاسبته، يبذلون جهداً كبيراً لإقناعه أولاً بأنه قد مات !!
لكن من المناسب هنا التنويه إلى أنني سمعت النكتة الأخيرة من مذيع في فضائية عربية، وقد ارتبط اسم هذا المذيع بالسادات وكامب ديفيد منذ ربع قرن، وكان معه في البرنامج نفسه، إعلامي عربي يكتب في الصحافة الأمريكية.
ولا أستبعد أن يكون بعض هذه النكات جزءاً من الحرب النفسية والإعلامية التي يمارسها الأمريكان وأبواقهم، وبالتالي يكون قد تضافر على هذا النوع من النكات طرفان: المحبطون الغاضبون الناقمون، ومعهم الفرحون المستبشرون المرتبطون بدوائر خارجية.
هذه النكات وأمثالها، تصور الصحاف، ونحن العرب معه، بأننا كذابون مكابرون ننكر الحقيقة الناصعة حتى لو كانت كالشمس في رابعة النهار، فهل يحتاج الميت إلى من يقنعه بموته ؟ وهل بعد سقوط التمثال ودخول القوات الغازية، يقول قائل: لا لم يسقط نظام بغداد ؟، وهل ننكر حوادث السرقة التي تنقلها عدسات التلفزة ؟.
وكأن هذه النكات قد جاءت لترد على الأصوات التي لم تكن مصدقة لوقوع الهزيمة ، حيث كان الناس ما بين مصدق ومكذب ، وفيهم من يقول إن أعمال السلب والنهب والحرق والتخريب ،لا يمكن أن تكون من شيمنا ، بل إنها تحصل بتشجيع وتواطؤ القوات الغازية..
في هذه النكات درجة عالية من جلد الذات وكراهيتها واحتقارها، واتهامها بكل نقيصة، وعلى رأسها الكذب والسرقة والمكابرة، وهي تمثل أيضاً، درجة عالية من اليأس والإحباط واهتزاز الثقة بالذات والأمة والمبادئ، إلى درجة تقرب من الكفر أحياناً، كما يلاحظ من إدراج الملائكة عليهم السلام في النكتة، وهو الأمر الذي لا يفعله مؤمن يعي ما يقول.
يشارك في رسم الصورة نفسيات مهزومة، بعضها بسبب نتيجة المعركة، والبعض الآخر باع نفسه قبلها.
العلوج.. معنى جديد!!
تخيلت إحدى النكات الوزير الصحاف هارباً قرب الحدود، تمسك به القوات الأمريكية، وتسأله عن معنى كلمة ( العلوج!؟ )، وكأنها تقول له: ما تقول الآن في الأمريكان وقد أغلظت فيهم القول بالأمس ؟ فيجيب: " العفو عند المقدرة" أو "العافين عن الناس" !!! .
وهذه النكتة أيضا، سمعتها في برنامج ذلك المذيع الساداتي، وضيفه الذي يكتب في الصحافة الأمريكية.
والملاحظ أن الصحاف هنا يبدو "ظريفاً" كما كان في أيام الحرب، وها هو يحسن التخلص بظرفه من المواقف الصعبة، ولا ننسى أنه حاز شعبية عالية في العالم كله إلى الحد الذي جعل البعض ينشئون موقعاً على الإنترنت يعلنون حبهم له، بحيث شهد الموقع ضغطاً كبيراً من الزوار عليه.. لما كان يمثله من تحدٍ للأمريكان.
هذا فيما يتعلق بالشكل الظاهري للنكتة، لكنها في الحقيقة تتضمن معنى آخر خطيراً، وهو لهجة الاعتذار وطلب العفو والسماح من الغزاة المعتدين، والصحاف هنا ممثل للكثيرين الذين أحبوه، وبالتالي فالنكتة تحكي التحولات النفسية والشعورية والعقلية، لدى هذه القطاعات ... فالأمريكان العلوج الغزاة الأوغاد المرتزقة .. يصبحون كراماً متسامحين يعفون عن الناس وهم يقدرون على العقوبة .. أما نحن فمذنبون مجرمون مخطئون، نتوسل إليهم أن يسامحونا ويعفوا عنا.
فهل بدأنا نشعر بالذنب وتأنيب الضمير أن قاتلنا الأمريكان، وهل أقررنا بالهزيمة الداخلية، واعترفنا بأنهم على الحق وأننا على الباطل ؟! إن كثيراً مما قاله الساسة، وسطره الإعلاميون، وجرى على الألسنة هنا وهناك، يشير إلى ذلك.
من الطبيعي أن تستثمر أمريكا هذا الانتصار لترسيخ دعاواها ومزاعمها، بمنطق القوة، حيث لا تتوفر لها قوة المنطق .. لكن الغريب المستهجن أن يتبنى أصحاب الحق هذا " المنطق “، ويفقدوا البوصلة، تحت ضغط الهزيمة وتأثير الوهن.
لقد حاول أبو سفيان عقب غزوة أُحُد أن يجعل من نتيجة المعركة، حجة ودليلاً على أحقية الفكرة الواهية، حين صرخ بأعلى صوته:اعلُ هُبل.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن يرد عليه بالقول: الله أعلى وأجلّ.(/4)
وأنزل الله تعالى آيات بينات في سورة آل عمران، كان أبرزها ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) وما بعدها.
كما حدثنا القرآن عن قوم غُلبوا في عقر دارهم، ثم قاموا من هزيمتهم غالبين لأعدائهم في بضع سنين ؟؟
وهل نسينا سقوط بغداد على يد المغول ثم انتصار المسلمين عليهم في عين جالوت بعد عامين فقط من ذلك السقوط ؟
غباء... وانتحار!!
في مصر قالت النكتة : إن مجموعة من الصعايدة أرادوا الاحتجاج ضد العدوان الأمريكي على العراق ، فألبسوا واحداً منهم زياً على هيئة الرئيس الأمريكي بوش .. ثم أحرقوه !.
ونحن هنا مع إفراز آخر للنفسية المحبطة، أو الموجهة !.. من خلال نكتة تقول بأن مقاومة الأمريكان لن تضرهم ولن تؤثر فيهم .. بل سترتد إلى نحورنا، إنها باختصار: انتحار وقتل للذات.
وكل من يفكر في الجهاد والنضال، ليس أكثر من غبي لا عقل له، مثل أولئك الصعايدة ( هذه صورتهم في النكات الشعبية، وليست كذلك حقيقة)، الذين أحرقوا أخاهم وهم يظنون أنهم يقاتلون الأمريكان.
Dog Morning!!!
روى أحد الصحافيين العراقيين الذين يعملون في فضائية أبو ظبي، بعد زيارته العراق، نكتة تقول بأن تحية الصباح التي يقولها العراقي عندما يلتقي الجنود الأمريكان هي " Dog Morning!".
إن هذه النكتة تشير إلى عدة أمور: أولها شعور العراقي المغلوب في الأيام الأولى من الاحتلال بالعجز والضعف أمام القوات الغازية وقد كان لا يزال تحت تأثير الصدمة، إلى الحد الذي يضطره للمداهنة والمداراة وأداء تحية الصباح.
لكنه مع ذلك يعي أن هؤلاء الذين أمامه ليسوا كما زعموا، محررين له، بل(كلاب) جاؤوا ينهشون جسده ويسرقون ثرواته ويدنسون أرضه، والطريف هنا أنه قد التقى رجل الشارع السعودي والعراقي، في الوعي بحقيقة الأمريكان الغزاة، واتفاقهما على وصفهم بالكلاب.
ولذلك فإن قلب العراقي ولسانه لا يطاوعانه في أن يتمنى الخير لمن جاءه بكل هذا الشر، ولهذا فهو يقلب كلمة (الخير/good )، إلى ((dog، متظاهراً بجهل اللغة الإنجليزية، فتؤدي معنيين في آن؛ أن يقول للأمريكان في وجوههم بأنكم كلاب ولم تنطل علينا أكاذيبكم، وليؤكد لنفسه أنه لا يمكن أن يتمنى الخير لمن يريدون به شراً، وكأنه يتوعدهم بالرد في أول فرصة، ولعلنا بعد ذلك لا نستغرب المقاومة العراقية الباسلة للاحتل(/5)
العمل بالعلم بين الواقع والواجب
رئيسي :المنهج :الأربعاء 29 ربيع الأول 1425هـ - 19 مايو 2004 م
الحمد لله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن العلم النافع والعمل الصالح هما مفتاح السعادة ، وأساس النجاة للعبد في معاشه ومعاده ، ومن رزقه الله علماً نافعاً ووفقه لعمل الصالح؛ فقد حاز الخير، وحظى بسعادة الدارين، قال تعالى:{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[97]}[سورة النحل ].
وإن الإسلام موقفاً رائعاً من العلم لا يدانيه في ذلك دين من الأديان السماوية التي نسخها الله به، وليس المهم في نظر الإسلام هو العلم والسعي في التحصيل، وإنما يراد من وراء ذلك ما هو أهم، وهو العمل بالعلم، وتحويله إلى سلوك واقعي يهيمن على تفكير المتعلم وتصرفاته، فالعلم يراد للعمل.
ولقد اهتم الإسلام بهذا الجانب العظيم من جوانب العلم، ورتب الأجر والنجاة على ذلك، كما ورد الذم والوعيد لمن لا يعمل بعلمه. والواقع أن هناك تقصيراً واضحاً في موضوع العمل بالعلم، يظهر ذلك على تصرفات الناس وهيئاتهم وأحوال معاشهم، فالذي يأكل الربا يعلم يقيناً أن الربا محرم، والذي يأكل أموال الناس بالباطل بواسطة الغش، أو الخداع يعلم أن ذلك لا يجوز. والذي يبيع ما لا يحل بيعه، أو يقتني ما يحرم اقتناؤه لو سألته عن ذلك ما قال إنه يجوز. وفي مجال اللباس مخالفات كثيرة لا يخفى على أحد – في الغالب – حكمها. هذه أمثلة لبعض الأفعال.
أما بالنسبة للأشخاص فإن أمارات الانحراف وأشياء من المخالفات تظهر على علماء، ومتعلمين، ودعاة، ومصلحين، وآمرين وناهين، وصاروا غير ملائمين بين علمهم وسلوكهم، فضلاً عن بقية الناس.
إن على هؤلاء واجباً عظيماً ومسؤولية كبرى؛ لأنهم قدوة لغيرهم، وأسوة لأتباعهم، ولن يكونوا كذلك حتى يكونوا عاملين بعلمهم، وإننا نأسى عندما نرى من هؤلاء من قد أخفق في تطبيق ما علمه على نفسه، وصار يأمر الناس بالبر وينسى نفسه.
ولا ريب أن المعلم إذا خالف فعله قوله؛ فليس بقدوة، إذ ليس من العقل أن يأمر الإنسان غيره بالخير وينسى نفسه، والمريض لن يستطيع علاج مريض مثله. وهذا لا عذر له مع علمه، وذنبه أشد؛ لأنه تصدى لتعليم المسلمين الذين يعتقدون أنه الأسوة الحسنة، والقدوة المثلى.
العمل بالعلم:
من المؤكد أن المنزلة السامية، والثواب العظيم لطالب العلم، لا يكون إلا لمن عمل بعلمه. ومن هنا وجب إتْبَاع العلم بالعمل. وظهور آثار العلم على مقتنيه، فالعلم إنما يطلب ليعمل به، كالمال يطلب لإنفاقه في طرق الخير، وإذا لم يتحول العلم إلى واقع ملموس يراه الناس؛ فهو وبال على صاحبه، والجاهل خير منه.
يقول ابن جماعة رحمه الله:' واعلم أن جميع ما ذكر من فضيلة العلم والعلماء إنما هو في حق العلماء العاملين الأبرار المتقين الذي قصدوا به وجه الله الكريم، والزلفى لديه في جنات النعيم. لا من طلبه لسوء نية، أو خبث طوية، أو لأغراض دنيوية: من جاه أو مال أو مكاثرة في الأتباع والطلاب'[ تذكرة السامع والمتكلم ص13 ] .
ولما كان هذا الموضوع بمكان من الأهمية فسأذكر – إن شاء الله – النصوص الشرعية التي تؤكد على طالب العلم أن يكون عاملاً بعلمه، قائماً بحقوق الله وحقوق خلقه قدر استطاعته، وكذا النصوص التي تضمنت الوعيد الشديد للعالم الذي لم يستنر بعلمه، وأبدأ بالنصوص القرآنية، ثم من السنة النبوية،ثم أذكر شيئاً من منثور الكلام ومنظومه.
أولاً:من القرآن:
الآية الأولى: قال تعالى:{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[44]}[سورة البقرة].
فذكر من صفات اليهود وطبائعهم وأخلاقهم كونهم يأمرون بالخير ولا يفعلونه ويدعون إلى البر ويهملونه، لتحذير هذه الأمة من سلوك طريقهم، أو التشبه بشيء من أخلاقهم. قال ابن كثير:'والفرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه. وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من يأمرهم به ولا يتخلف عنهم'.
الآية الثانية: قال تعالى عن شعيب عليه الصلاة والسلام:{... وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[88]}[سورة هود].(/1)
فهذا هو موقف الداعية المصلح الذي يبدأ بتطبيق ما يدعو إليه على نفسه، ويأخذها بالحزم، ويروضها على ما يريده الإسلام، وهذا هو الداعية الناجح الذي يقدم للناس أحكام الإسلام، وأخلاقه صوراً حية يرونها بأم أعينهم، لا أقوالاً رنانة، ثم يرون الانفصام بين القول والسلوك، وهذا مذموم في نظر العقلاء. قال الشاعر:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو عليل
يقول سيد قطب:'أن الكلمة لتنبعث ميتة وتصل هامدة مهما تكن طنانة رنانة متحمسة إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها، ولن يؤمن إنسان بما يقول حقاً إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيماً واقعياً لما ينطق، عندئذ يؤمن الناس ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق، إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها، وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها، إنها تستحيل يؤمئذ دفعة حياة، لأنها منبثقة من حياة'[ في ظلال القرآن [1/85]].
الآية الثالثة: قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[2]كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3]}[سورة الصف]. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ' كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد، يقولون لوددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل بها، فأخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن أحب الأعمال : إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به'. فلما نزل الجهاد، كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فأنزل الآية.
ومع أنها نزلت في موضوع الجهاد وتمنيه، لكن يستدل بالآية من عموم لفظها على الإنكار على كل من خالف قوله فعله، سواء في الوعد، أو العهد، أو الأمر، أو النهي.
ومن هنا فالآية درس للأمة الإسلامية، وتوجيهات ربانية، مبدوءة بلفظ محبب إلى النفوس، وثمنه التنفيذ والامتثال، بأن يكون كل فرد منا عند قوله، فلا يقول إلا حيثما يتبع القول بالعمل، وإلا فقد عرض نفسه لمقت الله الذي هو أشد البغض، قال الراغب:'المقت: البغض الشديد لمن تراه تعاطى القبيح'. يقول صاحب الظلال:'إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك، والإسلام عقيدة متحركة لا تطيق السلبية، فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور، تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج، ولتترجم نفسها إلى حركة، وإلى حركة في عالم الواقع.ومنهج الإسلام الواضح يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية، لتبقى حية متصلة بالينبوع الأصيل'[ في ظلال القرآن [6/114]].
إن العمل بالعلم من أهم صفات الداعية بعد الإخلاص وحسن القصد، ولا يبعد أن يكون سبب إخفاق كثير من الدعاة فشلهم في تحويل علمهم إلى حركة في عالم الواقع يراها من يسمع كلامهم.
الآية الرابعة: قوله تعالى:{ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا[30]وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا[31]}[سورة الأحزاب]. قال النسفي:'{ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } ضعفي عذاب غيرهن من النساء؛ لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن، فزيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل، وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذا كان الذم للعاصي العالم أشد من العاصي الجاهل؛ لأن المعصية من العالم أقبح'[ تفسير النسفي [3/301-302] ].
ثانياً:العمل بالعلم في السنة النبوية:
لقد جاءت الأحاديث الكثيرة مؤكدة إتْبَاع العلم بالعمل، وأن على المسلم أن يدعو الناس بسلوكه قبل أن يدعوهم بكلامه، وأن يحرص على الخير لنفسه كما يهديه لغيره، وهذه بعض الأحاديث:
الحديث الأول: عن سعد بن هشام قال:قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ:' أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ' قُلْتُ بَلَى قَالَتْ:' فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ'رواه مسلم.
إجابة موجزة جامعة مفادها: أن القرآن بأحكامه وأخلاقه قد تحول إلى سلوك واقعي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد صار القرآن سجية له، وخلقاً تطبعه، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه.
ومن هنا جاءت أهمية دراسة هدى الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته، إذ أنها تطبيق عملي لما جاء عن الله، سواء ما كان منها متعلقاً بالعقيدة، أو الأحكام، أو الأخلاق؛ لأن هذه مبادئ الإسلام، وأحكامه التي لا ينفصل بعضها عن بعض.(/2)
الحديث الثاني: عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ يُجَاءُ بِرَجُلٍ فَيُطْرَحُ فِي النَّارِ فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ إِنِّي كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا أَفْعَلُهُ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ ] رواه البخاري ومسلم.
وعيد عظيم، يثير الفزع في النفوس، بتصور هذا المنظر المخيف، منظر رجل يلقى في النار، فتنصب مصارينه من جوفه، ويدور فيها، فيجتمع أهل النار حوله يتعجبون من هيأته ويسألونه عن شأنه وحاله. إنه ليس وعيداً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا مطلوب من كل أحد، ولكنه وعيد على ارتكابه المنكر عالماً به، ينصح الناس عنه ثم يخالفهم إليه ويفعله.
قال الحسن:' لقد أدركت أقواماً كانوا آمر الناس بالمعروف وآخذهم به، وأنهى الناس عن المنكر وأتركهم له، ولقد بقينا في أقوام آمر الناس بالمعروف وأبعدهم عنه، وأنهى الناس عن المنكر وأوقعهم فيه. فكيف الحياة مع هؤلاء؟' ]حلية الأولياء [2/155]].
الحديث الثالث: عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ ]رواه الترمذي والدارمي، وانظر الصحيحة للألباني رقم 946.
الحديث الرابع: عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ لَا أَقُولُ لَكُمْ إِلَّا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كَانَ يَقُولُ: [... إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا ] رواه مسلم.
وأخرجه ابن ماجة عن جابر بلفظ: [ سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ ] انظر صحيح ابن ماجة للألباني [2/327].
قال ابن القيم:'العلماء ثلاثة: عالم استنار بنوره واستنار به الناس، فهذا من خلفاء الرسل، وورثة الأنبياء، وعالم استنار بنوره، ولم يستنر به غيره، فهذا إن لم يفرط كان نفعه قاصراً على نفسه، فبينه وبين الأول ما بينهما، وعالم لم يستنر بنوره ولا استنار به غيره، فهذا علمه وبال عليه وبسطته للناس فتنة لهم وبسطة الأول رحمة لهم' [مدارج السالكين [3/302] ].
الحديث الخامس: عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ الْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَه كَمَثَلِ السِّرِاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ وَيَحْرِقُ نَفْسَهُ] رواه الطبراني في الكبير [2/165، 167]. قال المنذري: وإسناده حسن إن شاء الله. انظر صحيح الترغيب [1/128].
الحديث السادس: عن أبي برزة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ مَثَلُ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَه مَثَلُ الفَتِيلَةِ تُضِيءُ عَلَى الَّناسِ وَتَحْرِقُ نَفْسَهَا] رواه البزار انظر صحيح الترغيب [1/128].
شبه الداعية ومعلم الناس الخير الذي لم يستفد من علمه، بالسراج يضيء للناس، فيستفيدون من نوره، ولكنه يحرق نفسه، ويصطلي بحرارة فتيلته، فأفاد غيره ولم يستفد بنفسه.. وهكذا من يعلم الناس وينسى نفسه، فهو يضيء لغيره طريق الخير ويدله عليه وهو لا يجني إلا التعب والعناء في الدنيا، والاصطلاء بالنار يوم القيامة، كما دلت على ذلك النصوص، ولو كان عاملاً بعلمه لكان مثاباً على جهده.
الحديث السابع: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ قَالَ قُلْتُ مَنْ هَؤُلَاءِ قَالُوا خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ] رواه أحمد، وسنده حسن انظر صحيح الترغيب [1/125].
إن للخطابة شأناً كبيراً، وكلما كان الخطيب مرموقاً ينظر إليه، تضاعفت المسؤولية في حقه؛ لأنه مُتَّبَعٌ. ولما كان الخطيب بهذه المنزلة، وله هذا التأثير في مجتمعه، ورد في حقه هذا الوعيد الخاص – عدا الوعيد العام – إذا صار يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويركز في خطبته على أمراض المجتمع، ثم هو يخالف ما يقول، ويخفق في الملاءمة بين قوله وفعله، وناسب أن يكون عقابه على ذلك من جنس وظيفته.(/3)
فهذه النصوص وغيرها أدلة واضحة على عظم المسؤولية الملقاة على عاتق طالب العلم، وهي مسؤولية العمل به، وظهور آثاره وثمراته على صاحبه، وعدم العمل بالعلم حجة على العالم وفساد للعالم؛ لأن فساد العالم بفساد علمائه. كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف:'صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس، قيل من هم؟ قال: الملوك والعلماء' إعلام الموقعين لابن القيم [1/10].
ولهذا الوعيد الشديد في حديث أنس هذا، وحديث أسامة وغيرهما عدّ ابن حجر الهيثمي عدم العمل بالعلم من كبائر الذنوب، لصدق ضابط الكبيرة على ذلك والمعصية من العالم وإن كانت صغيرة أمرها عظيم بسبب ما أعطيه من العلم المقتضي لانزجاره عن المكروهات وفضلاً عن المحرمات[انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيثمي [1/94]].
ولما عدّ ابن القيم الكبائر قال:'ومنها: أن يقول ما لا يفعل، قال الله تعالى: { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3]}[سورة الصف]' إعلام الموقعين [4/406].
ثالثًا:من أقوال السلف والعلماء في اقتضاء العلم العمل:
-عن علي رضي الله عنه أنه ذكر فتناً في آخر الزمان، فقال له عمر: متى ذلك يا علي؟ قال:'إذا تفقه لغير الدين وتعلم العلم لغير العمل والتمست الدنيا بعمل الآخرة'. وقال ابن مسعود رضي الله عنه:'تعلموا فإذا علمتم فاعملوا'.
وعن لقمان بن عامر قال: كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول:'إنما أخشى من ربي يوم القيامة أن يدعوني على رؤوس الخلائق فيقول لي: يا عويمر. فأقول: لبيك ربّ. فيقول: ما عملت فيما علمت'.
وقال الخطيب البغدادي:'ثم إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه، وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة، والعمل ثمرة، وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً... والعلم يراد للعمل كما يراد العمل للنجاة، فإن كان العمل قاصراً عن العلم؛ كان العلم كلاّ على العالم. ونعوذ بالله من علم عاد كلاً، وأورث ذلاً، وصار في رقبة صاحبه غُلاّ.
وهل أدرك من أدرك من السلف الماضي الدرجات العلى إلا بإخلاص المعتقد، والعمل الصالح، والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا... وكما لا تنفع الأموال إلا بإنفاقها، كذلك لا تنفع العلوم إلا لمن عمل بها، وراعى واجباتها، فلينظر أمرؤ لنفسه، وليغتنم وقته، فإن الثواء قليل والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب والخطر عظيم، والناقد بصير. والله تعالى بالمرصاد، وإليه المرجع والمآب:{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ[7]وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ[8]}[سورة الزلزلة]'[إقتضاء العلم العمل ص14 وما بعدها].
وقال الراغب الأصبهاني:'العبادة ضربان: علم وعمل. وحقهما أن يتلازما، لأن العلم كالأسِّ والعمل كالبناء، وكما لن يغنى أسّ ما لم يكن بناء ولا يثبت بناء ما لم يكن أسّ، كذلك لا يغني علم بغير عمل ولا عمل بغير علم؛ ولذلك قال تعالى:{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ...[10]}[سورة فاطر]. والعلم أشرفهما، ولكن لا يغني بغير عمل...'[ تفصيل النشأتين للراغب الأصفهاني ص159].
وقال بعض العلماء:'العلم خادم العمل، والعمل غاية العلم، فلولا العمل لم يطلب علم، ولولا العلم لم يطلب عمل. ولأن أدع الحق جهلاً به أحب إلى من أن أدعه زهداً فيه'[ إقتضاء العلم العمل ص 15].
وقال ابن القيم رحمه الله:'وجهاد النفس أربع مراتب:
1] إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلى به، ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.
2] الثانية: أن يجاهدها على العمل به، بعد علمه. وإلا مجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
3] الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه، ولا ينجيه من عذاب الله.
4] الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله.
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه، فمن علم وعمل وعلّم فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السموات'[ زاد المعاد [3/10]].
رابعًا:مختارات من الشعر والنظم في العمل بالعلم:
قال الشاعر:
إذا أنت لم ينفعك علمك لم تجد لعلمك مخلوقاً من الناس يقبله
وإن زانك العلم الذي قد حملته وجدت له من يجتنيه ويحمله
وقال آخر:
يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً إذ عبت منهم أموراً أنت تأتيها
وقال آخر:
إذا العلم لم تعمل به كان حجة عليك ولم تعذر بما أنت حامل
فإن كنت قد أبصرت هذا فإنما يصدق قول المرء ما هو فاعل
وقال آخر:
والعلم ليس بنافع أربابه ما لم يفد عملاً وحسن تبصر
سيان عندي علم من لم يستفد عملاً به وصلاة من لم يطهر(/4)
فاعمل بعلمك توف نفسك وزنها لا ترض بالتضييع وزن المخسر
خامسًا: آثار العمل بالعلم:
1- حصول الرفعة في الدنيا والآخرة: قال تعالى:{...يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[11]}[سورة المجادلة]. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ] رواه مسلم . ولا ريب أن هذه الرفعة لا تكون إلا لأهل العلم العاملين به، وكيف تكون لمن لا يعمل بعلمه وهو مذموم شرعاً وعقلاً؟
2- الذي يعمل بعلمه لا يضل في حياته، ولا يشقى في آخرته: وكيف يضل وقد تمسك بالوحي الذي جعله الله هداية لجميع الناس، وكيف يشقى وقد عمل بعلمه، فأعد رصيداً من العمل الصالح المؤسس على علم نافع؟ أعده لذلك اليوم العظيم؟ قال تعالى:{...فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى[123]}[سورة طه]. وبضد ذلك من أعرض عن وحي الله .
3- الذي يعمل بعلمه حري بالنجاة يوم القيامة، والإجابة السديدة: على السؤال الذي سيوجه إليه قبل أن تزول قدماه من عند ربه:ماذا عملت فيما علمت؟ ولابد أن يعد المسلم للسؤال جواباً، وأن يكون الجواب صواباً. ويبدو لي أن الإجابة الصحيحة على هذا السؤال نجاح فيما عداه من الأسئلة الأخرى – إن شاء الله – لأن من عمل بعلمه وفقه الله للاستفادة من شبابه وعمره، وأن يجمع المال – إن كان ذا مال – من حله، وينفقه فيما يوافق شرع الله، هذا مقتضى العلم.
4- الذي يعمل بعلمه يسلم من العواقب السيئة، والنتائج الوخيمة، والأوصاف القبيحة التي تنتظر من لا يعمل:
فمن النتائج السيئة للإعراض:
جعل الأكنة على القلوب حتى لا تفقه الحق، وعدم الاهتداء أبداً: كما قال تعالى مبيناً ما ينشأ عن الإعراض:{...إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا[57]}[سورة الكهف].
ومن الأوصاف: أن المعرض كالحمار: قال تعالى:{ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ[49]كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ[50] } [سورة المدثر].[ انظر أضواء البيان [4/141] وما بعدها].إلى غير ذلك من الآيات التي اشتملت على بيان النتائج والأوصاف التي تلاحق المعرضين.
5- من عمل بعلمه أورثه الله علم ما لم يعلم، وفتح بصيرته وأنار قلبه: قال تعالى:{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ[17]}[سورة محمد]. وأما من لم يعمل بعلمه، وأعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعاً لهواه، فإن ذلك يورثه الجهل والضلال حتى يعمى قلبه عن الحق الواضح، وهو حري أن يسلبه الله ما علم، يقول تعالى:{... فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ...[5]}[سورة الصف]. قال ابن كثير:'أي: فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان'.
6- العمل بالعلم من أقوى أسباب حفظه وبقائه: لتحوله إلى صورة عملية وواقع مشاهد، ولذا يستطيع كل واحد منا أن يكتب صفة الوضوء والصلاة والحج ونحو ذلك؛ لأن هذا علم قد عمل به، وتحول إلى سلوك واقعي، فأصبح موصولاً بالذهن، مرتبطاً بالذاكرة، يستدعيه متى أراده.
وقد اهتم العلماء بموضوع حفظ العلم، والتحذير من نسيانه، وذكروا الأسباب التي تعين على حفظ العلم، ولكن من أقوى وسائل حفظه العمل به، وقد ذكر ابن القيم أن من أسباب حرمان العلم عدم العمل به، فهو يقول:'السادس: عدم العمل به فإن العمل به يوجب تذكره وتدبره ومراعاته والنظر فيه، فإذا أهمل العمل به نسيه. قال بعض السلف: كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به وقال بعض السلف أيضاً: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه حلّ وإلا ارتحل. فالعمل به من أعظم أسباب حفظه، وثباته، وترك العمل به إضاعة له، فما استدر العلم ولا استجلب بمثل العمل'[مفتاح دار السعادة [1/172]].
7- العمل بالعلم يهيء للعالم مكانة مرموقة، ونظرة حسنة، وبه يكون قدوة طيبة، يؤخذ كلامه، ويوثق بفتواه: وكلما ظهرت آثار العمل على العالم أحبه الناس وتعلقوا به ورغبوا فيه، ولكن إذا رأوا العالم وقد ظهرت عليه آثار الانحراف والمخالفة لما علم به، وقعوا في حيرة بين القول والفعل. وراحوا يفسرون هذا الانفصام بين العلم والسلوك تفسيرات شتى، ومن ثم لا يثقون بقوله، ولا يقيمون وزناً لشخصه، وإذا كان العالم مرموقاً منظوراً إليه ولا سيما في بلده كانت المسؤولية أعظم لأنه متبع ومقتدى به.(/5)
قال ابن مفلح: [وليحذر العالم وليجتهد فإن ذنبه أشد، نقل المروذي عن الإمام أحمد رحمه الله قال:'العالم يقتدى به ليس العالم مثل الجاهل'. قال: وقال شيخنا – يعني ابن تيمية – :'أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه فذنبه من جنس ذنب اليهود'][ الفروع [1/526]].
إن مخالفة تعاليم الدين ممن يقتدى به من أضر الأشياء على سنن الإسلام؛ لأن ذلك يؤدي إلى اقتداء العوام، لأن الجاهل يقول: لو كان هذا الفعل كما قال: من أنه ذنب لم يرتكبه. وإنما ارتكبه لأمر علمه دوننا. فليحذر العالم مثل هذه المزالق العظيمة التي يبوء بإثمها وإثم من اتبعه فيها إلى يوم القيامة.
وإن المطابقة بين القول والعمل أمر عسير غير يسير إلا على من وفقه الله، إنه يحتاج إلى صلة دائمة بالله، وإخلاص، ثم رياضة وجهد ومحاولة، واستعلاء على الرغبات والشهوات، ومن ترك العمل بما علم؛ فقد استسلم لشهواته، وانقاد لهواه، وهو على خطر عظيم..وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
من رسالة:' العمل بالعلم بين الواقع والواجب' للشيخ/ عبد الله بن صالح الفوزان(/6)
العمل بالعلم بين الواقع والواجب ...
...
24-05-2004
الحمد لله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن العلم النافع والعمل الصالح هما مفتاح السعادة ، وأساس النجاة للعبد في معاشه ومعاده ، ومن رزقه الله علماً نافعاً ووفقه لعمل الصالح؛ فقد حاز الخير، وحظى بسعادة الدارين، قال تعالى:{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[97]}[سورة النحل ].
وإن الإسلام موقفاً رائعاً من العلم لا يدانيه في ذلك دين من الأديان السماوية التي نسخها الله به، وليس المهم في نظر الإسلام هو العلم والسعي في التحصيل، وإنما يراد من وراء ذلك ما هو أهم، وهو العمل بالعلم، وتحويله إلى سلوك واقعي يهيمن على تفكير المتعلم وتصرفاته، فالعلم يراد للعمل.
ولقد اهتم الإسلام بهذا الجانب العظيم من جوانب العلم، ورتب الأجر والنجاة على ذلك، كما ورد الذم والوعيد لمن لا يعمل بعلمه. والواقع أن هناك تقصيراً واضحاً في موضوع العمل بالعلم، يظهر ذلك على تصرفات الناس وهيئاتهم وأحوال معاشهم، فالذي يأكل الربا يعلم يقيناً أن الربا محرم، والذي يأكل أموال الناس بالباطل بواسطة الغش، أو الخداع يعلم أن ذلك لا يجوز. والذي يبيع ما لا يحل بيعه، أو يقتني ما يحرم اقتناؤه لو سألته عن ذلك ما قال إنه يجوز. وفي مجال اللباس مخالفات كثيرة لا يخفى على أحد – في الغالب – حكمها. هذه أمثلة لبعض الأفعال.
أما بالنسبة للأشخاص فإن أمارات الانحراف وأشياء من المخالفات تظهر على علماء، ومتعلمين، ودعاة، ومصلحين، وآمرين وناهين، وصاروا غير ملائمين بين علمهم وسلوكهم، فضلاً عن بقية الناس.
إن على هؤلاء واجباً عظيماً ومسؤولية كبرى؛ لأنهم قدوة لغيرهم، وأسوة لأتباعهم، ولن يكونوا كذلك حتى يكونوا عاملين بعلمهم، وإننا نأسى عندما نرى من هؤلاء من قد أخفق في تطبيق ما علمه على نفسه، وصار يأمر الناس بالبر وينسى نفسه.
ولا ريب أن المعلم إذا خالف فعله قوله؛ فليس بقدوة، إذ ليس من العقل أن يأمر الإنسان غيره بالخير وينسى نفسه، والمريض لن يستطيع علاج مريض مثله. وهذا لا عذر له مع علمه، وذنبه أشد؛ لأنه تصدى لتعليم المسلمين الذين يعتقدون أنه الأسوة الحسنة، والقدوة المثلى.
العمل بالعلم:
من المؤكد أن المنزلة السامية، والثواب العظيم لطالب العلم، لا يكون إلا لمن عمل بعلمه. ومن هنا وجب إتْبَاع العلم بالعمل. وظهور آثار العلم على مقتنيه، فالعلم إنما يطلب ليعمل به، كالمال يطلب لإنفاقه في طرق الخير، وإذا لم يتحول العلم إلى واقع ملموس يراه الناس؛ فهو وبال على صاحبه، والجاهل خير منه.
يقول ابن جماعة رحمه الله:' واعلم أن جميع ما ذكر من فضيلة العلم والعلماء إنما هو في حق العلماء العاملين الأبرار المتقين الذي قصدوا به وجه الله الكريم، والزلفى لديه في جنات النعيم. لا من طلبه لسوء نية، أو خبث طوية، أو لأغراض دنيوية: من جاه أو مال أو مكاثرة في الأتباع والطلاب'[ تذكرة السامع والمتكلم ص13 ] .
ولما كان هذا الموضوع بمكان من الأهمية فسأذكر – إن شاء الله – النصوص الشرعية التي تؤكد على طالب العلم أن يكون عاملاً بعلمه، قائماً بحقوق الله وحقوق خلقه قدر استطاعته، وكذا النصوص التي تضمنت الوعيد الشديد للعالم الذي لم يستنر بعلمه، وأبدأ بالنصوص القرآنية، ثم من السنة النبوية،ثم أذكر شيئاً من منثور الكلام ومنظومه.
أولاً:من القرآن:
الآية الأولى: قال تعالى:{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[44]}[سورة البقرة].
فذكر من صفات اليهود وطبائعهم وأخلاقهم كونهم يأمرون بالخير ولا يفعلونه ويدعون إلى البر ويهملونه، لتحذير هذه الأمة من سلوك طريقهم، أو التشبه بشيء من أخلاقهم. قال ابن كثير:'والفرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه. وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من يأمرهم به ولا يتخلف عنهم'.
الآية الثانية: قال تعالى عن شعيب عليه الصلاة والسلام:{... وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[88]}[سورة هود].(/1)
فهذا هو موقف الداعية المصلح الذي يبدأ بتطبيق ما يدعو إليه على نفسه، ويأخذها بالحزم، ويروضها على ما يريده الإسلام، وهذا هو الداعية الناجح الذي يقدم للناس أحكام الإسلام، وأخلاقه صوراً حية يرونها بأم أعينهم، لا أقوالاً رنانة، ثم يرون الانفصام بين القول والسلوك، وهذا مذموم في نظر العقلاء. قال الشاعر:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو عليل
يقول سيد قطب:'أن الكلمة لتنبعث ميتة وتصل هامدة مهما تكن طنانة رنانة متحمسة إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها، ولن يؤمن إنسان بما يقول حقاً إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيماً واقعياً لما ينطق، عندئذ يؤمن الناس ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق، إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها، وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها، إنها تستحيل يؤمئذ دفعة حياة، لأنها منبثقة من حياة'[ في ظلال القرآن [1/85]].
الآية الثالثة: قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[2]كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3]}[سورة الصف]. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ' كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد، يقولون لوددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل بها، فأخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن أحب الأعمال : إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به'. فلما نزل الجهاد، كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فأنزل الآية.
ومع أنها نزلت في موضوع الجهاد وتمنيه، لكن يستدل بالآية من عموم لفظها على الإنكار على كل من خالف قوله فعله، سواء في الوعد، أو العهد، أو الأمر، أو النهي.
ومن هنا فالآية درس للأمة الإسلامية، وتوجيهات ربانية، مبدوءة بلفظ محبب إلى النفوس، وثمنه التنفيذ والامتثال، بأن يكون كل فرد منا عند قوله، فلا يقول إلا حيثما يتبع القول بالعمل، وإلا فقد عرض نفسه لمقت الله الذي هو أشد البغض، قال الراغب:'المقت: البغض الشديد لمن تراه تعاطى القبيح'. يقول صاحب الظلال:'إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك، والإسلام عقيدة متحركة لا تطيق السلبية، فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور، تتحرك لتحقق مدلولها في الخارج، ولتترجم نفسها إلى حركة، وإلى حركة في عالم الواقع.ومنهج الإسلام الواضح يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية، لتبقى حية متصلة بالينبوع الأصيل'[ في ظلال القرآن [6/114]].
إن العمل بالعلم من أهم صفات الداعية بعد الإخلاص وحسن القصد، ولا يبعد أن يكون سبب إخفاق كثير من الدعاة فشلهم في تحويل علمهم إلى حركة في عالم الواقع يراها من يسمع كلامهم.
الآية الرابعة: قوله تعالى:{ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا[30]وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا[31]}[سورة الأحزاب]. قال النسفي:'{ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } ضعفي عذاب غيرهن من النساء؛ لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن، فزيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل، وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذا كان الذم للعاصي العالم أشد من العاصي الجاهل؛ لأن المعصية من العالم أقبح'[ تفسير النسفي [3/301-302] ].
ثانياً:العمل بالعلم في السنة النبوية:
لقد جاءت الأحاديث الكثيرة مؤكدة إتْبَاع العلم بالعمل، وأن على المسلم أن يدعو الناس بسلوكه قبل أن يدعوهم بكلامه، وأن يحرص على الخير لنفسه كما يهديه لغيره، وهذه بعض الأحاديث:
الحديث الأول: عن سعد بن هشام قال:قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ:' أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ' قُلْتُ بَلَى قَالَتْ:' فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ'رواه مسلم.
إجابة موجزة جامعة مفادها: أن القرآن بأحكامه وأخلاقه قد تحول إلى سلوك واقعي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد صار القرآن سجية له، وخلقاً تطبعه، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه.
ومن هنا جاءت أهمية دراسة هدى الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته، إذ أنها تطبيق عملي لما جاء عن الله، سواء ما كان منها متعلقاً بالعقيدة، أو الأحكام، أو الأخلاق؛ لأن هذه مبادئ الإسلام، وأحكامه التي لا ينفصل بعضها عن بعض.(/2)
الحديث الثاني: عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ يُجَاءُ بِرَجُلٍ فَيُطْرَحُ فِي النَّارِ فَيَطْحَنُ فِيهَا كَطَحْنِ الْحِمَارِ بِرَحَاهُ فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ إِنِّي كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا أَفْعَلُهُ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَفْعَلُهُ ] رواه البخاري ومسلم.
وعيد عظيم، يثير الفزع في النفوس، بتصور هذا المنظر المخيف، منظر رجل يلقى في النار، فتنصب مصارينه من جوفه، ويدور فيها، فيجتمع أهل النار حوله يتعجبون من هيأته ويسألونه عن شأنه وحاله. إنه ليس وعيداً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا مطلوب من كل أحد، ولكنه وعيد على ارتكابه المنكر عالماً به، ينصح الناس عنه ثم يخالفهم إليه ويفعله.
قال الحسن:' لقد أدركت أقواماً كانوا آمر الناس بالمعروف وآخذهم به، وأنهى الناس عن المنكر وأتركهم له، ولقد بقينا في أقوام آمر الناس بالمعروف وأبعدهم عنه، وأنهى الناس عن المنكر وأوقعهم فيه. فكيف الحياة مع هؤلاء؟' ]حلية الأولياء [2/155]].
الحديث الثالث: عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ ]رواه الترمذي والدارمي، وانظر الصحيحة للألباني رقم 946.
الحديث الرابع: عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ لَا أَقُولُ لَكُمْ إِلَّا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كَانَ يَقُولُ: [... إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا ] رواه مسلم.
وأخرجه ابن ماجة عن جابر بلفظ: [ سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ ] انظر صحيح ابن ماجة للألباني [2/327].
قال ابن القيم:'العلماء ثلاثة: عالم استنار بنوره واستنار به الناس، فهذا من خلفاء الرسل، وورثة الأنبياء، وعالم استنار بنوره، ولم يستنر به غيره، فهذا إن لم يفرط كان نفعه قاصراً على نفسه، فبينه وبين الأول ما بينهما، وعالم لم يستنر بنوره ولا استنار به غيره، فهذا علمه وبال عليه وبسطته للناس فتنة لهم وبسطة الأول رحمة لهم' [مدارج السالكين [3/302] ].
الحديث الخامس: عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَثَلُ الْعَالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَه كَمَثَلِ السِّرِاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ وَيَحْرِقُ نَفْسَهُ] رواه الطبراني في الكبير [2/165، 167]. قال المنذري: وإسناده حسن إن شاء الله. انظر صحيح الترغيب [1/128].
الحديث السادس: عن أبي برزة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ مَثَلُ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَه مَثَلُ الفَتِيلَةِ تُضِيءُ عَلَى الَّناسِ وَتَحْرِقُ نَفْسَهَا] رواه البزار انظر صحيح الترغيب [1/128].
شبه الداعية ومعلم الناس الخير الذي لم يستفد من علمه، بالسراج يضيء للناس، فيستفيدون من نوره، ولكنه يحرق نفسه، ويصطلي بحرارة فتيلته، فأفاد غيره ولم يستفد بنفسه.. وهكذا من يعلم الناس وينسى نفسه، فهو يضيء لغيره طريق الخير ويدله عليه وهو لا يجني إلا التعب والعناء في الدنيا، والاصطلاء بالنار يوم القيامة، كما دلت على ذلك النصوص، ولو كان عاملاً بعلمه لكان مثاباً على جهده.
الحديث السابع: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ قَالَ قُلْتُ مَنْ هَؤُلَاءِ قَالُوا خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ] رواه أحمد، وسنده حسن انظر صحيح الترغيب [1/125].
إن للخطابة شأناً كبيراً، وكلما كان الخطيب مرموقاً ينظر إليه، تضاعفت المسؤولية في حقه؛ لأنه مُتَّبَعٌ. ولما كان الخطيب بهذه المنزلة، وله هذا التأثير في مجتمعه، ورد في حقه هذا الوعيد الخاص – عدا الوعيد العام – إذا صار يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويركز في خطبته على أمراض المجتمع، ثم هو يخالف ما يقول، ويخفق في الملاءمة بين قوله وفعله، وناسب أن يكون عقابه على ذلك من جنس وظيفته.(/3)
فهذه النصوص وغيرها أدلة واضحة على عظم المسؤولية الملقاة على عاتق طالب العلم، وهي مسؤولية العمل به، وظهور آثاره وثمراته على صاحبه، وعدم العمل بالعلم حجة على العالم وفساد للعالم؛ لأن فساد العالم بفساد علمائه. كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف:'صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس، قيل من هم؟ قال: الملوك والعلماء' إعلام الموقعين لابن القيم [1/10].
ولهذا الوعيد الشديد في حديث أنس هذا، وحديث أسامة وغيرهما عدّ ابن حجر الهيثمي عدم العمل بالعلم من كبائر الذنوب، لصدق ضابط الكبيرة على ذلك والمعصية من العالم وإن كانت صغيرة أمرها عظيم بسبب ما أعطيه من العلم المقتضي لانزجاره عن المكروهات وفضلاً عن المحرمات[انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيثمي [1/94]].
ولما عدّ ابن القيم الكبائر قال:'ومنها: أن يقول ما لا يفعل، قال الله تعالى: { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[3]}[سورة الصف]' إعلام الموقعين [4/406].
ثالثًا:من أقوال السلف والعلماء في اقتضاء العلم العمل:
-عن علي رضي الله عنه أنه ذكر فتناً في آخر الزمان، فقال له عمر: متى ذلك يا علي؟ قال:'إذا تفقه لغير الدين وتعلم العلم لغير العمل والتمست الدنيا بعمل الآخرة'. وقال ابن مسعود رضي الله عنه:'تعلموا فإذا علمتم فاعملوا'.
وعن لقمان بن عامر قال: كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول:'إنما أخشى من ربي يوم القيامة أن يدعوني على رؤوس الخلائق فيقول لي: يا عويمر. فأقول: لبيك ربّ. فيقول: ما عملت فيما علمت'.
وقال الخطيب البغدادي:'ثم إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه، وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرة، والعمل ثمرة، وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً... والعلم يراد للعمل كما يراد العمل للنجاة، فإن كان العمل قاصراً عن العلم؛ كان العلم كلاّ على العالم. ونعوذ بالله من علم عاد كلاً، وأورث ذلاً، وصار في رقبة صاحبه غُلاّ.
وهل أدرك من أدرك من السلف الماضي الدرجات العلى إلا بإخلاص المعتقد، والعمل الصالح، والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا... وكما لا تنفع الأموال إلا بإنفاقها، كذلك لا تنفع العلوم إلا لمن عمل بها، وراعى واجباتها، فلينظر أمرؤ لنفسه، وليغتنم وقته، فإن الثواء قليل والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب والخطر عظيم، والناقد بصير. والله تعالى بالمرصاد، وإليه المرجع والمآب:{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ[7]وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ[8]}[سورة الزلزلة]'[إقتضاء العلم العمل ص14 وما بعدها].
وقال الراغب الأصبهاني:'العبادة ضربان: علم وعمل. وحقهما أن يتلازما، لأن العلم كالأسِّ والعمل كالبناء، وكما لن يغنى أسّ ما لم يكن بناء ولا يثبت بناء ما لم يكن أسّ، كذلك لا يغني علم بغير عمل ولا عمل بغير علم؛ ولذلك قال تعالى:{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ...[10]}[سورة فاطر]. والعلم أشرفهما، ولكن لا يغني بغير عمل...'[ تفصيل النشأتين للراغب الأصفهاني ص159].
وقال بعض العلماء:'العلم خادم العمل، والعمل غاية العلم، فلولا العمل لم يطلب علم، ولولا العلم لم يطلب عمل. ولأن أدع الحق جهلاً به أحب إلى من أن أدعه زهداً فيه'[ إقتضاء العلم العمل ص 15].
وقال ابن القيم رحمه الله:'وجهاد النفس أربع مراتب:
1] إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلى به، ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.
2] الثانية: أن يجاهدها على العمل به، بعد علمه. وإلا مجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
3] الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه، ولا ينجيه من عذاب الله.
4] الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله.
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه، فمن علم وعمل وعلّم فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السموات'[ زاد المعاد [3/10]].
رابعًا:مختارات من الشعر والنظم في العمل بالعلم:
قال الشاعر:
إذا أنت لم ينفعك علمك لم تجد لعلمك مخلوقاً من الناس يقبله
وإن زانك العلم الذي قد حملته وجدت له من يجتنيه ويحمله
وقال آخر:
يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً إذ عبت منهم أموراً أنت تأتيها
وقال آخر:
إذا العلم لم تعمل به كان حجة عليك ولم تعذر بما أنت حامل
فإن كنت قد أبصرت هذا فإنما يصدق قول المرء ما هو فاعل
وقال آخر:
والعلم ليس بنافع أربابه ما لم يفد عملاً وحسن تبصر
سيان عندي علم من لم يستفد عملاً به وصلاة من لم يطهر(/4)
فاعمل بعلمك توف نفسك وزنها لا ترض بالتضييع وزن المخسر
خامسًا: آثار العمل بالعلم:
1- حصول الرفعة في الدنيا والآخرة: قال تعالى:{...يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[11]}[سورة المجادلة]. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ] رواه مسلم . ولا ريب أن هذه الرفعة لا تكون إلا لأهل العلم العاملين به، وكيف تكون لمن لا يعمل بعلمه وهو مذموم شرعاً وعقلاً؟
2- الذي يعمل بعلمه لا يضل في حياته، ولا يشقى في آخرته: وكيف يضل وقد تمسك بالوحي الذي جعله الله هداية لجميع الناس، وكيف يشقى وقد عمل بعلمه، فأعد رصيداً من العمل الصالح المؤسس على علم نافع؟ أعده لذلك اليوم العظيم؟ قال تعالى:{...فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى[123]}[سورة طه]. وبضد ذلك من أعرض عن وحي الله .
3- الذي يعمل بعلمه حري بالنجاة يوم القيامة، والإجابة السديدة: على السؤال الذي سيوجه إليه قبل أن تزول قدماه من عند ربه:ماذا عملت فيما علمت؟ ولابد أن يعد المسلم للسؤال جواباً، وأن يكون الجواب صواباً. ويبدو لي أن الإجابة الصحيحة على هذا السؤال نجاح فيما عداه من الأسئلة الأخرى – إن شاء الله – لأن من عمل بعلمه وفقه الله للاستفادة من شبابه وعمره، وأن يجمع المال – إن كان ذا مال – من حله، وينفقه فيما يوافق شرع الله، هذا مقتضى العلم.
4- الذي يعمل بعلمه يسلم من العواقب السيئة، والنتائج الوخيمة، والأوصاف القبيحة التي تنتظر من لا يعمل:
فمن النتائج السيئة للإعراض:
جعل الأكنة على القلوب حتى لا تفقه الحق، وعدم الاهتداء أبداً: كما قال تعالى مبيناً ما ينشأ عن الإعراض:{...إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا[57]}[سورة الكهف].
ومن الأوصاف: أن المعرض كالحمار: قال تعالى:{ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ[49]كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ[50] } [سورة المدثر].[ انظر أضواء البيان [4/141] وما بعدها].إلى غير ذلك من الآيات التي اشتملت على بيان النتائج والأوصاف التي تلاحق المعرضين.
5- من عمل بعلمه أورثه الله علم ما لم يعلم، وفتح بصيرته وأنار قلبه: قال تعالى:{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ[17]}[سورة محمد]. وأما من لم يعمل بعلمه، وأعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعاً لهواه، فإن ذلك يورثه الجهل والضلال حتى يعمى قلبه عن الحق الواضح، وهو حري أن يسلبه الله ما علم، يقول تعالى:{... فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ...[5]}[سورة الصف]. قال ابن كثير:'أي: فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان'.
6- العمل بالعلم من أقوى أسباب حفظه وبقائه: لتحوله إلى صورة عملية وواقع مشاهد، ولذا يستطيع كل واحد منا أن يكتب صفة الوضوء والصلاة والحج ونحو ذلك؛ لأن هذا علم قد عمل به، وتحول إلى سلوك واقعي، فأصبح موصولاً بالذهن، مرتبطاً بالذاكرة، يستدعيه متى أراده.
وقد اهتم العلماء بموضوع حفظ العلم، والتحذير من نسيانه، وذكروا الأسباب التي تعين على حفظ العلم، ولكن من أقوى وسائل حفظه العمل به، وقد ذكر ابن القيم أن من أسباب حرمان العلم عدم العمل به، فهو يقول:'السادس: عدم العمل به فإن العمل به يوجب تذكره وتدبره ومراعاته والنظر فيه، فإذا أهمل العمل به نسيه. قال بعض السلف: كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به وقال بعض السلف أيضاً: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه حلّ وإلا ارتحل. فالعمل به من أعظم أسباب حفظه، وثباته، وترك العمل به إضاعة له، فما استدر العلم ولا استجلب بمثل العمل'[مفتاح دار السعادة [1/172]].
7- العمل بالعلم يهيء للعالم مكانة مرموقة، ونظرة حسنة، وبه يكون قدوة طيبة، يؤخذ كلامه، ويوثق بفتواه: وكلما ظهرت آثار العمل على العالم أحبه الناس وتعلقوا به ورغبوا فيه، ولكن إذا رأوا العالم وقد ظهرت عليه آثار الانحراف والمخالفة لما علم به، وقعوا في حيرة بين القول والفعل. وراحوا يفسرون هذا الانفصام بين العلم والسلوك تفسيرات شتى، ومن ثم لا يثقون بقوله، ولا يقيمون وزناً لشخصه، وإذا كان العالم مرموقاً منظوراً إليه ولا سيما في بلده كانت المسؤولية أعظم لأنه متبع ومقتدى به.(/5)
قال ابن مفلح: [وليحذر العالم وليجتهد فإن ذنبه أشد، نقل المروذي عن الإمام أحمد رحمه الله قال:'العالم يقتدى به ليس العالم مثل الجاهل'. قال: وقال شيخنا – يعني ابن تيمية – :'أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه فذنبه من جنس ذنب اليهود'][ الفروع [1/526]].
إن مخالفة تعاليم الدين ممن يقتدى به من أضر الأشياء على سنن الإسلام؛ لأن ذلك يؤدي إلى اقتداء العوام، لأن الجاهل يقول: لو كان هذا الفعل كما قال: من أنه ذنب لم يرتكبه. وإنما ارتكبه لأمر علمه دوننا. فليحذر العالم مثل هذه المزالق العظيمة التي يبوء بإثمها وإثم من اتبعه فيها إلى يوم القيامة.
وإن المطابقة بين القول والعمل أمر عسير غير يسير إلا على من وفقه الله، إنه يحتاج إلى صلة دائمة بالله، وإخلاص، ثم رياضة وجهد ومحاولة، واستعلاء على الرغبات والشهوات، ومن ترك العمل بما علم؛ فقد استسلم لشهواته، وانقاد لهواه، وهو على خطر عظيم..وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
من رسالة:' العمل بالعلم بين الواقع والواجب' للشيخ/ عبد الله بن صالح الفوزان(/6)
العمل الإسلامي والتحديات المعاصرة
نزار محمد عثمان*
مدخل
الخروج من المأزق الراهن يتطلب العمل الجاد على مستويين اثنين: مستوى الحكومة والدولة، ومستوى الجماعات الإسلامية.
يمر السودان اليوم بوضع جديد؛ يتمثل في إقرار اتفاقية السلام، ودخول الحركة الشعبية كشريك أصيل في حكم البلاد؛ الأمر الذي يوجب على الجانبين على مستقبل العمل الإسلامي في هذا البلد أن يقفوا وقفة تدبر وتأمل؛ تحلل الواقع، وتستجلي المستقبل، وتجنب البلاد والعباد المخاطر المتوقعة.
توصيف الأزمة
تتميز الأزمة الراهنة بأنها أزمة متعددة الواجهات؛ فمنها ما يتعلق بالنظام العالمي الجديد ومخططاته، ومنها ما يتعلق بالنظام الحاكم، ومنها ما يتعلق بجماعات العمل الإسلامي ومواقفها؛ فالنظام العالمي الجديد جعل من الإسلام عدوه الأوحد؛ لذلك جاهر بعداء كل نظام يرفع الإسلام شعارا..
وجماعات العمل الإسلامي، بعدت عن مشاكل الشعب وآلامه؛ وتقوقعت داخل أطرها التنظيمية في وقت تحتاج فيه الأمة لاتحاد الجهود، وتضافر الطاقات..
كل ذلك عمل بنسب متفاوتة على إضعاف قدرة العمل الإسلامي على التأثير في الأحداث الجارية؛ وبالتالي أفسح المجال واسعاً لمخططات النظام العالمي عبر المؤسسات الدولية لتجد بيئة مشجعة تبيض فيها وتفرخ المشاكل الحادثة.
الحلول والمعالجات
الخروج من المأزق الراهن يتطلب العمل الجاد على مستويين اثنين: مستوى الحكومة والدولة، ومستوى الجماعات الإسلامية.
لابد من إعادة الاعتبار لمؤسسات الحسبة، وتزكية المجتمع، والنظام العام، والاهتمام بالإعلام الهادف الذي يبني الأمة المجاهدة
أولاً: على مستوى الدولة والحكومة
يمكن للحكومة أن تحفظ هوية البلاد والعباد بالتحرك السريع لتحقيق التالي:
1/ محاربة الفساد بكل صوره وأشكاله:
إن صور الفساد الإداري والمالي والأخلاقي أظهر من أن يمثَّل لها، ولن تفلح الحكومة في إشعار الغيورين على العقيدة والدين بحرصها على المبادئ والأخلاق إلا بمحاربة الفساد المتمثل في محسوبية طاغية، وحزبية ضيقة، وفساد مالي مشاهد، وإعلام خليع مائع، وترهل إداري واضح..
ثم بإنفاذ قوانين الشريعة السمحة الكفيلة بردع المفسدين، وإعادة الاعتبار لمؤسسات الحسبة، وتزكية المجتمع والنظام العام، والاهتمام بالإعلام الهادف الذي يبني الأمة المجاهدة..
ومما يعجب له المرء أن نرى قنوات اللهو والغناء والمجون تفتتح كل فترة وأخرى في الوقت الذي يهدد فيه عدم الاستقرار المالي قناة القرآن الكريم بالتوقف!.
2/ رفع الظلم الحادث:
إن قطاعات عريضة من الشعب تتعرض لظلم بيِّن يتمثل في الضرائب الباهظة التي طالت كل شخص؛ فلا يستطيع أحد إنجاز معاملة حكومية إلا بعد دفع مبلغ من المال كبير!..
والسبب أن الحكومة حددت ربطاً معيناً من الجباية يجب على كل مرفق حكومي أن يوفره، كما أن السلطات تشجع الجباة، وتخصص لهم نسباً مئوية من المبلغ الذي يحصلونه..
كل ذلك أفرز استياءًا عاماً من ثقل الضرائب والرسوم؛ الأمر الذي يستدعي إعادة النظر، ورفع الظلم الواقع على المواطنين.
ويبدو الظلم أوضح صورة إذا أخذ المتابع في الاعتبار أوجه الصرف البذخي الذي توجه إليها أموال الجباية الحكومية في الوقت الذي تشير فيه بعض التقارير إلى أن 95% من الشعب تحت خط الفقر.
3/ رفض الخضوع للهيمنة الأمريكية:
إن الحكومة مطالبة بتوطين النفس، والاحتكام إلى مبادئ الدين الحنيف؛ بعيداً عن التبعية المهينة، والذيلية الفاضحة..
والمتابع للوضع السياسي يرى بوضوح أن الحكومة سارت في الاتجاه العام الذي حددته الولايات المتحدة الأمريكية في معظم القضايا المصيرية.. خاصة اتفاقية السلام الأخيرة، كما يلاحظ أن كل ذلك لم يشفع للحكومة؛ فكان جزاؤها قرارات مجلس الأمن المعروفة، وتجديد العقوبات عليها؛ (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).
3/ التقويم الجاد لتجربة اتفاقية السلام:
إن مسيرة اتفاقية السلام، وحكومة الوحدة الوطنية التي تمخضت عنها تحوي ثغرات عديدة؛ فلا زالت بعض قيادات الحركة الشعبية تطلق تصريحات نشاز تخالف بها اتفاقية السلام التي وقعتها..
ويكفي أن نشير فقط إلى التصريح الذي نقلته الشرق الأوسط يوم 13/11، والذي يتعجب فيه النائب الأول في حكومة الوحدة الوطنية (الفريق سلفاكير) من أن الحكومة الأمريكية لم تعتقل مدير استخبارات حكومة الوحدة الوطنية (صلاح قوش)؛ فأي وحدة، وأي وطنية بقيت في حكومة كهذه؟!..
كذلك ما زالت الحركة الشعبية تطرح نفسها كحزب منافس لحكومة الإنقاذ، وليس كشريك لها؛ وما فتئت تتهم الحكومة بعدم الالتزام بالاتفاقية.
وليست الحركة الشعبية هي الوحيدة التي لم تف بالتزاماتها تجاه السلام، بل المجتمع الدولي نفسه كذلك!؛ إذ لم تدفع الدول المانحة ما تطوعت والتزمت به تجاه إعمار البلاد، ووحدة القطر.(/1)
كل ذلك يستوجب إجراء تقويم شامل لهذه التجربة، والبحث عن حلول جادة للخروج من الأزمة، بما في ذلك إعادة النظر في الاتفاقية برمتها.
4/ السعي لتوحيد الجبهة الداخلية:
من أوجب واجبات الحكومة في المرحلة الراهنة أن تعمل على توحيد الجبهة الداخلية؛ اعتصاماً بحبل الله تعالى، وبعداً عن التفرق؛ واستجابة للأمر الرباني: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)؛ وذلك عبر السعي لجمع كلمة العاملين للإسلام؛ ليكونوا صفاً واحداً، وليقفوا سداً منيعاً دون اختراقات الأعداء..
وما أوقع البلاد في المأزق الراهن غير تفرق الكلمة، والتنازع، وغياب مفهوم الولاء والبراء، وسعي البعض إلى الولايات الأمريكية لإسقاط النظام الحاكم.
ثانياً: على مستوى الجماعات الإسلامية
إن جماعات العمل الإسلامي مطالبة بتفعيل رسالتها في المجتمعات وفق الخطوات التالية:
1/ الارتباط بالأمة ومشاكلها:
كثيراً ما تُشغل جماعات العمل الإسلامي بمشاكلها الداخلية لدرجة يضعف معها الشعور بمشاكل الأمة؛ الأمر الذي يجعل قطاعات عريضة من الرأي العام تشعر أن هذه الجماعات بعيدة عنها؛ ولا تمثلها، بل لا تنفعل بقضاياها، ولا تستجيب لاحتياجاتها..
ولا يمكن أن يتم إصلاح أو تغيير علي نطاق واسع دون ارتباط وثيق بعامة الناس.
2/ ترغيب قطاعات الأمة المختلفة في الانضمام لجماعات العمل الإسلامي:
تعد الجماعات الإسلامية قوة منظمة في مجتمعاتها، إلا أنها بمقاييس الكم والعدد ما تزال نخبة محدودة؛ مركزة في طبقات اجتماعية محددة، وأوساط ثقافية معينة..
وقطاعات واسعة من هذه النخبة مستوعبة وموظفة فعلياً لصالح مشاريع أخرى قد تكون منافسة أو مناقضة للحركة الإسلامية..
كل ذلك ينبني عليه أنها بإجمال تعاني من ضعف حقيقي؛ لا يمكنها من الاستجابة المطلوبة للواقع إلا بمراجعة وافية؛ ترمي إلى تعميم خطابها لقطاعات الشعب المختلفة، وترغيبها في الانضمام لمد العمل الإسلامي العام.
3/ التركيز على الدور الريادي أوالقيادي في المجتمع:
لم تنجح الحركات الإسلامية في تقديم نماذج واقعية حقيقية للإصلاح والتغيير المأمول منها؛ وحتى الحالات التي كانت تقدم باعتبارها نماذج لنجاح جماعات العمل الإسلامي على مستوى الدولة (السودان مثلاً) فإن الخلافات والصراعات والتراجعات الحالية فيها لا تحتاج إلى كبير توضيح أوبيان..
أما بالنسبة لمشاركة الحركات الإسلامية في العمل السياسي فالمتابع لتقييم الحركات نفسها لتجاربها يدرك أنها خرجت بعد المشاركة أضعف صفاً، وأبعد عن الشعب منها قبل المشاركة..
وهذا يتطلب من الحركات الإسلامية أن تهتم بالدور القيادي الذي يمكن أن تلعبه في المجتمع.
4/ وضوح الرؤية والتصور لجماعات العمل الإسلامي:
تعاني جماعات العمل الإسلامي من مآزق ضبابية الرؤية المفصلة، والتصور الدقيق لأولويات العمل؛ وذلك لأسباب منها:
* الأزمة القيادية داخل المنظمات الإسلامية:
إذ لا تخرج معظم القيادات الحالية للحركات الإسلامية في معظم مستوياتها (ولا أُعَمِّم) عن خصائص القيادات الحاكمة في الأنظمة العربية والإسلامية التي تعارضها.
* غياب الشورى، وآليات اتخاذ القرار داخل الجماعة؛ مما أفرز قيادات معزولة عن القواعد.
* الجمود على قوالب عمل متوارثة ثبتت قلة فاعليتها في عالم اليوم، وعدم حسم القضايا الشائكة التي استجدت في واقع الناس مثل: المواطنة، العولمة، المرأة، ... الخ.
* غياب (الرؤية)، والمشروع الإصلاحي التغييري في التعامل مع الحكومات والشعوب، والاكتفاء بالشعار العام دون الخوض في تفاصيل برنامج محدد.
* تناقض الرؤى داخل الجماعة الإسلامية الواحدة، ليس في القضايا الاجتهادية فحسب، بل حتى في الأهداف والوسائل والأساليب.
* تعميم الخطاب، وتضييق مواعين الاستيعاب، وتقديم قيادات هشة.
* التباين الواضح بين الأجيال المتعاقبة في الحركة الواحدة.
وهذه القضايا تتطلب مراجعة شاملة؛ تعمل على تنزيل النصوص على أرض الواقع، وتفصيل التصور الكلي لتصورات جزئية دقيقة؛ تراعي الأولويات، وتتقن فهم سنن الله تعالى في النفس والمجتمع؛ لتستعين بها في إحداث التغيير المنشود.
خاتمة
هذه رؤية عجلى لبعض الحلول العملية للخروج من الأزمة الراهنة؛ نرجو أن تنال حظها من الحوار الهادف البناء؛ عساها تكون قد أسهمت في تشخيص الوضع ووصف الدواء..
والله المستعان.
--------------
**ورقة مقدمة لورشة موجهات الخطاب الدعوي الإسلامي – وزارة الإرشاد والأوقاف(/2)
العمل الجماعى بين الإفراط والتفريط
لفضيلة الشيخ الدكتور :
ياسر بن حسين برهامي
غفر الله له و لوالديه و لجميع المسلمين
عن معاوية بن أبى سفيان أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال :
" ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب إفترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفرق على ثلاث وسبعين ، ثنتان وسبعون فى النار وواحدة فى الجنة ، وهى الجماعة "
صحيح رواه أبو داود وأحمد والدرامى والحاكم
عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال :
" من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية "
رواه البخارى ومسلم
عن أبى ذر - رضي الله عنه - أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال :
" من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه "
رواه أبوداود
عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم - أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال :
" لايحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم "
رواه أحمد
___________________________________ 3
إن مسألة العمل الجماعى قد أخذت حيزاً لايستهان به من إهتمام كثير من المسلمين وخاصة الدعاة منهم وازداد الإهتمام فى الآونة الأخيرة بعد الإصدارات التى تجاوز مؤلفوها حداً بعيداً عن الإنصاف والواقعية فضلاً عن أنه بعيد عن الفهم الصحيح للأدلة وأقوال الأئمة ، فمنهم من ذهب إلى أن العمل الجماعى بدعة ، ومنهم من قال إن الجماعات الإسلامية قائمة على الحزبية والعصبية ولايجوز الإنتماء إليها إلى غير ذلك من الأقوال التى دفعتنا إلى بيان موقفنا من هذه المسألة لحسم مادة الخلاف بين العاملين فى الساحة الإسلامية ، ولتقليل ظاهرة تشرذم الدعاة ، ولبتر فكرة العمل الفردى التى باتت ترواد الدعاة الذين لهم إشتغال محمود بالعلم الشرعى .
إن هذه الكتب لها آثار سلبية مدمرة على الكيانات القائمة العاملة فى الدعوة إلى الله ودورنا هو علاج السلبيات الموجودة فى كيان قائم وليس بترها جميعاً ، ولاينبغى أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة إلا إذا حصل نور لاظلمة فيه ( راجع الفتاوى لشيخ الإسلام 10/364 ) ، وهذا أوان الشروع فى المقصود ندعوا الله أن يفتح له قلوب إخواننا إنه ولى ذلك والقادر عليه .
___________________________________
لابد لنا من وقفة نتعرف فيها على معنى الجماعة لغة وشرعاً .
أولاً : الجماعة لغة :-
إما أن تعنى الإجتماع : وهو ضد التفرق وضد الفرقة يقال تجمع القوم إذا اجتمعوا من هنا وهناك ، وجمع المتفرق ضمه بعضه إلى بعض وجمع إليه القلوب ألفها .
وإما أن تعنى الجمع : وهو إسم لجماعة الناس ، والجمع مصدر قولك جمعت الشئ .
قال الفراء : إذا أردت جمع المتفرق قلت جمعت القوم فهم مجموعون .
وإما أن تعنى الإجماع : وهو الإتفاق والإحكام يقال أجمع الأمر أى أحكمه ويقال أجمع أهل العلم أى اتفقوا والجماعة العدد الكثير من الناس وطائفة من الناس يجمعها غرض واحد ( راجع المعجم الوسيط 1/135 ، لسان العرب 8/53 ، مختار الصحيح صفحة 110 ) .
ثانياً : الجماعة شرعاً :-
إن لفظ الجماعة لم يرد ذكره فى القرآن الكريم إلا أنه قد كثر ذكره فى السنة النبوية وقد فسره العلماء حسب وروده فى السنة وبينوه فقالوا :
__________________________________
1- الجماعة هى السواد الأعظم من أهل الإسلام :
وهم الناجون من الفرق فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق ومن خالفهم مات ميتة الجاهلية سواء خالفهم فى شئ من الشريعة أو فى إمامهم وسلطانهم فهو مخالف للحق ، وممن قال بهذا القول أبو مسعود الأنصارى وابن مسعود - رضي الله عنهم - ( الإعتصام 2/260 ) .
2- هى جماعة أئمة العلماء المجتهدين من أهل العلم والفقه والحديث: فمن خرج مما عليه علماء الأمة مات ميتة جاهلية لأن جماعة الله العلماء جعلهم الله حجة على العالمين ، وممن قال بهذا القول عبد الله بن المبارك واسحق ابن راهويه وجماعة من السلف وهو رأى الأصوليين فعلى هذا القول لامدخل فى السؤال لمن ليس بعالم مجتهد ولايدخل أحد من البتدعين بينهم .
3- الجماعة هى الصحابة - رضي الله عنهم - على الخصوص :
فإنهم لايجتمعون على ضلالة أصلاً ، وممن قال بهذا القول عمر بن عبد العزيز فكل ماسنه الصحابة فهو سنة من غير نظر فيه بخلاف غيرهم فإن فيه لأهل الإجتهاد مجالاً للنظر رداً وقبولاً فأهل البدع إذاً غير داخلين فى الجماعة قطعاً على هذا القول .
___________________________________ 6
4- الجماعة تعنى جماعة أهل الإسلام :
إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من أهل الملل إتباعه وهم الذين ضمن الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن لايجمعهم على ضلالة فإن وقع بينهم إختلاف فواجب تعرُّف الصواب فيما اختلفوا فيه .
قال الشافعى : الجماعة لاتكون فيها غفلة عن معنى كتاب الله ولاسنة ولاقياس وإنما تكن الغفلة فى الفرقة .
5- الجماعة تعنى الفريق من الناس الذى يجتمع على شئ ما(/1)
(غير الإمامة العظمى ) .
كجماعة المصلين فى المسجد أو المجتمعون على طعام أو سفر أو طلب علم كما ورد فى حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" كلوا جميعاً ولاتفرقوا فإن البركة مع الجماعة "
وكما فى حديث جندب بن عبد الله حيث يقول فيه
"وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا فزعنا بالجماعة والصبر والسكينة إذا قاتلنا"
___________________________________
وبوب الإمام البخارى فى صحيحه باب إثنان فما فوقهما جماعة يعنى فى الصلاة .
6- الجماعة تعنى جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير :
وهو الإمام الموافق للكتاب والسنة وذلك ظاهر فى أن الإجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة .
7- الجماعة تعنى جماعة أهل الحل والعقد :
وممن قال بهذا القول الإمام ابن بطال كما ذكر الحافظ فى الفتح 13/316 وشروط أهل الحل والعقد كما ذكرها الإمام المواردى فى الأحكام السلطانية هى :-
أ- العدالة الجامعة لشروطها .
ب- العلم الذى يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط
المعتبرة فيها .
جـ- الرأى والحكمة المؤديان إلى إختيار من هو للإمامة أصلح وبتدبير المصالح أقوى وأعرف .أهـ. وعلى هذا فهم يختلفون عن أهل الحل والعقد عند الأصوليين وشروطهم مدونة فى باب افجماع فى كتب الأصول .
___________________________________
8- الجماعة هم أهل المنعة والشوكة :
حيثما كانوا وممن قال بهذا القول الإمام السرخسى وشيخ الإسلام ابن تيمية
قال السرخسى فى شرح الكبير 1/393 جماعة المسلمين أهل المنعة حيثما كانوا .أهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية فى منهاج السنة (1/141)
الإمامة عند أهل السنة تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها ولايصير الرجل إماماً حتى يوافقه أهل الشوكة الذى يحصل بطاعتهم له مقصود الولاية فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إماماً .
قال أئمة السنة من صار له قدرة وسلطان يفعل بها مقصود الولاية فهو من أولى الأمر الذين أمر الله بطاعتهم مالم يأمروا بمعصية الله ، فالإمامة ملك وسلطان والملك لايصير ملكاً بموافقة واحد ولا إثنين ولا أربعة إلا أن تكون موافقة هؤلاء إلى موافقة غيرهم بحيث يصير ملكاً بذلك .أهـ.
مما تقد نستطيع أن نقول إن الإستعمال لكلمة " الجماعة " ينصرف إلى معنيين :-
___________________________________
الأول :- معن الطريقة والمنهج :
وهو المذكور فى قول النبى - صلى الله عليه وسلم - عن الفرقة الناجية " هم الجماعة " ولزوم الجماعة بهذا المعنى بينه الإمام الشافعى فى الرسالة حيث يقول ( فلم يكن فى لزوم الأبدان لايصنع معنى لأنه لايمكن ، ولأن إجتماع الأبدان لايصنع شيئاً فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ماعليه جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيها ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم ومن خالف ماتقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التى أمر بلزومها وإنما تكون الغفلة فى الفرقة فأما الجماعة فلايمكن فيها كافة الغفلة عن معنى كتاب ولاسنة ولاقياس إن شاء الله ) .أهـ. فعلى هذا فاتباع أهل السنة والجماعة وإجماع أهل العلم لازم لكل إنسان لايسعه الخروج عن ذلك ، ويستحيل أن تضيع الجماعة بهذا المعنى من الأرض كلها فىأى زمن إلى قيام الساعة لقوله - صلى الله عليه وسلم - " لاتزال طائفة من أمتى على الحق ظاهرين لايضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة " .
والخروج عن الجماعة بهذا المعنى يعنى به الفرق المخالفة لأهل السنة وإجماع السنة أهل الهلم ، فالمخالف لهم مبتدع ، وقد يصل الأمر إلى الكفر والعياذ بالله فى البدع المكفرة ومنه قول النبى - صلى الله عليه وسلم - " التارك لدينه المفارق للجماعة " .
___________________________________
الثانى :- هو إجتماع الملمين تحت إمرة أمام :
وهذا المذكور فى قول النبى - صلى الله عليه وسلم - " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان "
ولزوم الجماعة بهذا المعنى تعنى :-
طاعة الإمام المسلم فى ماأمر به من غير معصية وترك الخروج على أئمة المسلمين بالسيف والأحاديث الواردة فى الأمر بالسمع والطاعة تدل على هذا الأمر وهذا أيضاً لايزول من الأمة بالكلية فقد قال - صلى الله عليه وسلم - " لاتزال عصابة من أمتى تقاتل عن هذا الدين ظاهرين على من خالفهم حتى تقوم الساعة ".
وفى رواية " حتى يقاتل آخرهم الدجال " .
والخروج عن الجماعة بهذا المعنى تنطبق عليه الأحاديث الواردة فى تحريم الخروج عن السلطان مثل حديث ابن عباس - رضي الله عنهم - " من فارق الجماعة شبراً فمات ميتة جاهلية " متفق عليه ، فإن كان لسفك الدماء والإستيلاء على الأموال فهو حرابة ينطبق عليه قوله - عز وجل - { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله
___________________________________(/2)
ويسعون فى الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } ] المائدة33[ .
وإن كان طلباً للملك فهو يعنى طالما كان الإمام عدلاً وأما إن كان الإمام فاسقاً فالخروج عليه مختلف فيه عند أهل السنة ، والذى عليه جمهورهم بل نقل انعقاد إجماع المتأخرين منهم غير واحد من العلماء
كالإمام النووى وغيره : هو عدم الخروج والصبر على جور الأئمة لأن الخروج فى الغالب مفسدته أكثر من مصلحته ، أما إذا طرأ عليه الكفر انعزل ووجب خلعه وإقامة عدل مكانه على من تمكنوا من ذلك .
وأما الخروج عن الجماعة المتضمن للكفر واللحاق بمعسكر الكافرين فهو ردة والعياذ بالله .
___________________________________
شغور الزمان عن الإمام
المقصود بشغور الزمان عن الإمام هو عدم وجود الحكومة المسلمة التى تحمل المكانة على مقتضى الحكم الشرعى وهذا الشغور يكون فى صورتين :
الأولى :- إنعدامه حساً .
كما لو مات الإمام أو عزل بسبب يقتضيه أو أسر وبقى الناس بعده أوزعاً متفرقين ، فالواجب فى هذه الحالة على جماعة أهل الحل والعقد أن يبايعوا من يصلح للإمامة ثم تبايعه الأمة بعد ذلك والأدلة على وجوب التأمير كثيرة مستفيضة من الكتاب والسنة والإجماع
قال الله - عز وجل - { ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم } ]النساء95[ ، وقوله - عز وجل - { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } ]النساء83[ .
___________________________________
فلابد للناس من ولى أمر يتولى شئونهم ويدبر مصالحهم وذلك بدلالة إشارة النص ، وقوله - عز وجل - { ياداود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولاتتبع الهوى } ]ص26[ .
من السنة قول النبى - صلى الله عليه وسلم - " لايحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم "رواه أحمد عن ابن عمرو ورواه أبو داود عن أبى سعيد .
قال الإمام الشوكانى فى نبل الأوطار 9/157 بعد سياق روايات الحديث المتعددة : ( وفيها دليل على أنه يشرع لكل عدد بلغ ثلاثة فصاعداً أن يؤمروا عليهم أحدهم لأن فى ذلك السلامة من الخلاف الذى يؤدى إلى التلف فمع عدم التأمير يستبد كل واحد برأيه ويفعل مايطابق هواه فيهلكون ومع التأمير يقل الإختلاف وتجتمع الكلمة وإذا شرع هذا لثلاثة يكونون فى فلاة من الأرض أو مسافرون فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والأمصار ويحتاجون لدفع التظالم وفصل التخاصم أولى وأحرى وفى ذلك دليل لقول من قال :( إنه يجب على المسلمين نصب الأئمة والولاة والحكام ) نيل الأوطار 9/157 .
___________________________________
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لاقيام للدين ولا للدنيا إلا بها فإن بنى آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالإجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ولابد لهم عند الإجتماع من رأس حتى قال النبى - صلى الله عليه وسلم - " إذا خرج ثلاثة فى سفر فليؤمروا أحدهم " رواه أبو داود من حديث أبى سعيد وأبى هريرة ورواه الإمام أحمد فى المسند عن عبد الله بن عمرو أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال " لايحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم " فأوجب - صلى الله عليه وسلم - تأمير الواحد فى الإجتماع القليل العارض فى السفر تنبيهاً بذلك على سائر أنواع الإجتماع ولأن الله - سبحانه وتعالى - أوجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولايتم ذلك إلا بقوة وإمارة وكذلك سائر ماأوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود لاتتم إلا بالقوة والإمارة .أهـ .
تنبيه :
يتضح من كلام الأئمة السابق أن نصب افمارة ليس قاصراً على ولاية السفر بل هو أمر عام فى السفر والحضر وهذا الفهم من العلماء بخلاف مايتوهمه البعض .
___________________________________
الثانية :- الإنعدام الشرعى :
كما لو ارتد الإمام عن الإسلام أو بدل الشرائع وغير الأحكام فسقطت بذلك بيعته وانحلت عقدة إقامته وإن بقى فى موقعه قابضاً على أزمة الأمور .
قال الإمام النووى فى شرح مسلم 6/20 قال القاضى عياض: أجمع العلماء على أن الإمامة لاتنعقد لكافر وعلى أنه لوطرأ عليه الكفر إنعزل ، قال وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها .
قال القاضى : فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكمه الولاية وسقطت طاعته ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إما عادل إن أمكنهم ذلك فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر ولايجب فى المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه فإن تحققوا العجز لم يجب القيام وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها ويفر بدينه .أهـ.
ومحل الفرار فيما إذا لم يكن للمرء مدخل فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإنقاذ المسلمين من الهلكة .
___________________________________(/3)
قال الشوكانى رحمه الله فى السيل الجرار 4/576 إن كانت المصلحة العائدة على طائفة من المسلمين ظاهرة كأن يكون له مدخل فى بعض الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أو فى تعليمه معالم الخير بحيث يكون ذلك راجحاً على هجرته وفراره بدينه فإنه يجب عليه ترك الهجرة رعاية لهذه المصلحة الراجحة لأن هذه المصلحة الحاصلة له بالهجرة تقيد مفسدة بالنسبة إلى المصلحة المرجوة بتركه للهجرة .أهـ.
ومن هنا تعلم ان القول بأن الواجب على جميع المسلمين الإعتزال بناءاً على حديث حذيفة فى الصحيح " فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة " قول باطل لأن حديث حذيفة أولاً مخصوص وليس عاماً فى الأرض كلها كما سبق قول النبى - صلى الله عليه وسلم - " لاتزال عصابة من أمتى تقاتل عن هذا الدين " .
قال الحافظ ابن حجر فى فتح البارى فى باب ( تغير الزمان حتى تعبد الأوثان ): هذا الحديث وما أشبهه ليس المراد به أن الذين ينقطع كله فى جميع أقطار الأرض حتى لايبقى منه شئ لأنه ثبت أن الإسلام يبقى إلى قيام الساعة إلا أن يضعف ويعود غريباً كما بدأ .
___________________________________
ثم ذكر حديث " لاتزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق " قال فتبين فى هذا الحديث تخصيص الأخبار الأخرى ، ثم إن الإشارة فى قول النبى - صلى الله عليه وسلم - "فاعتزل تلك الفرق كلها " إنما ترجع إلى ماسبق ذكره فى الحديث وهم الدعاة على أبواب جهنم وليس إعتزال أهل الخير .
قال الإمام النووى فى شرح مسلم 6/37 : (قال العلماء هؤلاء من كان من الأمراء يدعو إلى بدعة أو ضلالة آخر كالخوارج والقرامطة وأصحاب المحنة )
الواجب على المسلمين فى حالة شغور الزمان عن الإمام :
إن المتتبع لكلام اهل العلم فى إستقراء مقاصد الشرع من وجوب الخلافة والإمامة وإجتماع الأمة فى جماعة واحدة بالمنعى الثانى وهو الإجتماع تحت إمرة خليفة ، وهو بمعنى الجماعة المذكور فى قول النبى - صلى الله عليه وسلم - " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان " رواه مسلم ، يظهر له بوضوح أن الغرض من الإمامة هو إقامة الدين وسياسة الدنيا بالدين أى إقامة الواجبات الشرعية المنوطة بالأمة الإسلامية .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فى مجموع الفتاوى 34/175:
___________________________________
خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطاباً مطلقاً كقوله - عز وجل - { السارق والسارقة فاقطعوا } ]المائدة38[ ، وقوله - عز وجل - { الزانية والزانى فاجلدوا } ]النور2[ ، وقوله - عز وجل - { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم } ]النور4[ ، وكذلك قوله - عز وجل - { ولاتقبلوا لهم شهادة أبداً } ]النور4[ .
لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادراً عليه والعاجزون لايجب عليهم وقد علم أن هذا فرض على الكفاية وهو مثل الجهاد بل هو نوع من الجهاد ، فقول { كتب عليكم القتال } ، وقوله { وقاتلوا فى سبيل الله } ، وقوله { إلا تنفروا يعذبكم } ونحو ذلك إنما هو فرض على الكفاية من القادرين والقدرة هى السلطان فلهذا وجب إقامة الحدود على ذى السلطان ونوابه .
ويقول الإمام الشوكانى رحمه الله فى السيل الجرار 3/331 عند قول المصنف (ولمن صلح لشئ ولا إمام فعله بلا نصب على الأصح )
أقول : جاء المصنف رحمه الله بهذه الكلية لما قدمه من الكلام فى عموم الولايات وينبغى أن تعلم أن تنصيب الأئمة الثابت فى هذه الشريعة ثبوتاً لاينكره من يعرفها من أقواله - صلى الله عليه وسلم - ثم وقوعه بالفعل بعد موته - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة
___________________________________
فمن بعدهم ليس فيه ماينبغى وجوب المر بالعروف والنهى عن المنكر على أفراد المسلمين وإن كان الأئمة هم المقدمون فى ذلك والأحقون به ولكن إذا فعلوا كان ذلك مسقطاً لهذا الفرض المعلوم بالأدلة القطعية فى الكتاب والسنة والمجمع عليه من جميع الأمة وإن لم يفعلوه أو لم يطلعوا على ذلك فالخطاب باق على أفراد المسلمين لاسيما العلماء فإن الله - سبحانه وتعالى - قد أخذ عليهم البيان للناس .
ثم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : وليصح وجود الإمام مسقطاً لذلك ( أى الأمر بالعروف والنهى عن المنكر للمسلمين ) لكنه إذا قام بشئ منه وجب على المسلمين معاضته ومناصرته وإن لم يقم به فالخطابات المقتضية لوجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على المسلمين على العموم باقية فى أعناقهم معدودة فى أهم تكاليفهم لا خلوص لهم عنها إلا بالقيام بها على الوجه الذى أمر الله به وشرعه لعباده .أهـ. مختصراً .
قال الإمام البغوى فى شرح السنة : إن الأمور المكولة إلى الأئمة إذا غابوا عنها فإنه يتولاها من وجد من المسلمين من غير إمرة من الأئمة والخلفاء .أهـ.
___________________________________(/4)
قال الحافظ ابن حجر فى فتح البارى 6/180 فى شرح حديث أنس خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال " أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبدالله بن رواحة فأصيب ثم أخذها خالد بن الوليد عن غير إمرة ففتح الله عليه " قال فيه جواز التأمر فى الحرب بغير تأمير أى بغير نص من الإمام .
قال الطحاوى : هذا أصل يؤخذ منه أن على المسلمين أن يقدموا رجلاً إذا غاب الإمام يقوم مقامه إلى أن يحضر .
وقال أيضاً : وقال ابن المنير يؤخذ من حديث الباب أن من تعين لولاية وتعذرت مراجعة الإمام أن الولاية تثبت لذلك المعين شرعاً وتجب طاعته حكماً ، كذا قال ولايخفى أن محله إذا إتفق الحاضرون عليه .أهـ.
قال الإمام ابن قدامة فى المغنى 8/374 : فإن عدم الإمام لم يؤخر الجهاد لأن مصلحته تفوت بتأخيره وإن حصلت غنيةة قسمها أهلها على موجب الشرع .
___________________________________
قال القاضى : ويؤخر قسمة الإماء حتى يظهر إمام إحتياطاً فإن بعث الإمام جيشاً وأمر عليهم أميراً فقتل أو مات فللجيش أن يؤمروا أحدهم كما فعل أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - فى جيش مؤتة .
وقد سبق نقل كلام القاضى عياض على حديث عبادة ( إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان ) ، ( وأنه يجب على المسلمين خلع الكافر ونصب العادل ) وذلك لايتحقق إلا بشوكة وقوة وهو لايحصل إلا بمطاع وإجتماع .
قال الإمام الجوينى فى الغياثى : إذا لم يصادف الناس قواماً بأمورهم يلوذون به فيستحيل أن يؤمروا بالقعود عما يقتدرون عليه من دفع الفساد فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن عم الفساد العباد والبلاد .أهـ.
وقد سبق ذكر إحتجاج شيخ الإسلام والإمام الشوكانى بأحاديث إمارة السفر على سائر الإجتماعات .
قال الإمام الجوينى فى الغياثى 391 : فإذا شغر الزمان عن الإمام وخلا عن سلطان ذى نجدة وكفاية ودراية فالأمور موكولة إلى العلماء وحق على الخلائق على إختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم .
___________________________________
ثم قال : فإن عسر جمعهم على واحد استبد أهل كل صقع بعالمهم وإن كثر العلماء فى الناحية فالمتبع أعلمهم وإن فرض إستواؤهم وفرضه نادر لايكاد يقع فإن اتفق فإصدار الرأى عن جميعهم مع تناقض المطالب والمذاهب محال فالوجه أن يتفقوا على تقديم واحد منهم فإن تنازعوا وتمانعوا وأفضى الأمر إلى شجار وخصام فالوجه عندى فى قطع النزع الإقراع.أهـ.
يتضح مما سبق أن الأمة الإسلامية مطالبة بالأوامر الشرعية التى يسميها العلماء فروض الكفاية وهى فى أكثرها لايمكن لفرد ولا لأفراد متفرقين القيام بها بل المة فى مجموعها والأئمة وكلاء عنها فى إقامتها وهى تشمل :-
إقامة الجمع والجماعات والأعياد والتعلم لجميع أحكام الديانة حتى يوجد العلماء المجتهدون فى كل جماعة فى قرية أو مدينة أو حصن .
كما يقول ابن حزم : والحسبة والإمارة والخلافة والجهاد بنوعيه الدفع والطلب ونظام القضاء والحكم بين الناس بمقتضى الشريعة الإسلامية .
وتنفيذ هذه الأحكام من حدود وحقوق وتعزيزات وغيرها ، ونظام المال الإسلامى القائم على سد حاجات المسلمين وخاصة فقراءهم وأراملهم وأيتامهم وغيرهم .
___________________________________
ووجود أنواع المهن والصناعات التى يحتاج إليها المسلمون وغير ذلك مما بينه أهل العلم وأدلته من كتاباً وسنة وإجماعاً من أوضح الأدلة : وهى كما يرى كل مصنف مضيعة فى واقعنا الحاضر جزئياً أو كلياً فى الأقطار إما واقعياً فى البلاد التى يتولى حكامها زمام الأمور بإسم الإسلام أو واقعياً ورسمياً معاً فى البلاد التى يتولى حكامها الأمور بإسم القانون والدستور ويقسمون على إحترامه وحمايته فالعقد بينهم وبين ممثلى الأمة فى زعمهم لم يتم على إقامة هذا الدين وبالتالى فهم لم يقوموا به وبالتالى وقعت ولايتم أصلاً باطلة شرعياً ،وإن كانت مفروضة واقعاً على المسلمين لكنها لاتحقق شيئاً من هذه الفروض فهل تسقط هذه الفروض عن المسلمين أم هل هم يفعلونها الآن أم هل يمكن للأفراد المتفرقين القيام بها .
الحق أنه لم يقل ذلك فى الماضى إلا الخوارج ولايقول به فى زماننا إلا من ينكر شرعية قيام الجماعات الإسلامية لأداء هذه الواجبات لأن هذه الواجبات لا تقام إلا بالتعاون ولا يتم التعاون والإجتماع إلا بقيادة وطاعة
وجندية كما هى من فطرة جميع البشر وكما نص العلماء فى شروط إعتبار الطائفة باغية وليست من قطاع الطرق وجود التأويل والشوكة قالوا ولا تتحقق الشوكة إلا بمطاع وهذا مقطوع به ( روضة الطالبين جـ1 ) .
___________________________________(/5)
ونحن بلاشك لاننكر إمكانية القيام ببعض هذه الصور دون قيادة كغسل ميت وتكفينه ولكن هل يتصور إقامة الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإقامة الخلافة إلا بإجتماع وطاعة وقيادة ولاشك أن هذه الأمور لاتوجد فى الأمة بين يوم وليلة بل هى من أشق المور فى التربية والتنشئة ولابد من السير على مبادئها للوصول إلى غاياتها ومن يتصور الوصول إلى الغايات وهو يهدم المبادئ وينكرها فلاشك أنه يتناقض
والصورة المثلى لعودة الخلافة من غيبتها أن يكون أهل الحل والعقد من أهل السنة والجماعة مجتمعين على مطاع هو أمثل أهل العلم منهم للقيام بالمقدور عليه من فروض الكفاية فإن تعذر ذلك إستقل كل أهل بلد بعالمهم إلى أن يتيسر جمعهم وإن كان لابد لهم أن يأخذوا بالأسباب التى تؤدى إلى جمعهم لأن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
قال الجوينى رحمه الله : ( أما ما يسوغ إستقلال الناس فيه بأنفسهم ولكن الأدب يقتضى فيه مصالحة ذوى الأمر ومراجعة مرموق العصر يعنى
الإمام كعقد الجمع وجر العساكر إلى الجهاد وإستيفاء القصاص فى النفس والطرف فيتولاه من الناس عند خلو الدهر يعنى من الإمام طوائف من ذوى النجدة والبأس ).أهـ. وانظر إلى قوله طوائف فإنه يدل على المقصود .
___________________________________
ثم يقول رحمه الله : وقد قال العلماء : لو خلى الزمان عن السلطان فحق على قطان كل بلدة وسكان كل قرية أن يقدموا من ذوى الأحلام والنهى وذوى العقول والحجى من يلتزمون إمتثال إشارته وأوامره وينهون عن مناهيه ومزاجرة فإنهم إن لم يفعلوا ذلك ترددوا عند إلمام المهمات ولو إنتدب جماعة فى قيام الإمام أى وجوده للغزولت وأوغلوا فى مواطن المخالفات التى كانت تعين عليهم أن ينصبوا من يرجعون إلى رأيه
وقد سبق كلام النووى والخطاب على غزوة مؤتة فهذه كلمات الأئمة العلماء فى الإستدلالبالقواعد الشرعية والعمومات القرآنية والنبوية على الإجتماع والإلتزام بقيادة أهل العلم للقيام بالواجبات الشرعية فإن تجرأ زاعم بأن العمل الجماعى بدعة لم يعرفها السلف فهذه وغيرها من التقول توضح قول العلماء بمناهج السلف مع أن أفعال السلف وأقوالهم تدل على ذلك وتأمل ماذكره العلماء فى الحسبة فى جمع الأعوان للقيام بهذا الواجب
وجوازه بل وجوبه مالم تخشى فتنة ( راجع إحياء علوم الدين ، صحيح مسلم وغيرها ) .
___________________________________
قال ابن كثير رحمه الله فى البداية والنهاية 11/14 : وفى بكرة يوم الجمعة المذكور دار الشيخ تقى الدين ابن تيمية رحمه الله وأصحابه على الخمارات والحانات وكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف وأراقوا الخمور وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش .
وقال عن شيخ الإسلام أيضاً 15/14 : وقال لهم يعنى للسلطان ومن معه إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطاناً يحوطه محمية ويستغله فى زمن الأمن .
فالجماعات الإسلامية المعاصرة ينبغى أن يُعلم أنها مرحلة متوسطة تهدف إلى إقامة جماعة المسلمين عن طريق القيام بما تقدر عليه من فروض الكفاية من الدعوة والحسبة والتعليم والإفتاء ونظام المال من جمع زكاة وتفريقها ورعاية اليتامى والمساكين وإقامة الجمع والأعياد والجهاد فى سبيل الله كما فى أفغانستان وأولى الناس بالوصول إلى الغاية هم السائرون على منهج أهل السنة والجماعة لأن من سواهم قد فارق الجماعة بمعناها العلمى
___________________________________
وبالتالى فإجتماعهم على منهج بدعى أو يشتمل على جمل من المخالفات المتناثرة التى ترقى أن تكون بمثابة أصل بدعى ليس مأموراً به.
ولذا كان التعدد الناشئ عن إختلاف المناهج بين أهل السنة وبين غيرهم تعدداً مذموماً وباطلاً وغير مشروع ويتحمل إثم تقطيع الروابط ووجود الأمراض من غيبة ونميمة وحق وضغينة أهل البدع الذين خالفوا أهل السنة ، وأهل يجب ان يعاملوهم بمقتضى الشرع دون تجاوز فى ذلك .
وأما التعدد الناشئ عن تعدد القيادة مع إتحاد المنهج فلاشك أن يلزم إزالته بالإجتماع على الأمثل من اهل العلم ، فهذا مانص على وجوب العلماء كما نقل الجوينى عنهم ذلك دون تخصيص لبعضهم .
وأما التعدد الناشئ عن تنوع الواجبات لمن يقوم بمن لايقوم به غيره وكذا الناشئ عن إختلاف البلاد وتباعدها وعدم إمكانية إدارتها بإدراة واحدة فهذا لاحرج فيه لأنه متكامل يوشك أن يتحد بإذن الله على زيادة العمل وإتساعه فإن من عمل بطاعة الله وفقه الله لطاعات غيرها والبركة فى الإجتماع مضاعفة والأمل والحماس للعمل لدين الله من أعظم أسباب القوة فى الحق بإذن الله .
___________________________________
وإذا كان هذا هو أصل مشروعية العمل الجماعى فاإجابة عن السؤال التقليدى عن حكمه هل هو واجب أو مستحب هو الأمر مرتبط بالمقصود(/6)
فإذا كان الأمر واجباً كإقامة الجمعة مثلاً كان تنفيذ الأمر الصادر من عالم البلد ومطاع أهل السنة واجباً فمن قصر فيه حتى وقع محظور شرعى من ترك إقامة الجمعة مثلاً لتخلف الخطيب فصلاها الناس ظهراً أو تقدم مبتدع ضال أضل الناس ونشر البدعة إثم من قصر فى هذا الواجب وكذلك إذا كان ترك الإجتماع مؤدياً وهو بلا شك مؤدى إلى تأخير النصر فى الجهاد أو إلى هزيمة المسلمين وتمكن أعدائهم منهم فيأثم من خالف مطاع أهل العلم والسنة .
وأما إذا كان الأمر مستحباً كقيام ليل أو قيا تطوع ونحوه فلا تكون الطاعة واجبة وإنما هى مستحبة مالم يكن فى ترك هذا المستحب تضييع لواجب أو تسبباً فى حرام كمن عين لإقامة الناس فى التراويح فتركه فتقدم من لايحسن القراءة أو من ينفر الناس أو يضلهم فيترك الناس الجماعة فى العشاء الواجبة مثلاً وهذا فى الحقيقة مأخوذ مما بينه أهل العلم كما سبق نقله
وإذا كان هناك من يدعى أن العمل الجماعى بدعة فإنه يوجد أيضاً من يزعم أن جماعته هى جماعة المسلمين التى من فارقها مات ميتة جاهلية وهذا
___________________________________
الخطأ مما يحتج به من يرى بدعية العمل الجماعى ولا يعالج الخطأ بالخطأ بل لابد من التنبيه على الفرق بين المرحلة التى لم توجد فيها جماعة المسلمين التى تجمعهم وبين وجودها بالفعل .
فالجماعات الإسلامية كما ذكرنا جماعات من المسلمين وليست جماعة المسلمين وإنما يلزمها السعى إليها ولاشك أن مراعاة الواقع وعذر من خالف فى مثل هذه الأحوال التى يلتبس فيها الحق بالباطل أمر لازم والغلو فى الإنتماء إلى درجة التعصب الممقوت الذى ينبنى عليه الولاء والبراء على مجحرد الإسم لابد من الحرزمنه وليعالج بتعميق معانى الإيمان فى النفوس
وتربية الناس على نصرة الحق لا الأسماء والشخاص والحب فى الله والبغض فى الله لا التقليد الأعمى والتعصب المذموم فالنبى - صلى الله عليه وسلم - عندما سمع بدعوى الجاهلية مع أنها كانت تحت أسماء شريفة هى المهاجرين والأنصار نهاهم عنها بقوله " دعوها فإنها منتنة " من غير أن يلغى إسم المهاجرين وإسم الأنصار وإنما نهاهم عن الجاهلية فهذا هو التوسط الواجب فى علاج هذا الأمر لا كما يقوله البعض بحرمة التسمى بأى إسم مطلقاً سوى إسم الإسلام ظاناً أن نصرة الأسماء تناقض التسمى بإسم الإسلام وهذا وهم
___________________________________
عظيم شنيع تأباه نصوص الكتاب والسنة من وجود التسميات الدالة على المعانى الجملية كأنصار الله والطائفة المنصورة وأهل السنة والجماعة .
وأما عمل السلف وأهل العلم فلا يزال يوصف العلماء بأنهم عراقيين أو شاميين أو حجازيين دون تعقب ودون إلغاء أيضاً للأسماء وبعد ذلك وجدك أسماء المذاهب نسبة إلى أصحابها من حنفية ومالكية وشافعية وحنابلة وحتى عندما وجد التعصب لم يلغ العلماء التسمى بهذه الأسماء وإنما نهوا عن التعصب المذموم والتقليد الأعمى فهذا سلوك أهل الحق .
وعلاج المرض هو الواجب لا قتل المريض تخلصاً من المرض ، فالجماعات الإسلامية المعاصرة أمل الأمة ونبض حياتها ومادة عزتها وبعثها بإذن الله فالقضاء عليها قتل للأمة ندعوا الله أن لا يقع أبداً .(/7)
العمل السياسي المعاصر في ضوء السياسة الشرعيّة..حماس نموذجاً
الكاتب: الشيخ أ.د.عبدالله بن إبراهيم الطريقي
ابتداءً أعتذر للقارئ الكريم بأنني لست خبيراً سياسياً في مجال العمل، ولا متخصصاً في القانون أو الأنظمة السياسية، ولذا فسيكون حديثي مجرد اقتراحات من كاتب ليس يخلو من معلومات في السياسة الشرعية، أزجيها لإخواني في فلسطين، ولاسيما في حركة حماس الإسلامية؛ إثر فوزها في الانتخابات التشريعية.
ولعل من الأفضل أن أجعل حديثي في سلسة من النقاط بغية التركيز، والبعد عن التكرار.
• أهمية العمل السياسي:
لا يماري أحد في أهمية السياسة في حياة الأمم، والأمة المسلمة دخلت غمار السياسة منذ نشأتها؛ إذ مورست السياسة في أصولها ومظاهرها الرئيسة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بصفته حاكماً ورئيساً لدولة المدينة..
ثم نهج الخلفاء الراشدون منهج النبوة مع اكتمال عناصر السياسة والدولة في عهدهم، واستمر المسلمون على ذلك مع وجود تطورات في الأنظمة السياسية.
وقد حرصت الأنظمة السياسية في التاريخ الإسلامي –على الرغم من اختلافها وتقلبها- على الإبقاء على كيان الإسلام وكيان الأمة المسلمة، قروناً طويلة، إلى أن مزقها الاستعمار العسكري والثقافي.
وفي عصرنا الحديث عني الكثيرون بالسياسة، ولاسيما في وجهها النظري.
إلا أن الاهتمام بالسياسة الشرعية، أو قل السياسة في الإسلام ليس كما ينبغي.
ومع ذلك نلحظ أن ساحة العمل السياسي لم تشغر من مفكرين ومنظرين وممارسين ممن لهم عناية ودراية بعلوم الشريعة أو الثقافة الإسلامية بصفة عامة.
وقد وُجدت عدة تجارب في بلاد إسلامية حاولت خوض معترك السياسة من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية، مثلاً: ( باكستان، مصر، السودان، الأردن، اليمن..).
وربما يرى البعض بأن تلك التجارب لم يُكتب لها النجاح المأمول، وقد يبلغ اليأس ببعضهم إلى درجة المراهنة على إخفاق أي خطوة عملية في مجال السياسة.
وأعتقد أن هذا يأس مذموم؛ بدليل أن الملك عبد العزيز ابن سعود استطاع في منتصف القرن الماضي أن يؤسس دولةً إسلامية عصرية، توافرت لها عوامل النجاح، واستمرت على ذلك إلى الآن.
• الوضع العالمي الراهن:
إن الوضع الذي نعيشه ليس عادياً، فعالم الغرب والشرق يموج بالمتغيرات، وأسباب القوة توافرت لدول غير مسلمة؛ حتى صار بيدها الحل والعقد للأوضاع العامة في العالم.
ثم تطوّعت هذه القوى المستكبرة فصنفت الدول والشعوب وفق سلّم جائر، وأصبح العالم الإسلامي بموجب هذا التصنيف في آخر السلّم.
ولا شك أن ذلك يفرض على كل قائم بأمر أن يأخذه بالاعتبار.
• السياسة الشرعية ضرورة:
إذا أُطلقت "السياسة الشرعية" فإنها تنتظم أمرين:
أحدهما عام، والآخر خاص.
أما العام فالمراد به ما يقابل السياسة الوضعية، ويكون المراد بها مطلق التشريعات الإسلامية، أي السياسة التي تأخذ بالإسلام ديناً ومنهج حياة، ويقابلها هنا السياسات غير الإسلامية، سواءً كانت لا دينية "علمانية"، أو ذات دين غير إسلامي.
وأما المعنى الخاص: فيُراد به ما تعارف عليه فقهاء الإسلام من التصرفات والتدبيرات الحازمة التي يأخذ بها الحاكم سواء أكان قاضياً أم إماماً أم أميراً..
أو جملة التدابير والتنظيمات القائمة على الاجتهاد من لدن ولاة الأمر في دولة الإسلام، من أجل مواجهة الواقع المتغير.
وكلا المعنيين السابقين (العام والخاص) مهم، بل ضروري في المجتمعات المسلمة، فإن الأول هو ما يميز بين الدولة المسلمة وغير المسلمة، والثاني يميز الدولة المسلمة العصرية والمتطورة عن الدولة المسلمة الخاملة، أو ذات الفكر الجامد ( الظاهرية الجامدة).
• قواعد عامة:
يذكر أهل العلم الباحثون في مجال السياسة الشرعية جملةً من القواعد التي تُبنى عليها هذه السياسة.
ويمكن تقسيم هذه القواعد قسمين:
القسم الأول: مصادر السياسة الشرعية ومواردها.
والقسم الثاني: مرتكزات السياسة الشرعية.
فالقسم الأول، هي مصادر تستمد منها السياسة شرعيتها وقوتها ووجودها.
والحقيقة أن هذه المصادر نوعان بحسب السياسة التي يُراد شرعنتها، فإن كانت السياسة الشرعية المقابلة لغير الإسلامية فمصادرها إجمالاً: الوحي المنزل مع الإجماع والقياس، ثم بقية المصادر التبعيّة: كالمصلحة المرسلة، والاستحسان، والاستصحاب، وسد الذرائع، والعُرف.
وإن كانت السياسة الشرعية، المقابلة للظاهرية الجامدة، فمصادرها في الجملة هي المصادر التبعية المشار إليها، وهذه المصادر - الأصلية والتبعية – كلها تقتبس من مشكاة النبوة المحمدية، وهو ما يميز بينها وبين المصادر البشرية عقلية كانت أو عرفية أو دينية.
وأما القسم الثاني من القواعد، وهو المرتكزات والأعمدة التي تنهض عليها السياسة الشرعية فإنها كثيرة، وأهمها فيما أرى:(/1)
1) العبودية الصحيحة والشاملة لله رب العالمين لا شريك له. في كل شؤون الدولة، ممثلةً بأفرادها ومؤسساتها.(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:162]. والمسلم يعترف بهذه العبودية في كل ركعة يركعها لربه. (إياك نعبد وإياك نستعين)، وبتحقيق هذه العبودية يستحق العباد الاستخلاف في الأرض، كما قال الله جل وعلا:(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً...)[النور: من الآية55].
2) التزام قيم الإسلام الخلقية في كل التصرفات، وبخاصة المعاملات والعلاقات البشرية، ويأتي في مقدمة هذه القيم:
أ ) العدل، مع النفس، ومع الخلق كافة، قريبهم وبعيدهم، صديقهم وعدوهم، يقول الله سبحانه وتعالى: (...وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الحجرات: من الآية9]، ويقول سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى...) [النحل: من الآية90].
ب ) الصدق في القول والعمل؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة. كما في الحديث. وضده الكذب، وهو من خصال النفاق والفجور.
ت ) الوفاء بالعهود والمواثيق. يقول الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ...)[المائدة: من الآية1]، ويقول سبحانه: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)[الإسراء: من الآية34].
ث ) الرفق والتسامح في المعاملة؛ فإن الله تعالى رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ومن الرفق العفو والصفح، والكلمة الطيبة، ولين الجانب، والجدال بالتي هي أحسن، والحلم، والكرم، والصبر.. وقد جاءت الأدلة الصحيحة والصريحة في هذه الخصال وأشباهها.
ج ) المعاملة بالمثل، يقول الله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ...)[النحل: من الآية126].
ح ) البر والإحسان بكل نفس منفوسة؛ ففي الحديث (في كل ذات كبد رطبة أجر)، والبر كلمة جامعة لكل خصلة جميلة من الأقوال والأعمال، والاعتقادات. يقول الله سبحانه: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة:177]. مراعاة الواقع، أو الحاضر الذي يعيشه العالم.
إن أي دولة، أو مؤسسة أو حركة علمية أو دعوية أو غيرها ما هي إلا جزء من الخريطة في هذا العالم، الأمر الذي يتطلب وعياً رشيداً وفهماً سديداً لهذا الواقع، من حيث تنوعه الثقافي والحضاري، ومن حيث توجهاته وأهدافه، ومن حيث تغيره وتقلباته.
ومن معالم هذا الحاضر التي ينبغي مراعاتها وأخذها بالاعتبار:
1- ضعف الأمة المسلمة وتفرقها، برغم كثرة عددها البشري الذي يزيد عن المليار مسلم، وتعداد دولها الذي يتجاوز الخمسين دولة.
وهذا الضعف لا شك أنه يضاعف المسؤولية على أصحابها، وعلى أهل القدرة وأهل الرأي والعلم والحكمة.
لكنه في الوقت نفسه لا يجوز تجاهله عند النظر إلى الأمة بصفتها الجماعية.
2- التنظيم الدولي القائم على التكتلات والتجمعات، من خلال المواثيق والمعاهدات الدولية.
وبموجب هذا التنظيم لم يعد باستطاعة الدولة، أي دولة أن تنفرد أو تشذ عن هذا التنظيم.
نعم تستطيع أن تكون فاعلة ومؤثرة فيه، ولكنها لا تستطيع أن تبتعد عنه.
والدولة من خلال عضويتها تستطيع أن تحقق المصالح لنفسها، أو على الأقل تدرأ المفاسد، وهذا لا يخرج عن مبدأ التعاون المشروع، يقول الإمام ابن تيمية: "وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر؛ فالتعاون على جلب مصالحهم، والتناصر لدفع مضارهم؛ ولهذا يُقال: الإنسان مدني بالطبع". مجموع الفتاوى62/28، وتأمل الجملة الأولى من كلامه.
3- مبادئ القانون الدولي العام، المنظمة للعلاقات الدولية وحقوق كل دولة وواجباتها، مما لا يتعارض مع قواعد التشريع الإسلامي ومبادئه السامية.(/2)
ومراعاة هذه المبادئ أمر يفرضه الواقع، ولو أن كل دولة تمردت على تلك المبادئ وخرجت عليها لتحولت الأرض إلى غابة يأكل القوي فيها الضعيف، حيث لا رادع خلقياً ولا وازع سلطانياً يمنع الأقوياء من التهام الضعفاء؛ نظراً لغياب القوة الإسلامية العادلة.
إلا أن هذه القوانين على رغم غياب الشريعة الإسلامية عنها، فإنها لا تخلو من قيم إنسانية عامة ومشتركة يتفق عليها العقلاء، كالعدل النسبي، والوفاء بالعهود، ودفع الظلم، والتعاون على مصالح الحياة.
3) ومن المرتكزات التي تقوم عليها السياسة الشرعية: مراعاة التدرج في تطبيق الشريعة، أو الأنظمة، وفي تحقيق المصالح ودرء المفاسد، لاسيما إذا كان مجال التطبيق عموم مجالات الحياة، ويصدق هذا على المجتمعات التي لم تعهد تطبيق الشريعة الإسلامية من قبل، أو تمارسها في السلوك الفردي فقط دون الحياة العامة.
وأياً كان صاحب الإرادة، سواءً أكانت دولةً قائمة أو ناشئة، أو حزباً أو حركة أو غير ذلك.
ويُقصد بالتدرج هنا السعي في تحقيق ما يمكن تحقيقه من المصالح ودرء ما يمكن درؤه من المفاسد، بعيداً عن المثاليات أو التشنّجات.
وذلك ما يتفق مع فطرة الإنسان وعقله السليم، وهو مقتضى طبيعة الأشياء.
ومما يشهد لهذا الأصل:
أ - أن الشريعة -ممثلة بالوحي الإلهي- تنزلت منجّمة في نحو ثلاثة وعشرين عاماً، هي مدة بقاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ نزل عليه الوحي إلى أن اختار الرفيق الأعلى.
ب - أن تطبيق الأحكام ومثلها الأنظمة دفعةً واحدة وبقرار واحد، أو الإصرار على تحقيق جميع المصالح ودرء المفاسد ليس من الحكمة في شيء، بل فيه تعسّف ظاهر.
فمن هو ذلك الحاكم، أو الحكومة أو الحزب الذي باستطاعته أن يصدر قراراته الحاسمة التي تحوّل المجتمع من الكفر إلى الإيمان، ومن الطاعة إلى العصيان، ومن مجتمع كافر إلى مجتمع مؤمن، أو مجتمع غارق في الرذيلة إلى مجتمع فاضل؟!
بل من ذلك المسؤول الذي يستطيع أن يحوّل مؤسسة: تعليمية، أو إعلامية أو اقتصادية مثلاً من مؤسسة علمانية إلى مؤسسة إسلامية بمجرد إصدار قرار؟!
أجل.. إن الأمر يتطلب -لزاماً- تهيئة النفوس وتجفيف منابع الفساد والانحراف، ونشر العلم الشرعي عن طريق الكلمة الطيبة، والتربية الناضجة، والقرارت المتأنية والحكيمة؛ لتكون محلاً للقبول والاستقبال الحسن.
ت - وقاعدة (اتقوا الله ما استطعتم) خير برهان على تلك الدعوى؛ ولهذا جاء في الحديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". ولم يقل: فافعلوه.
وفي الحديث الآخر: "خذوا من العمل ما تطيقون".
ث - يقول أهل الحكمة: (إن ما لا يُدركُ كلُّه لا يُتركُ جُلُّه)، وهي حكمة صحيحة؛ لأن إدراك الكل غير ممكن في معظم غايات البشر وقدراتهم.
4) وأعتقد أن أهم مرتكز يمكن أن نختتم به المرتكزات هو إخلاص العمل لله رب العالمين لا شريك له، من لدن المسؤولين عن العمل السياسي وتطبيق الشريعة الإلهية، سواء كانوا كباراً أو صغاراً، أمراء أو وزراء، أو علماء أو دعاةً أو مديرين، فكل يحتاج إلى الآخر، (فإن الخوافي قوة للقوادم).
وإن الجميع بحاجة شديدة إلى النية الحسنة القائمة على طلب رضا الله سبحانه وتعالى، وإعلاء كلمته، وإظهار دينه وإعزازه، ونصرة أهل الإسلام، وتحقيق العزة لهم، وجلب المصالح العامة لهم، ودرء الفاسد بقدر الإمكان عنهم.
فهذه مقاصد عظيمة ترضي الله تعالى وتستمطر رحماته على هذه الطائفة، بل كل مجتمعها، بل ربما عم خيرها أهل الأرض.
وصدق الله العظيم في قيله: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة:5]. وصدق رسوله الكريم إذ يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
• حماس والعمل السياسي:
حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين أحرزت أعظم إنجاز في تاريخها المجيد، وهو الفوز في الانتخابات التشريعية، وقد سُرَّ بهذا الفوز جماهير المسلمين شرقاً وغرباً.
وأما الذين بهتوا بهذا الفوز فهم أنواع:
(1) الغرب الذي لم يتوقع حصول هذه الحركة على هذه الثقة المبكرة من الشعب الفلسطيني.
(2) اليهود، وهو أمر غير مستغرب منهم.
(3) الليبراليون الذين لا يسرهم أن ينال غيرهم خيراً، قليلاً كان أو كثيراً، عامّاً كان أو خاصّاً، ومثلهم، أو أولى منهم كل ملحد أو منافق.
(4) بعض الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين التي ترى أن فوز هذه الحركة ربما سرى أثره إلى دول أخرى؛ فتنقلب إلى أنظمة إسلامية.
(5) بعض أصحاب الاتجاهات الإسلامية التي تعارض دخول الإسلاميين معترك السياسة مطلقاً؛ بدعوى أن ذلك وسيلة إلى طلب الرئاسة الدنيوية، أو التنازل عن بعض التشريعات الإسلامية.
والحقيقة أننا بقدر فرحتنا بهذا الفوز فإننا نشفق على إخواننا في حركة حماس، بل على كل إخواننا من شعب فلسطين.(/3)
وسبب الإشفاق وعورة الطريق المنتظر أمام الحركة، فقد تحملت مسؤولية كبيرة، وأصبحت في مواجهة حقيقية مع الواقع كله، مع شعبها، ومع إسرائيل، ومع دول الجوار، ومع دول الغرب، والعالم أجمع.
فكيف تستطيع التأقلم مع هذا الواقع؟
إن الأمر جلل دون شك، ولكن إحكامه والسيطرة عليه ليسا متعذرين ولا مستحيلين.
ولعل مما يسهل هذه المواجهة عدة أمور:
(أ ) أن عناصر هذه الحركة كانوا ولا زالوا في مواجهة مع الواقع، منذ نشأتها قبل نحو العشرين عاماً، بل قبل ذلك، فإنها لم تنشأ من فراغ، ولكنها ولدت إثر مخاض عسير؛ نظراً للصراع القديم بين الفلسطينيين واليهود.
(ب ) وهذه العناصر متعلمة ومثقفة ثقافة عالية، تؤهلها للمواجهة، وما خابت أمة جعلت قيادتها بيد حكمائها وعلمائها.
(ت ) لعل في تجارب الآخرين ما يعطي دروساً وعبراً لهذه العناصر؛ بحيث تستفيد من أخطائها فتستبعدها، فقد سبق تجارب كثيرة في عدد من البلدان المسلمة، صاحبها بعض الأخطاء والتجاوزات، فحري بالحماسيين أن يدركوا هذه الأخطاء فينأوا عنها.
• حماس وشعرة معاوية:
جاء في حكاية عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنه قال: إن بيني وبين الناس شعرة لا أقطعها أبداً، إن شدها الناس أرخيتها، وإن أرخوها شددتها، وهكذا ينبغي أن يكون ولي أمر المسلمين.
وإن على حركة حماس أن تسلك مسلك معاوية، سواء في معاملتها مع شعبها، أو مع إسرائيل، أو مع الجيران، أو مع دول الغرب.
وذلك باستعمال الدبلوماسية المحنكة التي تسعى إلى تجذير الإيمان في عمق الشعب الفلسطيني، وتجذير دولة فلسطين، وإرساء قواعدها، حتى تكون دولةً حقيقية لها كيانها ومؤسساتها التي تنافس الدول الأخرى.
وتلك خطوة جليلة، ربما تلاها خطوات أخرى نحو العزة والهيمنة، تهيمن على دولة العدو وتقهرها.
وبهذه المناسبة أدعو الحركة إلى الأخذ بهذا اللقب الجميل (حماس) في مفهومه الفصيح، وهو: الشجاعة، والمنع، كما تقول قواميس اللغة.
الشجاعة في مواجهة التحدي، والمنع من الاستعجال في اتخاذ القرارات، واستعجال النتائج.
وأن تستبعد الحركة المفهوم الدارج للكلمة، وهو التحمس القائم على العجلة أو الانفعال وضيق العَطِن.
• حماس ومواجهة الواقع.
إن هذا الواقع الذي كانت تعايشه الحركة بصفتها مظهراً من مظاهر المجتمع المدني، قد أصبحت تعايشه بصفتها مؤسسة رسمية، وبين الواقعين بعض الاختلاف، الذي يفرض عليها مسؤوليات ومستلزمات أكثر وأكبر.
ويتمثل هذا الواقع في صور عديدة، من أبرزها: العلائق مع الشعب الفلسطيني، بكل أطيافه وتياراته الرسمية والشعبية، ثم العلائق مع إسرائيل، ثم مع دول الجوار، وبقية الدول العربية والإسلامية، ممثلةً بحكوماتها وشعوبها وعلمائها.
ثم مع الغرب.
وكل نوع من هذه الأنواع يستحق الوقوف الطويل والمتأني، مما لا تحتمله هذه المساحة، ولعل في الإشارة ما يغني عن طويل العبارة.
فالعلاقة الداخلية مع الشعب الفلسطيني (حكومةً وشعباً) يفترض أن يقوم على وحدة الهدف، وهو (إعلاء كلمة الله) ووحدة الصف، يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف:4). والخلافات مهما كثرت وتنوعت ينبغي ألاّ تخترق تينكم الوحدتين.
وأما العلائق الخارجية فإنها - على صعوبتها وتعدد مساراتها- مما يمكن التعامل معه بواقعية مدروسة.
وأظن أن أصعب مسار هو ما يتعلق بإسرائيل الغاصبة والمستعمرة.
فهي عدو غاصب بكل الاعتبارات العقلية والقانونية والشرعية، ولكنها في الوقت نفسه أصبحت أمراً واقعاً لا يمكن تجاهله، بل لا بد من التعامل معه، ولكنه تعامل أشبه بتعامل المريض مع مرض السرطان أو مرض السكري، وأشبه بتعامل المجتمع مع مرض الجدري، بجامع الخطورة والانتشار في كل.
وقد صرح كثير من عناصر حماس بأن الحركة لا يمكن أن تعترف بإسرائيل، وأن التعامل معها إنما يكون بموجب هدنة، وهذه نظرة سليمة لو استطاعت الحركة أن تستمر عليها، وتلتزم بها.
أما الاعتراف فإنه سيضفي الشرعية الدولية عليها، ثم ما يترتب عليه أو يكون ملحقاً به من تطبيع.
وإذا كانت بعض الدول العربية قد انساقت وراء الضغوط الدولية نحو الاعتراف والتطبيع، فإن ذلك لا يسوّغ للشعب الفلسطيني أو حكومته أن تقوم بالدور نفسه، بل للفلسطينيين وضعهم وظروفهم الخاصة، التي تملي عليهم التصرف الأصلح.
ذلك ما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل، أما العلائق الأخرى مع دول الجوار، ومع العالم الإسلامي ومع الغرب، فلا يظهر لي مزيد خصوصية لحكومة فلسطين تختلف عن سائر العلاقات الدولية بين الدول بعضها مع بعض.
نعم ربما تكون العلاقة مع دول الجوار أو مع أمريكا ذات حساسية أو تعقيد، بيد أن كل دولة من دول العالم لا بد أن يكون لها أصدقاء وأعداء، ويكون بينها وبين دولة مجاورة نزاعات وخلافات، وعليها أن تعمل على تسوية المنازعات، وحل الخلافات بالوسائل السلمية.(/4)
وأزعم بأنه ليس من المعقول أن تنصب دولة ما نفسها خصماً للعالم، أو للقوى الكبرى، وهي لما تزل في بداية الطريق، أو محدودة القوة البشرية والمادية، بل يصدق عليها قول الشاعر:
...................كالهرّ يحكي انتفاخاً صولةَ الأسدِ
• وأخيراً:
فلعل من الخير أن نؤكد على أهمية القواعد التي تقوم عليها السياسة الشرعية، الآنفة الذكر. ( عبودية الله تعالى، والقيم الخلقية، ومراعاة الواقع، ومراعاة التدرج، والإخلاص).
إن كل واحدة من هذه القواعد في غاية من الأهمية لكل من يعنيه أمر الأمة، صغيراً كان أو كبيراً، قليلاً كان أو كثيراً.
وحماس – وهي تزمع تحمل المسؤولية – قد أصبح من اللازم في حقها أن تتأمل معنا في تلك القواعد.
إنها ضمانات لتحقيق العزة والانتصار والتمكين في الأرض؛ لكونها تجمع بين حق الله تعالى وحقوق عباده، أو بين شؤون الدين وشؤون الدنيا بتوازن واتزان.
وإنها لكفيلة - بإذن الله – لإيجاد الحلول لأي مشكلة أو قضية مستعصية.
كيف وهي أصول الإمامة الكبرى التي شُرعت (لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا) كما يقول الماوردي.
والله الموفق.(/5)
العمل بالقرآن
القرآن الكريم دستور المسلمين، والغاية الأساس من نزوله العمل بما جاء فيه من الأوامر والنواهي، فهو ليس كتاباً للقراءة فحسب، بل جعله الله نوراً وهدى للناس ليعملوا بما فيه وليلتزموا حدوده، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف:3) فمن ابتغى من القرآن غير ما أنزل لأجله فقد تنكَّب سواء السبيل، وضل عن هدي رب العالمين: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه:124).
ولأهمية العمل بالقرآن نجد كثيراً من الآيات تربط بين الإيمان والعمل، كما في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم} (يونس:9) وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (العنكبوت:7).
والحق أن القرآن الكريم مليء بالآيات الدالة على أن الغرض الأساس من نزوله إنما هو العمل بما جاء فيه، من ذلك قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأنعام:155) قال أهل التفسير: أي فاجعلوه إماماً لكم تتبعونه، وتعملون بما فيه من الأحكام. وقوله تعالى في الآية نفسها: {واتقوا} أي: احذروا الله في أنفسكم أن تضيِّعوا العمل بما فيه، وتتعدوا حدوده وتستحلوا محارمه.
وكذلك قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 3) قال أهل العلم في معنى الآية: اتبعوا يا أيها الناس ما جاءكم من عند ربكم بالبينات والهدى، واعملوا بما أمركم به ربكم، ولا تتبعوا شيئاً من غير ما أنزل الله عليكم.
وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} (البقرة:121) قال عطاء و مجاهد في معنى الآية: يعملون به حق عمله. وفي قوله تعالى: {حق تلاوته} مبالغة في صفة اتباعهم، ولزومهم العمل به.
وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} (البقرة:78) قيل في تفسيرها: إلا تلاوة، فلم يعلموا ما فيه، ولم يعملوا بما فيه. قال الفضيل : إنما نزل القرآن ليُعمل به، فاتخذ الناس تلاوته عملاً.
وقوله تعالى في ذم اليهود: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (البقرة:101) قال مالك بن مغول في قوله تعالى: {وراء ظهورهم} أي تركوا العمل به.
وترك العمل بالقرآن والإعراض عنه نوع من أنواع هجره الذي حذرنا الله منه وذم فاعله، قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} (الفرقان:30) ففي هذه الآية أعظم تخويف لمن هجر القرآن العظيم، فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد، ويعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال.
وقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً كل الحرص على أن يتعلم أصحابه القرآن ويتعلموا العمل معه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات من القرآن لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن.
وفي الحديث الذي رواه البخاري و مسلم ذمٌّ لبعض الأقوام الذين (يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم) فليس لهم منه إلا حظ القراءة والتلاوة فحسب، أما العمل بما فيه فهم عنه معرضون. وفي "صحيح مسلم" أيضاً أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن: (القرآن حجة لك أو عليك) أي: إن الانتفاع بالقرآن الكريم إنما يحصل إذا تمت تلاوته والعمل بما فيه، أما إذا لم يكن الأمر كذلك فهو حجة على قارئه يوم القيامة. وعند مسلم أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة، وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجَّان عن صاحبهما) وفي رواية للترمذي (تجادلان) .
والمؤسف من حال بعض المسلمين اليوم أنهم اتخذوا تلاوة القرآن عملاً ومهنة يتكسبون بها، وبعضهم الآخر اتخذه بقصد الاستماع والترنم بأصوات قارئيه فحسب، وأسوأ من هذا وذاك أن يتخذه البعض لمجرد التبرك في بداية أعمالهم، كما تفعل كثير من وسائل الإعلام عند افتتاح برامجها وعند ختامها.(/1)
وبهذه المناسبة نهمس في أذن كل قارئ لكتاب الله عامة، وحافظ لكتابه خاصة أن يعرف حق هذا القرآن عليه، فلا يجعله فيما لم يجعله الله له، بل يجعل القصد من تلاوته العمل بأحكامه أمراً ونهياً، ففي ذلك فلاحه في الدنيا والآخرة. اللهم اجعلنا ممن يقيمون حدود القرآن ويعملون بأحكامه ويؤمنون بمتشابهه، ووفقنا للقيام بحقه حق القيام. والحمد لله رب العالمين(/2)
العمل في منظمة الصليب الأحمر
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ ... 13/3/1424هـ
السؤال
هل يجوز العمل في منظمة الصليب الأحمر الدولي كممرض؟ علماً أن هذه المنظمة تستعد للعمل الإنساني في العراق خلال الحرب، وجزاكم الله عنا كل خير.
الجواب
المعلوم أن منظمة الصليب الأحمر الدولي منظمة إنسانية عالمية، تقوم بعلاج المرضى وتبادل الأسرى بين الدول دون النظر إلى دين ذلك المريض أو الأسير، مع أننا نعلم أن الهدف منها (المنظمة) هو التبشير بنشر النصرانية، وما دامت هذه المنظمة كغيرها من المنظمات الأخرى التي تشابهها تقدم خدماتها لعامة الناس دون النظر إلى جنسهم أو دينهم فإن العمل فيها يكتنفه أمران: أمر يبيح وآخر يمنع، ووجه الإباحة عموم نفعها، ووجه المنع أن من أهدافها التنصير، وإذا كان الأمر كذلك فينظر إلى أي الأمرين أكثر، والأظهر في خدمتها لا شك أن عدد المنتفعين منها أكثر بكثير ممن تنصر بسببها، فيصبح العمل في منظمة الصليب الأحمر الدولي جائز شرعاً، لحصول المنفعة الراجحة والملموسة، ولا ينظر إلى المنع؛ لأن ما علل به أمر مظنون أو قليل ينغمر في النفع الكثير، فيقدم القطعي (الإباحة) على الظني (المنع والتحريم)، ودفع الظلم عن المظلومين، وتقديم الخير للناس عامة مطلوب شرعاً من كل مسلم، وعمل هذه المنظمة يغلب فيه الخير، فنحن المسلمين مطالبون بفعله، ومساعدة من يفعله، وكل أمر يحدث للناس لا يتبين فيه الدليل من القرآن أو السنة ينبغي أن ينظر إليه من وجهين:
الأول: ماذا يقصد منه الفاعل عند فعله؟.
الثاني: ينظر إلى ما يؤول إليه الفعل، وذلك تطبيقاً لقاعدتين من القواعد الفقهية هما: (الأمور بمقاصدها)، و(الأمور بمآلاتها) والواجب على المسلم عندما يعمل عملاً أو يقدم خدمة لأحد أن ينوي بفعله طلب الأجر والثواب من الله؛ للحديث المتفق عليه "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى .." رواه البخاري (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر – رضي الله عنه- ، ولحديث: "في كل كبدٍ رطبةٍ أجرٌُ"رواه البخاري (2363)، ومسلم (2244) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه- ويقول الله وهو أصدق القائلين "وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً" [المزمل: من الآية20] وأنصحك يا أخي أن تحسن نيتك، وأن تنصح لإخوانك وزملائك في العمل ،وأن تدعو غير المسلمين منهم إلى الدخول في الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وتحبب إليهم الخير وعليك أن تفهم الفرق بين تولي الكافر وموالاته، فإن الأول فعل محرم، والثاني فعل جائز، فتولي الكفار والثناء على دينهم ومناصرتهم على المسلمين بقول أو فعل ونحو ذلك هذا كفر يخرج من الإسلام، نعوذ بالله من ذلك، أما الثاني وهو موالاة الكافر كمحادثته ومعاملته بلطف ولين طلبا لهدايته أو الثناء عليه بما فيه من أخلاق حميدة يقرها الإسلام كالصدق والأمانة وإتقان العمل والصنعة فإن هذا مما يحمد لك، وتجده عند الله، وعليك أن تستحضر دوماً وأبداً عند مخاطبتك ومعاملتك للكافر حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم: – "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" رواه البخاري (2942)، ومسلم (2406) من حديث سهل بن سعد – رضي الله عنه-.
وفقني الله وإياك إلى ما يحبه الله ويرضاه. آمين.(/1)
العمل في ولايات الظلمة
السؤال :
أعمل موظفاً حكومياً في أحد المواقع الأمنية الحساسة لدى حكومة جائرة ( و يراها البعض كافرة ) و أقوم من خلال عملي بالتخذيل و الدفاع عن بعض من يراد بهم سوءٌ لأنهم قالوا : ربنا الله ثم استقاموا ، فأُعَمِّي عنهم ما استطعت ، و إن لم أتمكن من رفع الظلم عنهم فلا أقل من تخفيفه عنهم أو عن بعضهم ، فهل أثاب على عملي هذا ، أم أن عليَّ تركه و البحث عن عمل آخر ، لأن فيه إعانةٌ للظلمة ، و تولٍّ للكافرين ، أو ركونٌ إليهم ، مما يجعل كسبي حراماً ، و يلحقني في الحكم بحكام الجور ، و العياذ بالله .
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إن العمل في كنف الظلمة ظلم ، و تولي الكفَرة كُفر ، و الركون إليهم موجب لعذاب النار و العياذ بالله .
و لكن ثمة أحوال تخرج عن هذا العموم لما قد تقتضيه ضرورة الذب عن أهل الإسلام ، أو العجز عن الإفلات من قبضة الحاكم الظالم أو الكافر ، فيكون حال المؤمن حينئذ كحال مؤمن آل فرعون إذ يكتم إيمانه .
و يجب على من كان هذا حاله أن يتأسَ بذلك المؤمن الذي خلَّد الله ذكره في كتابه العزيز ، إذ استغل قربه من فرعون ليذب عن نبي الله موسى عليه و على نبينا الصلاة و السلام بقوله فيما حكاه الله تعالى عنه : ( أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَ قَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) [ غافر : 28 ] حينما أراد فرعون قتل نبيِّ الله .
فإِنْ كان ما تقوم به ـ أخي السائل ـ من عمل ( و الإنسان على نفسه بصيرةٌ ) على ما ذكرت من نصرة المظلومين أو بعضهم ، أو رفع الظلم أو تخفيفه عنهم ما استطعت ، و بانصرافك عن هذا العمل سيوسد الأمر إلى من يتربصون بالمؤمنين ، و يريدون بهم السوء ، فأرى أنك تثاب بنيتك ، و لا حرج في بقائك في مقامك الذي أنت فيه محتسباً ، ما لم تكن ممن يقتدى بهم ؛ كي لا يفتن بك من لا يعرف حقيقة أمرك ، فيقوم في مثل مقامك ـ تقليداً لك ـ على خلاف ما هو سائغ لك .
و قد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمَّن تولى جباية ما يوجبه الحكام الظلمة من إقطاعات غير ما أوجبه الله في أموال المسلمين ، و كان بوسعه أن يخفف بعمله ذلك الظلم ، و لا يقدر على رفعه بالكلية ، فقال رحمه الله في جوابه : ( و المقطع الذي يفعل هذا الخير يرفع عن المسلمين ما أمكنه من الظلم ، و يدفع شر الشرير بأخذ بعض ما يطلب منهم ، فما لا يمكنه رفعه هو محسن إلى المسلمين غير ظالم لهم ، يثاب ، و لا إثم عليه فيما يأخذه على ما ذكره ، و لا ضمان عليه فيما أخذه ، و لا إثم عليه في الدنيا و الآخرة إذا كان مجتهدًا في العدل والإحسان بحسب الإمكان . .. فهذا المتولي المقطع الذي يدفع بما يوجد من الوظائف ، و يصرف إلى من نسبه مستقراً على ولايته و إقطاعه ظلماً و شراً كثيراً عن المسلمين أعظم من ذلك ، و لا يمكنه دفعه إلا بذلك ، إذا رفع يده تولي من يقره و لا ينقص منه شيئاً ، هو مثاب على ذلك ، و لا إثم عليه في ذلك ولا ضمان في الدنيا و الآخرة . .. و كذلك الجندي المقطع الذي يخفف الوظائف عن بلاده ، و لا يمكنه دفعها كلها ؛ لأنه يطلب منه خيل و سلاح و نفقة لا يمكنه إقامتها إلا بأن يأخذ بعض تلك الوظائف ، و هذا مع هذا ينفع المسلمين في الجهاد ، فإذا قيل له : لا يحل لك أن تأخذ شيئًا من هذا، بل ارفع يدك عن هذا الإقطاع ، فتركه و أخذه من يريد الظلم ، و لا ينفع المسلمين ؛ كان هذا القائل مخطئاً جاهلاً بحقائق الدين ، بل بقاء الجند من الترك و العرب الذين هم خير من غيرهم ، و أنفع للمسلمين ، و أقرب للعدل على إقطاعهم ، مع تخفيف الظلم بحسب الإمكان ، خير للمسلمين من أن يأخذ تلك الإقطاعات من هو أقل نفعاً و أكثر ظلماً .
والمجتهد من هؤلاء المقطعين كلهم في العدل و الإحسان بحسب الإمكان ، يجزيه الله على ما فعل من الخير ، و لا يعاقبه على ما عجز عنه ، و لا يؤاخذه بما يأخذ و يصرف ، إذا لم يكن إلا ذلك كان ترك ذلك يوجب شراً أعظم منه ) . [ مجموع الفتاوى : 30 / 642 و ما بعدها باختصار ] .
قلتُ : و في قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ( إذا لم يكن إلا ذلك كان ترك ذلك يوجب شراً أعظم منه ) ردٌّ للمسألة إلى القاعدة الفقهية القائلة : إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما . و العلم عند الله .
فاثبت أخي الكريم على ما ذكرت من الخير ، و سدِّد في عمَلك و قارب ، و اتق الله ما استطعت ، و احرص على ما تنفع به إخوانك ، أو تخفف عنهم ، و لا تكن عوناً لأحدٍ عليهم و إن كثرت المغريات ، فإن الزمان زمان فتنة ، و ليس العجب ممن هلك كيف هلك ، و لكن العجب ممن نجا كيف نجا ، و الله المستعان .
هذا ، و الله أعلم و أحكم ، و ما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت و إليه أنيب .(/1)
العمل للإسلام وحاجته للحماية
بدران الحسن 28/11/1425
09/01/2005
بين يدي المشكلة:
في كتابه القيّم (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) كتب مالك بن نبي -رحمه الله- منذ أكثر من أربعة عقود من الزمن يبين طرق ودور قوى ومراكز الصراع العالمية في قتل الأفكار والمشاريع في العالم الإسلامي، وذكر بأن هذه القوى تمارس مجموعة من الخطوات المتنوعة تتمثل الأولى في محاولة تشويه الفكرة ذاتها، فإذا فشلت هذه الخطوة فإنها تعمل على تخوين أصحاب الفكرة ذاتها لفكرتهم من خلال الوعد والوعيد أو من خلال تشويههم أمام الرأي العام المناصر لهم وللفكرة، فإذا فشلت هذه الخطوة، فإن الخطوة الأخرى هي تخوين الرأي العام ذاته للفكرة ولأصحاب الفكرة، وذلك من خلال إدخالهم في اهتمامات أخرى تبعدهم عن جوهر الفكرة الأساسية، أو من خلال إشعارهم بفقدان الجدوى منها أو عدم أهميتها.
وهي خطوات أو آليات ليست منفصلة عن بعضها البعض؛ فقد تكون متتالية الوقوع والتنفيذ، وقد تكون متزامنة، وذلك حسب حالة التلاحم بين الفكرة وأصحابها والجمهور المناصر لها.ولعل هذا ينبه إلى موضوع المحافظة على الإسلام ومنجزات الدعوة الإسلامية وحماية إطارها المرجعي لكي لا يقع له تحريف المبطلين، ولا انتحال الجاهلين، ولا تأويل الغالين. وهي مشكلة عويصة نواجهها في عصر العولمة، هذا الذي تكالبت فيه قوى البغي على أمتنا وديننا، وعلى جهود الصحوة وتريد أن تأتي على بنيانها من القواعد. فإذا أردنا أن يستمر الإسلام أصيلا، وأن تزهر الدعوة، وتؤتي أكلها في هداية الناس وتحقيق النهضة، فإننا ينبغي أن نضع مشكلة الحماية في بؤرة أفكارنا وتخطيطنا ومشاريعنا.
السيرة ودروس الحماية في مكة:
وقد لفت الأنظار إلى هذا الموضوع كثير من أعلام الصحوة قديماً وحديثاً، ومن بينهم الأستاذ الشيخ الطيب برغوث أحد قادة ورواد الصحوة في المغرب العربي، وصاحب كتاب "حماية الدعوة والمحافظة على منجزاتها" والذي نشر منذ عدة سنوات. حيث نبّه فيه إلى الاستفادة والتأمل في الدعوة النبوية في المرحلة المكية حين كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحافظ على الدعوة في محتواها وفي أفرادها، ذلك أن التجربة النبوية القدوة تمثل منهجاً ينبغي أن يتم التأسي به، بل يلزم دعاة المشروع الإسلامي والعاملين للإسلام أن يرتقوا بفهمهم وأدائهم الرسالي إلى مستوى الاقتداء بالتجربة النبوية المعصومة.
ولعل هذا يعطينا زاوية أخرى للنظر إلى التجربة النبوية القدوة من خلال تأمل السيرة وجعلها محلاً للدرس والاستفادة في استخراج النواظم المنهجية والآليات التي وظفها النبي -صلى الله عليه وسلم- في حماية الدعوة ورجالها من التشويه والتحريف والاختزال، وحماية مضمونها ومرجعيتها وقيمها.
والعمل للإسلام في هذه المرحلة العصيبة التي قُلبت فيها المفاهيم، وظهر فيها الطيب شريراً والشرير طيباً، وفي هذه المرحلة التي يريد أن يُفهمنا فيها كثير من أعداء الإسلام أن الدعوة إلى التوحيد والتزام السنة تطرّف، وأن عبادة القبور والدروشة والتجني على السلف تحرر واعتدال.
في هذا الظرف ينبغي علينا أن ننظر بنظرة كلية للتجربة النبوية لنستفيد منها في الوصول إلى منهجية سليمة للعمل للإسلام، "تضمن عدم تسرب الخلل إلى مضمونه المرجعي، وحمايته من التشويه، والتحريف، والاختزال في كل مراحل الطريق، وضمان روح الاستمرارية، والمحافظة على المنجزات، واستثمارها بفاعلية".
وإذا نظرنا إلى السيرة النبوية فإنها تسجل لنا بعض التحديات التي واجهتها الدعوة في مضمونها وفي قياداتها وفي قاعدتها؛ ففي مستوى الدعوة وقيادتها كان مشركو قريش يحاولون النيل من مصداقية الدعوة ومصداقية النبي -صلى الله عليه وسلم- فاتهموه بأنه شاعر وبأنه مجنون وبأنه ساحر، وغيرها من التهم، كما أنهم حاولوا عزله -عليه الصلاة والسلام- وتركه يواجههم وحده من خلال محاولة استمالة عمه أبي طالب وبني هاشم ترغيباً وترهيباً.
كما أنهم حاولوا إظهار الدعوة الإسلامية والنبي -صلى الله عليه وسلم- بمظهر العجز، وعدم امتلاك مشروع حقيقي من خلال محاولة تقديم أسئلة تعجيزية، وتصعيد وتائر الاضطهاد والإيذاء، ثم في محاولة خنق الدعوة وأهدافها.
لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبدى عناية كبيرة بالمحافظة على الدعوة ورجالها الأوائل من التبديد والهدر، واستطاع أن يصمد هو وأصحابه في وجه محاولات الاحتواء والضغوط والمعاناة.
كما تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بحكمة ومرونة مع معطيات الواقع بما يضمن حماية الدعوة والسير قدماً نحو الأهداف المنشودة. وهي مرونة منضبطة وعت سلطان القبيلة وعاداتها، واستفادت منه. كما استفادت قيادة الدعوة من تناقضات القوى المضادة. واستمرت على ثبات سيرتها وانسجامها مع أطروحات الدعوة، وحرصت على ضمان استمراريتها.(/1)
كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان واعياً بما تتعرض له قاعدة الدعوة من الذين أسلموا من مختلف الطبقات الاجتماعية ومختلف الأجناس والأعمار والأماكن. وكان على وعي بالصراع الذي يُراد له الدخول فيه وإدخال المسلمين فيه، وتحاشى الدخول في صراع غير متكافئ مع القوى المضادة للدعوة، واستطاع ضبط أعصاب أصحابه وتثبيتهم في وجه عنف المواجهة وطولها، ولم يكن عليه الصلاة والسلام يسمح لأتباعه وأصحابه بالدخول في المواجهة، بل كان يوصيهم بالصبر والابتعاد قدر الإمكان عنها.
بل إن عملية التربية التي يكان يتعهدهم بها كانت تركز على عدم الدخول في صراع غير متكافئ مع أي قوى مضادة، وإبعاد أتباعه عن جوّ الصراع، وتربيتهم على توطين أنفسهم على الانضباط النفسي، وضبط الأعصاب، ومواصلة الاحتكاك بالمجتمع، والدعوة والدفع بالتي هي أحسن.
وماذا بعد؟
هل يقال: إن ذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه كان مؤيداً بالوحي؟ وهل يُقال: إن المكان غير المكان، والزمان غير الزمان؟
إذن ما فائدة النبوة؟ وما فائدة الاتباع؟ وما فائدة التأسي والاقتداء به صلى الله عليه وسلم إذا لم نتعلم منه دروساً في بعث نهضتنا من جديد، وفي استعادة المبادرة؟
وما الفائدة من قصر الاتّباع على الاتّباع في الحكام الجزئية من وضوء ولباس وحلق ومشي، وترك المجالات الأخرى من التأسي والاقتداء به؟ أليس فيه طعن في سنته عليه الصلاة والسلام واتهام للإسلام بالقصور؟
لا شك أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- الذي علّمنا الصلاة والزكاة والحج والصوم، هو نفسه محمد النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي علّمنا كيف ندعو، وكيف نحل مشكلاتنا الاجتماعية والنفسية والفكرية والسياسية، وهو النبي نفسه -صلى الله عليه وسلم- الذي ينبغي أن نتعلم منه ونقتدي به في كيفية حماية العمل للإسلام في هذا الزمان، الذي يشبه إلى حد كبير الزمن المكي الذي كان فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه رضوان الله عليهم يجاهدون في ضبط أنفسهم، وحماية دعوتهم، وتعريف الناس بالوحي، وبحياة الإيمان التي بها حياة الأمم والمجتمعات.
وما نختم به القول هو الرجاء أن يتنبه العاملون للإسلام إلى طرائق التشويه والتحريف والانتحال التي تُحاك ضد هذا الدين وضد هذه الأمة، كما ينبغي أن يستفيدوا من الآليات والطرائق التي ابتكرها جيل الإسلام الأول في مواجهتها، فننجو كما نجَوْا، وننجح كما نجحوا.(/2)
...
العمل للدين واجب الجميع
رئيسي :الدعوة :
يتناول الدرس قضية العمل للدين واستنفار الطاقات المعطلة لتقدم لدينها،وإحياء الإيجابية في نفوس المسلمين بعد أن عشعشت السلبية على مواقع كثير من المسلمين، فحملوا دينهم بضعف، والله يأمرنا أن نحمله ونأخذه بقوة، وذكر نماذج للعاملين لدينهم واقترح بعض الوسائل لخدمة هذا الدين والدعوة إليه.
? إنها القضية التي ينبغي أن لا نمل طرحها، ولا نسأم تكرارها حتى تتجذر في القلوب، وتتشبع بها النفوس، وتصبح حية في مدارك الناس، حاضرة في واقعهم.. إنها قضية العمل للدين.. قضية كل مسلم .. قضية استنفار الطاقات المعطلة لتقدم لدينها .. قضية إحياء الإيجابية في نفوس المسلمين بعد أن عشعشت السلبية على مواقع كثير من المسلمين، فحملوا دينهم بضعف، والله يأمرنا أن نحمله ونأخذه بقوة.
? إنها قضية تحريك الدماء في هذا الجسد الضخم من الملايين من المسلمين الذين خبا لهيب الإيمان في حياتهم، فإذا هم كما وصفهم نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ' رواه أبوداود وأحمد .
?إنها قضية جَرْدِ الحسابات لجهود شباب الصحوة الذين أشرقت بهم سماء الأمة، ثم نبحث عن جهودهم، فإذا جهودهم لا تتناسب مع عددهم، وعطائهم لا يتناسب مع هذا الجموع، وقوة زخمها.
? إنها قضية رفع مستوى العامة للإحساس بأن الأمة في أزمة . نقف مع قضية العمل للدين، وأتناولها في محاور خمس:
أولاً: العمل للدين قرين الانتماء إليه: هذه قضية كانت واضحة محسومة عند أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم، يوم كان أحدهم يبسط يده إلى اليد المباركة ليبايع محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم يستشعر أن هذه البيعة قد ألبسته لباس الجندية ليعمل لهذا الدين، وخذ هذا من نماذج أعرضها سريعاً:
قصة الطفيل ابن عمر الدوسي رضي الله عنه: حين جاء إلى مكة يوم كانت قريش تضرب حول هذه الدعوة سياجاً شائكاً من الحرب الإعلامية، فتتلقى كل وافد إلى مكة، فتقول له:' إنا نحذرك غلام بني عبد المطلب، إنه يقول كلاماً يسحر به من يسمعه، فيفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، احذر '.. تلقت هذه الدعاية الطفيل بن عمرو، فما زال به الجهاز الإعلامي القرشي الكافر حتى عمد إلى القطن فوضعه في أذنيه، ودخل الحرم. ويشاء الله أن ينفذ كلمات رسوله على رغم أنف قريش، وعلى رغم القطن الموضوع في أذني الطفيل، فيسمعُ قراءةَ الرسول ِصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يترسلُ بكلام الله الذي فلق سبع سماواتٍ حتى تعطرت به أنحاءُ مكة، فسمع كلاماً لم يسمع مثله قبل، فأقبل على نفسه يراجعها، ويقول:' عجباً إنني رجل عاقل لبيب فكيف أعير عقلي غيري؟ ألا أتيت إلى هذا الرجل فسمعت منه، فإن كان خيراً؛ كنت أحق به، وإلا فإني أعرف كلام العرب: شعرها ونثرها، وكهانتها وسحرها، فنزع القطن من أذنيه ثم جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال:' إني قد سمعتُ قولَ قومك فيك، وإني أحبُ أن أسمع منك، فاعرض عليَّ ما عندَك، فعرض عليه الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإسلام وعلّمهُ القرآن، فآمن مكانه'.
بإمكانِك أيها الأخُ المبارك أن تتساءل كم شُرع من شرائع الإسلام حينئذ، إنه التوحيدُ وشرائعُِ قليلةَ.
? أسلم الطفيلُ مكانه ثم شعر بهذه المسئولية للتو، فقال:' يا رسولَ الله إن دوساً كفرت بالله وانتشر فيهم الزنا، فأرسلني إليهم'.
سبحان الله! إن الرجلَ لم يتلق الإسلام إلا الآن! ولكنَه شعرَ للتو أن هذه البيعةَ على الدخولِ في الدين تستوجبُ العمل له، فإذا به يتحولُ في مكانه داعية ونذيراً إلى قومه.. أرسلني إليهم إنهم قد كفروا بالله وفشا فيهم الزنا.
فأرسلَه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم، ودعا الله أن يجعل له آية فلم انصب إليهم؛ خرجت الآية، وإذا هي نور في وجهه، فإذا وجهه يضيء كأن في وجهه سراج، فقال يا رب يراها قومي فيقولون: مُثلة، اللهم أجعلها في سوطي، فانتقلت إلى سوطه، فكان يحرك سوطه وفي طرفه مثل القنديل، وعرض الطفيل الإسلام على قومه، فأسلم بعض قرابته، واستعصت عليه عشيرته، فماذا فعل ؟ هل شعر بأن هذا أمر طبيعي لا يستثير وجدانه، ولا يحرك وجدانه؟ كلا، فقد ثارت في نفسه الغيرة على الدين، فعاد إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشكو إليه الحال، ويقول له بحرقة:'يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ دَوْسًا قَدْ كَفَرَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا'
فرفع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه الطاهرتين، وقال:'اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ' رواه البخاري ومسلم وأحمد .
والشاهدُ من هذه القصة: استشعارُ الطفيلِ رضي اللهُ عنه بمجردِ أن دخلَ في الدين مسئولية الدعوة إليه.(/1)
فمنذ كم دخلنا في هذا الدين؟ وما مدى استشعارنا لهذا الأمر؟ سؤال ندع الإجابة عليه إلى أعمالنا وهواجس قلوبنا!
أبو ذر رضي الله عنه: هذا الذي أسلم رابع أربعة، أتى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه البداية المبكرة للدعوة، فأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يغادر مكة؛ لأن وجوده وهو غفاري ليس بقرشي يشكل عبأ على الدعوة، والدعوة لا زالت في بدايتها، فليلحق بقومه، فماذا فعل؟ قال: والله لا أخرج من مكة حتى أصرخ بها بين أظهرهم.
? فإذا بأبي ذر الذي لم يحمل من الدين إلا التوحيد، يستشعر أنه يتحمل مسئولية تقديم عمل ما للدين، وليكن هذا العمل تحطيم حاجز الصمت الذي تبنيه قريش سياجاً على دعوة رسول الله، فيصرخ بالتوحيد بين ظهراني قريش، فإذا به يغدو إلى الحرم وقريش في نواديها فيه، فيصرخ وهو الرجل الأيد الشديد الجهوري الصوت:' أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله' فتثور إليه قريش من أنديتها، فتقع عليه، فيثور العباس ويخلصه من قريش . فقام أبو ذر بعد أن رأى الهلكة بعينيه.. فهل قام وهو يقول: الحمد الله الذي أنجاني، أين راحلتي إلى أرض قومي؟ كلا، قال: لا أذهب حتى أصرخ بها غداً. وفعلا يعود من الغد، ويصرخ بها، ويثورون إليه كما ثاروا بالأمس. ويثور العباس فيخلصه - وكان إذ ذات مشركاً - .
? فهل قال: لقد نجوت هذه المرة، وسألحق بقومي، وقد أديت ما علي، والحمد لله الذي نجاني من القوم الظالمين؟ نعم حمد الله، ولكن بالتزام أن يعود ثالثة. عاد أبو ذر ثالثاً، وليس على يقين أن العباس سيخلصه المرة الأخرى، ولكنه على يقين أنه بعمله ذلك يقدم عملًا إيجابياً للدعوة، ولتنشق آذان قريش بالدعوة التي تحاصرها بالصمت، وليعرف الناس سماع الشهادة، ونداء التوحيد، والخبر برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فإذا به ينادي ثالثاً، فيثورون إليه، ويقعون به، فيخلصه العباس.
فيمم شطر قومه غفار، فماذا فعل عندهم؟ لقد بدأ بأسرته، وقرابته، فدعا أمه، ودعا أخاه، ثم هب إلى قبيلته يدعوها؛ فأسلم نصفها.
أما النصف الأخر فقالوا: أليس صاحبك- يعني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعدك أنه إذا ظهر تلحق به؟ قال نعم.
قالوا: نحن إذا ظهر؛ آمنا ولحقنا به، أما الآن فننتظر.
فلما ظهر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ آمنت غفار كلها، فقالت بنو عمها قبيلة أسلم: ليس بنا عما رغب به بنو عمنا غنى، فأسلموا أيضاً. فَقَالَ النَّبِيًّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ' رواه البخاري ومسلم والترمذي والدارمي وأحمد.
? هذا الإنجاز تحقق على يد رجل اعتقد ربع العالم الإسلامي في وقته، ولم يحمل من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا التوحيد، ولكن حمل مع التوحيد الاستشعار للمسئولية تجاه هذه الرسالة، وتجاه هذه العقيدة، وأن دخوله لهذا الدين يستوجب العمل له.
ثانياً: العمل للدين وظيفة العمر: العمل للدين ليس مؤقتاً ولا محدداً بزمان ولا مكان، وإنما هو وظيفة العمر كلها.
واستشرف هذا المعنى من سير أنبياء الله، ورسله، والتابعين لهم بإحسان:
هذا نوح عليه السلام : يصف برنامجه في الدعوة إلى الله يقول:} إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا[5] {ثم يقول:} ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا[9] { 'سورة نوح'. ماذا بقي من حياة نبي الله نوح؟ الليل والنهار، العلن والإسرار، كل ذلك سخر للدعوة، ألف سنة إلا خمسين عاماً.. الحياة كلها دعوة !
وهذا يوسف عليه السلام : القي به في غيابة الجب، ثم في غيابة السجن. أدخل السجن يرسف في قيوده، يعاني لوعة الغربة، وألم البعاد، وقهر الظلم، يعاني كل هذه الآلام، ولكن مع هذا كله لا ينسى دعوته، فإذا به يحول السجن إلى مدرسة للتوحيد، مدرسة للدعوة. يتبين لنا فيها براعة الداعية، وحسن تأتيه، فإذا به يستقبل سؤال صاحبيه في السجن حينما يسألانه:} إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[36]{ 'سورة يوسف' .
فيتأتى أحسن التأتي في بيان دعوته:
? أولاً: يكرس حسن ظنهما به، فيقول:} قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا[37]{ 'سورة يوسف'.
? ثم يستغل تشوقهما للجواب على السؤال الذي طرحاه، فلا يجيب على السؤال مباشرة، ولكن يطرح القضية الضخمة التي تعيش في وجدانه، وهي رسالة الله، وعقيدة التوحيد، فيقول:} يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ[39]{(/2)
?ثم يندد بعقيدتهما وعبادتهما فيقول:} مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [40]{
? ثم يجيب بعد ذلك على السؤال:} أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ[41]{ 'سورة يوسف'.
? قضي بعد ماذا ؟ بعد أن ألقى عليهم محاضرة، مملوءة بالأدلة والبراهين، والتثبيت في التوحيد.. سبحان الله! نبي في هذه المعاناة، وعقيدته والدعوة التي يحملها حية لا تخبو ولا تلين.
بل إن أنبياء الله، ورسله، السائرون على أثرهم لا ينسون دعوتهم في أحرج اللحظات وأشد الساعات.. ساعة الموت:
هذا نبي الله يعقوب عليه السلام يصف الله لنا مشهد وفاته: حاله وهو يموت؟ ماذا قال؟ ماذا أنفذ وهو يودع الدنيا؟
} أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ [133] { ماذا قال لهم؟ الأموالُ كيف تجمعونها ؟ كلا،ولكن همُّ الدين، وقضية التوحيد:} مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي{ هذا الهم الذي بقي في قلبه، وهو يودع الدنيا،وهو الذي رباهم على التوحيد مذ منذ نعومة أظفارِهم، وعرف توحيدهم وصدقهم وإخلاصهم. ولكن الهم أضخم في القلب:} مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي{. ويجيء الجواب الذي يقر عينه:} قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ ءَابَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[133] {'سورة البقرة'.
ثم انظر إلى حالِ نبينا وقدوتنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الذي قضى ثلاثاً وعشرين سنةً في جهدٍ وجهاد وصبرٍ ومصابرةٍ.
وبعد أن أعذر إلى الأمة فأبلغها دينها، وأدى إليها الأمانة، تهيأ للحاق بالرفيق الأعلى، فإذا به في آخرِ عُمرِه يصاب بالحمى التي تستعر في بدنه خمسة أيام حتى إن حرارة بدنه يحس بها من يضع يده على الأغطية، ولكن هم الدينِ، وهم الدعوة، والعمل لا ينهزم في البدن الذي انهزمت فيه العافية.. إذا به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينفقُ آخرَ الأنفاسِ واللحظاتِ، نصحاً للأمة، نزل به الموت فاشتد به الكرب [ فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ ] رواه البخاري .
لكنَ هذه السكراتِ لم تلهِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن دعوته، ولا أمته، فإذا به في هذه السكرات ينفذ النداء للأمةِ نداءً يخترقُ حُجبَ التاريخِ، وترويه الدنيا في آخر لحظاتِ عمره، حتى أسمعنا: [ الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ] رواه أبوداود وابن ماجة وأحمد. حتى حشرجَ بها صدرُه، وغرغر بها حلقُه، واحتبسَت بها نفسه.. إنه هم العمل لدين في أقسى اللحظات، وآخر أنفاس الحياة.. هذا شأن أنبياء الله ورسله.. وهم المخاطبون أصالة بهذا الأمر.
وفقهه منهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان: وفتش حياة أي صحابي لا تجد يوماً منها مهدراً ليس فيها عمل للدين.
وخذ مثالاً على ذلك:
جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قضي نحواً من إحدى عشرة سنةً في المنفى، في دار البغضاء، البعداء في الحبشة. لم يأخذ أثناءها أجازة عرضية ولا مرضية ولا اضطرارية، إحدى عشرة سنةً متواصلةً يعاني ألم الغربة، كلُ ذلك في ذات الله حتى إذا حانت الفرصةُ؛ عاد في السنة التي فتح فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر، وما يدريك ما فتح خيبر؟
ففرح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدوم جعفر فرحاً شديداً، ولكن بما كافأ النبيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا القادَمَ المولعَ بالغربة والبعاد، الذي أعطى للدين عشر سنواتً من الغربة لوعة وأسى.. بما كافأه؟ هل أصدر مرسوماً بتعيينه أميراً على البلدة الفلانية؟
هل اصدر أوامره بأن يمنح جعفر أجازة لبقية العمر، فقد قدم ما عليه، وأدى للدين ما يكفي؟ كلا، كلا! كافأه مكافأة من نوع آخر، ما هي؟ كافأه بأن أتاح له الفرصة مرة أخرى ليعمل للدين ويقدم للدين.. هذه المكافأة التي يحسنها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويبتهج بها أصحابه، فإذا به يعين في منصب النائب الأول للقائد الأعلى للقوات المسلحة المتوجهة إلى مؤتة. ويذهب حفياً بهذا المنصب، فرحاً بفرصة المشاركة للعمل للدين، فحياته كلها أوقفت لله.. ليس فيها يوم يسمى إجازة من العمل للإسلام.
ويحدث له هناك العجب! يقتل القائد الأعلى زيد بن حارثة، فتتحول المسئولية إليه، فينزل عن فرسه، فيعقرها، فكان أول عقر في الإسلام، ثم يتقدم والراية في يمناه، ينشد نشيد الداخل في الجنة:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنى عذابها علي إن لاقيتها ضرابها(/3)
فتقطع يده اليمنى، فيتلقف الراية باليد اليسرى، فتقطع، فيحتضنها بيديه، تحتوشه الرماح، تقطعه السيوف، تضربه السهام، وكل ذلك وهو صابر لتبقى الراية مرفوعة..حتى يتقدم منه جندي رومي فيقده بالسيف نصفين.
ثم يصف لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مشهد تلك الجثة المعطرة، وذلك الإهاب الممزق فيقول: [ وَقَفْتُ عَلَى جَعْفَرٍ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ قَتِيلٌ فَعَدَدْتُ بِهِ خَمْسِينَ بَيْنَ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ فِي دُبُرِهِ يَعْنِي فِي ظَهْرِهِ ] رواه البخاري.
بضعاً وتسعين ضربة كلها يتلقاها مقبلاً، غير مدبر، لم يعرف العدو له قفا، ولا رأى له ظهراً.. إنها حياة عاملة للدين، لا تعرف هدنة في المواجهة مع كل عدو للدين .
ثالثاً: العمل للدين ليس وقفاً على فئة معينة: فمن شبه الشيطان التي يرجف بها على كثير من المسلمين: أنهم ليسوا من الفئة التي تعمل للدين، فالعمل للدين مسئولية أصحاب اللحى الطويلة والثياب القصيرة..مسئولية الهيئات ورئاسات الإفتاء، ومجموعة من الدعاة ذوي العمل الدعوي الجماهيري. أما أنت فمصدر للتلقي، يكفيك أن تصلي الصلوات الخمس، وتصوم رمضان، وتحج البيت في العمر مرة.. هكذا يرجف الشيطان على البعض موسوساً: ثم إنك تذكر يوم كذا وكذا ماذا فعلت؟ ألا تذكر غدرتك؟ ألا تذكر خطيئتك؟ ألا تذكر ذنبك؟ أمثلك مؤهل لأن يعمل للدين بكل هذه الأقذار.. بكل هذه الخطايا.. بكل هذه الذنوب؟
فما يزال الشيطان يلقي عليه قصيدة في هجائه، حتى يستشعر أنه ليس من الفئة التي تعمل للدين، إذاً: ليس هو أهلاً لذلك.
أيها المبارك: إن العمل للدين ليس مصنفاً إلى شرائح وفئات، فكل مسلم بانتمائه للإسلام عامل للدين، مهما كان فيه من خطأ، ومهما اعتراه من تقصير.
? فينبغي أن لا تضيف إلى أخطائك خطأ آخر، وهو القعود عن العمل للدين.
? وينبغي أن لا تضيف إلى ذنوبك- إن كنت استوحشت من ذنوبك- ذنباً آخر وهو خذلان العاملين للدين.
? فاعمل معهم، فلعل عملك لدين أن يطفئ حرارة الذنوب وتكاثر السيئات..وخذ لذلك مثالين أعرضهما عرضاً سريعاً:
أولًا: كعب بن مالك : ذلك الصحابي ارتكب خطأ بأنه لم ينفر مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والله يأمرهم أن ينفروا معه يقول:} مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ[38] { 'سورة التوبة'.
وقفل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راجعاً من المعركة، فجعل كعب يزوق في خاطره كلاماً، ويجمع في نفسه أعذاراً ليعرضها على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند المسائلة التي كان موقناً أنه سيُسائلها. وإذا به يجد نفسه بين يدي رسول الله، يستقبل هذا السؤال:' يَا كَعْبُ مَا خَلّفَكَ' وإذا بكل هذه الأعذار تتبخر،فيقول:' وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ '. فيقاطع لا يكلم، فكانت حاله كما وصفها الله:} ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ [118] { 'سورة التوبة' . كان يتقلب في الأسواق لا تفرج له شفة ببسمة ولابكلمة، وحمل كعب مرارته كلها إلى أحب الناس إليه، ابن عمه أبا قتادة رضي الله عنهما. فتسور عليه الحائط ودخل عليه في بستانه، كان كل منهما يصف الآخر بأنه أحب الناس إليه، يقول كعب: 'فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ فَقُلْتُ يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَسَكَتَ فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَتَوَلَّيْتُ' هل تصورنا هذا الظرف النفسي الذي يعيش فيه كعب.
وفي وسط هذه المحنة والمرارة ـأتي إليه رسالة ملكية من ملك غسان، يأتي بها مندوب خاص يسلمها إليه، فيقرأها كعب، فإذا نص الرسالة كالتالي:' أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ' .
الحق بنا لتعين ضمن الحاشية، وتتمتع بكل ما في بلاط الملوك من لذة وشهوة وترف، وتكون خدينا للملك.
فماذا قال كعب لحامل الرسالة: هل قال: أنتظر إلى الغد حتى أفكر في أمري؟أم قال: انتظر حتى أصلي صلاة الاستخارة ؟(/4)
أم قال: انتظر حتى أستشير ذوي الرأي من أهلي ؟ أم قال: انتظر حتى أنظر ما ينجلي عليه الأمر، فإما أن نبي الله أنهى المقاطعة وبقيت في قومي، وإلا نظرت في أمري؟ لم يجب بأي جواب من هذه الأجوبة، ولكن استرجع وقال:'إنا لله و إنا إليه راجعون لقد طمع بي رجل كافر'.. الولاء للإسلام الذي لا يهن حبله مهما قست الظروف، واشتدت المصائب.. يبقى الولاء للإسلام أعظم من هذا كله، أعظم من كل محنة وأقوى من كل إغراء، وأشد من كل مواجهة.
لقد طمع بي رجل كافر، فما هو حق الرسالة؟ يقول كعب:' فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهَا ' ولأتحمل لوعة المقاطعة ما دمت موصولا بالله، أحتفظ بشرف الانتماء إلى هذا الدين.
? أليس هذا درساً لكل صاحب خطيئة، ولكل مقارف ذنب: أن انتمائه للإسلام أقوى وأعظم وأشرف، وأزكى عند الله من كل سبب في الأرض ونسب فيها ؟؟ بلا.
ثانياً: قصة أبي محجن الثقفي: هذا الرجل يوجه رسالة إلى الذين يظنون أن مقارفة بعض الصغائر، أو الوقوع في بعض الكبائر؛ يعطيهم أجازة من العمل للدين مفتوحة إلى يوم الدين، كلا.. أبو محجن رجل ابتلي بإدمان الخمر، فكان لا يقلع منه، ويؤتى به فيجلد، ثم يعود، ولكنه لم يفهم أن إدمانه للخمر يعطيه عذراً ليتخلى عن العمل للدين. فإذا به يحمل سلاحه ويسير مع الموكب صوب القادسية ليقاتل هناك الفرس، وليقدم دمه بسخاء لـ لا إله إلا الله.وهناك يقع مرة ثانية، فيشرب الخمر وهو مع الجيش، ويؤتى به إلى سعد رضي الله عنه ثملاً، فما هي عقوبته؟ عقوبته: يحرم من المشاركة في المعركة جزاءً له، وردعاً لأمثاله . عقوبة أليمة! وتصطف الجيوش للمواجهة، فإذا بسعد ينتظر أن يشارك في المعركة، ولكنها يبتلى بالقروح في جسده، فلا يستطيع أن يثبت على الخيل، فتوضع له مقصورة يدير منها العمليات عن بعد.
وبدأ القتال، وهزمت الخيل، وثار غبار المعركة، وعلت أصوات الفرسان، وفتحت أبواب الجنة، وطارت أرواح الشهداء، وأبو محجن يرى ذلك كله، فتحركت أشواقه للموت وللشهادة، فعبر عن هذه الآلام بأبيات، يقول فيها:
كفى حزنا أن تطرد الخيل بالقنى وأترك مشدوداً إلى وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغلّقت مصارع دوني قد تصم المناديا
وترى امرأة سعد هذا المشهد، فيقول لها: يا سلمى فكي قيدي، وأعطيني فرس سعد وسلاحه، فإما أنا رجل قتلت فاسترحتم مني، وإلا والله إن أحياني الله لأعودن حتى أضع رجلي في القيد. وفعلا تفك قيده وتعطيه فرس سعد وسلاح سعد، فإذا بميدان المعركة يشهد فارساً يكر فيها يضرب ضرب المحترف للقتال، فيعجب سعد ويقول ما أرى:'الضرب ضرب أبي محجن، والكرُ كر البلقاء -فرس سعد- ولكن أبا محجن في القيد والبلقاء في الإسطبل'.
وتنتهي المعركة، ، فإذا بسعد يسأل: من الفارس الذي رأيته كأبي محجن على فرس كالبلقاء؟ ويأتيه الجواب من سلمى: ذلك أبو محجن، وتلك البلقاء.. أما كان في القيد؟ بلا ولكن كان من شأنه كذا وكذا.
فيكبر سعد رضي الله عنه، ويقوم إلى أبي محجن يفك بيديه القيود من رجل أبي محجن ويقول:' قم فو الله لا أجلدك في الخمر أبداً'. فقال أبو محجن: كنت أشربها يوم كنت أطّهر بالجلد، أما الآن فو الله لا أشربها أبداً. وكيف يجرئ أن يشربها وقد جرب عقوبتها التي كانت الحرمان من المشاركة في العمل للدين.
? فهل نفقه نحن بكل أخطائنا وعيوبنا ونقائصنا: أن كل ذلك لا يؤهل لأن ندع العمل للدين، بل ينبغي أن لا نضيف ذنباً آخر، وتقصيراً آخر.. وهو ترك العمل للدين.
رابعاً: العمل للدين موزع في أدوار بين المسلمين، وليس مسلم يعجز أن يجد له دوراً: يفاجئك كثير من المسلمين حينما تطرح عليه هذه القضية أن يتساءل: أنا ما دوري؟ فلستُ بالعالم فأفتي الناس.. ولا بالخطيب فأخطب بالناس.. ولا بالداعيةِ فأدعُو الناس.. ما دوري ؟
? والجواب: ينبغي أن نزيل من أذهاننا وهماً كبيراً: وهو أن العمل للدين هو العمل الجماهيري فقط: في الخطب والمحاضرات، و..و.. كلا.. العمل لدين أدوارٌ كثيرةُ، ومسارب الدعوة بعددِ أنفاسنا، ألا رأيت ذلك الطائر الأعجم: الهدهد.
الذي كان يعيش في كنفِ سليمان عليه السلام، الذي سخر الله له الريح، والجن، وآتاه ملكاً لم يؤته أحداً من العلمين.
لم يقل الهدهد: ما دوري؟ أنا بجانب هذا الرسول؟ ما دوري أنا بجانب هذه الإمكانات؟ ماذا أفعل؟ يكفي أن أبقى طائراً في حاشية الملك.. كلا.(/5)
? لقد جاء هذا الطائرُ إلى نبي الله سليمان يخاطبه بكل ثقة يقول:} أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ { ثم يصف إنجازه فيقول:} وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ[22]إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ[23] { ما هي المشكلة:} وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ[24] { ثم يلقي خطاباً استنكارياً قائلاً:} أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ[25] {'سورة النمل'.
? فإذا كان هذا الهدهد قد وجد له دوراً، أفتعجَزُ أنت بما آتاك الله من ملكات وقدرات أن تجدَ لك دوراً في خدمة هذا الدين والعمل له؟
? ثم أنظر إلى ذلك الرجل الذي أخبرنا الله خبره، الرجل الذي جاء من أقصى المدينة، وفي المدينة ثلاثة رسل، ومع ذلك لم يقل هذا الرجل: ما دوري بجوار ثلاثة من رسل الله؟ فجاء كما أخبر الله:} وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ[20]اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ[21] {'سورة يس'. فلم يفهم هذا الرجل أن وجود ثلاثة من رسل الله في ميدان واحد يعذره من الدعوة إلى الله، بل دعا مع دعوة ثلاثة رسل. فوجود الدعاة في الساحة، ووجود العاملين في الساحة، لا يعذرك في القعود، بل يوجب عليك مسئولية التعاون معهم، ونشر دعوتهم، وحمل رسالة الله، ورسالة أنبياء الله التي يبلغونها.
خامساً: أمثلة من الواقع ونماذج من العمل : التي يمكن أن يقوم بها كل أحد، وأن يقاس غيرها عليها، أذكرها سرداً سريعاً:
الاهتمام والتوتر العاطفي: هل بحثت داخل همومك وعواطفك عن هم الإسلام بينها؟ كم تساوي مساحته في خارطة عواطفك واهتماماتك؟
? هل نلقاك في يوم من الأيام مشرق الوجه منطلق الأسارير يطفح البشر على محياك، ويفيض السرور على وجهك، فنسألك:
ما الذي سر خاطرك وأبهجك ؟ فتقول: فرحت بعز للإسلام سمعت به فهو الذي أفرحني.
? هل نلقاك يوما مبتئسا، حزيناً مهموماً، فنسألك: أخسرت في تجارة؟ أو رسبت في مادة؟ أو مات لك قري؟ فتجيب:ليس شيء من ذلك، ولكن آلمني، وأحزنني أن حرمة من حرمات الله انتهكت. أفلا يحزنني ذلك؟ بلا والله يحزن وتتفتت له القلوب كمداً، إذا كان فيها حياة، يقول سفيان الثوري رحمه الله:' إن كنت لأرى المنكر لا أستطيع تغييره فأبول دماً ' تنفت كبده حرقة.
ليس الإنكار في القلب أمراً سلبياً مجرداً، ولكن أن تذوب حشاشات النفس كمداً على حرمات الله أن تنتهك.
هل يوجد هم الدين وقضيته في دعائك ؟ فترفع إلى الله في سجودك الدعاء: بأن يعز الإسلام وينصر المجاهدين، ويؤيد الدعاة الصادقين، ويخذل كل من ناوأ الدعوة، وكل من حاصر الكلمة، وكل من وقف في وجه رسالة أنبياء الله.
إن الله يقول:} أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ[62] { 'سورة النمل'.فهل بعد هذه الضرورة التي تعيشها أمتنا ضرورة؟
وهل بعد هذا السوء الذي تعايشه الأمة سوء؟
? النصارى: أمسكوا بمقاليد أمتنا اليوم، فإذا هم أولياء أمورنا، مصالحنا بأيديهم، قضايانا أوراقها في أيديهم.
?اليهود: الذين لم تقم لهم دولة منذ آلاف السنين تجمعوا اليوم، وأقاموا لهم دولة في أحضان أمتنا.
?الرافضة: اليوم يرفعون رايتهم، ويستعلنون بدعوتهم وعقيدتهم الفاسدة في أماكن من عقر دار الإسلام حتى استعلنوا على صعيد عرفات بلعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
أبعد هذه ضرورة ؟ أبعد هذا السوء سوء؟ فهل صدعنا السماء بالدعاء؟ إن هذه الأمة لا تخلوا من عبد صالح لو أقسم على الله لأبره، ولكن هل ضججنا بالدعاء ؟ هل حظر هم الدين وقضيته في دعاءنا؟!
توزيع الأشرطة والكتيبات : هل عمدت إلى راتبك، فإن كان راتبك بالمئات أخرجت منه بالريالات، وإن كان راتبك بالألوف أخرجت منه بالعشرات، ولكن يكون مورداً منتظماً، تذهب إلى مكتبة التسجيلات لتشتري شريطاً تنتفع به، فتذكر أنك صاحب دعوة وصاحب قضية فتقول:هذا الشريط لي، ولكي أكون داعية فأشتري شريطا آخر للدعوة من المصروف الثابت الذي عينته لذلك، كم شريطاً سيوزع؟ وكم كاتبا سيوزع في مجتمعنا؟ إن أضخم شركة نشر تعجز عن تضاهي هذا المجهود لو وجد في حياتنا.
حلق تحفيظ القرآن الكريم : هل تنادى لها الذين يتساءلون دائماً: ما دورنا؟ هل انتدب لها فئام منهم، فقالوا:سنكفي الأمة هذه الثغرة، وعلى بقية الشباب أن يكفونا ثغرات أخرى، فأقمنا حلق القرآن التي يوجد فيها الشباب الصالح، الذي يعلم فتيان المسلمين القرآن وتعظيم من أنزل القرآن،وحب من جاء بالقرآن، والولاء لأهل القرآن،والبراءة من أعداء القرآن.(/6)
وإذا بنا نمارس خطة بعيدة المدى:' بطيء لكنه فعال' فنجد أنفسنا بعد سنوات ندفع إلى الساحة بمئات الحفظة، وعشرات من العلماء والفقهاء.. إننا قد تخلينا مع الأسف عن هذا الواجب، وعهدنا به إلى أخوة لنا، يقوم حاجز اللغة بينهم وبين هذه الرسالة، أتينا بالعجمان من أنحاء شتى ليعلموا أبناءنا القرآن، فعلموهم القرآن حروفاً، ولم يعلموهم القرآن قضايا، وهذه مسئولية نتحملها.
مساعدة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر: فإذا بالأمر بالمعروف يصبح واقعاً ملموساً في الحياة، لا يحتاج إلى استئذان،
حينئذ سنجد أصحاب المنكرات يستخفون بمنكراتهم، ولا يعلنونها؛ لأن الكلمة الناصحة، والدعوة الخالصة تحاصرهم، وتضيق على منكرهم.
توزيع النصائح الكتابية إلى أصحاب المنكرات خصوصاً أصحاب المنكرات العلنية: أصحاب مكتبات الفيديو..البقالات التي تبيع الدخان، والمجلات الخليعة..أصحاب المكتبات التي فيها الكتب المنحرفة، والمجلات المدمرة. هل تواصلنا معهم بالرسائل الناصحة؟ وأنتدب الشباب إلى استكتاب العلماء النصائح التي تفيض بالأخوة والمحبة، ثم قاموا بتوزيعها إليهم، فإذا بصاحب المنكر يتلقى خطابا باسمه الشخصي، يخاطب فيه إيمانه، ومحبته لله ولرسوله، ويناشده أن يكفي الأمة هذا الدمار الذي يتاجر فيه. إن هذا لو وجد لكان نوعاً من الدعوة يحاصر المنكر ليقضي عليه.
دعوة غير المسلمين إلى الإسلام : كم منا الذين يجيدون اللغات الأجنبية، ويتلمظون بكلماتها، وبين كل ثلاث كلمات كلمة أجنبية، ثم يسأل بعد ذلك: ما دوري أنا، فلست متخصصاً حتى أخدم الإسلام؟ هل دعوة يوماً من الأيام واحداً من غير المسلمين الذين تمتلئ بهم الشركات، والمؤسسات، والإدارات الحكومية؟ إنها فاحشة نقارفها عندما يأتي فئام من غير المسلمين، ويبقوا عندنا سنينا، ثم يعود أحدهم ولم يسمع يوماً شخصاً يدعوه إلى الإسلام.
? ولذلك:' ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا ' عندما لم ندعهم؛ دعونا، فرأينا النشرات التنصيرية، والصلبان توزع على أبناء المسلمين في هجر نائية من قبل القوات المشتركة المشاركة في حرب الخليج. أما نحن فدورنا في الدعوة مع الأسف لا زال دوراً كسيحاً.
زيارة الشباب في أماكن تجمعهم : مثل الشواطئ، والأرصفة، والمنتزهات، التي يتجمع فيها جموع من الشباب أسنانهم متقاربة، هوايتهم متقاربة، من إخواننا الذين نحبهم ونرثي لحالهم ونشفق عليهم إذا رأينا طول غفلتهم. هذه الفئات من المجتمع تحتاج منا إلى اختراق، وأقول عن تجربة أننا وجدنا كثيراً منهم ذوي معادن ثمينة ولكن علاها الصدى، فما أن تحك الصدى عنها حتى يتكشف لك معدن ثمين.. فهل قمنا بواجب اختراقهم وزرناهم في أماكن تجمعهم، بسلام وطيب كلام، وإهداء كتيب أو شريط. إن هذا العمل سيكون عبارة عن اختراق تجمعات لا زالت تنظر إلى الشباب الصالح على أنه فئة مُغلقة على نفسها.
الاستفادة من العلاقات الاجتماعية: فهي في مجتمعات المسلمين متميزة، فلكل منا أعمام، وأخوال، وأرحام، وأصهار، وأزواج بنات، وأزواج أخوات، هل استغللنا هذا الوضع الاجتماعي المتميز، فقمنا بمسئولية النفرة، وكل منا يقول: أنا أكفي الأمة الإسلامية أسرتي ومجتمعي، فأنتدب للضالين منهم فأنصحهم، والمنحرفين منهم فأقومهم، وأنشر الهداية في بيوتاتهم.
مراعاة أحوال الناس الدنيوية: في مجتمعات المسلمين الذي توجد فيه قصور مترفة، وأموال تضيق بها البنوك، توجد فيه حالات ترفع إلى السماء حاجتها وعوزها.. في الحارات الشعبية في المدن الكبيرة، في بيوت تعبس جدرانها في وجوههم بالشقوق التي تنذرهم بقرب انهيار المسكن، ومع ذلك لا يخرجون منه لأنهم لا يجدون مسكناً غيره. يوجدون في البراري، أعراب يعيشون حالات من الفقر والعوز لا ندري كيف توجد مثل هذه الصور في مجتمعات مترفة تنفق فيها الملايين في الترف المدمر، وليس الترف المباح. هل نفرت فئام من الشباب لمداواة هذه الجروح ولأمها؟ فكانوا رسلاً من أصحاب الأموال الطيبة المباركة إلى أصحاب الحاجات يأسونها ويداوونها ويسدون هذه الخلة.
دور المرأة: المرأة ينبغي أن تكون عوناً لزوجها على طاعة الله، ينبغي أن تتحول البيوت إلى قلاع يكون للمرأة فيها دورها المؤثر، ولذلك قصص مشرقة في حياة الصحابة وحياة السلف يوم كان الرجل يخرج من بيته، فتصحبه المرأة إلى الباب تودعه ببسمة وكلمة طيبة، وهي توصيه بتقوى الله وتقول: اتقي الله؛ فإنا نصبر على الجوع، ولا نصبر على الحرام، فلا تطعمنا إلا حلالًا.
أيها الأخت المسلمة: هل تفقدي زوجك في عمله لله؟ هل كنتيِ عوناً له على طاعة الله؟ هل سائلتيه قبل أن تسأليه عن طلبات المنزل وحاجات البيت عن عمله لله، وماذا عمل؟ فكنتي عونا له على ذلك.
? هذه نماذج وغيرها كثير بعدد أنفاسنا.
ومن العمل للدين أن تجلس تفكر ماذا أعمل للدين ؟
وتذهب وتسأل كيف أعمل للدين ؟
وتستشير ماذا تعمل للدين ؟ فهذا من العمل للدين.(/7)
? إن الدعاة والعلماء اليوم أصبحوا في وضع من المتأكد إن لم يكن من المتعين عليهم أن ينفروا إلى أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبثون فيها ميراثه، ولا يسع أحداً عالماً، أو داعية، أو أي مسلم كائناً من كان أن يتذرع بعذر، أو يتحجج بحجة، ليتحلل من العهد الذي أخذه الله على أهل العلم، والمسلمين أن يبينونه للناس ولا يكتمونه.
? إن العمل للدين ليس وظيفة تصدر برقم وتاريخ، ولكنه صدرت بمرسوم رباني كريم برقم[ 125] من سورة النحل:} ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[125] {.
? إن العمل للدين ينبغي أن يبقى ظاهراً في حياتنا تراه: في شاب يوزع شريطاً أو كتاباً..تراه في شاب يبلغ كلمة..تراه في موقف يعلن إنكار منكر..تراه هنا وهنا وهناك.
? إن العمل للدين أمر لا نستخفي به، ولا نتستر عليه، بل ينبغي أن تبقى ساحتنا ساحة فوارة بالعمل الضخم للدين تراه في كل فلته وفي كل لفتة..تراه في برنامج كل شاب..تراه في برنامج كل مسلم. وصلى الله وسلم وبارك على النبي وآله وسلم تسليما كثيراً.
من محاضرة:'العمل للدين واجب الجميع'الشيخ/عبد الوهاب الطريري(/8)
العمل والصناعة والتربية الحياتية من منظور إسلامي (1-2 )
بركات محمد مراد
العمل ضروري لكسب المعيشة، وتحقيق المستهدفات الأخرى في الحياة، والعمل له أيضاً وظيفة اجتماعية ونفسية، فهو يسبغ على صاحبه قيمة معينة، ويساعده في تحقيق الذات، ويعطيه جملة من المشاعر الإيجابية نحو نفسه ونحو الآخرين. و في المجتمع العربي والإسلامي نجد الدين الإسلامي والتراث، ومختلف أدوات التنشئة من مناهج تعليمية وبرامج إعلامية وغيرها تحرض على العمل، وتدعو إلى احترامه.
ويعتبر العمل واجباً إسلامياً على كل فرد، حيث إن قواعد الإسلام، وسلوك الأنبياء والصالحين؛ تشير إلى وجوب العمل في مختلف أشكاله، فقد عرف الأنبياء عليهم السلام قيمة العمل على هذا النحو؛ حيث كان إدريس خياطاً، وزكريا بحاراً، وموسى أجيراً، ومحمد تاجراً مع عمه أبي طالب، ثم لحساب خديجة بنت خويلد قبل أن يتزوجها، وكذلك كان راعياً للغنم صلوات الله وسلامه على أنبيائه ورسله. و لا يجوز لنا أن نستهين بأي مهنة أو حرفة مهما بدت ضئيلة القيمة؛ فإنها في النهاية لها أهميتها في حركة الحياة، ولا تستقيم الحياة بدونها، والتوجيه النبوي يقول: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له"(1).
و العمل الذهني مثله مثل العمل العضلي، كلاهما ضروري لحركة الحياة، ولا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر. وقد كان أنبياء الله تعالى جميعاً يمارسون بعض الحرف وفي مقدمته: رعي الغنم، ولم يقلل ذلك من قيمتهم ومكانتهم؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده"(2).
وهنا يقول "ابن حجر العسقلاني" شارحاً: "وفي الحديث فضل العمل باليد، وتقديم ما يباشره الشخص بنفسه على ما يباشره بغيره، والحكمة في تخصيص داود بالذكر: أن اقتصاره في أكله على ما يعمله بيده لم يكن من الحاجة؛ لأنه كان خليفة في الأرض، كما قال الله تعالى، وإنما ابتغى الأكل من طريق الأفضل؛ ولهذا أورد النبي صلى الله عليه وسلم قصته في مقام الاحتجاج بها على ما قدمه من أن خير الكسب عمل اليد...إلخ"(3).
وقال لقمان لابنه: "يا بني استعن بالكسب الحلال على الفقر، فإنه ما افتقر أحد قط، إلا أصابته ثلاث خصال. رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته، وأعظم من هذه الثلاث: استخفاف الناس به"(4).
وقد عرف المسلمون هذا الأمر، فقال على بن أبي طالب رضي الله عنه: "قيمة كل امرئ ما يحسن"(5). وقال ابن مناذر: "سألت أبا عمرو بن العلاء: متى يحسن المرء أن يتعلم؟ قال: ما دامت الدنيا تحسن به"(6) وقال الغزالي: "من العلوم الشرعية علوم محمودة، ترتبط بها مصالح أمور الدنيا كالطب، والحساب"(7).
إن الإنسان كما أكدت دراسات الروح المعنوية في الصناعة، ودراسات الإشباع الاجتماعي المهني لا يعمل لمجرد الحصول على الأجر، أو لمجرد الحصول على الطعام والمأوى، وإنما بجوار ذلك الهدف فهو يعمل لإشباع مجموعة من الحاجات، كالحاجة إلى الأمن، والاحترام، والتقدير، والحاجة الفسيولوجية، والحاجة إلى تحقيق الذات وسعادتها.
إن الإنسانية ممثلة بمجتمعاتها المختلفة خلال تاريخها كانت تعيش أغلب حياتها بلغة العمل، وكان علماء الآثار يقيسون مدى التطور الذي بلغه الإنسان الأول بالفحص الدقيق لأدواته البدائية المكتشفة، وعلماء الأجناس والأنثربولوجيين يستعينون بالعلاقات المختلفة للمجتمع بالعمل لتحديد أوجه التباين في المميزات الثقافية لمجموعة مختارة من البشر(8).
العمل بين الإسلام والتراث الغربي:
إذا كانت مهمة الإنسان في هذه الحياة هي إعمار الأرض، كما قال الله تعالى: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها 61) {هود: 61}، فإن ذلك لن يتحقق إلا بالعمل من أجل البلوغ إلى تحقيق الهدف، فالحياة بلا عمل موات، والإنسان قد أعطاه الله تعالى من القوى والطاقات ما يجعله قادراً على قيادة سفينة الحياة بالعمل الجاد المنتج الذي يعود على الفرد والمجتمع بالخير العميم.
ومن هنا كان اهتمام الإسلام بالعمل اهتماماً بالغاً: فالإسلام يربط بشكل مستمر بين الإيمان والعمل الصالح، وهذا العمل الصالح يعني كل الأعمال التي يقوم بها الإنسان في حياته ويقصد من ورائها وجه الله تعالى، ونفع الناس، ودفع الأذى عنهم، وجلب المصالح والمنافع لذاته، ولأهله، ولكل من هو مسئول عنه. وكل عمل يشتمل على ذلك فإنه يندرج أيضاً تحت مفهومي العبادة والتقوى.
وآيات القرآن الكريم التي تشتمل على الربط بين الإيمان والعمل الصالح كثيرة، وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في الصدر وصدقه العمل، وإن قوماً غرتهم الأماني، وقالوا نحسن الظن بالله، وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل"(9).(/1)
ومن شأن العمل أن يؤدي إلى تطوير الحياة، ومن خلاله يحصل الناس على أقواتهم فيزرعون ويحصدون. والقرآن الكريم يأمرنا أن نجوب الأرض بحثاً عن الرزق، (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ) {الملك: 15}. والحياة سلسلة من الأعمال متصلة الحلقات، والذي يقعد عن العمل مع القدرة عليه لا يستحق الحياة؛ لأنه بذلك يصبح عبئاً على غيره، ويصير طفيلياً على الحياة ذاتها، فالقعود عن العمل كسل ممقوت. ومن أجل ذلك يقول عمر بن الخطاب: "لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، وأن الله تعالى يقول: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله){الجمعة: 10}".
وهذا يعود إلى أن الإسلام بنصوصه وروحه دستور ونظام، وعقيدة وشريعة، والإسلام عمل للدارين: الآخرة والأولى، وهما في الإسلام موصولتان. والفقه الإسلامي شقان متكاملان متلازمان: عبادات ومعاملات، فإلى جانب أحكام الصلاة والصيام والزكاة والحج؛ نجد أحكام الشراكة والمزارعة والمساقاة والمضاربة والوكالة والكفالة والحوالة إلى آخر هذه الأمور التي تتصل أوثق اتصال بالحياة الدنيا، والتي تستوعب الأبواب الكثيرة للمعاملات، ونجد أوامر بالوفاء بالعقود، وبأداء الأمانات إلى أهلها، وبرد المظالم، وإعطاء كل ذي حق حقه.
والعمل قيمة ينبغي الحرص عليها؛ فالأخذ بها يؤدي إلى التقدم والارتقاء، والتخلي عنها يؤدي إلى التخلف والجمود والموت؛ حيث إن الإنسان في الإسلام إذا كان مكلفاً بعمارة الأرض، فإن ذلك لن يتحقق بأي حال من الأحوال دون عمل. وقد تعلمنا من تراثنا أن الوقت من ذهب، وأن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وهذا يعني ضرورة ملئ أوقاتنا بالعمل المفيد والمنتج أو بالتعبير القرآني بالعمل الصالح حتى نسهم في دفع عجلة الحياة، والارتقاء بها، وألا نكون عالة نستجدي المعونة من الآخرين.
ونحن لا نقصد هنا بالعمل القيمة المطلقة للعمل فحسب، كشيء فطري في الخلق، وإنما نعني بالعمل ارتباط الفكر بساحات الأداء البشري المفصل، واتصال المعارف بالتجربة والتطبيق، فالواقع الراهن يؤمن بالحركة العملية، فهو لم يعد شغوفاً بالفلسفة النظرية والتأملية الخالية من المعنى، بل إن العمل يعطي للأفكار قيمتها، وإشعاعها، ويبرهن على عبقرية الجهد الإنساني الواقعية، وقد كان هذا طابع العمل دائماً في الحضارة العربية والإسلامية، بخلاف كثير من الحضارات السابقة، التي نظرت إلى العمل نظرتها إلى شيء دنئ ومنحط؛ ولذلك أعلت من شأن الفكر وحياة التأمل وأعرضت عن حياة العمل والممارسة والتجربة، بخلاف التوجه الإسلامي الذي دعا الإنسان إلى الاهتمام بالصناعات بقدر اهتمامه بتحصيل العلوم النظرية، والسعي إلى فهم الكون والوجود فهماً عقلياً وإيمانياً.
فللعمل في الإسلام شرف كبير ليس له مثله في غيره من الأديان والثقافات. فالتراث الإغريقي مثلاً وهو الذي ترك آثاره واضحة في الفكر الغربي لا يقف عند تجاهل شرف العمل، بل يرى بعض العمل عاراً: كان العمل غير الذهني عند الإغريق وصمة اجتماعية توجب لصاحبه التحقير، وكانوا يرون أن الاضمحلال البدني الناشئ عن هذا العمل يستتبع انحطاط الروح، وكانوا يرون المواطن الصالح لا يكون أبداً من العمال(11).
وحتى بعد قيام الثورة الصناعية في أوربا في بداية العصر الحديث؛ ظل بعض الشعراء والقصصيين الغربيين أمثال شيلر، ووردز ويرث، وكير جارد، وفولكنر يحطون من شأن المجتمع الصناعي باعتبار أنه في رأيهم يقضي على القيم الإنسانية.
أما في الإسلام، فيكاد يكون من المعلوم منه بالضرورة أن العمل شيء يطلب، ويحث عليه، وتحصل بسببه المثوبة، وقد نوه القرآن الكريم ببعض الصناعات الهامة على عهد نزوله، بالنسبة للمجتمع الإسلامي، تنويهاً يشير إلى عظيم آثارها وجليل فضلها، وإلى أنها من أكبر النعم التي يمن بها الله على عباده. فقد نوه بمختلف الصناعات والحرف البشرية مثل:
1 - صناعة الحديد والمعادن: حيث يقول الله تعالى: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ){الحديد: 25}، ويقول في الحدادة: (آتوني زبر الحديد حتى" إذا ساوى" بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا ) {الكهف: 96}، ونوه بصناعة التعدين، حيث يقول: (وأسلنا له عين القطر) {سبأ: 12}، أي: النحاس المذاب الذي يستعمل في صنع الجفان والقدور. وكذلك يقول: (ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله ){الرعد: 17}. وفي الصياغة يقول: (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا) {الأعراف: 148}، كما أشار إلى صناعة الدروع بقوله: (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم ) {الأنبياء: 80}، وقوله: (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم) {النحل: 81}، وقوله: (وألنا له الحديد * أن اعمل سابغات وقدر في السرد) {سبأ: 10، 11}.(/2)
2 - وصناعة الكساء: في قوله تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا) {الأعراف: 26}، وقوله عز وجل: ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين ){النحل: 80}، ويقول: وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم) {النحل: 81}، ويقول: ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا) {النحل: 92}.
3 - وصناعة الجلود: (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم) {النحل: 80}.
4- وقال في بناء المساكن: (وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا 74 {الأعراف: 74}، ويقول: وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين 149 {الشعراء: 149}.
وفي صناعة السفن: يقول: واصنع الفلك بأعيننا ووحينا 37 {هود: 37}، ويقول: وحملناه على" ذات ألواح ودسر 13 {القمر: 13}، ويقول: وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام 24 {الرحمن: 24}، ويقول: (وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ) {فاطر: 12}.
وفي الصيد وصناعاته: يقول: (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم) {المائدة: 94}، ويقول: (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة) {المائدة: 96}، ويقول: (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) {النحل: 14}، ويقول: (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها){فاطر: 12}.
وفي الفلاحة: يقول: (أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ) {الواقعة: 63، 64}.
ومما أشارت إليه السنة أن الأنبياء عليهم السلام مع علو درجتهم كان العمل طريقهم: فآدم احترف الزراعة، ونوح النجارة، وداود الحدادة، وموسى الكتابة، كان يكتب التوراة بيده، كل منهم قد رعى الغنم، وكان زكريا عليه السلام نجاراً(12)، وفي الآثار أيضاً: أن أدريس كان خياطاً، وسليمان كان يصنع المكاتل من الخوص، وعيسى يأكل من غزل أمه الصديقة(13) وقد عمل هو نفسه في حداثته صباغاً(14)، ومحمد {بدأ حياته عاملاً، ففي صباه رعى الغنم لأهل مكة مقابل قراريط، وفي شبابه عمل في التجارة لحساب غيره، وأصحابه رضي الله عنهم، عمال مثل: خباب بن الأرت الحداد(15)، وعبدالله ابن مسعود الراعي، وسعد بن أبي وقاص صانع النبال، والزبير بن العوام الخياط، وبلال بن رباح العبد الخادم، وسليمان الفارسي الحلاق، وعلي بن أبي طالب الذي سقى بالدلاء على تمرات... إلخ(16).
وقد كان عمر بن الخطاب يقول: "إني لأرى الرجل فيعجبني، فأقول: أله حرفة؟ فإن قالوا: لا، سقط في عيني"(17)، وعمر رضي الله عنه لا يستثني القراء، مع أنهم أهل رأيه ومشورته، ومحل ثقته وتقديره، على الترفع عن أن يكونوا عالة على الناس، يقول لهم: معشر القراء، التمسوا الرزق، ولا تكونوا عالة على الناس(18)، ولقى عمر أبا هريرة(19) فقال له: ألا تعمل؟ قال: لا أريد العمل، قال: قد طلب العمل من هو خير منك: يوسف عليه الصلاة والسلام، قال: (قال اجعلني على" خزائن الأرض إني حفيظ عليم ) {يوسف: 55}.
علماء الإسلام والعمل:
تأصل العمل عند المسلمين، حتى لنرى من قادة الفكر منهم من يلجأون إلى العمل اليدوي على الرغم من أنهم قادة الفكر وأساتذة الدين ليحتالوا على حاجاتهم وحاجة عيالهم، ولا يجدون غضاضة في ذلك: كان أحمد بن حنبل، وهو أحد أئمة المسلمين، يؤجر نفسه للحمل في الطريق إن لم يجد ما ينفقه سوى هذه الأجرة. وكذلك وعي تاريخ أحمد أنه كان ينسج التكك ويبيعها ليأكل(20)، ومن الحقائق المستفيضة أنه كان من كبار فقهاء المسلمين عمال يأكلون من عمل أيديهم، وممن يذكرون في هذا المقام على سبيل المثال(21): الفقيه الكبير أبو الحسن أحمد بن محمد القدوري الذي كان يشتغل بصناعة القدور، والفقيه الكبير أيضاً أحمد بن عمر الخصاف الذي ألف كتباً عظيمة في الفقه، ومنها كتاب: "الخراج"، كان يعيش من خصف النعال، والثعالبي رأس المؤلفين في زمانه نسب إلى "الثعالب" لأنه كان يعمل في خياطة جلودها، أو قيل له ذلك لأنه كان فرّاء(22)، ولا ننسى كثيراً من أسماء العلماء والفلاسفة والمتكلمين التي اقترنت بحرف وصنائع في التراث العربي والإسلامي مثل الغزالي الذي نسب لصناعة الغزل، وأبو الهزيل العلاف الذي ينسب لتجارة العلافة، وكذلك الإسكافي في عصره اشتهر بصناعة الأحذية والنعال، وغيرهم كثير كالبزاز الذي اشتهر بصناعة الملابس والأردية، والنساج، والزجاج عالم اللغة المشهور، كما اشتهر أبو حيان التوحيدي ومن قبله أستاذه الجاحظ بالوراق أي نسخ الكتب والمخطوطات من أجل تأمين ضروريات الحياة، رغم اشتهارهما بالأدب واللغة وبروزهما كعلماء موسوعيين في عصرهم.
العمل فريضة إسلامية:(/3)
العمل بقصد الاكتساب فرض عين على المسلم؛ لأن إقامة الفرائض تقتضي حتماً قدرة بدنية ونفسية، وهذه لاتأتي إلا بطعام ونفقة "وما يتوصل به إلى إقامة الفرائض يكون فرضاً"(23). كما أن العمل للاكتساب للإنفاق على العيال من زوجة وأولاد فرض عين كذلك؛ لأن إنفاق المرء على زوجته وأولاده مستحق عليه، قال الله تعالى: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) {الطلاق: 6}، وقال عز وجل: (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله) {الطلاق: 7}، وقال: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) {البقرة: 233}، وإنما يتوصل إلى إيفاء هذا المستحق بالكسب. وقال صلى الله عليه وسلم: " كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت"(24)، والتحرز من ارتكاب المآثم فرض كما أن الكسب الحلال طريق إلى رحمة الله، كما جاء في الحديث: "رحم الله امرءاً اكتسب طيباً"(25).
والسعي على العيال، والهموم في طلب المعيشة تكفر ذنوباً لا تكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به، ودينار أنفقته على أهلك: أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك"(26).
والعامل يظفر من الإسلام دائماً بعطف خاص: فالجزية مثلاً مخففة عليه، فالخياط والصباغ والإسكافي والجزار أقل نصيباً في الجزية من الموسرين من أمثال الصيرفي والبزاز وصاحب الضيعة والتاجر والطبيب(27)، وآلات الحرفيين مثل كتب العلم لا زكاة فيها(28)، وإعانة الصانع وغير الحاذق الذي لا يتقن ما يحاول فعله هو من حيث الأفضلية في صف الجهاد في سبيل الله تعالى وفي صف عتق الرقاب النفيسة عند أهلها، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله، والجهاد في سبيله. قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمناً. قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق"(29).
كما أن الإسلام يمنح كل الأعمال احتراماً بعيد المدى، ما دامت مشروعة، ففي الأثر أن الخدم كانوا يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم نفسه؛ ليعينهم على شراء ما كلفوا من السوق، فكان يذهب معهم، ويقضي لهم ما يشاءون. وكان صلى الله عليه وسلم يشجع النجارين ويذكر لهم عن حرفتهم ما يسرهم، مثل قوله: "كان زكريا عليه السلام نجاراً"(30)، ومن إكرام الإسلام للعمل والعمال؛ أن رب العمل ملزم بنص السنة أن يعتبر خدمة أخوته، وعليه أن يطعمهم مما يطعم، ويلبسهم مما يلبس، ولا يكلفهم من العمل ما يغلبهم، فإذا كلفهم أعانهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إخوانكم خولكم (أي خدمكم وحشمكم) فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، ويلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم مايغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه"(31).
ومن أقوال الفقهاء: أنه يصح إجارة العامل والمرضعة بطعامهما وكسوتهما، وعند التنازع في صفة الطعام والكسوة يكون لهما الحق في طعام وكسوة مثل طعام الزوجة وكسوتها، وكرامة العامل هي دائماً محل الاعتبار في النظم الإسلامية، فهي إن مست بسوء سبب مشروع لنبذ العمل: فمثلاً، لو أجر العامل نفسه في عمل يعاب عليه به كان له أن يفسخ عقد العمل(32)، ولو أجرت المرأة نفسها بما تعاب به، كان لأهلها أن يخرجوها من تلك الإجارة(33).
العالم الإسلامي والصناعة:
أصبح العمل ونشاطاته المختلفة، خاصية أساسية من خصائص الحضارة العربية الإسلامية، فاندفع المسلمون يمارسونه على المستوى العقلي والعملي، ويطبقون كل النظريات العلمية التي يتوصلون إليها تطبيقاً عملياً بما ينفع الناس ويرتقي بمستواهم الحضاري والاجتماعي، ومن هنا كان ازدهار الحضارة الإسلامية لقرون عديدة في كل المجالات العلمية والصناعية والاقتصادية والاجتماعية، خاصة حين توفر العقيدة الإسلامية لأتباعها أهم مقومات النظر السليم في التعامل مع الواقع، ومع البيئة المسخرة لهم من قبل الله تعالى، وفق تشريعات حكيمة بنظم الحياة في كل جوانبها ومرافقها، وعندما يتصالح الفكر مع الواقع يكون الإنسان أكثر قدرة على بناء صرح الحضارة المتوازنة إيمانياً ومادياً.
وإن استخدام هذه الخاصية في الحياة العقلية والثقافية للحضارة، وفي السلوك العام للإنسان مكنه من امتلاك المنطلق العملي الذي يجعله يربط الفكر بالواقع، ويربط العمل بوسائله المكافئة بشكل واضح يحكمه، فالعملية كذلك تعني كيفية ارتباط العمل بوسائله ومعانيه؛ وذلك حتى لا نستسهل أو نستصعب شيئاً، بغير مقياس يستمد من واقع الوسط الاجتماعي، وما يشتمل عليه من إمكانيات(34).(/4)
ولنا في تاريخ الإسلام خير مثال، عندما أنتج علماء المسلمين فكراً يتلاءم مع واقعهم، وقدموا للعالم حضارة زاهرة معمرة، كما قدموا حلولاً شافية للمشكلات البيئية التي واجهتهم على المستويين الفكري والعملي، ذلك أن العلم والفكر اللذين لا يعمر بهما الكون، ولا تصلح بهما البيئة والواقع، ولا ترقى بهما الحياة، في جانبيها الإيماني والمادي معاً، هما علم وفكر قاصران وضررهما أكبر من نفعهما(35).
ولذلك قامت في المجتمع الإسلامي، منذ القديم، صناعات عامة اقتضت بطبيعتها تجميع أعداد كبيرة من العمال والصناع، ومن ثم كان الإنتاج كبير الحجم، فقد قامت مثلاً صناعة الأسلحة في مصر، وكان هذا طبيعياً جداً في بلد بلغ جيشه أيام الطولونيين حوالي مائة ألف جندي، وأيام الإخشيديين أربعمائة ألف جندي، وكانت القاهرة مركزاً لتلك الصناعات الحربية(36) وكانت الدبابات والمنجنيق وصناعة السفن والمراكب الحربية، وقد أنشأ ابن طولون مائة سفينة حربية، كما أنشأ المعز لدين الله الفاطمي دار الصناعة بالمقس بالإسكندرية، وأنشأ بها ستمائة مركب "لم ير مثلها في البحر على ميناه"(37).
كما كانت في مالقة بالأندلس "دار صناعة لإنشاء المراكب"(38)، ومما يذكر أن الأوربيين في العصور الوسطى أخذوا لفظ "دار الصناعة" عن العربية، فهو في الإيطالية Arsenale Arzenale وفي الإنجليزية والفرنسية والإسبانية Arsenal، ولما أنشأ محمد علي داراً للصناعة أخذ اللفظ الأجنبي المحرف، وزدنا في تحريفه، فكان "الترسانة".
كما عرف المسلمون استخراج المعادن، وفي حديث ابن مماتي عن الصناعات في مصر يقول: "وبها معدن الذهب، ومعدن الزمرد وليس في الدنيا معدن زمرد إلا في مصر"(39)، ويقول في موضع آخر: "وبها حجر السنباذج الذي تقطع به سائر الأحجار"(40)، وفي كرمان مدينة رهزان يقول عنها ابن الفقيه: "هي مدينة كبيرة واسعة، وبها أكثر معادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والنوشادر والصفر"(41)، وكانت "مالقة" بالأندلس مختصة "بصنائع الحديد كالسكاكين والمقص ونحوها"(42).
وعرف المجتمع الإسلامي كما يقول لبيب السعيد(43) مؤسسات صناعية تحدثت كتب الفقه تفصيلاً عن مشتملاتها ومواصفاتها، وحالة العمل فيها. ومن هذه المؤسسات: بيت الدهان، والطاحونة، وبيت الطحانة، والمجمدة، والمثلجة، والملاحة، وعين القير أو النفط، وبيت الطراز(44). وعني المجتمع الإسلامي بصناعات النسيج، واشتهرت مصر بأنواع الحرير والكتان النقي الفاخر خاصة "تنيس" و "دمياط"، وامتازت بعض البلاد المصرية بصناعة المنسوجات الصوفية كالملابس والشيلان والأبسطة، وقلد أهل "أسيوط" النسيج الذي اختصت به بلاد أرمينيا وصنعوا نوعاً من العمائم لا نظير له في العالم، واشتهرت "طحا" بعمل الثياب الصوفية الرفيعة(45) كما اشتهرت "القصير" بعمل الثياب والأنسجة من الصوف.
كما اشتهرت "دبيق" بالنسيج الموشى بالحرير والذهب، و "الإسكندرية"، "وتنيس" التي كانت تصدر إلى العراق وحدها بثلاثين ألف دينار سنوياً(46). كما اشتهرت "الفيوم" بصناعة الخيش، وكانت تصنع بها المنسوجات من الكتان والصوف. وكانت دور الطراز تستخدم الصباغة والحياكة ويشرف عليها موظف خاص يدعى "صاحب الطراز"(47). وكذلك كانت تصنع في "كونة" من ضواحي "تنيس" كسوة الكعبة، كما اشتهرت بعض البلاد الإسلامية بالصباغة، وقد مهر فيها المسلمون بالأندلس، واخترعوا الصباغة بالنيلة(48).
كما ازدهرت صناعة الأحذية والدباغة، والحدادة، والصناعات النحاسية، ويشر ابن خلدون إلى صناعة النجارة ومصنوعاتها المتعددة، وصناعة السكر التي كانت بالفسطاط والصابون(49)، كما كانت "أخميم" و "سمهود" و "قفط" مشهورة أيضاً بصناعة السكر. كما اشتهرت الإسكندرية بصناعة الشمع. هذا فضلاً عن صناعات البناء التي كانت تستوعب آلاف العمال المهرة والبنائين الذين أنشأوا المدن العربية والإسلامية والقصور والقلاع والأسوار وغيرها من المنشآت الإسلامية التي ما زالت تتحدى الزمن.(/5)
وقد ترافق ازدهار الحضارة العربية مع نشوء المدن الكبيرة وتزايد حاجات المجتمع، ونمو جهاز الدولة بإداراته العديدة وما تدعو الحاجة إليه من إعداد الجيوش وبناء الأساطيل، وفي نفس الوقت نمت التجارة الدولية وحدثت الثورة الزراعية العربية، وقد أدى كل ذلك إلى تزايد الطلب على المنتجات الصناعية، فنمت الصناعات وتطورت وتنوعت، ولقد ازداد عدد الحرفيين والصناع نتيجة لذلك ونمت خبراتهم، وكان ضمن كل صناعة عدد من الصناع من اختصاصات مختلفة، ويمكننا أن نعرف أسماء مختلف الحرف من كتب الحسبة(50) والجغرافيا والتراجم والتاريخ، وكذلك فإن الكتابات والنقوش على المباني التاريخية، وعلى التحف المتبقية تعتبر مصدراً له أهميته(51)، وقدر عدد الحرف اليدوية في القاهرة في عهد الفاطميين والأيوبيين بأكثر من 265حرفة، وقدرت مختلف الحرف والصناعات في دمشق في أواخر القرن التاسع عشر بأكثر من أربعمائة، كان نصفها تقريباً من الحرف الإنتاجية(52).
--------------------------------------------------------
الهوامش:
1- رواه من حديث علي رضي الله عنه: البخاري (5863) ومسلم (2647).
2- رواه حديث المقداد بن معد يكرب البخاري (1966).
3- العسقلاني: فتح الباري بشرح صحيح البخاري (244/4245).
4- الآداب الشرعية، لابن مفلح (27/3).
5- الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق عبدالسلام هارون (77/2) مكتبة الخنجي القاهرة 1968م.
6- ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس (478/3) دار الثقافة، لبنان عام 1970م.
7- الغزالي: إحياء علوم الدين (16/1) دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت عام 1978م.
8- سعد الهاشل: التربية الحياتية في المرحلة الإبتدائية، مجلة العلوم الاجتماعية ج13 العدد 1 الكويت 1985م.
9- الكشاف للزمخشري (601/1).
10- إحياء علوم الدين للغزالي (62/2).
11- Donald Hunrer Health in Industry، part 2 p.28
12- عن ابن عباس، وانظر المناوي: فيض القدير بشرح الجامع الصغير للسيوطي (544/4545)، والنووي: رياض الصالحين ص: (248).
13 - انظر محمد بن الحسن الشيباني: الاكتساب في الرزق المستطاب ص: (1518) تلخيص محمد بن سماعة.
14 - ابن الأثير: الكامل في التاريخ (123/1).
15 - انظر سيرة ابن هشام (380/1).
16 - ابن قتيبة: المعارف ص: (8، 16، 18).
17 - انظر المناوي: هامش "فيض القدير" (290/2).
18 - ابن عبد ربه: العقد الفريد (27/3).
19- لبيب سعيد: دراسة إسلامية في العمل والعمال، الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1985م.
20 - انظر ترجمة الإمام أحمد بن حنبل في مقدمة مسنده (71/1، 72) بتحقيق أحمد محمد شاكر.
21 - لبيب سعيد: دراسة إسلامية في العمل والعمال السابقة.
22 - انظر ابن خلكان: وفيات الأعيان (291/1).
23 - محمد الحسن بن الشيباني: الاكتساب في الرزق المستطاب، تلخيص محمد ابن سماعة ص: (32، 33).
24 - أخرجه أبو داود (1692) وأحمد (160/2) والطيالسي (2281) وصححه ابن حبان (4240) والحاكم (575/1) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.
25 - روته عائشة، وأورده الجامع الصغير عن ابن النجار وانظر: كنز العمال (4/4) برقم: (9207).
26 - رواه مسلم (995) من حديث: أبي هريرة}.
27- انظر دائرة المعارف الإسلامية، الترجمة العربية (454/6).
28- انظر الفتاوى الهندية (172/1).
29 - رواه البخاري (2382) ومسلم (84) من حديث أبي ذر}.
30 - رواه مسلم (2379) من حديث أبي هريرة}.
31 - رواه البخاري (30) وأحمد (161/5) من حديث أبي ذر}.
32 - انظر الفتاوى الهندية (461/4).
33- انظر الفتاوى البزازية (على هامش الفتاوي الهندية) (99/5) وانظر لبيب السعيد: دراسة إسلامية السابق.
34- مالك بن نبي: شروط النهضة ص: (95) ترجمة عمر كامل مستكاوي وعبدالصبور شاهين، بيروت عام 1981م.
35 - د. أحمد فؤاد باشا: البيئة ومشكلاتها من منظور إسلامي، مجلة الأزهر ديسمبر عام 1996م.
36 - المقريزي: الخطط (367/1).
37 - السابق (95/2).
38 - القلقشندي: صبح الأعشى (218/5).
39 - قواوين الدواوين، نشر سوريال عطية.
40 - السابق.
41 - حسن حسني عبدالوهاب: "التبصرة بالتجارة" للجاحظ.
42 - القلقشندي: صبح الأعشى السابق.
43- دراسة في العمل والعمال السابق ص: (35، 36).
44 - الفتاوى الهندية (297/6).
45 - المقدسي: أحسن التقاسيم ص: (202).
46- المقريزي: الخطط (226/1).
47 - رسائل الصابي ص: (141).
48 - سيد أمير علي: مختصر تاريخ العرب (484/1).
49 - الأدريسي: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق ص: (113).
50 - حبيب الزيات: كتاب الحسبة، يورد المقال قائمة بالحرف والصناعات من كتاب الحسبة لجمال الدين يوسف بن المبرد الدمشقي من القرن العاشر.
51 - حسن باشا: الفنون الإسلامية والوظائف على الآثار العربية، 3 أجزاء.(/6)
52 - محمد سعيد القاسمي: قاموس الصناعات الشامية، دمشق، وانظر أحمد يوسف الحسن: مجلة الفلسفة والعصر، ص: (42) العدد (2) المجلس الأعلى للثقافة يناير عام 2002م.
http://jmuslim.naseej.com(/7)
العمليات الاستشهادية رؤية شرعية
د. يحيى عبد الله*
مقدمات حول الموضوع:
الحمد لله القوي العزيز، الجبار المنتقم، الذي بيده ملكوت كل شيء، القاهر فوق عباده، يُعز من يشاء ويُذلّ من يشاء، ((يعلم ما تكسب كلُّ نفسٍ وسيعلم الكفّار لمن عُقبى الدار)) [سورة الرعد: 142].
والصلاة والسلام على نبي الرحمة، ورسول الملحمة، سيد المجاهدين، الذي يُتَّقى به إذا حمي الوطيس, القائل: (جُعِل رزقي تحت ظلّ رمحي، وجُعِل الذلُّ و الصَّغار على من خالف أمري) [رواه أحمد: مسند عبد الله بن عمر]. وعلى أصحابه الأخيار وصحابته الأطهار، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولم يُبدِّلوا ولم يُغيِّروا, باعوا أنفسهم لله فاشتراها منهم؛ فكانوا هم الرابحين, تأسّوْا بنبيهم ففلقوا هام الجبابرة المتغطرسين [الغطريس: الظالم المتكبر كما قال النابغة:
فلولا حبالٌ منكم هي اسلستْ جبائبنا كنا الأباة الغطارسا]
، وعلى من اتبع هداهم واقتفى أثرهم واختط سبيلهم إلى يوم الدين، أما بعد..
فإن الحديث عن العمليات الاستشهادية - وخاصة في هذا الوقت- عملٌ جللٌ يُملي على الدعاة ضرورة إحياء تلك الفريضة التي هي ذروة سنام الإسلام، ولأجل الدفع لعارضات الهوى الذي تمليه فتنة القعود وشهوة التسلط وكبرياء الفراعنة الذين يبغوننا الفتنة، وفينا سمّاعون لهم!!
إن الحديث عن التأصيل له أسلوبه الخاص به، بحيث يُعنى بعرض الحقائق بطريقة تختلف عن أسلوب التذكير و التحريض والتحليل الشخصي إلا بقدر ما يرتبط بالمنهاج المُتّبع الذي نهتدي به في تفسير نصوص الشرع وتأويله.
وهذا ما حدا بي للحديث عن مقدِّمات ينبني عليها الموضوع؛ ويكون بذلك نابعاً عن الأصل الذي ينضبط به المجتمع المسلم المتأسّي بقيم الدين.
المقدمة الأولى: التصور الإسلامي لتفسير التاريخ:
إن الناظر لأول وهلة لا يرى علاقةً لهذه المقدمة بالموضوع الذي نحن بصدده، ولكن عند النظر لمقالات العلمانيين والمحللين السياسيين الماديين وتفسيرهم لحركة المجاهدين تظهر جلياً ضرورة هذه المقدمة، زيادةً على ما تحمله مقالات أولئك من المصطلحات، ومدى تأثير المصطلحات على الموضوع؛ وعليه فإننا نذكر بعض الملامح للتصور الإسلامي لتفسير التاريخ منها:
[1] مراعاة الحقائق التي قررها القرآن الكريم:
مثل: "الأصل في عقائد البشر التوحيد لا الشرك", لقوله تعالى: ((كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين)) [سورة البقرة: 213]، أي كانوا أمةً واحدة على التوحيد.
وبعثة الرسل مرتَّبة على ترك الناس للتوحيد وانحرافهم عنه، أو على أن معرفة التشريعات التفصيلية، وتداخل المصالح، والقدرة على ترتيب الأولويات، و معرفة الجزاءات ليس في مقدورهم، فبعث الله النبيين، وهذا حال من تقدير محذوف وعلى كلا التفسيرين مرادنا محقق.
وأي تفسير يعكس هذه الحقيقة ويجعل الأصل في الناس الشرك والتوحيد طارئ نتيجة للتطور راجع إلى أمرين:
الأول: إنكار الوحي والنبوة وأن الوصول إلى التوحيد من تعدد الآلهة مجهود بشري نتيجة الارتقاء العقلي والثقافي.
الثاني: التأثر بنظرية داروين بحيث أعملنا النشوء والارتقاء في مجال العقيدة الدينية.
وعلى هذا فإن الرجوع إلى أصل التوحيد وعدم الإشراك بالله في كل ناحية من نواحي الحياة تطبيقاً لقول الله تعالى: ((قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك)) [سورة الأنعام: 162] أمر لابد منه وبهذا ندحض التعبير بالأصولية والرجعية والتخلف والرجوع إلى العصور المظلمة وغير ذلك من المصطلحات التي تؤثر حتى على المؤمنين الغافلين.
إن من زاوية توحيد الله المطلق تتفرع عقيدة الولاء والبراء على أساس هذا الإيمان أو الإشراك به.
[2] تفسير دوافع السلوك عند المسلمين في صدر الإسلام:
إن دوافع السلوك في المجتمع الإسلامي الذي تهيمن عليه العقيدة تتأثر كثيراً بالتطلع إلى الجزاء الأخروي, وصفوة المؤمنين لا يشركون دوافع أخرى في سلوكهم؛ لأنهم يعلمون أن الشرك يحبط عملهم ((لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكوننَّ من الخاسرين)) [سورة الزمر: 65].
إن معرفة أثر الإسلام في تربية أتباعه يجعل من البدهي التسليم بأن الدافع للسلف في مشاركتهم في الفتوح ونشر الإسلام والتمكين له لم يكن دافعاً دنيوياً ولا رغبة في التسلط والاستحواذ ولا طمعاً في خيرات البلاد المفتوحة, ولا فراراً من شظف الحياة في الصحراء كما يزعم المستشرقون, أو مثلما هو حاصل في واقعنا المعاصر ممن هو قادر على البطش بالمستضعفين.(/1)
روى الطبري خبر مفاوضة المغيرة بن شعبة لرستم, وما ردَّ به على عروض رستم المادية مقابل تخلي المسلمين عن القتال حيث أجابه المغيرة بقوله: "أتيناكم بأمر ربنا نجاهد في سبيله, وننفذ أمره, وننجز موعده, وندعوكم إلى الإسلام وحكمه, فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا وخلَّفنا فيكم كتاب الله, وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا نفوسكم بالجزية، فإن فعلتم وإلا فإن الله قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم، فاقبلوا نصيحتنا فوالله لإسلامكم أحب إلينا من غنائمكم.." [تاريخ الطبري: 3/528،530، والسيرة النبوية الصحيحة لأكرم ضياء العمري: 1/34].
وروى الطبري أن رِبْعِي بن عامر دخل على رستم قائد الفرس في مجلسه فسأله: ما جاء بكم؟ فقال :"الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله, ومن ضيق الدنيا إلى سعتها, ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام, فأرْسَلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه".
إن ما قاله كل من ربعي بن عامر والمغيرة ليس معبراً عن شعور فردي, وإنما كان يمثل الفكرة المهيمنة على قيادة المسلمين ومعظم المجاهدين.
ولا يمنع هذا من مشاركة بعض الأعراب في الجهاد ممن تحفّزهم العوامل المادية وهنا يظهر ضرورة حركة الإسلام اليوم أن تتحرك بكل جمهورها على ما عليه حالهم من مستوى الإسلام و الإيمان والإحسان كما كان في جيش السلف مَن جاء فيه قوله جلَّ شأنه: ((سيقول المخلّفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتّبعكم)) [سورة الفتح: 15]، وقوله: ((منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة)) [سورة آل عمران: 152].
بل منهم من هو منافق عُلِم نفاقه ومنهم من علم الله وحده نفاقهم وهذا لا يعيب الخط العام طالما أن القيادة بيد من دخلوا في السِلْم كافة.
إن الدراسات اليوم معظمها تصدر عن مفكرين عاشوا في بيئة بعيدة عن الإسلام - وإن كانوا في بلاد المسلمين- لها حضارتها وفلسفتها ومقاييسها وأذواقها, فيصعب عليهم تذوق الإسلام وبالتالي يتعذر عليهم فهم دوافع السلوك المسلم في حركته الفردية و الجماعية وهذا يدلُّنا أمرين مهمين:
الأول: خطورة الاعتماد على هذه التفسيرات والانطلاق منها.
الثاني: ضرورة التأني في الفرز و الحكم على أبناء المسلمين الذين تربوا على هذا النمط.
[3] تقويم الحضارة يرتبط بمدى ملاءمتها لعبادة الله:
إن المؤرخ المسلم لا يحكم على المستوى الذي تبلغه أية حضارة من خلال منجزاتها المادية فقط, وإنما ينظر إلى مدى تحقيقها للهدف الأساسي الذي وضعه الخالق عز وجل لخلقه بقوله: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)) [سورة الذاريات: 56].
فالحضارة مهما تقدمت مادياً فإنها تبقى في نظر المؤرخ المسلم "متخلفة" و"قاصرة" مادامت لا تهيّئ الظروف الملائمة لعبادة الله والوفاء بالالتزام بشرعه.
والحضارة الإسلامية نفسها مرت بمراحل مختلفة تاريخياً, ولم يكن التضخم في منجزاتها المادية إلا في القرن الثالث والرابع, ومع ذلك يبقى في نظر المسلم أن عصر صدر الإسلام يمثل أوج الحضارة, لأنه أكثر ملاءمة لعبادة الله وتوحيده, وسلوك المسلمين في صدر الإسلام أكثر التزاماً بتعاليم الشريعة من سلوك المسلمين في القرن الرابع الهجري، وهذا ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) [متفق عليه]، فالمسلم الذي يرى قمة الحضارة في تطابق النظرية الإسلامية مع الواقع التاريخي هو المنفلت من كمّاشة الحضارة الغربية، والمستعلي بالإسلام والإيمان والشعور بالذات والاستقلال الروحي والفكري الذي يمثل الخطوة الصحيحة إلى طريق الحضارة [انظر السيرة النبوية الصحيحة: 1/36]. وهذا محك التباين وبيت القصيد في اختلاف تحليل سلوك المجاهدين وتفسير بواعثهم بالأسباب الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو النفسية أو غير ذلك عند قوم, أو تفسيرها بكون الواقع المادي البحت لا يشبع رغباتهم, ولا هو مُواتٍ لما يعتقدونه من توحيد الله عز وجل في كل شأن من شؤون حياتهم, وبالتالي لا يسعدهم في هذه الحياة الدنيا فضلاً عن الآخرة التي هي الحيوان لمن يعلمون.
[4] رفض منطق التبرير كأساس لتفسير صدر الإسلام:(/2)
إن القهر والانهزام النفسي له تأثيره في هذا التفسير فأصبح المسلم المتأثر بتلك المناهج خجولاً عند الحديث عن الجهاد و حركة الفتح الإسلامي واعتباره دفاعاً عن الجزيرة العربية أو عن دولة المدينة المنورة, فالتفسير الإسلامي للتاريخ ليس دفاعياً تبريرياً, بل ينطلق من اعتقاد ((إن الدين عند الله الإسلام)) [سورة آل عمران: 19] ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)) [سورة آل عمران: 85], وهذا يعطي مفهوماً واضحاً بأن دين الإسلام حق وما عداه باطل, والجهاد وكل تشريعاته حق حتى لو بدا ذلك غريباً أمام الذهنية المهيمنة على الناس في القرن العشرين, والحكم لله ولشرعه, وليس لأذواق الناس وأهوائهم ((والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) [سورة يوسف: 21], ومن مقتضيات العزة وعدم الانهزام ومحاولة التبرير استعمال المصطلحات الشرعية النابعة من القرآن والسنة؛ لأنها ذات دلالات واضحة ومحددة؛ ولأنها معايير شرعية لها اعتبار في وزن الأشخاص والأحداث, فالقرآن الكريم في أول سورة البقرة قسم الناس إلى "مؤمن" و"كافر" و"منافق" ولكل من الثلاثة صفات محددة ثابتة منثورة في كتاب الله عز وجل غير قابلة للتلاعب فيها, ثم بعد توزيع الناس إلى هذه الأقسام وتبصير المؤمنين بأن واقع البشرية لا يخلو من هذه الأصناف فاعرفوا كيف تتعاملون مع هذا الواقع, جاء قوله تعالى: ((يا أيها الناس اعبدوا ربكم)) إلى قوله تعالى: ((فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون)) [سورة البقرة: 21-22], فوصف الإنسان بـ "اليميني", أو "اليساري", أو "المعتدل", أو "المتشدد", أو "المتطرف", أو "المستنير"أو "الأصولي" بالمفهوم الغربي والسائد والمستعمل إعلامياً يعد من نوع تحريف الكلم عن مواضعه, وكذلك الحكم على الأعمال والمنجزات الحضارية ينبغي أن يستعمل فيه المصطلحات الشرعية"المعروف" و"المنكر", و"الخير", و"الشر",و"الحق" و"الباطل", و"العدل" و"الظلم" كما حددها الشرع دلالة واستعمالاً,بدلاً عن معايير الفكر الغربي مثل "التقدمية" و"الرجعية"و"الإيجابية" و"السلبية", لأن الألفاظ معايير المعاني حتى لا ننزلق فما أخطر الذوبان وما مصطلح "الإرهاب" في هذه الأيام عنا ببعيد!!
المقدمة الثانية: النظرة المقاصدية وترتيب المصالح والمفاسد:
الأمر الأول: إن حقيقة هذا التشريع قائمة على أساس تحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم وهذا ما أطبق عليه الفقهاء وبنوا فقههم عليه, يقول ابن عاشور: "فالشرائع كلها جاءت لما فيه صلاح البشر في العاجل والآجل, أي في حاضر الأمور وعواقبها".
وليس المراد بالآجل أمور الآخرة؛ لأن الشرائع لا تحدد للناس سيرهم في الآخرة، ولكن الآخرة جعلها الله جزاء على الأحوال التي كانوا عليها في الدنيا, وإنما نريد من التكاليف الشرعية ما قد يبدو فيه حرجٌ وإضرارٌ للمكلفين، وتفويت مصالح عليهم، مثل تحريم شرب الخمور وتحريم بيعها، ولكن المتدبر إذا تدبّر في تلك التشريعات؛ ظهرت له مصالحها في عواقب الأمور.
واستقراء أدلة كثيرة من القرآن والسنة الصحيحة يوجب لنا اليقين بأن أحكام الشريعة الإسلامية منوطة بحكمٍ وعللٍ راجعةٍ للصلاح العام للمجتمع والأفراد.
الأمر الثاني: قد ثبت بالأدلة القطعية أن الله تعالى لا يفعل الأشياء عبثاً، دلّ على ذلك صنعه في الخِلقة كما أنبأ عنه قوله: ((وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلاّ بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون)) [سورة الدخان: 38-39] وقوله: ((أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون)) [سورة المؤمنون: 115].
ومن أعظم ما اشتمل عليه خلق الإنسان قبوله التمدن الذي أعظمُه وضع الشرائع له.
وما أرسل الله تعالى الرسل وأنزل الشرائع إلا لإقامة نظام البشر كما قال تعالى: ((لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ)) [سورة الحديد: 25. وانظر مقاصد الشريعة لابن عاشور]، فالقياس الصحيح، والعقل الرجيح، وما أودعه الله سبحانه في الكون من الدلائل والآيات وغيرها داخلٌ في مفهوم الميزان.
فلا مدنية إلا بتشريع، ولا تشريع يضمن العدل للجميع ويحقق مصالحهم ولا يتأثر بالهوى أو محدودية المعرفة إلا تشريع الله الذي يعلم خلقه وهو لطيفٌ خبير بهم.
الأمر الثالث: عدم الاستغناء المطلق بالأدلة اللفظية عن معرفة المقاصد الشرعية؛ لأنّ الكلام وحده لا يعتبر إلا بمراعاة ما يحيط به من الاعتبارات والقرائن, كما يتأكد أن ينظر إلى الكلام والمتكلم, وعلى هذا فإنّ الوقوف عند اللفظ فقط من غير مراعاة القصد مدعاة للوقوف عند الظاهر.(/3)
ويوقع في ورطة التوقف عن إثبات الأحكام فيما لم يُرو فيه عن الشارع حكم من حوادث الزمان, وهو موقف خطير يخشى على المتردد فيه أن يكون نافياً عن شريعة الإسلام صلاحيتها لجميع العصور والأقطار قال ابن عاشور: "وإذا جاز أن نثبت أحكاماً تعبديةً لا علة لها ولا يطلع على علتها؛ فإنما ذلك في غير أبواب المعاملات المالية والجنائية فأما هذه فلا أرى أن يكون فيها تعبدي, وعلى الفقيه استنباط العلل فيها". وقال: "وكان حقا على أئمة الفقه أن لا يساعدوا على وجود الأحكام التعبدية في تشريع المعاملات, وأن يوقنوا بأنّ ما ادعي التعبد فيه إنما هو أحكام قد خفيت عللها أو دقّت, فإنّ كثيراً من أحكام المعاملات التي تلقاها بعض الأئمة تلغي الأحكام التعبدية قد عانى المسلمون من جرائها متاعب جمة في معاملاتهم, وكانت الأمة منها في كبد حيث يقول الله: ((وما جعل عليكم في الدين من حرج)) [سورة الحج: 78. وانظر مقاصد الشريعة:242،203 - 244 - 284].
الأمر الرابع: ليست المصالح والمفاسد على درجة واحدة:
إذا كان الشرع جاء لتحقيق المصالح ودفع المفاسد فإن المصالح والمفاسد لم تترك على هوى الناس, وإلا لاضطرب الحال وفسد أمر الناس فإنّ الناس مختلفو الأمزجة والأهواء, قال الله تعالى: ((ولو اتبع الحقُ أهواءَهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن..)) [سورة المؤمنون: 71].
وهنا يظهر جلياً ما مضى من أن أعظم مظاهر التمدن وضع التشريع الضابط لحياة الناس, والمحقِّق لمصالحهم وهذا لا يكون إلا من خلال تشريع الله عز وجل وهذه المصالح التي جاء بها الشرع تنحصر في الضروريات والحاجيات, والتحسينات, والضروريات قد حُصرت في حفظ (الدين), و(النفس) و(العقل) و(النسل) و(المال).
وقد شرع الله ما يحفظ هذه المصالح من جهة وجودها وحصولها وبقائها ومن جهة ما يحفظها من أن تنعدم, وشرع مكملات لها بأنواعها الثلاث [انظر المستصفى للغزالي: 1/287، والوجيز لعبد الكريم زيدان: 387].
والمصالح بأنواعها الثلاثة ليست سواء في الأهمية, فأولاها بالرعاية: الضروريات, ثم الحاجيات, ثم التحسينات, وعلى هذا لا يجوز مراعاة الحاجيات إذا كان في ذلك إخلال بالضروريات, ولا يجوز مراعاة التحسينات إذا كان في ذلك إهمال للحاجيات, ولا يجوز مراعاة المكملات إذا كان في ذلك إهدار لما هو أصل لها.
وكذلك المراتب المذكورة كل في حد ذاتها لا يراعى أقلها أهمية إذا كان في ذلك تفويت لما هو أكثر أهمية منها, فلا يجوز القعود عن الجهاد مثلاً جُبنا وضنّا بالنفس؛ لأنّ في هذا القعود تفويتا لحفظ الدين, ورد الاعتداء, وصيانة دار الإسلام, وهذه أمور ضرورية أهم من حفظ النفس وإن كان كلاهما ضرورياً.
ذكر العز بن عبد السلام أمثلة على تقديم واجب على واجب لتفاوت المصلحة فيهما فقال: "تقديم إنقاذ الغرقى على أداء الصلوات؛ لأنّ إنقاذ الغرقى المعصومين عند الله أفضل من أداء الصلاة والجمع بين المصلحتين ممكن, بأن ينقذ الغريق, ثم يقضي الصلاة, ومعلوم أن ما فاته من أداء الصلاة لا يقارب إنقاذ نفس مسلمة من الهلاك, وكذلك إذا رأى في رمضان غريقاً لا يمكن تخليصه إلا بالفطر, فإنه يفطر وينقذه, وهذا أيضا من باب الجمع بين المصالح لأنّ في النفوس حقا لله تعالى, وحقا لصاحب النفس, فقدم ذلك على أداء الصوم دون أصله.." [قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1/57].
على أساس مراعاة المصالح نتجت عدة مبادئ عامة استنبطها الفقهاء وفرعوا منها فروعا كثيرة, ومن هذه المبادئ والقواعد العامة:
[1] الضرر يزال.
[2] يدفع الضرر العام بتحمل الضرر الخاص.
[3] يدفع أشد الضررين بتحمل أخفهما.
[4] درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
[5] الضرورات تبيح المحظورات.
[6] الضرورات تقدر بقدرها.
[7] المشقة تجلب التيسير.
[8] الحرج مدفوع.
وغير ذلك من القواعد العامة.
المقدمة الثالثة: ضغط الواقع وأثره على الفتيا:
إنّ الانصياع لما هو واقع واتباعه من غير تمحيص مذمومٌ شرعاً، وعلى هذا شنعت آيات القرآن على من اقتدوا بآبائهم وجعلوا عملهم حجة فقال لهم: ((أوَلَوْ كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون)) [سورة البقرة: 170]، وقال: ((قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم)) [سورة الزخرف: 24], وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت. ولكن وطِّنوا أنفسكم على أن تحسنوا إن أحسن الناس، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم) [الحديث في بعض السنن، وفيه كلام].
إنّ واقعنا المعاصر بيَّن بجلاء قضية التسلط من الكفار على المسلمين بشتى الذرائع والوسائل, والغرب وعلى رأسهم أمريكا يسندون كل عمل عدواني ضد المسلمين بل يمولون ويمدون حساًّ ومعنى ويستعملون حق النقض على مجرد الإدانة لما يقوم به اليهود ضد الفلسطينيين العزل وغير ذلك من الأمثلة.(/4)
فالاعتداء على المسلمين حاصل سواء وجد من يقاوم أو لم يوجد؛ وعلى هذا الأساس فإنّ الحديث عنهم وكأنهم كفار مسالمون غير سديد فقها،ً وكذلك عن العمليات الاستشهادية بأنها إثارة للفتن أيضا غير دقيق؛ لأنّ الفتنة لم تَنَم حتى يثيرها هذا الذي دُفِع لهذا العمل من أجل الدفاع عن دينه وأهله ونفسه وعرضه. ومثل ذلك الحديث عن ضرب الأمريكان وأعوانهم لأفغانستان بأنّ ذلك يؤدي إلى قتل المواطنين الأبرياء.
إنّ الاعتراض على الضرب بهذا التعليل أيضاً غير صحيح لأنه بمفهومه يبيح ضرب طالبان وكل المجاهدين إن سلم من أذية من وصفوهم بالأبرياء لأننا نقول: بأي فقه رفعنا البراءة عن طالبان ومن معهم؟
وكلنا يعلم بأنّ ضربة أمريكا بمجرد وقوعها قبل البحث عن الأدلة أنيطت الأحداث بالمسلمين, بل وقع الاعتداء عليهم في أنحاء عدة من أمريكا وأوربا, هذا الحديث كله بغض الطرف عن أنّ الحَكَم هو الخصم, وبغض الطرف عن موالاة المؤمن لإخوانه المؤمنين وأنّه لا يكون ظهيراً للكافرين.
وعلى هذا فإنّ للتأثّر بالتفسير التاريخي الذي فرض علينا في تحليل مواقف النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام وجهادهم والتأثير الإعلامي والضغط السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني المفروض علينا أثراً كبيراً على جملة من الفتاوى والمواقف تجاه الأحداث من أفراد وجماعات وجمعيات وهيئات, وهذا يساهم مساهمة فاعلة في تضليل الرأي العام المسلم المهتدي بالفطرة التي هداه الله بها سواء السبيل.
العمليات الاستشهادية:
بعد هذه المقدمة الطويلة التي أرى أنها هادية للدخول في الموضوع من بابه الصحيح بعيداً عن التأثيرات الخارجية الموجهة للبحث نحو ما هو سائد وشائع أتوجه نحو الحديث عن العمليات الاستشهادية باختصار، مقسما العمليات الاستشهادية مستدلا لكل قسم منها بما يدل عليه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما صار عليه فقهاء المسلمين مركَّزا على الجانب التطبيقي في عهد النبي عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين من بعده؛ لأنّ السيرة هي المعيار التطبيقي لعمومات الأدلة وهدايات الوحي والله أسال السداد والتوفيق.
تعريف العمليات الاستشهادية وأثرها على العدو:
العمليات جمع عملية, وهي لفظ مشتق من العمل, وهو صادق على كل فعل يُفعل. أما العملية فهي كلمة محدثة تطلق على جملة أعمال تُحدث أثرا خاصا, يقال عملية جراحية أو حربية [المعجم الوسيط مادة: ع.م.ل].
والظاهر أنه مصدر صناعي دال على معنى مجرد لم يكن يدل عليه قبل الزيادة وهذا المعنى المجرد الجديد هو مجموعة الصفات الخاصة بذلك اللفظ كإنسان وإنسانية وحزب وحزبية وحجة وحجية, وعمل وعملية [انظر النحو الوافي لعباس حسن: 3/186] إلخ..
والشهادة القتل في سبيل الله, واستشهد استفعل من الشهادة, أي تعرض لأن يقتل في سبيل الله.
وعليه فإنّ العمليات الاستشهادية: أعمال خاصة يقوم بها المجاهد تعرضه للقتل في سبيل الله عز وجل.
فإذا كانت العمليات الاستشهادية معنى يدل على مجموعة من الصفات الخاصة المكتسبة بتحويل اللفظ إلى مصدر صناعي فإنّ من أهم الصفات التي تحقق هذا المعنى السامي الذي يكسب صاحبه استنزال النصر من عند الله ويتخذ من قبل الله شهيدا أن يتحلى القائم بهذا العمل: بالتقوى, وعفة النفس والوفاء بالعهد, والإخلاص لله, وتجنب البغي والانتقام عند الظفر, فلا يكون بَطِراً ولا مُرائياً للناس, ولا خوّاراً, بل يكون مقداما صبورا عند اللقاء, وغير متهور وهذه صفات تدل عليها نصوص شرعية واضحة ترشد المجاهد الذي يريد إعلاء كلمة الله. فأين هذا من الذي يريد الانتحار؟ فإنّ المنتحر لا يحتاج لتعريض نفسه لمخاطر الوقوع في كيد الأعداء بل له طرق عدة يتخلص بها من نفسه من غير عنت الإعداد فالذي يقوم بالعمليات الاستشهادية له صفات خاصة وأخلاق خاصة ومبادئ تحكمه, ووعد من الله صادق ينتظره ((قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون)) [سورة التوبة: 52].
أقسام العمليات الاستشهادية:
إنّ المقصد الأصلي للجهاد هو إظهار الدين, وإنّ الاستشهاد ثمرة من ثمرات الجهاد وليس مقصودا لذاته, ومع كونه ثمرة من ثمرات الجهاد, فهو يتضمن مقصدا آخر وهو أن حب الاستشهاد والسعي إليه سبب من أسباب النصر, وهنا يظهر الغرض من الأدلة المحرضة على طلب الشهادة والمغامرة والمجالدة, يظهر لك أنّ الشهادة ثمرة من ثمرات الجهاد لإعزاز دين الله.
وغاية من الغايات لكونه وسيلة من وسائل النصر وإرهاب العدو وأنه موصل إلى الدرجات العلا والنعيم المقيم في الآخرة.
فأصبح بذلك سبباً من الأسباب ونتيجة من نتائج الجهاد باعتبارات مختلفة، فافْهمْ ذلك!
ولتوضيح هذا المدخل أقول:(/5)
حب الاستشهاد له أثره في النصر؛ لأنّ تمني الشهادة والحرص عليها من أعظم ما يدفع المؤمن إلى الإقدام في القتال, ومن هنا كانت الشهادة ورقة النصر في الدنيا, كما أنها وثيقة دخول الجنة في الآخرة.
قال الله تعالى: ((إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم)) [سورة التوبة: 111].
والحرص على الشهادة يعوّض نقص العدد والعدة, وعمليات "الدبابين" التي وقعت في السودان خير مثال شاهد كما هو كثير في عهد السلف الصالح كما أنّ هذا الحرص يرهب أعداء الله؛ لأنهم على النقيض من ذلك, فالكافرون أشد الناس حرصا على الحياة كما بيّنه الله عز وجل في كثير من الآيات, عكس الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرات لما يرى من الكرامة للشهداء كما ثبت في السنة.
وهنا ينبغي التنبيه على أنّ حب الاستشهاد جزء من سياسة الردع الذي هو مبدأ من أهم مبادئ الجهاد, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نُصرت بالرعب مسيرة شهر) [رواه البخاري عن جابر رضي الله عنه]، باعتبار عدم الخصوصية لأنه ذكر قول الله تعالى: ((سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله)) [سورة آل عمران: 151]، ومن الآيات الدالة على سياسة الردع قوله تعالى: ((فإما تثقفنّهم في الحرب فشرِّد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون)) [سورة الأنفال: 57].
ويتحقق مبدأ الردع بالعمل على محورين:
• الأول: المحور الكمي, وهو المعني بقوله: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)) [سورة الأنفال: 57]، والردع في الآية ظاهر في قوله: ((ترهبون به عدو الله)).
ووسيلته القوة, ومفردات هذه القوة: مال ورجال وسلاح.
• الثاني: المحور الكيفي وله شقان:
- شق مادي برفع الكفاءة القتالية للفرد المسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) [رواه مسلم].
- وشق معنوي: بغرس مفاهيم حب الاستشهاد والصبر في نفوس المؤمنين، قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا)) [سورة آل عمران: 200] وقال تعالى: ((إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون)) [سورة النساء: 104]. وقوله صلى الله عليه وسلم: (واعلم أنّ النصر مع الصبر) [انظر العمدة في إعداد العدة للجهاد في سبيل الله تعالى: 314 وما بعدها].
وأنت تعلم أنّ الصفات التي يتسم بها المجاهد المسلم من امتثال الأوامر واجتناب النواهي جزء لا يتجزّأ من سياسة الردع؛ لأنه بالتقوى يكون من جند الله وجند الله هم الغالبون, فإذا علمت هذا فإن الحديث عن الانتحار في حق المجاهد يتعارض مع مقصدهم. والعلم عند الله.
وبعد هذا يحسن بنا الحديث عن أقسام العمليات الاستشهادية:
القسم الأول: ما لا إشكال فيه أنه من قبيل الاستشهاد:
يتمثل هذا النوع من العمليات الاستشهادية التي يعزم القائمون بها على الشهادة, وذلك عن طريق الاشتباك مع العدو في قتال بقصد إلحاق الضرر به, إما بإيقاع الإصابات في صفوفه من قتل, وجراح, أو بث الرعب والقلق في نفوس مقاتليه ورعاياه, وتجرئة المسلمين عليه, مهما بلغت قوة هذا العدو, ولو قدرت في ميزان القوة المادية بأضعاف القوة الإسلامية التي تتصدى له, بل ولو جابه الفرد المسلم ألفاً من الكفار، وهذا النوع من العمليات هو القتال المبرور, والمقتول فيه شهيد في الدنيا والآخرة إن شاء الله. والأدلة في هذه المسألة:
1. ما جاء في صحيح مسلم عن أنس بن مالك صلى الله عليه وسلم: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش. فلما رهِقُوه [أي المشركون. ومعنى (رهقوه) غَشُوه وقَرُبُوا منه. شرح مسلم للنووي: 7/340] قال: من يردهم عنا وله الجنة, أو هو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل: ثم رهقوه أيضا, فقال: من يردهم عنا فله الجنة, أو هو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل, فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: (ما أنصفْنا أصحابنا) [معناه ما أنصفت قريش الأنصار؛ لكون القرشيين لم يخرجوا للقتال, بل خرجت الأنصار واحداً تلو الآخر, وقد روي ما أَنَصَفَنَا بفتح الفاء والمراد على هذا الذين فروا من القتال فإنهم لم ينصفوا لفرارهم: 7/430-431].(/6)
2. وروى أبو داود في سننه وغيره عن أسلم بن عمران, قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والروم ملصقون ظهورهم بحائط المدينة, فحمل رجل على العدو فقال الناس: مَهْ, مَهْ, لا إله إلا الله يُلقي بيده إلى التهلكة, فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار, لما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام, قلنا هلمّ نقيم في أموالنا ونصلحُها, فأنزل الله ((وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة)) [سورة البقرة: 195] فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد, قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب مجاهداً في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية) [الحديث رقم: 2512].
3. وروى أبو داود أيضاً عن ابن مسعود في باب الرجل الذي يشري نفسه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجب ربنا من رجل غزا في سبيل الله فانهزم) يعني أصحابُه (فعلم ما عليه فرجع حتى أهريق دمه فيقول الله تعالى لملائكته: انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي حتى أهريق دمه) [الحديث رقم: 2536].
4. وروى مسلم في صحيحه قصة أصحاب الأخدود, وفيه أنّ الغلام هو الذي دلّ الملك على طريقة قتله رجاء أن يُسلم الناس فحصل ما رجاه فقال الناس جميعاً: آمنا برب الغلام.
5. قال الشافعي متحدثاً عن جواز الاقتحام ولو أدى إلى مهلكة: "ألا ترى أني لا أرى ضيقاً على الرجل أن يحمل على الجماعة حاسراً أو يبادر الرجل وإن كان الأغلب أنه مقتول, لأنه قد بودر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: وحمل رجل من الأنصار حاسراً على جماعة من المشركين يوم بدر بعد إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بما في ذلك من الخير فقتل" [الأم: 4/169].
القسم الثاني: أن يموت القائم بالعملية بسلاحه:
هذا النوع من العمليات نحو أن يضع المجاهد في سيارته بعض القنابل أو المواد المتفجرة, أو يحيط جسمه بحزام منها ثم يقتحم على الأعداء مقرهم بقصد القضاء على العدو الذي أمامه ولو عن طريق التضحية بنفسه. هذا النوع من العمليات يظهر من الأدلة أنه أكثر وضوحا في الجواز من مسألة التترُّس التي لا يختلف الفقهاء في جوازها إذا كان الترك يؤدي إلى ضرر أعظم.
وجوه جواز العمليات الاستشهادية:
الوجه الأول:
إنّ الإمام البخاري في كتاب الجنائز من صحيحه ترجم بقوله: باب ما جاء في قاتل النفس. ولم يورد في الباب حديثا في حكم القاتل لغيره بغير حق مع أنه هو المتبادر ولكنه ذكر أحاديث في حكم من قتل نفسه.
فقال الشارحون له؛ مقصود الترجمة حكم قاتل النفس, والمذكور في الباب حكم قاتل نفسه, فهو أخص من الترجمة, ولكنه أراد أن يلحق بقاتل نفسه قاتل غيره من باب أولى؛ لأنه إذا كان قاتل نفسه الذي لم يتعدّ ظلم نفسه ثبت فيه الوعيد الشديد فأولى من ظلم غيره بقتل نفسه.
قال ابن المنيّر: عادة البخاري إذا توقف في شيء ترجم عليه ترجمة مبهمة كأنه ينبه على طريق الاجتهاد [انظر فتح الباري: 3/226]. وعليه فإنه إذا كان جائزا قتل الغير من المسلمين أو غيرهم ممن لا يجوز قتلهم في مسألة التترس لدفع ضرر أكبر فإنه يجوز تعاطي ما يكون سبباً في قتل نفس القائم بالعملية من باب أولى لأن ضرره غير متعدٍّ وأنت تعلم أنّ هذا النوع من القياس هو محل اتفاق عند العلماء حتى نفاة القياس اعتبروه وإن اختلفوا في تسميته. فمنهم من سماه دلالة نص, ومنهم من سماه مفهوم موافقة إلى غير ذلك.
الوجه الثاني:
إنّ المحافظة على النفس مقصد من مقاصد الشرع, وأنّ إلغاء اعتبارها وتعريضها للقتل, بل التحريض على الاستشهاد سببه المحافظة على مقصد أعظم منها, وهو الدين, وأنّ تعريض النفس لا يشرع إذا لم تحقق المخاطرة بالنفس نكايةً بالعدو, أو تجرئة المسلمين عليهم, أو إرهابهم أو تخويفهم من الاعتداء على المسلمين، وأنّ مناط الحكم ليست الآلة التي قُتِل بها, أو على يد من قُتِل, بل أساس مشروعية الإقدام هو تحقيق الأغراض المذكورة أو طلب الشهادة, وإلا لم يصحَّ شهادة من قتله سيفه, كما روى أبو داود عن سلمة بن الأكوع قال: "لما كان يوم خيبر قاتل أخي قتالاً شديداً فارتد عليه سيفه فقتله فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وشكّوا فيه: رجل مات بسلاحه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كذبوا مات جاهداً مجاهداً فله أجره مرتين)" [السنن: 3/20].
وأخرج أيضاً عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أغرنا على حي من جهينة, فطلب رجل من المسلمين رجلاً منهم فضربه فأخطأه وأصاب نفسه بالسيف, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخوكم يا معشر المسلمين) فابتدره الناس فوجدوه قد مات, فلفَّه رسول الله بثيابه ودمائه وصلى عليه ودفنه, فقالوا: يا رسول الله, أشهيد هو؟ قال:(نعم وأنا له شهيد) [السنن: 3/21].(/7)
قد يعترض معترض بأن هذا قد أخطأ! ولكن نقول نعم قد أخطأ والخطأ رافع للإثم فقط في مثل هذا, ولكن تحقق الشهادة يدل على أنّ مناط الحكم ليس بِمَ قُتل ومَن قتله؟ إنما مناط الحكم ماذا نوى بقتاله وما الذي يحققه من ورائه, وحديث الفقهاء عند الفرد الذي يريد اقتحام الجيش يدلّ على هذا, والسبر والتقسيم أيضا يدل على أنّ مناط الحكم هو ماذا قصد, وما الذي يجنيه من وراء استبساله؟ والعلم عند الله.
الوجه الثالث:
إنّ السلف الصالح قد قاموا بعمليات استشهادية جمة في محضر النبي صلى الله عليه وسلم وبعده, بكيفيات مختلفة ووسائل شتى مما يدل على أنهم فهموا من خلال النصوص الشرعية والتربية العملية من النبي عليه الصلاة والسلام, أنّ النفس البشرية ملك لله تعالى, وهي أمانة عند الإنسان, فإذا بذلها في سبيل الله فقد أدى الأمانة إلى صاحبها على أي وجه كان هذا الأداء, وإن بذلها لغيره فقد خان الأمانة لذلك فرقت النية بين من جاهد لتكون كلمة الله هي العليا, وبين من قاتل شجاعة أو حمية وإن اتحد طريق القتال بين الشخصين, فقد قاموا بعمليات استشهادية بالوسائل المتاحة عندهم ولم يتوقفوا عند وسيلة إذا كانت الأخرى أجدى في تحقيق الغرض ونكاية العدو, وإليك بعض الأمثلة:
1. إنّ بعض الصحابة يقدم نفسه دفاعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في قصة الأنصار السبعة الذين فدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الواحد تلو الآخر، وذلك في يوم أُحُد.
2. إنّ أبا طلحة رضي الله عنه وضع نفسه ترساً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى شُلت يده [رواه البخاري].
3. وفي اليمامة لما تحصن بنو حنيفة في بستان مسيلمة الذي كان يُعرف بحديقة الموت, قال البراء بن مالك لأصحابه, دعوني في الجحفة وألقوني إليهم فألقوه عليهم فقاتلهم حتى فتح الباب للمسلمين [رواه البيهقي في سننه الكبرى: 9/44].
4. ما جاء بأنّ عسكر المسلمين لما لقي الفرس, نفرت خيل المسلمين من الفيلة, وذلك في وقعة الجسر, فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به فرسه حتى ألفه, فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل, فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له: إنه قاتلك. فقال: لا ضير أن أُقتل ويفتح للمسلمين [تفسير الطبري: 2/363].
5. وفي الصحيحين عن يزيد بن أبي عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع رضي الله عنه على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية؟ قال: على الموت.
6. وروى ابن أبي شيبة [كما في مصنفه: 5/322] عن ابن عون عن محمد قال جاءت كتيبة من قبل المشرق, من كتائب الكفار, فلقيهم رجل من الأنصار, فحمل عليهم فخرق الصف حتى خرج, ثم كرّ راجعا فصنع مثل ذلك مرتين أو ثلاثا, فإذا سعد بن هشام يذكر ذلك لأبي هريرة فتلا هذه الآية ((ومن الناس من يشري نفسه..)) [سورة البقرة: 207].
7. قال القرطبي: "والصحيح عندي جواز الاقتحام على العساكر لمن لا طاقة له بهم, لأنّ فيه أربعة وجوه:
الأول: طلب الشهادة. الثاني: وجود النكاية. الثالث: تجرئة المسلمين عليهم. الرابع: ضعف نفوسهم ليروا أنّ هذا صنع واحد فما ظنك بالجمع" [تفسير القرطبي: 2/364].
فهذه الشواهد التي ذكرت ـ وغيرها كثير ـ تفيد بأنّ الاقتحام المفضي إلى الموت أمر مشتهر بين الصحابة والتابعين.
8. إنني لا أرى التوغل والشرح لبيان الفرق بين الانتحار والعملية الاستشهادية لأنهما لم يلتبسا على وجه يشكل على طالب العلم، ولكن الذي يظهر لي أنّ الإعلام العلماني يركز في الشرح على أنّ الذين يقومون بهذه العمليات الانتحارية لهم دوافع نفسية تركتهم يرتكبون مثل هذه الأعمال, وهذا مثل تفسيرهم للتاريخ الجهادي.
الوجه الرابع:
إذا نظرنا إلى العمليات الاستشهادية من جهة الجدوى والفائدة فإنها تحقق كل الشروط التي وضعت لجواز الاقتحام من نكاية العدو وتجرئة المسلمين.. إلخ.
بل إننا لو منعنا هذا الطريق من الجهاد فإنّ هذا العدو الشرس يتسلط على المسلمين أكثر, ويفسد دينهم بطريقة أحكم مما كان وذلك:
1. بمنع المؤمنين من القيام بشرائع دينهم كما حصل من الشيوعيين ولم ينفرج الأمر نوعاً ما إلا بعد جهاد المجاهدين في أفغانستان.
2. تثبيت الأحكام والقوانين المنافية للإسلام بصورة أدق مما يبعد المسلمين عن تصورهم لدينهم أكثر مما كان, فقد نزعوا عن المسلمين أحكام المعاملات والجنايات, وتركوا لهم شيئاً يسمى قانون الأسرة وبعد مقررات مؤتمر شرم الشيخ ومؤتمر بكين, والعولمة التي تريد أن تأكل الأخضر واليابس لم يبق لإيقاف هذا سوى الجهاد الممكن.
3. صد غير المسلمين عن الدين بالتعتيم على حقائقه وتشويه تعاليمه ورمي المؤمنين به بالشر والعدوانية, ولكن الأحداث والبطولات التي تقع هنا وهناك التي تنادي بترك المسلمين وشأنهم يفتح الطريق أمام المتطلعين فنستفيد من إيصال البلاغ المبين.
ما يُورد من الإشكال بأن هذه العمليات تصيب الأبرياء:(/8)
إنّ الذين يجيبون على هذه المسألة يستدلون بمسألة التترس المعلومة عند الفقهاء بأننا إذا لم نستطع الوصول إلى الكفار إلا بعد رمي من جعلوهم ترساً من المسلمين الأسرى, أو النساء والأطفال والشيوخ ونحوهم فإنه في هذه الحالة نحكِّم القواعد التي تنظم مسألة المصالح والمفاسد العامة.
فإن أدى تركهم إلى مفسدة أعظم من قتلهم يُرْمَوْن ويقصد المقاتلون بالرمي فإذا أصاب من لا يجوز قتله من غير قصد فلا ضير.
ومسألة إهدار النفس لمقصد أعظم من بقائها هو مبنى مشروعية الجهاد أصلا, فإذاً لا إشكال في ذلك.
1. وقد حكى الاتفاق من أهل العلم على هذا ابن تيمية وغيره فقال: "ولقد اتفق العلماء على أنّ جيش الكفار إذا تترسوا بالعدو بمن عندهم من أسرى المسلمين, وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يُقاتلوا؛ فإنهم يقاتلون وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم" [مجموع الفتاوى: 20/52، 28/537-546].
2. وقال الإمام الشافعي: "إذا كان في حصن المشركين نساء وأطفال وأسرى مسلمون فلا بأس بأنّ ينصب المنجنيق على الحصن.. وقال: والنفط والنار مثل المنجنيق. وكذلك الماء والدخان" [الأم: 4/287] . وقال: "ولا بأس بقطع الشجر المثمر وتخريب العامرة وتحريقه من بلاد العدو.." [نفس المرجع السابق].
3. وقال الشيخ عطية في أضواء البيان عند قوله تعالى: ((ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين)) [سورة الحشر: 5]: "والذي يظهر أنّ الإذن المذكور في الآية هو إذن شرعي, وهو ما يؤخذ من عموم الإذن المذكور في قوله تعالى: ((أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإنّ الله على نصرهم لقدير)) [سورة الحج: 39] لأنّ الإذن بالقتال إذن بكل ما يتطلبه, بناء على قاعدة: الأمر بالشيء أمر به و بما لا يتم إلا به ["ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجد"، أصول الفقه الإسلامي، وهبة الزحيلي: 1/67].
والحصار نوع من القتال.. إذا حاصر المسلمون عدوا ورأوا أنّ من مصلحتهم أو مذلة العدو إتلاف منشآته وأمواله فلا مانع من ذلك وهي من الأغراض الحربية التي أشار الله إليها تعالى في قوله: ((وليخزي الفاسقين)).
4. وقد نصب النبي صلى الله عليه وسلم المنجنيق على أهل الطائف ورماهم به كما في صحيح مسلم، ولا شك أنه لا يفرق بين المقاتلة وغيرهم في الإصابة.
5. وعن الصعب بن جثامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الديار من ديار المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال:(هم منهم) [متفق عليه].
والأدلة هنا كثيرة ومتنوعة.
6. إنّ الشعوب الكافرة في هذا الوقت الذي نحن فيه غير خارجين عن عموم هذه الأدلة, ولأنهم محاربون لاسيما الأمريكيون فإنهم يحاربون الإسلام والمسلمين بشتى أصناف الحرابة كما هو الحال في موقفهم مع اليهود تجاه الفلسطينيين. بل لم يكتفوا بالحرب الفعلية وأعلنوها على لسان رئيسهم, وقالوا إنها حرب صليبية.
ولأنّ نساءهم وشيوخهم جزء أصيل في إقرار السياسة الأمريكية تجاه الآخرين وأنهم يرون ويسمعون ما يُفعل بالمسلمين من قبل حكوماتهم ومع ذلك ينتخبونهم وبرامجهم فهم أولى بالحكم من مسألة التترس التي جُعلت أصلاً.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
التعقيب على ورقة ((العمليات الاستشهادية..رؤية شرعية))
الشيخ إبراهيم الضرير:
ليس معاني الرحمة في الدين بأولى في الإظهار من معاني الشدة فيه, خاصّةً في زمان ضعف المسلمين وهوانهم وتعيُّن الجهاد عليهم.
[1] تعيّنت هذه العمليات الاستشهادية - في زمن خضوع الحكام - سبيلاً لإعلان الجهاد وقهر العدوّ.
[2] الأمر لا يحتاج إلى إمام يُستأذَن؛ إذ إنّ الجهاد متعيِّن بالاعتداء على حرمات المسلمين في كل مكان, بل منذ سقطت الأندلس في أيديهم.
[3] الأصل في دماء المسلمين العصمة, أما دماء غير المسلمين فغير محصنة إلا بعهد ذمة و أمان.
[4] النصوص الواردة في النهي عن قتل النساء والأطفال, مقصودٌ بها إرادة قتلهم أصالة. أما موتهم تبعاً للمقاتلة ـ نكايةً في قومهم - فجائز كما في حديث التبييت ليلاً ونصب المنجنيق على الطائف, وقطع أموال بني النضير وخيبر [ذكر الشيخ أقولاً عن الشافعي ومحمد بن الحسن الشيباني تؤيد ذلك].
[5]ليس هناك في الاعتبار الشرعي مدنيّ وعسكريّ فحسب, إنما الاعتبار للمشاركة في حرب المسلمين بالقتال والرأي والمال... ودليله قتل النبي صلى الله عليه وسلم كل قادر على حمل السلاح من رجل بني قريظة.
الشيخ مساعد بشير علي:
[1] ضرورة العلم والمعرفة؛ لأنّ الجهاد لا يقوم إلا بالعلم.
[2] لزوم الاستقامة سبيل النصر والتمكين.
الشيخ محمد عبد الكريم:
[1] التفريق بين الانتحار والعملية الاستشهادية (بوجود الدافع العقدي الصحيح عند صاحب العملية الاستشهادية, مع توفُّر دواعي حُبّ البقاء, وليس طلباً للموت وكراهيةً للحياة).(/9)
[2] دفع شبهة وجوب إعلان الحرب في العمليات الاستشهادية؛ لأنه لم يكن هناك عَهْدٌ أصلاً حتى يُنبَذ على سواء. بل الحرب معلنة مسبقاً.
[3] دفع شبهة براءة المقتولين في العمليات الاستشهادية ضدّ الأمريكيين: بأنها إذا جازت في حق اليهود, فإنها في حق الأمريكيين من باب أَوْلَى؛ لشمولية حربهم ضد الإسلام من جهة اقتصادية وعسكرية وسياسية. واليهود إنما يتخفَّوْن وراء الأمريكيين ويحتمون بهم.(/10)
العملُ الخيريّ بين التّشريع والتّطبيع
د. محمد بن عبدالله السلومي 18/5/1425
06/07/2004
ـ ورد في سُنَن النّسائي وغيره : عن رسول الله –صلّى الله عليه وسلم- أنّه قال: (سبق درهم مائةَ ألفِ درهم ! ) قالوا يا رسول الله : وكيف ؟ ! قال : ( رجل له درهمان فأخذ أحدهما فتصدّق به ، ورجل له مالٌ كثيرٌ ، فأخذ من عُرض ماله مائة ألف ، فتصدّق بها ) .
حيث هنا تتأكّد أهميّة المشاركة بالدّرهم وأنّه يسبق أحياناً مائة ألف درهم .
ـ وورد في سنن أبي داود : قوله صلى الله عليه وسلم: ( أفضل الصّدقة جُهْدُ المُقِل ، وابدأ بمن تَعُول )
ـ وورد في سنن الترمذي : قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ( مَنْ دلّ على خير فله مثل أجر فاعله أو قال عامله ) .
ـ كما ورد في صحيح الجامع ( البيهقي وابن أبي الدّنيا) :
قال رسول الله –صلّى الله عليه وسلم-: ( أفضل الأعمال أنْ تُدخل على أخيك المؤمن سرورًا ، أو تقضي عنه ديناً ، أو تطعمه خبزاً ) .
هذه الأحاديث وغيرها كثير تؤكد أنّ أعمال الخير والبرّ في ديننا الإسلاميّ تقوم على التنوّع والتعدّد في الوسائل والغايات ، كما تقوم على إشراك وتجييش كلّ الأمّة صغيرها وكبيرها ذَكَرها وأُنْثاها ، بل تقوم على مشاركة الفقراء ليس من خلال احتياجهم ولكن من خلال عطائهم الماديّ اليسير ومشاركتهم المعنويّة ، كما أنّ الذي لا يجد من الخير الماديّ شيئاً فإنّ عليه أن يُشارك في الدّلالة عليه : ( من دلّ على خير فله مثلُ أجر فاعله ) وإذا كان هذا هو الحال فإنّ هذا له متطلباته في المجتمع المسلم من ميلاد كل أنواع المؤسّسات والجمعّيات الخيريّة التي تُعنى حتى بإدخال السّرور على كل مسلم ومسلمة .
وهي دعوة إلى إيجاد كل ما يحقّق الخيريّة لأمّة محمد –صلى الله عليه وسلم- من مراكز التّدريب والتّطوير والإسعافات، بل ومراكز التّرفيه النّظيف والمُؤسّسات المتخصّصة في معالجة كل جوانب الفقر، وليس فقط فقر الغذاء والدواء، بل فقر العلم والمعرفة وفقر الصّناعة والتّقنية الذي هو من القوّة المطلوبة للأمّة الإسلاميّة .
إنّ هذه الأحاديث وغيرها تؤكد على مشاركة المُقِلِّين والمعسرين وهذا يؤكد على أهميّة تواجد وزيادة أعداد صناديق التبرعات في كل مسجد ومدرسة وسوق لاستيعاب كل جهد مُقِل وكل صاحب درهم، وتكون المشاركة حتى باليسير ومتاحاً للصغار والطلاب والفقراء ، فقد يكون الطرف المُعْطِي أحوج للخير والمشاركة من الطرف الآخذ, وهذا ما تعمل به جميع الأمم والدول حتى في الفنادق والطائرات والمطارات ودور العبادة بل وعلى الشبكات المعلوماتيّة وفي القنوات الفضائيّة كحق قانوني للمُعطي والآخذ والخطأ المحتمل هناك يُصحّح ويُعالج.
وحينما نأخذ بمبادئ السيرة النبويّة ونعمل بالسّنة النبويّة فإنّ القطاع الخيريّ في الإسلام قد يصل من حيث الموارد الماليّة وتلبية احتياج حقوق الإنسان إلى أن يكون هو القطاع الأول من قطاعات التنمية الرّئيسة الثلاثة للدولة ( القطاع الحكوميّ والقطاع التجاريّ الخاص والقطاع الخيريّ ) وذلك من حيث الترتيب ؛ لأنّ الحضارة الإسلاميّة عبر التاريخ نتاج هذا القطاع حتى كان موقعه الإداريّ والتنمويّ قبل القطاع الحكوميّ والقطاع التجاريّ . وقد تمّ تغييب القطاع الخيريّ الإسلاميّ من موقعه الإداري والاعتباري في دول العالم العربي منذ عام 1224هـ زمن "محمد علي باشا" حينما أمّم العمل الخيري بتأميم الأوقاف والمساجد وأنظمتها وذلك بمشورة بعض الخبراء الفرنسيين وأصبحت الأعمال الخيرية من مسؤولية الدولة مع أنها حق للأمّة على الأمّة لتتفرّغ الدّولة للأمن الداخلي والخارجي. وبهذا التأميم والتّرسيم أُعطيت الأعمال الخيريّة فضول المواقع الإدارية، والأوقات والأموال لتعطي فضول النتائج بل وأصبح هذا القطاع بغياب مفاهيمه الإدارية والمؤسّسية الصحيحة التي تعطيه الصّفة الاعتباريّة والاستقلاليّة غائب عن الشّراكة في عمليّات التّنمية منذ ذلك الوقت . وحينما بدأت المؤسّسات الخيريّة الإسلاميّة في العالم أجمع لاستعادة شيء من هذه المكانة، وهي لازالت وليدة وفي طور الحضانة ماديّاً وإداريّاً كانت ( دعاوى الإرهاب ) جاهزة ومُعلّبة للإجهاز عليها .
ويكفي أنْ نعلم أن هذا القطاع في دول الشمال قد تم تطبيعه في كل مجالات الدولة والأمّة من دراسات وأبحاث ومناهج وجامعات وتطوّع وتبرّعات وبكل الوسائل, كما أنّ لهذا القطاع مُسَمّيات في ظلّ الإدارة الحديثة لأيّ دولة من الدول المتقدّمة مادياً، ولكل اسم دِلالات معيّنة وهامّة ومنها :
1- القِطاع المستقل ( Independent Sector ) ويُرمز له ( IS )
2- قِطاع المنظّمات غير الحكومية : ( Non Government Organization ) ويُرمز له : ( NGO )
3- قِطاع المنظّمات غير الربحيّة ( Non Profit Organization ) ويُرمز له (NPO )
4- القِطاع الخيريّ ( Charitable Sector ) ويُسمّى كذلك (Philanthropy Sector ) كتخصّص دقيق .(/1)
إن الإدارة الحديثة للدولة والتي تعمل بها أمريكا ودول أوروبا وكثير من دول آسيا وبشكل عام كما يقال "دُول الشمال" كلها تعمل بمفهوم القطاع الثالث كقطاع شريك للقطاعين الآخريْن في عمليّات التّنمية , فيكون للقطاع الخيريّ جامعاته ومراكز بحوثه ودراساته ومستشفياته وشركاته الاستثمارية ومدارسه ليقوم بمساندة القطاع الحكوميّ وسدّ ثغراته, كما يقوم بالحد من جشع وطمع القطاع الخاص التجاريّ " كعملية توازن " والعمل وفق هذه الحقيقة الإداريّة هو الذي تطبقه الإدارة الحديثة للدولة في معظم دول العالم وهو التطبيع الذي تعمل به تلك الدول، كما أنّه لا يخرج عما رسمته السّيرة النبويّة وشرَّعته السّنة النّبويّة بدون تعسّف في فهم النصوص الواردة في هذا الشّأن، بل وكان العمل به عبر القرون السّابقة كما سبق.(/2)
العنصرية العرقية
صناعة "أمريكاني " "أصلي "
*******
إذا كانت قناة " الخرة بلفرنجي " تستهدف كما قال رئيس مجلس محافظي القناة كنيث توملينسون في شهادة له أمام الكونجرس في 10 فبراير 'إننا سنتحدى أصوات الكراهية والقمع بالحقيقة وأصوات التسامح والاعتدال وسيستمع الناس إلى بحث حر منفتح ليس حول مجرد الصراع في الشرق الأوسط"
وإذا كانت كما يذهب آخرون" تمثل توجه الإدارة الأمريكية الحالية ، كما تمثل توجها أمريكيا قديما نحو أمركة العالم ، إذ هم أي الأمريكيون منذ أن ظهروا على وجه التاريخ يرون في أنفسهم قمة النموذج الإنساني وليس هذا فحسب بل يرون أن عليهم دورا عالميا وهو نشر هذه القيم والأخلاق الأمريكية في كافة أرجاء العالم ، وفي هذا الصدد قال الرئيس الأمريكي الأسبق تيودور روزفلت [1858 ـ 1919]: 'أمركة العالم هي مصير وقدر أمتنا' .
فإننا نهدي إلى هذه القناة حقيقة نتحدى أن تقدمها إلى روادها ومشاهديها وهي انها أي أمريكا هي مبدعة العنصرية العرقية في التاريخ ، كما يشهد بذلك " شاهد من أهلها " في كتاب " الغرب والعالم " للدكتور كافين رايلي ، المؤرخ الأمريكي ورئيس جمعية التاريخ العالمي ( 1982-1983) وعضو الجمعية التاريخية الأمريكية وهو من الكتب القليلة التي من شأنها أن تؤثر جذريا في معلوماتنا الشائعة عن بعض القضايا الشائكة المطروحة عصريا لتقلبها من النقيض إلى النقيض
وكما يقول ناشر الكتاب في طبعته التي ترجمها إلى العربية الدكتورعبد الوهاب محمد المسيري والدكتورة هدى عبد السميع حجازي ونشرته مؤسسة عالم المعرفة بالكويت تحت الرقم 97 : ( يعد الكتاب الذي بين يدي القارئ نموذجا خاصا ومتميزا في تدريس التاريخ من خلال قضايا وموضوعات )
من أهم قضايا الكتاب محاولة الإجابة على السؤال الهام التالي :
متى ظهرت العنصرية العرقية ؟
في هذه القضية يذهب أحد أشهر علماء الإنثربولوجيا وهو كلود ليفي شتراوس إلى أن العنصرية اختراع قديم نشأ بعد أن ظلت الشعوب البدائية المنعزلة تتصور أنها وحدها الكائنات الإنسانية في العالم ، وعندما اكتشفت وجود شعوب أخرى فإنها كانت تنظر إلى الدخلاء على أنهم دون المستوى الإنساني وتشير إليهم على أنهم " القرود الدنيا" أو الأشرار أو الأشباح ، ونادرا ما كانوا ينظرون إليهم على أنهم أفراد من جنس مختلف ، وتصوروا أن كل الأجانب يختلفون عنهم إلى درجة تجعلهم غير آدميين .
وعلى سبيل المثال فبعد سنوات قليلة من اكتشاف كولمبوس لأمريكا بعث الأسبان لجانا لتبحث فيما إذا كان للهنود نفوس حتى يمكن اكتشاف ما إذا كانوا بشرا أم لا
وفي نفس الوقت الذي بدأت فيه هذه البعثات بحثها كانت جماعة من الهنود تقوم بإغراق بعض البيض الذين أسروهم أثناء رحلة سابقة حتى تعرف هل تتعفن جثتهم كما تتعفن الأجسام البشرية الهندية ( الغرب والعالم ص 99 )
ولقد كان لهذا الاعتقاد أثره الفعال فيما جرى للهنود الحمر من إبادة وتطهير عرقي على يد المكتشفين الأوربيين
في هذا الشأن " اعتبرالرئيس الفنزويلي هوغو شافيز (الأحد12\10\2003 ) -- في الاحتفالات التقليدية بذكرى اكتشاف كريستوفر كولومبوس لأميركا في 12 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1492 – ( أن اكتشاف القارة الأميركية فتح المجال لعملية إبادة للسكان الأصليين . )
وأنكر ما يسمى في التاريخ "اكتشاف أمريكا " ، مصححا إياه إلى " إبادة أمريكا "
وقال شافيز في كلمته المتلفزة الأسبوعية " ليس هناك ما يحتفل به في الثاني عشر من أكتوبر/ تشرين الأول، .. من الكذب القول إن اليوم هو ذكرى اكتشاف أميركا".
وأضاف الرئيس الفنزويلي أن عملية "اجتياح وإبادة واستعمار وتدمير" للقارة التي راح ضحيتها السكان الأصليون بدأت في الثاني عشر من أكتوبر/ تشرين الأول 1492" مؤكدا أنه لهذه الأسباب " لم يكن كريستوفر كولومبوس رائدا" بل "هو شخص قاد أكبر مجزرة في التاريخ".
واعتبر شافيز -- خلال لقاء السبت مع ممثلين عن السكان الأصليين لبلاده – اعتبر أن كولومبوس " كان رأس حربة الاجتياح كما كان رأس أكبر عملية إبادة في تاريخ الشعوب". واتهم المؤرخين الغربيين بأنهم غطوا مجزرة طالت 97 مليونا من سكان القارة الأميركية الأصليين ، وبأنهم أشادوا بجنود كولومبوس الذين "كانوا أسوأ من جنود هتلر".
وأكد شافيز : ( أن الأوروبيين كانوا على علم بوجود القارة الأميركية قبل كولومبوس بفترة طويلة، مضيفا أنهم قرروا فتح القارة بهدف "نهب" ثرواتها فقط . وتابع أن "جنود الاجتياح رفعوا صليب المسيح وباسم الرب هاجموا شعبا وارتكبوا مجزرة في حقه ونهبوه وزرعوا الأمراض" التي قضت على الهنود. )
وإذا كان كلود ليفي شتراوس قد أرجع هذه النظرة العرقية نحو الآخر إلى حالة الانعزال التي يمر بها كل شعب بدائي في حالة عزلته الأولى فلا بد من أن نبادر هنا إلى أنها نظرة غير صحيحة في تعميمها على جميع الشعوب المعزولة(/1)
لقد كان العرب في شبه عزلة في الجزيرة العربية ومع ذلك تفهموا شريعة الله التي أصلت أخوة البشر في انتمائهم لأصل واحد ، واستجابوا لها في قوله تعالى في سورة الحجرات : { يَأَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوَاْ إِنّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(13) ، وفي قوله تعالى في سورة النساء {يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ ، وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ، وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً ، وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}(1)
وفي قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع – كما جاء في المعجم الكبيرللطبراني : بسنده عن العداء بن عمرو بن عامر فارس الضحياء في الجاهلية قال : صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقعدت تحت منبره يوم حجة الوداع فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( إن الله عز وجل يقول " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " فليس لعربي على عجمي فضل ولا لعجمي على عربي فضل ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود فضل إلا بالتقوى
يا معشر قريش لا تجيئوني بالدنيا تحملونها على أعناقكم ويجيء الناس بالآخرة فإني لا أغني عنكم من الله شيئا )
وفي قوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء بمسند الشهاب بسنده عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الناس كأسنان المشط )
وفي قوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء في صحيح ابن حبان بسنده عن ابن عمر رضي الله عنه قال : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته القصواء يوم الفتح ، واستلم الركن بمحجنه ، وما وجد لها مناخا في المسجد حتى أخرجت إلى بطن الوادي فأنيخت ، ثم حمد الله واثنى عليه ثم قال : أما بعد أيها الناس فإن الله قد اذهب عنكم عبية الجاهلية ، يا أيها الناس إنما الناس رجلان : بر تقي كريم على ربه ، وفاجر شقي هين على ربه ، ثم تلا { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا الحجرات } حتى قرا الآية ثم قال ك أقول هذا واستغفر الله لي ولكم
وفي قوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء بمسند الإمام أحمد بن حنبل بسنده عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية ، وفخرها بالآباء ، مؤمن تقي وفاجر شقي ، والناس بنو آدم وآدم من تراب ، لينتهين أقوام فخرهم برجال ، أو ليكونن أهون عند الله من عدتهم من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن )
وعبية الجاهلية - بضم العين المهملة وكسر الموحدة المشددة وفتح المثناة التحتية المشددة -- أي فخرها وتكبرها ونخوتها ، وأصله من العب وهو الثقل يقال عبية وعبية بضم العين وكسرها : " مؤمن تقي وفاجر شقي " قال الخطابي : معناه أن الناس رجلان مؤمن تقي فهو الخيرالفاضل وإن لم يكن حسيبا في قومه ، وفاجر شقي فهو الدني وإن كان في أهله شريفا رفيعا اهـ
وقيل معناه : أن المفتخر المتكبر إما مؤمن تقي فإذن لا ينبغي له أن يتكبر على أحد ، أو فاجر شقي فهو ذليل عند الله ، والذليل لا يستحق التكبر ، فالتكبر منفي بكل حال .
ومن معاني التوجيه النبوي : أنتم بنو آدم ، وآدم من تراب ، أي فلا يليق بمن أصله التراب النخوة والكبر
ومن معانيه : ليصيرن الفخور المتكبر بعنصرية الآباء والأجداد أهون و أذل عند الله من الجعلان - بكسر الجيم وسكون العين - جمع جعل - بضم ففتح – وهي دويبة سوداء تدير الروث بأنفها . يوجد كثيرا في مراح البقر والجواميس ومواضع الروث ومن شأنه جمع النجاسة وادخارها
هذه هي تعاليم الإسلام وهديه يبن العرب ، وقد كانوا عند نزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم في شبه عزلة بين الأمم من حولهم ، فما استقر فيهم منطق العنصرية العرقية وما هجروا هدي الله بعد أن نزل إليهم في الأخوة الإنسانية
فليست التفرقة العنصرية في تقديرنا راجعة إذن إلى حالة عزلة عن الأجناس الأخرى بقدر ما هي راجعة إلى عزلة عن هدي الله الذي أطل على البشرية كلها ، يقول تعالى : ( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) فاطر 24 ، فاخذ بمعاييره من أخذ ، وهجرها من هجر لعوامل أخرى تستحق الدراسة .
ولذا ذهب عالم آخر من علماء الإنثربولوجيا وهو ميشيل ليريس إلى وجهة نظر أخرى في أن التحيز العنصري اختراع حديث ظهر على يد الرجل الأبيض لظروف خاصة به تتعلق بالجذور الثقافية من جهة ، والظروف الاستعمارية للأرض الجديدة ( امريكا ) وظاهرة الرق من ناحية أخرى .(/2)
ويعترف ليريس بأن معظم المجتمعات التي درسها علماء الإنثربولوجيا تكشف عن وجود ما يمكن تسميته " الاعتزاز بالجماعة " حيث تعد الجماعة نفسها أفضل من غيرها لكنها في هذا الاعتزاز لا تدعي لنفسها أية مزاعم عنصرية ، فهي لا تتعالى -- على سبيل المثال -- عن الدخول في تحالفات مؤقتة مع غيرها من الجماعات ولا عن التزواج بينهم
و يذهب إلى أن " العنصرية " العرقية لاوجود لها في المجتمعات البدائية والقديمة ، ومنها شعوب الشرق الأوسط ، ومنهم اليونانيون القدماء الذين وإن كانوا يطلقون على جيرانهم اسم " البرابرة " فقد كانوا يعنون بذلك أنهم غير متحضرين أو مثقفين ولم يعنوا قط أنهم ليسوا ببشر - ص 100 –
لقد كان اليونانيون يزدرون الأجانب لما ينقصهم من الاستقلال والحيوية اللذين تقدمهما الثقافة اليونانية ، ولكنهم لم يكونوا " عنصريين " لأنهم لا يعدون العيوب الثقافية لجيرانهم مستعصية على العلاج والشفاء ، كانوا - على سبيل المثال - يعدون الأسيويين جبناء ، ولكنهم لم يكونوا ينسبون هذا العيب الخلقي المزعوم إلى صفرة الجنس المغولي مثلا أو تراث الجنس والعرق ، بل التمسوا التفسيرات في الثقافة الأسيوية ، فهيبوقراط - على سبيل المثال -- نسب عدم كفاءة الصينيين عسكريا إلى نظامهم الذي لم يكن يمنح الجنود المكافأة المناسبة لشجاعتهم حيث يجعل ثمرات النصر من نصيب السادة لا الجنود .
وعندما فتحت القوات اليونانية تحت إمرة الإسكندر الأكبر فارس والهند تزوج عشرة آلاف جندي من نساء هنديات من الهندوكيات ، وتزوج الإسكندر نفسه أميرتين فارسيتين . ولم تكن أية مخاوف تساورهم من أن يأتي نسلهم أقل إنسانية أو انه قد يفسد الجنس أو الدم اليوناني . ص 101
وكانت المقابر المصرية التي صورت الناس في أربعة ألوان تدل على التوافق العنصري أكثر مما تدل على العنصرية ، وإن كان هذا التوافق لا يخلو من التفوق النسبي للون على آخر ، لقد كانت مصر حضارة متنوعة الأجناس ولكن ميزان القوى كان كثيرا ما يتغير .فإذا سيطر أصحاب البشرة الفاتحة أشاروا إلى الجنوبيين بقولهم جنس ISH الشرير ، وعندما يكون هؤلاء الجنوبيون في السلطة يطلقون على ذوي البشرة الفاتحة جنس ARVAD الشاحب الوضيع . ص 102
وفي الصين أوجز الفيلسوف الصيني كونفوشيوس 500 ق م موقفه المعادي للعنصرية بقوله " إن طبيعة الناس واحدة وما يفرق بينهم هو عاداتهم " ، ومن جهة أخرى نسمع من أحد مؤرخي أسرة ماهان – التي كانت تساوي الإمبراطورية الرومانية في اتساعها تقريبا ووجدت في فترة مقاربة لها – " أن أهل أوربا من ذوي الشعر الأصفر والعيون الخضراء يشبهون القردة التي انحدروا منها "
وإذا كنا نجد في قصص بداية الخلق عند بعض الشعوب القديمة - كما يلاحظ الإنثربولوجيون - توجها نحو إنكار وجود جنس بشري مشترك فإن ذلك لم يصل إلى حد " العنصرية "
نعم : نجد عند الإسكيمو حكاية عن " الكائن الأعظم " الذي خلق أول ما خلق قوما لا لون لهم يسمون " البيض " ثم مضى ليقوم بمحاولة خلق ثانية أفضل من سابقتها فخلق أسلاف الإسكيمو
ونجد عند هنود أمريكا الشمالية حكاية الروح العظمى التي خلقت الناس ثلاث مرات : في المرة الأولى " لم يتحمصوا " بما فيه الكفاية ، وجاءوا بيضا ، وفي المرة الثانية أبقت الروح الكبيرة خلقها في الموقد مدة أطول وكانت النتيجة أن لونه جاء أسود محروقا ، ولم تتمكن الروح العظمى من تسوية " الرغيف" الإنساني حتى صار ذهبيا إلا في المرة الثالثة .
والحقيقة التي ما تزال باقية هي أن هنود أمريكا برغم آرائهم في تفوق خلقهم لم يسترقوا غيرهم من الأجناس
وعندما استرق المصريون أو الصينيون أبناء الأجناس الأخرى فإنهم لم يجعلوا من الرق العنصري أسلوبا في الحياة كما حدث في الأمريكتين . ص 103 – 104
وبالرغم من ذلك فإن العنصرية الأوربية الأمريكية أوسع نطاقا من هذه الأفكار القديمة فالعنصرية في المجتمعات القديمة قلما نظمت في صورة استرقاق أو أي شكل من أشكال السيطرة
كانت هناك بضع حالات بطبيعة الحال كما حدث في رواندا وبوروندي بوسط افريقيا بين أرستقراطية التوتسي ، وأغلبية الهوتو ، وبالمثل ما حدث في نيجيريا من حكم بعض المسلمين العرب لقبائل الهوسا ، وبالمثل كما في اليونان وروما ، ولكن هذه الممارسات – كما يقول كافين رايلي - لم تكن عامة بين المسلمين أو الزنوج الأفارقة ، بل إن أقسى أشكال الرق في العالم القديم – كما في اليونان وروما – لا شان لها بالعرق ، لقد استخدم اليونان والرومانيون عبيدهم من جميع الأجناس في العمل الشاق في الزراعة بينما استخدموا الأفارقة المهزومين معاونين ومساعدين في الأعمال الأقل مشقة في الأعمال المنزلية .
إن الأوربيين الغربيين - كما يقول كافين رايلي – ( هم الذين نظموا بشكل منسق قُوًى كبيرة من الأجناس الأخرى – من الأفارقة والهنود الأمريكيين – في العمل في المزارع والمناجم وهو العمل الذي ينطوي على أقصى درجات الاستغلال(/3)
لقد كان هؤلاء الأوربيون هم الذين نقلوا جماعات سكانية بأسرها إلى عالم آخر ، وحطموا عائلاتهم ومحوا شخصياتهم وتراثهم وعاملوهم معاملة الحيوانات . وأخيرا فإن هؤلاء الأوربيين هم الذين طوروا مجموعة مفصلة من التبريرات من الأفكار والنظريات ومشاعر التفوق العنصري التي تجاوزت عنصرية المجتمعات السابقة إلى حد كبير ، فما من مجتمع آخر أنتج مجموعة من الشعراء والفلاسفة والدبلوماسيين المؤمنين بالعنصرية كتلك التي أنتجتها الطبقة الحاكمة الأوربية والأمريكية ، وما من مجتمع آخر ربط بين قيمه الدينية والخلقية والاجتماعية والشخصية وبين العنصرية هذا الرباط الوثيق . ولعل هذا وحده ينهض دليلا على مدى شمولية الاستغلال العنصري الغربي . لقد ألح الغربيون كثيرا وطويلا وبشدة على أن ما يفعلونه لم يكن إلا أمرا طبيعيا ) ص105
يقول كافين رايلي (صحيح أن بعض المجتمعات القديمة أقامت في مراحل معينة مؤسسات عنصرية ، بل نوعا من أنواع الرق العنصري ووصل بها الأمر أحيانا إلى حد ابتكار أفكار عنصرية لتبرير هذه الأوضاع ، لكن مثل هذا الأمر كان نادر الحدوث ولا تكاد توجد حالة واحدة أصبحت فيها هذه الأفكار هي الشغل الشاغل لشعب ما أو ثقافته ، ولم تصبح قط الأساس الذي تستند إليه حياة منطقة كبيرة أو امبراطورية ، أما العنصرية فقد أصبحت أسلوبا للحياة لدى القارة التي يسكنها الأوربيون ثم في القارات التي فتحوها ) ص 106
وأي رق في التاريخ البشري – عدا هذا الأوروأمريكي - حرص على أن يحرم ا لرقيق من التدين بدين السادة : المسيحية ؟ كما صرح بذلك لويس فراخان زعيم أمة السود في تصريحه لقناة الجزيرة بتاريخ 12\2\2004
وهو يلتقي في ذلك مع جيمس بيرك في كتابه " عندما تغير العالم " ترجمة ليلى الجبالي نشر عالم المعرفة رقم 185 إذ يقول ( وقد عارض المزارعون الإنجليز فكرة تعليم العبيد أو تعريفهم بأي فكر مسيحيي كما اعترضوا على فكرة تعليمهم عمليات الغزل والنسيج ) !! ص 232
قارن ذلك بما كان يحدث من قبل بحوالي ألف سنة ولكن في بقعة مباركة من الأرض حيث شع نور الإسلام عندما يتحول رقيق من حالة الرق إلى أعلى درجات المجتمع وبماذا ؟ بالتعلم والتعليم الذي كان متاحا له بمقتضى قيم المجتمع وهي حالات تفوق الحصر في هذا المقام ، نكتفي هنا بمثال إذ يحكي سالم بن الجعد في بداية الحضارة الإسلامية فيقول : ( اشتراني مولاي بثلاثمائة درهم ، وأعتقني ، فقلت : بأي شيء أحترف ؟ فاحترفت العلم ، فما تمت لي سنة حتى استأذنني أمير المدينة زائرا فلم آذن له ) !!
ويستمر كافين رايلي قائلا ( كانت العنصرية الغربية فريدة في مداها وشمولها . فهي لم تكتف بتسميم الثقافة الأوربية بل نشرت الميكروب في جميع أنحاء العالم . إلا أن جميع المستوطنات الاستعمارية في العالم الجديد – في أمريكا الشمالية والجنوبية على السواء – ازدهرت بفضل إبادة السكان الأصليين – الذين كانوا يدعون بالهنود – وبفضل العمل العبودي الذي قام به جنس آخر من أفريقيا .
وحتى الأرض الأفريقية ذاتها أصبحت مهدا للمؤسسات العنصرية : اسواق العبيد الدولية ، الدول الاستيطانية البيضاء ، المزارع والمناجم التي يعمل فيها العبيد ويديرها البيض ، وبمضي الوقت أفرزوا رؤى عنصرية تضع الصينيين واليابانيين والشرقيين في مستوى أقل من الإنسانية ، ولم تكن هذه الرؤى إلا صيغة مبتسرة لنفس الأفكار القديمة عن السود والهنود الأمريكيين الأصليين . ) ص 105
ويتساءل كافين رايلي: لماذا سمح المجتمع الغربي الحديث دون سائر المجتمعات بأن تصبح جرثومة العنصرية – بافتراض وجودها في المجتمعات القديمة وفقا لنظرية ليفي شتراوس – وباء اجتاح كل مؤسساته الثقافية تقريبا وكثيرا من مؤسسات العالم ؟ ص 106
يجيب : إن جزءا من الجواب يكمن في الرق ، وبخاصة ذلك النوع العنصري الذي طورته الدول الغربية بعد اتصالها بأفريقيا واكتشافها للأمريكتين . فلقد بنت انجلترا وفرنسا واسبانيا والبرتغال – وليست هذه إلا أبرز الحالات – مجتمعات عبودية من الصفر في العالم الجديد . وعلى خلاف ما فعل الرومان بنى الأوربيون هذه المجتمعات العبودية مستخدمين جنسا واحدا مميزا من العبيد الأفارقة وبنوها بعيدا عن أوطانهم ، بعيدا عن أعين الجمهور وفي ظروف " الريادة " ، ففي أوربا ذاتها لم يكن هناك سوى عدد محدود من الرقيق وكان من الممكن أن يظهر نقاد كثيرون للرق ، وبخاصة الكنيسة ، فلو لم يكتشف الأوربيون الأمريكتين ويستعمروها لما قيض للرق والعنصرية أن يتسعا ويتغلغلا إلى هذا الحد .
وهكذا نجد – وفقا لكافين رايلي – أن جزءا آخر من الجواب هو في أن الأوربيين هم الذين فتحوا مساحات شاسعة من الأرض التي يمكن استثمارها من خلال الرقيق . فبعد عام 1450 كان الأوربيون قد توصلوا إلى التكنولوجيا البحرية والعسكرية الأكثر تقدما في العالم وفي خلال قرن استطاع الأوربيون إلحاق الهزيمة بالأفارقة واسترقاقهم بسبب هذا التفوق(/4)
ومع هذا فليس من الدقة –– القول بأن القوة وحدها هي التي ميزت الأوربيين عن غيرهم إذ كانت لدى الأوربيين مؤشرات ثقافية تتجه بهم نحو المزيد من السلطة والإنتاجية لم تكن لدى الأفريقيين .
إن الجواب يكمن في الثقافة الأوربية
فأفلاطون في جمهوريتة الأكثر مثالية !! حكم بحرمان العبيد من حق المواطنة ، وبإجبارهم على الخضوع للأحرار من سادتهم ، أو من سادة الغرباء
وتقضي فلسفة أرسطو بأن فريقا من الناس مخلوقون للعبودية لأنهم يعملون عمل الآلات التي يتصرف فيها الأحرار ذوو الفكر ، فهم آلات حية تلحق في عملها بالآلات الجامدة ، ويحمد من السادة الذين يستخدمون تلك الآلات الحية أن يتوسموا فيها القدرة على الاستقلال فيشجعوها ويرتقوا بها من منزلة الأداة المسخرة إلى منزلة الكائن العاقل . .
وشرعت الحضارة اليونانية نظام الرق العام كما شرعت نظام الرق الخاص أو تسخير العبيد في خدمة البيوت والأفراد
وعند نشأة المسيحية لم تحرم الرق المصحوب بإبادة الآخر عنصريا ، وتسلمته كما جاء في الكتاب المقدس في العهد القديم في الإصحاح العشرين من كتاب التثنية كالآتي : ( حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود يكون لك للتسخير وتستعبد لك وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها . وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف ، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة ، وكل غنيمتها فتغنمها لنفسك ، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك ، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة عنك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا . أما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة بل تحرمها تحريما )
وكما جاء في الإصحاح الثالث عشر من كتاب التثنية عن تدمير مدن العدو ( فضربا تضرب بحد السيف ، وتحرم بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف ، تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك فتكون تلا إلى الأبد لا تبنى بعده )
وهذا مستمر تطبيقيا حتى اليوم بيد الصهيونية والعنصرية العرقية اللونية الأمريكية في فلسطين وأفغانستان العراق
وإذا كان هذا تراثا في العهد القديم فإنه صار جزءا من الكتاب المقدس ، واستمر دون تحريم ، فهاهو بولس """الرسول""" يأمر العبيد بطاعة سادتهم كما يطيعون المسيح ، فقال في رسالته إلى أهل أفسس ( أيها العبيد أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة ، في بساطة قلوبكم كما للمسيح . ولا بخدمة العين كمن يرضي الناس ، ولكن كعبيد المسيح ، عاملين مشيئة الله من القلب ، خادمين بنية صالحة كما للرب ، ليس للناس ، عالمين أنه مهما عمل كل واحد من الخير فذلك يناله من الرب )
وأوصى القديس بطرس بمثل هذه الوصية . وأوجبها آباء الكنيسة ، لأن الرق كفارة من ذنوب البشر يؤديها العبيد لما استحقوه من غضب السيد الأعظم
وأضاف القديس الفيلسوف توما الأكويني رأي الفلسفة الأرسطية إلى رأي الرؤساء الدينيين فلم يعترض على الرق ، بل زكاه .
نعم ؛ لقد وصلت العنصرية الأوربية إلى أبعاد متطرفة -- كما يقول كافين رايلي --- لأن ثقافتهم الأوربية شجعت الأفكار العنصرية عن الأفارقة
لقد بلغت العنصرية الأوربية أبعادا مذهلة في ظل الرق غير أن جذورها تعود إلى ما قبل اصطياد أول عبد أفريقي
ولكي نفهم لماذا كان الأوربيون هم الذين جعلوا من العنصرية وباء اجتاح العالم بأسره – كما يقول كافين رايلي – علينا أن نبحث أولا في تلك الجذور الثقافية ص 108
وهنا نجد أنفسنا أمام قضية اللون : اللون الأبيض
فقبل أن يستعبد الأوربيون الأفارقة بوقت طويل كانوا قد طوروا ثقافة مسيحية ترمز باللون الأبيض إلى الخير والأسود للشر، فالخطيئة سواد يصيب الروح ، والفضيلة والطهارة والتوبة بيضاء ، والملائكة والقديسون يسبحون في نور أبيض ، وعيسى الذي كان ينتمي إلى الشرق الأوسط أصبح في لوحات العصور الوسطى أوربيا أبيض أشقر اللون أزرق العينين ، وعلى النقيض من ذلك كان الشيطان يتشح بالسواد فقد كان أمير الظلام
ومع نهاية القرن الخامس عشر – قبل استرقاق الأفارقة – كانت المعاني الكامنة في كلمة " اسود " – كما جاء في قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية : تدور حول : " ملطخ للغاية بالقذارة / ملوث / قذر / ينتمي إلى الموت / مميت / مهلك / مسبب للكوارث / والنحس / فاسد / فاسق / أثيم / مرعب / شرير / يدل على الخزي والاستهجان والجرم " ص 108(/5)
وكان المسيحيون يستعيرون صورة الصراع الزرادشتي بين النور والظلام ، ووجد زعماء الإصلاح البروتستانتي الصورة الزرادشتية للصراع أكثر اتفاقا مع إحساسهم بان قوى الشر قد لا تكون اقل أهمية من قوى الخير ، ولم يكن الشماليون الأوربيون أكثر خوفا من قوى الظلام التي تسعى لامتلاك العالم وحسب ، بل كانوا أيضا من الناحية الجسمانية أكثر بياضا وشقرة من سكان البحر الأبيض ، وأصبح البياض علامة على الجمال لأولئك الذين كانت جلودهم باهتة بشكل خاص . وقد امتدح الإنكليز الملكة إليزابيث بسبب بشرتها البيضاء الشاهقة قائلين :
إن يديها بيضاوان مثل عظام الحوت
وطرف أصبعها مغمس في البياض
وصدرها الأملس كجص باريس
تبرز منه آنيتان من المرمر
وربط شكسبير هو وبنو جلدته بين البياض والعفة عندما كانوا يفكرون في ملكتهم وزوجاتهم وبناتهم المسيحيات ، كما ربطوا بين السواد والجنس ، ولما كانت الخطيئة سوداء فإن الجنس أسود لأن الفسق هو أسوأ الخطايا المميتة . وثمت ثقافات أخرى ربطت بين السواد والجنس لكنها لم تربط بينهما وبين الشر بل بالعكس ربطت بينهما وبين الخصوبة والإنتاج ومصدر الحياة
أما الثقافات اليهودية والمسيحية فإنها – كما يقول كافين رايلي – بصفة عامة عبدت البياض ، وخافت من القوة الجنسية الكامنة في السواد ، وكان الجنس عندهم شرا محضا ص 112 - كما كان أسود اللون ، وكان معظم الإنجليز قبل أن تقع أعينهم على إفريقي واحد مقتنعين بأن هؤلاء المغاربة أو " الأثيوبيين " أشد فحولة منهم ومن ثم أشد إثما ، ومن الجهة الأخرى كان النساء البيضاوات يجردن من صفاتهن الجنسية حينما كان رجالهن البيض ينظرن إليهن نظرة مثالية ، وكان أخشى ما يخشاه سادة المجتمع أن يقوم الأفارقة السود باغتصاب أو إغواء نسائهم البيضاوات الجميلات والضعيفات في الوقت ذاته ، ومع هذا كانت أحلام السادة الجنسية تدور حول الفتيات السوداوات لأنهم أقنعوا أنفسهم بأن نساءهم البيض أطهر من أن يكن قادرات على الغواية الجنسية .
وتدل مسرحية عطيل -- التي يرجح أنها كتبت في بداية القرن السابع عشر وهي من اعظم مسرحيات شكسبير -- دلالة واضحة على ردود الفعل لدى مسيحيي العصر الإليزابيثي تجاه السواد والبياض ص 112 - 113. إن مسرحية شكسبير- التي كتبت قبل استجلاب أوائل الرقيق الأفريقيين إلى أمريكا الشمالية - ليست بالمسرحية العنصرية ولكنها تكشف عن عنصرية المجتمع الإليزابيثي ، وتقدم إلينا صورة للعنصرية في انجلترا قبل انخراط الإنجليز في مشروعات استرقاق الأفريقيين الضخمة .
ويذهب كافين رايلي إلى أن مجتمع الرق الذي أوجده المسيحيون الأوربيون من القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر لم يكن إلا نتيجة منطقية للأفكار العنصرية التي كانت قد نشأت في حضن المسيحية ولا سيما المسيحية البروتستانتية ، وكان الرق بمعنى آخر تطبيقا عمليا للتقسيمات اللونية التي وضعتها عقيدة مسيحية طعمت بديانة اقدم منها بكثير تنتمي إلى العصر الحجري أو إلى البيئات الزراعية ص 115
ومن المؤكد ان الأوربيين أصبحوا أكثر قدرة على تحمل استغلالهم الوحشي للأفارقة حينما صوروا لأنفسهم أن هؤلاء الأفارقة هم جنس أدنى أو حتى أنهم ليسوا ببشر ، فالرق بهذا المعنى قد شجع العنصرية الأوربية ص 119
إنه لمن( العسير – كما يقول كافين رايلي - تخيل الصورة التي كان يمكن أن تكون عليها الولايات المتحدة اليوم لو أن الأفارقة قد دخلوها بالشروط التي دخل بها سائر المهاجرين ، ولكن من المؤكد أن المشكلة العنصرية كانت ستخف وطأتها عما هي عليه . فتاريخنا في استرقاق الأفارقة وتفريق شمل عائلاتهم وحرمانهم من الكثير من ثقافتهم القديمة وإكراههم على الاتكال التام على سطوة البيض خلق ألوانا من التفاوت والتحامل لبثت قرونا
فتركة الرق عززت المخاوف التي عرقلت تحرير العبيد .
وعندما أعتق الرقيق في أمريكا الشمالية والجنوبية في القرن التاسع عشر وأصبحوا أحرارا بحكم القانون في كل أرجاء الأمريكتين عام 1900 لم يصبحوا مواطنين من الدرجة الأولى ، وصار أبناء العبيد وأحفادهم لا يتمتعون بكل الحقوق والمزايا السياسية بسب لون بشرتهم . وظل لونهم عقبة تحول دون المساواة بسبب التاريخ السابق للرق .) ص 120
ويقرر الباحث أنه كان هناك قدر كبير من التحامل الثقافي – في انجلترا على الأقل – ضد الأفارقة قبل استرقاقهم ، الأمر الذي يمكن أن نفترض معه أنه لو لم يكن الأوربيون الذين هاجروا إلى الأمريكتين قد استعبدوا الأفارقة قط لكان من الممكن وجود قدر معين من التحامل على أحرار السود .
الأمر الذي يؤكد مركزية اللون في العنصرية بالإضافة لعامل الرق
يزيد الأمر تأكيدا أن هناك اختلافا بين تحامل أوربيي الشمال وأوربيي الجنوب ضد الأفارقة ، ويصبح هذا الاختلاف لافتا للنظر بصفة خاصة إذا ما قارنا بين تحامل الأسبان والبرتغاليين ( في شبه جزيرة أيبيريا ) بتحامل الأوربيين الشماليين ، و ذلك لأسباب :(/6)
منها – كما يقول كافين – ( أنهم – أي الأسبان والبرتغاليين - عاشوا مع الأفارقة في شبه جزيرة أيبيريا منذ الفتح الإسلامي عام 711 . وعند ما حل عصر كولمبوس كان سكان شبه جزيرة أيبيريا قد قضوا قرونا يتعاملون مع المغاربة السمر في شمال أفريقيا ، فتعلم الأسبان والبرتغاليون أن ينظروا بإعجاب إلى الثقافة الإسلامية الثرية في شبه جزيرة أيبيريا وكبريات المدن الأفريقية ولذا كان من المستحيل على المتعلمين من أهالي شبه جزيرة أيبيريا أن يوحدوا بين السواد والتخلف . اما الإنجليز فقد فعلوا ذلك لأن جهلهم بالحضارة الإسلامية كان كاملا أو يكاد .) ص 121
ويقول : ( وقد استطاعت الكنيسة الكاثوليكية في شبه جزيرة أيبيريا عبر القرون أن تخفف من حدة بعض جوانب الرق الوحشية ، وكرست قائمة طويلة من الواجبات والمسئوليات على المالك تجاه العبيد . وهذا يصدق في جانب كبير منه على الثقافة الإسلامية بدورها . فالمسيحيون والمسلمون الأثرياء كانوا يعاملون عبيدهم في الغالب كأعضاء في أسرة كبيرة يعتمدون عليها اعتمادا كاملا . فكان ملاك العبيد لا يحكمون على أنفسهم من منظور كم النقود الذي يحصلون عليه من استغلال البشر الآخرين وإنما من منظور السخاء ، كما لم يكن هناك خط لوني واضح يفصل بين العبيد وسكان أيبيريا الأحرار ، وكان الأغنياء من نصارى ومسلمين يملكون الرقيق البيض أو السمر أو السود تبعا للظروف . ) ص 121
وهذا ما ألغى الكثير من فاعلية عنصر اللون وشيئا من عنصر الرق في تكريس نوع من العنصرية في الجنوب الأمريكي ( أمريكا اللاتينية ).
ولهذا كانت نسبة الرقيق الذين أعتقوا في المستعمرات الأسبانية والبرتغالية أعلى بكثير منها في المستعمرات البريطانية ص 123، ولم يكن القانون في البرازيل حيث استقر البرتغاليون وفي أمريكا الأسبانية يقضي بان يعد العبد عبدا طيلة حياته ، أو أن يكون أولاده عبيدا بالضرورة كما كان الحال من الناحية القانونية في الولايات المتحدة الأمريكية بعد سنوات 1660
وكانت في أمريكا اللاتينية عدة وسائل يحرر بها العبيد : منها الخروج للعمل أيام العطلات البالغ عددها 85 يوما في التقويم الكاثوليكي ، ومنها شراء الحرية على أقساط تسمح للعبد بالانتقال بعد القسط الأول من منزل سيده ، وهناك على الأقل حالات لبعض العبيد الذين دفعوا كل شيء ما عدا القسط الأخير لكي يتحاشوا الحرية الكاملة وما يقترن بها من ضرائب وخدمة عسكرية ص 123
وكانت هناك وسائل أخرى فقد اعتق سيمون بوليفار آلاف الرقيق في فنزويلا وكولومبيا عندما انخرطوا في الجيش في حروب الاستقلال ، كما أعتق الكثير من الرقيق الذين انضموا إلى جيوش البرازيل والأرجنتين
وكانت كوبا تصدر قرارات دورية يتم بموجبها عتق الرقيق الذين يفرون إلى شواطئها ويعتنقون المسيحية ، تلقائيا ، وكان من سلطة القاضي أن يحكم بإعتاق العبد الذي وقع عليه عقاب ظالم، وكان من حق الرقيق البرازيلي إذا أنجب عشرة أن يطالب بحريته شرعا ، وكانت المناسبات السعيدة كمولد ابن أو زواج ابنة وتعميد الطفل الرقيق والأعياد الدينية والقومية والاحتفالات العائلية فرصا لعتق عبد أو عدد من العبيد احتفاء بالمناسبة . وهكذا كان الإلزام الخلقي في أمريكا اللاتينية أكثر تأثيرا بوجه عام من حرفية القانون ، وكان القانون أكثر تشجيعا على عتق العبيد منه في الولايات المتحدة الأمريكية .
وفي معظم المستعمرات البريطانية بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية كان يفترض بصفة آلية أن كل أسود أو داكن البشرة من أأأأأأاصل أفريقي هو عبد إلى أن يثبت العكس ، بخلاف الوضع في أمريكا اللاتينية إذ كان يعتبر حرا حتى يثبت العكس .
بل إن بعض التشريعات في ولايات جورجيا في كارولينا الجنوبية كما في قانون 1740 ينص على أن ( جميع الزنوج أو الخلاسيين أو المهجنين الموجودين أو الذين سيوجدون في الإقليم وكل نسلهم وذريتهم المولدين منهم والذين سيولدون هم بموجب هذا القانون من العبيد وسيكونون كذلك في المستقبل وسيظلون إلى الأبد من الآن فصاعدا عبيدا بشكل كامل )
وكانت ولاية فرجينيا تلزم العبد المعتق بمغادرة الولاية في مدى سنة وإلا بيع مرة أخرى لصالح " الصندوق الأدبي " !! ،
وفي كثير من الولايات المتحدة الجنوبية يرد المعتق إلى الرق إذا لم يتمكن من سداد دين أو غرامة . ولم تكن قوانين جزر الهند الغربية البريطانية والولايات المتحدة الأمريكية تفسح باب الأمل للرقيق في شراء حريته فقد كانت تلك القوانين تفترض أن العبودية دائمة .ص 124- 125
وبحلول عام 1860 كان عدد السود الأحرار في الولايات المتحدة الأمريكية لا يتعدى 10% من بين السكان السود الذين يعيشون بها ، بينما أنه في وقت تحرير العبيد في البرازيل كان 75 % من السكان السود قد أعتق بالفعل .(/7)
ولقد اعترفت مجلة يونايتد ستيتس ماجازين آند ديموكراتيك ريفيو عام 1844 بالفرق الشاسع بين معاملة الأفارقة في الولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا اللاتينية ، وقد لاحظت المجلة أن الزنجي في المكسيك وفي أمريكا الوسطى ومناطق شاسعة أبعد تجاه الجنوب أصبح حرا اجتماعيا وسياسيا على السواء ، ويقف على قدم المساواة مع الأبيض ، وأن تسعة أعشار السكان هناك من الأجناس الملونة وأن العسكريين وأعضاء المجالس النيابية والرؤساء هناك أناس من دم مختلط . ص 128
ولقد اعترف الكثيرون في أمريكا الشمالية بأن تعصبهم ضد السود في الولايات المتحدة الأمريكية أكبر مما هو في الجنوب . إن أمريكا اللاتينية كانت أكثر انفتاحا بالنسبة للمنحدرين من اصل أفريقي وكانت الحرية أيسر منالا ، وكان التعصب ضئيلا ، ولم يكن هناك إلا القليل من تلك التفرقة العنصرية في الأحياء السكنية والمدارس والفنادق والمنشآت العامة التي أصبحت من السمات المميزة للتجربة العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية ، ولم يكن هناك أي وجود في تجربة أمريكا الجنوبية لقانون الإعدام بغير محاكمة والمظاهرات ضد الزنوج التي أصبحت من معالم تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية في القرنين التاسع عشر والعشرين .
ما مصدر هذا الاختلاف ؟ وما تفسير عنف العنصرية البريطانية في أمريكا الشمالية إذا ما قورنت بالتحامل المعتدل نسبيا في أمريكا اللاتينية ؟
بالإضافة لما ذكره كافين سابقا من أثر الثقافة الإسلامية في أمريكا اللاتينية فإنه يعزى ذلك الاختلاف أساسا : إلى لون الرجل الأبيض حيث إن بياض بشرة البريطانيين والأوربيين الشماليين الآخرين بالمقارنة بلون البرتغاليين والأسبانيين الزيتوني جعل من الأيسر على هؤلاء الشماليين أن ينموا في أنفسهم على مر الزمن شغفا بالبياض
كما أنه كان هناك بعد " جنسي " في علاقات الأوربيين الشماليين : المتوافقة مع البياض حيث يعتبر رفيقا للطهارة والعفة ، من جهة ، والمتوترة مع السواد حيث يعتبر رمزا للشهوانية الأسطورية التي لا ترتوي من جهة أخرى . ص 129-130
وفي حين أن معظم الولايات المتحدة الأمريكية سنت قوانين صارمة ضد ممارسة الجنس بين الأفراد من أجناس مختلفة ، بسبب مجيء الأوربيين الشماليين برفقة زوجاتهم البيضاوات غالبا ، مما كرس الحواجز بين الفريقين … كانت مجتمعات أمريكا اللاتينية قد شجعت صراحة التمازج بين الأجناس نتيجة مجيء الأوربيين إليها من شبه جزيرة أيبيريا بدون زوجاتهم غالبا مما شجع صراحة التمازج بين الأجناس بوصفه أسلوبا اضطراريا للحياة ص131 ، وأدى بالتالي إلى ظهور نوعية من السكان ومجموعة من القيم جعلت فكرة العرق لا معنى لها تقريبا إذ كيف يتأتى للمرء أن يتحدث عن أعراق نقية أو حتى عن عرق عندما تكون الغالبية العظمى من السكان ليست سوداء وليست بيضاء بل هي تدرجات للون الزيتوني والبني ؟ وأصبح من المستحيل عند هؤلاء الجنوبيين إطلاق تعميمات عن الزنوج ، وهو أقل ما ينبغي على العنصري المتعصب أن يفعله كيما يمارس عنصريته .
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فكلمة زنجي كانت قبل حرب استقلال الجنوب التي عادة ما يسميها المنتصرون الحرب الأهلية تعني العبد ، وكان الجنوبيون في الولايات المتحدة الأمريكية يرون في السود الأحرار تهديدا مميتا لنظام الرق ، وأن مجرد وجود سود ناجحين أحرارا إنما هو تحد للعقيدة العنصرية الرسمية القائلة بأن الأفارقة أحط بطبيعتهم .
وحتى دعاة إلغاء الرق من الشماليين فقد كانوا يسعون إلى إبعاد الزنوج وداعبت خيالهم أفكار خاصة بإعادة توطين العبيد الأحرار في أفريقيا أو سعوا مثل جورج بانكروفت إلى تهجير السود إلى المكسيك أو أمريكا الجنوبية
إن الولايات المتحدة شمالها وجنوبها – كما يقول كافين رايلي ص133 - مجتمع ينقسم إلى جماعتين : العبيد السود والبيض الأحرار ، ومن المفروض أن السود عبيد .( ولقد كان هذا الإصرار على مجتمع فيه طبقتان مغلقتان من القوة بحيث إن الأمريكيين الشماليين ما زالوا حتى اليوم يصنفون أي شخص فاتح اللون يرجع بعض نسبه إلى أفريقيا بأنه زنجي ، وينبغي حتى اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية أن يكون الناس إما بيضا وإما زنوجا – بعد استبعاد الأجناس الأخرى - وهم لا يكونون بيضا إلا إذا كانت أصولهم كلها بيضاء ، أما الزنجي فهو كل من لم يكن أبيض خالصا )
وهل من المستغرب بعد ذلك أن نعرف أن أمريكا تصدر بكل صفاقة توجيها في 24\2\2004 إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي – بعدم إصدار حكم في قضية " جبل الفصل العنصري " التي حولتها إليها الجمعية العامة للأمم المتحدة ، وهو الجبل الذي بنته إسرائيل للفصل بينها وبين الشعب الفلسطيني ولكن في عمق الأراضي الفلسطينية نفسها ؟
مرة أخرى : إنها العنصرية العرقية التي أبدعتها أمريكا والتي انبثقت من اعماق ثقافتها والتي هي مستمر حتى اليوم كما يقول كافين رايلي(/8)
فليهنا الأمريكيون والمتأمركون والأوربيون والمتأوربون بهكذا حضارة وهكذا إنسانية وهكذا حداثة وهكذا حرية وهكذا تقدم
وليعلموا أن هكذا حضارة لا يمكن ان تنجح في هكذا " عولمة " !!!
وليشهدوا أننا إذ نبلغهم رسالة ربهم في دين الإسلام فإنا ندعو إلى عالمية لا إلى كيان مشوه بواو العولمة ولونها الباهت الميت
وأنا نبرأ إلى الله من حضارتهم وحداثتهم وتقدمهم وتطورهم
يرءاء إلى أن نقوم بالشهادة عليهم حيث نقوم بالشهادة على الناس ويكون محمد " صلى الله عليه وسلم " شاهدا علينا جميعا
وليتابعوا مقالنا القادم عن كافين رايلي أيضا(/9)
العنصريّة الجديدة.. وإشكاليّة الجلاّد والضحيّة
الكاتب: الشيخ د. مسفر بن علي القحطاني
أشارت صحيفة (الإندبندت) في 4 أغسطس 2005م إلى تقرير الشرطة البريطانية الذي كشف عن ارتفاع نسبة العنصرية ضد المسلمين في بريطانيا إلى 600% بعد أحداث التفجيرات التي شهدتها لندن الشهر الماضي .. وهذه الإحصائية زادت من مخاوف وقلق مسلمي بريطانيا الذين يتجاوز عددهم المليونين, علماً بأن أكثر من 70% منهم لم يتجاوز عمره (25) عاماً.وهذا يعني أنها جالية شابة مع أن عمرها الوجودي في البلاد يعود إلى قرن من الزمان!
هذا الوضع القلق الذي تعيشه الجالية المسلمة في بريطانيا ينذر باحتمال زيادة العنصرية بشكل أكبر في حال لو تجدّدت تلك العمليات الخاطئة الغاشمة .. هذه المعاناة النفسية -وربما المادية- التي يعيشها مسلمو بريطانيا شكّلت نوعاً من الإفاقة المتأخرة نحو كثير من المكتسبات التي لم توظّفها الجالية لصالحها مع امتداد عمرها الطويل في البلاد. فكم من المناصب الهامة والمجالات الحساسة في العمل السياسي والاقتصادي والإعلامي لم تُستثمر بشكل جيد من قبل المسلمين مع وجود الإمكانيات والقدرات الذاتية لذلك..؟! الحقيقة المُرّة أن الجالية -من وجهة نظري- كانت تعيش في بريطانيا من خلال حنين العودة إلى مسقط الرأس، ونسيت أن هناك أجيالاً تتابعت لم تتوارث هذا الحنين بل أصبحت مشدودة الوثاق في بلد المنشأ الأجنبي .. كما سعت الجالية في عدم الاندماج اجتماعياً من خلال التقوقع في أحيائها ومدنها الخاصة, لكن الأجيال الشابة القادمة والحالية قطعاً سوف تفك هذا الارتباط بالإنسياح التام في الحياة البريطانية بكل ما تحملها من تقاطعات مع معتقد المسلمين .. لذا كانت الحاجة ولا تزال ماسة وبشكل كبير لتوضيح الرؤية المستقبلية والتخطيط لها والعمل المنظم المدروس لكيفية التأثير في المجتمع بدلاً من التهاوي فيه ..
ولعل من أهم العبر التي ألحظها في الأزمة البريطانية وما نتج عنها, كون العنصرية التي أشرت إليها سابقاً وأثّرت في المسلمين بشكل كبير مع أنها لم تتخذ طابعاً متشدداً بسبب موقف الحكومة الصارم من العنف أو الاعتداء ضد الجالية ؛ كانت –وللأسف- تُمارس من قِبل المسلمين أنفسهم و بصور شتى, فهم -وإن مرّوا بدور الضحيّة- فقد مارسوا دور الجلاّد أيضاً وفي صور كثيرة, كان لها الأثر الكبير في حالات الإحباط والضعف لكل الجهود المبذولة في تنسيق الأدوار وتوحيد الكلمة وتكامل البناء, لقد تجذّرت العنصرية بين المسلمين أنفسهم، وليس من أعدائهم حتى أصبحوا شيعاً وأحزاباً ودولاً داخل بريطانيا بل في المدينة الواحدة! ودارت في المساجد والمراكز رحى الكثير من المعارك الفكرية والسياسية التي أثمرت خنادق عميقة يصعب من خلالها لمّ الشمل وتوحيد الصفوف .. وكم أتمنى أن يستفيد المسلمون من أزمتهم الراهنة فيراجعوا أنفسهم ليس كردة فعل آنية بل كخيار حقيقي للمستقبل حيال الكثير من القضايا المصيرية!! فلعل تلك النائبات أهم المحفزات لتلك المراجعة والتغيير الإيجابي ..
هذا المدخل السابق بدأت بالحديث به كواقع عشته وعاشه وتابعه الكثير من المسلمين, يؤكد بمرارة أن التعصب والعنصرية أصبحتا أشبه بالظاهرة المتكررة في المجتمعات الإسلامية .. وعادة ما ندفنها تحت السطح، ولا نثير الحديث حولها خوفاً من بعث الفرقة وتشتيت المسلمين كما نزعم أحياناً؟! , بينما الممارسات العملية أشد وطأة وأعظم فعلاً؛ فهي لا تنتهي عند حدّ المذهبية الفقهية أو العقدية أو العمل الدعوي أو التيارات الفكرية أو التعصب للإقليم والقبيلة والعرق أو تصنيف الناس وتوزيع الحصص والمناصب على أساس تلك الجاهليات، إنها أشبه بأنماط فكرية بل قنابل موقوته يسهل تفجيرها في أي وقت تحت مبررات كثيرة تحسن لغتها وأساليبها الدول العظمى وأصحاب المطامع السياسية الأخرى.وليس وضع العراق ولبنان والسودان والمغرب..عنا ببعيد .
هذا الموضوع أعتقد أنه من أشكل الموضوعات وأهمها في ظروفنا الراهنة, فما تمرّ به المنطقة من حراك جغرافي قد يعيد تشكيل الخارطة من جديد في كل البلاد العربية يحتم على الجميع نزع ذلك الفتيل الحارق لكل ما تم حصاده من مكتسبات. فمن الضرورة بمكان أن تكون هناك مبادرات قوية وعاجلة من أهل الفكر وأصحاب القرار لِرَأْب الصدع الذي حُفٍر بين أبناء البلد الواحد، و محاولة بناء حضور حقيقي لكل أبناء المجتمع من الشرق والغرب والشمال والجنوب، وتحويل هذا المجتمع المتعدد إلى تكامل وتنوّع حضاري يسهم الكل في إنجاحه والمحافظة عليه ..
أجزم أن هذا الموضوع ليس بالجديد على القارئ الكريم، لكن محاولة التغيير في الوعي كمرحلة أولى فضلاً عن التغيير الحقيقي في الميدان تمر بصورة بطيئة ومتخاذلة, ولا أدري: هل يمكن أن تكون صحوتنا هي مجرد البكاء على الأطلال بعد فوات الأوا(/1)
العنف بعيون الأطفال محمد مصطفى*
لكل وجود بداية، وطفولة الإنسان بدايته التي يعيش فيها فترته الأولى بعطالة غريبة؛ تجعله معتمدا على غيره في كل تصرفاته وخطواته؛ وذلك بناءاً على ما يستقيه من تلك المؤثرات الخارجية التي تعمل على بلورة شخصيته وصقلها؛ ومن أهم هذه المؤثرات وأخطرها وسائل الإعلام بمختلف أنواعها!!.. وسوف نتناول هنا أثر التلفاز والفيديو على الأطفال.
يرى البعض أن التلفاز قد أفسد عقول الأطفال بما يعرضه من أفلام ومسلسلات عنف وجريمة، وحلقات الكرتون الخيالية القائمة على قواعد غير عملية وواقعية؛ فالطفل يحب الصور المعبرة، ويجذبه اللون الجميل، ويتفاعل مع قصص الخيال الشيقة، وحكايات البطولة التي تتجسد في تلك الأفلام؛ في معظم ما تطرحه من مشاهد عنف كثيرة؛ لتكون شديدة الخطورة على الأطفال.. وتأثير مشاهد العنف يختلف من طفل لآخر؛ علماً بأن الأطفال الذين يتصفون بالعدوانية والميل إلى العنف يكونون أشد تأثراً بمشاهد العنف.. ومن الشائع أنها تساعد على إفراغ المشاعر العدوانية داخلهم، إلا أنه قد أثبت علمياً عدم صحة هذا الأمر!؛ بل على العكس تؤدي هذه المشاهد في كثير من الأحيان إلى ترسيخ مفهوم (القوة للأقوى) في أذهان الأطفال.. وإذا نظرنا نظرة متفحصة إلى الرسوم المتحركة المقدمة لأطفالنا نستطيع اكتشاف تقصيرنا الكبير في استخدام هذا الفن الخطير؛ فمعظم أفلام الكرتون والصور المتحركة المقدمة لأطفالنا أفلام أمريكية أو غربية الصنع والهوية، وصممت لأطفال غير أطفالنا، وبعقلية غير عقليتهم، وتشجع عادات وأخلاقا تتنافى مع أخلاقنا؛ وعلى سبيل المثال: الساعات الطويلة التي يقضيها الطفل وهو يتابع مسلسل (البيكمون) القائم على الصراع والتحدي، وجذب (الطفل) إليه باعتماد تقنيات في الحركة والتصميم للأشكال الغريبة التي تجسد صور أبطال المسلسل دون تكريس أي هدف تعليمي وتربوي؛ فلا يقدم للطفل إلا المساهمة في تشويه وتشويش ذهنيته.
في نتيجة لبحث ميداني أجراه مؤخراً أحد مراكز البحث الاجتماعي تم التحذير من تزايد معدلات العنف بين الأطفال؛ نتيجة تعرضهم لساعات طويلة من بث القنوات الفضائية وما تقدمه من مشاهد عنيفة.. وأكد الإحصاء أن هناك خمسة أحداث عنف نشاهدها كل ساعة ترتفع إلى نحو 20 أو 25 حادثاً في برامج وأفلام الأطفال.. وأشار البحث إلى ميل الأطفال إلى التحول من مجرد الإعجاب بأبطال العنف في هذه القنوات إلى مقلدين أو محاكين لهم، ثم منفذين.. وكثيرة هي الحالات التي أدت بالأطفال لإيذاء أنفسهم، بل تطور الأمر في بعض الحالات إلى فقدان الحياة كما حدث في (مصر) بقيام أحد الأطفال بتقليد شخصية (سوبرمان) والقفز من الطابق التاسع لتودي بحياته.. والأمثلة كثيرة في هذا المجال.. وعن التأثير النفسي لهذه المواد العنيفة التي تعرض على الأطفال قال البحث: إن الطفل يستشعر بحكم تكوينه الجسماني والعقلي أنه ضعيف وصغير، ولديه قدرة محدودة على التحكم بالبيئة الخارجية؛ لذا فهو يستمتع، ويشبع رغبته، ويطلق لخياله العنان في الحصول على هذه القوة من خلال التوحد اللاشعوري بما يشاهده من النماذج الشخصية التي تعكس مظاهر القوة البدنية والعقلية للبطل الذي لا بد أن ينتصر على الآخرين.
إن الأطفال أهم بكثير من المرافق والمنشآت والمشاريع؛ لذلك فلا بد من استيراد التقنيات الحديثة، والخبرات الفنية؛ لصناعة سينما متخصصة في فن الرسوم المتحركة؛ سينما حديثة، ومتطورة؛ تنفذ نصوصاً مدروسة مسبقاً؛ بإشراف فني وعلمي؛ لا تجاري رديء؛ كل اهتمامه هو الربح السريع.. كما لا بد من زيادة الرقابة على دخول الأعمال التلفزيونية والسينمائية الأجنبية التي من شأنها إثارة الرعب والعنف بين الأطفال؛ للحد من تداولها، والتشديد أيضاً على رقابة كل ما يستورد من ألعاب الفيديو والسي دي لما لها من تأثير سلبي على الأطفال أيضاً.
ولا بد للشركات الفنية المنتجة لبرامج الأطفال من العمل على إيجاد بيئة صحية؛ خالية من البرامج التي تحتوي على العنف، وتقديم البرامج الموضوعية والتعليمية والتثقيفية؛ التي تحاكي البيئة والمجتمع الذي يعيشون فيه.. وقد يكون من المفيد تشكيل لجان مختصة تقوم بمهمة الرقيب على البرامج المستوردة الأجنبية؛ واختيار ما يناسب أطفالنا.(/1)
العنوان ... تريد الزواج ووليها منقطع عنها!
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 24/11/1425هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ المحترم: أنا امرأة أعيش بعد وفاة والدي في بلدي - لدة غربية - بعد أن حصلت على الجنسية، وقد طلب أحد المسلمين الزواج مني فرفض الموثق بمسجد العاصمة أن يعقد قراننا؛ بحجة أن أخي الذي يعيش في بلد آخر ولا يدري عني منذ خمس سنوات هو وليي ويجب موافقته، وقد راسلت أخي أكثر من مرة ولم يرد علي، وإمام الجامع يرفض عقد قراني، وأنا امرأة متواضعة الجمال، وليس لي أحد في هذه البلاد، وسوداء البشرة، ولم أصدق عندما تقدم لي رجل مسلم مصلٍّ ويحترمني، فماذا أفعل؟ وهل أستطيع أن أعقد قراني عن طريق شيخ آخر؟ وهل يجوز ذلك؟ وما هو الدليل الشرعي؟ لأني أريد الحلال حتى وإن مت عازبة وحيدة. حفظكم الله وأعلى قدركم، وسدَّدكم لما فيه خير الإسلام والمسلمين. إن أمكن توجيه السؤال لشيخ مالكي المذهب أو الشيخ أ.د. سعود بن عبد الله الفنيسان.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وجود الولي في النكاح أحد شروطه، لحديث عائشة، رضي الله عنها: "لا نِكاحَ إلاَّ بِوَلِيٍّ وشَاهِدَيْ عَدْلٍ". أخرجه ابن حبان (4075) والطبراني في الأوسط (9291). وحديثها الآخر: "أيُّما امرأةٍ نكَحتْ بغيرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فنكاحُها باطلٌ فنكاحُها باطلٌ فنكاحُها باطلٌ". أخرجه أبو داود (2083) والترمذي (1102) وابن ماجه (1879). وبما أنه لا يوجد من أوليائك غير أخيك وهو في بلد بعيد طالت غيبته خمس سنوات، وقد كاتبتِه أكثر من مرة ولم يأتك منه جواب، وقد رفض الموثق في مكتب العاصمة إبرام العقد (وهو في بلاد الغربة بمثابة السلطان الشرعي في توثيق العقود)؛ إذا كان الأمر كذلك جاز لك أيتها الأخت السائلة أن تعقدي قرانك عند رجل مسلم آخر، والدليل على جواز هذا عموم أدلة الكتاب والسنة، كقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا)[التغابن: من الآية16]. وقوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة: من الآية286]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم- في قصة الرهط الثلاثة الذين جاؤوا إلى بيته يسألون عن سنته: "... وأَتَزَوَّجُ النِّساءَ فمَن رغِب عَن سُنَّتي فَلَيْسَ مِنِّي". أخرجه البخاري (5063) ومسلم (1401). وقد أجاز عامة الفقهاء أن يعقد– لمثل حالك- رجل من عامة المسلمين أنت ترتضينه، ففي مذهب الإمام أحمد، كما يقول الإمام ابن قدامة: فإن لم يوجد للمرأة ولي ولا ذو سلطان، فعن أحمد ما يدل على أنه يزوجها رجل عدل بإذنها. وفي مشهور المذهب: إذا عضل الولي موليته– أي منعها من الزواج من كفء- أو غاب غيبة منقطعة لا يصل إليه الكتاب، أو يصل فلا يجيب- زوَّج عنه السلطان إن وجد، وإن لم يوجد فيقوم بتزويجها رجل عدل تختاره هي. وفي مذهب الإمام مالك والشافعي: إذا كانت امرأة في موضع ليس فيه ولي ولا حاكم ففيه ثلاث روايات:
(1) لا يجوز التزويج.
(2) تزوج نفسها للضرورة.
(3) تُوَلِّي أمرها رجلاً يزوجها.
قال صاحب الحاوي: والذي نختاره صحة النكاح إذ ولّت أمرها عدلاً وإن لم يكن مجتهدًا.
أما الإمام أبو حنيفة فهو يرى أبعد من ذلك، حيث يرى عدم اشتراط الولي في النكاح أصلاً، فللمرأة عنده أن تزوج نفسها مباشرة، والصحيح ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، من اشتراط الولي في النكاح، وإذا تعذر الولي أو الحاكم والسلطان، جاز أن يزوجها رجل عدل بإذنها وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، فتوكلي على الله واختاري من ترينه وتختارينه عدلاً من الرجال المسلمين ليقوم مقام الولي في عقد النكاح. وفَّقك الله وجمع بينكما في خير. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد.(/1)
العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة
مع الحديث الشريف
" العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر "
( رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم ) 1
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
ما حكم تارك الصلاة ؟ !
هل هو كافر ؟ ! هل هناك عذر في الإسلام لتارك الصلاة ؟ ! هل تسقط الصلاة عن المريض مهما اشتد مرضه ؟ ! هل تسقط عن الخائف مهما اشتد خوفه ؟ ! هل تسقط عن المقاتل ؟ !
هل في الإسلام بعد الشهادتين شعيرة أهم من الصلاة ؟ ! هل حدث أن أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد بترك الصلاة ؟ ! كلا ! لم يحدث هذا أبداً ، ولا كان في الإسلام شعيرة أهم من الصلاة .
فقد يُعفَى المريض من الصيام ، والمسافر كذلك يرخص له بالفطر والقضاء . والحج هو لمن استطاع إليه سبيلاً ، والزكاة تفرض على الأغنياء لتعطى إلى الفقراء والمساكين ، ولتنفق في أبوابها المشروعة .
كل الشعائر قد يعذر المسلم في حالة من حالاته فتسقط عنه أو يرخص له بتركها مع القضاء أو بغير قضاء ! إلا الصلاة ، فإنها لا تسقط عن المسلم أبداً في
أي حالة من حالاته ، وأكثر ما هنالك أنه يرخص في قصرها للمسافر .
فما حكم تارك الصلاة ؟ لقد جاءت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاصلة حاسمة . ولكن الفقهاء اختلفوا بعد ذلك كما سنبين بعد قليل . وواقع المسلمين اليوم واقع مظلم في هوان وذلة وشتات . فنرى أن يُرَدَّ ذلك كله إلى الكتاب والسنة لنصل إلى تصور أقرب للتقوى بإذن الله . ومن أجل ذلك نرى أنه لا بد من دراسة الخطوات التالية :
1ـ ماهي منزلة الصلاة في الإسلام وما أثرها في حياة المسلم والأمة
كلها ؟ !
2ـ جمع بعض ما ورد في الكتاب والسنة عن تارك الصلاة .
3ـ دراسة آراء الفقهاء وردها إلى الكتاب والسنة .
4ـ دراسة واقع المسلمين اليوم وواقع تاركي الصلاة ورد ذلك إلى منهاج الله .
1ـ منزلة الصلاة في الإسلام وأثرها في حياة المسلم والأمة :
للصلاة منزلة عظيمة جداً في دين الله ، لا تكاد تعدلها منزلة أي شعيرة أخرى . فقد فرض الله الصلاة على جميع المؤمنين أصحاب الرسل كلهم ، حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ من الإيمان والإسلام والدين ، ومن العبادة كلها :
( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ) [ البينة : 5 ]
( وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ) [ مريم : 31 ]
(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين ) [ يونس : 87 ]
وترتبط الصلاة بالإيمان بالغيب والإنفاق :
( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) [ البقرة : 3 ]
وترتبط بالصبر والخشوع وبسائر الشعائر :
( واستعينوا بالصبر والصلاة وإِنها لكبيرة إلاَّ على الخاشعين ) [ البقرة : 45]
( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ) [ البقرة : 43]
وإنها صفة ملازمة للمؤمنين :
( قد أفلح المؤمنون . الذين هم في صلاتهم خاشعون ) [ المؤمنون : 1،2 ]
( والذين هم على صلواتهم يحافظون ) [ المؤمنون : 9]
( كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون ) [ الذاريات : 17، 18 ]
( وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون ) [ الأنعام : 92 ]
( الذين هم على صلاتهم دائمون ) [ المعارج : 23 ]
( والذين هم على صلاتهم يُحافظون ) [ المعارج : 34 ]
وللصلاة أثر كبير في حياة الإنسان . فبالإضافة لما ذكر أعلاه فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر :
( اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ) [ العنكبوت : 45 ]
والصلاة شعيرة رئيسة للعبادة يقوم بها الإنسان المؤمن والطير ومخلوقات كثيرة ، وكل ما في السموات والأرض يسبح بحمده :
( ألم تر أن الله يُسبح له من في السموات والأرض والطير صافاتٍ كُل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ) [ النور : 41 ]
وكانت محور دعاء إبراهيم عليه السلام :
( ربّ اجعلني مُقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ) [ إبراهيم : 40 ]
ولهذه الخصائص العظيمة كانت الصلاة فرضاً على المسلم فرضه الله سبحانه وتعالى وأمراً من عنده :
( قُل لعبادي الذي آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ) [ إبراهيم : 31 ]
وكذلك :
( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جُنُوبِكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً مَوْقُوتاُ ) [ النساء : 103 ]
( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ) [ البقرة : 43 ]
( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ) [ البقرة : 238 ](/1)
ويتوالى الأمر بالصلاة والإلحاح بها إلحاحاً شديداً بأساليب متعددة ، حتى لا يبقى عذر لمن يريد أن يتفلت منها :
( والذين يمسكون بالكتاب وأقامُوا الصلاة إنا لا نضِيعُ أجر المُصْلِحين ) [ الأعراف : 170 ]
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه ونحن نسير ، فقلت : يا رسول الله ! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار ، قال : " لقد سألت عن عظيم ، وإنه ليسير على من يسره الله عليه ، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتؤدي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت " . ثم قال : " ألا أدلك على أبواب الخير : الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ، وصلاة الرجل في جوف الليل " . قال : ثم تلا :
( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم ) [ السجدة : 16 ]
حتى بلغ ( يعملون ). ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه ؟ ! " قلت : بلى ! يا رسول الله ! قال : رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد " . ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ " قلت : بلى ! يا نبي الله ! فأخذ بلسانه قال : " كف عليك هذا " ، فقلت : يا نبي الله ! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم " (2) .
فالصلاة هنا في هذا الحديث الشريف : " عمود الأمر " ، أيّ عمود الإسلام ! وكان أول ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل أن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً ، ثم تلا ذلك مباشرة : " وتقيم الصلاة " !
ثم جاءت التوصية على صلاة الرجل في جوف الليل ، ثم تلا الآيات من سورة السجدة . ونذكر هنا الآيات من هذه السورة :
( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خَرُّوا سُجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون . تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون . فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قُرَّة أعين جزاء بما كانوا يَعملون) [ السجدة : 15- 17 ]
ومن هذا العرض السريع الموجز ندرك أهمية فريضة الصلاة حتى كانت أهم ركن بعد الشهادتين في الإسلام ، الإسلام الذي بني على أركانه الخمسة :
فعن ابن عمر رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
( بني الإسلام على خمس : " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، و إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان ) . [ أخرجه : أحمد والشيخان والترمذي والنسائي ] (3)
وقد جاءت كلمة الصلاة ومشتقاتها في تسع وتسعين آية ، في أربعين سورة تقريباً من القرآن الكريم .
2ـ جمع النصوص المتعلقة بتارك الصلاة والمتخلف عنها :
لذلك نجد من خلال الآيات الكريمة أن التخلف عن الصلاة ليس من صفات المؤمنين ، وإنما هو من صفات الذين يتبعون الشهوات فيضيعون الصلاة :
( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّاً) [ مريم : 59 ]
ويوم القيامة يكون مصير تاركي الصلاة مصيراً مؤلماً خطيراً :
( كل نفس بما كسبت رهينة . إلا أصحاب اليمين . في جنات يتساءلون . عن المجرمين . ما سلككم في سقر . قالوا لم نك من المصلين ) [ المدثر : 38-43 ]
وأما المنافقون فإنهم يقومون إلى الصلاة وهم كسالى :
( إن المنافقين يُخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كُسالى يُراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً ) [ النساء : 142 ]
إذا كان القيام للصلاة بكسل هو صفة المنافقين ، فما هو حال من يترك الصلاة كلية مدعياً أنه تركها كسلاً ؟ !
وتتوالى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين كذلك منزلة الصلاة العظيمة في الإسلام ، ودورها في تغذية الإيمان وطهارة الإنسان ، وحمايته من الفواحش والفتن . وحسبنا هنا أن نقدم قبسات من الأحاديث الشريفة ، بالإضافة إلى ما سبق من الآيات الكريمة ، وعلى المسلم أن يعود إلى منهاج الله ليتدبر آيات وأحاديث أكثر :
عن أبي المليح قال : كنا مع بريدة رضي الله عنه في غزوة في يوم ذي غيم فقال : بكروا بصلاة العصر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من ترك العصر فقد حبط عمله " [ أخرجه البخاري والنسائي ]
وعن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من فاتته العصر فكأنما وتر أهله وماله " [ رواه الشيخان وأبو داود والترمذي ]
هذا حال من فاتته صلاة العصر ولم يتعمد تركها ، فكيف يكون حال من يترك الصلاة كلها لا يرجعه إليها نصح ولا تذكير ؟ !
وعن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله عز وجل : إني افترضت على أمتك خمس صلوات وعهدت عندي عهداً أنه من جاء يحافظ عليهن لوقتهن أدخلته الجنة ، ومن لم يحافظ عليهن فلا عهد له عندي " . [ رواه أبو داود ](/2)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى عليه من درنه شيء ؟ ! " قالوا : لا يبقى من درنه شيء . قال : فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا " . [ رواه الشيخان والترمذي والنسائي ]
ولا بد أن نذكر أن هذه الأحاديث الشريفة لا تعني أنها تدعو المسلم إلى الصلاة وإلى ترك ما عداها من التكاليف الربانيّة . إنها تعني أنه من يحافظ على هذه الصلوات بشروطها وضوءاً وطهارة وأحكاماً وخشوعاً ، فإن الله يهدي قلبه ليمتنع عن الفواحش ، وليقبل على سائر التكاليف ، وسائر الشعائر ، وتلاوة القرآن وتدبره ودراسته ، وليقبل على الدعوة إلى الله ورسوله ، وإلى سائر الأهداف الربانية الثابتة .
ولم يكن التحذير من القيام إلى الصلاة بكسل فحسب ، ولا من تخلف عن صلاة العصر أو العشاء أو الفجر ، وإنما كان التحذير الشديد لمن تخلف عن صلاة الجماعة :
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ناساً في بعض الصلوات ، فقال : " لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها ، فآمر بهم فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم ، ولو علم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً لشهدها " . [ رواه الخمسة ]
وفي رواية أخرى :
" إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً . ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار " .
وعن الذين يتخلفون عن صلاة الجمعة :
فعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم ) [ رواه أحمد ومسلم ]
إذا كان هذا هو حال من يتخلف عن صلاة واحدة أو أكثر ، كالعشائين أو العصر أو الجمعة ، فكيف يكون حال تارك الصلاة كلها ، يدعي كل يوم أعذاراً من كسل ، أو أن الصلاة بينه وبين ربه فلا يتدخل بشأنها أحد ، أو أنه تكفيه الشهادتان ولا حاجة به إلى الصلاة ، وأعذار واهية أخرى .
فلننظر في النصوص المتعلقة مباشرة بتارك الصلاة .
3ـ النصوص المتعلقة مباشرة بتارك الصلاة ورأي بعض العلماء فيها :
عن بريدة الأسلمي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر " .
[ رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم ] (4)
نص الحديث واضح جلي . ومعناه واضح جلي ، وحكم تارك الصلاة فيه حاسم فصل . فما هي الحاجة إلى تأويل الحديث الشريف تأويلاً يغري ضعفاء النفوس بترك الصلاة . وهنالك أحاديث أخرى وآثار أخرى كذلك :
فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " . [ رواه الخمسة إلا البخاري ] (5)
وفي رواية الترمذي : " بين الكفر والإيمان ترك الصلاة " (6)
وقال عبد الله بن شقيق : " كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة " . [ رواه الترمذي ] (7)
ومع وضوح هذه النصوص وتواتر رواية بعضها وصحتها كلها ، ومع ذلك فقد اختلف بعض أئمة الإسلام في تأويل هذه الأحاديث وتطبيق حكمها . فقال بعضهم : ذلك الحكم للمستحل للترك . وحملها آخرون بأن معنى الكفر المقصود أن تارك الصلاة فعل فعل الكافرين ، وأنه عمل عملاً يؤول به إلى الكفر .
ولكن لو رجعنا لأقوال الأئمة وتحرينا معناها لوجدنا أن جميعهم يحكمون بتكفير تارك الصلاة إذا أنكر وجوبها أو إذا استحل تركها ، وأن تارك الصلاة يستتاب مدة محددة فإن تاب وصلى تُرك ، وإن أصر بعد الاستتابة قتل حداً كالزاني المحصن ، إلا أنه يقتل بالسيف . إذن الخلاف بين الفقهاء محصور حول الفترة التي يستتاب بها ، أهو فاسق أم كافر ، هي فترة قصيرة وسواء أكان كافراً أم فاسقاً ، فلابد من الفصل والحسم ، فإما أن يتوب ويعود إلى الصلاة وإما أن يقتل حداً .
الإمام أحمد بن حنبل وابن المبارك وإسحق وبعض أصحاب الشافعي ، كلهم يرون أنه كافر لظاهر النصوص ووضوحها . ومالك والشافعي وبعض أصحاب الشافعي يرون أنه لا يكَّفر ولكن يفسَّق فيستتاب فإن تاب وصلى قضي الأمر وحسابه عند الله ، وإن أصر قتل حداً . وقال أبو حنيفة وبعض أهل الكوفة والمزني من أصحاب الشافعي ، إنه لا يكفر ولا يقتل ، ولكن يحبس حتى يصلي ، وتأولوا الأحاديث كما ذكرناه أعلاه .(/3)
أما بالنسبة للرأي القائل بأن يحبس حتى يصلي ، فإن طالت المدة كثيراً واعتاد الرجل السجن ولم يصل ، فإلى متى يستمر ، تنفق الأمة جهداً ومالاً وموظفين ليراعوا تاركي الصلاة زمناً غير محدود . ولا يقوم لهذا الرأي سند من آية أو حديث ، وخروج واضح عن نص أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الواضحة الحاسمة . وإن مثل هذا الرأي قد يغري بعض النفوس بترك الصلاة . والإصرار على تركها .
ولكن في جميع رأي علمائنا هنالك عامل مشترك ، مهما اختلفت الاجتهادات . هذا العامل المشترك هو عدم ترك " تارك الصلاة " يجول في المجتمع متحدياً أمر الله ورسوله ، ومغرياً غيره بفساده . ففي أضعف الحالات كان الاجتهاد حبسه حتى يصلي . إن الاجتهاد الفقهي يجب أن يحمي المجتمع من نشر الفساد وامتداده .
4ـ قواعد إيمانية تساعد على فهم النصوص وتعين على الاجتهاد :
ونرى أنه لفهم مثل هذه الأحاديث والقضايا لا بد أن يكون هنالك قواعد إيمانية لمنهج التفكير ، حتى لا يظل التفكير رأياً خاصاً غير خاضع لمنهج ولا منضبط بقواعد ، وإلا أصبح من اليسير أن يتفلت كثير من الناس من بعض أحكام الدين بتأويلات تخرج عن جلاء النص وثباته وتأكيده .
القاعدة الأولى : التي أراها ضرورية هنا هي أن حكمنا على أي إنسان بالكفر بناءً على أدلة شرعية لدينا هو حكم في هذه الدنيا . نحن مكلفون أن نصدر أحكاماً آخذين بظواهر الأمور لا بما في داخل الصدور . فما في داخل الصدور لا يعلمه إلا الله . فحكمنا على رجل بالكفر يعني أن الرجل توافرت مظاهر حقيقية فيه ، جعلها النص كافية لإصدار الحكم . ولا يعني هذا أن أحكام الدنيا ، الأحكام التي يصدرها بشر ، مهما كانت أسبابها وافية ، فلا يعني أننا نفرضها في الدار الآخرة ، وأن الله سبحانه وتعالى يصبح ملزماً بها ، سبحانه وتعالى علواً كبيراً . ففي الدار الآخرة تقوم الموازين القسط والحق المطلق فلا ظلم أبداً ، ويغفر الله لمن يشاء ويعذب من يشاء لحكمة بالغة وقضاء حق وموازين قسط .
أما في الدنيا فولي الأمر مكلف بالاجتهاد بناء على نصوص ثابتة لديه ليقيم أمر الدين ويصد فساد العابثين ، وكذلك القاضي وكل مسؤول في حدود مسؤوليته .
وكذلك الحال بالنسبة لمن يقول : " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، فحكم ذلك في الدنيا أن نطالبه فوراً بإقامة مستلزمات هاتين الشهادتين من إقامة الشعائر وسائر التكاليف الربانية في حدود وسعه الصادق الذي سيحاسب عليه ، فإن أبى أن يقوم بذلك وأصر فيطبق عليه حكم الإسلام ، حكم تارك الصلاة وسائر الشعائر ، ويقتل حداً ، ولو أنه يقول الشهادتين . إننا نحكم حكماً آنياً بإسلام من قال الشهادتين ، ونقبل منه ذلك ، ثم ننتظر أن يؤدي حقوق الشهادتين . فإن كان لا يعرفها علمناه إياها ، ثم طالبناه بالتزامها . وهذا الحكم حكم دنيوي آني . أما الحكم في الآخرة فالله وحده يعلم بما في صدور العالمين ، فقد يدخل الله عبده الجنة إذا علم أن في قلبه إيماناً ، وقد يدخله النار إذا علم أن في قلبه كفراً ، وقد يغفر الله لفاسق في الدنيا ، وقد لا يغفر له ، كل ذلك على موازين قسط وقضاء حق عادل لا ظلم معه أبداً . وليس بمقدور البشر أن يحكموا في الدنيا بأحكام يرون أنها ستمتد للآخرة . الناس مكلفون في الدنيا بتنفيذ منهاج الله قرآناً وسنة ، ولابد أن يجتهدوا من أجل ذلك ، وقد يصيبون وقد يخطئون ، فأحكامهم تظل أحكاماً بشرية اجتهادية مداها هذه الحياة الدنيا .
والقاعدة الثانية : من يصدر هذه الأحكام ومدى جدواها ؟ :
فقد يصدر الحكم من القضاء الإسلامي الملتزم بالكتاب والسنة ، ويعقب الحكم إجراء تنفيذي بالحبس والاستتابة ، أو القتل حداً إن أصر على عدم الصلاة .وقد يصدر حكم ما من قضاء ما يعقبه إجراء قائم على القوانين الوضعية . وقد يكون الرأي حديث مجلس ينتهي أثره بانتهاء المجلس ، ولا يكون له أثر بعد ذلك في المجتمع والأمة . أما إن كان المجتمع يحكمه منهاج الله ، يلتزمه الكبير والصغير ، فيكون الحكم عبرة للناس وطاعة لله وردعاً للآخرين . ويظل الحكم خاضعاً للقاعدة الأولى . وأما حديث المجالس فيعتمد على مستوى أهل المجلس ومستوى الفقه فيه والغاية من إثارة هذا الموضوع . فإن كان مجلس علم فخير إن شاء الله ، على أن يلتزم المجلس بالكتاب والسنة ويستأنسوا بآراء الفقهاء ، وأما إن كان مجلساً عادياً تساق فيه الآراء ارتجالاً دون تحقيق وتمحيص ، فخير أن يتوقف الجميع ليعود كل واحد إلى دراسة الموضوع ليقدم كل رأياً مدروساً عن بينة وعلم ، فلا يقفو أحد ما ليس له به علم :
( ولا تقف ما ليس لك به علم إنَّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً ) [ الإسراء : 36 ]
وفي غالب الأحيان تصدر الآراء رواية عن هذا وذاك ، دون أن ينهض المسلم إلى ما أمره الله به : " طلب العلم فريضة على كل مسلم " ، ودون أن يعرف الدليل عند من نقل رأيه ، ودون أن يرد الأمر كله للكتاب والسنة .(/4)
والقاعدة الثالثة : أصبح كثير من المسلمين لو سألته : لم تركت الصلاة فيقول : " كسلا " ! ولكن الكسل ليس عذراً مقبولاً في الإسلام ليسوغ ترك الصلاة . ولو كان العذر الكسل ، لترك الرجل الصلاة يوماً أو يومين أو مدة قصيرة ، يتذكر بعدها أن الصلاة فرض وأنها ركن من الأركان الخمسة . أما أن يظل تاركاً للصلاة عمره كله بحجة الكسل ، فهذا عذر مرفوض ديناً وعقلاً . والواقع اليوم يكشف لنا أن الملايين من المنتسبين إلى الإسلام لا يصلون . وقد يلجؤون إلى عذر الكسل ، أو على الأصح اللامبالاة وعدم الاهتمام . وإذا ذكَّرت أحداً من هؤلاء بأمر الدين ومنزلة الصلاة أجابك : هذا أمر يخصني أنا ، وهي علاقة بيني وبين الله . فيصدك بإصرار عن أن تتدخل في أمر تركه للصلاة أو تنصحه . لقد ذهب وازع السلطة ، الوازع الذي شرعه الله للمؤمنين ، حتى يقيم فيهم شرع الله ، ويقيم أمر الدين كله . فتفلت الناس ووجدوا من يغريهم على التفلت ويهون لهم أمر ترك الصلاة . فإذا كان المرض الشديد لا يجيز ترك الصلاة ، وإذا كان الخوف لا يجيز ترك الصلاة ، وإذا كان المسلم مكلفاً بإقامة الصلاة في جميع حالاته لا يُقبَل له عذر بتركها ، فهل يُقبَل عذر الكسل ؟ !
القاعدة الرابعة : يجب التفريق في واقعنا اليوم بين حكم تارك الصلاة ، وبين طريقة معالجة هذه المشكلة . فحكم تارك الصلاة في الإسلام واحد ، لا عذر عند الله لأحد بتركها أبداً ، ونحن مكلفون أن نوضح هذه الحقيقة للناس توضيحاً جلياً عسى أن يرتدع بعض تاركي الصلاة . واليوم عدد تاركي الصلاة كبير جداً في العالم الإسلامي ، ملايين تتلوها ملايين ، ولا يتوافر سلطان ليزجر أو يستتيب أو يقيم الحد . وهو ابتلاء من الله كبير . ولكن يبقى تارك الصلاة ، بالنسبة للاجتهاد البشري في هذه الحياة الدنيا كافراً ، ولكن تختلف طريقة المعالجة لهذه المشكلة المتزايدة . فالحكم ثابت مدى الأزمان ، وطريقة التعامل والمعالجة تختلف . وأعتقد أن رأي أبي حنيفة في شأن تارك الصلاة وسيلة لمعالجة مشكلة في الواقع أكثر منها حكماً شرعياً ملتزماً بنصوص شرعية .
والموقف اليوم وأسلوب المعالجة ينطلق من حقيقة أساسية هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد ، إلى الله ورسوله . يمكن أن نقول لتارك الصلاة حقيقة الحكم إذا كان ذلك يؤثر فيه إيجابياً ، ويجعله يعيد تفكيره ، ويمكن أن لا نثير هذا الموضوع ، وننطلق إلى الخطوة الرئيسة لندعوه إلى حقيقة الإيمان دعوة منهجية مدروسة ، نتألف بها قلبه على الإيمان والتوحيد ، ونبين له نواحي الخلل في إيمان بعض الناس الذين يقولون إنهم مؤمنون . فتبرز قضية الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، ومعنى الألوهيّة والربوبية ، ومعنى عبودية الإنسان لله رب العالمين ، والعهد مع الله ، والولاء الأول لله ، والحب الأكبر لله ولرسوله ، وأن الإيمان قضية مفاصلة وحسم ، وقضية تكاليف والتزام ، وقضية مسؤولية وحساب ، وأن الإيمان الصادق يدفع المسلم إلى النهوض إلى التكاليف الربانية ، وأولها ، بعد الأركان الخمسة طلب العلم من القرآن والسنة ، إلى غير ذلك من التكاليف ، وأن منهاج الله مصدر ذلك كله .
ويعرض المسلم هذه القضايا بأسلوب يختلف من شخص إلى شخص ، بعد دراسة الشخص واختيار الأسلوب الأنسب والأوفى .
أما أن نترك تارك الصلاة ، لا ننبهه لخطورة القضية ، ولا نعالجها فيه ، فهذا أمر سيء يقع إثمه على كل مسلم يتخلى عن النصح والتذكير والدعوة في واقع لا يحكم فيه الإسلام ، أو على المسؤول المنوط به هذا الأمر .
ونعود لنؤكد أن من قال : " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله " ، نقبل إيمانه ولا ندعي أننا نعرف ما في قلبه . ولكنه يخضع لحكم الإسلام بعد أن نطق بالشهادتين ، فيطالب بأداء ما كلفه الله به بموجب الشهادتين ، فإن قام بذلك فقد أحسن ، وأن أبي ونكث فيقام عليه حكم الإسلام . وأي حكم يقام عليه فلا يعني أنه هو حكم الله عليه في الآخرة . فحكم الدنيا اجتهاد أُمِرنا به ، وحكم الآخرة عدل وحق من الله .
وأما بالنسبة لما ورد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من قال : " لا إله إلا الله دخل الجنة " فإنها تعني أن من قالها صادقاً من قلبه ، كما يبينه نص آخر للحديث ، فإنه يدخل الجنة . ومن قالها صادقاً من قلبه فإنه يستجيب لأمر الله وينهض لما كلفه الله به في حدود وسعه الصادق . وإلا كيف ينسجم الصدق الخالص من القلب وعدم الطاعة لله ولرسوله . ويظل معنى هذه الأحاديث يدل على أن الحكم على قائل الشهادتين هو حكم في الآخرة ، حيث يعلم الله وحده ما في قلبه . وربما دخل النار رجل قال الشهادتين وأدى الشعائر ، فعلم الله أنه لم يكن صادقاً فأدخله النار .
نستغفر الله إن أخطأنا ونتوب إليه ، فهذا غاية اجتهادنا ، والحمد لله رب العالمين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته : ( ط:3) ـ ( رقم : 4143) .(/5)
(2) الترمذي : 41/8/2616 .
(3) صحيح الجامع الصغير وزيادته : ( ط : 2) ـ ( رقم : 2837 ) .
(4) صحيح الجامع الصغير وزيادته : (ط:3) ـ (رقم :4143) . الترمذي : 41/9/2622 .
(5) أحمد : المسند : 5/346 ، الفتح : 2/232 .
(6) صحيح الجامع الصغير وزيادته ( ط:2) : ( رقم : 2846 ) . الترمذي : 41/9/2618 .
(7) الترمذي : 41/9/2622 .(/6)
العهد والميثاق في القرآن الكريم
أولاً: المقَدمة
تقديم: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضّل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
فإن القرآن الكريم كلام الله جل وعلا، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم هداية للناس ومرشدًا إلى الصراط المستقيم، وتكفل الله بحفظه إلى يوم القيامة ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (الحجر:9) .
ولقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغ هذا الكتاب وتعليمه لأمته حتى غدت على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وقام صحابته من بعده بحمل رسالة الإسلام، مهتدين ومستمسكين بالقرآن العظيم والسنة المطهرة.
ولأن القرآن تنزّل عليهم وسمعوه من المصطفى صلى الله عليه وسلم فقد كانوا خير من يفقهه ويعمل بما فيه، ولذلك فقد أولوه جلّ عنايتهم، تعليمًا وتفسيرًا وتطبيقًا، ولا غرو في ذلك فهم خير القرون وسادة الأمم وقدوة الأجيال.
وسار سلف هذه الأمة على ما سار عليه أولئك الرجال، وتتابعت الأجيال جيلا بعد جيل تحمل هذا القرآن وتتسابق في بيانه، والعمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه.
وعلى مرّ السنين والقرون، ومع ما بذل ويبذل نحو هذا الكتاب العزيز فإنه لا ينقضي عجائبه، ولا تفنى ذخائره، ولا تبلى روائعه، قوي البنيان، ثابت الأركان، واضح البيان.
ولقد تأملت في واقع أمتنا في هذا العصر، فرأيت أنها مهيضة الجناح، تتقاذفها الأمواج، وتميل بها الرياح، تلتفت يمينًا وشمالا تبحث عن منقذ لها، ومركب النجاة بين يديها، تأوي إلى الغرب وتهوي إلى الشرق ويتآمر عليها شراذم البشر وشرار الخليقة وعزّتها ونصرتها ومنعتها باللجوء إلى كتاب ربها، ولكن يا ليت قومي يعلمون فيعملون.
وفي السنوات الأخيرة رأيت كيف أصبحت الدول تعيش في قلاقل ومحن، وباتت الشعوب - وبالأخص الشعوب الإسلامية - لا تأمن على حياتها وممتلكاتها، فلم يعد الإنسان يطمئن إلى عهد ولا إلى ميثاق، توقّع العهود في الصباح وتنقض في المساء،أنشئت الهيئات والمنظمات الدولية، ولكنها أصبحت كلا على الضعفاء وسلاحًا فتّاكًا بيد الأقوياء، وسادت شريعة الغاب ومملكة البحار، القوي يأكل الضعيف، والكبير يقضي على الصغير بل حتى على مستوى الأفراد والجماعات لم يعد للعهود مكانًا، ولا للمواثيق احترامًا، إلا ما ندر ممن يؤمن بالله واتخذ القرآن له دستورًا وأمانًا، وأدركت أن من أسباب شقاء هذه الأمة وبؤسها بعدها عن كتاب ربها، وعدم التزام كثير من أفرادها بعهود الله ومواثيقه، في العقيدة والسلوك والمعاملات والأخلاق والتقدير، ولذلك اختلت الموازين والقيم، وضعفت الأمة وامتلأت المحاكم والسجون، والأكثر حر طليق.
ولإيماني بكتاب ربي طفقت أبحث عن العلاج بين سوره وآياته، فوجدت ذلك جليًا واضحًا، فقد أثار انتباهي كثرة الآيات التي وردت في قضية العهد والميثاق، وشمولها لجميع العصور والأزمنة، منذ أن خلق الله أبانا آدم - عليه السلام - وأخرج الذرية من ظهره فأخذ عليهم العهد والميثاق، إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم - وما جرى على يديه من عهود ومواثيق، بل إن ما يشدّ الانتباه في حديث القرآن عن العهد والميثاق عدم اقتصاره على جانب معين، بل إنّه يتحدث عن العهد والميثاق في جوانب التوحيد والعبادة، ويتحدث عنه في جانب العلاقات الدولية وهكذا، إلى أخصّ أمور الناس كحديثه عن الميثاق في العلاقات الزوجية، وعلاقة الابن بأبيه كقصة يعقوب وبنيه.
ومن هنا ولتخصصي في القرآن وعلومه جاء اختياري لموضوع العهد والميثاق في القرآن الكريم، ورأيت أن هذا موضوع يحتاج إلى جهد وبيان، ودراسة وتوثيق.
ولقد شعرت بصعوبة الموضوع ومشقته، وجلست قرابة ستة أشهر أفكر فيه ومدى قدرتي عليه، فاستشرت (1) واستخرت ثم عزمت وعلى الله توكلت.
وبعد أن استوعبت الموضوع من خلال تنقلي بين المصادر والمراجع واستشارة ذوي الاختصاص وضعت مخططًا عامًا ثم نقحته بعد ذلك أثناء شروعي في كتابة الموضوع حتى أصبح بشكله النهائي الذي هو عليه الآن.
وقد رأيت أن أقسّمه إلى مباحث دون الفصول والأبواب، لأن ذلك هو الأقرب إلى التفسير الموضوعي، وبالأخص مثل هذا الموضوع (العهد والميثاق) وتحت كل مبحث عدد من الفقرات والجزئيات. وقد جاء البحث في أربعة مباحث وخاتمة كما يلي:
المبحث الأول:
وقد اشتمل على ما يتعلق بمعنى العهد الميثاق، وورودهما في القرآن الكريم، وألحقت بذلك أمثلة من ورود العهد والميثاق في السنة النبوية إتمامًا للفائدة ولذلك فقد جاء هذا المبحث كما يلي:
__________
(1) - ممن أشار بهذا الموضوع أستاذي د. أحمد حسن فرحات، والأستاذ الدكتور مصطفى مسلم حيث ساعدني أيضًا في وضع المخطط، فلهما مني جزيل الشكر والتقدير.(/1)
1- العهد والميثاق في اللغة.
2- كلمة العهد في القرآن الكريم ومعناها.
3- كلمة الميثاق في القرآن الكريم ومعناها.
4- هل العهد والميثاق مصطلح واحد؟.
5- الأسلوب القرآني في عرض قضية العهد والميثاق.
6- العهد والميثاق في السنة النبوية الشريفة (1).
المبحث الثاني:
العهود والمواثيق التي وردت في القرآن الكريم:
وقد قمت في هذا المبحث بدراسة العهود والمواثيق التي ذكرت في القرآن الكريم دراسة توثيقية حيث اشتمل على دراسة المواثيق والعهود التالية:
1- العهد والميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم.
2- العهد والميثاق الذي أخذه الله على النبيين.
3- العهد والميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل.
4- العهود والمواثيق التي جرت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم - وهي على نوعين: الأول: عهود ومواثيق باشرها الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابها. الثاني: رسائل ومكاتبات بعثها الرسول صلى الله عليه وسلم وتضمنت بعض العهود والمواثيق. وكل من هذين النوعين يشتمل على عدة أقسام:
المبحث الثالث:
مجالات استعمال مصطلح العهد والميثاق:
وقد ذكرت فيه المجالات التالية:
أولا: العقيدة، وينقسم هذا المجال إلى عدة فروع.
ثانيًا: العبادات.
ثالثًا: الأخلاق.
رابعًا: العلاقات الدولية.
خامسًا: المعاملات.
سادسًا: القضايا الاجتماعية.
سابعا: الجهاد في سبيل الله.
المبحث الرابع:
الوفاء بالعهد والميثاق:
ويشتمل هذا المبحث على الموضوعات التالية:
أولا: حكم الوفاء بالعهد والميثاق.
ثانيًا: آثار الوفاء بالعهد والميثاق.
ثالثًا: آثار نقض العهد والميثاق.
خاتمة:
ثم ختمت هذا البحث بخاتمة: لخصت فيها أبرز ما توصلت إليه من نتائج.
ثم وضعت ثبتًا بالمصادر والمراجع، وفهرسًا للموضوعات.
منهجي في هذا البحث:
أما منهجي في هذا البحث فألخصه بالنقاط التالية:
1- اقتصرت على الآيات التي ورد فيها لفظ العهد أو الميثاق التزامًا بالمنهج الذي اخترته (2).
2- سلكت منهج التفسير الموضوعي في بحثي لقضية العهد والميثاق في القرآن الكريم، وما ورد من جوانب تحليلية فهو مما تقتضيه طبيعة الموضوع، وتفرضه حاجة البحث، مما لا يعارض المنهج المذكور مع ندرة ذلك وعدم التوسع فيه.
3- التزمت بترقيم الآيات وعزوها إلى سورها (3) إلا إذا تكررت الآية في الموضع الواحد عدة مرات فأكتفي غالبًا بترقيمها أوّل مرة، دفعًا للتكرار ولسهولة معرفة موضعها آنذاك.
4- خرّجت الأحاديث من كتب السنة المعتبرة، وبيّنت درجة كثير منها، صحة وضعفًا حسب قوة الاستدلال في الحديث ومكان وروده ودواعي الاستشهاد به.
5- حرصت على اختيار المصادر الأصيلة، وعدم اللجوء إلى البديل من المراجع، إلا إذا كانت طبيعة النص تسمح بذلك، أو عند الضرورة، وقد التزمت العزو لكل مصدر أو مرجع أفدت عنه.
6- لم أترجم للأعلام نظرًا لطبيعة الموضوع والهدف منه، ولأن أغلب الأعلام من المشهورين، مع حرصي على عدم إثقال البحث بالحواشي.
7- الإيجاز والإطناب من فنون البلاغة، وقد دارت بعض مباحث هذا الموضوع بين الإيجاز والإطناب، حسب الاقتضاء ودواعي البيان، وبعضها - وهو الأكثر - لا إيجاز فيه ولا إطناب.
8- اجتهدت في ربط هذا الموضوع بقضايا العصر، لأنني لا أريد أن يخرج بحثًا نظريًا بعيدًا عن الواقع، فالثمرة منه بقدر إفادة الأمة حاضرًا ومستقبلا، وأسأل الله أن أكون قد وفقت في ذلك.
وبعد:
فأحسب - دون تزكية لنفسي أو ثناء على عملي - أني قد قدمت مباحث لم أر من بحثها قبلي، حسب اطلاعي وسؤالي (4) وما سبقت إليه من جزئيات أشرت إليه في موضعه، مفيدًا منه، شاكرًا لأصحابه.
والشكر لله أولا وأخيرًا، وله الحمد والفضل، فما كان من توفيق فمنه جلّ وعلا، وما حدث من قصور أو تقصير فمني والشيطان، وأستغفر الله.
ثم أشكر كل من كان سببًا في إخراج هذا البحث، وكل من قدم لي أي مساعدة حسية أو معنوية، ولهم مني خالص الدعاء بالتوفيق والسداد.
وشكري سلفًا لمن يقدم لي أي ملحوظة تساعد على تمام البحث وكماله، وستجد مني كل عناية وتقدير، وأسأل الله الإخلاص في القول والعمل.
وصلاة وسلامًا على سيد البشر وصفوة الخلق، وعلى آله وصحبه أجمعين، آمين.
ثانياً: الْمَبْحَث الأوَّل
العهد والميثاق في اللغة
أولا: العهد:
__________
(1) - أردت أن أبين أهمية العهد والميثاق لوروده في السنة النبوية الشريفة - أيضًا - ولم أتوسع في ذلك فقد ذكرت بعض الأحاديث فقط.
(2) - ذكرت آيتين سوى ذلك هما الآية 1 من سورة المائدة، والآية 172 من سورة الأعراف لصلتهما المباشرة في ذلك.
(3) - قد يكون الرقم في الأصل وقد يكون في الحاشية، وسبب ذلك ظروف فنية.
(4) - اتصلت ببعض الجامعات وسألت عددًا من المختصين وكانت الإجابة من الكل تفيد بعدم بحث هذا الموضوع.(/2)
قال ابن فارس: (عَهِدَ) العين والهاء والدال أصل هذا الباب عندنا، دال على معنى واحد، وقد أومأ إليه الخليل، قال: أصله الاحتفاظ بالشيء، وإحداث العَهْدِ به، والذي ذكره من الاحتفاظ هو المعنى الذي يرجع إليه فروع الباب (1) ويأتي العَهْدُ على عدة معانٍ، وهي:
1- العَهْدُ: الموثق واليمين يحلف بها الرجل والجمع كالجمع، تقول: عليّ عَهْدُ الله وَميثاقه، وقيل: وليّ العهد، لأنه ولي المِيْثاق الذي يؤخذ على من بايع الخليفة (2) .
2- والعَهْدُ: الوصيّة، يقال عَهِدَ إليّ في كذا: أوصَاني (3) .
3- والعَهْدُ: التقدم للمرء في الشيء، ومنه العَهْد الذي يكتب للولاة، والجمع: عُهود، وقد عَهِد إليه عَهْدًا (4) .
4- والعَهْدُ: الوَفاءُ والحِفَاظُ وَرعايةُ الحُرْمَة (5) .
5- والعَهْدُ:؛ الأمان، قال شمرّ: العَهْد الأمان، وكذلك الذِّمة، تقول: أنا أُعْهِدُكَ من هذا الأمر، أي: أُؤمّنك منه، ومنه اشتقاق العُهْدَة (6) .
6- والعَهْدُ: الالتقاء، وَعَهِدَ الشيء عهدًا عَرفه، وَعهِدْتُهُ بمكان كذا أي لَقيته وعَهْدي به قريب (7) .
7- والعَهْدُ؛: ما عَهِدْتَه فَثافَنْتَه، يقال:؛ عَهْدي بفلان وهو شابٌ، أي: أدركته فرأيته كذلك (8) .
8- والعَهْدُ: المَنْزل الذي لا يزال القوم إذا انتأوا عنه رجعوا إليه، ويقال له: المعُهَد - أيضًا- (9) وكذلك المنزل المعهود به الشيء يقال له: العَهْدُ، قال ذو الرمة:
هل تعرف العَهْدَ المُحيل رَسْمُهُ (10)
9- والْعَهْدُ: أول مطر، والوَلِيُّ الذي يليه من الأمطار، وفي الصحاح: العَهْدُ: المطر الذي يكون بعد المطر، وقد عُهِدَتِ الأرض فهي مَعْهودةٌ أي: مَمْطورة (11) .
10- والعَهْدُ: الزمان، كالعِهْدان - بالكسر - (12) .
11- والعَهْدُ: التّوحيد (13) .
12- والعَهْدُ: الضّمان (14) .
13- والعَهِدُ: الذي يحبّ الولايات والعُهُود، وقال الكميت:
نام المهلّب عنها في إمارته ... حتى مضت سنة لم يقضها العَهِدُ
قال: وكان المهلب يُحِبُ العُهُود (15)
14- والعَهْدُ: الإلّ، قال القرطبي: والعَهد يسمى إلا لصفائه وظهوره، قال الجوهري: والإلّ؛: العهد والقرابة، قال حسان:
لعمرك أن إلّك من قريش ... كإلّ السقب من رأل النعام (16)
هذه أهم المعاني التي وردت لمعنى (العهد) ولم أتطرق لما جاء في معنى تَعهّد وتعاهَد ونحوهما من معان الألفاظ القريبة من معنى العهد.
ثانياً: الميثاق:
قال ابن فارس: وَثَقَ: الواو والثاء والقاف كلمة تدلّ على عَقْد وإحْكام، وَوَثَّقْت الشيء: أحكَمْتَه، وناقة موثَّقة الخلق.
والميثَاق: العَهْد المحكم (17) وقال الفيروزآبادي: المِيثاق: عَقْدٌ يؤكد بيمين وعَهْد، وأخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف (18)
وجاءت لفظة (وَثَقَ) وما اشتق منها على عدة معاني، منها:
1- قال الأزهري: الوَثاقَة: مصدر الشيء الوَثيق المُحكم، والفعل اللازم: وَثُقَ وثاقة فهو وَثيق (19)
2- والوَثاق: اسم الإيثاق، تقول: أوثقتُهُ إيثاقًا ووَثاقًا، والحبل أو الشيء يُوَثق به: وثاق. والجميع: الوُثُق، منزلة الرِباط والرُّبُط (20)
3- والوثيقةُ في الأمر: إحكامُهُ والأخذ بالثقَة، والجمع؛: الوَثائق (21)
4- والمَوْثَق والمِيْثَاق: العَهْدُ، والجمع: المواثِيق على الأصل، وفي المحكم: والجمع: المَواثِق (22)
5- والمُواثَقة: المعاهدة (23)
__________
(1) - معجم مقاييس اللغة مادة (عهد) 4-167.
(2) - لسان العرب مادة (عهد) 3-311؛ وتاج العروس مادة (عهد) 2-442.
(3) - تهذيب اللغة مادة (عهد) 1-135؛ ولسان العرب مادة (عهد) 3-311.
(4) - لسان العرب مادة (عهد) 3-311، تاج العروس مادة (عهد) 2-442.
(5) - تاج العروس مادة (عهد) 2-442؛ وانظر لسان العرب مادة (عهد) 3/311-312.
(6) - الصحاح مادة (عهد) 1-512؛ ولسان العرب مادة (عهد) 3/311-312.
(7) - الصحاح مادة (عهد) 1-512؛ ولسان العرب مادة (عهد) 3/313.
(8) - تهذيب اللغة مادة (عهد) 1/136؛ ولسان العرب مادة (عهد) 3/313.
(9) - الصحاح مادة (عهد) 1/512، وتهذيب اللغة مادة (عهد) 1/136.
(10) - لسان العرب مادة (عهد) 3/313.
(11) - الصحاح مادة (عهد) 1/513، وتاج العروس مادة (عهد) 2/442.
(12) - تاج العروس مادة (عهد) 2/442.
(13) - تاج العروس مادة (عهد) 2/442.
(14) - تاج العروس مادة (عهد) 2/442.
(15) - تهذيب اللغة مادة (عهد) 1/137).
(16) - الصحاح مادة (ألل) 4/1626؛ وتفسير القرطبي 8/79.
(17) - معجم مقاييس اللغة مادة (وثق) 6/85.
(18) - بصائر ذوي التمييز 5/158.
(19) - تهذيب اللغة مادة (وثق) 9/266.
(20) - تهذيب اللغة مادة (وثق) 9/266؛ ولسان العرب مادة (وثق) 10/371.
(21) - تهذيب اللغة مادة (وثق) 9/266، ولسان العرب مادة (وثق) 10/371.
(22) - الصحاح مادة (وثق) 4/1563؛ ولسان العرب مادة (وثق) 10/371.
(23) - الصحاح مادة (وثق) 4/1563؛ وتهذيب اللغة مادة (وثق) 9/266.(/3)
6- والثقَةُ: مصدر قولك: وَثِقَ به يَثِق - بالكسر فيهما - وثاقةُ، وَثِقَة: ائتمنه، وأنا واثق به، وهو مَوثُوق به (1) والذي يعنينا في هذا البحث ما كان بمعنى اليمين والمَوْثق والعَهْد المحكم، دون ما سوى ذلك مما يتعلق بهاتين الكلمتين أو اشتقاقهما من معان أخرى.
كلمة العهد في القرآن الكريم ومعناها
وردت لفظة (عهد) وما اشتق منها (46) مرة في (36) آية من كتاب الله تعالى في (17) سورة من سور القرآن الكريم (2) وسأذكر المعاني التي وردت فيها مع ذكر الآيات التي وردت في كل معنى من المعاني، مع الإشارة إلى أن المفسرين اختلفوا حول بعض معاني الكلمات التي وردت في الآيات، وسأذكر ما اختاره من الأقوال مما أرى أنه ألصق بمعنى الآية دون أن أذكر الأقوال الأخرى التزامًا بمنهج البحث ودفعًا للاستطراد والتكرار، وحتى لا أخرج عن معنى التفسير الموضوعي إلى التحليلي.
1- ورد العهد بمعنى الوصية والأمر في عدة مواضع:
قال تعالى في سورة البقرة: ( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) (البقرة: من الآية27).
قال الطبري: قال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه، وأمره إياهم بطاعته، ونهيه إياهم عن معصيته (3) وقال الماوردي: في العهد قولان: أحدهما: الوصية (4) وقال تعالى في سورة البقرة - أيضًا -: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة: من الآية125).
إذا عدي (العهد) بإلى كان بمعنى الوصية المؤكد على الموحى للعمل بها، فـ(عهدنا) هنا بمعنى أوحينا وأمرنا (5) وفي سورة آل عمران: ( الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ) (آل عمران: من الآية183).
قال ابن الجوزي: ( عَهِدَ إِلَيْنَا ) (آل عمران: من الآية183) أي: أمرنا بالتوراة (6) وقال أبو السعود: ( عَهِدَ إِلَيْنَا ) (آل عمران: من الآية183) أمرنا في التوراة وأوصانا (7) وكذلك جاء في سورة الرعد: ( الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ) (الرعد:20). قال القرطبي: هي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده (8) وفي الرعد - أيضًا-: ( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) (الرعد: من الآية25)، وهو بمعنى ما في الآية الأولى.
وفي سورة طه قال تعالى: ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (طه:115). فالعهد هنا بمعنى الأمر والوصية. قال النسفي: لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه ألا يقرب الشجرة (9) وقال القرطبي: والعهد هنا في معنى الوصية (10) وفي سورة يس: ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) (يّس:60).
والعهد هنا بمعنى الوصية، أي ألم أوصيكم وأبلغكم على ألسنة الرسل (11). وفي التحرير والتنوير: والعهد: الوصاية، ووصاية الله بني آدم بألا يعبدوا الشيطان هي ما تقرر واشتهر في الأمم (12).
2- وورد العهد بمعنى الوعد والالتزام واليمين:
قال تعالى في سورة البقرة: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (البقرة: من الآية40).
__________
(1) - لسان العرب مادة (وثق) 10/371؛ وتاج العروس مادة (وثق) 7/84.
(2) - وتفصيلها كالآتي: سورة البقرة: الآيات [27، 40]، [80، 100]، [124، 125]، [177]؛ سورة آل عمران: الآيات [76، 77، 183]؛ سورة الأنعام: آية [152]؛ سورة الأعراف: الآيات [102-134]؛ سورة الأنفال: آية [56]؛ سورة التوبة: الآيات [1، 4، 7، 12، 75، 111]، سورة الرعد: الآيتان [20، 25]؛ سورة النحل: الآيتان [91، 95]؛ سورة الإسراء: آية [34]؛ سورة مريم: الآيتان [78، 87]؛ سورة طه: الآيتان [86، 115]؛ سورة المؤمنون: آية [8]؛ سورة الأحزاب:؛ الآيتان [15، 23]؛ سورة يس: آية [60]؛ سورة الزخرف: آية [149]؛ سورة الفتح: آية [10]؛ سورة المعارج: آية [32].
(3) - تفسير الطبري 1/182؛ تفسير القرطبي 1/146.
(4) - تفسير الماوردي 1/81.
(5) - التحرير والتنوير 1/711؛ انظر تفسير الماوردي 1/156.
(6) - زاد المسير 1/516.
(7) - تفسير أبي السعود 1/614.
(8) - تفسير القرطبي 9/307 وقد ذكر بعض المفسرين أن العهد هنا بمعنى الميثاق لقوله بعده "ولا ينقضون الميثاق"؛ انظر الكشاف 2/357.
(9) - تفسير النسفي 3/217.
(10) - تفسير القرطبي 11/251.
(11) - تفسير القرطبي 15/47.
(12) - التحرير والتنوير 23/46.(/4)
قال الماوردي: وفي تسمية ذلك عهدًا قولان.. الثاني؛: أنه جعله كالعهد الذي هو يمين للزوم الوفاء بهما جميعًا (1) وقال الطاهر بن عاشور:؛ والعهد هنا هو الالتزام للغير بمعاملة التزامًا لا يفرط فيه المعاهد حتى يفسخاه بينهما (2). وقال تعالى في سورة البقرة: (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ) (البقرة: من الآية80). والمراد بالعهد - هنا - الوعد المؤكد، لأن أصل العهد هو الموعد المؤكد بقسم والتزام (3). وقال تعالى: في سورة البقرة - أيضًا -: (قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: من الآية124). والمراد بالعهد هنا الوعد (4) لأن الله تعالى وعد إبراهيم - عليه السلام - بأن يجعله إمامًا، فلما قال إبراهيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) (البقرة: من الآية124) أي أن هذا الوعد لي ولبعض ذريتي، قال سبحانه: (قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: من الآية124) (5). وكذلك جاء العهد بمعنى الوعد في قوله تعالى في سورة التوبة: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) (التوبة: من الآية111). قال في زاد المسير: أي: لا أحد أوفى بما وعد (6). وقال ابن كثير: " وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فإنه لا يخلف الميعاد " (7). وفي سورة مريم قال تعالى: (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً) (مريم: من الآية78). قيل هو الوعد (8) وكذلك فسرها في التحرير والتنوير بالوعد (9) والوعد من الله - سبحانه- عهد. ومما جاء بلفظ العهد وهو بمعنى الالتزام واليمين قوله تعالى في سورة التوبة: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (التوبة:75). قال ابن الجوزي أي قال: علي عهد الله (10). وذكر القرطبي أنه بمعنى الارتباط والالتزام، واللام تدل على أنه في معنى القسم (11) وفي سورة الأحزاب: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) (الأحزاب: من الآية23). ولقد فسر العهد هنا بالوعد. قال ابن كثير: أن أنس بن النضر قال بعد غزوة بدر وكان قد غاب عن غزوة بدر: لئن أشهدني الله عزَّ وجلَّ قتالا للمشركين ليرين الله ما أصنع.. ثم قاتل في أحد حتى قتل (12) ففسروا العهد هنا بالوعد المصحوب باليمين. وقال ابن عاشور في تفسير الآية: إنهم حققوا ما عاهدوا عليه فإن العهد وعد، وهو إخبار بأنه يفعل شيئًا في المستقبل (13).
3- وورد العهد بمعنى العقد والميثاق:
__________
(1) - تفسير الماوردي 1/99.
(2) - التحرير والتنوير 1/453.
(3) - التحرير والتنوير 1/580.
(4) - ذكر القرطبي أن من معاني العهد هنا: النبوة - أو الإمامة أو الإيمان، والأولى أن تقول أن العهد هو الوعد، ثم يبحث فيما هو الوعد الذي وعد الله به إبراهيم فيصدق عليه ما ذكر من تفسير. (تفسير القرطبي 2/108).
(5) - التحرير والتنوير 1/706.
(6) - زاد المسير 3/505.
(7) - تفسير ابن كثير 2/391.
(8) - تفسير القرطبي 11/146.
(9) - التحرير والتنوير 16/160.
(10) - زاد المسير 3/474.
(11) - تفسير القرطبي 8/210.
(12) - تفسير ابن كثير 3/475.
(13) - التحرير والتنوير 21/307.(/5)
قال تعالى في سورة البقرة: ( أوَكُلَّمَا عَهدُوا عَهْداً نَبذَهُ فريقٌ منْهُمْ ) (الأحزاب: من الآية100). قال عطاء: هي العهود التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود فنقضوها كفعل قريظة والنضير، ودليله كما قال تعالى في سورة الأنفال: (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (الأنفال:56). فهي هنا بمعنى العقد والميثاق (1) وقال تعالى في سورة البقرة - أيضًا-: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) (البقرة: من الآية177). وهي العقود التي تكون بين الإنسان وغيره (2) وقال في سورة الأنفال: (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (الأنفال:56). والعهد هنا ما عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود من عقود وعهود ومواثيق بأن لا يحاربوه ولا يعاونوا عليه (3)، وقال تعالى في سورة التوبة: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (التوبة:1). فالعهد بمعنى العقد والميثاق وهو ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين وهو على صور مختلفة (4) وكذلك في قوله تعالى في سورة التوبة: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ) (التوبة: من الآية4). فالعهد هنا بمعنى العهد في الآية السابقة (5). وكذلك العهد بمعنى العقد والميثاق في قوله تعالى: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (التوبة: من الآية7). فمعنى الآية: إن الشأن ألا يكون لكم عقد وميثاق مع أهل الشرك، فما كان العهد المنعقد معهم إلا أمرًا مؤقتًا بمصلحة، ونسبة العهد إلى الله لأنه انعقد بإذنه سبحانه، ونسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه هو الذي قام به (6). وفي سورة المؤمنون قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون:8). قال ابن كثير: إذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك (7). وقال ابن عاشور: والعهد: التزام بين اثنين أو أكثر على شيء يعامل كل واحد من الجانبين الآخر (8). وكذلك في سورة المعارج: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المعارج:32). حيث إن المعنى واحد.
4- وورد العهد بمعنى الأمانة:
قال تعالى في سورة آل عمران: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران:76). وحيث إن الآية التي سبقتها في الأمانة: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) (آل عمران: من الآية75).
فقد قال بعض المفسرين إن معنى قوله: (مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ) (آل عمران: من الآية76) أي لم يخن أمانته، لأن الأمانة عهد (9). وفي سورة الأعراف: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) (الأعراف: من الآية102).
قال القرطبي قيل: أراد أن الكفار منقسمون، فالأكثرون منهم من لا أمانة له ولا وفاء (10)
وقال الماوردي: قيل إنه محمول على ظاهر العهد، أي: من وفاء بعهده (11).
5- وجاء العهد دالا على ما أخذه الله على بني إسرائيل من وجوب الإيمان به وتصديق رسله:
قال تعالى في سورة آل عمران: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) (آل عمران: من الآية77).
قال أبو السعود: (بِعَهْدِ اللَّهِ) (آل عمران: من الآية77) أي بدل ما عاهدوا عليه من الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم (12).
وقال ابن عاشور: والعهد: عهد التوراة، أي ما اشتملت عليه من أخذ العهد على بني إسرائيل بالعمل بما أمروا به ومن جملة العهد الذي أخذ عليهم أن يؤمنوا بالرسول المصدق للتوراة (13).
6- وجاء العهد بمعنى ما أوجبه الإنسان على نفسه من الأيمان والنذور:
قال تعالى في سورة الأنعام: (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا) (الأنعام: من الآية152).
قال الماوردي فيه قولان: أحدهما: أن عهد الله كل ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذور وغيره.
__________
(1) - تفسير القرطبي 2/40.
(2) - تفسير الماوردي 1/178، وتفسير أبي السعود 1/307.
(3) - انظر زاد المسير 3/372؛ وتفسير القرطبي 8/30.
(4) - انظر تفسير القرطبي 8/63؛ والتحرير والتنوير 10/103.
(5) - انظر زاد المسير 3/397؛ والبحر المحيط 5/8.
(6) - انظر التحرير والتنوير 10/121.
(7) - تفسير ابن كثير 3/239.
(8) - التحرير والتنوير 18/17.
(9) - التحرير والتنوير 3/289.
(10) - تفسير القرطبي 7/255.
(11) - تفسير الماوردي 2/43.
(12) - تفسير أبي السعود 1/503.
(13) - التحرير والتنوير 1/625 و3/289.(/6)
والثاني: أنه الحلف بالله أي يلزم الوفاء به إلا في معصية (1).
وقال النسفي: النذر واليمين (2).
7- وجاء العهد بمعنى العهدة والاستيداع والاختصاص:
قال تعالى في سورة الأعراف: (قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) (الأعراف: من الآية134). قال المفسرون: أي بما استودعك من العلم والنبوة (3). وكذلك ما ورد في سورة الزخرف: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) (الزخرف: من الآية49). في معنى الآية السابقة وهي تفيد اختصاصه واستيداعه العلم والنبوة (4) ومخاطبتهم إياه بالساحر مخاطبة تعظيم كما روي عن ابن عباس (5).
8- وجاء العهد بمعنى اليمين:
قال تعالى في سورة التوبة: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) (التوبة: من الآية12). فعبر عن نقض العهد والميثاق بنكث الأيمان تشنيعا للنكث، لأن العهد كان يقارنه اليمين على الوفاء به، ولذلك سمي العهد حلفا (6). وفي سورة الأحزاب: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ) (الأحزاب: من الآية15). قال قتادة: قالوا: لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن. وذلك أنهم لما غابوا عن بدر أقسموا أن لا يتخلّفوا عن غزوة بعدها (7).
9- وجاء العهد بمعنى البيعة:
قال تعالى في سورة النحل: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) (النحل: من الآية91).
قال القرطبي: قيل: إنها نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام (8).
وقال الماوردي: إنه التزام أحكام الدين بعد الدخول فيه (9).
وقال ابن عاشور: وإضافة العهد إلى الله لأنهم عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام الذي دعاهم إليه فهم قد عاهدوا الله كما قال: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) (الفتح: من الآية10) وفسرها بالبيعة (10).
وكذلك الآية التي بعدها في سورة النحل: (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً) (النحل: من الآية95). حيث فسرها بعض المفسرين كالزمخشري والنسفي ببيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم (11).
وفي سورة الإسراء قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسراء: من الآية34).
قال الطاهر بن عاشور: يشمل العهد الذي عاهدوا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو البيعة على الإيمان والنصر (12). وفي سورة الفتح: (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (الفتح: من الآية10).
قال ابن الجوزي: (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ) (الفتح: من الآية10) من البيعة (13).
وقال القرطبي: قيل في البيعة (14). وذلك أن هذه الآية في بيعة الرضوان (15).
10- وجاء لفظ العهد بمعنى الأعمال الصالحة:
قال تعالى في سورة مريم: (لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً) (مريم:87).
فسرها بعض المفسرين بالأعمال الصالحة. قال القرطبي: هو لفظ جامع للإيمان وجميع الأعمال الصالحة التي يصل بها صاحبها إلى حيز من يشفع (16).
وقال ابن كثير: هي شهادة أن لا إله إلا الله والقيام بحقها (17).
11- وجاء العهد بمعنى الزمان:
قال تعالى في سورة طه: (أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) (طه: من الآية86).
قال الزمخشري: العهد: الزمان يريد مدة مفارقته لهم، يقال طال عهدي بك، أي طال زماني بحسب مفارقتك (18).
كلمة الميثاق ومعناها في القرآن الكريم
وردت لفظة الميثاق وما في معناها (29) مرة في (25) آية من كتاب الله في عشر سور من سور القرآن الكريم (19).
__________
(1) - تفسير الماوردي 1/578.
(2) - تفسير النسفي 2/89.
(3) - انظر تفسير القرطبي 7/271؛ وتفسير النسفي 2/140.
(4) - انظر التحرير والتنوير 25/227.
(5) - انظر زاد المسير 7/320؛ والتحرير والتنوير 25/227.
(6) - التحرير والتنوير 10/129.
(7) - زاد المسير 6/362؛ وتفسير القرطبي 14/150.
(8) - تفسير القرطبي 10/169.
(9) - تفسير الماوردي 2/407-408.
(10) - التحرير والتنوير 14/261.
(11) - انظر الكشاف 2/427؛ وتفسير النسفي 3/59.
(12) - التحرير والتنوير 15/97.
(13) - زاد المسير 7/428.
(14) - تفسير القرطبي 16/268.
(15) - انظر التحرير والتنوير 26/159.
(16) - تفسير القرطبي 11/154.
(17) - تفسير ابن كثير 3/138، وقد فسرها ابن عاشور بالوعد؛ انظر التحرير والتنوير 16/168.
(18) - الكشاف 2/549؛ وتفسير النسفي 3/208.
(19) - لم أتعرض لكلمة "الوثاق" "ولا" الوثقى، لأنها ليست في معنى الميثاق فاقتصرت على أساس الموضوع وتفصيل هذه الآيات كما يلي: سورة البقرة: الآيات 27، 63، 83، 84، 93؛ سورة آل عمران: الآيتان 81، 187؛ سورة النساء: الآيات 21، 90، 92، 154، 155؛ سورة المائدة: الآيات 7، 12، 13، 14، 70؛ سورة الأعراف: الآية 169؛ سورة الأنفال: الآية 72؛ سورة يوسف: الآيتان 66، 80؛ سورة الرعد: الآيتان 20، 25؛ سورة الأحزاب: الآية 7؛ سورة الحديد: الآية 8.(/7)
وسأذكر المعاني التي وردت فيها مع ذكر الآيات التي وردت في كل معنى من معانيها.
1- ورد الميثاق بمعنى العهد الذي أخذه الله على عباده:
قال تعالى في سورة البقرة: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) (البقرة: من الآية27).
قال القرطبي: الميثاق: العهد المؤكد باليمين (1).
وقال الماوردي: وفي الكناية التي في ميثاقه قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى اسم الله، وتقديره من بعد ميثاق. والثاني: أنها كناية ترجع إلى العهد، وتقديره، من بعد ميثاق العهد (2).
2- ورد الميثاق بمعنى ما أخذه الله على بني إسرائيل من عهد وميثاق:
قال تعالى في سورة البقرة: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) (البقرة: من الآية63).
قال مقاتل: إنه أخذ ميثاقهم أن يعملوا بما في التوراة. وقال أبو سليمان الدمشقي: أعطوا الله عهدا ليعملن بما في التوراة (3).
ومن ذلك قوله تعالى في سورة البقرة - أيضا -: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ) (البقرة: من الآية83).
قال ابن عاشور: أعطوا الميثاق لموسى على امتثال ما أنزل الله من التوراة (4).
والآية التي بعدها: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ) (البقرة: من الآية84). هو الميثاق الذي أخذه على بني إسرائيل في العمل بالتوراة (5).
وفي معنى الميثاق الذي ورد في الآيات السابقة جاء في قوله تعالى من سورة البقرة: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) (البقرة: من الآية93). وقد سبق ذكر أقوال بعض المفسرين في الآية [63] لأن اللفظ والمعنى واحد (6)
وفي سورة آل عمران: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) (آل عمران: من الآية187).
فالميثاق هنا هو ما أخذه عليهم بالإيمان بالتوراة وفيها وصف محمد صلى الله عليه وسلم (7).
وفي سورة النساء: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ) (النساء: من الآية154).
وكذلك قوله في الآية التي بعدها: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) (النساء: من الآية155).
فالميثاق في الآيتين هو الميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل. قال القرطبي: أي بسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ منهم وهو العمل بما في التوراة (8).
وقال تعالى في سورة المائدة: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (المائدة: من الآية12).
فالميثاق هنا هو ما أخذ على بني إسرائيل من وجوب طاعة الله والعمل بما في التوراة (9).
والميثاق في الآية التي بعدها هو معنى الميثاق في الآية الأولى، (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) (المائدة: من الآية13).
قال ابن كثير: فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم لعناهم (10).
وفي سورة المائدة - أيضا - قال الله تعالى: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) (المائدة: من الآية70).
قال ابن كثير: يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل على السمع والطاعة لله ولرسوله فنقضوا تلك العهود والمواثيق (11).
قال الزجاج: واليهود هم الذين كذبوا وقتلوا الأنبياء، أما النصارى فقد كذبوا فقط (12).
وقال تعالى في سورة الأعراف: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) (الأعراف: من الآية169).
والميثاق هنا هو ما أخذه على بني إسرائيل من الإيمان بالتوراة كما سبق (13).
قال ابن عاشور: والميثاق: العهد، وهو وصية موسى التي بلغها إليهم عن الله تعالى في مواضع كثيرة (14).
3- وورد الميثاق دالا على ما أخذه الله على النبيين من عهد وميثاق:
قال تعالى في سورة آل عمران: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) (آل عمران: من الآية81).
قال القرطبي: قيل: أخذ الله ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضا، ويأمر بعضهم بالإيمان بعضا (15). وكذلك جاء في سورة الأحزاب: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) (الأحزاب:7).
__________
(1) - تفسير القرطبي 1/347.
(2) - تفسير الماوردي 1/82.
(3) - زاد المسير 1/93.
(4) - التحرير والتنوير 1/582.
(5) - انظر تفسير ابن كثير 1/120.
(6) - انظر تفسير ابن كثير 1/126.
(7) - انظر تفسير القرطبي 1/93.
(8) - تفسير القرطبي 6/7؛ وانظر تفسير ابن كثير 1/573.
(9) - انظر زاد المسير 2/310.
(10) - تفسير ابن كثير 2/33.
(11) - تفسير ابن كثير 2/.
(12) - زاد المسير 2/399؛ وانظر التحرير والتنوير 6/272.
(13) - انظر تفسير القرطبي 7/312؛ وتفسير ابن كثير 2/260.
(14) - التحرير والتنوير 9/163.
(15) - تفسير القرطبي 4/124.(/8)
قال ابن كثير: أخذ عليهم العهد والميثاق في إقامة دين الله، وإبلاغ رسالته، والتعاون والتناصر والاتفاق (1).
4- وجاء الميثاق بمعنى عقد النكاح:
قال تعالى في سورة النساء: (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) (النساء: من الآية21).
قال مجاهد وابن زيد: هو عقد النكاح وقول الرجل نكحت وملكت (2).
وقال ابن كثير: روى عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير أن المراد بذلك العقد (3).
5- وجاء الميثاق بمعنى العقود والعهود والمواثيق التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بعض المشركين:
قال تعالى في سورة النساء: (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) (النساء: من الآية90).
قال مجاهد وابن زيد لا تقتلوا قوما بينهم وبين من بينكم وبينهم عهد فإنهم على عهدهم.
قال القرطبي: وهو أصح ما قيل في معنى الآية (4).
وكذلك جاء في المعنى نفسه قوله تعالى في سورة النساء - أيضا -: (وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) (النساء: من الآية92).
قال ابن كثير: فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة فلهم دية قتيلهم (5).
وقال الشافعي: كل من له أمان بذمة أو عهد (6).
وقال الحسن: هم أهل عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب خاصة. وقال في سورة الأنفال: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) (الأنفال: من الآية72).
قال ابن عباس:... إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار بينكم وبينهم ميثاق أي مهادنة إلى مدة، فلا تخفروا ذمتكم ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم (7).
وقال ابن الجوزي: إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم عهد فلا تغدروا بأرباب العهد (8).
6- وجاء الميثاق بمعنى البيعة التي بايع الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها:
قال تعالى في سورة المائدة: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (المائدة: من الآية7).
قال القرطبي: الذي عليه جمهور المفسرين كابن عباس والسدي هو العهد والميثاق الذي جرى لهم مع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره إذ قالوا سمعنا وأطعنا، كما جرى ليلة العقبة وتحت الشجرة (9).
وقال ابن كثير: هو ما أخذه عليهم من العهد والميثاق في مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم على متابعته ومناصرته ومؤازرته، وهذه البيعة التي كانوا يبايعون عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إسلامهم (10).
7- وجاء الميثاق دالا على ما أخذه على النصارى من عهد وميثاق على لسان عيسى ابن مريم - عليه السلام -:
قال تعالى في سورة المائدة: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ) (المائدة: من الآية14).
قال مقاتل: أخذ عليهم الميثاق كما أخذ من أهل التوراة (11).
وقال ابن كثير: أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناصرته ومؤازرته.. وعلى الإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض (12).
8- وجاء الميثاق بمعنى العهد الذي كان بين يعقوب وبنيه:
قال تعالى في سورة يوسف: (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) (يوسف:66).
قال السدي: أنه حلفهم بالله (13).
وقال ابن كثير: أي تحلفون بالعهود والمواثيق (14).
والآية الأخرى في المعنى نفسه: (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ) (يوسف: من الآية80).
قال القرطبي: أي عهدا من الله في حفظ ابنه (15).
9- وجاء الميثاق بمعنى العهد والعقد مطلقا مما يكون بين الخلق وخالقهم أو بعضهم مع بعض:
قال تعالى في سورة الرعد: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) (الرعد:20).
قال النسفي: ما أوثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد (16).
وقال القرطبي: يحتمل أن يريد به جنس المواثيق، أي: إذا عقدوا في طاعة الله عهد لم ينقضوه (17).
__________
(1) - تفسير ابن كثير 3/469؛ وانظر تفسير الماوردي 3/307.
(2) - تفسير القرطبي 5/103.
(3) - تفسير ابن كثير 1/467.
(4) - تفسير القرطبي 5/308.
(5) - تفسير ابن كثير 1/535.
(6) - تفسير الماوردي 1/416.
(7) - تفسير ابن كثير 2/329.
(8) - زاد المسير 3/386.
(9) - تفسير القرطبي 6/108.
(10) - انظر تفسير ابن كثير 2/30.
(11) - زاد المسير 2/315.
(12) - تفسير ابن كثير 2/33.
(13) - تفسير الماوردي 2/287.
(14) - تفسير ابن كثير 2/484.
(15) - تفسير القرطبي 9/242.
(16) - تفسير النسفي 2/409.
(17) - تفسير القرطبي 9/307.(/9)
وفي المعنى نفسه جاء قوله تعالى في سورة الرعد - أيضا -: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) (الرعد: من الآية25). فالميثاق في هذه الآية في معنى الميثاق في الآية السابقة حيث إن الآيتين متقابلتان (1).
10- وورد الميثاق بمعنى ما أخذه الله على ذرية آدم وهم في صلب أبيهم:
قال تعالى في سورة الحديد: (وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الحديد:8) .
قال مجاهد: هو الميثاق الأول الذي كان وهم في ظهر آدم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه (2).
هذه هي الآيات التي وردت في القرآن الكريم بلفظ العهد أو الميثاق، وقد بينت معاني هذه الآيات حسب ورودها مستدلا بأقوال المفسرين حسب ما ترجح لدي منها معرضًا عن ذكر الخلاف أو التفصيل في ذلك، التزاما بالمنهج الذي ذكرته. ومدار البحث في الفصول القادمة على ما كان بمعنى اليمين والموثق والعهد المحكم، وما يتصل بهذا المعنى، مما أخذه الله على عباده من آدم - عليه السلام - إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
هل العهد والميثاق مصطلح واحد ؟
من خلال تتبع لفظتي (العهد) و (الميثاق) في القرآن الكريم وفي كتب اللغة اتضح ما يلي:
أن العهد أعمّ من الميثاق، فالعهد يأتي لمعان غير معنى الميثاق فمن ذلك مثلا، الوصية والأمر، يقال عهد إليّ بكذا أوصاني، ومنه قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) (آل عمران: من الآية183).
قال أبو السعود: عهد إلينا: أمرنا في التوراة وأوصانا (3).
ومنه قوله تعالى: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(البقرة: من الآية125) ، فعهدنا هنا بمعنى أوصينا وأمرنا (4).
- ويأتي العهد بمعنى الزمان، ومنه قوله تعالى: (أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) (طه: من الآية86). قال الزمخشري: العهد الزمان، يريد مدة مفارقته لهم (5).
- ويأتي العهد بمعنى الأمان.
- ويأتي بمعنى الوفاء والحفاظ ورعاية الحرمة تقول مادحًا: فلان كما عهدناه.
- ويأتي بمعنى اللقاء، نقول عهدي بزيد في مكان كذا، أي آخر لقاء لي به كان في مكان كذا.
ويأتي العهد بمعنى المنزل قال ذو الرمة:
هل تعرف العهد المحيل رسمه ؟
أي: المنزل (6).
- ويأتي العهد بمعنى الاستيداع والعهدة والاختصاص، ومنه ما جاء في قوله تعالى: (قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) (الأعراف: من الآية134). قال المفسرون: أي بما استودعك من العلم والنبوة (7).
- ويأتي العهد لمعان أخرى سبق بيانها عند بيان معاني العهد في اللغة وكذلك عند تفسير معنى العهد الذي ورد في القرآن الكريم.
وجاء العهد - أيضًا - بمعنى الميثاق وهو كثير جدًا، بل إن كثيرًا من الآيات جاءت بلفظ العهد وهي بمعنى الميثاق مثال ذلك قوله تعالى عن اليهود: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) (البقرة: من الآية100).
ومنه قوله تعالى: (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) (الأنفال:56).
فقد ذكر المفسرون أنها العهود والمواثيق التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود (8).
ومنه قوله تعالى في سورة التوبة: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ) (التوبة: من الآية4).
فالعهد هنا هو الميثاق الذي كان بين الرسول صلى الله عليه وسلم والمشركين (9).
وبذلك يتضح لنا أن (العهد) جاء لمعنى الميثاق ولمعانٍ أخرى فهو أعم من معنى (الميثاق).
- أما (الميثاق) فهو أخص؛ فبتتبع الآيات التي جاء فيها لفظ (الميثاق) نجد أن المفسرين فسروها بالعهد، وقد سبق بيان ذلك بالتفصيل في مبحث كلمة الميثاق ومعناها في القرآن الكريم ونأخذ لذلك بعض الأمثلة:
قال تعالى: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) (البقرة: من الآية27).
قال القرطبي: الميثاق: العهد المؤكد باليمين (10).
__________
(1) - تفسير القرطبي 9/314.
(2) - انظر تفسير الطبري 27/218؛ وتفسير القرطبي 17/238.
(3) - تفسير أبي السعود 1/614.
(4) - انظر تفسير الماوردي 1/156.
(5) - الكشاف 2/549.
(6) - لسان العرب مادة (عهد) 3/313.
(7) - انظر تفسير القرطبي 7/271؛ وتفسير النسفي 2/140.
(8) - انظر تفسير القرطبي 2/40 و8/30؛ وزاد المسير 3/372.
(9) - انظر التحرير والتنوير 10/103.
(10) - تفسير القرطبي 1/247.(/10)
ومثل قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) (البقرة: من الآية63). فالميثاق في هذه الآية وغيرها مما ورد في بني إسرائيل فهو بمعنى العهد والميثاق الذي أخذه الله عليهم (1).
وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ) (الأحزاب: من الآية7).
وقال ابن كثير: أخذ عليهم العهد والميثاق في إقامة دين الله وإبلاغ رسالته والتعاون والتناصر والاتفاق (2).
وقال تعالى: (إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) (الأنفال: من الآية72).
قال ابن الجوزي: إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم عهد، فلا تغدروا بأرباب العهد (3).
وبهذا يتضح لنا أن معنى الميثاق حيث ورد في القرآن الكريم فيجوز تفسيره بمعنى العهد، أما لفظ العهد فهو على ثلاثة معاني:
1- العهد بمعنى الميثاق مطابقًا.
2- العهد بمعنى قريب من معنى الميثاق حيث قد يفسر به وبغيره (4).
3- العهد بمعان أخرى غير معنى الميثاق، والخلاصة التي تهمنا هنا أن أغلب الكلمات التي وردت في القرآن الكريم بلفظ العهد والميثاق معناها واحد، وذلك أن ما ورد بلفظ (الميثاق) فمعناها العهد، وما ورد بلفظ (العهد) فكثير منها بمعنى الميثاق، وبهذا يكون أكثر ما ورد بهذين اللفظين معناهما واحد، مع بقاء عدد من الآيات تحمل معنى العهد دون الميثاق.
الأسلوب القرآني في عرض قضية العهد والميثاق
نزل القرآن بلسان عربي مبين، على أفصح العرب وأقومهم لسانا، وكان القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى للرسول صلى الله عليه وسلم حيث تحداهم الله أن يأتوا بمثله، بل أن يأتوا بسورة منه، وعجز العرب وأذعنوا واستسلموا لهذا الإعجاز البياني الرائع، واستمرت تلك المعجزة البيانية على مرّ العصور والأجيال شاهدة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم - وقوة رسالته.
وهذا القرآن المعجزة للبشرية يقف المسلم أمامه منبهرا، يقف بين الإعجاز وبين سلاسة الأسلوب وسهولة العبارة وقوة نفاذها إلى أعماق القلوب، لا تعقيد ولا تكلف ولا تركيب.
يقرأه العالم المتخصص فيشعر بالضعف أمام روعة أسلوبه وبيانه، ويسمعه الأمي فيزداد إيمانه وخشوعه، ويتلوه الأعجمي فيخر لله ساجدًا دون أن يجد تفسيرًا لقوة سلطانه على قلبه.
ولا غرو ولا عجب فهذا كلام الله: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً) (النساء: من الآية122) وآيات العهد والميثاق جزء من هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولأن هذا القرآن كتاب هداية وبيان ودلالة وإرشاد، فقد عرضت آياته بأسلوب رصين، بل بأساليب متعددة، لئلا تملّ القلوب أو تكل الأفهام، تبدأ الآية بأسلوب رائع ثم تنتهي بأسلوب أخّاذ، وتزداد نبضات القلب في تنقله بين آياته ومعانيه، فلا تمجه الآذان، ولا تتعب فيه الأذهان، تنزيل من عزيز حكيم.
وقد تأملت في آيات العهد والميثاق فوجدت أنها قد عرضت بعدة أساليب، استمالة للقلوب وإيقاظا للنفوس، ذكرى للمؤمنين وتنبيها للغافلين، وحجة على الكافرين والمعاندين. ويصعب حصر الأساليب التي وردت في عرض قضية العهد والميثاق لتعددها وتنوعها، حسب المقتضى والارتباط، وسأذكر أبرز تلك الأساليب، مكتفيًا منها بمثالين أو ثلاثة، معرضا عن الاستطراد والإطناب.
1- الخبر:
جاءت آيات كثيرة بصيغة الخبر مفيدة عاقبة نقض العهد، أو جزاء الوفاء بالميثاق.
يقول تعالى في سورة البقرة: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) (البقرة: من الآيتين 26، 27).
وكما أن الضلال والفسق عاقبة الناقضين لعهد الله، تأتي آية أخرى لتقابل معنى هذه الآية حيث جعل التقوى جزاء من أوفى بعهده: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران:76)، وهذا الأسلوب رائع، حيث جعل نقض العهد في الآية الأولى ملازما للفسق، وجعل التقوى في الآية الثانية ملازمة للوفاء بالعهد، وهذا فيه من البيان والبديع ما فيه.
وفي آية أخرى يأتي الخبر في سياق التذكير والامتنان (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (البقرة:63، 64).
__________
(1) - انظر بيان ذلك بالتفصيل في مبحث (كلمة الميثاق في القرآن الكريم).
(2) - تفسير ابن كثير 3/469.
(3) - زاد المسير 3/386.
(4) - مثال ذلك قوله تعالى في سورة مريم: (إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) [87] أي وعدا وقيل: ميثاقا.(/11)
هذه صيغة تحيي القلوب الميتة، وأسلوب يدعو إلى الشكر والإيمان والوفاء، لمن في قلبه ذرة من كرم أو حياء. ونجد أسلوب المقابلة بصيغة خبرية رائعة، والمقابلة نوع من البلاغة بديع، وهذا الأسلوب له أثره الإيجابي في النفس تلاوة واعتبارا: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) (الرعد: 20، 21) (أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد: من الآية22).
ثم يذكر ما يقابل ذلك عملا وأثرًا. (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد:25).
وتتعدد الصيغ الخبرية، وكلها تعرض بأسلوب جميل، فمرة تأتي بسياق الأمر، وأخرى في معرض النهي وثالثة مسبوقة بجملة استفهامية.
2- الأمر:
من الأساليب التي عرضت بها قضية العهد والميثاق أسلوب الأمر، وهو أسلوب يتسابق المؤمنون لتحقيقه والوفاء بالمراد منه، فلا تأخر ولا تلكأ ولا تراجع، وهذا هو مقتضى الإيمان، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه: (يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (البقرة:40).
وفي سورة الأنعام: (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا) (الأنعام: من الآية152) وفي النحل: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) (النحل: من الآية91) وفي الإسراء: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسراء: من الآية34).
وهكذا يتكرر الأمر، تعظيما لشأن العهد، وتنبيهًا على وجوب الوفاء به، وعدم الإخلال بمقتضاه، تحقيقًا لعبودية الله وطاعته.
3- النهي:
وكما جاء الأمر، فقد ورد النهي عن نقض العهد والميثاق بصيغة طلبية وبأسلوب خبري.
يقول تعالى في سورة النحل بعد الأمر بالوفاء بالعهد: (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) (النحل: من الآية91)(1) (2). وفي آية أخرى: (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً) (النحل: من الآية95) وهذا نهي صريح عن نقض العهود والمواثيق. أما الأسلوب الخبري وهو يحمل معنى النهي فقوله تعالى في سورة الرعد: (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) (الرعد: من الآية20) فمدلوله لا تنقضوا الميثاق لتكونوا من أولي الألباب.
4- الاستفهام:
وقد ورد بصيغة الاستفهام التوبيخي في عدة آيات، منها قوله تعالى في سورة الأعراف موبخًا بني إسرائيل على سوء أفعالهم وخيانتهم للعهد والميثاق: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ) (الأعراف: من الآية169).
وفي سورة يس يبين الله ما سيوجه للكافرين يوم القيامة من توبيخ وتقريع لتفريطهم بالعهد الذي عهده الله إليهم فضيعوه (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (يّس:60، 61) وجاء الاستفهام إنكاريا في سورة البقرة: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:80).
وفي سورة التوبة: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) (التوبة: من الآية7) (3).
ويستمر عرض موضوع العهد والميثاق بأسلوب الاستفهام، فيأتي الاستفهام في سورة التوبة بمعنى النفي: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) (التوبة: من الآية111).
وهكذا يكون الاستفهام بأنواعه أحد الأساليب البلاغية التي عرضت فيها قضية العهد والميثاق توبيخا وإنكارا ونفيًا.
5- الإجمال والبيان:
ومن الأساليب التي وردت في القرآن الكريم مبينة قضية العهد والميثاق، الإجمال في موضع، والبيان والتفصيل في موضع آخر. وهذا أسلوب بلاغي رفيع، ففي الإجمال لا إخلال، وفي البيان لا حشو ولا إسهاب. فقد ذكر الله في سورة البقرة أنه قد أخذ الميثاق على بني إسرائيل دون أن يبين أو يفصل في ذلك. (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) (البقرة: من الآية63).
__________
(1) - الآية 91 وقد فسرت الأيمان هنا بأيمان العهود والمواثيق.
(2) - الآية 91 وقد فسرت الأيمان هنا بأيمان العهود والمواثيق.
(3) - الآية 7 وقد ذكر أبو السعود في تفسيره 2/521 أنه استفهام إنكاري.(/12)
فتتشوق النفوس، وتتطلع الأفئدة لمعرفة ذلك الميثاق، وسرعان ما يأتي البيان والتفصيل في آية أخرى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) (البقرة: من الآية83) الآية.
وفي المائدة يأتي زيادة بيان وتفصيل لهذا الميثاق: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (المائدة:12).
وفي سورة الأحزاب ذكر الله أخذ الميثاق على النبيين ولم يفصل فيه: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ) (الأحزاب: من الآية7).
ثم فصل وبين في سورة آل عمران ما أجمل هناك: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران:81).
6- الترغيب والترهيب والوعد والوعيد:
النفس البشرية لها خاصيتها التي فطرها الله عليها، والنوازع التي جبل عليها البشر من أهم ما تجب معرفته لمن يريد التعامل مع تلك النفس، والله سبحانه هو خالق الإنسان، فهو أعلم بسرائره، ومداركه ونوازعه، (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14).
وهذه النفس تعيش بين شدّ ولين وقبض وبسط، والترغيب والترهيب من أقوى المؤثرات في هذا المخلوق العجيب، والوعد والوعيد عاملان حاسمان في استقامة البشر وتقويم سلوكهم. ومن هنا كان من أبرز الأساليب القرآنية في قضية العهد والميثاق أسلوب الوعد والوعيد، بل إن أغلب الآيات التي وردت في هذا المجال لا تخلو من أحد هذين الأسلوبين، وفي آيات منها يأتي الجمع بين الترغيب والترهيب في آية واحدة.
والأمثلة كثيرة جدا، ومجرد إلقاء نظرة على تلك الآيات تكشف عن هذه الحقيقة، ونكتفي من القلادة ما أحاط بالعنق. ففي سورة التوبة يعرض القضية عرضًا يهز نفس المؤمن هزًا، ويشوقها إلى وعد الله وترغيبه (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111).
وفي سورة الرعد يذكر الموفين بعهودهم الذين لا ينقضون مواثيقهم ثم يختمها بهذا الجزاء الذي تقبل عليه النفس إقبالا: (أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد:22-24).
أي جزاء مثل هذا الجزاء، وأي إغراء كهذا الإغراء إلا رؤية وجه الله الكريم، وهو متحقق لمن كان هذا مآله وعقباه. وفي سورة (المؤمنون) تعرض القضية بأسلوب آخر (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (المؤمنون:1) من هم وما هي صفتهم لتنشد هذا الفلاح وتطلبه... (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون:8).
ما هو جزاؤهم، وماذا أعدّ الله لهم ( أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون:10، 11).(/13)
وكما جاء الترغيب داعيا، والوعد مناديًا، جاء الوعيد زاجرًا، والترهيب ناهيًا ومحذرًا، ها هي سورة البقرة تقص علينا قصة بني إسرائيل مع مواثيقهم وعهودهم، نقض وإخلاف وفجور، ولكن الجزاء كان رهيبًا ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (البقرة:85، 86) وفي آل عمران يأتي الوعيد مخيفا: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران:77).
وفي سورة الأنفال يخفق القلب خفقانًا ويضطرب اضطرابًا وهو يتلو تلك الآيات التي لا تدع مجالا للمتلاعبين والخائنين: (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (الأنفال:56-58).
أما الآيات التي جمعت بين الوعد والوعيد فمنها قوله تعالى مبينًا جزاء الوفاء بالميثاق، وعاقبة الكفر والعصيان:... (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (المائدة: من الآية12).
وبعد:
فهذه أبرز الأساليب التي عرضت بها قضية العهد والميثاق، تبين لنا مدى الجهد الذي بذل، والعناية الفائقة لجلاء تلك القضية، فلا لبس ولا غموض وقد بان الصبح لكل ذي عينين، فلم يبق إلا الالتزام والوفاء، ومن نكث وخان فلا يلومن إلا نفسه، والله له بالمرصاد، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
العهد والميثاق في السنة النبوية الشريفة
استكمالا للبحث واستيعابًا لمصطلح (العهد والميثاق) أجد من المناسب أن أذكر بعض الأحاديث التي وردت فيها كلمة العهد أو الميثاق، لتعطينا دلالة على أهمية هذا المصطلح ومجالات استعماله فأقول وبالله التوفيق.
ورد مصطلح العهد والميثاق في السنة النبوية كثيرا، وعندما رجعت إلى كتب السنة وجدت عشرات الأحاديث التي وردت فيها كلمة العهد أو كلمة الميثاق أو كلاهما.
وسأختار بعض الأحاديث التي تناسب المقام:
أولا: كلمة العهد في الأحاديث النبوية:
ورد في صحيح البخاري في الحديث الطويل الذي رواه عبد الله بن عباس في قصة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر - قال قيصر لأبي سفيان: " فماذا يأمركم؟ قال: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة " الحديث. رواه البخاري (1).
وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر " رواه البخاري (2).
وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ألا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده " رواه أحمد (3).
وروى الإمام أحمد عن المسور بن مخرمة - في قصة الحديبية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا أبا جندل: اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه عهدًا، وإنا لن نغدر بهم " (4).
وعن زيد بن أثيع قال: سألت عليًا بأي شيء بعثت قال بأربع: " لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته، ومن لا مدة له فأربعة أشهر " رواه الترمذي (5).
__________
(1) - صحيح البخاري - باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام 4/56.
(2) - صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق 1/16.
(3) - مسند الإمام أحمد 1/119.
(4) - مسند الإمام أحمد 4/325.
(5) - سنن الترمذي: أبواب الحج - باب ما جاء في كراهية الطواف عريانا 2/179.(/14)
وعن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة " رواه أبو داود (1).
وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " رواه الترمذي (2).
وقال إبراهيم النخعي: كان أصحابنا ينهونا ونحن غلمان أن نحلف بالشهادة والعهد - رواه البخاري (3).
وقال البخاري: باب عهد الله عزَّ وجلَّ (4).
ثانياً: كلمة الميثاق في الأحاديث النبوية:
روى البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل وفيه قصة الرجل - آخر أهل الجنة دخولا - حيث يسأل الله تعالى وفيه: " فلا يزال يدعو، فيقول - الله - لعلي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره، فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، فيعطي الله من عهود ومواثيق ألا يسأله غيره، فيقربه إلى باب الجنة " الحديث (5).
وفي حديث الأسود بن سريع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أربعة يوم القيامة... " إلى أن قال: " فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل عليهم أن ادخلوا النار " الحديث. رواه أحمد (6).
وعن عبد الله بن العباس - رضي الله عنهما - قال: " حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي، فلما سألوه قال: "فعليكم عهد الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم لتتابعني"، قال: فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق " رواه أحمد (7).
وفي الحديث الذي رواه البخاري في قصة عمر رضي الله عنه مع العباس وعلي - رضي الله عنهما - قال عمر لهما: إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما عمل به فيها أبو بكر، وبما عملت به فيها منذ وليتها، وإلا فلا تكلماني فيها، فقلتما: ادفعها إلينا بذلك. الحديث (8).
وفي حديث الرجل الغني الذي جمع أولاده قبل موته وطلب منهم أن يحرقوه - بعد موته - ثم يذروه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فأخذ منهم ميثاقًا وربي " الحديث. رواه أحمد (9).
هذه بعض الأحاديث التي وردت فيها كلمتا العهد والميثاق، ولم أذكر إلا عددًا يسيرًا بما يؤدي إلى الغرض من ذكرها، وإلا فالأحاديث في هذا الباب كثيرة جدًا، وبخاصة التي ورد فيها لفظ العهد.
ثالثاً: المبحَث الثَاني
العهود والمواثيق التي وردت في القرآن الكريم
توطئة:
أثناء تتبعي للآيات التي وردت في العهد والميثاق وجدت أن هذه الآيات تشير مرة إلى العهود مع المشركين، ومرات إلى مواثيق بني إسرائيل، وأخرى لعهود الصحابة، ورابعة إلى عهد ذرية آدم وهكذا، ورأيت لزامًا عليّ كباحث في هذا الموضوع أن أقف مع تلك العهود مبينًا ومحققًا، دارسًا وموثقًا، حيث إن الموضوع لا يكتمل دون أن أوفي هذه القضية حقها من البيان والإيضاح.
وطفقت أنقّب من بين كتب السنّة ومصادر التفسير ومراجع التاريخ وغيرها مما يسهّل مهمتي ويعينني في بغيتي مستعينًا بالله جلّ وعلا، وتوصلت بعد بذل الجهد واستثمار الأوقات إلى بيان أهم تلك العهود والمواثيق وقد جاءت كما يلي:
1- العهد والميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم.
2- العهد والميثاق الذي أخذه الله على النبيين.
3- العهد والميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل.
4- العهود والمواثيق التي جرت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي على نوعين:
الأول: عهود ومواثيق باشرها الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابها، وهي ثلاثة أقسام:
1- عهود ومواثيق أخذها الرسول صلى الله عليه وسلم على الصحابة.
2- عهود ومواثيق أخذها الرسول صلى الله عليه وسلم على اليهود.
3- عهود ومواثيق كانت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين.
الثاني: رسائل ومكاتبات بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتضمنت بعض العهود والمواثيق، وأشار إليها القرآن الكريم وهي لأربع فئات:
1- عهود ومواثيق أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض القبائل التي دخلت في الإسلام.
2- عهود ومواثيق أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض اليهود.
__________
(1) - عون المعبود شرح سنن أبي داود، أبواب قيام الليل، باب فيمن لم يوتر 4/293.
(2) - سنن الترمذي، أبواب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة 4/126.
(3) - صحيح البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا قال أشهد بالله 8/167.
(4) - صحيح البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب عهد الله عز وجل 8/167.
(5) - صحيح البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب عهد الله عز وجل 8/167.
(6) - مسند الإمام أحمد 4/24.
(7) - مسند الإمام أحمد 1/278.
(8) - صحيح البخاري، كتاب النفقات، باب حبس نفقة الرجل قوت سنة على أهله 7/81.
(9) - انظر الحديث بطوله في مسند الإمام أحمد 5/5.(/15)
3- عهود ومواثيق أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض النصارى.
4- عهود ومواثيق أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض قبائل العرب.
وأعود فأقول: إن هذه الدراسة لتلك العهود التي ذكرها القرآن لم أجد من قام بها أو تولى جمع شتاتها وتمحيصها، سوى بعض المباحث منها مما أشرت إليه في موضعه، ولهذا فإنني أحسب أن دراستي لهذه العهود والمواثيق جاءت لتلبي حاجة قائمة، وتسدّ فراغًا في هذا المجال، ومن الله أستمد العون فهو حسبي ونعم الوكيل.
أولاً: العهد والميثاق الذي أخذه الله تعالى على ذريه آدم
قال الله تعالى في سورة البقرة: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة:27).
قال ابن جرير و الماوردي والقرطبي وابن كثير: قيل: العهد الذي ذكره الله عزَّ وجلَّ هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصفه في قوله في سورة الأعراف: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف:172)(1).
وقال تعالى في سورة الحديد: (وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الحديد:8).
قال الطبري: عنى بذلك: وقد أخذ منكم ربكم ميثاقكم في صلب آدم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه، وهو قول مجاهد (2).
وقد اختلف العلماء في هذا الميثاق وكيف أخذه الله من ذريه آدم، ولأهمية هذا الميثاق سأذكر بعض ما ورد فيه من أحاديث، ثم ذكر بعض الآثار عن السلف وبخاصة المفسرين منهم، ثم أبين ما يترجح لي في هذا الموضوع، مسترشدا بالأحاديث والآثار وأقوال المفسرين:
1- الأحاديث:
وردت أحاديث كثيرة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في بيان إخراج الذرية من ظهر آدم وأخذ الميثاق عليهم، وسأذكر بعضها مع الإشارة إلى درجة كل حديث حسب الإمكان:
عن هشام بن حكيم " أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنبتدأ الأعمال أم قد مضى القضاء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله أخذ ذرية آدم من ظهورهم ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه، ثم قال: هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار" " (3).
قال الهيثمي: رواه البزار والطبراني، وفي سنده بقية ابن الوليد، وهو ضعيف، ويحسن حديثه بكثرة الشواهد وإسناد الطبراني حسن (4)
وقال الدكتور عبد العزيز العثيم في تخرجه لهذا الحديث: هذا الحديث حسن لذاته (5).
قلت: وبقية صدوق يدلّس كثيرًا، فحديثه فيه ضعف، ولكنه يتقوى بكثرة الشواهد فيصبح حسنًا لغيره.
وعن أنس يرفعه: " أن الله يقول لأهون أهل النار عذابًا، لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به، قال: نعم، قال: فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم، أن لا تشرك بي، فأبيت إلا الشرك " رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري (6).
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أخذ الله تعالى الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعني عرفة - فأخرج من صلبه كل ذريه ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم فتلا فقال: ألست بربكم قالوا: (بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) إلى قوله: (بما فعل المبطلون) " رواه الطبري (واللفظ له) وأحمد والحاكم (7).
قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله الصحيح (8).
وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (9).
__________
(1) - تفسير الطبري 1/183؛ وتفسير الماوردي 1/82؛ وتفسير القرطبي 1/246؛ وتفسير ابن كثير 1/66.
(2) - انظر تفسير الطبري 27/218؛ وتفسير القرطبي 17/238.
(3) - رواه الطبري في تفسيره 9/117؛ والبخاري في التاريخ الكبير 8/191.
(4) - مجمع الزوائد 7/187.
(5) - إخراج الذرية من ظهر آدم، بحث الدكتور عبد العزيز العثيم ص21 مخطوط.
(6) - صحيح البخاري (فتح الباري) كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم ذريته 6/363؛ وصحيح مسلم كتاب صفة القيامة، باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهبًا 8/134.
(7) - تفسير الطبري 9/110-111؛ ومسند أحمد 1/282؛ والمستدرك 1/27.
(8) - مجمع الزوائد للهيثمي 7/189.
(9) - المستدرك 1/27.(/16)
قال ابن كثير: وقد روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم - إلا أن ابن أبي حاتم جعله موقوفًا - وأخرجه الحاكم في مستدركه، قال: وقد رواه عن الوارث عن كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فوقفه، وكذا رواه إسماعيل بن علية ووكيع عن ربيعة بن كلثوم عن جبير عن أبيه به، وكذلك رواه عطاء بن السائب وحبيب ابن أبي ثابت وعلي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وكذا رواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس، فهذا أكثر وأثبت (أي وقفه على ابن عباس) (1).
لكن قال أحمد شاكر: حديث ابن عباس صحيح مرفوع وتعليله بالوقف على ابن عباس غير سديد (2).
نعم وإن رواه هؤلاء الثقات موقوفًا، إلا أنه في حكم المرفوع لما يلي:
1- لأنه من الأمور الغيبية التي لا تعرف إلا عن طريق الوحي.
2- هو تفسير صحابي، وبعض العلماء يقولون أنه بمنزلة المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وممن قال بذلك الحاكم (3) وذكره الزركشي في البرهان (4).
3- أنه أتى مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طريق صحيح كما قال أحمد شاكر وغيره.
4- أن له شواهد مرفوعة تقوّي رفعه (5) .
عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (الأعراف: من الآية172) قال: أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس (شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف: من الآية172) رواه الطبري (6) .
ورواه موقوفًا أيضًا (7) ورواه اللالكائي موقوفًا (8) .
في سند هذا الحديث شيخ الطبري عبد الرحمن بن الوليد الجرجاني لم يتكلم فيه بجرح ولا تعديل، وبقية رجال الإسناد ليس فيهم ضعيف.
قال الطبري: والثقات التي يعتمد على حفظهم وإتقانهم حدثوا بهذا الحديث عن الثوري، فوقفوه على عبد الله بن عمرو ولم يرفعوه (9).
قال ابن كثير: وهذا أصح، أي وقفه على عبد الله بن عمرو (10).
هذه بعض الأحاديث التي وردت في إخراج الذرية من ظهر آدم وإشهادهم على أنفسهم (أي أخذ الميثاق عليهم) وهناك أحاديث أخرى في إخراج الذرية (11) ولكن لم يذكر فيها الإشهاد فلم أذكرها اقتصارا على جوهر الموضوع.
2- الآثار الواردة عن السلف:
روى عن أبيّ بن كعب في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ) (الأعراف: من الآية172) الآية. قال: " جمعهم فجعلهم أرواحًا ثم صورهم فاستنطقهم فتكلموا، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قال: فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم عليه السلام أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري فلا تشركوا بي شيئًا، إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي، قالوا: (شهدنا بأنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، فأقروا بذلك ورفع عليهم آدم ينظر إليهم) " رواه أحمد والطبري والحاكم واللالكائي (12).
رجال إسناده ثقات إلا الربيع بن أنس فهو صدوق ومحمد بن يعقوب، قال الهيثمي: مستور، قال الهيثمي وبقية رجاله رجال الصحيح (13) وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي (14).
روي عن ابن عباس قال: " إن الله خلق آدم ثم أخرج ذريته من صلبه مثل الذر وقال لهم: من ربكم؟ قالوا: الله ربنا. ثم أعادهم في ظهره حتى تؤكد من أخذ ميثاقه، لا يزاد ولا ينقص منهم إلى يوم القيامة " رواه اللالكائي والطبري (15).
قال محقق شرح أصول اعتقاد أهل السنة بعد ذكر هذا الأثر:
وورد من طريق آخر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بمعناه رواية أحمد 1/272.
وقال الألباني في رواية المسند وإسناده صحيح (حاشية المشكاة) (16).
وروي عن عطاء في هذه الآية قال: أخرجهم من ظهر آدم حتى أخذ عليهم الميثاق، ثم ردهم في صلبه (17).
__________
(1) - تفسير ابن كثير 2/261.
(2) - شرح العقيدة الطحاوية، تحقيق أحمد شاكر ص 189.
(3) - المستدرك 2/258.
(4) - البرهان في علوم القرآن 2/157.
(5) - وانظر بحث إخراج الذرية من ظهر آدم للعثيم ص25.
(6) - تفسير الطبري 9/113.
(7) - تفسير الطبري 9/113.
(8) - انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/562.
(9) - تفسير الطبري 9/118.
(10) - تفسير ابن كثير 2/262.
(11) - انظر تفسير الطبري 9/111؛ وموطأ مالك، كتاب القدر 560؛ وعون المعبود، كتاب القدر 12/470.
(12) - مسند الإمام أحمد (واللفظ له) 5/135؛ وتفسير الطبري 9/115؛ والمستدرك 2/323؛ وشرح أصول اعتقاد أهل السنة 559.
(13) - مجمع الزوائد 7/25.
(14) - المستدرك 2/324.
(15) - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/562.
(16) - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/562.
(17) - تفسير الطبري 9/116.(/17)
وروي الطبري عن نظر بن عربي - في هذه الآية - قال: أخرجهم من ظهر آدم حتى أخذ عليهم الميثاق ثم ردهم في صلبه (1).
وقال ابن جريج عن مجاهد، قال: إن الله لما أخرجهم قال: يا عباد الله أجيبوا الله - والإجابة: الطاعة - فقالوا: أطعنا، اللهم أطعنا، اللهم أطعنا، اللهم لبيك (2).
وروى الطبري بسنده عن ابن عباس قال: " خلق الله آدم، ثم أخرج ذريته من ظهره، فكلمهم الله وأنطقهم، فقال: ألست بربكم؟ فقالوا: بلى، ثم أعادهم في صلبه، فليس أحد من الخلق إلا قد تكلم، فقال: ربي الله، وإن القيامة لن تقوم حتى يولد من كان يومئذ أشهد على نفسه " (3).
وعن محمد بن كعب القرظي قال في هذه الآية: أقرّت الأرواح قبل أن تخلق أجسادها، رواه الطبري (4).
3- أقوال المفسرين:
قال الطبري في تفسير قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) (الأعراف: من الآية172) الآية، الآية: واذكر يا محمد ربك إذ استخرج ولد آدم من أصلاب آبائهم، فقررهم بتوحيده، وأشهد بعضهم على بعض شهادتهم بذلك، وإقرارهم به (5).
وقال ابن كثير: يخبر تعالى أنه استخرج ذريه بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه (6).
وقال القرطبي: واذكر لهم مع ما سبق من تذكير المواثيق في كتابهم ما أخذت من المواثيق من العباد يوم الذر (7).
وقد ذكر الرازي القول بإخراج الذرية من ظهر آدم وأخذ الميثاق عليهم، ثم عقب على ذلك بقوله: وهذا القول ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، والضحاك، وعكرمة والكلبي (8).
هذه هي أهم الأحاديث والآثار وأقوال المفسرين التي وردت في تفسير هذه الآية وبيان أخذ الميثاق على ذرية آدم وقد خالف في ذلك المعتزلة، وأنكروا أخذ الميثاق بنحو ما ذكر، وردّوا على من قال به، وذكروا حججًا لرد هذا القول ذكرها الرازي وردّ على بعضها ردًا جيدًا، ولطول هذه الحجج والرد عليها آثرت عدم ذكرها (9).
وقد ذكر الزمخشري قول المعتزلة في تفسير هذه الآية وبيان أخذ الميثاق فقال:
معنى أخذ ذرياتهم من ظهورهم: إخراجهم من أصلابهم نسلا وإشهادهم على أنفسهم، وقوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) (الأعراف: من الآية172) من باب التمثيل والتخييل، ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم، وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم: ألست بربكم، وكأنهم قالوا: بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك، وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وكلام العرب (10).
وقد ذهب بعض المفسرين إلى تفسير الآية بغير تفسير الجمهور، ولم يقولوا بقول المعتزلة، ولكنهم قالوا قولا آخر فسروا به الآية، ومن ذلك تفسير الشيخ عبد الرحمن بن سعدي لهذه الآية حيث قال: أخرج من أصلابهم ذريتهم وجعلهم يتناسلون ويتوالدون قرنًا بعد قرن، وحين أخرجهم من بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، أي: قررهم بإثبات ربوبيته، بما أودعه في فطرهم من الإقرار بأنه ربهم وخالقهم ومليكهم. قالوا: بلى قد أقررنا بذلك فإن الله تعالى فطر عباده على الدين الحنيف.
فكل أحد فهو مفطور على ذلك، ولكن الفطرة قد تغير وتبدل بما يطرأ على العقول من العقائد الفاسدة. ثم أشار إلى قول الجمهور وردّه بإجمال دون أن يشير إلى الأحاديث أو الآثار فضلا عن أن يناقشها (11).
وأخيرًا بعد هذا التفصيل - الموجز - فإن الذي يترجح في هذه المسألة: أن الله أخرج ذريه آدم من ظهره وأخذ الميثاق عليهم مشهدًا بعضهم على بعض، ومشهدًا (12) الإنسان على نفسه أي أخذ بإقراره، فقال لهم سبحانه وتعالى: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (الأعراف: من الآية172) ؟ فأجابوا: (بَلَى) (الأعراف: من الآية172) .
__________
(1) - تفسير الطبري 9/116.
(2) - تفسير الطبري 9/115.
(3) - تفسير الطبري 9/116.
(4) - تفسير الطبري 9/117.
(5) - تفسير الطبري 9/110.
(6) - تفسير ابن كثير 2/261.
(7) - تفسير القرطبي 7/314.
(8) - تفسير الرازي 15/47.
(9) - تفسير الرازي 15/47 وما بعدها.
(10) - الكشاف 2/129.
(11) - انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 3/113 وما بعدها؛ وانظر روح المعاني للألوسي 9/99 وما بعدها حيث إن تفسيره لها قريب من هذا.
(12) - وقيل شهدت الملائكة، وقيل شهد الله وملائكته، وما ذكرته هو الراجح، قال ابن أبي العز مرجحًا له بعد ذكر هذه الأقوال والأول أظهر وما عداه احتمال لا دليل عليه، وإنما يشهد ظاهر الآية للأول - انظر شرح العقيدة الطحاوية - ص 188.(/18)
وهذا هو الذي يدل عليه سياق الآية وجاءت به الأحاديث المفسرة للآية، وقال به بعض الصحابة والتابعين ممن فسّر هذه الآية، وهو قول جمهور المفسرين الذين سبق الإشارة إلى بعضهم حتى نصّ بعض كبار المفسرين كابن عطية والثعالبي على تواتر الأحاديث على إخراج الذرية من ظهر آدم - عليه السلام - وأخذ الميثاق منهم (1). ولا أقول بذلك إلا أن نجمله على التواتر المعنوي (2) وفيه نظر أيضًا، ولكنه يدل على قوة هذا القول.
وقال ابن الأنباري: هذا مذهب أصحاب الحديث وكبراء أهل العلم (3).
وقال الخازن: وقد ورد الحديث بثبوت ذلك وصحته فوجب المصير إليه والأخذ به (4).
وقال الشنقيطي بعد أن ذكر قول الجمهور وقول مخالفيهم وهذا الوجه - أي قول الجمهور - يدل عليه الكتاب والسنة، ثم فصل في بيان وجه دلالة الكتاب والسنة على صحة هذا القول. وذلك في معرض ترجيحه لهذا القول والأخذ به (5).
وقال الطحاوي: والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق، ثم فصل ابن أبي العز في بيان ذلك ودلالته من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة (6).
كل ذلك مما يقوي الأخذ بما رجحته وعدم الالتفات إلى ما سواه، مع الإشارة إلى صحة ما ذكره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في ثبوت الفطرة ولكننا لا نجعل ذلك هو الميثاق أو نفسر به الآية.
أما قول المعتزلة فهو تفسير عقلي في مقابلة النصوص فلا يعوّل عليه، وما ذكره الرازي في رد هذا القول فيه الكفاية فليرجع إليه (7). والله المستعان.
وأخيرًا وقبل أن أنتقل عن هذا المبحث أذكر أمورًا متمة له مع الاختصار في ذلك:
1- اختلف في مكان الإخراج فقيل في نعمان واد إلى جنب عرفة (8).
وقيل في الهند (9).
وقيل: قبل أن يهبط إلى الأرض وبعد الإخراج من الجنة (10). وقيل غير ذلك، ولم أقف عند هذه المسألة لأنه لا يترتب على العلم بها كبير فائدة، ولا يضر الجهل بذلك.
2- رأى آدم ذريته بعد أن أخرجهم الله من ظهره، ورأى فيهم الأنبياء كالسرج، ورأى الغني والفقير والصحيح والسقيم وقد ورد هذا في عدة آثار، ومن أقواها الأثر المروي عن أبيّ بن كعب (11).
3- قال ابن عباس: لن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به نفعه الميثاق الأول - ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يف به لم ينفعه الميثاق الأول، ومن مات صغيرًا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة (12).
4- لا تناقض بين الميثاق والفطرة، بل نقول أن المولود يولد على الفطرة - كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، (13) لأنه أعطى الميثاق وفيه الإقرار بربوبية الله ووحدانيته، ويبقى على ذلك ويولد عليه، ولكن هذه الفطرة تتغير بما يطرأ على الإنسان من عقائد فاسدة لأسباب كثيرة تصرفه عن فطرته وميثاقه.
5- أن هذا الميثاق ليس كافيًا لإقامة الحجة على الخلق، بل لا بد من إرسال الرسل وإنزال الكتب، والآيات القرآنية صريحة بأن الله تعالى لا يعذب أحدًا حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة وما ركز من الفطرة (14).
قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء: من الآية15).
وقال سبحانه: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء: من الآية165).
6- هناك من قال إن الأرواح خلقت قبل الأجساد (15) وقال آخرون بغير ذلك (16). ولا مصلحة في الخوض في هذه المسألة، والآثار لا تدل على سبق الأرواح الأجساد سبقًا مستقرًا ثابتًا (17).
هذا ما تيسر تحقيقه في بيان هذا الميثاق الذي أخذه الله على البشر، وأسأل الله الثبات واليقين إنه نعم المولى ونعم النصير.
ثانيًا: العهد والميثاق الذي أخذه الله على النبيين
__________
(1) - انظر المحرر الوجيز 6/134؛ وتفسير الثعالبي 2/64.
(2) - ممن قال بذلك د. عبد العزيز العثيم في بحثه إخراج الذرية من ظهر آدم - ص 50.
(3) - لباب التأويل 2/310.
(4) - لباب التأويل 2/310.
(5) - أضواء البيان 2/336 وما بعدها.
(6) - شرح الطحاوية - ص 185.
(7) - تفسير الرازي 15/50.
(8) - ورد في حديث ابن عباس، انظر تفسير الطبري 9/111.
(9) - نسبه الطبري لابن عباس، انظر تفسير الطبري 9/111.
(10) - قال به السدي، انظر تفسير الطبري 9/116.
(11) - انظر الآثار الواردة في ذلك في تفسير الطبري 9/114 وما بعدها؛ وتفسير ابن كثير 2/263.
(12) - تفسير الطبري 9/112؛ وتفسير ابن كثير 2/262.
(13) - انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة للكائي 3/562 وما بعدها حيث روى عدة أحاديث صحيحة - بعضها في البخاري ومسلم.
(14) - انظر أضواء البيان للشنقيطي 2/336.
(15) - هو قول محمد بن كعب القرضي كما رواه عنه الطبري في تفسيره 9/117.
(16) - كقول من قال: إنهم أرواح بلا أجسام، ومعرفة بلا عقول، وقول: إنها أرواح بأجسام ومعرفة بعقول، انظر الرد على الجهيمية لابن مندة - ص 60.
(17) - وانظر تفصيل ذلك في شرح العقيدة الطحاوية - ص 188.(/19)
قال الله تعالى في سورة آل عمران: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران:81).
وقال سبحانه في سورة الأحزاب: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) (الأحزاب:7).
اختلف العلماء في الآية الأولى: هل كان أخذ الميثاق من النبيين، أو من أممهم:
فذهب فريق منهم إلى أن الميثاق أخذ من أتباع الأنبياء ولم يؤخذ من النبيين، وتأويل الآية عندهم: وإذا أخذ الله ميثاق أمم النبيين (1) أو: وإذا أخذ الله ميثاق أتباع النبيين (2) أو: وإذا أخذ الله ميثاق النبيين على أممهم (3) ونحو ذلك، فأضافوا (ميثاق) إلى (النبيين) وقدّروا محذوفًا كما تقول: عهد الله ويمين الله وميثاق الله (4).
وممن قال بذلك مجاهد والربيع (5) وجعفر الصادق (6) وغيرهم وأدلة من نصر هذا القول ما يلي:
1- روى الطبري بسنده عن مجاهد في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ) (آل عمران: من الآية81) قال: هي خطأ من الكاتب، وهي في قراءة ابن مسعود (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) (آل عمران: من الآية187) (7).
2- وروى الطبري بسنده - أيضًا - عن الربيع في قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ) (آل عمران: من الآية81) يقول: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) (آل عمران: من الآية187) وكذلك كان يقرؤها الربيع: (وإذا أخذ الله ميثاق الذي أوتوا الكتاب)، إنما هي في أهل الكتاب، قال وكذلك كان يقرؤها أبيّ بن كعب. قال الربيع: ألا ترى أنه يقول: (ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) (آل عمران: من الآية81) يقول: لتؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولتنصرنه، قال: هم أهل الكتاب (8).
3- ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني قال: ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ عليهم الميثاق يجب أن يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ـ عند بعثه وكل الأنبياء يكونون عند مبعث النبي من الأموات، والميت لا يكون مكلفًا لذا فالمكلف غيرهم، وهم أمم النبيين الموجودون عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم (9).
4- أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق أن من تولى منهم كان فاسقًا، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء - عليهم السلام - وإنما بالأمم (10).
5- أن المقصود من هذه الآية أن يؤمن الذين كانوا في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم ـ وإذا كان الميثاق مأخوذًا عليهم كان ذلك أبلغ في تحصيل هذا المقصود من أن يكون مأخوذًا على الأنبياء - عليهم السلام - (11).
هذه أهم أدلة من قال بالقول الأول من المفسرين وغيرهم (12). وذهب آخرون إلى القول بأن الميثاق قد أخذ على الأنبياء كما يفيد ظاهر الآية.
وممن قال بذلك جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وكثير من المفسرين ومنهم: علي وابن عباس وقتادة والحسن وطاوس والسدي وسعيد بن جبير والطبري وابن كثير وغيرهم (13).
وقد استدل هؤلاء بعدة أدلة أهمها:
1- ظاهر الآية ويؤيد ذلك قوله تعالى في سورة الأحزاب: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) (الأحزاب: من الآية7).
__________
(1) - روح المعاني 3/209.
(2) - البحر المحيط 2/509.
(3) - تفسير المنار 3/350.
(4) - انظر الكشاف 1/440.
(5) - تفسير القرطبي 3/331؛ والتحرير والتنوير 3/299.
(6) - انظر تفسير المنار 3/350؛ وروح المعاني 3/209.
(7) - تفسير الطبري 3/331.
(8) - تفسير الطبري 3/131.
(9) - انظر تفسير الرازي 8/116.
(10) - انظر تفسير الرازي 8/116.
(11) - انظر تفسير الرازي 8/116.
(12) - انظر تفسير الرازي 8/116.
(13) - انظر تفسير الطبري 3/330 وما بعدها؛ والبحر المحيط 2/508؛ وتفسير ابن كثير 1/377؛ وتفسير الرازي 8/115.(/20)
2- ما رواه الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن ثابت قال: " جاء عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني مررت بأخِ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة، ألا أعرضها عليك، قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله: فقلت: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، قال: فسرى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: "والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين " (1).
وكذلك ما رواه الحافظ أبو يعلى قال: حدثنا إسحاق حدثنا حماد عن مجالد عن الشعبي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والله لو كان موسى حيًا بين أظهركم ما حلّ له إلا أن يتبعني " (2).
3- روى الطبري بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لم يبعث الله عزَّ وجلَّ نبيًا، آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد: لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه، وقرأ الآية (3).
4- ما روي عن ابن عباس وقتادة وطاوس من آثار في ذلك، (4) وهذا القول هو الراجح وهو الذي تسنده الأدلة ويوافق ظاهر الآية.
أما القول الأول فلا حجة لهم يعتد بها، وما ساقوه من أدلة لا ينهض بها الاستدلال، ويرد عليها بما يلي:
1- أما ما روي عن مجاهد فقد قال أبو حيان: هذا لا يصح عنه؛ لأن الرواة الثقاة نقلوا عنه أنه قرأ: (مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ) (آل عمران: من الآية81) كعبد الله بن كثير وغيره، وإن صحّ ذلك عن غيره فهو خطأ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان (5).
2- أما قول الربيع فيرد عليه - أيضًا- بإجماع الصحابة على مصحف عثمان، فإن صحت القراءة عن أبيّ فهي شاذة، وقال الطبري: وأما ما استشهد به الربيع فإن ذلك شاهد على صحة ما قال (6).
3- أما قول أبي مسلم فهو ضعيف من وجهين:
أ- أنه فسر الميثاق ببعض معناه وهو أعم من ذلك كما سيأتي (7).
ب- أنه لا يمتنع أن يؤمن النبيون - عليهم السلام- بمحمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يدركوه، بل هذا جزء من الإيمان لما يلي:
1- حتى يخبروا أممهم، ويأمروهم بالإيمان به إن أدركوه.
2- أن بعض النبيين سيدركه (8) كعيسى - عليه السلام - بعد نزوله فإنه يحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم ويكون من أتباعه (9).
3- أن الإيمان به عقيدة حتى وإن لم يدركوه، كما نؤمن بالنبيين السابقين لنبينا - صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين - وإن لم ندركهم ولن نتبعهم فيما خالف شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكما يجب الإيمان بأشراط الساعة وعلاماتها وإن لم يدركها الأكثرون.
4- أما الدليل الرابع، وهو وصف من تولى بأنه من الفاسقين، وهذا لا يليق بالأنبياء فالرد عليه من وجهين:
أ- أن قوله: (فَمَنْ تَوَلَّى) (آل عمران: من الآية82) الآية للمخاطبين وقت نزول القرآن، أو للأمم بعد أخذ الميثاق على أنبيائهم (10).
ب-
أنه على القول بأن الآية في الأنبياء فهي من باب قوله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (الزمر: من الآية65). وقوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) (الحاقة:44-46).
5- أما الدليل الخامس، وهو أن المقصود أن يؤمن الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الميثاق منهم أولى. وهذا ضعيف من وجهين - أيضًا -:
أ- أنه ليس المقصود أن يؤمن الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فقط، بل أن يؤمن الأنبياء وأممهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء، كما سيأتي.
ب- أن درجات الأنبياء أعلى وأشرف من درجات الأمم، فصرف الميثاق إلى الأنبياء أقوى في تحصيل المطلوب والأمم تبع (11).
وبما سبق يتبين أن الراجح هو القول: بأن الله أخذ على النبيين ميثاقهم، وأن الأمم تبع لأنبيائهم، فالله قد أخذ الميثاق على النبيين، والأنبياء يأخذون الميثاق على أممهم (12). قال الطبري مرجحًا القول الثاني ورادا الأول:
__________
(1) - مسند الإمام أحمد 3/470 و4/265؛ وتفسير ابن كثير 1/378.
(2) - أخرجه ابن كثير في تفسيره 1/378.
(3) - انظر تفسير الطبري 2/508.
(4) - انظر تفسير الطبري 3/131 وما بعدها.
(5) - البحر المحيط 2/508.
(6) - انظر تفسير الطبري 3/333.
(7) - وذلك عند بيان معنى الميثاق المأخوذ على النبيين.
(8) - أي يدرك أمة النبي صلى الله عليه وسلم لا أنه يدرك شخص الرسول صلى الله عليه وسلم لأن عيسى - عليه السلام - ينزل في آخر الزمان.
(9) - انظر شرح العقيدة الطحاوية - ص 448.
(10) - انظر تفسير الطبري 3/335؛ والبحر المحيط 2/514.
(11) - انظر تفسير الرازي 8/116.
(12) - انظر تفسير الطبري 3/332؛ وتفسير القرطبي 4/124.(/21)
ولا معنى لقول من زعم أن الميثاق إنما أخذ على الأمم دون الأنبياء لأن الله عزَّ وجلَّ قد أخبر أنه أخذ ذلك من النبيين فسواء قال قائل لم يأخذ ذلك منها ربها، أو قال: لم يأمرها ببلاغ ما أرسلت (1) وقد نصّ الله عزَّ وجلَّ أنه أمرها بتبليغه لأنهما جميعًا خبران من الله عنها، أحدهما أنه أخذ منها، والآخر منهما أنه أمرها فإن جاز الشك في أحدهما جاز في الآخر (2).
وهنا نأتي لبيان العهد والميثاق الذي أخذه الله على النبيين:
قال قتادة: ميثاق الله على النبيين أن يصدق بعضهم بعضًا، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالاته، فبلغت الأنبياء كتاب الله ورسالاته إلى قومهم، وأخذ عليهم فيما بلغتهم رسلهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدقوه وينصروه (3).
وعن طاووس قال: أخذ الله ميثاق الأول من الأنبياء ليصدقن وليؤمنن بما جاء به الآخر منهم (4).
وقال الحسن: أخذ الله ميثاق النبيين: ليبلغن آخركم أولكم ولا تختلفوا (5).
وهؤلاء فسروا الميثاق بأن بعضهم يؤمن ببعض ويصدق بعضهم بعضًا من أولهم إلى آخرهم.
ولكن ابن عباس وعلي والسدي فسروا الميثاق بأخص من ذلك:
قال علي بن أبي طالب: لم يبعث الله عزَّ وجلَّ نبينا آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد، لئن يبعث وهو حيّ ليؤمنن به ولينصرنه، ويأمره فيأخذ العهد على قومه (6).
وبنحو قول علي قال ابن عباس كما ذكر ذلك ابن كثير، وأشار إليه الطبري وابن الجوزي والرازي (7).
ويمثل قول علي قال السدي - أيضًا (8) -:
والراجح في هذه المسألة هو القول الأول، فإن الله أخذ الميثاق على جميع الأنبياء أن يؤمن بعضهم ببعض ويصدق بعضهم بعضًا وينصره ويأخذوا ذلك على أممهم، على أن القول الثاني لا يعارض الأول ولكنه أخص منه وهو صحيح كما قال ابن كثير: وما قاله طاوس وقتادة لا يضادّ ما قاله علي وابن عباس ولا ينفيه، بل يستلزمه ويقتضيه (9).
ورجح الطبري ذلك قائلا:
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب من قال: معنى ذلك: الخبر عن أخذ الله الميثاق من أنبيائه بتصديق بعضهم بعضًا، وأخذ الأنبياء على أممها وأتباعها الميثاق بنحو الذي أخذ عليها ربها من تصديق أنبياء الله ورسله بما جاءتها به، لأن الأنبياء - عليهم السلام - بذلك أرسلت إلى أممها، ولم يدع أحد ممن صدق المرسلين أن نبينا أرسل إلى أمة بتكذيب أحد أنبياء الله عزَّ وجلَّ (10).
واختار هذا القول ابن كثير وفسّر به الآية (11).
ولذا فأخذ الميثاق على الأنبياء بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، وأمر الأمم بذلك من باب أولى.
وأختم هذا المبحث بالنقاط التالية:
1- أن الله أخذ من النبيين العهد والميثاق بأن يؤمن بعضهم ببعض، ويصدق بعضهم بعضًا، وكل يبلغ أمته ويأمرها بالإيمان بذلك.
2- أن الله أمرهم بذلك فأقروا بالميثاق وأعطوا العهد عليه (12).
3- أن الله أشهدهم على ذلك فشهدوا (13)
4- الميثاق الذي أخذ على ذرية آدم - والأنبياء منهم - عام وهذا ميثاق خاص.
5- قال بعض المفسرين: إن أخذ الميثاق على النبيين في ظهر آدم، (14) وقيل بعد ذلك (15).
وبهذا يتضح القول في معنى ميثاق النبيين والعهد الذي أخذه الله عليهم، والله أعلم بالصواب.
ثالثًا: العهد والميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل
ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تبين أن الله قد أخذ العهد والميثاق على بني إسرائيل، وقد جاءت هذه الآيات بصيغ متعددة ومواضع متفرقة في كتاب الله فمنها قوله تعالى: (يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (البقرة:40).
وقال سبحانه: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:63).
__________
(1) - أصحاب القول الأول لم يشكوا ولكن تأولوا.
(2) - تفسير الطبري 3/333.
(3) - انظر تفسير الطبري 3/331-332.
(4) - انظر تفسير الطبري 3/331-332.
(5) - انظر تفسير الطبري 3/331-332؛ وزاد المسير 1/414؛ وتفسير الرازي 8/115.
(6) - تفسير الطبري 3/332؛ وتفسير ابن كثير 1/378.
(7) - انظر تفسير ابن كثير 1/378؛ وتفسير الطبري 3/332؛ وزاد المسير 1/414؛ وتفسير الرازي 8/115.
(8) - انظر تفسير الطبري 3/332؛ وزاد المسير 1/414.
(9) - تفسير ابن كثير 1/377.
(10) - تفسير الطبري 3/332.
(11) - انظر تفسير ابن كثير 1/377.
(12) - تفسير الطبري 3/334.
(13) - وقيل شهدت الملائكة بذلك - أي أشهدهم الله - وقيل غير ذلك. انظر تفصيل ذلك في البحر المحيط 2/513؛ وروح المعاني 7/212.
(14) - ممن قال بذلك مجاهد. انظر تفسير الطبري 21/126؛ وتفسير القرطبي 14/127.
(15) - ذكر ذلك الألوسي، وقال إن القول الأول بعيد كبعد ذلك الزمان. انظر روح المعاني 3/210.(/22)