* إن كان الظلم بالنيل من أعراضهم بالغيبة والنميمة والسخرية فإنه لا بد مع استغفار الله من التحلل من أصحاب الحقوق، وطلب المسامحة منهم ما داموا على قيد الحياة ،فإذا تعذر هذا لموت صاحب الحق ، أو خوف المفسدة من الملامة فيرى بعض العلماء الإكثار من الاستغفار له والثناء عليه في المجالس التي أساء فيها إلى المظلوم .
* وإن كان الظلم بالقذف والتهم الباطلة فعليه التوبة النصوح بشروطها مع إصلاح ما فسد ؛ ومن ذلك تكذيبه لنفسه حتى ينتهي العار عن المقذوف .
* وإن كان الظلم بإشاعة الفاحشة وترويجها بين الناس بكلمة أو كتاب أو فيلم ،أوغير ذلك من الوسائل التي تثير الشهوات وتهتك الأعراض ؛ فإن من تمام التوبة منها الإقلاع عنها ، والندم على ما حصل ، وإصلاح ما نشأ من فساد بسببها ، وذلك حسب الجهد المستطاع ، بأن يتبرأ هؤلاء الظالمون من أفعالهم ويبينوا للناس بطلانها ، وأن لا يفتُروا عن الإصلاح وبذل النصح للأمة . قال تعالى : (( إلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [النمل : 11] .
رابعاً : التوبة من ظلم الناس في أموالهم :
الأصل في التوبة من حقوق الناس المالية أن ترد إلى أهلها في الحياة الدنيا ، فإذا تاب الظالم توبة نصوحاً وندم وأقلع ثم رد الأموال المسروقة أو المغصوبة إلى أهلها فقد برئت ذمته .
أما إذا لم يهتد إلى أصحاب الأموال لموتهم أو جهله بهم فإنه يردها إلى ورثتهم ، فإن لم يتوصل إليهم فإن بعض العلماء يرى أن يتصدق بها عن أصحابها ؛ وبذلك تبرأ الذمة إذا صدقت التوبة ، وطائفة من العلماء لا يرى أنها تبرأ إلا بإرجاعها إلى أربابها ؛ وإلا فقد تعذرت عليه التوبة ، والقصاص أمامه يوم القيامة بالحسنات والسيئات ليس إلاّ .
وختاماً : أسأل الله عز وجل أن يجنبنا الظلم بشتى صوره ، وأن يخرجنا من هذه الدنيا خفاف الظهور من دماء الناس ، خُمصَ البطون من أموالهم ، سالمي الألسنة من أعراضهم . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(/7)
الظلم ظلمات يوم القيامة
دار القاسم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فإن ظاهرة انتشرت في بعض الناس ذكرها القرآن الكريم والسنة النبوبة المطهرة، إما على سبيل الذم، أو على سبيل بيان سوء عاقبة من فعلها.
إنها ظاهرة الظلم، وما أدراك ما الظلم، الذي حرمه الله سبحانه وتعالى على نفسه وحرمه على الناس، فقال سبحانه وتعالى فيما رواه رسول الله في الحديث القدسي: { يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمناً، فلا تظالموا } [رواه مسلم].
وعن جابر أن رسول الله قال: { أتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم } [رواء مسلم].
والظلم: هو وضع الشيء في غير محله باتفاق أئمة اللغة.
وهو ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ظلم الإنسان لربه، وذلك بكفره بالله تعالى، قال تعالى: والكافرون هم الظالمون [البقرة:354]. ويكون بالشرك في عبادته وذلك بصرف بعض عبادته لغيره سبحانه وتعالى، قال عز وجل: إن الشرك لظلم عظيم [لقمان:13].
النوع الثاني: ظلم الإنسان نفسه، وذلك باتباع الشهوات وإهمال الواجبات، وتلويث نفسه بآثار أنواع الذنوب والجرائم والسيئات، من معاصي لله ورسوله. قال جل شأنه: وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [النحل:33].
النوع الثالث: ظلم الإنسان لغيره من عباد الله ومخلوقاته، وذلك بأكل أموال الناس بالباطل، وظلمهم بالضرب والشتم والتعدي والاستطالة على الضعفاء، والظلم يقع غالباً بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار.
صور من ظلم الإنسان لغيره من عباد الله ومخلوقاته:
غصب الأرض: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى اللع عليه وسلم قال: { من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين } [متفق عليه].
مماطلة من له عليه حق: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { مطل الغني ظلم } [متفق عليه].
منع أجر الأجير: عن أبي هريرة عن النبي قال: { قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة...،...، ورجل أستأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره } [رواه البخاري].
وأذكر هنا قصة ذكرها أحد المشايخ في كلمة له في أحد المساجد بمكة، قال: "كان رجل يعمل عند كفيله فلم يعطه راتب الشهر الأول والثاني والثالث، وهو يتردد إليه ويلح وأنه في حاجة إلى النقود، وله والدان وزوجة وأبناء في بلده وأنهم في حاجة ماسة، فلم يستجب له وكأن في أذنيه وقر، والعياذ بالله. فقال له المظلوم: حسبي الله؛ بيني وبينك، والله سأدعو عليك، فقال له: أذهب وأدعوعلي عند الكعبة (انظر هذه الجرأة) وشتمه وطرده. وفعلا استجاب لرغبته ودعا عليه عند الكعبة بتحري أوقات الإجابة، على حسب طلبه، وبريد الله عز وجل أن تكون تلك الأيام من أيام رمضان المبارك وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون [الشعراء:227]، ومرت الأيام، فإذا بالكفيل مرض مرضاً شديداً لا يستطيع تحريك جسده وانصب عليه الألم صباً حتى تنوم في إحدى المستشفيات فترة من الزمن. فعلم المظلوم بما حصل له، وذهب يعاوده مع الناس. فلما رآه قال: أدعوت علي؟ قال له: نعم وفي المكان الذي طلبته مني. فنادى على ابنه وقال: أعطه جميع حقوقه، وطلب منه السماح وأن يدعو له بالشفاء".
الحلف كذباً لإغتصاب حقوق العباد: عن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي أن رسول الله قال: { من اقتطع حق امرىء مسملم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة، فقال رجل: وإن كان شيهئاً يسيرًا يا رسول الله؟ فقال: وإن قضيبًا من أراك } [رداه مسلم].
السحر بجميع أنواعه: وأخص سحر التفريق بين الزوجين، قال تعالى: فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه [البقر:102]. وعن أبي هريرة عن النبي قال: { اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ فال:... والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات } [رواه البخاري ومسلم].
عدم العدل بين الأبناء: عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أنه قال:{ نحلني أبى نحلاً فقالت أمى عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله ، فجاءه ليشهده على صدقتى فقال: "أكل ولدك نحلت مثله" قال: لا، فقال: "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم"، وقال: "إني لا أشهد على جور"، قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة. } [متفق عليه].
حبس الحيوانات والطيور حتى تموت: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: { عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعًا فدخلت فيها النار} [رواه البخاري ومسلم]. حبستها: أي بدون طعام.(/1)
شهادة الزور: أي الشهادة بالباطل والكذب والبهتان والافتراء، وانتهاز الفرص للإيقاع بالأبرار والانتقام من الخصوم، فعن انس قال: ذكر رسول الله الكبائر فقال: { الشرك بالله، وعقوق الوالدين وقتل النفس، وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور، أو قال: "شهادة الزور" } [متفق عليه].
وأكل صداق الزوجة بالقوة ظلم.. والسرقة ظلم.. وأذيه المؤمنين والمؤمنات والجيران ظلم... والغش ظلم... وكتمان الشهادة ظلم... والتعريض للآخرين ظلم، وطمس الحقائق ظلم، والغيبة ظلم، ومس الكرامة ظلم، والنميمة ظلم، وخداع الغافل ظلم، ونقض العهود وعدم الوفاء ظلم، والمعاكسات ظلم، والسكوت عن قول الحق ظلم، وعدم رد الظالم عن ظلمه ظلم... إلى غير ذلك من أنواع الظلم الظاهر والخفيى.
فيا أيها الظالم لغيره:
اعلم أن دعوة المظلوم مستجابة لا ترد مسلماً كان أو كافراً، ففي حديث أنس قال: قال رسول الله : { اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً؛ فإنه ليس دونها حجاب }. فالجزاء يأتي عاجلاً من رب العزة تبارك وتعالى، وقد أجاد من قال:
لاتظلمن إذا ما كنت مقتدراً *** فالظلم آخره يأتيك بالندم
نامت عيونك والمظلوم منتبه *** يدعوعليك وعين الله لم تنم
فتذكر أيها الظالم: قول الله عز وجل: ولا تحسبن الله غافلاً عما يفعل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار، مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء [ابراهيم:42-43]. وقوله سبحانه: أيحسب الإنسان أن يترك سدى [القيامة:36]. وقوله تعالى: سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [القلم:44-45]. وقوله : { إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته }، ثم قرأ: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [هود:102]، وقوله تعالى: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون [الشعراء:227].
وتذكر أيها الظالم: الموت وسكرته وشدته، والقبر وظلمته وضيقه، والميزان ودقته، والصراط وزلته، والحشر وأحواله، والنشر وأهواله. تذكر إذا نزل بك ملك الموت ليقبض روحك، وإذا أنزلت في القبر مع عملك وحدك، وإذا استدعاك للحساب ربك، وإذا طال يوم القيامة وقوفك.
وتذكر أيها الظالم: قول الرسول : { لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء } [رواه مسلم]. والاقتصاص يكون يوم القيامة بأخذ حسنات الظالم وطرح سيئات المظلوم، فعن أبي هريرة عن النبي قال: { من كانت عنده مظلمة لأخيه؛ من عرضه أو من شيء، فليتحلله من اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه } [رواه البخاري]. وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: { أتدرون ما المفلس، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم وطرحت عليه، ثم طرح في النار } [رواه مسلم].
ولكن أبشر أيها الظالم:
فما دمت في وقت المهلة فباب التوبة مفتوح، قال عصلى الله عليه وسلم: { إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتورب مسيء النهار، ويبسط يدك بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها } [رواه مسلم]. وفي رواية للترمذي وحسنه: { إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر }. ولكن تقبل التوبة بأربعة شروط:
1- الإقلاع عن الذنب. 2- الندم على ما فات.
3- العزم على أن لا يعود. 4- إرجاع الحقوق إلى أهلها من مال أو غيره.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/2)
الظلم والطغيان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? [آل عمران : 102 ] ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً? [النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
الظلم والطغيان صفتان من صفات الكفار والمنافقين تستوجبان غضب الله وغضب عباده، كذلك الطغيان فيه إفساد للمجتمع وإهلاك للأمم.
والطغيان هو مجاوزة الحد في العصيان والظلم، وإذا حل الطغيان بقوم، كان ذلك نذير شؤم لأهله في الدنيا وخسران لهم في الآخرة.
ولقد ذكر الله تعالى لنا في كتابه الكريم أخبار الأمم التي طغت وعتت عن أمر ربها ورسله وبين لنا نهاياتها وكيف فعل الله بها، وبين أن سننه مع المكذبين الطاغين لا تتخلف مهما طال الوقت .. كما أمر سبحانه بأخذ الدروس والعظات والعبر من مصارع المكذبين المجرمين في آيات كثيرة، قال سبحانه: ? أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ?[الروم:9] ، وقال: ? قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ ?[الأنفال:38]، وقال عن الكافرين النافرين عن الهدى: ? اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً ?[فاطر:43-44].
أيها المؤمنون .. إن الأمور والأحداث لا تسير في هذه الحياة جزافاً ولا عبثاً ، وإنما هناك قوانين وسنن قدرها الله لا تتبدل ولا تتحول، وهذا ما يوضحه القرآن الكريم، ويعلمها للناس، كي لا ينظروا في الأحداث فرادى، غافلين عن سننها الثابتة الأصلية، محصورين في فترة قصيرة من الزمن، وحيز محدود من المكان. بل يأمرهم بالسير في الأرض والنظر بعين مفتوحة وقلب يقظ ، والوقوف على مصارع الغابرين الطاغين المكذبين، فإن الوقوف على مصارع الغابرين وآثار الذاهبين ، توقظ القلوب الغافلة وتمتلئ النفوس بعظمة الله وقدرته، في تدمير الأمم المكذبة القوية، ويعلموا أنه لن تعصمهم قوتهم من المصير المحتوم في السابق والحاضر والمستقبل: ?... وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً ?[فاطر: 44].
ذكر الله في القرآن مصارع أمم كانت طاغية في التكذيب والظلم والفساد، قال تعالى: ? أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ?[الفجر:6-14](/1)
لقد جمع الله عز وجل في هذه الآيات القصار مصارع أقوى الجبارين الذين عرفهم التاريخ، وهم عاد إرم وهي عاد الأولى ، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد، لنتحدث اليوم عن قوم عاد ، فقوم عاد كانوا يسكنون في جنوب الجزيرة العربية بالأحقاف، والأحقاف هي الرمال وهي هذه الصحراء الممتدة بين اليمن (حضرموت) وعمان ، وهم من العرب البائدة ، عاشوا ردحاً من الزمن في سعة من العيش، ورغد من الحياة، حباهم الله نعماً وافرة، وخيرات جليلة ، ففجروا العيون، وزرعوا الأرض وأنشئوا البساتين، وشادوا القصور، وكانت لهم صناعات وتقدم حضاري مادي، ومنحهم فوق ذلك بسطة في أجسامهم، وقوة في أبدانهم ، وآتاهم من الخيرات ما لم يؤتِِِ أحداً من العالمين. ولكنهم لم يفكروا في مبدأ الخلق ولم يتعرفوا على ربهم الذي أوجدهم وأسبغ عليهم نعمه، وإنما اتخذوا من دون الله أوثاناً وأصناماً، يتوجهون إليها بالعبادة ويفزعون إليها في الملمات ، ثم إنهم عتوا في الأرض وأفسدوا وطغوا وبغوا، فأذلَّ القوي منهم الضعيف، وبطش الكبير بالصغير، فأراد الله عز وجل أن يرسل إليهم هوداً رسولاً من أنفسهم يدعوهم إلى خالقهم، ويبين لهم سفاهة ما هم فيه من عبادة غير الله، فدعاهم إلى عبادة الله وحده وترك ما سواه من معبودات اتخذوها ، وذكرهم بنعمة الله عليهم، وحذرهم من الترف والطغيان والفساد والتسلط والاستكبار على الآخرين فقال لهم نبيهم. ? وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ?[الشعراء:129-131]، فنبي الله هود يعيب على قومه السرف والخيلاء في المباني الفخمة التي لم يبنوها من أجل السكن والراحة، وإنما رغبة في المباهاة والتيه .. يظنون أنهم مخلدون في هذه الأرض أبداً.
وما أكثر الذين يبنون للعبث والرياء والفخر في زماننا من الحكام والأثرياء، ماذا تستفيد الأمة من هذا القصر أو ذاك الذي أنفق في بنائه أموال طائلة ليتمتع بسكناه رجل ثري أو مسئول .. وحوله الملايين من أبناء جنسه لا يجدون ما يأكلون ولا السكن الذي إليه يأوون !!
لقد ذم الله قوم هود لكفرهم وطغيانهم وجبروتهم وفسادهم واغترارهم بقوتهم. فقال سبحانه فيهم: ? وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ?[هود:59] وقال عنهم: ? فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ?[فصلت:15].
فعاد كما ترون استكبروا في الأرض وغرتهم قوتهم فأعرضوا عن هدىالله وحاربوا رسولهم وكذبوه فأصابهم الله بذنوبهم فأذلهم وأهلكهم ، إنها عبرة وعظة يذكرها الله لنا في كتابه الكريم لنعتبر ونتعظ ، وما كانت تدعيه (عاد) الأولى من القوة والطغيان والجبروت ، تدعيه اليوم دول ركبها الغرور، غرور العلم والمدنية والحضارة المادية، وما وصلت إليه من ثراء وقوة، فأعرضت عن سبيل الحق والخير، واستعبدت الشعوب الصغيرة المغلوبة على أمرها واستغلت ثرواتها وسلكت في السيطرة عليها كل الطرق الدنيئة في سبيل مصالحها الاستعمارية، ولسان حالها يقول: ? مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ?.
إن نبي الله هود أعطى درساً في الشجاعة والجرأة في مواجهة الجبابرة والطغاة حين لوح له قومه باستخدام القوة وهددوه بها وخوفوه من آلهتهم، فقال في ثقة واستعلاء: ? ... إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ?[هود:54-55]. إنه عليه السلام يقول لقومه في وضوح أنه لا يبالي بكيدهم مجتمعين، ولا يخاف إذا هم على الرغم من أنهم الأقوياء الأكثرون. وسر هذه الجرأة والقوة في موقف هود عليه السلام، أنه متوكل على ربه جل وعلا فهو يقول لهم: ? إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ?[هود:56].
إن في هذا الموقف وهو موقف كل الأنبياء وأتباعهم دعوة للتحرر من سلطان الجبابرة المتسلطين على الأمم الذين جمعوا بين صفة الجبروت والعناد. وقد بشر الله عباده في القرآن الكريم، أن مآل الجبابرة هو الخسران والهلاك: ? وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ?[إبراهيم:15].(/2)
لقد أهلك الله قوم عاد لكفرهم وطغيانهم واتباعهم أمر كل جبار عنيد ، هلكوا وخرجوا من الدنيا مشيعين باللعنة والخزي والدمار والهلاك، وفي كيفية هلاكهم ووصف عذابهم يقول تعالى: ? كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ?[القمر:18-21]، وقال سبحانه: ? وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ?[الذاريات:41-42] وقال: ? سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ ?[الحاقة:7-8]، والريح الصرصر: ذات الصوت الشديد لعتوها وشدتها. وقال عنهم سبحانه: ? فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ?[فصلت:16]، وقال الله عنهم: ? فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ?[الأحقاف: 24-25] إنها خاتمة مخزية ونهاية أليمة ، ? وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ(59) وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ?[ هُودٍ:59-60].
الخطبة الثانية:
يتابع الناس باهتمام بالغ الحملة الإعلامية الضخمة التي تستهدف المسلمين في كل مكان، وتصفهم بالنقائص وترميهم بالعيوب، وتجيش قوى العالم لمحاربة المسلمين والتضييق عليهم .. ما سبب هذا الهجوم وما السر وراء ما يجري من استعداد وتهديد ، كان الناس تساءلون عن ذلك فجاء الجواب بجلاء ووضوح من الرئيس الأمريكي الذي قال بأنه يقود حملة صليبية جديدة لمحاربة الإرهاب ، وليس الإرهاب إلا في وجود المسلمين، فلا بد من القضاء عليهم. ولقد حاولت بعض وسائل الإعلام أن تفسر هذا التصريح بتفسيرات ساذجة وتبريرات باردة بغية خداع المسلمين، لكن الحقيقة ظاهرة وواضحة وهي استهداف العالم الإسلامي بدوله وشعوبه، إنها حرب صليبية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى .. ولعلكم تتذكرون الحروب الصليبية التي قادتها أوربا ضد العالم الإسلامي لما يقرب من ثلاثة قرون، اشترك في تلك الحملات رجال الدين النصارى وملوك وأمراء أوربا وساستها وأصحاب الأموال والثراء فيها.
وشارك الكتاب النصارى ومفكروهم في نفث الروح الصليبية في هذه الحملات التي جعلت من الصليب شعاراً لها وقاتلت المسلمين تحت رايته، وما كان للصليبيين أن ينفذوا ويغزوا العالم الإسلامي لولا أن المسلمين هم السبب في ذلك حيث سيطر على حياتهم الترف والأنانية وحب الدنيا وكراهية الموت ، مع التفرق والاختلاف والتنازع على المال والسلطان، وموالاة الأعداء والاستعانة بهم على بعض لقد كان حال المسلمين إبان الحروب الصليبية الأولى أشد ضعفاً وتفككاً وتخاذلاً مما نحن عليه اليوم، ومع كل ذلك فقد كانت الحروب الصليبية عاملاً محركاً للمسلمين، وموقظاً لهم من نومهم حتى يحافظوا على دينهم ووجودهم من اجتياح الأعداء ، لقد ارتكب الصليبيون مجازر رهيبة فحين دخلوا بيت المقدس سنة 493هـ الموافق 1099م ولجأ الناس العزل إلى المسجد الأقصى على اعتبار أنهم مدنيين مسلمين قتلهم النصارى عن بكرة أبيهم وكان عددهم مائة ألف. ولقد قال أحد الشعراء في ذلك الوقت قصيدة يرثي بها الإسلام والمسلمين ويستنهض هممهم :
أحل الكفر بالإسلام ضيماً يطول عليه للدين النحيبُ
فحق ضائع وحمى مباح وسيف قاطع ودم صبيبُ
وكم من مسلم أمسى سليباً ومسلمة له حرم سليب
وكم من مسجد جعلوه ديرا على محرابه نصب الصليب
دم الخنزير فيه لهم خلوق وتحريق المصاحف فيه طيب
أمور لو تأملهن طفل لشب في عوارضه المشيب
أتسبى المسلمات بكل ثغر وعيش للمسلمين إذاً يطيب
أما لله والإسلام حق يدافع عنه شبان وشيب
فقل لذوي البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكموا أجيبوا
ولقد تبلور موقف المسلمين يومئذ على ما فيهم من ضعف في التركيز على خطتين:(/3)
الأولى: الدفاع عن البلاد الإسلامية التي كان الأعداء يستهدفونها .. والثانية: العمل على الإصلاح الداخلي وبناء الأمة إيمانياً ونفسياً وتخليصها من أسباب الغثائية والفساد والفسق والتخلف والضعف والفرقة بين الصفوف.
لقد انتفضت الأمة حين رأت أعداءها الصليبيين يستبيحون الدماء والحرمات والدين والمقدسات ، واسترخصت الدم والروح في سبيل الله .. وتعجلت لقاء الله وجنته .. فأعطاها الله الحسنيين النصر والجنة، وارتدت حملات الصليب على أعقابها خاسرة .. وبرز عدد من قادة الأمة ومجاهديها كأمثال نور الدين محمود زنكي ، وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم كثير من العرب والعجم . وتم جلاء الصليبيين عن بلاد المسلمين بعد حقبة من الزمن ، لقد كانت سياط التأديب الإلهي تؤدب المسلمين الذين تخلوا عن دينهم وهجروا أحكام وتعاليم دينهم. إنه لم يتم للمسلمين النصر على عدوهم ورد كيدهم إلا بمقدار ما أصلحوا من واقعهم ومقدار لجوئهم إلى الله وتمسكهم بدينه.
وما أشبه الليلة بالبارحة .. فها هي الحرب الصليبية الجديدة قد أعلنت .. وليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب ولا قرابة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا. الناس كلهم مخلوقون مربوبون مقهورون ، نواصيهم وأرواحهم بيد الخالق جل وعلا، ولكن لله أوامر ونواهي وسنناً، وعلى مقدار ما تكون الطاعة والاتباع لله ولرسوله، والصدق مع الله، يكون الإكرام من الله والتأييد والنصر. وما النصر إلا من عند الله يؤتيه من يشاء وفق حكمته، وحكمته تعالى قضت بنصر المؤمنين.
قال تعالى: ?... وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ?[الروم:47]
وقال: ?... إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ? [محمد:7]
وقال: ? إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ?[غافر:51]
وقال: ?... وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ?[الحج:40]
ومهما كانت قوة الأعداء فإنهم لن يستطيعوا القضاء على أمة محمد r وهذا ما بشرنا به رسول الله، حيث جاء في صحيح مسلم وغيره عن ثوبان t قال: قال رسول الله r: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها. وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها. وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وأني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عام. وأن لا يسلط عدواً من سوى أنفسهم. فيستبيح بيضتهم. وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عام، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً".
فثقوا أيها المسلمون بوعد الله ووعد رسوله، ولا يستخفنكم الذين لا يوقنون بضجيجهم الإعلامي والحرب النفسية التي يجيدونها ويضخمونها.
راجعه: عبد الحميد أحمد مرشد.
1) ـ صحيح مسلم. 4/ 2215 ، حديث رقم: 2889.(/4)
الظلم
أولاً: تعريف وبيان:
1- تعريف الظلم لغة.
2- تعريف الظلم شرعا.
ثانياً: الله تعالى حرم الظلم على نفسه.
ثالثاً: الإنسان مطبوع على الظلم.
رابعاً: تحريم الظلم والتحذير منه.
خامساً: أنواع الظلم.
سادساً: من يقع الظلم في حقهم.
سابعاً: أنواع الظلمة.
ثامناً: أعظم الظلم.
تاسعاً: أضرار الظلم.
1- الظلم ظلمات يوم القيامة.
2- الظلم سبب هلاك الأمم.
3- قبول دعوة المظلوم في الظالم.
4- اللعن للظالمين.
5- إملاء الله للظالم حتى يأخذه.
6- حال الظالمين في الآخرة.
7- حرمان الفلاح.
8- حرمان الهداية والتوفيق.
9- حرمان حب الله تعالى.
10- حلول المصائب في الدنيا والعذاب في القبر.
11- العذاب الأليم.
12- خذلان الظالم عند الله تعالى.
عاشراً: نصرة المظلوم.
حادي عشر: الانتصار من الظلم والدعاء على الظالم.
ثاني عشر: العفو عن الظالم.
ثالث عشر: التوبة من الظلم والتحلل من المظالم.
رابع عشر: اقتصاص المظالم في الآخرة قبل دخول الجنة
أولاً: تعريف وبيان:
1- تعريف الظلم لغة:
قال ابن فارس: "الظاء واللام والميم أصلان صحيحان، أحدهما: خلاف الضياء والنور، والآخر: وضع الشيء غير موضعه تعدّياً".
وقال الجوهري: "ظلمه يظلمه ظلماً ومظلمة، وأصله وضع الشيء في غير موضعه".
2- تعريف الظلم شرعا:
الظلم: التصرّف في حقّ الغير بغير حقّ، أو مجاوزة الحق.
وقيل: الظلم عبارة عن التعدّي عن الحق إلى الباطل، وهو الجور.
وقيل: وضع الشيء بغير محله بنقص أو زيادة أو عدول عن زمنه.
وقيل: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والتصرف في حقّ الغير، ومجاوزة حدّ الشارع.
مقاييس اللغة (3/468، 469).
الصحاح (5/1977).
جامع العلوم والحكم (211).
التعريفات للجرجاني (48).
التوقيف على مهمات التعاريف (231).
الكليات (594).
ثانياً: الله تعالى حرم الظلم على نفسه:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40].
وقال تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ} [آل عمران:108].
وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)) الحديث.
قال الطحاوي في عقيدته: "يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبداً".
قال الشارح ابن أبي العز: "الذي دلّ عليه القرآن من تنزيه الله نفسه عن ظلم العباد يقتضي قولاً وسَطاً بين قولي القدرية والجبرية، فليس ما كان من بني آدم ظلماً وقبيحاً يكون منه ظلماً وقبيحاً كما تقوله القدرية والمعتزلة ونحوهم، فإنّ ذلك تمثيل لله بخلقه، وقياس له عليهم، وهو الربّ الغني القادر، وهم العباد الفقراء المقهورون. وليس الظلم عبارة عن الممتنِع الذي لا يدخل تحت القدرة، كما يقوله من يقوله من المتكلّمين وغيرهم، يقولون: إنّه يمتنع أن يكون في الممكن المقدور ظلم، بل كلّ ما كان ممكناً فهو منه لو فعله عدلٌ، إذ الظلم لا يكون إلا من مأمور من غيره منهيّ، والله ليس كذلك، فإنّ قوله تعالى: {فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} [طه:112]، وقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، و {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخر:76]... يدلّ على نقيض هذا القول، ومنه قوله الذي رواه عنه رسوله: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)) فهذا يدلّ على شيئين:
أحدهما: أنه حرّم على نفسه الظلم، والممتنع لا يوصف بذلك.
الثاني: أنّه أخبر أنه حرّمه على نفسه، كما أخبر أنه كتب على نفسه الرحمة، وهذا يبطل احتجاجَهم بأن الظلم لا يكون إلا من مأمور منهيّ والله ليس كذلك، فيقال لهم: هو سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم، وإنما كتب على نفسه وحرم على نفسه ما هو قادر عليه، لا ما هو ممتنع عليه".
أخرجه مسلم في البر والصلة (2577).
شرح العقيدة الطحاوية (659-660).
ثالثاً: الإنسان مطبوع على الظلم:
قال تعالى: {إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34].
وقال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].
قال ابن القيم: "الإنسان خُلق في الأصل ظلوماً جهولاً، ولا ينفك عن الجهل والظلم إلا بأن يعلّمه الله ما ينفعه، ويلهِمه رشدَه، فمن أراد به خيراً علّمه ما ينفعه فخرج به عن الجهل، ونفعه بما علمه فخرج به عن الظلم، ومن لم يرد به خيراً أبقاه على أصل الخلقة.
فأصل كلّ خير هو العلم والعدل، وأصلّ كل شرّ هو الجهل والظلم.
وقد جعل الله سبحانه للعدل المأمور به حدًّا، فمن تجاوزه كان ظالماً معتدِياً، وله من الذمّ والعقوبة بحسب ظلمه وعدوانه".
إغاثة اللهفان (2/136، 137) باختصار، انظر: موسوعة نضرة النعيم (10/4925).(/1)
رابعاً: تحريم الظلم والتحذير منه:
في حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى أنه قال: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا...)).
قال النووي: "((فلا تظالموا)) هو بفتح التاء أي: لا تتظالموا، والمراد لا يظلم بعضكم بعضاً، وهذا توكيد لقوله تعالى: ((يا عبادي))، ((وجعلته بينكم محرماً)) وزيادة تغليظ في تحريمه".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه...)) الحديث.
قال الحافظ: "قوله: ((لا يظلمه)) هو خبر بمعنى الأمر، فإن ظلم المسلم للمسلم حرام".
قال أبو الليث السمرقندي: "ليس شيء من الذنوب أعظم من الظلم، لأن الذنب إذا كان بينك وبين الله تعالى فإنّ الله تعالى كريم يتجاوز عنك، فإذا كان الذنب بينك وبين العباد فلا حيلة لك سوى رضا الخصم، فينبغي للظالم أن يتوب من الظلم ويتحلّل من المظلوم في الدنيا، فإذا لم يقدر عليه فينبغي أن يستغفر له، ويدعو له فإنه يُرجى أن يحلّله بذلك".
أخرجه مسلم في البر والصلة (2577).
شرح صحيح مسلم (16/132).
أخرجه البخاري في المظالم، باب: لا يظلم المسلم المسلم (2442)، ومسلم في البر والصلة (2580).
فتح الباري (5/117).
تنبيه الغافلين (377).
خامساً: أنواع الظلم:
الظلم ثلاثة أنواع:
الأول: ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى، وأعظمه الكفر والشرك والنفاق، ولذلك قال: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، وإياه قصد بقوله: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].
والثاني: ظلم بينه وبين الناس، وإياه قصد بقوله: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ} إلى قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:40]، وبقوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى:42].
والثالث: ظلم بينه وبين نفسه، وإياه قصد بقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ} [فاطر:32]، وقوله: {ظَلَمْتُ نَفْسِى} [النمل:44].
وكل هذه الثلاثة في الحقيقة ظلم للنفس، فإن الإنسان أولَ ما يهمّ بالظلم فقد ظلم نفسه.
المفردات في غريب ألفاظ القرآن (315، 316). انظر: نضرة النعيم (10/4873).
سادساً: من يقع الظلم في حقّهم:
الذين يقع في حقّهم الظلم خمسة:
الأول: ربّ العزة سبحانه، وذلك حين يشرَك به، إذ يقتضي العدل معرفة توحيده وأحكامه.
الثاني: قوى النفس، ويكون ذلك بعدم إنصاف العقل من الهوى، ويقتضي العدل أن يجعل الإنسان هواه مستسلِماً لعقله، وقد قيل: أعدل الناس من أنصف عقله من هواه.
الثالث: أسلاف الإنسان، ويكون ذلك بترك وصاياهم وعدَم الدعاء لهم.
الرابع: من يعاملهم الإنسان من الأحياء، ويكون ذلك بالتقصير في أداء الحقوق، وعدم الإنصاف في المعاملات من بيع وشراء وجميع المعاوضات والإجارات.
الخامس: عامّة الناس إذا تولى الحكمَ بينهم، ويكون ذلك بالجور وعدم النصفة، وذلك في شأن الولاة والقضاة ومن إليهم.
نضرة النعيم (10/4873).
سابعاً: أنواع الظلمة:
قال الراغب الأصفهاني: "وقد قال بعضهم: الظالم ثلاثة:
الظالم الأعظم: وهو الذي لا يدخل تحت شريعة الله تعالى، وإياه عنى بقوله تعالى: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
والأوسط: وهو الذي لا يلتزِم حكمَ السلطان.
والأصغر: هو الذي يتعطّل عن المكاسب والأعمال، فيأخذ منافعَ الناس ولا يعطيهم منفعةً، ومن خرج عن تعاطي العدل بالطبع وبالخلق والتصنّع والرياء والرغبة والرهبة فقد انسلخ عن الإنسانية، ومتى صار أهل كلّ صقع على ذلك فتهارشوا وتغالبوا وأكل قويّهم ضعيفَهم ولم يبق فيهم أثر قبول لمن يمنعهم ويصدّهم عن الفساد فقد تقدّم أن عادة الله سبحانه في أمثالهم إهلاكُهم وإفناؤهم واستئصالهم عن آخرهم".
الذريعة إلى مكارم الشريعة (357-358).
ثامناً: أعظم الظلم:
قال تعالى: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت: {الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أيّنا لم يظلم نفسَه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم)).(/2)
قال ابن تيمية: "وهذا التوحيد الذي هو أصل الدين، وهو أعظم العدل، وضده وهو الشرك أعظم الظلم... وقد جاء عن غير واحد من السلف، وروي مرفوعاً: (الظلم ثلاثة دواوين: فديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يعبأ الله به شيئاً. فأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئاً فهو الشرك، فإن الله لا يغفر أن يشرك به. وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فهو ظلم العباد بعضهم بعضاً، فإن الله لا بد أن ينصف المظلوم من الظالم. وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فهو ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه) أي: مغفرة هذا الضرب ممكنة بدون رضا الخلق، فإن شاء عذّب هذا الظالم لنفسه، وإن شاء غفر له".
أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: قول الله عز وجل: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} (3360)، ومسلم في الإيمان (124) واللفظ له.
مجموع الفتاوى (18/161-162).
تاسعاً: أضرار الظلم وعواقبه:
1- الظلم ظلمات يوم القيامة:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الظلم ظلمات يوم القيامة)).
قال القاضي عياض: "قيل: ظاهره أنه ظلمات على صاحبه حتى لا يهتدي يوم القيامة سبيلاً حيث يسعى نور المؤمنين بين أيديهم وبأيمانهم. وقد تكون الظلمات هنا الشدائد، وقد تكون الظلمات ها هنا عبارة عن الاتكال بالعقوبات عليه، وقابل بهذه اللفظة قوله: ((الظلم)) لمجانسة الكلام".
وقال ابن الجوزي: "وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب، لو استنار بنور الهدى لاعتبر، فإذا سعى المتقون بنورهم الذي حصل لهم بسبب التقوى اكتنفت ظلمات الظلم الظالم حيث لا يغني عنه ظلمه شيئاً".
2- الظلم سبب هلاك الأمم:
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ} [يونس:13].
قال ابن سعدي: "يخبر تعالى أنه أهلك الأمم الماضية بظلمهم وكفرهم، بعدما جاءتهم البينات على أيدي الرسل تبين الحق فلم ينقادوا لها ولم يؤمنوا، فأحل بهم عقابه الذي لا يرد عن كل مجرم متجرئ على محارم الله، وهذه سننه في جميع الأمم".
3- قبول دعوة المظلوم على الظالم:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ((واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الولد على ولده)).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه استعمل مولى له ـ يدعى هنيء ـ على الحمى، فقال: (يا هنيء، اضمم جناحك عن المسلمين، واتق دعوة المسلمين، فإن دعوة المظلوم مستجابة).
قال ابن عثيمين: "فيه دليل على أن دعوة المظلوم مستجابة لقوله: ((فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)).
وفيه دليل على أنه يجب على الإنسان أن يتقي الظلم ويخاف من دعوة المظلوم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بذلك".
4- اللعن للظالمين:
قال تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].
قال ميمون بن مهران: إن الرجل يقرأ القرآن وهو يلعن نفسه، قيل له: وكيف يلعن نفسه؟! قال: يقول: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} وهو ظالم.
5- إملاء الله للظالم حتى يأخذه:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ: {وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ} [هود:102].
قال القرطبي: "يملي: يطيل في مدّته، ويصحّ بدنه، ويكثر ماله وولده ليكثر ظلمُه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} [آل عمران:128]، وهذا كما فعل الله بالظلمة من الأمم السالفة والقرون الخالية، حتى إذا عمّ ظلمهم وتكامل جرمهم أخذهم الله أخذة رابية، فلا ترى لهم من باقية، وذلك سنة الله في كلّ جبار عنيد".
6- حال الظالمين في الآخرة:
قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} [إبراهيم:42، 43].(/3)
قال ابن كثير: "يقول الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ} يا محمد {غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} أي: لا تسحبنه إذا أنظرهم وأجّلهم أنه غافلٌ عنهم مهمِل لهم لا يعاقبهم على صنعهم، بل هو يحصِي ذلك عليهم ويعدّه عليهم عداً، {إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ} أي: من شدّة الأهوال يوم القيامة. ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر فقال: {مُهْطِعِينَ} أي: مسرعين، {مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ} قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: رافعي رؤوسهم، {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي: أبصارهم ظاهرة شاخصة مديمون النظر لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة لما يحلّ بهم، عياذاً بالله العظيم من ذلك، ولهذا قال: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} أي: وقلوبهم خاوية خالية ليس فيها شيء لكثرة الوجل والخوف".
7- حرمان الفلاح:
قال تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21].
قال ابن سعدي: "فكلّ ظالم وإن تمتّع في الدنيا بما تمتّع به فنهايته فيه الاضمحلال والتلف".
8- حرمان الهداية والتوفيق:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50].
وطلب هداية التوفيق من الأدعية التي أوجبها الله علينا في أعظم مقام نقف فيه بين يدي الله عز وجل، وهو في الصلاة، حيث نقول في كل ركعة: {اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. فالظلم ـ أعاذنا الله منه ـ يكون سبباً لحرمان هداية التوفيق، وهذا يستلزم البعد عن مقامات الظلم حتى يستجيب الله دعاءنا في صلاتنا.
9- حرمان حبّ الله تعالى:
قال تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:40].
قال ابن سعدي: "أي: الذين يجنون على غيرهم ابتداء، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم".
10- حلول المصائب في الدنيا والعذاب في القبر:
قال تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الطور:47].
قال ابن سعدي: "لما ذكر الله عذاب الظالمين في القيامة أخبر أن لهم عذاباً دون عذاب يوم القيامة، وذلك شامل لعذاب الدنيا بالقتل والسبي والإخراج من الديار، ولعذاب البرزخ والقبر".
11- العذاب الأليم:
قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:42].
قال ابن سعدي: "أي: إنما تتوجه الحجة بالعقوبة الشرعية {عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ}، وهذا شامل للظلم والبغي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: موجع للقلوب والأبدان، بحسب ظلمهم وبغيهم".
12- خذلان الظالم عند الله تعالى:
قال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18].
قال ابن عثيمين: "أي: أنه يوم القيامة لا يجد الظالم حميماً، أي: صديقاً ينجيه من عذاب الله، ولا يجد شفيعاً يشفع له فيطاع، لأنه منبوذ بظلمه وغشمه وعدوانه".
وقال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [البقرة:270].
قال ابن عثيمين: "يعني: لا يجدون أنصاراً ينصرونهم ويخرجونهم من عذاب الله سبحانه".
أخرجه البخاري في المظالم (2447)، ومسلم في البر والصلة (2579).
إكمال المعلم (8/48).
فتح الباري (5/121).
تيسير الكريم الرحمن (359).
أخرجه البخاري في المظالم، باب: الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم (2448)، ومسلم في الإيمان (19) مطولاً.
أخرجه أحمد في المسند (2/523)، وأبو داود في الصلاة، باب: الدعاء بظهر الغيب (1536)، والترمذي في الدعوات، باب: ما ذكر في دعوة المسافر (3448)، وابن ماجه في الدعاء، باب: دعوة الوالد ودعوة المظلوم (3862)، وحسنه الترمذي، والألباني في السلسلة الصحيحة (596).
أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الجامع، باب: ما يتقى من دعوة المظلوم (1890)، والبخاري في الجهاد، باب: إذا أسلم قوم في دار الحرب (3059).
شرح رياض الصالحين (4/623).
تنبيه الغافلين (377).
أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك...} الآية (4686)، ومسلم في البر والصلة (2583).
المفهم (6/557).
تفسير القرآن العظيم (2/561).
تيسير الكريم الرحمن (274).
الظلم ظلمات يوم القيامة لناظم سلطان (ص 29).
تيسير الكريم الرحمن (760).
تيسير الكريم الرحمن (818).
تيسير الكريم الرحمن (760).
شرح رياض الصالحين (4/597).
شرح رياض الصالحين (4/597).
عشراً: نصرة المظلوم:
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً))، قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟! قال: ((تأخذ فوق يديه)).(/4)
قال الحافظ: "قوله: ((تأخذ فوق يده)) كنى به عن كفّه عن الظلم بالفعل إن لم يكفّ بالقول، وعبّر بالفوقية إشارة إلى الأخذ بالاستعلاء والقوة".
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانها عن سبع، فذكر عيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس وردَّ السلام ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإبرار المقسم.
قال الحافظ: "قوله: (باب نصر المظلوم) هو فرض كفاية، وهو عام في المظلومين وكذلك في الناصرين، ويتعين أحياناً على من له القدرة عليه وحده إذا لم يترتب على إنكاره مفسدة أشدّ من مفسدة المنكَر، فلو علم أو غلب على ظنه أنه لا يفيد سقط الوجوب وبقي أصل الاستحباب بالشرط المذكور، فلو تساوت المفسدتان تخيّر، وشرط الناصر أن يكون عالماً بكون الفعل ظلماً. ويقع النصر مع وقوع الظلم وهو حينئذ حقيقة، وقد يقع قبل وقوعه كمن أنقذ إنساناً من يد إنسان طالبه بمال ظلماً وهدّده إن لم يبذله، وقد يقع بعده وهو كثير".
أخرجه البخاري في المظالم، باب: أعن أخاك ظلماً أو مظلوماً (2444).
فتح الباري (5/118).
أخرجه البخاري في المظالم، باب: نصر المظلوم (2445)، ومسلم في اللباس والزينة (2066).
فتح الباري (5/119).
حادي عشر: الانتصار من الظلم والدعاء على الظالم:
قال تعالى: {لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} [النساء:148].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا يحبّ الله أن يدعوَ أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه وذلك قوله: {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} وإن صبر فهو خير له).
قال ابن سعدي: "يخبر تعالى أنه لا يحبّ الجهر بالسوء من القول، أي: يبغض ذلك ويمقته ويعاقب عليه، {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} أي: فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه، ويشتكي منه، ويجهر بالسوء لمن جهر له به، من غير أن يكذب عليه، ولا يزيد على مظلمته، ولا يتعدى بشتمه غير ظالمة".
وقال تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ} [الشورى:41].
قال ابن سعدي: "أي: انتصر ممن ظلمه بعد وقوع الظلم عليه، {فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ} أي: لا حرج عليهم في ذلك".
جامع البيان (4/339).
تيسير الكريم الرحمن (175).
تيسير الكريم الرحمن (706).
ثاني عشر: العفو عن الظالم:
قال تعالى: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوء فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} [النساء:149].
قال ابن جرير: "يعني بذلك: أن الله لم يزل ذا عفو على عباده، مع قدرته على عقابهم على معصيتهم إياه، فاعفوا أنتم أيضاً ـ أيها الناس ـ عمن أتى إليكم ظلماً، ولا تجهروا له بالسوء من القول وإن قدرتم على الإساءة إليه، كما يعفو عنكم ربكم مع قدرته على عقابكم، وأنتم تعصونه وتخالفون أمره".
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:39، 40].
قال إبراهيم النخعي: "كانوا يكرهون أن يُستذلّوا، فإذا قدروا عفوا".
قال ابن كثير في تفسير الآية: "فشرع العدل وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو".
وقال ابن سعدي: "وشرط الله في العفو والإصلاح صلاحهما لحال الجاني ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق بالعفو عنه وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأموراً به. وفي جعل أجر العافي على الله تهييج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه فليعف عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل".
جامع البيان (4/343).
صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب: الانتصار من الظالم (5/119) مع الفتح.
تفسير القرآن العظيم (4/128).
تيسير الكريم الرحمن (706).
ثالث عشر: التوبة من الظلم والتحلل من المظالم:
قال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء:110].
قال ابن سعدي: "أي: من تجرأ على المعاصي واقتحم على الإثم، ثم استغفر الله استغفاراً تاماً يستلزم الإقلاع والعزم على أن لا يعود، فهذا قد وعده مَن لا يخلف الميعاد بالمغفرة والرحمة، فيغفر له ما صدر منه من الذنب، ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب، ويعيد إليه ما تقدم من الأعمال الصالحة ويوفقه فيما يستقبله من عمره... ويفسر عمل السوء هنا بالظلم الذي يسوء الناس، وهو ظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم".(/5)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)).
قال الملا علي القاري: "قوله: ((قبل أن لا يكون دينار ولا درهم)) هو تعبير عن يوم القيامة، وفي التعبير به تنبيه على أنه يجب عليه أن يتحلل منه ولو ببذل الدينار والدرهم في بذل مظلمته، لأن أخذ الدينار والدرهم اليوم على التحلل أهون من أخذ الحسنات أو وضع السيئات على تقدير عدم التحلل".
تيسير الكريم الرحمن (200-201).
أخرجه البخاري في المظالم، باب: من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له (2449).
مرقاة المفاتيح (8/849).
رابع عشر: اقتصاص المظالم في الآخرة قبل دخول الجنة:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا خلص المؤمنون من النار حُبسوا بقنطرة بين الجنة والنار فيتقصون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نقّوا وهذِّبوا أذن لهم بدخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم بمسكنه في الجنة أدلّ بمسكنه كان في الدنيا)).
قال الحافظ: "قوله: ((فيتقاصّون)) بتشديد المهملة: يتفاعلون من القصاص، والمراد به تتبّع ما بينهم من المظالم وإسقاط بعضها ببعض".
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
أخرجه البخاري في المظالم، باب: قصاص المظالم (2440).
فتح الباري (5/115).(/6)
العادات السبع للزهرات الأكثر فاعلية
مفكرة الإسلام : من أنا؟!! أنا رفيقتك الدائمة.. أنا أكبر مساعديك أو أثقل أعبائك, سوف أدفعك نحو النجاح أو أجرك إلى الفشل.
يسهل عليك إدارتي، فقط إذا كنت حازمًا معي.. أرني بالضبط كيف ترغب في عمل شيء ما، وبعد دروس قليلة سوف أفعله لك تلقائيًا.. إنني خادمة جميع العظماء، وللأسف جميع الفاشلين أيضًا.
العظماء أنا من جعلتهم عظماء، والفاشلون أنا كنت سبب فشلهم.
أنا لست آلة، رغم أنني أعمل بنفس دقة الآلة، بالإضافة إلى ذكاء البشر. يمكنك أن تستخدمني لتحقيق نفع، ويمكنك أن تستخدمني في التدمير, هذا لا يشكل فارقًا بالنسبة لي.
خذني.. دربني.. كن حازمًا معي، وسوف أجلب لك العالم وأصفّه بين يديك.. كن متساهلاً معي وسوف أدمرك.
من أنا؟!!
زهرة.. ترى هل عرفتِ الإجابة؟! أسهل لك الأمر.
أن شيء جُعل به الصالحون في الجنة والعاصون في النار.
أنا.. العادة.. نعم، فعندما بحثنا في طريق الفاعلية وجدنا صخرة عظيمة تعترض الطريق وهي العادة, فلا يسهل على الإنسان أن يغير شيئًا قد تعوّد عليه إلا بعد جهد وعناء, فالذي يتعود على شيء يمكن أن يظل عليه حتى الموت، اسمعي قول ابن القيم رحمه الله: 'من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه', نعم أخيتي.. فعاداتك تظل معك حتى عند البعث.
معارك وهزيمة:
تخوض الكثيرات من الزهرات معارك نفسية, ومع الأسف تبدو الهزيمة في أصواتهن وعدم الأمل في النجاح والفاعلية وتغير العادة.
يقلن: هناك الكثير جدًا مما يجب إنجازه, ولكن لا يوجد وقت كافٍ، إن لديّ المدرسة والواجب والعمل والأصدقاء, والأسرة قبل كل شيء آخر.. إنني مرهقة ومجهدة تمامًا... النجدة!!
'لا أستطيع حفظ القرآن, وكلما حاولت فشلت, فأنا فاشلة ولن أفلح أبدًا'.
'كيف يمكنني أن أشعر بالرضا عن نفسي في الوقت الذي لا أستطيع أن أبدو فيه مساوية ومضارعة لمن هم مثلي؟! في كل مكان أذهب إليه أرى أن فتاة أخرى أكثر منى ذكاءً أو جمالاً أو أكثر شهرة، ولا أستطيع أن أمنع نفسي عن التفكير.. فقط لو أن لي مثل شعرها أو عينيها أو ملابسها أو شخصيتها أو شهرتها؛ لكنت قد شعرت بالسعادة.
فشلت في إرضاء والديّ.. أعرف أنني لا أعيش بالطريقة التي تنبغي.. كل تصرفاتي سيئة.. كل ما يمكنكِ أن تتخيله, 'ولكنني عندما أكون مع أصدقائي أستسلم وأفعل ما يفعله الآخرون وحسب'. لقد بدأت نظام تغذيه آخر أعتقد أنه الخامس هذا العام، إنني أرغب بحق في التغيير، ولكن ينقصني التنظيم للالتزام بالتغيير، في كل مرة أبدأ فيها نظامًا جديدًا يكون لديّ أمل ولكنه لوقت قصير فحسب قبل أن أنسق النظام الجديد، ومن ثم أشعر بشعور فظيع.
إنني متقلبة المزاج, وغالبًا ما أشعر بالاكتئاب، ولست أدري ماذا أفعل حيال ذلك؟!
تلك المشكلات حقيقية، ولا يمكنك أن تتجنب الحياة الحقيقية. لذا ما كنت لأحاول ذلك، وبدلاً من هذا سوف أمنحك مجموعة من الأدوات لمساعدتك على التعامل مع الحياة الحقيقية.. ما تلك الأدوات؟! إنها العادات السبع للفتيات الأكثر فعالية, أو دعينا نطلق عليها: السمات السبع التي يشترك في امتلاكها الفتيات السعداء الناجحون في جميع أنحاء العالم.
الآن.. لابد وأنك تتساءلين: ما هي تلك العادات؟! لذا فيمكنني كذلك أن أنهي حالة الحيرة والتساؤل التي تنتابك، وهاهي إليكِ متبوعة بشرح موجز:
العادات السبع:
• العادة [1]: كوني مبادرة.
تولي مسئولية حياتك.
• العادة [2]: حددي أهدافك ذهنيًا مسبقًا.
حددي رسالتك وأهدافك في الحياة.
• العادة [3]: صفي الأولويات أولاً.
حددي أولوياتك، وقومي بإنجاز أكثر الأمور أهمية أولاً.
• العادة [4]: فكري بأسلوب فوز – فوز.
امتلكي موقفَ [كل شخص يمكن أن يفوز].
• العادة [5]: اسعي أولاً إلى أن تفهمي، ثم أن تكوني مفهومة.
أنصتي إلى الناس بصدق وإخلاص.
• العادة [6]: تعاون.
اعملي مع الآخرين لتحقيق المزيد.
• العادة [7]: اشحذي المنشار.
جددي نفسك بانتظام.
تلاحظين أخيتي أن هذه العادات تبني إحداها الأخرى؛ فالعادات 1، 2، 3 تتعلق بالسيطرة على الذات، إننا ندعو ذلك [النصر الخاص], والعادات 4، 5، 6 تتناول العلاقات الشخصية والعمل الجماعي، ونحن ندعو ذلك [النصر العام]. عليكِ أولاً أن تحكمي السيطرة على ذاتك قبل أن يمكنك أن تصبحي لاعبة جيدة في فريق عمل، وهذا هو السبب في أن يأتي النصر الشخصي قبل النصر العام, والعادة الأخيرة العادة 7 هي أن تفهمي ما هو عكسها. لذا إليك نقائض العادات من الأولى إلى السابعة أو:
العادات السبع الأكثر قهرًا للفتيات:
• العادة [1]: تصرفاتك عبارة عن ردود أفعال.
فعدم حفظي للقرآن يرجع إلى المعلمة، وعدم نجاحي في الدارسة يرجع إلى المدرسة, تصرفاتي الخطأ ترجع لوالديّ فهما لم يهتما بي، علاقتي سيئة بجيراني لأنهم مزعجون.
• العادة [2]: لا تحددي أهدافك ذهنيًا مسبقًا.
لا تفكري في الغد ولا تضعي خطة ولا تحددي أهدافك.
• العادة [3]: صفي الأولويات أخيرًا.(/1)
أيًا كانت الأمور أكثر أهمية في حياتك، فلا تقومي بها حتى تكوني قد قضيتِ وقت الترفيه.
• العادة [4]: فكري بأسلوب فوز – خسارة.
تذكري دائمًا أنه إذا نجح الآخرون فأنت فاشلة.
• العادة [5]: اسعي أولاً إلى التحدث، ثم تظاهري بالإنصات.
• العادة [6]: لا تتعاوني.
إن العمل الجماعي ليس لذوي الذكاء المرتفع وليس له طائل.
• العادة [7]: أرهق نفسك واستنزف قواك.
ذاكري طوال الليل قبل الامتحان, ولا تأخذي قسطًا من الراحة.
وكما ترى فإن العادات المذكورة هي وصفات للكارثة والفشل, ومع ذلك فإن الكثير من ينغمس في ممارستها, وبناءً على هذا فلا عجب أن الحياة يمكن بحق أن تصبح رديئة وبغيضة فلا تنجحين في أي عمل.
ما هي العادات.. وما أثرها؟!
العادات هي أمور نقوم بها مرارًا وتكرارًا, ولكننا لا ندرك عاداتنا معظم الوقت.. إنها تعمل وتوجهنا أوتوماتيكيًا.
بعض العادات واجبة مثل:
• الطاعات والصلوات على وقتها.
• احترام الآخرين.
• طاعة الوالدين.
وبعضها بغيضة مثل:
• الوقوع في المعاصي والذنوب.
• السلبية.
• الشعور بالدونية والتبعية.
وبعضها ليس مهمًا بحق، مثل:
• الاستحمام بالليل.
• الأكل بالملعقة.
بناءً على ماهيتها، فإن عاداتنا إما أن تبنينا وإما أن تحطمنا.. إننا نصبح ما نفعله مرارًا وتكرارًا, ويعبر الكاتب صامويل سمايلز Samal Smiles عن ذلك بقوله:
• ازرع فكرة وسوف تحصد فعلاً.
• ازرع فعلاً وسوف تحصد عادة.
• ازرع عادة وسوف تحصد شخصية.
• ازرع شخصية وسوف تحصد مصيرًا.
وقد أكد هذا النبي صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من أربعة آلاف سنة في حديث بين فيه الصدق والكذب؛ قال صلى الله عليه وسلم: 'إن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا'.
فإذ صدق الفرد واعتاد الصدق أصبح شخصية صادقة, ومصيره الجنة.
أما إذا كذب الفرد واعتاد الكذب أصبح شخصية كاذبة, ومصيره النار.
وتأكدي أنك أقوى من عاداتك, ويمكنك أن تغيريها على سبيل المثال. حاولي ثني ذراعيك ثم حاولي ثنيهما في الاتجاه المعاكس, كيف يبدو هذا غريبًا للغاية؟! أليس كذلك؟! ولكن إذا ثنيتيهما في الاتجاه المعاكس لمدة ثلاثين يومًا متصلة، لن يبدو الأمر غريبًا... وهكذا.
عظماء في تاريخ التغير:
• سحرة فرعون:
انظري عندما أرسل لهم فرعون ليقيم منافسة بينهم وبين سيدنا موسى لإبطال نبوة سيدنا موسى, قال تعالى: {فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء: 41].
وعندما رأوا برهان نبوة سيدنا موسى تغيرت قلوبهم؛ فاستقر فيها الإيمان وطرد منها الكفر وتغيرت أفعالهم وأقوالهم وحياتهم, ليس هذا فحسب, بل تحملوا العذاب حتى الموت.
قال تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ [46] قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [47] رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [48] قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ [49] قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الشعراء:46: 50].
مصعب بن عمير الصحابي الجليل الذي تحولت حياته تحولاً تامًا بعد إسلامه. فكان في أهله مرفهًا ومنعمًا, لا يلبس إلا الحرير.. وبالطبع, الذي يتعود على ذلك يصعب عليه التغير, ولكن انظري عندما مات كانت لديه بُردة ليس له غيرها, فكفن فيها, فكانت إذا غطوا بها رأسه بدت قدماه وإذا غطوا بها قدميه بدت رأسه.. فكيف تحوّل؟!
العادات السبع يمكن أن تساعدك:
- التحكم في مسار حياتك. - ثقتك بنفسك.
- تحسين علاقاتك مع أصدقائك. - السعادة.
- اتخاذ قرارات أكثر ذكاء. - التغلب على العادات السيئة.
- التغلب على الإهمال وتضييع الوقت. - تحقيق التوازن بين دينكِ ودنياكِ.
ما كان لله دام واتصل:
قال هشام بن عبد الملك يصف الخليفة الراشد الخامس:
[[ما أحسب عمر بن عبد العزيز خطا خطوة إلا وله فيها نية]].
فاجعلي في هذا التغير نية لله تعالى, وقتها ثقي أن الله سوف يعينك على تغيير نفسك وشخصيتك, وسوف يدوم هذا الأمر, ولكن إذا كان التغيير لمجرد التغيير أو للدنيا فقد يحدث ولكنه سيكون وقتيًا وليس فيه بركة.
ومع استحضار نيتك تذكري قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَاَ} [العنكبوت: 69]
فلابد أخيتي من بذل الجهد حتى تحصدي الثمار, ولابد من التحلي بالصبر حتى لا يتملككِ اليأس في منتصف الطريق فترجعي.
فبالصبر والاجتهاد ووجود النية يأتي كل الخير.
وفي المقال التالي نتابع رحلة التغيير والفاعلية
بإذن الله تعالى(/2)
العادات السبع للزهرات الأكثر فاعلية [4] كوني مبادرة[1] أنتِ الملكة
مفكرة الإسلام : ها نحن أخيتي نلتقي ثانية في رحلتنا نحو اكتساب الشخصية الفعالة القوية، وبعد أن توصلنا في المرة الماضية إلى مركز الاهتمام الرئيسي الذي يحرك تصرفاتك في الحياة، وقمنا بتغييره إلى المركز الصحيح الذي ينبغي أن يجعله أي عاقل محورا لحياته ، ألا وهو مركز القيم والمبادئ الصحيحة التي أرستها شريعتنا الغراء ، وأقر بها أصحاب العقول السليمة ، فأنت الآن جاهزة لكي تقطعي أول خطوة لك على طريق الفاعلية،ألا وهي اكتساب عادة المبادرة والإيجابية
قال تعالى: [[فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ ]][البقرة : 148].
وقال أيضًا: [[وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]][آل عمران : 133].
والمبادرة أو المسارعة في الخيرات، أخيتي الغالية، تتضمن أمرين:
الأول: المبادرة أو المسارعة إلى الخير.
الثاني: إذا عزم على الأمر وهو خير؛ فليمض فيه ولا يتردد.
والمبادرة أخيتي، ضد التواني والكسل، وكم من إنسان توانى وكسل؛ ففاته خير كثير، ولهذا قال النبيصلي الله عليه وسلم [[ المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز ]].
حسنه الألباني في صحيح الجامع.
فربما إذا توانيتِ عن الشيء لم تقدري عليه بعد ذلك، إما بموت، أو مرض، أو فوات وقته، أو غير هذا، وقد جاء في الحديث عن النبي صلي الله عليه وسلم : [[ إذا أراد أحدكم الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، و تعرض الحاجة ]]. حسنه الألباني في صحيح الجامع.
وقال أيضًا صلي الله عليه وسلم عن أقوامًا في مؤخرة المسجد لم يسبقوا ولم يتقدموا: [[ لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله ]]. رواه مسلم.
والشخصية المبادرة أخيتي الحبيبة، هي الشخصية التي تتحمل أي مشكلة في طريقها، وتبادر بحلها، ولا تلقي اللوم على الآخرين، فتشعر أنها [[ملكة]] في حياتها، فهي التي تختار لنفسها، وهي التي تتحمل مشكلاتها.
فهل سمعت عن ملكة تلقي باللوم على الرعية، وتطالبهم بحل مشكلاتهم؟
بالطبع لا، وأنت ملكة.
يقول إبراهام لينكولن رئيس سابق للولايات المتحدة: [ الناس يشعرون بنفس قدر السعادة الذي يفكرون فيه ويختارونه بأنفسهم ].
يحكي شين كوفي [أحد كتاب التنمية البشرية] حكايته مع أبيه، والذي كان مؤلفا أيضًا في نفس المجال فيقول: عندما كنت أقول: [ إن مدرس علم الأحياء الجديد فاشل، إنني لن أتعلم منه أبدًا أي شيء، كان أبي يقول، لماذا لا تذهب إلى المدرس وتطرح عليه بعض الاقتراحات؟ أو غيِّر المدرس، أو أحضر مدرسًا خصوصيًا إذا استدعى الأمر، إذا لم تتعلم الأحياء يا شين فهذا خطؤك أنت، وليس خطأ مدرسك، لم يكن أبي يحررني من المشكلة كان دائمًا يواجهني، يحرص على أنني لا ألوم أي شخص آخر على الطريقة التي أتصرف بها.
كانت فكرة أبي بأني مسؤول عن حياتي مسئولية تامة، دواء من الصعب عليَّ -كمراهق- أن أبتلعه ولكن مع الإدراك مؤخرًا أرى الآن الحكمة وراء ما كان يفعله، لقد أرادني أن أتعلم أن هناك نمطان من الناس في هذا العالم، [المبادر والمستجيب] هؤلاء الذين يتحملون مسؤولية حياتهم، وهؤلاء الذين يوجهون اللوم للآخرين، هؤلاء الذين يصنعون الأحداث، وهؤلاء الذين تصنعهم الأحداث].
فالإنسان المبادر هو الذي يتصرف وفقا للمبادئ والقيم الصحيحة، فيفعل ما يجب فعله ، ويقول ما يجب قوله، ويتحمل مسئولية قراراته، وتصرفاته، لذلك فهو يختار حياته وفقا لما يريد في إطار من المبادئ الصحيحة، وأما المستجيب، الردفعلي، فهو الإنسان السلبي الذي يترك للآخرين والظروف مهمة تشكيل حياته، وتحديد تصرفاته وخياراته، فيلقي باللوم دائما على الأقدار والظروف والناس، معللا بذلك فشله وإخفاقه.
لقد سبق وتحدثنا في المقالات السابقة عن العادات السبع للزهرات الأكثر فاعلية، وها نحن أمام العادة الأولى [كوني مبادرة] والتي هي مفتاح جميع العادات الأخرى، هذا هو السبب وراء كونها الأولى، إن هذه العادة تقول لصاحبتها: [ أنتِ الملكة، أنتِ القوة، أنتِ قائدة حياتك، يمكنك اختيار مواقفك، أنتِ مسؤولة عن سعادتك أو تعاستك الشخصية ].
هل يمكنكِ حل تمارين الجبر قبل تعلم الجمع والطرح؟ لن يحدث هذا، نفس الشيء ينطبق على العادات السبع، لن تستطيعي ممارسة العادات 2، 3، 4، 5، 6، 7 قبل ممارسة العادة [1]؛ هذا لأنه لا شيء آخر يمكن أن يحدث حتى تشعري أنكِ مسؤولة عن، ومسيطرة على حياتكِ الخاصة.
هل يمكن فعلًا أن يحدث شيء بدون ذلك؟ ما رأيك....؟!
وقد أكد الله جل وعلا -أخيتي- في أكثر من موضع في كتابه الكريم عن ذلك، فانظري للآيات الكريمة التي تتحدث عن يوم القيامة وأحوال الناس فيها:(/1)
قال تعالى: [[فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ [33] يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [34] وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [35] وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [36] لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ]][عبس:33 : 37].
وقال أيضًا سبحانه وتعالى: [[يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ]] [الإنفطار : 19].
هذا أختي الحبيبة بالنسبة لمن حولك، وتحاولين أن تلقي عليهم بمسؤولية حياتك، واتخاذ قراراتك، وها قد سمعتي الله عز وجل قد برأهم من المسؤولية، وجعلك وحدك المسؤولة عن حياتك، ووحدكِ من سيحاسب عنها يوم القيامة.
قال تعالى: [[يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ ....]] [آل عمران : 30].
وقال أيضًا سبحانه جل وعلا:
[[فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]][آل عمران : 25].
وقال تعالى: [[يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [6] فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [7] وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ]] [الزلزلة : 8].
فسوف تقفي وحدك أمام الله عز وجل يوم القيامة.
وسوف تأخذين وحدك صحيفتك عند تطاير الصحف.
وسوف تمرين وحدك على الصراط.
فإذا كانت هذه الحقيقة وسوف تحاسَبي عن كل لحظة في حياتك، وعن كل قرار فيها، وعن كل موقف، وعن ...، وعن ...، فكيف تتركيها للآخرين يصنعونها لك؟
أخيتي... إذا كنت لا يشغلك مصيرك في الدنيا وتساوت عندك الاختيارات, فهل تغامري بمصيرك في الآخرة؟
مبادرة أم مستجيبة ...، الخيار لكِ:
لديكِ، ولدي، ولدينا جميعًا في كل يوم ما يقرب من [100] فرصة للاختيار أن تكوني مبادرة أو مستجيبة، في أي يوم معين الطقس سيء، لا تجدي أدواتكِ المدرسية، أحد صديقاتك تتحدث عنك من وراء ظهرك بما يسيء لك، استيقظتِ من نومك متأخرة، لن تلحقي بالمحاضرة الأولى، أخفقتِ في أحد الامتحانات، إذًا ما الذي ستفعلينه حيال كل ذلك؟ هل أنتِ تمارسين عادة الاستجابة برد فعل تجاه هذه الأنماط من الأمور اليومية.
لو أنكِ مبادرة؟ الخيار لك، إنه كذلك حقًا، لا يجب عليك أن تستجيبي بالطريقة التي يستجيب بها كل شخص آخر، أو بالطريقة التي يعتقد الناس أنه يجب أن تستجيبي بها.
كم مرة فعل فيك أخواتكِ الصغار أو زميلاتك المقالب المضحكة، المعروفة وسط الفتيات، والتي تثير غضبك؟ ترى ماذا ستفعلين؟ هل ستفقدين السيطرة على أعصابك وتسبينهم؟ أم ستصنعين فيهم نفس المقلب؟ أم لن يصدر منك أي رد فعل وتكوني مكتئبة طوال اليوم؟ أم أنك تجعلين الأمر يمر؟ وتضحكين عليه وتواصلي يومك، الخيار لكِ ....
الأشخاص المستجيبون أصحاب ردود أفعال يحددون خياراتهم بناء على الواقع، إنهم -أخيتي- مثل علبة الصودا الغازية الفوارة، إذا هزتهم الحياة قليلًا ينشأ الضغط وينفجر فجأة.
أما المبادرون فيحددون خيارتهم بناء على القيم والمبادئ، إنهم يفكرون قبل أن يتصرفوا، ويدركون أنه لا يمكنهم السيطرة على كل شيء يحدث لهم، ولكنهم يمكنهم السيطرة على تصرفاتهم حيال هذا الذي يحدث، وعلى عكس المستجيبين الممتلئين بالغازات الكربونية الفوارة، فإن المبادرين يشبهون الماء، هزيهم كما يحلو لكِ وانزعي غطاء الإناء؛ لا يحدث شيء، لا فوران، ولا فقاعات، ولا ضغط، إنهم هادئون، رابطوا الجأش، مسيطرون على أنفسهم، وعلى انفعالاتهم.
وهذا ما قصده نبينا الحبيب صلي الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: [[ ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ]]. متفق عليه.
وقال أيضًا صلي الله عليه وسلم في حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: [[ من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله سبحانه وتعالى على رؤوس الخلائق يوم القيامة، حتى يخيره من الحور العين ما شاء ]]. رواه أبو داود والترمذي، الحور العين بالنسبة للرجال، أما أنتِ أخيتي فلكِ ثوابكِ.
وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف نتخلص من الغضب، فقال عليه الصلاة والسلام: [[ إني لأعلم كلمة من قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ذهب منه ما يجد ]]. متفق عليه.
وخذي الآن أحد المشاهد التي يمكن أن تمري بها في حياتك، وسوف أقدم لك ردود أفعال الشخصية المستجيبة حيال هذا المشهد، وكذلك الشخصية المبادرة حيال نفس المشهد.
المشهد:
استمعت قَدَرًا إلى أفضل صديقة لديك تتحدث عنكِ بما يسيء إليك أمام مجموعة من الزميلات،وهي لا تعلم أنكِ تستمعين إلى الحوار منذ خمس دقائق فحسب، وقد كانت نفس هذه الصديقة تتحدث إليكِ بكلام لطيف جميل، فأنت الآن تشعرين أنتِ بالأذى والخيانة وعدم والوفاء وتُصدمين في صديقتك المفضلة.
خيارات المستجيبة:(/2)
توبخين صديقتك بالسب والشتم.
تدخلين في حالة من الاكتئاب العميق؛ لأنكِ تشعرين بمشاعر سيئة للغاية تجاه ما قالته عنكِ.
تقررين أنها كاذبة ومنافقة ذات وجهين، وتعاملينها معاملة جافة صامتة.
تنشرين عنها شائعات مغرضة سيئة، فلقد فعلت معكِ نفس الشيء.
خيارات المبادرة:
تستعيذين بالله من الشيطان الرجيم.
تذهبين إليها بكل أدب وتشكرينها أنها منحتكِ من حسناتها عندما فعلت ذلك.
تشرحين لها بهدوء شعورك تجاه هذا الأمر، وموقفها أمام الله عز وجل.
تتجاهلين الأمر وتمضي يومك بنفسية هادئة.
تسامحينها وتعطينها فرصة أخرى، فإنها إن أخطئت فأنت بشر ويمكن أيضًا أن تخطئي، فيمكنك أن تفعلي نفس الأمر، وإن لم تكوني تقصدين الضرر.
ترى أخيتي ، إن حدث لكِ هذا المشهد من ستكونين؟
مبادرة .... أم مستجيبة؟؟!!!وإذا أردت أن تحددي بدقة أكبر إلى أي الفريقين تنتمين، فعلينك أن تنصتي إلى لغتك الخاصة... وهو ما سنلتقي حوله في المقالة القادمة إن شاء الله .
المصادر:
كتاب العادات السبع للمراهقين الأكثر فاعلية، شين كوفي.
شرح رياض الصالحين، ابن عثيمين.
العادات السبع للزهرات الأكثر فاعلية ..[5] كوني مبادرة ... [2] أنصتي إلى لغتكِ
مفكرة الإسلام :
أخيتي الغالية: في المقالة السابقة تحدثنا عن الشخصية المبادرة الإيجابية، وكذلك عن هؤلاء المستجيبين السلبيين الذين تقتصر تصرفاتهم على مجرد ردود لأفعال الآخرين، وكان الفارق بينهما واضحًا، والآن ستعرفين فارقا هاما وبسيطا يمكنك به أن تميزي بين الشخصية الإيجابية الفعالة التي تنشدينها ، وبين الشخصية السلبية الردفعلية التي لا يصح أبدا أن تتسم بها زهرة مؤمنة مثلك، هذا الفارق يظهر من مجرد الاستماع إلى لغتك الخاصة أو لغة الآخرين،
فيمكنكِ عادة أن تستمعي إلى الاختلاف بين الأشخاص المبادرين وهؤلاء المستجيبين عن طريق نمط اللغة التي يستخدمونها:
لغة المستجيبة ... لغة المبادرة
سوف أحاول
هذه هي طريقتي في الحياة
ليس هناك ما يمكنني عمله
لا أستطيع
لقد أفسدتِ يومي ... سوف أفعل بإذن الله
يمكنني الأداء بشكل أفضل من ذلك إن شاء الله
دعينا نبحث جميع الخيارات
سوف أحاول
لن أسمح لحالتك المزاجية السيئة
بالانتقال إليَّّ وإفساد يومي
والمبادرة أو الإيجابية -أخيتي الحبيبة- صفة لازمة للمؤمن، فقد خلقنا الله تعالى، وجعل الدنيا لنا مضمارا للسباق، ولكن ليس سباقا للمتع والشهوات؛ بل سباق للحسنات والطاعات وإحراز التفوق والنجاح، فمن بادر وأحرز أكبر قدر من الحسنات؛ فهو الفائز بالطبع، أما من ترك نفسه لنفسه وظروفه وأحواله؛ فإن هذا لا يظفر بخير، فانظري إلى قوله تعالى: [[وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ]] [يوسف : 53].
وانظري أخيتي إلى الشيطان وهو يقسم لله عز وجل بأنه سيغوينا، قال تعالى: [[قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ]][ص : 82].
وبالطبع أخيتي تعرفين النتيجة: [[لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ]][ص : 85]
فكيف تسمحين لنفسك إذا أن تكوني تحت سيطرة هذه النفس الأمارة بالسوء، وغواية الشيطان الرجيم فهل تعتقدين حبيبتي الغالية، أنكِ إذا تركتِ نفسك لشخصية سلبية مستجيبة ، وزمام أمرك وقراراتك وحياتك في يد الآخرين، ... هل تفلحين؟ هل تحصلين على أي خير؟ هل تكونين من الصالحات؟ ما رأيك ...؟
نجوم المبادرة:
انظري أخيتي إلى هؤلاء النجوم، هؤلاء من فهموا الدين ومتطلباته؛ والدنيا وحاجاتها، فعرفوا أن شخصية المؤمن لا بد وأن تكون شخصية فعَّالة مبادرة، تصنع الأحداث وتغير الواقع، ولا تترك نفسها للظروف والأجواء.
لن أسرد لكِ قصصا، ولكنها بعض الجمل والعبارات التي تعبر عن مبادرة أصحابها، وسأترككِ أنت تحكمين، هذه العبارة تصدر من شخصيات مستجيبة أم من شخصيات مبادرة. - [الصحابي الجليل سعد بن معاذ رضي الله عنه]:
بالطبع تعرفين قصته، وكيف لا يعرفه الجميع وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه من اهتز لموته عرش الرحمن؟
ولكن أتدرين لماذا ذكرته؟ هل تعرفين أخيتي كم كان عُمر سعد بن معاذ رضي الله عنه عندما أسلم؟ كان عمره 30 عامًا، فكم كان عمره عندما مات واهتز لموته عرش الرحمن؟ كان عمره 37 عامًا.
سبع سنوات فقط في الإسلام ويهتز لموته عرش الرحمن، فماذا فعل في هذه السنين القليلة؟
مؤسس علم البصريات:
ابن الهيثم رحمه الله [965 – 1039 م]
اسمه محمد بن الحسين بن الهيثم، اشتهر في مصنفات الغربيين في العصور الوسطى باسم الهازن [AL-Hazan]، ولد في مدينة البصرة بالعراق، درس الطب والفلك والهندسة والرياضة والطبيعة.(/3)
أهم مؤلفاته في البصريات كتاب 'المناظر'، درس فيه نظرية انكسار الضوء وانعكاسه في البيئات الشفافة كالماء والهواء الذي بقي مرجعًا لهذا العلم في أوروبا حتى أواخر القرن السابع عشر، والذي كاد فيه أن يتوصل إلى المبدأ الطبيعي الذي يقوم عليه المجهر والمرصد [المنظار المكبر والمنظار المقرب].
له مؤلفات في المكتبة الأهلية في باريس ومخطوطات يعالج فيها فروعًا للهندسة، وله مخطوطات في مكتبتي ليدن وبودلي في أكسفورد، وله 43 كتابًا في الفلسفة والطبيعة و25 كتابًا في العلوم الرياضية و21 كتابًا في الهندسة و20 كتابًا في الفلك والحساب.
وقد ذكر أن مجموع ما وصل إلينا من كتبه قد بلغ مائتي كتاب، وكان في كل كتبه رحمه الله يفتتحها بهذه الجملة الرائعة: [أنا ما دامت لي الحياة فإني باذل جهدي وعقلي مستفرغ طاقتي في العلم لثلاثة أمور:
1ـ إفادة من يطلب العلم في حياتي وبعد مماتي.
2ـ ذخيرة لي في قبري ويوم حسابي.
3ـ رفعة لسلطان المسلمين
وكفى بهذا المشهد وضوحًا في عقل وفكر وقلب رائد البصريات؛ حجرًا يبني في نهضة الأمة ورسالة يحيا من أجلها.
ترى هل تعتقدين أن هذه النجوم التي امتلأت كتب الشرق و الغرب بأسمائهم كانوا مستجيبين ردفعليين؟ تصنعهم الأحداث والظروف؟ أم هم من صنعوا الأحداث وأحرزوا الإنجازات؟ هذه أخيتي شخصية المسلم الذي يحبه الله، فقام مبادرًا في كل شيء، في كل خير، في العبادة، والعلم، والدعوة، والعمل و في شتى مجالات الحياة، فهو دائما في المقدمة، ولا يرضى أبدا أن يعيش على هامش الحياة، في ذيل القافلة.
فيروس الضحية:
بعض الناس يعانون من فيروس معدٍ اسمه فيروس الضحية، ربما تكونين قد رأيتِ بعضهم بنفسك، وهؤلاء المصابون بفيروس الضحية يعتقدون أن كل شخص يُكِن لهم ضغينة في نفسه، وأن العالم يدين لهم بشيء ما،وكأن الجميع يتآمر عليهم ليوقعهم في براثن الفشل ،وليس هذا هو الواقع على الإطلاق ، ولكن المشكلة أن هؤلاء المصابين دائمًا ينظرون إلى أن المشكلة خارج أنفسهم وليست فيهم.
وهذه قصة لفتاة أمريكية ذات بشرة سوداء اسمها أدريانا، طالبة جامعة شيكاجو، نشأت في منزل مصاب بفيروس الضحية.
تقول: [أنا سوداء البشرة، وفخورة بذلك، لم يقف لون بشرتي حائلًا في طريقي، وأنا أتعلم الكثير من المعلمين البيض والسود على حد سواء، ولكن الأمر مختلف عن ذلك في منزلي، أمي التي تقود العائلة بعد وفاة أبي في الخمسين من عمرها، وهي من أصول جنوبية، وما زالت تتصرف كما لو أن العبودية قد ألغيت بالأمس فحسب، إنها ترى أن تقدمي في المدرسة عبارة عن تهديد، كما لو أنني أنضم إلى الرفاق البيض؛ ما زالت تستخدم لغة مثل : [البيض يمنعوننا من القيام بكذا وكذا، إنهم يعوقوننا ولن يسمحوا لنا بالقيام بشيء].
ودائمًا أرد على ذلك قائلة: [ليس هناك بيض يمنعوننا من القيام بأي شيء، أنت نفسك من تعوقين نفسك؛ لأنك تداومين على التفكير بنفس تلك الطريقة التي تفكرين بها، حتى إحدى صديقاتي تفكر من منطلق أن البيض يعوقوننا، فعندما كانت تحاول مؤخرًا شراء سيارة؛ ولم تتم الصفقة، علقت على ذلك بإحباط قائلة: البيض لا يريدوننا أن نحصل على أي شيء، ولم أتمالك نفسي، وواجهتها بمدى ما عليه هذا النمط من التفكير من سخافة، ولكن ذلك أدى بها فقط إلى أن تشعر بأنني أقف إلى جانب البيض، أما أنا فمازلت مقتنعة بأن الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يعوقك هو أنت نفسك]
وبالإضافة إلى شعورهم بأنهم ضحايا، فإن الأشخاص المستجيبين:
- يشعرون بالإهانة بدون سبب مقنع.
- يوجهون اللوم للآخرين.
- يتملكهم الغضب ويقولون أشياء يندمون عليها فيما بعد.
- يشجبون ويتذمرون ويشكون.
- ينتظرون ما يجري في حياتهم من أمور.
- يتغيرون فقط عندما يتحتم عليهم ذلك.
فحجة فشل هؤلاء دائمًا الآخرون، أتدرين أخيتي مثل هؤلاء الأناس كمثل من؟
إنهم كمثل من قال عنهم الله عز وجل: [[إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [166] وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ]] [البقرة : 167].
فهؤلاء من جعلوا أنفسهم ضحية آخرين، حتى ذهبوا بهم إلى النار؛(/4)
وهؤلاء أخيتي الغالية، من قال عز وجل عنهم: [[وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [31]قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ]] [سبأ : 32].
هؤلاء من علَّقوا تقصيرهم وخطأهم على غيرهم، وجعلوا الآخرين السبب وليس أنفسهم، أرأيتِ أيتها الحبيبة حال من يصاب بهذا الفيروس الخطير؟
فما أتعس تلك الشخصية السلبية التي أصابها فيروس الضحية، فترى الجميع ضدها، وتحمل المجتمع والآخرين مسئولية فشلها وتقصيرها، ولا تدري أنها بذلك قد وضعت أكبر عائق أمامها في طريق النجاح والفاعلية، وحرمت نفسها من أهم عوامل النجاح بعد توفيق الله تعالى، ألا وهو أن يتولى الإنسان مسئولية حياته، ويمسك بزمام المبادرة فيها،
وهو ما سنتابعه في المقالة القادمة بإذن الله .
المصادر:
كتاب العادات السبع للمراهقين الأكثر فاعلية شين كوفي
صناعة الهدف هشام مصطفى وآخرون
العادات السبع للزهرات الأكثر فاعلية [3] : تعرفي على مركز اهتمامك
مفكرة الإسلام: لازلنا أخيتي في رحلة البحث عن البوصلة الذاتية التي تُسيِّر حياتك، والتي تشكل الدافع الأكبر من وراء كل أفعالك وتصرفاتك، كخطوة أولى في طريق حيازة النجاح والفاعلية في هذه الحياة ، كما سبق وأن بينا في المقالة السابقة[1]، وقد استعرضنا معك في المرة القادمة بعضا من الاهتمامات الشائعة التي يجعلها معظم الناس مركزا لحياتهم، ونستكمل هذه المرة بقية هذه المراكز إن شاء الله تعالى.
4- أنا.... أنا.
كثير من الناس يجعل نفسه مركز اهتمامه الوحيد في هذه الدنيا؛ فيتمحور حول ذاته، ولا يهتم إلا بشخصه وبصحته وسعادته، ولا يصرف أي اهتمام لغيره إلا بمقدار ما يستفيد منه لذاته.
وهذا هو الإنسان الأناني، الذي يضع ذاته قبل أمته وأسرته وأصدقائه وأقرب الناس إليه، فهو يأخذ دائمًا ولا يعطي، وهذا الصنف من الناس فوق أنه يكسب كراهية كل من حوله، فإنه أيضًا لا يشعر أبدًا بسعادة حقيقية، فكثيرون لديهم فكرة خاطئة عن الشيء الذي يشكل السعادة الحقيقية، إن السعادة لا تتحقق عن طريق إشباع المرء لذاته أو إشباعه لرغباته، وإنما عن طريق إخلاصه لهدف قيم.
5-لو كان لأحد أن يسجد لأحد:
أخيتي .. فرض الله عز وجل طاعة الزوج، وبذلك جاءت أحاديث كثيرة عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم [ لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها] فواجب عليك طاعته إلا في معصية الله، ولكن لا يصح أبدا أن تجعلي زوجك هو المركز الرئيسي لحياتك بحيث تتبعيه في كل شيء سواء كان طاعة أو معصية.
فنجد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يضع لنا المنهج القويم في العلاقات العاطفية عامة والزوجية خاصة، فيقول: [[أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما]].
ويقول عمر رضي الله عنه: [لا يكن حبك كلفًا، ولا بغضك تلفًا]. .
وما نرفضه هنا هو التبعية العمياء، والتي تتجاوز حد الاعتدال الذي وضعه الشرع الحنيف، فهو الذي يلزم كل طرف بواجبات، ويجعل له حقوق بإزائها، بما يحفظ لكل من الزوجين شخصيته السوية، فالمطلوب إذًا أن يؤدي كل طرف واجباته، ويأخذ حقوقه، ويهتم بالطرف الآخر كما أمرته الشريعة، ولا يجعل من شريكه صنمًا يتعبد له في محرابه.
فالزواج مهما بلغت أهميته فإنه أيضًا وسيلة لتحقيق العفة والسعادة والاستقرار، ولكنه ليس بغاية يحيا من أجلها الإنسان.
[6] العائلة أو الأسرة:
بالطبع أخيتي إن الوقت التي تقضيه مع عائلتك هو من أكثر الأوقات التي تشعرين فيها بالراحة والسعادة، وهو من باب أولى صلة رحمك، ولكن لا تصلح العائلة أن تشكل اهتمامنا الوحيد والرئيسي، فمن الجميل أن تجلسي معهم وتتحدثي إليهم وتهتمي بهم، ولكن لا يصلح أن يمتلكوا كل أوقاتك، بحيث أنك تتنازلين عن بعض الأوليات لإرضائهم.
7- التركيز على الأصدقاء:
ليس هناك ما هو أفضل من الانتماء إلى مجموعة كبيرة من الأصدقاء، وخاصة أن يد الله مع الجماعة، وليس هناك ما هو أسوأ من الشعور بالوحدة والانعزال، وإن الأصدقاء مهمون جدا ولا شك، ولكن لا يجب أبدًا أن يصبحوا مركزًا لحياتك، لماذا؟ لأنهم بشر تتقلب مشاعرهم، ولديهم تقلبات مزاجية حادة، ثم إنهم ينتقلون أحيانًا للعيش في مكان آخر.(/5)
فصدقي أو لا تصدقي، سوف يأتي اليوم الذي لا يكون فيه الأصدقاء هم أعظم الأشياء في حياتك، فهذه احدى الزهرات تقول: أثناء دراستي كانت لدي مجموعة هائلة من الصديقات، كنا نفعل كل شيء معًا، لقد أحببتهم كثيرًا، وشعرت بأننا سنظل أصدقاء إلى الأبد، وبعد التخرج من المدرسة والانتقال شعرت بالدهشة من ندرة عدد المرات التي أصبحنا نرى فيها بعضنا الآخر، إننا نعيش متباعدات، وتلتهم أوقاتنا علاقات وصديقات ووظائف وعائلات ومشاغل جديدة، وكمراهقة ما كنت أبدًا أستطيع أن أفهم ذلك.
فالشرع أباح لك اتخاذ الصديقات، بل جعل الصداقة في مقام عال إذا كانت في الله، فإن للمتحابين في الله منابر يوم القيامة يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء، ويأتون في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله، ولكن كل هذا الثواب من أجل المنافع التي تأتي بها هذه العلاقة الإيمانية، حيث التعاون على البر والتقوى، ولكن ليست للأشخاص.
ولا تنسى أخيتي أن تحسني اختيار أصدقائك، فكما قرأتِ في مقالة سابقة إن الصاحب ساحب.
وبما أن الأصحاب ما هم إلا بشر عرضة للتغير والتقلب والانتقال، فلا يصلحوا أن تبنى عليهم حياتك بحيث تجعلين منهم مركز اهتمامك.
8- التركيز على الدراسة:
تركيز الحياة على الدراسة هو أمر شائع بين الشباب أكثر مما قد يظن البعض، إليك قصة تلك الفتاة التي تأسف على أن جعلت حياتها مركزة على الدراسة لفترة طويلة للغاية: [لقد كنت شديدة الطموح، وكانت حياتي مركزة تمامًا على المدرسة، لدرجة أنني لم أستمتع قط بسنوات شبابي، ولم يكن ذلك ضارًا لي فحسب، ولكنه كان نوعًا من الأنانية؛ لأن كل ما كنت أهتم به هو نفسي وإنجازاتي.
لقد كنت وأنا في الصف السابع أجتهد بشدة، وكأنني في سنة التخرج النهائية من الجامعة، لقد كنت أريد أن أصبح جراحة مخ فقط؛ لأن هذا كان هو أصعب شيء يمكنني أن أفكر في الوصول إليه، كنت استيقظ في السادسة من كل صباح كل يوم خلال أيام الدارسة كلها، ولا أذهب للنوم قبل الثانية من صباح اليوم التالي، وكل ذلك بغرض الإنجاز، لقد شعرت أن أساتذتي وزملائي كانوا يتوقعون ذلك مني، وكانوا دائمًا ما يصابون بالدهشة إذا لم أحصل على درجات ممتازة، وحاول والدي أن يحرراني من هذا الالتزام القاسي، ولكن آمالي الشخصية كانت تتفق مع توقعات أساتذتي وزملائي.
وإني أدرك الآن أنه كان باستطاعتي إنجاز ما أردته، بدون بذل هذا الجهد الفائق، وكان يمكنني أن أستمتع بوقت جيد في هذه الأثناء.
إن تعليمنا أمر حيوي هام لمستقبلنا، ويجب أن يكون له أولوية كبيرة، ولكن يجب أن نحذر من أن نجعله كل حياتنا كما تطالبنا قوائم النصائح التي يلقي بها عميد الكلية أو المدرسة، إن المراهقين الذين يركزون حياتهم على المدرسة غالبًا ما تسيطر عليهم فكرة تحقيق درجات ممتازة، لدرجة ينسون معها أن الغرض الأساسي من المدرسة هو التعلم، وليس حصد أعلى الدرجات، وكما أثبت آلاف المراهقين، يمكنك أن تؤدي بشكل رائع في المدرسة، وتحافظ- مع ذلك- على توازن صحيح جيد في الحياة عمومًا.
ونشكر الله على أن أهليتنا كبشر لا تقاس بالدرجات.
9- المبادئ .. لا تخفق أبدًا.
يقول المثل الصيني: [العقول الصغيرة تناقش الأشخاص، والعقول المتوسطة تناقش الأشياء، والعقول الكبيرة تناقش المبادئ]
إن الأمر الوحيد الذي يستحق أن يجعله الإنسان العظيم مركز اهتمامه الرئيس في هذه الحياة هو القيم والمبادئ القويمة، ذلك أن الذي يبني حياته على أساس القيم؛ إنما يبنيها على أساس متين، لا يمكن أن يتزعزع مهما تغيرت الظروف، حيث إن المبادئ القويمة لا تموت، فهي ثابتة لا تتغير بتغير الظروف والأحوال، ولا تتبدد كالأموال.
ولذلك فإن الشخص صاحب المبادئ يعيش حياة آمنة مستقرة غير مهددة بالضياع والتذبذب، بخلاف من يعيش من أجل أشياء صغيرة، كالمال أو الزوجة أو الأسرة أو الذات، وغير ذلك من الأهداف المتغيرة بتغير الظروف والأحوال.
ولا شك أن المبادئ القويمة إنما تحض الإنسان على الاهتمام بنفسه وأسرته وعمله، ولكن دون تفريط أو إفراط، ودون الإخلال بالمبادئ التي تشكل الاهتمام الأول للإنسان الحكيم العاقل.
إن اهتمام الإنسان بالمبادئ القويمة يحرره من الخوف والقلق؛ لأنه يستند إلى قاعدة صلبه لا تتوفر لمن يقدس الثروة أو الزوجة أو العمل، إنها تعطيه قوة تنبع من إيمانه بذاته وقدراته، فهو يستطيع أن يبدأ دائمًا من جديد، حتى لو فقد عمله أو ماله، كما يستطيع أن يتقبل الصدمات بصبر وعزيمة لو فقد عزيزًا عليه؛ فلا يقتله الحزن أو يفقد الأمل في الحياة مهما صادفه من عقبات.
تعرفي... على مركز اهتمامك:
وبعد أن استعرضت معكِ تلك المراكز الرئيسية التي يضعها أكثر الناس في بؤر اهتماماتهم؛ فتعالي أخيتي لأساعدكِ أكثر على تحديد مركز اهتمامك الرئيسي، وذلك بأن تجيبي معي على هذه الأسئلة الأربعة :_
1- من أين تستمدين الشعور بالأمان وتقدير الذات ؟(/6)
2- ما هي المعايير التي تحكم أفعالك؟ وعلى أساسها تتخذين قراراتكِ في الحياة ؟
3- كيف تقدرين الأمور وتحكمين عليها بالصواب أو الخطأ؟
4- ما الذي يحكم قدرتك على تنفيذ ما تقتنعين به من مبادئ وما تتخذينه من قرارات ؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة الأربعة هي التي ستحدد حقيقة مركز اهتمامك.
وبعد أن تحددي مركز اهتمامك، وتجعلي هذا المركز هو المبادئ والقيم التي حث عليها الشارع؛ يبدأ طريق التغير والفاعلية، فتابعينا في المقالات القادمة إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] راجعي مقالة : حددي بوصلتك الذاتية
المصادر:
1- العادات السبع لأكثر المراهقين فاعلية شين كوفي
2- صناعة الهدف هشام مصطفى وآخرون(/7)
العادات بين طرفين
تنتشر العادات والتقاليد والأوضاع الاجتماعية في كثير من المجتمعات، ويرتبط التمسك بها والإصرار عليها بمستوى ثقافة المجتمع وتعلمه، وبمدى الترابط الاجتماعي.
فالمجتمعات المتعلمة والمثقفة أكثر جرأة على تجاوز العادات والتخلي عنها من المجتمعات الأمية، وتزداد الجرأة على تجاوزها كذلك كلما قل الترابط الاجتماعي؛ فمجتمعات المدن أقل تمسكاً بها من المجتمعات القبلية والبوادي.
وحين تستقر هذه العادات والأوضاع لدى الناس ويتشربونها، يقع الخلط بينها وبين الأحكام الشرعية، وأبرز مثال على ذلك: العادات المرتبطة بقضية المرأة.
وقد يختلط الأمر على بعض الغيورين فيدافعون عن بعض العادات ويصرون على التمسك والتشبث بها ظناً منهم بأنها جزء من الدين، والدين إنما مرجعه الوحيين وما استنبط منهما.
وثمة طائفة أخرى يهمهم شأن الإسلام، ويسعون إلى جعله مقبولاً بين الآخرين، ومن ثم فهم يسعون إلى أن يبعدوا وينفوا عنه أي صفة من صفات القصور والنقص، حتى ولو كان معيار القصور والنقص هو ما يراه رجال الغرب الذي لا يدين بالإسلام.
ومن ثم يشن هؤلاء حرباً شعواء على العادات والأوضاع الاجتماعية لأنها ليست من الدين، بل هي - لدى هؤلاء - تشوه صفاءه ونقاءه.
وكما أن حرص الطرف الذي يصر على التمسك بها والتشبث غير كاف في سلامة موقفه، فحرص هذا الطرف أيضاً على إبراز الإسلام بصورة صافية لدى الآخرين ليس كاف هو الآخر.
والغلو ومجانبة الاعتدال في المواقف أياً كان اتجاهه أمر مذموم، فالوسطية سنة الله في خلقه وشرعه.
ومن ثم فالإصرار على التمسك بالعادات والأوضاع الاجتماعية التي لم يأت بها شرع منزل أمر مرفوض.
ويزداد الأمر رفضاً حين تخالف أدباً شرعياً، كالتعود على نمط من الضيافة يُدخل صاحبه في دائرة السرف، أو يُحمِّله فوق ما لا يطيق، ولو دعي للإنفاق في سبيل الله لما بذل عشر ذلك.
وفي المقابل فثمة عادات لم ينص الشرع على اعتبارها، لكنه مع ذلك لم ينص على إلغائها، فالأمر فيها ليس منكراً يغلظ فيه على صحابه ويشدد عليه، ما لم يعتقد ارتباطها بشرع الله وينزلها منزلته.
والعجب أن طائفة ممن يبالغ في الوقوف ضد هذه العادات لا يجد غضاضة فيما يسمى بالأعراف الدبلوماسية، والبروتوكولات الرسمية، وهي في الأغلب تقليد ليس له مبرر موضوعي، ومع ذلك يُلتزم بها ويحافظ عليها، بل يعاب على من يخالفها ويتجاوزها؟ فلم تكون عادات الساسة وبروتوكولاتهم جديرة بالاحترام دون عادات رجال القبائل؟
ومن العادات والأوضاع الاجتماعية ما يندرج في باب الشيم ومعالي النفوس، فهو مما ينبغي أن يحافظ عليه ويرعى؛ فالإخلال به لدى أهله مخل بالمروءة.
ومنها ما يندرج تحت مقاصد الشرع العامة، كمحافظة المرأة وحيائها، وتوقير الكبير وتقديره، فعدم نص الشرع عليه بخصوصه ليس مسوغاً للتخلي عنه بحجة كونه عادة.(/1)
العازب.. حياته قلق وجيبه فلس! مواقع أخرى*
الاستهلاك والإسراف..صفات لحياة كثير من العزاب
لماذا أعيش؟ ولأجل من أكد وأتعب؟... أسئلة تفرض نفسها على معظم العزاب الذين يأخذون من الزواج موقفا لسبب أو لآخر؛ ففي لحظة من اللحظات يجد العازب نفسه معزولا عن العالم، غارقا في مستنقع الوحدة.. ربما يخفف من حدتها شواغل الحياة أو البحث عن مجد مهني، لكنه ساعة المرض، حينما لا يجد من يربت على كتفه.. من يحزن لأجله.. من يدعو له بالشفاء.. يدرك أن قرار العزوبية لم يحالفه التوفيق فيه.. فليس على الدنيا أهنأ من ابتسامة طفل وهو يقول لك "بابا"، ولا أروع من نظرات الحب الدافئة من زوجة محبة ووفية لزوجها.
كل هذه المعطيات تجعل الكثير ممن يأخذون طريق العزوبية يندمون في النهاية، ويتعرضون لبعض المتاعب النفسية، فضلا عن الميل في الإسراف، ويقول بعض خبراء التنمية الاقتصادية إنها تقلل من معدلات التنمية لضياع وقت العازب وتشتت جهوده في الأدوار التي كان ينبغي للزوجة أن تلعبها في حياته كما في الأعمال المنزلية.
متاعب نفسية
"عمر" يبلغ من العمر 42 سنة، موظف، وفي نفس الوقت عازب، تجاعيد الزمن عرفت طريقها إلى وجهه مبكرا. يقول عن تجربته في العزوبية: "الإحساس بالوحدة لا يفهمه إلا العازب وحده؛ فمن الصعب جدا على أي رجل العيش بلا زوجة ولا أولاد. اضطرتني بعض الظروف إلى عدم الزواج، فكانت أيامي كلها رتيبة تتشابه فيما بينها؛ ففي النهار أنسى هذا الإحساس قليلا بسبب الانغماس في العمل، لكن في الليل -حين أقبع في البيت- ينتابني الشعور بالوحدة بقوة".
أما أحمد -40 سنة، معلم ابتدائي سابقا- فهو عازب آخر يرقد في مصحة نفسية ، بسبب ضغط القلق النفسي الذي يعاني منه طيلة سنوات عزوبيته الطويلة؛ وهو ما أدى إلى إصابته بعلامات الاكتئاب والانطوائية أيضا.
يقول أحمد عن هذه المرحلة الصعبة من حياته: "تسببت مشكلة خاصة بي في عزوفي عن الزواج وتفضيل حياة العزوبية، لكنني تجرعت المرارة؛ فقد كان هاجس موتي وحيدا منعزلا بلا زوجة ولا أولاد يسيطر على كياني، حتى أصبت بحالة خطيرة من الاكتئاب الحاد".
ويؤكد أساتذة علم النفس الاجتماعي، على أن العازب يعاني دائما من القلق، وشعوره المستمر بالاكتئاب يمكن أن يؤدي به إلى التفكير في الانتحار؛ ليتخلص من حياته التي يراها عبئا عليه، ويعمق هذا الأمر شعور الرجل العازب أحيانا بأنه أقل من الرجل المتزوج؛ حيث قد يعتريه إحساس وهمي بأنه غير مرغوب فيه اجتماعيا.
إن العازب غالبا ما يفسر تصرفات الغير على أنها رد فعل على عزوبيته أو أنها موقف سلبي منه، وهذا إحساس مضخم من طرفه، ينبغي عليه تجاوزه وإلا وقع في مشاكل نفسية عويصة، منها سلوكه نهج العنف ضد الآخر كتعويض نفسي داخلي على ما يختلج صدره من الشعور بأن شيئا ما ينقصه، أو نهجه حياة العزلة عن المجتمع، وكلها مصاعب نفسية جديرة بالعلاج الفوري حتى لا يتفاقم الوضع أكثر.
مضار اقتصادية
ترى بعض الآراء أن العزوبية قد تكون سببا من أسباب الفقر، ويسندون في ذلك على فرضية أن العازب يكون أكثر استهلاكا من المتزوج؛ نظرا لأنه لا يقيم -في مجمل الحالات- وزنا ولا قيمة للمال الذي يكسبه؛ فلا زوجة تنتظر راتبه في أول الشهر ولا أولاد يطالبونه بالكسوة والدواء والكتب وغيرها من المصاريف الكثيرة، فتجده ينفق يمنة ويسرة بلا رادع ولا حسيب.
ويزكي هذه إن الله تعالى جعل من الزواج طريقا إلى الغنى؛ لأنه يمد المتزوج بالأسباب التي تعينه على تجاوز الفقر، مصداقا لقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
وهناك من يقولون إن العزوبية لا تؤثر على الوضع الاقتصادي للفرد العازب فقط، بل تنعكس على برامج التنمية في المجتمع برمته، على خلفية أنه إذا كان الزواج عاملا من عوامل النشاط الاجتماعي، وبذل الجهد في تقوية ملكات ومواهب الرجل، بفضل انطلاقه الحيوي للقيام بمسئولياته حق القيام والإبداع فيها، فإن العزوبية قد تعطل من حماسة هذا الانطلاق.
وفي هذا يقول الباحثون في اقتصاديات التنمية: "من ثمار الزواج الذي هو شراكة نفسية واجتماعية واقتصادية بين الرجل والمرأة أن لكل واحد منهما وظيفة اقتصادية معينة، يقوم بها داخل المنزل وخارجه، لكن العازب يقوم بوظيفته كرجل، ثم بوظيفة المرأة داخل المنزل؛ وهو ما يشتت جهده ويضيع عليه التركيز في عمله أو وظيفته أو حرفته؛ فلا يجد الجو الصالح لتجديد نشاطه والنهوض بأعماله، وهذا يؤثر قطعا على العملية التنموية برمتها". ويبقى في النهاية أن هذه الأمور كلها نسبية وتختلف من شخص لآخر.
الزواج يكسب(/1)
توصل الباحثون في جامعة "وورويك" البريطانية إلى أن الرجال والنساء المتزوجين يتمتعون بصحة أفضل من نظرائهم العازبين. ويعتقد الباحثون أن السبب في ذلك يرجع جزئيا إلى الدعم الاجتماعي والعاطفي لوجود زوج أو زوجة، أو لأن العازبين من الجنسين يعيشون حياة غير صحية، ولا أحد يهتم بهم أو بصحتهم.
كما أكدوا على أن الزواج يزيد من استقرار الحياة، ويخفف التوتر والمشكلات المصاحبة له، كما أنه يشجع على اتباع أنماط الحياة الصحية المفيدة، وتجنب السلوكيات الضارة كشرب الخمر واستخدام المخدرات، وأن وجود شريك الحياة يؤمن الراحة والاطمئنان والعناية الصحية للشخص، وخاصة في أوقات المرض.
وأسفرت الدراسة عن وجود علاقة بين الزواج وطول عمر الرجل؛ فالرجل المتزوج يزيد عمره في المتوسط 3 أعوام عن قرينه الأعزب.
---
بقلم أبو رحاب السوسي عن موقع اسلام اونلاين(/2)
العازب.. حياته قلق وجيبه فلس!
مواقع أخرى*
الاستهلاك والإسراف..صفات لحياة كثير من العزاب
لماذا أعيش؟ ولأجل من أكد وأتعب؟... أسئلة تفرض نفسها على معظم العزاب الذين يأخذون من الزواج موقفا لسبب أو لآخر؛ ففي لحظة من اللحظات يجد العازب نفسه معزولا عن العالم، غارقا في مستنقع الوحدة.. ربما يخفف من حدتها شواغل الحياة أو البحث عن مجد مهني، لكنه ساعة المرض، حينما لا يجد من يربت على كتفه.. من يحزن لأجله.. من يدعو له بالشفاء.. يدرك أن قرار العزوبية لم يحالفه التوفيق فيه.. فليس على الدنيا أهنأ من ابتسامة طفل وهو يقول لك "بابا"، ولا أروع من نظرات الحب الدافئة من زوجة محبة ووفية لزوجها.
كل هذه المعطيات تجعل الكثير ممن يأخذون طريق العزوبية يندمون في النهاية، ويتعرضون لبعض المتاعب النفسية، فضلا عن الميل في الإسراف، ويقول بعض خبراء التنمية الاقتصادية إنها تقلل من معدلات التنمية لضياع وقت العازب وتشتت جهوده في الأدوار التي كان ينبغي للزوجة أن تلعبها في حياته كما في الأعمال المنزلية.
متاعب نفسية
"عمر" يبلغ من العمر 42 سنة، موظف، وفي نفس الوقت عازب، تجاعيد الزمن عرفت طريقها إلى وجهه مبكرا. يقول عن تجربته في العزوبية: "الإحساس بالوحدة لا يفهمه إلا العازب وحده؛ فمن الصعب جدا على أي رجل العيش بلا زوجة ولا أولاد. اضطرتني بعض الظروف إلى عدم الزواج، فكانت أيامي كلها رتيبة تتشابه فيما بينها؛ ففي النهار أنسى هذا الإحساس قليلا بسبب الانغماس في العمل، لكن في الليل -حين أقبع في البيت- ينتابني الشعور بالوحدة بقوة".
أما أحمد -40 سنة، معلم ابتدائي سابقا- فهو عازب آخر يرقد في مصحة نفسية ، بسبب ضغط القلق النفسي الذي يعاني منه طيلة سنوات عزوبيته الطويلة؛ وهو ما أدى إلى إصابته بعلامات الاكتئاب والانطوائية أيضا.
يقول أحمد عن هذه المرحلة الصعبة من حياته: "تسببت مشكلة خاصة بي في عزوفي عن الزواج وتفضيل حياة العزوبية، لكنني تجرعت المرارة؛ فقد كان هاجس موتي وحيدا منعزلا بلا زوجة ولا أولاد يسيطر على كياني، حتى أصبت بحالة خطيرة من الاكتئاب الحاد".
ويؤكد أساتذة علم النفس الاجتماعي، على أن العازب يعاني دائما من القلق، وشعوره المستمر بالاكتئاب يمكن أن يؤدي به إلى التفكير في الانتحار؛ ليتخلص من حياته التي يراها عبئا عليه، ويعمق هذا الأمر شعور الرجل العازب أحيانا بأنه أقل من الرجل المتزوج؛ حيث قد يعتريه إحساس وهمي بأنه غير مرغوب فيه اجتماعيا.
إن العازب غالبا ما يفسر تصرفات الغير على أنها رد فعل على عزوبيته أو أنها موقف سلبي منه، وهذا إحساس مضخم من طرفه، ينبغي عليه تجاوزه وإلا وقع في مشاكل نفسية عويصة، منها سلوكه نهج العنف ضد الآخر كتعويض نفسي داخلي على ما يختلج صدره من الشعور بأن شيئا ما ينقصه، أو نهجه حياة العزلة عن المجتمع، وكلها مصاعب نفسية جديرة بالعلاج الفوري حتى لا يتفاقم الوضع أكثر.
مضار اقتصادية
ترى بعض الآراء أن العزوبية قد تكون سببا من أسباب الفقر، ويسندون في ذلك على فرضية أن العازب يكون أكثر استهلاكا من المتزوج؛ نظرا لأنه لا يقيم -في مجمل الحالات- وزنا ولا قيمة للمال الذي يكسبه؛ فلا زوجة تنتظر راتبه في أول الشهر ولا أولاد يطالبونه بالكسوة والدواء والكتب وغيرها من المصاريف الكثيرة، فتجده ينفق يمنة ويسرة بلا رادع ولا حسيب.
ويزكي هذه إن الله تعالى جعل من الزواج طريقا إلى الغنى؛ لأنه يمد المتزوج بالأسباب التي تعينه على تجاوز الفقر، مصداقا لقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
وهناك من يقولون إن العزوبية لا تؤثر على الوضع الاقتصادي للفرد العازب فقط، بل تنعكس على برامج التنمية في المجتمع برمته، على خلفية أنه إذا كان الزواج عاملا من عوامل النشاط الاجتماعي، وبذل الجهد في تقوية ملكات ومواهب الرجل، بفضل انطلاقه الحيوي للقيام بمسئولياته حق القيام والإبداع فيها، فإن العزوبية قد تعطل من حماسة هذا الانطلاق.
وفي هذا يقول الباحثون في اقتصاديات التنمية: "من ثمار الزواج الذي هو شراكة نفسية واجتماعية واقتصادية بين الرجل والمرأة أن لكل واحد منهما وظيفة اقتصادية معينة، يقوم بها داخل المنزل وخارجه، لكن العازب يقوم بوظيفته كرجل، ثم بوظيفة المرأة داخل المنزل؛ وهو ما يشتت جهده ويضيع عليه التركيز في عمله أو وظيفته أو حرفته؛ فلا يجد الجو الصالح لتجديد نشاطه والنهوض بأعماله، وهذا يؤثر قطعا على العملية التنموية برمتها". ويبقى في النهاية أن هذه الأمور كلها نسبية وتختلف من شخص لآخر.
الزواج يكسب(/1)
توصل الباحثون في جامعة "وورويك" البريطانية إلى أن الرجال والنساء المتزوجين يتمتعون بصحة أفضل من نظرائهم العازبين. ويعتقد الباحثون أن السبب في ذلك يرجع جزئيا إلى الدعم الاجتماعي والعاطفي لوجود زوج أو زوجة، أو لأن العازبين من الجنسين يعيشون حياة غير صحية، ولا أحد يهتم بهم أو بصحتهم.
كما أكدوا على أن الزواج يزيد من استقرار الحياة، ويخفف التوتر والمشكلات المصاحبة له، كما أنه يشجع على اتباع أنماط الحياة الصحية المفيدة، وتجنب السلوكيات الضارة كشرب الخمر واستخدام المخدرات، وأن وجود شريك الحياة يؤمن الراحة والاطمئنان والعناية الصحية للشخص، وخاصة في أوقات المرض.
وأسفرت الدراسة عن وجود علاقة بين الزواج وطول عمر الرجل؛ فالرجل المتزوج يزيد عمره في المتوسط 3 أعوام عن قرينه الأعزب.
---
بقلم أبو رحاب السوسي عن موقع اسلام اونلاين(/2)
العاشر
صباح الضامن
sosodamen@hotmail.com
يا سموات تمتد بزرقة تتخافت بجانبها الألوان
يا أرض يا سبع وسبع وغيب وحضور ممتد في قلوب وأعمار وأزمان
يا جبال شامخات راسيات
ورفضت ِ
ورفضتِ أمانة أسندت إليك
أو ترفض يا إتسان
إحمل أمانتك واغد داعيا
إحمل أمانتك مثاقلا أو تخفف كسحاب قرب من قلبك المسبح المنطلق حبورا
إحمل أمانتك فما أنت بجبار في الأرض وما كنت
أيا نبي الله
يا من حملت أمانتك بعزم
أخرج منها وترقب
أخرج من قريتك الظالم فرعونها وهاماناتها يأتمرون على حِملك
انطلق وترقب وكأني أراك وقد ضربت بعصاك سبيلك تدعو أن يهديك ربك سواء السبيل
وكأني أراك وقد عزمت حمل أمانتك بأمانة
وها هو الأمل الأبيض يزهو بارقا في نظرك فما خرجت خائفا من شر أسود ولكنك خفت
على ما يحمله قلبك الأمين
و في باحات قوتك وعزمك
وعند رونق الماء
والكل غاديا إلى شربة ومنسرحا بنظره لما لديه غير آبه لرقة تغدو بين الصفوف حائرة
وجود الماء لا يعطيها فهو للرعاء الأقوياء
وعند رونقه يأخذ منهما ويسقي لهما
فيعطياه ظلا توارف فيه أو لم يسق لمن يحتاج فسيسقى يوم العوز
بسم الله الرحمن الرحيم
(( ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير * فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ))
وكانت أمانته القوية الحيية المحتاجة لقوة الله فما استعدى لما سقى وطلب ريا لجفافه بل
وارى إلى الظل يشكو الله فقره إليه ويحمده ما أعطاه يوم خدم بقوته
ولتلتق الأمانتان
أمانته التي حملها في عزمه قويا
أمانة حياء من الله لم يتعد فيها ولا استباح ضعفا ولا تجرأ على انسياب في ساحاته المفتوحة
فهو المروض بذراعه وعقله لفساد وظلم فكيف يظلم ويفسد
وهو الذي إن استنصره الضعف صرعه بالحق القوي
التقت تلك الأمانة عنده
بأمانتها لما أتته تمشي على استحياء
أمانة خجل
حفظت عفافها
رقتها
فأعطيت حرية لما بقوة حافظت على حيائها
(( فجاءته إحداهما تمشي على استحياء ))
وأعطت مثلا
لحرية تكسر بها قيد الشهوة لأن بها طهرا يغلب موج الفتنة فعلت واستحقت رفقة نبي الله
القوي الحيي
وهي الحرة الخجولة
ليلتقيا ويعلمانا أن القوة أمانة
والعفة أمانة
والحياء أمانة
وهذه هي السيماء الإيمانية لمن أعطوا الأمانة ليحملوها أقوياء حيين بهيبة مؤثرة ومفصحة
ليكونا أستاذان يعلمان كيف يكون التعامل بين الجنسين
وكيف تسمو الروح لما تحمل أمانة خلقها بحق(/1)
العاطفة بين الإهمال والإغراق
المحتويات
مدخل
إهمال العاطفة
الإغراق في العاطفة
الصورة الأولى
الصورة الثانية: كون العاطفة هي المحرك للعمل
الصورة الثالثة: العلاقات العاطفية
الصورة الرابعة: التربية العاطفية
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد ...
مدخل
حديثنا هذه المرة حديث ذو شقين : ـ
حديث حول الإهمال، وحديث حول الإغراق .
وقبل أن ندخل في موضوعنا، لابد لنا أن نقف وقفة سريعة عجلى حول ما قاله بعض أئمة اللغة حول معنى هذا المصطلح الذي شاع حول حديثنا وصار على لسان الصغير والكبير .
يقول ابن فارس " العَطفُ أصل صحيح، يدل على انثناءٍ واعوجَاج، يُقال عَطفتُ الشَيء إذا أَمَلتَه، وانعَطَفَ الشَيءُ إذا انعاَج، وتَعطَّفَ بالرحمة تعطُّفا، والرجل يَعطِفُ الوسادة يُثنيها، ويقال للجانبين العطفَان " .
وقال في اللسان " وتَعطَّف عليه أي وصلَه وبرَّه، وتَعطَّف على رَحِمِه رقَّ لها، والعَاطِفَة الرحِم صفة غالية، ورجل عَاطِف وعَطَوف عائد بِفَضْله حَسَن الخُلق " .
قال الليث " العَطَّاف الرجل الحَسَن الخُلُق العَطُوف على الناس بِفَضلِه وعَطَفتُ عليه اَشْفَقْتُ" .
وهكذا نرى أن " المعنى اللغوي " لا يبتعد كثيراً عما يُطلق عليه بالمصطلح المعاصر " العاطفة " وإن كانت أخذت مدًى أبعد من ذلك .
فحين تُطلق العاطفة فإنها " تطلق على تلك المشاعر المتدفقة السيَّالة التي تدفع الإنسان لاتخاذ مواقف من القبول والرفض، أو الحب أو الكره، تُطلق على تلك الحماسة التي تتوقَّد في نفس صاحبها، لقبول هذا العمل أو رفضه " .
وصار الحديث كثيراً حول العاطفة حديث الرفض، وحديث الانتقاد، فصار يكفي أن تجرح فلاناً من الناس أن تصفه بأنه " صاحب عاطفة " أو بأنه " صاحب حماس " أو كما يُقال " متحمِّس "، صارت كلمة جرح مطلقاً، وهذا يعني أن فاقد العاطفة وفاقد الحماس هو الرجل الأولى بالتعديل .
إننا ومع شعورنا " بإغراق " بل ومزيد من الإغراق في العاطفة ومع شعورنا بأن ثمَّة مواقف تدفع إليها العواطف كثيراً لابد أن نحجِّمها ونحُد منها، إننا مع ذلك ينبغي ألاَّ نهمل دور العاطفة وألاَّ نقع في خطيئة الإهمال لها .
إهمال العاطفة
إن الدعوة إلى إهمال العاطفة كما قلنا، دعوة بحاجة إلى مراجعة وإلى إعادة النظر لأمور منها:
أولاً: أن العاطفة خلقها الله في الإنسان أصلاً، فقد خلق الله الإنسان يحمل مشاعر وعواطف من الحب والكره، والقبول والرفض والحماس .
فالدعوة إلى إلغائها دعوة إلى تغيير خلق الله، والدعوة إلى إلغائها أنها خُلقت عبثاً، وحاشى لله عز وجل أن يكون في خلقه عبث، فهو سبحانه ما ركَّبَ هذه العاطفة في نفس الإنسان إلا لحكمة، ولمصلحة لابد أن تتحقق من ورائها .
ثانياً : يتفق العقلاء من الناس على وصف فاقد العاطفة بأنه رجل شاذ؛ فالرجل الذي لا تتحرك مشاعره، فلا يرقُّ قلبه لمشهد يثير الرقة والعطف، ولا يملك مشاعر الحب تجاه الآخرين أو مشاعر الرفض تجاه من يُرفَض، الرجل الذي لا يمكن أن تتوقَّد في قلبه حماسة أيًّا كان الموقف، لاشك أنه رجل شاذ فاقد للإحساس والعواطف .
بل إن الناس يرون أن الرجل الذي لا يحس بالجمال، ولايتذوق الجمال في هذه الدنيا، رجل شاذ، فهو وصف مخالف للفطرة السوية، ولهذا ( حين جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورآه يقبِّل صغيراً، قال :تقبِّلون صغاركم ؟! قال صلى الله عليه وسلم "أوأملك أن نزع الله من قلبك الرحمة ؟").
إنه رجل شاذ بعواطفه، إنه رجل كما قال صلى الله عليه وسلم:"قد نُزعت من قلبه الرحمة" فصار تصرفه وصار سلوكه، سلوكاً غير مرضيٍّ، وسلوكاً مرفوضاً، يستنكر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الصحابي رضوان الله عليه، أن لا يملك في قلبه الرحمة، والرقة والعاطفة تجاه هؤلاء الصبية الصغار، فصار لا يُقبِّل أحداً منهم .
ثالثاً : حين نقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم نجد مواقف شتى تدل على هذا المعنى وسواءً سميناها عاطفةً أو لم نسمها كذلك فلا مُشاحة في الإصطلاح، ولا يجوز أبداً أن نقيم جدلاً وحرباً حول المصطلحات والألفاظ، سمها ما شئت المهم إنها تعني الذي نريد، وإن اصطلحنا نحن على تسميتها بالعاطفة فإن هذا لايعني أن وصف العاطفة لفظ تهمة أصلاً ولفظ جرح، يتردد المرء من أن يصف به فلاناً من الناس فضلاً أن يصف به محمداً صلى الله عليه وسلم .
وإن اخترت أن تبحث له عن لفظ غير هذا فأنت وما تريد لكنا نحن نريد المعنى ولسنا نقيم جدلاً حول هذا المصطلح وحول هذا اللفظ .(/1)
النبي صلى الله عليه وسلم كان يملك هذا الشعور: يملك هذا الشعور مع زوجاته، ففي حجة الوداع تأتي زوجه عائشة رضي الله عنها وقد حاضت ولم يتيسر لها أن تأتي بعمرة قبل الحج فتأتي النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: يذهب الناس بحج وعمرة وأذهب بحج؟ ثم تلحُّ عليه صلى الله عليه وسلم، يقول جابر: وكان رسول الله عليه وسلم إذا هوت أمراً تابعها عليه، ويواعدها صلى الله عليه وسلم المحصَّب أو الأبطح ثم تذهب مع أخيها فتعتمر فتأتي إليه صلى الله عليه وسلم فيُوقظ صلى الله عليه وسلم ثم يقول "أفرغتم؟" فتقول: نعم؛ فيؤذن أصحابه بالرحيل .
وفي موقف آخر أبعد من هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزاة ففقدت عقداً لها رضي الله عنها وحبس النبي صلى الله عليه وسلم الناس يبحثون عن هذا العقد، ويأتي أبوبكر الصديق رضي الله عنه إليها والنبي صلى الله عليه وسلم نائم على حجرها فيقول : ( حبستِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء ؟! ) قالت: ( فما يمنعني أن أتحرك إلا مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ) حتى آيسوا من هذا العقد فلما أقاموا البعير وجدوه تحته !!، وتدركهم الصلاة وليسوا على ماء، فتنزل آية التيمم فيقول أسيد رضي الله عنه: ( ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر ) .
إن النبي صلى الله عليه وسلم يحبس الجيش كله، ويبقيه يبحث عن هذا العقد، والقضية ليست قضية رجل يتعلق بالدنيا حاش وكلا، إنما هي مراعاة لمشاعر تلك المرأة، فيحبس النبي صلى الله عليه وسلم الجيش ويحبس الناس، ويأتي أبو بكر الصديق رضي الله عنه غاضباً إلى عائشة لأنها حبست الناس ويبقيهم صلى الله عليه وسلم حتى أدركتهم الصلاة وليسوا على ماء وليس معهم ماء .
وتأتي رضي الله عنها تنظر الى أهل الحبشة وهم يلعبون في المسجد ويقف صلى الله عليه وسلم يسترها وهي جارية لا يمل حتى تمل اللعب وتنصرف، فينصرف صلى الله عليه وسلم .
ونرى أيضاً هذا الخُلق عنده صلى الله عليه وسلم وتلك الرَّقة مع الأولاد فيأتي إليه الصبيِّ فيُقبّله صلى الله عليه وسلم فيعترض عليه رجل جالس عنده، فيقول : ( تُقبِّلون الصبيان ؟ إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم ) ، فيقول صلى الله عليه وسلم : "أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة".
وفي الحديث الآخر ـ أيضاً ـ يقول صلى الله عليه وسلم "من لايَرحَم لا يُرحَم" .
ويُؤتى بالنبي صلى الله عليه وسلم وصبيٌّ يحتضر وروحه تقعقع فيحمله صلى الله عليه وسلم ثم تنزل قطرات من الدمع من عينيه صلى الله عليه وسلم ويتساءل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : يتساءلون كيف لهذا القلب الكبير أن يرق ؟ كيف لهذا القلب الكبير أن يحمل هذه العاطفة لمثل هذا الصبي فيُقال ما هذا ؟! فيقول: ( هذه رحمة يجعلها الله في قلوب من يشاء من عباده ) .
ويموت ولده إبراهيم ويبكي صلى الله عليه وسلم ويقول: ( إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) .
في حين يأتي أحد المتصوفة ويرى أنه سيبلغ هدياً أكمل من هدي النبي صلي الله عليه وسلم وهو يشعر أنه قد أُمر بالصبر على فقدان أولاده والرضا لهم، فحين يموت ولده يقوم هذا الرجل يرقص على قبره !!، فرحاً بهذه المصيبة، ويظن أنه قد بلغ من الرضا بقضاء الله عز وجل وقدره منزلة عالية .
بينما هو قد فقد تلك المنزلة العالية التي سما إليها النبي صلى الله عليه وسلم حين يجمع بين الصبر والرضى بقضاء الله عز وجل ويجمع بين الرحمة والرقة والعاطفة، التي لا يفتقدها إلا إنسان شاذ .
ويأتي الحسن والنبي صلي الله عليه وسلم يصلي ساجداً، فيصعد على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى النسائي من حديث عبد الله بن شداد رضي الله عنه فيطيل النبي صلى الله عليه وسلم السجود، حتى يقوم هذا الغلام فيسأله أصحابه فيقول:"إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أقوم حتى يقضي حاجته" .
ويدخل وهو يخطب صلى الله عليه وسلم فينزل صلى الله عليه وسلم من على منبره ثم يحمله ويعود إلى خطبته ويقول :"إن ابني هذا سيِّد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين".
وتتجاوز رحمة النبي صلى الله عليه وسلم وعطفه بني الإنسان إلى البهيمة والحيوان، فيروي عبدالله بن جعفر عنه صلى الله عليه وسلم أن أحب ما استتر إليه لحاجته هدف أوحائش نخل، فيدخل النبي صلى الله عليه وسلم حائطاً لرجل من الأنصار فإذا به جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح دفراه فسكت فقال صلى الله عليه وسلم:"من رب هذا الجمل ؟ لمن هذا الجمل ؟" جاء فتى من الأنصار فقال :لي يارسول الله ,فقال له :" أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكَّك الله إياها فإنه شكا إليَّ أنك تجيعه وتدئبه" رواه أبو داود .(/2)
وفي حديث آخر عند أبي داود من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما عن أبيه قال : " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حُمَّرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحُمَّرةُفجعلت تفرش فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"من فجع هذه بولدها ؟! ردوا ولدها إليها" .
أرأيتم ذلك القلب الكبير، ذلك القلب العظيم، الذي لم تقف رحمته عند حدود زوجته أو عند حدود رعيته، أو حتى عند الأطفال لتتجاوز إلى الحيوان، فيكلم النبي أحد أصحابه في شأن جمل له يجيعه ويذله وكأن هذا الجمل يشعر ويرى هذا القلب الرحيم حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذرف عيناه مرسلة رسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الرحمة المرسَلِ رحمةً للعالمين بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.
فهو رحمة للناس من عذاب جهنم ومن فيح جهنم، وهو رحمة للناس في أمور دينهم وهو صلى الله عليه وسلم رحمة حتى على هذه البهائم، ولهذا يصفه الله عز وجل فيقول : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ............الآية ).( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيز عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) .
ويصفه حسَّان رضي الله عنه بأوصاف يعجز عنها البلغاء : ـ
وأجمل منك لم ترى قط عيني *** وأحسن منك لم تلد النساءُ
خُلقتَ مبرءاً من كل عيب *** كأنك قد خُلقت كما تشاءُ
كان عطوفاً عليهم رؤوفاً بهم صلى الله عليه وسلم ولهذا لاغرو أن يقولوا حين دفنوه صلى الله عليه وسلم : " ما إن نفضنا التراب عن أيدينا حتى أنكرنا قلوبنا " وكيف لا ينكرون قلوبهم...
لقد غيبوا علماً وحلماً ورحمةً *** عشية واروه الثرى لا يوسدُ
وراحوا بحزنٍ ليس فيهم نبيهم *** وقد وهنت منهم ظهورٌ وأعضدُ
ووصف صلى الله عليه وسلم شاعر آخر فقال:
وإذا رحمت فأنت أم وأبُ *** هذان في الدنيا هم الرحماء
وإذ خطبت فللمنابر هزة *** وإذا وعظت فللقلوب بكاء
هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم صاحب القلب الكبير، القلب الرحيم العطوف الذي مع ما يحمله صلى الله عليه وسلم من عبء الرسالة وهم حمل هذه الديانة والشريعة إلى البشرية كلها مع ذلك كله يجد في قلبه صلى الله عليه وسلم الغلام مكاناً له، والحيوان يجد مكاناً له لرأفته ورحمته صلى الله عليه وسلم .
أفبعد ذلك كله نطالب الناس أن يتجردوا عن عواطفهم ومشاعرهم وعما جبلهم الله عز وجل عليه
رابعاً: للعاطفة أثرها الذي ينكر في إذكاء حماسة المسلمين للجهاد في سبيل الله ونزال العدو، لقد وقف المسلمون في غزوة مؤتة حين بلغهم جمع الروم وقفوا يتشاورون ماذا يصنعون ؟ هل يطلبون مدداً من النبي صلى الله عليه وسلم أم يرجعون ؟
قال ابن اسحاق ثم مضوا حتى نزلوا معانا من أرض الشام فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم وانضم إليه من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي مائة ألف منهم عليهم رجل من بلي ثم أحد أراشة يقال له مالك بن رافلة وفي رواية يونس عن ابن إسحاق فبلغهم أن هرقل نزل بمآب في مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم وقالوا نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، قال: فشجع الناسَ عبدُ الله بن رواحة، وقال: يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة، قال فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة فمضى الناس.
وقال ابن إسحاق فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث عن زيد بن أرقم قال كنت يتيما لعبد الله ابن رواحة في حجره فخرج بي في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله فو الله إنه ليسير ليلتئذ سمعته وهو ينشد أبياته هذه :
إذا أدنيتني وحملت رحلي *** مسيرة أربع بعد بعد الحساء
فشأنك أنعم و خلاك ذم *** ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادروني*** بأرض الشام مستنهى الثواء
وردك كل ذي نسب قريب *** إلى الرحمن منقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع بعل *** ولا نخل أسافلها رواء
قال زيد فلما سمعتهن منه بكيت فخفقني بالدرة وقال ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل.
وكأنك ترى في حال هذا الصحابي الجليل وقد خرج عقد العزيمة ألا يعود ويسأل الله عزوجل أن يخلفه المسلمون بأرض الشام .
وحين قُتل صاحباه وتقدم، تردد وتلكأ فقال أبياتاً يستحث فيها نفسه : ـ
أقسمت يانفس لتنزلنه *** لتنزلنه و لتكرهنة
مالي أراك تكرهين الجنة ***إن أجلب الناس وشدوا رنة(/3)
فيخاطب نفسه بهذه الأبيات ثم يدفعها إلى ميدان الشهادة، فيمضي رضي الله عنه مع صاحبيه وهكذا حين تقرأ في السيرة أنه قبل المعركة يجمع القائد جنده وجيشه فيخاطبهم ويحمسهم ويحثهم على الاستشهاد في سبيل الله ويبين لهم فضل الشهادة وفضل الجهاد في سبيل الله، حتى يوقد حماستهم وعزيمتهم إلى الجهاد في سبيل الله عز وجل أيسوغ بعد ذلك أن ندعوا إلى إلغاء الحماسة والعاطفة وهو يفعل فعله في النفوس ؟
خامساً: العاطفة شيء مهم في التربية، وحين يفقد المربي العاطفة، فإنه ينشأ شاذاً وهي صورة نراها فيمن مات أبوه أو ماتت أمه، وتربى عند زوجة أبيه أو عند غيرها من النساء التي لاتشعر تجاهه بشعور الأم الحنون، كيف ينشأ هذا الشاب ؟.
ذلك أن ثمة حاجة ملحة لهم فقدوها ألا وهي الحنان والعاطفة، ولهذا يتربى هذا الشاب بعقل أبيه وحجر أبيه ويتربى ـ أيضاً ـ بعاطفة أمه .
ولحكمة بليغة خلق الله عز وجل العاطفة في الأم، عاطفة تذوب عندها أي عاطفة تلتقي في نقطة اتزان مع عقل الأب وحصافته فيعيش الشاب ويعيش الطفل بين هذين الخطين المتوازيين فيعيش متوازياً مستقرًّا .
وحين يُشدُ أحد الخيطين أكثر من صاحبه، أو يفقد أحدهما فإنه يعيش عيشة غير مستقرة، ومن ثم فلا غنى للصغير عمن يحوطه بالعاطفة، وعمن يحنّ عليه ويشفق عليه .
وحين ينشأ خلاف ذلك فإن الغالب فيه أن ينشأ فاقداً لهذا الأحساس، وفاقداً لهذا الشعور .
إننا مع ذلك كله نسمع من يدعو إلى إلغاء العاطفة، بل من يُدرج العاطفة ضمن مراتب الجرح، فيصف فلاناُ بأنه صاحب عاطفة، أو بأنه متحمس، وكم نرى العتبى واللوم على ذاك الذي أغاظه انتهاك حرمة من حُرم الله عز وجل فدارت حماليق عينه وغضب لله عز وجل، حينئذ يوصف بأنه متحمس، طائش، وبأنه لا يحسب عواقب الأمور .
أما ذاك الذي يرى المنكرات ويرى مصائب المسلمين ويرى جسد المسلمين يُقطع إرباً إرباً ومع ذلك لا تهتز مشاعره، ولا تتحرك عواطفه، ذاك يوصف بأنه رجل حكيم حصيف لبيب يضع الأمور في مواضعها !!
إنني أحسب أن هذه قسمة ضيزى، أحسب أن هذا جوراً في الحكم .
ولقد كان الغضب والحمية لدين الله عز وجل خُلقاً عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، بل قبل ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم، كان صلى الله عليه وسلم هيِّناً سهلاً ليِّناً فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء ويوصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم كانوا يتناشدون الشعر فإذا أريد أحدهم على دينه ( دارت حماليق عينه ) أليس هذا تعبيراً عن الغضب والغيرة لحرمات الله عز وجل فكيف نصنع بتلك المواقف من سلف الأمة التي وقفوا فيها غضباً وحمية لدين الله عز وجل وقالوا كلمة الحق مدويَّة مجلجلة واضحة صريحة ! قالوها ولا شك أن الذي دفعهم لذلك الحماس والغضب لله .
نعم لكنها عاطفة صادقة و حماسة صادقة، فالمطالبة بإلغاء الحماسة والعاطفة، مطالبة بتغيير خلق الله عز وجل، وتغيير سجية فطر الله سبحانه عباده عليها .
وكما أننا ننكر على من يكون دافعه ووقوده الحماس والعاطفة وحدها، فإننا أيضاً ينبغي أن ننكر وبنفس القدر على ذاك المتبلد الحس، الذي يرى مصائب المسلمين، ويرى دماء المسلمين تجري ويرى حُرُمات الله تُنتهك ويرى دين الله عز وجل يُنقض عروة عروة، ومع ذلك لا يحرك فيه ساكناً، ولا يثير فيه حمية، ولا يغضب لله عز وجل .
ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن الشق الثاني، وهو :
الإغراق في العاطفة
إن الوسط سنة الله عز وجل في الحياة، فالمسجد الذي نصلي فيه، حين يزداد فيه التبريد يصبح حدًّا مزعجاً، لا نطيق الصبر عليه، وحين ينقص عن القدر المعقول، يؤلم الناس الحر، ويزعجهم فلا يُطيقون الصبر عليه . وهكذا الطعام حين يكون بالغ العذوبة لا يستسيغه المرء، وحين يكون بالغ الملوحة كذلك، وشأن الله عز وجل في الحياة كلها " الوسط " .
والتطرف أمر مرفوض، و دين الله عز وجل قائم على الوسط.
وهو وسط بين الغلو والجفاء، فكما أن إهمال العاطفة وإلغائها أمر مرفوض، فالإغراق فيها والتحليق في التجاوب معها هو الآخر أمر مرفوض وينبغي أن نكون وسطاً بين هذا وذاك .
وإن كنا أفضنا في الحديث عن الشق الأول إلا أنني أرى أننا ـ معشر جيل الصحوة ـ أحوج ما نكون إلى الحديث عن الشق الثاني وهو الإغراق في العاطفة .
فنحن نعاني من إغراق في العاطفة، تختلف في صورها ومظاهرها، ومجالاتها .
الصورة الأولى
أن تحكمنا العاطفة في الحكم والتقويم، فحين نحكم على فلان من الناس، سلباً أو إيجاباً، وحين نحكم على عمل من الأعمال الإصلاحية، والأعمال الإسلامية، وحين نقوَّم الناس، فإننا لا يسوغ أن نندفع وراء عواطفنا، فنفرط في المدح والثناء، ونُحلِّق في أجوائها بعيداً عن الرؤية الأخرى ـ أي جوانب القصور، وجوانب الخلل ـ .(/4)
فلا يسوغ حين نقوَّم أعمالنا وجهودنا، أن تكون العاطفة هي المعيار الأوحد للتقويم والحكم، ومن يحكَّم العاطفة في حكمه، لابد أن يكون شخصية متطرفة إما ثناءً أو ذمًّا، إما سلباً أو إيجاباً. كثيرة هي الأحكام التي نطلقها من وحي العاطفة فقط، في أحكامنا ومواقفنا من الرجال والأعمال والجهود والمواقف، كثيراً ما يكون الحاكم الأول والأخير، والقاضي والشهود والمدعي هو العاطفة وحدها.
وحينئذ لابد أن يكون الحكم حكماً جائراً، حكماً بعيداً عن العدل، إننا ومع تأكيدنا على أن الثناء على من يُحسن أمر مطلوب، وأن الإعجاب بمن يستحق الإعجاب أمر لا يُدعى إلى إلغائه والتخلي عنه. لكننا مع ذلك لا يسوغ أن نُفرِط، ولا يسوغ أن تحكمنا العاطفة وحدها في ذلك، وكثيراً ما تتحكم العاطفة في تقويم مواقف كثيرة من مواقف العمل الإسلامي، فتقود إلى نتائج مؤلمة .
اضرب لكم مثالاً : تجربة عشناها، كنا أغرقنا فيها، وتجاوبنا فيها مع العاطفة أكثر مما ينبغي، تجربة الجهاد الأفغاني، لقد بدأ هذا الجهاد، وقد نسيت الأمة الجهاد كله، بدأ وقد ضرب على الأمة الذل والهوان، وظنت الأمة أنها لن تعرف الجهاد ولن ترى الجهاد.
وصار حتى الذين يُدرِّسون الفقه يقفز بعضهم باب الجهاد لأنه لم يعد له مجال وميدان، فجاء أولئك وأحيوا في الأمة هذه الفريضة، وأحيوا سنة قد أُميتت وفريضة قد نسيتها الأمة، وحينئذ استفاقت الأمة، استفاقت على هذا الصوت، واستفاقت إلى داعي الجهاد، وصدمت بأولئك الذين خرجوا في تلك البلاد وقاموا لله عز وجل وأحيوا الجهاد في سبيل الله، وكان جهاداً حقًّا ولا شك، وقام بدور في إحياء الأمة ولا شك، لا يسوغ أبداً أن يُطوى، ولا يسوغ أن يُهمل .
لكن الذي حصل أننا أغرقنا كثيراً في العاطفة .
لقد بدأ الجهاد وفيه أخطاء ـ شأن البشر ـ وفيه انحرافات ـ شأن البشر ـ وفيه خلافات ـ شأن جهود البشر ـ فما بالكم بهذا الواقع الذي تعيشه الأمة، وما الجهاد الأفغاني، وما الأعمال الإسلامية كلها إلا إفراز لواقع الأمة الذي تعيشه
وبدأ الجهاد وفيه ما فيه، من خطأ وخلل وفرقة وانحراف وفي الصف منافقون، ومع ذلك كله كان جهاداً شرعيًّا، كان جهاداً يستحق الدعم من الأمة، وأن تقف في صفه، لكن الذي حصل أننا أغرقنا في العاطفة فرفعنا منزلة أولئك إلى منزلة قريبة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإلى الملائكة، وصرنا نفرط في الحديث عن الكرامات، ونستدل بها ومنها ما كان صحيحاً، وما كان منها لا يقبله عقل ولا منطق، بل ما كان منها من رواية أهل الخرافة الذين اعتدنا منهم هذه الأباطيل، وصرنا نتهم من يُشككُ في شيء منها بأنه من المخذلين، صرنا نتهم من يتحدث عن أخطاء الجهاد، وعن أخطاء المجاهدين ومن يُطالب بتنقية الصف، بأنه من المعوقين، فكنا دائماً نسمع التستر على الأخطاء، ودفن العيوب وكنا نتجاوب في عاطفة جيّاشة، ونتصور أن ذكر الأخطاء والحديث عنها لا ينبغي، ولا يحقق المصلحة ويجعل الأمة لا تتجاوب مع هذا الجهاد، وطال عمر الجهاد وجاء وقت قطف الثمر، وما الذي حصل؟! وماذا كان موقف الناس ؟!
إن موقفنا لا يزال، لازلنا غير آسفين على ريال واحد قدمناه للمجاهدين، ولا زلنا غير آسفين على كلمة قلناها في دعمهم لأنا نرى أنها كلمة حق، ولا زلنا لم نغيِّر مواقفنا .
لكننا نرى أنا نحن السبب في هذا الخطأ، حيث كنا نتجاوب مع العاطفة كثيراً، ونرفض الموضوعية، ونرفض النقد، ونرفض المصارحة، حيث إن الجهاد أوقد عاطفة في نفوسنا، لم نستطع أن نضبطها، ونحكمها فيما بعد، حتى وصلنا إلى هذه المرحلة، التي يدمينا جميعاً ويؤلمنا أن نسمع تصريح الزعيم الروسي السابق " جورباتشوف " حين يقول: ( لو علمنا أن الأفغان سيصنعون ما صنعوا لسَلَّمناهم كابول منذ زمن بعيد !! ) .
كم يدرك قلبك المأساة والحزن والأسى وأنت ترى الآن السلاح الذي كان وراءه أموال المسلمين، وترى أولئك الذين صعدوا على جماجم الشهداء من كل بقاع المسلمين، ترى أخاهم يوجِّه السلاح والرصاص لأخيه.
إنني هنا لست بصدد تقويم هذا العمل، وهذا الجهاد - وهو مع ذلك لا يزال مفخرة من مفاخر الأمة، وإنجازاً من إنجازاتها- لكن الشاهد هنا أننا في تعاملنا مع هذا الحدث كنا نتجاوب كثيراً مع العاطفة، وكنا نُمارس الإرهاب الفكري ونمارس التثبيط ضد أي صوت ناصح يدعو إلى تنقية الصف ويدعو إلى تصحيح المسيرة، وأخشى ـ أيضاً ـ أن يقع الخطأ مثله وها نحن الآن نشهد الصحوة المباركة، مع ما فيها من إنجازات ففيها أمراض بحاجة إلى علاج، بحاجة إلى مراجعة، بحاجة إلى مصارحة، بحاجة إلى أن تتحدث عن أخطائها، تحت ضوء الشمس وفي وَضَح النهار، فأرجو أن لا تسيطر علينا العاطفة مرة أخرى، فتدعونا إلىالتستر على الأخطاء، ودفن العيوب، حتى تستفحل حينئذ وتستعصي على العلاج والمداواة
إذن من الإغراق في العاطفة أن تكون العاطفة وسيلة للحكم والتقويم .
الصورة الثانية: كون العاطفة هي المحرك للعمل(/5)
ومن الإغراق في العاطفة ـ أيضاً ـ أن تكون هي الدافع الوحيد للعمل، أن يتجاوب المرء مع عاطفته، فيعمل عملاً، أو يتخذ قراراً، أو يقف موقفاً، والدافع الأول والوحيد له هو العاطفة، لاغير،وهذا عنوان الفشل والانحراف في العواطف .
ومع عدم إهمالنا لدور العاطفة ومع أننا نرى أنه لا بد أن يدفع المرء إلى أي عمل، حماس، وعاطفة تتوقد في قلبه، ونرى أن من يفقد العاطفة لا يمكن أن يحمل الدافع لعمل وإنجاز - مع ذلك كله - فإنا نرى أن العاطفة وحدها حين تكون الدافع للعمل، فإنها ستقود إلى نتائج غير محمودة، ونرى أن التجاوب والإغراق في التفاعل مع العاطفة وحدها، أنه إهمال للطبيعة الإنسانية حتما، فقد خلق الله الإنسان بعقل وحلم وعاطفة، خلقه الله عز وجل بمشاعر وخصائص شتى، والموقف الذي يقفه المرء ينبغي أن يكون إفرازاً لتفاعل كل هذه الخصائص التي فطر الله عز وجل الإنسان عليها، أما حين يكون إفرازاً لعامل واحد فقط فهذا إغراق في العاطفة وغلو وتطرف .
الصورة الثالثة: العلاقات العاطفية
ومن الإغراق في العاطفة : العلاقات العاطفية التي قد تنشأ بين بعض الشباب، أو بعض الفتيات، فقد ينشأ بين شابين أو فتاتين علاقة ومحبة يتجاوز قدرها، وتعلو حرارتها حتى تتجاوز القدر الذي ينبغي أن تقف عنده، فتتحول إلى عاطفة جيَّاشة، وتتجاوز ذلك الدافع الأول الذي دفع إليها ألا وهو الحب في الله .
وهي صور ومواقف نراها جميعاً، وكثيراً ما ترد إليَّ هذه الشكوى، إما سؤال في محاضرة، أو رسالة يحملها إليَّ البريد، وهي رسائل مؤثرة يحكي صاحبها معاناته مع هذا الجحيم الذي يعيشه من لأواء هذه العلاقة العاطفية ويبحث عن الخلاص والمخرج، والكثير من هؤلاء يطلب مني أن لا أنشر رسالته، مع أني أعرف أنه لن يُعرَف من وراء ذلك، لكن ما دمت قد استُؤمنت على ذلك، فلا يجوز أن تخون من ائتمنك، وإلا قرأت عليكم بعض تلك الرسائل التي تصوِّر لكم عمق المعاناة التي يعيشها مثل هذا الشاب .
قد تبدأ هذه العلاقة حبًّا في الله عز وجل ثم تتطور إلى حد يتجاوز بعد ذلك هذا القدر، تتحول إلى مشاعر عاطفية يُبديها فلان والآخر، ويحاول كل منهما أن يُغلَّف هذه العلاقة بغلاف الحب في الله، ويحاول أن يطعَّم هذا اللقاء بشيء من التواصي وشيء من التعاون على طاعة الله عز وجل، وهي مكائد وحيل نفسية شيطانية حتى يَغفُل عن الداء، والمحرك الأساس .
وحين تستحكم حينئذ يصعب ويَعُزُّ الفراق،فحين ترى زيداً فأنت تنتظر قَطعاً أن يأتي عمرو، وحين يعتذر زيد عن المشاركة فهذا يعني بالضرورة أن يعتذر عمرو هو الآخر وليس ثمة سبب إلا أنه قد اعتذر، وحين يكون الأول مشغولاً مع والده، فسيكون الآخر مشغولاً مع والدته، وإن لم يكن كذلك فثمة شغل هنا أو هناك، والقضية تتحول إلى أن يربط مصيره بمصير فلان من الناس، حتى لا يصبر على فراقه، ولا عن لقائه، وهكذا الشأن أيضاً عند الفتيات.
إنها صورة من الإغراق في العاطفة والتجاوب معها، صورة تقود إلى نتائج خطيرة، صورة تجعل هذه العاطفة تُحجَبُ عن غير هذا الشاب، فلا يُحب في الله إلا من أحب هذا الرجل ولا يبغض في الله إلا من أبغض هذا الرجل، ويصبح هذا الرجل هو مقياسه والآخر يبادله الشعور نفسه، وأما أصحابه وخِلاَّنه وإخوانه فلم يعد لهم مكان فسيح في قلبه حيث
أتاه هواه قبل أن يعرف الهوى *** فصادف قلباً خالياً فتمكنا
فاستحكمت هذه العلاقة واستحكمت هذه المحبة حتى لم يعد في قلب كل واحد منهما مكان لغير صاحبه، ويكتشف أو يكتشفان الخطأ لكن بعد فوات الآوان، وحين يكون قد انساق مع هذه العاطفة وتجاوب معها فيصعب عليه التراجع حينئذ ويأتي يبثُّ الشكوى ويطرح السؤال كيف الخلاص؟ أشعر أنها ليست محبة خالصة لله، أشعر بعمق المأساة والمعاناة إلى غير ذلك .
لكنه حينئذ أصبح لا يطيق الصبر والفراق، فيبحث عن العلاج حين قد صَعُبَ عليه ذلك، ولو كان منطقيًّا، وجادًّا، وكان مقتصداً في بذل المشاعر العاطفية والعبارات التي ترقق العاطفة، لاعتدل فيها.
نقول ذلك ونحن لا نرفض المحبة في الله، بل لا نرفض الطبيعة التي تجعل فلاناً من الناس يشعر بارتياح لصاحبه، ويشعر أنه يميل إليه أكثر من غيره من الناس وهذه فطرة فطر الله الناس عليها ( الأرواح جنود مجندة ) لكن أيضاً يبقى هذا بقدر معين محدود إذا تجاوزه تحول إلى مرض وداء ـ عافانا الله وإياكم ـ.
وما على من ابتُلِيَ بمثل هذه المشاعر إلا أن يقطع الطريق من أوله، حيث قد يصل إلى مرحلة قد يشق عليه الرجوع بعدها .
الصورة الرابعة: التربية العاطفية(/6)
فقد تسيطر العاطفة على المربي أيًّا كان أباً أو استاذاً أو معلماً فيتعامل مع من يربيه بعاطفة جيَّاشة ويتجاوب مع مشاعره، وتسهم هذه العاطفة في حجب الرؤية السليمة والصحيحة لهذا المربي، الرؤية لواقع من يربيه، وتسهم هذه العاطفة في حجب ما يحتاج إليه، فهو مع حاجته إلى الترغيب، يحتاج إلى الترهيب، ومع حاجته إلى الحب والحنان، يحتاج إلى نوع من الجفاء حين ينفع الجفاء، والخشونة قد تنفع فهي كاليد تغسل أختها .
إن إغراق المربي في العاطفة، يحجب عنه الأخطاء، ويحجب عنه العيوب، يحجب عنه الموضوعية، يحجب عنه الحزم الذي يُحتاجُ إليه في مواقف الحزم، فينساق حينئذ تجاوباً مع هذه العاطفة الجيَّاشة، ويتخذ مواقفه وقراراته ويرسل برامجه استجابةً لتلك العاطفة، فهو يخشى أن يملَّ الشباب، يخشى أن يتضايق الشباب، يخشى أن يسأم الشباب يريد أن يُنفِّسَ عن الشباب، ولا تكاد تجد عنواناً أدق لهذه الأوهام وهذه المخاوف إلا التربية العاطفية .
وبعد ذلك يتعامل هذا الشاب مع غير صاحبه فلا يطيق الفراق للأول، وحين ترى من تربيه لا يطيق فراقك، ويضمن إليك حنيناً، حنيناً زائداً فهذا عنوان إغراقك في العاطفة، فإنك أيضاً ينبغي أن تربي تلميذك، وينبغي أن تربي من تحتك على أتم الاستعداد أن يتخلى لا كرها، لا رغبةً عنك إنما حين يكون الأولى أن يتخلى، حين يكون الأولى أن يفارق، نعم قد يشعر بحنين
كم منزل في الأرض يألفه الفتى *** وحنينه أبداً لأول منزل
لكن حين يزداد هذا الحنين فيتأثر القرار بهذا الحنين، حين يساوم على هذا القرار فهذا دليل على إغراق في التربية العاطفية، وجَدَلاً نُقنع به أنفسنا أن هذا عنوان نجاحنا، أن هذا عنوان إقناعنا للآخرين، وليس هذا إلا حيلة نفسية نخادع فيها أنفسنا .
الله الله في هذا النشأ، الله الله في هذا الجيل، إننا معشر الشباب، معشر المربين بحاجة إلى جيل حازم، بحاجة إلى جيل يتحمل المسؤولية، بحاجة إلى جيل ينتظر أن يُقال له " لا " فيستجيب، بحاجة إلى جيل ينتظر أن يُقال له سر في غير هذا الطريق فيسير في غيرهذا الطريق .
أما الجيل الذي لا يتجاوب إلا مع عواطفه، ومع مشاعره فهذا لا يَثبُت وقت المحنة، ولا وقت الفتنة ولا يؤمل فيه خيرٌ، وحين تغرق العاطفة في هذه الصور أو غيرها، فإننا لن نجني من الشوك العنب.
إننا سنجني أولاً الغلو ومجانبة الاعتدال، الغلو قبولاً أو رفضاً والغلو والتطرف أمر مرفوض، ترفضه الطباع السوية والمستقيمة والسليمة، فضلاً عن المتأدِّب بأدب الشريعة وهديها .
وها أنت ترى أنك بمجرد أن تصف فلاناً بأنه غالٌّ أو متطرف فإن هذا وحده يكفي في التنفير منه، ونقد موقفه وطريقته، إن المحرك الأول للغلو والتطرف والإفراط هو العاطفة، فالغلو في المدح والثناء ليس إلا تجاوباً مع العاطفة والغلو في الحبِّ والتعلق هو الآخر، والغلو في الرفض والرد هو الآخر كذلك.
والإغراق في العاطفة مدعاة لمجانبة العدل والإنصاف، فحين يقبل، يقبل جملة ، وحين يرفض، يرفض جملة .
إن صاحب العاطفة الذي يتجاوب معها لا يملك أن يضع الأمور في نصابها، لا يملك أن يقول هذا صواب وهذا خطأ، لا يملك أن يزن الأمور بميزان العدل، فهو لايحمل إلا حكمين لا ثالث لهما القبول والرفض، الحب المغرق فيه، والبغض المغرق فيه .
أما طريق الوسط والعدل والإنصاف فهو لا يملكه، وهذا شأن من يشتط ويتطرف، لقد تطرف هو أولاً فاستخدم ميزاناً واحداً، وسار على طريق واحد، هو طريق العاطفة فقاده إلى هذه النتيجة والنهاية المتطرفة، وهو أيضاً يقودنا إلى الوصول إلى نتائج غير سليمة، وغير منطقية وكثيراً ما نجني من حماسة لم تُضبط ولم توزن، أو نجني من عاطفة لم تحكم ولم توزن بميزان العقل والشرع، كثيراً ما نجني منها المواقف الخاطئة، والنتائج التي لا يقتصر وبالها على صاحبها، ولعلكم تتساءلون بعد ذلك ما العلاج؟!
قد أكون أسهبت وأطلت في وصف المرض والداء، ولكني أشعر أن وصف الداء يتضمن في ثناياه وصف العلاج والداء .
أشعر أننا حين ندرك أن إهمال العاطفة جملةً أمر مرفوض، فإن هذا يعني، أن نضع عواطفنا في مواضعها، وأن نعرف أن من الإيمان أن يتألم المسلم لآلام إخوانه، وأن يرحم، وأن يعطف، وأن يُشفِق، وأن يتحمَّس في مواضع الحماس، ويرحم في مواضع الرحمة، ويُشفق في مواضع الشفقة، ويُحب في مواضع الحب .
ونشعر أيضاً أن الإغراق في العاطفة هو الآخر أمر مرفوض، وأننا كما قلت نُعاني من جيلنا المبارك الإغراق في العاطفة أكثر من الإهمال .
ونعاني من مواقف كثيرة، نكون فيها أكثر تجاوباً مع العاطفة، فالحل يتمثَّلُ في " أن نزن مواقفنا " وأن نزن أعمالنا وأن نفكر فيها، وأن نشعر بأن الله عز وجل كما خلق فينا عواطف فقد خلق فينا أيضاً عقلاً وحلماً وأعطانا سبحانه وتعالى علماً بكتابه سبحانه وتعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل قد أعطانا موازين وقيم غير هذا الميزان وحده .(/7)
وحين لا نملك إلا هذه الصنعة ولا نزن إلا بهذا الميزان، فإن هذا عنوان التطرف والغلو.
أرى أن العدل والإنصاف، وزن الأمور والتأمل فيها، والمراجعة مما يُعيننا كثيراً على تجاوز هذه النتائج والآثار السلبية، ويبعدنا عن الشطط والغلو، وكلاهما غلو، الرفض والإهمال غلو، والإغراق والمبالغة في التجاوب هو الآخر أيضاً غلو، والوسط بين هذين الطريقين وبين هذين السبيلين .
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لطاعته وأن يجنبنا وإياكم أسباب معصيته وسخطه ويرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(/8)
العاطفة والعدل(1/2)
يوسف بن محمد الغفيص 20/12/1423
04/03/2002
أحياناً نبالغ في تقدير مفهوم بعض الأشياء ، فنعطيها مساحة واسعة من التأثير في تفكيرنا وتصرفنا , وربما إصدار الأحكام , ورسم منهج التعامل .
وبسبب نوايانا الطيبة ، والسعي إلى إنتاج المصلحة وتحصيلها ؛ نتصرف بهذا التصرف ، ونشعر مع أنفسنا بمصداقية وكثير من السعادة والغبطة ؛ لأننا نلاحظ أن هذا التقدير منحناه لمعنى مهم ، قد يكون مفهوماً فاضلاً ، أو يتجاوز هذا إلى كونه يمثل مفهوماً مبدئياً .
إن المشكل يتحدد هنا حينما نتصور - ربما بشكل تلقائي - أن كون تصرفنا أو تفكيرنا يقع تحت تأثير مفهوم معين أقرّته الشريعة ؛ فإن هذا يعني بأن لدينا شرعية التصرف والتفكير الذي نقوم به !! .
وتحت هذا التركيب والواقع ، لا نبالي كثيراً بتقدير الأشياء ، وحساب المواقف والتصرفات ؛ لأننا – أحيانا ً- نحاول التأكد فقط من كون المفهوم الذي يحرك تأثيرنا له مصداقية ، دون أن نتمتع بإدراك لحدود هذا المفهوم وضوابطه، وموقعه حسب اقتضاء قواعد المنهج الشرعي الوسطي المركب من أكثر من مفهوم مؤثر في العمل ومنهج التعامل .
حينما نحاول أن نعرف جذر هذه المشكلة فربما يكون من الرسم المُقرِّب له : أنه ربما يصعب علينا أن نستوعب التفكير والتصرف تحت تأثير أكثر من مفهوم ، إننا كثيراً ما نألف الحركة والتفكير تحت تأثير مفهوم واحد ؛ لأننا نشعر بأننا أكثر تلقائية ، ووضوحاً ، وأسرع في حسم المواقف وإصدار الأحكام .
ولبساطة التحرك تحت تأثير مفهوم واحد أصبح العامة وغير العارفين بمفصّل مقاصد وأدلة الشريعة يشاركون بشكل فعّال في إصدار الأحكام ، والخوض في جوابات الشريعة التي تُتناول بها أحداث أو أحوال قائمة .
حينما نأخذ هذين المفهومين ( العاطفة والعدل ) ندرك أنهما من المفاهيم الجادة في التأثير على واقع العمل , والتعامل الذي نتحدث عنه أو نقوم به ، وحتى رسم نظام التفكير لدينا .
إن هذين المفهومين ( العاطفة والعدل ) من المفاهيم الفاضلة ، و من غير الصحيح أن يكون هناك جدل حول صواب أو أثر هذين في العمل والتعامل .
إن العاطفة كلمة لم يصرح بها كمفهوم للتعامل في نصوص الشريعة ، لكنها داخلة تحت ( الرحمة ) وهي من الصفات التي عظمتها الشريعة ، وامتدحتها ولهذا جاء في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن لله مائة رحمة , أنزل منها رحمة واحدة , بها يتراحم العباد ، وبها تعطف الوحش على ولدها ، وأبقى تسعاً وتسعين يرحم بها عباده يوم القيامة )) ، كما هي أيضا مرتبطة ( بالولاء ) وهو من مفاهيم الشريعة ومقاصدها . فعن هذين ( الرحمة ، الولاء ) تتكون العاطفة في الجملة ، وهنا تكون العاطفة ممتدحة من حيث الأصل .
إن العمل والتعامل , بل حتى التفكير يفترض أن يكون متأثراً بقدرٍ ما من العاطفة التي هي تكوين من ( الرحمة والولاء ) لكن جوهر التصحيح يقع في تقدير الحد المفترض , والكشف عن مؤثرات أخرى تحظى بنفس الأهمية والمصداقية تحت صورة من التوازن بين هذه التعددية من المفاهيم المعتبرة في مراد الشريعة .
إن العاطفة ليست مفهوماً طارئاً في نفوسنا نكتسبه من أصله ، بل هي ماهية موجودة في الإنسان طبعاً .
وهنا يكون من العبث العقلي كما هو من المخالف الشرعي أن نحاول التصرف أو حتى التفكير دون مصاحبة وتأثير العاطفة .
إننا حين نكتشف أن العاطفة ظهرت سبباً في خطأ تصرفنا أو تفكيرنا ؛ فمن غير المنطقي أن نحاول المراجعة والتصحيح تحت مفهوم رفض العاطفة أو التجرد منها في المحاولة الثانية التي نقصد منها الاستدراك والتصحيح . إننا بمثل هذا التصرف كثيراً ما نخلق ردود أفعال ، أو نهيئ الأجواء لردود أفعال قد يمارسها طرف آخر سنكون على خلاف معه لكن لم ندرك أننا شاركنا في صناعة موقفه هذا .
إن تقدير سبب الفشل في محاولة ما كثيراً ما يكون صعباً ؛ لكن حين نتأكد من كون العاطفة سبباً مباشراً في صناعة الخطأ ؛ فمن الضروري أن ندرك أن هذا السبب تولّد عن سوء تقديرنا لحدود العاطفة والمساحة المفترضة لها .
ومع ذلك فإن العاطفة قد تكون مسؤولة عن صناعة كثير من المواقف والتصرفات المتجردة من العلم والاعتدال، وهذا شكل آخر فحينما تكون العاطفة ليست التي صنع الموقف أو التصرف لكنها تكون مسؤولة عن تطوير الموقف ليتحول من شكله الأول المعتدل إلى تجاوز للعدل والوسطية ، وربما كان الموقف غلطاً من الأصل لكن العاطفة شاركت في ترسيم هذا الخطأ وتعقيد محاولة التصحيح .
إن الخطأ هنا تكوّن حينما نقدّر نحن حد العاطفة الذي نستصحبه في تصرف أو تفكير ما ، والحق أن تقدير هذا الحد هو قضاء للشريعة ، وليس خياراً مفتوحاً لنا .
قد يكون التعرف على مدى تحقيقنا للقدر الشرعي المطلوب من العاطفة يشكل لدى البعض مشكلة في التصور ، فهو بمجرد الشعور بالنية الطيبة أو الهدف الفاضل يتصور أنه موافق للشريعة ، أو على أقل تقدير أنه معذور في الشريعة !!(/1)
إن تقدير الحد المطلوب المناسب للمقام هو نوع من الفقه في دين الله , وهذا محل تفاضل بين أهل الإسلام ؛ لأن أثر العاطفة في التصرف والتفكير يجب أن يكون متنوعاً ومختلفاً نظراً لاختلاف الأحوال والمناسبات . قد يكون من الصعب رسم حد لهذا المقدار , لكنه اعتبار شرعي لا بد من فقهه وضبطه بميزان الشريعة ، وهو دور يقوم به أهل العلم وأساتذة الدعوة معتبرين وسطية الشريعة وشمولية مقاصدها في مخاطبة الجماهير ، ويفترض أن تكون الجماهير مستعدة استعداداً مناسباً للاستماع والتعامل مع هذا التوجيه ، وإذا كانت جماهير كثيرة - ولا سيما بعد مرحلة الانفتاح الإعلامي والتقني في المجتمعات الإسلامية – تريد أن تستمتع بشيء من الحرية والاختيار فمن الضروري أن تؤمن بمنح هذه الحرية لقراء الشريعة من أهل العلم ورجال الدعوة .
وهنا يمكن أن نشير إلى صور يعرف من خلالها وجود الخلل في تقدير وضبط مفهوم العاطفة كمثال ضمن سلسة من المفاهيم الصحيحة التي كثيراً ما لا نستوعب الجمع بينها ، والتوازن في تداولها وقراءتها :
1- حينما نتحرك دائماً تحت مفهوم واحد في منهج التفكير والعمل والتعامل ، فهذا نوع من الخلل .
2- حينما نتصور صورة من التضاد , أو الإشكال بين مفهومين من المفاهيم الشرعية الفاضلة , فهذا – أيضا ً- نوع من الخلل وقلة الفقه .
3- حينما نتباعد عن الحديث أو البحث , في مفهوم شرعي آخر غير المفهوم الذي رسمنا تصرفنا أو تفكيرنا تحته؛ لأننا ندرك أن نظرنا في مفهوم شرعي آخر سيتحصل عنه تغيير في التصرف والتفكير الذي نقوم به. وقد لا يقع شكل من التباعد لكن لا يكون لنا قصد في مدى توافق التصرف أو التفكير الذي نقوم به مع المفهوم الثاني .
وربما كان هذا التباعد أو عدم القصد إليه نوعاً من الهوى الخفي - الذي كما يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية - : يعرض لكثير من أهل الفقه والزهد والعبادة ممن لم يحقق - قصداً وحالاً - ابتلاء أمره على قضاء الله ورسوله ، وعن هذا يقع كثير من النزاع والاختلاف .
ومن المعاني الفاضلة التي عني شيخ الإسلام بتقريرها في مثل هذا المقام : أن موافقة الشريعة من وجه ، لا تستلزم موافقتها من الأوجه الأخرى التي قضت الشريعة باعتبارها كلها , وليس باعتبار أحدها أو بعضها .
حين نرجع إلى موضوع الورقة ( العاطفة والعدل ) وقد تحصل لنا أن المفهومين ( العاطفة والعدل ) كلاهما مفهوم فاضل ، باعتبار الشريعة للعاطفة المكوّنة من ( الرحمة والولاء ) أما العدل فإن العلم باعتبار الشريعة لهو من العلم الضروري .
فهنا من المهم أن نتصور أن حركة التفكير والعمل والتعامل بين أهل الإسلام يجب أن تكون مبنية على الموازنة بين هذين المفهومين ، وهذه الموازنة تعني تقدير بناء الحكم أو العمل عليهما مع المحافظة على تصديق كل مفهوم منها للآخر .
أحياناً تبدو الموازنة أمراً واضحاً ، لكن في الأحداث الشمولية التي تتسم بتعقيدٍ في التكوين والأسباب والمحركات ، وسرعةٍ في النتائج يقع - كثيراً - نوع من التحيّز إلى مفهوم واحد ، وكثيراً ما يتشكل خطان من التعامل , هذا يقع تحت وحي العاطفة ، والآخر تحت شعار العدل .
إن التضاد في الرؤية والمواقف كثيراً ما يكون مرتبطاً بهذا التأثير , حين يبالغ طرف في مفهوم واحد من هذين المفهومين , سيكون على حساب المفهوم الآخر ، ويأخذ الطرف الآخر المفهوم الآخر بنفس المنهج , وهذا تجاوز لمفهوم ومنهاج الوسطية الذي من أخص مدلولاته اعتبار سائر ما اعتبرته الشريعة من المفاهيم والجمع بينها على هدي النبوة .
وحين نراجع هذا الطرف وذاك ؛ نجد بأن لديهما موافقة لوجه اعتبرته الشريعة , وهذا الوجه له حُسن مناسب باعتبار الاتصال بحكم الشريعة ، لكنه يتضمن أثراً سلبياً باعتبار أن هذا الشكل من الموافقة لمفهوم شرعي معين يوجد صعوبة لدى كثيرين في استيعاب خطئهم والتحول عنه، لكن الموقف ضرورة لن يكون شرعياً باعتباره حكماً وقضاءً هو مراد الشريعة في هذا المقام ؛ ولهذا مثل هؤلاء يقع لهم نوع من الحمد والمدح بما قصدوا فيه موافقة الشريعة , ونوع من الذم لما فارقوه من مقام الفقه والجمع لمعتبرات الشريعة في هذا المقام , وهذا هو الغالب على من قَصُر نظرُه من أهل الإسلام ، ويقع في هذا المقام من يكون من أهل الذم المطلق والتأثيم ممن اعتبر وجهاً من معتبرات الشريعة , وأعرض عن غيره , ولم يقصد إلى موافقة هدي النبوة , وهذا هو الذي وقع فيه قوم من أهل الكتاب , الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض , كما في قوله تعالى ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)(البقرة: من الآية85) , ومما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية : أن هذا الخُلُق من أخلاق أهل الكتاب المبدلين لكتابهم يعرض لأعيان في هذه الأمة , ممن لهم مقام في العلوم والمعارف والأحوال
العاطفة والعدل(2/2)
يوسف بن محمد الغفيص 27/12/1423
11/03/2002(/2)
إن من المعاني المهمة في هذا الموضوع: أن التعامل بين أهل الإسلام يجب أن يكون مركباً من هذين المفهومين – أي العقل والعاطفة- , بقدر من التوازن حسب اقتضاء الشريعة ، وأن ندرك أننا حين نعطي لمفهوم واحد مساحة أكثر من المفترض له في الاعتبار الشرعي ، فهذا يعنى ضرورة أن القدر المزيد لهذا المفهوم مستلب من المفهوم الآخر الذي - حتماً- سيبدو ناقصاً قاصراً عن تأثيره المفترض له . وربما كان من الحقيقة المهمة هنا أن نقول: إن التجاوز والزيادة في أثر مفهوم واحد يعنى حقيقةً تجاوز المفهومين معاً !!
نعم، حينما تصرفنا في مقدار مفهوم بالزيادة , والآخر بالنقص ؛ فهنا لم يبق هذا المفهوم أو ذاك تصديق الشريعة وإقراراها؛ لأن هذه الشريعة وسط لا إفراط فيها ولا تفريط .وهذا مطرد في سائر المفاهيم التي قصدت الشريعة جمعها واعتبارها .
إن من قلة الفقه والاتِّباع ألاّ نستوعب أننا نمتلك عاطفة صحيحة إلا بنوع من التجاوز لحدود العدل ، أو بالعكس لا نشعر بالعدل إلا بنوع من التجاوز لحدود العاطفة التي يفترض أن تشارك في حركة العمل والتعامل بين أهل الإسلام لتخلق أجواء من الرحمة والتسامح بينهم .
إن القصور في فهم المنهج الشرعي هو السبب الرئيس في شيوع مثل هذه التصورات التي لا تستوعب تعددية الاعتبار والتأثير أي: كون العمل والتعامل وحتى الرأي يجب أن يقع تحت اعتبار وتأثير مجموعة من المفاهيم الفاضلة , سواء كان مفهوماً عينته الشريعة بالنص , أو كان مفهوماً فطرياً أو عقلياً صحيحاً مما يعلم اعتبار الشريعة له ، وأن هذه المفاهيم المتعددة يجب أن يقدر لكل منها قدره الشرعي .
إن سائر المفاهيم التي تستصحب في العمل والتعامل وحتى التفكير التي يقصد منها العبادة والطاعة يجب أن تكون شرعية إما بنص الشريعة ، أو اعتبارها , وقد علم اعتبار الشريعة للفطرة والعقل .
والتوازن بين مفهوم العاطفة والعدل أحياناً يواجه مشكلة النفس الإنسانية التي ألهمها خالقها فجورها وتقواها , فليست نفساً تمامية فاضلة من كل وجه ، وهنا فإن آيات كثيرة من كتاب الله تذكِّر بالعدل حينما تكون النفوس مهيأة أكثر لمقام الرحمة والولاء الذي قد ينسي كثيراً من العدل والمحاقَّة أو شيء منها ومن هذا قول الله : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين .. )"النساء:35" وقوله : ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى )"الانعام:52" وتذكر آيات أخرى بالرحمة و الولاء التي هي المكون للعاطفة والمحرك لها حينما تكون النفوس مهيأة أكثر لمقام العدل والمحاقّة الذي قد ينسي كثيراً من الرحمة والولاء أو شيئاً منها ومن هذا قول الله تعالى : ( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم )"النور:22" جاء في الصحيح وغيره أنها نزلت في أبي بكر الصديق لما حلف ألا يعطي مسطح بن أثاثة شيئاً بعد ما بلغه أنه خاض في قولة أهل الإفك في عائشة رضي الله عنها .
إن هذا المقام الذي قامه صدِّيق الإسلام غلب عليه حال العدل والمحاقَّة ، مع ما عرف به الصديق من الرحمة والرفق ، وقد كان يُشَبَّه بعيسى بن مريم في هذا المعنى، لكن النفس البشرية لا تتمالك وهكذا خلقها الله ، ولعظم إيمان الصديق اتخذ مقام القصد ولم يظلم، ومع هذا نزل تأديب رب العالمين سبحانه بهذا الخطاب المذكِّر بمقام الرحمة والولاء التي يبعث عليها قوله : ( أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ) إن هذه الأوصاف مؤثرة في النفوس الفاضلة لتتحول إلى العفو والصفح عما هو من حقوقها لو أخذت به ، فكيف تبتعد نفوس كثيرة اليوم عن هذا المقام الفاضل فيما ليس من حقوقها بل في حقوق الإسلام العامة في العلم والعمل .(/3)
إن هذا الأدب الذي أدب به الله صدِّيق هذه الأمة يجب أن يتخذه كل قاصد للحديث عن دين الله أو الدعوة إليه ، فإن في أهل الإسلام اليوم وقبل اليوم كثيراً من الاختلاف والتفاوت ، والواجب حفظ ذمة المسلمين وحقوقهم وحرمتهم ، وأن يعلم أن كل مسلم ثبت له عقد الإسلام أياً كان شأنه يبقى له قدر من الولاء والمحبة يحفظ له حرمته ، وعلى كل عالم وناظر وداع إلى دين الله أن يفقه شمولية الشريعة ووسطيتها ، وأن نبي هذه الأمة أرسل رحمة للعالمين ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )"الأنبياء: 107" وقد كان عليه الصلاة السلام كما في الصحيح من حديث عمران بن حصين ( رحيماً رقيقاً ) وفي حديث مالك بن الحويرث في البخاري وغيره : ( وكان رسول الله رفيقاً بنا ) ، وفي الصحيح من حديث ابن عباس : ( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه ) ، إن كثيرين اليوم لا يضرب الناس بين أيديهم لكن تضرب العقول بين أيديهم حين لا يسعهم استيعاب مخالفة من أذنت له الشريعة بقدر من القول والاجتهاد لما هو عليه من مقام الديانة والعلم والفقه .
والواجب على كل عالم وناظر وداعٍ إلى دين الله بل وسائر أهل الإسلام أن يدرؤوا عن أنفسهم ما هو من شر العذاب والبلاء حين يكون أهل الإسلام شيعاً يتسلط بعضهم على بعض وهو المذكور في قوله تعالى : ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض .. )"الأنعام:65" وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله : ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم ) قال : ( أعوذ بوجهك ) ، ولما قرأ ( أو من تحت أرجلكم ) قال : ( أعوذ بوجهك ) ، ولما قرأ ( أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض ) قال : ( أعطيت هاتين ولم أعط هذه ) ، وهذا العذاب لا يقع إلا بأيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون .
ومعلوم أن هذا البأس الذي يذوقه البعض من البعض في هذه الأمة شيء منه يقع باسم العلم ونصرة مقام الديانة كما أن أهل الكتاب من قبل اتخذوا العلم بغياً بينهم ، وقد نبه على هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية .
ولهذا كان من فقه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما قالت الخوارج : ( لا حكم إلا لله ) قال : ( كلمة حق أريد بها باطل ) ، بل ربما وقع بعض الشر من كلمة حق أريد بها حق لكنها لم توافق هدي النبوة وسنة الشريعة ، ولم يتحصل لصاحبها سعة واستعداد للمراجعة والتصحيح .
وصلى الله وسلم على خاتم الرسل .(/4)
العافية لا يعدلها شيء ... ... ...
منذ فترة ليست بالقصيرة والخواطر تتواردني أن أكتب حول قول من لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم - : "سلوا الله العافية".
وقوله - عليه الصلاة والسلام - : "أيها الناس لا تمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية ". رواه البخاري ومسلم.
بل عدّ النبي - عليه الصلاة والسلام - العافية أفضل ما أُعطِيَ العبد، فقال : " سلوا الله العافية فإنه لم يعط عبد شيئا أفضل من العافية". رواه الإمام أحمد وغيره.
وكُنت أقف حيناً مُتأمِّلاً، وأحياناً مُعتبِراً، وحينا ثالثاً مُتسائلاً:
لماذا العافية وحدها؟
وأين تكون العافية؟
العافية.. عافية في الجسد.. وعافية في الولد.. وعافية في المال..
وفوق ذلك كلّه : العافية في الدِّين.
عافية الجسد.. وأنت تمشي على الأرض ولك وئيد! وصوت شديد!
بَزَقَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً في كَفِّه فوضع عليها إصبعه، ثم قال :" قال الله : ابن آدم أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه؟ حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ، حتى إذا بلغت التراقي قلتَ : أتصدق! وأنّى أوَان الصَّدَقة". رواه الإمام أحمد.
عافية الجسد.. وأنت تنظر للبعيد
عافية الجسد.. وأنت تسمع للهمس
عافية الجسد.. وأنت تنام ملء عينيك
عافية الجسد.. وأنت تقوم وتقعد
عافية الجسد.. وأنت تتنفّس
عافية الجسد.. وأنت تنطق وتتكلّم وتُعبِّر عما تُريد
هنا.. تذكّرت موقفين:
أما الأول: فهو لشيخ كفيف.. دُعِي إلى تخريج حَفَظة لكتاب الله.. فألقى كلمته، ثم قال كلِمة..
قال: ما تمنّيت أني أُبصِر إلا مرتين:
مرّة حينما سمعت قول الله- تبارك وتعالى -: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)
لنظُر إليها نَظَر اعتبار..
وهذه مرّة ثانية لأرى هؤلاء الحَفَظَة..
يقول مُحدِّثي وقد حضر المشهد : لقد أبكى الجميع..
هل تأملت هذا المشهد لرجل أعمى يتمنّى نعمة البصر لينظر فيها في موقفين فقط؟
وأما الموقف الثاني:
فهو لشاب أصمّ أبكم.. خَرَج يوماً مع بعض أصحابه، وكان منهم من يُتقِن لُغة الإشارة فيُترجم له..
وفي الطريق مرُّوا بمجموعة من الشباب اجتمعوا على لهو وغناء وطرب.. وقف الشباب بِصُحبة الأصمّ.. ترجَّلُوا من سيارتهم.. استأذنوا ثم جَلَسوا..
تكلّموا.. تحدّثوا.. ذكّروا.. وعَظُوا.. انتهى الكلام.. همُّوا بالانصراف.. أشار إليهم الأصمّ أن انتظروا قليلاً..
أشار إلى صاحبه المترجم أن يُترجم..
تحدّث الأصمّ بلغة الإشارة.. ثم تَرجَم صاحبه..
لقد قال لهم : أتمنّى أن لي لساناً ينطق.. لأذْكُر الله به..
لقد وَقَعتْ كلماته على قلوب الجالسين..
وأثّرت فيهم حتى لامَسَتْ شِغاف قلوبهم.. رغم أنه لم يتكلّم.. ومع أنه لم ينطق.. إلا أن كلماته كان لها وقعها على نفوس الحاضرين.
أما عافية الولد.. ففي صلاح قلبِه وقالبه، وفي استقامته وهدايته، وفي أن تُمتّع به، حتى إذا شبّ وترعرع تمنّيت أن تَدْفَع عنه بالراحتين وباليَدِ، كما قال أبو الحسن التهامي في ابنه:
لو كنتَ تُمنَع خاض دونك فتية = مِنّا بحار عوامل وشِفَارِ
فَدَحَوا فُويق الأرض أرضاً من دَم = ثم انثنوا فَبَنَوا سَمَاء غُبارِ
فإذا نَزَل القضاء ضاق الفضاء..
وأما العافية في المال ففي بركته.. وفي نمائه.. وفي أن يكون مصدره حلالاً، ومصرفه حلالاً، وأن يُحفَظ من كل آفة..
وأما العافية التي هي فوق كل عافية.. فعافية الدِّين.. العافية في الإيمان..العافية في الثبات على دين الله - عز وجل -.. العافية في اليقين.. العافية في السلامة من الوسواس.
العافية في القلب من كل شُبهة وشهوة، فيكون كالمرآة الصقيلة لا يضرّها ما مرّ على ظاهرها.
العافية في العلم والخشية.
لذا كان يُقال : من عُوفِي فليحمد الله.
تواردت هذه المعاني في خاطري حينما دَخَلت قسم الإسعاف والطوارئ بأحد المستشفيات
فهذا يئنّ.. وذاك يصرخ من شِدّة الألم
وثالث في غيبوبة
ورابع قد شُجّ وجهه
وخامس ينزف جُرحه
فعلمت عِلم يقين.. أن العافية والسلامة لا يَعدِلهما شيء..
وفي الأثر: إذا مرض العبد ثم عُوفي فلم يزدد خيرا، قالت الملائكة - عليهم السلام - : هذا الذي داويناه فلم ينفعه الدواء!
فاللهم لك الحمد على العافية.. ولك الحمد على كل نعمة أنعمتَ بها علينا في قديم أو حديث، أو خاصة أو عامة، أو سرٍّ أو علانية.. اللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرِّضا..
لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض..
لك الحمد على العافية.. ونسألك العافية في الدنيا والآخرة.(/1)
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه حين يمسي وحين يصبح : "اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي ومن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتي".
رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه.
كاتب المقال: عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
المصدر: المختار الإسلامي
...
وسائل الإعلام والطفل ... ... ...
في ظل عصر تتلاشى فيه الحدود الثقافية بين الدول، وفي ظل ثورة علمية تكنولوجية واسعة تلعب وسائل الإعلام دورًا كبيرًا في بناء الطفل المسلم ثقافيًا ودينيًا واجتماعيًا في ظل كل هذا يجب تحديد ما يُقدم للطفل من ثقافات عبر الوسائط الإعلامية مثل التليفزيون والفيديو والإلكترونيات المختلفة [الألعاب الإلكترونية] أو عبر الإنترنت.
ولنا هنا وقفات مع هذه الوسائل:
وقفتنا الأولى مع التلفاز:
مما لا شك فيه أن مشاهدة التلفاز ممارسة يومية تشغل فراغ الصغار والكبار ووسيلة يكتسبون عبرها المعلومات والثقافات ولقد أثبتت الدراسات أن الإنسان يميل بشكل واضح إلى الأشياء التي تتفق مع آرائه واتجاهاته، لذا فإن مجموعة أراء الطفل وأفكاره وتربيته التي تعمل قبل مشاهدة برامج التليفزيون وخلالها هي التي تحدد طريقة التعامل معها، وأسلوب تلك الطريقة التي يفسر بها محتويات تلك البرامج.
وإذا كان الطفل في بيئة منزلية أو اجتماعية لا تخلو من الأخطاء السلوكية فإن وسائل الإعلام ومنها التلفاز هي لا يمكن إعفاؤها من المسئولية ولقد أثبتت الدراسات أن التلفاز له أكبر الأثر على تصورات وسلوكيات الأطفال بسبب عدم تكون معايير القبول والرفض لديهم بحكم قلة معرفتهم وخبرتهم.
ولقد انتقد التليفزيون العربي بقلة برامجه المخصصة للأطفال، وشيوع جانب الخيال المدمر والعنف على حساب القيم والمثل الاجتماعية في برامجه كما اتهم بتأثر برامجه بالثقافة الأجنبية والانبهار بالجانب المادي منها، وربما تناقض القيم التي تقدمها البرامج مع القيم الإسلامية والعربية، إلى جانب قلة الاهتمام بربط الطفل ببيئته المحلية والعربية وتراثه الإسلامي وهذا ما أثبتته الدراسات الآثار التربوية لأفلام الكرتون التي يتربى عليها الأطفال في غفلة منهم ومن آبائهم.
وهناك جوانب عديدة من مقومات تربية الطفل ونموه يتضح فيها هذا التأثير التربوي:
1ـ الجانب البدني والعقلي:
فهي تتسبب في تأخر الطفل في النوم والجلوس أمام التلفاز لساعات طويلة مما يؤدي إلى اعتلال صحة الجسم، وتتسبب أيضًا في الخمول الذهني وتعطيل ذكاء الطفل.
2ـ الجانب العقدي:
فقد اختلت الموازين عند أطفالنا بسبب ما يُعرض عليهم على الشاشة، فيرى الطفل رجلاً يطير في الهواء، وينسف الجبال نسفًا، ويشق القمر بيده، ليس هذا فحسب بل هو يطلق أشعة من عينيه تفعل المعجزات.
وتدور أحداث قصص الأطفال حول المغامرات والعنف وشخصيات خرافية وهمية، مثل شخصيات الحيوانات، ورجال الفضاء، وترى الطفل قد غرق في خيالات بعيدة عن الواقع مع قصة 'سوبرمان' و 'بات مان' و ميكي' و 'سندريلا' وكلها قصص غريبة مصورة ترجمها من ترجمها بما فيها من أخلاقيات وعبث ولعل الجميع يتفق على أنها لا تتضمن معانٍ تربوية رفيعة موجهة ، ولا تهدف إلى غرس الأخلاق والقيم الصحيحة، وأعظم من هذا كله أنها تغفل وجود الله بالكلية، وذلك عندما يتحكم أبطال الفيلم في الكون من دون إله وفي مقدرات الكون.
3ـ الجانب النفسي:
ولا ننسى دور التلفاز في بذر بذور الخوف والقلق في نفوس أطفالنا بما يعرف من أفلام مرعبة تخيف الكبير قبل الصغير كأفلام غرندايزر، وغزو الفضاء، ورجال الفضاء والقصص التي تدور أحداثها حول الجن والشياطين والخيال، وكلها توقع الفزع والخوف في نفوسهم إلى جانب أنها لا تحمل قيمًا أو فائدة علمية وينعكس أثر ذلك على أمن الطفل وثقته بنفسه مما يشاهده من مناظر مفزعة بجعله يعيش في خوف وقلق وأحلام مزعجة.
4ـ الجانب الاجتماعي:
يقضي الأطفال حول التلفاز ساعات طويلة تؤثر على حياتهم الاجتماعية وعلاقاتهم بالأسرة، وبهذا يقل اكتساب الطفل للمعارف والخبرات من الأهل والأصدقاء، كما يصرفه أيضًا عن اللعب ومتعته مع أقرانه.
5ـ وأخيرًا الجانب التربوي:
قد يجلس الطفل أمام التلفاز أوقات طويلة دون مراقبة ودون توجيه، وهذا له أثره السلبي على التحصيل الدراسي ومتابعة الدروس ولا يخفى الأثر السيئ لأفلام العنف والجريمة على شخصية الطفل وتهيئته للانحراف مع وجود ما نعرفه من أن بعض الأفلام تصور الكذب والخداع والمراوغة على أنها خفة ومهارة وشطارة ومعها ينزع الحياء نزعًا من قلوب أطفالنا والآداب التربوية السامية في حياتنا.
وقفتنا الثانية مع الحاسوب:(/2)
تُعد برمجيات ألعاب الأطفال وخاصة تلك التي تعتمد على أجهزة الفيديو والحاسبات والأجهزة الإلكترونية من أكثر الوسائل تأثيرًا على تربية الطفل وتوجيهه ولهذه البرمجيات أثرها على النمو العقلي والمعرفي والاجتماعي للطفل والناشئة فبرمجيات الأطفال تتميز بأنها تمكن الطفل من اكتساب ما يرغب من معلومات وزيادة مقدرته على اختيار زمان ومكان ما يشاهده أو يسمعه، وتزيد من إقباله على التعليم.
ولقد أوضحت الدراسات التربوية أن استخدام البرمجيات بصورتها الحالية لها تأثيرها السلبي والإيجابي على ثقافة الطفل المسلم فهي من ناحية إيجابية تؤدي إلى رفع قدرة الطفل على القراءة والكتابة والتعبير الشفوي، والقدرة على الاستماع والتركيز وتعلم الثقافة العامة والعلوم واللغات الأجنبية، والتربية الفنية والرياضيات، كما أنها تقوي المقدرة على حل المشكلات التي تواجهه وتساعده على التوافق الاجتماعي، وتطوير هواياته ومواهبه واستغلال وقت فراغه.
ولكن في ذات الوقت لها آثار سلبية أخرى، فالبرمجيات تحقق الدارسون من أنها تعمل على تدني مستوى القدرة على ممارسة الأنشطة الاجتماعية والقدرة على أداء الواجبات والانصراف عن ممارسة الرياضة البدنية كما أن لها آثارها الصحية السالبة على صحة الطفل المتمثلة في إصابته بالكسل والخمول والسمنة لقلة الحركة، واكتساب العادات السيئة، وتدهور الصحة العامة.
وعلى الرغم من إيجابيات الحاسب إلا أنه ما زال محدود النفع كوسيلة تثقيفية وتعليم الناشئة للغة، وتلقين مفرداتها قياسًا على الاتصال الاجتماعي المباشر، وفاعليته في التعليم والتثقيف لا تزال أقل فاعلية من الوسائل المقروءة والمرئية لدى المجتمعات الفقيرة والطبقات الدنيا من المجتمع التي لا تتوافر لها الظروف الاقتصادية المساعدة على انتشار أجهزة الحاسوب وبرامجه المتنوعة أما عن الإنترنت: فهو يشغل مساحة من وقت الطفل فيفقد كثيرًا من الأطفال قدرتهم على الحديث والتواصل مع الآخرين.
وقفتنا الثالثة مع الألعاب الإلكترونية:
تعتمد هذه الألعاب على سرعة الانتباه، والتفكير، والتركيز، وهي تلعب في أي وقت، ولا تحتاج في بعض الأحيان لأكثر من شخص واحد، إلى جانب أن بعضها سهل الحمل، رخيص السعر وقد اكتسبت هذه الألعاب الإلكترونية شهرة واسعة، وقدرة فائقة على جذب اللاعبين وإغرائهم، وكان أول ضحايا هذه الألعاب 'الأطفال' و'المراهقون' بسبب مجموعة من الآثار السلبية الناشئة عن الإفراط فيها:
فمنها تربية اللاعبين على الوحشية والعنف والقتل لأن معظم هذه الألعاب تعتمد اعتمادًا مباشرًا على فكرة الجريمة والقتل والدماء ومن أسمائها ' ليلة العفاريت '، ' رومبي آكل اللحوم '.
ومنها إشاعة الصور العارية وتعويد الأعين عليها بدعوى أنها لعبة: مثل لعبة ' قتل العاريات ' التي تتضمن مشاهد خلاعية، وألعاب المصارعة: حُشرت فيها المصارعات من النساء وهن كاسيات عاريات.
ومنها إدمان اللعب وإهمال الواجبات مما يؤدي إلى تدني مستوى الطلاب الدراسي ورسوبهم في الدراسة.
وكذلك أيضًا زيادة نسبة الجرائم والعادات السيئة، ففي دراسة غريبة ذُكر أن نسبة جرائم الأطفال ارتفعت إلى 44% بعد إغراقهم بهذه الألعاب الإلكترونية ومن هذه الجرائم: أطفال يحرقون آخرين، وطفل يقتل والديه، وأطفال يغتصبون فتيات صغيرات.
وقفتنا الرابعة مع الإعلام المقروء كمصدر لثقافة الطفل:
إن الإعلام المقروء كالكتب والمجلات ما زالت لها الفاعلية والدور الهام في تنمية ثقافة الأطفال وهو بالنسبة للأطفال بما يتضمنه من قصص وأشعار ومجلات وكتب وبرامج مسموعة له تأثيراته الكبيرة على هذا الطفل حيث أنه يعمل على تشجيع القدرات الابتكارية والإبداع لدى الطفل، كما أنه يسلب لبه ويشعره بالمتعة ويشغل فراغه وينمي هواياته.
وأيضًا يرقي بالسلوك ويبث الأخلاق الفاضلة، ويقوم السلوك المنحرف، ويحد من أغلال التقليد الأعمى للأفكار المدمرة الوافدة بحيث تكون الكلمة المقروءة وغيرها من وسائل الإعلام رافدًا تعليميًا يثري ثقافة الطفل بعيدًا عما لا يناسب بيئتنا وثقافتنا.
على الرغم من حق الطفل في التمتع بمنجزات عصره من وسائل تقنية ومخترعات إلكترونية وألعاب شيقة ومبهرة، إلا أن ذلك يجب أن لا يزيد عن حده ولا يخفى ما يشهده الطفل المسلم من سلبية تضر بصحته النفسية والبدنية من جراء استخدام التقنية الحديثة ممثلة في الثالوث الحديث ' الإنترنت، وألعاب الفيديو، والفضائيات '، إذ أثبتت الدراسات أن نسبة كبيرة من الأطفال في الوطن العربي في المرحلة الابتدائية يقضون حوالي 1000 ساعة سنويًا أي ما يعادل ضعف ما يجلسونه في حجرة الدراسة أمام وسائل الإعلام، وهذا مؤشر خطير، لأن هذه المرحلة من العمر هي مرحلة الخصوبة والتلقي وحفر العادات والسلوكيات كما نعرف ' التعليم في الصغر كالنقش على الحجر '.(/3)
ومن الإنصاف القول: إنه ليس كل ما يُعرض سيئ وضار، فإن لوسائل الإعلام آثارًا إيجابية وأخرى سلبية، ولكن الآثار السلبية لوسائل الإعلام أكثر خطورة على الطفل العربي في ظل غياب أسس اختيار موادها الإعلامية.
ويمكن أن نلخص الآثار السلبية لوسائل الإعلام فيما يلي:
أولها: نقل أخلاق ونمط حياة البيئات الأخرى إلى مجتمعنا، ونقل قيم جديدة وتقاليد غريبة تؤدي إلى التصادم بين القديم والحديث، وخلخلة نسق القيم في عقول الأطفال من خلال المفاهيم الأجنبية التي شاهدها الطفل العربي وأثرها السلبي على الأطفال التي تحمل قيمًا مغايرة للبيئة العربية، كما أن إبراز نجوم الفن والغناء والرياضة والتركيز عليهم يكون على حساب العلماء والمعلمين.
وثانيها: تصوير العلاقة بين المرأة والرجل على خلاف ما نربي عليه أبناءنا.
وثالثها: بناء ثقافة متناقضة بين معايشة ومنع ومشاهدة آخر، ولا يدري الطفل أيهما أصح.
ورابعها: مشاهدة العنف الشائع في أفلام الأطفال قد يثير العنف في سلوك بعض الأطفال، وتكرار المشاهد التي تؤدي إلى تبلد الإحساس بالخطر وإلى قبول العنف كوسيلة استجابية لمواجهة بعض مواقف الصراعات، وممارسة السلوك العنيف، ويؤدي ذلك إلى اكتساب الأطفال سلوكيات عدوانية مخيفة، إذ إن تكرار أعمال العنف الجسمانية والأدوار التي تتصل بالجريمة، والأفعال ضد القانون يؤدي إلى انحراف الأطفال.
ومن سلبيات هذه الوسائل السهر وعدم النوم مبكرًا والجلوس طويلاً أمامها دون الشعور بالوقت وأهميته، مما له أثره على التحصيل الدراسي وأداء الواجبات المدرسية، بالإضافة على الأضرار الجسيمة والعقلية كالخمول والكسل، والتأثير على النظر والأعصاب وعلاقة ذلك بالصرع والسلبية، والسمنة أو البدانة التي تصيب بعض الأطفال لكثرة الأكل أمام هذه الوسائل مع قلة الحركة واللعب والرياضة.
ومن سلبيات وسائل الإعلام أيضًا إثارة الفزع والشعور بالخوف عند الأطفال عبر شخصية البطل والمواقف التي تتهدده بالخطر، والغرق في الظلمة والعواصف والأشباح خاصة إذا كان الطفل صغيرًا ويتخيل كل الأمور على أنها حقائق وفي ظل هذا التطور والتقدم المذهل لوسائل الإعلام وجدنا أنفسنا أمام هجمة شرسة مفروضة من الإعلام وغزوًا يجتاح عقول أطفالنا.
ومع هذا الوضع الذي يتيح لأطفالنا كل شيء، أصبح معه أمر المنع غير مناسب ولا معقول فلا بد من التعامل بحذر مع المادة الإعلامية، وإيجاد البديل المناسب، ولا بد من صناعة إعلامية تصل لعقل الطفل ولا تجعله يشعر بالغربة، ولا شك أن المسئولية مشتركة بين البيت والمدرسة والمسجد وأجهزة الإعلام والثقافة ومن المجتمع بشكل عام، وأن ينتبه الجميع إلى خطورة تأثير وسائل الإعلام على الأطفال إذا لم توجه بشكل صحيح وتحت مراقبة وتوجيه من الوسائط التربوية، كي تكون وسائل بناء وتربية، وليست وسائل هدم وفقدان هوية للأطفال.
فيكف نحمي أطفالنا من خطر وسائل الإعلام؟؟!
1ـ دور الأسرة في حماية الأطفال:
إن دور الأسرة لا ينتهي عند وضع الطفل أمام الجهاز، ولا أن تنتظر من وسائل الإعلام أن تقوم بدور المربي بالنيابة عنها إن الاهتمام بالطفل قبل السادسة والحفاظ عليه من كل ما يمكن أن يكون له أثر سلبي على شخصيته يندرج تحت دور الأسرة الكبير الذي يتمثل في تفعيل الدور التربوي للأبوين، وتقنين استخدام وسائل الإعلام المختلفة داخل البيت، فلا يسمح للأطفال بالبقاء لمدة طويلة أمام هذه الوسائل دون رقيب، وتقليص الزمن بالتدريج وأن تترك الأجهزة في مكان اجتماع الأسرة بحيث لا يخلو بها الطفل في غرفته.
ويصبح من الضروري أن يشاهد الكبير مع الصغير، وأن يقرأ الوالدان مع الأبناء، ولا يترك الصغار هدفًا للتأثيرات غير المرغوبة لثقافات غريبة، عن مجتمعنا العربي المسلم ونقف نحن الكبار نشكو من الغزو الثقافي للأمة فالرقابة على ما يعرض للأطفال، والبقاء معهم أثناء العرض من أجل توجيه النقد ينمي لدى الطفل القدرة على النقد وعدم التلقي السلبي ولا ينبغي أن تغفل وسائل الترفيه الأخرى كالخروج، والنزهات، واللعب الجماعي وغيرها، فلها أثرها على عدم المتابعة، وعدم الالتصاق بهذه الوسائل الإعلامية، وتقليل حجم التأثر السلبي.
2ـ دور المتخصصين في أقسام برامج الأطفال:
لا ننكر في هذا المقام الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام في إعداد البرامج المحلية بواسطة تربوية استشارية ومتخصصين في أقسام برامج الأطفال، وإعداد المواد الإعلامية التي تتناسب مع المراحل العملية المختلفة، وتطوير الإنتاج المحلي على أساس عقائدي وبيئي وتربوي يُناسب الأطفال وحاجاتهم.
إن على القائمين بالاتصال بالطفل عبر وسائل الإعلام دورًا كبيرًا في الاهتمام بالطفل وفي الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية لأطفالنا من خلال توفير البديل الإعلامي والثقافي الإسلامي ليكون متواجدًا جنبًا إلى جنب مع المنتج الإعلامي الثقافي الأجنبي في عصر الفضاء وعصر المعلومات.(/4)
ويكون ذلك عبر إبراز التاريخ الإسلامي وأبطاله الذين تحفل الصفحات بأحداثهم وخبراتهم، وليكن القصص القرآني الكريم النبع الأول التي تستقى منه هذه البطولات وصور القدرة مثل قصة فرعون وموسى.
ويمكن أن تحل شخصيات إسلامية مثل عمر بن عبد العزيز والأئمة الأربعة وكبار العلماء والمسلمين محل 'بات مان' 'سوبر مان' 'أبطال الديجيتال' في نفوس وعقول أبنائنا، فإن الأبناء عندما يعيشون في أجواء الصالحين سيكبرون وهم يحملون همهم وطموحهم وأحلامهم.
3ـ دور الرقابة:
ومهما بلغ حجم الدعوة لإطلاق الحريات فإن على الدولة أن تتحرى الأمانة في اختيار الأنظمة التقنية المناسبة التي تحمي المجتمع قبل فوات الأوان وأن تضطلع مسئوليتها كاملة في تقدير حدود الانفتاح والتوجيه والرقابة لتحقيق التوازن كما أن مراقبة البرامج المستوردة تمنع ما يتعارض مع المثل والقيم الدينية والاجتماعية والحقائق التاريخية، والاتجاهات الفكرية الطبيعية المتعارف عليها.
وهكذا تكون وسائل الإعلام مطوعة للحفاظ على الموروث الحضاري، وتضيف إليه كل جاد ونافع بطرق فعالة تستولي على العقول وتحول دون استلاب ثقافي إعلامي يهيمن على الطفل، ويدخل عليه بما يخالف دينه وقيمه وتقاليد بيئته ونشأته وعقيدته وبذلك تكون وسائل الإعلام مؤثرة إيجابًا في تكوين اتجاهات الطفل وميوله وقيمه ونمط شخصيته، بما يعكس التميز والتنوع الثقافي العربي والإسلامي حتى لا نكون أمة متفرجة في الصفوف الأخيرة، أمة قد تضحك من جهلها الأمم.
المصدر: مفكرة الإسلام
...(/5)
العالم الصغير
طه أحمد المراكشي
abouabdlbar@yahoo.com
بسم الله وبه ثقتي:
تحملت إلى أختي لما علمت أنها وضعت,ونبئت أنها صارت أما,فغمرتني البهجة والإبرنشاق,وكنت إليها بالأشواق,بعد طول فراق.
فكان مني أن رأيت مخلوقا عجيبا,وآية لله باهرة ,وعلامة على جلالته وقدرته ظاهرة.
إنه والله أستاذ الأساتيذ في تعريف الناس بقدسية خالقهم,وهو والله مؤلف ضخم منفرد في بابه,فيه غنية لمن أراد الإستدلال على وجود الله ,عن المقدمات المنطقية و المناهج الفلسفية,والعلل الكلامية.
ولو أن أهل الكلام حققوا وتدبروا بأعين بصائرهم في هذا المخلوق البديع لما أنفقوا أعمارهم فيما لايشفي عليلا و لا يروي غليلا,حتى قال من هو أعلمهم بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم وقد تداركته رحمة وأسعفته يد النجدة:
نهاية إقدام العقول iiعقال
وأرواحنا في وحشة من iiجسومنا
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... ... وغاية سعي العالمين iiضلال
وحاصل دنيانا أذى iiووبال
سوى أن جمعنا فيه :قيل وقالوا
وقال آخر وقد أدركته روح النصفة والعدل:
لعمري لقد طفت المعاهد iiكلها
فلم أرإلا واضعا كف iiحائر ... ... وسيرت طرفي بين تلك المعاهد
على ذقن أو قارعا سن iiنادم
فاسلك طريقة القران فهي أقرب وأسلم,وأوضح وأحكم.
وفي قوله تعالى"وفي أنفسكم أفلا تبصرون" هداية ويقين لمن أبصر ,وحجة تتبختر اتضاحا.
فإن الرضيع البديع قد جمع الله فيه آيات وآيات ,محكمات غير متشابهات,وإذا أنت حلقت بطائر فكرك في شخصه وهيئته,وبداعة خلقته,ثم نفذت بأفكارك الصافية إلى باطنه وما بداخله,لأيقنت أنه هدى للمتقين,ومن آثار رحمة الله رب العالمين,
فألفيته وقد انعكست في جرمه الضئيل,مقتضيات أسماء الله وصفاته التى سمى بها نفسه في كتابه,و علمها رسله إلى خلقه.ففي شهيقه وزفيره, ترى آثار اسم الله الرحيم,وفي تكوينه تبصر اسمه الحكيم,وفي حركاته وسكناته تتوسم اسمه اللطيف,وفي سمعه وبصره,وظاهره وباطنه وكل ذلك منه تقرأ اسم الله القدير الذي أحاط بكل شيئ علما,ووسعه رحمة وحلما.
فهتان عينان نضختان بالنضرة والرواء, فوارتان بالجمال والبهاء,كأنهما ياقوتتان سوداوان تساويان ملك الدنيا,لا يقدر على مثلهما إلا الله
وهاذاك ثغره -لم يثغر بعد-,ما أحسنه وما أبدعه,فإذا حانت منه ابتسامة ,طارت بها حمامة روحه فلا تستقر بها إلا في روحك.وتان شفتان سبحان الخلاق,لا ينالهما بيان خطيب صلاق,وتصاغ فيهما الأشعار.وإذا طرأت عليه سعلة فالذي أسعله الخصب والترفه.ما أكرمه ,ما أكرمه.قال سبحانه"ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"
قال علمائنا النحارير"
فحواس الإنسان أشرف من الكواكب المضيئة,والسمع والبصر منها بمنزلة الشمس والقمر في إدراك المدركات بها,وأعضاؤه تصير عند البلى ترابا من جنس الأرض,وفيه من جنس الماء العرق وسائر رطوبات البدن,ومن جنس الهواء فيه الروح والنفس,ومن جنس النار فيه المرة الصفراء.وعروقه بمنزلة الأنهار في الأرض,لأن العروق تستمد من الكبد,ومثانته بمنزلة البحر,لانصباب ما في أوعية البدن إليها كما تنصب الأنهار إلى البحر.وعظامه بمنزلة الجبال التي هي أوتاد الأرض.وأعضاؤه كالأشجار,فكما أن لكل شجر ورقا وثمرا فكذلك لكل عضو فعل أوأثر.والشعر على البدن بمنزلة النبات والحشيش على الأرض,ثم إن الإنسان يحكي بلسانه صوت كل حيوان,ويحاكي بأعضائه صنيع كل حيوان,فهو العالم الصغير مع العالم الكبير, مخلوق محدث لصانع واحد,لا إله إلا هو."اه من بارع استنباطات الإمام المفسر أبي عبد الله القرطبي.وقال بعض الحكماء "إن كل شيئ في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير, الذي هو بدن الإنسان" ولذلك قال الله "ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"و قال"وفي أنفسكم أفلا تبصرون".فاعجب عجبك -يا أخي-من هذه "المدنية" التي نسيت ربها,بل شتمت أنبيائه ورسله,واتخذتهم هزوا و تلوح لأهلها كل يوم آيات لاانتهاء لها,وعلامات لا انقضاء لها,فما تزيدهم إلا نفورا"يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الأخرة هم غافلون".وقد كانوا نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما,فكسى العظام لحما,ليعلموا أنهم لم ينقلوا أنفسهم من حال النقص إلى حال الكمال,كما أنهم لم ينقلوا أنفسهم من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم,كما ليس في وسعهم مزايلة حال المشيب ومراجعة الشباب.ليوقنوا أن لهم صانعا صنعهم وناقلا نقلهم من حال إلى حال,"أولم يتفكروا في أنفسهم" ,فأي شيئ يحملهم على التكذيب وقد علموا البداءة؟."ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا"
قال أبو الصلت:
إن آيات ربنا باقيات ما يماري فيهن إلا الكفور
خلق الليل والنهار فكل مستبين حسابه مقدور(/1)
العالم يترقب رابع كسوف للشمس في القرن الحالي وكالات و مواقع 28/02/1427
سيحجب القمر بشكل كامل الشمس تماما اليوم الاربعاء 29-3-2006 في رابع كسوف في القرن الجديد يمكن مراقبته في شريط ضيق يمتد من اقصى شمال البرازيل الى آسيا الوسطى. وخلال ثلاث ساعات و12 دقيقة سيحجب القمر نور الشمس على طول 14500 كلم ليغطي الظلام 0,41% من العالم .
وسوف يبدأ الكسوف من شرق البرازيل مع شروق الشمس، ثم يتحرك عابراً المحيط الأطلنطي بسرعة عالية قد تصل إلي ألف كيلو متر في الساعة، حتى يصل إلي سواحل غانا، ثم يمر بدولتي توغو وبنين، وبعدها يخترق كلاً من نيجيريا والنيجر وتشاد وليبيا، ويمر بمنطقة السلوم بمصر على ساحل البحر المتوسط، وبعدها يعبر البحر إلى تركيا، ثم يعبر جنوب البحر الأسود، فجورجيا، فبحر قزوين، ثم يقطع دولة كازاخستان، وينتهي مع غروب الشمس فوق سيبيريا.
وتنتهي هذه الظاهرة عند الساعة 11,48 بتوقيت غرينتش مع غياب الشمس في المناطق الجبلية من الحدود الصينية الكازاخستانية على بعد حوالى 600 كلم شرق الماتي.
وكسوف الشمس ظاهرة عادية اذ تسجل مرتين سنويا على الاقل, يضاف اليها خسوفان للقمر. ويمكن احصاء حدوث الظاهرتين سبع مرات سنويا. لكن هذه الظاهرة خلال العام الجاري تثير اهتمام علماء الفلك خصوصا نظرا لمدتها -بين ثلاث دقائق وثلاثين ثانية واربع دقائق- وامكانية مراقبتها من مناطق خالية وصحراوية تضمن بين سبعين وثمانين بالمئة من الرؤيةوينصح الأطباء بعدم النظر المباشر إلي السماء في وقت حدوث الظاهرة للتطلع إلى الأشعة الصادرة من الشمس، بسبب حدوث تغييرات في تركيبات العدسة البلورية للعين، ما يصيبها "بالكتاركتا" (مياه بيضاء)، وبكف بؤرة النظر المركزية وضعف الإبصار، وأحياناً الإصابة بفقدان البصر، ولذا يُنصح بعدم النظر المباشر إلى السماء في حالة كسوف الشمس لحب الاستطلاع، إلاّ بعد ارتداء نظارات شمسية خاصة بالكسوف، تكون مزودة بمرشحات ضوئية، وذلك لتنقية أشعة الشمس من الأشعة تحت الحمراء، أو فوق البنفسجية، وهي أشعة ضارة غير مرئية، وتكون كثيفة في حالة كسوف الشمس، وتؤدي إلي فقدان البصر تماماً.(/1)
العالِم والداعية.. هل هما شخص واحد؟
1-2 عبد الرحمن الحاج*
ماذا سأكون؟!؛ داعية؟!.. واعظا؟!.. باحثا؟!.. أم كلهم جميعا؟!؛ سؤال يحير خريجي طلاب العلوم الشرعية.. من الناحية العملية لا يبدو أن هناك خيارات عديدة؛ فغالبا ما يمارس هؤلاء كل الأدوار؛ دون قدرة على التمييز بينها، ومعرفة: أين يبدأ الدور؟، وأين ينتهي؟.. ودُون السؤال (هل بالإمكان ممارسة كل هذه الأدوار جميعا؟)؛ على عاتق هذا الوعي الهامشي بهذه الأدوار يقع الكثير من عبء الانقسامات، والصراعات المذهبية، وانحسار التسامح، والتصاعد المستمر للتطرف الديني.
في هذا المقال نحاول إقامة تمييز بين أهم دورين: العالِم، والداعية؛ من أجل المساهمة في فض الخلط القائم بينهما، وبيان: أين يتصل هذان الدوران؟، وأين ينفصلان؟، وما هي السلوكيات المتوقعة من كل منهما؛ بما يساعد على الوفاء بمستلزماتها، وإدراك خطورتها؟.
يشير مفهوم (الدور) إلى عمل، أو وظيفة، أو (موقع)؛ يقوم به بعض أفراد المجتمع؛ يفرض أنماطا سلوكية محددة؛ يتوقعها المجتمع عادة من القائمين به، ويتحدد على أساسها موقعهم الاجتماعي.. وبغض النظر عن تنوع هذه الأدوار، ومراوحتها بين ما هو اضطراري (مثل دور الأب، وأدوار القرابة الأخرى)، وبين ما هو اختياري (التلميذ والرئيس) فإن ثمة (أدوارا) تتعلق بالشأن العام؛ تتسم بحساسية بالغة؛ لخطورتها، وأهميتها في حياة المجتمعات الإسلامية، وهي مثار التباس؛ بسبب تداخلها، وضعف الوعي؛ بتمييز الحدود الفاصلة فيما بينها؛ ومنها (العالم)، و(الداعية)؛ اللذان نحاول في هذا المقال تناولهما، واستجلاء التمايزات القائمة بينهما؛ بسبب الخطورة التي يتمتع بها هذان الدوران؛ واللذان غالبا ما يتم التعامل معهما على أنهما مترادفان؛ يمثلان دورا واحدا.
نشير ابتداءًا إلى أن هذه الأدوار الاجتماعية لم تحظ داخل الفكر العربي والإسلامي بعناية من الدرس، والبحث؛ تستحق الذكر، وقد يعود ذلك إلى التأخر النسبي لتبلور مفاهيم علم الاجتماع الحديث ابتداء، والتأخر في ابتكار هذا المفهوم الذي لم يظهر حتى عام 1934م عند عالم الاجتماع (جورج هيربرت ميد)؛ بالرغم من الخطورة التي تترتب على فقدان الحدود الواضحة بين الأدوار؛ خصوصا عندما تتعلق بالشأن العام؛ وتمس كل المجتمع.. ذلك أن مفهوم (الدور) يقوم بتوجيه الأفراد في كيفية تصرفهم، وإنجاز مسؤولياتهم؛ على نحوٍ ما؛ سيتبين بعد قليل.
* العالم.. ينشئ المعرفة:
المهمة الأساسية للعلم هي البحث عن الحقائق، والكشف عنها؛ وهي مهمة لا تتحقق إلا بالامتحان المستمر للمعرفة البشرية؛ وهذا ما يفرتض أن يكون في سمة العالم؛ القدرة على (النقد)؛ ذلك أنه بغير هذا الدأب المستمر في كشف الخطأ لن يكون بإمكان الإنسان الاقتراب من الحقيقة.. وهذا النقد ينبني منطقيا على إعادة النظر في جهود من سبق؛ وطرح الأسئلة عليها؛ والتشكك فيها.. ومن دون هذا (الشك) العلمي لن يستطيع العالم إدراك العيوب المحتملة؛ سواء كان ذلك متعلقا بآرائه السابقة، أو بآراء غيره؛ ممن سبقوه في خصوص الحقل العلمي المشترك بينهما.
وعندما يقدم العالم وجهة نظر ما فإنه لا يمكنه أن يقدمها إلا باعتبارها (نسبية)؛ أي (صحيحة؛ تحتمل الخطأ)؛ على نحو ما عبر الإمام الشافعي رحمه الله؛ وإلا فإنه يعود على نفسه بالنقض؛ إذ انطلق لنقد غيره؛ وامتحان رأيه من أرضية احتمال الخطأ.. هذا فضلا عن أن النسبية تعني - فيما تعنيه - اعترافا بأن الحق لا يعلمه إلا الله؛ أنه كذلك، وأن الطبيعة الإنسانية تبقى عاجزة دواما عن إدراك معظم الحقائق؛ وإنما تتلمسها؛ وتقترب منها، أو تبتعد عنها؛ بمقدار دقتها، وعمقها في النقد.
وإذا كان ذلك فإن الصرامة العلمية تقتضي الاعتماد على (اصطلاحات) تحدد - بدقة، وبمفاهيم، وألفاظ متفق عليها - ما يريد قوله، وما يعنيه.. لأجل هذا تتسم اللغة العلمية بطبيعتها الجافة، وكثافتها الاصطلاحية، وتبتعد دوما عن التعبيرات البلاغية، واللغة الشعرية، والأدبية الجمالية؛ لأنها بذلك تفقد قدرتها على الضبط.. (كثيرا ما يردد العلماء عبارة (التبسيط المخل)، ويردد المتصوفة: (كلامنا حرام على غيرنا)!!..
ويتحدد في الخطاب العلمي الاختصاصي المخاطب؛ باعتباره مختصا، أو مقتربا من الاختصاص؛ وملما بأساسياته؛ إذ الغاية من الخطاب هي توصيل نتائج الأبحاث إلى أهل الدراية، والخبرة؛ وذلك يعني أن المخاطب بالنسبة للعلم هم (الأقران)؛ وبالتالي فإن الخطاب العلمي هو بالضرورة (خطاب نخبوي) بامتياز؛ مقتصر على فئة محدودة من الناس؛ (خاطبوا الناس على قدر عقولهم؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!)..(/1)
زد على ذلك أن العدة المعرفية - التي تمثل أدوات العالِم في البحث العلمي سواء الحسي التجريبي أو النظري - ذات طبيعة نظرية؛ تجريدية؛ مهما كان الموضوع العلمي الذي تشتغل فيه؛ خصوصا في المناهج التي لا يستغني عنها علم.. والمناهج كما هو معلوم للكثيرين شيء (تجريدي) بحت.. وعملية الاستنتاج هي أيضا عملية معقدة؛ ناتجة عن التجريد المنهجي، ومتولدة منه؛ مما يقتضي القول بأن العالِم - بوصفه باحثا - لا يتوقف عن النزوع إلى التجريد.
وعلى هذا يتحدد دور العالم في إنتاج المعرفة، و(إنشائها)، وتبليغها بدقة إلى أهل الاختصاص (النخبة)؛ ويقتضي ذلك عددا من السلوكيات المتوقعة في اللغة المستخدمة (اصطلاحية)، والسلوك الذهني (التجريد)، والموقف من الجهود السابقة (السلوك النقدي)؛ لتؤطر هذه السلوكيات بمجموعها شخصية العالِم؛ وتطبعها على نحو خاص.
العالم والداعية هل هما شخص واحد؟2/2 عبد الرحمن الحاج*
الداعية.. مُبلغ المعرفة
(أدنى معرفة) من المخاطِب بالضرورة فيما يدعو إليه، وسواء أكانت هذه الدرجة بسبب معرفة منسية لدى المدعو (الدعوة بين المسلمين)، أو بسبب عدم وجودها أصلا (الدعوة بين غير المسلمين).. وبالتالي فإن (جهة الخطاب نازلة) باتجاه الأدنى والعامة، والمخاطَب ليس النخبة أساسا؛ بل (الجمهور) الأعظم.. ومن هنا ترتبط كلمة الدعوة دوما بالجمهور.
ما معنى هذا الاختلاف بين الدورين؟!
من الواضح تماما أن الدورين متكاملان في الغايات؛ إذ فيما تكون غاية العالِم إنشاء المعرفة وبناؤها؛ فإن غاية الداعية تتحدد في تطبيقها.. لكن هذا لا يعفي من القول بأنهما متعارضان إلى حد التضاد في السلوك اللازم لهما؛ فبينما يتجه خطاب العالم إلى الخواص يتجه خطاب الداعية إلى الجمهور والعامة، وفي حين يعتمد الخطاب العلمي لغة اصطلاحية معقدة وجافة يعتمد الخطاب الدعوي لغة أدبية بلاغية تأثيرية بسيطة، ومقابل المنطق الشَكِّي النقدي في البناء الذهني للعالم هناك المنطق التسليمي للداعية، وفيما يتجه ذهن العالم صاعدا باتجاه التجريد والتقعيد (حيث يهدف العالم لاستخلاص الكليات) فإن ذهن الداعية يتجه نازلا باتجاه مستوى التطبيق، وباتجاه مستويات ذهنية مخاطبة أدنى.
هذا التعارض يطلق عليه في علم الاجتماع (صراع الأدوار).. من أجل هذا كان في المجتمع تمايز بين من سُموا بـ (الوعاظ) وأهل العلم الذين غالبا ما يطلق عليهم وصف (أهل الفقه).. فالفقه هنا بمعناه العام (مطلق الفهم).. وليس مفارقة إذن ألا يجتمع على حلقة شيخ الإسلام ابن تيمية في المسجد الأموي الكبير في دمشق مثلا ما لا يتجاوز عدد أصابع الإنسان فيما كان يجتمع لبعض الوعاظ خلق على مد النظر.
لكن هل يعني هذا التمايز عدم قدرة أحدهما على ممارسة دور مزدوج متجاوزا (صراع الأدوار)؟!.. بالطبع لا، ولكن يجب القول بأن هذا يحتاج إلى مجهود مضنٍ.. فعلى الرغم من أن في تاريخنا شخصيات كبيرة استطاعت أن تقوم بالدورين - من أمثال ابن سيرين، والحسن البصري، وعبد الرحمن بن الجوزي، والشهرستاني (صاحب الملل والنحل)، وابن السمعاني - فإن هؤلاء العلماء المتقنين هم قلة قليلة بالنسبة لمن اشتهر بالجمع بين العلم والوعظ؛ ذلك أن بصمات هؤلاء (العلماء الوعاظ) - باستثناء أمثال من ذكرنا أسماءهم - محدود للغاية على تطوير العلوم الإسلامية، وتقدمها؛ فالنجاح في دورٍ عادة يهمش أو يقلل من الإبداع في الدور الآخر كلما اجتمعا في شخص واحد؛ ولذلك كان كبار العلماء - أمثال الشافعي وأبي حنيفة رحمهم الله - ليس لهم مجالس للوعظ، وكبار الوعاظ ليس لهم مجالس علم مثل الحارث المحاسبي.
غير أن وجود تمايز في الأدوار لا يعني أن أحدهما يَفضل الآخر؛ فكلاهما يؤدي مهمة جليلة، وأحدهما ليس له قيام دون الآخر؛ وهو ما قاله عالم الاجتماع (جورج ميد) في (نظريته عن الدور)؛ والتي ترى أيضا أن الدور لا يوجد من دون الأدوار الأخرى؛ لأن مفهوم الدور أساسا لا يتحقق إلا في إطار جماعة؛ ولهذا كان الباقلاني، والإسفراييني (عالما الكلام الكبيران) يسمعان مجلس ابن سمعون الذي قيل: إنه لم يأت في الوعاظ مثله، بل أكثر من ذلك يقبلان يده! (كما ذكر صاحب شذرات الذهب ج 2 ص 125).
وعندما يدرك كل منهما دوره بوضوح، ويزول الخلط بينهما، أو عندما يمارَسان معا؛ ويمثلهما شخص واحد واعيا لحدود ومجال عمل كل من الدورين فإن أداء كل منهما في الشأن العام سيكون كثير الفائدة.(/2)
أذكر أن الداعية المعروف (عمرو خالد) - الذي أوقف عن دروسه في القاهرة - اتهم من شيوخ مصر بأنه ليس عالما؛ فقال جوابا على ذلك لصحيفة السفير اللبنانية: (أنا لست مفتيا)!.. إنه ما أنكر عدم اختصاصه بالعلم؛ بل اعتبر أن ذلك لا يقدح في جهوده في الدعوة.. وعندما سألته مذيعة في قناة (اقرأ) الفضائية أواخر رمضان الفائت: (لماذا ترفض الفتيا للشباب بالرغم من حاجتهم إليها؟!) أجابها بأنه ليس فقيها؛ وأنه يدعو إلى الله بما عُلم من الدين بالضرورة، ولا أعد نفسي من العلماء!!.(/3)
العبادات في الإسلام طريق إلى التغيير
مجالس التذكير
بقلم / عمر مناصرية
أولا : الصلاة :
ما هي العبادة ؟ هل هي الاكتفاء بالقول أنها الصلة بين العبد وربه فقط، أم أنها أكثر من ذلك ، قدرة الإنسان على التجريد والانطلاق والتحرر من أسر التفاصيل والأجزاء التي تتراكم عليه فتحجب عنه ربه ؟ هل هي مجرد حركات نقوم بها صباح مساء ولا تعود علينا بأي نفع ؟ أم أن بإمكانها أن تمنحنا البداية للتغيير المنشود ؟
غالبا ما نكتفي بالقول أن العبادة هي العلاقة التي تربط الإنسان بخالقه ، أو هي الصلة بين العبد وربه ، ثم نترك الأمر على ما هو عليه ، وإذا أتينا إلى هذه العبادة وتأثيرها على الإنسان المسلم ، وجدنا أن لا تأثير لها على حياته ، حتى أصبحت الصلاة مجرد حركات يقوم بها المسلم في المسجد أو في بيته ، لا تضيف إلى حياته جديدا ، ولا تغير فيها شيئا ، وكأنها عمل من الأعمال الأخرى التي نؤديها مخافة رب العمل أن يؤنبنا أو أن يعاقبنا ،ثم إذا غاب اختفى العمل وتوقف ، وفي أحسن الأحوال، جرى بصورة ظاهرية ، فهو موجود لكن نتائجه غائبة ، وهكذا أصبحت الصلاة وسائر العبادات ، مجرد عمل من الأعمال التي نقوم بها بصورة مفروضة ، حتى أصبحت ثقيلة الحمل ، تنوء بها الرجال في مساجد الله .
مفهوم الصلة :
من أكثر الملاحظات التي نراها في الصلاة ، هي أن النفس فيها بإمكانها أن ترتقي بفكرها ووعيها إلى درجات عالية من الوجود أمام الله ، كما بإمكانها أن تنحط إلى أدنى المستويات ، عندما يصيب النفس السهو المتكرر والشرود الطويل الذي لا ينتبه منه المسلم إلا عندما يسلم خارجا من صلاته ، ليعود إلى حالة الوعي التي كان فيها قبل الصلاة ، وكأن الصلاة هي غيبوبة فقط ، يدخلها العبد ليزيد نفسه حسرة وحيرة .
وهذا راجع إلى طبيعة الصلة بين العبد والله، فهي صلة ينبغي أن تكون وفق شروط معينة ومحددة ، وينبغي أن تكون منظمة غاية التنظيم ، كما نلاحظ ذلك في أفعال القيام والركوع والسجود ، التي تعبر عن درجة الانضباط الذي ينبغي أن يكون عليه العبد أمام الله ، أو في الأدعية والكلام الذي نقوله ، إذ تتم مخاطبة الله بكلامه هو ، أو بكلام رسوله ، من تسبيح وتعظيم وتنزيه له وثناء عليه ، أو بدعائنا وتضرعنا إليه .
هذا هو المعنى العميق للعلاقة ، فهي الإحساس والمشاعر والخشوع والخضوع لله ، أي الإحساس بالحضور أمام الله ، وكل علاقة مع شخص لا يكون فيها للمشاعر دور فهي علاقة ميتة ، فكيف بالعلاقة مع الله.
غير أن هذا التنظيم لا بد أن يؤدي أيضا إلى حال من الخشوع الذي يمثل الهدف لأفعال الصلاة ، أي أن التنظيم والانضباط السلوكي والقولي أساسه أن يؤدي بالعبد إلى حالة من الإحساس الوجداني والروحي بالعلاقة مع الله ، وهذا هو المعنى العميق للعلاقة ، فهي الإحساس والمشاعر والخشوع والخضوع لله ، أي الإحساس بالحضور أمام الله ، وكل علاقة مع شخص لا يكون فيها للمشاعر دور فهي علاقة ميتة ، فالعلاقة التي تربط الزوجين ، إن لم تكن مبنية على المشاعر والحب ، فلا بد أنها ستكون علاقة ناقصة ، ولن تؤدي إلا إلى النفور ، كذلك العلاقة مع الله في الصلاة ، وهي أكبر من أي علاقة ، إذا لم تؤدي الحركات والأفعال الظاهرية إلى الإحساس بالوجود النفسي والفكري أمام الله ، فلن تكون إلا علاقة ظاهرية ، فارغة من الداخل ، وإذا أصبحت على هذا النحو ، انعكس ذلك على الفعل الظاهري نفسه ، حيث ينكسر هذا الفعل ، كما يتهدم بنيان من الأبنية ، ويصبح العبد غير مدرك لما يقوله أو يفعله ، فيخطئ ويسهو ، ولا يخرج من صلاته إلا بمزيد من السهو والحيرة .
وإذا أصبحت الصلاة على هذا النحو ، أصبحت ميدانا لكل شيء ، للوساوس والأفكار والشرود ، كالبيت الفارغ المهجور الذي تؤمه الوحوش والطيور الغريبة والقطط الضالة ، لتتخذ منه مأوى لها ، وكذلك الصلاة والعبادة عموما ، إذا خلا الله من قلب العبد فيها ، سكنته الشياطين بوساوسها وأزيزها ، ذلك أن الصلاة كما قلنا هي الفعل الذي نؤديه لله وأمام الله ، وإذا خلا الله منه ، أصبح مكانا لكل شيء وأي شيء، وأصبح مجرد انعكاس ليوم الإنسان ، يواصل فيه عمله الذي تركه ، فيخطط له فيه ويبدأ من حيث انتهى ، وكأنه لم ينقطع عنه أبدا.
الانقطاع مفهوم أساسي في الصلاة ، إذ يعني القدرة على كسر المألوف والمعتاد ، أي التغيير بمعناه الدقيق والعميق ، فمن المعروف أن المألوف يصبح ذا سلطة على العبد ، وعندما لا يبادر إلى كسره ، فإنه سيصبح عادة قوية ، تفرض نفسها عليه وعلى حياته.(/1)
من ناحية أخرى ، تنبع أهمية الصلاة من مفهوم الصلة نفسه ، إذ تعني فيما تعنيه الانقطاع أيضا، أي انقطاع العبد عن كل شيء متعلق بمألوفه وعادته المرتبطة بيومه ، والدخول في اللحظة الجديدة التي يصبح فيها مرتبطا بالله ، والانقطاع مفهوم أساسي في الصلاة ، إذ يعني القدرة على اختراق المألوف والمعتاد ، أي التغيير بمعناه الدقيق والعميق ، فمن المعروف أن المألوف يصبح ذا سلطة قاهرة على العبد ، وعندما لا يبادر إلى كسره ، فإنه سيصبح عادة قوية ، تفرض نفسها عليه وعلى حياته ، والصلاة بأوقاتها المعروفة ، وحركاتها الجديدة وأقوالها ومشاعرها ، هي فرصة العبد للبدء في التغيير ، ذلك أنها تعلمه كيف يكسر عوائده وارتباطاته وتفكيره ، ليتحضر لحالة جديدة كلية ، تمكنه من التحكم أكثر في نفسه وحياته ، وهذا الذي أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، في حديث تشبيه الصلوات الخمس بالنهر أمام البيت، يغتسل منه العبد كل يوم خمس مرات ، فعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا ما تقول: ذلك يبقي من درنه ؟ قالوا: لا يبقي من درنه شيئا قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا ) رواه البخاري .
إننا عندما ننظر إلى الركوع والسجود ، سنجد بالإضافة إلى أنهما يمثلان التنزيه والتعظيم ، يمثلان أيضا فكرة كسر الحركة الإنسانية المعتادة ، وبدون هذا الكسر لن تكون هناك عبادة خالصة لله .
إننا عندما ننظر إلى الركوع والسجود ، سنجد بالإضافة إلى أنهما يمثلان التنزيه والتعظيم ، يمثلان أيضا فكرة كسر الحركة الإنسانية المعتادة ، وبدون هذا الكسر لن تكون هناك عبادة خالصة لله ، في نفس الوقت الذي يمثل فيه التسبيح والتعظيم والقرآن ، كسرا للغة المألوفة لدينا، والخشوع بصفته عاطفة غير معروفة لغير المؤمن ،كسرا للمشاعر المعروفة لدى الجميع ، حيث يتم تجاوزها إلى مشاعر جديدة كلية ولا يشعر بها العبد إلا في ارتباطه بالله .
كما أننا حين نلاحظ الأوقات التي تتم فيها الصلاة ، سنجد أنها مرتبطة أيضا بوظيفة التغيير والإختراق ، فهي أوقات متباعدة ، وتكون في الحالات التي يكون فيها الإنسان غير راغب في الحركة ، فكأنها دعوة من الله لكسر العادة الإنسانية المتجهة دائما إلى الدعة والسكون ، أي كسر الروتين اليومي للإنسان ، فعند الفجر ، يقوم المسلم ليكسر رغبته في النوم ، وعند الظهر يقوم بكسر رغبته في الراحة أو العمل ، وعند العصر أيضا ، أما عند المغرب ، فالإنسان يحب أن يأوي إلى بيته وأهله ، لكن الصلاة تدعوه للخروج لملاقاة الظلام الذي يحسس الإنسان بالهدوء ، وتكون الصلاة عندئذ جهرية، ليناقض ذاك فكرة النوم والهدوء والسكون. ونفس الشيء يحدث في صلاة العشاء ، وكأن الصلاة بأفعالها وأدوارها الزمنية وجهريتها أو سريتها هي دعوة أخرى موازية لدورة المألوف والمعتاد الذي يتكرر ويعود دائما ، فتأتي الصلاة لتكون هي أيضا موازي ومناقض له، حتى لا تتحول الحياة إلى شيء واحد يتكرر علينا وفينا وحولنا . وهذا هو ربما المعنى العميق للعبادة ، الذي يمكننا أن نراه في كل عبادة ، كالزكاة والصوم والحج ، وغير ذلك من العبادات .
فالصلاة بهذه المعاني ، هي تجاوز الإنسان لحالته الراهنة ، بحركاته وأقواله ومشاعره ، إلى حركات وأقوال ومشاعر لا يحس بها ولا يقوم بها إلا مع الله ، فالتجاوز هو المفهوم الذي تؤدي إليه الصلاة ، تجاوز العادة والركون والمألوف ، بالاقتراب من الله أكثر ، بما يؤدي مباشرة إلى التغيير المنشود الذي يحاوله العبد دائما .
وانطلاقا من هنا تنبع أهمية الصلاة كعبادة تقود العبد في اتجاه التغيير، وهذا ما سنعرفه من خلال الأفعال الثلاثة للصلاة .
الأفعال الثلاثة للصلاة :(/2)
إن الأفعال السابقة ، أي الفعل الحركي واللفظي والروحي ، أفعال متكاملة ومرتبطة ببعضها البعض أشد الارتباط ، وينبغي أن يؤدي كل منها إلى الآخر، وهذا يفرض على العبد أثناء الصلاة أن يكون متحكما أشد التحكم في أفعاله وأقواله ومشاعره ، أي أن يكون واعيا بلحظة الصلاة ، ودون هذا التحكم لن يتمكن من الوصول إلى معنى الصلاة . لكن عندما يتمكن من ذلك ، سيلاحظ أن ذلك ينعكس على حياته اليومية مباشرة، حيث تستمر قدرته على التحكم والوعي بظروفه وأفعاله ومشاعره في التقدم، ويصبح أكثر وعيا بالحياة والوجود بصفة عامة ، وهو ما يؤدي به إلى الانتهاء عن كل فاحشة ومنكر كما أخبر القرآن في سورة العنكبوت الآية 45: : ((اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ماتصنعون)) ، وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا)، لأن القدرة على التحكم ستصبح كبيرة جدا ، ونابعة من العلاقة مع الله ، وهو ما سيؤدي إلى التحكم في النفس وأخطائها أكثر . وبالعكس ، إذا لم يتم التحكم في الأفعال الثلاثة للصلاة ، سينعكس ذلك على الصلاة نفسها ، وسينفرط السلوك الإنساني في الصلاة ، ولن يعود قادرا على ممارسة دوره ، كما سينعكس ذلك على الحياة اليومية للإنسان ، لتصبح غارقة في السهو أكثر فأكثر ، منفرطة الوحدة بين الأفعال الثلاثة ، السلوكية واللفظية والروحية الوجدانية ، لتنعزل عن بعضها البعض ، بما يفقد الإنسان القدرة على الرقابة والتحكم ، وبالتالي إمكانية الوقوع في أي خطأ ، سواء بالقول أو بالفعل أو الشعور، في كل ظرف من الظروف التي تأتي بها دورة الحياة ، وهو ما يؤدي به إلى الفواحش والمنكرات ، لأن قدرته على التحكم في الوعي والنفس حينئذ ستكون ضعيفة جدا .
كيفية التحكم في الصلاة :
إن الصلاة كما رأينا فعل تغييري للحالة الإنسانية المألوفة عموما واتجاه بها إلى الله ، وهي تجاوز لكل ما يمكن أن يصبح سجنا للعبد ، سواء من حيث حركته أو قوله أو شعوره وإحساسه ، حيث يؤدي هذا التجاوز إلى إحساس جديد ، وفعل جديد ورؤية جديدة للحياة والإنسان والكون . فكيف يتسنى للعبد أن يقوم بهذا العمل الكبير ؟
ينبغي أولا أن نعرف مراتب الوعي في الصلاة ، وهي :
-الوعي بالحركة : حيث يأتي المسلم بحركات جديدة كلية وليست من طبيعة الحركات اليومية المألوفة.
-الوعي باللفظ : حيث يقول المصلي كلاما ليس فيه من كلام البشر المعتاد شيئا ، وهنا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم إن صلاتنا لا يصح فيها شيء من كلام الناس .
- الوعي بالعاطفة الروحية : حيث يؤدي الوعي بالفعل والحركة تدريجيا إلى استكشاف العاطفة الروحية الكامنة خلف الفعل واللفظ والحركة ، وهو ما يستحضر وجود العبد أمام الله .
-الرؤية : حيث يصل المصلي إلى رؤية الله أمامه ، وهو واقف بين يديه يناجيه .(/3)
وهذا يبين لنا المراتب التي على العبد الارتقاء فيها إذا أراد أن يصل إلى حالة الصلاة الخاشعة ، وهي حالة راقية جدا لا يمكن الوصول إليها في لحظة واحدة ، أو في أيام أو شهور أو حتى سنوات ، وكم تستوقفنا تلك المناظر لشباب يبكون في صلاتهم ، مع أن البكاء في الصلاة مرتبة كبيرة وتتخطى قدرات الإنسان العادية ، وليس هذا طعنا فيهم ، بقدر ما هو تنبيه إلى ضرورة الوعي بمكانة العبد أمام خالقه ، وأن البكاء والخشوع لا يكون بتخطي المراحل الأساسية والمبتدئة في الصلاة . وعلى كل فإن الوعي بالحركة واللفظ في الصلاة هي أدنى المراتب ، وهي التي ستخلص العبد من شرك الوقوع في الوساوس والهواجس التي عادة ما تكون مفروضة علينا بسبب دورة الحياة ومشاغلها ، كما أنها ستصل به إلى الدخول تدريجيا إلى الوعي بعاطفته الروحية، ومن ثم الوصول إلى المرتبة الأولى في الإحسان ، وهي عبادة الله وكأنه يرانا : (( فإن لم تكن تراه فإنه يراك )) ، وهي المرتبة التي يحس فيها العبد بملاحظة الله له ومراقبته إياه أثناء الصلاة ، فتأتي عبادته كلها على هذا النحو ، شعورا بالوجود أمام الله ، وإحساسا به في كل لحظة . وكلما داوم العبد على ذلك ، كلما ارتقى في درجات الرؤية ، حتى يصل إلى المرحلة الأخرى منها ، وهي تكشف الله أمام عبده ، أي ((أن تعبد الله كأنك تراه )) ، وتلك هي المرتبة الثانية للإحسان التي يتخلص فيها العبد نهائيا من تأثيرات الحياة الخارجية والدخول في عالم الله ، إنها المرحلة المنطقية التالية للبداية التي كان العبد فيها يسعى إلى التخلص من التأثير الخارجي، وما يقابل التأثير الخارجي هو عالم الله الخالي من التأثيرات والمنغصات ، وبمعنى آخر ، فإن الإحسان هو رؤية ما يقف خلف الحركة واللفظ والخشوع من وجود آخر، هو منبع ذلك كله ومصدره ، أي الله سبحانه وتعالى، فيحس العبد عندئذ بالحرية والعبادة وبالسمو والتواضع وبكل ما كان يشكل تناقضا في الحياة البسيطة، في أذهاننا قبل أن تتحرر.
ولتوضيح هذه النقطة المهمة ، نضرب مثلا بحالتنا حين نرى شخصا من مكان بعيد ، ففي حالات كثيرة ننجح فعلا في اكتشافه ، والسبب في ذلك هو أننا احتفظنا في ذاكرتنا بجملة خصائص عنه (تجريد بسيط) ، لكن القدرة الإنسانية ، هي أكبر من هذا بكثير، حيث ينجح الأشخاص في التعرف على آخرين حتى في مكان شبه مظلم ، أو قليل الإنارة ، وهذا يعني قدرة إنسانية كبيرة على الرؤية حتى في ظل عدم وجود شروط الرؤية بالاحتفاظ بإطار من الخصائص اللازمة لذلك، والمرحلة التي تقع خلف هذه المرحلة هي مرحلة الفكر ، التي هي نفس المرحلة السابقة بالاظافة فقط إلى أن الخصائص المحتفظ بها عن الأشياء أو الظواهر هي خصائص أكثر تجريدا وتستطيع احتواء كثير من التفاصيل . أما في الصلاة ، فالعبد ، يحاول تطوير نفس هذه القدرة ، أي الانتقال من مجال الحركة الظاهرية ( شخص قريب أو بعيد احتفظنا بملامحه- تجريد بسيط-) ، إلى مجال الرؤية الفكرية (ظواهر طبيعية واجتماعية ونفسية تم وعيها بقدرات التجريد أيضا- تجريد كبير- ) إلى مجال الرؤية الروحية ( الله الذي انطبعت فينا صفاته وأسماؤه بصورة فطرية- تجريد أكبر- ) ، فكل مرحلة من المراحل السابقة ، يتم فيها دمج مقدار من التفاصيل في خاصية واحدة تجمعها ، والمرحلتين الأولى والثانية ، هي ما يحدث للإنسان بصفة عامة ، سواء في حياته البسيطة ، أو في حياته العلمية حين يدرس الظواهر ويكشف عنها ، حيث يطور قدرات الوعي والتجريد لديه . أما المرحلة الثالثة فإنها لا تحدث إلا في الصلاة ، أو في العبادة عموما ، حيث يكون العبد في حالة من التجريد الأكبر للأشياء والتفاصيل الكثيرة والوجود بصفة عامة ، وكما يسعى العالم إلى التخلص من ذاتيته أثناء بحثه ومن جميع ما يمكن أن يهدد عمله ، كذلك يسعى المؤمن إلى التخلص من كل ما من شأنه أن ينغص عليه إحساس اللحظة لديه ، ليصل أخيرا إلى التحرر من الوجود الضيق وليدخل في عالم الله الأكثر شساعة، وفيه يحس بالسلام والطمأنينة والخشوع ، لأنه استطاع الارتقاء عن التفاصيل والفروع والأجزاء ، ونجح في التخلص من كثير مما كان يربطه بالواقع وضغوطاته .(/4)
إن الصلاة بهذا تبدو لنا ارتقاء دائما نحو التجديد والحرية ، انفلاتا من أسر ما هو إنساني وشيئي ، ودخول في عالم الله ، ولذا فإن طريقها كما رأينا ليس على نحو ما نعتقد ونألف، أي كعلاقة متوازية بين أشخاص في نفس المستوى ، بل على نحو ارتقائي ، يصعد فيه العبد نحو الله ، منطلقا من الحركة واللفظ ، إلى الإحساس والمعنى والرؤية ، وإذا داوم على ذلك ، أوتي الخشوع والبكاء، وأحس بالسلام . وإذا خرج من الصلاة ، كان أكثر تحكما في حياته ، لأنه استطاع التحكم في مراتب وعيه ، وتبعا للمرتبة التي وصل إليها العبد ، صارت حياته كذلك، حيث أن الذين وصلوا إلى مرتبة الإحسان في الصلاة ، ستكون حياتهم أحسانا بلا شك ، وخيرية تفيض على الآخرين ، أما من هم في المرتبة الأدنى ، فإن حياتهم كذلك ، ستكون حسب ما وصلوا إليه من درجة التحكم في مراتب الوعي السابقة ، لأن الحياة الإنسانية ، ما هي إلا وعي بالحالات السابقة ، وارتقاء بها لتكون مثلما هي في الصلاة . ولذلك تعتبر الصلاة طريقة من طرق التغيير ..
الصفة الجماعية للصلاة :
لا تتم صلاة العبد وحده وإنما في جماعة ، وللدقة نقول إنها تتم في صف ، أو صفوف متراصة ، وكما تبدو حركات الصلاة الخارجية ، من ركوع وسجود وقيام وجلوس أكثر منهجية وتنظيما ، تبدو الجماعة من صفوفها أيضا منظمة وممنهجة بصورة كبيرة ، والوعي الجماعي للصلاة هو الوعي بالوجود أمام الله مجتمعين ، حيث يضيف ذلك إلى النفس مقدارا كبيرا من العاطفة المفعمة بالتواصل مع الآخر والاتحاد معه أمام الله ، وإذا تم ذلك بصورة منظمة ، فإنه يخلق في الجماعة إحساسا مشتركا بالوحدة النفسية والاجتماعية ، إذ أن من أهم ما يوحد الجماعة الإنسانية ويقذف فيها روح الإرادة والحيوية هو دخولها لإنجاز عمل منظم وممنهج ، وبصورة مشتركة ، يقوم فيها كل واحد بنفس الفعل مع الآخر ، وبالتالي فهي تقوم بوظيفة التوحيد للجماعة الإنسانية المسلمة .
إن الاجتماع الإنساني في المسجد يكسر تلك الرغبة في التجاوز والتناقض ومحاولة التفوق على الآخر ، وهو ما تخلفه الحياة الاجتماعية كآثار سلبية على الحياة ، من الممكن أن تزيد هذا المجتمع تمزقا وتنافرا.
إن الاجتماع الإنساني في المسجد يكسر تلك الرغبة في التجاوز والتناقض ومحاولة التفوق على الآخر ، وهو ما تخلفه الحياة الاجتماعية كآثار سلبية على الحياة ، من الممكن أن تزيد هذا المجتمع تمزقا وتنافرا ، أما في المسجد وفي الصلاة ، فإن الله يوحد الجميع أمامه ، ذلك أن البشر حين يتجهون إلى شيء واحد ، وهو هنا الله بما يمثله من فكرة الوحدانية المطلقة، يختفي كل ما كان يؤسس للفرقة والاختلاف بينهم ، فالله هو القادر وحده على القضاء على التفاصيل والأجزاء المسببة للاختلاف بين البشر. ولذا تأتي الصلاة في الجماعة حاملة لهذا المعنى ، حيث تكون جميع الأفعال لله وحده ، كما أنها واحدة ، فالقيام والركوع والسجود ، وحتى الدعاء والتسبيح والتعظيم هي أشياء يقوم بها كل المصلين، دون اختلاف أو تباين ، ويضاف إلى ذلك الصف والتوجه إلى مكان واحد هو الكعبة المشرفة ، فتأتي الصلاة حاملة لفكرة الوحدانية من جميع جوانبها ،وهذا ما يقلب المعادلة الإنسانية في الحياة رأسا على عقب ، ويحولها من نمطها الصراعي ، إلى نمطها الوحدوي ، فتتسرب العاطفة الإيمانية بين الصفوف المتراصة ، لتحتوي الجميع في ظلها.
في المسجد وفي الصلاة ، يوحد الله الجميع أمامه ، ذلك أن البشر حين يتجهون إلى شيء واحد ، وهو هنا الله بما يمثله من فكرة الوحدانية ، هو القادر وحده على القضاء على التفاصيل والأجزاء المسببة للاختلاف بين البشر. ولذا تأتي الصلاة في الجماعة حاملة لهذا المعنى .
ولتوضيح هذه النقطة أيضا ، نضرب مثلا بسورة الإخلاص ، وهي : ((قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفؤا أحد )) وهي السورة المعبرة عن فكرة الوحدانية ، حيث تختلف هذه الفكرة عن أي فكرة أخرى، من حيث عدم حاجتها لكائن آخر( الصمد) ، في مقابل البشر الذين يحتاجون إلى بعضهم بعضا وهو ما يساهم في الاختلاف بينهم ، ومن حيث تنزهها عن المنشأ القبلي الذي يساهم أيضا في الاختلاف بين البشر( لم يلد ولم يولد) ، ومن حيث تنزهها عن الشبه بأي شيء آخر ( ولم يكن له كفؤا احد)، وهو ما يكون لدى البشر في شكل مقارنات بين بعضهم البعض ، والذي يتسبب في الصراع بينهم . والاتجاه إلى الله بهذا المفهوم ، يحقق القضاء على كل ما يناقض الوحدة بين المؤمنين ، إذ يكونون وهم في تلك الحالة ، غير خاضعين لأي من تلك الأشكال السابقة التي تؤسس للاختلاف والصراع بينهم ، وهذا ما يحدث في الصلاة .(/5)
إننا بحاجة إلي هذه المعاني في الصلاة ، إذ أصبحت الصلاة لا تزيد مؤديها إلا قلقا وحيرة، بسبب وقوع العبد في تناقض بين معاني الصلاة التي لا تصلح إلا بها ، وبين أحداث الحياة الكثيرة التي تغزو الصلاة نفسها ، وصار المسجد مكانا للشحناء والبغضاء ، وليس مكانا للوحدة الإيمانية والإنسانية .(/6)
العبادة مفهومها وأهدافها
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهد يه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ،من يهده الله فلا مضل له ،ومن يضلل فلا هادي له ، .وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } .( آل عمران: 102)
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } ( النساء: 1) .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } (الأحزاب:70-71) .
أما بعد:ـ
منذ أن خلق الله الإنسان أوجد فيه القلب والعقل والعاطفة والفكر، وهبه القدرة والإرادة، وأمره وزوجه أن يسكنا الجنة ونهاهما عن أكل الشجرة، وكان أمره ـ سبحانه ـ ونهيه لمقتضي ألوهيته وربو بيته على من كانت مقتضيات بشريته وآدميته محلاً صالحاً للعبودية التامة، ومن أول نظر نجد أن هذه الحقيقة التي تثبتها عقيدة الرسل الكرام ـ عليهم السلام ـ ابتداء، تقول لنا: إن هذا بيان حاسم للتفريق بين ألوهية الباري ـ سبحانه وتعالى ـ المقتضية للخلق والأمر، كما يشاء وفق علمه وحكمته، وبين عبودية الخلق المقتضية للسمع، والانقياد، وفق التركيب الرباني الموجود في الإنسان المتجلي في الإرادة والقدرة، ومن هنا لابد من وجود قاعدة الجد والقصد والوسط ولاعتدال والعدل والحق في بناء هذا الكون بالتميز بين حقيقة الألوهية بحقوقها ولوازمها وبين حقيقة العبودية بحدودها وضوابطها وما ينتج من هاتين الحقيقتين من سمات وصفات ونتائج وهذه هي الانطلاقة لأولى لقضية التوحيد بالنسبة للإنسانية على وجه المعمورة، بدأت من آدم ـ عليه السلام ـ أبي البشر مروراً بالأنبياء والمرسلين ـ عليهم السلام ـ حتى قيام الساعة، انفتحت وظيفة الإنسان في هذه الحياة، تحددت بها مهمته في هذا الوجود.(1)
يقول ابن تيمية رحمه الله (فالإنسان وكل مخلوق فقير إلى الله بالذات، وفقره من لوازم ذاته، يمتنع أن يكون إلا فقير إلى خالقه، وليس أحد غنياً بنفسه إلا الله وحده، فهو الصمد الغني عما سواه وكل ماسوه فقيراً إليه فالعبد فقيراً إلى الله من جهة ربو بيته ومن جهة ألهيته ). (2)
ذلك ( أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته والإخلاص له................ وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه وتألهم كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم وربو بيته إياهم فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم وبذلك يصيرون عاملين متحركين ولا صلاح لهم ولا فلاح ولا نعيم ولا لذة بدون ذلك بحال بل من أعرض عن ذكر ربه فإنه له معيشة ضنكاً ونحشره يوم
القيامة أعمى.) (3) وهذه الوظيفة وهذه المهمة للإنسان قي الحياة الدنيا هي التي من أجلها أنزل الله
الكتب وأرسل الرسل: فالرسل إنما دعوا إلى:{ إياك نعبد وإياك نستعين } ( الفاتحة: 5) فإنهم كلهم دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته من أولهم إلى آخرهم فقال نوح: { اعبدوا الله مالكم من إله غيره } ( الأعراف: 59) وكذلك قال هود وصالح وشعيب وإبراهيم قال تعالى {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } .( النحل: 36 ) وقال {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } ( الأنبياء: 25)
وبذلك يتضح أن العبادة هي الوظيفة الأولى للإنسان في هذه الحياة. (4)
فكرة البحث:-
أولاً اخترت عنواناً للبحث وسميته: العبادة مفهومها وأهدافها ثم قسمت البحث إلى أربعة مباحث المبحث الأول قسمته إلى خمسة أبواب الباب الأول يتكلم عن معنى العبادة في اللغة والشرع والباب الثاني يتكلم عن معنى العادة في اللغة والشرع والباب الثالث يتكلم عن أقسام العادة والباب الربع حقيقة العبادة والعادة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية وفيه العبادة في القرآن والسنة والعادات في القرآن والسنة أما الباب الخامس فيتكلم عن أثر الإخلال بشكل العبادات على بعض الديانات السابقة.
أما المبحث الثاني فيتكلم عن شروط قبول العبادة وفيه شرطان:الشرط الأول يتكلم عن الإخلاص وذكرت الأدلة من القرآن الكريم و من الأحاديث النبوية و ما ورد عن السلف في الإخلاص
وأما الشرط الثاني في قبول العبادة فهو الموافقة للشرع وذكرت فيه الأدلة من القرآن الكريم
ومن السنة ومن كلام السلف.
أما المبحث الثالث فيتكلم عن مفهوم العبادة في الإسلام وفيه بابان: الباب الأول يتكلم عن المفهوم الخاص للعبادات والمفهوم العام للعبادات أما الباب الثاني فيتكلم عن الأصل في العبادات التسليم وعدم إدراك الحكمة وذكرت فيه ما ورد في كتب السنة من الأحاديث والآثار.(/1)
أما المبحث الرابع فيتكلم عن أهداف العبادات ومقاصدها فيه هدفان: الهدف الأول: ويتمثل في معنيين: -المعنى الأول:- عبادة الله لأنه أهل للعبادة والمعنى الثاني:- العبادة لشكر النعمة
أما الهدف الثاني فيتكلم عن المقاصد الثانوية للعبادة.
ثم ذكرت بعد ذلك خلاصة البحث ثم المراجع ثم فهرس الآيات ثم فهرس الأحاديث ثم فهرس البحث.
هذا والله تعالى أعلم.
المبحث الأول
الباب الأول: معنى العبادة في اللغة والشرع
أولاً في اللغة:- العبادة والعبدية والعبودية: الطاعة. (1)
وفي لسان العرب: أصل العبودية: الخضوع والتذلل.
والتعبد: التنسك، والعبادة: الطاعة.
التعبد:التذلل، والتعبيد: التذليل.
بعير معبد مذلل، وطريق معبد، مسلوك مذلل. (2)
العبادة: هو فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيماً لربه.
العبودية: الوفاء بالعهود وحفظ الحدود والرضا بالموجود والصبر على المفقود. (3)
ويرى أبوا لأعلى المودودي في معنى العبادة استناداً إلى الاستعمال اللغوي لمادة (ع، ب، د ) أن أصل معنى العبادة هو الإذعان الكلي، والخضوع الكامل، والطاعة المطلقة. (4)
ثانياً: العبادة في الشرع:- خضوع وحب، (5) والعبادة المأمور بها العبد تتضمن معنى الذل والخضوع لله ومعنى الحب فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له. (6)
قال ابن تيمية رحمه الله: ( والإله هو المعبود الذي يستحق غاية الحب والعبودية والإجلال ولإكرام والخوف والرجاء..........). (7)
العبادة هي أعلى مراتب الخضوع لله والتذلل له وقيل هي المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيماً لربه وقيل هي فعل لا يراد به إلا تعظيم الله بأمره وقيل هي أسم لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال والأعمال الظاهرة والباطنة. (8)
أصل العبادة في اللغة يرجع إلى معنى التذلل والخضوع والطاعة ولا يستحق العبادة إلا المنعم بأجل النعم وذلك بإذعان العبد لله وترك كل مقاومه إزاءه وعصيان، مع المحبة والشوق إليه، فالعبادة لاتكون صحيحة كاملة إلا إذا جمعت بين التذلل وغاية المحبة لله بحيث يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء سواه. (9)
وينص ابن القيم رحمه الله ـ على أن ( العبادة تجمع أصلين غاية الحب بغاية الذل والخضوع ). (10)
ودعائم هذه العبادة التي تنتظم أعمال الإنسان كلها القلبية والعلمية الفردية والجماعية: المحبة والخوف والرجاء وقد جعل ابن القيم هذه الثلاث في قلب المؤمن: ( بمنزلة الطائر فالمحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس الجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر ومتى فقد الجناحان فهو عرضه لكل صائد وكاسر ). (11)
وبهذا يتضح مفهوم العبادة في الشرع.
الباب الثاني: معنى العادة في اللغة والشرع
أولاً:- في اللغة:
- العادة مأخوذة من العود أو المعاودة، بمعنى التكرار، وهي في اللغة: الأمور المتكررة من غير علاقة عقلية.
- وعرفها بعضهم: بأنها تكرار الشئ وعوده مرة بعد أخرى تكراراً كثيراً يخرج عن كونه واقعاً بطريق الصدفة والاتفاق.
ثانياً:- في الشرع:
- وفي الاصطلاح: عبارة عما استقر في النفوس من الأمور المتكررة المقبولة عند الطبائع السليمة.(1)
- العادة: ما استمر الناس عليه على حكم المعقول وعادوا إليه مرة بعد أخرى.(2)
- العرف - وأريد منه العادة - وهو ما غلب على الناس من قول وفعل وترك.
والشريعة جاءت بإبطال العرف الفاسد فمما أبطلت من عرف فاسد قول الجاهلية للمتزوج: بالرفاء والبنين ووجه فساده أنه مبني على احتقار البنات وكراهتهن فأبدلت به الشريعة كما ورد في الصحيح قوله صلى الله غليه وسلم للمتزوج ( بارك الله لكم وفيكم وعليكم ) وروى بقي بن مخلد عن رجل من بني تميم قال له: وكنا نقول في الجاهلية بالرفاء والبنين فلما جاء الإسلام علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم وقال: قولوا: ( بارك الله لكم وبارك فيكم وبارك عليكم ).
ومما أبطلته من عرف فاسد: بيوعهم الفاسدة التي نبه عليها النبي صلى الله عليه وسلم وذكر شرح الأحاديث وجه فسادها وهو الغرر والجهالة وتعاطيهم الربا والميسر وأكلهم ما ذبح على النصب - وهي الأصنام.
ومما جروا عليه في عرفهم الفعلي وألغاه الشارع جعلهم في الإبل: بحيرة وسائبة ووصيلة وحاماً. وأما ما جرت عادتهم بتركه وأمر الشارع بفعله لما فيه من المصلحة فمثل تركهم القتال في الأشهر الحرم فأحله الشرع للمصلحة. (3)
- العادة ما تعارفه الناس فأصبح مألوفاً لهم سائغاً في مجرى حياتهم سواء أكان قولاً جرى عرفهم على استعماله في معنى خاص بهم كإطلاقهم لفظ الولد على الذكر دون الأنثى ولفظ الدابة على الفرس أو على الحمار دون سواه وإطلاقهم لفظ اللحم على ما سوى السمك ولفظ الرأس في الطعام على رأس الضأن دون غيره ونحو ذلك.(/2)
وتطلق العادة على ما اعتاده كل إنسان في خاصة نفسه وعلى ما اعتادته الجماعة وهو ما يسمى العرف، فالعرف عادة الجماعة وهو أخص من العادة وتحكيم عادة الناس وعرفهم في معاملاتهم يدخل في باب رعاية مصالحهم وعدم إيقاعهم في الضيق والحرج. (4)
للعادات أثر كبير في شرع النظم والقوانين فلا غنى للمشرع عن مراعاتها قليلاً أو كثيراً لها قسط
وافر من عناية واضعي القوانين في القديم والحديث فأساس القانون الروماني عادات كانت تجري في مدينة رومة وأساس القانون الإنكليزي عادات السكسون والنورمان الذين فتحوا بلاد إنكلترة وكذلك الشريعة الإسلامية لم تقطع النظر عن العرف وجعلت رعايته أصلاً من أصولها العامة (5).
- العرف في اللغة: ضد النكر.(6)
- وفي الاصطلاح: ما استقر في النفوس من جهة شهادة العقول وتلقته الطباع بالقبول. (7)
والصلة بين العادة والعرف أنهما بمعنى واحد من حيث ألما صدق وإن اختلفا في المفهوم. (8) أما العادة فالذي لم يوجد منها بأوامر الشرع ولم يقيد بأحكامه على وجه الخصوص فإن عن الأحكام المتعلقة بالعادة: لا خلاف بين الفقهاء في أن العادة مستند لكثير من الأحكام العملية واللفظية وأنها تحكم فيما لا ضابط له شرعاً كأقل مدة الحيض والنفاس وفي أقل سن الحيض والبلوغ وفي حرز المال المسروق وفي ضابط القليل والكثير في الضبة من الفضة والذهب وفي قصر الزمان وطوله عند موالاة الوضوء وفي البناء على الصلاة وكثرة الأفعال المنافية للصلاة وفي التأخير المانع من الرد بالعيب وفي الشرب وسقي الدواب من الجداول والأنهار المملوكة المجرى إذا كان لا يضير مالكها فتحكم العادة في هذه المسائل إقامة لها مقام الإذن اللفظي وكذا الثمار الساقطة من الأشجار المملوكة وفي عدم رد ظرف الهدية إذا لم تجر العادة برده.
وما جهل حاله في الوزن والكيل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع فيه إلى عادة بلد البيع.(9)
وقال الشاطبي: العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعاً سواء كانت شرعية في أصلها أو غير شرعية.(10)
دليل اعتبار العادة في الأحكام:
الأصل في إعتبارالعادة ما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً: ما رآه المسلمون حسناً فهو حسن. (11)
وفي كتب أصول الفقه وكتب القواعد ما يدل على أن العادة من المعتبر في الفقه ومن ذلك:-
أ- قولهم: العادة محكمة.
ب- الحقيقة تترك بدلالة العادة.
ج- الممتنع عادة كالممتنع حقيقة.
د- إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت. (12)
وقلما يوجد باب من أبواب الفقه ليس للعادة مدخل في أحكامه.
الباب الثالث: أقسام العادة
تنقسم العادة إلى أقسام باعتبارات مختلفة فباعتبار مصدرها تنقسم إلى: عادة شرعية وعادة جارية بين الخلائق.
1- العادة الشرعية: هي التي أقرها الشارع أو نفاها، أي: أن يكون الشارع أمر بها إيجاباً أو ندباً أو نهى عنها تحريماً أو كراهية أو أذن فيها فعلاً أو تركاً.
2- العادة الجارية بين الخلائق: بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي.
فالعادة الشرعية: ثابتة أبداً كسائر الأمور الشرعية كالأمر بإزالة النجاسات والطهارة للصلاة وستر العورة وما أشبه ذلك من العوائد الجارية بين الناس: أمر الشارع بها أونهى عنها فهي من الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين فيها فلا ينقلب الحسن منها قبيحاً للأمر به ولا القبيح حسناً للنهي عنه حتى يقال مثلاً: إن كشف العورة ليس بعيب الآن ولا قبيح إذ لو صح ذلك لكان نسخاً للأحكام المستقرة المستمرة والنسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم باطل. أما العادة الجارية بين الخلائق فقد تكون ثابتة وقد تتبدل ومع ذلك فهي أسباب تترتب عليها أحكام. (1)
فالثابتة هي الغرائز الجبلية كشهوة الطعام والوقاع والكلام والبطش وأشباه ذلك.
والمتبدلة منها ما يكون متبدلا من حسن إلى قبيح وبالعكس مثل: كشف الرأس، فإنه يختلف باختلاف البقاع فهو لذوي المروءات قبيح في بعض البلاد وغير قبيح في بعضها فيختلف الحكم الشرعي باختلاف ذلك فيكون في بعض البلدان قادحاً في العدالة مسقطاً للمروءة وفي بعضها غير قادح لها ولا مسقط للمروءة. (2)
ومنها ما يختلف في التعبير عن المقاصد فتنصرف العبارة عن معنى إلى معنى عبارة أخرى ومنها ما يختلف في الأفعال والمعاملات.
وتنقسم العادة باعتبار وقوعها إلى: عامة وخاصة.
فالعادة العامة: هي التي تكون فاشية في جميع البقاع بين جميع الناس ولا تختلف باختلاف الأماكن كالاستصناع في كثير من الأشياء التي يحتاج إليها الناس في كل الأماكن وفي جميع البلدان كالأحذية والألبسة والأدوات التي لايمكن الاستغناء عنها في بلد من البلدان ولا في زمن من الأزمان.(/3)
أما الخاصة: فهي التي تكون خاصة في بلد أو بين فئة خاصة من الناس كاصطلاح أهل الحرف المختلفة بتسمية شئ باسم معين في محيطهم المهني أو تعاملهم في بعض المعاملات بطريقة معينة حتى تصير هذه الطريقة هي المتعارف فيما بينهم وهذه تختلف الأحكام فيها باختلاف الأماكن والبقاع.(3)
الباب الرابع : حقيقة العبادة والعادة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية
أولا : العبادة في القرآن والسنة:-
ساد بين الناس مفاهيم خاطئه للعبادة، صرفت عقولهم وقلوبهم وأعمالهم عن هذه الوظيفة التشريفية التي خلق الله الإنسان من أجلها، وسخر له كل شيء في نفسه وفي الكون من حوله ليقوم بها وفق أمر خالقه، وعند تأمل القرآن الكريم والسنة النبوية وما تحويه من أخبار وأوامر ونواهي ووعد ووعيد، نجدها كلها تدور حول تقرير ألوهية الله سبحانه وتعالى وعبودية الإنسان له.
فإذا كان خلق الإنسان وتسخير الكون له وإيجاد العقل والقلب والإرادة فيه ، وإرسال الرسل وإنزال الكتب وخلق الجنة والنار ، وقبل ذلك وبعده ما تقتضيه صفات الباري ـ جل وعلا ـ من كونه في ذاته وأفعاله سبحانه وتعالى حكيماً عليماً ، خلق كل شيء فقدره تقديراً ، ولم يخلق شيئاً عبثاً ولم يوجد شيئاً لغير حكمة وإذا كان القرآن المجيد ، ومافيه من أخبار وأوامر ووعد ووعيد جاء لأجل هذه المهمة العظيمة ، ألا وهي تعبيد الخلق كلهم لله سبحانه ، فكيف يصح حينئذ أن يتصور أن العبادة هي النية النقية وحسب ، أو أنها الشعائر التعبدية فقط أو أنها لبعض نشاطات الإنسان دون بعض ، أو لبعض أفعاله وأحواله دون بعض .
بل إن دائرة العبادة التي خلق الله لها الإنسان، وجعلها غايته في الحياة، ومهمته في الأرض، دائرة رحبة واسعة: إنها تشمل شئون الإنسان كلها، وتستوعب حياة جميعاً وتستغرق كافة مناشطه وأعماله. (1)
وبهذا المعنى الشامل فهم السلف الصالح عبادة الإنسان فرداً كان أو جماعة وقد لخص هذا المعنى الشامل للعبادة وحدد ماهيته شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حين قال: ( العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه: من الأقوال والأعمال والباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله..........) (2)
بهذا التعريف الجامع لايمكن أن يخرج أي شئ من نشاطات الإنسان وأعماله سواء كان ذلك في العبادات المحضة أو في المعاملات المشروعة أوفي العادات التي طبع الإنسان على فعلها.
أما في العبادات والمعاملات المشروعة فإنها مما يحبه الله ويرضاه وهذا أمره الشرعي الدائر بين الأحكام الخمسة التي اصطلح عليها الفقهاء وهي: ( الواجب، والمحرم، والمستحب، والمكروه، والمباح ).
ثانيا: العادات في القرآن والسنة:-
أما في العادات:- فالذي لم يوجد منها بأوامر الشرع ولم يقيد بأحكامه على وجه الخصوص
فإنه لا يخرج عن كونه داخلاً تحت عمومات الشرع باعتبار عبودية الإنسان في كل أحواله لله سبحانه وباعتبار أن: ( العادات لها تأثير عظيم فيما يحبه الله أوفيما يكرهه فلهذا أيضاً جاءت
الشريعة بلزوم عادات السابقين الأولين في أقوالهم وأعمالهم وكراهة الخروج عنها إلى غيرها من غير حاجه). (3)
وإن كان ينبغي لنا هنا الإشارة إلى أن الأصل في العبادات المحضة المنع حتى يرد ما يدل على مشروعيتها، وأن أصل العادات العفو حتى يرد ما يدل على منعها وذلك مبني على ( أن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينه، عادات يحتاجون إليها في دنياهم فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله، أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلابالشرع.
وأما العادات فهي ما أعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلاماحظره الله سبحانه وتعالى وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله والعبادة لابد أن يكون مأمور بها، فما لم يثبت أنه مأمور به، كيف يحكم عليه أنه محضور ؟
والعادات الأصل فيها العفو فلا يحضر منها إلاماحرم. ). (4)
وهذا التقسيم في الحظر والإباحة لا يخرج شيئاً من أفعال الإنسان العادية من دائرة العبادة لله ولكن ذلك يختلف في دراجته مابين عبادة محضة عادة مشوبة بالعبادة، عادة تتحول بالنية والقصد إلى عبادة لأن المباحات يؤجر عليها بالنية والقصد الحسن إذا صارت وسائل للمقاصد الواجبة أو المندوبة أو تكميلاً لشئ منهما ). (5)
قال النووي في شرحه لحديث: ( وفي بضع أحدكم صدقة ). (6)(/4)
( وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنية الصادقة ). (7)
ومن ذلك يتضح: ( أن الدين كله داخل في العبادة، والدين منهج الله جاء ليسع الحياة كلها وينظم جميع أمورها من أدب الأكل والشرب وقضاء الحاجة إلى بناء الدولة وسياسة الحكم وسياسة المال وشؤون المعاملات والعقوبات وأصول العلاقات الدوليه في السلم والحرب.
إن الشعائر التعبدية من صلاة وزكاة لها أهميتها ومكانتها ولكنها ليست العبادة كلها بل هي جزء من العبادة التي يريدها الله تعالى.
إن مقتضى العبادة المطالب بها الإنسان أن يجعل المسلم أقواله وأفعاله وتصرفته وسلوكه وعلاقاته مع الناس وفق المناهج والأوضاع التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، يفعل ذلك طاعة لله واستسلاماً لأمره.......... ) . (8)
والدليل على المفهوم الشامل للعبادة، من الكتاب والسنة وفعل الصحابة رضوان الله عليهم،
فأما القرآن الكريم فقوله تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }. (الداريات: 56)
{ وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لآ إله إلا هو سبحانه عما يشركون }. (التوبة: 31)
{ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين }. (الأنعام: 162 ـ 163 )
{ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة }. (البينة: 5)
ومن السنة أحاديث كثيرة بعضها في عموم العادات بدون تخصيص وبعضها الآخر في أفراد السلوك العادي وفي هذا الأخير دليل وتنبه على المعنى العام المقصود إثباته هنا فمن ذلك:
قوله صلى الله عليه وسلم ( إن المسلم إذا أنفق غلى أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة(9).
وقوله صلى الله عليه وسلم ( كل ما صنعت إلى أهلك فهو صدقة عليهم ). (10)
وقوله صلى الله عليهم وسلم ( دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك ). (11)
وقال صلى الله عليه وسلم ( كل سلامي من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فيحمل عليها أو ترفع له متاعه صدقه، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة، ودل الطريق صدقة، وتميط الأذى عن الطرق صدقة ). (12) وقوله صلى الله عليه وسلم ( دخلت امرأة النار في هرة، ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأ رض حتى ماتت ). (13).
وأما الاستدلال على عموم العبادة وشمولها لحياة الإنسان بفعل السلف وفهمهم ( ففيما رواه البخاري في صحيحه عن أبي بردة في قصة بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن وفي آخره قال أبو موسى لمعاذ: فكيف تقرأ أنت يا معاذ ؟ قال أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي ). (14).
وفي كلام معاذ رضي الله عنه دليل أن المباحات يؤجر عليها بالقصد والنية.
بهذا يتضح أن الأعمال المعتادة عبادة متى استجمعت شرف القصد ونبل الغرض.
إن الذي يلفت النظر إليه أن الإسلام ليس أفعالاً تعد على الأصابع دون زيادة أو نقص، كلا، إنها صلاحية الإنسان للمسير في الحياة وهو يؤدي رسالة محددة. (15)
الباب الخامس: أثر الإخلال بشكل العبادات على بعض الديانات السابقة
هذا هو الباب الذي دخل منه على المسيحية واليهودية الشر الوبيل، وقلب المحرفون تحت ستاره أحكام الدين المسيحي رأساً على عقب، فغيروا وبدلوا وحرفوا ما شاءت لهم الأهواء باسم التدين الحق ، وباسم الاستمساك بروح الدين وجوهره فبدءوا بكتابهم لم يلتزموا بنصوصه فحرفوه ، وأتوا على سائر التكاليف يهدمون منها شيئاً ويستبدلون آخر ، فقالوا ليس في الالتزام بيوم السبت ضرورة ، إذ لا فرق بين يوم ويوم ، فأحلوا فيه ما حرم عليهم واستبدلوا مكانه يوم الأحد ، وكان المسيح عليه السلام يصلي إلى بيت المقدس فصلوا هم ناحية شروق الشمس استباحوا الصلاة بالنجاسة والجنابة ، وزادوا في عدد أيام الصوم ، وجعلوا ذلك جبراً لعدم التزامهم بوقته المحدد ،
فقد نقلوه من الشهور الهلالية إلى الشهور الرومانية، ليكون زمن الربيع دائماً، لا دائر مع فصول السنة، وزادوا جمعة فيما يسمونه بالصوم الكبير، يصومونها لهرقل مخلص بيت المقدس، غفرنا لقتله اليهود، ونقضه العهد معهم، بعضهم يصومونها بترك اللحم خاصة، وبعضهم يصوم الأربعاء والجمعة وتركوا الختان، وكان الختان ملة المسيح عليه السلام، وجسدوا العبادة في تعظيم الصليب والسجود له، ولم يعظم المسيح صليباً قط، وآتوا من الخرافات والأعمال من التلطيخ بالنجاسات والأقذار ما زعموا أنه محط لنيل البركات مما هو في غاية الضلال والسخف.
ولهذا لما رأى النصارى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هم عليه من طهر وفضل واستقامة آمن كثير منهم اختياراً وقالوا ما الذين صحبوا المسيح عليه السلام بأفضل من هؤلاء. (1)
غلو اليهودية في أمر الدنيا:ـ(/5)
لا تكاد تجد في أسفار التوراة الخمسة الحالية للروحانية أثراً ولا للآخرة مكاناً حتى الوعد والوعيد في هذه الأسفار للمطيعين والعصاة إنما يتعلقان بأمور دنيوية، وسيطرت عليها النزعة المادية الخالصة، فالخصب والصحة والثراء وطول العمر والنصر على الأعداء ونحوها من المكاسب الدنيوية الزائلة، هي المثوبات التي تبشر بها التوراة، وأضداد هذه الأمور من الجدب والمرض والوباء والفقر والهزيمة ونحوها للذين يعرضون عن الشريعة فلس للأجزية الروحية ولا الأخروية مكان في التوراة. (2)
إهمال المسيحية لأمر الدنيا:-
أما في الإنجيل فالدعوة فيه قوية إلى إلغاء قيمة هذه الدنيا واعتبار هذه الأرض بمثابة منفى للإنسان وطلب النجاة والسعادة هناك في العالم الآخر حيث تقوم مملكة السماء فمن أراد ملكوت السماء فليعرض عن هذه الأرض ومن أراد العالم الآخر فليرفض هذا العالم أو هذه الدنيا وهكذا لا تحس في الإنجيل أن لك في الدنيا نصيب وأن لك في طيبات الحياة حظاً ولا تشعر أن لبدنك عليك حقاً وإن لك في عمارة الأرض دوراً ولم تقف الدعوة إلى التقشف والتزهد وإهمال الحياة الأرضية عند الحد الذي جاء به الإنجيل بل ابتدع النصارى نظام الرهبانية بما فيه من قسوة على النفس وتحريم للزواج ووكبت للغرائز ومصادرة للنزوع إلى الزينة والطيبات من الرزق وانتشر هذا النظام العاتي وكثرأتباعة وأصبح ما تعبدون به الله ويتقربون به إليه: البعد عن النظافة والتجمل واعتبار العناية بالجسم ونظافته ونوازعه رجساً من عمل الشيطان. (3)
وهكذا كانت اليهودية في إغفالها للآخرة وللروح وهكذا كانت المسيحية في تحقيرها للدنيا والجسد.
المبحث الثاني
شروط قبول العبادة
للعبادة شرطين كما دل على ذلك الكتاب والسنة وأقوال العلماء من السلف والخلف.
الشرط الأول: الإخلاص:-
الإخلاص روح الدين ولباب العبادة... فإذا غاض هذا المعنى أو تضاءل لم يبق هنالك ما يستحق ألاحترام لا في الدنيا ولا في الآخرة. في أعمال الحياة المعتادة قد يكون الإخلاص شرطاً لإتقانها وتجويدها وضمان ثمراتها وهو إخلاص يعني اطراح بعض المآرب الصغيرة واستهداف بعض المثل العالية. والإخلاص فريضة على كل عابد وهو في محرابه الخاص يتعامل مع ربه فحسب.
(1)
من القرآن الكريم:-
قال الله تعالى { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين، ألا لله الدين الخالص }
(الزمر: 2-3 )
قال ابن كثير: [ أي لا يقبل الله من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له ] (2)
قال القرطبي: [ في قوله تعالى: { ألا لله الدين الخالص } أي الذي لا يشوبه شئ وفي حديث الحسن عن أبي هريرة أن رجلاً قال يا رسول الله إني أتصدق بالشئ أريد وجه الله وثناء الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[ والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله شيئاً شورك فيه ] ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { ألا لله الدين الخالص }. (3)
وقوله عز وجل: { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين، وأمرت لأن أكون أول المسلمين، قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، قل الله أعبد مخلصاً له ديني }. (الزمر: 13-14 ).
قال ابن كثير: [ أي إنما أمرت بإخلاص العبادة لله وحده لاشريك له ].(4)
قال القرطبي: [ - له الدين - أي الطاعة. وقيل العبادة ] (5)
وقوله تعالى { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون }. ( الأعراف: 29).
قال ابن كثير: [ أي أمركم بالاستقامة في عبادته في محلها، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله، وجاءوا به من الشرائع وبالإخلاص له في عبادته ، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين أن يكون صواباً موافقاً للشريعة ، وأن يكون خالصاً من الشرك ] . (6)
وقوله تعالى: { ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن }. ( النساء: 125).
قال ابن القيم: [ فإسلام الوجه: إخلاص القصد، والعمل لله.......... ].(7)
قال ابن كثير: [ أي أخلص العمل لربه عز وجل فعمل إيماناً واحتساباً - وهو محسن - أي اتبع في عمله ما شرعه الله له وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونها أي يكون خالصاً صواباً والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون متابعاً للشريعة
فيصح ظاهره بالمتابعة وباطنه بالإخلاص فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد فمتى فقد الإخلاص كان منافقاً وهم الذين يراءون الناس ومن فقد المتابعة كان ضالاً جاهلاً ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين - الذين نتقبل عنهم أحسن ماعملوا ونتجاوز عن سيئاتهم - الآية ] ( 8)
قال القرطبي: [ - أسلم وجهه لله - معناه أخلص دينه لله وخضع له وتوجه إليه بالعبادة ] .( 9)
ومن الأحاديث النبوية:-(/6)
1- قوله صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ). (10)
قال ابن رجب رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: [....... فهذا يأتي على كل أمر من الأمور...... وهو أن حظ العامل من عمله نيته.... وأنه لا يحصل له من عمله ألاما نواه به، فإن نوى خيراً حصل له خير، وإن نوى شراً حصل له شر..... وهاتان كلمتان جامعتان وقاعدتان كليتان لا يخرج عنهما شئ........ ] (11)
وقال الشوكاني رحمه الله في مقدمة أدب الطالب عند ذكره لهذا الحديث: [.... حصول الأعمال وثبوتها لا يكون إلا بنية فلا حصول أو لا ثبوت لما ليس كذلك فكل طاعة من الطاعات وعبادة من العبادات إذا لم تصدر عن إخلاص نية وحسن طوية لا اعتداد بها ولا التفات إليها بل هي بل هي إن لم تكن معصية فأقل الأحوال أن تكون من أعمال العبث واللعب.....].(12)
وقال عبد الوهاب رشيد صالح أبوصفية: [ النية هي معيار العمل وروحه وقوامه، والعمل بدونها يجري مجرى العبث..... والإخلاص هو احد جناحي العمل المقبول والجناح الثاني: هو
موافقته للشرع، قال الفضيل بن عياض: العمل لا يقبل حتى يكون خالصاً وصواباً، والخالص:
أن يكون لله والصواب: أن يكون على وفق الشرع والسنة.......... أن قصد المكلف بفعل المباح
الاستعانة على الواجبات والسنن فانه يثاب عليه. (13)
وأكد هذا الشاطبي بقوله: البناء على المقاصد الأصلية يصير تصرفات المكلف كلها عبادات ولو
كانت من العادات.(14)
2- وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري فهو للذي أشرك فيه وأنا منه برئ ] (15)
3- وعن معاذ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الغزو غزوان فأما من غزا ابتغاء وجه
الله تعالى وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد في الأرض فإن نومه ونبهه
أجر كله وأما من غزا فخراً ورياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لن يرجع
بالكفاف ] (16)
4- وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يجاري به العلماء
أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله في النار ). (17)
5- وفي الحديث الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم ( ثلاث لا يغل عليهم قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم......... ). (18)
قال ابن القيم: [ أي لا يبقى فيه غل ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة بل تنفي عنه الغل وتنقيه
منه وتخرجه عنه فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل وكذلك يغل على الغش وعلى خروجه
عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلالة فهذه الثلاثة تملؤه غلاً ودغلاً ودواء هذا الغل واستخراج
أخلاطه بتجريد الإخلاص والنصح ومتابعة السنة ].(19)
وأما ما ورد عن السلف في الإخلاص فهو كثير وفير وهذا بعض أقوالهم: -
1- عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: [ تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل ] (20)
2- وعن الفضيل بن عياض أنه تلا قوله تعالى: { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } (تبارك: 2)
فقال: [ أخلصه وأصوبه، قالوا يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : إذا كان العمل خالصاً ولم
يكن صواباً لم يقبل وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً وصواباً والخالص
إذا كان لله عز وجل والصواب إذا كان على السنة ]. (21)
3- وعن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم قالا: [ لا ينفع قول إلا بعمل
ولا عمل إلا بقول ولا قول وعمل إلا بنية ولانية إلا بموافقة السنة ] . (22)
4- وعن أبي العالية قال: [ كنا نحدث منذ خمسين سنة أن الأعمال تعرض على الله تعالى - ماكان له منها قال: هذا لي وأنا أجزي به وما كان لغيره قال: اطلبوا ثوب هذا ممن عملتم له ]
(23).
5- وعن مطرف بن عبد الله أنه قال: [ صلاح القلب بصلاح العمل وصلاح العمل بصلاح النية ]. (24)
الشرط الثاني في قبول العبادة: الموافقة للشرع:-
هناك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة نذكر منها:
أولاً من القرآن الكريم:-
1-{ وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون }. (الأنعام:153)
2- { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا }. (المائدة: 3)
3- { ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً....... } .
(النساء: 125)
ومن السنة:-
1- قوله صلى الله عليه وسلم ( تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وسنة رسوله ) . (25)
2- وقوله صلى الله عليه وسلم ( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ).(26)
3- وقوله صلى الله عليه وسلم ( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ). (27)(/7)
4- وعن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لقد تركتم على مثل
البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ بعدي عنها إلا هالك ). (28)
ومن كلام السلف:-
1- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: [ إن ناساً يجادلونكم بشبه القرآن فخذوهم بالسنن
فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز و جل ] . (29)
2- وعن عبد الله بن مسعود قال: [ إنا نقتدي ولا نبتدي ونتبع ولا نبتدع ولن نضل ما تمسكنا بالأمر ]. (30)
3- وعن مطزف بن عبد الله يقول: سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده الزائغين في الدين يقول:
قال عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه -: [ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر
بعده سنناً، الأخذ بها إتباع لكتاب الله عز وجل واستكمال لطاعة الله عز وجل وقوة على دين الله تبارك وتعالى ليس لأحد من الخلق تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شئ خالفها من اهتدى بها
فهو مهتد ومن استنصر بها فهو منصور ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله تعالى
ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً ]. (31)
4- يقول ابن تيمية: [ ومما اتفق عليه أهل العلم جميعاً أن العبادة تقوم على أصلين لا تتحقق بدونهما:-
الأول: إفراد الله بالعبادة وإخلاصها له تعالى دون رياء أو مباهاة.
الثاني: موافقة العبادة للسنة والإتيان بها على الهيئة التي شرعها الله عليها لا بغير ذلك من الأهواء والبدع ]. (32)
هذا بعض ما ورد عن السلف.
وبعد ذكر شرطي العبادة المقبولة عند الله سبحانه وتعالى يتبين أن: [..... دين الإسلام مبني
على أصلين: أن نعبد الله وحده لاشريك له وأن نعبده بما شرعه من الدين وهو ما أمرت به
الرسل...... ]. . (33)
في العبادة: [ قد يعجب المرء بعمله ويغتر بكثرة طاعته فيحمله ذلك على الإدلال على ربه والامتنان على منعمه فيحبط عمله ويهلك بعجبه ويشقى باغتراره وعلاج هذا الداء في ذكر الله تعالى وعلم العبد بأن ما أعطاه الله اليوم من علم أو مال أو قوة أو عزة أو شرف قد يسلبه غداً لو شاء ذلك وأن طاعة العبد للرب مهما كثرت لا تساوي بعض ما أنعم الله على عبده وأن الله تعالى لا يدل عليه شئ إذ هو مصدر كل فضل و واهب كل خير. ] (34)
المبحث الثالث
مفهوم العبادة في الإسلام
الباب الأول:-
العبادة في الشرع لها مدلولان: مدلول خاص ومدلول عام:-
1- المفهوم الخاص للعبادات:
المدلول الخاص للعبادات هو مدلول اصطلاحي جرى عليه عمل المؤلفين حين قسموا أبواب الفقه إلى عبادات ومعاملات والعبادات بهذا المعنى عندهم تشمل بعد الإيمان بالله، أبواب الطهارة والصلاة والصيام والاعتكاف والزكاة والحج والعمرة والجهاد والكفارات والأضحية والزكاة والعقيقة وسموا هذه الأبواب بالعبادات لأن الحق فيها خالص لله تعالى، تمييزاً لها عن المعاملات والجنايات فإن الحق في هذه الأخيرة قد يكون خالصاً للعبد مثل: الحقوق المالية في البيع والشراء والعقود وقد يكون مشتركاً مثل القصاص في الجنايات وحد القذف......... الخ. (1)
وهي نوع من التربية على العبادة الكاملة الحقة إن نوع العبادات بمعناه الخاص فرائض دينية يراد بها صلاح الفرد أو صلاح الجماعة أو صلاحهما معاً. والعبادة بهذا المعنى تنبه الإنسان على الدوام إلى وجود الروحي الذي يجب أن يشغل بمطالب غير مطالبه الجسدية وتذكره بالوجود الخالد الباقي إلى جانب وجوده الزائل المحدود وأن عليه إذا أراد أن يعيش هذه الحياة أن يحيا حياة تمتد بآثارها إلى ما وراء معيشته اليومية. (2)
2- المفهوم العام للعبادات:
المدلول العام للعبادات يشمل جميع الأعمال النافعة التي يقوم بها الإنسان لمعاشه ومعاده لصالح نفسه ولصالح غيره ويدخل في ذلك كل عمل مباح أو مطلوب من جهة الشارع كالسعي للرزق وطلب العلم والعدل بين الناس والصدق في القول والإخلاص في العمل وأداء الحقوق والقيام بالوجبات والنصيحة للمسلمين وغض البصر وكف الأذى إلى غير ذلك مما لا يدخل تحت الحصر ولذلك عرفوا العبادات في مدلولها العام هذا بأنها: أسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من
الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة. (3)
الباب الثاني : الأصل في العبادات التسليم وعدم إدراك الحكمة
وأبواب العبادات بالمعنى الأول الخاص القاعدة الغالبة في مسائلها التسليم وعدم إدراك الحكمة
من مشروعيتها على كيفية خاصة دون غيرها فإن أحكامها مبناها التحكم المحض وعدم التعليل
ولا يجري عليها القياس في الغالب ولذلك يقول العلماء في كثير من مسائلها: هذا أمر تعبدي أمرنا الله به ولم نعقل له معنى ولا يسع المسلم إزاء ذلك إلا الامتثال والتسليم لعل الحكمة من
إخفاء وجه المصلحة فيها الابتلاء والاختبار ليتميز من يمتثل الأمر الصادر إليه من ربه دون
سؤال: لماذا كان كذلك ممن لا يمتثل ولا يقبل إلا إذا علم وجه المصلحة فيما أمر به فيحرم مرتبة الطاعة المطلقة التي يتحقق بها كمال العبودية.(/8)
ويدل على أن القاعدة في أبواب العبادات التسليم وأن العقل فيها عاجز عن إدراك الحكمة والعلة ما ورد في كتب السنة من الأحاديث والآثار التشهد لأنواع من العبادات بأنها على خلاف الرأي والقياس وتصرح بالعجز وعدم إدراك الحكمة منها وتدعوا إلى اتهام الرأي وطرحه والاستمساك بما ورد دون اعتراض، من ذلك:
1- روى البخاري عن أبي الزناد في باب ترك الصوم للحائض، قال: ( إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرا على خلاف الرأي، فما يجد المسلمون بدا من إتباعها من ذلك أن الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة ). (4)
2- روى مسلم والبيهقي أن امرأة سألت عائشة: ( ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ فقالت لها : أحرورية أنت ؟ فقالت: لست بحرورية ولكني أسألك، فقالت: كان يصيبنا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ). (5)
3- أخرج البخاري في كتاب الاعتصام عن سهل بن حنيف قال: ( يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته، وفي رواية عن أبي وائل قال: سمعت سهل بن حنيف يقول: اتهموا رأيكم رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر النبي صلى الله عليه وسلم لرددته وما وضعنا أسيافنا على عواتقنا لأمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه غير أمرنا هذا ). (6)
4- روى البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: مخاطباً الركن في الطواف ( أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستلمك وأنا أستلمك فاستلمه، وقال: ما لنا وللرمل إنما رأينا به المشركين وقد أهلكهم الله، ثم قال: شئ صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نحب أن نتركه ثم رمل ). (7)
5- روى الدار قطني عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على ظهر خفيه) وفي رواية (ما كنت أرى باطن القدمين إلا أحق بالمسح حتى رأيت رسول الله يمسح على ظهر
خفيه ). (8)
6- ورد في الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ( عجباً للعمة تورث ولا
ترث ).
هذه جملة من النصوص وردت في أمور تعبدية تدل على أن هذا النوع من الأحكام مبني في أغلبه على التحكم الذي لا يدرك العقل حكمته ويقف عنده عاجزا ولا يسعه إلا التسليم والانقياد
كما فعل عمر رضي الله عنه عندما وقف أمام الحجر الأسود في الطواف عاجزاً عن إدراك الحكمة من الأمر بتقبيله ولابد لهذه الأشياء وأمثالها من سر وحكمة ولكن ذلك في علم الله تعالى يظهر لنا ما يظهره ويخفي عنا ما يخفيه سبحانه يفعل ما يشاء ويختار.
يقول العقاد عن فلسفة العبادة: [ لامناص في النهاية من أسباب توقفية يكون التسليم بها أقرب إلى العقل من المجادلة فيها ]. (9)
إلا أن هذا لايعني انعدام حكمة العبادات في واقع الأمر لأن عدم إدراك حكمة مناسبة للحكم لا يعني بالضرورة عدم وجودها في نفس الأمر فكثيراً ما يكون ذلك لعجز في العقل وقصور فإن
(الميكروب ) مثلاً قبل أن يكتشف ويعرف هو موجود ولكن الإنسان لم يعرفه وجهله به لم ينف عنه صفة وجوده في وقت من الأوقات والدورة الدموية تجري في عروق الإنسان منذ بدء الخليقة ولكنها لم تعرف إلا في القرن الثاني عشر وهكذا سائر الأشياء التي عرفها الإنسان بعد
أن لم يكن يعرف، لم يقدح في وجودها جهله بها.
المبحث الرابع
أهداف العبادات ومقاصدها
للعبادة أهداف ومقاصد وتتلخص إجمالاً في هدفين أساسين، هدف أصلي وهو الذي شرعت العبادة من أجله، وعليه خلق الله الخلق وعمر الكون وأوجد الموجودات وهذا لا تراعى فيه حظوظ النفس. وهدف ثانوي يأتي بعد الهدف الأول في الأهمية وهذا تعود على النفس منه فوائد وحظوظ وفيما يلي بيان هذين الهدفين:-
الهدف الأول: ويتمثل في معنيين: -
1- عبادة الله لأنه أهل للعبادة.
2- العبادة شكراً للنعمة.
المعنى الأول:- عبادة الله لأنه أهل للعبادة:
عبادة الله لأنه أهل للعبادة والمستحق لها دون سواه، ولإنها حقه على عبادة أخذه على أنفسهم وأشهدهم عليه يوم أن خلقهم. قال الله تعالى: { وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا }. (الأعراف: 172)(/9)
قال ابن كثير في تفسيره: [ قال الإمام أحمد: حدثنا روح هو ابن عبادة حدثنا مالك وحدثنا إسحاق حدثنا مالك عن زيد بن أبي أنيسة أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى" الآية فقال عمر بن الخطاب: سمعت صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال "إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية قال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون" فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار" ].(1)
وفي حديث البخاري: قال صلى الله عليه وسلم ( يا معاذ أتدري ماحق الله على العباد ؟ قال الله ورسوله أعلم قال: أن يعبدوا ه ولا يشركوا به شيئاً ). (2)
ولأنها الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق وعمر الكون. قال الله تعالى { وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون }. (الداريات: 56 )
يقول صاحب الظلال: [ وإن هذا النص الصغير ليحتوي حقيقة ضخمة هائلة من أضخم الحقائق الكونية التي لا تستقيم حياة البشر في الأرض بدون إدراكها واستيقانها سواء كانت حياة فرد أم جماعة أم حياة البشرية كلها في جميع أدوارها وأعصارها. .... أن هنالك غاية معينة لوجود الجن والإنس تتمثل في وظيفة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده وأصبح بلا وظيفة........... هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس
بناموس الوجود. هي العبادة لله أو هي العبودية لله....... إن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى أوسع وأشمل من مجرد الشعائر وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعاً وأن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئسيين:-
الأول: هو استقرار معنى العبودية لله في النفس. أي استقرار الشعور على أن هناك عبداً ورباً عبداً يَعبد، ورباً يعبد، وأن ليس هناك وراء ذلك شئ وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود إلا رب واحد والكل له عبيد.
والثاني: هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير وكل حركة في الجوارح وكل حركة في الحياة. التوجه بها خالصة والتجرد من كل شعور آخر ومن كل معنى غير معنى التعبد لله.
بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة، ويصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضي بقدر الله..... كلها عبادة، وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها، وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شئ لله دون سواه.
عندئذ يعيش الإنسان في هذه الأرض شاعراً أنه هنا للقيام بوظيفة من قبل الله تعالى، جاء لينهض بها فترة، طاعة لله وعبادة له لا أرب له هو فيها ولا غاية له من ورائها إلا الطاعة وجزاؤها الذي يجده في نفسه من طمأنينة ورضي عن وضعه وعمله ومن أنس برضي الله عنه ورعايته له ثم يجده في الآخرة تكريماً ونعيماً وفضلاً عظيماً......... إن قضية ليست قضية شعائر وإنما هي قضية دينوية، وإتباع.......... وإنها لذلك استحقت كل هذه الرسل والرسالات وكل هذا الاهتمام ] (3)
وقال عز وجل { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين }. (البينة: 5 )
قال القرطبي: [ - إلا ليعبدوا الله - أي ليوحدوه. واللام في "ليعبدوا" بمعنى "أن"; كقوله: "يريد الله ليبين لكم" [النساء: 26] أي أن يبين. و "يريدون ليطفئوا نور الله" [الصف: 8]. و "أمرنا لنسلم لرب العالمين" [الأنعام: 71]. وفي حرف عبد اللّه: "وما أمروا إلا أن يعبدوا اللّه".
- مخلصين له الدين -
أي العبادة; ومنه قوله تعالى: "قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين" [الزمر: 11]. وفي هذا دليل على وجوب النية في العبادات فإن الإخلاص من عمل القلب وهو الذي يراد به وجه اللّه تعالى لا غيره. ]. (4)(/10)
فالقصد الأصلي من إقامة العبادات بجميع أنواعها من صلاة وصيام وزكاة وحج وذكر الله وتلاوة القرآن غيرها الكثير، هو العبادة من أجل العبادة، واستحضار معنى العبودية لله في جميع الأحوال، قال الله تعالى مشيراً إلى المقصد الأول من الصلاة: { وأقم الصلاة لذكري }. ( طه: 14 ) وفي آية أخرى بعد أن ذكر أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، قال: { ولذكر الله أكبر }. ( العنكبوت: 45 )، وهكذا سائر العبادات مبعثها الأول هو ذكر الله، وليس ما فيها من حظوظ النفس وتحصيل المنافع فليس المقصد الأصلي للصلاة ما فيها من الرياضة الروحية والبدنية ولا ما في الزكاة من طهارة النفس من الشح وسد خلة المحتاج وما الصيام من تربية خلق الصبر والانتصار على الشهوات فإن هذه المعاني وأمثالها مقاصد ثانوية حتى إنه لو تجردت العبادة لتحصيل هذه الأغراض
دون الالتفات إلى حق الله فيها والقيام بواجب العبدية، لفقدت معناها لصارت مجرد عادات تؤدى لتمجيد النفس وتحصيل منافع الذات وقد قالوا إن العامل لحظ نفسه مسقط لجانب التعبد.
المعنى الثاني:- العبادة لشكر النعمة:
من الأهداف الأصلية للعبادة أنها شرعت شكراً لله على نعمائه وتعظيماً له على آلائه لأنه ممتن بأعظم وجوه الأنعام ومتفضل بجميعها على خلقه ونعم الله تعالى لا تحصى ابتداء من الوجود بعد العدم ولعظمه وقع الامتنان به كثيراً على الخلائق قال الله تعالى: { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم }. ( البقرة: 27 ) قال ابن كثير: [ يقول تعالى محتجا على وجوده وقدرته وأنه الخالق المتصرف في عباده كيف تكفرون بالله أي كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره "وكنتم أمواتا فأحياكم" أي وقد كنتم عدما فأخرجكم إلى الوجود كما قال تعالى "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون" وقال تعالى "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا" والآيات في هذا كثيرة وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا" قال هي التي في البقرة "وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم" وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس: كنتم أمواتا فأحياكم أمواتا في أصلاب آبائكم لم تكونوا شيئا حتى خلقكم ثم يميتكم موتة الحق ثم يحييكم حين يبعثكم قال وهي مثل قوله تعالى "أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين": وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى "ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين" قال كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة ثم يميتكم فترجعون إلى القبور. فهذه ميتة أخرى ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى - فهذه ميتتان وحياتان فهو كقوله "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم" ]. ( 5)
وقال الله تعالى: { وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً }. ( مريم: 8 ) قال القرطبي: [ - ولم تكن شيئا - أي كما خلقك الله تعالى بعد العدم ولم تك شيئا موجودا, فهو القادر على خلق يحيى وإيجاده ]. (6)
وقال ابن كثير: [ ورواه الإمام أحمد عن شريح بن النعمان وأبو داود عن زياد بن أيوب كلاهما عن هشيم به "قال" أي الملك مجيبا لزكريا عما استعجب منه "كذلك قال ربك هو علي هين" أي إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها "هين" أي يسير سهل على الله ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه فقال "وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا" كما قال تعالى "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا" ]. ( 7)
وقال الله تعالى: { يا أيها الناس أعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون }. ( البقرة: 21 )
شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة.
قال القرطبي:[ قوله تعالى: "اعبدوا" أمر بالعبادة له. والعبادة هنا عبارة عن توحيده والتزام شرائع دينه. وأصل العبادة الخضوع والتذلل; يقال: طريق معبدة إذا كانت موطوءة بالأقدام. قال طرفة : وظيفا وظيفا فوق مور معبد.
والعبادة: الطاعة. والتعبد: التنسك. وعبدت فلانا: اتخذته عبدا.
وقد ورد النص الدال على كون العبادة شكراً في الحديث الصحيح من أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى حتى تورمت قدماه فقيل له: إن الله قد غفر لك متقدم من ذنبك ومتأخر. قال: ( أفلا أكون عبداً شكورا ). (8)
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الإيمان نصفان: فنصف في الصبر ونصف في الشكر )
قال محمود الوراق:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر (9)
الهدف الثاني:-المقاصد الثانوية:-(/11)
أما المقاصد الثانوية للعبادة التي ترجع للنفس منها حظوظ ويجوز أن نقصد قصداً ثانوياً فهي كثيرة، ومعظمها يرجع إلى وجوه وردت الإشارة إليها في القرآن والسنة وفيما يلي الإشارة إلى بعضها:-
1- بالعبادة يحصل انشراح الصدر وتفريج الكرب والتوطين على الصبر والالتجاء إليها عند المهمات التجاء إلى ركن شديد لأن الله تعالى وصفها لنبيه صلى الله عليه وسلم دواء بعدما أخبر عما يعانيه من ضيق الصدر، فقال: { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون }، ( والمخرج من ذلك )، { فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين }. ( الحجر: 99 )
ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكان يقول ( أرحنا بها ). (10)
وقد ورد في آيات كثيرة حض الناس أن يستعينوا بأنفسهم وبالصلاة قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة }. ( البقرة: 153 ). وقال تعالى: { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين }. ( البقرة: 45) وفي ذلك انسجام مع الطبيعة والفطرة بمنع التواكل والدعوة إلى التوكل فليس للإنسان أن يفرط في مستطاعه ورجاءه في عون القدرة الإلهية محفوظ حين يعبد الله ويتجلى إليه . ( 11)
2- ما تورثه العبادة من التقوى والاستقامة وصلاح النفس والسعادة في الدنيا والآخرة بنيل أعلى الدرجات قال الله تعالى: { الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا والآخرة } .
( يونس: 63- 64 ) وآيات القرآن كثيراً ما تنص عقب التكليف بالعبادات على أن ثمرة هذا العمل هو إصلاح النفس والتقوى والفوز بأعلى الدرجات، قال الله تعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون }. ( البقرة: 21 )، وقال الله تعالى: { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون }. ( البقرة: 183 )، وقال الله تعالى: { ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً }.( الإسراء: 79 ) إلى غير ذلك من الآيات التي تعرض في ختامها ثمرات الأعمال.
ثم إن العبادة تقوم أساساً على التذكير بالله والتذكير ليس إلا استشعار أن الله أكبر في كل حين ، وهي الكلمة التي تقوم أساس العبادة بمختلف أنواعها فهي شعار يردد في الصلاة والأذان والحج والجهاد تصريحاً ونطقاً وفي الصوم والزكاة وسائر التكاليف تقريراً وعملاً فالذي يصوم يملك
الطعام والشراب ويحبه ولكن الله أكبر في نفسه من رغباته وشهواته ولذلك امتنع عنه ، وصاحب المال أن يمسكه في يده ويدخره لنفسه ولا يؤدي فيه حق الله ، ويستطيع أن يصرفه في وجوه الحرام لاهياً متمتعاً والنفس إلى ذلك تميل ولكنه يمتنع وينفقه ابتغاء مرضاة الله لأن الله أكبر مما يقدمه المال من منفعة في نوائب الزمان ومن متعة اللهو واللعب ، ويتدرج هذا الشعور في النفس من تأثير العبادة حتى يملك عليها قيادها لينعكس أثره على حياة الإنسان العامة وسلوكه الفردي فمن طلبت منه شهادة زور أو يمين فاجرة إرضاء لنفوذه أو وقوفاً إلى جنب قريب أو صديق هان عليه الصديق والقريب وصغر في عينه صاحب الجاه والنفوذ لأن سلطان الله وحمايته أكبر عنده من كل شئ وجنبه أحق أن يرضى ويتقرب إليه وإذا سولت له نفسه أن يكذب أو يخدع أو يغش أو يخلف ليحقق كسباً وربحاً تذكر الله الذي هو أكبر وربحه أوفر فيترك القليل .
ولذا فكلمة الله أكبر هي شعار العبادات كلها من دخلت قلبه حقيقة استقام على الطريق واستهان دونها بكل جليل وظهرت له الدنيا على حقيقتها متاع الغرور.
3- إن العبادات والتكاليف أمانة في عنق المكلف بدليل قوله تعالى: { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان }. ( الأحزاب: 72 ) وإذا حفظت لله أمانته في وقتها بالكيفية التي طلبها حفظ الله لك أمانتك في نفسك وأهلك ومالك، قال الله تعالى: { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم }. ( البقرة: 40) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( احفظ الله يحفظك ).(12) وقد حفظ الله يونس عليه السلام ونجاه بعد أن التقمه الحوت لأنه التجأ إليه بالذكر والدعاء والتسبيح قال الله تعالى: { فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون }. (الصافات: 143 - 144 ).(13) وقد ذكر الفخر الرازي: أن بعض الصحابة قال: رأيت أعرابياً أتى باب المسجد فنزل من ناقته وتركها ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار ودعا ما شاء فتعجبنا، فلما خرج لم يجد ناقته، فقال: [ إلهي أديت أمانتك فأين أمانتي ] قال الراوي: فزدنا تعجبا فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته وقد قطع يده وسلم الناقة إليه. (14)(/12)
4- إن العبادة سبب تنال به محبة الله والقرب ومحبة الله هي علامة توفيق العبد في كل ما يفعل وما يذر لأن الحبيب لا يوجه حبيبه إلا إلى الخير ولا يهديه إلا إلى صواب يسمع بسمعه ويبصر ببصره ويبطش بيده وذلك كله كناية عن السداد في الأقوال والأفعال فلا يقول إلا حقاً ولا يسمع إلا خيراً ولا يتصرف إلا بما ينفعه وإلى هذا الإشارة فيما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن ربه: ( ما تقرب إلى عبدي بمثل ما افترضته عليه وما زال عبدي يتقرب بالنوافل حتى أحببته فكنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعادني لأعيذنه ). (15)
ومن الصلاة ما شرع مخصوصاً لإنجاح الحاجات وهي صلاة الاستخارة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه كما يعلمهم السور من القرآن وكان إذا أصابت أهله خصاصة أو اضطروا إلى رزق أمرهم بالصلاة أخرج والبيهقي في شعب الإيمان وغيره بسند صحيح قال:
(كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة ) وأخرج أحمد في باب الزهد عن ثابت قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله بالصلاة، صلوا صلوا ). (16) ومصداق ذلك قوله تعالى: { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا
نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى }. ( طه: 132 ) وقال الله تعالى: { استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا }. ( نوح: 10-11-12 )
5- متعة المناجاة: ذلك أن الاشتغال بالعبادة فيه انتقال من عالم المادة إلى عالم الروح بالاتصال بالله ومناجاته وفي ذلك غاية السعادة فالإنسان يسعد ويفرح ويذهب به الفرح إلى درجة الاضطراب في تصرفاته إذا كان بحضرة حاكم من حكام الدنيا وكان قد أحسه برضاه عنه فكيف يكون سروره - بالمقياسة - وهو في حضرة ملك يوم الدين يناجيه ويتقرب إليه ولذلك جاء في الحديث ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ).(17)، ( وجاء أن المصلي يناجي ربه ). (18)، ( وكان صلى الله عليه سلم إذا صلى يسمع لصدره أزير كأزيز المرجل ). (19)
وقد عاش المصطفون الأخيار من سلفنا الصالح غاية السعادة في العبادة فذاقوا لها طعماً أنساهم آلام الجسد حتى إنه لتقطع يد أحدهم أو رجله فما يفزع ولا يضطرب، وقد وقعت الأكلة في قدم عروة بن الزبير رضي الله عنه فقطعت وهو يصلي فما أرهقه ألم ولا اضطراب في صلاته لأن استيلاء حب الله على قلبه أنساه آلام الجسد ومن استبعد عقله وقوع مثل هذا فليستأنس بقول الله تعالى:
{..... فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن..... الآية }. ( يوسف: 31 )، فإن النسوة لما غلبت على قلوبهن جمال يوسف والتعلق به، وصلت تلك الغلبة إلى أن قطعن أيديهن وما شعرن بذلك، فإذا جاز هذا تحت تأثير البشر فلأن يجوز تحت عظمة الله على القلب أولى.
خلاصة البحث
إن العبادات التي سنها الله لنا ذات تأثير شمولي مشرق ولها أخطر المهمات في تمكين الحقائق العليا للرسالات الإلهية وتحقيق الفطرة الإنسانية على وجهها الصحيح المستقيم.قال الله تعالى:{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } . (الداريات: 56)
يقول صاحب الظلال: [ وإن هذا النص الصغير ليحتوي حقيقة ضخمة هائلة من أضخم الحقائق الكونية التي لا تستقيم حياة البشر في الأرض بدون إدراكها واستيقانها سواء كانت حياة فرد أم جماعة أم حياة البشرية كلها في جميع أدوارها وأعصارها. .... أن هنالك غاية معينة لوجود الجن والإنس تتمثل في وظيفة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده وأصبح بلا وظيفة........... هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بناموس الوجود. هي العبادة لله أو هي العبودية لله....... إن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى أوسع وأشمل من مجرد الشعائر وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعاً وأن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئسيين:-
الأول: هو استقرار معنى العبودية لله في النفس. أي استقرار الشعور على أن هناك عبداً ورباً عبداً يَعبد، ورباً يعبد، وأن ليس هناك وراء ذلك شئ وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود وإلا رب واحد والكل له عبيد.
والثاني: هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير وكل حركة في الجوارح وكل حركة في الحياة. التوجه بها خالصة والتجرد من كل شعور آخر ومن كل معنى غير معنى التعبد لله.
بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة، ويصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضي بقدر الله..... كلها عبادة، وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها، وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شئ لله دون سواه.(/13)
عندئذ يعيش الإنسان في هذه الأرض شاعراً أنه هنا للقيام بوظيفة من قبل الله تعالى، جاء لينهض بها فترة، طاعة لله وعبادة له لا أرب له هو فيها ولا غاية له من ورائها إلا الطاعة وجزاؤها الذي يجده في نفسه من طمأنينة ورضي عن وضعه وعمله ومن أنس برضي الله عنه ورعايته له ثم يجده في الآخرة تكريماً ونعيماً وفضلاً عظيماً......... إن قضية ليست قضية شعائر وإنما هي قضية دينوية، وأتباع.......... وإنها لذلك استحقت كل هذه الرسل والرسالات وكل هذا الاهتمام ]. (1)
إذاً نستلخص إلاتي:-
1- إن العبادة في اللغة الطاعة ومعنى التعبد في اللغة التنسك والتذلل.
2- إن معنى العبادة في الشرع: خضوع وحب والعبادة المأمور بها العبد تتضمن معنى الذل والخضوع لله ومعنى الحب فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له.
3- إن دعائم العبادة التي تنتظم أعمال الإنسان القلبية والعملية الفردية والجماعية: المحبة والخوف والرجاء.
4- في العبادة: [ قد يعجب المرء بعمله ويغتر بكثرة طاعته فيحمله ذلك على الإدلال على ربه والامتنان على منعمه فيحبط عمله ويهلك بعجبه ويشقى باغتراره وعلاج هذا الداء في ذكر الله تعالى وعلم العبد بأن ما أعطاه الله اليوم من علم أو مال أو قوة أو عزة أو شرف قد يسلبه غداً لو شاء ذلك وأن طاعة العبد للرب مهما كثرت لا تساوي بعض ما أنعم الله على عبده وأن الله تعالى لا يدل عليه بشئ إذ هو مصدر كل فضل و واهب كل خير. ] (2)
5- إن دائرة العبادة التي خلق الله لها الإنسان وجعلها غايته في الحياة ومهمته في الأرض دائرة رحبة واسعة تشمل شؤون الإنسان كلها وتستوعب حياته جميعاً وتستغرق كافة مناشطه وإعماله.
6- إن من قواعد الدين العظيمة: أنه لا عبادة إلا بدليل من الكتاب أو السنة.
7- إن المباحات تتحول إلى طاعات بالنية الصادقة ويؤجر عليها العبد بالثواب من الله تعالى.
8- إن شرطي قبول العبادة هما: الإخلاص لله تعالى وإتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهذان الشرطان دليل على وسطية القرآن في باب العبادة.
9- تنقسم العبودية في القرآن الكريم إلى عامة وهي عبودية الربوبية وهي لكل الخلق وعبودية خاصة وهي عبودية الطاعة العامة وإلى خاصة الخاصة وهي عبودية الرسل عليهم الصلاة والسلام.
10- إن مهمة الجانب العبادي للإنسان تعتبر ركناً أصيلاً في المنهاج الإلهي الذي شرعه الله تعالى على غاية العلم والحكمة وجعله بناء محكماً يشد بعضه بعضاً.
11- نستطيع أن نستخلص مهمة العبادة في أمور منها: تثبيت الاعتقاد، وتأسيس القيم الأخلاقية وإصلاح الجانب الاجتماعي وغير ذلك من الأمور.
12- إن في القرآن الكريم عدة توجيهات ومبادئ إصلاحية كانت ولا تزال هي حجر الأساس التي يقوم عليها صرح العبادة الشعائرية في الإسلام.
هذا والله تعالى أعلم .
نسأل الله تعالى أن يجعل هذا الجهد في صالح الأعمال
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .
فهرس المصادر و المراجع
1- القرآن الكريم.
2- الجامع لأحكام القرآن : للقرطبي .
3- تفسير القرآن : ابن كثير .
4- في ظلال القرآن : سيد قطب .
5- أصول التشريع الإسلامي : الدكتور علي حسب الله .
6- العبودية : شيخ الإسلام أحمد بن تيمية .
7-الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان : الشيخ محمد الخضر حسين .
8- دراسات في الشريعة الإسلامية : الشيخ محمد الخضر حسين .
9- كتاب التعريفات : تأليف الشريف علي بن محمد الجرجاني .
10- الموسوعة الفقهية : إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية -الكويت .
11- العبادات أدلة وأحكام : للدكتور الصادق عبد الرحمن الغرياني .
12- الوسطية في القرآن الكريم : للدكتور علي محمد الصلابي ( المصراتي ) .
13- فقه التمكين في القرآن الكريم : للدكتور علي محمد الصلابي ( المصراتي ) .
14- شرح الأربعين النووية : تأليف عبد الوهاب رشيد صالح أبوصفية .
15- مع الله : الشيخ محمد الغزالي .
16- هذا ديننا : الشيخ محمد الغزالي .
17- كتاب فضيلة الشكر لله على نعمته : الإمام الحافظ ( الخرائطي ) .
فهرس الآيات
1-.{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ( آل عمران : 102)
2-{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } ( النساء : 1)
3-{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } (الأحزاب :70-71) .
4-{ إياك نعبد وإياك نستعين } ( الفاتحة : 5)
5-:{ اعبدوا الله مالكم من إله غيره } ( الأعراف : 59)
6- {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } .( النحل : 36 )
7- {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } . ( الأنبياء : 25)(/14)
8-{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } . (الذاريات : 56)
9- { وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لآ إله إلا هو سبحانه عما يشركون } . (التوبة : 31)
10- { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } . (الأنعام : 162 ـ 163 )
11- { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } . ( البينة : 5 )
12- { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين ، ألا لله الدين الخالص }
(الزمر : 2-3 )
13- { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون } . ( الأعراف : 29) .
14- { ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن } . ( النساء : 125) .
15- { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } (تبارك : 2)
16- { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } . (الأنعام :153)
17- { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } . (المائدة : 3)
18- { ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً ....... } .
(النساء : 125)
19-{ وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } . (الأعراف : 172)
20- { وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون } . (الذاريات : 56 )
21- { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } . (البينة : 5 )
22- {"يريدون ليطفئوا نور الله"} [الصف: 8].
23- { "أمرنا لنسلم لرب العالمين" }[الأنعام: 71].
24- {"قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين" }[الزمر: 11].
25- { وأقم الصلاة لذكري } . ( طه : 14 )
26- : { ولذكر الله أكبر } . ( العنكبوت : 45 )
27- { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } . ( البقرة : 27 )
28- { وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً } . ( مريم : 8 )
29- { يا أيها الناس أعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } . ( البقرة : 21 )
30- { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون }،{ فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } . ( الحجر :97-98 - 99 )
31- { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة } . ( البقرة : 153 )
32- { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } . ( البقرة : 45 )
33- { الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا والآخرة } .
( يونس : 63- 64 )
34- : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } . ( البقرة : 21 )
35- { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } . ( البقرة : 183 )
36- { ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } .( الإسراء : 79 )
37- { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان } . ( الأحزاب : 72 )
38- { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } . ( البقرة : 40)
39- { فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } . (الصافات : 143 - 144 )
40- { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى } . ( طه : 132 )
41- { استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا } . ( نوح : 10 )
42- {..... فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن ..... الآية } . ( يوسف : 31 )
فهرس الأحاديث
1- ( وفي بضع أحدكم صدقة ) (19) رواه مسلم : كتاب الزكاة : 1 / 697 .
2- قوله صلى الله عليه وسلم ( إن المسلم إذا أنفق غلى أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة ) .
(22) أخرجه البخاري . كتاب الإيمان : 1 / 24 رقم 55 .
3- وقوله صلى الله عليه وسلم ( كل ما صنعت إلى أهلك فهو صدقة عليهم ) . (23) سلسة الأحاديث الصحيحة للألباني : 3 / 22 .
4- وقوله صلى الله عليهم وسلم ( دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك ) . (24) رواه مسلم . كتاب الزكاة : 1 / 191 .
5- وقال صلى الله عليه وسلم ( كل سلامي من الناس عليه صدقة ، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة ، وتعين الرجل على دابته فيحمل عليها أو ترفع له متاعه صدقه ، والكلمة الطيبة صدقة ، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة ، ودل الطريق صدقة ، وتميط الأذى عن الطرق صدقة ) . (25) أخرجه البخاري . كتاب الصلح : 3 / 227 رقم 2707 .
6- وقوله صلى الله عليه وسلم ( دخلت امرأة النار في هرة ، ربطتها فلم تطعمها ، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت ) . (26) أخرجه البخاري .كتاب بدء الخلق الحديث رقم 3318 .(/15)
7- عن أبي هريرة أن رجلاً قال يا رسول الله إني أتصدق بالشئ أريد وجه الله وثناء الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله شيئاً شورك فيه ] ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { ألا لله الدين الخالص } . (32 - تفسير القرطبي )
8- قوله صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) . ( 39- رواه البخاري ومسلم )
9- وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى : ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري فهو للذي أشرك فيه وأنا منه برئ ] (44- رواه مسلم 6/2289 )
10- وعن معاذ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الغزو غزوان فأما من غزا ابتغاء وجه
الله تعالى وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد في الأرض فإن نومه ونبهه
أجر كله وأما من غزا فخراً ورياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لن يرجع
بالكفاف ] (45- رواه النسائي 6/48 ) ،
11- وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يجاري به العلماء
أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله في النار ) . (46- رواه مسلم 2/1513 )
12- وفي الحديث الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم ( ثلاث لا يغل عليهم قلب مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة أئمة المسلمين ، ولزوم جماعتهم ......... ) . (47- رواه ابن ماجه في المقدمة 1/84 )
13- قوله صلى الله عليه وسلم (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وسنة رسوله). (54- رواه مالك في الموطأ بلاغاً 2/898 )
14- وقوله صلى الله عليه وسلم ( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ) .(55- رواه البخاري 8/139 )
15- وقوله صلى الله عليه وسلم ( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ) . (56- رواه مسلم 2/1343-1344 )
16- وعن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد تركتم على مثل
البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ بعدي عنها إلا هالك ) .(57- رواه ابن ماجه في المقدمة 1/14 )
17- روى البخاري عن أبي الزناد في باب ترك الصوم للحائض ، قال : ( إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرا على خلاف الرأي ، فما يجد المسلمون بدا من أتباعها من ذلك أن الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة ) .(66- صحيح البخاري مع فتح الباري 5/94 )
18- روى مسلم والبيهقي أن امرأة سألت عائشة : ( ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ فقالت لها : أحرورية أنت ؟ فقالت : لست بحرورية ولكني أسألك ، فقالت : كان يصيبنا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ) . (67-اللفظ للبيهقي في السنن الكبرى 1/308 - وأنظر صحيح مسلم بشرح النووي 4/27 )
19- أخرج البخاري في كتاب الاعتصام عن سهل بن حنيف قال : ( يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته ، وفي رواية عن أبي وائل قال : سمعت سهل بن حنيف يقول : اتهموا رأيكم رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر النبي صلى الله عليه وسلم لرددته وما وضعنا أسيافنا على عواتقنا لأمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه غير أمرنا هذا ) . (68- صحيح البخاري مع فتح الباري 17/50 )
20- روى البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : مخاطباً الركن في الطواف ( أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستلمك وأنا أستلمك فاستلمه ، وقال : ما لنا وللرمل إنما رأينا به المشركين وقد أهلكهم الله ، ثم قال : شئ صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نحب أن نتركه ثم رمل ) . (69- أخرجه البخاري والبيهقي واللفظ له في السنن الكبرى ج 5 ص 28 - وانظر صحيح البخاري مع فتح الباري 4/217 )
21- روى الدار قطني عن علي رضي الله عنه أنه قال : ( لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على ظهر خفيه ) وفي رواية ( ما كنت أرى باطن القدمين إلا أحق بالمسح حتى رأيت رسول الله يمسح على ظهر
خفيه )(70- سنن الدارقطني 1/99 )
"(/16)
العبودية ...
موقع المنبر ...
...
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد ..
فإنَّ تحقيق العبودية لله، مطلب شرعي لابد من تحقيقه، بل إن الله -عزَّ وجل- خلق الكائنات كلها لعبادته، من إنس وجن وملائكة وحيوان ونبات وجماد، وغيرها من الموجودات، فطرها -سبحانه- على توحيده والاعتراف بألوهيته والإقرار بفقرها واحتياجها وخضوعها له -جلَّ وعلا-.
* أولًا مفهوم العبودية
العبودية في اللغة: مصدر عبد يعبد عبادةً ومعبداً ومعبدةً، فهو عبدٌ، أي: ذلّ وخضع.
قال ابن منظور: «أصل العبودية الخضوع والتذلل... وعبد الله تألّه له... والتعبّد التنسك، والعبادة: الطاعة»[ لسان العرب (5/2776)، مادة (ع ب د)].
وقال الفراء: «معنى العبادة في اللغة الطاعة مع الخضوع، ومنه طريق معبد إذا كان مذللاً بكثرة الوطء» [انظر: لسان العرب (5/2778)، مادة (ع ب د)].
وقال ابن الأنباري: «فلان عابد وهو الخاضع لربه المستسلم المنقاد لأمره»[ انظر: لسان العرب (5/2778)، مادة (ع ب د)].
وقال الزبيدي: «أصل العبودية الذل والخضوع، وقال آخرون: العبودية الرضا بما يفعل الرب، والعبادة فعل ما يرضى به الرب»[ تاج العروس (2/409)].
مفهوم العبودية في الشرع:
قال ابن القيم: «العبودية اسم جامع لمراتب أربع من قول اللسان والقلب، وعمل القلب والجوارح.
فقول القلب هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته على لسان رسله عليهم السلام.
وقول اللسان هو الإخبار عن قول القلب بما فيه من الاعتقاد والدعوة إليه والذب عنه، وتبيين بطلان البدع المخالفة والقيام بذكره وتبليغ أوامره.
وعمل القلب كالمحبة له والتوكل عليه والإنابة إليه والخوف منه والرجاء له وإخلاص الدين له والصبر على أوامره وعن نواهيه وعلى أقداره والمعاداة فيه والخضوع والذل له وغير ذلك من أعمال القلب. وأعمال الجوارح كالصلاة والحج والجهاد وغيرها»[ مدارج السالكين (1/100)].
* حقيقة العبودية: عبودية القلب. قال ابن تيمية: «الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلبَ واستعبده فهو عبده، ولهذا يقال:
العبد حرّ ما قنع والحر عبد ما طمع
وقال القائل:
أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حراً» [ العبودية (ص104)]
وقال: «إن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن... وأما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقا مستعبداً متيّما لغير الله فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية الذليلة لما استعبد القلب. وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب... فالحرية حرية القلب كما أن الغنى غنى النفس»[ العبودية (ص116-117)].
ثانياً: أنواع العبودية: العبودية نوعان: عامة وخاصة:
أ- فالعبودية العامة: هي عبودية القهر والتسخير والملك والتسيير، وهذه تعمّ جميع الخلق مكلّفهم وغير مكلفهم، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم.
ب- والعبودية الخاصة: هي عبودية التأله والطاعة والمحبة وهذه خاصة بعباد الله المؤمنين، الذين استجابوا لداعي الله. قال ابن تيمية -رحمه الله-: «إن العبد يراد به المعبّد الذي عبّده الله فذلَّله ودبره وصرفه، وبهذا الاعتبار فالمخلوقون كلهم عباد الله، الأبرار منهم والفجار، والمؤمنون والكفار، وأهل الجنة وأهل النار، إذ هو ربهم كلهم ومليكهم لا يخرجون عن مشيئته وقدرته، وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فما شاء كان وإن لم يشاءوا، وما شاءوا إن لم يشأه لم يكن، كما قال –تعالى-: ?أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ? [آل عمران:83]، ومثل هذه العبودية لا تفرّق بين أهل الجنة وأهل النار، ولا يصير بها الرجل مؤمناً... والمعنى الثاني من معنى العبد، وهو العبد بمعنى العابد فيكون عابداً لله لا يعبد إلا إياه، فيطيع أمره وأمر رسله، ويوالي أولياءه المؤمنين المتقين ويعادي أعداءه، وهذه العبادة متعلقة بألوهيته، ولهذا كان عنوان التوحيد (لا إله إلا الله) بخلاف من يقر بربوبيته ولا يعبده أو يعبد معه إلهاً آخر. وهذه العبادة هي التي يحبها الله ويرضاها وبها وصف المصطفين من عباده وبها بعث رسله. وأما العبد بمعنى المعبَد سواء أقر بذلك أو أنكره فهذا المعنى يشترك فيه المؤمن والكافر»[ العبودية (ص38-45)].
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: «العبودية نوعان: عامة وخاصة.(/1)
فالعبودية العامة: عبودية أهل السموات والأرض كلهم لله، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، فهذه عبودية القهر والملك، قال –تعالى-: ?إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ إِلاَّ آتِى الرَّحْمَانِ عَبْد? [مريم:93]. وأما النوع الثاني: فعبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر، قال -تعالى-: ?ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ? [الزخرف:68]، وقال –تعالى-: ?فَبَشّرْ عِبَادِ ?17? الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ? [الزمر:17-18]، وقال: ?وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَم? [الفرقان:63-64]. فالخلق كلهم عبيد ربوبيته، وأهل طاعته وولايته هم عبيد ألوهيته» [ مدارج السالكين (1/105)].
قال ابن جرير في تفسير قول الله –تعالى-: ?وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ? [البقرة:116]: «وأولى معاني القنوت في قوله: ?كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ? الطاعة والإقرار لله -عز وجل- بالعبودية بشهادة أجسامهم بما فيها من آثار الصنعة، والدلالة على وحدانية الله -عز وجل-، وأن الله تعالى ذكره بارئها وخالقها، وذلك أن الله -جل ثناؤه- أكذب الدين زعموا أن لله ولداً بقوله: ?بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَالأرْضِ? ملكاً وخلقاً، ثم أخبر عن جميع ما في السموات والأرض أنها مقرة بدلالتها على ربها وخالقها، وأن الله –تعالى- بارؤها وصانعها، وإن جحد ذلك بعضهم فألسنتهم مذعنة له بالطاعة بشهادتها له بآثار الصنعة التي فيها بذلك، وأن المسيح أحدهم، فأنى يكون لله ولداً وهذه صفته؟!» [ جامع البيان (1/507-508)].
وقال الله –تعالى-: ?أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهً? [آل عمران:83]، قال شيخ الإسلام: «فذكر إسلام الكائنات طوعاً وكرهاً؛ لأن المخلوقات جميعها متعبّدةٌ له التعبد العام، سواءٌ أقر المقر بذلك أو أنكره، وهم مدينون له مُدبّرون، فهم مسلمون له طوعاً وكرهاً، ليس لأحد من المخلوقات خروجٌ عما شاءه وقدّره وقضاه، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو رب العالمين ومليكهم، يُصرّفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلّهم، وبارئهم ومُصورهم، كل ما سواه فهو مربوب مصنوعٌ مفطورٌ، فقيرٌ محتاجٌ معبَّد مقهورٌ، وهو سبحانه الواحد القهار الخالق البارئ المصوّر» [ العبودية (ص145)].
ثالثاً: عبودية الكائنات:
قال تعالى: ?وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ? [النحل:49].
قال ابن جرير -رحمه الله-: «يقول الله تعالى ذكره: ولله يخضع ويستسلم لأمره ما في السموات وما في الأرض من دابة تدبّ عليها، والملائكة التي في السموات، وهم لا يستكبرون عن التذلل له بالطاعة» [جامع البيان (7/594)].
وقال ابن كثير -رحمه الله-: «يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء، ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها جماداتها وحيواناتها ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة? [تفسير القرآن العظيم (2/593)].
وقال الله تعالى: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السَّمَاواتِ وَمَن فِى الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مّنَ النَّاسِ? [الحج:18].
قال ابن جرير -رحمه الله-: «يقول -تعالى ذكره- لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: ألم تر يا محمد بقلبك، فتعلم أن الله يسجد له من في السموات من الملائكة، ومن في الأرض من الخلق من الجن وغيرهم، والشمس والقمر والنجوم في السماء، والجبال والشجر والدواب في الأرض» [جامع البيان (9/122)].
وقال ابن كثير -رحمه الله-: «يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً، وسجود كل شيء مما يختص به»[ تفسير القرآن العظيم (3/220)].
وقال الله تعالى: ?تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاواتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ? [الإسراء:44]
قال ابن كثير -رحمه الله-: «يقول تعالى: تقدسه السموات السبع والأرض ومن فيهن أي: من المخلوقات، وتنزهه وتعظمه وتبجله وتكبره» [تفسير القرآن العظيم (3/45)].
وقال ابن سعدي -رحمه الله-: « ?تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاواتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَىْء? من حيوان ناطق، وغير ناطق، ومن أشجار، ونبات، وجامد، وحيٍ وميت ?إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ? بلسان الحال ولسان المقال، ?وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ? أي: تسبيح باقي المخلوقات، التي على غير لغتكم، بل يحيط بها علام الغيوب» [تيسير الكريم الرحمن (4/283)].(/2)
وعن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر حين غربت الشمس: (أتدري أين تذهب؟!) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئتِ، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: ?وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ? [يس:38])[ أخرجه البخاري في: بدء الخلق، باب: صفة الشمس والقمر (3199) واللفظ له، ومسلم في: الإيمان (159)].
قال ابن تيمية -رحمه الله-: «فقد أخبر في هذا الحديث الصحيح بسجود الشمس إذا غربت واستئذانها، وكذلك قال أبو العالية وغيره، قال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا ويقع ساجداً حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه، ومعلوم أن الشمس لا تزال في الفلك كما أخبر الله تعالى بقوله: ?وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ? [الأنبياء:33]، فهي لا تزال في الفلك، وهي تسجد لله وتستأذنه كل ليلة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فهي تسجد سجوداً يناسبها، وتخضع له وتخشع كما يخضع ويخشع كل ساجد من الملائكة والجن والأنس» [جامع الرسائل، الأولى: (قنوت الأشياء كلها لرب العالمين) (ص37)].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة، وهو يريد أن يبني بها، ولما يبن، ولا آخر قد بنى بنياناً ولما يرفع سُقُفها، ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات وهو منتظر ولادها، قال: فغزا، فأَدْنى للقرية حين صلاة العصر، أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبِسْها علي شيئاً، فحبست عليه حتى فتح الله عليه) [أخرجه مسلم في الجهاد، باب: تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة (1747)].
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: (ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل) [أخرجه البخاري في المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام (3579)].
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: «إن ذلك كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله سلم غالباً، وقد اشتهر تسبيح الطعام، وتسبيح الحصى، وحنين الجذع، ولم يكذب رواتها» [فتح الباري (6/592)].
رابعاً: ضرورة الخلق إلى العبودية لله تعالى:
بيّن ابن تيمية -رحمه الله- ضرورة الخلق إلى العبودية من وجوه كثيرة فقال: «ونبين هذا بوجوه نقدم قبلها مقدمة.
وذلك أن العبد بل كل حي بل وكل مخلوق سوى الله هو فقير محتاج إلى جلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة، والمضرة هي من جنس الألم والعذاب، فلا بد له من أمرين:
أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينفع ويلتذ به.
والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع الذي يوقع المكروه. وهذان هما الشيئان المنفصلان الفاعل والغاية فهنا أربعة أشياء:
أحدها: أمر هو محبوب مطلوب الوجود.
والثاني: أمر مكروه مبغض مطلوب العدم.
والثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
والرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه.
فهذه الأربعة الأمور ضرورية للعبد، بل ولكل حي، لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها.
إذا تبين ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه:
أحدها: أن الله تعالى هو الذي يجب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، وهو المعين على المطلوب، وما سواه هو المكروه، وهو المعين على دفع المكروه، فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قوله: ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ? [الفاتحة:5]، فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب، فالأول من معنى الألوهية، والثاني من معنى الربوبية، إذ الإله: هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالاً وإكراماً، والرب: هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها، وكذلك قوله تعالى: ?عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ? [هود:88]، وقوله: ?فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ? [هود:123]، وقوله تعالى: ?عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ? [الرعد:30]، وقوله: ?وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ?8? رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيل? [المزمل:8، 9]، فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين.
الوجه الثاني: أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه، ومحبته والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه، ولا شيء يعطيهم في الدنيا أعظم من الإيمان به.(/3)
وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم وربوبيته إياهم؛ فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح، ولا نعيم ولا لذلة، بدون ذلك بحال. بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى...
فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه، إلا الله سبحانه، ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التذاذ أكل الطعام المسموم...
واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئاً ليس له نظير فيقاس به؛ لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة.
فإن حقيقة العبد قلبه وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولا بد من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه.
ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ غير منعم له ولا ملتذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده، ويضره ذلك.
وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه، ولهذا قال إمامنا إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم: ?لا أُحِبُّ الآفِلِينَ? [الأنعام:76].
الوجه الثالث: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل ربه هو الذي خلقه ورزقه، وبصره وهداه وأسبغ عليه نعمه، فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله، وهذا الوجه أظهر للعامة من الأول، ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأول، لكن إذا تدبر اللبيب طريقة القرآن وجد أن الله يدعو عباده بهذا الوجه إلى الأول فهذا الوجه يقتضي التوكل على الله، والاستعانة به، ودعاءه، ومسألته، دون ما سواه، ويقتضي أيضاً محبة الله وعبادته لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، وحاجة العبد إليه في هذه النعم، ولكن إذا عبدوه وأحبوه وتوكلوا عليه من هذا الوجه دخلوا في الوجه الأول، ونظيره في الدنيا من نزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق، فجعل يدعو الله ويتضرع إليه حتى فتح له من لذة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولاً، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه ويشتاق إليه.
الوجه الرابع: أن تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه، إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته في عبادة الله، فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته ضره وأهلكه، وكذلك من النكاح واللباس، وإن أحب شيئاً حباً تاماً بحيث يخالِلُه فلا بد أن يسأمه، أو يفارقه، وفي الأثر المأثور: أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
واعلم أن كل من أحب شيئاً لغير الله فلا بد أن يضره محبوبه، ويكون ذلك سبباً لعذابه، ولهذا كان الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، يمثل لأحدهم كنزه يوم القيامة شجاعاً أقرع يأخذ بلهزمته، يقول: أنا كنزك، أنا مالك.
فكل من أحب شيئاً دون الله ولاَّه الله يوم القيامة ما تولاه، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً، فمن أحب شيئاً لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد، أو فقد، فإن فقد عذب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة، وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء، وكل من أحب شيئاً دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته، فصارت المخلوقات وبالا عليه إلا ما كان لله وفي الله، فإنه كمال وجمال للعبد، وهذا معنى ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (االدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه) [رواه الترمذي وغيره].
الوجه الخامس: أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب الضرر من جهته، فإنه يخذل من تلك الجهة، وهو أيضاً معلوم بالاعتبار والاستقراء، ما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خذل، وقد قال الله تعالى: ?وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً ?81? كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّ? [مريم:81، 82].(/4)
الوجه السادس: أن الله سبحانه غني، حميد، كريم، واجد، رحيم، فهو سبحانه محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإحساناً، والعباد لا يتصور أن يعملوا إلا لحظوظهم، فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه، ويجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة ما، وإن كان ذلك أيضاً من تيسير الله تعالى فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد إذا لم يكن العمل لله، فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته سواء أحبوه لجماله الباطن أو الظاهر، فإذا أحبوا الأنبياء والأولياء طلبوا لقاءهم فهم يحبون التمتع برؤيتهم، وسماع كلامهم، ونحو ذلك. وكذلك من أحب إنساناً لشجاعته أو رياسته، أو جماله أو كرمه، فهو يحب أن ينال حظه من تلك المحبة، ولولا التذاذه بها لما أحبه، وإن جلبوا له منفعة كخدمة أو مال، أو دفعوا عنه مضرة كمرض وعدو -ولو بالدعاء أو الثناء- فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل لله، فأجناد الملوك، وعبيد المالك، وأجراء الصانع، وأعوان الرئيس، كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به، لا يعرج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم، إلا أن يكون قد علم وأدب من جهة أخرى، فيدخل ذلك في الجهة الدينية، أو يكون فيها طبع عدل، وإحسان من باب المكافأة والرحمة... وإلا فالمقصود بالقصد الأول هو منفعة نفسه، وهذا من حكمة الله التي أقام بها مصالح خلقه، وقسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً.
إذا تبين هذا ظهر أن المخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، وإن كان ذلك قد يكون عليك فيه ضرر إذا لم يراع العدل، فإذا دعوته، فقد دعوت من ضره أقرب من نفعه.
والرب سبحانه يريدك لك، ولمنفعتك بك، لا لينتفع بك، وذلك منفعة عليك بلا مضرة، فتدبر هذا فملاحظة هذا الوجه يمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعة لك، فإنه لا يريد ذلك بالقصد الأول، كما أنه لا يقدر عليه، ولا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم، بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم، وكما لا تخفهم فلا ترجهم، وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله، وارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله، وكن ممن قال الله فيه: ?وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى ?17? الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى ?18? وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَى ?19? إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ الأَعْلَى? [الليل:17-20]، وقال فيه: ?إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُور? [الإنسان:9].
الوجه السابع: أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجاتهم بك وإن كان ذلك ضرراً عليك، فإن صاحب الحاجة أعمى لا يعرف إلا قضاءها.
الوجه الثامن: أنه إذا أصابك مضرة كالخوف والجوع والمرض، فإن الخلق لا يقدرون على دفعها إلا بإذن الله، ولا يقصدون دفعها إلا لغرض لهم في ذلك.
الوجه التاسع: أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك، ولو اجتهدوا أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك، فهم لا ينفعونك إلا بإذن الله، ولا يضرونك إلا بإذن الله، فلا تعلق بهم رجاءك.
قال الله تعالى: ?أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الرَّحْمَانِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ ?20? أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ? [الملك:20، 21]، والنصر يتضمن دفع الضرر والرزق يتضمّن حصول المنفعة»[ مجموع الفتاوى (1/21-31)].
وقال أيضاً: «فالفقر وصف لازم لها دائماً لا تزال مفتقرة إليه، والإمكان والحدوث دليلان على الافتقار، لا أن هذين الوصفين جعلا الشيء مفتقراً، بل فقر الأشياء إلى خالقها لازم لها لا يحتاج إلى علة، كما أن غنى الرب لازم لذاته لا يفتقر في اتصافه بالغنى إلى علة، وكذلك المخلوق لا يفتقر في اتصافه بالفقر إلى علة، بل هو فقير لذاته، لا تكون ذاته إلا فقيرة فقراً لازماً لها، ولا يستغني إلا بالله.
وهذا من معاني (الصمد)، وهو الذي يفتقر إليه كل شيء، ويستغني عن كل شيء، بل الأشياء مفتقرة من جهة ربوبيته، ومن جهة إلهيته، فما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا يصلح ولا ينفع ولا يدوم. وهذا تحقيق قوله: ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ? [الفاتحة:5]، فلو لم يخلق شيئاً بمشيئته وقدرته لم يوجد شيء، وكل الأعمال إن لم تكن لأجله -فيكون هو المعبود المقصود المحبوب لذاته- وإلا كانت أعمالاً فاسدة»[ مجمع الفتاوى (5/514-515)].(/5)
بل لا كمال للعبد إلا في عبوديته لربه جل وعلا، قال ابن تيمية: «كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهّم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه، أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق بل أضلّهم»[ العبودية (ص91)].
وقال: «القلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة وهي العلة الغائبة، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلة.
فالقلب لا يصلح ولا يُفلح ولا يلتذّ ولا يُسَرُّ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة.
وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له، فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة: ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?، فإنه لو أُعين على حصول ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادةٌ لله، فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها، إلا بإخلاص الحب لله، بحيث يكون هو غاية مراده، ونهاية مقصوده، وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله، لا يحب شيئاً لذاته إلا الله» [ العبودية (ص131-133)].
ولبيان هذه الحقيقة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أصدق الأسماء حارث وهمام)، قال شيخ الإسلام: «فالحارث: الكاسب الفاعل، والهمّام: فعّالٌ من الهم، والهم أوّل الإرادة، فالإنسان له إرادة دائماً، وكل إرادة فلا بد لها من مراد تنتهي إليه، فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته، بل استكبر عن ذلك، فلا بد أن يكون له مرادٌ محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبدا لذلك المراد المحبوب، إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلها من دون الله، كالشمس، والقمر، والكواكب، والأوثان، وقبور الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أرباباً، أو غير ذلك مما عُبد من دون الله»[ العبودية (ص138)].
خامساً: فضل العبودية ومكانتها:
والمراد بالعبودية الممدوحة العبودية الاختيارية التي يوفق الله لها من يشاء من عباده بحكمته ورحمته، فمن فضائلها:
1- أنها الغاية المحبوبة لله تعالى والمرضية له، والتي من أجلها خلق سبحانه الخلق، قال تعالى: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ? [الذاريات:56].
قال القرطبي: «أي: ليذلوا ويخضعوا لي» [الجامع لأحكام القرآن (17/56)].
وقيل: إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم، وقيل: إلا ليقروا بعبادتي طوعا أو كره[انظر: تفسير ابن كثير (4/238)].
وقال السعدي: «هذه الغاية التي خلق الله الجن والإنس لها وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومحبته والإنابة إليه والإقبال عليه والإعراض عما سواه، وكلما ازداد العبد معرفة بربه كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله تعالى المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم» [تفسير الكريم الرحمن (7/181)].
2- أنها أول أمرٍ أمر الله به في كتابه العزيز وأهمه وأعظمه قال تعالى: ?يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ? [البقرة:21].
قال القرطبي: «قوله تعالى: ?اعْبُدُو? أمر بالعبادة له، والعبادة هنا عبارة عن توحيده والتزام شرائع دينه، وأصل العبادة الخضوع والتذلل، يقال: طريق معبّدة إذا كانت موطوءة بالأقدام... والعبادة الطاعة، والتعبد التنسّك» [الجامع لأحكام القرآن (1/225-226)].
وهو أمر واجب لازم حتى الممات قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ?وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ? [الحجر: 99].
3- أن الله وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم في أشرف الحالات، فقال في حادثة الإسراء: ?سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ? [الإسراء:1]، وقال في حالة الإيحاء: ?فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى? [النجم:10]، وقال في مجال الدعوة: ?وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَد? [الجن:19]، وقال في ميدان التحدي: ?وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ? [البقرة:23].(/6)
قال القرطبي في تفسير آية الإسراء: «قال العلماء: لو كان للنبي صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالة العلية، قال القشيري: لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية، ألزمه اسم العبودية تواضعاً للأمة» [الجامع لأحكام القرآن (10/205)].
وهي المنزلة التي رضيها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)[ أخرجه البخاري (3445) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه].
4- أنها وصف رسل الله وأنبيائه، ونعت ملائكته وأوليائه، قال تعالى: ?وَلَهُ مَن فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ ?19? يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ? [الأنبياء:19، 20]، وقال: ?إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ? [الأعراف:206]، وقال: ?لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً ?172? فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِير? [النساء:172، 173].
قال القرطبي: «قوله تعالى: ?لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ? أي لن يأنف ولن يحتشم ?أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ? أي من أن يكون... ?وَمَن يَسْتَنْكِفْ? أي يأنف ?عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ? فلا يفعلها ?فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ?... ?جَمِيع? فيجازي كلا بما يستحق، كما بينه في الآية بعد هذا... أي لن يمتنع المسيح ولن يتنزه من العبودية ولن ينقطع عنها ولن يعيبها» [الجامع لأحكام القرآن (6/26-27)].
وقال سبحانه: ?عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجّرُونَهَا تَفْجِير? [الإنسان:6]، وقال: ?وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَم? [الفرقان:63].
قال القرطبي: "أضافهم إلى عبوديته تشريفا لهم... فمن أطاع الله وعبده وشغل سمعه وبصره ولسانه وقلبه بما أمره فهو الذي يستحق اسم العبودية، ومن كان بعكس هذا شمله قوله تعالى: ?أُوْلَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ? [الأعراف:179]» [ الجامع لأحكام القرآن (13/67-68)].
وقال في وصف ملائكته: ?بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ?26? لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ?27? يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ? [الأنبياء:26-28].
وقال في وصف عيسى -عليه السلام-: ?إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لّبَنِى إِسْراءيلَ? [الزخرف:59].
وقال تعالى: ?وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الأيْدِى وَالأبْصَارِ ?45? إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ?46? وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ ?47? وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مّنَ الأخْيَارِ? [ص:45-48].
وقال عن داود: ?وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ? [ص:17].
وقال عن سليمان: ?نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ? [ص:30].
وقال عن أيوب: ?وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ? [ص:41].
وقال عن نوح: ?إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورً? [الإسراء:3].
5- أنها من محاسن الفضائل وكرائم الخصائل التي أمر الله تعالى بها جميع الأمم، قال تعالى: ?وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُور? [النساء:36].
قال القرطبي: «أجمع العلماء على أن هذه الآية من المحكم المتفق عليه، ليس منها شيء منسوخ، وكذلك هي في جميع الكتب، ولو لم يكن كذلك لعُرف ذلك من جهة العقل، وإن لم ينزل به الكتاب، وقد مضى معنى العبودية وهي التذلل والافتقار لمن له الحُكم والاختيار، فأمر الله تعالى عباده بالتذلل له والإخلاص فيه، فالآية أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره» [الجامع لأحكام القرآن (5/180)].(/7)
6- أنها غاية دعوة جميع الرسل، فبها أرسل الله الرسل ومن أجلها أنزل الكتب، قال نوح لقومه: ?اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ اله غَيْرُهُ? [الأعراف:59]، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم.
وقال تعالى: ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ? [النحل:36]، وقال: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ? [الأنبياء:25].
قال ابن تيمية: «وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة الله» [العبودية (ص95)].
7- أنها الحرز المتين والحصن الحصين من تزيين الشيطان وإغوائه، قال تعالى عن إبليس: ?رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأزَيّنَنَّ لَهُمْ فِى الأرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ?39? إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ? [الحجر:39، 40]، وقال: ?فَبِعِزَّتِكَ لأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ?82? إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ? [ص:82، 83]، وقال سبحانه: ?إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ? [الحجر:42]، وقال في حق يوسف: ?كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ? [يوسف:24].
8- أنها سبيل الحرية والفكاك من رق الدنيا الفانية، وطريقُ الخلاص من هلاك الآخرة الباقية.
قال الحكيم الترمذي: «إن الله تعالى خلق الخلق عبيدا ليعبدوه، فيثيبهم على العبادة، ويعاقبهم على تركها، فإن عبدوه فهم اليوم له عبيد أحرار كرام من رق الدنيا، ملوك في دار السلام، وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أُبّاق سقّاط لئام، وغدا أعداء في السجون بين أطباق النيران» [انظر: الجامع لأحكام القرآن (12/156)].
9- أن بها كمال العبد، وتمام إنسانيته.
قال ابن تيمية: «كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته» [العبودية (ص91)].
10- أنه لا يحصل الاستغناء التام والحرية التامة المطلقة إلا بالعبودية لله تعالى.
قال شيخ الإسلام: «ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه، ولا يعادي إلا من عاداه الله، ولا يحب إلا لله، ولا يبغض شيئاً إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فكلّما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته لله تكمل تبرئته من الكبر والشرك» [العبودية (ص140-141)].
11- أن بها اللذة الحقيقية والسعادة الأبدية.
قال شيخ الإسلام: «إن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله، والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أطيب»[ العبودية (ص119)].
12- أنها البند العظيم الذي أمر الله أن يدعو إليه أهلُ الإسلام أهلَ الكتاب، فقال تعالى: ?قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُون? [آل عمران:64].
13- أنها سبيلٌ لوقاية الله وكفايته، قال تعالى: ?أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ? [الزمر:36].
سادساً: أركان العبودية:
للعبودية ركنان أساسان لا تقوم إلا بهما وهما: الذل والمحبة. فالذل من غير محبة مردود على صاحبه، والمحبة من غير ذل كذب من مدّعيها ورعونة وإدلال.
قال شيخ الإسلام: «العبادة المأمور بها تتضمّن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له... ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله» [العبودية (ص33-35)].
وقال: «لفظ العبودية يتضمن كمال الذل وكمال الحب، فإنهم يقولون: قلب متيم إذا كان متعبداً للمحبوب والمتيم المتعبد، وتيَّم الله عبده»[ العبودية (ص152)].
قال ابن القيم رحمه الله:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القبطان
ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان
وقال شيخ الإسلام مبينا الترابط الوثيق بين المحبة والعبودية: «كلما ازداد القلب حبا لله ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبا وفضّله عما سواه» [العبودية (ص131)].
ولا يتحقق الذل لله تعالى إلا بالخوف والرجاء، الخوف منه والرجاء فيه.(/8)
قال ابن تيمية: «وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ورفع ضرورته قويت عبوديته له، وحريته مما سواه... فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من الله والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله، لا سيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق... وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً لهم مدبّراً لهم متصرفاً بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر»[ العبودية (ص114-115)].
قال الله تعالى: ?أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورً? [الإسراء:57].
قال ابن تيمية: «المحب يخاف من زوال مطلوبه، أو عدم حصول مرغوبه، فلا يكون عبدُ الله ومحبُّه إلا بين خوف ورجاء» [العبودية (ص180)].
وقال: «ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين -أي: الحب والذل-، فمتى كان يحب غير الله لذاته، أو يلتفت إلى غير الله أنه يعينه، كان عبدا لما أحبه وعبدا لما رجاه، بحسب حبه له ورجائه إياه، وإذا لم يحب أحداً لذاته إلا الله، وأي شيء أحبه سواه فإنما أحبه له، ولم يرجُ قط شيئاً إلا الله، وإذا فعل ما فعل من الأسباب أو حصل ما حصل منها، كان مشاهداً أن الله هو الذي خلقها وقدّرها وسخرها له، وأن كل ما في السموات والأرض فالله ربه ومليكه وخالقه ومسخّره، وهو مفتقر إليه، كان قد حصل له من تمام عبوديته لله بحسب ما قسم له من ذلك.
والناس في هذا على درجات متفاوتةٍ، لا يحصي طرقها إلا الله، فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم وأقربهم إلى الله وأقواهم وأهداهم أتمهم عبودية لله من هذا الوجه» [ العبودية (ص133-134)].
فلا بد أن تكون العبودية مبنية على الحب والخوف والرجاء، ومتى اختلّ ركن من هذه الأركان اختلت العبودية، فمثل العبد مثل طائر رأسه المحبة وجناحاه الخوف والرجاء، وإنما جُعلت المحبة بمثابة الرأس لأنه المقصود الأسمى الذي يبقى، وأما الخوف والرجاء فلا خوف ولا رجاء بعد دخول العبد الجنة ورضا الله تعالى عليه.
قال بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحّد.
ويبعث هذين الركنين في النفس ويثيرهما ويقوّيهما أمران اثنان: مشاهدة منة الله تعالى ونعمه، ومطالعة عيوب النفس والعمل، قال ابن القيم رحمه الله: "قال شيخ الإسلام: العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من حديث شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه: (سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله الا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)، فجمع في قوله صلى الله عليه وسلم: (أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي) مشاهدةَ المنة ومطالعةَ عيب النفس والعمل. فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار، والتوبة في كل وقت، وأن لا يرى نفسه إلا مفلساً» [الوابل الصيب (ص6)].
ولهذا السر كان من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره))، فهو يحمد الله تعالى على ما اتصف به من صفات الجلال والجمال والكمال، وعلى ما تفضل به من النعم العظام، ويستعينه لضعفه وعجزه وافتقاره إليه، ويستغفره لتقصيره وذنبه.
سابعاً: شروط العبودية:
لا تقبل العبودية من العبد إلا إذا توفّر فيها شرطان اثنان، الأول: الإخلاص، والثاني: أن تكون على شرع الله.
قال الله تعالى: ?فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَ? [الكهف:110]، وقال تعالى: ?تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ ?1? الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَل? [الملك:1، 2].
قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.(/9)
وقال تعالى: ?بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ? [البقرة:112]، وقال: ?وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيل? [النساء:125].
قال شيخ الإسلام مقرراً هذين الشرطين: «ولها -أي: العبادة- أصلان، أحدهما: أن لا يُعبد إلا الله، والثاني: أن يعبد بما أمر وشرع، لا يعبده بغير ذلك من الأهواء والظنون والبدع... فالعمل الصالح هو الإحسان، وهو فعل الحسنات، والحسنات هي ما أحبه الله ورسوله، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، فما كان من البدع في الدين التي ليست في الكتاب ولا في صحيح السنة فإنها وإن قالها من قالها وعمل بها من عمل ليست مشروعة، فإن الله لا يحبها ولا رسوله، فلا تكون من الحسنات ولا من العمل الصالح.. وأما قوله: ?وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَ?، وقوله: ?أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ? فهو إخلاص الدين لله وحده» [العبودية (ص82-84)].
قال -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) [أخرجه البخاري في بدء الوحي (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) [أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنه].
قال شيخ الإسلام: «كل عملٍ أُريد به غير الله لم يكن لله وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله، بل لا يكون لله إلا ما جمع الوصفين: أن يكون لله، وأن يكون موافقاً لمحبة الله ورسوله، وهو الواجب والمستحب... فلا بد من العمل الصالح، وهو الواجب والمستحب، ولا بد أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى» [العبودية (ص174)].
وتحقيق هاذين الشرطين هو مقتضى الشهادتين، قال شيخ الإسلام: «وذلك تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا اله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله، ففي الأولى أن لا نعبد إلا إياه، وفي الثانية: أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسول الله المبلّغ عنه، فعلينا أن نصدق خبره ونطيع أمره، وقد بيَّن لنا ما نعبد الله به، ونهانا عن محدثات الأمور، وأخبر أنها ضلالة»[ العبودية (ص121-222)].
والمنحرفون عن شرط المتابعة من قدم القياس والعقل أو الذوق والوجد أو الرؤى والمنامات، أو الحزبيات والسياسات على نصوص الكتاب والسنة.
قال ابن تيمية: «وأصل ضلال من ضل هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند الله، وتقديم اتباع الهوى على اتباع أمر الله، فإن الذوق والوجد ونحو ذلك هو بحسب ما يحبه العبد، فكل محب له ذوق ووجد بحسب محبته... وهؤلاء الذين يتبعون أذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة» [العبودية (ص75-78)].
وشرط المتابعة لازم لركن المحبة، قال تعالى: ?قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ? [آل عمران:31].
قال ابن تيمية: «فمن كان محبا لله لزم أن يتبع الرسول، فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسّى به فيما فعل، ومن فعل هذا فقد فعل ما يحبه الله، فيحبه الله» [العبودية (ص126-127)].
فإذا لم تتحقق المتابعة لم ينفع الحب، قال ابن تيمية: "قد يسلك المحب –لضعف عقله وفساد تصوره– طريقاً لا يحصِّل بها المطلوب، فمثل هذه الطريق لا تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة، فكيف إذا كانت المحبة فاسدة والطريق غير موصل؟!» [العبودية (ص131)].
ثامناً: المنحرفون في باب العبودية:
أ- المشتغلون بالعبودية العامة عن العبودية الخاصة:(/10)
المشركون وكثير من أهل التصوف وأهل الجبر يشهدون الحقيقة الكونية دون الحقيقة الشرعية، فيعارضون الشرع بالقدر، قال شيخ الإسلام: «وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها يشهد هذه الحقيقة، وهي الحقيقة الكونية التي يشترك فيها وفي شهودها ومعرفتها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، بل وإبليس معترف بهذه الحقيقة وأهل النار، قال إبليس: ?رَبّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ? [ص:79]... وأمثال هذا من الخطاب الذي يقرّ فيه بأن الله ربه وخالقه وخالق غيره، وكذلك أهل النار: ?قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ? [المؤمنون:106]... فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها، ولم يقم بما أُمر به من الحقيقة الدينية، التي هي عبادته المتعلقة بألوهيته وطاعة أمره وأمر رسله، كان من جنس إبليس وأهل النار، وإن ظن مع ذلك أنه من خواصّ أولياء الله وأهل المعرفة والتحقيق الذين سقط عنهم الأمر والنهي الشرعيان كان من أهل الكفر والإلحاد... وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة الله ودينه وأمره الشرعي التي يحبها ويرضاها، ويوالي أهلها ويكرمهم بجنته، وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، التي من اكتفى بها ولم يتّبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين، والكافرين برب العالمين، ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض، أو في مقام دون مقام، أو حال دون حال نقص من إيمانه وولايته لله بحسب ما نقص من الحقائق الدينية. وهذا مقام عظيم غلط فيه الغالطون، وكثر فيه الاشتباه على السالكين، حتى زلق فيه من أكابر الشيوخ المدعين للتحقيق والتوحيد والعرفان ما لا يحصيهم إلا الله الذي يعلم السر والإعلان» [العبودية (ص42-46)].
وقال: «كثير من الرجال غلطوا فيه، فإنهم قد يشهدون ما يقدّر على أحدهم من المعاصي والذنوب، أو ما يقدر على الناس من ذلك، بل من الكفر، ويشهدون أن هذا جارٍ بمشيئة الله وقضائه وقدره، داخل في حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته، فيظنون الاستسلام لذلك وموافقته والرضا به ونحو ذلك دينا وطريقاً وعبادة، فيضاهئون المشركين الذين قالوا: ?لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَىْء? [الأنعام:148]» [العبودية (ص50-51)].
ب- الذين يسوون الله بكلّ موجود:
وهم أهل المقالة الكفرية وحدة الوجود، قال شيخ الإسلام: «بل قد آل الأمر بهؤلاء إلى أن سوّوا الله بكل موجود، وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة حقا لكل موجود، إذ جعلوه هو وجود المخلوقات.
وهذا من أعظم الكفر والإلحاد برب العالمين، وهؤلاء يصل بهم الكفر إلى أنهم لا يشهدون أنهم عباد، لا بمعنى أنهم مُعبّدون، ولا بمعنى أنهم عابدون، إذ يشهدون أنفسهم هي الحق كما صرح بذلك طواغيتهم... ويشهدون أنهم هم العابدون والمعبودون، وهذا ليس بشهود لحقيقة لا كونية ولا دينية بل هو ضلال وعمى عن شهود الحقيقة الكونية، حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق، وجعلوا كل وصف مذموم وممدوح نعتاً للخالق والمخلوق، إذ وجود هذا هو وجود هذا عندهم» [العبودية (ص61-62)].
ج- المدعون للمحبة من غير خوف ولا رجاء:
قال ابن تيمية -رحمه الله-: «وُجد في المستأخرين من انبسط في دعوى المحبة، حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة والدعوة التي تنافي العبودية، وتدخل العبد في نوع من الربوبية التي لا تصلح إلا لله، ويدعي أحدهم دعاوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين، أو يطلبون من الله ما لا يصلح بكل وجه إلا لله، ولا يصلح للأنبياء. وهذا بابٌ وقع فيه كثير من الشيوخ، وسببه ضعف تحقيق العبودية التي بيّنها الرسل، وحررها الأمر والنهي الذي جاؤوا به، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته.
وإذا ضعف العقل، وقلّ العلم بالدين، وفي النفس محبةٌ طائشة جاهلة، انبسطت النفس بحمقها في ذلك، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع حمقه وجهله، ويقول: أنا محب، فلا أؤاخذ بما أفعله من أنواع يكون فيها عدوان وجهل، فهذا عين الضلال، وهو شبيهٌ بقول اليهود والنصارى: ?نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ? [المائدة:18]» [العبودية (ص162-163)].(/11)
العبودية بين التوفيق والخذلان
عبد الحميد الكبتي
يعتقد المسلم جازماً من قلبه أن العبادة مفهوم شامل في التصور الإسلامي ؛ يغطي ويستوعب كل مظاهر الحياة ، انطلاقاً من قول عز وجل : ( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) فلا ترى المسلم بعد هذه القاعدة القرآنية إلا رافلاً في ثوب العبودية لله رب العالمين ؛ في حركته وسكونه ، وفي نومه ويقظته ، في كسله وجده ، في دعوته ودعائه ، في جهاده ومجاهدته ، في علمه وعمله ، في خوفه وأمله ، كما هو الحال في دموعه ونبضات قلبه ..(/1)
ومع هذه السياحة الشاملة لكل نبضات المسلم ، لا نراه إلا طالباً للهداية الحقة في هذه العبودية الشاملة ، فنجده يكرر في كل صلاة قول الحق عز وجل ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ) مع أنه مسلم ومهتدي ويصلي ، إلا أنه من الفرض عليه أن يكرر هذه الآية من سورة الفاتحة في كل صلاة ؛ ذلك بأن الهداية للحق شيء ، والمضي والثبات على تلك الهداية شيء آخر . وعندما نردد ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ) إنما نطلب الثبات على الهداية ، والاستمرار عليها ، وعدم الحيدة عنها ، والتمسك بها ، بل والذود عنها .. لأن معترك الحياة والعيش بهذه المعاني بحق ، ليس بالأمر الهين ، ولا هو بسهل التحصيل ، ولا يُنال بترديد آيات دون الوعي بمقتضياتها . إن الصراط المستقيم الذي نطلب الهداية له كل مرة ، إنما يحتاج إلى دقة في السير عليه ، ويحتاج إلى وضوح في السير إليه ، ويحتاج إلى توفيق للاستمرار فيه . إن السير على هذا الصراط المستقيم يتطلب الحذر مما على جانبي الصراط ، فعلى جانبه الأول يكون الضلال والإضلال ، وعلى جانبه الأخر ثمة الغضب من الله تعالى ، والمسلم يسير بين هذا وهذا على صراط عليٍ مستقيم . فنحن في كل صلاة نقول : ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ) يقول النبي عليه الصلاة والسلام " اليهود : مغضوب عليهم ، والنصارى : ضالون " أخرجه الإمام الترمذي . هذا هو الوصف لمن سار على جوانب الصراط ، وحاد بنفسه عن الطريق السوي . يقول الإمام ابن القيم في مدارج السالكين ، انقسم الناس بهذه الآية إلى ثلاثة أقسام : 1. العالم بالحق العامل به . " وهو المنعم عليه الذي يزكي نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح ". 2. العالم بالحق المتبع لهواه . " وهو المغضوب عليه ؛ لأنه علم بالحق وحاد عنه ". 3. الجاهل بالحق . " وهو الضال ؛ لأنه لم يتبع الهدي المستقيم في معرفة الحق وضده ". وفي كل صلاة يعيش المسلم هذه المعاني مجتمعة في هذه الآيات من سورة الفاتحة ، ويكررها مرات ومرات ، وتتوارد في نفسه صورٌ كثيرة لأهل الغضب ولأصحاب الضلال ؛ صورٌ من أهل الأهواء والجهل ، وصورُ من أهل الغباء وسوء العمل ، صورٌ من أهل الجهالة والبعد عن الصراط المستقيم . إن عيش المسلم وهو ينشد ربه هذه المعاني ، ويخشى أن يقع في ضدها من صور الغضب والضلال ، هذا الخوف والوجل ، يكون مصاحبا للمرء منا طوال حياته ، تارة يوفقه الله تعالى ، وتارة يُخذل ، بحسب قربه وبعده عن الصراط المستقيم ، وحسن السير إليه وعليه . وكما قال العارفون ( الأمر كله بين التوفيق والخذلان ) ، وهذا صحيح صحيح ، فكلما ارتكس العبد في الغفلة والمعاصي وفتات الحياة وهام فيها ، كلما كان رداء الخذلان له لباسا ، وحين يقترب وينصب ويرغب ، يجد التوفيق له سجية وعادة ، وخير اللباس التقوى . وأبدع الإمام ابن القيم رحمه الله حين استخرج أكبر وأخطر مرضين يصيبان العبد في سيره إلى الله ، وهما نتاج من الغضب والضلال ، وهما مرضي " الكبر ، والرياء " وقال بأنهما من أخطر الأمراض ، ومنهما تولد الأمراض الأخرى في قلب العبد . والكبر : بطر الحق وغمط الناس ، كما بينه الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام ، ورد الحق والتغاضي عنه ، واحتقار الناس وعدم إنزالهم منازلهم ، هما قرني هذا المرض الخطير الفتاك ، الذي يحرم صاحبه من دخول الجنة بوزن حبة خردل منه ! والرياء : العمل لغير الله بشكل عام ، وهو رأس بطلان الأعمال ، فتارة يكون بظاهر حسن من العمل وباطن سيء ، وتارة يكون بتملق واستعراض أمام العبيد ! ، وتارة يكون لجاه أو طلب منزلة في عيون وقلوب من أصلهم مني يمنى ! وبين قرني الكبر ورأس بطلان العمل يصارع المسلم طريقه ومجاهدته إلى الله ، ناشدا التوفيق ، طالبا عونه في البعد عن الخذلان ، معترك صعب طويل ، وما ثمة إلى باب الرب الرحيم يفتحته لعبد أطال الطرق ولم يمل . · من صور الخذلان أن يتعالى صاحب العلم على الناس بعلمه ، ويظن أنه على شيء ، والمسكين غفل أن صاحب العلم بحق هو المتواضع بحق مع الحق ومع الناس ، والمتعالي لا يليق له إلا الوصف بالجهل . · ومن صور الخذلان للعبد أن ينشط في الواجبات الفرعية ، ويكسل ويتغافل في الواجبات الأولية الرئيسة ، وعلى سبيل ضرب المثال ؛ ألم يقل الله تعالى في كتابه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) إهمال أهل المرء من زوجة وأولاد و والدين ونحوهما ، هل هو توفيق من الله أم خذلان ؟ ينشط المسلم مع إخوانه في الله ، وبيته تكثر فيه عناكب الشر بكل خيوطها ، ثم يقول : ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ) !! · ومن مظاهر الخذلان للمسلم أن يكون هاجرا(/2)
للقرآن الكريم ، لا يحفظ ، لا يرتل ، لا يفهم ، لا يشتاق ، لا يتزود ، لا يعرف الختمات تلو الختمات ، ولا يسعى أن يكون القرآن ربيعا لقلبه ، ولا شفاء لصدره ، ولا جلاء لهمه وغمه ، ويظل يردد : ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ) ! · ومن صور الخذلان أن لا يوفق المرء لصحبة صالحه تعينه على أمر دينه وتقوية سيره إلى الله ، بل أحيانا يكون حوله الكثير من الإخوة والأخوات في الله ـ كلٌ بحسبه ـ ولكنه يشعر بالغربة بينهم ، نظرا لاختلاف النوازع والأهداف ، وطبيعة الفكر والحماسة للعمل لدين الله عز وجل ، وقد يكون خذلانه مركبا ، فلا تجده في أخلاقه وتعامله ومعاشرته إلا كما يكون السوقة من الناس وأراذل البشر والعياذ بالله . · ومن صور الخذلان انعدام النصح بين المرء ومن يعاشر ، فتراه متعودا عليهم واعتادوا هم عليه ، فيكثر بينهم حديث العامة وأسعار الأسواق والقيل والقال ، وتغض الأطراف عن منكر بدأ يدب فيهم ، أو منزلة بدأت تتسلل إليهم لا تليق بحاملي لواء الصراط المستقيم ، أو آفات اللعب والضحك والكسل وطراوة الهمم ونداوتها ، وينسوا كلهم قول النبي صلى الله عليهم وسلم : ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال " لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ " ) راجع ابن كثير .. ونلحظ تعبير النبي عليه الصلاة والسلام ( إن أول ما دخل " النقص " ) سماه نقصا ، وكل ما يحيد عن الصراط هو تقص ولو كان مبالغة في الكسل ، أو برود في همة ، وإن هذا النقص كبر أو صغر أو سكت عنه يكون العقاب : ( ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ) مختلطة ، لا تعرف منها شيئا ، فكيف يراد من هذه القلوب أن تكون آمرة بمعروف ناهية عن منكر ، بل وحاملة للواء الدعوة وتبشير الناس ؟ ·
ومن صور الخذلان أن ينسلخ شهر رمضان على العبد ولم يغفر له ؛ فعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أحضروا المنبر فأحضرنا فلما ارتقى درجة قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثانية، قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: آمين، فلما نزل قلنا يا رسول الله، لقد سمعنا منك اليوم شيئًا ما كنا نسمعه، قال صلى الله عليه وسلم: إن جبريل عرض لي فقال: بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له، فقلت: آمين، فلما رقيت الثانية قال: بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت: آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بعد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. قلت: آمين ) حديث متواتر. إن من الخذلان إخواني أخواتي أن ينسلخ عنا الشهر ولم تدمع منا العيون ، أو ترجف منا القلوب خوفا من نار جهنم ، وإن من الخذلان أن يمر الشهر الكريم ولا يقدر أحدنا على ختم القرآن لمرة واحدة ! ، أو تزيد نوافلنا لله رب العالمين .. هذه لقطات سريعة ، ولكل منا صوره التي يلتقطها بعدسته الإيمانية .. إن الثبات على الصراط المستقيم ليس بالأمر الهين ؛ إلا على من يسره الله عليه ، ومما يعين على هذا التذكر ـ مهما انغمست الأرجل في بعض أوحال الدنيا ـ مدارسة وتذكر أحوال من سبقنا في هذا الطريق ، ولقوا ربهم وهم على بينة من ربهم ، هذا التذكر يدفع المسلم دفعا إلى المسير وبقوة ، مهما كان غريبا بين أصحابه المقربين منه ، فإنه واجد بحول الله ذلك الطعم الرباني بسير أهل الصلاح ( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ) . أولئك لم يكن للكبر عندهم مكانا ، ولا للرياء فيهم منزلا ، وكانوا هداة مهتدين .. اللهم اجعلنا منهم يا كريم العطايا ....*(/3)
العبودية
أرسل الله عز وجل رسله وأنزل كتبه لتحقيق غاية عظيمة ألا وهي إفراده سبحانه بالعبادة فلا يعبد سواه ، ولا يتقرب إلا له ، قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (النحل:36) ، ذلك أن البشرية انحرفت عن عبادة ربها ، وعبدت من دونه أصناما ، فجاءت دعوة الرسل لتصحيح هذا الانحراف ، ورد الناس إلى عبادة ربهم ، فهي الغاية التي من أجلها خلق الخلق ، قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات:56)
والعبادة كما يعرَّفها العلماء هي :كل ما يحبه الله ويرضاه من الأفعال والأقوال الظاهرة - كالصلاة والصدقة - والباطنة ، - كحب الله ورسوله والمؤمنين ، وبغض الكافرين والمنافقين - .
والعبادة لا تكون مقبولة عند الله عز وجل إلا إذا توفر فيها شرطان أساسيان :
الأول : الإخلاص : بمعنى أن يقصد العبد بعبادته وجه الله سبحانه ، قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } (البينة:5)
والثاني : المتابعة والمقصود منها أن يعبد الإنسان ربه وفق هديه وشرعه ،قال صلى الله عليه وسلم : %( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )%% متفق عليه .
فعبادة الله سبحانه هي خلاصة دعوة الرسل ، وهي سبب النجاة في الدنيا والآخرة ، فينبغي للمسلم أن يحرص على التزود منها فريضة ونفلا ، وأن يؤديها كما أرادها الله خالصة لوجهه من غير رياء ولا سمعة ، صافية من البدع والأهواء ، فمن حرص على ذلك كان حريا أن تقبل عبادته ، وأن ينال رضا ربه ، نسأل الله سبحانه أن يعيينا على طاعته وأن يجنبنا معصيته .(/1)
العدالة في القرآن ...
د.عبد العظيم بدوي ...
فالإسلامُ قد جعلَ العَدْلَ فَوْقَ كلِّ شيء، فهو يَزِنُ بالقسْطَاسِ المُسْتَقيم بيْنَ الكافِر والمُسْلم، والعَدِّو والمُوالي والمُعَاهِد، فهم جميعاً في نظَرِه أمامَ العدَالةِ سواء، يقول تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإَحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ?.
والأمَّةُ الإسلامِيَّةُ قَيِّمةٌ على الحُكْمِ بيْن النَّاسِ بالعَدْل متى حكَمتْ في أَمْرِهم. هذا العَدْلَ الذي لم تعرِفْهُ البشريَّة قط – على هذه الصُّورة - إِلاَّ على يدِ الإسلام، وإِلاَّ في حُكْم المسلمين، وإِلاَّ في عهد القيادة الإسلاميَّة للبشريَّة، والذي افتَقَدتّه من قبل ومن بعد هذه القيادةُ فلم تَذُقْ له طعماً قطُّ في مِثْل هذه الصُّورةِ التي تُتَاحُ للنَّاس جميعاً لأَنَّهم ناسٌ لا لأيَّةِ صِفَةٍ أُخرى زائدةٍ عن هذا الأصلِ الذي يُتْرك فيه الناس.
العدالة فى الإسلام
قال تعالى: ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ?[ البقرة:143] . أي كَما هديْنَاكم إلى قِبْلةٍ هي أوسَطُ القِبَل وأفْضَلُها ? جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ? .
والشُّهداء جمعُ شهيدٍ وأصْلُه الشَّاهدُ للشيءِ والمُخْبِر له عن عِلْمٍ حصَلَ بمشاهَدةِ بصَرٍ أو بَصيرة، ولَمَّا كان المُخْبِرُ عن الشَّيء والمُبيِّن لحالِه جاريًا مجرَى الدليلِ على ذلك سُمِّيتْ الدِّلاَلةُ على الشيء شاهِداً، وكذلك المُخْبِرُ به، فكلُّ من عَرَفَ حالَ شيءٍ وكشَف عنه كان شاهِِداً عليه وأعظم شُروطِ قَبُولِ الشَّهادة العدَالةُ كما قال تعالى: ? وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ?[ الطلاق:2] ، فلَمَّا اختار اللهُ هذه الأُمَّةَ ليكونوا شُهدَاء على النَّاس عدّلهم فقال: ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطً ? قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ? الْوَسَطُ الْعَدلُ ?.
والْعَدْلُ من النَّاس هو المَرْضِيُّ السِّيرةِ المُسْتَقِيمُ الطَّريقة. فهو بَيْن العَدْلِ والعَدَالةِ أَيْ أَنَّهُ رِضَىً ومَقْنَعٌ فِي الشّهادةِ .
وقال الفُقُهاءُ: إِنَّ العدَالةَ مقيَّدةٌ بالصَّلاح فيِ الدِّين وبالاتِّصافِ بالمُروءة، أَمَّا الصَّلاحُ في الدِّين فَيتمُّ بأداءِ الفَرائضِ والنَّوافلُ واجْتِنَاب المُحَرَّمات والمكرُوهاتِ، وعدمِ ارْتِكَابِ كبيرةٍ أو إصْرارٍ على صغيرة.
أَمَّا المُروءةُ فهي أَنْ يفعلَ الإنسانُ ما يَزِينُه ويتْرُكَ ما يَشِينُه من الأقْوَالِ والأفْعال .
قال القاسِميُّ : فإِنْ قيلَ هل الأُمَّةُ كُلُّها شُهودٌ أم بعضُهم؟ فالجواب: وكلُّهم مُمْكِنٌ أَنْ يكُونوا شُهداءَ، وذلك بشريطَةِ أَنْ يُزَكُّوا أنفُسَهم بالعِلْم والعمَلِ الصَّالح، فمن لم يُزَكِّ نفسَه لم يكنْ شاهِداً ومَقْبُولاً ، ولذلك قال الله تعالى: ? قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ?[ الشمس:9] ، وقال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ?[ النساء:135]، والقِيامُ بالقِسْطِ مُرَاعَاةُ العَدالة، وهي بالقَوْلِ المُجْمَلِ ثلاثٌ :
عدَالةٌ بيْن الإنسانِ ونَفْسِه، وعدالةٌ بيْنَه وبيْن الناس، وعدَالةٌ بيْنَه وبيْن الله عزّ وجلّ .
فأَمَّا عَدْلُ الإنْسانِ فيما بيْنَه وبيْن اللهِ فيكونُ بالقِيَامِ بحقِّ الله عليْه في العِبَادةِ وإخْلاصِها له سبحانه، وإفرادِه سبحانه بها :
عَنْ مُعَاذٍ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ: لَهُ عُفَيْرٌ فَقَالَ: ( يَا مُعَاذُ! هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَلاَ أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ قَالَ: لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا ) .
والعِبَادةُ اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه الله ويرْضاه من الأقْوَالِ والأعْمالِ الظَّاهِرَةِ والبَاطِنَة، فالصَّلاةُ والزَّكاة والصِّيام والحجُّ وصِدْقُ الحديث وأداءُ الأمانةِ وبرُّ الوالديْن وصِلَةُ الأرحام(/1)
والوفاءُ بالعهود، والأمرُ بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وجهادُ الكفَّار والمنافقين، والإحسانُ إلى الجار واليتيمِ والمِسكين وابنِ السَّبيل والمملوكِ من الآدميِّين والبهائم، والدُّعاء والذِّكر والقِراءةُ وأمثالُ ذلك من العبادة، وكذلك حُبُّ اللهِ ورَسُولِه، وخَشْيَةُ اللهِ والإنَابةُ إليه، وإخلاصُ الدِّين له، والصَّبر لحُكْمِه والشُّكر لنعمه، والرِّضا بقضائه، والتوكُّل عليه، والرَّجاء لرحْمتِه، والخَوْفَ من عذابه، وأمْثالُ ذلكَ من العبادة .
واللهُ تعالى لا يَقْبَلُ من العباداتِ إِلاَّ ما كان خالصاً له، ولذلك أمرَ بالإخلاصِ ونهى عن الشِّرك فقال تعالى: ? فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ?[ الزمر2: 3] ، وقال تعالى: ? وَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ? [ غافر:65 ] ، وقال تعالى: ? فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ?[ الكهف:110] .
وقال تعالى: ? وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ?[ النساء:36] ، وقال تعالى: ? وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ?[ النحل: 51] ،
وبذلك أرسلَ اللهُ الرُّسلَ وأنزلَ الكُتُبَ قال تعالى: ? وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ?[ النحل:36] .
وقال تعالى: ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون ?[ الأنبياء:25] ، وقال تعالى: ? يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُون ?[ النحل:2] .
فمن عبدَ اللهَ ولم يُشْرِكُ به شيئاً فقد عدلَ فيما بيْنَه وبيْن الله، ومن عبدَ غَيْرَ الله فقد ظَلم، ولذلك قال تعالى: ? وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ?[ البقرة: 254] ، وقال تعالى: ? إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ?[ لقمان:13] ، وقال تعالى: ? إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ?[ المائدة:72] .
وأَمَّا عَدْلُ الإنسانِ فيما بيْنَه وبيْن نَفْسِه فيكونُ بحَمْلِها على المَصالِح وكفِّها عن القَبائح، ثم بالوقُوفِ في أحْوالها على أعْدَلِ الأمْرَيْن مِنْ غَيْرِ تجَاوُزٍ أو تقصير، فإِنَّ التَّجاوُزَ فيها جَوْرٌ والتَّقصيرَ فيها ظُلم، ومن ظَلَم نفسَه فهو لغَيْرِه أظلم، ومن جار عَليْها فهو على غيْره أشد جوراً .
فمن ترك الواجبات فقد ظلم نفسه، ومن انتهك المحرمات فقد ظلم نفسه ? وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ?[ الطلاق: 1] .
ولذلك لَمَّا أكل الأبوانِ من الشَّجرة المحرَّمة ? قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ?[ الأعراف:23] .
ولَمَّا قتل موسى القِبْطِيَّ ? قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ? [ القصص:16] .
ولَمَّا هاجر يونُسُ من غير إذْنِ الله قال: ? أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ?[ الأنبياء:87] .
وقال تعالى في التَّرغيب في التَوبةِ والحضِّ عليها: ? وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ?[ النساء:110].
وقال في مَعْرِضِ المَدْح: ? وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ? [ آل عمران 135: 136]
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي قَالَ: ( قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إِنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيم ).(/2)
وأَمَّا عَدْلُ الإنسانِ فيما بيْنَه وبيْن النَّاس فقد سبقَ الإسْلاَم في أَمْرِه بالعَدالَةِ وَحَثِّه عليها كُلَّ نُظُمِ العَدالةِ الحديثة، حيثُ جعلَ العَدْلَ أساسَ نِظَام الخَليقَةِ كلِّها، قال تعالى: ? وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَان ?[ الرحمن7: 9] .
فالإسلامُ قد جعلَ العَدْلَ فَوْقَ كلِّ شيء، فهو يَزِنُ بالقسْطَاسِ المُسْتَقيم بيْنَ الكافِر والمُسْلم، والعَدِّو والمُوالي والمُعَاهِد، فهم جميعاً في نظَرِه أمامَ العدَالةِ سواء، يقول تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإَحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ?[ النحل:90]، وقال تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ ?[ النساء:58] هكذا على الإطلاق ? بَيْنَ النَّاسِ ? على اخْتِلاَفِ المِلَلِ والنِّحل والدِّيانات والأجناس ? أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ?[ النساء:58] ، ولا تَمِيلُوا إلى مُسْلمٍ لإسْلامه ولا على كافرٍ لكُفْره، ولا تَميلُوا إلى وَليِّ لِوَلايَته وعلى مُعَادٍ لعداوته، ولا تميلُوا إلى غَنِيٍّ لغناه ولا على فقيرٍ لفَقْرِه، قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ? [ النساء:135]، وقال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ?[ المائدة:8]، وقال تعالى: ? وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ? [ الأنعام:152] .
وقد تكرَّر الأمرُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم- بالعَدْلِ بيْن مَنْ يتحاكَمُ إليه من أهْلِ المِلَلِ الأُخْرى قال تعالى: ? سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ?[ المائدة:42] .
ثم يقولُ اللهُ تعالى: ? وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ?[ المائدة:48]، ويقولُ تعالى: ? وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ?[ المائدة:49]، ويقولُ اللهُ تعالى: ? فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ?[ الشورى:15] ، وإِنْ كذَّبْتُموني وَكَفْرتُم بى، فالعَدْلُ الذي يسْعَى الإسلامُ لإقامته ليسَ عَدْلاً بيْن المسلمين بعضِهم وبعضِ فحَسْب، ولا عَدْلاً مع أهْلِ الكتابِ دُونَ سائرِ النَّاس، وإِنَّما هو حَقُّ لكلِّ إنسان يوصف إنساناً فهذه الصِّفَةُ – صَفةُ النَّاس- هي التي يترتَّب عليها حَقُّ العَدْل في المَنْهج الرَّبانيِّ. وهذه الصِّفَةُ يلْتَقي عليها البَشرُ جميعاً: مؤمنين وكفاراً، أصدقاءَ وأعداء، سُوداً وبيضاً، عرباً وعجماً.
والأمَّةُ الإسلامِيَّةُ قَيِّمةٌ على الحُكْمِ بيْن النَّاسِ بالعَدْل متى حكَمتْ في أَمْرِهم. هذا العَدْلَ الذي لم تعرِفْهُ البشريَّة قط –على هذه الصُّورة- إِلاَّ على يدِ الإسلام، وإِلاَّ في حُكْم المسلمين، وإِلاَّ في عهد القيادة الإسلاميَّة للبشريَّة، والذي افتَقَدتّه من قبل ومن بعد هذه القيادةُ فلم تَذُقْ له طعماً قطُّ في مِثْل هذه الصُّورةِ التي تُتَاحُ للنَّاس جميعاً لأَنَّهم ناسٌ لا لأيَّةِ صِفَةٍ أُخرى زائدةٍ عن هذا الأصلِ الذي يُتْرك فيه الناس».(/3)
فالشريعةُ الإسلاميَّةُ في هذه الناحية ناحية العَدالَةِ بيْن النَّاس على اختلاف مِلَلِهم ونِحَلهِم وألْوانِِهم وأجْنَاسِهم تَسْتَحِقُّ من جميعِ النَّاس آمَنُوا به أمْ لم يُؤْمِنُوا نظرةً صادقةً، فإِنَّها لا تزالُ سابِقةً في زَمنِنَا في هذا الشأن، وانْظُرْ إلى أقوَالِ بعض أئمَّةِ المسلمين قبل مِئَاتِ السِّنين:
يقول ابنُ القيِّم: إِنَّ الله- سبحانه وتَعالى- أرسلَ رُسَلَه وأنزلَ كُتَبه ليقومَ النَّاسُ بالقِسَط وهو العَدْل الذي قامَتْ به الأرضُ والسَّموات، فإذا ظهَرت أماراتُ العَدْلِ وأسفَر وجهُه بأيِّ طريقٍٍ كان فثم شرع الله .
ويقول الإمامُ الشاطبي: إِنَّ أحْكَامَ الشَّريعةِ ما شُرِعَتْ إِلاَّ لمصْلَحَةِ النَّاس وحَيْثُما وُجِدَت المَصْلَحَةُ فثمَّ شرْعُ الله .
هذه هي العَدالةُ عندَ المُسلمين، ولم تكنْ يوماً ما مُجرَّد مُثُلٍ عُلْيا أو وصَايا يَفْخَرُون بها دُون مُمارَسَةٍ أو تطبيق، وإِنَّما كانتْ واقعاً عاشَتْه هذه الأُمَّةُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم- ومارسَتْه وطبَّقتْه في واقع حيَاتها مع البَعيدِ والقَريبِ والعدُوِّ والصَّديق، والمُسْلمِ والكافر:
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ وَكَانَ فِيهِ مِزَاحٌ بَيْنَا يُضْحِكُهُمْ فَطَعَنَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي خَاصِرَتِهِ بِعُودٍ فَقَالَ: ( أَصْبِرْنِي فَقَالَ: اصْطَبِرْ قَالَ: إِنَّ عَلَيْكَ قَمِيصًا وَلَيْسَ عَلَيَّ قَمِيصٌ فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَمِيصِهِ فَاحْتَضَنَهُ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ كَشْحَهُ قَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ )
وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :( أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَأْيمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَ) .
وعَنْ ابن أَبي حَدْرَد الأَسْلَميِّ أَنَّه كان عَلَيْه ليهُودِيٍّ أَرْبعُ دَراهِمَ فَأتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- فقال يَا مُحَمَّدُ إِنَّ لِي على هذا أرْبعةَ دَراهِمَ وقَدْ غلَبني علَيْها فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ( أَعْطِه حَقَّه، قالَ والَّذِي بعثَك بالحَقِّ ما أقْدرُ علَيْها، قَال أَعْطِه حَقَّه، قالَ والَّذِي نَفْسِي بيَدِه ما أَقْدِرُ علَيْها، قَدْ أخْبَرْتُه أَنَّك تَبْعَثُنا إلى خَيْبر، فأرْجُو أَنْ تُغنِّمَنا شيْئاً فأَرْجِعُ فأَقضيه، قال أَعْطِه حَقَّه، قال: وكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- إذا قالَ ثلاثاً لم يُراجَع، فخرجَ ابنُ أبي حَدْرَدَ إلى السُّوقِ وعلَى رَأْسِه عِصَابَةٌ وهُو مُتَّزِرٌ بِبُرْدٍ، فنَزعَ العِمَامةَ عَنْ رَأْسِه فاتَّزر بِهَا ونزَع البُردَة فقَال اشْتَرِ مِنِّي هذه البُردَةَ فباعَها مِنْهُ بأرْبعَةِ درَاهم ).
وهكذا رسَّخ - صلى الله عليه وسلم - أصولَ العدَالة في المسلمين بتطبيقها على نفسِه وأهْلِه وعامَّةِ المسلمين وإيصالِ الحَقِّ لأهله ولو كانوا كافرين، فلَمَّا تُوفِّي - صلى الله عليه وسلم- لم يألُ الخلفاءُ من بعده جهداً في حِمَايةِ أُصولِ العدالَة التي وضَعها وحِرَاسَتِها حتى تعمَّ جميعَ الناس:
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اخْتَصَمَ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ وَيَهُودِيٌّ فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ الْحَقَّ لِلْيَهُودِيِّ فَقَضَى لَهُ فَقَالَ: لَهُ الْيَهُودِيُّ وَاللَّهِ لَقَدْ قَضَيْتَ بِالْحَقِّ فَضَرَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالدِّرَّةِ ثُمَّ قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: « إِنَّا نَجِدُ أَنَّهُ لَيْسَ قَاضٍ يَقْضِي بِالْحَقِّ إِلاَّ كَانَ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ يُسَدِّدَانِهِ وَيُوَفِّقَانِهِ لِلْحَقِّ مَا دَامَ مَعَ الْحَقِّ فَإِذَا تَرَكَ الْحَقَّ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ»(/4)
وعَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ مِنْ فُلاَنٍ رِيحَ شَرَابٍ فَزَعَمَ أَنَّهُ شَرَابُ الطِّلاَءِ وَأَنَا سَائِلٌ عَمَّا شَرِبَ فَإِنْ كَانَ مُسْكِرًا جَلَدْتُهُ فَجَلَدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِي اللهُ عَنْهُ الْحَدَّ تَامًّا ، وعن حُصَيْن بنِ المُنْذِر قالَ: « شَهِدتُ عُثمانَ بنَ عفَّانَ أُتِيَ بالوَليدِ بنِ عُقْبَة، وهو قَريبٌ له، قد صَلَّى الصُّبْح ركعتيْن ثم قالَ: أزَيدُكم؟ فشَهِدَ حُمْرانُ ورجلٌ آخرُ أحدُهما حمران: أَنَّه شرب الخَمْرَ، وشَهِدَ آخر أَنَّه رآه تقيَّأ، فقال عثمانُ: إِنَّه لم يتقيَّأْ حتى شَرِبَها، وقال قُمْ يا عليّ فَاجْلِدْه » .
ولو ذهبنا نتتبَّع هذه الأمثلةَ الرَّائعةَ في عَدالة المسلمين وحِرْصهم على إقامة العَدْل بين الناس لطال بنا الوقتُ ولكنَّها تذكرةٌ للمؤمنين وتنبيهٌ للغافلين أَنَّ هذه عدالة الأمة التي جعلها الله الأمَّة الوسط لتحكم بين الناس بالحقِّ التي فرضه اللهُ عليها ولتكون شاهدةً على الأمم التي سبقتها.
فـ ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ?[ الأعراف:43].(/5)
العدل بين الأولاد في العطية وكيفيته
أ.د. سليمان بن فهد العيسى * 12/3/1425
01/05/2004
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فقد أجمع العلماء على مشروعية العدل بين الأولاد في العطية، فلا يخص أحدهم أو بعضهم بشيء دون الآخرين.
واختلفوا – رحمهم الله – في حكم التفضيل فيما بينهم على أقوال، منها:
القول الأول:
تحريم التفضيل بين الأولاد في العطية بغير إذن الباقين، وهو المشهور عند الحنابلة إلا في الشيء التافه، وهو مذهب الظاهرية، وذكر ابن حزم في المحلى أنه قول أبي بكر وعمر وعثمان وقيس بن سعد وعائشة، ومجاهد، وطاووس، وعطاء وغيرهم.
استدل أصحاب هذا القول بثلاثة أدلة:
الدليل الأول: ما رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير أن أباه أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي، فقال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: "أكلَّ ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا، فقال عليه الصلاة والسلام فأرجعه". وفي لفظ لهما أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: فاتقوا الله وأعدلوا بين أولادكم، قال فرجع فرد عطيته.
الدليل الثاني: أن التفضيل بين الأولاد يفضي كثيراً إلى التباغض وقطع الأرحام والعقوق، وقطع الرحم والعقوق محرمان، فما يؤدي إليهما يكون محرماً؛ لآن للوسائل أحكام المقاصد.
الدليل الثالث: وهذا الدليل للاستدلال على جواز التفضيل إذا أذن الأولاد الباقون وهو أن المنع من التفضيل إنما هو من أجل المفضولين، فإذا أذنوا زال المحذور، كما يجوز التفضيل في الشيء اليسير؛ لأنه مما يتسامح به عادة.
القول الثاني:
تحريم التفضيل إلا إذا كان بسبب شرعي، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد اختارها ابن تيمية وابن قدامة. واستدلوا بما يلي:
الدليل الأول: ما رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: إن أبا بكر الصديق كان نحلها جاد عشرين وسقاً من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية ما من الناس أحب إلي غنى بعدي منك ولا أعز عليَّ فقراً بعدي منك، وإن كنت نحلتك جاد عشرين وسقاً فلو كنت جدديته واحترزيته كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث، وإنما هما أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله.
قال ابن قدامة بعد ذكره للأثر السابق يحتمل أن أبا بكر – رضي الله عنه – خصها بعطية لحاجتها وعجزها عن الكسب والتسبب فيه مع اختصاصها بفضلها وكونها أم المؤمنين زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – وغير ذلك من فضائلها.
نوقش هذا الدليل: بقول ابن حجر في الفتح: قد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن إخوتها كانوا راضين بذلك .
الدليل الثاني: ما جاء في سنن البيهقي قال: قال الشافعي: وفضل عمر عاصم بن عمر بشيء أعطاه إياه.
الدليل الثالث: ما رواه الطحاوي أن عبد الرحمن بن عوف فضل بني أم كلثوم بنحل قسمة بين ولده.
الدليل الرابع: ما رواه البيهقي وابن حزم أن ابن عمر قطع ثلاث أرؤس أو أربعة لبعض ولده دون بعض.
ويمكن أن تناقش الأدلة السابقة بما نوقش به الدليل الأول وهو أن إخوة كل منهم كانوا راضين.
القول الثالث:
تحريم التفضيل إذا لم يكن للوالد مال غيره، وهذا مروي عن الإمام مالك، واستدل لهذا القول بما يلي:
الدليل الأول: ما جاء في بعض روايات حديث النعمان بن بشير ومنها: أن أباه أعطاه غلاماً فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – ما هذا الغلام؟ قال: أعطانيه أبي قال: فكل إخوته أعطيته هذا؟ قال: لا، قال: فرده.
وجه الدلالة: ما قاله مالك: من أن بشيراً لم يكن له مال غير هذا الغلام.
نوقش هذا الدليل: بعدم التسليم بأن بشيراً لم يكن له مال غير الغلام، فقد جاء في صحيح مسلم عن النعمان بن بشير أنه قال: تصدق عليَّ أبي ببعض ماله ... الحديث.
الدليل الثاني: حديث نحلة أبي بكر لعائشة (السابق ذكره).
وجه الدلالة : أن أبا بكر نحل ابنته عائشة بعضاً من ماله، حيث كانت النحلة عشرين وسقاً من ماله، فدل على جواز ذلك إذا كان ببعض المال ويناقش هذا الدليل بمثل ما نوقش به الدليل الأول للقول الثاني.
الدليل الثالث: أنه إذا وهب بعض ماله لم يورث العداوة؛ لأنه بقي من المال ما يعطي الباقين.
نوقش هذا الدليل: أنه إذا أعطى الباقين فقد انتفى المحذور وحصل المطلوب وهو مخير أن يرد تلك العطية أو يساوي المفضول بالفاضل سواء أعطى الكل أو البعض.
القول الرابع:
كراهة ذلك، وهو قول في مذهب أبي حنيفة إذا لم يكن للتفضيل سبب فإن كان له سبب فجائز وهذا مذهب الشافعية، والقول بالكراهة أيضاً هو المشهور عن المالكية فيما إذا كانت العطية لكل ماله، وأدلة هذا القول كما يلي:
الدليل الأول: حديث النعمان بن بشير بجميع رواياته، وهم حملوا الأمر في قوله – صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا الله وأعدلوا بين أولادكم" على الندب، كما حملوا النهي على التنزيه في مثل قوله – صلى الله عليه وسلم – لبشير: "لا تشهدني فإني لا أشهد على جور".(/1)
ويناقش هذا الدليل: بعدم التسليم بأن الأمر للندب والنهي للتنزيه، خاصة في هذا الحديث الذي جاء فيه عدة تأكيدات، وهي صريحة على أن الأمر للوجوب والنهي للمنع ولا تقبل التأويل.
الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم في بعض روايات حديث النعمان "فأرجعه" قالوا فيدل بظاهره على صحة العطية، ولو لم تصح لم يصح الرجوع، وإنما أمره بالرجوع لأنه للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده.
مناقشة هذا الدليل: قال ابن حجر بعد سياقة للدليل السابق: وفي الاحتجاج بذلك نظر، والذي يظهر أن معنى قوله "فأرجعه" أي لا تمض الهبة المذكورة.
الدليل الثالث: قوله – صلى الله عليه وسلم -: "أشهد على هذا غيري" قالوا: وهذا إذن بالإشهاد على ذلك، ولو كان حراماً أو باطلاً لما قال هذا الكلام، وإنما امتنع – صلى الله عليه وسلم – أن يشهد لكونه الإمام، لأن من شأن الإمام أن يحكم لا أن يشهد.
مناقشة هذا الدليل: قال ابن حجر: لا يلزم من كون الإمام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمل الشهادة ولا من أدائها إذا تعينت عليه ... وأما قوله أشْهِد صيغة إذن فليس كذلك، بل هو توبيخ لما يدل عليه بقية ألفاظ الحديث.
الدليل الرابع: ما جاء في بعض روايات حديث النعمان أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لبشير (أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذاً ) قالوا: وهذا يدل على أن الأمر للاستحباب وأن النهي للتنزيه؛ لأن المقصود من التسوية بينهم في العطية استوائهم في البر والعطف.
مناقشة هذا الدليل: أن الحديث له ألفاظ أخرى تبين تلك الرواية، منها قوله – صلى الله عليه وسلم - : (فإني لا أشهد على جور)، وجاء في بعض الروايات بصفة الأمر، حيث قال – صلى الله عليه وسلم -: (سو بينهم).
الدليل الخامس: أن التفضيل عمل عدد من الصحابة بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – كما سبق في أدلة القول الثاني.
ويناقش بمثل ما نوقشت به أدلة القول الثاني.
الدليل السادس: أن الإجماع انعقد على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده، فإذا جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله لتمليك الغير، جاز أن يُخرج بعض أولاده بالتمليك لبعضهم وقد نوقش هذا الدليل؛ بأنه قياس مع النص ولا مساغ للاجتهاد في مورد النص.
القول الخامس: جواز التفضيل إن لم يقصد به المضارة، وهو قول عند الحنفية واستدلوا بما استدل به أصحاب القول الرابع، غير أن هؤلاء حملوها على الجواز أما عدم جوازه فيما إذا قصد به المضارة فلم أقف لهم على توجيه، غير أن المضارة بوجه عام محرمة مطلقاً لكل أحد، وهي بين الأقارب أشد تحريماً، لا سيما إذا كانت بين الوالد وأولاده.
مناقشة هذا القول: بأن تخصيص عدم جواز التفضيل بقصد المضارة فقط لا دليل عليه.
الترجيح: بعد سياق أراء الفقهاء في هذه المسألة والنظر والتأمل في أدلة كل منها ومناقشة ما يحتاج منها إلى مناقشة، يترجح – والله أعلم – القول الأول، وذلك لعدة وجوه:
الوجه الأول: قوة أدلة هذا القول وتعددها وصحتها مع دلالتها دلالة صريحة على وجوب العدل والمنع من التفضيل، وضعف أدلة الأقوال الأخرى ومناقشتها بما يضعفها أو يبطلها.
الوجه الثاني: أن تفضيل بعد الأولاد على بعض وسيلة ظاهرة على وقوع العداوة بين الأب وأولاده المفضولين من ناحية وبين الأولاد بعضهم مع بعض من ناحية أخرى، فينتج عن ذلك قطيعة الرحم.
المسألة الثانية: عدل الأم بين أولادها في العطية:
عدل الأم بين أولادها في العطية مشروع كعدل الأب، لقوله – صلى الله عليه وسلم-: "أتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" فهي أحد الأبوين فهي ممنوعة من التفضيل والإيثار كالأب.
المسألة الثالثة: حكم العدل بين سائر القرابات:
لا يجب العدل بين سائر القرابات في العطية؛ لأن الأدلة إنما خصت الأولاد.
المسألة الرابعة: حكم الشهادة على تفضيل بعض الأولاد في العطية:
يحرم الشهادة على التفضيل أو التخصيص في العطية أداء أو تحملاً؛ لأن فيها إعانة على الإثم والعدوان.
المسألة الخامسة: حكم العقد والرجوع مع تفضيل بعض الأولاد في العطية:
عقد الأعطية مع المفاضلة يخير فيه المعطي بين إنفاذه ومساواة الباقين أو الرجوع فيه، فإن مات قبل المساواة فالقول الراجح أن للمفضولين الرجوع فيها وقسمتها ميراثاً بين الجميع؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – سمى التفضيل والتخصيص جوراً وظلماً، والموت إلا يغير عن كونه جوراً وظلماً فيجب رده كما أنه يجوز رجوع الأب فيما أعطاه لولده؛ لا لأسباب عارضة تمنعه، وإن ذلك مستثنى من عموم النهي عن الرجوع في الهبة أو العطية بدليل خاص، كما أن الأم حكمها حكم الأب في ذلك.
المسألة السادسة: كيفية العدل بين الأولاد.(/2)
اختلف العلماء في ذلك على قولين، فمنهم من يرى أن العدل المطلوب هو التسوية بين الذكر والأنثى في العطية بينما يرى أصحاب القول الآخر أن تكون العطية على قدر ميراث الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا القول الراجح – والله أعلم-؛ وذلك قياساً على قسمة الله تعالى في الميراث، وتسوية الأنثى بالذكر مخالفة لما وضعه الشرع من التفضيل، وهو أعلم بمصالحنا؛ ولأن حاجة الذكر إلى المال أعظم من حاجة الأنثى.
وما قيل في وجوب العدل بين الأولاد، وأنه يكون على حسب ميراثهم، يقال في قسمة منفعة الوقف بينهم.
لا يجب على الوالد التسوية في النفقة والكسوة والسكنى، بل الواجب الإنفاق على المحتاج كل فيما يخصه حسب كفايته وحاجته؛ لأنها إنما شرعت لدفع الحاجة، وهذا في الحاجة المعتادة، أما في الحاجة غير المعتادة فإنه يكون بالمعروف، فإذا زاد عن المعروف فهو من باب النُحْل.
المسألة السابعة: حكم العدل بين أولاده في الأمور غير المالية:
ذهب جماهير أهل العلم على أن العدل بين الأولاد مطلوب حتى في الأمور غير المالية، والتي تدل على التفضيل كتقريب بعضهم في المجلس أو تخصيصه بالكلام من غير حاجة، أو تخصيص بعضهم فيما إذا كانوا صغاراً بالتقبيل، لما ينجم عن التفضيل من العداوة وقطيعة الرحم بينهم وبين والديهم.
العدل بين الأولاد في المحبة وميل القلب مما لا يجب؛ لأنه غير مستطاع، لكن ينبغي للوالدين إخفاء محبة البعض، لما ينجم عن إظهارها من المفاسد العظيمة الوخيمة.
المسألة الثامنة: حكم قسمة المال بين الأولاد في الحياة وكيفيته:
الراجح – والله أعلم – جواز قسمة المال بين الأولاد في الحياة مع الكراهة، وأن القسمة تكون حسب قسمة المواريث، غير أن الأولى ترك ذلك.
إذا ولد لمن قَسَمَ ماله في حال حياته، فإنه يجب عليه أن يسوي بينهم ليحصل التعديل، وإن ولد بعد موته، شُرع لمن أُعطي أن يساوي المولود الحادث بعد أبيه.
* أستاذ الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية(/3)
العدل
أولاً: تعريف وبيان.
ثانياً: فضل العدل وأهله.
ثالثاً: العدل الإلهي.
رابعاً: لا عدل إلا في ظل الدين الحق.
خامساً: مفاهيم خاطئة للعدل.
سادساً: آيات البحث.
سابعاً: أحاديث البحث.
ثامناً: من آثار السلف وأقوال العلماء.
تاسعاً: أشعار.
أولاً: تعريف وبيان:
العدل لغةً: مصدر عدل يعدل عدلاً وهو مأخوذٌ من مادة (ع د ل) التي تدل على معنيين متقابلين: أحدهما يدل على الاستواء، والآخر على اعوجاج، ويرجع لفظ العدل هنا إلى المعنى الأول، وإذا كان العدل مصدراً فمعناه: خِلاف الجور وهو ما قام في النفوس أنه مستقيم، وقد يستعمل هذا المصدر استعمال الصفات، فيقال: رجلٌ عدلٌ، والعدل من الناس المرضِيُّ المستقيم الطريقة، ويستوي في هذا الوصف المفرد والمثنَّى والجمع والمذكّر والمؤُنَّث. يقال: رجل عدلٌ، ورجلان عدلٌ، ورجالٌ عدلٌ، وامرأةٌ عدلٌ، كل ذلك على معنى: ذو عدلٍ، أو ذوو عدلٍ، أو ذوات عدل.
ويرادف العدل في معناه المصدري العدالة والعدولة والمعْدَلة يقال: بسط الوالي عدله وعدالته ومعدلته بمعنى، وفلانٌ من أهل المعدلة أي من أهل العدل، وتعديل الشهود أن تقول إنهم عدولٌ، والعَدلُ والعِدلُ والعدِيل سواءٌ أي النظيرُ والمثيلُ، وقيل: هو المِثلُ وليس بالنظير عينه وفي التنزيل: {أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً} [المائدة:95].
والعدل أيضاً الحُكم بالحق، وفي قول الله تعالى: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مّنكُمْ} [الطلاق:2]، قال سعيد بن المسيب: ذوي عقلٍ، وقال إبراهيم النخعي: العدلُ الذي لم تظهر منه ريبة.
العدل شرعا:
1. قال ابن حزم: هو أن تُعطي من نفسك الواجب وتأخذه.
2. وقال الجرجاني: العدل الأمر المتوسط بين الإفراط والتفريط.
3. وقيل: بذل الحقوق الواجبة وتسوية المستحقين في حقوقهم.
ومن الألفاظ التي تطلق على العدل:
القسط:
قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18].
قال ابن القيم: "أخبر بأنه لا إله إلا هو في أول الآية، وذلك داخل تحت شهادته وشهادة ملائكته وأولي العلم، وهذا هو المشهود به، ثم أخبر عن قيامه بالقسط وهو العدل، فأعاد الشهادة بأنه لا إله إلا هو مع قيامه بالقسط".
الصراط المستقيم:
قال الله تعالى عن هود عليه السلام وهو يخاطب قومه الذين هددوه وخوفوه بآلهتهم: {قَالَ إِنِى أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُواْ أَنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبّى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود:54-56].
أي: مع كونه سبحانه آخذا بنواصي خلقه وتصريفهم كما يشاء فهو على صراط مستقيم، لا يتصرف فيهم إلا بالعدل والحكمة والإحسان والرحمة، فقوله: ((ماض فيَّ حكمك)) مطابق لقوله: {مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}، وقوله: ((عدل فيَّ قضاؤك)) مطابق لقوله: {إِنَّ رَبّى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
انظر: مقاييس اللغة لابن فارس (4/246)، والصحاح (5/1760)، ولسان العرب (5/2838)، ومفردات الراغب (325).
مداواة النفوس (ص82).
التعريفات للجرجاني (ص153).
الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة لعبد الرحمن بن ناصر السعدي (ص253).
تهذيب السنن (5/182).
الطب النبوي (ص 161).
ثانياً: فضل العدل وأهله:
1. العدل هو الغاية التي من أجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25].
قال ابن القيم: "إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي به قامت السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل وتبين وجهة بأي طريقٍ كان فثمَّ شرع الله ودينه، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وعلاماته في شيء ونفى غيرها من الطرق التي هي مثلها أو أقوى منها، بل بين ما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استُخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، لا يقال: إنها مخالفة له، فلا تقول: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسةً تبعا لمصطلحكم، وإنما هي شرعٌ حق".
2. أنه سبب للبركة في الأرزاق، وُجد في خزائن بعض بني أمية صرةُ حنطة أمثال نوى التمر مكتوبٌ عليها: هذا كان ينبت أيام العدل.
3. أنه موصل إلى محبة الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9]، فهو سبحانه عدل ويحب أهل العدل.(/1)
4. أنه سبب لنيل المنزلة الرفيعة عند الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)).
5. أنه قرين التوحيد في كتاب الله تعالى، وذلك لأن التوحيد أعظم العدل، كما أن الشرك أعظم الظلم، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18].
قال ابن القيم: "فإن الشرك أظلم الظلم كما أن أعدل العدل التوحيد، فالعدل قرين التوحيد، والظلم قرين الشرك، ولهذا يجمع سبحانه بينهما، أما الأول ففي قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ}، وأما الثاني فكقوله: تعالى: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]".
6. أنه سبب لقيام الدول والمجتمعات وسرّ استقرار حالها، قال ابن تيمية: "أمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام".
بدائع الفوائد (3/674).
قال ابن القيم في زاد المعاد (4/363): "هذه القصة ذكرها أحمد في مسنده على إثر حديث رواه".
أخرجه مسلم في الإمارة (1827) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
الفوائد (ص 81).
مجموع الفتاوى (28/146).
ثالثاً: العدل الإلهي:
العدل من الصفات التي اتفقت الشرائع جميعها على وصف الله به، بل الناس جميعا من أتباع الكتب السماوية يقرون بالعدل الإلهي، قال ابن القيم: "أنه سبحانه العدل الذي لا يجور ولا يظلم ولا يخاف عبادُه منه ظلما، فهذا مما اتفقت عليه جميع الكتب والرسل، وهو من المحكم الذي لا يجوز أن تأتي شريعة بخلافه، ولا يخبر نبيٌ بخلافه أصلا".
فمن أسماء الله تعالى الحسنى العدل، فهو سبحانه متصف بالعدل المطلق، فهو عادل في أحكامه الدنيوية والأخروية، وهو عادل في حكمه الشرعي والقدري، قال ابن القيم شارحا لاسم العدل: "ذو العدل على حذف المضاف... وهو من باب إطلاق المصدر على الفاعل لكونه غالبا عليه مكرَّرا منه، كقولهم: رجلٌ صوْمٌ وعدْلٌ وزور وبابُه".
قال ابن القيم: "قوله: ((ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤُك)) متضمن لأصلين عظيمين عليهما مدار التوحيد، أحدهما: إثبات القدر وأن أحكام الرب تعالى نافذة في عبده ماضيه فيه لا انفكاك له عنها ولا حيلة له في دفعها، والثاني: أنه سبحانه عدل في هذه الأحكام غير ظالم لعبده، بل لا يخرج فيها عن موجب العدل والإحسان، فإن الظلم سببه حاجة الظالم أو جهله أو سفهه، فيستحيل صدوره ممن هو بكل شيء عليم، ومن هو غني عن كل شيء وكل شيء فقير إليه، ومن هو أحكم الحاكمين، فلا تخرج ذرة من مقدوراته عن حكمته وحمده كما لم يخرج عن قدرته ومشيئته، فحكمته نافذة حيث نفذت مشيئته وقدرته".
فهو سبحانه إن عاقب فبعدله، وإن أثاب فبمحض فضله وجوده وكرمه، قال ابن القيم: "فلا تناقضُ حكمتُه رحمتَه، بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم، فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته، ولا يلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله تعالى أن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء، ولا فرق أصلا، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة".
والله تعالى لا يعذب الكفار يوم القيامة إلا بعد إقرارهم على أنفسهم، وشهادة الفطرة والوحي عليهم، قال ابن القيم: "إن الله سبحانه لكمال رحمته وإحسانه لا يعذب أحدا إلا بعد إرسال الرسول إليه وإن كان فاعلا لما يستحق به الذم والعقاب، فلله على عبده حجتان قد أعدهما عليه لا يعذبه إلا بعد قيامهما، إحداهما: ما فطره عليه وخلقه عليه من الإقرار بأنه ربه ومليكه وفاطره وحقه عليه لازم، والثانية: إرسال رسله إليه بتفصيل ذلك وتقريره وتكميله، فيقوم عليه شاهد الفطرة والشِّرعة، ويقر على نفسه بأنه كان كافرا، كما قال تعالى: {وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأنعام:120] فلم ينفذ عليهم الحكم إلا بعد إقرارٍ وشاهدين، وهذا غاية العدل".
ومن كمال عدل الله تعالى أنه لا يظلم مثقال ذرة يوم القيامة، فهو سبحانه يحكم بين عباده ويعطي لكل ذي حق حقه بفضله وجوده ورحمته وكرمه، حقا أوجبه سبحانه على نفسه، ويعاقب كمن شاء بعدله، ولا يظلم أحدا من خلقه، فهو يعدل بينهم على تباعد أزمنتهم وأمكنتهم، وتنوع أوضاعهم وحالاتهم، واختلاف شرائعهم ومللهم، وتباين مستوياتهم وأعذارهم، ولا يقدر على ذلك إلا الله سبحانه.(/2)
هداية الحيارى (ص 159).
بدائع الفوائد (2).
الطب النبوي (161-162).
بدائع الفوائد (2/347).
أحكام أهل الذمة (2/1013-1014).
رابعاً: لا عدل إلا في ظل الدين الحق:
العدل من مطالب الأفراد والمجتمعات، كلهم ينشدون العدل ويعملون على تحقيقه، ولكن أكثر الناس يظلم من حيث يقصد العدل، ويجور وهو يحسب أنه يقسط، وما سبب ذلك إلا الإعراض عن تحكيم شرع الله تعالى الذي هو العدل كله والإحسان كله والرحمة كلها والمصلحة جميعها، ذلك لأن الله تعالى أعلم بخلقه، وهو أرحم بهم من الأم بولدها، وهو أحكم الحاكمين، فلا يأمر إلا بما فيه الخير والمصلحة للعباد، قال ابن القيم: "أفعال الرب تبارك وتعالى صادرة عن أسمائه وصفاته، وأسماء المخلوقين صادرة عن أفعالهم، فالرب تبارك وتعالى فِعالُه عن كماله، والمخلوق كمالُه عن فِعاله فاشتقت له الأسماء بعد أن كمل بالفعل، فالرب لم يزل كاملا فحصلت أفعاله عن كماله؛ لأنه كامل بذاته وصفاته فأفعاله صادرة عن كماله، كمُل ففعل، والمخلوق فعل فكمُل الكمال اللائق به... إن المعلومات سواه إما أن تكون خلقا له تعالى أو أمرا، إما علمٌ بما كوَّنه أو علمٌ بما شرعه، ومصدر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى، وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى بمقتضيه، فالأمر كله مصدره عن أسمائه الحسنى، وهذا كله حسن لا يخرج عن مصالح العباد والرأفة والرحمة بهم والإحسان إليهم بتكميلهم بما أمرهم به ونهاهم عنه، فأمره كله مصلحة وحكمة ولطف وإحسان؛ إذ مصدره أسماؤه الحسنى، وفعله كله لا يخرج عن العدل والحكمة والمصلحة والرحمة؛ إذ مصدره أسماؤه الحسنى، فلا تفاوت في خلقه ولا عبث، ولم يخلق خلقه باطلا ولا سدى ولا عبثا".
إذا تقرر أنه لا عدل إلا في ظل شريعة الله تعالى، فليُعلم أنه إذا قصر أهل الشريعة في بيان ما انطوى عليه دين الله وحكمه من العدل والرحمة والمصلحة في العاجل والآجل فإن ذلك التقصير سيحمل أهل الباطل على أن يبتكروا لأنفسهم من السياسات والقوانين ما يظنونه عدلا وهو الظلم بعينه والجور برمته، قال ابن القيم: "هذا موضع مزلة أقدام، وهو مقام ضنكٍ ومعتركٌ صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرةً لا تقوم بها مصالح العباد، وسدوا على نفوسهم طرقا عديدة من طرق معرفة الحق من الباطل، بل عطلوها مع علمهم قطعا وعلم غيرهم بأنها أدلة حق ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها أمر العالم، فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل وفساد عريض، وتفاقم الأمر وتعذر استدراكه، وأفرطت طائفة أخرى فسوغت منه ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلا الطائفتين أتت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله".
بدائع الفوائد (1/170-171).
بدائع الفوائد (3/674).
خامساً: مفاهيم خاطئة للعدل:
من أساليب أهل الباطل من الكفار والمبتدعة في الترويج لباطلهم العمد إلى ألفاظ ممدوحة شرعا محبوبة إلى الفطر السليمة والعقول المستقيمة، فيحرفون مدلولها ويطلقونها على معنى من المعاني الباطلة التي يريدون ترويجها على العامة بهذا السبيل الماكر.
من ذلك: استعمال المعتزلة للفظ العدل، وتمجيدهم له حتى صار أصلا من أصولهم الخمسة، وهم يريدون به معنى باطلا في غاية القبح، وهو نفي قضاء الله تعالى وقدره، قال ابن تيمية: "جعلوا من العدل أنه لا يشاء ما يكون، ويكون ما لا يشاء، وأنه لم يخلق أفعال العباد، فنفوا قدرته ومشيئته وخلقه لإثبات العدل، وجعلوا من الرحمة نفي أمور خلقها لم يعرفوا ما فيها من الحكمة".
وقال ابن القيم: "جحدوا بعض ما وصف به نفسه من صفات الكمال وسموه توحيدا، وشبهوه بخلقه فيما يحسن منهم ويقبح من الأفعال وسموا ذلك عدلا، وقالوا: نحن أهل العدل والتوحيد، فعدلهم إنكار قدرته ومشيئته العامة الشاملة التي لا يخرج عنها شيء من الموجودات ذواتها وصفاتها وأفعالها، وتوحيدهم إلحادهم في أسمائه الحسنى وتحريف معانيها عما هي عليه، فكان توحيدهم في الحقيقة تعطيلا، وعدلهم شركا".(/3)
من ذلك: استعمال الجبرية للعدل وإطلاقهم إياه في حق الله تعالى على كل مقدور، قال ابن القيم: "زعمت طائفة أن العدل هو المقدور، والظلم ممتنعٌ لذاته، قالوا: لأن الظلم هو التصرف في ملك الغير والله له كل شيء فلا يكون تصرفه في خلقه إلا عدلا، وقالت طائفة: بل العدل أنه لا يعاقب على ما قضاه وقدره، فلما حسن منه العقوبة على الذنب علم أنه ليس بقضائه وقدره، فيكون العدل هو جزاؤه على الذنب بالعقوبة والذم، إما في الدنيا، وإما في الآخرة، وصعُب على هؤلاء الجمع بين العدل وبين القدر، فزعموا أن من أثبت القدر لم يمكنه أن يقول بالعدل، ومن قال بالعدل لم يمكنه أن يقول بالقدر، كما صعُب عليهم الجمع بين التوحيد وإثبات الصفات... فصار توحيدهم تعطيلا وعدلهم تكذيبا بالقدر، وأما أهل السنة فهم مثبتون للأمرين، والظلم عندهم هو وضع الشيء في غير موضعه، كتعذيب المطيع ومن لا ذنب له، وهذا قد نزه الله نفسه عنه في غير موضع من كتابه، وهو سبحانه وإن أضل من شاء وقضى بالمعصية والغي على من شاء فذلك محض العدل فيه؛ لأنه وضع الإضلال والخذلان في موضعه اللائق به، كيف ومن أسمائه الحسنى العدل الذي كل أفعاله وأحكامه سدادٌ وصواب وحق، وهو سبحانه قد أوضح السبل وأرسل الرسل وأنزل الكتب وأزاح العلل ومكَّن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول، وهذا عدله، ووفق من شاء بمزيد عناية، وأراد من نفسه أن يعينه ويوفقه فهذا فضله، وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله، وخلى بينه وبين نفسه، ولم يرد سبحانه من نفسه أن يوفقه، فقطع عنه فضله ولم يحرمه عدله... فإذا قضى على هذه النفوس بالضلال والمعصية كان ذلك محض العدل... والمقصود أن قوله: ((ماض في حكمك، عدل في قضاؤك)) رد على الطائفتين القدرية الذين ينكرون عموم أقضية الله في عبده ويخرجون أفعال العباد عن كونها بقضائه وقدره ويردون القضاء إلى الأمر والنهي، وعلى الجبرية الذين يقولون: كل مقدور عدل، فلا يبقى لقوله: ((عدل في قضاؤك)) فائدة، فإن العدل عندهم كل ما يمكن فعله، والظلم هو المحال لذاته، فكأنه قال: ماض ونافذ في قضاؤك، وهذا هو الأول بعينه".
ومن ذلك: إطلاق الكفار والعلمانيين ودعاة حقوق الإنسان العدل على كثير من المبادئ والأفكار المخالفة للدين الحق، بل ربما بعضها يصادم أديانهم المحرفة، كإطلاقهم العدل على التسوية بين المختلفَيْن، ويندرج تحت هذا صورٌ كثيرة، منها التسوية في الحقوق السياسية بين الخاصة والسوقة، وبين العلماء والسفهاء، وبين الخبير بالشأن والعجوز التي لا تعلم شيئا عما هو خارج عن نطاق بيتها، فيجعلون أصوات هؤلاء كلِّهم على حد سواء بزعم العدل، وهذا غاية الظلم، وهو منافٍ للعقل السليم الراجح.
وكثير من هؤلاء الكفار وأتباعهم الذين ضعف الإيمان بالله في قلوبهم يطعنون في بعض أحكام الإسلام بأنها مخالفة للعدل، فيشككون بذلك في الإسلام، كجعل دية المرأة نصف دية الرجل، وميراثها على النصف من ميراث الرجل إلى غير ذلك من الأحكام التي شرعها أحكم الحاكمين وأعدل العادلين.
ولهم سلف في هذا المسلك المرذول فقد ذكروا أن أبا العلاء المعري لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار ونظم في ذلك شعرا دل على جهله وقلة عقله فقال:
يدٌ بخمس مئين عسجد وُديت ما بالها قطِعت في ربع دينار؟!
تناقضٌ ما لنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار
ولما قال ذلك واشتهر عنه تطلَّبه الفقهاء فهرب منهم، وقد أجابه الناس في ذلك، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي أن قال: "لما كانت أمينة كانت ثمينة، ولما خانت هانت"، ومنهم من قال: هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة، فإن في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمس مائة دينار لئلا يجنى عليها، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدْر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب.
دقائق التفسير (2/144).
بدائع الفوائد (2/392).
الفوائد (ص 24-26).
انظر تفسير ابن كثير (2/56-57).
سادساً: آيات البحث:
1. قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:152].
قال ابن جرير: "وإذا حكمتم بين الناس فتكلمتم، فقولوا الحق بينهم، واعدلوا وأنصفوا ولا تجوروا، ولو كان الذي يتوجه الحق عليه والحكم ذا قربة لكم، ولا يحملنكم قرابة قريب وصداقة صديق حكمتم بينه وبين غيره أن تقولوا غير الحق فيما احتكم إليكم فيه".(/4)
وقال ابن سعدي: "{وَإِذَا قُلْتُمْ} قولاً تحكمون به بين الناس، وتفصلون بينهم الخطاب، وتتكلمون به على المقالات والأحوال {فَاعْدِلُواْ} في قولكم، بمراعاة الصدق فيمن تحبون ومن تكرهون، والإنصاف وعدم كتمان ما يلزم بيانه، فإن الميل على من تكره بالكلام فيه، أو في مقالته من الظلم المحرم. بل إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع، فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه، وأن يبين ما فيها من الحق والباطل، ويعتبر قربها من الحق وبعدها منه، وذكر الفقهاء أن القاضي يجب عليه العدل بين الخصمين في لحظه ولفظه".
وقال الشنقيطي: "أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالعدل في القول، ولو كان على ذي قرابة، وصرح في موضع آخر بالأمر بذلك، ولو كان على نفسه أو والديه".
2. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} الآية [النساء:135].
قال ابن جرير: "قوموا بالقسط لله عند شهادتكم، أو حين شهادتكم {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} يقول: ولو كانت شهادتكم على أنفسكم، أو على والديكم أو أقربيكم، فقوموا فيها بالقسط والعدل، وأقيموها على صحتها بأن تقولوا فيها الحق، ولا تميلوا فيها لغني لغناه على فقير، ولا لفقير لفقره على غني فتجوروا، فإن الله سوّى بين حكم الغني والفقير فيما ألزمكم أيها الناس من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل أولى بهما، وأحقّ منكم، لأنه مالكهما، وأولى بهما دونكم، فهو أعلم بما فيه مصلحة كل واحد منهما في ذلك وفي غيره من الأمور كلها منكم، فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليها {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ} يقول: فلا تتبعوا أهواء أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها، لغني على فقير، أو لفقير على غني إلى أحد الفريقين فتقولوا غير الحق، ولكم قوموا فيه بالقسط، وأدّوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها بالعدل لمن شهدتم عليه وله.
فإن قال قائل: وكيف يقوم بالشهادة على نفسه الشاهد بالقسط، وهل يشهد الشاهد على نفسه؟ قيل: نعم، وذلك أن يكون عليه حق لغيره، فيقرّ له به، فذلك قيام منه له بالشهادة على نفسه، وهذه الآية عندي تأديب من الله جلّ ثناؤه عباده المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذروا بني أبيرق في سرقهم ما سرقوا وخيانتهم ما خانوا من ذكر ما قيل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهادتهم لهم عنده بالصلاح، فقال لهم: إذا قمتم بالشهادة لإنسان أو عليه، فقوموا فيها بالعدل، ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم، فلا يحملنكم غني من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورحمه منكم على الشهادة له بالزور ولا على ترك الشهادة عليه بالحقّ وكتمانها".
وقال القرطبي: "هو العدل في شهادتكم على أنفسكم، وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقوق عليها. ثم ذكر الوالدين لوجوب برهما وعظم قدرهما، ثم ثنّى بالأقربين إذ هم مظنة المودّة والتعصب، فكان الأجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه".
وقال ابن كثير: "يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط، أي: بالعدل، فلا يعدلوا عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه... {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} أي: أشهد الحق ولو عاد ضررها عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه، وإن كان مضرة عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً من كل أمر يضيق عليه.
وقوله: {أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ} أي: وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك، فلا تراعهم فيها، بل أشهد بالحق، وإن عاد ضررها عليهم، فإن الحق حاكم على كل أحد، وهو مقدم على كل أحد".
وقال ابن سعدي: "يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ}.
والقوام صيغة مبالغة، أي: كونوا في كل أحوالكم، قائمين بالقسط في حقوق الله، أن لا يستعان بنعمه على معصيته، بل تصرف في طاعته. والقسط في حقوق الآدميين، أن تؤدى جميع الحقوق التي عليك، كما تطلب حقوقك. فتؤدى النفقات الواجبة، والديون، وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، من الأخلاق والمكافأة، وغير ذلك. ومن أعظم أنواع القسط، القسط في المقالات والقائلين. فلا يحكم لأحد القولين، أو أحد المتنازعين، لانتسابه أو ميله لأحدهما.(/5)
بل يجعل وجهته، العدل بينهما. ومن القسط أداء الشهادة التي عندك على أي وجه كان، حتى على الأحباب، بل على النفس، ولهذا قال: {شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}.
أي: فلا تراعوا الغني لغناه، ولا الفقير ـ بزعمكم ـ رحمة له. بل اشهدوا بالحق، على من كان. والقيام بالقسط، من أعظم الأمور، وأدلها على دين القائم به، وورعه ومقامه في الإسلام.
فيتعين على من نصح نفسه، وأراد نجاتها أن يهتم له غاية الاهتمام، وأن يجعله نصب عينيه، ومحل إرادته، وأن يزيل عن نفسه، كل مانع وعائق يعوقه، عن إرادة القسط، أو العمل به. وأعظم عائق لذلك، اتباع الهوى، ولهذا، نبه تعالى على إزالة هذا لمانع بقوله: {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ} أي: فلا تتبعوا شهوات أنفسكم المعارضة للحق، فإنكم إن اتبعتموها عدلتم عن الصواب، ولم توفقوا للعدل، فإن الهوى إما أن يعمي بصيرة صاحبه، حتى يرى الحق باطلاً، والباطل حقاً، وإما أن يعرف الحق ويتركه، لأجل هواه. فمن سلم من هوى نفسه، وفق للحق، وهدي إلى الصراط المستقيم".
3. وقال تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42].
قال ابن سعدي: "حتى ولو كانوا ظلمة أعداء، فلا يمنعك ذلك من العدل في الحكم بينهم، وفي هذا بيان فضيلة العدل والقسط في الحكم بين الناس، وأن الله تعالى يحبه".
4. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
قال ابن جرير: "إن الله يأمر في هذا الكتاب الذي أنزله إليك يا محمد بالعدل، وهو الإنصاف، ومن الإنصاف: الإقرار بمن أنعم علينا بنعمته، والشكر له على إفضاله، وتولي الحمد أهله".
وقال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل، وهو القسط والموازنة، ويندب إلى الإحسان".
وقال ابن سعدي: "فالعدل الذي أمر الله به، يشمل العدل في حقه، وفي حق عباده.
فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفورة، بأن يؤدى العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية، والمركبة منهما، في حقه، وحق عباده. ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدى كل وال، ما عليه، تحت ولايته، سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى، وولاية القضاء، ونواب الخليفة، ونواب القاضي.
والعدل هو ما فرضه الله عليهم في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأمرهم بسلوكه. ومن العدل في المعاملات، أن تعاملهم في عقود البيع والشراء وسائر المعاوضات، بإيفاء جميع ما عليك، فلا تبخس لهم حقاً، ولا تغشهم، ولا تخدعهم وتظلمهم. فالعدل واجب، والإحسان فضيلة مستحبة".
5. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58].
قال ابن جرير: "هو خطاب من الله لولاة أمور المسلمين بأداء الأمانة إلى من ولوا أمره في فيئهم وحقوقهم، وما ائتمنوا عليه من أمورهم بالعدل بينهم في القضية، والقسم بينهم بالسوية".
وقال ابن كثير: "أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس".
وقال ابن سعدي: "وهذا يشمل الحكم بينهم في الدماء، والأموال، والأعراض، القليل من ذلك والكثير، على القريب والبعيد، والفاجر والولي، والعدو. والمراد بالعدل الذي أمر الله بالحكم به، هو ما شرعه الله على لسان رسوله، من الحدود والأحكام، وهذا يستلزم معرفة العدل، ليحكم به".
6. وقال تعالى: {وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى:15].
قال ابن جرير: "وقل لهم يا محمد: وأمرني ربي أن أعدل بينكم معشر الأحزاب، فأسير فيكم جميعاً بالحق الذي أمرني به وبعثني بالدعاء إليه".
وقال ابن كثير: "أي: في الحكم كما أمرني الله".
وقال ابن سعدي: "أي: في الحكم فيما اختلفتم فيه، فلا تمنعني عداوتكم وبغضكم يا أهل الكتاب من العدل بينكم ومن العدل في الحكم بين أهل الأقوال المختلفة من أهل الكتاب وغيرهم أن يقبل ما معهم من الحق، ويرد ما معهم من الباطل".
7. وقال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8].(/6)
قال ابن جرير: "يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله، شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم، فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعداوتهم لكم، ولا تقصروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدّي، واعملوا فيه بأمري".
وقال ابن سعدي: "أن تكونوا قاصدين للقسط، الذي هو العدل، لا الإفراط وإلا التفريط، في أقوالكم ولا في أفعالكم، وقوموا بذلك على القريب، والبعيد، والصديق والعدو، فكما تشهدون لوليكم فاشهدوا عليه، وكما تشهدون على عدوكم، فاشهدوا له، ولو كان كافراً أو مبتدعاً. فإنه يحب العدل فيه، وقبول ما يأتي به من الحق، لا لأنه قاله، ولا يرد الحق لأجل قوله فإن هذا ظلم الحق".
8. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقّ} [الأعراف:33].
ذهب جماعة من المفسرين ومنهم: ابن جرير الطبري، والقرطبي، وابن كثير رحمهم الله إلى أن البغي في الآية هنا هو: الاستطالة على الناس بالظلم وتجاوز الحد.
قال ابن سعدي رحمهم الله: "{وَالإِثْمَ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقّ} أي: الذنوب التي تؤثم، وتوجب العقوبة في حقوق الله، والبغي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فدخل في هذا الذنوب المتعلقة بحق الله، والمتعلقة بحق العباد".
9. وقال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:42].
قال ابن سعدي: "أي: إنما تتوجه الحجة بالعقوبة الشرعية {عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ} وهذا شامل للظلم والبغي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم".
جامع البيان (8/86).
تيسير الكريم الرحمن (2/86).
أضواء البيان (2/281).
جامع البيان (5/321).
الجامع لأحكام القرآن (5/410).
تفسير القرآن العظيم (2/384).
تيسير الكريم الرحمن (1/423-424).
تيسير الكريم الرحمن (1/486).
جامع البيان (14/162).
تفسير القرآن العظيم (4/514).
تيسير الكريم الرحمن (3/78-79).
جامع البيان (5/145).
تفسير القرآن العظيم (2/300).
تيسير الكريم الرحمن (1/361).
جامع البيان (25/17).
تفسير القرآن العظيم (7/184).
تيسير الكريم الرحمن (4/416).
جامع البيان (6/141).
تيسير الكريم الرحمن (1/464-465) بتصرف يسير.
انظر: جامع البيان (8/166).
انظر: الجامع لأحكام القرآن (7/201).
انظر: تفسير القرآن العظيم (3/404).
تيسير الكريم الرحمن (2/107).
تيسير الكريم الرحمن (4/430).
سابعاً: أحاديث البحث.
1. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكمتم فاعدلوا، وإذا قتلتم فأحسنوا، فان الله عز وجل محسنٌ يحب المحسنين)).
2. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)).
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)) فمنعناه أن هذا الفضل إنما هو لمن عدل فيما تقلده من خلافة أو إمارة أو قضاء أو حسبة أو نظر على يتيم أو صدقة أو وقف وفيما يلزمه من حقوق أهله وعياله ونحو ذلك والله أعلم".
3. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر اشترط عليهم أن له الأرض، وكل صفراء وبيضاء. يعني الذهب والفضة، وقال له أهل خيبر: نحن أعلم بالأرض، فأعطِناها على أن نعملها ويكون لنا نصف الثمرة ولكم نصفها، فزعم أنه أعطاهم على ذلك. فلما كان حين يُصرم النخل، بعث إليهم ابن رواحة، فحزر النخل، وهو الذي يدعونه أهل المدينة الخرص، فقال: في ذا كذا وكذا. فقالوا: أكثرت علينا يا ابن رواحة. فقال: فأنا أحزر النخل وأُعطيكم نصف الذي قلت. قال: قالوا: هذا الحق، وبه تقوم السماء والأرض. فقالوا: قد رضينا أن نأخذ بالذي قلت.
4. وعن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى يُشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: ((أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟)) قال: لا، قال: ((فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) قال: فرجع فرد عطيته.(/7)
قال ابن القيم: "وهذا أمر تهديد، لا إباحة، فإن تلك العطية كانت جوراً بنص الحديث، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن لأحد أن يشهد على صحة الجور، ومن ذا الذي كان يشهد على تلك العطية، وقد أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشهد عليها، وأخبر أنها لا تصلح وأنها جور وأنها خلاف العدل.
ومن العجب أن يحمل قوله: ((اعدلوا بين أولادكم)) على غير الواجب، وهو أمر مطلق مؤكد ثلاث مرات، وقد أخبر الأمر به أن خلافه جور، وأنه لا يصلح وأنه ليس بحق وما بعد الحق إلا الباطل، هذا والعدل واجب في كل حال، فلو كان الأمر به مطلقاً لوجب حمله على الوجوب، فكيف وقد اقترن به عشرة أشياء تؤكد وجوبه فتأملها في ألفاظ القصة".
5. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكارهنا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالعدل أين كنا، لا نخاف في الله لومة لائم.
6. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ كفارات، وثلاث درجات، وثلاث منجيات، وثلاث مهلكات. فأما الكفارات: فإسباع الوضوء في السبرات، وانتظار الصلوات بعد الصلوات، ونقل الأقدام إلى الجماعات. وأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام. وأما المنجيات: فالعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية. وأما المهكلات: فشحٌّ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)).
7. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادلٌ، وشابٌ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلّق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجلٌ تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)).
قال ابن حجر: "وأحسن ما فسر به العادل أنه الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط".
8. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناساً في القسمة: فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أُناساً من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة. قال رجلٌ: والله إن هذه القسمة ما عُدل فيها، وما أُريد بها وجه الله، فقلت: والله لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيته فأخبرته. فقال: ((فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ رَحِم الله موسى، فقد أُوذي بأكثر من هذا فصبر)).
9. وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظلموا...)) الحديث.
قال ابن تيمية: "قوله: ((وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) فإنها تجمعُ الدين كله، فإن ما نهى الله عنه راجعٌ إلى الظلم، وكل ما أمر به راجعٌ إلى العدل، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد:25].
فأخبر أنه أرسل الرسل، وأنزل الكتاب والميزان لأجل قيام الناس بالقسط، وذكر أنه أنزل الحديد الذي به ينصر هذا الحق، فالكتاب يهدي، والسيف ينصر، وكفى بربك هادياً ونصيراً... لكن المقصود أن كل خير فهو داخلٌ في القسط والعدل، وكل شر فهو داخل في الظلم، ولهذا كان العدل أمراً واجباً في كل شيء وعلى كل أحد، والظلم محرماً في كل شيء ولكل أحد، فلا يحل ظلم أحد أصلاً سواء كان مسلماً أو كافراً، أو كان ظالماً. بل الظلم إنما يباح ويجب فيه العدل عليه أيضاً قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ} [المائدة:8]، أي يحملنكم شنآن أي بغض قوم وهم الكفار على عدم العدل {قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}... فإن هذا خطاب لجميع العباد أن لا يظلم أحد أحداً. وأمر العالم في الشريعة مبنيٌّ على هذا، وهو العدل في الدماء والأموال والأبضاع والأنساب والأعراض".
وقال ابن رجب: "يعني: أنه تعالى حرَّم الظلم على عباده، ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم، فحرامٌ على كل عبدٍ أن يظلم غيره، مع أن الظلم في نفسه محرَّم مطلقاً، وهو نوعان:(/8)
أحدهما: ظلمُ النفس، وأعظمه الشرك، كما قال تعالى: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فإن المشرك جعل المخلوق في منزلةِ الخالق، فعبده وتألَّهه، فوضع الأشياء في غير موضعها، وأكثر ما ذُكر في القرآن من وعيد الظالمين إنما أُريد به المشركون، كما قال عز وجل: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]، ثم يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر.
والثاني: ظلمُ العبد لغيره، وهو المذكور في هذا الحديث، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا))".
10. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى ها هنا))، ويشير إلى صدره ثلاث مرات ((بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعِرضه)).
قال ابن رجب: "فتضمَّنت هذه النصوص كلها أن المسلم لا يحل إيصال الأذى إليه بوجهٍ من الوجوه من قولٍ أو فعلٍ بغير حق، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [الأحزاب:58].
وإنما جعل الله المؤمنين إخوةً ليتعاطفوا ويتراحموا، وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)).
عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (5/197) للطبراني في الأوسط وقال: "رجاله ثقات"، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (469).
أخرجه مسلم في الإمارة (1827).
شرح صحيح مسلم (12/454).
أخرجه أبو داود في البيوع (3410)، وابن ماجه في الزكاة (1820). وذكره الألباني في صحيح أبي داود (2910).
أخرجه البخاري في الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب: الإرشاد في الهبة (2587) واللفظ له، ومسلم في الهبات (1623).
تحفة المودود (ص160).
أخرجه النسائي في البيعة (4153)، وأصله في البخاري كتاب المغازي (3999).
السبرات: جمع سبرة وهي شدة البرد.
أخرجه البزار (1/59، 60 كشف الأستار)، وعزاه في مجمع الزوائد (1/91) للطبراني في الأوسط، وذكره الألباني في الصحيحة (1802).
أخرجه البخاري في الزكاة (1423) واللفظ له، ومسلم في الزكاة (1031).
فتح الباري (2/145).
أخرجه البخاري في فرض الخمس (3150) واللفظ له، ومسلم في الزكاة (1062).
أخرجه مسلم في البر والصلة، باب: تحريم الظلم (2577).
إنعام الباري في شرح حديث أبي ذر الغفاري (ص57) وما بعدها.
رواه البخاري (67)، ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
جامع العلوم والحكم (2/36).
أخرجه مسلم في البر والصلة، باب: تحريم ظلم المسلم... (2564).
جامع العلوم والحكم (2/282).
ثامنا: من آثار السلف وأقوال العلماء:
1. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الله إنما ضرب لكم الأمثال، وصرف لكم القول لتحيى القلوب، فإن القلوب ميتة في صدورها حتى يحييها الله، من علم شيئاً فلينفع به، إن للعدل أماراتٍ وتباشير، فأما الأمارات فالحياء والسخاء والهين واللين. وأما التباشير فالرحمة. وقد جعل الله لكل أمر باباً، ويسّر لكل بابٍ مفتاحاً، فباب العدل الاعتبار ومفتاحه الزهد، والاعتبار ذكر الموت والاستعداد بتقديم الأموال. والزهد أخذ الحق من كل أحدٍ قبله حقٌ، والاكتفاء بما يكفيه من الكفاف، فإن لم يكفه الكفاف لم يغنه شيءٌ...).
2. قال ربعيُّ بن عامر رضي الله عنه لرستم قائد الفرس ـ لما سأله: ما جاء بكم؟ـ: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه حتى نفيء إلى موعود الله). قالوا: وما موعود الله؟ قال: (الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي).
3. قال سعيد بن جبير في جوابٍ لعبد الملك عن العدل: "العدل على أربعة أنحاء: العدل في الحكم لقوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} [المائد:42]، والعدل في القول لقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ} [الأنعام:152]، والعدل في الفدية لقوله تعالى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:123]، والعدل في الإشراك، قال تعالى: {ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]".
4. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الحق حتى اشتري، وبسطوا الجور حتى افْتُديَ).(/9)
5. قال عمر بن عبد العزيز: (إذا دعتك قُدرتك على ظلم الناس، فاذكر قدرة الله تعالى عليك، ونفاد ما تأتي إليهم وبقاء ما يأتون إليك).
6. قال ابن تيمية: "إن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ويُروى (الله ينصر الدولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة) .
7. قال الغزالي: "إن حظ العبد من العدل أمرٌ ظاهرٌ لا يخفى، فأوَّل شيء يجب عليه من العدل في صفات نفسه أن يجعل الشهوة والغضب أسيرين تحت إشارة العقل والدين، فإنه لو جعل العقل خادماً للشهوة والغضب فقد ظلمه، هذا في الجملة، أما تفصيلات ما يجب عليه في العدل في نفسه فمراعاة حدود الشرع كلها، وإن عدله في كل عُضو أنه يستعمله على الوجه الذي أذن الشرع فيه. وأما عدله في أهله وذويه فأمر ظاهرٌ يدل عليه العقل الذي وافقه الشرع، وإما إن كان من أهل الولاية فإن العدل في الرعية من أوجب واجباته".
8. قال ابن حزم: "أفضل نعم الله تعالى على المرء أن يطبعه على العدل وحبّه وعلى الحقّ وإيثاره".
9. قال ابن الجوزي: "الظلم يشتمل على معصيتين: أخذ مال الغير بغير حق، ومبارزة الرب بالمخالفة، والمعصية فيه أشد من غيرها لأنه لا يقع غالباً إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار. وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب ولو استنار بنور الهدى لاعتبر، فإذا سعى المتّقون بنورهم الذي حصل لهم بسبب التقوى اكتنفت ظلمات الظلم الظالم، حيث لا يغني عنه ظلمهُ شيئاً".
10. قال ابن القيم: "التوحيد والعدل هما جماع صفات الكمال".
11. وقال: "الإنسان خُلق في الأصل ظلوماً جهولاً، ولا ينفك عن الجهل والظلم إلا يُعلّمه الله ما ينفعه، ويُلهمه رشده، فمن أراد به خيراً علَّمه ما ينفعه، فخرج به عن الجهل، ونفعه بما علَّمه فخرج به عن الظلم ومن لم يرد به خيراً أبقاه على أصل الخلقة. فأصل كل خيرٍ هو العلم والعدل، وأصل كل شرٍ هو الجهل والظلم".
12. وقال أيضاً: "والظلم عند الله عز وجل يوم القيامة له دواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وهو الشرك به، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، وديوانٌ لا يترك الله تعالى منه شيئاً، وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً، فإن الله تعالى يستوفيه كله. وديوانٌ لا يعبأُ الله به، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه عز وجل فإن هذا الديوان أخفّ الدواوين وأسرعها محواً، فإنه يمحى بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفِّرة ونحو ذلك. بخلاف ديوان الشرك، فإنه لا يُمحى إلا بالتوحيد، وديوان المظالم لا يمحى إلا بالخروج منها إلى أربابها واستحلالهم منها. ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله عز وجل حرّم الجنة على أهله، فلا تدخل الجنة نفسٌ مشركة".
13. قال الشيخ محمد بن يحيا الزبيدي: "إن المظلوم إذا شكا إلى الله تعالى اقتضى عدل الله عز وجل الإيقاع بظالمه، فيحب الله سبحانه وتعالى أن يجهر المظلوم بالشكوى، ليكون الإيقاع بالظالم مبسوط العذر عند الخلق، وزاجراً لأمثاله عن أمثال فاعله، وإنما يُمهل الظالم من جهة أن الخلق إذا ملك أحدكم مملوكين فجُني على أحدهم جناية فإن أرشها لسيّده، فالخلقُ ملكٌ لله عز وجل فلا اعتراض عليه".
انظر: البداية والنهاية لابن كثير (7/37).
انظر: البداية والنهاية لابن كثير (7/40).
انظر: التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (ص506).
انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (1/179).
انظر: سير أعلام النبلاء (5/131).
مجموع الفتاوى (28/62، 63).
بتصرف شديد من المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى له (ص98-101).
مداواة النفوس (ص90).
انظر: فتح الباري (5/121).
التفسير القيم (ص179).
إغاثة اللهفان (2/136، 137) بتصرف.
الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص33).
انظر: الآداب الشرعية (1/246).
تاسعاً: أشعار:
قال أبو العتاهة:
أما والله إن الظلم لؤمٌ وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديّان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
ستعلم في الحساب إذا التقينا غداً عند الإله من الملوم
وقال آخر:
وما من يد إلا يدُ الله فوقها وما ظالمٌ إلا سيبلى بظالم
قال محمود الورَّاق:
اصبر على الظلم ولا تنتصر فالظلم مردودٌ على الظالم
وَكِل إلى الله ظلوماً فما ربي عن الظالم بالنائم
قال بعض الشعراء:
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم آخره يأتيك بالندم
نامت عيونك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
قال الشاعر:
يا أيها الظالم في فعله فالظلم مردودٌ على من ظلم
إلى متى أنت وحتَّى متى تسلو المصيبات وتنسى النقم؟
انظر: الآداب الشرعية (1/181).
انظر: بصائر ذوي التمييز (3/543).
بصائر ذوي التمييز (3/544).(/10)
العدوان الثنائي.....وسلاح المصطلحات
عبدالرحمن ناصر اليوسف
</TD
كما تدور رحى المعارك العسكرية بين قوى الكفر والإيمان على أرض العراق وغيرها من بلاد المسلمين، هناك حروب أخرى لا تقل خطورة تجري على صفحات الجرائد، وخلف شاشات الفضائيات، وفي المجالس السياسية بأنواعها ( أمة وشعب وشورى و....)،وفي المؤتمرات الحوارية والثقافية وغيرها من الملتقيات التي تجتمع فيها تيارات فكريه متعددة، والطرف المعتدي في هذه المعركة(بقسميها العسكري والفكري العقائدي) هم بالطبع العدو الظاهر(المعتدي بالقول والفعل) وهو تحالف الصليبة الجديدة بقيادة من يسمون بالمحافظين الجدد والألفيين أو الإنجيلين ممثلين باليمين الأمريكي وأتباعهم من (المتدينين) بالنصرانية ودعاتها المبشرين بها في مختلف أنحاء العالم مع الصهيونية العالمية بشقيها اليهودي والنصراني(يلتبس على البعض كون الولايات المتحدة دولة علمانية في نظامها الداخلي وبين أنها تقود الحملة الصليبية الجديدة على الإسلام والمسلمين-للعلم فإن التشريع النصراني الذي بين أيدي النصارى ويتلى في كنائسهم الآن لا ينص ولا يدعو لأن يكون الحكم في الدول على أساس ديني مستمد من تشريع إلهي على عكس الإسلام الذي لديه نظام سياسي إلهي يلزم المسلمين بتطبيقه والتحاكم إليه،والسير على منهاجه،فأمر الله عزوجل وقال: { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ-أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (المائدة50-51)
- هذا من جانب، ومن جانب آخر تجد العلمانيين في العالم الإسلامي يتجاهلون الأسباب الدينية لحروب أمريكا الجديدة ويعزونها لهدف الإستيلاء على النفط فقط!!والحقيقة أنها تلاقت أهداف الإنجيليين في الإدارة الأمريكية وإعتقادهم بنزول المسيح عليه السلام في الألفية الثالثة وأنه لابد من خطوات تمهد لذلك منها مباركة دولة اسرائيل بدعمها وتأييدها والمساهمة في توسعها وبقائها، واحتلال أرض الفرات البابلية مع السعي لمحاربة المسلمين في عقيدتهم وإبعادهم عن دينهم و العمل على تحويل كل من يستطيعون تحويله منهم إلى النصرانية،ويتضح ذلك من تدفق المنصرين إلى العراق ومحاولة استغلال حاجة الناس إلى المال والغذاء والدواء لتبشيرهم بالنصرانية-كما يفعلون في أفريقيا وأندونيسيا وغيرها-وسبق للرئيس بوش أن ألقى بتصريحات يؤيد فيها جهود المنصرين في العراق ويرفع من معنوياتهم بأن يذكرهم بأنهم المشرفون بتبليغ كلمة الرب في العالم، فالتقى ذلك التوجه الديني مع الأطماع المادية المتأصلة في النظام الأمريكي بمذهبة الإقتصادي الرأسمالي الذي يؤدي إلى نفوذ وهيمنة أصحاب رؤوس الأموال اللذين يسعون لتحقيق أقصى قدر ممكن من الأرباح وجمع أكثر مايستطيعون جمعه من الثروات بغض النظر عن الوسائل حتى ولو كانت دماء الأبرياء وأراضيهم وأموالهم، وهذا يبين دور شركات النفط وشركات السلاح في حروب أمريكا الأخيرة ودعمها لها عبر نفوذها السياسي في الحكومة الأمريكية).فعندما تقوم حرب من أجل الدين والمال معاً فلن تجد حرباً أشرس منها!.(/1)
أما الطرف الثاني فهو العدو المستتر(المعتدي فكريا وعقائديا) وهم من وصفهم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بالدعاة على أبواب جهنم ممن هم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، كما رأينا وسمعنا في زماننا هذا، فهؤلاء هم من التقت مصالحهم وتوجهاتهم الفكريه(المادية-الدنيوية) مع الأهداف الأمبريالية الأمريكية (الدينية-الإقتصادية) ممثلة في اتحاد الوسائل التي يمكن للطرفين المعتدين الوصول لأهدافهم عن طريقها ويتحقق ذلك عبر المبادىء والنظم التي تسعى الإدارة الأمريكية لإرساءها في المنطقة وبدقة أكثر في بلاد المسلمين،من حيث تنحية الشريعة عن الحكم (أكثر مما هي منحاة!!) وفصل كامل بين الدين والسياسة (لاحظ مصطلح الإسلام السياسي دائما مايطلق بوصفه شيء سيء وخاطىء،على الأحزاب والتيارات الإسلامية التي تحاول الوصول للسلطة حتى بالطرق السلمية من حيث ممارسة حقها الطبيعي في الترشح والسعي لكسب أصوات الناخبين، حيث تحارب هذه التيارات في جو كبير من عدم النزاهة مثلما حدث في الجزائر عندما نجحت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الإنتخابات بنسبة تقارب ال81% ولم تمكن (بضم التاء وتشديد الكاف مع فتحها) من أخذ موقعها بسبب التدخل الفرنسي السافر لمنع اعتلائها السلطة وبالتالي الحكم بالشريعة الإسلامية، فمثل هذا يؤدي لردود أفعال غير سلمية من بعض هذه الجماعات فتحاول تحقيق أهدافها بطرق متهورة غير مقررة شرعا نتيجة ما عانته من الظلم والقهر والقمع،، وهذه هي الحقيقة التي يتجاهلها المعتدون بنوعيهم من حيث إرجاعهم أسباب مثل تلك الحوادث لسبب أيديولوجي بحت -لأغراض في أنفسهم- والصحيح أن السبب راديكالية سياسيه صبت الزيت على نار غيرة وعاطفة دينية عندما قهرتها وقمعتها وكممت أفواهها) خذ أيضا عندما يطرح أحد علماء الدين رأي الشرع فيما يخص قضية سياسية معينة تجد هؤلاء - ممن يعتنق العلمانية فكرا والليبرالية ممارسة- يتهافتون على رمي ذلك الشيخ بأنه يتجاوز حدوده ويحاول (تسييس الدين) فهذا إذن إسلامي متطرف يجب الحذر من إنتشار أفكاره وأطروحاته!! فمما يرددونه أن الدين جميل ويحث على الأخلاق والفضائل ولكن دعوه في المسجد ولا تقحموه فيما لا طاقة له به من أمور الناس في السياسة والإقتصاد والإجتماع وسائر أمور الحياة!! وهذا والله زور وبهتان عظيم، فلو كان المقام هنا للحديث عن شمولية الإسلام وعظمة التشريع فيه لكنا أسهبنا وفصلنا في ذلك، وشرحنا كيف أن الشريعة ظللت بمظلتها الواسعة من أمور الناس ما تستطيع استيعابه حتى يرث الله الأرض وما عليها، لكن لامانع من الإشارة إلى أن سيرة أشرف الخلق وخاتم الأنبياء محمد عليه أفضل الصلاة والسلام تمثل الأسوة الحسنة والضوء الذي يستنير به كل من ينتمي لأمة الإسلام أفرادا وجماعات وأمم، فقد حكم دولة الإسلام التي انطلقت منه وحيدا حتى عمت أرجاء المعمورة، كان خلال فترة قيادته نعم القدوة لكل من أراد النجاح في الحكم والسياسة،فكان الحاكم السياسي الخبير، والقائد العسكري المحنك، والمحلل الإقتصادي البارع،يقود في السلم والحرب، ويوقع المعاهدات، ويقضي بين الناس،ويجتبي الأموال ويوزعها، ومع أنه كان النبي المعصوم الذي لاينطق عن الهوى فقد ظل مستعينا بآراء ومشورة ذوي الخبرة والإختصاص من صحابته الكرام تحت مظلة كتاب الله وسنة رسوله الكريم، فعاشت الدولة الإسلامية في أوج مجدها وعزها، وكانت نموذجا للدولة المثالية في نظامها الداخلي و سياستها الخارجية.(/2)
نعود للعبة المصطلحات التي يروج لها دعاة الليبرالية من الداخل، ودعاة الديمقراطية المزيفة التي يزعم العدو الخارجي أنه يقدمها لشعوب العالم الإسلامي كوجبة رئيسية (مستغلا ما تعانيه تلك الشعوب من ظروف الاستبداد السياسي بكل مايفرزه من نتائج وخيمة) مضاف إليها عدد من أطباق الحلوى المسماة بحقوق المرأة وحقوق الإنسان وحرية الفرد!! والمضحك أنه يردد بكل سذاجه أنه لايفعل مايفعل إلا عطفا على هذه الشعوب ورغبة في تحريرها، وإرساءاً للأمن والسلام العالمي!! لاننتظر من المجرم بالطبع أن يصرح قبل أن يقوم بجريمته بأنه مقدم عليها وطبيعي أن الكذب والدجل هو ديدنهم،ولكن الطريف والمثير للإشمئزاز في الوقت نفسه،حجم الكذبه وسخافتها،ففي قولهم أن حروبهم بجانبيها هي من أجل إقصاء الأشرار لضمان الأمن في العالم فهذا صحيح بمقاييس شريعة الغاب وحكم القوة لا العقل والمنطق ولا حتى حقوق الإنسان والديمقراطية الخادعة!!فعندما تعتدي دوله(أمريكا أو اسرائيل أو أي حليف لهم) على دولة ما(العراق أو فلسطين أومن مثلهم ممن له حق الدفاع عن دينه وماله واستقلاله) فهذا حق للدولة المعتدية التي تدعي بأنه من المصلحة للكون كله أن تغزو تلك الأرض وتحتلها!!! فإن قام أصحاب الحق الحقيقي (الأشرار الإرهابيين) ليدافعوا عن حقهم هنا يختل الأمن في العالم!!!وفي الجانب الفكري لاحظ الهجمة الشرسة على مبادىء إسلاميه عقديه مثل ( الولاء والبراء)،فهذة العقيدة من أمثلة الإتحاد بين العدوين الخارجي والداخلي في الإعتداء عليها من حيث وصفها بثقافة (عدم قبول الاخر والتكفير والإقصاء)، وخذ أيضا فقه (الجهاد) الذي هو ذروة سنام الإسلام وبإقامته تدوم العزة للإسلام وعندما يعطل يضرب على الأمة الذل والهوان-كما جاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام- في أكثر من موضع، فاتحدوا في حربه من حيث وصفه (بالإرهاب) وتعميم هذا المصطلح على الجهاد الحقيقي وبين ما يحدث من ردود أفعال سبق التطرق إليها،مع العلم بأنه حتى إن بدر من بعض المسلمين إنفعالات خاطئه ليست من الجهاد في شيء فلا ينبغي إنكارها بإطلاق مسمى الإرهاب عليها وذلك بهدف عدم الترويج لهذا المصطلح الذي سوقه أعداء الإسلام ليوصف الجهاد به، ولكون لفظ الإرهاب جاء في الشريعة بوصفه عمل محمود،،ولنا في علمائنا الأفاضل ممن عرفوا بالعلم بفقه الواقع وتحديات المرحلة والنظرة الثاقبة كابن جبرين والبراك والعوده والحوالي وناصر العمر وغيرهم من العلماء حفظهم الله وثبتهم على الحق، أسوة حسنة في منهج إنكارهم للفتنة التي حدثت في بلاد المسلمين، أماالحبل الثالث الذي يلعب عليه الغزاة من اليهود والنصارى ومن في صفهم من دعاة الليبرالية في بلاد الإسلام هو (المرأة) ووجوب إعطائها حقوقها المزعومة ورفع الظلم عنها!!(للسخرية: قال كلينتون وهو من أكثر زعماء الغرب حربا للمسلمين وذبحا لهم – حصار العراق وضرب السودان وأفغانستان ودعم إسرائيل الامحدود ودفاعه عن مذبحة قانا في 96م- قال هذا المجرم في منتدى جدة الإقتصادي العام الماضي أنه لو كان النبي محمد موجودا لسمح للنساء بقيادة السيارة في السعودية)!! فأما كلينتون وأمثاله من الأعداء الخارجيين لا يريدون إلا فساد المجتمع المسلم بفساد نسائه بإشغالهم في توافه الأمور، فإن فسدت الأم وانشغلت عن مهمتها الأساسية التي شرفها بها خالقها ومولاها، وهي تربية الأجيال الإسلامية وصناعة الأبطال، تاه الأبناء وأصبحوا ضائعين مهزوزين تتخطفهم أمواج متلاطمة ذات اليمين وذات الشمال،أما المحور الرابع فهو ما يسمونه (بالبوليس الديني) ويقصدون به هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيرميها أعداء الخارج بأقذع الأوصاف وأشنع التهم ويفترون عليها ماليس فيها(عرضت محطات أمريكية عدد من البرامج الوثائقية للإساءة لهيئة الأمر بالمعروف)،فبالله عليكم ما دخل أمريكا بالهيئة؟! والله مايريدون إلا أن تشيع الفاحشة في اللذين آمنوا،يشاركهم في ذلك دعاة العلمنة ممن يسمون في صحفنا بالمثقفين والمفكرين!!فيشاركون في الهجوم على هذه المحاور التي تمثل في نظرهم (الإسلام المتطرف) فالحل إذن من أجل الوصول (للإسلام المعتدل)!! هو إقصاء هذه المفاهيم بالكلية من واقع المسلمين-لاحظ مثلا في البرنامج الشهير ستار أكاديمي عرض نموذج للشاب المسلم المعتدل المقبل على الحياة ممثلا في شخص محمد الخلاوي فإسمه محمد وهو من (السعودية الوهابية) ولكنه ليس متشدداً فهاهو شاب ملتزم يصلي ويقرأ القرآن ولكن هذا لايمنعه من أن يعيش حياته بالغناء ومخالطة الفتيات ومصاحبتهم ، فالدين شيء والحياة شيء آخر وهذه هي العلمانية في أكثر صورها إغراءاً!! وهذه البرامج وماشابهها تمثل خطراً على مجتمعات المسلمين أكثر حتى من أفلام الجنس التقليدية التي تمس جانب الشهوات في نفس الإنسان فقط، أما ستار أكاديمي ومثله ما يسمى بتلفزيون الواقع وكذلك الأعمال الفنية التي تمس الجانب الفكري والعقدي للمسلم(/3)
بهدف التأثير على معتقدات المتلقي وزحزحة ثوابته وقيمه وإثارة الشبهات حولها بأساليب فيها من الإحتراف والمكر الشيء الكثير فهي الخطر الأكبر على مجتمعات المسلمين- فبالتركيز على هذه المحاور الأربعة (الولاء والبراء،الجهاد،المرأة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وإقصائها من حياة المسلمين عمليا فإن بقيت في مكان فليس في عقولهم وقلوبهم إنما مجرد نظريات وتراث تاريخي في كتب السلفيين، فينحرف المجتمع عن الطريق الذي رسمه الله له ويبتعد المجتمع المسلم عن تحقيق مآربه ببعده عن دينه فيصبح إسلاما بالاسم والظاهر فقط،، فيغدو شباب المسلمين لقمة سائغة لكل منصر جائع ،وبلادهم أرض خصبه لجمعيات التنصير المبشرة بالنصرانية الضالة المحرفة،ولاحظ في ذلك حربهم على الجمعيات الإسلامية الخيرية وذلك بهدف إخلاء الساحة لجمعيات التنصير والوقوف في وجه المد الدعوي الإسلامي الذي عم أقطار الدنيا بفضل الله أولا ثم بجهود الدعاة الأفاضل وفقهم الله وثبتهم، والقائمين على هذه الجمعيات جزاهم الله كل خير وثواب، وما نجاح أمريكا في إغلاق مؤسسة الحرمين -رحمها الله- واحتلال بعض بلاد الإسلام والتغيير في مناهج التعليم في بلاد أخرى إلا جولة في الصراع بين الحق والباطل، و ماهو إلا تكرار للتاريخ عندما اجتمع الصليبيون واليهود على السعي لإسقاط آخر دولة خلافة إسلامية (الدولة العثمانية) بمركزها السياسي في تركيا ومركزها العلمي والثقافي في مصر وفي الأزهر بالتحديد،فكان لهم ماسعوا له فقد نجحت القوى الخارجية الإستعمارية في تقسيم العالم الإسلامي جغرافيا إلى دول ضعيفة متشتته، فغدت تركيا دولة علمانية تحارب الدين وأهله أشرس حرب، وتغلغلت في مصر المسلمة المحافظة الأفكار الهدامة والتيارات الفكرية الظلاميه وذلك بدعم وغطاء يهودي صليبي إلى أن أمست دولة علمانية يحارب فيها المصلحون والعلماء بعد أن أجهز على الأزهر الشريف فلم يبق منه إلا أطلال يبكي عليها المسلمون على كيانهم العلمي والسياسي العظيم الذي ضعف وارتخى والله المستعان. (لاحظ في تركيا قبل سقوطها بيد العلماني كمال أتاتورك بعد أن نصبه الصليبيون واليهود حاكما ليقضي على مابقي من إسلام في عاصمة الخلافة،وفي مصر قبل الإستعمار الصليبي وتغلغل التيارات الفكرية الضالة من الشيوعية والقومية والعلمانية والإشتراكية بنسختيها التقليدية والعلمية الماركسية،كانت النساء تستر أجسادهن العباءات السوداء ويغطي وجوههن النقاب،وبعد أن نجحت مساعي المستعمرين ومن في كنفهم ممن تعلم في بلادهم وتأثر بدعاواهم وأغرته حضارتهم المادية ،وصل الحال إلى وقت غدت فيه من تغطي شعر رأسها بخمار، غريبة شاذة في ذلك المجتمع!! وقس على هذا المثال الكثير مما تغير حاله في بلاد المسلمين).(/4)
ومن المصطلحات التي يروج لها الكتاب والصحفيين على سبيل تلبيس الحق بالباطل وإنزالها على المعنى الذي يريدونه وما تهواه أنفسهم، مصطلحات تمس مفاهيم إسلامية مثل (الوسطية) و(التسامح)،فمما يؤسف له إبتداءاً هو تطاول هؤلاء الصحفيين و غيرهم من ليس لهم نصيب من العلم الشرعي بل تجد الكثير منهم على خلل عظيم بالعقيدة والفكر ومع ذلك يتجرأون على الحديث في أمور الدين وانتقاد العلماء وتفسير الآيات والأحاديث على هواهم،حتى وصل الأمر أن كتب أحد لاعبي الكرة ردا على 26عالما وفقيها يعارض فيه رأيا شرعيا لهم!!فياله من شيء محزن وسخيف!!نعود للبحث في ثقافة التلبيس التي يمارسها هؤلاء، فأما في تناولهم لمفهوم (الوسطية) مثلا تبدو رغبتهم واضحة في تمييع الدين وتغييب السنة عن المجتمع سلوكا ومظهرا من خلال تفسيرهم لهذا المصطلح على غير حقيقته النظريه في القرآن الكريم وتطبيقه العملي في واقع الأمة عبر فكر وسلوك نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام ومن بعدهم أئمة وأعلام الإسلام عبر التاريخ،أما مفهوم (التسامح) فحرفوا ماقصدته الشريعة به وجعلوه مرادفا للتنازل والتساهل عن أبسط الحقوق فبما أن الغرب عامة والأمريكان خاصة هم الأقوى في العالم عسكريا والمتفوقون علميا فيجب اتباعهم فيما يفعلون والسمع والطاعة لما يقولون، وعندما يغزوننا محتلين يجب تقديم الورود لشكرهم على مايقدمونه لنا من الحرية والعلم والحضارة!!أما حين تدافع عن عقيدتك ومبادئك وأرضك وعرضك ومالك، فأنت تخالف الإسلام الحقيقي(بزعمهم) الذي يدعو إلى المحبة و(التسامح)، وقس على ذلك مصطلحات غلافها الظاهري جميل مثل (الآخر) و(القبول بالآخر) و(الحياد) أما باطنها وما ترمي إليه فيهدف إلى تمييع الإختلاف العقدي بين أهل التوحيد وغيرهم من أهل الديانات والطوائف والفرق الضالة فيرددون أنه لايجب التفرقة بين الناس على أساس الديانة أو العقيدة أو المذهب فالجميع أخوة في (الإنسانية)!! و(حرية الفكر) متاحة للجميع بشكل مطلق،على خلاف تنظيم الشريعة الإلهية لهذا الإختلاف وحددت أسلوب تعامل المسلم معه وبينت ما للفرد فيه من الحقوق وما عليه من الواجبات، وما تلبيسهم هذا إلا في سبيل التمهيد والتخطيط لإرساء قواعد مذاهب فلسفية وفكرية وسياسية في المجتمع المسلم والنظام السياسي لذلك المجتمع،وهي خطيرة جدا من حيث مخالفتها لأصول إيمانية ومنهجية في العقيدة الإسلامية مثل (التعددية) و(الفردية) و(الحداثة) وبالطبع حتى الوصول للجائزة الكبرى (الليبرالية) التي تتيح كنظام سياسي لهذه التيارات أرضا خصبة لتنمو فيها بأن تعبر عن وجودها بحرية أكثر وبشكل رسمي لا يجد أمامه أي حواجز أو يصطدم بأي عقبات، فيفسر ذلك رغبتهم وسعيهم الدؤوب وأمانيهم بإزاحة الشريعة عن الحكم وإستبدالها بالليبرالية المنقذة!!.
وما ذكرنا ما هو إلا حلقه في سلسلة ابتلاء المؤمنين بالكفار والمنافقين وأهل الضلال بكل أشكال الإبتلاء من القتل والتعذيب ونهب المال واحتلال الأرض والإعتداء على العرض والظلم إلى الإستهزاء بالقول والفعل، ومايلاقيه أهل الحق من أهل الباطل منذ بعثة محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والتسليم، فما هذه الحياة الدنيا إلا ابتلاء وامتحان وفتنة للمؤمن الحقيقي الصابر الثابت على دينه المعتصم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ،ولن نجد أفضل من بعض من كلام الله عزوجل لنستشهد به على ما قلنا ونذكر به أنفسنا:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ * اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } (البقرة 11-17)
{ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } (البقرة 120)(/5)
{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } (البقرة 212)
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } (البقرة 214)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } (آل عمران 118-120)
{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } (آل عمران 139-142)
{ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } (المنافقون 4)(/6)
العدوان والفاشية بين جورج بوش وعبد الرحمن الراشد
د. أحمد بن راشد بن سعيّد*
عندما نطق بوش بتعبير (الإسلاميين الفاشيين) استجابت أوتار عبد الرحمن الراشد الذي يحسن التلقي عن أستاذه وملهمه، ويحسن تفسير كلامه وروايته وإعادة إنتاجه. وحدنا الفاشيون في نظر بوش وأولمرت.. وصاحب قناة (العربية). وحدنا الإرهابيون في نظرهم كما كتب الراشد في (الشرق الأوسط) يوماً في مقال عنوانه: "الحقيقة المؤلمة أن كل الإرهابيين مسلمون".
في غمرة القصف الهمجي الوحشي الذي تعرضت له مدن لبنان وقراه، بأسلحة جورج بوش وقنابله (الذكية) كانت أقلام كتاب المارينز العرب تدافع عن العدوان وتشتم المقاومة وترميها عن قوس واحدة. من أبرز هؤلاء عبد الرحمن الراشد رئيس قناة (العربية) ورئيس تحرير صحيفة (الشرق الأوسط) سابقاً. كان الراشد قد هاجم مراراً المقاومة الفلسطينية بعيد أسرها الجندي الإسرائيلي (انظر مثلاً مقاله: "لماذا تستنجدون بالعرب قبل أن تسألوهم؟" 4 تموز 2006). ثم هاجم المقاومة اللبنانية ممثلة بحزب الله بعيد أسرها الجنديين الإسرائيليين، وبدء العدوان على لبنان (انظر مثلاً مقالاته: "فرصة العمر التي رفضها السيد" 27 تموز 2006، و"أوقفوا الحرب لو سمحتم" 6 آب 2006، و"كسبنا الحرب بمليون مهجر" 7 آب 2006).
لم ينتقد الراشد إسرائيل البتة، ولم تحرك ضميره البائس مشاهد القتل والدمار التي وزعتها آلة العدوان الصهيونية في قطاع غزة، وفي لبنان بجنوبه وبقاعه وشماله وعاصمته بيروت. وبالطبع لم يوجه كلمة (عتاب) إلى جورج بوش، ولا غرو، فكيف يمكن لعبد أن يلوم سيده وولي نعمته!
بعيد ما قيل إنه اكتشاف مؤامرة لارتكاب (أكبر مذبحة جوية) على حد التعبير غير المسبوق لقناة (العربية) صرح بوش أن ما حدث "تذكرة قوية بأن هذه الأمة في حالة حرب مع الفاشيين الإسلاميين الذين يستخدمون أي سبيل لتدمير من يحبون الحرية منا من أجل إيذاء أمتنا". استنكر كثير من المسلمين التصريح المتطرف الجديد لبوش والذي يربط ضمناً بين الإسلام والفاشية، رغم أن الفاشية والنازية لم تربطا قط بالكاثوليكية المسيحية.
كان أول من استخدم تعبير "الفاشيين الإسلاميين" في كتاباته أو على الهواء هو المتطرف اليهودي مايكل سافج، الذي يعيش في مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا الأميركية، ويستخدم اسم عائلة مصطنعاً لأسباب أمنية، وهو مقرب من شبكات مرئية مثل فوكس أو مسموعة مثل دبليو أو آر. أثار تصريح بوش غضب المسلمين الأميركيين، وانتقد نهاد عوض المدير التنفيذي لمجلس العلاقات الإسلامية الأميركية (كير) التصريح قائلاً: "إنه من غير المفيد الربط بين الإسلام أو المسلمين والفاشية"، وأضاف: "نحثه (بوش) ونحث غيره من المسؤولين الحكوميين على كبح أنفسهم".
ولم يقتصر انتقاد تصريح بوش على المسلمين (منظمة المؤتمر الإسلامي، ومعظم الحكومات العربية لزمت الصمت، يا للعار)، بل إن بعض المسيحيين العقلاء انتقدوا كلام بوش، ومن أبرز هؤلاء جون سنتامو، أسقف يورك، وأحد قادة الكنيسة الإنغليكانية البريطانية، الذي قال: "أريد أن يسود هذا المجتمع جو التعايش، ولن نتوصل إلى ذلك بمثل هذه العبارات التي تطلق من مزرعة في تكساس". وحده عبد الرحمن الراشد تلقف العبارة بإعجاب، كعادته مع تصريحات بوش. وحشية أولمرت وبيريس وبوش، لم تحرك ساكناً في وجدان هذا الكاتب، ولم تدفعه إلى الاحتجاج على دمويتهم وبشاعة إرهابهم و(نازيتهم) و(فاشيتهم). لكنه وجد في ما قيل إنها مؤامرة لم يكتب لها النجاح (إرهاباً) عز نظيره، بل أيد عبارة بوش في مقال له في (الشرق الأوسط) بعنوان: "بالتأكيد هم فاشيون".
زعم الراشد أن "..هذه المقاربة سليمة، عندما تضعها إلى جانب أدبيات المتطرفين الإسلاميين. وكما حارب الأوروبيون الفاشية والفاشيين بالكلمة والبارود، فإن العالم سيحارب المتطرفين الإسلاميين.. إن وصف مسلم بالإرهابي أمر طبيعي إن كان إرهابياً.."(13 آب 2006). لم يصف الراشد جرائم بوش في لبنان بأنها إرهابية ولا حتى عدوانية.
وقد حرصت قناته (العربية) على تبرئة بوش وأولمرت من تهمة العدوان. طوال أيام الحرب كان شريط القناة ينص على وصف العدوان (بالهجوم الإسرائيلي على لبنان). مجرد هجوم. وهذا أغرب وصف لحرب عدوانية شرسة في التاريخ. فالهجوم عادة يطلق على عمل فردي يتيم ومعزول، ولكن حرباً شاملة جوية وبرية وبحرية يقتل فيها جيش أجنبي عمداً المدنيين قتلاً وحشياً بالمئات، ويهجرهم بمئات الآلاف، ويدمر خلالها بلادهم تدميراً منهجياً لا يمكن وصفها بهجوم. عندما اشتدت وحشية الغارات الإسرائيلية وطال أمد الحرب غيرت القناة وصف (الهجوم) إلى (العدوان الإسرائيلي على لبنان) لبضع ساعات فقط، ثم خففته وسمته (الاعتداء الإسرائيلي على لبنان) لساعات قليلة أيضاً، لكنها عادت بعد ذلك إلى الوصف الذي اختارته أو اختير لها، وهو (الهجوم الإسرائيلي على لبنان).(/1)
لقد كان ذلك فضيحة أخلاقية وإعلامية مكتملة الأركان، وسيذكر التاريخ أن قناة (العربية) ضالعة في تشويه الحقيقة التي تزعم أنها الأقرب إليها، وأنها حاولت تجميل العدوان، والتخفيف من آثاره العميقة في النفس العربية المكلومة والمتحرقة للثأر والاستشهاد ودحر الطغيان الصهيوأميركي. لست أدري كيف يمكن تبرير ذلك من الناحية الصحافية والأخلاقية.
إن قناة (العربية) تستخدم العبارة الدعائية الأميركية (الحرب على الإرهاب) بوصفها مسلّمة، وتستعير التوصيف الأميركي الإيديولوجي للأحداث دون تمحيص أو تدقيق.
وإذا كانت عبارة (الحرب على الإرهاب) نوعاً من الموضوعية لا التبعية والعمالة، ومن باب تسمية الأشياء والظواهر بأسمائها، فلماذا لا يوصف الإرهاب الصهيوني في لبنان وفلسطين بالعدوان والإرهاب؟
إن التوصيف الطبيعي لممارسات إسرائيل في لبنان وفلسطين هو (العدوان) و(الإرهاب)، على اعتبار أن الإرهاب يعني في المفهوم الدولي قتل المدنيين عمداً من أجل تحقيق أهداف سياسية. بل إن إسرائيل، بحسب التعريف الإسرائيلي نفسه، تعتبر صانعة الإرهاب الأولى بامتياز. يقول رئيس وزراء إسرائيل الأسبق بنيامين نتنياهو: إن الإرهاب هو "قتل المدنيين وتشويههم عمداً بقصد إثارة الرعب"، وبذلك تكون الدولة الصهيونية دولة إرهاب فريدة لأنها منذ ميلاد مشروعها قامت على أساس تدمير المجتمع الفلسطيني، من خلال ممارسة العنف ضد المدنيين، وكان المدنيون محور جرائمها من القتل إلى النفي إلى الاعتقال. لكن (العربية) دأبت على تسمية غارات إسرائيل الوحشية على الضفة الغربية وقطاع غزة بأنها "عمليات"، وأن الجيش الإسرائيلي يمارس هناك "عملياته العسكرية".
)العربية) وشقيقتها الورقية (الشرق الأوسط) تسهمان في عملية العدوان علينا والإساءة إلينا سعياً لإضعاف روحنا المعنوية، ونشر فكر الهزيمة والإحباط في صفوفنا. انظر مثلاً وصفهما أسر المقاومين الفلسطينيين واللبنانيين جنوداً إسرائيليين (بالاختطاف)، بينما تصفان أعمال إسرائيل المماثلة (بالاعتقال). لقد كان اختطاف أحمد سعدات من سجنه في أريحا (اعتقالاً) في رأي (العربية) بينما كان بالمعايير الموضوعية (اختطافاً)، حيث تم بالإغارة على أرض محتلة، في تحد للسلطة الشرعية في تلك الأرض، وانتهاكاً للاتفاقات الموقعة معها بضمانات دولية.
أما أسر المقاومة الفلسطينية الجندي الإسرائيلي جلعاد (أصبح اسمه مشهوراً، بينما أسرانا ليس لهم أسماء) فقد سمته (العربية) اختطافاً. وكذلك وصفت أسر حزب الله الجنديين الإسرائيليين. وسمت القناة اختطاف الدكتور عزيز الدويك رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني (اعتقالاً) بينما هو بالمعايير الموضوعية اختطاف. لماذا تنهج (العربية) هذا النهج؟ وما الفرق بين (الاعتقال) و(الاختطاف)؟ أليست العبارتان تدلان على الشيء نفسه، أو (محصلة بعضها) كما يقول المصريون؟ ليس كذلك.
الاعتقال سلوك أمني تقوم به دول ذات سيادة لحماية مصالحها، بينما الاختطاف سلوك إرهابي إجرامي لا تقوم به سوى العصابات. وهكذا يريد مروجو هذه التوصيفات أن يقولوا لنا إن إسرائيل دولة، وإن مقاوميها ليسوا سوى جماعات فوضوية غير منضبطة وغير قانونية وغير أخلاقية. ما يؤكد ذلك هو عبارة (الوضع الأمني في فلسطين) التي تظهر على شاشة العربية أثناء تناولها للاعتداءات الإسرائيلية على الضفة الغربية وقطاع غزة. توحي العبارة أن ما يحدث في فلسطين ليس عدواناً أجنبياً على وطن وشعب، بل هو مشكلة أمنية محلية لا علاقة لها بالاحتلال. إننا لا نسمع ولا نرى في (العربية) أي إشارة (لجيش الاحتلال الإسرائيلي)، وتصدم القناة مشاعرنا بعبارة (الجيش الإسرائيلي).. كده.. حاف.
أما وصف القتلى الفلسطينيين المظلومين بالشهداء، فهو غير وارد ألبتة في قاموس (العربية) وشقيقتها (الشرق الأوسط)، وكلتاهما تصف العمليات الاستشهادية الفلسطينية (بالانتحارية)، وربما نصحو يوماً على سماع عبارة (الشهداء الإسرائيليين) من أفواه مذيعات العربية، القناة "الأقرب إلى الحقيقة"!
عندما نطق بوش بتعبير (الإسلاميين الفاشيين) استجابت أوتار عبد الرحمن الراشد الذي يحسن التلقي عن أستاذه وملهمه، ويحسن تفسير كلامه وروايته وإعادة إنتاجه. وحدنا الفاشيون في نظر بوش وأولمرت.. وصاحب قناة (العربية). وحدنا الإرهابيون في نظرهم كما كتب الراشد في (الشرق الأوسط) يوما في مقال عنوانه: "الحقيقة المؤلمة أن كل الإرهابيين مسلمون" (4 أيلول 2004). وقتها كان شارون يسرف في قتل الأطفال والنساء في الأرض المحتلة، ويهدم البيوت فوق رؤوس ساكنيها من رفح إلى جنين، ويجتث أشجار الزيتون بالآلاف في إطار حملة إرهابية تعجز الكلمات عن وصف قذارتها.(/2)
لكن (الراشد) لم ير في أعمال شارون إرهاباً، بل ربما رأى رأي بوش أن شارون رجل سلام، وأن ما يقوم به دفاع عن النفس. تباً لأمة تسمح لكاتب كعبد الرحمن الراشد بتصدر صحفها وفضائياتها، والتحريض على قيمها، والسخرية من تاريخها، وترويج أكاذيب أعدائها وافتراءاتهم.
لم تكن الفاشية إلا نتاجاً أوروبياً، وكذلك كانت النازية والتطهير العرقي والحربان العالميتان. أما الفاشية بين العرب والمسلمين فهي موجودة فعلاً، ولكن في صحافة بائسة ناطقة بالعربية، وأوضح دلائلها هذا الكاتب وقناته (العربية(.
* أستاذ الإعلام السياسي بجامعة الملك سعود(/3)
العدوى بين الطب النبوي و الطب الحديث
بحث وإعداد:د.فيصل نائل كردي مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث قسم الأطفال 2/9/1424
27/10/2003
الأحاديث النبوية حول موضوع العدوى :
قال صلى الله عليه وسلم : "لاعدوى، فقام أعرابي فقال: أرأيت الإبل تكون في الرمال أمثال الظباء فيأتيها البعير الأجرب فتجرب. قال النبي صلى الله عليه وسلم فمن أعدى الأول. (البخاري), وفي رواية أخرى متممة قال صلى الله عليه وسلم : لاعدوى ولاهامة ولاصفر، خلق الله كل نفس وكتب حياتها ومصابها ورزقها.
قال صلى الله عليه وسلم:" لايوردن ممرض على مصح. (الصحيحين)"
قال صلى الله عليه وسلم: "لاعدوى ولاطيرة، إنما التشاؤم في ثلاث: في الفرس والمرأة والدار". (البخاري)
قال صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلاتدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها". (البخاري)
قال صلى الله عليه وسلم: "الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل, وعلى من كان قبلكم, فإذا سمعتم به بأرض, فلا تدخلوا عليه, وإذا وقع بأرض وأنتم بها, فلا تخرجوا منها فراراً منه". (البخاري)
قال صلى الله عليه وسلم: "فر من المجذوم كما تفر من الأسد". (البخاري)
قال صلى الله عليه وسلم: "كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمح أو رمحين". (ضعيف)
إن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد رجل مجذوم, فأدخلها معه في القصعة, وقال: "كل بسم الله ثقة بالله وتوكلاً عليه". (منكر غريب).
تعريف العدوى :
هي انتقال الجراثيم المسببة للمرض إلى مستقبلها عن طريق الوسائل التالية:
1)الملامسة.
2)الأكل والشرب الملوث.
3) نقل الدم من شخص مريض أو الإبرالملوثة بالدم.
4) القطيرات التنفسية.
5) الإتصال الجنسي.
تعارض ظاهر بين الأحاديث النبوية الشريفة:
• بين قوله صلى الله عليه وسلم: "لاعدوى", وأكله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم.
• و قوله صلى الله عليه وسلم: "فر من المجذوم كما تفر من الأسد", "كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمح أو رمحين", "لايوردن ممرض على مصح", "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها, وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها".
قول ابن قيم الجوزية في هذا التعارض:
(....ونحن نقول: لا تعارض بحمد الله بين أحاديثة الصحيحة. فإذا وقع التعارض, فإما أن:
1) يكون أحد الحديثين ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقة ثبتاً, فالثقة يغلط.
2) أو يكون أحد الحديثين ناسخاً للآخر إذا كان مما يقبل النسخ.
3) أو يكون التعارض في فهم السامع.
فلابد من وجه من هذه الوجوه الثلاثة. وأما حديثان صحيحان صريحان متنافضان من كل وجه, ليس أحدهما ناسخاَ للآخر, فهذا لايوجد أصلاًََ). انتهى كلامه رحمه الله.
قول علماء السلف في هذا التعارض:
* قال فريق: بل الأمر باجتناب المجذوم والفرار منه على الاستحباب والاختيار والإرشاد, وأما أكله معه ففعله لبيان الجواز وأن هذا ليس بحرام.
* وقالت فرقة أخرى: بل الخطاب بهذين الخطابين جزئي لا كلي, فكل واحد خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بما يليق بحاله, فبعض الناس يكون قوي الإيمان, قوي التوكل تدفع قوة توكله قوة العدوى, كما تدفع قوة الطبيعة قوة العلة فتبطلها, وبعض الناس لايقوى على ذلك, فخاطبه بالإحتياط والأخذ بالتحفظ.
* وذهبت فرقة أخرى إلى أن الأمر بالفرار منه, ومجانبته لأمر طبيعي, وهو انتقال الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحة إلى الصحيح, وهذا يكون مع تكرار المخالطة والملامسة له, وأما أكله معه مقداراً يسيراً من الزمان لمصلحة راجحة, فلا بأس به, ولا تحصل العدوى من مرة واحدة ولحظة واحدة, فنهى سداً للذريعة, وحماية للصحة, وخالطه مخالطة ما للحاجة والمصلحة, فلا تعارض بين الأمرين.
*وقالت طائفة أخرى: يجوز أن يكون هذا المجذوم الذي أكل معه به من الجذام أمريسير لا يعدي مثله.
* وقالت فرقة أخرى: إن الجاهلية كانت تعتقد أن الأمراض المعدية تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله سبحانه, فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك, وأكل مع المجذوم ليبين لهم أن الله سبحانه هو الذي يمرض ويشفي, ونهى عن القرب منه ليتبين لهم أن هذا من الأسباب التي جعلها الله مفضية إلى مسبباتها, ففي نهيه إثبات الأسباب, وفي فعله بيان أنها لاتستقل بشيء, بل الرب سبحانه إن شاء سلبها قواها فلاتؤثر شيئاً, وإن شاء أبقى عليها قواها فأثرت.
* وقالت فرقة أخرى: بل هذه الأحاديث فيها الناسخ والمنسوخ, فينظر في تاريخها, فإن علم المتأخر منها, حكم بأنه الناسخ, وإلا توقفنا فيها.
رأي الشخصي حول التعارض:(/1)
• قوله صلى الله عليه وسلم: "لاعدوى" ليس الواضح منها نفي حدوث العدوى البته, ويتضح ذلك في رد النبي صلى الله عليه وسلم على الأعرابي "فمن أعدى الأول" أي قد يكون تلقى المرض من مصدر آخر مثل مراقد الإبل أو غيرها. ويتضح أيضاً في تتمة الحديث "خلق الله كل نفس وكتب حياتها ومصابها ورزقها" . فممكن حدوث العدوى ولكن بأمر الله وتقديره.
• كشف الطب الحديث حقائق جمة عن كثير من الأمراض المعدية كانت قد خفيت على الناس, فأوضحت وشرحت الكثير من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله ما لم يستطع السلف الصالح تفسيرها تفسيراً محدداً أو أن يوفقوا بين الخلاف في النصوص. من ذلك مرض الجذام حيث أن الأحاديث الواردة حول هذا الموضوع لاتحمل في رأي تعارضاً في مضمونها.
طرق الوقاية من الأمراض المعدية كما عرفها الطب الحديث:
1) الإحتراز القياسي.
2) العزل من القطيرات التنفسية.
3) العزل من الملامسة.
4) العزل من الجراثيم المنقولة في الهواء.
الأمراض المعدية التي ذكرت في الأحاديث النبوية:
الجذام (داء الأسد) كما يراه ابن القيم: علة رديئة تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله, فيفسد مزاج الأعضاء وهيئتها وشكلها, وربما فسد في آخره اتصالها حتى تتأكل الأعضاء. وهذه العلة عند الأطباء من العلل المعدية المتوارثة, ومقارب المجذوم وصاحب السل يسقم برائحته.
وقال عنه الطب الحديث: هو مرض مزمن معد,, يصيب الجلد والأعصاب الطرفية و الأغشية المخاطية للجهاز التنفسي العلوي. وينتقل عن طريق الملامسة غالباً أو عن طريق القطيرات التنفسية أحياناً. ويحتاج انتقاله إلى معاشرة ومخالطة لفترات طويلة من الزمن.
الوقاية منه كما جاءت في الأحاديث النبوية مع رأي فيه:
• ”كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمح أو رمحين" (ضعيف). وذلك للإحتراز من الرذاذ الصادر من المريض أثناء عطسه وسعاله وينصح الأطباء بالإبتعاد عن المريض حوالي 90 سم في حالة عدم لبس الكمامة.
• "فر من المجذوم كما تفر من الأسد" (البخاري). وذلك لتجنب ملامسة المريض أو لتجنب رؤية منظره, حيث أن الجذام أنواع منه البسيط قد لاتدرك أنه مريض ومنه ما هو شديد يشوه الوجه والجسد, تقشعر من رؤيته الأبدان.
• وقد أرسل صلى الله عليه وسلم لرجل ثقفي مجذوم قدم مع قومه للمبايعة: "ارجع فقد بايعناك" (مسلم). لنفس السبب السابق ذكره.
• وقد تبين أنه لاحاجة لعزل هؤلاء المرضى عن العالم الخارجي كما هو معمولاً به في كثير من المصحات, بل يكفي تطبيق الإحترازات القياسية: مثل غسل اليدين بعد ملامسة المريض, لبس القفازات في حالة ملامسة الجروح, الإحتراز من البلغم والمخاط. ويمكن مخالطته بشكل طبيعي بعد أسبوعين من أخذه العلاج. وأما أكل النبي صلى الله عليه وسلم مع المجذوم أمر يفسر الطب الحديث بكل بساطة حيث أن المرض لاينتقل من مخالطة قصيرة وبالذات لو كان الجذام من النوع البسيط.
الطاعون كما عرفه ابن القيم والخليل وغيرهما: نوع من الوباء, فتاك ينزل بالبلاد..
الوقاية منه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء الطب الحديث ليقر بما جاء في السنة المطهرة وهو "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلاتدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها". (البخاري)
الخاتمة:
تبين لنا فيما سبق أنه لاتعارض بين الأحاديث السالفة الذكر حول موضوع العدوى.
فقد يصاب الإنسان بالمرض من غير تعرضه لشخص مصاب مباشرة وإنما من الوسط المحيط حوله الملوث بالمسببات للمرض. وذلك مافهمته من رد النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "فمن أعدى الأول".
ليس كل من توفرت له سبل انتقال العدوى يصاب بالمرض, إلا أن يشاء الله ذلك. (مثال: مخالط مريض الإنفلونزا أو الزكام. أو مريض العنقز). على المرء ألا يجزع ويضطرب من تعرضه لإحدى وسائل العدوى, بل عليه أن يعلم بأن ماأصابه كان مقدراً عليه, وأن يعلم أيضاً أن بعض الأمراض المعدية يمكن منع حدوثها حتى بعد انتقالها. فمثلاً قد يصاب المرء بوخزة إبرة ملوثة بدم مريض حامل لمرض الإيدز, فنسبة إصابته بالمرض 0.3%, ويمكن أخذ مضاد للفيروسات قد تقيه بإذن الله حتى بعد التعرض.
________________________________________
المراجع:
• زاد المعاد في هدي خير العباد, ابن قيم الجوزية, الجزء الرابع.
• موقع أبو الوليد على الإنترنت (خواطر محب), بيان معنى لا عدوى.
• فتح الباري بشرح صحيح البخاري, الطب, لاعدوى.
• فتح الباري بشرح صحيح البخاري, الطب, مايذكر في الطاعون.
• الجمع بين حديث (لاعدوى ولا طيرة) و حديث ( لا يورد ممرض على مصح). د/ سلمان العودة. مجلة الملتقى الصحي. العدد 34 شعبان 1423: صفحة 29.(/2)
العذاب الجسمي للعصاة في القبر
عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه: (( هل رأى أحد منكم من رؤيا ؟ فيقص عليه من شاء الله أن يقص ، وإنه قال لنا ذات غداة:(( أنه أتاني الليلة آتيان ، وانهما قالا لي : انطلق ، وإني انطلقت معهما ، وإنا أتينا على رجل مضطجع ، وإذا أخر قائم عليه بصخرة ، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه ، فيثلغ (1) رأسه ، فيتدهده(2) الحجر ها هنا ، فيتبع الحجر فيأخذه ، فلا يرجع إليه حتى يصحّ رأسه كما كان ، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى قال : قلت لهما : سبحان الله ما هذا ؟ قالا لي : انطلق انطلق فانطلقنا ، فأتينا على رجل مستلق لقفاه ، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد ، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر(3) شدقه إلى قفاه ، ومنخره إلى قفاه ، وعينه إلى قفاه ، ثم يتحول إلى الجانب الآخر ، فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول ، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصحّ ذلك الجانب كما كان ، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى ، قال : قلت : (( سبحان الله ما هذان ؟ قالا لي : انطلق انطلق ، فانطلقنا فأتينا على مثل التنور ، فأحسب أنه قال : فإذا فيه لغط وأصوات فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من اسفل منهم ، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا(4) قلت : ما هؤلاء؟ قالا لي: انطلق انطلق ، فأنطلقنا فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول أحمر مثل الدم ، وإذا في النهر رجل سابح يسبح ، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة ،، فيفغر (5) له فاه فيلقمه حجرا ، فينطلق فيسبح ، ثم يرجع إليه ، كلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجراً قلت لهما : ما هذان ؟ قالا لي: انطلق انطلق ، فانطلقنا فأتينا على رجل كريه المرآة(6) أو كأكره ما أنت راء رجلا مرأى ، فإذا هو عنده نار يحشها (7) ويسعى حولها قلت لهما : ما هذا قالا لي: انطلق انطلق ، فانطلقنا فأتينا على روضة معتمة(8) فيها من كل نور(9) الربيع وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل ، لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء ، وإذا حول الرجل من أكثر والدان ما رأيتهم قط ، قلت : ما هذا ؟ وما هؤلاء ؟ قالا لي : انطلق انطلق فأنطلقنا فأتينا إلى دوحة عظيمة (10) لم أر دوحة قط أعظم منها ولا أحسن قالا لي: ارق فيها ، فارتقينا فيها إلى مدينة مبنية بلب(11) ذهب ولبن فضة فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح لنا فدخلناها ، فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء ، وشطر منهم كأقبح ما أنت راء قالا لهم : اذهبوا فقعوا في ذلك النهر ، وإذا هو نهر معترض يجري كأن ماءه المحض(12) في البياض ، فذهبوا فوقعوا فيه : ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم ، فصاروا في أحسن صورة ، قال : قالا لي : هذه جنة عدن(13) ، وهذاك منزلك ، فسما بصري (14) صعدا ، فإذا قصر مثل الربابة (15) البيضاء قال لي: هذاك منزلك ، قلت لهما: بارك الله فيكما ، فذراني فأدخله قالا : أما الآن فلا وأنت داخله قلت لهما : فاني رأيت منذ الليلة عجبا؟ فما هذا الذي رأيت ؟ قالا لي أما إنا سنخبرك : أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه ، وينام عن الصلاة المكتوبة ، وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ، ومنخره إلى قفاه ، وعينه إلى قفاه ، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق (16) وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور ، فإنهم الزناة والزواني ، وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجارة فإنه آكل الربا ، وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها ، فإنه مالك خازن جهنم ، وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة ، وفي رواية البرقاني: ((ولد على الفطرة)) فقال بعض المسلمين : يا رسول الله : وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((وأولاد المشركين ، وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح ، فإنهم قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئاً تجاوز الله عنهم)) رواه البخاري (17) وفي رواية له ((رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة ، ثم ذكره وقال : فانطلقنا إلى نقب مثل التنور ، أعلاه ضيق وأسفله واسع ، يتوقد تحته نار ، فإذا ارتفعت ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا ، وإذا خمدت رجعوا فيها ، وفيها رجال ونساء عراة)) وفيها ((حتى أتينا على نهر من دم)) ولم يشك ، فيه رجل قائم على وسط النهر ، وعلى شط النهر رجل ، وبين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه ، فرده حيث كان ، فجعل كلما جاء ليخرج جعل يرمي في فيه بحجر ، فيرجع كما كان ) وفيها فصعد بي الشجرة فأدخلان دار لم أر قط أحسم منها، فيها(/1)
رجال شيوخ وشباب ، وفيها : ( الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يحدث بالكذبة ، فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق ، فيصنع به إلى يوم القيامة ) وفيها : ( الذي رأيته يشدخ رأسه فرجل علمه الله القرآن ، فنام عنه بالليل ، ولم يعمل فيه بالنهار فيفعل به إلى يوم القيامة ، والدار الأولى التي دخلت دار عامة المؤمنين ، وأما هذه الدار فدار الشهداء ، وأنا جبريل ، وهذا ميكائيل ، فارفع رأسك ، فرفعت رأسي فإذا فوقي مثل السحاب ، قالا : ذاك منزلك قلت : دعاني أدخل منزلي ، قالا : أنه بقي لك عمر لم تستكمله ، فلو استكملته أتيت منزلك ) .
______________________________________
(1) أي يشدخه ويشقه .
(2) أي يتدحرج .
(3) يقطع .
(4) أي صاحوا .
(5) أي المنظر .
(6) أي المنظر .
(7) يوقدها .
(8) أي وافية النبات طويلته .
(9) أي الزهر .
(10) الشجرة الكبيرة .
(11) يفتح فكسر اسم جنس واحدة لبنة واصلة ما يبنى طين بالمكان الذي أقام به .
(12) أي اللبن .
(13) إقامة من عدن بالمكان إذا أقام به .
(14) أي ارتفع .
(15) أي السحابة .
(16) جمع أفق وهو الناحية .
(17) رواه نقلا عن رياض الصالحين للنووي - باب تحريم الكذب - حديث رقم 5 ص 647 .وأنظر رسالة ( القبر عذابه ونعيمه )(/2)
العذر بالجهل في أصول الدين
السؤال :
أنا حديث عهد بمعرفة مذهب السلف الصالح في كثير من مسائل العقيدة و منها ما يتعلّق بأسماء الله تعالى و صفاته ، و سؤالي عن أبويّ و من في منزلتهما من التقدم في السن و التأخر في العلم ، حيث أفضى بعضهم إلى ما قدم و هو جاهل بمذهب السلف في مسائل الإيمان و الصفات و نحوها من دقائق مسائل المعتقد ، فهل هم معذرون بجهلهم في ذلك أم لا ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
من المعلوم ضرورةً أن النبي صلى الله عليه و سلَّم قد بلَّغ الرسالة و أدى الأمانة ، و كان ممّا بلَّغه لأمته مسائل الإيمان و الكفر ، و إن كان ذلك على سبيل الإجمال في بيان المكفِّرات ، دون تعداد آحاد المسائل القولية و الفعلية التي يكفر صاحبها ، و على هذا الأساس ساغ اختلاف الأمَّة في التكفير ببعض الذنوب كترك الصلاة ، و تعاطي السحر ، و اتِّخاذ سبِّ الصحابة و تكفيرهم ديناً ؛ و إن كان الحقُّ فيها واحداً لا يتعدد و إن خفي على بعض أهل العلم .
غير أن عدم بيان المكفرات على سبيل الإفراد و التعداد منه صلى الله عليه و سلم لمن يدخل الإسلام من آحاد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ، لا يلزم منه أنَّها غير معلومة لمن تتبع نصوص الشريعة كتاباً و سنَّة ، بل هي معلومة على وجه الإجمال ، و إن تعدَّدت صورها ، و جدَّت صور من المكفِّرات اللفظية و الفعلية في العصور المتأخرة ، كسبّ الصحابة و اتِّخاذه ديناً ، و ردِّ التحاكم إلى ما أنزل الله جملةً و استبداله بزبالات الأذهان ، و أهواء بني الإنسان ، فهذا كله لم يكن له و جود في الصدر الأوَّل ، و ربَّما لم يكن يخطر ببال أحدٍ من السلف أن يوجد في يوم من الأيام .
قال أبو محمد بن حزم الظاهري رحمه الله : مَن ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدَع أحداً يُسلم حتى يوقِفَه على هذه المعاني كان قد كذب بإجماع المسلمين من أهل الأرض ، و قال ما يدري أنه فيه كاذب ، و ادعى أن جميع الصحابة رضي الله عنهم تواطئوا على كتمان ذلك من فعله عليه السلام ، و هذا المحال ممتنع في الطبيعة ، ثم فيه نسبة الكفر إليهم ؛ إذ كتموا ما لا يتم إسلام أحد إلا به . و إن قال : إنه صلى الله عليه و سلم لم يدع قط أحد إلى شيء من هذا ، و لكنه مودع في القرآن ، و في كلامه صلى الله عليه و سلم قيل له : صدقت ) [الفصل في الملل والأهواء والنحل : 3 / 141 ].
قلت : و بناءً على هذا الأصل وقع الخلاف بين أهل العلم في مسألة العذر بالجهل في أصول الدين ، أو عدَمه ، فذهب جلُّهُم إلى اعتبار العذر بالجهل ممن لم تُقَم عليه الحجَّة ، و ذهب آخرون إلى عدم اعتباره .
و الأدلَّة الشرعية تشهد لمذهب الجمهور ، و هم القائلون : يُعذَر الجاهل بجهله في أصول الدين ما لم تبلغه الحجَّة ، و هذا فيما إذا كان مِثْلُه يجهلها لبُعده عن ديار الإسلام ، أو عدَم من يُعلِّمه ، أو نحو ذلك ، و قد قرر هذا عدد من الأئمة الأعلام ، كالإمام الشافعي رحمه الله ، فقد أخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى ، قال : سمعت الشافعي يقول: ( لله أسماء و صفات لا يسع أحدا ردها ، و من خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر ، و أما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل و لا الرؤية و الفكر )
و قال ابن عبد البر رحمه الله : ( من جهل بعض الصفات وآمن بسائرها لم يكن بجهل البعض كافرا لأن الكافر من عاند لا من جهل ، و هذا قول المتقدمين من العلماء و من سلك سبيلهم من المتأخرين ) [ التمهيد : 18/42 ] .
و إلى هذا ذهب ابن حزم الظاهري ، الذي أفاض في تقرير عُذر الجاهل ما لم يبلُغه الحقُّ فيعاند ، و سنذكر بعض قوله في هذا لاحقاً إن شاء الله .
و هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال : ( فإنه بعد معرفة ماجاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن يدعو أحداً من الأموات و لاالصالحين و لاغيرهم لا بلفظ الاستغاثة و لا بغيرها و لا بلفظ الاستعاذة و لا بغيرها ، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت و لا إلى ميت و نحو ذلك بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور و أن ذلك من الشرك الذي حرمه الله و رسوله ، لكن لغلبة الجهل و قلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه [ مختصراً من : الاستغاثة الكبرى : 1/629 و ما بعدها ] .(/1)
و قد صرَّح في مقام آخر باشتراط قيام الحجة على الجاهل قبل الحكم بكفره ، فقال رحمه الله : ( و الاستغاثة بالرسول ؛ بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم كما أنه يستغاث بغيره بمعنى أن يطلب منه ما يليق به ، و من نازع في هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به و إما مخطئ ضال و أما بالمعنى الذي نفاه الرسول عليه الصلاة و السلام فهي أيضاً مما يجب نفيها ، و من أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها ) [ الاستغاثة الكبرى : 1 / 298 ] .
و لولا الإطالة لتتبعت و جمعت الكثير من أقوال السلف و الخلف في تقرير العذر بالجهل في أصول الدين فضلاً عن فروعه ، و لكن بشرطه ، و حسبنا في هذا المقام ما قدَّمنا ، و هو المذهب الصحيح الذي تشهد له الأدلة النقلية و العقلية ، و منها :
أوَّلاً : ما رواه الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ أَنَّ رَجُلاً كَانَ قَبْلَكُمْ رَغَسَهُ – أي رزقه - اللَّهُ مَالاً فَقَالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ : أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ ؟ قَالُوا : خَيْرَ أَبٍ . قَالَ : فَإِنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ ؛ فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ فَفَعَلُوا فَجَمَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ مَا حَمَلَكَ قَالَ مَخَافَتُكَ فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ ) .
و في رواية عند مسلم ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ قَالَ : ( أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَىَ نَفْسِهِ ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَىَ بَنِيهِ فَقَالَ : إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي ، ثُمَّ اسْحَقُونِي ، ثُمَّ اذْرُونِي فِي الرِّيحِ فِي الْبَحْرِ ، فَواللهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي ، لَيُعَذِّبُنِي عَذَاباً مَا عَذَّبَهُ أَحَداً ، قَالَ : فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ ، فَقَالَ لِلأَرْضِ : أَدِّ مَا أَخَذْتِ ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ . فَقَالَ لَهُ : مَا حَمَلَكَ عَلَىَ مَا صَنَعْتَ ؟ فَقَالَ : خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ ! أَوْ قَالَ : مَخَافَتُكَ ! فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ ) .
قال الحافظ في الفتح : ( قال الخطابي : قد يستشكل هذا فيقال : كيف يغفر له و هو منكر للبعث و القدرة على إحياء الموتى ؟ و الجواب : أنه لم ينكر البعث و إنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب ، و قد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله . قال ابن قتيبة : قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك ) .
قال أبو محمد بن حزم : ( فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز و جلّ يقدر على جمع رماده و إحيائه ، و قد غفر الله له لإقراره ، و خوفه ، و جهله ) [ الفصل في الملل والأهواء والنحل : 3 / 141 ] .
قلت : و ذهب بعض شراح الحديث إلى تأويل قوله : ( لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي ) فأبعد النجعة ، و صرف النص عن ظاهره بلا قرينة صارفة .
قال ابن حجر : ... و قال ابن الجوزي : جحده صفة القدرة كفر اتفاقاً، وإنما قيل : إن معنى قوله : ( لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي ) أي ضَيَّقَ ، و هي قوله : ( و من قُدِر عليه رزقه ) أي ضيق ، و أما قوله – في رواية - : ( لعلي أضل الله ) فمعناه لعلي أفوته ، يقال : ضل الشيء إذا فات و ذهب ، و هو كقوله : ( لا يضل ربي و لا ينسى ) و لعل هذا الرجل قال ذلك من شدة جزعه و خوفه كما غلط ذلك الآخر فقال أنت عبدي و أنا ربك ، و يكون قوله : ( لَئِنْ قَدَّرَ عَلَيَّ رَبِّي ) بتشديد الدال ؛ أي قدر علي أن يعذبني ليعذبني ، أو على أنه كان مثبتاً للصانع و كان في زمن الفترة فلم تبلغه شرائط الإيمان . و أظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته و غلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول ، و لم يقله قاصدا لحقيقة معناه بل في حالة كان فيها كالغافل و الذاهل و الناسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه ، و أبعد الأقوال قول من قال : إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر .اهـ.
قلت : و هذه التأويلات لا وجه لصرف ظاهر النص إليها ، و لا قرينة تدل عليها ، و إنَّما صار إليها من قال بها تحرُّجاً من القول بالعُذر بالجهل في أصول الدين ، فلجأ إلى التأويل ، و أبعدَ في الطلب .(/2)
و قد شنَّع ابن حزم على من جاء بها – و إن لم يسمِّه - فقال رحمه الله : و قد قال بعض من يحرف الكلم عن مواضعه أن معنى قوله ( لئن قدر الله علي ) : إنما هو لَئِن ضيَّق الله علي ، كما قال تعالى : ( و أما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه ) ؛ و هذا تأويل باطل لا يمكن ؛ لأنه كان يكون معناه حينئذ لئن ضيق الله علي ليضيقن علي ، و أيضا فلو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق و يُذَرَّ رماده معنى ، و لا شك في أنه إنما أمره بذلك ليُفلت من عذاب الله تعالى .اهـ . [ الفصل في الملل والأهواء والنحل : 3 / 141 ، 142 ] .
ثانياً : سؤال الحواريين نبي الله عيسى عليه و على نبيِّنا الصلاة و السلام ، و قولهم الذي حكاه الله عنهم في كتابه : ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ ) [ المائدة : 5 / 112 ] .
قال أبو محمد بن حزم رحمه الله : ( فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله عز وجل عليهم قد قالوا بالجهل لعيسى عليه السلام هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ و لم يبطل بذلك إيمانهم ، و هذا ما لا مخلص منه ، و إنما كانوا يكفرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة و تبيينهم لها ) [ الفصل في الملل والأهواء والنحل : 3 / 142 ].
و ممَّن خالف مذهب الجمهور في مسألة العذر بالجهل ، من لم يجد ما يمكن أن يؤوِّل به هذه الآية الكريمة ، فصار إلى إمرار الآية على ظاهرها ، و لكن على ما قرأه الكسائي رحمه الله : ( هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ ) تَستطيعُ – بتاءٍ مفتوحة – و ربَّكَ - بنصب الباء المشدَّدة - وهي قراءة علي و عائشة و ابن عباس و مجاهد . [ انظر : تفسير القرطبي : 6/365 و الطبري : 7/129 و ابن كثير : 2/117 و فتح القدير : 2/93 ] .
و في تفسير الآية على هذه القراءة قال القرطبي : ( قال الزجاج : هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله ، و قيل : هل تستطيع أن تدعو ربك أو تسأله ، و المعنى متقارب و لا بد من محذوف ) [ تفسير القرطبي : 6 / 365 ] .
و روى رحمه الله في تفسيره عن أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنها : ( كان القوم أعلم بالله عز و جل من أن يقولوا : ( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ). قالت : و لكن : ( هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ ).
و على هذا المعنى لا يكون الحواريُّون قد قالوا ما قالوه شاكين في قدرة الله ، و لا يكون ممَّا يُكفِّر ، و بالتالي فلا حجّة في الآية على العذر بالجهل ، فضلاً عن وقوعه .
و لكن لا تقوم حجة بهذا التفسير في مقابل حجة الجمهور على القراءة المشهورة ، بل غاية ما يمكن أن يقال – تنزلاً – أن كلا القولين محتمل ، و لكن رأي الجمهور يؤيده الدليل السابق ، و ما سيأتي ، فيبقى عليه المعوَّل ، و به الفتيا ، و الله أعلم .
ثالثاً : الاستدلال بالإجماع ، و قد ورد في كلام الإمام ابن حزم الظاهري حيث قال : ( برهانٌ ضروريٌ لا خلاف فيه : و هو أن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم ، و هو أن كل من بدل آية من القرآن عامداً ، و هو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك ، و أسقط كلمةً عمداً كذلك ، أو زاد فيها كلمة عامداً ، فإنه كافر بإجماع الأمَّة كلِّها ، ثم إن المرء يخطئ في التلاوة ، فيزيد كلمة و ينقص أخرى ، و يبدل كلامه جاهلاً ، مقدراً أنه مصيب ، و يكابر في ذلك ، و يناظر قبل أن يتبين له الحق ، و لا يكون بذلك عند أحد من الأمة كافراً ، و لا فاسقاً و لا آثماً ، فإذا وقف على المصاحف أو أخبره بذلك من القراء من تقوم الحجة بخبره ، فإن تمادى على خطئه فهو عند الأمة كلِّها كافر بذلك لا محالة ، و هذا هو الحكم الجاري في جميع الديانة ) [ الفصل في الملل والأهواء والنحل : 3 / 142 ].
قلتُ : و هذا الكلام على قوته فيه وجه آخر ، و هو قياس الأولى ؛ فإذا كان المخطئ في التلاوة معذوراً بجهله و إن أحال المعنى عن المراد بزيادة أو نقصان أو تصحيف ، مع أنَّه لا يتصور عجزه عن تعلُّم تلاوة آي الكتاب ، لكثرة المعتنين بتعليمه ، و نشر علومه ، و تفسيره في كل زمان و مكان ، و ندرة الخلاف في ذلك بين أبناء المذهب الواحد ، بل و بين الفرق الإسلامية ، على تعددها ، و تشعب مسالكها ، فمن الأولى أن يكون معذوراً بجهله في دقائق العلم ، و خفايا المسائل – بالنسبة لمن هو في مثل حاله – كمسائل الأسماء و الصفات التي قد لا يتسنى له من يعلمه إياها ، أو يرشده إلى مذهب أهل الحق و التحقيق فيها ، خاصة و أنَّ الخلاف فيها قائم على أشدِّه بين الفرق و الطوائف .(/3)
و يحسن بنا و نحن نؤكد على مذهب الجمهور في العذر بالجهل في أصول الدين أن نؤكِّد على أنَّ العذر لا يقبل ممن يعيش بين ظهراني المسلمين و فيهم العلماء و الدعاء ، و لكن الجاهل المعذور بجهله هو حديث العهد بدين الإسلام ، أو من يعيش في منأى عن بلاد المسلمين ، أو حيث لا علم و لا علماء و لم يتسنَّ له من يعلمه ، أو يوقفه على ما يجب عليه اعتقاده من مسائل الأصول .
قال الإمام الشافعي رحمه الله : ( لو عُذِرَ الجاهل ؛ لأجل جهله لكان الجهل خيراً من العلم إذ كان يحط عن العبد أعباء التكليف و يريح قلبه من ضروب التعنيف ؛ فلا حجة للعبد في جهله بالحكم بعد التبليغ و التمكين ؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرُسل ) [ المنثور في القواعد ، للزركشي : 2 / 17 ] .
فلا يغيبن عنك يا يطلب الحق بدليله أن الأمر ليس على إطلاقه ، و لكنَّه مقيَّد مضبوط عن أهل العلم ، فخذه بقيده ، و اضبطه بضبطه ، و الله يتولاك .(/4)
العراق والأحداث الأخيرة
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
دأبت أمريكا منذ سنين في أن تلحَّ برغبتها تصدير ما تسميه " الديمقراطية " إلى شعوب العالم كله , تحت شعار أن الديمقراطية تهب الحرية للشعوب والخير للبشرية ، وأنها هي وحدها تقدّم هذا الخير . ونهض كُتَّاب من الغرب ومن الشرق يدافعون عن ذلك بشتى أنواع الزخارف ، وسقط في حمأة الديمقراطية وضلال زخارفها الكثيرون من المسلمين , حتى أصبح بعضهم داعية لها لا للإسلام . وجاء كتاب " نهاية التاريخ والرجل الأخير " " لفرانسيس فوكوياما " يحاول إِبراز هذا الادعاء ويجعل الديمقراطية الأمريكية بالذات نهاية مطاف الإنسان ، ليبلغ بها فردوسه الدنيوية . وقبل ذلك جعل "ماركس " وجماعته من " الشيوعية " المرحلة الأخيرة في التطور البشري ليصل بها الإنسان إلى فردوس الدنيا . وفي هاتين الفلسفتين ، فلسفة الديمقراطية وفلسفة الشيوعية , وكذلك في الفلسفة العلمانية , لا يوجد عندهم آخرة ولا فردوس في الآخرة ، فلا اعتبار للدار الآخرة فيها .
ويقول فوكوياما : " إن الإسلام " يحمل من المبادئ ما يمكن أن يقف في وجه الديمقراطية ، إلا أنه لا خوف من ذلك لأن المسلمين بينهم من العداء ما يذهب بخطرهم " . نعم ! إن واقع المسلمين اليوم يشير إلى ذلك ، ولكن نسي "فوكوياما " أن المستقبل بيد الله ، والغيب لله وحده ، فهو وأمثاله لم يقيموا لله وقضائه وقدره التفاتاً ، نسوه حتى يفاجئهم الله بقدره الغالب وحكمته البالغة . ولا بد أن يلتقي المؤمنون الصادقون صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص .
لحكمة يريدها الله أعطى الغرب ، وأمريكا بخاصة ، قوة علميّة وصناعية وسلاحاً فتاكاً . وإن هذا ابتلاء من الله سبحانه وتعالى ، ليرى الله ما يفعل هؤلاء بنعمة الله عليهم ، ولتقوم الحجة عليهم يوم القيامة أو تقوم لهم إن أحسنوا ولم يعتدوا ولم يظلموا . ومن ناحية أخرى تمضي سنة الله في الحياة الدنيا ليجني الناس ، كلُّ الناس ما كسبته أيديهم أو ما اكتسبته , وليرى الله ما يفعل المسلمون , لتقوم الحجة لهم أو عليهم .
الديمقراطية التي يلحُّ بها الغرب وأمريكا بخاصة انطلقت منذ عهد بعيد من الوثنية اليونانية ، لتقرر أن الحكم للشعب ، والشعب وحده هو الذي يبيّن الحق والباطل ، والحلال والحرام ، والصواب والخطأ ، ولا سلطان أبداً فوق سلطان الشعب. هذا هو مفهوم اليمقراطية, وهذه هي قاعدتها الأساسية. وسرت هذه الوثنية في أوروبا شِرْكاً بالله سبحانه وتعالى مع سائر أفكار اليونان ومذاهبهم ، حتى صاغها أهلها اليوم نظاماً يُقدِّم للشعوب الفتات ، ويملأ جيوب المجرمين من حصاد تعب الشعوب ، وليقدِّم كذلك الخدر اللازم من خلال الزخارف الكاذبة ، والفتنة الهائجة ، والشهوات الثائرة من جنس وخمر ، وليطلقوا المرأة عارية تنفث لهيب الشهوة خدراً قاتلاً . فتسكن النفوس إلى حرّيّة فرديّة متفلّتة في ميدان الإباحة والشذوذ والخمور والخدر ، وأما في ميدان الكلمة فالحرية مكفولة في نطاق الكتابة والمظاهرات " المؤدَّبة " ، دون أن يكون لهذه أو تلك أثر في اتخاذ القرار . فالقرار يؤخذ في عتمات الكواليس وظلام الهيئات ليصدر في لحظة مفاجئة ، يحمل معه قوة التنفيذ والإكراه ، ويستغلُّ الشعب المخدَّر عند الحاجة إليه.
وجاءت الأحداث الأخيرة لتنزع آخر " ورقة توت " عن عورات الديمقراطية, حين أصرت أمريكا على الهجوم على العراق , وحشدت أعتى الأسلحة والبوارج والطائرات والصواريخ ومئات الألوف من الجنود , وانضمت إليها إنكلترا وأستراليا وإسبانيا وغيرها بحدود خمس وأربعين دولة من دول الإجرام المعلن , ثمَّ خرجت الملايين من الشعوب في جميع عواصم العالم رافضة الحرب على العراق ، وخرجت الملايين في أمريكا نفسها لتعبّر عن رأي النسبة الأعلى لدى الشعب الأمريكي , وفي إنكلترا تخرج الملايين تعبر عن رأي الشعب ، واستقال مسؤولون هنا وهناك احتجاجاً على سياسة الحرب ، وضجَّ العالم كله مقالاتٍ ومظاهراتٍ واحتجاجاتٍ , وألقى الرئيس الأمريكي ، رئيس الديمقراطية ، بكل ذلك عرض الحائط وأعلن هو وزمرته الإصرار على الحرب ! أين الديمقراطية ؟! وأين حق الشعوب ؟! وأين الحرّية ؟!
يا شعبُ باسمك كم تُدار محاكم والشعب لا يدري ولا هو يحكم
سقطت الديمقراطية في وحول الأهواء ، وتناثرت مع عواصف الطغيان ، وانكشفت سوءاتها ، ووقف الناس حائرين ، لا يدرون ما يفعلون : مجلس الأمن ، هيئة الأمم المتحدة، الدول الكبرى والصغرى ، ودول عدم الانحياز ، كأنهم شُلُّوا أمام دكتاتورية الآلة العسكرية الأمريكية ، آلة سلاح التدمير الشامل الذي ابتُليتْ به أمريكا , لتُكْشَفَ النفوس والأفكار والمبادئ ، ولتُعرَّى الحقائق جليّة دون تزييف ولا ستار . وقفت فرنسا وألمانيا وروسيا والصين وغيرهم ضد الحرب بإصرار ، ولكن ذلك لم يُجْدِ ، ومضت أمريكا في استهتارها بالعالم كله .(/1)
وسرعان ما أخذت مواقف هؤلاء تتبدَّل بعد بدء الحرب بأيام , في صورة مخزية كشفت أن الخلاف بينهم ليس خلاف مبادىء وقيم , وإنما هوهو خلاف على مطامع , وعلى أُسلوب الفتك بالضحية , وعلى اقتسام الغنائم من فريسة خطَّطوا كلُّهم للإيقاع بها في شَرَكِهم .
إِن الذي يجري اليوم آية من آيات الله ، ودروس وعبر ممتدة مع كل لحظة وكل موقف وكل كلمة من فرد أو شعب أو دولة . كلهم محاسَبون بين يدي الله ، وكلهم مسؤولون ، وكلهم تقوم عليهم الحجة أو لهم على موازين قسط يضعها الله يوم القيامة ، على قدر ما يحملون من مسؤوليّة ، وعلى قدر ما يرفعون من شعارات .
ولا يقف الحساب والبلاء عند يوم القيامة فحسب ، وإنما هو ابتلاء وعقاب أدنى في الحياة الدنيا على قضاء ربّاني حق , وعقاب أكبر يوم القيامة على موازين قسط يضعها الله سبحانه ونعالى :
( ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون )
[السجدة :21 ]
لقد سقطت الشعارات وبانت السوءات .
الشعارات كلها سقطت في الـ أرض ! أهوت مزاعم ووعود
ومن الآيات البينات أن أمريكا ليست وحدها المسؤولة عن الفتنة التي تجري اليوم . إن ما يجري اليوم نتيجة طبيعية لمرحلة سابقة أدت إلى هذه النتائج ، وتلك المرحلة السابقة نتيجة لمرحلة أخرى سابقة لها ، لتتوالى الأحداث كلها على سنن ربانيّة ثابتة :
( سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً )
[ الأحزاب : 62 ]
إنّ تواطؤ الظالمين في الأرض زمناً طويلاً على الفتنة والفساد وقهر الشعوب ونهب خيراتها وثرواتها ، وصمت المستضعفين أو ممالأة المستكبرين ، كان له دور كبير فيما آلت إليه أوضاع العالم اليوم والأحداث الأخيرة التي تفجرّت حول العراق :
( وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص )
[ إبراهيم : 21 ]
طلبت أمريكا أولاً خروج صدام حسين من الكويت في حرب الخليج الثانية سنة 1990م ، وادعت أن هذا هو المسوغ الوحيد للحرب التي أعلنتها ، وأخفت سائر الأسباب الجوهرية . وخرجت العراق من الكويت ، وتجدّدت بعد ذلك طلبات ثم طلبات ، واستقرّ الأمر على طلب إزالة أسلحة الدمار الشامل ، ودخل المفتشون فأزالوا وأزالوا ما شاؤوا من الأسلحة ، وأخذت الأمور تتعقَّد ، وأخذ عمل المفتشين يتحول إلى أعمال الجاسوسيّة لحساب أمريكا وإسرائيل وإلى نشر الفتن والفساد .
ولما كُشف الأمر انسحبوا بصورة مفاجئة بين أحقاد سوداء تفجرت من رئيسهم ومن بعض أعضائهم . فتشوا المنازل والقصور وغرف النوم والمصانع والساحات .
ثم تجدَّدت المشكلة ، وانحصر الطلب أولاً في أن يقبل الرئيس العراقي بعودة المفتشين . وواضح أن أمريكا كانت تود ألاَّ يقبل العراق بعودتهم ، لتتخذ من ذلك ذريعة لحرب ظالمة مبيّتة في نفسها . فقبل العراق وبدأ المفتشون عملهم ، وتعاون العراق تعاوناً كبيراً ، وجاءت تقارير المفتشين في صالح العراق . فأُسقط في يد أمريكا ، وأخذت تدّعي أن المفتشين لا يستطيعون أن يزيلوا أسلحة الدمار الشامل التي يخفيها العراق ، وأنه لا بد من الحرب . واختلف مجلس الأمن وأعضاؤه حول ذلك ، أمريكا وإنكلترا دعاة الحرب ، وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين دعاة الحل السلمي الذي تتبنّاه شعوب الأرض كلها ، ودول كثيرة ! ولكنهم كلُّهم لن يختلفوا ساعة وقوع الضحيَّة واقتسام الغنائم أو قبل ذلك ! فهل هناك إجرام أبعد من هذا الإجرام , وفساد في الأرض أشد من هذا الفساد ؟! وانكشاف للمجرمين أكثر من هذا الانكشاف ؟!
فموقف الدول التي تتبنى الحل السلمي والدبلوماسي لم يكن مبنيَّاً على حب في العراق ومصلحته ومصلحة المسلمين . إن الخلاف بين الفريقين خلاف حول المغانم واقتسامها , حتى لا تنفرد بها جهة واحدة . وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فعن ثوبان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها. فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟قال : بل أنتم يومئذ كثير.ولكنكم غثاء كغثاء السيل .ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم , وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن . " فقال قائل : يا رسول الله! وما الوهن ؟ قال: حبُّ الدنيا وكراهية الموت ."
[رواه أبو داود ]
إنها المصالح الدنيوية المتصارعة , مصالح المجرمين في الأرض , يلتقون على اقتسام الغنائم ويتنازعون عليها . اختفت القيم والمبادىء , وأصبحت شعارات يتاجرون بها , وأصبحوا جميعهم وحوشاً مفترسة جشعة نهمة .(/2)
وأسوأ من ذلك أن جعل المجرمون من أرض العراق ساحة تجارب , ليجربوا فيها أحدث ما اخترعوه من أسلحة الدمار والفتك , ولتظل مصانعهم تعمل لإفناء البشرية , وليجنوا الأرباح الطائلة من الفتك بأرواح الشعوب والأطفال والنساء والشيوخ والفتيان . العالم الإسلامي أصبح ميدان تجارب وسوق استهلاك , إلا أن يصحو المسلمون قبل فوات الأوان .
ومع ضخامة الاحتجاجات ضد الحرب ، مضى الرئيس الأمريكي مع إنكلترا وإسبانيا يُصرون على الحرب من أجل نزع أسلحة الدمار الشامل من العراق ، ادعاء باطل يخفي النيّة الإجرامية ضد العراق . ومضت المهزلة إلى آخرها حين تجاهل الرئيس الأمريكي مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة والعالم كله . ووجه في خطاب عام إنذاراً إلى الرئيس العراقي ليغادر البلاد خلال ثمان وأربعين ساعة أو يواجه الحرب . وردّت العراق فوراً : على بوش وبلير هما أن يغادرا ! وذلك يوم الإثنين 14/1/1424هـ الموافق 17/3/2003م .
هذا النهج ليس نهج دول تحترم مؤسساتها والمؤسسات الدولية ، والقانون والنظام . إنه عمل عصابات تحتمي بترسانة أسلحتها لتقوم بسطو مسلح ، وعدوان ظالم دونه كل أشكال الاستعمار القديمة ، فاق هذا الأُسلوب كلّ الأساليب السابقة , ينفخ الكِبْر فيه جبروت الغرور وسكرة السلطة .
بأي حق تطلب دولة من دولة أخرى أن يغادر رئيسها البلاد ؟ ! بأيّ قانون أو شريعة ، إلا شريعة الغاب وتعطُّش الوحوش . والأسوأ من ذلك أن الرئيس الأمريكي يطلب من الجيش العراقي أن لا يقاتل الجيش الأمريكي الزاحف عليه ، ويطلب من الشعب العراقي أن يثور على دولته ، ويدعي أنه قادم لتحرير العراق وشعب العراق !
الرئيس الأمريكي بأمسِّ الحاجة إِلى أن يحرِّر نفسه من نزوات الشر ، وسطوة الكبر ، والجشع القاتل ، وعبوديته لأهوائه وشهواته ، وجنون العظمة , وليترك شعوب الأرض وقادتهم لأنفسهم ، فهم ما زالوا في حالة صحيّة أسلم من حالته ، ووعي أصدق من وعيه مهما ارتكبوا من أخطاء .
كيف لا يحسب الرئيس الأمريكي ما ستجرّه أسلحته المدمرة من هلاك لألوف الأطفال والنساء والشيوخ غير المقاتلين ، وربما لمئات الألوف أو الملايين ؟! كيف يدَّعي الديمقراطية وحقوق الإنسان وقد فرض على العراق حصاراً استمر أكثر من اثنتي عشرة سنة ، كان ضحاياه مليون طفل عراقي على الأقل ، غير المرضى والمعاقين ، وغير نقص الدواء والغذاء لسنين طويلة يصعد فيها أنين الأطفال والأمهات والشيوخ إلى بارئها وخالقها ، تشكو ظلم أمريكا وأعوان أمريكا في هذا الحصار الغاشم الذي لا يُقرُّه أي قانون إلا قانون المجرمين في الأرض . كيف لا يميز بين الحق والباطل وهو في هذا المستوى من المسؤولية ؟!
عجباً كل العجب ! يريد " بوش " إِزالة أسلحة الدمار الشامل العراقية التي يدعي دون برهان أنها مخبأة لدى العراق ، ثم يستخدم هو نفسه أسوأ أسلحة الدمار الشامل وأشدّها فتكاً ليزيل به أسلحة الدمار الشامل ! لماذا ؟! دع يا بوش أسلحة الدمار الشامل التي تتوهمها في العراق والتي طال بحثك عنها أعواماً طويلة ، واطِوِ شرّ أسلحتك عن شعوب الأرض ! ودع العراق يعالج قضاياه وحده ، أو من خلال العالم الإسلامي والعربي ! ودع أفغانستان وغيره من البلدان التى اعتديت عليها ودمرتها تحت شعارات كاذبة خادعة , وجشع المطامع المكشوف .
لا أظن أن التاريخ البشري عرف إجراماً أشدّ من إجرام أمريكا ، ولا كذباً أبعد من كذبها ، ولا مراوغة أبعد من مراوغتها ! ماذا يريد بوش ؟! ماذا يريد ؟! لو كان العراق لا يملك هذا القدر الكبير من البترول ، هل كان بوش يبالي بما يدعيه كذباً من تحرير العراق ، ويدفع جيوشه وآلته العسكرية الجبارة ، ويتحمل هذه النفقات الهائلة من أجل ما يدعيه زوراً وبهتاناً من تحرير الشعب العراقي ، أو إزالة أسلحته ؟! ولا أظن أن التاريخ البشري شاهد عدواناً أبعد إجراماً ووحشية من عدوان أمريكا وحلفائها على العراق وكذلك على أفغانستان . ولو أن تاريخ الغرب كله عدوان وظلم وفساد في الأرض كبير , منذ قرون خلت .
لو نظرنا في الأرض لرأينا جرائم أمريكا ممتدة في بقاع كثيرة منها : في أمريكا الجنوبية والوسطى ، وفي أفريقيا ، وفي اليابان ، وفي آسيا ، وأوروبا, جرائم ممتدة ، ومؤامرات متواصلة ، وخطف رئيس ، وقتل رئيس ، وانقلاب على رئيس .
عجباً كل العجب أن يكون رئيس أكبر دولة كذّاباً مخادعاً مراوغاً لا يستحي من ذلك كله . ولا يستحي من وحشية جرائمه وهولها في الأرض كلها .
منذ البداية ، ومنذ أكثر من ثلاثين سنة وأمريكا تحوم شهواتها حول العراق لأسباب اقتصادية مرتبطة بالبترول ، ولأسباب سياسية مرتبطة بإسرائيل ومصالحها ، مرتبطة بالجشع الأمريكي الذي يريد السيطرة الكاملة على العالم ، ليكون ذلك جزءاً من نهج عام وخطة مبيّتة شاملة .منذ أكثر من ثلاثين سنة وأمريكا تضع خططها الإجرامية ضد العراق وغيرها من البلدان التي تدخل في دائرة مطامعها العدوانية الإجرامية .(/3)
وتدرّجت ادعاءات أمريكا خلال هذه السنين كما ذكرنا قبل قليل ، حتى وصلت جرأتها إلى مطالبة رئيس العراق بمغادرة العراق مع ولديه خلال ثمان وأربعين ساعة وإلا واجه الحرب . والسؤال : ما هو الادعاء القادم ؟! ربما يكون احتلال العراق تحت شعار إِعمارها بعد تدميرها ، ثم تحرير الشعب العراقي الذي ذاق من ظلم أمريكا ما لم يذقه من أي جهة أخرى ، بحصار إجرامي تجاوزت ضحاياه ضحايا هيروشيما وناجازكي حين ألقت أمريكا قنابلها النووية هناك ، ثمّ الادِّعاء بإقامة حكم ديمقراطي أمريكي في بلد هدَّمت أمريكا وحلفاؤها المجرمون إمكاناتها وطاقاتها ، هدمتها أمريكا وحلفاؤها أنفسهم ، وجرّدوا الشعب العراقي من قواه وإمكاناته , وادعوا أنهم سيعيدون إعماره :
ما قيمة العلم الذي يُلهبُ حُمَّى السَّبَق
يُلهِبُ من جنونه ومن هوى أو شبقِ
يبني ويُعلي ما بنى شواهقاً في أُفقِ
يُنفق منها عُمرَه وفيْضَ كنزٍ مُغدِقِ
ثمّ تراه ينثني في لحظة من نزقِ
يهدِمها إلى الثرى كَأنها لم تسمق
ثمّ يقول ها أنا أعيدها وأرتقي
فهذه حضارة واهية من ورق (1)
ستتوالى ادعاءات الرئيس الأمريكي ، ادعاءات مزيفة يرفضها العقل والمنطق والقانون ، ويرفضها الدين ، ترفضها كلُّ شريعة إلا شريعة الغاب . وتريد أمريكا أن تدخل العراق وتحتله ، سواء بقى صدام أم لم يبق . وهذا ما أعلنه بوش أخيراً بشكل واضح صريح , حين قال : سندخل العراق حتى لو رحل صدّام !
إن هجوم أمريكا على العراق هجوم على العالم الإسلامي كله , وهو امتداد لإقامة دولة اليهود في فلسطين , وامتداد لاحتلالهم أفغانستان , وتمهيد لاحتلال غيرها من أرض الإسلام , في هجمة مجنونة حاقدة على الإسلام ودار الإسلام , هجمة صليبية مكشوفة , حيث حملت أسلحتهم ودباباتهم شعار الصليب بصورة تحدٍّ صارخ , لا لإيمان كبار المجرمين بالصليب أو بعيسى عليه السلام , ولكنها وسيلة لإثارة عواطف العامة الذين لا يعرفون الدين إلاعواطف وأفكاراً مضطربة متناقضة .
ماذا يجري في فلسطين على أيدي أمريكا وإسرائيل ؟! ظلمٌ وإجرام وقتل وتدمير وتجاهل لقرارات مجلس الأمن ، وتجاهل لكل حق أو اتفاق ! وإسرائيل تملك من أسلحة الدمار الشامل ما لا تملكه العراق ، فلماذا لا تُزال أسلحة الدمار الشامل من إسرائيل التي هي خطر على الإنسانية كلها ؟! لماذ يُسْكتُ عنها وتقوم الدنيا وتقعد على ما يُتوهَّم أنه مخبأ في العراق دون دليل ، وبعد تفتيش استمرّ أكثر من اثني عشر عاماً ؟! لماذ السكوت عن إسرائيل ؟! لماذا يباح لها أن تملك هذا السلاح المدمر ، ويباح لأمريكا وروسيا والصين وفرنسا وغيرها من الدول الكبرى وبعض الدول الصغرى ، ولا يباح أبداً لبلد عربي مسلم مثل العراق ؟!
إذن هناك كيد مخفيُ ، ومكر مطويٌّ ، آن لنا نحن المسلمين أن نفيق ونستيقظ لندرك حقيقة ما يجري ضد المسلمين في الأرض كلها ، حرب على الإسلام والمسلمين بأسلوب جديد ماكر يرفع شعارات الإنسانية الكاذبة ، والديمقراطية المزعومة ، وحقوق الإنسان ، والنظام العالمي ، والحداثة ، والعولمة ومذاهب شتى , صيغت لتصب حقدها وحربها على الإيمان بالله الواحد القهار ، على توحيده وعبادته دون شرك ، على شريعة الإسلام ! حرب ضروس تستخدم كل الوسائل العلمية والفنية والثقافية والأدبية والاقتصادية والسياسية والسلاح المدمّر الفتاك ، وخبرة السنين الطويلة في مقارعة الإسلام والكيد له والمكر به وبالمسلمين . المجرمون في الأرض ، كما يسميهم القرآن الكريم ، يتولون كِبْر هذه الجريمة المروّعة الممتدة .
لماذا يحاربون الإسلام ؟! لأنهم مجرمون يعبدون مصالحهم المادية وأطماعهم الممتدة إلى ثروات الأرض كلها ، يعبدونها من دون الله ، هي إلههم ، ومنها تنبع شرائعهم ، وأهواؤهم ، وعلاقاتهم ، لا من أيّ شيء آخر ، على جشع لا يتوقّف ، وأطماع لا تهدأ .
هؤلاء عرفوا من خبراتهم الطويلة أنه لا يوجد في التاريخ البشري ما يقف أمام أطماعهم ويصد إجرامهم وعدوانهم إلا الإسلام كما أُنزل من عند الله وحياً على محمد صلى الله عليه وسلم . هذا الإسلام وحده في التاريخ البشريّ كله هو الذي حمل هذه المسؤولية والأمانة ، لا يقبل معها مساومة على حق ، ولا تنازلاً عن حق ، ولا قبولاً بظلم . لذلك بعث الله الأنبياء والمرسلين بهذا الدين الواحد الحق الذي خُتم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، في منهاج ربّاني منزل من عند الله ، قرآناً وسنة ولغة عربية ، ليحملها المؤمنون في الأرض على مدار التاريخ أُمة مسلمة واحدة أخذ الله عليها العهد والميثاق , لتوفي بحق العبادة الشاملة الممتدة ، والأمانة العظيمة ، والخلافة في الأرض ، وعمارتها بالإيمان والتوحيد وحضارته , في جهادٍ ماضٍ إلى يوم القيامة .(/4)
نعم عرف هؤلاء المجرمون حقيقة الإسلام ، وعلموا أنه لا مساومة ولا تنازل ولا قبول بظلم أو باطل . فلم يعد أمامهم من سبيل إلا أن يحاربوا الإسلام والمسلمين المتقين الموفين بعهدهم وميثاقهم مع الله ، أو يفتنوهم عن دينهم ويحرفوهم عن الصراط المستقيم . وهذه قاعدة ثابتة في التاريخ البشري يذكّرنا بها القرآن الكريم بإلحاح حتى لا تغيب عن قلب مؤمن أبداً :
( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن يُنزّل عليكم من خير من ربكم والله يختصُ برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
[ البقرة : 105]
( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق)
[ البقرة : 109 ]
( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير )
[ البقرة : 120 ]
وكذلك :
( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين . وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط المستقيم)
[ آل عمران 101،100]
وكذلك :
( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردّوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين . بل الله مولاكم وهو خير الناصرين )
[ آل عمران 150،149]
وكذلك :
( فاستقم كما أُمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير . ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون )
[ هود : 112، 113 ]
وكذلك :
( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون )
[ المجادلة : 22 ]
وتمتد الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة لتلحَّ بهذا الموضوع الخطير ، فتعالجه من جميع جوانبه معالجة متماسكة متناسقة ، لتبين للمؤمنين الموقف الإيماني الحق مع كل حالة ، حتى لا يُستدرجوا إلى تنازل ولا إلى انحراف ولا إلى توقف عن الوفاء بالعهد مع الله .
هذه حقائق ربانية أصدق من أيّ اجتهادات بشريّة تتنازعها الأهواء والخوف ومصالح الدنيا. وهذه الحقائق الربانية الثابتة تتميز كذلك من أي جهد بشري بأنها تربط قضايا الدنيا الإيمانية بالآخرة . إنها تجمع الوفاء في الدنيا والنجاة في الدنيا والآخرة , إنها نهج الإسلام . أما غيرها من الاجتهادات فإنها تعزل مصالح الدنيا المادية عن الآخرة ، لتصبح هي وحدها بعزلتها مصدر التفكير والتخطيط ، ومصدر الرأي والموقف ، وحافز الحركة والنشاط ، ومصدر تحديد الأهداف. هذا هو نهج العلمانية والديمقراطية !
من أجل ذلك يحارب المجرمون الإسلام وجنوده ، ويستغلون من أجل ذلك عواطف الجماهير المضللة عندهم وما تحمل من أوهام دينية يغرسونها فيهم ، لتظلَّ أداة استغلال كلما احتاجوا إليها في حربهم المسعورة . إنهم يستغلون كلّ الشعارات وزخارفها لتزيد الضلال والفتنة في الأرض ، وليصدوا عن سبيل الله . إن أحداث العراق اليوم ، وكل ما أعلنته أمريكا من مسوّغات للحرب ضد العراق ، لم تكشف أمريكا حتى الآن الأسباب الحقيقية التي تصعب عليهم المجاهرة بها . كيف يمكن أن يقولوا للعالم : نريد أن نسطو على العراق سطواً مسلحاً مدمراً ننهب خيراته وثرواته ؟! كيف يمكن أن يقولوا سنسحق كل قوة تقف أمامنا وأمام أطماعنا وأمام ظلمنا وعدواننا ؟! كيف يُقرون أمام العالم بأنهم لصوص مجرمون محترفون ؟! إنهم مجرمون في الحرب وفي السلم !
قضية العراق بالنسبة لهم ليست قضية النظام العراقي , ولا هي قضية تحرير الشعب العراقي . فهو ادعاء باطل كاذب , كذبه مكشوف . ولكن القضية هي العراق نفسه كلُّه ، شعبُه وثرواته وموقعُه وتاريخه وانتماؤه ، العراق الذي يمكن أن يهدد الأطماع والجشع في لحظة ما على قدر من الله ! العراق الذي يأتيه نظام ويذهب منه نظام ، ويبقى العراق هو البلد المسلم العريق ، بلد التاريخ الإسلامي ، بلد الأحداث الهائلة .
أما بالنسبة لنا نحن المسلمين , فالعراق بلد مسلم , هو بلدنا وشعبه شعبنا, وانتماؤه انتماؤنا , وما حدث فيه من اضطراب وخلل فهو كما حدث في كثير من ديار الإسلام , نعالج أمراضنا وأخطاءنا , ونبقى أمة مسلمة واحدة , لا نلقي بقضايانا في أيدي أعدائنا . حسبنا الأندلس لتكون درساً واعظاً . نحن الذين يجب أن ننهض ونعالج أخطاءنا , فأخطاؤنا وعيوبنا وأمراضنا ممتدة في ديار المسلمين , وليست محصورة في العراق , ولا هو الملوم وحده .(/5)
لا نستطيع أن نفصل قضية العراق اليوم عن قضية فلسطين ، ولا عن قضية أفغانستان ولا عن قضية كشمير ، ولا عن سائر قضايا العالم الإسلامي . إنها كلها تجتمع لتكون القضية الأولى ، قضيتنا الأساسية ، قضية الإسلام والحرب المسعورة التي تُشَنَّ عليه ، حيث أخذ أعداء الإسلام يتناولون العالم الإسلامي بعد تمزقه ، بلداً بلداً ، كل بلد منعزل عن غيره ، تقطعت الحبال ، وشُغِل كلُّ بلد بنفسه ومشكلاته ، حتى أصبح كل بلد يقول بلدي أولاً ، فسهل على الأعداء أن يستفردوا بكل بلد وحده . وانظر إلى الميادين لترى صدق هذا التصور . وكلُّ بلد وحده أوهى وأضعف من أن يصدَّ جنون المجرمين !
ولقد تطور الوضع إلى أسوأ من ذلك ، حين استطاع أعداء الله أن يكوِّنوا في قلب كل بلد مسلم أناساً يحملون الهوية الإسلامية , ولكن فكرهم وثقافتهم وقلوبهم أصبحت معلقة هناك مع العدوّ الماكر ، يمدّونه بالعون في حربه على الإسلام ودياره ، يعطون ولاءهم لعدوّ الله .
ألم تجد أمريكا عشرات الآلاف من العراقيين يعملون لحساب المخابرات الأمريكية ؟ ! ألم يجد اليهود الآلاف من الفلسطينيين يعملون لحساب الموساد ؟! ألم تستطيع أمريكا شراء الآلاف من الأفغان بالدولار كما قال بوش : " لقد حطمنا طالبان بسبعين مليون دولار ؟! " ألم تجد فرنسا وإنكلترا ودول أخرى رجالاً يعملون لحسابها من قلب العالم الإسلامي ، يحملون الأسماء الإسلامية ، ويتكلمون لغتنا ؟!
وانظر كذلك إلى الصورة المأساوّية ، حين لجأت الفئات المعارضة للحكم في بلادها إلى إنكلترا وغيرها ، حيث احتضنت تلك الدول كثيراً من هؤلاء المعارضين , ثم أخذت تنظمهم ليقوموا معها بتدمير بلدهم ووطنهم وقتل أبنائهم تحت زخارف شعارات مضلة كثيرة . ولو عرفوا دينهم آيات وأحاديث لعلموا أن موالاة أعداء الله حرام وظلم وفتنة وكفر. كيف يتوقعون من عدوهم المشرك وعدو الله أن يضمر لهم الخير , أو يرجو لهم الصلاح . إن مهمته الأولى أن يمزق المسلمين دياراً وشعوبا ًوأحزاباً , ومصالح وأهواءً , يصرع بعضها بعضاً .
كان الناس يستحون أن يقولوا إنهم يتعاونون مع أمريكا أو غيرها ، ولكنهم اليوم يجهرون بذلك دون خشية من نقد ، أو لوم ، أو انتقام ! ودون حياء ! ودون خوف من الله !
من الأمور العجيبة المؤسفة أن أمريكا , وهي أقوى دولة اليوم عسكرياً , تحشد , من أجل عدوانها الظالم على العراق , على بلد أضعف منها عسكرياً بكثير , جيشا ًضخماً وطيراناً وصواريخ هائلة وأسلحة فتاكة , من أشد ما عرف العالم من أسلحة الفتك والتدمير الشامل , وتجمع معها خمساً وأربعين دولة تدفع جيوشها وسلاحها مع أمريكا , وفي الوقت نفسه يقف العراق وحده , لا يجد من العون غير تصريح بعد تصريح , ونشاطاً دبلوماسياً لم يغن شيئاً في ميدان الأزمة الرهيبة التي يمر بها اليوم , ولا في إنقاذ العراق وشعبه من هذه الجريمة المروِّعة .
وتتم هذه الجريمة المفجعة بعد حصار دام اثنتى عشرة سنة , حصار طاغ ظالم شديد لم يعرف التاريخ له مثيلاً . ومع هذا كله وقف العراق موقف التحدي وحده في ميدان القتال , كما وقفت فلسطين وحدها في ميدان القتال , وكذلك كشمير وغيرها وغيرها .
لقد صرح مسؤول أمريكي أن هناك خمساً وأربعين دولة دخلت في التحالف مع أمريكا ضد العراق . ثلاثون منها لاتمانع في نشر اسمها , وخمس عشرة دولة تتحفظ على نشر أسمائها : ( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً )
[النساء:108]
هؤلاء وقفوا مع امريكا بأسلحتهم ودعمهم الممتد , فمن وقف مع العراق وما مدى الدعم الذي وجده العراق عمليّاً في الميدان ؟!
إن واقع المسلمين اليوم يجب أن يُدْرس بتكامله وترابطه ، لا بتجزئته وتمزيقه تحت شعارات العصبيات الجاهلية ! لا بد من دراسة واعية ووقفة إيمانيّة صادقة ، تحدد العيوب والأخطاء والخلل ووسائل معالجته . لسنا اليوم في موقف تحل مشكلاته الخطيرة بالفتاوى , ثم يمضي كلٌّ إلى استرخائه ولهوه ومتعته . أين المسلمون اليوم وأين الدعاة وأين العلماء ودورهم العظيم الذي أمرهم الله به ؟
إن الخطر اليوم عام جارف يهدد الأمة المسلمة كلها في جميع ديارها ومواقعها . ولا يجوز أن نفرِّغ عواطف الشعوب وشحناتها في جهود لا تعزم على هدف رباني حق يجمع الأمة كلها صفّاً في وجه المجرمين الزاحفين , ليصدَّ عدوانهم الظالم .إنها مسؤولية كلِّ مسلم وعالم وداعية وكلُّ مستوى أن يفزع بكل الوسائل لصد هذا العدوان الفجع .(/6)
ولنتذكر واقع المسلمين أيام النبوة الخاتمة ، حين كانوا صفّا واحداً كالبنيان المرصوص ، لم يستطع المنافقون أن يخترقوا صف المؤمنين ، ولم يستطع ملك الغساسنة أن يشتري كعب بن مالك رضي الله عنه ، بعد غزوة تبوك ، وكان أحد المخلّفين الثلاثة الذين نزل بهم الحكم من السماء ، من عند الله , بأن يقاطعهم المسلمون ، وبأن يهجر كعب زوجته ، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، فلما قرأ كعب رسالة ملك الغساسنة يدعوه إليه ليخرجه من ضيقه ويكرمه ، أدرك أن هذا من الشيطان وألقى الرسالة في النار ليبرأ منها. واليوم يتهافت بعض المسلمين على أعداء الله يرجون خيرهم ، ويسارعون فيهم ،
( .... يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ...... )
كذلك لم تستطع الدول كلها أن تخترق صف المؤمنين ، الصف الذي كان كالبنيان المرصوص أمة مسلمة واحدة :
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولّهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين . فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين )
[ المائدة : 51-52]
ولنتذكر كيف كان علماء المسلمين في مقدمة المجاهدين أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأيام الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم .
قضيّة العراق اليوم كشفت سوءات العرب والمسلمين ، وسقطت الشعارات والأقنعة ، وبان الخلل الذي تحدّثنا عنه طويلا ودعونا إلى معالجته على نهج محدد مدروس . لقد كشفت قضية العراق وقضية فلسطين وغيرهما ضعفنا وتمزّقنا . فحاول الكثيرون أن يُبَرِّئوا أنفسهم ويبرئوا أمريكا وإنكلترا وأتباعهم من جرائمهم. قضية العراق من ناحية أخرى ، كشفت حقيقة الحقد على الإٍسلام والمسلمين ، حقداً تقوده أمريكا ومن معها من الذيول والأذناب من المجرمين . لقد ارتبطت هذه القضية بشكل واضح جلّي بمشكلة فلسطين ، وبمشكلة أفغانستان ، وسائر قضايانا, لتنكشف حقيقة المعركة اليوم ، المعركة ضد الإسلام والمسلمين ، يستغلون من أجلها كل بادرة يستطيعون تزويرها لدعم باطلهم.
من الأمور العجيبة في هواننا وضياعنا أن يقال إن العراق ونظامه أو صداماً جلب على العرب المصائب والويلات . مهلكم أيها الناس ! فمهما تكن جرائم صدام وأخطاؤه فهي أولا قضيتنا نحن المسلمين ، نحن الملومون ! ليست قضية العراق قضية أمريكا , ولا يحلّ للمسلمين أن يسارعوا فيهم أو يوالوهم ! وعجباً كيف يُبرّأ المجرم الحقيقي ـ أمريكا وإنكلترا وأتباعهم ـ من جريمته المروّعة ، وتُتَّهم الضحيّة ؟! إنهم هم المتهمون! ونحن الملومون , لأننا خالفنا شرع الله واتَّبعْنا أهواءنا .
الذي ساق إلينا المصائب هواننا وتمزّقنا و بعدنا عن الوفاء بعهدنا مع الله . الذي ساق إلينا المصائب أمراضنا المتفشية فينا , غفلتنا , حبنا للدنيا وكراهيتنا للموت! واستغلت أمريكا وأعوانها والمجرمون في الأرض غفلتنا وأمراضنا، فنشروا فتنتهم بيننا, فاستجاب لها الكثيرون من مرضى القلوب والضعفاء وأصحاب المصالح , فاحتلوا قلوب كثير من المسلمين حين فُتحِتْ لهم ، واحتلوا ديار المسلمين حين فتحت لهم ، وتهاون بنياننا وانهار ، ونحن الملومون وأعداء الله هم المجرمون الظالمون المعتدون :
مالي ألوم عدوي كلما نزلت بي المصائب أو أرميه بالتهم
وأدّعي أبداً أني البرئ وما حملت في النفس إلا سقطة اللمم
أنا الملوم فعهد الله أحمله وليس يحمله غيري من الأمم
والمجرمون هم ! والله يأخذهم أخذ العزيز بليل واسع النقم
إذا نهضنا لعهد الله وانطلقت عزائم الصدق والإيمان والشمم
لا يتوانى المؤمنون عن الحق إلا أَنزل الله بهم العقاب ليوقظهم , حتى ينهضوا إلى أمانتهم , ويعرفوا أنهم كانوا مخطئين ملومين.
( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شي قدير . )
[ آل عمران : 165 ]
لقد تطورت الأحداث تطوراً ربما لم يكن متوقعاً ، حين دبّ الخلاف بين اتجاهين : اتجاه تقوده أمريكا واتجاه تقوده فرنسا . وأدى هذا الوضع إلى زلزلة دولية ، ربما تتسع رقعتها ويتهدد النظام العالمي الغربي كله , أو يعودون , لا سمح الله , ليلتقوا فوق الضحية يتقاسمونها , ثم ينطلقوا إلى دار أخرى من ديار الإسلام .
نجد من خلال المواقف والتحليلات والآراء حرصاً كبيراً على ما يسمونه الشرعية الدولية ، القانون الدولي ، مجلس الأمن ، هيئة الأمم المتحدة ، وغير ذلك من المؤسسات التي قامت منذ نشأتها على أهواء ومصالح يتبناها المجرمون ، ولكننا لا نجد أي حرص بين مختلف الآراء على شيء اسمه حق وعدل ، ولا على التمييز بين الحق والباطل على ميزان أمين , ميزان الإسلام , أين الميزان بين أيدي الناس ؟! لا يوجد إلا موازين متعدّدة يقيمها الهوى وصراع المصالح . أين القيم والمبادئ ؟!(/7)
عجباً كل العجب أن يحرص الناس على هذه الشرائع المضطربة المادية والموازين الباطلة، ولا تجد الحرص على شرع الله و ميزانه الحق ومبادئه العادلة التي تحتاجها الإنسانية كلها . عجباً كل العجب أن تجد الناس يتمسكون بهذه المؤسسات المنهارة وقوانينها المضطربة ، ولا يتمسكون بشرع الله ودين الله على صعيد دولي ولا يتداعون إليه .
يشهد التاريخ البشري أنه كلما اشتدت أزمة الإنسان على الأرض واشتد انحرافه بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، ليردوا الناس إلى الحق الذي يقوم على الحقيقة الكبرى في الكون والحياة ، حقيقة الإيمان والتوحيد ودين الإسلام ، ذلك على سنن ربانية ثابتة . كلما حزب الأمر هبّ الإسلام لينقذ :
( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون . قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مردّ له من الله يومئذ يصَّدَّعون . من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون)
[ الروم : 41-44 ]
وكذلك :
( ولقد بعثنا في كل أمّة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقّت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين )
[ النحل : 36 ]
نعم ! هذا هو المخرج : " فأقم وجهك للدين القيّم .. " ! لا مخرج سواه ، ولا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه . نعم ! لقد شهد التاريخ البشري النجاة لمن صدق وآمن باتباع الرسل حين هداهم الله : " … فمنهم من هدى الله .. " ! أولئك هم حملة رسالة الإسلام التي خُتمتْ بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فخُتِمت بذلك رسالة الإسلام ، لتمتدَّ مع التاريخ البشريّ كله ولتظلّ هي المنجى والملجأ !
يتلفت العالم اليوم وهو يرى انهيار جميع مؤسساته وقيمه ، انهيار القضاء ، انهيار القيم ، يتلفَّتت كما كان يتلفَّتت سابقاً يسأل عن الإسلام ، عن الدين القيم , لينقذ البشرية من هلاك بعد هلاك ، يتلفَّت وقد ظهر الفساد في البر والبحر , وظهرت الجرائم في الأرض , وكاد يذهب الأمن من الأرض ومن النفوس ! فهل سيجد ما يبحث عنه ؟! هل ستجد البشرية المتهالكة اليوم الإسلام لينقذها كما أنقذ الأمم والشعوب السابقة ؟! هل سيتقدم المسلمون برسالتهم إلى العالم كله , إلى هيئاته ومؤسساته وشعوبه ودوله , دعوة صريحة جلية , دون أي مساومة ولا تنازل ولا رعشة خوف؟!
كلُّ يومٍ قوافل تتوالى في فيافٍ ممدودة وخيام
طوّقتنا من الأعادي حشود ثمَّ حلَّت بنا دواهي الخصام
وصنعنا القيود من رعشة الخو ف ومن شهوة ومن أحلام
وركعنا أذلاء نستجـ دي عطاء الأنصاب والأزلام
يا لهذا الطوق الذي طال فينا خلف آفاقه حشود الظلام
إن هذه الحرب ضدَّ العراق غير قانونيَّة حسب ما يسمونه القانون الدولي الذي يدَّعونه ويدَّعون أنهم يتمسَّكون به . ولكن واجبنا نحن المسلمين أن نعلن أن هذه الحرب باطلة لأنها مخالفة لشرع الله الذي ندين به والذي يدَّعي الكثيرون أنهم يدينون به . ونقول أيضاً للذين يدينون بالقانون الدولي :" إن قانونكم الدولي يحرِّم هذه الحرب " . فبماذا يدينون هؤلاء المجرمون ؟!
لقد بدأ العدوان الإجرامي مع فجر يوم الخميس 17/1/1424هـ الموافق 20/3/2003م. ودوَّت الصواريخ والقنابل واسلحة الدمار الشامل فوق بغداد , وأذان الفجر يدوِّي من مآذن بغداد عسى أن يوقظ المسلمين من سباتهم ولهوهم وانغماسهم بالدنيا وزينتها . وحلف المجرمين مقبل بكلِّ كبره وغروره وجيوشه وعتاده . ودافع العراق دفاعاً أذهل أمركا وحلفاءها المعلنين والمخفيين , وأذهل العالم , ودفع عصابات الإجرام إلى أن تعيد حساباتها , مع التصميم على المضي بجريمتهم المفجعة للعالم كله , ومع تصميم العراق على الدفاع عن أرضه . وهب الشعب العراقي كله يصدُّ هذا العدوان .
إن من واجب المسلمين أن يقفوا وقفة الإيمان مع العراق بكل وسائل الجهاد الصادق , قبل أن يمتد العدوان إلى مدى أوسع وخطر داهم أكبر. إنها مسؤوليِّتكم أيها المسلمون اليوم ! ولقد علَّمنا التاريخ أن كل من تعاون مع المجرمين كان من أول ضحاياهم :
( لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة وأولئك هم المعتدون )
[التوبة:10]
أيها المسلمون ! هذه هي الأمانة التي تحملونها والتي ستحاسَبون عليها بين يدي الله ! إن هذه المؤسسات التي تتوهَّمون أنها تنقذ وتعين ، هي مؤسسات أنشأها المجرمون قادة الحروب لتحمي مصالحهم وأطماعهم وجشعهم . لا لتقيم في الأرض عدلاً ولا سلاماً ! فإذا تفجَّرت المطامع حتى لم تعد تتسع لها هذه المؤسسات التي أقاموها سحقوها هم تحت أقدامهم وتحت عجلات دباباتهم ، أو رموها وراء ظهورهم وانطلقوا وحوشاً في الأرض ، يفتكون ويدمرون في جنون إجرامي !
وتتلفت البشرية لتسأل :
أين الإسلام لينقذ ؟!
أين المسلمون ؟!(/8)
أيها المسلمون ! أنتم الأقوياء اليوم لأنكم حملة رسالة الإسلام ماصدقتم الله , وغيركم هو الضعيف ، لأنه يحمل رسالة التيه والضياع . اجمعوا صفوفكم واصدعوا بالحق واجهروا به ، وسننتصر ما صدقنا الله وأحسنَّا التوكل عليه ، وبنينا صفَّ المؤمنين صفَّاً واحداً , أُمة مسلمة واحدة , كالبنيان المرصوص , ولا تدعوا العدو يخترق صفّ المؤمنين ولا أرضهم ، واثبتوا على الحق ! سننتصر بإذن الله .
أيها المسلمون ! إن هذه الغارة غارة على العالم الإسلاميِّ كله ! فإذا نجح المجرمون في هذه الغارة , فإنَّ سائر أرض الإسلام تصبح مفتوحة لهم , لينقضوا بعد ذلك عليها قطعة قطعة !
أيها المسلمون انهضوا إلى أمانتكم وعهدكم مع الله قبل أن يمتدَّ البلاء ويشتدَّ الخطر , ثم لا تنفع ندامة !
(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون .)
[هود :113]
أيها المسلمون ! إنها الأمانة العظيمة التي هي في أعناقكم , والتي ستحاسبون عليها بين يدي الله سبحانه وتعالى يوم القيامة , فانهضوا إليها !
الجمعة
18/1/1424هـ
21/3/2003م
...(/9)
العراق وعلماءالأمة الرسميون
الكاتب: الشيخ د.محمد بن موسى الشريف
ما يجري في العراق اليوم أمر عجيب , يحار فيه اللبيب, فالعدو دهم البلد, واستحل ثرواته , وقتل رجاله , وانتهك عرض نسائه- وما أمر أبي غريب ببعيد - وفعل كل قبيح , وأصبحت البلاد تحته , وفي عداد ممتلكاته , فقامت طائفة من أسود العراق تناوش أولئك البغاة الطغاة , وتنازلهم في ميادين الجهاد , وتذيقهم الويلات والحسرات , وتثكل نساءهم , وتيتم أطفالهم , وعهدنا بأولئك الملاعين أنهم يثكلون وييتمون أما أن يثكلوا وييتموا فهذا ما لم نكن نعرفه إلا على يد أولئك الأشاوس الأبطال , وقد اتفقت الشرائع والملل على وجوب مقاومة الباغي المحتل , وطرده , وجاء الإسلام العظيم ليجعل ذلك ذروة سنامه , ومن أفضل أعماله , ونظرت الشعوب الإسلامية إلى أولئك الأبطال نظر التبجيل والتعظيم , وأنزلوهم في المحل اللائق , وارتضوا عملهم وأحبوه , وتمنوا أن لو كانوا معهم لينصروهم وليدفعوا عنهم ويؤازروهم لكن حال دون أمانيهم الحوائل والعوائق , ويمكن القول إن طوائف الأمة الملتزمة بالإسلام المستمسكة بأحكامه العظام قد اتفقت على أن الذي يجري في العراق من الجهاد أمر يرفع الرؤوس , ويسلي النفوس , ولم يشذ عنهم إلا فئات من هاهنا وهناك كان منهم - وهذا هو موطن العجب والحيرة - علماء الأمة الرسميون في طول العالم الإسلامي وعرضه الذين شغلوا مناصب الإفتاء والإمامة وإدارة المعاهد والجامعات والكليات الشرعية وغيرهم , فقد أطبق هؤلاء - إلا قليلاً - على خذلان المجاهدين , وقد تفاوتت مراتب خذلانهم على الوجه التالي :
- فمنهم طائفة - وهي الأغلب والأكثر - اختارت السكوت , فلم تنبس ببنت شفة عما يحدث لإخوانهم في العراق , ولم تصدر بياناً , ولم تدبج فتوى , ولم يسمع عنها أدنى اعتراض , وتعلق أسماع الأمة وأبصارها بهم فرجعت خاسئة وهي حسيرة كسيرة.
- ومنهم طائفة اختارت الطريقة العجيبة ألا وهي نفي أن يكون الذي يجري من أمر المقاومة أنه جهاد , وساوت بين أفعال المجاهدين العراقيين وغيرهم من السارقين واللصوص المفسدين , وسلوكهم جميعاً في سلك واحد , وجعلوا المجاهدين كالمجرمين!! وقالوا : إننا لا نرى إلا القتل والتدمير!! والتشويه لسمعة الإسلام والمسلمين!! وكأنهم نسوا أو تناسوا الفرق بين الطائفتين , وعدم استواء الفريقين , وأجروا حكماً واحداً عليهم مما يخالف دقة العلماء وتحري الفقهاء !! نعم هناك أعمال لا يقرها الإسلام يقوم بها خاطئون لكن هل هذا يبرر إنكار الجهاد بالكلية؟ وتسمية ما يجري كله أنه فوضى؟ أليس هذا غمطاً للمجاهدين؟!.
- ومنهم طائفة قد أنكرت أن يكون هناك جهاد بلا إمام , وليت شعري من الإمام في العراق؟! أهو العلاوي الشيعي ؟! أم الياور الذي ليس بيده شيء ؟ أم من ؟!.
- ومنهم طائفة قالت : إن الحاصل هناك ليس جهاداً لأنه لا راية صافية هناك أو أن الراية عمية!! فكيف يجهلون أن جهاد الدفع يتم بكل شيء, وأن هذا الذي يشترطونه إنما هو في جهاد الطلب لا في جهاد الدفع , وأن العلماء نصوا على أن العدو إذا نزل بلداً خرجت المرأة بدون إذن زوجها , والرجل بدون إذن والديه , وأن العدو يدفع بكل ما يمكن دفعه مما يكون نفعه أكثر من ضرره .
- ومنهم ومنهم ومنهم , وأقول لهم : لقد فاتتكم سكتة إخوانكم , وكان يسعكم السكوت وهو أفضل بكثير من هذا الذي تكلمتم به إذ لا ينسب لساكت قول , على أن السكوت في مثل هذه الأحوال عار وتخاذل وأخشى أن يكون ذنباً إذ أين أخذه تعالى الميثاق على العلماء ببيان الحق؟! , فليت شعري يا عباد الله : هل كان هذا حال السلف؟! وهل تعاملوا مع قضايا الأمة العظام تعامل هؤلاء معها ؟! هل نسي أولئك خروج العالم الفقيه الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى ظاهر المدينة كل يوم في الحر ليتسقط أخبار المجاهدين في العراق؟! .
- وهل نسي أولئك سيداً من سادة التابعين يوم حزن على تأخر أخبار جيش المجاهدين في الروم ألا وهو أبو مسلم الخولاني اليماني ثم الدمشقي؟!.
- وهل نسي أولئك الفقيه الخاشع الزاهد أبا عثمان الحيري النيسابوري يوم بكى على رؤوس الأشهاد عندما تأخر حصول المال اللازم للمجاهدين؟!.
- وهل نسي أولئك فقهاء الأمة وعلماءها الذين استشهدوا في ساحات الوغى والجهاد , وعددهم يقدر بمئات الآلاف من الأندلس إلى أطراف الصين.
- هل أصبح الإسلام أقوالاً وأفعالاً تؤثر بها السلامة ؟! وينال بها المنصب ثم على الإسلام وأهله ومشكلاته وقضاياه السلام من بعيد.
هل نسيتم يا علماء الأمة الرسميون المواقف العظيمة , والبطولات الكريمة ؟!(/1)
هذا شعب يباد , وأرض تنتقص , وأعراض تنتهك , وصليب مرفوع , وحقد مدفوع فمتى تتكلمون إذا لم تتكلموا الآن؟! ومتى تفصحون بكلامكم عن نصرة الإسلام إن لم تفصحوا الآن؟! نعم قد يكون لبعضكم نظر في هذا الجهاد القائم فبالله بينوا ما ترون من خلل حتى يستفيد الإخوة المجاهدون منه , لكن ليكن بيانكم من باب التكميل لا القطع , والتحسين لا التقبيح , وسد الثغرات لا كشف العورات , والتقويم لا التعيير, والنصح في الله تعالى , فإخوانكم جادوا بأنفسهم في سبيل الله تعالى أفلا تجودون عليهم بالنصح والتقويم والمساندة , خاصة أن كثيراً منهم لم يتشرف بحمل العلم الشرعي الذي تحملونه وهم في أمس الحاجة لتقويم المسيرة لا لإجهاض تلك الشعيرة.
وبعد فأصدقكم القول : إن المسلمين باتوا يتهامسون بل بعضهم صار يصيح بأعلى صوته : أين علماء الأمة ؟ ولماذا يسكتون عما يجري في العراق منذ الاحتلال إلى الآن ومروراً بأبي غريب وغيره هذا السكوت المريب ؟ ومن يتكلم إذا لم يتكلم العلماء الذين أخذ الله عليهم العهد بالبيان والإفصاح؟ّ! ولماذا يغيبون عن وسائل الإعلام المختلفة هذا الغياب؟!
فبادروا بارك الله فيكم وبكم بالنصح والتبيين, وكشف الحكم عما يجري بوضوح في العراق وفلسطين وكشمير والشيشان والفلبين وفطاني ودار فور وغير ذلك , وسارعوا لتبوأ مكانكم الصحيح في مقدمة صفوف الأمة هادين مرشدين فلهذا بوأكم الله ذلك المنصب ووضعكم في ذلك المكان.
أسأل الله لي ولكم الثبات والتوفيق في القول والعمل , وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين , وصلي اللهم وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين(/2)
العرب قصة موت معلن حسام عبد القادر صالح*
الموت المعلن ليس قصة تراجيدية يكتبها الروائي الكولومبي الشهير ماركيز من وحي خياله الساحر، لكنها-للأسف الأسيف- قصة حقيقية،واضحة، وحادة،وصقيلة،وتحمل طعم الدم الساخن في العروق النافرة من طرف سكينة فضية.
إنها ليست قصة (سنتياجو نصار) البطل الأسباني العربي، الذي مات في قرية ماكوندو الكولمبية دون أن يكون هناك سبب واحد لإثبات إدانته.
لكنها قصة يعيش أبطالها بلا أي معنى للبطولة ، يشدهم حبل واحد ، يظل يضغط ويضغط حتى تخرج الألسنة باردة من الحلوق.
إنها قصة موت قد خلع ردائه، ولم يعد يرتدي هيئة الصامت الذي يخطف الأرواح في لحظة ، ويمضي صامتا يجرجر خلفه صيحات الناس: فلان مات.. علان مات.
إنه موت يطال- ويجب أن يطال- كل من كان مسلما أو عربياً أو أسمرا في العالم، بلا التفات لعولمة أو ديمقراطية أو حقوق إنسان أو وسائل إعلام.
حتى وقت الشنق بالحرير الناعم مضى، كما مضى عهد مسميات: العدوان والاجتياح، والاستعمار، والإمبريالية، والقطبية،و..و..
إنه فقط .. الموت المعلن- أيها العرب- ومن شاء فليسمع ومن شاء فليحيى.
إنها أصدق لحظة تمر بها دولة في العالم مثل (إسرائيل) ، لحظة صدق تعيشها مع نفسها والآخرين.
تقول لنا:نعم نحن مغتصبون، وأنتم من حقكم أن تثوروا، كما أن من حقنا أن نسحقكم كما يُهصر النمل..هذا هو منطق (إسرائيل) اليوم، ومنطق كل صهيوني، منطق لا يَنبُت إلا في وقت الشعور الكبير المطلق بالوجود أو بالعدم.
والتساؤل الكبير يهبط: وهل تشعر (إسرائيل) الآن بالوجود أم بالعدم؟ هل تعضد في أحلام بداياتها أم تسير نحو هاوية نهاياتها؟
والجواب العاجل إن رحنا نطلبه من خلف المكاتب الناعمة، ومن بين الأدراج النائمة، دُقَّت رقابنا بالصواريخ ، وانهالت على رؤوسنا الخيبات وما ثمّ غير الغبار يتصاعد.
إنه الموت المعلن إذن، غرسته الأمم المتحدة تحت مسمى عصبة الأمم في وسطنا العربي جنيناً، فهدهدته أوربا المستعمرة طفلا، ثم سقته الحليب وفطمته أمريكا صبيا، وهاهو ذا يقوى ويجبر أمريكا المرضعة على حمايته شاباً.
إبدأ من أمريكا، ثم تعال أوربا، ثم طف بالعالم العربي الذي أسموه الشرق الأوسط، ثم انظر لآخر دولة في إفريقيا، وفتش عن (إسرائيل) ورايات موتها المعلن.
وانظر لمنطقة جرداء في غرب السودان- لم يسمع بجفافها العالم من قبل-يرفرف اسمها الآن بالحروف الإنجليزية المزركشة كأعظم مأساة إنسانية شهدها العالم وعرفها التاريخ، يطوف بها يهود بيض الاصابع ، سود القبعات، ويصرخون:save darfur .. save darfur.
والصواريخ تنهال على غزة من أجل أسير واحد مقابل الآلاف من الأسرى الفلسطينيين، والموت للبنان من أجل أسيرين.
و(العاقبة للمتقين) تقولها (إسرائيل) عن صدق كذوب، وهزل جاد، تتوعد بها كل من يرفض وجودها في أحشائنا.والعواصم العربية والإسلامية الصامتة تنظر وتنتظر أظفار الموت المعلن.
ألا فلتسمعوا أو فلتحيوا وفي كل خير، ومن قبل صرخ القاص المصري الكبير يوسف إدريس رحمه الله قائلاً: عن عمد ،إسمع تسمع.
ونحن عن طوع:نعجب ونحن نقرأ ليوسف إدريس نفسه كلمات كتبها بالأمس ونرقد عليها نحن الآن، و(إسرائيل) تعربد والعرب تزغرد.
يقول:(وأيضا في 16سبتمبر(أيلول الأسود) بدأ جيش الدفاع الإسرائيلي بنفسه مذبحة أخرى لتصفية بقايا الشعب الفلسطيني في سوريا ولبنان، أذاعت الخبر وكالات الأنباء ، وبنفسها راحت إذاعة إسرائيل تجاهر وبدون أدنى خجل بهجومها على سوريا والأردن، وتصدر البلاغ تلو البلاغ، عن عمليات التمشيط التي تقوم بها قوات (الدفاع) الاسرائيلية، وتتولى فيها قصف مخيمات اللاجئين بالقنابل والنابالم للقضاء على(الارهابيين) أنى وأين كانوا).
(وأي طفل فلسطيني هو"إرهابي" في نظر "إسرائيل"، وأي امرأة "إرهابية" باعتبارها ستلد"إرهابيا"، وأي شيخ إرهابي لأنه لابد أب أوجد ل"إرهابي"..).
تصوروا: كتب هذا الكلام في سبعينيات النصف الأخير من القرن الماضي وها نحن في القرن الحادي والعشرين.. ترى ما الذي تغير.والإجابة مؤسفة، لا نحن تغيرنا ولا العدو تغير، وصدق الله العظيم:(هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون).
لهذا فإن الموت المعلن هذا لا تتصدى له إلا الحياة المعلنة المشعة، حياة الكرامة والعيش بعزة.
والحياة حياة الشعوب، وهذه هي المعركة، مع أنفسنا، وهذه هي الحقيقة التي نتذكرها مرة ، ويتذكرها العدو ألف مرة.إذا شاركت شعوب المنطقة متحدة في تنغيص حياة اليهود المغتصبين، فلن تستطيع (إسرائيل) ولا أمريكا أن تواجه شعوباً تجمعها قضية واحدة وتحركها عقيدة واحدة.
وليأكل الدود الأسلحة العربية، ولتشرب الرمال النفط العربي، ولتذري الريح استنكارات الدبلوماسية، فقد عفت شعوب المنطقة حكامها من أي فعل حي جاد، لأن الحياة الكريمة إرادة، ولا إرادة عربية اليوم.
لذا سيتجه الحل إلى البحث عن إرادة أخرى، ولن تكون غير إرادة الشعوب.(/1)
والأمر الصعب نبدأه بالهيّن، بإرادة جماعية تقول لا للموت المعلن.. وبمجرد إرادة جماعية تقول لا .. ستنطلق الحياة.(/2)
العرب مسئولون عن ضياع حقوقهم
محمد أبو مليح- موقع القرضاوي
اعتبر الدكتور يوسف القرضاوي أن ما يتعرض له العرب على أيدي الغرب من اعتداءات وانتهاك لحقوق الإنسان هم السبب الأول عنه؛ لأنهم أضاعوا حقوقا مكتسبة لهم.
وقال القرضاوي في خطبة الجمعة 18– 11 – 2005 التي ألقاها بمسجد عمر بن الخطاب بالعاصمة القطرية الدوحة "إن المسئول الأول عن ضياع حقوق الإنسان في العالم العربي هم العرب أنفسهم وليس الغرب".
وأضاف الدكتور القرضاوي: "أن ما قامت به أمريكا والغرب من ضرب للمسلمين في العراق وغيرها بالقنابل الفسفورية والعنقودية والغازات المحرمة، إنما كان ذلك لأنهم يستخدمونها مع إنسان لا حقوق له".
واعتبر القرضاوي "أن ما تتشدق به الدول الغربية، وخاصة أمريكا، من الدفاع عن حقوق الإنسان والمحافظة على الإنسانية، وأنهم رعاتها وحماتها، لا يخص الإنسان العربي؛ لأن العرب عندهم لا حقوق لهم".
وقال "إن أمريكا لا تنفرد بذلك ولا دولة دون دولة، فما قامت به أمريكا وما تقوم به، قامت به فرنسا في الجزائر وإيطاليا في ليبيا وهولندا في اندونيسيا، والإنجليز في بلاد شتى".
وأضاف الشيخ القرضاوي: "هؤلاء هم أول من يجور على حقوق الإنسان، فهم يرعون حقوق الإنسان في بلادهم، أو الإنسان الغربي حيثما كان، بينما الإنسان المسلم أو الإنسان الشرقي فحقوقه مضيعة".
الإسلام سبقهم جميعا
وفي مقابل ما يتعرض له المسلمون على أيدي الغرب أوضح القرضاوي أن الإسلام كرم الإنسان بشكل عام: "فهو لم يفرق بين حزب وحزب أو جماعة وجماعة وإنما حقوق الإنسان يتساوى فيها الجميع".
وشدد الشيخ القرضاوي على أن المسلمين أسبق من غيرهم في معرفة حقوق الإنسان بقوله "إن الذين يقولون بأن المسلمين لم يعرفوا ما يسمى بحقوق الإنسان إلا بعد صدور الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، إنما يعمون على الحقائق، إن لم يكونوا جاهلين بها".
وقال "إن المسلمين هم الذين علموا الغرب حقوق الإنسان، ولا يستطيع أن ينكر ذلك أي باحث محايد أمين، بل إن الدفاع عن حقوق الإنسان فرض عند المسلمين يحاسب عليه من يفرط فيه".
وأضاف القرضاوي: "أن حقوق الإنسان في الإسلام وإن لم تكن موضوعة أو موجودة في كتب التراث الإسلامي كمصطلح، إلا أن ما يدل عليها يملأ صفحات وجنبات هذه الكتب من فقه وسيرة وتاريخ.. وغيرها".
وأوضح أن الإسلام وضع ضمانات حقيقية لحفظ حقوق الإنسان قائلا "إن الإسلام طالب المسلم أن لا يسكت عن حق له ضائع، كما أنه أعطى للقضاء أعلى سلطة في الدولة، حتى إنه يحاكم الخليفة نفسه، ولو كان أمام أبسط الرعايا. وجعل الحكام مسئولين أمام الله سبحانه وتعالى عن من تحت أيديهم".
وأشار إلى أن الإسلام لم يشرع حقوقا للإنسان فقط مشيرا إلى إن الإسلام شرع الحقوق للحيوانات أيضا .
أوضاع مقلوبة
وقارن الشيخ القرضاوي بين ما كانت عليه أحوال المسلمين في زمن الخلفاء الراشدين وما عليه الأوضاع الآن قائلا "الأوضاع مقلوبة في عصرنا الحالي، فالإنسان ممنوع من أبسط حقوقه وهو التعبير عن رأيه".
وقال الشيخ "إن من أجلى مظاهر ضياع حقوق الإنسان العربي، المحاكمات العسكرية للمدنيين، وإلقاء الأبرياء في السجون بدون تهم، بل الحرمان من تكوين أحزاب على أساس ديني، بحجة أنه لا يجوز قيام حزب على أساس ديني، والأدهى من ذلك أنه يسمح بتكوين حزب على أساس إلحادي".
كما أشار الشيخ القرضاوي إلى حالة الفقر التي تسود العالم العربي، فضلا عن ضياع حق أبنائه في التعليم، معتبرا أن هذه الأمور هي السبب الأول المسئول عن ضياع حقوق الإنسان العربي.(/1)
العربية لغة الروح والوجدان !
أديب إبراهيم الدباغ
(1)
يحق للعربية أَن تفخر بكونها المصطفاة من بين لغات العالم لنزول القرآن الكريم بلسانها. والقرآن قمة ما فوقها قمة في إِعجازه البلاغي، أجمع على هذه الحقيقة بلغاء العربية منذ نزوله قبل أربعة عشر قرناً وحتى هذا اليوم، فكان لهذه اللغة شرف حمله إلى العالم، وتبليغه إلى البشرية، فعلا قدرها بعلوه، وخلدت على الزمان بخلوده. وإليه يعود الفضل أولاً وآخراً في حفظها من الزوال والاندثار كما زالت واندثرت كثير من لغات العالم.
والعربية ذات حِسٍّ روحاني، يستمدّ روحانيته من جذورها الغائرة في طبقات التاريخ، ومن عروقها السامّية الضاربة في أصول الديانات والحضارات القديمة، لذا فهي لا تعطي أقصى طاقاتها البيانية إلا إذا كان الموضوع المعالج بلسانها فخماً عالي المعنى، شريف المقصد، ومتصلاً بسبب من أسباب الروح.
ومن هذه الخاصية جاءت قدرتها الفائقة على أن تكون سماءً عاليةً لألمع نجوم القرآن، ولأسمى معانيه فغدا إرتباطها به إرتباطاً ملحمياً متيناً. فلا يُذكر إلاّ وتذكر معه ولا تذكر إلاّ ويذكر معها ، ومن هذا الارتباط الملحمي بينهما أصبحت علوم العربية وآدابها مدخلاً لا بدّ للدارسين والباحثين في علوم القرآن من الولوج منه، فمعرفة نحو العربية وصرفها وبيانها وبديعها وأسرار بلاغتها هي المدخل إلى أي علم من علوم الدين.
(2)
والعربية تنفرد بخصائص جمالية وفنية قلّما نجدها في لغة أخرى، فهي لغة مطواع بين يدي الأديب أو الشاعر، يشكل من طينة كلماتها ما يتسع له خياله من صور وأشكال، ثمّ ينفخ فيها من روحه فإذا المعنى صورة، وإذا الكلمات لوحة، وإذا قلم الأديب قد قام مقام ريشة الرّسّام. فصوّرَ وجسَّم ولوّن، وهذه القدرة العجيبة على التشكيل والتلوين لدى هذه اللغة دفعت ببعض النقاد إلى تسميتها بـ "اللغة الشاعرة".
ولا أظننا نجانب الصواب إذا ما نعتناها بنعت آخر إلى نعتها الأول فأسميناها " اللغة الساحرة " لما تتمتع به من قوة استحواذ على النفوس، ونفاذ في العقول. وربما إلى هذا الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ من البيان لسحراً )
ويجدر أن نشير هنا إلى أن نعتي " الشعر" و " السحر" كانا المفضلين لدى كفار قريش لنعت القرآن والرسول في بدايات الدعوة الإسلامية. حتى أنّ أعرابياً جافياً يسمع قارئاً يقرأ : [ فاصدع بما تؤمر ] فلا يملك نفسه فيقع ساجداً، ولما قيل له : ويحك آآمنت ..؟! قال : لا، ولكني سجدتُ لبلاغة هذه الكلمة .
(3)
وما من شك في أن ثمة تشابهاً من نوع ما بين السحر والشعر، فكلاهما ينبعثان من قوى خفية غامضة تكمن فيما وراء المعلوم والمحسوس، وكلاهما يستخدمان ما في الكلمات من طاقات بناء أو تدمير. وكلاهما يؤثران في المتلقي سلباً أو إيجاباً، غير أنهما يختلفان بعد ذلك اختلافاً كبيراً فيما يصدران عنه وينبعثان منه، فالسحر يستمد قواه المدمرة من منطقة ظلامية رهيبة تختفي في أغوار بعيدة من النفس، بينما الشعر طاقة شعورية إنسانية تستخدم اللغة للتعبير عن نفسها، وتتلون هذه الطاقة بلون المشاعر المنبعثة عنها كالتعبير عن الخير أو الشر، والحزن أو الفرح، وليس هناك حالة خامسة يمكن أن تتلبس الإنسان وتلون مشاعره، وكل الأغراض الأخرى التي قيل فيها الشعر لا تعدو أن تكون فروعاً من أصول تلك الأحوال الأربع.
(4)
ولغة القرآن تعلو على هذه المشاعر البشرية جميعاً، ولا تلتفت إليها وهو ـ أي القرآن ـ غير معني بأهواء النفس البشرية أو بالتعبير عنها، لأنه ليس شعراً ليفعل ذلك، ولا سحراً أسود ليستثير هذه المشاعر في الهدم والتخريب .
فالقرآن مهتم بقضايا الانسان من حيث كونه كائناً كونياً له رسالة هادفة هي إعمار الحياة والارتفاع بها في مراقي الارتقاء حتى تبلغ مستويات عالية من الجمال المادي والمعنوي .
ولما كانت " العربية " روحية المنبت في أصولها التاريخية الأولى فلا جرم أن يغشاها سر من أسرار الروح، ويكتنفها بعضٌ من قواه الآسرة، والنافذة في النفوس، الأمر الذي جعل القريشين يتوهمون أن ما يسمعونه لا يعدو عن كونه شعراً أو سحراً لما كانوا يحسونه عند استماعهم له ـ أي القرآن ـ من تأثير يأخذ بقلوبهم وعقولهم.
(5)
وكثرة الوجدانيات في تراث العربية يرجع في جملته إلى خاصيتها الروحية، فهذه الخاصية تغري المنشئين كتّاباً وشعراء أن يستثيروا الجوانب الروحية والوجدانية. فيما يبدعون من نثر أو شعر. فما تعرفه العربية من الشعر والشعراء يكاد يزيد على ما تعرفه الدنيا منهما، ولهذا نستطيع القول : إن العربية لغة الوجدانيات لا ينازعها في ذلك منازع.
(6)
وحين نقول : إن " العربية " لغة الوجدانيات، فنعني بذلك أنها لغة الحياة فالحياة أخصب وأوسع من أعظم الأفكار والفلسفات ، والوجدان أعلق بالحياة من كل فكر وألصق بها، فالوجدان والحياة صنوان لا يفترقان.(/1)
فنحن نعيش الحياة بالوجدان قبل العقل، ونحياها بالشعور والحسّ قبل الفكر، ومن خلال الوجدان نلمس أجمل ما في الحياة من معانٍ، ومن خلاله نستطيب الحياة رغم الآمها وأحزانها ونستزيد عنها، كما يقول أبو العلاء المعري :
تعب كلها الحياة وما عجبي إلا من راغبٍ في ازدياد
(7)
وقد قدر للعربية أن تنشأ وتنمو في أحضان الشرق مهبط الديانات ومواطن الأنبياء والرسل، فأخذت وأعطت ، وتأثرت وأثّرت، وكان لها شرف الإسهام في إغناء وجدان الشرق وفي تشكيل نوازعه الروحانية، وبالمقابل فقد تأثرت بما كان يفيض عن هذا الوجدان من أسفار الحكمة والشعر والقصص والأساطير والمراثي والملاحم والبطولات .
ومن خلال هذا الشرق الخصب الموار بنوازعه الروحية والدينية مضت العربية تشقّ طريقها عبر هذا الزحام الهائل، فمضت تتصفّى وتعذب وترقّ حتى بلغت قمة نضجها وجمالها على لسان خلّص أبنائها من قريش معدن العرب والعروبة. ثم توّج هذا النضج والجمال نزول القرآن بلسانها، فقدت بذلك صلة الوصل بين وجدان القرآن ووجدان العالم في كل زمان ومكان .(/2)
العزل في الجماع
السؤال :
؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
العزل ممارسة مشروعة بين الزوجين ، و لا تحرم ما لم يكن فيها مضارّةٌ بأحدهما ، أو إكراه له على ما لا يرتضيه ، و النصوص الدالة على أن الأصل في العزل الإباحة كثيرة جداً ، تحكي فعل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ، و إقرار النبي صلى الله عليه و سلم لهم فيما أخبروه به أو بلغه عنهم ، و من ذلك : روى مسلم و أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : ( غزونا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم غزوةً بالمصطلق ، فسبينا كرائم العرب . فطالت علينا العزبة و رغبنا في الفداء . فأردنا أن نستمتع و نعزل . فقلنا : نفعل و رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أظهرنا لا نسأله !! فسألنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ( لا عليكم أن لاتفعلوا . ما كتب الله خَلْقَ نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة ، إلا ستكون ) . و في رواية : ( فإن الله كتب من هو خالق إلى يوم القيامة ) .
قال النووي في شرح صحيح مسلم : والعزل هو نزع الذكر من الفرج وقت الإنزال، خوفا من حصول الولد ... و ( لا عليكم أن لا تفعلوا ) معناه ما عليكم ضرر في العزل ، لأن كل نفس قدر الله خلقها لابد أن يخلقها . سواء عزلتم أم لا . وما لم يقدر خلقها لا يقع، سواء عزلتم أم لا . فلا فائدة في عزلكم . فإنه إن كان الله تعالى قدر خلقها سبقكم الماء، فلا ينفع حرصكم في منع الخلق .اهـ .
و في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري ، قال : ذكر العزل عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال ( و ما ذاكم ؟ ) قالوا : الرجل تكون له المرأة ترضع فيصيب منها ، و يكره أن تحمل منه ، و الرجل تكون له الأمة فيصيب منها ، و يكره أن تحمل منه . قال : ( فلا عليكم أن تفعلوا ذاكم . فإنما هو القدر ) .
و في صحيح مسلم أيضاً عن جابر ؛ أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن لي جارية ، و أنا أطوف عليها ، و أنا أكره أن تحمل . فقال : ( اعزل عنها إن شئت . فإنه سيأتيها ما قدر لها ) ، فلبث الرجل . ثم أتاه فقال : إن الجارية قد حبلت . فقال : ( قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها ) .
و عنه أيضاً : كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فلم ينهنا .
و كما أسلفت فالأدلة على إباحة العزل كثرة مستفيضة ، و قد اقتطفت منها ما أوردته أعلاه من صحيح الإمام مسلم ، و فيه الكفاية في الدلالة على المطلوب إن شاء الله .
لكنه يقال في العزل ما يقال في غيره من وسائل منع الحمل : إن المنع يجب أن يكون لفترة مؤقتة و لسبب وجيه ، أما إن اتخذت وسيلة للقضاء على النسل و قطعه بالكلية فإنها ستنقلب إلى حرمة ، تصير كبيرة بالإصرار عليها ، و العياذ بالله .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .(/1)
العزلة
يتناول الدرس مفهوم العزلة والأسباب التي تؤدي إلى هذه العزلة، ثم أثر هذه العزلة على الشخص وعلى العمل الإسلامي، وكيف يمكن التغلب على أسباب العزلة وماهو طريق الخلاص والوقاية من العزلة .
معنى العزلة:
لغة :
الابتعاد أو التنحي جانباً، قال صاحب لسان العرب: 'عزل الشيء يعزله عزلاً، وعزله فاعتزل وانعزل، وتعزّل: نحّاه جانبًا، فتنحّى، وقوله تعالى: }إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ[212]{ [سورة الشعراء]معناه: أنهم لما رموا بالنجوم - كما في قوله تعالى: }وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا[9]{ [سورة الجن]- منعوا من السمع ' .
اصطلاحا : وفي اصطلاح الدعاة يراد بها: إيثار حياة التفرد على حياة الجماعة، وذلك بأن يكتفي العامل بإقامة الإسلام في نفسه، غير مبال بالآخرين، وبما هم فيه من ضياع وهلكة، أو أن يقيم الإسلام في نفسه، ويسعى جاهداً لإقامته في الناس، ولكن بجهود فردية، بعيدة عن التعاون والتآزر من بقية العاملين في الميدان.
أسباب العزلة:
1- الوقوف عند بعض النصوص الشرعية المرغبة في العزلة، مع الغفلة عن موقعها من النصوص الأخرى الداعية إلى حياة الجماعة: فقد جاءت بعض النصوص الشرعية مادحة للعزلة، ومرغبة فيها، كقوله صلى الله عليه وسلم: [يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتَّبِعُ بِهَا شَغَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ]رواه البخاري وأبوداود وابن ماجه والنسائي وأحمد ومالك .
وكإجابته للذي قَاَلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِه] قَالُوا ثُمَّ مَنْ قَالَ: [ مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ ]رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبوداود وابن ماجه والنسائي وأحمد. وكقوله في حديث حذيفة بن اليمان: [ فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ”رواه البخاري ومسلم وابن ماجه. وكقوله: [ مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ أَوْ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ فِي رَأْسِ شَعَفَةٍ مِنْ هَذِهِ الشَّعَفِ أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ إِلَّا فِي خَيْر ٍ] رواه مسلم وابن ماجه وأحمد.
وكذلك جاءت بعض النصوص الشرعية الأخرى داعية إلى السير تحت لواء الجماعة، والعيش في كنفها، كقوله تعالى:} وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ[2] {“سورة المائدة”.
} وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [103] {“سورة آل عمران” ،}إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ[4]{ [سورة الصف].وكقوله صلى الله عليه وسلم: [عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ] رواه الترمذي وأحمد. والذي يقف عند النصوص الأولى المرغبة في العزلة، ناسياً أو متناسياً صلتها بالنصوص الأخرى الداعية إلى مخالطة الجماعة، والعيش في رحابها؛ يبتلى أو يصاب لا محالة بآفة العزلة أو التفرد.
2- الوقوف عند ظاهرة العزلة التي أثرت عن بعض السلف مع الغفلة عن الظروف التي دعت إلى ذلك : وقد يكون الحامل على العزلة ما أثر عن بعض السلف: أنهم آثروا العزلة على مخالطة الجماعة، ومعايشتها، فها هو نبي الله إبراهيم عليه السلام يقول لقومه:} وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ[48]{ [سورة مريم] وقد كان الحامل له على ذلك:استنفاذ وسائل التغيير والإصلاح، ثم إصرار قومه على الكفر الألدّ الذي خشي معه الفتنة في الدين، ففر منهم، واعتزلهم.
وها هو أبو ذر وابن عمر، ومعهما جمع من الصحابة يعتزلون المسلمين، ويعيشون وحدهم لمّا وقعت الفتنة، وقد كان الباعث لهم على ذلك، صيانة أيديهم أن تغمس في دماء زاكية، طهّرها الله عز وجل، ولا يعرفون من المصيب، ومن غير المصيب.
وهذا هو الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، يقضي أخريات حياته في عزلة بعيداً عن الناس، وقد كان عذره تجنب مصادمة السلطات؛ حقناً لدماء المسلمين.(/1)
وإن الذي يقرأ عن هذه العزلة، التي عاشها هؤلاء، وينسى ظروفها وملابساتها؛ يتولد في نفسه معنى الاقتداء، أو على الأقل المحاكاة والتشبه، فيلجأ إلى حياة العزلة، بعيداً عن جو الجماعة، حتى وإن لم يكن لهذه العزلة ما يبررها ويدعو إليها.
3- الظن أن حياة الجماعة تلغي ذاتية المنتمى إليها، وتؤثر على شخصيته مع الغفلة عن منهج الإسلام في التوفيق بين الفردية والجماعية : إذ يقوم هذا المنهج على دعوة الفرد إلى أن يعيش في كنف الجماعة، ويستظل بظلّها، في الوقت الذي يؤكد فيه أنه مسئول مسئولية كاملة عن كل تصرف يقع منه، فيقول له:}وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[18]{ [سورة فاطر].}كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ[38]{ [سورة المدثر] }يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا[48]{ [سورة البقرة] }بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ[14]وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ[15]{[سورة القيامة]} وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى[18]{ [سورة فاطر] وأن عليه أن يبذل النصيحة بشروطها وآدابها لكل واحد في الجماعة مهما علا كعبه، ومهما عظمت مكانته، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ قَالُوا لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لِلَّهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَأَئِمَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَامَّتِهِمْ ] رواه مسلم والترمذي وأبوداود والنسائي والدارمي وأحمد. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِه]رواه أبوداود والترمذي . ولقد عاش الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعاش المسلمون بعضهم مع بعض، فما رأينا فرداً ذابت شخصيته، أو تلاشت فرديته في الجماعة، وإنما رأينا النصيحة والشورى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبهذه الدعوة ينشأ في نفس المسلم كيان داخلي متميز، واضح المعالم والحدود، وتبقى أعصابه منتبهة لكل ما يمسه، ولو من بعيد .. إن هذا الظن، وهذه الغفلة، ينتهيان بالعامل لا محالة إلى أن يلجأ إلى العزلة، فيصاب بآفة من أخطر الآفات.
4- الغفلة عن طبيعة تكاليف مخالطة الجماعة، والعيش بين الناس : فطبيعة هذه التكاليف: أنها كثيرة، ضخمة، تستوعب حياة الإنسان من أول يوم إلى آخر يوم، وقد لا تنتهي، وغالباً ما تكون على خلاف ما تهوى الأنفس، ومالم يكن العامل منتبهاً لذلك، فإنّه يهمل نفسه من التزكية، والتربية، والمجاهدة، وتسيطر عليه الأهواء والشهوات، وبمرور الأيام يضعف ويعجز عن القيام بهذه التكاليف، وحينئذ يبحث عن مخرج أو ملجأ، فلا يجد سوى العزلة أوالتفرد.
5- التذرع بأن مخالطة الناس تشغل عن التفرغ للعبادة، مع الغفلة عن المفهوم الصحيح للعبادة: إذ المفهوم الصحيح للعبادة- كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- إنها:' اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة، فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج عبادة. والدعاء، والاستغفار، والذكر، وتلاوة القرآن عبادة. وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام عبادة. والوفاء بالعهود عبادة، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين عبادة. والإحسان للجار، واليتيم، والمسكين، وابن السبيل، والخادم، والرحمة بالضعيف، والرفق بالحيوان عبادة. وكذلك حبّ الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء في رحمته، والخوف من عذابه وأمثال ذلك كله عبادة'.والقرآن الكريم، والسنة النبوية يصدقان هذا المفهوم الذي قاله شيخ الإسلام.
على أن مخالطة الناس لا تمنع أن تكون للمسلم أوقات يخلو فيها بنفسه ليؤدي واجباً، أو يتقرب إلى الله بنفل، أو يحفظ علماً، أو يحقق مسألة، أو يتلو قرآناً، أو يذكر ويتفكر، أو يحاسب نفسه، وذلك هو معنى قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه: 'خذوا حظكم من العزلة '. إن غياب المفهوم الصحيح للعبادة عن بال المسلم العامل، وحصره العبادة في دائرة الشعائر التعبدية، متوهماً أن حياة الجماعة تحول بينه وببن التفرغ الكامل لأداء هذه الشعائر، كل هذا يوقعه لا محالة، في آفة العزلة أو التفرد.(/2)
6- الاعتذار بانتشار الشّر والفساد مع الغفلة عن دور المسلم حين ينتشر الشر والفساد: مع الغفلة عن دور المسلم حين ينتشر الشر والفساد، إذ إن دور المسلم في هذه الحال أن ينشط للمقاومة بكل الأساليب المتاحة والوسائل الممكنة، ولا يلجأ إلى العزلة إلا عند تمكّن الداء، وعجز الوسائل، وخوف الفتنة. وإذا ما غفل المسلم العامل عن حقيقة هذا الدور؛ فإنه يفر لأول وهلة إلى العزلة أو التفرد، وتتحول الأرض إلى بؤرة من الشر والفساد، وصدق الله العظيم القائل:
} وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ[251]{ [سورة البقرة]. }الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [40]{ [سورة الحج]. وَصَدَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا” رواه البخاري والترمذي وأحمد.
7- الاطلاع على صور من المحن والشدائد ابتلي ويبتلى بها العاملون لدين الله على مدار التاريخ، مع الغفلة عن موقف هؤلاء العاملين من هذه الصور: إذ إن موقف هؤلاء إنما كان اليقين التام بأن الابتلاء سنة من سنن الله في الدعوات، ثم الاعتراف بالتقصير، واللجوء إلى الله أن يثبت أقدامهم على الطريق، وأن ينصرهم، وقد قبل الله منهم؛ فثبتهم، ونصرهم:} وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[146]وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[147] فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[148]{[سورة آل عمران]. نعم إن العامل إذا اطلع على هذه الصور، وكان في غفلة عن موقف أولئك الممتحنين؛ يسيطر عليه الخوف والهلع، ويحاول أن يجد مخرجًا، وحينئذ تسول له نفسه، ويزين له الشيطان أن المخرج إنما يكون في العزلة أو التفرد؛ فيركن إلى ذلك.
8- صحبته نفر من المسلمين منهجهم العزلة، وسيرتهم التفرد:
وقد يكون الحامل على العزلة صحبته نفر من المسلمين منهجهم العزلة، وسيرتهم التفرد، نظرا لأن المرء شديد التأثر بقرينه، لا سيما إذا كان هذا القرين ذا شخصية مؤثرة، وممن يقتدى، أو يتأسى به.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ] رواه الترمذي وأبوداود وأحمد.
9- تعدد الهيئات والجماعات العاملة لدين الله : وقد يؤدي تعدد الهيئات والجماعات إلى أن يقع المسلم العامل في حيرة من أمره: مع أي من هذه الهيئات، وتلك الجماعات يعمل؟ وعن أي منها يبتعد؟ وتنتهي به هذه الحيرة إلى العزلة أو التفرد، لاسيما إذا لم يكن يعرف حقيقة هذه الهيئات، وتلك الجماعات وموقفه منها، إذ إن حقيقة هذه الهيئات وتلك الجماعات أنها جميعًا على خير، بيد أن هذا الخير متفاوت، فمنها ما هو على جزء يسير من الخير، ومنها ما هو على كثير من الخير، ومنها ما هو على الخير كله، وأن موقفه منها يفرض عليه أن يتعرف عليها جميعاً:أهدافاً، ووسائل، ثم يسير مع من كانت على الخير كله:
بأن يكون هدفها تطبيق شرع الله، ومنهجه في الأرض:} إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [57]{ [سورة الأنعام] .
وأن تقصد بكل ما يصدر عنها من أقوال، وأفعال وجه الله:} قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[162]لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[163]{ [سورة الانعام].
وأن تخلع كل ولاء إلا ولاء الله ورسوله، والمؤمنين المستمسكين بهدى الله: }إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ[55]وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ[56]{ [سورة المائدة].(/3)
وأن تفهم الإسلام فهماً وسطاً، دون غلو أو تشدد، ودون تفريط أو إسراف، ثم تعمل به كله من السّواك إلى الجهاد: } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [208]{ [سورة البقرة].
وأن تعمل ابتداء على إيجاد الشخصية المسلمة، الجامعة لكل خصال الخير، المتأبّية على كل خصال الشر، والمستأهلة لعون الله وتأييده ونصره:} إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [11]{ “سورة الرعد”. }قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا[9]وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[10]{ [سورة الشمس].
وأن تتوسع في تحقيق هذا الشخصية المسلمة بحيث تنتشر، وتعم المجتمع كله، بل العالم كلّه:} وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[107]{ [سورة الأنبياء].
وأن تجتهد في الربط بين هذه الشخصيات المسلمة بحيث تصدر عن رأي واحد، وتصير فكراً واحداً، وقلباً واحداً، وروحاً واحداً، ومشاعر واحدة، وإن تعددت الأجساد:} وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [103]{ [سورة آل عمران].
أن تنطلق من ترتيب واع دقيق، مبني على دراسة وفهم الواقع باستمرار، ثم التعامل معه بناء على هذه الدراسة، وهذا الفهم:} وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [105]{ “سورة التوبة” }وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ[121]{ [سورة هود].
وأن تراعى الأولويات في العمل، بحيث إذا أصيبت بضيق ذات اليد، وقصرت بها إمكاناتها، ووسائلها قدمت بعض الأصول على بعض، بل والأصول على الفروع، والفرائض على النوافل، والمجمع عليه على المختلف فيه، كما صنع صلى الله عليه وسلم حين سعى إلى تحطيم الأصنام الموجودة بداخل النفس البشرية قبل تحطيم الأصنام التي كانت في جوف الكعبة، وعلى سطحها.
وألا تتساهل، أو تتهاون في الأصول المجمع عليها، مع التماس الأعذار في الفروع المختلف فيها، وبذلك تفتح الباب للتعاون مع جميع العاملين.
وأن يكون لها منهاج واضح الأركان، محدد المعالم، يأخذ بيد الفرد من طور إلى طور، ومن مرحلة إلى مرحلة؛ فيشبع تطلعاته، ويجيب على تساؤلاته، ويرفع من مستواه.
أن يكون دأبها التأني، والتروي، وعدم الاستعجال:} فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [35]{ “سورة الأحقاف” .
وأن يكون هناك التناصح بشروطه وآدابه، وقبول هذا التناصح والرضا به.
وأن تكون هناك الدقة والأمانة في اختيار العاملين؛ ليقطع الطريق على المتربصين:} وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً[102]{ “سورة النساء”.
وأن يكون هناك الاتباع لا الابتداع:} فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[110]{ “سورة الكهف”.
10- الغفلة عن الآثار المترتبة على العزلة، سواء منها ما يتصل بالعاملين أو بالعمل الإسلامي : إذ إن من غفل عن الآثار الضارة المترتبة على أمر ما؛ وقع لا محالة في هذا الأمر.
آثار العزلة أو التفرد على العاملين:
1- جهلهم بأبعاد ومعالم شخصيتهم : ذلك أن الإنسان - مهما يكن ذكاؤه ومهما تكن فطنته - لا يمكنه وحده أن يعرف أبعاد ومعالم شخصيته معرفة دقيقة، بل لابد من آخرين يعينونه على ذلك، وعلى سبيل المثال:لا يستطيع الإنسان أن يكتشف ما في شخصيته من أثرة وأنانية، أو إيثار وتعاون، إلا إذا عاش بين الناس وخالطهم، ورأى أصحاب الحاجات منهم، ثم تأمل في نفسه: هل تقسو وتجمد؛ فتشح وتبخل؟ وحينئذ تكون الأثرة والأنانية، أو ترق وتلين، فتتجرد وتعطي؟ وحينئذ يكون الإيثار والتعاون..وهل يحافظ على عهده، ويفي بوعده؛ فيكون دقيقاً، منضبطاً، منظّماً، أو يهمل ويخلف؛ فيكون فوضوياً، غير دقيق، ولا منظم، ولا منضبط؟
إن المسلم إذا عاش في عزلة أو منفرداً، فإن شخصيته تبقى مجهولة لديه، وذلك هو الخسران بعينه، إذ ربما يفعل الشر، ظاناً أنه الخير، وربما يترك الخير، معتقداً أنه الشر:} قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا[103]الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا[104]{ “سورة الكهف”.
ولعل هذا الأثر هو المفهوم من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ...] رواه أبوداود والترمذي. ومن قول عمر رضي الله عنه: [رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا' . أي أن الطريق التي يعرف بها المسلم أبعاد ومعالم شخصيته من كمال أو نقص، قوة أو ضعف - فينمي نواحي الكمال والقوة، ويستكمل ويقوى نواحي النقص والضعف - إنما هي الجماعة .
2- حرمانهم من المعين الذي يمكن أن يأخذ بأيديهم، ويساعدهم على إصلاح عيوبهم :(/4)
ذلك أن الإنسان قد يُهدى إلى عيوبه، لكنه قد يكون من ضعف الإرادة، وخور العزيمة، بحيث يعجز بمفرده عن إصلاح وتقويم هذه العيوب، ولابد له من معين يعينه على نفسه، وحين يختار العزلة؛ يحرم هذا المعين، ويبقى طوال حياته غارقاً في المعاصي والسيئات. ولعل هذا الأثر هو المفهوم مما جاء في الحديث: [ الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِه]رواه أبوداود والترمذي .
3- تعطيل بعض طاقاتهم وإمكاناتهم : الأمر الذي يجعلهم فريسة لإغواء الشيطان وإضلاله، ووسوسته، ذلك أن الإنسان مؤلف من جسد، وعقل، وروح، والروح مزود بطائفة من الغرائز، كل غريزتين منها متجاورتان في النفس، وهما في الوقت ذاته، مختلفتان في الاتجاه: الخوف والرجاء، الحب والكره، الاتجاه إلى الواقع والاتجاه إلى الخيال، الطاقة الحسية والطاقة المعنوية، الإيمان بما تدركه الحواس والإيمان بما لا تدركه الحواس، حب الالتزام والميل إلى التطوع، الفردية والجماعية، السلبية والإيجابية.. إلخ كلها غرائز متوازية، ومتقابلة، وبتوازيها وتقابلها؛ تؤدي مهمتها في ربط الكائن البشرى بالحياة، كأنما هي أوتاد متفرقة، متقابلة، تشدّ الكيان كلّه، وتربطه من كل جانب يصلح للارتباط، وهي في الوقت ذاته توسّع أفقه وتفسح مجال حياته، فلا ينحصر في نطاق واحد، ولا في مستوى واحد، بيد أن تحقيق التوازن والتكامل في حياة الإنسان مرهون بإعطاء كل غريزة من هذه الغرائز حقها، دون زيادة أو نقص. والجماعة هي المجال الوحيد الذي يوظف سائر طاقات المسلم، ويعمل كل الغرائز بدرجات متساوية، ومتوازية في نفس الوقت، فتتكون الشخصية السوية المتكاملة، الخالية من أي انفصام أو اعوجاج، والمحصنّة ضد كيد الشيطان وإغوائه.
وإذا حدث أن ابتعد المسلم عن الجماعة وآثر حياة العزلة أو التفرد، فإنّه تتعطل - لا محالة - بعض طاقاته وإمكاناته، وحينئذ يكون الخلل في شخصيته، فضلاً عن وجود الفراغ الذي يمكن أن يستغله شياطين الإنس والجن في إغوائه وإضلاله. ولعل هذا الأثر هو ما لفت النبي صلى الله عليه وسلم النظر إليه بقوله: [عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ] رواه الترمذي وأحمد.
4- قلة رصيدهم من الخبرات والتجارب التي تعينهم على مواجهة ما يعترض طريقهم من صعاب وعقبات : ذلك أن طريق العمل لدين الله، طريق مليئة بالأشواك، محفوفة بالمخاطر، والمسلم الحصيف الذكي هو الذي تكون لديه الخبرة أو التجربة التي تمكنه من التغلب على هذه المخاطر، والنجاة من تلك الأشواك. وليس هناك مجال أرحب، وأوسع - يكتسب فيه المسلم الخبرات ويتعلم التجارب - سوى العيش مع الناس، ومخالطتهم..وحين ينأى المسلم العامل بنفسه عن الجماعة، ويرضى بالعزلة أو التفرد؛ فإنه يحرم هذه الخبرات، وتلك التجارب، ويبقى طول حياته ضيق الأفق، قاصر النظر، لا يعرف كيف يواجه أبسط المشكلات، فضلا عن أمهاتها، وعظائمها.
ولعل هذا الأثر هو ما نفهمه من قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً] رواه البخاري ومسلم وأحمد
5- سيطرة اليأس والقنوط على نفوسهم، الأمر الذي قد ينتهي بهم إلى الفتور:
ذلك أن المسلم العامل لدين الله يأتيه الشيطان بين الحين والحين، ويلقي عليه هذه التساؤلات: ما المخرج، وأعداء الله - في داخل الأمة الإسلامية ومن خارجها - كثير؟ وهم الآن ممسكون بخناق العالم الإسلامي، ولديهم خطط ماكرة وأساليب خبيثة؟ ويستطيع المسلم المخالط للناس، والعامل من خلال جماعة، دفع هذه التساؤلات، بأنه ليس وحيداً في الميدان، وإنما هناك آخرون سواه يسيرون في نفس الطريق، وأولئك لهم من الوسائل والأساليب والإمكانات، ما يعينهم على مواجهة أعدائهم، وإحباط مكائدهم ومخططاتهم.. أما إذا كان في عزلة أو يعمل وحده؛ فإن هذه التساؤلات تظل تلح عليه، وليس عنده ما يدفعها به، وحينئذ يدب اليأس في قلبه، والقنوط إلى نفسه؛ فيفتر، وربما ترك العمل لدين الله.(/5)
6- قلة رصيدهم من الأجر والثواب : ذلك أن الذي يعيش مع الناس ويخالطهم، يجد أمامه مجالات رحبة، وميادين واسعة لتحصيل الأجر والثواب، فهناك مجالس العلم، للإفادة أو الاستفادة، وهناك عيادة المرضى، وزيارة الإخوان تأكيداً لمودتهم، أو تهنئة بنعمة، أو تعزية على مصيبة، وهناك إرشاد الناس وتوجيههم إلى الخير، ومد يد المعونة على ما يسد حاجاتهم، أو تقوى به شوكتهم، وهكذا.
أما الذي يعيش منعزلاً؛ فإنه يحرم من هذه الميادين وتلك المجالات، وبالتالي يقل رصيده من الأجر والثواب.
7- عدم تمكنهم من إقامة دين الله في أنفسهم اليوم أو غداً : ذلك أن الباطل لايفتأ لحظة عن العمل بهدف أن تتحول الأرض إلى بؤرة من الشر والفساد، فلا يستطيع المسلم العامل أن يؤدي دوراً أو أن يقوم بواجب، وما يمكن أن يتحقق للباطل مثل ذلك إلا إذا فر أهل الحق من الميدان، أو عملوا متفرقين، والمعتزل واحد فرَّ من الميدان، أو آثر أن يعمل وحده، ومن كان كذلك؛ فإنه سيضيق عليه حتماً، اليوم أو غداً. ولعل ذلك هو ما أشارت إليه تلك النصوص التي ذكرناها آنفا في أسباب العزلة أو التفرد:} وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ[251]{ “سورة البقرة” . } وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]{ “سورة الحج” .
[ مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا] رواه البخاري والترمذي وأحمد.
آثار العزلة أو التفرد على العمل الإسلامي :
1- سهولة ضربه، والقضاء عليه : أو على الأقل إجهاضه، فلا يؤتي ثماره إلا بعد تكاليف كثيرة، وزمن طويل؛ نظراً لضعفه بسب تفرق العاملين، وعدم تضامنهم. ولعل ذلك هو السر في حرص أعداء الله على أن يظل المسلمون منقسمين على أنفسهم، تحت شعار:' فَرِّقْ تَسُدْ'.
ولعل السر أيضاً في الأمر بالوحدة، ونبذ الفرقة والتنازع: } وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [103] { “سورة آل عمران” .
2- الحرمان من العون أو المدد الإلهي : ذلك أن العمل الإسلامي مهما تكن طاقاته، وإمكاناته، فهو بحاجة إلى عون، وتأييد من الله عز وجل، وقد وعد الله أنه لا يعطي هذا العون، وذلك التأييد، إلا إذا كان القائمون على العمل الإسلامي، متضامنين متكاتفين، يقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ] رواه الترمذي . ولئن ترتب على هذا الحرمان امتحان أو ابتلاء، فإنه يكون رحمة وبركة على العاملين المتضامنين، ونقمة وعذاباً على القاعدين، وكذلك على العاملين المتفرقين:} وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ[4]سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ[5]وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ[6]{ “سورة محمد” وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ] رواه البخاري ومسلم وأحمد.
طريق الخلاص والوقاية من العزلة :
1- الفهم التام للعلاقة أو الصلة القائمة بين النصوص الشرعية المرغبة في العزلة، والأخرى الداعية إلى مخالطة الناس، ولزوم الجماعة: فإن ذلك الفهم كفيل بانتزاع المسلم - إن كان صادقاً مع نفسه - من حياة العزلة، وإلقائه في أحضان الجماعة؛ نظراً لأن مخالطة الجماعة هي الأصل، والعزلة أمر طارئ لا يكون إلا عند الضرورة التي لا يبقى معها دين، ولا حياة.
2- الفهم التام للظروف أو الأسباب التي دعت بعض السلف إلى العزلة أو التفرد: لاسيما إذا عرفنا أن عزلة هؤلاء لم يكن من ورائها ضرر، فقد كانت دولة الإسلام قائمة والراية مرفوعة، والدين كله لله، أما عزلتنا الآن، فمن ورائها ضرر كثير؛ نظراً لغياب دولة الإسلام، وإمساك أعداء الله بخناقنا، وصدهم عن سبيل الله كثيراً، وحاجتنا إلى سواد كثير، وجهود ضخمة، متعاونة متآزرة لإعادة السلطان لله .(/6)
3- الإلمام الدقيق بمنهج الإسلام في التوفيق بين الفردية والجماعية: فإن ذلك كفيل بدفع المسلم إلى أن يعيش في أحضان الجماعة، في الوقت الذي يحافظ فيه على ذاتيته أو فرديته.
4- الوقوف على المفهوم الصحيح للعبادة: فإنه كاف في القضاء على العزلة، والحمل على ملازمة الجماعة، ومخالطة الناس، دون أن يكون هناك أدنى حرج في أن الأوقات تنفق في غير الطاعة والعبادة.
5- مجاهدة النفس وأخذها دوما بالشدّة والحزم: لئلا تسيطر عليها الأهواء، وتسبيها الشهوات، فتدفعها إلى العزلة والفرار من تكاليف مخالطة الجماعة والعيش بين الناس.
6- فهم الدور الواجب على المسلم حين ينتشر الشر، ويعم الفساد: فإن ذلك كاف في إخراج أي عامل من عزلته، وحمله على مخالطة الناس، واقتحام الخطوب، من أجل القضاء على الشر، ومقاومة الفساد، أو على الأقل تحجيمهما.
7- اللجوء التام إلى الله عز وجل، والاستعانة الصادقة به: فإن من يستعن بالله يعنه الله:} وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ[186]{ “سورة البقرة”.
7- التخلص من صحبة من كان منهجهم العزلة، وسيرتهم التفرد، مع ملازمة صف العاملين: فإن ذلك له دور كبير في القضاء على العزلة.
9- الإلمام التام بحقيقة الهيئات، والجماعات العاملة لدين الله: فإن ذلك سينتهي به إلى نبذ حياة العزلة، والسير مع من كانت على الخير وقائمة بالحق.
10- الوقوف على حقيقة المنهج الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم في تشييد صرح ودولة الإسلام الأولى : فإن ذلك يعين على التخلص من العزلة، ويحمل على الانحياز للجماعة اقتداءً وتأسياً به صلى الله عليه وسلم.
11- إدراك أن أعداء الله من الكافرين والمنافقين، يتعاونون فيما بينهم، ويعملون لضرب الإسلام مجتمعين لا متفرقين: في شكل أحلاف عسكرية [حلف وارسو - حلف الأطلنطي]، في شكل أسواق تجارية [السوق الأوروبية المشتركة] وفي شكل برلمانات وهيئات سياسية [ البرلمان الأوروبي ]، وفي شكل اتحادات جمهورية وولاياتية [جمهوريات الاتحاد السوفيتى، والولايات المتحدة الأمريكية].
وإذا كان هذا شان أعداء الله - وهم على الباطل، وبينهم ما بينهم من خلافات جوهرية - فأولى بنا نحن المسلمين - لا سيما أننا على الحق، وليست لدينا خلافات جوهرية - أن نواجههم بنفس الأسلوب، أي مجتمعين لا متفرقين:} وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ[73]{ “سورة الأنفال”.
12- التأمل في حياة المخلوقات المحيطة بنا، والموجودة حولنا: فإن ذلك التأمل سيقودنا إلى أن هذه المخلوقات ما تعيش في عزلة، وإنما تعيش مجتمعة، متعاونة؛ لتؤدى دورها .
13- الوقوف على حقيقة الآثار المترتبة على العزلة أو التفرد، وقد ذكرناها آنفا: فإن ذلك يقود من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، إلى العيش بين الناس، ومخالطتهم، حذرًا من الوقوع في هذه الآثار، أو تلك العواقب .
تمت
من كتاب:' آفات على الطريق' للدكتور/ السيد محمد نوح(/7)
العزّة الّتي وعد الله بها
عباده المؤمنين
إعداد: رغداء محمّد أديب زيدان
wahab1957@hotmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, العزيز الحكيم, الّذي جعل الإسلام ديننا, وجعلنا مسلمين, والّذي قال في كتابه العزيز: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً" (المائدة: من الآية3) .
والصلاة والسلام على سيدنا محمّد مبلّغ الرسالة, وحامل الأمانة, وعلى آله وصحبه وسلّم. أمّا بعد:
لسنا بحاجة إلى وصف وضع المسلمين اليوم, فوضعهم معروفٌ ومحزنٌ: تخلّفٌ, وتأخّرٌ, وشعورٌ بالدونية, وانحطاطٌ أدّى إلى القعود, وإلى تسلّط الأمم وتداعيها عليهم .
فأصبح المسلم اليوم يشعر أنّه فاقدٌ للعزّة, فاقدٌ للكرامة, فاقدٌ للمكانة الّتي كان يحتلّها أسلافه بين أمم الأرض سابقاً, مكبّلٌ بالقيود المختلفة, متّهمٌ بشتّى التهم الّتي أُلصقت به, وتبارى مطلقوها في اختيارها وتنقيحها, وصار المسلم, هرباً من واقعه, ينتظر نصر الله ووعده بالتمكين في الأرض, ظنّاً منه أنّ هذا النصرسيأتي دون عملٍ, فغرق في أحلام اليقظة, وفي الاحتمالات الّتي لا تغيّر شيئاً من الواقع الأليم الّذي يعيشه .
وكلنا يعرف أنّ وعد الله للمؤمنين جاء في قوله تعالى:" وَعَدَ اللَّهُ الّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (النور: 55) .
وهذا الوعد لن يحدث إلاّ بالعمل الجادّ الدؤوب, وبالعودة إلى دين الله القويم. ولكن, كلّنا يتسائل: كيف تكون البداية الّتي يجب أن نبدأ بها ؟. كيف تكون العودة إلى الدين الصحيح ؟ . ما هو العمل الّذي يجب أن نعمله لنستطيع أن نحقق وعد الله لنا ؟ . وهل سيتحقق هذا الوعد بأيدينا وبعملنا, أم بمعجزةٍ تنزل من السماء ؟. وإذا كان هذا الوعد لن يتحقق إلا بعملنا, فهل نملك القدرة على تحقيقه, رغم كلّ ما يحيط بنا من أحداثٍ وعوامل ومتغيراتٍ ؟
هل فقدنا القدرة على العودة إلى الطريق الصحيح ؟. هل فات الوقت؟.
هل انتهى الإيمان الحقيقي من القلوب, ولم يبقَ مسلمون حقيقون حقّاً يستحقّون أن يتحقق وعد الله لهم ؟ .
هذه الأسئلة وغيرها سيحاول , بإذن الله , هذا البحث أن يجيب عنها . وأرجو أن يكون بدايةًً للطريق الّذي يجب أن يبدأ به المسلمون لتحقيق وعد الله سبحانه تعالى بالعزّة والنصر . فإن أخطأت فمن نفسي, وإن أصبت فبتوفيقٍ من الله "وَمَا تَوْفِيقِي إِلاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب" (هود: من الآية 88) .
الفصل الأوّل
شعور المسلم بفقد العزّة, أسبابه:
كثرت الأحاديث والكتابات الّتي تُظهر واقع المسلمين اليوم, وكلّها تجمع على أنّ هذا الواقع هو واقعٌ أليمٌ: أمّةٌ ممزقةٌ, كثيرة العدد, كثيرة الموارد, ولكنّها لا تغني شيئاً, فقد تسلّط عليها أعداؤها, ونهبوا خيراتها, ومزقوها كلّ ممزّقٍ, وتحكّموا بمستقبلها, فحددوا لها ما يجوز وما لا يجوز فغدت من أكثر الأمم تخلّفاً, ومن أكثرها ضعفاً وذلاًّ.
العالم الإسلامي عالمٌ غنيٌّ بموارده وطاقاته, خصّه الله بمساحةٍ كبيرةٍ, تُقدّر بـ31 مليون كيلو مترٍ مربّع, وتعادل 22%, تقريباً , من مساحة اليابسة على سطح الأرض. وهذه المساحة الكبيرة فيها تنوّعٌ كبيرٌ في التضاريس, وفي المناخ, وفي الموارد الزراعية, والمعدنية, والثروات الكثيرة, الّتي أنعم الله بها على المسلمين().
كما أنّ عدد المسلمين, اليوم, يُعدّ بأكثر من 1300 مليون نسمة, أي حوالي 23% من مجموع سكان العالم, وهم متوزّعون في كافّة أنحاء الأرض ().
ولكن للأسف!, فهم مصنّفون ضمن ما يُسمّى بالعالم الثالث, عالم التخلّف, عالم اللاتأثير, العالم المحكوم, المغلوب على أمره, العالم الّذي تنبّأ به النبي r في الحديث الشريف حيث قال: " يُوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ". فقال قائل: ومن قلّةٍ نحن يومئذٍ ؟, قال: " بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ, ولكنّكم غثاءٌ كغثاء السيل, ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم, وليقذ فنّ في قلوبكم الوهن". قال قائل: يا رسول الله ! وما الوهن؟, قال : " حبّ الدنيا, وكراهية الموت"().
صدقت يا رسول الله, فالمسلمون اليوم يمثلّون أمّةً بلا فائدةٍ لا تغني كثرتها شيئاً, بل هي لقمةٌ سائغةٌ تتسابق إليها الأيدي, ولا تستطيع الدفاع عن نفسها, وطبيعيٌّ أن يكون أفراد هذه الأمّة أفرادٌ خاملون, لا فائدة منهم, أفرادٌ بلا عزّة, ولاعزيمة, ولا همّة.(/1)
فكثيرٌ من المسلمين اليوم يشعرون أنّهم بلا فائدةٍ, فهم محبطون يائسون, متّهمون, يرون المفاهيم قد قُلبت, المجرم أصبح بطلاً, والمدافع عن نفسه وحقّه يُتّهم بشتّى الصفات الّتي تجعل منه إنساناً مكروهاً, غيرمرغوبٍ فيه.
وهذا كلّه يُشعر المسلم بالدونية وبالانحطاط, وبفقد العزّة, وبالعجز والضعف, فتراه دائماً في حالة الدفاع عن نفسه, وعن دينه, وعن شخصيته وقوميته. ولكن هل أراد الإسلام من هذا المسلم أن يكون بهذه الحال ؟ طبعاً لا .
ولكن هناك أسباباً كثيرةً أوصلت المسلم إلى ماهو فيه من إحباطٍ وانحطاطٍ. فإذا أردنا أن نخلّص المسلم من حاله المزرية الّتي هو فيها, يجب أوّلاً أن نعرف أسباب هذا المرض الّذي ألّّم به, حتّى نستطيع علاجه. فلابدّ إذاً من معرفة أسباب هذا الشعور, وأسباب هذا الانحطاط .
وإذا بحثنا عن الأسباب الّتي أوصلت المسلم إلى ما هو فيه من الذلٍّ والانحطاط, هذا الحال الّذي أقعده عن العمل والسعي البنّاء, نجد أنّ هناك أسباباً متعلقةً بالفرد المسلم نفسه, وأسباباً متعلقةً بالمجتمع والعالم المحيط به :
أوّلاً ـ الأسباب المتعلقة بالفرد المسلم نفسه :
1ـ حبّ الدنيا وشهواتها :
عندما خلق الله تعالى الإنسان جعل من طبيعته حبّ الشهوات والمتع الدنيوية, وسعيه لامتلاك المال وتخزينه, وقد قال تعالى في ذلك :" زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهَوَاتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسنُ الْمَآبِ " (آل عمران :14)
ولكنّ الله تعالى, رحمةً بعباده, لم يتركهم عبيداً لهذه الشهوات بل بيّن لهم أنّها شهواتٌ فانيةٌ لا تدوم, وأنّ المتع الحقيقية الباقية هي متع الآخرة.
وقد جاء الإسلام ليبين للمسلم هذه الحقائق, وليوضّح له أنّ الإسلام يكفل للمسلم السعادة في الدنيا والآخرة, فهو لا يحرمه مما أحلّ الله له من الطيبات, ولكنّه يحميه من الخبائث الّتي تضرّه, وبذلك فإنّه يعطيه الأمن والراحة لأنّه يحقق له التوازن بين ما تريده نفسه, وبين ما يريده الله منه وله من الخير .
ولكن هناك كثيرٌ من المسلمين فهموا من الدين غير مافيه, وسعوا بكلّ قوّتهم وبكلّ الوسائل المتاحة أمامهم لامتلاك أكبر قدرٍ من المال, ليحصلوا به على ما يحبون من الشهوات فانطبق عليهم قوله تعالى: " يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ" (محمّد:12). لذلك فنرى كثيراً من المسلمين:
أ ـ يشعرون بالخوف : من أشياء كثيرةً في هذه الحياة, فهم يشعرون بالخوف من الموت, ومن الأذى, ومن عدم الحصول على الرزق, ومن أشياء أخرى غير هذه . وهذا الخوف الّذي سيطر على نفوس كثيرٍ من المسلمين, جعلهم عبيد غيرهم, فتسلّط عليهم من لا يرحم, واستغلّ هذا الخوف في نفوسهم, وتحكّم بهم وبحياتهم ومصائرهم فأحسّ كثيرٌ من المسلمين بفقد العزّة, وعدم احترام الذّات, وقد نسي معظمهم قول الله سبحانه وتعالى: " فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الّذي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ " (قريش:3, 4) .
وكلّما ازداد المسلم ضعفاً وخوفاً, ازداد استغلال المستغلّين وتسلّط المتسلّطين, حتّى وصل المسلم في أحيانٍ كثيرةٍ إلى معصية الله سبحانه وتعالى, والاعتداء على حرماته, وتحليل ما حرّم سبحانه, وذلك بحجّة الخوف على الحياة, أو الخوف من الأذى, أو من الجوع, أو غير ذلك من هذه الحجج, فصاروا كما وصفهم تعالى," يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً " (النساء: من الآية77) .
ب ـ ويشعرون بالعجز : إنّ شعور المسلم بالخوف, وخضوعه وطاعته لمستغلّيه, أشعره بالعجز, هذا العجز الّذي يتمثّل بإحساسه بعدم استطاعته فعل أيّ شيءٍ لتغيير حال المسلمين المزري, وإحساسه بأنّ أمّة الإسلام وما تعانيه من ضعفٍ وذلّةٍ, قد حطّ بها في قاع حفرةٍ عميقةٍ لا يمكن إخراجها منه, فنرى كثيراً من المسلمين اليوم ينطق لسان حالهم بأن: ليس في الإمكان إلاّ ما كان, وبالتالي فليس أمام المسلمين اليوم إلاّ الخضوع والاستكانة, أو التوسّل والمداهنة, وهذا ما جعل كثيراً منهم يبررون لأنفسهم هذا الشعور بالعجز والضعف, بل إنّ بعضهم يعتبر ضعفه أمراً واقعاً لا مفرّ منه, ويستند في تأكيد ذلك إلى آياتٍ من القرآن الكريم, أو أحاديث لرسول الله r, وبالتأكيد يكون هذا الاستدلال ناقصاً, أومشوّهاً.
2ـ البعد عن الدين والفهم الخاطئ له :
كثيرٌ من المسلمين اليوم ابتعدوا عن دينهم وتخلّوا عنه, واستبدلوه بعاداتٍ أو قوانين جوفاء لا تفيد أحداً, ومنهم من فهمه فهماً خاطئاً, واكتفى منه بأداء بعض العبادات والأدعية ولم يحكّمه في حياته. ومنهم من تشدد في فهمه, فضيّق على نفسه وغيره من حيث وسّع الله عليه, لذلك نرى :(/2)
أ ـ كثيراً من المسلمين ينتظرون أن يتحقق نصر الله بمعجزةٍ: دون أن يقوموا ببذل أيّ جهدٍ, لتحقيق هذا النصر . فالمسلم "ينتظرأن يتحقق هذا الدين, ما دام منزّلاً من عند الله, بطريقةٍ سحريةٍ, خارقةٍ, غامضة الأسباب, ودون أيّ اعتبارٍ لطبيعة البشر" (). لذلك فهو يعتبر أنّ النصر سيأتي, وسواء عمل أم لم يعمل فإنّ النصر قادمٌ لا محالة, ونسي أنّ الله سبحانه قد قال: " يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ " (محمّد:7)
وعندما لا يتحقق النصر المنتظر, يصيب هذا المسلم اليأس والقنوط, ويشكّ بما عنده من مبادئ وقيمٍ إسلاميةٍ. وصدق تعالى إذ قال: "وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ "(الروم:36).
ب ـ كثيرٌ من المسلمين لا يفهمون خطاب الله لهم: ويظنون أنّ الخطاب الموجود في القرآن الكريم ليس موجهٌ لهم, وأنّ آيات الكتاب العزيز أنزلها الله لكي تُقرأ في المآتم, أو للتبرّك أو لفكّ السحر, وغير ذلك من هذه الأمور.
ونحن نعرف أنّ القرآن الكريم جاء بالعبرة والموعظة الحسنة وهو هدىً ونورٌ للناس, ليخرجهم من الظلمات إلى النور " هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ " (آل عمران:138). ويجب على المسلم أن يقرأ القرآن وهو مؤمنٌ أنّ كلّ آيةٍ فيه هي خطابٌ موجّهٌ له, ويجب عليه فهمه والعمل به, فالقرآن هو دستور الحياة والناظم لها, يقول تعالى في كتابه العزيز:" اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلودُ الّذينَ يَخْشوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جلُودُهُمْ وَقلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ "(الزمر:23) .
وجاء القرآن الكريم بقصص الأمم السابقة للعبرة والفهم, ولتكون هذه القصص نموذجاً حيّاً أمام المسلمين ليستفيدوا من تجارب الأمم السابقة, فيبتعدوا عن الخطأ وينهلوا من الخير, ولكنّ المسلم "بحسب مواريثه الثقافية خلال القرون صار ينظر إلى أحداث هذا الكون نظراً يخلو من رؤية الأسباب الّتي تساعد على وجود الأحداث ونموّها, فلا يرى القوانين والسنن الّتي تعمل في أحداث هذا الكون, ولايرى المؤثّرات البعيدة والقريبة, الّتي ساهمت في حدوث الأوضاع الّتي يعيشها. وحتّى صلة الحاضر بالماضي والمستقبل ليست واضحةً لديه" ().
لذلك فهو لا يسعى لتغيير واقعه, لأنّه لا يعرف الطريق, ولا الوسيلة المثلى لذلك, وهو أيضاً لا يستفيد مما آتاه الله من الآيات, الّتي تساعد على رفعة نفسه وأمّته, وكلّ هذا يصيب المسلم بالإحباط والعجز, ويزداد إحباطاً وعجزاً وهو يرى الأمم الأخرى تتقدّم وأمّته ماتزال غارقةً في لجّة الظلام والانحطاط.
3 ـ فقدان الحرية:
من الأسباب الّتي أدّت إلى شعور المسلم بفقد العزّة هو فقد الحريّة. فالمسلم اليوم مقيّدٌ بقيودٍ كثيرةٍ, فهو لا يستطيع أن يعبّر عن نفسه, وعن رأيه دون خوفٍ من المحاسبة والمعاقبة, حتّى في أكثر الأمور تعلّقاً بحياته. وفي كثيرٍ من الأحيان لا يستطيع أن يمارس شعائر دينه كما يجب, فهو يجد كثيراً من الرقابة عليه, كثيراً من الحجر(), لذلك فإنّه يحسّ بالقيود تحيط به من كلّ جانب, وبأنّه لا يملك من أمر نفسه شيئاً .
وليس هذا الأمر مقصوراً على المسلمين المقيمين في البلاد الإسلامية فقط, وذلك لما نعلم من غيابٍ لحريّة الرأي في معظم هذه البلاد, ولكنّ المسلم حيثما ذهب, وفي معظم البلاد, هو إنسانٌ متّهمٌ, غير مرغوبٍ فيه, محاربٌ في كلّ مكانٍ, فالإسلام هو العدوّ الأوّل, في نظر أعدائه وفي نظر من يجهل هذا الدين, والمسلم هو الإرهابي, وسواء كان هذا
المسلم ملتزماً بدينه أم لا, فهو في عرف غير المسلمين لا يستحقّ المعاملة الحسنة ويجب الحذر والحيطة منه بشكلٍ دائمٍ, ولا يملك المسلم حتّى قوّة الدفاع عن نفسه لأنّه ممنوعٌ من ذلك, ولا يستطيع أن يُفهم العالم دينه بالشكل الصحيح, فالحروب عليه من كلّ جانب, ووسائل الدفاع شبه معدومة .
وحتّى في البلاد الّتي تُسمّى اليوم متحضّرة لم يعد يملك القدرة على التعبير عن رأيه بحريّة, ولا يستطيع الدفاع عن دينه ومعتقداته دون أن يتّهم بشتّى أنواع الإتهامات وأقلّها الإرهاب وعدم التحضّر. كلّ هذا يُشعر المسلم باليأس والخمول والذ ّل, مما دفع ببعض المسلمين, أو من ينتسب إلى الإسلام قولاً لا اعتقاداً, بالتنصّل من دينهم كليّةً.
4 ـ الحالة الاقتصادية :(/3)
من أسباب فقد العزّة, سيطرة الفقر على كثيرٍ من المسلمين اليوم, والعالم الإسلامي فيه كثيرٌ من الفقراء الّذين لا يجدون ما يعيلون به أنفسهم وأسرهم. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ هناك تفاوتاً كبيراً بين الناس بالنسبة للحالة الماديّة, فنجد مجموعةً تملك المال الكثير, الفائض عن حاجتها, ومجموعةً أخرى لا تملك شيئاً ولاحتّى الضروريات الهامّة فكيف بالكماليات الّتي يمكن الاستغناء عنها ؟ .وأصبحنا نجد أنّ كثيراً من الأغنياء يعاملون الفقراء بترفّعٍ واستعلاءٍ, ويظنون أنّ من يتقرّب منهم, إنما يتقرّب لأجل المال لا غير .
وكذلك فإنّ تغيّر الوضع الإجتماعي, وزيادة حاجات الإنسان وتحوّل كثيرٍ مما كان يُعتبر سابقاً من الكماليات الّتي يمكن الاستغناء عنها, إلى ضرورياتٍ لا يستطيع الإنسان أن يستغني عنها, كلّ هذا زاد من حاجات الإنسان الماديّة, مع ظهور مشاكل إقتصادية في معظم بلاد العالم تجعل من الحصول على المال أمراً صعباً. هذه الأمور تؤثّر في نفس المسلم, وتجعل منه إنساناً مستسلماً محبطاً, وهو يرى أنّ حاجته إلى المال تزيد من ضعفه وذلّه .
ثانياً : الأسباب المتعلّقة بالمجتمع المسلم :
1 ـ واقع العالم الإسلامي وتخلّفه :
ونحن لسنا في حاجةٍ إلى برهان ذلك, فالمجتمع الإسلامي هو مجتمعٌ متخلّفٌ من كلّ النواحي: الفكريّة, والاجتماعيّة والسياسية, والاقتصاديّة(). لذلك فالمسلم لا يشعر بالفخر بانتسابه إلى هذا العالم المتخلّف ونرى كثيراً من المسلمين يريدون الخروج من هذا المجتمع, فالإنسان " الّذي فقد مسوّغ عيشه في المجتمع, يترك المجتمع كما يترك أيّ إنسانٍ الوظيفة الّتي لم يعد لديه مسوّغٌ للتعلّق بها "().
وإذا ترك المسلم مجتمعه, واتّجه إلى مجتمعٍ آخر, والمسلمون اليوم يتّجهون إلى البلاد الغربيّة والأوربيّة, فإنّ إحساسه بالغربة, ومعاملة الناس له على أنّه غريب يُؤّثر في نفسه, ويُشعره بفقد العزّة .
2 ـ تفرّق المسلمين وتشتتهم :
فالمسلمون اليوم متفرّقون, لا تجمعهم قيادةٌ واحدةٌ, وليس هناك تعارفٌ بينهم, فنرى كثيراً من المسلمين لا يكادون يعرفون أيّ شيءٍ عن إخوانهم المسلمين في غير بلادهم . لذلك فلم نعد نرى, في أغلب الأحيان, من جامعٍ يجمع بين المسلمين" إلاّ العقيدة الدينية, مجرّدةً عمّا يتبعها من الأعمال وانقطع التعارف بينهم, وهجر بعضهم بعضاً هجراً غير جميلٍ"() ومن المعلوم أنّ التفرّق, وغياب التراحم, وعدم الإحساس بالمسؤولية تجاه ما يحدث في البلاد الإسلامية من مآسٍ وفقرٍ وحروبٍ ومشاكل لا تعدّ ولا تُحصى, كلّ هذه الأمور هي عناوين للضعف, هذا الضعف الّذي نراه مسيطراً على كلّ البلاد الإسلامية مقارنةً بغيرها من البلاد الأخرى, والضعف كما نعلم هو سبب الذّل الّذي يحلّ بالأفراد أو الجماعات, وهو الدافع لتسلّط الأعداء .
3 ـ تفشّي المفاهيم الغربية في العالم أجمع :
فالمجتمع الإسلاميّ اليوم يتعرّض لكثيرٍ من الأفكار الغربيّة ولغزوٍ ثقافيٍّ وفكريًّ, وأصبح مفهوم التقدّم مرادفٌ للتغرّب فمعظم " الأقطار الإسلامية تفترض خاطئةً أنّ التغيّر مرادفٌ للتغرّب, وبناء عليه فإنّه يتوجّب استبدال المعايير التقليدية بالقيم الأجنبية"(). و تغيّرت المفاهيم العامّة في المجتمع الإسلاميّ, وتغيّرت قيمه وعاداته, فهناك تناقضٌ بين ما يُؤمن به المجتمع المسلم, وبين ما يراه من قيمٍ تنتشر في العالم. وسعياً للتقدّم المنشود صار كثيرٌ من المسلمين يقلّدون الغرب في قيمه وعاداته. والتقليد استصغارٌ للنفوس, وإكبارٌ لمن نقلّد, وهذا يعني أننا استبدلنا الخير الّذي بعثه الله لنا, بالغرب الّذي لا يعرف ديناً ولا خلقاً, وفي هذا فقدٌ للعزّة .
4 ـ ترفّع العلماء والمصلحين عن الانخراط في المجتمع وغياب القدوة الصالحة:
فهناك كثيرٌ من العلماء المسلمين اليوم يتعاملون مع مجتمعهم على أنّه مجتمعٌ ضالٌّ مضلٌّ, فينسحبون من العمل على إصلاح هذا المجتمع ويتركونه إمّا ترفّعاً ويأساً, أو لا تُعطى لهم الفرصة أصلاً للعمل على إصلاح المجتمع. ونرى كثيراً ممن ينخرط في المجتمع منهم إمّا أنّه بحاجة هو إلى إصلاح, كونه يقول ما لا يفعل, أو يكون بوقاً للسلطة يفتي بما يناسب الحكّام والمتنفّذين. كلّ هذا جعل الناس يفقدون احترامهم للعلماء, وفقد العلم درجته في النفوس, وصدق الشاعر حيث قال :
ولوأنّ أهل العلم صانوه صانهم ولوعظّموه في النفوس تعظّما
ولكنهم قد دنّسوه وعرّضوا محيّاه للأطماع حتّى تجهّما ()
ولا يمكن لنا أن نعمم هذا على كلّ العلماء والمصلحين, ولكنّ الأعمّ الأغلب منهم لا يملك الجرأة والإمكانات ليكون قدوةً صالحةً لأفراد المجتمع, لذلك نرى أنّ كلّ مسلمٍ اليوم يشعر بأنّه لا يجد بين هؤلاء العلماء من يمكن أن يعتبره قدوةً صالحةً له وهذا يشعره بالإحباط فقد تغيّرت المفاهيم والمعايير الناظمة للأفضل بين الناس .(/4)
وصدق رسول الله r إذ قال: " إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد, ولكن يقبض العلم بقبض العلماء, حتّى إذا لم يبقَِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهّالاً فسؤلوا فأفتوا بغير علمٍ, فضلّوا وأضلّوا"().
5 ـ عدم تناهي المسلمين عن المنكر, وغياب التراحم في المجتمع :
حيث أصبح أفراد المجتمع يرون الخطأ ولا ينكرونه, وأصبحت حرمات الله تُنتهك أمام سمع وبصر المسلمين, ولا يتحركون لفعل أيّ شيءٍ, فكثرت المعصية, وأصبح وجودها في المجتمع مما عمّت به البلوى. وفي الحديث الشريف, عن أبي بكرٍالصديق رضي الله عنه قال: " يا أيّها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية " يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ " (المائدة: من الآية105) فإني سمعت رسول الله r يقول: "إنّ الناس إذا رأوا المنكر لايغيّرونه, أوشك أن يعمّهم الله بعقابه "().
ومع غياب التراحم بين أفراد المجتمع, انشغل كلّ إنسانٍ بحياته, وعمّ النفاق النفوس, وسادت روح الأنانيّة, مما أدّى إلى ضعف الروح المعنوية, وهذا طبعاً يؤثّر في نفس المسلم ويضعفه.
هذه أهمّ الأسباب في رأيي لشعور المسلم بفقد العزّة والإحباط, هذا الشعور الّذي ترك آثاراً سيّئةً, على مستوى الفرد المسلم نفسه, وعلى المجتمع الإسلاميّ والأمّة الإسلاميّة وعلى العالم بأسره, لذلك فسوف نستعرض معاً هذه الآثار, لنعرف مدى أذاها وضررها على حياتنا كمسلمين وعلى حياة الإنسانية جميعاً .
آثار فقد العزّة :
أوّلاً ـ أثر فقد العزّة على المسلم :
1ـ الضعف الّذي يحلّ بالمسلم :
فمن فقد العزّة فقد معها القوّة وأصبح خائر القوى لا يدفع عن نفسه أذى, ولا يستطيع حفظ كرامته, بل ربّما يُساق إلى فعل ما لا يريد وما لا يحب, فيصبح تبعاً للمتسلّطين عليه, ينفّذ ما يطلبون, سواء أحبّ ذلك أم كرهه.
2ـ اليأس والقنوط :
فهو بضعفه, الّذي سيطر عليه, لا يستطيع تغيير واقعه, وهذا يشعره باليأس والقنوط, وإذا أصاب اليأس روح إنسان فاحكم عليه بالموت, حتّى ولوكان حيّاً, فاليأس موتٌ لهمّة الإنسان وعزيمته, أمّا " علّو الهمّة فإنّه باعثٌ على التقدّم, وداعٍ إلى التخصيص, أنفةً من خمول الضعة, واستنكاراً لمهانة النقص "().
3ـ الإحباط :
وفي علم النفس يصاب الإنسان بالإحباط إذا نشط فيه دافعٌ نفسيٌّ, وحاول إشباعه ولكنّه لم يستطع, وذلك بسبب الواقع الّذي يعيشه, أو بسبب عجزه هو عن إشباع هذا الدافع.()
وفاقد العزّة إنسانٌ عاجزٌ, لايستطيع تحقيق ما يريد, لذلك يُصاب بالإحباط, وهذا يؤدّي في بعض الحالات إلى شكلٍ من أشكال العدوان, الّذي يدفع الإنسان للعمل على إيذاء نفسه أو غيره. ()
4ـ الانغماس فيما حرّم الله :
ففاقد العزّة قد يُجبر على فعل ما حرّم الله, وإذا عصى المسلم الله وهو يعلم, أصبحت معصية الله أمراً سهلاً عليه فيتجرّأ على حرمات الله ويصبح فعل المنكرات من عاداته الّتي لا يستطيع الابتعاد عنها, وذلك بسبب ضعفه, الّذي يُوصله إلى مرحلةٍ لا يقدر معها على التراجع, وكلما ازداد ضعفاً, ازداد انغماساً فيما حرّم الله, وكلما ازداد انغماساً فيما حرّم الله, لم يعد في مقدوره التراجع, وبالتالي يبدأ باحتقار نفسه ذلك أنّه يعرف أنّ الطريق الّذي يسير عليه هو طريقٌ خاطئ لا يُرضي الله هذه الحالة لابدّ أن توصله إلى طريقٍ مسدودٍ إذا لم يرجع إلى الله ويعلن توبته على ما فعل .
5 ـ فقد الإحساس , وعدم الإهتمام بما يجري حوله:
فقد أراح نفسه من تقصّي أحوال غيره من المسلمين, وذلك بحجّة أنّه لا يستطيع أن يفعل لهم شيئاً, وبالتالي لماذا يُتعب نفسه ويتألّم لأحوالهم التعيسة ؟ . فهناك مسلمون فقدوا الإحساس بإخوانهم المسلمين الأخرين, وأصابهم البخل, والجبن, لأنّهم فقدوا العزّة الّتي تستحقّ أن يبذلوا أنفسهم من أجلها, "وحين يفقد الإنسان شيئاً يستحقّ أن يبذل نفسه من أجله, فقد فقدَ أساس الفعالية, وغرق في أساس الكلالة والوهن " ().
ثانياً : أثر فقد العزّة على المجتمع المسلم :
إنّ المجتمع الّذي يعاني أفراده من الضعف والقنوط والإحباط وفقد الإحساس, والإجتراء على حرمات الله, يعيش في وضعٍ لا يُحسد عليه, وهذا ما نراه في المجتمع الإسلامي اليوم, والّذي يعاني من :
1 ـ انتشار القيم الغربية والمنحرفة في المجتمع :
فهذا المجتمع الّذي أصبح مفتوحاً للغرب, وذلك بسبب ضعف أفراده, صار متلقيّاً ومتأثّراً بأفكار وانحرافات الغرب, فصرنا نرى في المجتمعات الإسلامية كثيراً من المظاهر المنحرفة, هذه المظاهر الّتي استوردها المجتمع المسلم من الغرب بحجّة التقدّم والتطوّر, حتّى أصبحت كالسرطان الّذي يغزو أعضاء الجسم فيبدأ بجزءٍ صغيرٍ منه ثمّ يعمّ في كلّ أعضاء الجسم حتّى يقضي عليه في النهاية .
2 ـ الخوف من الحكّام , وانعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم :(/5)
فالحاكم أصبح بحاجة إلى الحماية من شعبه, بدل أن يكون أفراد هذا الشعب هم عونه وحماته . والمحكوم أخذ ينظر إلى حكّامه على أنّهم خونةٌ, وغير أهلٍ للثقة, وليس لهم همّ سوى استغلال الناس وإخضاعهم , ونهب ثرواتهم, ومعاملتهم معاملة العبيد, وما هذا إلاّ نتيجةٌ لما يعانيه أفراد هذا المجتمع من فقدٍ للعزّة .
3 ـ التحديات الخارجية, وتسلّط الأعداء :
فكلما كان المجتمع قويّاً كان أكثر تحصّناً من الأعداء, وكلّما كان ضعيفاً صار مطمعاً لغيره. لذلك فالمجتمع الإسلاميّ, ومنذ فترةٍ طويلةٍ, يتعرّض لهجماتٍ صليبيةٍ شرسةٍ, هدفها السيطرة عليه, ونهب خيراته, ومازالت هذه الهجمات مستمرّةً, وإن اختلفت أساليبها, وتنوّعت غاياتها .......فنرى, في بقاعٍ كثيرةٍ من العالم الإسلامي, جروحاً تنزف, ولا نستطيع, بسبب ضعفنا, أن نداويها .
4 ـ التمزّق والتفرّق والخلافات المستفحلة بين الأقطار الإسلامية :
وكما قلنا, فإنّ التفرّق هو نتيجةٌ للضعف, والبلاد الإسلامية بلادٌ ضعيفةٌ, لذلك نراها متفرقةً متشتتةً, والخلافات مستفحلةٌ فيما بينها ومازالت القوى العالمية تغذّي هذه الخلافات, بل وتزرعها إن لم تكن موجودةً أصلاً .
وليس انتشار الطائفية, والإقليمية, والقوميّة, إلا بصنع وتشجيع من هذه القوى الخارجية, الّتي رأت أنّ من مصلحتها بقاء هذه الخلافات, الّتي تستنزف قدرات العالم الإسلامي, وطاقاته, وأمواله, حتّى يبقى تحت السيطرة, ولا يقوى على النهوض .
5 ـ التدهور الخطير في الإقتصاد, وفي مناحي الحياة عامّةً :
وهذا أمرٌ معروفٌ فالدولة الضعيفة ليس لها سيطرةٌ أصلاً على مواردها, حتّى تستطيع تطويرها, واستغلالها الاستغلال الأمثل .وضعف الاقتصاد يعني ضعفاً في كلّ المرافق الأخرى, لذلك نجد أنّ البلاد الإسلامية, ذات الخيرات الكثيرة, هي بلادٌ متخلّفةٌ اقتصاديّاً, وتنمويّاً, وثقافيّاً, وسياسيّاً, وإداريّاً, ومازالت القوى الكبرى تستفيد من خيرات البلاد الإسلامية ومن مواردها البشرية, الّتي تهاجر إلى الغرب لتحصيل لقمة العيش .كلّ ذلك بسبب الضعف, وعدم فعالية الأفراد في المجتمع المسلم, ولعدم غيرتهم, وعدم مقاومتهم للتحديات الخارجية الطامعة فيه.
وللأسف لم يكن " العالم الإسلاميّ, في فترةٍ من فترات التاريخ, أغنى, وأقوى, وأوسع, منه في هذا الزمان ........ ولم يكن أهون, ولا أذلّ, ولا أضعف, وأخفّ في الميزان السياسي الدولي, منه في هذا الزمان " ().
ثالثاً : أثر فقد العزّة على العالم كلّه :
إنّ تردّي الأخلاق في العالم, وابتعاد الناس عن الدين, وتقديس المادّة, ما هو إلاّ نتيجةٌ لغياب القدوة الصالحة, والّتي كان يمثّلها الإسلام. ومع ابتعاد المسلمين عن دينهم, واتّباعهم للغرب, أصبح العالم يعيش في جاهليّة, بالرغم من تقدّم العلوم, وانتشار الإختراعات, وكأنّ هذا التقدّم, وهذه الإختراعات قد جعلت الإنسان يغترّ بما عنده من العلم,
ويزداد بعداً عن الدين وعن الخالق . وهكذا, تحوّلت البشرية إلى " جاهلية ماديّة, تجرّدت من كلّ ما خلّفته النبوّة من تعاليم روحيةٍ, وفضائل خلقيةٍ, ومبادئ إنسانيةٍ. وأصبحت لا تؤمن في الحياة الشخصيّة إلاّ باللذّة والمنفعة الماديّة. وفي الحياة السياسية إلاّ بالقوّة والغلبة. وفي الحياة الاجتماعيّة إلاّ بالوطنيّة المعتدية, والقوميّة الغاشمة. وثارت على الطبيعة الإنسانية, والمبادئ الخلقيّة, وشُغلت بالآلات, واستهانت بالغايات, ونسيت مقصد الحياة " (). وماهذا إلاّ لتخلّي المسلم عن دوره في العالم, لأنّه فقد عزّته, وكرامته وهمّته.
يتبع
الهوامش
ـ سارة حسن منمنة, جغرافية العالم الإسلامي, بيروت, دار بيروت المحروسة, ط2, 1417 / 1997م, 23
ـ المصدر نفسه, 65 .
ـ رواه أبو داود في كتاب الملاحم , باب ( تداعي الأمم على الإسلام ) , رقم الحديث 4297 ؛ ومحمّد ناصر الدين الألباني, صحيح سنن أبو داود, الرياض, مكتبة المعارف , 1419 / 1998, 3, 24 .
ـ جودت سعيد, العمل قدرة وإرا دة , ط2 , 1404/ 1984, 221 .
ـ المصدر نفسه, 222.
ـ ولا ننسى أنّ كثيراً من المسلمات في البلاد الأوربية و الغربية, وحتّى في بعض البلاد الإسلامية, لا يستطعن الاتزم بالحجاب الشرعي, على أقلّ تقدير, وإذا استطاعت الفتاة المسلمة لبسه في الشارع والأماكن العامّة فهي لا تستطيع الاحتفاظ به عندما تكون موظفة أو طالبة. وكذلك الرجل المسلم يتعرّض لمضايقات كثيرة إذا كان ملتزماً بدينه .
ـ جميل عبد الله المصري, حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة, الرياض, مكتبة العبيكان, ط3 , 1417/1996, 1 , 173 وما بعد
ـ جودت سعيد, فقدان التوازن الإجتماعي, مطبعة زيد بن ثابت الأنصاري, ط3 , 1404 / 1984, 12 .
ـ جمال الدين الأفغاني ومحمّد عبده, العروة الوثقى, بيروت, دار الكتاب العربي, ط3, 1403 / 1983, 74 .(/6)
ـ محمّد عيسى برهوم, عوامل التغير الاجتماعي, واتجاهاته في العالم الإسلامي, الندوة الفكرية الّتي عقدت بالتعاون مع كلية الإدارة العليا, لاهور, باكستان, 1404/1984م, بعنوان "الأحوال الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة وصور التغيير في العالم الإسلامي", 259 .
ـ الأبيات للقاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني .
ـ هذا الحديث مرويٌّ عن طريق هشام عن عروة عن أبيه عن عبدالله بن عمرو بن العاص. وقد رواه البخاري في صحيحه في باب ( كيف يُقبض العلم ) من كتاب العلم, 1, 34. ورواه مسلم في صحيحه أيضاً في باب ( رفع العلم وقبضه وظهور أهل الجهل ) من كتاب العلم, 8, 60. ومالك بن أنس, الموطأ, تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي, بيروت, دار إحياء التراث العربي, ط1 , 1406, 1, 14.
13ـ رواه ابن ماجه في كتاب الفتن , باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , محمّد ناصر الدين الألباني, صحيح ابن ماجة, مكتب التربية العربي لدول الخليج , ط3 , 1408/1988, 2 , 367 . ورواه الترمذي في كتاب الفتن , باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يُغيّر المنكر . وابراهيم عطوه عوض, الجامع الصحيح لسنن الترمذي, دار الحديث , القاهرة , 4, 467 .
ـ أبو الحسن الماوري, أدب الدين والدنيا, تحقيق مصطفى السقّا, بيروت, المكتبة الثقافية, ط3, 308 .
ـ فرج عبد القادر طه, موسوعة علم النفس والتحليل النفسي, الصفاة, الكويت, دار سعاد الصباح, 1993م, 31 .
ـ ت , أ , انسكو وج سكوبلر, علم النفس الإجتماعي, ترجمة عبد الحميد صفوت إبراهيم, الرياض, مطابع جامعة الملك سعود, 1413/1993, 308 . وجاء في الكتاب أنّ دولارد وزملائه يرون " أنّ ظهور السلوك العدواني يفترض أن يسبقه دائماً إحباط, والعكس صحيح, فإنّ وجود الإحباط يؤدّي دائماً إلى شكلٍ من أشكال العدوان".
ـ جودت سعيد, الإنسان حين يكون كلاًّ, وحين يكون عدلاً, دار الثقافة للجميع, ط2, 1398 / 1978, 15 .
ـ أبو الحسن الندوي, الإسلام والحضارة الإنسانية, وواقع العالم الإسلامي, الكويت, دار القلم, ط2, 1415/1994, 82 .
ـ أبو الحسن علي الحسني الندوي, ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين , الكويت, دار القلم, ط14 , 1412/1992, 233 .(/7)
العزّة
الفصل الثاني
رغداء محمّد أديب زيدان
wahab1957@hotmail.com
العزّة في اللغة :
هي القوّة والشدّة والغلبة, والعزّ والعزّة هي الرفعة والإمتناع. وفي التنزيل العزيز جاء قوله سبحانه تعالى: " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ " (المنافقون: من الآية8). ورجلٌ عزيزٌ: منيعٌ لا يُغلب ولا يُقهر. والعزّة: الشدّة والقوّة.()
وقد عرّف القدماء العزّة بأنّها صفةٌ مانعةٌ للإنسان من أن يغلبه غيره.()
وفي الإسلام هي: خلقٌ أراده الله للإنسان أن ينغرس في نفس المسلم, وأن يتّصف به المؤمنون. قال سبحانه تعالى: "وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ " (آل عمران:139) وقال أيضاً عزّ وجلّ واصفاً المسلمين: " أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ " (المائدة: من الآية54) .
منهج الإسلام في غرس العزّة في نفس المسلم :
كان للإسلام منهجٌ واضحٌ في غرس العزّة عند المسلم, هذا المنهج يتمثّل بعدّة نقاطٍ, أهمّها :
1 ـ جاءت عقيدة التوحيد لتخلّص الإنسان من عبادة غير الله :
ولتسمو روح العزّة في نفسه, فلا خضوع إلاّ لله, ولا رجاء إلاّ بالله, ولا استعانة إلاّ بالله, فهو الخالق, والله الرازق, وهو الشافي والمعافي وهو المنتّقم الجبّار: " الّذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالّذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ* وَالّذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالّذي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ " (الشعراء:78 , 82)
فالله وحده, لا شيء غيره, يخضع له المسلم, فيتخلّص بذلك من ذلّ الإنقياد لأيّ إنسانٍ أومخلوقٍ آخر, أو قوّة طبيعيّة أو صنعيّة, أو حجرٍ أو شجرٍ, أو أيّ شيء آخر غيره سبحانه, ويتخلّص من ضعة الإتبّاع, وضعف الطلب وذلّه, فاستقرار " العقيدة الربّانيّة في أعماق النفس الإنسانيّة, يجعلها تتحرر من الخوف والجبن, بل يجعلها عزيزةً كريمةً
فلا تذلّ لأحد "().
2 ـ والله استخلف الإنسان في الأرض :
و خلقه في أحسن تقويم, و سخّر له الكون كلّه, و ما فيه من مخلوقات. وقد أكد الله سبحانه هذا في القرآن الكريم, فقال تعالى: " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبرِّ وَالْبَحرِ وَرَزَقْنَاهمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً " (الإسراء:70). وجاء قوله تعالى:" أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً " (لقمان: من الآية20). "وهذا كلّه يثبت أنّ الإنسان نوعٌ متفرّدٌ ومتميّزٌ عن سائر الحيوانات, فإنّها, وإن شابهته في عناصر تكوينها الطيني, تخالفه ويخالفها في التكوين المعنوي, إذ لم يكرّمها الله بما كرّمه به من الروح والعقل "(). وهذه العقيدة تغرس في نفسه العزّة, فلا يتعامل مع باقي مخلوقات الله من منطلق التابع, بل من منطلق السيّد العزيز, الّذي كرّمه الله سبحانه, وشرّفه, ونفخ فيه من روحه .
3 ـ ورد وصف الله سبحانه " بالعزيز" في تسعين آيةٍ في القرآن :
وما ذلك إلاّ ليعرف المسلم أنّ الله هو الغالب, وهو القويّ الّذي لا يعجزه شيءٌ " فكأنّه أراد بذلك, وهو أعلم بمراده أن يملأ أسماع المؤمنين بحديث العزّة والقوّة, فإذا ما سيطر عليهم اليقين بعزّة ربّهم, استشعروا القوّة في أنفسهم, واعتزّوا بمن له الكبرياء وحده في السماوات والأرض, وتأبّوا على الهوان حين يأتيهم من أيّ مخلوقٍ " ().
4 ـ أثر فريضة الجهاد في النفوس :
فقد فرض الله سبحانه وتعالى الجهاد على المسلمين ليحفظوا به عزّتهم, ولم يكن الجهاد, في يومٍ من الأيّام , وسيلةً للسيطرة والعدوان على الأخرين, بل هو" ثورةٌ دائمةٌ, لا نمكّن بها عدوّاً من التحكّم في رقابنا" (). وهو الوسيلة الّتي أمرنا الله أن نتّخذها من أجل إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد .
وقد حذّرنا الله سبحانه من التقاعس عن الجهاد, فقال تعالى: " إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "(التوبة:39).
وأمرنا سبحانه أن نجاهد مهما كانت الظروف والأحوال فقال: " انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ "(التوبة:41). لذلك فقد كان المسلمون الأولون يسارعون في الجهاد, وفي تلبية داعيه لأنهم عرفوا أنّهم بالجهاد يحافظون على عزّتهم, وينشرون دين الله الّذي يحفظ العزّة لجميع البشر .
5 ـ حرر الإسلام المسلم من الخوف بكافّة أشكاله :(/1)
سواء كان هذا الخوف على الحياة, أوكان بسبب الحصول على الرزق أو كان الخوف من أذى الغير . فالمسلم يعلم أنّ حياته بيد الله, لا يموت إلا بأمره, ولا يحيى إلاّ بأمره, يقول تعالى: " أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ "(النساء: من الآية78) . ويقول رسول الله r: " واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ, لم ينفعوك إلاّ بشيءٍ قد كتبه الله لك, وإن اجتمعوا على أن يضرّوك بشيءٍ لم يضرّوك إلاّ بشيءٍ كتبه الله عليك, رُفعت الأقلام, وجفّت الصحف"(). فإذا آمن المسلم بهذه الحقيقة فإنّه لا يخشى أحداً إلاّ الله, ولا يخاف من شيءٍ, أو من مرضٍ, أو من أذى, فهو يؤمن بقوله تعالى:" قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاًّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا "(التوبة:51).
والمسلم يعلم أنّ الرزق بيد الله, وأنّ الله لا يمنع رزقه عن عباده الساعين للكسب الحلال, فهو يقول في محكم آياته: "وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ "(العنكبوت:60). وبذلك فقد حرّر الإسلام الإنسان من الخوف بكافّة أشكاله, وصدق تعالى إذ يقول: " إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ "(آل عمران:175).
6 ـ حرّر الإسلام الإنسان من أن يكون عبداً لشهواته :
وغرس في نفسه أنّ هذه الدنيا فانية, ومتعها زائلة, فرفع من نفس المسلم, وحرّره من الخضوع لشهواته, فمن يخضع لشهواته مستعدٌّ لأن يقبل الذلّ في سبيل الحصول على هذه الشهوات والمغريات. لذلك فقد حذّر الله الحريصين على متع الدنيا والمتهافتين عليها, من أنّ الخسران سوف يحيط بهم فقال: " قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (التوبة:24)
7 ـ حثّ الإسلام المسلم على العمل :
ونهاه عن الكسل والعجز, ففي الحديث الشريف عن أنسٍ رضي الله عنه, قال: كان النبيُّ r يقول: " اللهمّ إني أعوذ بك من العجز والكسل, والجبن والهرم, وأعوذ بك من عذاب القبر, وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات"(). فقد كان النبيُّ r يعتبر الكسل شرّاً , يجب أن نلجأ إلى الله سبحانه متعوذّين منه لأنّه يؤدي إلى التواكل وإلى الذلّة الّتي يبغضها الإسلام. وقديماً قيل: " إنما الأمل رجاءٌ يتبعه عملٌ, ويصحبه حمل النفس على المكاره "(). وهذا يعني أنّ من يأمل في تحقيق أيّ شيءٍ في حياته, وجب عليه أن يعمل, والعمل لايتمّ, ولا يُؤتي ثماره إلاّ إذا صبر الإنسان على تحمّل مشاقّه, وروّض نفسه عليه, فالعمل يحفظ كرامة الإنسان, ويغنيه عن ذلّ السؤال. قال تعالى: "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ "(التوبة:105)
8 ـ حرّر الإسلام المسلم من الضعف واليأس :
وأمره أن يحاول للوصول إلى هدفه مهما تعرّض للفشل, ونهاه عن اليأس, بل لقد عدّ اليأس كفراً, فقال تعالى : "وَلا تَيْأَسوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ " (يوسف: من الآية87) .
وقد عاب الله تعالى على الإنسان ضعفه, ولم يقبله عذراً للإنسان ليقع في الخطأ, ويستمرّ فيه, ولن ينجو من عقاب الله تعالى يوم القيامة من يجعل الضعف عذراً لسوء أفعاله. قال تعالى: " إِنَّ الّذينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً " (النساء:97) .
لذلك يجب على المسلم أن يحاول النهوض من كبواته, ولا يجوز له الاستسلام للضعف واليأس, حتّى لا يذلّ ويخنع, وحتّى لا يتسلّط عليه أعداؤه فيرغمونه على معصية ربّه جلّ وعلا.(/2)
وبذلك نرى أنّ الإسلام يريد من المسلم أن يكون عزيزاً كريماً, لا يخضع ولا يذلّ, بل يريده أن يتحدّى الظروف الّتي تجبره على الذلّة, فالإسلام ثورةٌ دائمةٌ على الذلّ والخنوع, وهو خصيم الهوان والاستكانة, ولا يرضى من المسلم إلاّ أن يكون مرفوع الرأس, لا يخضع لأحد, ولا يذلّ لأحد, فالمسلمون " لا يسمح لهم يقينهم بالله, وبما جاء به محمّد u, أن يقنطوا من رحمة ربّهم في إعادة مجدهم مع كثرة عددهم. ولا يسوّغ لهم إيمانهم أن يرضخوا للذلّ, ويرضوا للضيم, ويتقاعدوا عن إعلاء كلمتهم " ()
طرق استعادة العزّة الّتي وعد الله بها عباده المؤمنين
تمهيد :
"برغم كلّ ما أُصيب به المسلمون من علّةٍ وضعفٍ فإنّهم هم الأمّة الوحيدة على وجه الأرض, الّتي تعدّ خصيم الأمم الغربيّة وغريمتها ومنافستها في قيادة الأمم, ومزاحمتها في وضع العالم, والّتي يعزم عليها دينها أن تراقب سير العالم وتحاسب الأمم على أخلاقها وأعمالها ونزعاتها, وأن تقودها إلى الفضيلة والتقوى, وإلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة وتحول بينها وبين جهنّم ما استطاعت من القوّة, والّتي يحرم عليها دينها ويأبى وضعها وفطرتها أن تتحوّل أمّةً جاهليّةً "().
لذلك كان من الواجب عليها, تجاه دينها وربّها أن تحاول استعادة عزّتها ومكانتها بين أمم الأرض, وأن تحاول أن يكون لها التأثير المطلوب في الكون والبشريّة, لتنقل العالم من الظلمات إلى النور, ومن الشرّ إلى الخير, ومن الذلّة إلى العزّة. ولا يمكن لأمّةٍ أن تتبوّء هذه المكانة إلاّ بنهوض أفرادها, وعملهم وكونهم مثالاً يُحتذى أمام الآخرين. لذلك كان لزاماً على المسلمين أن يعملوا بكلّ ما يملكون من وسائل, وإمكاناتٍ, ومعارف, وخبراتٍ, للخروج من حالة الدعة والضعف إلى حالة القوّة والعزّة "فالخروج من حالة التخلّف, بل المهانة والذلّ, لا يمكن لمجرّد التمنّي أو التظاهر ......وإنما يكون بتغيير الأفعال الّتي أوصلت إلى تلك الحال إلى أفعالٍ مغايرةٍ لها, أفعالٍ تنسجم مع ما أراد الله لهذه الأمّة أن تكون عليه" ().
طرق استعادة العزّة :
حتّى نعرف هذه الطرق نعود إلى كتاب الله الكريم, الّذي جعله الله تعالى دستور حياتنا, ونورنا الّذي نسير فيه في ظلمات الحياة, فنجد: إنّ الآيات الّتي ورد فيها ذكر العزّة أو الفعل عزّ أو أيّ من اشتقاقات هذا الفعل هي:
1ـ من الآيات الّتي ورد فيها لفظ العزّة قوله تعالى :
" وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالأثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ " (البقرة:206) .
" الّذينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً " (النساء:139) .
" وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " (يونس:65) .
" مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ " (فاطر:10) .
" سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ " (الصافات:180) .
" وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ" (المنافقون:8) .
" قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ " (صّ:82)
" فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ " (الشعراء:44)
" بَلِ الّذينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ " (صّ:2) .
2ـ من الآيات الّتي ورد فيها لفظ العزيز قوله تعالى:
أ ـ لفظ العزيز مقترناً مع لفظ الحكيم :
" رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (البقرة:129)
" هوَ الّذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (آل عمران:6)
" شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (آل عمران:18)
" إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (آل عمران:62)
" وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ " (آل عمران:126)
" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (المائدة:118)(/3)
" وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (ابراهيم:4)
" لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (النحل:60)
" يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (النمل:9)
" فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (العنكبوت:26)
" إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (العنكبوت:42)
" وَهُوَ الّذي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (الروم:27)
" خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (لقمان:9)
" قُلْ أَرُونِيَ الّذينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (سبأ:27)
" مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (فاطر:2)
" تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ " (الزمر:1)
"رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الّتي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (غافر:8)
" كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الّذينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (الشورى:3)
" تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ " (الجاثية:2)
" وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (الجاثية:37)
" تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ " (الاحقاف:2)
" سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (الحديد:1)
" سبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (الحشر:1)
" هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (الحشر:24)
" رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (الممتحنة:5)
" سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (الصف:1)
" يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ " (الجمعة:1)
" وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (الجمعة:3)
" عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (التغابن:18)
" فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (البقرة:209)
" وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (البقرة:220)
" وَلَهُنَّ مِثْلُ الّذي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (البقرة:228)
" وَالّذينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (البقرة:240)
" وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (البقرة:260)
" وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (الأنفال:10)
" إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (لأنفال:49)
" وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (لأنفال:63)(/4)
" تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (الأنفال:67)
" وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (التوبة:40)
" وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (التوبة:71)
" وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (المائدة:38)
" وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (لقمان:27)
" إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً " (النساء:56)
" بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً " (النساء:158)
" رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً " (النساء:165)
" وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً " (الفتح:7)
" وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً " (الفتح:19)
ب ـ لفظ العزيز مقترناً مع لفظ العليم :
" فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ " (الأنعام:96)
" إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ " (النمل:78)
" وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" (يّس:38)
" تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ " (غافر:2)
" فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ " (فصلت:12)
" وَلَئِنْ سأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ " (الزخرف:9)
ج ـ لفظ العزيز مقترناً مع لفظ القويّ والجبّار :
" فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالّذينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ " (هود:66)
" اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ " (الشورى:19)
" وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ " (الحج:40)
" مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ " (الحج:74)
" لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ " (الحديد:25)
" كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ " (المجادلة:21)
" وَرَدَّ اللَّهُ الّذينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً " (الأحزاب:25)
" هُوَ اللَّهُ الّذي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ" (الحشر:23)
د ـ لفظ العزيز مع لفظ ذو انتقام :
" إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ " (آل عمران:4)
" وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ " (المائدة:95)
" فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ " (ابراهيم:47)
" وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ " (الزمر:37)
هـ ـ لفظ العزيز مع لفظ مقتدر :
" كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ " (القمر:42)
و ـ لفظ العزيز مع لفظ الحميد :(/5)
" الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ " (ابراهيم:1)
" وَيَرَى الّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الّذي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ " (سبأ:6)
" وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ " (البروج:8)
ز ـ لفظ العزيز مع لفظ الرحيم :
" وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ " (الشعراء:9 , 104 , 122 , 140 , 159 , 175 , 191 )
" وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ " (الشعراء:217)
" بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ " (الروم:5)
" ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ " (السجدة:6)
" تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ" (يّس:5)
" إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ " (الدخان:42)
ح ـ لفظ العزيز مع لفظ الغفّار والغفور :
" رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ " (صّ:66)
" خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ " (الزمر:5)
" تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ" (غافر:42)
" الّذي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَه,,وَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ " (الملك:2)
"وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ"(فاطر:28)
ط ـ لفظ العزيز مع لفظ الوهّاب :
" أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ " (صّ:9)
3 ـ ورد لفظ العزّ في قوله تعالى :
" وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً " (مريم:81)
4ـ أمّا الفعل تعزّ فقد ورد في قوله تعالى :
" قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (آل عمران:26) .
5 ـ ورد لفظ أعزّة و أعزّ في قوله تعالى :
" يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"(المائدة:54)
" وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً " (الكهف:34)
" قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ " (النمل:34) .
ومن خلال تأملّنا لهذه الآيات الكريمة, يمكن لنا أن نستخلص بعض الدلالات الّتي تساعدنا على معرفة الطرق لاستعادة عزّتنا فنجد:
1 ـ العزّة لله وحده, وهي من الله وحده:
فالعزّة لا يمكن الحصول عليها بامتلاك المال أوالجاه, أو بوجود الأولاد, أو بالتمسّك بمظاهر زائلةٍ, أو بالركون إلى أشخاص أو مخلوقاتٍ غير الله سبحانه. فالكفّار ظنّوا أنّهم سيحصلون على العزّة من خلال اتّخاذهم لآلهةٍ يفخرون بها, وينتمون إليها, ويحتمون بها من عذاب الله سبحانه, فقال تعالى :
" وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً "(مريم : 81 , 82).
وقد جاء في تفسير هذه الآية : " ليكونوا لهم عزّاً أي منعةً, يعني ليكونوا شفعاء يمنعونهم من العذاب " (). وظنّوا كذلك أنّهم باتّباعهم للكبراء والأقوياء والمتنفّذين فإنّهم سيحصلون على العزّة , وقد خاطبهم تعالى بقوله : " الّذينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً " (النساء:139)(/6)
وقد ظنّ كثيرٌ من الناس أنّ العزّة هي بامتلاك المال والجاه, وكثرة الأولاد, " وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً " (الكهف:34). فالإنسان ظنّ أنّ المال يعطي العزّة والرفعة, لذلك فقد اعتبر أنّ نقص المال والأولاد, إذا أصابه, فإنّه سيكون إهانة ً لعزّته ورفعته, " فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أهانَنِ " (الفجر: 15 , 16)
ولكنّ الله تعالى بيّن أنّّ المال لا علاقة له بالعزّة, بل هو ابتلاءٌ واختبارٌ من الله لهذا الإنسان, وبيّن أنّ الأموال والأولاد فتنةٌ فقال في محكم تنزيله: " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ " (لأنفال:28) .
وقد يشعر الإنسان, بسبب ضعفه, أنّ هذه الأمور السابقة تشعره بالعزّة, ولكنّ هذه العزّة هي عزّةٌ ناقصةٌ, مشوّهةٌ, فانيةٌ, معرّضةٌٌ للزوال الّذي يتبعه ذلٌّ وانكسارٌ, يقول تعالى: " أَفَرَأَيْتَ الّذي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً "(مريم : 77 ,78 , 79 ,80)
أمّا العزّة الّتي يريدها الله للمسلم فهي عزّةٌ دائمةٌ, لا تفنى ولا تسقط بتغيّر الأحوال والأموال, لأنّها تستند إلى باقٍ خالدٍ هو الله تبارك وتعالى. " قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "(آل عمران:26).لذلك فإذا أردنا استعادة العزّة, وجب علينا أن نصحح فهمنا لمعنى العزّة, وأن نطلبها عند الله, فعقيدتنا عقيدة استعلاءٍ وعزّةٍ, والمسلم يردد في كلّ يومٍ كلمة العزّة (الله أكبر) مراتٍ كثيرةٍ, في صلاته, وفي آذانه, وفي جهاده, وفي ذبحه, وفي كلّ موقفٍ من مواقف حياته, وما ذلك إلاّ ليتذكّر أنّ الله تعالى أكبر من كلّ شيءٍ, وهو أكبر من كلّ هذه المظاهر الزائلة الفانية." مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً "(فاطر: من الآية10). " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ " (المنافقون: من الآية8)
فمن أراد العزّة فهي في عقيدة الإسلام, وفي روح الإسلام وعند ربّ المسلمين عزّ وجلّ وهذا ما فهمه المسلمون الأوّلون من الإسلام, فهموا أنّ هذا الدّين هو دين العزّة, جاء ليخرجهم من ظلمات الدنّيا إلى نور الدنّيا والآخرة, فانطلقوا بكلّ ما يملكون من إمكاناتٍ, كانت متواضعةً في كثيرٍ من الأحيان, ليفتحوا العالم, ولينشروا الإسلام في كلّ بقاع الأرض, فأصبحوا سادة العالم, وذلك بعد أن تخلّوا عن هذه المظاهر الزائلة, والّتي لا تغني شيئاً. فإذا أردنا استعادة العزّة, يجب أن نعرف أنّ أمّتنا لن تقوم من رقادها إلاّ "برجوعها إلى منابع دينها, والأخذ بأحكامه على ما كان في بدايته وإرشاد العامّة بمواعظه الوافية بتطهير القلوب, وتهذيب الأخلاق, وايقاد نيران الغيرة, وجمع الكلمة, وبيع الأرواح لشرف الأمّة "(). لذلك فنحن اليوم بحاجةٍ إلى " تكوين العقل العربي المسلم, وإلى تكوين القلب المسلم, وإلى تكوين الإنسان الّذي يصطلح مع ربّه, ويصطلح مع فطرته, ويعود إلى منابعه النقيّة, أيّام الرسول r, وأيّام أبي بكرٍ, وأيّام عمرٍ ونستقي منها" ().
2 ـ وردت في الآيات الكريمة صفة العزّة متلازمةً مع صفة الحكمة والعلم :
وذلك في كثيرٍ من الآيات, كما مرّ معنا, وهذا يدلّ على أنّ من يريد العزّة يجب أن يكون حكيماً, وساعياً إلى طلب العلم. فإذا كانت العزّة هي المنعة والغلبة, فإنّ الحكمة هي وضع الأشياء في مواضعها, ومن معانيها معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم, ومن معانيها العلم والتفقّه والعدل والإتقان, ومن معانيها معرفة الحلال والحرام, والسنّة المبيّنة للكتاب(). ولن يعرف الإنسان الحكمة إلاّ إذا علم سنن الله في الأرض واعتبر بها, ولعلّ من أهمّ الأمور الّتي يحتاجها المسلمون اليوم هو " أن يُوضّح لهم أنّ القعود عن تحصيل العلم والمعرفة من أكبر المعاصي الاجتماعيّة الّتي عليهم أن يجتنبوها, كما يجب إخراجهم من حالة الركود النفسيّ, الّتي لا يشعرون معها بخطيئتهم الكبرى, وهم يتخلّون عن تحصيل قواعد العلم, الّتي توصلهم إلى سنن تسخير المجتمع "().(/7)
وكما هو معلوم فإنّ الحصول على العلم يمكّن الإنسان من التعامل مع الأشياء بأفضل الطرق, ويستطيع أيضاً أن يمتلك الخبرة, ويكون أكثر انتباهاً لما يجري حوله, وأكثر مقدرةً على الاستفادة والاعتبار من غيره لذلك وجب على المسلم أن يتعلّم الحكمة, وأن يسعى لها .
وكان من نعم الله تعالى على المسلمين أن بعث فيهم من يعلّمهم الحكمة ويزكّيهم, ويدلّهم على الخير, يقول تعالى : " كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ" (البقرة:151) فرسول الله r علّم المسلمين الحكمة, وعلّمهم وضع الأمور في مواضعها الصحيحة, وعلّمهم أن يعطوا كلّ أمرٍ ما يستحقّ من الإهتمام, حتّى أصبح المسلمون على ما أصبحوا عليه من عزّةٍ ورفعةٍ. وبهذه الحكمة انتشر الإسلام في بقاع الجزيرة العربية بزمنٍ قياسيّ, وتابع انتشاره فيما بعد في بقاعٍ كثيرةٍ من الأرض. وقد بيّن لنا سبحانه أنّ الملك لا يبقى إلاّ بالحكمة, وضرب لنا مثلاً لذلك بأنبياء وملوك حكماء, فقال تعالى : " وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ " (صّ:20) "وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ "(البقرة: من الآية251) "فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً "(النساء: من الآية54)
فبالحكمة يرتفع الإنسان في عيون الناس, ويستطيع أن يحافظ على ملكه ويوّسعه, ويستطيع أن يستفيد من كلّ إمكاناته, فلا يُورد نفسه موارد الهلاك, ويُقدّر الأمور حقّ قدرها, وينظر إلى المستقبل نظرةً تنمّ عن علمٍ وفهمٍ, ويسعى بكلّ طاقاته ليساعد ويساهم في بناء أمّته, ورفعة دينه .
وقد جّه القرآن الكريم المسلمين إلى الاستفادة من تجارب الآخرين والاعتبار بما جرى معهم وتلافي أخطاءهم لأنّ هذا من الحكمة, وهو من الأمور الّتي تدلّ على العقل والفهم, يقول تعالى: " لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الّذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (يوسف:111). فاتّباع الحكمة, واتّباع العلم والعقل المتّفق مع شرع الله, وتطبيق ذلك التطبيق الصحيح, هو إحدى طرق استعادة العزّة الّتي وعد الله بها عباده المؤمنين.
3 ـ نجد في القرآن الكريم أنّ صفة القوّة و القدرة على ردّ العدوان ملازمةٌ للعزّة أيضاً :
فامتلاك القوّة, وامتلاك القدرة على استخدام هذه القوّة هي من الصفات الّتي تُوصل إلى العزّة, فالمسلمين" إذا أخذوا بأسباب القوّة الّتي أخذ بها أسلافهم, ومنها الالتزام بأوامر الله ورسوله, فإنّهم لا شكّ واصلون إلى الهدف الّذي يبغونه وهو القوّة والمنعة, والعزّ في العالم, والمكانة بين الأمم, فضلاً عن حماية العرين, وصدّ من يجرؤ على المساس ببلاد المسلمين "(). والمسلم يمتلك القوّة لا بامتلاك السلاح فقط, ولكن يجب عليه أن يقوّي جسده وعقله, لأنهما سبب قوّته, وبهما يصبح أفضل من يخدم الإسلام والمسلمين, يقول تعالى: " إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ "(القصص: من الآية26). والمسلم يستمدّ قوّته من الله, ومن إحساسه بوقوف الله معه في كلّ الظروف والأحوال, ومن عقيدته الّتي تحتّم عليه أن يتسلّح بكافّة أنواع القوّة وأسبابها: " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُم " (لأنفال:60)
فلفظ ( قوّة ) الّذي ورد في الآية بصيغة النكرة, يدلّ على أنّ المراد بالقوّة هي كافّة أشكال القوّة, الماديّة والجسديّة والسياسيّة والاقتصاديّة والعلميّة....إلخ, وليس المعنى محدداً بنوعٍ معيّنٍ من أنواع القوّة.
"ولقد أراد القرآن المجيد أن يهدي المؤمنين إلى الطريق الّذي يصون لهم العزّة, ويحصّنهم ضدّ الرضا بالهوان, أو السكوت على الضيم, فأمرهم بالإعداد والاستعداد لحفظ الكرامة والذود عن العزّة "(). لذلك فقد ورد في الحديث الشريف عن أبي هريرة: "المؤمن القوّي خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍّّّّّّّّّّّ خير, احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز, وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنّي فعلت كذا كان كذا, ولكن قل قدّر الله وما شاء فعل, فإنّ لو تفتح عمل الشيطان"().
فإذا شعر المسلم بقدرته على المواجهة, مواجهة الرغبة, ومواجهة الشهوة, ومواجهة الاعتداء عليه, فإنّ هذا سيشعره بالعزّة, فلا يذلّ ولا يضعف, بل يرتفع بما وهب الله له من إمكاناتٍ.(/8)
ولقد نزل القرآن بآياتٍ كثيرةٍ تقوّي من عزيمة المسلمين, وتصبّرهم على تحمّل الشدائد, وتبعث في أنفسهم روح المقاومة والإقدام, من هذه الآيات قوله سبحانه تعالى: " وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الّذينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الّذينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الّذينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ " (آل عمران: 139, 140, 141, 142)
ومع امتلاك القوّة لابدّ أن يستطيع المسلم أن يستخدم هذه القوّة متى احتاج إليها, فما هي فائدة القوّة إذا لم يستطع صاحبها استخدامها ليدافع عن نفسه, ويردّ العدوان عنه وعن المسلمين متى احتاج ذلك؟, فلا بدّ إذاً من أن يكون المسلم قادراً على استخدام قوّته, فالعجز عن استخدام القوّة ضعفٌ, لذلك يجب أن يبقى المسلم قويّاً, قادراً على استخدام قوّته بما ينفع ويفيد, وبما يُبقي المسلم في عزّةٍ دائمةٍ, وهذه إحدى طرق استعادة العزّة.
4 ـ وصف الله تعالى الكافرين أنّهم في عزّةٍ وشقاق:
"بَلِ الّذينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ "(صّ:2), والشقاق في اللغة العداوة بين فريقين(). وقد جاء في تفسير هذه الآية: " أنّ الكافرين في عزّةٍ أي حميّةٍ وجاهليّةٍ وتكبّرٍ عن الحقّ. وشقاق أي خلافٍ وعداوةٍ لمحمّد r " ().
وفي القرآن الكريم أيضاً جاء قوله تعالى: " وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ " (البقرة:206)
فهذا الإنسان لم يكن يملك القدرة على العودة للحقّ مع معرفته به, فأصرّ على الباطل, وهذا الإصرار سوف يؤدّي به إلى الضعف, لأنّ المخطئ يكون في موضع الضعيف, والحقّ يقوّي صاحبه ويعزّه, والنصر في النهاية للحقّ :" بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ " (الانبياء:18)
فيجب أن يعلم المسلم أنّه إذا أراد العزّة فعليه أن يتّبع الحقّ, وعليه أن يروّض نفسه على الرجوع إليه مهما كلّفه ذلك, وعليه أن يتعلّم كيف يعود إليه, وأن يملك الإرادة اللازمة لهذه العودة, فالحقّ أحقّ أن يُتّبع, وقد وصف الله تعالى المؤمنين الصالحين بقوله: " وَالّذينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ " (آل عمران:135)
كذلك يجب عليه أن يبحث عن الحقّ ويتحرّى عنه ويتّبعه, فمن طرق استعادة العزّة الإعتراف بأخطائنا, والرجوع عنها إلى الحقّ, ولن نرجع عن هذه الأخطاء إلاّ إذا عرفنا كيف نتخلّص منها, وعندها سوف نصحح مسيرتنا, ونضع
أرجلنا على الطريق المطلوب, الّذي سيوصلنا إلى غايتنا, ولهذا قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم" (الرعد: من الآية11), فلنبدأ بالتغيير , ولنبدأ بتصحيح طريقنا, واتّباع الحقّ الّذي أمرنا الله به .
5 ـ جاءت صفة العزّة في القرآن الكريم متلازمةً مع وصف الحميد والرحيم :
والحميد في اللغة بمعنى المحمود على كلّ حال (), والرحيم هو الرؤوف الرقيق المتعطّف.() وهاتان الصفتان, إذا تمثّلهما المسلم اقتداءً بربّه عزّ وجلّ, جعلتا منه إنساناً مهتمّاً بشؤون غيره, ومحاولاً مساعدتهم. والاهتمام بأمر المسلمين, والشعور بشعورهم, تساعد المسلمين على الخروج من حالة اللامبالاة الّتي يعيشونها, فتدفعهم للعمل البنّاء المثمر وعند ذلك يحسّون بأنّهم أصحاب رسالةٍ يجب أن يؤدّونها للعالم كلّه. وقد وصف رسول الله r المسلمين في الحديث الشريف عن النعمان بن بشير بقوله: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى"().
وقد ورد وصف الله تبارك وتعالى في القرآن بوصف العزيز الرحيم ثلاث عشرة مرّةً, وما ذلك إلاّ ليعرف المسلم أنّ العزّة " ليست تكبّراً وتفاخراً, وليست بغياً أو عدواناً, و ليست هضماً لحقٍّ أو ظلماً لإنسانٍ إنّما هي الحفاظ علىالكرامة, والصيانة لما يجب أن يُصان, لذلك لا تتعارض العزّة مع الرحمة, بل لعلّ خير الأعزّاء هو من يكون خير الرحماء"(). وهكذا وصف الله تعالى المسلمين بقوله:" أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " (المائدة: من الآية54)(/9)
والمسلم الّذي يتّصف بالصفات الجيّدة والصالحة, والّتي يصبح معها محموداً بين الناس, هو المسلم الحقيقي, الّذي يكون قدوةً لغيره في العمل والخير, وهو المسلم الفاعل الّذي يخدم أمّته وإخوانه في الدّين. فإذا اتّصف المسلمون بهذه الصفات استطاعوا أن يستعيدوا عزّتهم, ومكانتهم الرائدة بين أمم الأرض.
6 ـ وردت صفة العزّة متلازمةً مع صفة الغفّار والغفور والوهّاب:
فمن طرق استعادة العزّة, أن يملك المسلمون القدرة على تجاوز أخطاء الآخرين بحقّهم, فالمسلمون بعثهم الله هداةً للبشر, ولم يبعثهم قتلةً جبّارين, وأمرهم أن لا يكون المحرّك لأفعالهم ردّ الفعل والثأر من الأعداء, بل يجب أن يكون هدفهم هو هداية الناس, وإخراجهم من الظلمات إلى النور .
وكلّنا يتذكّر كيف كان موقف النبيّ r من قومه الّذين آذوه وأخرجوه من بلده, وحاربوا دعوته, حيث عفى عنهم عندما قدر على الثأر, وقال كلمته المشهورة " إذهبوا فأنتم الطلقاء ", ولم يكن يمنعه عنهم إلاّ أنّه صاحب رسالةٍ هدفها دعوة الناس إلى الخير والنور, وليس رجل ثأرٍ أو انتقامٍ. وبهذا الموقف تحوّل الأعداء إلى أحباب, ودخلوا في دين الله أفواجاً, فعزّ الإسلام والمسلمون.
7 ـ يقول تعالى : " وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ " (لأنفال:46) :
ويقول جلّ وعلا : " وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " (آل عمران:103) .
فقد حذّرنا الله سبحانه من الفرقة, لأنّ في الفرقة ضعفٌ وذلّةٌ. فإذا أراد المسلم العزّة يجب عليه أن يبقى مع الجماعة المسلمة ويجب عليه أن يعتزّ بدينه, وبانتمائه إلى هذا الدين, فيلتزم بما جاء به, وينفّذ تعاليمه. ولا يجوز لمسلمٍ أن ينتمي للإسلام بالقول دون الفعل وإلاّ فإنّه لا يكون مسلماً حقيقيّاً. ونحن نعرف أنّ السبب الأساسيّ الّذي أوصل المسلمين إلى حالهم المترديّة الّتي نراهم عليها هو التفرّق والتشتت .
وقد بدأ " هذا الإنحلال والضعف في روابط الملّة الإسلاميّة, عند انفصال الرتبة العلميّة عن رتبة الخلافة, وقتما قنع الخلفاء العبّاسيّون باسم الخلافة دون أن يحوزوا شرف العلم ....[ و] كثرت بذلك المذاهب, وتشعّب الخلاف من يداية القرن الثالث من الهجرة, إلى حدّ لم يسبق لم مثيلٌ في دينٍ من الأديان . ثمّ انثلمت وحدة الخلافة فانقسمت إلى أقسام ........وزاد الإختلاف شدّةً, وتقطّعت الوشائج بينهم بظهور جنكيز خان وأولاده, وتيمورلنك وأحفاده, وإيقاعهم بالمسلمين قتلاً وإذلالاً, حتّى أذهلوهم عن أنفسهم " (). كلّ هذه الكوارث والأحداث الفظيعة الّتي مرّت على الأمّة الإسلاميّة أدّت إلى فرقة المسلمين, والفرقة داءٌ خطيرٌ, خطيرٌ جدّاً, يفتك بقوّة الأمّة, ويتركها ضعيفةً ذليلةً لا تقدر على شيءٍ, وصدق الشاعر إذ يقول :
كونوا جميعاً يابنيّ إذا اعترى خطبٌ ولا تتفرقوا أفرادا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسّراً وإذا افترقن تكسّرت آحادا
فلذلك كانت الوحدة, وتجاوز المذهبيّة والأحقاد الطائفية هي سبيل العزّة, وهي من أهمّ الطرق الّتي يجب أن يسلكها المسلم لاستعادة عزّته.
هذه بعض الطرق لاستعادة العزّة, وكلّها, كما رأينا, تبدأ من الفرد, هذا المسلم الّذي حمّله الله المسؤوليّة عن دينه ودنياه وسيحاسبه على كلّ أفعاله وأقواله: " إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً " (الاسراء: من الآية36), فكان لزاماً على المسلم أن لا يتوانى ولا يتكاسل, ولا يحتجّ بالظروف والأحوال والأشخاص, لأنّ الله تعالى وجّهنا بقوله: " يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " (المائدة:105) .
فلنبدأ, وليكن دائماً أمامنا قوله سبحانه و تعالى :" وَعَدَ اللَّهُ الّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ " (النور:55) .
صور للمقارنة
بين من فقد العزّة ومن يشعر بها(/10)
إنّ الغرض من عرض هذه الصور هو التنبيه إلى خطر الذلّة, والتذكير بما كان عليه المسلمون الأوّلون من عزّةٍ استمدّوها من دينهم, عندما كانت الدنيّا لا تساوي شيئاً في نفوسهم, وعندما كان همّهم هو نشر الإسلام ورفع كلمة لا إله إلاّ الله, ولا شيء غير ذلك .
صور عن الذلّة :
1 ـ ذكر ابن الأثير فيما كان يرويه عن فظائع التتار, والخوف الّذي سيطر على نفوس المسلمين منهم, ودرجة الإنحطاط والضعف الّتي بلغها المسلمون آنذاك, فقال : " لقد بلغني أنّ إنساناً منهم [ يعني التتار ] أخذ رجلاً, ولم يكن مع التتريّ ما يقتله به, فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح. فوضع رأسه على الأرض, ومضى التتريّ فأحضرسيفاً وقتله به! "().
2 ـ وفي قصّةٍ أخرى قال: " حكى لي رجلٌ قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريقٍ, فجاءنا فارسٌ من التتر وقال لنا حتّى يكتّف بعضنا بعضاً. فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم .
فقلت لهم: هذا واحدٌ فلم لانقتله ونهرب ؟
فقالوا: نخاف ! .
فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة, فنحن نقتله, فلعلّ الله يخلّصنا.
فوالله ما جسر أحدٌ أن يفعل, فأخذت سكيّناً وقتلته وهربنا فنجونا! "().
فانظر إلى هذا العجز !, وانظر إلى هذه الذلّة ! . لقد بلغ الخوف عند هؤلاء أنّهم سلّموا أنفسهم للموت دون مقاومةٍ ويستغرب من يقرأ هذا الكلام, ويتساءل: على أيّ شيءٍ كان خوفهم ؟! على حياتهم, وهم يقدّمون أنفسهم للموت دون مقاومةٍ؟ ! أم على ماذا؟!. إنّه العجز والخوف الّذي أدّى إليه فقد العزّة, فلو كان عندهم عزّةٌ لما استسلموا, ولما فعل التتار ما فعلوه في بلاد المسلمين.
صور عن العزّة :
في غزوة الخندق عندما اجتمعت الأحزاب على قتال المسلمين, وحُوصر المسلمون في المدينة, وأصبحوا بين فكّي كمّاشةٍ: المشركون من الخارج, واليهود الغادرين من الداخل: " أرسل رسول الله r إلى عيينة بن حصن بن حذيفة, والحارث بن عوف بن أبي حارثة, رئيسيّ غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة , وجرت المراوضة [المساومة] في ذلك, ولم يتمّ الأمر. فذكر رسول الله r لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة, فقالا: يارسول الله, أشيءٌ أمرك الله به فلابدّ لنا منه ؟ أم شيءٌ تحبّه فنصنعه ؟ أم شيءٌ تصنعه لنا ؟
قال: بل شيءٌ أصنعه لكم, والله ما أصنع ذلك إلاّ أنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوسٍ واحدةٍ.
فقال سعد بن معاذ: يارسول الله, قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان, وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرةً إلاّ قِرىً أو بيعاً, فحين أكرمنا الله تعالى بالإسلام وهدانا له, وأعزّنا بك وبه, نعطيهم أموالنا ؟!, والله لا نعطيهم إلاّ السيف. فصوّب رسول الله رأيه" ().
فبالرغم من كلّ الضغوط, وبالرغم من قلّة المسلمين وقلّة عددهم, وقلّة سلاحهم وكثرة أعداءهم, رفضوا الاستسلام, ورفضوا أيّ شيءٍ يمسّ كرامتهم وعزّتهم, لأنّهم كانوا يشعرون بالعزّة, لذلك فهم لا يفرّطون بها, واختاروا إمّا النصر أو الشهادة . وهذا هو الفرق بين من يملك العزّة ومن يفقدها, فالأوّل يستهين بالموت في سبيل عزّته حتّى ولو كان لا يملك شيئاً من لوازم الدفاع. أما الآخر فإنّه يخنع ويذلّ، حتّى ولو ملك كلّ ما يحتاج إليه للدفاع عن نفسه.
وهذا ما حصل مع الخليفة المستعصم عندما دخل هولاكو بغداد، فقد سلّم لهولاكو حوضاً مملوءاً بالذّهب، وكان كلّه من سبائك تزن الواحدة مائة مثقالٍ، ويُقال إنّ المغول قد قتلوا في بغداد أكثر من ثمانمائة ألف().
فلو أنّ هذا المال، وهذا العدد من الرجال، قد استخدم في مواجهة المغول لما حصلت المأساة، ولما تجرّأ المغول على الإقتراب من بغداد.
وما أشبه اليوم بالأمس، فالأمّة الإسلاميّة فيها الثروات الكثيرة، والعدد الهائل من السكان، ولكنّهم منهزمون أمام دولةٍ صغيرةٍ، هي إسرائيل . مثلاً, جاء في جريدة المحرر مايلي: " يعتقد محلّلون اقتصاديون إنكليز وأمريكيون، أنّه إذا كان هناك خمسة زعماء عرب فقط، يمتلكون شخصيّاً 92 مليار دولار، وهو مبلغٌ مقاربٌ لما يمتلكه مئات الأثرياء اليهود، الّذين يشكّلون جزءاً من اللوبي الصهيوني الاقتصادي في العالم، فإنّ ما يمتلكه حوالي عشرة آلاف ملياردير ومليونير في العالم العربي المُعتبر (ثالثاً) و(فقيراً) من أموال البترو- دولار- يمكن أن يضاهي ما يمتلكه يهود العالم في القارات الخمس بما في ذلك إسرائيل وأرضها وممتلكاتها، وما تحلم بامتلاكه والسيطرة عليه من النيل إلى الفرات" (). فلو أنّ هذا المال، وهذا العدد من الرجال، اُستخدم لتحرير الأرض وطرد الغزاة، لما كان هناك دولةٌ تُسمّى إسرائيل في العالم.(/11)
وفي النهاية لا بدّ أن نذكر قصة ربعيّ بن عامر مع رستم قائد الفرس, في معركة القادسية: " أرسل سعدٌ ربعيّ بن عامر، فسار إليهم، فحسبوه على القنطرة، وأُعلم رستم بمجيئه، فأظهر زينته، وجلس على سريرٍ من ذهب، وبسط البسط والنمارق، والوسائد المنسوجة بالذّهب. وأقبل ربعي على فرسه وسيفه في خرقه، ورمحه مشدود بعصبٍ وقد، فلما انتهى إلى البسط, قيل له: انزل، فحمل فرسه عليها ونزل، وربطها بوسادتين شقّهما, وأدخل الحبل فيهما, فلم ينهوه, وأروه التهاون, وعليه درعٌ، وأخذ عباءة بعيره فتدرّعها, وشدّها على وسطه.
فقالوا: ضع سلاحك.
فقال: لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني .
فأخبروا رستم, فقال : ائذنوا له.
فأقبل يتوكّأ على رمحه، ويقارب خطوه، فلم يدع لهم نمرقاً ولا بساطاً إلا أفسده وهتكه.
فلمّا دنا من رستم، جلس على الأرض، وركز رمحه على البسط. فقيل له: ما حملك على هذا؟.
قال: إنا لا نستحبّ القعود على زينتكم .
فقال له ترجمان رستم: ما جاء بكم ؟ .
قال: الله جاء بنا, وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيّا إلى سعتها, ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام, فأرسلنا بدينه إلى خلقه, فمن قبله قبلنا منه, ورجعنا عنه, وتركناه وأرضه دوننا, ومن أبى قاتلناه, حتّى نفضي إلى الجنّة أو الظفر" ().
هذا هو المسلم العزيز, الّذي لا تغويه زخارف الدنيّا الفانية, فلا يقبل أن يذلّ من أجلها, ولا يضعها في حسابه .
هذا هو المسلم الّذي لا يخشى أحداً إلاّ الله, ولا يخضع إلاّ لله, فينطلق بعزّته رافع الرأس, شامخ العزيمة, عالي الهمّة, يقاتل في سبيل الله, وينشر رسالة الإسلام إلى كلّ بقاع العالم. فهل نعي الدرس, ونعود إلى عزّتنا وديننا؟ أرجو ذلك.
الخاتمة
قال تعالى: " إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ " (الرعد: من الآية11), فإذا أردنا استعادة عزّتنا يجب علينا تغيير حالنا, ويجب أن يبدأ كلّ إنسانٍ بنفسه, حتّى إذا صلح الفرد صلح المجتمع كلّه. لذلك, ومن خلال البحث السابق, يمكن أن نستخلص النتائج التالية:
1 ـ الإسلام دين العزّة, والمسلم الحقيقيّ هو الّذي يعتزّ بدينه ونفسه, والله لا يحبّ المتهاون المستكين, الّذي لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ودينه وقومه. لذلك فقد اهتمّ الإسلام بتربية المسلم على خلق العزّة, حتّى يصبح هذا الخلق من طبيعة ونفس ومميزات المسلم الحقّ.
2 ـ المسلم عندما ابتعد عن دينه ولحق بالدنيّا, وأصبح جمع المال أكبر همّه, وعندما اتبّع هواه, وركض وراء شهواته, ذلّ وخنع, وأخذ يشعر بالعجز والضعف, فتسبّب بضعف المجتمع, فتجرّأت الأمم على المجتمع المسلم، وأصبح تابعاً بعد أن كان متبوعاً، وأصبح مقلِّداً بعد أن كان مقلًّداً .
3 ـ إذا أراد المسلم أن يستعيد عزّته، يجب عليه أن يغيّر ما بنفسه من ضعفٍ وخنوعٍ، وأن يهيئ نفسه، ويتسلح بالعلم والحكمة، ويستعيد ثقته بنفسه وبدينه .
ويجب عليه أن يعود إلى منابع دينه ليفهمه، ويتمثّل مبادئه وأخلاقه الساميّة، وينصر الله حتّى ينصره، ويجب أن يحسّ بحاجة العالم إليه، ويؤمن برسالة الإسلام، رسالة الرحمة والعدل لكلّ البشريّة.
4 ـ على المسلمين أن يتوجّهوا إلى أبنائهم، فيربونهم على العزّة، ويغرسوا في نفوسهم الأنفة ورفض الضيم منذ الصغر، ويعلمونهم أنّ كلّ زخارف الدنيا هي فانيةٌ، لا تستحق أن يذلّ الإنسان من أجلها، وما ذلك إلاّ من أجل أن يكبروا وفي أنفسهم رفعة الإسلام، وعزّة الإسلام .
وأخيراً ندعو الله، أن يوفّق المسلمين إلى ما يحبّ ويرضى، وأن يمكّن لهم دينهم، ويرزقهم العزّ في الدنيا والآخرة .
"رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " (البقرة:201) .
" رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ " (آل عمران:8) .
تمّت بحمد الله
فهرس المصادر والمراجع
1 ـ ابن الأثير, الكامل في التاريخ, تحقيق عمر عبد السلام تدمري, بيروت, دار الكتاب العربي, 1417/ 1997.
2 ـ أحمد بن حنبل, مسند أحمد, تحقيق عبد الله محمّد درويش, دمشق, دار الفكر, 1411 / 1991م .
3 ـ أحمد الشرباصي, موسوعة أخلاق القرآن, بيروت, دار الرائد العربي, 1971 م .
4 ـ البخاري, صحيح البخاري, تحقيق مصطفى البغا, دمشق, دار العلوم الإنسانيّة, ط2, 1413 / 1993.
5 ـ الترمذي, الجامع الصحيح لسنن الترمذي, تحقيق ابراهيم عطوة عوض, القاهرة .
6 ـ ت . أ. أنسكو وج سكوبلر, علم النفس الإجتماعي التجريبي, ترجمة عبد الحميد صفوت ابراهيم, الرياض, مطابع جامعة الملك سعود, 1413 / 1993 .
7 ـ جمال الدين الأفغاني ومحمّد عبدو, العروة الوثقى, بيروت, دار الكتاب العربي, 1403 / 1983.
8 ـ جميل عبد الله المصري, حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة, مكتبة العبيكان, الرياض, ط3, 1417 /1996 .(/12)
9 ـ جودت سعيد, العمل قدرة وإرادة, دمشق, ط2 , 1404 / 1984.
10 ـ جودت سعيد, فقدان التوازن الإجتماعي, دمشق, ط3 , 1404 / 1984.
11 ـ جودت سعيد, الإنسان حين يكون كلاًّّّّّّّّّّّ وحين يكون عدلاً, دار الثقافة للجميع, ط2 , 1398 / 1978م .
12 ـ الخازن, لباب التأويل في معاني التنزيل, دار الكتب العربية الكبرى, مصر , 1328 هـ .
13 ـ ابن حزم الأندلسي, جوامع السيرة النبويّة, مراجعة وتعليق نايف العبّاس, دمشق, بيروت, دار ابن كثير, ط2 1406 / 1986.
14 ـ حسن ابراهيم حسن, تاريخ الإسلام, القاهرة, مكتبة النهضة المصريّة, 1967.
15 ـ سارة حسن منمنة, جغرافية العالم الإسلامي, بيروت, دار بيروت المحروسة, ط2, 1417 / 1997.
16 ـ عبد الله علوان, تكوين الشخصية الإنسانية في نظر الإسلام, بيروت, دار السلام, 1399 / 1979.
17 ـ علي الحسني الندوي, الإسلام والحضارة الإنسانية وواقع العالم الإسلامي, الكويت, دار القلم, ط2, 1415 / 1979.
18 ـ علي الحسني الندوي, ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين, الكويت, دار القلم, ط14, 1412/1992.
19 ـ فرج عبد القادر طه, موسوعة علم النفس والتحليل النفسي, الكويت, دار سعاد الصباح, 1993 .
20 ـ محمود محمّد عمارة, عزّة المؤمن, بيوت, دار الخير, 1413 / 1992.
21 ـ محمّد ناصر الدين الألباني, صحيح ابن ماجه, مكتب التربية العربي لدول الخليج, ط3, 1408 / 1988.
22 ـ محمّد ناصر الدين الألباني, صحيح أبو داود, الرياض, مكتبة المعارف, 1419 / 1998 .
23 ـ محمّد ناصر الدين الألباني, صحيح الترمذي, مكتب التربية العربي لدول الخليج, 1408 / 1988.
24 ـ محمّد خير رمضان يوسف, لقمان الحكيم وحكمه, دمشق, دار القلم, بيروت, الدار الشامية, ط2, 1415/ 1994.
25 ـ محمّد بن ناصر العبّودي, العالم الإسلامي واقعٌ وتوقّعاتٌ, كتيب المجلة العربية, العدد 36, ذو الحجّة,1420.
26 ـ مسلم بن الحجاج, صحيح مسلم, تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي, بيروت, دار إحياء التراث العربي, ط2, 1972.
27 ـ ابن منظور, لسان العرب, القاهرة, دار المعارف.
28 ـ الماوردي, أدب الدنيا والدين, تحقيق مصطفى السقّا, بيروت, المكتبة الثقافية, ط3 .
29 ـ محمّد عيسى برهوم, الأحوال الاجتماعية والإقتصادية المعاصرة وصور التغير في العالم الإسلامي, ندوة عقدت في لاهور بباكستان, 1404 / 1984. ومناقشات للشيخ محمّد الغزالي عليها .
30 ـ يوسف القرضاوي, الخصائص العامّة للإسلام, بيروت, مؤسسة الرسالة, ط 8, 1414/1993 .
31 ـ المحرر نيوز, العدد 236, 30 /3 / 2000م, خبر عن أثرياء العالم .
ـ ابن منظور , لسان العرب, القاهرة, دار المعارف, 3, مادة عزز, 2925 .
ـ أحمد الشرباصي, موسوعة أخلاق القرآن, بيروت, دار الرائد العربي, 1971م, الجزء الأوّل, 16 .
ـ عبد الله علوان, محاضرة تكوين الشخصية الإنسانية في نظر الإسلام, بيروت, دار السلام, 1399/1979, 14.
ـ يوسف القرضاوي, الخصائص العامّة للإسلام, بيروت, مؤسسة الرسالة, ط8, 1414/ 1993, 75.
ـ أحمد الشرباصي, موسوعة أخلاق القرآن, 1, 17.
ـ محمود محمّد عمارة, عزّة المؤمن, بيروت, دار الخير, 1413/ 1992, 13.
ـ محمّد ناصر الدين الألباني, صحيح سنن الترمذي, نشر مكتب التربية لدول الخليج العربي, 2, 1408/ 1988, 308. والحديث مروي في باب صفة القيامة, رقم الحديث 2648؛ ومسند أحمد, تحقيق عبد الله محمّد الدرويش, دمشق, دار الفكر, 1411/ 1991, 1, 650. والحديث مروي في مسند ابن عباس, رقم الحديث 2763
ـ البخاري, صحيح البخاري, تحقيق مصطفى البغا, دمشق, دار العلوم الإنسانية, ط2, 1413/ 1993, ج4, 2209. وقد روى الحديث في كتاب الدعوات, باب التعوذ من فتنة المحيا والممات, رقم الحديث 6006؛ و مسلم, صحيح مسلم, تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي, بيروت, دار التراث العربي, ط2, 1972, 4, 2079. وقد روى الحديث في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار, باب التعوذ من العجز والكسل.
ـ جمال الدين الأفغاني ومحمّد عبده, العروة الوثقى, 123.
ـ المصدر نفسه, 125.
ـ أبو الحسن علي الحسني الندوي, ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين, 237.
ـ محمّد ناصر العبّودي, العالم الإسلامي واقع وتوقعات, كتيب المجلة العربية, العدد 36 (ذو الحجة 1420/ نيسان 2000), 21.
ـ الخازن, لباب التأويل في معاني التنزيل, القاهرة, دار الكتب العربية الكبرى, 1328هـ, 3, 246.
ـ جمال الدين الأفغاني ومحمّد عبده, العروة الوثقى, 61.
ـ محمّد الغزالي, مناقشات قدمها على بحث "عوامل التغيّر الإجتماعي واتجاهاته في العالم الإسلامي" , لمحمّد عيسى برهوم, 279.
ـ محمّد خير رمضان يوسف, لقمان الحكيم وحكمه, دمشق, دار القلم, بيروت, الدار الشامية, ط2, 1415/ 1994, 8 ـ 12.
ـ جودت سعيد, العمل قدرة وإرادة, 215.
ـ محمّد ناصر العبّودي, العالم الإسلامي واقع وتوقعات, 27.
ـ أحمد الشرباصي, موسوعة أخلاق القرآن, 1, 17.(/13)
ـ مسلم, صحيح مسلم, تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي, 4, 2052. ورى الحديث في كتاب القدر , باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله, رقم الحديث 2664.
ـ ابن منظور, لسان العرب, باب الشين, 2, 2301.
ـ الخازن, لباب التأويل في معاني التنزيل, 4, 32.
ـ ابن منظور, لسان العرب, 1, 987.
ـ المصدر نفسه, 2, 1611.
ـ مسلم, صحيح مسلم, تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي, 4, 1999, كتاب البر والصلة والآداب, باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم, رقم الحديث 2586.و البخاري, صحيح البخاري, تحقيق مصطفى البغا, 4, 2107, كتاب الآداب, باب رحمة الناس والبهائم, رقم الحديث 5665.
ـ أحمد الشرباصي, موسوعة أخلاق القرآن, 1, 19.
ـ جمال الدين الأفغاني ومحمّد عبده, العروة الوثقى, 74.
ـ ابن الأثير, الكامل في التاريخ, تحقيق عمر عبد السلام تدمري, بيروت, دار الكتاب العربي, 1417/ 1997, 10, 249.
ـ المصدر نفسه, 10, 450.
ـ ابن حزم الأندلسي, جوامع السيرة النبوية, مراجعة وتعليق نايف عباس, دمشق, بيروت, دار ابن كثير, ط2, 1406/ 1986, 149 ـ 150.
ـ حسن ابراهيم حسن, تاريخ الإسلام, مكتب النهضة المصرية, القاهرة, 1967, 4, 160.
ـ الحرر نيوز, العدد 236, تاريخ 24, 30 /3/ 2000, من خبر ورد عن أثرياء العالم.
ـ ابن الأثير, الكامل في التاريخ, 2, 298.(/14)
العشاق
مقدمة
من هو الله ؟
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام علي أشرف الأنبياء المرسلين نبينا محمد واله وصحبه أجمعين .
يا من يرى مد البعوض جناها في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى نياط عروقها في مخها والمخ في تلك العظام النحل
اغفر لعبد تاب من زلاته ما كان منه في الزمان الأول
يقول الله لموسى ، عليه السلام ، وهو يرسله للطاغية فرعون الملحد يقول له ، ويثبته على العقيدة الصحيحة ، قبل أن يقوم بمهام الدعوة : ( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ) (طه: من الآية14) . فهذا تعريف الله عند أهل السنة والجماعة ، وهذا أحسن تعريف لصاحب النعم تبارك وتعالى ، وهذه هي أحسن الصفات أن تسميه : الله الذي لا إله إلا هو .
* سيبويه صاحب أعظم كتاب في النحو رؤي في المنام ، فقالوا : ماذا فعل الله بك ؟ قال : غفر لي وأدخلني الجنة .
قالوا : بماذا ؟
قال : لما وصلت إلى باب : الله لفظ الجلالة ، قلت : هو أعرف المعارف ، لا يعرف ( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّ ) (مريم: من الآية65) .
* في قوله سبحانه وتعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21) قد سئل أبو حنيفة رحمة الله من الملاحدة والزنادقة ، عن دليل قدرة الباري ، جل وعلا .
فقال أبو حنيفة لهم : سفينة تجوب عباب البحر ، بلا ربان ، وبلا قائد في بحر دجلة .
فقالوا : هذا لا يكون أبداً ، يا أبا حنيفة .
قال : سبحانه الله ! ليل داج ، وسماء ذات أبراج ، وبحر يزجر ، ونجوم تزهر ، ألا تدل على السميع البصير .
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
أما سألت الزهرة من أنبتها وجملها ؟
أما سألت الليل من كساه وأعطاه ؟
أما سألت من رفع السماء وبسط الأرض ؟
أننا جميعاً أو معظمنا نعيش ركوداً فكرياً عن التدبر في الكائنات ، قد أركدتنا أصوات الآلات ، وهدير المصانع ، والمشروبات ، والملبوسات ، والمطعومات .
* قيل للإمام أحمد : ما دليل القدرة ؟
قال : سبحانه الله ! بيضة الدجاجة ، أما سطحها : ففضة بيضاء ، وأما باطنها : فذهب أبريز ، تفقس فيخرج منها حيوان سميع بصير .
وقال هارون الرشيد للإمام مالك : ما دليل القدرة ؟
قال : سبحان الله ، اختلاف الأصوات ، وتعدد النغمات ، وتباين اللهجات .
* قالوا لابن الراوندي الزنديق : اكتب كتاباً في تفسير القرآن .
قال : بل أكتب كتاباً ، أرد به على القرآن ، وأدمغ به القرآن !
فدمغه الله على أم رأسه : ( وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) (فصلت: من الآية16) .
وأتى أبو العلاء المعري ، أعمى القلب والبصر ، يعترض على الشريعة يخاطب رب العزة ويقول :
يد بخمس مئين عسجدٍ وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض مالنا إلا السكوت عليه ونستعيذ بمولانا من النار
يقول : ما بال اليد اليمنى إذا قطعت وديت بخمسمائة دينار ذهب ؟ وهي تقطع إذا سرقت ربع دينار ؟
فنقول له ولأمثاله : يا عدو الله ، هذا شرع الله ودينه ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50) فما كان لأعمى القلب والبصر أن يعترض عليه . ولكن .. قد رد على هذا الأعمى كثير من أهل السنة ، وبينوا الحكمة في هذا الحكم الإلهي .
يقول أحدهم :
عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
ويقول عبد الوهاب المالكي :
قل للمعري عار أيما عار جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عاري
لا تقدحن بنود الشرع عن شبه فشرائع الدين لا تقدح بأشعار
* أعرابي يصلي في الصحراء ، مر به زنديق ملحد ، فقال له لمن تصلي ؟
قال : اصلي لربي .
قال : هل رأيته ؟ قال سبحان الله ، البعرة تدل على البعير ، والأثر يدل على المسير ، وسماء ذات أبراج ، وليل داج ، ونجوم تزهر ، ألا تدل على السميع البصير ؟ فهبت الذي كفر .
* قال ابن كثير : رؤي أبو نواس في المنام ، فقالوا له : ما فعل الله بك ؟ قال غفر لي .
قالوا : ماذا ؟
قال : بقصيدتي في النرجسة التي يقول فيها :
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على كثب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
* في الحديث أن أنس بن مالك قال : كنا جلوساً مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في المسجد بعد صلاة العصر ، فدخل أعرابي ، قائلاً : أين ابن عبد المطلب ؟
قالوا : هو ذاك الرجل الأبيض الأمهق المرتفق .
فدخل ، فوقف على رأس المصطفى ، عليه الصلاة والسلام ، وقال : يا محمد .
قال : ( قد أجبتك ) .
قال : أني سائلك ، فمشدد عليك في المسألة .
قال : ( سل ما بدا لك ) .
قال الأعرابي : من رفع السماء ؟ وكان ( صلى الله عليه وسلم ) متكئاً ، فقال : ( الله ) .
قال الأعرابي : ومن بسط الأرض ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الله ) .(/1)
قال الأعرابي : ومن نصب الجبال ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الله ) .
قال الأعرابي : أسألك بالذي رفع السماء ، وبسط الأرض ، ونصب الجبال آلله أرسلك إلينا رسولاً ؟ فاحمر وجهه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وتربع ، وقال : ( اللهم نعم ) .
قال الأعرابي : أسألك بمن رفع السماء ، وبسط الأرض ، ونصب الجبال ، آلله أمرك بأن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة . قال : ( اللهم نعم ) .
وأخذ يسأله ، حتى انتهى من أركان الإسلام ، ثم قال في الأخير : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، والله لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص ، أنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر .. ثم ولى !
فالتفت عليه الصلاة والسلام إلى أصحابه يتبسم ويقول : ( من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا )(1) .
* عمير بن الحمام رضي الله عنه ،خرج مجاهداً في سبيل الله ، وترك أهله، وماله وأولاده وكل ما يملك .
فسمع الرسول (صلى الله عليه وسلم ) وهو يقول في المعركة : ( يأهل بدر ما بينكم وبين الجنة إلا أن يقتلكم هؤلاء ) .
فيقول عمير بن الحمام : يا رسول الله ، ما بيننا وبين الجنة إلا أن يقتلنا هؤلاء ؟
قال (صلى الله عليه وسلم ) : ( إي والذي نفسي بيده ) .
فأخذ تمرات كانت بيده ، وألقاها ، وقال : والله ، إنها لحياة طويلة ، وإذا بقيت كي آكل هذه التمرات ! ثم كسر غمد سيفه على ركبته ، بالسيف مسلولاً وهو يقول : اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى(1) .
من ذا الذي السيوف ليرفع أسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولنا الأزهارا
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
* وقف عقبة بن نافع بفرسه على المحيط الأطلنطي ، قال : والله الذي لا إله إلا هو ، لو أعلم أن وراءك ، يا بحر ، أرضاً لخضتك حتى أصل إليها ، لأرفع لا إله إلا الله محمد رسول الله .
* سليمان بن مهران ، الأعمش ، لما حضرته الوفاة ، بكى أطفاله قال : أبكوا أو لا تبكوا ، والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الجماعة ستين سنة ، فبيض الله وجهه ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوه) (آل عمران : من الآية106) .
ألا لا أحب السير إلا مصعدا ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
وهذا سعد بن المسيب ، حضرته الوفاة ، فبكت ابنته ، قال : يا بنتي لا تبكي ، فو الله ما أذن المؤذن من أربعين سنة إلا وأنا في مسجده ، عليه الصلاة والسلام .
* رفع عمار بن ثابت بن الزبير يديه بعد صلاة الفجر ، وقال : يا رب أسألك الميتة الحسنة ، فقال أبناؤه : ما هي الميتة الحسنة ؟ قال : أن يتوفاني ربي وأنا ساجد .
فحضرته سكرات الموت ، وقد صدق الله ، فصدقه ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69) ، فقبضت روحه ، وهو في السجدة الأخيرة في صلاة المغرب !
* يقول الذهبي : أن عبد الملك بن مروان لما حضرته الوفاة قال : أنزلوني من على سريري ، فأنزلوه ، فسمع بجانب القصر غسالاً يتغنى .
فقال : يا ليتني كنت غسالاً ! يا ليتني ما توليت الخلافة !
قال ابن المسيب لما سمع ذلك : الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا وقت الموت ، ولا نفر إليهم .
* قالوا أن بعض الصالحين كان نجاراً ، فإذا سمع الصلاة وكان رافعاً المطرقة ألقاها قبل أن ينولها وقام إلى الصلاة .
وصح عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) إذا سمع الأذان قام كأنا لا نعرفه ولا يعرفنا .
وقال وهو في سكرات الموت ( الصلاة الصَلاة )(2) وقال عمر بن الخطاب ، ( لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة )(3) .
وإذا كان مهتماً أو مغتماً يقول : ( أرحنا بالصلاة يا بلال )(4) .
وقل لبلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصلياً
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصا ً به تلقى أبواب الجنان الثمانيا
* شاب من الجزائر ، البلد المسلم ، أصيب في حادث تصادم ، فأغمى عليه أربعة أيام ، فظل يكرر الفاتحة حتى مات .
مات عليها ؛ لأنه عاش عليها .
( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) (إبراهيم:27) .
* ذكر أهل العلم أن الإمام أحمد كان يصلي غير الفرائض ثلاثمائة ركعة فمن مثله منا ؟ اللهم لا تؤخذنا بتقصيرنا .
* الخشوع في الصلاة ، هو : أن تدخل الصلاة ، وأنت متيقن بأنه لا أعظم ولا أجل من الله ، وأن ترسل أشواقك إلى الحي القيوم ، وأن تصلي وكأنك ترى الحي القيوم ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
* قالوا لأحد الصالحين : هل تتذكر أحداً وأنت في صلاتك ؟ قال : والله لو اختلفت الأسنة وراء ظهري ، ما تذكرت إلا الله .(/2)
قالوا عن أبي بكر الصديق : أنه كان إذا قام ليصلي كأنه الظل الذي لا يزول ، تأتي الطيور فتقف على رأسه من خشوعه .. فأين نحن من هذا الجيل ؟
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض دماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
* قال الرسول عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن مسعود : ( اقرأ على القرآن ) .
قال : أقرأ عليك وعليك أنزل .
قال : ( أقرأ فإني أحب أن أسمعه من غيري ) .
فبدأ ابن مسعود يقرأ في سورة النساء حتى بلغ إلى قوله تعالى : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) (النساء:41) .
قال عليه الصلاة والسلام : ( حسبك الآن ) .
قال : فنظرت فإذا عيناه تذرفان(1) .
من الآثار المترتبة على ترك الصلاة :
1- المقت والغضب من الله ن والكفر لمن تركها ، فقد صح عنه (صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر )(2) .وصح عنه أنه قال : ( بين المسلم والكافر ترك الصلاة )(3) .
2- البغضاء والبعد بينه وبين الخلق ، فإن أبعد الناس إلى الناس : أبعدهم عن رب الناس تبارك وتعالى .
3- قسوة القلب ، وضيق الصدر ، وسواد الوجه ، وظلمة القلب ، وضيق الرزق واللعنة ، والشؤم ، وكل مصيبة في الدنيا والآخرة .
4- انقطاع الحبل بين العبد وربه الحي القيوم ، وعدم الولاية .
* يقول الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي في منظومته :
خذ واضح الحل ودع ما أشتبه مخافة المحذور يا من فقه
وازهد في دنياك وأقصر الأمل واجعل لوجه الله إجماع العمل
وزهرة الدنيا بها لا تفتتن ولا تغرنك وكن ممن فطن
تالله لو علمت ما وراءكا لما ضحكت ولأكثرت البكا
إلى أن يقول :
والموت فاذكره وما وراءه فمنه ما لأحد براءه
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يك شراً فما بعد أشد ويل لعبد عن سبيل صد
هذه الكلمات كالمقدمة لكتابي هذا ( مصارع العشاق ) وسيظهر بعد قليل ، من هم العشاق ، ومن عشقوا ، ولماذا عشقوا ، فإن ذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم وأسأل الله تعالى أن ينتفع بها من كتبها وقرأها وساهم في نشرها ، أنه ولي ذلك والقادر عليه .
والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
وكتب
د. عائض القرني
مصارع العشارق
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه ، وبعد .
فهذه بنات فكر ضمرت مرائرها ، وسرحت ضفائرها ، سموها ما شئتم : مقامات أدبية ، أو صولات خطابية ، إلياذة أو ملحمة ، المهم أنني آمن بأفكارها ، وتبطنت أسرارها ، جعلت عنوانها ( مصارع العشاق ) . فإن كنتم منهم حصل الاتفاق ، وإلا فالسماع يكفي ، والقراءة تشفي .
* نحن أمة تسال عن دم البعوضة ، وتهريق دم الحسين !!
لبست قمص المثنى بن حارثة ، وفي يدها حربة بابك الخرمي .
* حج محمد ، عليه الصلاة والسلام ، ليقول للحجاج : ( أنا كأفقركم ! ) ففهمها الفطناء ، لكن أبا جهل ما حضر الموقف ..!
* عرب بلا عمر .. وأكراد بلا صلاح الدين .. وترك بلا فاتح .. وأفارقة بلا بلال .. لا قيمة لهم .
* جسم الأمة كله جراح يوم عرفة : جؤار البوسنة والهرسك أخجل أهل الموقف ، وخلاف الأفغان أزعج المحرمين ، وضياع بيت المقدس نكس رؤوسنا عند الصخرات .
* من لم تنفعه عينه ، لم تنفعه أذنه .. ونحن كذبنا ما سمعناه بآذاننا ، وقد رأيناه بعيوننا .
لقد نصحتك عينك في نهار من التبيانِ حتى سال ماها
* حج عمر فأنفق عشرين درهماً ، وقد ختم بالرق على عنق كسرى وقيصر ، وقد حججنا ندوس الحرير ونستخشن الديباج ، ونحن نسبح للرق في أدبار الصلوات !!
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى رجال الحي غير رجالها
* صحن طعامنا مكسور ؛ لأنه ما صنع في المدينة ، وخيمتنا ممزقة ؛ لأن أطنابها مستورة ، ونسينا ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) (النساء: من الآية65).
* نحن ثلاثة حجاج ضاع رابعنا !
حاج في عرفة ، وما له في البنك الربوي ، وحاج في مزدلفة ، ولكنه بات مع نغمة ووتر ، وحاج رمى الجمرات ، وأشعل في قلوبنا الجمرات ، والرابع أشعث أغبر ، رفعت دموعه إلى العرش .
لا تسل عن خلدي قد ضاع مني عدني في زحمتي أو عد عني
* عشق بلال الجنة ، فأمهرها ركعتين مع كل وضوء ، فسمع صاحب العقد دفي نعليه باب المخطوبة ، فعرف أن ليلة العرس حانت :
ألم ترى أني كلما زرت زينباً وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
وقصر بلال تلوح عليه أحرف : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الزخرف:72) .
وعشق أبو جهل النار فصعبت عليه لا إله إلا الله ؛ لأن نافخ الكير تزكمه نفحة المسك .
قيل لأبي جهل : قد أقام بلال الصلاة ، فصل وراء الإمام ، فقال لست على وضوء ، فمات قبل أن يصلي .(/3)
قيل لأبي جهل : لماذا تدخل النار ؟ قال : لني عاشق !
لا تلمني في هواها والجوى فأنا من لومكم في صمم
صاح في وجه أبي جهل لسان القدر : ( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (فصلت:19) .
* أبو مسلم الخراساني .
عشق الإمارة حتى الثمالة ، فعاش من أجلها وهاش ، وسكر من حبها وطاش ، وبقر بطون المساكين بالخنجر ، فبقر بطنه أبو جعفر (1):
كل بطاح من الناس له يوم بطوح
تعلق بغير الله فعلقه أقرب الناس إليه من قدميه ( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأنعام:129) .
أبعين مفتقر إليك نظرت لي فأهنتني وقذفتني من حالقي
لست الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق
جعل الرياسة تميمة في عنقه، وقد قال المعصوم ، عليه الصلاة والسلام :( من علق تميمة فقد أشرك )(1).
عشق أبو مسلم الخراساني المنصب فما تراجع عنه ، والتراجع حرام عند العاشقين .
* مات الجعد بن درهم في حب البدعة ، فما أحس للذبح في هوى المحبوب ألماً ، فلماذا يألم أهل السنة من الذبح في حب السنة ، والله يقول :( إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ ) (النساء: من الآية104) .
سقيناهموا كأساً سقونا بمثلها ولكننا كنا على الموت أصبرا
خرج خالد القسري على الجعد بن درهم بالسكين ، فما تاب المسكين ؛ لأنه عاشق ، والعاشق يقول :
والله لو قطعوا رأسي لأهجرها لسار نحو هواها في الحمى راسي
الجعد بن درهم : ممن زين له سوء عمله فرآه حسناً .
صاح النذير لأبطال السنة بلسان : ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ )(آل عمران: من الآية140) فما أحسوا لمس حسا !
* تحدى أحمد بن حنبل الدنيا في حب مبدئه الحق ، فتكسرت السياط على البساط ، وأبو عبد الله يضحك في وجوه المنايا ، والوحي يهتف به : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) (الفرقان: من الآية58) . ليعلم أحمد أن : المتوكل سوف يتولى ، والمعتصم يموت .
* في قاموس أحمد بن حنبل : حديث قدسي : ( وعزتي وجلالي ما اعتصم بي أحد فكادت له السماوات والأرض إلا جعلت له من بينها فرجاً ومخرجاً ) .
أراد أهل البدعة أن يصرفوه عن الحق فما انصرف ، لأن أحمد ممنوع من الصرف !
عجباً كيف شربت الموت شربا وجعلت السيف للعلياء دربا
عجباً كيف تحديت الملا وسقيت الرمح حتى صب صبا
كنا أطفالاً نسمع بأحمد بن حنبل ، فحسبناه مفتياً في الزوايا ، فلما كبرنا علمنا أنه معلم جيل ، وشيخ حياة .
* عشق الدماء الحجاج بن يوسف .. كما عشقت امرأة العزيز يوسف ! فجرد السيف على الملة ، فشقي بسعيد ، وكسر بابن جبير منارة الدين .
الرجل محنط في الدماء فما سمع من سكاره : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93) .
* أحد الفنانين رقص على نغمة :
أخبروها إذا أتيتم حماها أنني ذبت في الغرام فداها
وتراقصت أطراف جعفر الطيار على زمجرة :
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
طارت روح جعفر إلى الجنة ، فأعطاه مولاه جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء ، والذي يطير أعظم ممن يسير .
نطير إليك من شوق الحشايا وبعض الناس نحوكم يسير
* حمل أبو بكر الصديق الصدق فصار في قافلة : ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ) (الزمر: من الآية33 ) فسمي الصديق ، فلا يعرفه العالم إلا ( بالصديق ) وصار خليفة الصادق المصدوق .
وحمل مسيلمة الكذاب رداء الكذب ، فهو زنزانة ( أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (هود: من الآية18) فلا يعرف مسيلمة إلا ( بالكذاب ) .
أراد خالد بن الوليد أن يداوي مسيلمة الكذاب من الكذب ، فما نجع الدواء ، فقطع رأسه ، ليزول الألم بالكلية !!
عشاق الصدق كثير يموتون من أجله ، وعشاق الكذب أكثر يقتلون تحت نعليه !
* جرحت أصبع رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ، فسال الدم الطاهر فقال :
( هل أنت إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت )(2)
لأن من قرب روحه للرحمن ، لا يحزن على إصبعه ، ومن انتظر أن يسيل دم ظهره ، لا يبكي على دم ظفره .
* حرام بن ملحان طعن بالرمح من قفاه ، فأخذ من دم صدره ، ورش القاتل وهو يقول : فزت ورب الكعبة ! شهد له دمه أنه محب وأقام دليل المحبة ، فسلوا رمح القاتل .. ( فالبينة على المدعي واليمين على من أنكر ) .
يأتي حرام بن ملحان يوم القيامة ، وكلمه يدمي ، الريح ريح المسك ، واللون لون الدم .
تفوح أرواح نجد من ثيابهم عند القدوم لقرب العهد بالدار
الشيح والكاد والريحان قد عقبت يا موقد النار أطفئ شعلة النار(/4)
* دخل المهدي ـ خليفة بني العباس ـ المسجد ، والعلماء جلوس ، فلما رأوه قاموا ، وقعد ابن أبي ذئب ، لأن الذئاب لا تقوم للثعالب ، فقال له : لمَلم تقم لي ؟ قال كدت أفعل فذكرت : ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين:6) . فتركت القيام لذاك اليوم ، فقال الخليفة
اجلس فقد أقمت شعر رأسي ! . فقامت الدنيا لابن أبي ذئب ؛ لأنه ما قام ، والقيام مع القدرة ، ولا قدرة لمن يدخر قيامه لمولاه !
* مد سعيد الحلبي رجله في المسجد ، فدخل السلطان عليه فما رد رجله ، فأعطاه مالاً ، فقال سعيد : إن الذي يمد رجله لا يمد يده ، ولو مد سعيد يده لقطع السلطان رأسه !
أنا لا أرغب تقبيل يد قطعها أحسن من تلك القبل
إن جزتني عن صنيعي كنت في رقها أولا فيكفيني الخجل
* الكافر يولد مرة ، ويموت مرتين ، والمؤمن يولد مرتين ، ويموت مرة ، الكافر : جثماني بليد ، والمؤمن : روحاني مجيد .
* الهدهد أذكى من فرعون ؛ لأن الهدهد أنكر على بلقيس سجودها للشمس ، وفرعون يقول : ( مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص: من الآية38) !!
رزق الهدهد يخبئه في الأرض ، فلما عرف ربه قال : ( الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (النمل: من الآية25).
أحب الهدهد رب العالمين ، فأتى سليمان من سبأ بنبأ يقين ، وفرعون مهين ، دس أنفه في الطين !
الهدهد آمن في الرخاء ، فنفعه إيمانه في الشدة ، وفرعون كفر في الرخاء ، فما نفعه إيمانه في الشدة ، بل قيل له : يا فتان ، الآن ! فات لأوان .
قد مضى الركب وخلفت لوحدك فابك ما شئت ولا تأنس برشدك
* عبد الدينار يرد النار كلما كثرت دراهمه دار همه .
إمامه : قارون ، خرج في زينته ، فدفن في طينه !
صاح متكبراً : ( إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ) (القصص: من الآية78) .قيل له عندك أو عندنا ؟ هيا إلى الدور الأرضي ، وخذ دارك معك !
( فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ ) (القصص: من الآية81) ؟!
* دراهم أبي بكر ختمت بـ ( يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى) (الليل : من الآية18) .
ودراهم أمية بن خلف عليها ( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) (الهمزة:1) !
أعطي أبو بكر حلة ( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ) (الليل:17) . وألبس أمية قميص ( فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ) (لأنفال: من الآية36) .
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم
فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
فلا يحسب التمتام أني هجرته ولكنني فضلت أهل المكارم
* سمع حنظلة مؤذن الجهاد في أحد ، وعليه جنابة ، فطار إلى سيفه ، وصب دمه مع دماء الأبرار ، وقدم لحمه مع لحوم الأخيار ، هذه الكتائب ( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ) (الحج: من الآية37) .
يا حنظلة : ثمار شجرك ما حنظل ، وحب زرعك قد سنبل ، قبل أن تدخل الجنة تغسل :
أملاك ربي بماء المزن قد غسلوا جثمان حنظلة والروح تختطف
وكلم الله من أوس شهيدهم من غير ترجمة زيحت له السجف
* تلاميذ عبد الله بن أبي يحفظون ( لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ) (المنافقون: من الآية7) . وينسون ( وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (المنافقون: من الآية7)، فيسرقون لقمة العيش من على الشفاه !
ومداوي الداء بالداء ، أعله وما شفاه .
* عبد الله بن أبي ، فاكهته : لحوم الصحابة ، ومصحفه : الربابة ، سهامه طائشة ؛ لأن الصيد عائشة :
أتدري من رميت وكيف تدري ؟ فما أعماك عن شمس وبدر
رميت الفجر بالبهتان كيداً ونور الحق محفوف بفجر
* درسنا قصة ( طه والطبلة ) فألهانا طه عن : ( طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) (طه:2) . والذي حفظ قصة الطلبة خرج أبله ..! وقيم المدرسة أرقم ؛ لأنه ألغى منهج دار الأرقم بن أبي الأرقم .
* صاح أنس بن النضر : إني لأجد ريح الجنة من دون أحد فقتل على مبدأ ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) (الإخلاص:1) !
بحثت عنه أخته ، فما عرفته إلا ببنانه ؛ لأن داخل الجنة يحتاج إلى شهود ، وقد كتبوا شهادتهم بخطوطهم على جسم أنس ، فكل جرح يقول : ( وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ) (يوسف: من الآية81).
* قالوا لأحد المنافقين : جاهد لتؤجر ، قال : أخاف بنات بني الأصفر ، قيل له تضحك على من ؟ ونزلت فتوى ( أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) (التوبة: من الآية49) .فضحهم الوحي ، فسجلاتهم مكشوفة وأسماؤهم معروفة .
وقال أحدهم : أنا لا أخشى بنات بني الأصفر ، لكن لا تنفروا في الحر ، فما أصبح الأمر سراً ( جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً ) (التوبة: من الآية81) .
تفر من الهجير وتتقيه فهلا من جهنم قد فررتا
وتشفق للمصر على الخطايا وترحمه ونفسك ما رحمتا !!(/5)
* عاشق الشهادة تأتيه على الفراش : ( من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه ) . لأن الحب يفتت الأكباد ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69).
نسيت في حبك الدنيا وما حملت وبعت من أجلك الأنفاس والنفسا
* درس الطلاب التدمرية لابن تيمية فنجح عشرون في المية ، لأنها تدمر كل شرك بأمر ربها ( فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ) (الأحقاف: من الآية25) .
* كان ابن تيمية يعلم الشباب ، فسجنه الحجاب .. فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) (الحديد: من الآية13) .
* هل سمعت أنشودة شيخ الإسلام ؟ ـ ولكنها من الشعر المنثور ؛ لأن العبيد لا يفهمون إلا الشعر الحر ـ .
أنا جنتي وبستاني في صدري ، أنى سرت فهي معي ، أنا قتلي شهادة ، وإخراجي من بلدي سياحة ، وسجني خلوة .
كتب القصيمي عن ابن تيمية في ( صراع بين الإسلام والوثنية ) لكن ابن تيمية أصيل والكاتب عميل ؛ لأنه وارد بترومكس ، ومن فصيلة كارل ماركس ( آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ) (الأعراف: من الآية175)
واحسرتاه على السبورة ، والطبشرة ، والملعب ، والكورة .
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة إذاً فتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
* قال الحجاج لعجوز : والله لأقتلن ابنك ، قالت العجوز : لو لم تقتله مات ! وهذا من ذكاء العجوز ، ولكن الظلمة لا يفهمون الرموز ! ( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ) (الجمعة: من الآية8).
* أرسلنا شاعرنا في المربد ليغرد فعربد ، ظننا أنه بالدين سوف يجول ويصول ،فذهب قليل الحياء يسب الرسول .
نبهناه فما أدرك ؛ لأن الرجل مجمرك : ( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (الفرقان:44) .
* شعراء مدحوا صدام قبل الغزو ، وذموه بعده ، قلنا : كشفناكم يا أوباش ، ( الولد للفراش ) .
هؤلاء لا ينفع فيهم الوعظ ؛ لأن المنافقين بعضهم من بعض .
* قاتلوا موشه ديان في حزيران ، فهربوا كالفئران ؛ لأنه لم يحضر المعركة سيف الله أبو سليمان .
وأطفأت شهب الميراج أنجمنا وشمسنا وتحدت نارها الخطب
وقاتلت دوننا الأبواق صامدة أما الرجال فماتوا ثم أو هربوا
* قيل للرسمي : ألا تحج البيت العتيق ؟ فأنشد بنغمة العاشق :
حجي إلى الباب الجديد وكعبتي الباب العتيق وبالمصلى الموقف
والله لو عرف الحجيج مكاننا من زندروز وشعبه ما عرفوا
أو شاهدوا زمن الربيع طوافنا بالخندقين عشية ما طوفوا
زار الحجيج منى وزار ذوو الهوى جسر الحسين وشعبه واستشرفوا
ورأوا ظباء الخيف في جنباته فرموا هنالك بالجمار وخيفوا
أرض حصاها جوهر وترابها مسك وماء المد فيها قرقف
أقول لهذا : أما سمعت بدار قيل فيها : ( وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (الزخرف: من الآية71). وعند ابن ماجه : ( ألا مشمر للجنة ، فإن الجنة والذي نفسي بيده نور يتلألأ ، وقصر منيف ، وشجرة تهتز ) . الخطاب كثيرون ، ولكن المهر غالٍ ، من صفات الخاطب : أن يرنم في السحر ، وكثير من الخطاب ينام عن صلاة الفجر .
ومن صفاته أن يقدم مهجته حلية للخطوبة ، وبعضهم يبخل بدرهمه !
ثمن المجد دم جدنا به فاسألوا كيف دفعنا الثمنا
واسألوا ماذا فعلنا في الوغى يوم هال الهول فينا ودنا
الذبح للعاشق في سبيل معشوقه : برد وسلام .
* ذكر المجد في ( المنتقى ) : أن رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) ، لما أراد أن ينحر الإبل في منى تسابقت إليه؛ أيتها ينحر أولاً فمن أخبر البعير، أن صاحب الحربة هو البشير النذير، والسراج المنير ؟!
ما خرت الأبل وهو ينحر ، وما استقرت ، بل دنت وأقبلت ؛ لأن التولي يوم الزحف حرام .
ويقبح من سواك الفعل عندي وتفعله فيحسن منك ذاكا
على عمد من التوفيق قدماً أحبك من أحبك فاصطفاكا
* خطب صاحب المنهج العظيم رسولنا الكريم ، عليه الصلاة والسلام ، في جنوده في بدر ، فأخبرهم أن بينهم وبين الجنة القتل فمن يقتل يدخل ، ومن يذبح يفلح .
فقام عمير بن الحمام ، ورمى بالتمرات ، ولسان الحال يقول : خذوا تمركم ، فالغداء هناك ، وإجابة الدعوة واجبة ، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكيف يجيب الأمر من ألهاه التمر ؟
لله درك والردى متكالب والمشرفة تستحق الأبطالا
ووقفت تخطب والرؤوس تطايرت أسقيت العز حتى سالا
* حضر محمد بن حميد الطوسي القتال مع الروم ، فوقف يقطع رؤوسهم من الفجر إلى الظهر ، وما أحسن الذبح على الطريقة الإسلامية .(/6)
فر أصحابه فخجل أن يفر ، لأن صاحب الشريعة لا يقر ، فتكسر سيفه ، ومال رأسه ، فكفنه أبو تمام بقصيدته الخالدة :
لقد مات بين الضرب والطعن ميتة تقوم مقام النصر إن فاته النصر
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليل إلا وهي من سندس خضر
ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعة غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
* وقف القائد ( صلى الله عليه وسلم ) ، أمام الكتيبة ، فسل السيف وقال : ( من يأخذ هذا السيف مني ؟) فكلهم رفع يده ، وظنوا السيف جائزة ، فقال : ( من يأخذه بحقه ؟ ) فعلموا أن في المسألة سراً فتوقفوا ، وألح أبو دجانة في الطلب ، وسأل القائد : ما حق السيف ؟
قال : ( أن تضرب به في الأعداء حتى ينحني ) فأخذ أبو دجانة يعدل به رؤوس الضلال ، مرة في اليمين، ومرة في الشمال ، ينشب السيف في الجماجم فيهزه هزا ؛ لأن في الجمجمة مسامير اللات والعزى .
أخرج عصابته الحمراء من الجلباب ، فصاح الناس : خطر ممنوع الاقتراب .
ومن تكن الأسد الضواري جدوده يكن زاده رفداً ومطعمه غصبا
فحب الجبان العيش أورده البقا وحب الشجاع الموت أورده الحربا
* عندنا أعظم ميراث عرفه التاريخ ، وأكبر ثورة رأتها الدنيا ، عندنا : متون من الوحي ما اختلطت بالطين ؛ لأنها من رب العالمين ، لكن الطلاب كسالى ، المرعى أخضر ، لكن العنز مريضة ، وثيقتنا كتبت من أربعة عشر قرناً ، خطب بها على منابر المعمورة ، وصلي بها في محاريب القارات، وأذن بها على منائر الكون :
والوحي مدرستي الكبرى وغار حرا ميلاد فجري وتوحيدي وإيماني
وثيقتي كتبت في اللوح وانهمرت آياتها فاقرؤوا يا قوم قرآني
معجزتنا : أن معلمنا أمي أعجز البلغاء ، لا يكتب ، وقد أفحم الكتيبة ، ولا يقرأ ولكنه بذ القراء : ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (العنكبوت:48).
* وقف في عرفة محرماً أشعث أغبر ليخاطب الدنيا ، فقال له مولاه في الموقف : ( وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) (المائدة: من الآية3) فعلم أن النعمة ليست في ناقته القصواء ، ولا في حصيره الممزق ، الذي أثر في جنبه ، ولا في درعه ، المرهونة عند اليهود ، ولا في الحجرين المربوطين على بطنه ، إنما نعمته : دعوته ، وحبوره : نوره ( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى: من الآية52) .
* عقدة الوليد بن المغيرة في كفره بصاحب السيرة ، أنه ليس له كنز ، وليس له جنة يأكل منها ، وما علم أن صاحب الكنز ، والبنز ، والجنز لا يرشح للعز .
تركت السرى خلفي لمن ضاع عمره وأوردت قلبي في عظيم الموارد
* تمزقت الأمة في العصر ، فالبعض ذبح ، والبعض في الأسر ، ومن نجى منا نسى ( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) (لأنفال: من الآية72) .
لماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان
صار صوت المفجوعة في عمورية ، يعبر المحيطات ، ينادي : وامعتصماه ، فوصل الصوت قبل الصورة فصاح المعتصم : قربوا أفراسي ، وهاتوا أتراسي ، الجنسية مسلم ، والنسل عباسي .
أحرق المدن ؛ لأن ليلة النصر تحتاج إلى بخور ، وهو ممن يرجون تجارة لن تبور .
فغردت كتائبه ؛ وتراقصت ركائبه على إلياذة :
أجبت صوتاً زبطريا هرقت له كأس الكرى ولعاب الخرد العرب
أبقيت جد بني الإسلام صعد والمشركين ودار الشرك في صبب
المعتصم ، أبوه الرشيد ، وجده : ابن عباس ، فما أذعن ليوحنا ، ولا توماس ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ) (محمد:11) . المعتصم بطل في النزال ، لكن فيه بدعة الاعتزال .
* زياد ، أمه : سمية ، يريد بني أمية ، انجب عبيد الله السمين ليقتل الحسين ، جنود عبيد الله هذا كالعجول ، يكبرون لمقتل ابن البتول .
ويكبرون بأن قتلت وإنما قتلوا بك التكبير والتهليلا
* خربت خيبر ؛ لأنها بنيت على شفا جرف هار ، حجر الزاوية : كعب بن الأشرف ، وسدة الباب : ابن غوريون ، والطباخة : جولدامائير ، نادى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يا علي : قال : مرحباً ، قال : اقتل مرحباً ، يقول مرحب لعلي : أنا الذي سمتني أمي مرحباً ..
قال لسان الحال : أمك سامرية عبدت العجل ، وأم على هاشمية لا تحب الدجل ، أنا الذي سمتني أمي حيدره ..
فتحدر رأس مرحب على سيف حيدر !
يا أبا السبطين أحسنت فزد فعلكم يا شيخنا فعل الأسد
رمد تفعل هذا في العدا كيف لو عوفيت من ذاك الرمد ؟
بطاقة علي في الزحام : يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، وبطاقة مرحب : ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ ) (المائدة: من الآية13).
* يا شباب الصحوة : من لا يدعو منكم ويؤثر ، فلا ينمنم ويثرثر ! ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) إذا لم تصاحبنا ، فنرجوك لا تضربنا ..(/7)
الذي بيته من زجاج لا يرمي بيوت الناس ، والذي يضرب العود لا يحمل الفأس .
* اللهم إنك نثرت على أهل الدنيا الدنانير ، فشروا الذمم بالدينار ، اللهم فأعطنا تاج النجاة ؛ لننجو به من النار .
* أحرقونا فقلنا : أح قال الصبر : هذا ما يصح .
لا تقل للنار أح إن قلت أحا فرح الباغي وسح الجرح سحا
* أمر الله بني إسرائيل بذبح بقرة ، فأخذوا الأمر مستهترين ، ورأى رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) بقراً تنحر في المنام ، فنحر من أصحابه في أحد سبعون .
* سود الله وجوه اليهود ، قيل : اذبحوا بقرة ، قالوا : ما بقرة ؟ قيل : لا فارض ولا بكر قالوا : لا بد من معرفة اللون ، قيل : صفراء قالوا : ما سنها ؟ قيل : عوان بين ذلك . فتلكؤوا وما كادوا يفعلون ، ومحمد ، عليه الصلاة والسلام ، طلب من الأنصار الحماية قالوا : بالأرواح ، والنصرة ، قالوا : السلاح السَلاح ، قال لهم بلال العزم : حي على الصلاة ، قالوا : حي على الفلاح .
يقول خطيبهم : يا رسول الله أعط من شئت ، وامنع من شئت ، وصل حبل من شئت ، واقطع حبل من شئت ، عسى الله أن يريك منا ما تقر به عينك ! فقتل هذا الخطيب فاهتز له عرش الرحمن .
* أحدهم ذهب يتعلم في جنيف كيف يصيد الشريعة ، وصيد غير المعلم حرام ، لأن الله يقول : ( مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ)(المائدة: من الآية4) .
عرفناك يوم الجزع تحدوا ركابنا فلما ذهبنا عنك أشعلتها حربا
* الحسن بن على ، هاشمي ، أراد الخلافة فتذكر : ( إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) ، تنازل في مؤتمر القمة ، ليحقن دماء الأمة .
( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً ) (القصص: من الآية83).
* أرسلناك تسابق على الخيل المضمرة ، من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ، فذهبت تتزلج على الثلوج وتصاحب العلوج ، أما سمعت ( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) (المائدة: من الآية51) . فهل أنت منا أو منهم ؟!
* انتصر عبد الحميد بن باديس ؛ لأنه يحب باريس ، وفضح الأمة ابن بيلا لأن زنبيله صنع في مانلا .
* زار أبو سفيان ـ وهو مشرك ـ ابنته رمله زوج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، لما دخل البيت، رفعت فراش المعصوم ، خوفاً عليه من غبار الوثنية ؛ لأن في الحديث : ( لا يورد ممرض على مصح ) والفراش الأجل لا يصلح لمن سجد لهبل .
* أدونيس أبياته من الشيطان ، وروح القدس يؤيد بالقوافي حسان ، ولذا استطاع شاعر الرسول أن يقول:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
* وتقيأ أدونيس بعد أن بال الشيطان في أذنه فقال ( خرافية تلك أسطورة هي الملة النحلة البائدة ) .
حسان على وزن رضوان ، وأدونيس على وزن إبليس ، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب .
حسان أزدي زكي ، وطاغور مزدكي ( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (الشورى: من الآية7).
* تركيا نور نسي بموت النورسي ، أتاتورك في آخر درك ، أتاتورك : نجس البحيرة وأوقع الأمة في حيرة ، كسر ظهر الخلافة ، ومزق عمامة المفتي ، وهدم أعواد المنبر .
* ألقيت أنت على الناس محاضرة ، فتبجحت بها في البادية والحاضرة ، وعبد الله بن عمرو الأنصاري ، وجد مقتولاً ، به ثمانون طعنة فما أخبر أحداً ؛ لأن صدقة السر تطفئ غضب الرب ، والمحبون يتسترون بالليل لزيارة المحبوب :
كم زورة لك في الأعراب داهية أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب
أزورهم وظلام الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي
* تصدقت أنت للبوسنة والهرسك بخمسين ريالاً ، وتمنيت بها على الله الأماني ، وخالد بن الوليد احتبس أدرعه ، وأعتده في سبيل الله ، ثم أتبعها خليه ، ثم اتبعها نفسه .
* جهز عثمان جيش العسرة من جيبه ، فسمع الثمن نقداً على المنبر : ( اللهم اغفر لعثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر ) .
يقول المترفون : أنتم متطرفون ، أنتم تهرفون بما لا تعرفون ، قلنا هذا فرية ، والدليل ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ) (الإسراء: من الآية16).
* حاول صبيغ بن عسل أن يخلط في الآيات ، ويشوش في المنهج ، فضربه عمر بعصا خضراء حتى أغمي عليه ، فاستفاق ولسان حاله يقول : أصبحنا وأصبح الملك لله .
والحداثيون خلطوا في الدين تخليطاً ، ويحتاجون إلى دواء كدواء صبيغ ، لكن الطبيب مات :
تشفي بسيفك داء الناكثين له وتجعل الرمح تاج الفارس البطل
* يقول فرعون لموسى : ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ) (الشعراء: من الآية19) قلنا : وأنت يا مجرم ما فعلت شيئاً وأنت أبو الفعائل ؟
أبصرت القذى في إناء موسى ، ولم تر الجذع في إنائك .
إذا محاسني اللائي أدل بها كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
* وقفوا بعرفات ما يقارب ثلاثة ملايين ، يسألون ربا غنياً قديراً رحيماً حليماً .
أتيناك بالفقر يا ذا الغنى وأنت الذي لم تزل محسنا
وعودتنا كل فصل عسى يدوم الذي منك عودتنا(/8)
فما في الغنى أحد مثلكم وفي الفقر لا أحد مثلنا
وقصت ناقة محرماً بعرفة فقتلته ، وصاحب المنهج ، عليه الصلاة والسلام ، موجود ، فقال : ( كفنوه في ثوبيه وجنبوه الطيب ، ولا تخمروا رأسه ، فإنه يبعث يوم القيام ملبياً ) .
هل تأملت الصورة ؟ إذا أهل هذا الميت من قبره ملبياً ، ميقاته قبره ، ومن تجاوز الميقات يريد الحج بلا إحرام فعليه دم ، وهذا يريد الجنة ؛ لأنه مطلوب هناك ، والجواب ( لبيك اللهم لبيك ) .
أتيناكم نخب السير خبا ونحمل في حشايا القلب حبا
نهيم ببيتكم شوقاً ونسقي بدمع العين في العرصات صبا
فهيا سامحونا قد أسأنا وهيا فاغفروا يا رب ذنبا
تقرب غيرنا لسواك جهلا ونحن لقربكم نزداد قربا
( رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (آل عمران:194)
* بجانب هيئة الإذاعة البريطانية في لندن ، شاعر عربي قام في الصباح بنشد :
أنت القوي فقد حملت عقيدة أما سواك فحاملو أسفار
يتعلقون بهذه الدنيا وقد طبعت على الإيراد والإصدار
دنيا وباعوا دونها العليا فيا بؤساً لبيع المشتري والشاري
* يا أيها الذين آمنوا ما لكم لا تنفقوا من كنوز الرسالة دنانير الحكم ، وصاحب الغلة يقول : ( بلغوا عني ولو آيه ) .
كل منكم بحسبه ، فمن لم يجد سيفاً فعصاً ، وافعلوا فعل علي بن عمار ، هجم عليه الأسد ، وسيفه معلق في بيته ، ولو انتظر وصل السيف ، لوصل رأسه إلى الأرض على الكيف ، فأخذ هراوة غليظة ، وفلق بها هام الأسد ، حتى يأتي المدد ، فحياه أبو الطيب فقال :
أمعفر الليث الهزبر بسوطه لمن ادخرت الصارم المصقولا
* إذا لم تلق محاضرة فاحضرها ، وإن لم تدبج خطبة فكلمة ، أنفق رجل من بره ، ومن تمره ، من درهمه، من ديناره ، من علمه ، من شعره ، من فكره ، والذي لا يركب في سفينة الصحوة ( رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ ) (التوبة: من الآية87) ، فليس لهم في الغنيمة قسم ، ولا في الخيالة اسم ، ولا في الديوان رسم ، بعضهم حفظ المتون ، وجمع الفنون ، وكتب الحواشي ، وهو ما شي .
قلنا : علم ، قال : حتى أتعلم ، قلنا : أجل ، درس ، قال : حتى أؤسس ، قلنا : فهل سمعت ( وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (آل عمران: من الآية161) .
قم خاطب الدنيا بنبرتك التي عزفت قلوب الأهل والأصحاب
فمنابر التوحيد من خطبائها ومحافل العلياء للخطاب
* شبيب الخارجي في ستين من أصحابه هزم ثلاثة آلاف ، وكان في المعركة ينعس على البغلة من ثبات الجأش ، قلنا : دعونا من نعاس الخوارج ، فأين نعاس أهل السنة ؟ ( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ) (الأنفال : من الآية11) . فنعاس طلحة بن عبيد الله في أحد خير من نعاس شبيب ، لأن طلحة : متبع ، وشبيباً : مبتدع ، وطلحة : من نكاح ، وشبيب من سفاح :
قوم أبوهم سنان حين تندبهم طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم قوم بآبائهم أو مجدهم قعدوا
* غفار من المغفرة ، وأسلم من المسالمة وعصية من المعصية ثلاث قبائل وافقت أسماؤها مسمياتها ، فقال المعلم :
( غفار غفر الله لها ، وأسلم سالمها الله ، وعصية عصت الله ورسوله ) وأقول : وماركس أركسه الله .
* صاحب المنهج يدرس الطلاب ، وفي الفصل : منافقون لم يعرفهم ، فأنزل الله ( لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) (التوبة: من الآية101) فلاحظ التصرفات ، والتلونات ( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) (محمد: من الآية30) . فلما انكشفوا سمع : ( هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المنافقون: من الآية4) .
* أراد السلطان أن يشتري الأعمش المحدث الكبير برسالة فيها فتوى لتكون حبة الطائر ، فإذا وقع في الشباك قيل : نصيبك ما أخطأك ، فعرف الأعمش العلة ، لأنه عالم بعلل الأسانيد ، وتدليس الرجال ، فأعطى الرسالة شاة عنده ، فأكلت الرسالة ، وحملها الخطأ ؛ لأنها تأكل الرسائل .
فلا كتب إلا المشرفيات عنده ولا خط إلا بالقنا والقنابل
(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) (الأحزاب:39) .
* العقيدة الإسلامية ، لا شرقية ولا غربية ، يكاد زيت أصالتها يضيء ، ولو لم تمسسه نار الشوق ، فكيف إذا اجتمع نور الفطرة ونور الاتباع ؟ ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور: من الآية35) .
* قال اليهود لموسى ، عليه السلام :( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة: من الآية24) . وقال الصحابة للرسول ، عليه الصلاة والسلام : لو استعرضت بنا البحر لخضناه معك ، فقطعوا أمامه ، فكل بيت فيه قتيل :(/9)
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا
في كفك الشهم من حبل الهوى طرف على الصراط وفي أرواحنا طرف
فكن شهيداً على ما في القلوب فما تحوي الضمائر منا فوق ما نصف
(فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:148) .
* يقول الرسول عليه الصلاة والسلام : ( لعن الله اليهود ، إن الله لما حرم عليهم شحوم الميتة جملوه ، فباعوه فأكلوه ثمنه ) .
وذاك يسمع الغناء ، ويقول : غناء إسلامي ، والبعيد يتناول المسكر ، ويقول : شراب روحي وعلام الغيوب لا يلعب عليه ولا يخادع .
( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) (النساء: من الآية142) ، ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال: من الآية30) .
* قال الحسن البصري : يا ابن آدم ، خالف موسى الخضر ثلاث مرات ، ألا تخشى أن يقول لك هذا فراق بيني وبينك ؟!
أغفر اللهم ربي ذنبنا ثم زدنا من عطاياك الجسام
لا تعاقبنا فقد عاقبنا قلق أسهرنا جنح الظلام
* العالم ينتظر من يدعوه إلى الإسلام ، والملة تحتاج إلى حملة .
التمر مقفزي ، لكن البخل مروزي !
( فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران: من الآية187) .
* رفعوا خبيب بن عدي على خشبة الموت ، فأنشد طرباً وامتلأ عجباً ، وقال قصيدة الحب كل الحب ، فسمعها المحبون ، لكن عبدة الأصنام في سكرة يعمهون .
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
ما يحلو الشعر إلا في المعمعة : ( وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) (محمد: من الآية 4) (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) (محمد:6) .
قال خبيب للكفار : انظروني لحظة ، قالوا : تكتب الوصية ؟ قال لسان الحال : لا ميراث ، لكن أصلي ركعتين ، أراد أن يطيلهما ، فخاف أن يوصم بالجبن ، وهو أبو الشجاعة ، رفعوه على المشنقة فدعا دعاء القنوت :
اللهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تغادر منهم أحدا ...آمين .
* استحيت خزاعة من ربها أن ترد الحوض بلا بطل ، فأنجبت أحمد بن نصر الخزاعي حامل لواء السنة ، محدث بغداد ، رأى المداد يلطخ ثياب طلاب السنة ، فعزم على أن يلطخ بدمه ثياب المبتدعة ، قال له الواثق : وافق ، قال : لا يا منافق ، فنحره بالخنجر ، فوقع ميتاً لتحيا السنة .
دم أزكى من المسك المصفى وروح في ذكاء القحوان
وتاريخ من الإقدام فدم كأن بريقه نصل يماني
( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (البقرة:154) .
* الصدق حبيب الله ، وصل الطعن الرقبة .
أمة دمها رخيص ، ودماء الناس غالية ، يتيمها في المحافل يبكي ، وشيخها على القديم ينوح .
تربية اللحى ، وركعتا الضحى : ثابتة شرعاً ن لكن نقض الميثاق ، وخلط الأوراق ، من أركان النفاق .
إذا لم تتهجد ، فاحضر الجماعة في المسجد ، الذي يكشف صادقنا من كاذبنا : صلاة العشاء والفجر .
* أتى ابن المبارك ليشرب من زمزم ، فتذكر حديثاً من مروياته نصبه : ( ماء زمزم لما شرب له ) . فقال : اللهم إني أشربه لظمأ ذاك اليوم .. فدمعت العيون !
ابن المبارك يعرف أن زمزم الوحي يشرب منه ليتشافى به من العلل ، لكن من يقنع من !! يطلب العلاج في بروكسل بقناعة ابن المبارك :
من زمزم قد سقينا الناس قاطبة وجيلنا اليوم من أعدائنا شربا
وقال زميلي سلمان ، وأحسن أيما إحسان :
زمزم في بلدي لكن من يقنع الناس بجدوى زمزم
تسمع ابن المبارك صياح المجاهدين وهو يتقلب في الساجدين ففك لجام البغلة وهتف :
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما أتزنا
ذهب إلى الشمال ، يقطع رؤوس الضلال ، فلامه الفضيل على ترك الحرم ، ولسان الحال يقول : ترك الجهاد حرام ، فكتب ابن المبارك إلياذة : يا عابد الحرمين لو أبصرتنا فتمنى المصلون عند الركن اليماني قتال الكفار بالسيف اليماني .
( فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) (آل عمران: من الآية195) .
* شرب الخمر شارب ، والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، حي فأدبه ، وقال للعذال : ( ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله ) .
إذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع(/10)
* الحديد يتمدد بالحرارة ، وينكمش بالبرودة ، والخشب يتمدد بالبرودة وينكمش بالحرارة ، وبعض الناس لا يتمدد ولا ينكمش ( لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا ) (لأعراف: من الآية179) .
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
* أحد الرؤساء ، سجن العلماء ، ثم خطب في الدهماء وقال : أنا إمام عادل كعمر بن الخطاب ، فقال له أحد العلماء : نعم ، عمر إمام عادل ، وأنت عادل أمام !
تقايس بين طلحة وابن ساوي رعاك الله ما هذا التساوي ؟
فطلحة مشرق الطلعات بدر وذاك الجور في الحانات عاوي
* كلما انخفض الأسهم ، ارتفع ضغط الدم ، لأن الشيك مكتوب عليه ( وإذا شيك فلا انتقش ..! ). كل شيك من رباً معه شوكة من لظى ( اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا )(الطور: من الآية16) .
* علمناك الفاتحة تصلي بها التراويح في الليالي ، فتركتها وذهبت تغني : البارحة ما نمت مما جرى لي .
الكلاب تحب الجيف ، والأسود تأكل مما تقتل ، ومن رضي بأفكار البشر ، عن وحي رب البشر ، فبشره بسقر ( لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) (المدثر:28) .
* روى البخاري في ( الرقاق ) : أن علياً قال : إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن الدنيا عمل ولا حساب ، والآخرة حساب ولا عمل .
وفي ترجمة يقول : يا دنيا ، غري غيري ، زادك حقير ، وعمرك قصير ، وسفرك طويل ، آه من قلة الزاد ، وبعد السفر ولقاء الموت ، يا دنيا ، طلقتك ثلاثاً لا رجعة بعدها ، وعلي لا يرى نكاح المحلل ؛ لأنه راوي حديث ( لعن الله المحلل والمحلل له ) .
* لما شمر عمر ثوبه في اليقظة ، جره في المنام ، والقميص في النوم ، هو : الدين واليقين ، وأبو حفص أحد الأساطين .
نام عمر بلا حراسة تحت الشجرة ؛ لأنه خوف الفجرة ، عدل في الرعية فنام في البرية .
كان في التاريخ درة ؛ لأن له درة فلله دره .
* الكعبة ، وحبة القلب ، وإنسان العين ، كلها سود فلا عاش الحسود .
يروق لي منظر البيت العتيق إذا بدا لطرفي في الإصباح والطفل
كأن حلته السوداء قد نسجت من حبة القلب أو من أسود المقل
أسامة بن زيد : أسود ، وأبو لهب : أبيض و( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) (آل عمران: من الآية106) يبيض الأول ، ويسود الثاني ؛ لأن بياض أبي لهب بهرجاني .
* ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (السجدة:16) ، في الليل إشفاق وفي النهار إنفاق !
النوم لذيذ ولكن الخوف أطاره ، وبعض العباد كان يتمنى أن يطول الليل :
طاول بها الليل ضن الجفن أو سمحا وما طل النجم مال النجم أو جنحا
فإن تشكت فعللها المجرة من ضوء الصباح وعدها بالقدوم ضحا
أسرار القرآن تبوح في الليل ، والخوف والرجى يتسابقان في الدجى .
* في صحيح مسلم أن عائشة سئلت : متى يقوم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ؟
قالت : كان إذا سمع الصارخ وثب ، تقول : وثب ولم تقل : قام ، وأنت عربي تعرف معنى ( وثب ) والصارخ هو الديك .
يصوت ديك الحي من حر ما بنا ويرثي لنا القمري ويبكي لنا الحجل
إذا ما بكتك الطير فأعلم بأنه تقارب منك العمر بل زارك الأجل
يقول عليه الصلاة والسلام ، في الصحيح : ( نعم عبد الله ، لو كان يقوم من الليل ) ، فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلا .
إذا لم تصبر للسهر ، فركعتان عند السحر : ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ ) (النساء: من الآية25) .
نحن نتحدث عن الربح ، وقد وقع النقص في رأس المال .
لأن من لم يحضر الفجر جماعة لا يرشح لطاعة .
طالب الأمة بالفرائض، قبل النوافل ، أما قيام الليل فلذاك الرعيل ، والخيل المضمرة تسبق التي لم تضمر .
دعنا من التشبيه بالسلف الأولى قاموا الدجى وتقطعوا في المعترك
* يقول شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي : عرضت على السيف خمس مرات ، لا يقال لي : اترك مذهبك ، بل يقال : لا تتعرض للمذاهب ، فقلت : لا .
قلنا : أما أنت فما سمعنا بمثلك ، وما عندنا إلا هروي واحد ، وما سميت شيخ الإسلام إلا بعد تعب .
قالوا لتلميذ الأنصاري هذا قبل أن يقتل : قل لا إله إلا الله فقال : إن شيخي قال لي : إن الدابة لا تسمن في أسفل العقبة ، وصدق الأنصاري ، تريد أن تتعامل بالربا ، فإذا حشرجت النفس تبت .
تسمع الغناء ، فإذا حضر اليقين كسرت العود .
تتهاون في الصلاة ، فإذا حانت الوفاة أذنت .
(حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (يونس:90- 91) .(/11)
أترجو أن تكون وأنت شيخ كما قد كنت في عصر الشباب
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب جديد كالخليق من الثياب
* أفتى النابلسي محدث مصر ، فقال : من عنده عشرة أسهم فليرم النصارى بسهم ، والفاطميين بتسعة ، فغلط الجاسوس ، فرفع الخبر للسلطان وفيه : فليرم النصارى بتسعة ، والفاطميين بسهم ، فاستدعى السلطان النابلسي ، وقرأ عليه الخبر ، قال : هذا غلط حرفتم الفتيا ، قلت : يرمكم بتسعة والنصارى بسهم .
فصاح السلطان : علي بالجزار والسكين ، فصاح النابلسي : ( لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (طه:72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه:73) .
فأخذه يهودي ، يسلخ جلده سلخاً بالسكين ، بعد أن علقوه ، بقدميه ، فأخذ يسبح ربه ؛ لأنه من رواة حديث: ( من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت كزبد البحر ) ، أما قلت : لن تجد أشجع من أهل السنة وقت التضحيات ؟!
السني وقت التضحية ، يزري بالبعثي ، والناصري ، والقومي ؛ لأن السني من سلالة أبطال بدر وأحد ، وأولئك من سلالة أبطال حزيران وأيلول الأسود .
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
ولو كان سيفي في يمينك لا نتحى عليك ولكن فات يوم التلاوم
* أطعم ابن بقية ، الوزير ، المساكين والفقراء ، وأكرم العلماء ، فغار منه السلطان ، واحتال عليه ، حتى قتله وصلبه ، فلما ارتفع على الخشبة مصلوباً ، وقفت الأمة كلها بوقوفه ، فطافت به قلوب المحبين ، ونامت بغداد على أصوات البكاء ، فترجل أبو الحسن الأنباري عن فرسه إلى خشبه الصلب ، وسلم على الجثمان ، ودشنه بتلك القصيدة التي من لم يحفظها ففي تذوقه للشعر ، نظر :
علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات
كأنك قائم فيهم خطيباً وهم وقفوا قياماً للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء كمدهما إليهم بالهبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن يواروا فيه تلك المكرمات
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا على مثواك صوت النائحات
لعظمك في النفوس تبات ترعى بحراس وحفاظ ثقات
وتوقد حولك النيران ليلاً كذلك كنت أيام الحياة
ومالك تربة فأقول تسقى لأنك نصب هطل الهاطلات
أصبحت خشبة ابن بقية مسرحاً ، تلقى عليه قصائد المادحين ، وخطب المثنين ، واصبح من قتله في صغار، كأنه طلي بالقار .
* الذي يعشق الليالي الحمراء لا يستعد قرطبة والزهراء ،ومن يستورد أفكاره من لندن يسهر على دندن .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) (المائدة : من الآية51) .
* خرج سعد بن أبي وقاص على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومعه الصحابة ، فلما رأى سعداً قال : ( هذا خالي فليرني كل خاله ) . فلم يخرج له أحد خالاً كخاله ، المتحدي قوي ، والمتحدى به أبي .
فلما حضرت القادسية ، والجموع الفارسية ، حضر الخال ، يقود الأبطال ، فحصل النصر قبل العصر ؛ لأن الناصر هو القهار ، والقائد خال المختار :
وقفت لك الأبطال تصغي في الوغى ووقفت تخطب بالقنا الخطار
والخيل تسمع والكتائب صفقت وترى الجماجم حرقت بالنار
* أرسل القائد العظيم رسولنا الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) ، عبد الله بن أنيس ؛ ليقتل خالد بن سفيان الهذلي عدو الدين ، فقتله واحتز رأسه ، ليعطي المعصوم البينة على قتله ، فسلم الرأس ، وضمن له ( صلى الله عليه وسلم ) الجنة ، وشهد العقد الحضور على أعطاه ( صلى الله عليه وسلم ) عصاه ليتوكأ بها ابن أنيس في الجنة زيادة في التبجيل :
يتوكؤون على العصي من هيبة أهل الرزانة في حضور المحفل
قرع العصا عند الخطابة دأبهم لا يتركون الخطب حتى ينجلي
أدخل ابن أنيس رأسه في الجنة ، لما أدخل رأس خالد الهذلي النار ، رأس برأس ، والجروح قصاص .
* أم سليم أنصارية ، لا تملك ذهباً ، ولا فضة ، أرادت أن تهدي لمعلم البشرية هدية ، فما وجدت أغلى من أبنها أنس ، فدفعته خادماً للإمام ، فقال لسان الحال : ( يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ ) (يوسف: من الآية19) . فكان ثواب الهدية ( اللهم أطل عمره ، وكثر ماله وولده ، واغفر ذنبه ) . فسعد الخادم بخدمة المخدوم سعادة لا شقاء بعدها .
أم سليم ، مهرها من أبي طلحة : لا إله إلا الله ، فأخجلت بمهرها كل فتاة تغالي في المهر .
يقول عليه الصلاة والسلام : ( دخلت الجنة البارحة فرأيت الرميصاء في الجنة ) والرميصاء : أم سليم ؛ لأن مهرها أدخلها من الباب ، فأذن لها الحجاب ، عرفت المفتاح ، فسكنت الدار .
لك الله من مخطوبة عز مهرها تعالت بثوب المجد عن كل خاطب
أبوها من الأعياص زينب أمها وزينب بنت الفضل لا كالزيانب(/12)
* جاء جابر بالجمل ، فاشتراه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلما قبض جابر الثمن ، رد عليه الجمل ، وقال له : ( خذ الثمن والجمل بارك الله لك فيه ) . قال بعضهم : ليذكره بأن الله هدى أباه عبد الله بن عمرو ثم وفقه للشهادة ، ثم رد عليه روحه ، ثم أدخله الجنة ، ثم كلمه :
تلك المكارم لا قصور قضاعة الذل في جنبات تلك يصفق
نار تضيء على الثنية في الدجا سرب الجموع على القرى يتدفق
جابر يقرأ المدح في أبيه كل صباح ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران:169) .
ما أجل الذبح ، وما أجمل المدح .
* ما كان لأهل الصحوة ، ومن حولهم من المحبين أن يتخلفوا عن قافلة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ذلك بأنه لا يصيبهم ظمأ المشقة والبذل ، ولا يطأون موطئاً يغيظ كل كافر ونذل ، إلا كتب لهم في الصحائف ، كما وعد بذلك في المصاحف .
* أراد المعتصم أن يغزو الروم ، قال المنجمون : البرج في الذنب ، فلا تخرج للغزو وقت الذنب والعقرب ، قال : ما أعرف الذنب من العقرب ، هذا الذنب ومد السيف ، وهذا العقرب ومد الرمح . وأفتاه أبو تمام بجواز الخروج ، وقال له في الفتوى :
العلم في شهب الأرماح لامعة بين الخميسين لا في السبعة الشهب
بهارجاً وأحاديثاً ملفقة ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
* صلى إمام الأنصار بهم ، فكان يقرأ في كل ركعة ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) (الإخلاص:1) مع سورة أخرى ، قالوا له : إما أن تكتفي بها ، وأما أن تقرأ غيرها ، قال : إما أن أصلي بكم وأقرأها ، وإما أن أعتزل الإمامة ، فسأله المعصوم ، عليه الصلاة والسلام ، لماذا تقرؤها في كل ركعة ؟ قال : لأن فيها صفة الرحمن فأنا أحبها ، فتوجه بتاج : ( حبك إياها أدخلك الجنة ) .
وداع دعا نحن بالخيف من منى فهيج أشواق الفؤاد وما ندري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائراً كان في صدري
أولئك القوم يحبهم ويحبونه ، فخلف من بعدهم خلف لا يحبهم ، ولا يحبونه ، والعياذ بالله .
* ابن رواحة بايع حبيبه في العقبة ، وبعد العقد قال : ربح البيع ، والله لا نقبل ولا نستقبل وتفرقاً عن المجلس ، وفي ( الصحيحين ) : ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإذا تفرقا وجب البيع ) .
فجاء أبن رواحة بالثمن ، ودفعه في مؤتة : ودخل الجنة : ( وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ) (التوبة: من الآية111) .
فمات حتى مات مضرب سيفه من الضرب واعتلت عليه القنا السمر
* أصبحت الأمة مثل قبيلة ( باهلة ) كلما فاخرتها العرب قالت : منا قتيبة بن مسلم ، ولكن مات ، يرحمه الله ، كلما قالت لنا الأمم : انظروا لإبداعنا ، واختراعنا ، وإنتاجنا ، قلنا : منا عمر ، صلاح الدين ، والمثنى ، فإلي متى هذا الخداع ؟!
( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (البقرة:134) .
* أهل السنة ذهب أحمر ، لا تزيده النار إلا لمعاناً ، وأهل البدعة خبث الحديد ، يحترق الخبث ، ويذوب الحديد . ( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (الرعد: من الآية17) .
أحمدنا بن حنبل شيعه مليون ، وأحمدهم بن أبي داؤد شيعه ثلاثة بالأجرة .
* ذرفت إحدى عيني سعيد بن المسيب من البكاء في السحر ، وبقى على عين واحدة يحضر بها صلاة العتمة ، والمرثية تقول :
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معاً
( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ) (المائدة : من الآية83 ).
سعيد بن المسيب سجل للمكرمات ، وديوان للصالحات ، أربعون سنة ما فاتته تكبيرة الإحرام ، دائماً في الصف الأول ؛ لأن الرباني يأنف من الصف الثاني .
خطب الوليد ، بنت سعيد ، قال : أنالا أزوج البليد ، فجلدوه مائة بالجريد ، كان يجلد في حر المدينة ، وقتادة بن دعامة يستمليه الحديث في القرطاس ، والضرب على الرأس ، لماذا لم يزوج سعيد الوليد ، وهو ولي العهد ؟ لأن العقد لا يتم لمن ينقض العهد ( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف:67) .
* عطس ابن هبيرة فشمته أهل بغداد ؛ لأنه سني ، وأهل السنة يرون مشروعية تشميت العاطس ، فانظر ما أعظم الحب والقبول : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) (مريم:96) .
ابن هبيرة وزير ، ولكن لا يعرف الطبلة ولا الزير .
استسقى في منى للحجاج فنزل المطر كالأمواج .
كنيته أبو المظفر ، فقال فيه الخليفة المستنجد :
ولم أر من ينوي لك السوء يا أبا المظفر إلا كنت أنت المظفر
وزهدك والدنيا إليك فقيرة وجودك والمعروف في الناس ينكر(/13)
* دخل سهل بن عبد الله التستري على أبي داود ( صاحب السنن ) ، فسأله بالله أن يلبي مسألته ، قال : قل ، قال : مد لسانك لأقبله ، لأنه روى حديث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، ففعل . اللسان سني ، وصاحبه إمام سنة ( وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران: من الآية79) .
* محدثان سنيان : حماد بن سلمة بن دينار ، وحماد بن زيد بن درهم ، والدينار عشرة دراهم ، وفارق الصرف يخبر بأفضل الرجلين ، فهل فهمت الحساب ؟ والدراهم كلها سنية .
أما درهم المبتدعة فلا يساوي فلساً .
* كثرت مجالس اللغو ، هذا يتحدث عن دنياه ، وهذا عن ديناره ، وذاك عن داره ، وآخر عن قصره ، عندها قال معاذ لأخيه : تعال بنا نؤمن ساعة ، وهذه الساعة لله ، وفي الله ـ عز وجل ـ حديث في أسمائه ، وصفاته ، وآياته ، وأفعاله .
يطيب حديثنا فيكم ويحلو ويغلو عند ذكركم الكلام
وأما غيركم فالقلب يأبى حرام مدح غيركم حرام
( أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: من الآية28) .فكيف يطمئن قلب من أصعب الأشياء عليه أن تحدثه عن الله ـ عز وجل ـ ؟!
( وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (الزمر:45) .
* أرسل عمر أميراً على بيسان ؛ ليقيم هناك السنة والقرآن ، فسمر الأمير مع أصحابه وأنشد :
إذا كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقي بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا بالجوسق المتهدم
فبلغ الخبر عمر ، فغضب وبسر ؛ لأن الخلافة الراشدة لا تتحمل تبعات الأبيات ، واستدعى الوالي فعزله ، لأن الأمة كانت تعزل ، والقرآن ينزل ، فمات عمر ليبقى صدام في الخلافة خمسين عام ، كلها ذبح للشيوخ والأيتام، وعليكم السلام .
* ابن الرواندي يهودي لعله نزعه عرق ، ألف كتاب ( الدامغ ) يدمغ به القرآن ! دمغ الله رأسه في النار.
ترجم له ابن خلكان ، فملس عليه ، وتسامح معه كأن الكلب لم يأكل له عجيناً ، فأين الغضب للدين والملة ؟ ولماذا هذا الانهزام والذلة ؟
والذهبي من ذهب السنة معدنه ، لما ترجم لابن الرواندي قال : هو الكلب المعثر ؛ لأن الذهبي يكتب بقلم الولاء والبراء ، وابن خلكان ، يسجل بقلم العجائز ( كان يا ما كان ) أهل السنة ينقدون الرجال ،فليس عندهم للتدليس مجال .
أنت يا أستاذ موفور الأدب لا تزكي كل من هب ودب
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) (النساء: من الآية135) .
* انتمى أهل السنة إلى حزب الله ، والعبد وما ملك لسيده ، إذا سئلت : ما اسم أهل السنة ؟ فقل : هم الذين ليس لهم اسم إلا أهل السنة ، شيخ أهل السنة : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبيوتهم : المساجد ، وكتبهم القرآن ، ودواوينهم : السنة ، يريدون وجهه ، مواعيد الدروس عندهم بالغدو والآصال ، لهم علامات ، منها : حب الصحابة ، والترضي عنهم ، وعندهم : عدم تكفير أهل الكبائر ما لم يستحلوها ، وزيادة الإيمان ونقصانه ، والقدر عندهم من الله ، خيره وشره ، والأعمال عندهم من الإيمان ، والعبد له مشيئة تحت مشيئة الله ـ عز وجل ـ .
أهل السنة رواد الجنة :
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
ولا يستطيع الفاعلون فعالهم ولو حاولوا في النازلات وأجملوا
* آه .. طعن عمر فما قال : آه ، خنجر أبي لؤلؤة مصنوع في الخارج ، والمؤامرة محبوكة ، سقط في المحراب ، وكفن في الثياب ، وكسر الباب .
عمر عظيم ما يموت فطيسة ، ما يموت إلا مزكي ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) (المائدة:من الآية3) . ( وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) (الإنسان :13) .
قال ابن الحداد المالكي : دفنت سعادة الإسلام في أكفان عمر ، وصدق ، فلأن الإسلام لا زال جريحاً بعد جرح عمر ، فالله المستعان .
* حاطب بن أبي بلتعة عنده حصانة حضور بدر ، أراد عمر أن يؤدبه بقطع الرأس ، فقال لسان الحال : على أي أساس ، قال أبو حفص : لقد خان الله ورسوله ، فقال صاحب الشرع ، عليه الصلاة والسلام : ( وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )!! فسالت دموع عمر واكتشف الخبر ، فمهما حدث ، ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ) .
في دفتر الوحي ( أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) (الأحقاف:16).
* قيل أيهما أقرب إلى الإسلام : الحداثة أو العلمانية ؟(/14)
قلنا : كان للعبادي حماران ، فقيل له : أيهما أقبح ؟ قال : هذا ثم هذا .
( تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) (المائدة:80) .
* لما تولى استالين لعن لينين ، فلما تولى خروتشوف لعن استالين ، فلما جاء غورباتشوف قطع الرباط وانتهى ، ( كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا ) (لأعراف: من الآية38) .
* جوائز البشر مكتوب عليها : ( مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ ) (النحل: من الآية96) وجوائز ملك الملك كتب عليها : ( وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ) (النحل: من الآية96) ، قل لعباد الدنيا : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود:16) .
* دخل سالم بن عبد الله بن عمر الحرم طائفاً ، فلقيه الخليفة هشام بن عبد الملك ، فقال لسالم : يا سالم ، آلك إلى حاجة ؟ قال سالم : أما تستحي ، تقول هذا الكلام ، وأنا في بيت ملك الملوك ؟ علم سالم أن عطايا الخدم ، لا تتجاوز القدم ، كيف يمد يديه إلى هشام ، وهو في حضرة الملك العلام ؟ كيف يترك العطاء القدسي ، لعطاء عبد الكرسي ؟ لما خرج سالم من الحرم ، عرض له هشام ، وأعاد عليه : هل من حاجة ؟ قال سالم : من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة ؟ قال : حوائج الآخرة لا أملكها ، وإنما أملك حوائج الدنيا ، قال سالم : والله ، ما سألت الدنيا ممن يملكها ، فكيف أسالها منك ؟! الخدم يشترون الذمم ، حتى في الحرم ، لكن سالماً عرف الجواب ، فحوى الخطاب ، لأن جده عمر بن الخطاب :
يا ابن الذين سما كسرى لجمعهم فجللوا وجهه قاراً بذي قار
يا دوحة الصدق والفاروق رائدها تلك السلالة لا أوباش ديار
* جلسوا تحت الشجرة ، وتظللوا بالمرة ، وبايعوه على قتال الفجرة ، فما قاموا حتى سمعوا : ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) (الفتح: من الآية18) . فقل لي بربك ، أي فرح فرحوه ، وأي كسب ربحوه ؟ لو قيل لك : الملك رضي عنك ، لأصابتك نشوة الفرح ، فكيف إذا رضي ملك الملوك ؟
رضاك رضَاك يا مولاي عني فهل يرضيك أن قدمت نفسي
أهل بيعة الرضوان ، ضيوف الرحمن ، لكن الكافر ما دري ، بسر ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى ) (التوبة: من الآية111) .
* ( من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله ، فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء ، فإنه من طلبه بذمته أدركه ، ومن أدركه كبه على وجهه في النار ) .
من علامة المنافق : حذف صلاة الفجر من جدوله ، وربما نقرها بعد الشروق ، ولكن هيهات ، الوقوف بعرفة في اليوم التاسع ، ومن فاته الوقوف بعرفات ، فليبك على نفسه قبل الوفاة ، ضيعت رأس المال ونحن نطلب الربح ، أردنا منك صلاة الليل فتركت الصبح ، حرصك على النوم الطويل ، أوقعك في الخطأ الوبيل .
فما أطال النوم عمر وما قصر في الأعمار طول السهر
( بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ) .
قيل للحسن : لماذا صفت وجوه المتهجدين بالنور ؟ قال : خلوا بالرحمن ، فألبسهم نوراً من نوره .
* صلى أسيد بن حضير في الغلس ، فدنا الحرس ، وتحرك الفرس ، فأخبر معلمه ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( تلك الملائكة تنزلت للقرآن ، ولو بقيت تقرأ لأصبح يراها الناس لا تتواري منهم ) !
( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) (غافر:7) .
* مساكين نحن ، ندعي أنا أمة الخلافة ولا يحضر لصلاة الفجر إلا صف واحد إذا ... فلو بدأ قتال الكفار ما وجدنا ولو صفاً .
من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح
هاتوا من المليار مليوناً صحاحاً من صحاح
* وزع ( صلى الله عليه وسلم ) الغنائم ، فأعطاها مسلمة الفتح ، وترك أبطال الفتح ، فجرى همس العتاب في الأصحاب .
فخلا الأنصار المختار بالأنصار بالمختار ، وبين لهم سر المسألة في قوله : ( أما ترضون أن يذهب الناس بالشاه والبعير ، وتذهبون برسول الله إلى رحاكم ؟ ! فو الذي نفسي بيده لما تذهبون به خير مما يذهب به الناس ) .
وصدق المعصوم ، فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) نصيب الأنصار من الغنائم ، وأولئك نصيبهم البهائم .
خذوا الشياه والجمال والبقر فقد أخذنا عنكم خير البشر
يا قسمة ترفع رأس مجدنا حزنا اليواقيت وقد حازوا البعر(/15)
* الأبرار يأتون إلى مسجده ( صلى الله عليه وسلم ) ، من بني سلمة ، ويتخلف الظلمة ، عن صلاة العتمة ، فقام منذراً ، وصاح محذراً : ( والذي نفسي بيده لقد هممت بالصلاة فتقام ، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون معنا العشاء فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ) .
أشعل بيوت الناكثين بأهلها أصل الوجوه السود صلوا بالنار
يتخلفون عن الصلاة دناءة ألهاك يا سهران ضرب الطار
* بلال يناديك من أعلى المنارة ، وأنت نائم في العمارة ، لو أطلعت بلال ، لدخلت في مسمى الرجال ، (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور:37) .
* كان المنافقون يتخلفون عن صلاة العشاء والفجر ؛ لأنه لم يكن في المدينة كهرباء في ذلك العصر ، فلما أضيء الكهرباء ، ظهر الوباء .
* أشعل النمرود الفتيل ، وسعر النار في الأصيل، ورمى فيها بالخليل ، فأطفأها حسبنا الله ونعم الوكيل .
الأعداء خططوا لكم ، فخذوا حذركم ، إن الناس قد جمعوا لكم ، فحسبنا الله ونعم الوكيل .
أبرمت خيوط الفتنة ، ونسجت حبال المحنة ، ونقض عهد الهدنة ، فحسبنا الله ونعم الوكيل .
اتفق المنافقون ، واجتمع المارقون ، وقل الصادقون ، فحسبنا الله ونعم الوكيل .
سألتك لا تكلني للأعادي فقد أسكنت حبك في فؤادي
فزودني من التوفيق زاداً عطاؤك يا إلهي خير زادي
( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر:36) .
* هاك بعض صفات المنافقين في الجملة ، فاحذر أن تكون في الحملة ، كسل عن الصلوات ، واستهزاء بالدين في الخلوات ، وانقضاض على الأعراض ، وسماع الآيات في إعراض ، الدين عندهم ثانوي ، لأن الجد مانوي !
الله كم من صرح للإسلام هدموه ، وكم من طريق للحق ردموه ، يظنون كل إشارة إليهم ، و ( يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ) (المنافقون: من الآية4) كم زلزلهم الوحي وأنذرهم ، ( هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ) (المنافقون: من الآية4) ( وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِم) (المنافقون: من الآية4) لكن العلامات عليهم ومن حولهم .
سهامهم في نحور العلماء مسددة ، ( كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ) (المنافقون: من الآية4) ، رفعت مع الباطل أعلموهم ، ( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ) (المنافقون: من الآية4) .
عثرت بعبد الله بن أبي بغلة التوفيق ، فسقط في الطريق ، ما طهرته صلاة الإمام ؛ لأنه غارق في الإجرام ، أراد المعصوم أن يمده مدداً فنزلت : ( وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً ) (التوبة: من الآية84) خاف عمر على نفسه من النفاق ، قيل له : سبحان الله يا شيخ ، أنت الفاروق باتفاق .
أصبحت منهم الدنيا كالجيفة ، تستروا لأنه مات حذيفة :
أنت مني وتدعي حمل حبي كل يوم تعطي اليمين الغموسا
ول عني عرفت فيك أموراً حربة في القفا ووجهاً عبوساً
* سقطت الأندلس لما تولى السقط ، ضعفت الملة ، وتداعى المنبر ، وعزل القرآن عن الميدان ، وطمست معالم الرسالة ، وصار اللهو أمنية ، ودوت الأغنية ، وصار الناس حيارى ، وتحالف الأدعياء مع النصارى ، وتنحى العلماء عن الدهماء ، فلا آمر ولا منكر ، ولا واعظ ولا مذكر ، الخطيب مرتج ، والسامعون يلعبون الشطرنج .
( وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (الكهف:59)
أبك مثل النساء مجداً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال
* المرأة درة مصونة ، وياقوتة مكنونة ، أرادوا أن تنزع الجلباب وتخلع الحجاب ، أرادوا لها حياة فوضوية ، والله يقول : ( وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ ) (الأحزاب: من الآية33) .
يريد المصلحون لها منهجاً قويماً ، ( وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيما ً) (النساء: من الآية27) .
يا فتاة الدين قومي للغبي ردي عليه
حين نادى يا ابنة الإسـ ــلام خدرك مزقيه
يا خسيس الطبع لص كل نذل يدعيه
( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (الأحزاب:59) .
* تفوق الصحابة على من بعدهم بأمور :
منها : أنهم يطالعون الغيب المستور ، كما يرون الشاهد المنظور ، فكان أحدهم في الغزوات ، لو مد يده لتناول عنب الجنة ، من يقينه بخبر الصادق المصدوق .
ومنها : أنهم بدمائهم أجود منا بدراهمنا ، ويكفي أن يصب الواحد منهم دمه في سبيل الله ، كلمات من معلم الخير ( صلى الله عليه وسلم ) ، بينما يقوم واعظنا بالخطب الطوال يطلب المال ، لوجه ذي الجلال ، فنكدي في العطية ونمن بالبذل .(/16)
ومنها : أن من عصى من أولئك يأتي إلى الموت نشيطاً ليطهر نفسه ولو كان في ذلك ذهاب رأسه ، فقل لي بربك أي إقدام هو إقدام ماعز والغامدية ؟! في طلب التطير من رسول البشرية .
ومنها : أن علم الصحابة للعمل ، وثقافتهم لما يحتاجون إليه ، بينما أصبح العلم ترفاً ، والفكر خيالاً ، والثقافة موضة .
ومنها : أن الصحابة يعيشون على الكفاية ، ومن زاد منهم ماله قدمه لمآله ، والمتأخر ون أصبح جمع المال عندهم مهنة ، والسعي وراء الحطام حرفة ، فاشتغلوا بفضول العيش عن أصول العمل .
ومنها : أن الصحابة قاموا بأعمال القلوب خير قيام ، من الخوف ، والرجاء ، والرغبة ، والرهبة ، والخشية ، والمحبة وغيرها ، مع قيامهم بأعمال الجوارح ، بينما الخلف يهتمون بالظاهر أكثر من الباطن ، فلذلك وقع الخلل في الأعمال والأقوال ، لأن ( في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب ) .
* اشكر لمن شرفك بصعود المنبر ، وعرف الناس به في كلامك ، ولا تعرف الناس بنفسك فإنه ـ سبحانه ـ أعرف المعارف ، وأنت نكرة من النكرات .
ولولا أن تعظمه ـ سبحانه ـ ما عظمك الناس .
وما دام أنه ستر معايبك عن الحضور ، فانتشر مدائحه ـ سبحانه ـ في الجمهور ، الله يستحق المدح ويحبه ، ولذلك مدح نفسه بأشرف المدائح ، ونزه نفسه عن القبائح .
كلما بالغت في مدح المخلوق ، قال الناس : هذا غير صدوق ، وكلما أكثرت من مدح الخالق ، قالت القلوب : حياك الله يا صادق .
* إذا لم تصاحب الصحابة الأخيار فأقرأ الأخبار .
فاتني أن أرى الديار بطرفي فلعلي أن أرى الديار بسمعي
قراءة سير الصحابة حسنة من الحسنات ، تظهر للقارئ سمو حياتهم ، وجلالة قدرهم ، وعظيم تضحيتهم ؛ ليعرف الإنسان قدر نفسه ، وضآلته أمام هؤلاء الأعلام الكرام ، وربما شده مقام من مقاما تهم ، إلى الاتصاف ببعض صفاتهم .
كان ابن المبارك يخلو بأخبار الصحابة في خلوة شرعية روحية ، ويخبر طلابه ، أنه جلس مع الصحابة .
ما في الخيام أخو وجد نطاحه حديث نجد ولا خل نجاريه
* حضرت أبا بكر الصديق الوفاة ، ليلقى بعدها رباً طالما عبده ووحده ، وأحبه ، وتقرب إليه وجاهد من أجله .
ليلقى رباً طالما أحب فيه البعيد ، وابغض فيه القريب ، سالم من أجله وحارب ، ورضي لرضاه ، وغضب لغضبه .
ربا أعطي لوجهه النفس والنفيس ، والغالي والرخيص ، سكب لمرضاته الدمع والدم ، وأتعب لدينه الروح والبدن ، ربا ملك حبه على أبي بكر كل لحظة ولفظة .
كأن رقيباً منك يرعى جوارحي وآخر يرعى ناظري وفؤادي
رباً سال حبه في عروق أبي بكر وعرقه ، من أخمصِه إلى مفرقه ، به يبصر وبه يرى ، وبه يسمع .
رباً هو صاحب كل خير ، وصل أبا بكر .
هو الذي خلق ورزق ، وأعطى ، وأفاد ، وهدى .
إنها أمنية ابي بكر أن يلقى ربه ، لذلك خف لهذا اللقاء ، ونشط لهذا النداء ، وتخفف لهذا السفر ، فإذا التركة بغلة ، لكن لبيت المال ، وثياب لكنها كفن للصديق ، أما الثروة الطائلة التي جمعها أبو بكر ، أما الأموال التي حصلها ، أما الكنوز ، والخيول ، والجمال ، والغنم ، فقد قدمها أبو بكر أمامه عند من لا تضيع عنده الودائع .
ماذا قدمنا نحن ؟ ماذا فعلنا ؟ ماذا بذلنا ؟ ماذا حصلنا ؟ أي جهد بذلناه ، أي دمع سكبناه ، أي دم أسلناه ؟ لاشيء .
ننكص عن الفجر ، وقد قام الصديق في الدجى ، ولا نبكي في الخوف ، والصديق يبكي في الرجا .
نحن نجر المطارف ، يوم مطارف أبي بكر تجر بسيوف الغزاة في بدر وأحد .
* قليل في اتباع خير من كثير في ابتداع .
الفرائض الخمس مع ركعتي الضحى ، والوتر قبل النوم ، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، ومداومة الذكر، والكف عن الذنوب ، هذا منهج الراشدين ، مع ما يتيسر من كتاب رب العالمين .
* السلف كلامهم قليل ، لكنه كله درر ، والخلف كثرة كلام وإسهاب منطق ، لكن غالبيه سقط وجله زخرف .
ختاماً :
انتهت مصارع العشاق ، وكان القصد منها طرحاً جديداً في قالب أدبي أخاذ ، فنحن أمة الإبداع ، وقرآننا سر البلاغة والإعجاز .
وصدت من هذا الفن إراحة النفوس من الرتابة ، وإقالتها من النمط الواحد ، فالنفس ملولة ، والأذن مجاجة، وتنويع الطرح وتصريف الكلام أدعى للقبول ، وكلما تعددت أساليب الحق فهم ، وكلما تنوعت قوالب الصدق علم . وتبارك القائل في كتابه : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (الكهف :54) .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون . وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
v قالوا ...
v قلنا ...
قالوا .. و.. قلنا عبارات مختصرة تحمل معاني مركزة كتبتها من راس القلم ، دون تنميق أو إطالة ، فهي ردود سريعة تناسب زمن السرعة الذي نعيشه الآن .
قالوا : نحن ندعو إلى حرية المرأة .(/17)
قلنا : حريتها ليس فيما تدعون إليه ، فهل تدرون ما هي حرية المرأة ؟ حريتها في الحجاب الشرعي ، حريتها في الستر والعفاف ، حريتها في الطهر والوقار والسكينة ، حريتها أن تكون أم لله تملأ قلبها بلا إله إلا الله ، وعينها بحياء الله .
كأن رقيباً منك يرعى جوارحي وآخر يرعى مسمعي وجناني
( وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ) (النور: من الآية31) ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (الأحزاب: من الآية33) .
حرية المرأة : أن تصلي الصلوات الخمس في أوقاتهن .
حرية المرأة : أن تخرج من البيت أطفالاً ، يؤمنون بالله ، لا أطفال شوارع .
أما حريتهم فهي : أن تكون المرأة عارضة أزياء ، وبائعة في البوفيه ، ومشترية تجوب السواق صباح مساء ، معروضة للفساق .
وقف أعرابي ، فرأى امرأته تنظر للأجانب ، فقال : أتنظرين للأجانب ؟
قالت : إني أنظر فقط .
فطلقها بالثلاث .
فلامه الناس .
فقال : أضاجعها ، وأدخلها بيتي ، وقد ملأت عينيها من الأجانب ، ثم قال :
إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كن الكلاب ولغن فيه
سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ كان من أغير الناس ، يقول للرسول ( صلى الله عليه وسلم ): يا رسول الله ، إذا وجد أحدنا ، والعياذ بالله ، مع امرأته رجلاً أجنبياً فماذا يفعل ؟
قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يأتي بأربعة شهود ) .
حتى لا تضيع دماء ، الناس وأعراض الناس ، وسمعة الناس .
فقال : يا رسول الله ، أمكث حتى أجمع أربعة ؟! لأضربنه هو وإياها بالسيف غير مصفح .
فتبسم ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( تعجبون من غيرة سعد ، والذي نفسي بيده ، إني أغير من سعد، وإن الله أغير مني )(1) .
قالوا : الغناء حلال .
قلنا : الغناء حرام بإجماع العلماء ، كما قال الشوكاني ، والآجري ، وغيرهما ، وبأدلة كثيرة من الكتاب والسنة ، وبفتاوى العلماء الأجلاء .. وراجع لذلك إغاثة اللهفان لأبن القيم .
قالوا : هل في الشعر كفر ؟ وما أمثلة ذلك .
قلنا : نعم .. وإليكم الأمثلة وأنتم تحكمون .
1ـ أحد الشعراء دخل مع بعض الجيوش العربية فلسطين ، يوم دخلت بعض الجيوش بغير لا لإله لإلا الله ، فكتب على أحد الأعلام :
آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني
وهكذا كفر بإجماع العلماء بل بإجماع العقلاء ؛ لأنه استبدل الإسلام بالعروبة .
2ـ ويقوا آخر :
هبوا لي ديناً يجعل العرب ملة وسيروا بجثماني على دين برهم
ألا حبذا كفراً يؤلف بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
3ـ ويقول ثالث يخاطب سلطاناً :
أنت الذي تنزل الأيام منزلها وتنزل الدهر من حال إلى حال
ولا مددت يداً في اللوح كاتبة إلا قضيت بأعمار وآجال
لا إله إلا الله !
4ـ ويقول رابع ويخاطب سلطاناً أيضاً :
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
5ـ ويقول خامس لما زلزلت مصر في عهد أحد السلاطين الظلمة تنبيهاً له من الله ، فقال الشاعر قالباً الحقائق ، وصارفاً لهذا السلطان عن التوبة :
ما زلزلت مصر من كيد ألم بها لكنها رقصت من عدلكم طربا
قالوا : انتم منعتم المرأة من مزاولة الأعمال والمهن .
قلنا : هذا كذب ، فإن ديننا علمها العمل الكريم ، والمهنة الشريفة ، علمها أن تكون مربية .
يقول البخاري في كتاب العلم : (باب) هل يجعل الإمام للمرأة يوماً من نفسه .
ويوم الاثنين كان يوماً معروفاً عند الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يعلم المرأة ، ويجلس مع النساء ، ويربي النساء ، ويفهم النساء ، ويفتي للنساء .
وكان يعيش مع المرأة قضاياها : الحيض ، والنفاس ، والولادة ، والحياة الزوجية ، والبيت ، وكل دقيقة ، وجليلة من حياتها ، وعلمها الإسلام كيف تربي الأجيال .
ولكن لما ضيع الناس المرأة ، أخرجت سفهاء ، أخرجت أناساً يصل الواحد منهم الأربعين وهوايته جمع الطوابع والمراسلة وصيد الحمام ! .
قالوا : الإسلام دين التطرف .
قلنا : ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ) (الكهف: من الآية5) .
ولو أني بليت بهاشمي خؤولته بنو عبد المداني
لهان على ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
لقد أراهم الله ما هو التطرف ، فرئيس رومانيا قام عليه شعبه فسحبوه كالدجاجة ، حتى ذبحوه في الشارع ، وآمنوا بالتعددية وكفروا بالشيوعية .
قالوا : الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أشد عظمة في عسكريته من نابليون .
قلنا :
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل أن السيف أمضى من العصا
لا يجوز لك هذه المقارنة بين عظيم يتلقى الوحي من السماء ، وبين مجرم فرنسي ، سحق الأطفال والشيوخ ، واستعمر العالم ، وسفك الدماء وهدم المساجد .(/18)
فالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يقول الله فيه : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) ما ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (النجم : 1-4) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107) ، وأما ذاك فتلعنه الشعوب .
قالوا : أنتم ليس عندكم حب .
قلنا : لأن القوم أهل حب وعشق ثم :
قالوا الهوى والحب هل تغني له أم أنت في دينا الهوى متجلد
قلت المحبة للذي حمل الهدى فحبيب قلبي في الحياة محمد
فالحب ، مثل حب سعد بن معاذ ، الذي يقول : يا رسول الله ، والذي نفسي بيده لو استعرضت بنا البحر فخضته ، لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد .
وحب أنس بن النضر الذي يقول : إليك عني يا سعد ، والذي نفسي بيده إني لأجد الجنة من دون أحد .
وحب جعفر الطيار ن الذي يقول :
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
على إن لاقيتها ضرابها
وحب عمير بن الحمام الذي قال : اللهم خذ من دمي هذا اليوم بخ بَخ ، إذا بقيت إلى أن آكل هذه التمرات فإنها لحياة طويلة .
وحب سعد بن الربيع ، الذي قال : اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى .
قالوا : شاعر الإنجليز شكسبير دخل على فنانين رسامين في حديقة في لندن .
فقالوا : ما رأيك في اللوحات ؟
قال : جيدة .
قالوا : هل لك اقتراح ؟
قال : لي اقتراح أن يعلق الرسامون بدل هذه اللوحات .
قلنا : صدق شكسبير ، وهو كذوب ، فبعض الرسامين ينبغي أن يعلق بدلاً من لوحته !
قالوا : إسرائيل تقتل الأطفال والشيوخ بهمجية .
قلنا :
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا شدوا على الغارات فرساناً وركبانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
قالوا لماذا كثرت العنوسة في النساء ؟
قلنا : لأنهن مشغولات بتأمين المستقبل ، والمستقبل لا يؤمنه إلا الله .
وتأمين المستقبل هذا نشره الغزو الفكري على أسماع بنات الإسلام ، فأصبحت المرأة ترى أن مستقبلها : الشهادة ، فتترك الزواج إلى أن يفوت وقت الزواج ، ثم لا يرغب بها أحد .
والحل أن تؤمن بالله وتعلم قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه ، إن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ) . رواه الترمذي بسند صحيح (1) .
يقول مصدر مطلع : بلغ نسبة الرجال للنساء في بلدنا رجلاً واحداً إلى أربع نساء .
قالوا : ما هي أجمل عبارة ؟
قلنا : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5) .
يقول ابن القيم : أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب ، جمع حكمتها في أربعة كتب : في الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن ، ثم جمع حكمة الأربعة في القرآن ، ثم جمع القرآن في المفصل ، ثم جمعه في الفاتحة ، ثم جمع الفاتحة في : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5) .
قالوا : ما أجمل أسم ؟
قلنا : الله أجمل اسم .
لما توفي سيبويه رؤى في المنام فقالوا : ما فعل الله بك ؟
قال : غفر لي .
قالوا : بماذا ؟
قال : لما وصلت في كتاب النحو إلى لفظ الجلالة ، قلت االله أعرف المعارف ، لا يحتاج إلى تعريف ، فغفر الله له .
قالوا : ما أجل كتاب ؟
قلنا : القرآن الكريم الذي ما أعطيناه حقه ، وما عشنا معه ، كما ينبغي أن يعاش معه ، حتى أخذت المجلة وقت المصحف .
اركب من أبها إلى جدة ، أو الرياض ، وانظر في الركاب ، وهم مسلمون جميعاً من الذي يفتح المصحف في الرحلة ؟
فكل رجل منهم معه صحيفة يقرأها ، وقراءة الصحف لابد منها لمعرفة أخبار العالم والناس ، لكن .. أين وقت القرآن ؟
يقول أحد الصالحين لأبنه لما حضرته الوفاة : يا بني لا تعص الله في هذا البيت ، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد ختمت كتاب الله في هذه الزاوية ثمانية آلاف مرة .
إن الأمة كانت ميتة ، فأنزل الله عليها روحاً ، هو : القرآن ( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) (الشورى: من الآية52) .
حدثنا بعض العلماء في الرياض : أن بعض العباد في الرياض ، لا زالوا أحياء اليوم ، في السبعين والثمانين ، يصلون صلاة الفجر يوم الجمعة في المسجد الجامع ، ثم يفتحون المصحف ، فيقرأونه من أوله من الفاتحة ، وقبل دخول الخطيب بدقائق ينتهون من سورة الناس .
يقول ( صلى الله عليه وسلم ) : ( اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)(1) .
يقول : ( من قرأ القرآن فله بكل حرف حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول لام ميم حرف ولكن ألف حرف ، ولام حرف وميم حرف )(2) .
قالوا : ما أجمل بيت ؟
قلنا : الكعبة التي نظر إليها ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( ما أعظمك ، وما أشد حرمتك ، والذي نفسي بيده ! للمسلم أعظم حرمة منك )(3) .
قالوا : من أفضل شاعر ؟(/19)
قلنا : حسان بن ثابت حبيبنا ، وهو قائد الشعراء إلى الجنة يوم القيامة ، يدخل الجنة بالأدب .
كان ( صلى الله عليه وسلم ) يسمع هجو المشركين ، يسبونه ويشتمونه وينتهكون كرامته ، فيقول : ( يا حسان كيفك مع المشركين ) ؟ يعني : هل تستطيع أن تمرغهم في التراب .
قال يا رسول الله ، أستطيع .
قال : ( بماذا ؟ ) فأخرج حسان لسانه ، وضرب به أرنبة أنفه ، وقال : يا رسول الله بهذا ، الذي لو وضعته على صخر لفلقه ، ولو وضعته على شعر لحلقه .
قال : ( اللهم أيده بروح القدس )(4) ، أي : جبريل ، لن جبريل يحب حساناً وحساناً يحب جبريل ، وحسان مدح جبريل بقوله :
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
يقول : القيادة العليا في يد جبريل ، وفي يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال بعض العلماء : بل القائد الأعلى ، هو : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
وجبريل ، عليه السلام ، تحت قيادته .
وهو صاحب الأبيات الجميلة التي يقول فيها :
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم فداء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبوا لجلاد يوم يعز الله فيه من يشاء
قالوا : ما أقرى ركن ؟
قلنا : التوكل على الله .
قالوا : وأنبل زعيم ؟
قلنا : عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وأرضاه .
قالوا : وأنجح قائد ؟
قلنا : خالد بن الوليد ، لذي خاض في الجاهلية ، والإسلام مائة معركة ، فما غلب في الجاهلية ولا في الإسلام .
خالد الذي بقي قبل الموت سنوات ، بعدها فتح الله الفتوح على المسلمين ، وبعدها قتل أعداء الله ، وبعدها استلمت ثلاثة أرباع الدنيا بنصر الله ، ثم بسيف الله خالد .
أتت الغنائم ، وأتى الذهب ، وأتت الفضة ، وأتت الحدائق والقصور والبساتين فتركها خالد ، وأتى إلى قرية في حمص ، فأخذ مصحفاً ، لا يزال إلى اليوم في المسجد الأموي في دمشق ، كما يقول المؤرخون ، فكان يفتحه من الصباح ، ولا يطبقه إلا في صلاة الظهر .
وكان يبكي ويقول : شغلني الجهاد عن القرآن ، شغلني الجهاد عن القرآن ، فلما أخرجوا جنازته أخذت أخته تبكي وتقول :
أنت خير من ألف ألفَ من القوم إذا ما كبت وجوه الرجال
ومهين للنفس العزيزة للذكر إذا ما التقت صدور العوالي
وأتى الخبر عمر في المدينة ، فأخذ بردته يجرها ، وجلس وحده يبكي ، وأخذ يضرب رجله بعصا عنده ، ويقول : ذهبوا وتركوني .
فأتى رجل فقال : يا أمير المؤمنين ، امنع النساء البكاء .
قال : دعهن ، على مثل أبي سليمان فلتبك البواكي .
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
قالوا : ما رأيك في هذه الأسماء : نزار قباني ؟
قلنا : هو الذي أضله الله على علم ، وختم على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة .
قالوا : شعره جميل .
قلنا : كقول فرعون : ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ ) (يونس: من الآية90) ، له قصائد جميلة ، ولكن لا يعني ذلك أن نتبناه ، أو ننشر شعره ، أو نطالع ما يبثه من سموم ، فهو متهتك متعدٍ لحدود الله .
قالوا : ونازك الملائكة ؟
قلنا :
وما شر الثلاثة أم عمرو بصاحبك الذي لا تصحبينا
قالوا : وطه حسين ؟
قلنا : مؤرخ الفراعنة ، وهويته فرنسية ، إذا عاد إلى مصر قال : الفراعنة الفراعنة ، ,إذا ذهب إلى الغرب قال باريس باريس .
قالوا : وعبد العزيز بن عبد الله بن باز ؟
قلنا :
عليه سلام الله ما أشرق الضحى ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية شهم باع لله نفسه مقاصده أغلى وأعلى وأعظما
قالوا : الشباب لا يقرأون .
قلنا : إذا كبروا سوف يندمون .
قالوا ما هو أعز مكان وأحسن جليس يتولى ؟
قلنا : كما قال المتنبي :
أعز مكان في الدنيا سرج سابح وخير جليس في الأنام كتاب
يقول : أعز مكان في الدنيا : ظهر الفرس ، إذا قاتلت به في سبيل الله .
والعرب أحدهم كان يتمنى قبل الإسلام ، إذا مات أن يموت على ظهر الفرس .
أتى عامر بن الطفيل ، أحد شجعان العرب في الجاهلية ، وعظماء العرب ، هو ، وأربد بن قيس يريدان اغتيال الرسول ( صلى الله عليه وسلم )، فحماه الله منهم ، فلما ولى عامر بن الطفيل قال ( صلى الله عليه وسلم ): ( اللهم اكفنيهم بما شئت ) .
فدخل عامر في بيت عجوز سلولية يريد أن يشرب ماء فأصابه الله بغدة كغدة البعير ، فأصبحت الغدة كالثدي في نحره ، فعرف أنه الموت ، فأخذ سيفه وصعد على ظهر الفرس ، وقال :
غدة كغدة البعير في بيت امرأة سلولية ، والله لا أموت إلا على الفرس .
مت على الفرس ، أو تحت الفرس ، أو في بطن الفرس ، فأنت عدو لله .
والشاهد أنهم يرون : أن أعز مكان سرج الفرس .
وخير جليس في الأنام هو كتاب الله .(/20)
يقول ابن كثير عن المتقي الخليفة العباسي أنه لما تولى الخلافة ، كان إذا صلى العشاء أغلق أبوابه وقال : أريد أن أخلو بنفسي هذه الليلة مع كتاب الله ، فربما تكون آخر ليلة . فيقرأ إلى صلاة الفجر .
فيأتونه الليلة الثانية فيقول : ربما تكون آخر ليلة ، حتى لقي الله .
قال له الناس في الصباح : نريد أن نسامرك .
قال : كفى بالله جليساً ، وكفى بكتاب الله أنيساً .
قالوا صف لنا الزهرة ؟
قلت : يقول أبو نواس :
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على كثب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
قالوا : متى نقرأ الصحف والمجلات ؟
قلنا : إذا قرأتم حزبكم اليومي من القرآن .
قالوا : حدثنا عن الأعمش رحمه الله ؟
قلنا : امتاز الأعمش بخفة الروح ، وفيه دليل على : أن الإسلام دين لطيف ، وأن فيه متسعاً للناس .
قيل لسفيان الثوري : المزاح هجنة .
قال : بل سنة .
كان الأعمش مزاحاً ، فكان إذا أتاه الثقلاء ، قال : ( رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) (الدخان:12) .
وكان متواضعاً ، ومن تواضعه عدم الاعتناء بالمظهر ، والاعتناء بالمظهر : طيب ، لكن هو متواضع يظهر البذاذة ، فكان يلبس الفرو مقلوباً .
فيقول له أحد تلاميذه : لو قبلت فروك كان أحسن .
قال أشر على الخروف بذلك ، أي : أن الفرو على الخروف مقلوب أصلاً .
قال له أحد الحاكة : هل تجوز إمامة الحاكة ؟
قال : نعم بلا وضوء .
قالوا : من هم المتطرفون ؟
قلنا : هم مروجو المخدرات ، وتاركو الصلوات ، وعاقو الآباء والأمهات .
قالوا : إلى أين وصلت الدعوة الإسلامية ؟
قلنا : إلى موسكو ، فقد خرج هذه السنة من موسكو ما يقارب ألفي حاج .
قالوا : لماذا لا تحضر النساء الدروس والمحاضرات النافعة ؟
قلنا : لأن أزواجهن لا يحضرون .
قالوا : ما هي أحسن هدية للصديق المسلم ؟
قلنا : الشريط الإسلامي ، والكتاب النافع .
قالوا : زارك أحباب لك .
قلنا :
ضيوف الخير قد شرفتمونا بلقياكم ربوع الجو طاب
فنفسي من زيارتكم تباهت بثوب الخلد أطلقت الضباب
قالوا : كيف نقضي على الفراغ ؟
قلنا : تذكروا قوله تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (المؤمنون:115-116) . قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ )(1) .
وتذكروا قول الشاعر :
دقات قلب المرء قائله له أن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني
قالوا : ما هو الخطر الداهم الذي يهدد العالم ؟
قلنا : هو الموت ، ولقاء الله ( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (البقرة:281) .
يقول ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أكثروا من ذكر هاذم اللذات )(1).
ويقول الشاعر :
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل أملاً ونرجوا نتاجها لعل الرجا مما نرجيه أقرب
ونبني القصور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنا نموت وتخرب
إلى الله نشكوا قسوة في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب
قالوا : الكفار أكثر الناس أمولاً وديناً .
قلنا : ( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ) (التوبة: من الآية55) .
قالوا : المصارعون أقوى الناس أجساماً .
قلنا : ( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ) (المنافقون: من الآية4).
قالوا : اليهود يهاجرون إلى فلسطين .
قلنا : يسعون إلى حتفهم .
لقيناهم بأرماح طوال ولا قونا بأعمار قصار
قالوا : على الدعوة الإسلامية ملاحظات .
قلنا : إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث .
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمو من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
وقال آخر :
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
ولا يستطيع الفاعلون كفعلهم وإن حاولوا في النائبات وأجملوا
شرف الأمة الإسلامية ، هم : هؤلاء الشباب ، فهم رفعتها ، وعزها ، وكرامتها ، ومجدها .
لقد فاخرنا بهم في أمريكا ، يوم كانوا دعاة ملتزمين ، وفي فرنسا ، وفي بريطانيا ، وفي كل دولة من دول العالم ، فأصبحوا تاجاً على رأس الأمة الإسلامية ، فمهما لاحظ الناس عليهم من ملاحظات ، فقد تجاوزوا القنطرة ، وأصبحوا بحمد الله عدولاً ، وأصبحوا بررة ، وأصبحوا على نهج محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
عناقهم : شرف ، والجلوس معهم : كرامة وتعليمهم : ريادة ، والاستفادة من دعائهم : بركة ونور وهداية ، والاستماع إلى نصائحهم : إرشاد وفهم وفقه .
إنهم ذخيرة الأمة .(/21)
( رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) (آل عمران:193) .
سؤال وجواب
أيها الأخوة الفضلاء لقد أمر الله ورسوله بالسؤال فقال : ( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (الزخرف:45) .
والسؤال نصف العلم ، والجواب نصف العلم ، وحسن السؤال من حسن العقل .
قالوا : لا رخصة لك .
والله تعالى يقول : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (الأنبياء: من الآية7) .
لكن السؤال محذور في مواطنين اثنين :
الموطن الأول : أن تسأل عما لا يعنيك ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (المائدة:101) فما لا يعنيك لا تسأل عنه ، كمن يضيع عمره في مسألة وهو بحاجة إلى مسائل خير منها ، أو أحسن منها ، ولكنه دائماً يسأل عنها ، مثل الجدال البيزنطي حول دوران الأرض خول الشمس ، أو دوران الشمس حول الأرض ، أو أطفال أهل الفترة أو أسئلة لا تعنينا ، أو تنفعنا في الحياة .
الثاني : ألا تسأل عن شيء ، استأثر الله بعلمه ، سبحانه وتعالى ، كالمتشابه من القرآن ، وتتكلف علم مثل (حمَ ) (غافر :1) ( الَمَ ) ( العنكبوت : 1) (نَ) ( القلم : 1) ( طسَمَ ) (القصص:1) ، إلى غير ذلك من الحروف التي استأثر الله بعلمها ، أو علم المتشابه ، فإن أهل العلم يقولون : معتقد أهل السنة أن يكفوا عن المتشابه ، والله يقول : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِه) (آل عمران: من الآية7) ، ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) (آل عمران:7) .
صح عنه ، عليه الصلاة والسلام ، أنه نهى عن كثرة السؤال ؛ وقال الإمام مالك : أراها المعضلات والأغلوطات ، يعني : كثرة السؤال من المعضلات التي يحاول بها البعض تعجيز العلماء والدعاة ، ليس قصده : العلم والفائدة ، بل قصده : أن يعجزهم ، فهذا منهي عنه .
وقيل : كثرة السؤال : من يسأل الناس مالاً تكثراً فإنما يسأل جمراً .
أيها الأخوة الفضلاء ، بين يدي : عشرون سؤالاً ، منها : أسئلة في العقيدة ، منها أسئلة في التوحيد ، وأسئلة : في الفقه ، وأسئلة في الحديث النبوي ، وأسئلة في الفكر الإسلامي ، ومنها أسئلة في المؤلفات والأدب وأسئلة اجتماعية ، فعسى ، الله أن يسدد ، وأن يهدي بما نخط وأن ينفع بما أكتب ونسأله سبحانه وتعالى أن هذا العلم حجة لنا لا حجة علينا .
السؤال الأول : ما سبب قوله سبحانه وتعالى : ( وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ ) (التوبة:75-77) .
الجواب : قال أهل السنة من العلماء وعلى رأسهم : ابن جرير وابن كثير : سبب نزولها : أن رجلاً اسمه : ابن جميل عاهد الله عز وجل وكان فقيراً فقال : يا رب ، أعاهدك إذا رزقتني مالاً أن أجعله في طاعتك وأن أنفقه في مرضاتك ، فأعطاه الله ما شاء من المال ، فأرسل الرسول ، عليه أفضل الصلاة والسلام ، عمر بن الخطاب يجمع الصدقة ـ أمير المؤمنين الفاروق ـ فذهب ، فمر على المسلمين ، فأعطوه الصدقات إلا العباس عم الرسول عليه الصلاة والسلام ، وخالد بن الوليد ، وابن جميل امتنعوا .
فأتى فأخبر الرسول ، عليه أفضل الصلاة والسلام ، فقال ، عليه أفضل الصلاة والسلام : ( أما العباس فهي على ومثلها ..) يعني : الصدقة ؛ لأنه دفعها لسنتين ، وهي دين على الرسول ، عليه أفضل الصلاة والسلام .
( وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً .. ) يعني : سيف الله المسلول أبا سليمان ( لقد احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله ) يعني جعل ماله وقفاً ، يعني لا زكاة عليه ، فلماذا تطلب منه الزكاة (1) ؟
يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذله
خالد عنده مائة فرس ، ومائة سيف ، ومائة درع ، جعلها وقفاً في سبيل الله .
والوقف لا زكاة فيه .(/22)
وأما ابن جميل هذا فيقول ، عليه الصلاة والسلام : ( أما ابن جميل فما كان ينقم إلا كان فقيراً فأغناه الله .. ) يقول : يحق لابن جميل أن يمنع فهو كالمستهزئ به ، فهل هذا جزاء المعروف ؟ وهذا جزاء الإحسان ؟
فأنزل الله في ابن جميل ، وأسلوب القرآن ، لا يجرح ، ولا يشهر ، وهو أسلوب الداعي الناجح ، ألا تسمي الأسماء ، ولا تذكر الكيانات ( وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ ) (التوبة: من الآية75) وكان يقول عليه الصلاة والسلام : ( ما بال أقوام يصنعون كذا وكذا ) .
قال تعالى : ( وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ ) (التوبة:75-77) وهذه الآية تسري على كل من يفعل ذلك ؛ لأن المال مال الله ، والمنصب لله ، والصحة أعطاها الله ، والرزق من الله ، فليس لأحد منة على الله ، بل المنة له وحده .
وكثير من الناس تمر بهم ظروف فقر ، ويعاهدون الله في وقت الرخاء : أن يبذلوا ، وأن يعطوا ، فلما أعطاهم ، ومنحهم الله ، تولوا على أعقابهم ونقضوا عهد الله ، ومسثاق الله عز وجل .
وأذكر قصة ذكرها رسول الهدى ، عليه الصلاة والسلام ، وهي في ( الصحيحين )(1) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( كان فيمن كان قبلنا من بني إسرائيل ثلاثة : أقرع وأبرص وأعمى ) .
الأقرع : الذي لا شعر في رأسه .
والأبرص : الذي تغير جلده من البرص ، وذهب بهاؤه .
والأعمى : الذي ذهب بصره .
( أراد الله أن يبتليهم فأرسل لهم ملكاً من السماء فنزل الملك فمر على الأقرع وقال : ماذا تشتهي ؟
قال : أتمنى من الله أن يرد على شعر رأسي الذي قذرني الناس به .
فسال الله أن يرد عليه شعر رأسه فرده .
ثم قال : ماذا تشتهي من الأنعام ؟
قال : أشتهي الإبل .
فدعا الله له ، فرزقه الله بناقة ، ولدت ، وأنتجت حتى ملأت الوادي .
ثم ذهب إلى الأبرص ، وقال : ماذا تطلب من الله ؟
قال : جلداً حسناً يرده الله علي فقد قذرني الناس بجلدي .
فسأل الله ، فرد عليه الجلد الحسن .
قال : ماذا تشتهي من الأنعام ؟
قال : البقر .
فسأل الله عز وجل ، فأعطاه بقرة فولدت ، وأنتجت حتى ملأت الوادي .
فذهب إلى الأعمى ، وقال : ماذا تشتهي ؟
قال : أن يرد الله علي بصري .
قال : وماذا تشتهي من النعام ؟
قال : الغنم .
فسأل الله شاة فأعطاه ، شاة فأنتجت حتى ملأت الوادي .
ثم ذهب الملك وتغير في صورة مسكين ـ والله الذي يصوره ـ فمر بالأقرع ، قال : أريد منك ناقة أنا فقير ومسكين .
قال : المال مالي ، وما عندي ما أعطيك .
قال : قد كنت أقرع ، وكنت فقيراً فرزقك الله .
قال : لا ، ورثت المال كابراً عن كابر .
قال : إن كنت كاذباً فرد الله إلى ما كنت .
فرده الله أقرع فقيراً .
ثم ذهب إلى الأبرص ، وقال : أعطني بقرة أتقوت بها .
قال : لا ، المال مالي .
قال : لقد كنت أبرص وكنت فقيراً .
قال : لا ، بل ورثته كابراً عن كابر
قال : إن كنت كاذباً فرد الله إلى ما كنت .
فرده الله كما كان .
وذهب إلى الأعمى فسأله .
فقال له : خذ ما شئت ، واترك ما شئت والله ، لا أشكرك على ما تركت ، فقد كنت أعمى فرد الله علي بصري ، وكنت فقيراً فأعطاني الله ، فخذ ما أردت .
قال : أما أنت فقد رضي الله عليك ، وغضب على صاحبيك ) .
فيا عباد الله ، هذه النعم تجري عندنا ، وزكاة البدن : أن تستخدمه في طاعة الله ، وزكاة العينين : البكاء ، وزكاة اللسان : الثناء ، وزكاة القلب : الحياء ، وكلها مما يستوجبه سبحانه على عباده .
السؤال الثاني : ما سبب نزول قوله سبحانه وتعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(النساء:65) ، وما هي ظلال الآية في واقعنا المعاصر ؟؟
الجواب : سبب نزول الآية : كما في حديث ابن الزبير ، أن الزبير بن العوام حواري الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام ، اختصم هو ورجل من الأنصار في مزرعة ، فأتى ( صلى الله عليه وسلم ) إلى صاحب المزرعة ، ومزرعة الزبير فوق مزرعة الأنصاري ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) للزبير : ( اترك الماء قليلاً حتى يعود إلى الجدر ثم اتركه للأنصاري )(1) .
فقال الأنصاري للرسول عليه الصلاة والسلام : أإن كان ابن عمتك قضيت له .
لا إله إلا الله ! يعني يقول أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) جار في الحكم ؛ لأن الزبير ابن عمته صفية بنت عبد المطلب ، وهي عمة الرسول عليه الصلاة والسلام .
فغضب ، عليه الصلاة والسلام ، فقال : ( اترك الماء ) .(/23)
قال بعض العلماء : حتى يصل إلى الجدر : وهذا هو الحكم ، فنزل قوله : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) .
ولها ظلال ثلاثة :
الأول : يقول بعض العلماء : معنى الآية : لا يؤمنوا حتى يحكموك ، أي يرضوا ، ويرضون بك إماماً (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21) فيحكموك في معتقداتهم ، وعباداتهم ، وأخلاقهم وسلوكهم .
فمن رضي بإمامة الرسول عليه الصلاة والسلام جعله إماماً في المعتقد والأخلاق والسلوك وفي السنن ، كاللحية والثوب ، وهي من السنن ، وإماطة الأذى عن الطريق ، وقص الشارب ، والسواك ، وكل دقيقة وجليلة يحكم فيها محمد ، عليه الصلاة والسلام .
يا مدعي حب طه لا تخالفه الخلف يحرم في دنيا المحبينا
أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تدويناً وتهوينا
خذها جميعاً تجد فوزاً تفوز به أو فاطرحها وخذ رجس الشياطينا
وإنما أقول هذا لتعلق بعض الناس ببعض المغرضين ، كـ ... وله أتباع رأيناهم يأخذون صورته ، ويقبلونه ، ويقولون : من أجل عينيك ! ولكن ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ) (البقرة: من الآية165) ، فأولياء الله عز وجل وأولياء الرسول عليه الصلاة والسلام ، أشد ، وأحسن ، وأقوى ، وأعظم حباً من هؤلاء ، ولكن أين هم على الساحة ؟
تعال يا من حاله في وبال ونفسه محبوسة في عقال
يا راقداً لم يستفق عندما أذن في صبح الليالي بلال
روض النبي المصطفى وارف أزهاره فاحت بريا الشمال
يقول ( صلى الله عليه وسلم ) في صحيح مسلم : ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار )(1) .
والظلال الثاني : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ) (النساء: من الآية65) وهو تحكيم الدستور الإسلامي ( الكتاب والسنة ) في حياة الأمم والشعوب ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة : من الآية44) ، ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: من الآية45) ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة: من الآية47) .
فمن حكم بغير ما أنزل الله ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ، ولا عدلاً ، ولا كلاماً ، ولا يزكيه وله عذاب أليم ، يقول تعالى : ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50) .
ذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد ـ رحمة الله ـ قصة مشهورة عند أهل السنة ، أن رجلاً يهودياً ، ومنافقاً اختصما في قضية ، فقال اليهودي للمنافق : نذهب إلى محمد والمنافق يقول لا .
لأن اليهودي يعلم أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، سوف يحكم بالحق ، والمنافق خائف لأن الحق عليه .
فلما ذهبا إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) حكم بالحق ، فقال المنافق : ما رأيك نأتي أبا بكر لعله أن يسهل لنا .
فذهبا إلى أبي بكر ، فحكم كما حكم الرسول ، عليه الصلاة والسلام ، لكن أبا بكر سهل ، رحيم فما سألهم هل حكم قبله أحد .
فذهبا إلى عمر ، وكان في البيت فقالا : نعرض عليك قضية .
قال : ما هي ؟
قالا : كيت وكيت ، فقصا عليه القصة .
قال : أحكم فيها قبلي أحد ؟
قالا : نعم .
قال : من ؟
قالا : الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأبو بكر .
قال : فهل رضيتم ؟
قالا : أردنا أن نسمع حكمك .
قال : انتظرا قليلاً ؛ لأخرج شيئاً حتى تريا الحكم ، فذهب في طرف بيته ، وأخرج السيف مسلولاً ، فضرب به رأس المنافق ، لأنه لم يرض حكم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومع ذلك هو يدعي الإسلام .
الظلال الثالث : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجا ً) (النساء : من الآية65) ؛ لأن بعض الناس يحكم الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولكنه يجد حرجاً من حكمه ، وهذا دليل على النفاق .
مثلاً من يحمل السنة ، وفي قلبه حرج من الناس ، وهو متضايق منها ، وإنما يفعل ذلك مجاملة ، كمن يحضر صلاة الجماعة ، لكن كالمجامل ، ويعرف أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) حث عليها ، لكن في قلبه حرجاً .
وبعض الناس يقول : ليت الرسول ، عليه الصلاة والسلام ، ما أتى بالحجاب ، ومع ذلك هو يحجب بناته ، فهذا لا يعد مؤمناً كامل الإيمان ، بل في قلبه مرض ، وفي قلبه شبهة .(/24)
السؤال الثالث : ما معنى قوله تعالى : ( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:43) .
الجواب : ( فلولا ) عند أهل العلم بمعنى : هلا ، يعني : فهلا إذا جاءهم بأسنا .
والبأس ، قيل : النكبة في الحياة ، وقيل : المصائب التي يبتلي بها الله الناس ، وهي أخذ الله ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ) (هود: من الآية102) .
معنى الآية ببساطة ، يقول سبحانه لماذا عندما أتاهم بأسنا وعذابنا ، ونكباتنا ، ومصائبنا ما رجعوا إلينا ، وتضرعوا ، وبكوا ، وندموا ، واستغفروا .
هذه الآية ، أيها المسلمون نحن نعيش ظلالها هذه الأيام ن فلا ينقذنا ـ والله ـ من الله ، ومن عذاب الله ، ولا من نقمة الله ، ولا من تدمير الله إلا هو ، والله لن تنقذنا أمريكا ، ولا غير أمريكا ، ولا بريطانيا ، ولا فرنسا ، ولا دول الأرض ، فإن الله إذا غضب ، فلن يقوم لغضبه أحد ، فالمفر ، إلى الله الذي يقول : ( فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذريات:50) ، والذي يعتقد أن قوى الأرض وأن أركان الأرض هم الذين يحولون بينه وبين أخذ الله ـ والله ـ هو واهم .
فعلينا أن نحفظ النعم بالشكر ، ولا نكون كالبلد الذي رأيناه ، كان بلداً ناعماً سعيداً بات هادئاً وما علم أنه سوف يجتاح في الصباح .
يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
ولكن ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ ) (هود: من الآية102) ، ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل:112) .
إذا غضب الله فلا يقوم لغضبه أحد ، يقول سبحانه وتعالى : ( إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود: من الآية102) ، ويقول سبحانه : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَت) (الطلاق: من الآية8) عتت : أي تمردت على آياتنا ، ناعمة ، لكن لا يصلى أهلها جماعة في المساجد ، ويخرجون على شريعة الله ، ويتعدون حدود الله ، ويسهرون على معاصي الله (عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً ) (الطلاق:9) .
قوله تعالى : ( تَضَرَّعُوا ) (الأنعام: من الآية43) عادوا إلى الله .
كان السلف إذا أتت حروب على الحدود يلجأون إلى المساجد بقيادة الخلفاء ويكثرون من النوافل ومن دعاء النوازل ومن البكاء .
وقعت في المدينة هزة خفيفة ، يقولون : سقطت بعض الحوائط والخليفة كان عمر ، فلما وقعت الهزة صعد المنبر، وقال : الصلاة الصَلاة ، في الظهيرة ، فاجتمع الناس ، فخطبهم وبكى ، وقال : ما هذه الهزة ؟
قالوا : من الله .
قال : أعلم أنها من الله ، فما سببها ؟
قالوا : لا ندري يا أمير المؤمنين .
قال : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم:41) والذي نفسي بيده لو تكررت هذه الهزة لا أجاوركم في المدينة .
قالوا : ماذا نفعل ؟
قال : توبوا إلى الله ، وتضرعوا ، فإن الله يقول ( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:43) .
وقال أهل التاريخ : هبت ريح شديدة على بغداد ، وأخذت بعض الشجر ، وهدمت بعض القرى ، والخليفة هارون الرشيد ، نزل من قصره ، ودخل المسجد ، وكشف البساط ، ووضع خده ، قال : والله يا رب لا أرفع خدي حتى تهدأ الريح ؛ لأنك إن قتلت أمة محمد فبسبب ذنوبي .
قالوا : فما رفع رأسه ، حتى هدأت الريح ، واطمأنوا إلى رحمة الله عز وجل .
السؤال الرابع : ما شرح وصحة حديث : ( لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء ، والمتشبهات من النساء بالرجال )(1) ؟
الجواب : الحديث صحيح .
وأما شرحه ، فقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء ) هو الرجل الذي يتشبه بالمرأة بما يخص المرأة في كلامها ، وفي مشيها ، وفي لبسها ، وفي أخذها ، وفي تثنيها ، وعلى ذلك استحق لعنة الله وغضب الله ، هذا ملخص المعنى .
( ولعن الله المتشبهات من النساء بالرجال ) من تشبه بالرجل في مشيته وفي كلامه وفي لباسه وفي أخذه وفي عطائه وفي خروجه .(/25)
ومن التشبه بالرجال : ما يدعوا إليه الآن ، العقلانيون ، بمشاركة الذين ضلوا سواء السبيل ، لمشاركة المرأة في البرلمان وتوليها المنصب ، وأخذها الوزارة والوظيفة ، وهذا ليس وارداً في الإسلام ، يقول ، عليه الصلاة والسلام : ( لا يفلح قوم ولو أمرهم امرأة )(1) والإسلام يحرم أن تتولى المرأة منصباً ، ـأمر فيه وتنهى ، لأنها ناقصة عقل ودين ، هذا حفظكم الله .
ورأيت كتيبات تباع في الأسواق , فيها فصول تنادي بهذا الأمر من صغار طلبة العلم ، يكونون مغرورين بالثقافة المنحرفة ، والعقلانيون العصريون اغتروا بهذا ، وناقشوه نقاشاً باطلاً ، ليدحضوا به الحق .
والتشبه ظهر في هذا العصر في كثير من الناس ، وكثير من الجيل ، لكن بدأت هذه المسحة تخف ، والحمد لله ؛ لأنه قد ظهر في بعض الجيل يوم كانوا يسافرون إلى أوربا وأمريكا فلصق بهم التأنث والتشبه بأعداء الله عز وجل ، وجعل الدين رجعية وتخلف وازدراء .
السؤال الخامس : ما صحة وما شرح حديث : ( من تشبه بقوم فهو منهم )(2) .
الجواب : الحديث صحيح ، رواه أحمد وأبو داود والمعنى من تشبه بقوم في زيهم وفيما اختصوا به ، وفي حركاتهم ، التي اختصوا بها فهو يحشر معهم .
أيها الأخوة ، إن ما يفعله بعض المسلمين ، الآن من الانهزاميين الذين أصيبوا بهزيمة نفسية ، هو : المؤدي للتشبيه بأعداء الله .
فبعض الناس يرون الخواجة هذا ، كأنه ملك نزل من السماء ، لا طهر الله الخواجة ، فهم أنجس خلق الله ، وهم أعداء الله عز وجل ، في كل أرض ، وفي كل عصر ، وهم يرصدون الإسلام بالمراصيد ، ولذلك فإن الهزيمة النفسية التي أصابتنا نحن لأننا لم نقدم للبشرية شيئاً هي التي أدت للتشبه .
كم صرفنا يد كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه
نحن الآن عالة على البشر ، إذا ما حملنا الدين ، وقدمناه للناس ، فما قدمنا شيئاً ، يقول ( كرسي مرسون ) في كتابه الإنسان لا يقوم وحده ) : قدمنا لكم الثلاجة ، والبرادة ، والطائرة ، والسيارة ، وما قدمتم لنا الإسلام ، يعني : ينتظر الغرب ، والروس ، والأمريكان منا أن نقدم لهم الإيمان والإسلام ، ولا ينتظرون أن نصنع لهم طيارة ، فنحن لا نصنع حتى الطابشير بل كله مستورد ، وهكذا كل صغيرة وكبيرة حياتنا .
فالناس ينتظرون منا الإسلام ، فمتى نصل به إلى الناس ؟
يقول أحد هؤلاء الحيارى : ( جئت لا أعلم من أين .. ولكني أتيت .. ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت .. وسأبقي سائراً أشئت هذا أم أبيت ) .
لكن أهل الإيمان على بصيرة من الله ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ في ) (الأنعام : من الآية122) .
فالتشبه موجود بسبب الانهزامية ، التي عاشها بعض المسلمين ، فظهر التشبه في الأكل ، والشرب ، واللباس ، والحركة ، الخ ، فنسأل الله العزة .
السؤال السادس : ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام : ( مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع ) .
الجواب : الحديث صحيح ، رواه أبو داود وأحمد(3) وغيرهما .
ومعنى ( مروا أبنائكم بالصلاة لسبع ) يقول أهل العلم : إذا بلغ الابن سبع أو البنت ، فيؤمر بالصلاة أمراً ، لا ضرباً ، فيقال له صلّ هداك الله ، لماذا لا تصلي ؟ ويلام ويعاتب .
فإذا بلغ العاشرة ، عزر للترك بالضرب ؛ لأن السن التي يكلف بها الصلاة ، هي : العاشرة ، ويؤخذ إلى المسجد في العاشرة .
أما ما دون السابعة ، فلا يؤتي بهم إلى المساجد ، لئلا يتحول المسجد إلى روضة أطفال ، وتشويش على المسلمين ، وإضاعة لمقدسات المسلمين ، ومقدراتهم ، واحترامهم ، وتوقيرهم في بيوت الله عز وجل .
أما قوله : ( فرقوا بينهم في المضاجع ) فهذا عند النوم .
والعلماء لهم تعليق على هذا الحديث ، فبعضهم يقول : لا بأس أن يكونوا في غرفة واحدة ، لكن يفرق بين الذكر والأنثى ، والذكر ، والذكر والأنثى والأنَثى .
السؤال السابع : ما حكم تعلم السحر والكهان ، وما حكم من ذهب إلى من يزاولها .
الجواب : السحر من تعلمه فقد كفر عند جمهور العلماء ؛ لأن الشوافع لهم رواية بتحريمه وأنه من الكبائر ولا يرون أنه يكفر .
( وحد الساحر ضربه بالسيف ) كما قال عليه الصلاة والسلام (1) .
وقد قتلت حفصة ساحرة .
وجابر بن سمرة قتل ساحراً .
وأما الكاهن ، فهو الذي يدعي علم الغيب ، ومن ذهب إلى هؤلاء فقد كفر بما أنزل على محمد ، عليه الصلاة والسلام ، يقول ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم )(2) .
هذا من صدقه ، أما من أتى إليه ولم يصدقه لم تقبل منه صلاة أربعين يوماً لقوله ( صلى الله عليه وسلم ): ( مت أتى عرافاً أو كاهناً لم يقبل له صلاة أربعين يوماً )(3) . قال أهل العلم : هذا فيما لم يصدقه ، أما من صدقه فقد كفر بما أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .(/26)
وهم منتشرون ،وأنا ألفت انتباهكم إلى الذين يدعون إخراج الماء من بطون الأرض، وهؤلاء على قسمين :
قسم جائز .
وقسم محرم .
الجائز : من يستدل على الماء بالعلامات ، فهذا لا بأس به ، وهو علم موجود عند العرب من قديم ، وقد أثبته علماء الجيولوجيا حديثاً .
أما من يبقى في بيته ، فيقول : في البقعة الفلانية بئر ، وإذا حفرت كذا وجدت الماء ، فهذا ضال مضل ، منحرف ، ملعون على لسانه ( صلى الله عليه وسلم ) .
السؤال الثامن : هل يجوز تعليق شيء من الحروز ، ولو كتب عليها القرآن ؟
الجواب : الأصل في ذلك المنع ، وما علمت أحداً يجيز أن يعلق شيئاً مكتوباً إلا ابن عمر إذا كان من القرآن .
ولكن الصحيح منع ذلك : سواء من القرآن أو من غيره ، لا يكتب في قراطيس ، ولا يعلق على الطفل ، أو على الكبير من هذه الحروز سواء من القرآن ، أو من التوراة ، أو من غيرها ، وسد هذا الباب وارد ، وقد ذكره الإمام محمد بن عبد الوهاب .
فلا يتجوز في هذا ، ولو كان من القرآن ، ويكفي أن يقرأ على المريض المصروع المسحور ، الذي أصابه المس ، الآيات البينات المؤثرة كآية الكرسي ، والفاتحة ، والمعوذات ، والإخلاص .
السؤال التاسع : ما هي الألفاظ الشركية المنهي عنها ؟
الجواب : اشتهر بين الناس ألفاظ شركية مثل ( لولا الله وفلان ) ( ما شاء الله وشئت ) والحلف بغير الله .
يقول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك )(4) .
وهكذا ، أقسام شركية مثل : ( وحياتي ) ( وشرفك ) ، (والنبي ) ، وهذه الألفاظ محرمة وهي : شركية ، وقد انتشرت حتى في أبناء التوحيد الذي كان مفروضاً عليهم : أن ينشأوا على التوحيد الخالص الصافي ، لكن هكذا تفعل السنن ، واتباع الأقوام ، والتأثر بالآخرين .
السؤال العاشر : البيع بالتقسيط هل هو جائز أم لا ؟
الجواب : أيها الأخوة ! البيع بالتقسيط على صورتين :
الصورة الجائزة : أن تزيد له في الثمن من أجل زيادة الأجل يقول ابن القيم : زيادة الثمن من أجل زيادة الأجل لا بأس فيها ، مثلاً سيارة عرضها أصحابها بعشرة آلاف درهم ، وتريد أن تشتريها ، ولا تملك هذا المبلغ ، فتذهب إلى أصحابها ، وتعلمهم قبل أن تسمع منهم السعر أنك تريد أن تشتريها بالأجل أي : بالتقسيط ، فلو أنهم زادوا السعر من عشرة آلاف إلى أكثر من هذا ، فلا بأس به لأجل الأجل والصواب : أنه لا يسمع المشتري ثمنين للسلعة الواحدة ..
وأما من قال لا يصح فهذا ليس بالصحيح ، وقد خالف كلام أهل السنة والجمهور ، لا بل يزاد في الثمن من أجل زيادة الأجل .
ولا يستوي أن تبيع بيتاً ، الآن بمائة ألف ، وبعد سنة بمائة ألف ، هذا لا يقوله أحد ، لابد أن تزيد من أجل زيادة الأجل .
أما بيع الجاهلية ، فصورته : أن تبيع مثلاً السيارة بثلاثين ألف بعد شهر ، فيأتي بعد شهر ، فيقول ليس عندي مال الآن ، فيقول : أترك شهر أخر وأزيد عليك خمسة آلاف .
ثم يأتي ، ويقول ليس عندي شيء ، فيقول : أمهلك ، وأزيد عليك خمسة آلاف فهو محرم .
ويقول له في الجاهلية : أتربي أم تقضي .
السؤال الحادي عشر : المسح على الخفين ووصفه ومدته وشروطه ؟
الجواب : هذه ، دائماً ، يسأل عنها كثيراً ، أيها الأخوة ، من لطف الله عز وجل أن جعل المسح على الخفين رخصة للمسلمين ، وما خالف في ذلك إلا الرافضة ، وهو شبه إجماع بين أهل العلم ، رواه سبعون من الصحابة عن الرسول ، عليه الصلاة والسلام .
وشوطه :
أولاً : أن تلبس هذين الخفين على طهارة .
الشرط الثاني : أن يكونا ساترين للمحل الممسوح ساتراً لكل جزء ، ويكون إلى ما فوق الكعب بقليل ، ولو كان فيه ثقوباً صغيرة فلا بأس ، قال ابن تيميه : فإن الصحابة كانوا يلبسون اللفائف وفيها ثقوب ، وكانوا في فقر ومشقة وكانوا لا يجدون ما يسترها .
الشرط الثالث : أن يكون داخل المدة ، فإذا انتهت المدة ، أو خلع الخف فقد انتهى المسح ، ولا ينقض الوضوء بانقضاء المدة ، وإنما ينقض بالنواقص المعروفة .
أما كيفية المسح ، فهو : أن تأخذ الماء بأصابعك رشاً ، فتمسح على ظاهر الخف من أول أصابع الرجل إلى ما والى أعلى القدم ، إلى أول الساق ، وكذلك اليسرى .
السؤال الثاني عشر : ذكر بعض صفات المنافقين في القرآن ؟
الجواب : وف الله المنافقين في القرآن بأوصاف كثيرة ، يقول سبحانه وتعالى : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) (النساء: من الآية142) في الأعمال ، يعني : يظهرون للناس بأعمال ، وهم في الباطن ليسوا صادقين ، ( وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى ) (النساء: من الآية142) يصلون ويأتون المساجد لكن بكسل ، ومن يتخلف عن صلاة الفجر ،فهو علامة على النفاق ، ومن يتأخر عن الصلاة ، ويأتي وهو كسلان علامة على النفاق ( يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء: من الآية142) الرياء شعبة من النفاق ، وقلة الذكر من علامات النفاق .(/27)
لم يقل : لا يذكرون الله ، بل يذكرون الله قيلاً ، فالمنافق الآن يذكر سيارته ، ووظيفته ، ومنصبه ، وأهله ، وأطفاله أكثر من ذكر الله .
قيل لعلي بن أبي طالب وقد سئل عمن حاربه من الصحابة : أكفار هم؟
قال : من الكفر فروا .
قيل له : أمنافقون هم ؟
قال : لا ، المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا ً ، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً .
قالوا : فمن هم ؟
قال : إخواننا بغوا علينا .
يقول ابن القيم في ( الوابل الصيب ) : لو لم يكن من فوائد الذكر إلا أن صاحب الذكر يأمن النفاق لكفاه به فائدة .
فإذا رأيت الإنسان يدندن بالذكر ، ويدعو كثيراً ، ويسبح ، فاعلم أنه بريء ، إن شاء الله ، من النفاق ؛ لأن صاحب النفاق ، ولو جامل قليلاً وذكر الله كثيراً فإنه سرعان ما ينتكس ويعرف .
ومن علامات المنافقين : أنهم إذا خلوا إلى شياطينهم ، وإلى زملائهم في السهرات الماجنة ، يستهزؤون بأهل الدين ، وأهل الفضل ، وبالعلم ، وبالرسالة ، وبالإسلام ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) (البقرة: من الآية14) ( اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (البقرة : 15)هذه بعض علاماتهم ، وهي من أساليب العلمانية الحديثة ، وسوف أذكرها : الاستهزاء بالمسجد ، الاستهزاء بالملتزمين ، الاستهزاء بالدعاة ، الاستهزاء بالعلماء ، وصف الدين بأنه تأخر ورجعية وتزمت ، كل ذلك من علامات النفاق العملي ، الذي أصاب أصحابه ، وربما يصل إلى الاعتقاد إذا اعتقدوا ذلك في نفوسهم .
السؤال الثالث عشر : يقول عليه الصلاة والسلام : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به )(1) ما صحة هذا الحديث وشرحه .
الجواب : هذا الحديث مختلف في صحته ، والراجح أنه حسن ، يقول النووي في ( الأربعين النووية ) : رويناه في كتاب الحجة بسند صحيح .
إذن فهو حسن ، وبعضهم يضعفه ، ومعناه صحيح .
وأما معناه فيقول ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يؤمن أحدكم ) أي : لا يكون كامل الإيمان حتى يكون هواه ورغبته بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام ، أي حتى لا يرتاح إلا في سنته عليه الصلاة والسلام ، ولا ينبسط خاطره وينشرح صدره إلا بما يقربه من رسول الهدى عليه الصلاة والسلام .
بعض الناس ، الآن يأكل بشماله ، بدون عذر ، وهو مرتاح ، لكن الآن تعال بمؤمن ملتزم ، وقل له : كل بشمالك ، فإنه ينزعج ، ويضرب ، ويلومه ضميره ، ويؤنبه قلبه ، ويلدغه إيمانه ، فلا يستطيع ، ويظن أن الدنيا قامت عليه ، وأن الناس تلمحه وأن الرأي العام لامه ؛ لأن هناك إيماناً فهواه تابع لما جاء به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
لكن بعض الناس ، لا يبالي أبداً يأكل باليسار ، أم بغيرها .
السؤال الربع عشر : حديث : ( لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء )(2) .
الجواب : هذا الحديث رواه مسلم عن أبي ذر ، ومعناه : أن الله عز وجل ، تعزيراً ، لهذا ، لا ينظر إليه النظر الذي يليق بجلاله ، فلا ينظر إلى هذا العبد ، وهذا دليل على ازدراء الله له ، ومقت الله له سبحانه وتعالى ، وهو من باب العتاب ، ومن باب العذاب .
وهناك حديث آخر ، وهو : ( ما أسفل من الإزار فهو في النار )(3) فقال أهل العلم : الذي يجر إزاره ، سواء كان الثوب ، أو السروال ، أو البشت ، أو القميص ، أو ما يدخل فيها ، إذا كان تحت الكعب ، فهو على قسمين اثنين :
أما من جره هكذا بلا كبر ، فما أسفل الكعبين ففي النار .
أما من جره كبراً ففي النار ، ولا ينظر الله إليه ، وإذن هنا وهنا النهي وارد .
قالوا : لما زاد ، عليه الصلاة والسلام ، في هذا الحديث زيادة لوصف الخيلاء زاد في العذاب فقال : ( لا ينظر الله إليه ) سبحانه وتعالى .
وأزرة المسلم إلى نصف ساقيه ، وإلا ففوق الكعب ، وهي سنة محمد وهديه ، عليه الصلاة والسلام .
السؤال الخامس عشر : حديث ( لعن الله من غير منار الأرض )(4) .
الجواب : هذا الحديث صحيح من حديث علي ، رضي الله عنه وأرضاه ، وهو حديث طويل منه : ( لعن الله من غير منار الأرض ) .
أما معنى من غير منار الأرض : فهو الذي ينقل الحدود ، ويزيد في بعض الأراضي على بعض لمصلحة خاصة .
وهذه من نقلها ظلماً وعدواناً ، فعليه لعنة الله عز وجل .
وهذا إن دلنا على شيء فإنما يدل على تحريم الظلم وهو أمر محرم معروف ، يقول عليه الصلاة والسلام : ( من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان )(5) .
قالوا : ولو كان شيئاً يسيراً يا رسول الله ؟ قال : ( ولو كان قضيباً من أراك ) .
وقال ، عليه الصلاة والسلام : ( من اقتطع قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أراضين )(1) .
وهذا الحديث رواية سعيد بن زيد بن نفيل ، أحد العشرة المبشرين بالجنة ، ابتلته امرأة في عهد مروان ابن الحكم في المدينة ، فقالت : هذا سرق من مزرعتي .(/28)
والمزرعة ، له والنخل والبئر له ، وهو من العشرة المبشرين بالجنة ، ومن دعاة الإسلام والمجاهدين ، فقال سعيد بن زيد : لقد سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول : ( من اغتصب قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أراضين ) اللهم ، إن كانت كاذبة فأعمى بصرها ، واقتلها في مزرعتها .
قال أهل العلم ويرويها الذهبي بالسند الصحيح قال : فعميت في المزرعة ، ثم ذهبت فوقعت على رأسها في البئر فماتت .
أما والله إن الظلم شؤم وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الحشر نمضي وعند الله تجمع الخصوم
يقول ابن كثير : دخل أحد الصالحين على سلطان من السلاطين ، وكان هذا السلطان جباراً ، يضرب الناس على وجوههم ، وهذا الفعل لا يفعله إلا فرعون ، ما يفعله مسلم ، فدخل على السلطان فضربه على وجهه .
فقال : اللهم إني لا قوي فأنتصر ، وإني لا مذنب فأعتذر ، اللهم إني مغلوب فانتصر ، اللهم اقطع يده .
قال : اعف عني .
قال : لا أعفو عنك .
قال : فما مرت عليه جمعة ، إلا وقطعت يده ، وعلقت بباب الإمارة بالكوفة ، وهذا أمر الله وسنته : أنه يخزي الظالم في آخر المطاف .
السؤال السادس عشر : حكم صلاة الجماعة وما ورد فيها ؟
الجواب : الصحيح عند المحدثين : أنها واجبة ، ولو قال الفقهاء أنها سنة .
وقد رأيت عشر أدلة في ( السلسبيل ) للبليهي ، رحمه الله ، منها قوله تعالى ( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) (البقرة: من الآية43) ومنها : حديث الأعمى لما أتى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : إني شاسع الدار أتجد لي رخصة .
قال له : ( أتسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ) .
قال : نعم
قال : ( أجب فإني لا أجد لك رخصة )(2) ، الحديث عند مسلم والأعمى قيل : هو ابن أم مكتوم .
وحديث : ( من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر )(3) ، رواه ابن ماجه وصححه الحافظ ابن تيمية رحمة الله رحمة واسعة .
أما حديث : ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) فهو موقوف على علي(4) .
وحديث : ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ) ضعيف جداً عند الترمذي(5) .
إذن ، يا أيها الأخوة فالجماعة واجبة ، ومن علامة النفاق : ترك صلاة الجماعة في المسجد ، فإذا رأيت الإنسان لا يتعهد المسجد في اليوم خمس ، مرات بلا عذر شرعي ، فاحكم عليه بالنفاق ؛ لأنكم شهداء الله في أرضه .
ونحن نشهد أن من صلى خمس مرات في المسجد ، نشهد له بالإيمان يوم القيامة ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: من الآية143) .
يقول ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : ما يتخلف عن الصلاة إلا منافق معلوم النفاق ، ولقد كان يؤتي بالرجل يهادى به بين الرجلين حتى يقام في الصف (6) .
السؤال السابع عشر : الكلام عن بعض الكتب المشهورة في الساحة .
الجواب :
1ـ ( الإحياء للغزالي ) هذا الكتاب مشهور ، ويسأل عنه بعض طلبة العلم ، وأنا أرى أن الإنسان لو اكتفى بكتب أهل السنة وترك هذا الكتاب كان أحسن لأن فيه غبش .
ففيه ثلاث ملاحظات كبرى هي :
أولاً : لا تأخذوا المعتقد من هذا الكتاب ، نحن ، بحمد الله ، في مجتمع صافي العقيدة ، والعامي عندنا يغلب مئة من أمثال الغزالي في العقيدة ؛ لأنه أشعري في الغالب ، ومرة يكون صوفياً ، ومرة فلسفياً ومرة يوافقنا .
يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعدنان
حتى أن ابن تيميه دائماً يتكلم عنه في بعض القضايا وينتقده ، وابن تيميه هو منظر أهل السنة والجماعة في المعتقد ، فهو إمام أهل السنة والجماعة .
يقول أحد المستشرقين : وضع الإمام ابن تيميه ألغاماً في الأرض ففجر بعضها محمد بن عبد الوهاب وبقى بعضها لم يفجر حتى الآن ، وقد رد على الملاحدة ، والفلاسفة ، والمناطقة ، والمعتزلة ، والأشاعرة ، والمعطلة ، ورد على الصوفية ، ورد على كل فرقة ، وقاتل بالسيف وخطب ، ووعظ ، وأفتى ، وزهد ، وألف ، فرضي الله عنه وأرضاه .
هو البحر من أي النواحي أتيته فدرته المعروف والجود ساحله
والأمر الثاني : أنه في الأحاديث لا يصحح ولا يضعف بل يأتي بالحديث قال الرسول ،عليه الصلاة والسلام دون تمحيص ، ولذلك خرج أحاديث كتابه العراقي ، وعامة أحاديثه ضعيفة ، إن لم تكن موضوعة ، ولكنه ولو بعد تخرج العراقي أنا أحذر من ( إحياء علوم الدين ) .
الأمر الثالث : أنه معجب بالصوفية ، ويعجبه فعل الصوفية ، فيأتي بقصص عجيبة عنهم ، وخزعبلات ، وزهد غير شرعي ، وأمور لا تدخل عقل المؤمن الموحد .
ومن يقرأ كتاب ( الإحياء ) تجده يصاب بالهلوسة .
لذلك أقول : إذا كان الأستاذ والمعلم ، والعالم عنده عقل ، وعلم فبإمكانه أن يستفيد من هذا الكتاب عدة فوائد جليلة .
والغزالي صاحب عقلية ضخمة ، وهو بحر في العلم ، لكن تجد هذا الدر في مثل مزبلة ، لا يخرجها إلا غواص ، أو منقي ، أو فطن .(/29)
2ـ ( المحلى ) لابن حزم هذا الكتاب في الفقه ، وهو مشهور ، ورحم الله ابن حزم .. كان من أسرة وزارة في الأندلس وترك الوزارة .
يقول : والله كنت أكتب في شبابي على ماسة من الذهب ، بقلم من ذهب ، والدواة من ذهب ، ثم تركت ذلك لوجه الله ، حتى ما أجد اليوم عشاء ليلة .
يقال : كان عمره ستة وعشرون سنة ، وما تعلم العلم إلا بعد ستة وعشرين سنة ، دخل المسجد ليصلي على جنازة لأحد الولاة ، فلما دخل المسجد بعد صلاة العصر صلى على رأي المالكية ، فقال له أحد العلماء الحاضرين : اجلس فهذا وقت نهي فجلس .
فأتي في ضحى اليوم الثاني في وقت آخر فجلس ، فقال له العالم : قم فصل .
قال : بالأمس تجلسني ، واليوم تقول لي : صل ، فأوضح له المسألة .
فقال : لا جرم لأتعلمن علماً أرد به عليك ، وعلى أمثالك فذهب فهجر بيته ، وقصره ، ووزارته ، فتعلم ، حتى أصبح من المجتهدين في الأمة .
ابن حزم هذا عقلية جبارة ، ويسمى منجنيق الأندلس ؛ لأنه دائماً يرمي المخالفين بأبشع الألفاظ ، رحمه الله ، ويرد عليهم بشدة .
ولذلك يقول : لسان ابن حزم ، وسيف الحجاج شقيقان .
وهناك أمر ينتبه له ، وهو أن الرجل مؤول للصفات الإلهية ، ونحن أهل السنة نمرها كما جاءت بدون تأويل .
والعجيب : أنه لا يؤول الفرعيات ، والأحكام ، فهو قد سال في موضع الجمود وجمد في موضع السيلان .
والواجب عليه : أن يترك الصفات ما يتكلم فيها ، وإذا أتت الأحكام تكلم ، لكنه عكس الأمر ، إذا أتت الأحكام جمد على ألفاظ ، وإذا أتت نصوص الأسماء والصفات تكلم .
الأمر الثالث : أنه نفى القياس ففاته ثلث الشريعة ، مثلاً زكاة الفطر يقول ( صلى الله عليه وسلم ) في الصحيح (1) : ( صاع من تمر وصاع من بر وصاع من شعير وصاع من زبيب ) قال : هي فقط من الأعيان ، والربا فقط في الربويات التي ذكرها ( صلى الله عليه وسلم )في الحديث ، وهناك بعض الآراء الباطلة التي اختارها : كمسألة الغناء التي تبناها ـ رحمه الله ـ وتبعه عليها كثير من المعاصرين ممن يتبعون أهواءهم .
3ـ كتب 1لعقاد : وهي كثيرة ، ومنتشرة ، وأنا لي عليها ملاحظات :
أولاً قلة النصوص فيها ، فلا آية ، ولا حديث ، وكأن الرجل يكتب من كلام الغرب .
الأمر الثاني : أنه لا يحمد بعض تفسيره ، وبعض مقارناته ، كمقارنته بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبين نابليون في (عبقرية محمد ) .
وقد أكرم الله رسولنا ورفع قدره عن نابليون .
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل أن السيف أمضى من العصا
الأمر الثالث : أن الرجل ما عنده حرارة إيمانية ، فهو يقول : قال محمد ، ويذكر عن محمد ، يعني الرسول ، عليه الصلاة والسلام .
سبحان الله ! يتكلم عنه بهذا البرود ، ألست من أمته ؟ ألست كاتباً من كتاب دعوته ؟ فما هذا البرود ؟ إنه من وصمات الاستشراق ، ومن اثر الغزو الفكري على كثير من الكتاب ، على كل حال من أراد أن يقرأ فيها ، فلا بأس لكن انبه على القضايا السابقة .
السؤال الثامن عشر : ما هي صور الغزو الفكري ؟
الجواب : من صور الغزو الفكري أو من أساليب أهل العلمنة : الغزو الفكري في الإعلام والغزو الفكري في التعلم ، والغزو الفكري في الاجتماع : مجتمعات الناس .
والغزو الفكري في الإعلام : أن يبقى إعلاماً غير موجه للأمة ، يجمع الخبيث والطيب لكي لا يعرف له حكم ، وهذا من خبثهم .
فهو يموه على الناس ، ولكنه يصرفهم دون أن يشعروا عن القرآن ؛ وعن سنة الرسول عليه الصلاة والسلام .
وهو من أقوى أساليب الغزو الفكري ، الذي فتك بالأمة .
أما الغزو الفكري في التعلم ، فله صور عدة ، منها : عدم إعطاء الكتاب والسنة وميراث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مكانته في كثير من المدارس ، فيجعلون حصص القرآن في الحصة السادسة ، وحصة في الأسبوع ، فيخرج الطلاب ، وهم لا يعرفون قراءة قصار السور ، بينما لو سألته عن تاريخ فرنسا لسرده لك ، وعن الجغرافيا ، وعن العواصم ، وعن المنتجات ، والمناخ ، والتضاريس ، فهو يحفظه كالفاتحة .
فأي علم هذا ؟ من هو الذي خطط هذه المناهج ؟ إنه غزو فكري حمله أهل العلمنة .
ومن الغزو : تهوين شأن الدين ن حتى تجد بعض الناس ، لا يريد ابنه أن يدخل كلية الشريعة ، ويقول : أريده أن يدخل في الطب ، أو الهندسة ، أما مجالات الشريعة ، فهي معروفة !
ومن الأساليب : الهجوم على الدين تحت ستار الغيرة ، فتجد بعض الناس يشوه الدين بأسلوب ما كر .(/30)
فهو في العلانية : يمدح الدين ، وفي الخفاء : يقتل الإسلام ، ووالله ، إني لأعلم أن بعض الآباء وقف حجر عثرة في طريق ابنه ، فلا يهتدي ، ولا يتوب ، ولا يصلي ، ولا يستقيم ، وإني أعرف شباباً ، شكوا إلى من أباهم ، يقول : إن أبي رفض أن أربي لحيتي ، وأن أقصر ثوبي ، ورفض أن أتعهد المسجد ، وأن أمشي مع الطيبين ، وأن أحضر المحاضرات وأن أحضر الدروس ، وهذا غزو فتاك ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة:10) وهناك صور كثيرة ووافرة ، من الغزو الفكري : كالإعجاب بالكافر ؛ بأن يجعلوه رمزاً .
فتجد أن كثيراً من الأطفال ، الآن يعرفون سير نابليون ، وهتلر وأمثالهما ، لكن اسألهم في سيرة محمد ، عليه الصلاة والسلام ، أو سيرة أبي بكر ، أو عمر أو عثمان ، فهو لا يعرف عنها إلا القليل .
وهم يظنون أننا نقصد بالسيرة : أن يعرف أين ولد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأين مات ، لا ، بل أنا أريد أن تحدثني عن الرسول عليه الصلاة والسلام كما تحدث ابن القيم .
أنا أريد أن تحدثني عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) العابد ، المجاهد ، الصادق ، الوفي ، الخاشع ، الفاتح ، المنتصر ، الصابر ، الثابت ، الكريم ، الحليم .
أنا أريد أن تحدثني عن الرسول عليه الصلاة والسلام ، كيف يصلي ، وكيف كان يصوم ، وكيف كان يتعبد ربه .
لكي يصبح الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قدوة لشبابنا في كل مجالات الحياة .
ومن أساليب الغزو الفكري : تضخم العلم المادي ، الأرضي ، المنحرف ن على حساب العلم الموروث عن محمد ، عليه الصلاة والسلام ، والقرآن .
السؤال التاسع عشر : ما معنى المصطلحات التالية : الحلول ـ الاتحاد ـ العلمانية ـ القومية ؟
الجواب : أيها الفضلاء ! معرفة الشر مطلوبة للمسلم ؛ لقوله سبحانه وتعالى : ( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55) .
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لم يعرف الشر جدير أن يقع فيه
وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ : إنما تنقض عرى الإسلام عروة عَروة من أناس نشأوا في الإسلام ، لا يعرفون الجاهلية .
1ـ الحلول : مذهب ضال زنديق ، حمله كثير من الناس ، وعلى رأسهم : ابن عربي صاحب ( فصوص الحكم ) ، و( الفتوحات المكية ) ، وأمره إلى الله .
أما كتابه ، فقال الذهبي عن ( الفتوحات ) : إن لم يكن فيه كفر فما في الدنيا كفر !
والحلول ، تعالى الله ، عز وجل ، علواً كبيراً يقول : إن الله حل في بعض الناس ، يأتي بعض غلاة الصوفية المنحرفة ، فيقول أحدهم : حل الله في ، تعالى الله ، عز وجل ، بل الله ، عز وجل ، مستو على عرشه ، بائن من خلقه ، ليس في ذاته من خلقه من شيء ، ولا من خلقه في ذاته من شيء ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ ) (المجادلة:7) .
قال الإمام أحمد : أي بعلمه ، ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه:5) .
ومن اعتقد بالحلول فقد كفر بالله العظيم وحده : السيف ، يقتل كما أفتى علماء الإسلام بذلك .
2ـ الاتحاد : مذهب ضال ملعون إلحادي ، يقول : إن الله ، عز وجل اتحد في مخلوقاته ، وهي دعوة ينادي بها ، الآن ، بعض الصوفية في السودان ، وفي الهند ، ولهم منشورات ، رأيت بعض الصحف يفيد بهذا عليهم غضب الله ، وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .
بل الله بائن من خلقه ، مستو على عرشه ، لا يغيب عنه علم ، ولا يغيب عنه شيء ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (الأنعام:59) .
3ـ العلمانية : فمذهب نشأ عام 1902م ، نشأ في فرنسا ، عند انفصال بين الكنيسة ، وبين العلم التجريبي ، وسببه : أن الكنيسة حذرت الناس أن يكتشفوا ، وأن يبدعوا ، وأن يخترعوا ، فظنوا أن الدين ، كل دين سوف يعادي الاختراع ، حتى الإسلام ، فنادوا بفصل الدنيا عن الدين ويسمون : اللادينيين .
وأدخل هذا المذهب في العالم العربي منذ زمن ، وأول من أدخله في العالم الإسلامي : كمال أتاتورك عليه من الله ما يستحق ، ويسمونه محرر تركيا ! بل هو معذب تركيا ، وهو الذي أدخله أتون الشر والبلاء ، والنكبات ، وسقطت الخلافة على يديه .
والعلمانية تقوم على أمور منها : أن الدين سبب تأخر الشعوب ويسمونه : رجعية ، وتخلفاً .(/31)
ومنها : أن الدين أمر خاص ، ولذلك ، الآن ، العلمانيون ، لا يريدون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأنه يقوم على التدخل في حريات الآخرين ، وجرح مشاعر الآخرين ، ويرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخالفاً لحقوق الإنسان ، فيحاربون الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر محاربة ويقولون : للدين في حرية شخصية ، فلك أن تصلي وتصوم ، وأما أن تدخل في الدنيا : في القوانين ،وفي التعليم ، وفي الإعلام ، وفي الرأي العام ، وفي ثقافة الناس ، فلا يجوز لك ذلك .
وهذه : محاربة الله ، عز وجل ، نهاراً جهاراً .
بل الدين يدخل في كل شيء ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50) .
ومن أساليب العلمانية ، أيها الأخوة : أنهم قد يصلون بعض الصلوات ، فيصلي العيد والاستسقاء ، وقد يمدح الإسلام في خطبة عامة ، ولكن لا يعتقد نفع الإسلام ، ولا يعتقد أثره ، ولا يحترم أهله ، ولا يرى له مكانة في الأرض ، ويرى أن الإسلام ليس وفياً ، ولا يستطيع أن يقوم بحقوق الناس ولو ادعى بلسانه .
ولذلك تجد بعض العلمانيين ، يصلون العيد ، ويصلي الاستسقاء وقد يصلي الجمعة ، ولكن لا ينفعه عند الله ذلك لأن في قلبه زيغ ومرض وكفر .
هذه هي العلمانية ، وإنما سميت علمانية ؛ لأحد سببن : أنها تدعو إلى العلم ليكون إلهاً ، فهي تنادي بالعلم ، فتجعل العلم كل شيء ، والعلم إذا انفصل عن الإيمان أصبح كفراً .
وقيل : العلمانية ، هي : اللادينية ؛ لأنهم ينادون بمسح الدين من الشعوب ، وترك الشعوب بلا دين .
4ـ القومية : مذهب أرضي ، وهي : نزعة كافرة ، إن انفصلت عن الدين .
تدعو هذه القومية إلى أن يكون لكل قوم شعارهم ، فالعرب وحدهم ، وهكذا الترك والأكراد ، والأفغان ، وكل شعوب الأرض .
فهم لا يأبهون ببلال ولا صهيب ، ولا سلمان ، قاتلهم الله ! وهل العرب شيء بدون لا إله إلا الله ؟ !
قال تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (الحجرات: من الآية13) .
السؤال العشرين : ما هي الصوارف عن الهداية ؟
الجواب : الصوارف عن الهداية أربعة صوارف :
أولها : الكير .
الثاني : الغفلة .
الثالث : الخبث في النفس .
الرابع : التسويف .
الأول : الكبر ؛ فهو : أعظم صارف عن الهداية قال تعالى : ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ) (لأعراف: من الآية146) فالتكبر لا ينقاد للحق ولا يهديه الله سواء السبيل بسبب كبره .
وأعظم صارف لليهود : الكبر ، والحسد ، وإلا فيعرفون أن الرسول ، عليه الصلاة والسلام ، من عند الله ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (البقرة: من الآية89) ، ونعلم من بعض الناس ، الذين أثرت فيهم نزعة العلمانية ، وتعاليم العلمانية ، أساليب العلمانية ، أنهم ما يمنعهم من سلوك الهداية إلا الكبر ، وإلا فهو يعلم أنه مخطئ ، ومذنب ، فعسى الله أن يجازيه بفعله .
والثاني : الغفلة ؛ قال تعالى : ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) (الأعراف:179) فالغفلة : حجاب على القلب ، لا يبصر معها الهداية .
فتجد بعض الناس بارعاً في علوم الدنيا ، بارعاً في معطيات الدنيا ، متحدثاً لبقاً ، لكنه لا يعرف من الإيمان ، ولا من الدين شيئاً .
فقيه في كل شيء ، إلا الإسلام .
يستطيع أن يتكلم ثلاث ساعات ، لكن في العمار ، والدور ، والقصور والأمطار ، والأسعار ، والأشجار ، والخضروات ، والفواكه ، لكن إذا أتيت به في أبسط أمور العبادة لا يعرف شيئاً وهذا دليل على الخسران ، يقول (صلى الله عليه وسلم ) في الصحيحين : ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين )(1) .
الثالث : الخبث في النفس ، فبعض الناس مهما سمع ، ومهما دعي ، لا يستجيب لخبث في نفسه ( وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (لأنفال:23) ، فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (الصف: من الآية5) .
الأمر الرابع : التسويف : فإن كثيراً من الناس ما استجابوا بسبب التسويف ، ولذلك لا مهم الله سبحانه وتعالى فقال : ( ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر:3) ، قال بعض المفسرين : استخدم سوف في العتاب ، واللوم عليهم ؛ لأنهم كانوا يعتمدون على سوف كل يوم .(/32)
وكثير من الناس المعرضين ، كلما خاطبته بالتوبة ، وبالصلاة ، وبالعودة إلى الله قال : سوف أتوب ، وهذه هي علامة الحرمان ، ومن زرع شجرة ( سوف ) أخرجت له شجرة ( لعل ) وأثمرت له ثمراً يسمى : ( الحسرة والندامة ) .
وبهذا السؤال انتهت هذه الأسئلة ، التي أرجو أن تكون نافعة للمسلمين بحول الله .
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
الترياق
* دخل ابن السماك على أبي جعفر المنصور فجلس ، فأخذ ذباب يطير ، ثم يقع على أنف أبي جعفر ، حتى أضجره ، فقال أبو جعفر لابن السماك متهكماً : لماذا خلق الله الذباب ؟
فقال ابن السماك : ليذل به أنوف الطغاة .
فهل سمعت أحسن من هذا الجواب جواباً ؟ !
* ولما فتح عبد الله بن علي العباسي دمشق ، أعمل في أهلها قتلاً ذريعاً ، وأسأل الدماء ، ونهب الأموال، فقال لوزرائه ، وحاشيته : هل يخالفني أحد ؟ قالوا : إلا أن يكون الإمام الأوزاعي ، فأرسل للأوزاعي ـ الإمام فلبس الأوزاعي أكفانه تحت ثيابه ، بعد أن أغتسل ن وأيقن بالموت ، وأخذ عصاه فدخل على عبد الله بن علي العباسي ـ السلطان ـ .
فإذا بالحراس يحملون السيوف ، وإذا بالموت يدور على رؤوس الناس .
فقال عبد الله بن علي للأوزاعي : ما رأيك في هذه الدماء التي سفكناها ؟ فقال الأوزاعي في ثباتة جأشٍ ، وفي جنان : حدثنا فلان ، عن فلان ، عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بثلاث ، المفارق للجماعة )(1) .
فغضب عبد الله بن علي ، ونكت بعصا خيزران في الأرض ، وقام عرق في جبهته .
قال الأوزاعي : وأيقنت بالقتل ، فو الذي نفسي بيده ، لكأنه ذباب أمام عيني .
فأخذ وزراؤه ، يرفعون ثيابهم ؛ خشية أن يصيبهم دم الأوزاعي .
فسأله عن الأموال ، التي أخذها ، قال : إن كانت حلالاً فحساب ، وإن كانت حراماً فعقاب .
قال : اخرج ، فلما هم أن ينصرف أعطاه بذرة من المال ( كيساً ) فأخذه ، فوزعه على الناس ، ثم رمى بالكيس ، فخرج ، فأصبح إماماً معتبراً .
قال تعالى : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24) .
ويقول سبحانه : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) (الأحزاب:39) .
وقال (صلى الله عليه وسلم ) : ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر )(2) .
* أبو الطيب الطبري عالم شافعي ، جليل ، كان دعوباً ، ضحوكاً السن ، محباً لأهل الفضل ، بل معظم الفضل فيه ، بلغ عمره الثمانين ، فخرج مع طلابه في سفينة ، فلما قاربوا الشاطئ ، قفز من السفينة ، فأراد الطلاب أن يقفزوا فما استطاعوا ، فقالوا : كيف استطعت وأنت في الثمانين ؟
قال : هذه أعضاء حفظناها في الصغر ، فحفظها الله علينا في الكبر .
أبو الطيب هذا وضع حذاءه عند الحذاء ليصلحه ، فتأخر عليه الحذاء ، وكان أبو الطيب يمر عليه ، فكلما رآه الحذاء ، وضع الحذاء في الماء ليوهمه أنه يريد أن يصلحه ، فقال أبو الطيب : أعطيناك الحذاء لتصلحه ، لا لتعلمه السباحة .
* قال بعض الناس لبعض العلماء : غداً نتعاتب ( أي نتحاسب ويعاتب بعضنا بعضاً ) ، فقال العالم : لا والله ، غداً نتغافر ( أي يغفر بعضنا لبعض ) .
* كان ابن المسيب ، إذا جن ليله، تقلب في فراشه كالطائر الخائف، فإذا انتصف الليل قام ـ رحمه الله ـ فقال لنفسه : قومي يا مأوى كل شر ، ثم صلى حتى الفجر .
ومما يذكر لابن المبارك في هذا الباب ـ باب التواضع وهضم النفس ـ أنه قال : ( أكره العصاة وأنا شر منهم ، وأحب الصالحين ولم أعمل بعملهم ) .
بل هو من أصلح الصالحين ، رضي الله عنه وأرضاه ، وما بلغ هذه المنزلة إلا بمثل هذه المبادئ .
* حفظ عن الشافعي كلمات ، من أروع الكلمات ، قالوا : تفرد بها عن الناس ، يقول فيها : ( ما جادلت أحداً إلا أحببت أن تكون له الغلبة ) فأتنا يستطيع ذلك ؟
ويقول : ( لو أعلم أن الماء يفسد مروءتي ما شربته ) فكيف بمن يفسد دينه ومروءته بغير شرب الماء ، بل بشرب شيء آخر ؟ !
ويقول : ( وددت لو أن الناس استفادوا من علمي ، ولم ينسبوه لي ) .
وهذا منتهى الصدق والإخلاص مع الله .
* قال عبد المؤمن بن علي ( سلطان الموحدين ) : أصولنا ثلاثة :
1- المصحف : كتاب الله .
2- وسنن أبي داود
3- وأخرج السيف وقال : وهذا .
فقال فيه الشاعر :
ما هز عِطفَيهِ بَيْن البيضِ والأسل مثلُ المؤيدِ عبدِ المؤمنِ بنِ علي
* قال أبو معاذ الرازي لأصحابه : ما هو الدليل ـ من القرآن ـ على أن الحبيب لا يعذب حبيبه ؟ فسكتوا ، فقال : من قوله سبحانه وتعالى : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ) (المائدة: من الآية18).(/33)
* قال البخاري ـ رحمه الله ـ : ( منذ احتلمت ما اغتبت مسلماً ) .
فجزاك اله ، يا بخاري ، عن أمة محمد ، أفضل ما جزى عالماً عن أمته .
* قال أحدهم : من ملك ثلاثمائة وخمسة وستين رغيفاً ، وجرة خل كبيرة ، وثلاثة آلاف واثنتي عشرة تمرة ، استغنى عن الناس ، ولم يستعبده الطغاة !
فلماذا يذل المسلم رقبته لخلق من خلق الله من أجل لقمة عيش ؟
* يا فاروق مصر إنك لن تشبه الفاروق ، حتى تنام في العراء ، وتمشي بلا حذاء ، وتجوع ليشبع الفقراء ، فإن لم تفعل ، فو الذي نفسي بيده ، لو شهد مجلس الأمن ، حقوق الإنسان ، وجمعية الرافة بالحيوان لن تكون كالفاروق ، لأنك أنت فاروق مصر ، وهو الفاروق ، وأل التعريف عند عمر ، وأنت لم تدخل عليك أل ، وفاروق نكرة ، وعمك : ابن مالك يقول : ( ولا يجوز الابتداء بالنكرة ) .
وأنا قلت : من أجاز ذلك فهو بقرة .
* فرق بين الطفيل بن عمرو ، وعامر بن الطفيل ، فالطفيل بن عمرو جميل الذكر ، عظيم الصبر ؛ لأنه أجاب الأمر .
وعامر بن الطفيل : عميل ، ذليل ، ثقيل .
* قالوا لأحد الفضلاء :
لماذا سمي العصفور عصفوراً ؟
قال : لأنه عصى .. وفر .
وفرعون .. لماذا سمى فرعون ؟
قال : لأنه فر ممن يدعون وهذه من الملح .
وما جزاء من سأل هذه الأسئلة ، إلا أن يجاب بمثل هذه الأجوبة .
* الحقير : لا يؤبه ، ولا يسب ، ولا يشتم ، ولا يهجر ، ولا يتعرض له ، ولا ينتقد ؛ لأنه أهون من الكلب الميت .
بعض الناس مثل الميتة ، لا لحم ، ولا مرق ! ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) (المائدة: من الآية3)
* صلى أحد العلماء على جنازة أحد الطغاة الظلمة ، فقيل له : أتصلي عليه وقد كان يفعل ، ويفعل ، قال : لقد كبرت الأولى فقلت : الله أكبر منك ، وقلت في الثانية الله أكبر عليك ، وقلت في الثالثة : الله أكبر ينتقم لنا منك .
* إذا احلولك الليل ، انبلج الصبح ، وإذا اشتدت ظلمة الغيث ، لمع البرق ، وإذا شد الحبل انقطع : اشتدي أزمة تنفرجي ، وأفضل من ذلك ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) (الشرح:6) .
* أحد الرواة الضعفاء اسمه حرام ، قال الشافعي : ( الرواية عن حرام حَرام ) .
وقالوا عن بقية بن الوليد :
( أحاديث بقية ، ليست نقية ، فكن منها على تقية ) .
وقالوا عن عطية بن سعيد : ( عطية للضعف مطية ) .
وقالوا عن مسدد بن مسرهد بن عرندل بن سرندل بن مغربل بن مسربل : هو كاسمه ، إي : أنه مسدد في الرواية ؛ لأنه من رجال البخاري ، أما اسمه : فهو رقية للعقرب .
وقال أحد العلماء : شعبة من شعبة ، أي : جزء من شعبة بن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث .
* كان هارون الرشيد الخليفة في ( الرقة ) ، واجتمع عليه الناس ، فدخل ابن المبارك العالم الزاهد العابد ، فسمع به الناس ، فهرعوا إليه وتركوا الخليفة في نفر بسيط ، واجتمعت الأمة على ابن المبارك ، فقالت امرأة هارون ، وهي تنظر من القصر : ( هذا والله الملك ، ولا ملك هارون الذي يجمع الناس بالسوط والسيف ) .
* تجادل شريك ( القاضي ) والمهدي ( الخليفة ) ، فقال الخليفة مغضباً لشريك القاضي : يا زنديق ، قال شريك : للزنديق علامات ؛ ترك صلاة الجماعة ، وسماع القيان ، وشرب المسكر .
قالوا كأنك تعرض الخليفة ، قال : بل أقصده .
* جاء ابن قيس الرقيات إلى عبد الله بن الزبير ـ وهو والٍ بمكة ـ فقال : أعطني من مال الله ، قال : نشبعك ونشبع ناقتك ، قال : فحسب ؟ قال : نعم
قال : لعن الله ناقة حملتني إليك .
قال ابن الزبير : ( إن وصاحبها ) يعني : نعم ، وصاحبها .
فخرج ابن الرقيات إلى عبد الملك بن مروان ، وأنشد قصائد كثيرة ، ذم فيها ابن الزبير ، منها :
من الأعياص أو من آل حرب أغر كغرة الفرس الجواد
أرى الحاجات عند أبي خبيب نكثن ولا أمية بالبلاء
* عمرو بن سعيد بن سلمى بن قتيبة بن مسلم ، سند متصل بأجاويد وكرام .
أصح وأعلى ما سمعناه في الندى من الأثر المعروف منذ قديم
أحاديث ترويها السيول عن الحيا عن الغيث عن كف الأمير تميم
فأما قتيبة ، فهو : فاتح المشرق ، وحامي بيضة الإسلام ، وهازم جيوش الأصنام ، وملصق أنوف الطغاة بالرغام .
وسعيد بن سلمى ، حفيده ، أحد الأجواد قيل فيه :
كلما عضت النوائب قالوا رضي الله عن سعيد بن سلمى
أما عمرو بن سعيد ، فحاتمي زمانه ، والجود دفن في أكفانه ، والسخاء نبت في جثمانه ، خلد ذكره أحد الشعراء بقوله :
مضى ابن سعيد حين لم يبق مشرق ولا مغرب إلا له فيه مادح
وما كنت أدري ما بوادر كفه على الناس حتى غيبته الصفائح
وأبح في لحد ما الأرض ضيق وكان به حيا تضيق الصحاصح
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تفض فحسبك مني ما تجن الجوانح
فما أنا من رزء وإن جل جازع ولا أنا مسرور بموتك فارح
كأن لم يمت حي سواك ولم يقم على أحد إلا عليك النوائح
لئن حسنت فيك المواثي وذكرها لقد حسنت من قبل فيك المدائح(/34)
* بعض المبتدعة تجده معتزليا باطنياً ، أو رافضياً معتزلياً ، ( إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ) (البقرة: من الآية70) .
شهداء السنة ، الذين صبغت لحاهم بدمائهم في سبيل الله ، كثير بعد الصحابة ، منهم :
سعيد بن جبير ، وأحمد بن نصر الخزاعي ، والنابلسي .
دمانا في هوى ليلي جبار وأرواح لها ليلى تدار
نعم والله أرخصنا نفوساً لذاك الوجه فانعم يا عرار
* لله در الأوزاعي ، صعب الله به قلوب الجبابرة ، حتى أنه لما مات ، جلس أحد الخلفاء على قبره فقال : ( والله ما تهنيت بعيشي وبملكي الإ بعد دفنت هذا ) .
* قال أحد السلف : (إذا رأيت الرجل لا يحافظ على تكبيرة الإحرام ، فانفض يديك من صحبته ) ، قلت : ( إذا لم يحافظ على الصلاة فانفض التراب على رأسه ، فما أغلى التراب ، وما أرخص كثير ممن يمشي عليه ) .
* الإمام الزهري ، زهرة العلم والحفظ ، ولسان الحال ينشد :
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت وإذا نطقت فإنني الجوزاء
قال هشام بن عبد الملك ( الخليفة ) للزهري : من الذي تولى كبره يا زهري ؟
لأن هشماً كان ( ناصبياً ) يناصب على بن أبي طالب العداء ، وكان هشام يظن أن تفسير الآية : ( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) (النور: من الآية11) أنه علي بن أبي طالب ـ معاذ الله ـ .
فقال له الزهري : الذي تولى كبره ، هو : عبد الله بن أبي بن سلول .
قال : كذبت .
قال الزهري للخليفة : كذبت أنت ، وأبوك ، وجدك ، والذي نفسي بيده ، ولو نطق ناطق من السماء : أن الكذب حلال لأهله ما كذبت .
وهكذا ..فلتكن المواقف .
* كان الشجعان يرون أن الموت على الفراش عيباً ، قال ابن الزبير ، يوم قتل أخوه مصعب بالعراق : ( إنا لسنا كبني مروان يقتلون صبحاً ( تخمة على الفرش ) ،والله ما نقتل إلا ضرباً بالسيوف ، وقصفاً بالرماح .. )
فليس على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أعقابنا تقطر الدما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
قال ابن عمر ، يدعو على زياد بن أبيه ، وهو على العراق :
( اللهم لا تقتله قتلاً ، فإن القتل كفارة ، وأمته موتاً ) فمات على فراشه شر ميتة .
* لما قتل الحسين بن علي ـ رضي الله عنهما ـ أتي برأسه إلى عبيد الله بن زياد في العراق ، فوضع رأسه على مصطبة أمامه ، والناس جلوس ، ثم وضع عبيد الله بن زياد عصاه في أنف الحسين ورأسه مقطوع ، فقام أحد الصحابة يصيح ويبكي ويقول : ارفع عصاك ، فو الذي نفسي بيده ، لقد رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقبل ذاك الموطن .
ثم كان الإنتصاف ، فبعد سنة ، قطع رأس عبيد الله بن زياد وجيء به ، ووضع على هذه المصطبة ، فلما اجتمع الناس ، أتت حية صغيرة فدخلت في منخره ، لتقتص من العصا قبل سنة ( وَالْجُرُوحَ قِصَاص) (المائدة : من الآية45) .
* قالوا عن أحد الأدباء :
( أمرضه الشفاء ) ، والمعنى : أن هذا الأديب قرأ كتاب الشفاء لابن سينا فمرض منه ، لأن فيه طواماً وبلايا .
وفي ابن سينا يصح البيت :
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو عليل
* كان ابن عباد ـ الملك الأندلسي ـ يحتجب عن الشعراء وقت إنشادهم القصائد ، فدخل عليه شاعر ، وبينهما حجاب .
فقال الشاعر : ( انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ) (الحديد: من الآية13) إنه من نور رب العالمين .
فرفع ابن عباد الحجاب ، وقال لهم :
املأوا فم هذا الشاعر دراً .
* يقول شاعر أعجمي ، وقد تفوق على العرب بهذين البيتين :
بكت عيني غداة البين دمعاً وأخرى بالبكا بخلت علينا
فعاقبت التي بالدمع ضنت بأن أغمضتها يوم التقينا
* سافر ثابت البناني إلى خرا سان ، فمر بجنان ، وحدائق ، وبساتين ، وأنهار ، فلما عاد قال له الناس ، وكان عالماً ، عابداً ، وزاهداً : ماذا رأيت من الجمال والفرجة ؟
قال : والله ، ما أعجبني شيء إلا عجوز رأيتها في الطريق كانت تصلي ركعتي الضحى .
هو في شأن ، وهم في شأن ، يرى الجمال بعين ، ويرون هم الجمال بأعين أخرى .
لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى يكون حشاك في أحشائه
* أبو جهل : غبي بليد ، ولو كان ذكياً لعلم أن اليتيم ، الأمين ، الصادق في الجاهلية ، لا يخون في الإسلام ، وأن الذي لا يكذب على الناس ، لا يكذب على رب الناس ، وأن الذي لا يطلب الملك ، يطلب شيئاً آخر أعلى ، وأجل ، وأغلى من الملك ، ولكنه ما درى .
( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام: من الآية33) .
* لما مات الحجاج بن يوسف ، بكى كثير من الأخيار فرحاً .
طفح السرو علي حتى أنني من عظم ما قد سرني أبكاني
ولما مات عمر بن عبد العزيز ، أمست مدن الإسلام في بكاء ويتم من الحزن .
والناس مأتمهم عليه واحد في كل بيت رنة وزفير
* الله سبحانه وتعالى عادل ، لا يولي الحجاج على رعية عمر بن عبد العزيز ، ولا يولي عمر بن عبد العزيز على رعية الحجاج .(/35)
( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأنعام:129) .
وقد قال رجل لعي بن أبي طالب :
كيف اتفقت الأمة على أبي بكر وعمر واختلفت عليك ؟
قال علي : لأن رعية أبي بكر وعمر : أنا وأمثالي ، ورعيتي : أنت وأمثالك .
* مدح رجل من أعداء علي ، علي بن أبي طالب تزلفاً ، فقال علي :
أنا فوق ما في نفسك ، ودون ما تقول :
هنيئاً مريئاً غير داء مخامر لعزة من أعرضنا ما استحلت
* انكسر سيف أحد الصحابة في غزوة بدر ، فأتى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، والمعركة دائرة ، والأبطال تصول وتجول ، والأرواح تتطاير ، والرؤوس تتساقط ، فقال : يا رسول الله : فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خشبه ، فقال : ( خذ هذه ) ، فهزها الرجل فأصبحت سيفاً ، بإذن الله ، والحديث صحيح(1) .
تصافحنا سيوف الهند شوقاً فنكسرها على هام الذليل
* دخل قيس بن أبي حازم على أحد خلفاء بني أمية ، فقال الخليفة : ما لنا نكره الموت ، ونحب الحياة ، يا أبا حازم ؟ قال : لأنكم عمرتم الدنيا ، وخربتم الآخرة ، فتكرهون أن تنقلوا من العمار إلى الخراب .
قال : أتريد أن تبقي معي ، ولك نصف ملكي ؟
قال قيس : وكم تعطيني من جناح البعوضة ، وكم هو نصف جناح البعوضة ( يعني : أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة ) .
طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
* خالد بن الوليد : سيف ن سله الله على المشركين ، فقطع به رؤوسهم ، وكسر به ظهورهم ، وبقر به بطونهم .
تمرد بنو حنيفة مع مسيلمة الكذاب على أبي بكر الصديق .
فقال أبو بكر : والله ، لأذهبن وساوس الشيطان من رؤوس بني حنيفة بخالد .
فلما وصلهم خالد ، في أرضهم : اليمامة ، أراهم نجوم الليل في الظهيرة ، وتمنى كل مقاتل منهم أن أمه لم تلده .
فمن في كفه منهم قناة كمن في كفه منهم خضاب
وفي خالد يصح :
يا ابن الوليد لك التاريخ خط به ما شئت من قيم تترى ومن كرم
* ميراث أبي بكر الصديق : ثوبان ، وبغلة ، ما ترك غلة ؛ لأنه أنفق ماله كله ، فلله ما أجله ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) (مريم:96) .
* لما حضرت سليمان بن عبد الملك الوفاة ، بكى ، لأنه لم يترك أحداً من أبنائه يصلح للخلافة ؛ لأنهم صغار ، فأنشد وقال :
أفلح من كان له كبار إن بني فتية صغار
فقال عمر بن عبد العزيز : لا ، والله ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (الأعلى:15) .
* قرأ الوليد بن عبد الملك ، وكان لحاناً ، لا يجيد القراءة مع غشم وظلم ، قرأ ( يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ) (الحاقة:27) بالرفع فقال عمر بن عبد العزيز : ( تأخذك ، وتريحنا منك ) .
* ( عضد الدولة ) ـ سلطان كبير ظالم ـ جلس في المطر مع من حضر ، وشرب الخمر حتى سكر ، ثم أنشد :
ليس شرب الراح إلا في المطر من فتاة ذات دل وحور
ثم مدح نفسه فقال :
عضد الدولة من ساس الورى حاكم الأمة غلاب القدر
فأصابه الله ، بعدها ، بالعلة ، والذلة ، والقلة ، فمات في أسوأ حال ، وأنكد بال ، شر مآل .
* دخل أحد الشعراء على الحاكم الفاطمي ، فقال الشاعر :
نظمت فيك هجاء .
فسل الحاكم السيف ، وقال للشاعر :
انثر ما نظمت ، وإلا نثرت رأسك بهذا .
فنثر الهجاء ، ونظم فيه مدحاً فنثر الذهب على رأسه .
* قال أحد الملاحدة لأحد المسلمين : أسألك بالله ما الدليل على وجود الله ؟
قال المسلم : الدليل على وجوده : أنك سألتني به سبحانه : الذي لا يسأل إلا به ، تبارك الله رب العالمين ( أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض) (إبراهيم: من الآية10) .
* سبحان الله ! ما أعظم الله ، خلق الخلق البديع ، ورزق الجميع ، فيهم العاصي والمطيع ، والتحدي قائم ( هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ )( لقمان: من الآية11) .
* أمر مضحك ، خباب بن الأرت أعجمي ، ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) عربي ، بل أفصح العرب ، والأغبياء يقولون : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يتعلم من خباب والوحي يحكم بينهم ، ويقول : ( يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (النحل: من الآية103) .
ولو أنه جهل بسيط عذرته ولكنه يدلي بجهل مركب
* قال حمار الحكيم ( توما )
لو أنصف الدهر كنت أركب لأنني جاهل بسيط وصاحبي جهله مركب
* الملاحدة ذبان ( وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)(الحج: من الآية73).(/36)
* أتريد أن تقرأ عن توحيد الربوبية ، والألوهية ، والأسماء والصفات ؟ أما رأيت الغدير إذا ترقرق ؟ والرياح إذا هبت ؟ والحمام إذا هدل ؟ والطير إذا صفر ؟ والورد إذا مال ؟ والزهر إذا فاح ؟ والنجم إذا طلع ؟ والشمس إذا شعت ؟ والنسيم إذا هب ؟ والضوء إذا تلألأ ؟ والغيث إذا انهمر ؟ والقمر ؟ والحجر ؟ والمدر ؟ والشجر ؟ والدرر ؟ ومن وصل ؟ ومن هجر ؟ ومن اغتنى ؟ ومن افتقر ؟ والأنثى والذكر ؟ والمبتدأ والخبر ؟ والعرب والعجم والبربر ؟ ومن عاشرهم من ذوي السلطان الأكبر ؟ وابن تيمية ؟ وابن القيم ؟ وابن حجر ؟ كلها علامات على وجود وقدرة من علا فقدر .
* الحمار يحمل ( فتح الباري ) و( المغني ) و ( فتاوى شيخ الإسلام ) و (تفسير ابن كثير ) وعشرة أمثالها لكن المشكلة : أنه حمار ، ومعضلة المعضلات : أنه حمار ، ولا يفهم أنه حمار ، وهذا مثل اليهود ، وأبنائهم وأذيالهم وعملائهم .
* قال الحائط للوتد : لم تشقني ؟
قال : اسال من يدقني .
* يا حبيبنا ، يا صاحب الفجر ، ويا مصلي الوتر ، والدائم على الذكر ، أبشر بالنصر، لأن المولى يقول : ( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (المجادلة:21) ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) (غافر:51) ( وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (لأعراف: من الآية128).
( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون: من الآية8) .
( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (الحج:38) .
( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة:56) .
* قبح الله اليهود ، قالوا : يد الله مغلولة ، فجاء الرد مفحماً ، محطماً ، مرعداً ، مزبداً ، غاضباً ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (المائدة: من الآية64) .
غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا : طرد
بل يداه مبسوطتان : مد .
ينفق كيف يشاء : جد .
* الماء والهواء ، والسناء والضياء ، والصحراء ، والظلماء ، والفيحاء ، والداء والدواء ، والرازي ، وابن سيناء ، ومؤلف كتاب الأذكياء ، وصاحب العصابة الحمراء ، وحامل الراية الخضراء ، ومن حضر كربلاء ، وسمية ، وأسماء ، والصخرة الصماء ، كلها قصائد لمدح رب الأرض والسماء ، وخالق الأشياء ، أحمده ، وأشكره كما شاء .
والجمال والجبال ، والرمال ، والحبال والخيال ، وسلمان ، وسلال وابن التين ، وابن بطال ، وكتاب الأموال ، آيات في ملك شديد المحال ، عظيم النوال ، ذي الجلال .
* مر جماعة من النصارى بأعرابي ، معه سيف .
فقال : من أنتم ؟
قالوا : نصارى .
قال : أين عيسى بن مريم ؟
قالوا : قتلناه .
فسل سيفه ، وقال : والذي نفسي بيده ، لا تذهبوا حتى تدفعوا الدية ، فدفعوا الدية وذهبوا خاسئين .
* اسمع عناوين محاضرات الدجاجلة ، التي حضرها المهووسون والموسوسون ، والمنكوثون ، والمحبوسون منها :
( مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص: من الآية38) .
( مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَاد) (غافر: من الآية29) .
( أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) (الزخرف: من الآية51) .
( مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُول) (هود: من الآية91) .
( وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً) (هود: من الآية91) .
* سلمان : من أصبهان بإيران ، أطاع الرحمن فدخل الجنان ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن:13) ، وأبو لهب : قائد الكفار من بني عبد الدار ، ابن عم المختار ، مسكنه في النار ، يجاور فرعون ، وبئس القرار .
تشاكلوا فهمو في العين كل قذى أرذال قوم وفجار وأشرار
* والقضاة ، أيضاً ، ينظمون ، ويشاركون في النشيد ، وهم رواد القافلة ، وندعكم الآن مع قاضي الشام الحنفي الشهرزوري ليتفضل بإمتاعنا أبدع وأروع ما قيل في الوصل .. والهجر .
لمعت نارهم وقد عسعس الليل ومل الحادي وحار الدليل
فتأملتها وفكري من البين عليل وطرف عيني كليل
وفؤادي ذاك الفؤاد المعنى وغرامي ذاك الغرام الدخيل
وقاض آخر من الشمال ، ينشد في المحكمة ، وهو : الأرجاني ، يقول مشكوراً :
أعيناي كفا عن فؤادي فإنه من الظلم سعي اثنين في قتل واحد
إذن عندنا محدثون شعراء ، وشعراء محدثون ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) (الرحمن:22) .
* أمور ، والله ، عالية ، ونيات ، والله ، سامية ، الخطيب البغدادي سافر إلى مكة ، فطلب منه أن يحدثهم حديثاً في الصباح .
فقال : أنظروني حتى أقرأ القرآن .
فابتدأ بالفاتحة حتى وصل إلى سورة الناس قبل الغروب ، ثم بدأ يحثهم !(/37)
* ابن عقيل كان يأكل الكعك ، ولا يأكل الخبز ، قال : لأن بينهما قدر قراءة خمسين آية ، وأنا أوفرها من عمري .
* مسْروق بن الأجدع ، حج فنام ساجداً .
* عروة بن الزبير : كان يختم القرآن ، كل أربعة أيام .
* محدث الأندلس ك قرأ البخاري سبعمائة مرة .
فأين أنت من أولئك ؟
* وأيضاً يذكرون الله كثيراً .
* معاذ بن جبل : يسبح الله في اليوم عشرة آلاف تسبيحة ، قالها ابن رجب .
* وأبو هريرة : يسبح ربه اثنتي عشر ألفاً في اليوم .
* وخالد بن معدان : يسبح في اليوم مائة ألف تسبيحة .
فكم تسبح أنت يا بطل ؟
* أنصف الحكام : الحسد ، لله در الحسد ما أعدله ، بدأ بصاحبه فقتله .
أيحسدوني على موتي فوا أسفا حتى من الموت لا أخلو من الحسد
( ما خلا جسد من حسد ) .
أحرص على جمع الفضائل واجتهد وتجافي عمن حمل الضغينة والحسد
اصبر على كيد الحسود مدارياً يا صاح بعد الموت ينقطع الحسد
( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه) (النساء: من الآية54) .
( حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم) (البقرة: من الآية109).
ألا قل لمن ظل لي حاسداً أتدري على من أسأت الأدب
أسأت إلى الله في حكمه لأنك لم ترض لي ما وهب
فجازاك عني بأن زادني وسد عليك وجه الطلب
* الإحرام : كفن ، والحلق : حك للذنوب ، والرمي : رمز للإذعان ، والطواف : لإظهار للمسكنة ، وتقبيل الحجر : امتثال ، وشرب زمزم لظمأ ذلك اليوم ، والوقوف بعرفة : لقاء مع ملك الملوك ، والذبح : فداء للذبيح ، والسعي : تضامن مع الأم .
* يوم ميلادنا في الغار ، وشجرتنا عند سدرة المنتهى ، ويوم الأم عندنا : يوم نزل على خديجة بشرى : ( قصر في الجنة ، من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب ) .
وليس لدينا إلا عيدان : عيد الفطر ، وعيد الأضحى .
عيدي إذا نصرت رسالة أحمد وتلألأ التيجان من أبطالها
في أمة أعلى قدرها وأذل شانئها وأصلح بالها
* لا تكن صوفياً ، ولا أشعرياً ، ولا خارجياً ، ولا رافضياً ، ولا مرجئاً ، ولا قدرياً ن ولا معتزلياً ، ولا جبرياً ، ولا ناصبياً ، ولكن كن حنيفاً مسلماً ، سلفياً ، سنياً ، محمدياً ، ربانياً ( فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) (الروم: من الآية30) ( فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ) (البقرة: من الآية213) ( رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) (آل عمران:193) .
يقول صاحب المنهج ( صلى الله عليه وسلم ) ، ( فمن رغب عن سنتي فليس مني )(1) .
* التقى الجمعان في بدر وشاركت الملائكة مع حزب الله في دحر أعدائه ، وقائد حزب الله : محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )،وتحت لوائه : جبريل ، عليه السلام ، وقائد الكفار : الشيطان الرجيم ، وتحت إمرته : أبو جهل الأثيم .
وكانت النتيجة نصراً ساحقاً للحق ، وسحقاً للباطل ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء:18) ، ( أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (الزخرف:80) .
( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (آل عمران:123) .
( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ ) (آل عمران: من الآية160) .
( وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) (لأنفال: من الآية10) .
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
* قتل عمر الفاروق ـ أبو حفص ـ على يد غلام مجوسي فارسي ، وسالت دماء أمير المؤمنين في المحراب ، فاهتز العالم الإسلامي لموته ، وأظلمت الدنيا لفوته ، عاش حميداً ، ومات شهيداً .
ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعة غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
عليك سلام الله وقفا فإنني رأيت الكريم الحرص ليس له عمر
( وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ) (الحديد: من الآية19) .
* حجاج بن أرطأة ، تورط ورطة إذ يقول :
( لا تتم مروءة الرجل حتى يترك صلاة الجماعة ) .
فقال الذهبي : ( لعنها الله من مروءة ) .
* قالوا لابن الجوزي : فيك خير ، غير أنك تغالي في حب أحمد بن حنبل ، قال :
أتوب إليك يا رحمن مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوب
وأما من هوى ليلي وتركي زيارتها فإني لا أتوب
* الحجاج للدماء مهريق ، والحلاج زنديق ، وشعبة بن الحجاج عالم في التحقيق ، ومسلم بن الحجاج صديق ، وابن الحجاج شاعر منطق .(/38)
* سبحانك ، ما أعظمك ، وأكرمك ، وأحلمك ، وأعلمك .
سبحانك ، ما أكملك ، وأعدلك ، وأرحمك .
من جاد فمن جودك ، ومن ملك فداخل حدودك ، ومن تجبر ففي قيودك .
جيوش البشر ذرة من جنودك .
من أعطى فمن خزائنك .
لك الحمد كل الحمد يا خير واهب فلن أطلب الإسعاد من كل طالب
سبحانه دام قوياً .
( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) (مريم: من الآية65) .
* سلطان الفاطميين لما دخل مصر شكوا في نسبه ، وشوشوا في حسبه ، فأخرج بطاقته الشخصية وسل سيفه ، فقال : هذا نسبي ، ونثر الذهب ، وقال : هذا حسبي .
والمسلم معه بطاقة ترجح بتسعة وتسعين سجلاً ، كل سجل مد البصر ن وهي بطاقة : ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) والحديث صحيح .
هذه الأشواق من تلك البطاقة مبدأ كل عميل ما أطاقه
* بنى الناصر الزهراء في الأندلس ، فجملها وحسنها ، وصرف الأموال في بنائها ، فقام المنذر بن سعيد البلوطي ، الخطيب المصقاع ، والعالم الشجاع ، فهتف بثباته ، وصاح في غفلاته ، وحجه بالوحي وآياته وقال (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ) (الشعراء:128) فانهار الحضور بكاء ، وارتفع الناس صراخاً ، وكان هذا المعلم حجة من الله على خلقه .
* الله يرحم أبا إسحاق الشيرازي : العالم ، المحقق ، الورع ، يقول فيه الشاعر :
تراه من الذكاء نحل جسم عليه من توقده دليل
إذا كان الفتى ضخم المعالي فليس يضره الجسم النحيل
كان آية في الزهد والعبادة ، ورزق القبول وزيادة ، دخل ما وراء النهر ، فاجتمع الناس عليه ، ومنهم من كان يلقي بالعمامة عليه والسبحات ، ونثرت على رأسه الدعوات ، وحيي بتحية ما حيي بها ملوك الأرض يقول : ( ما دخلت بلدة إلا وفيها قاض من طلابي ) قلت : والله هذا هو الشرف .
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعاد بعد أبوالاً
* مجلس الأمن يكيل بصاعين ، وينفق بمدين ، كالرجل صاحب الصاعين : الصغير والكبير ، فإذا اكتال من الناس أخذ بالكبير، وإذا كال لهم أعطى بالصغير ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (المطففين :1- 5) .
والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يذبحون ، وفي القدس يسحقون ، وأعضاء مجلس الأمن يضحكون ( أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) (المطففين:4) .
* يا أيها الشيوعيون ، لعن الله الكذب ، قلتم وكذبتم : لا إله ، والحياة مادة ، وقلتم : وهذا خلقته الطبيعة ، وقلتم : أموال الناس اشتراكية ، ثلاث عورات لكم ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (الطور:35-36) .
* عرف الله ـ جل في علاه ـ نفسه إلى موسى فقال : يا موسى : ( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا) (طه : من الآية14) فأعظم تعريف ، وأعظم كلمة في حقه سبحانه وتعالى : لا إله إلا الله ، فلا إلا الله ، ما أعظم لا إله إلا الله
* سئل موسى عن العصا ، والله سبحانه وتعالى ، هو خلقها ، وسواها ، وأبدعها ، وكان في الإمكان أن يقتصر على قوله : هذه عصا ، ولكنه هش للخطاب ، وارتاح للجواب ، فقال : ( قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) (طه:18)
* وضع الخليل في المنجنيق ، فحقق التوحيد أعظم تحقيق ، وتوكل على الله في الطريق ، فما مسه حريق ، نجا الخليل بحسبنا الله ، ونعم الوكيل ، وهتف : ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء :69) ، لأنه قابل الأمر بالتسليم ، وقام بحقوق التوحيد والتعظيم .
* افرح في حدود الشرع وامرح واسرح من الحق تربح
واغفر لمن أخطأ واسمح ولا تسبني ولا تجرح
وإذا ضاقت الزوايا فاذكر ( أَلَمْ نَشْرَحْ
عطش الصحابة وما في السماء سحابة ، فقام العلاء صاحب الإصابة فدعا الله ، فأجابه ، هتف بربه وناداه : يا عليم ، يا حكيم ، يا عل] ، يا عظيم ، فنزل الغيث ، فشربت الأكباد الظمأى ، ورويت النفوس العطشى ، فما أحس الداعي ، وما أكرم المدعو ـ جل في علاه ـ ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) (البقرة: من الآية186) .
ادع من جوده العطاء العميم واترك الخلق كل ذاك لئيم
* قطع الجسر في القادسية ، وتوقفت خيول المسلمين وجيوشهم على ضفة عند النهر ، فصاح سعد بأعلى صوته : ( يا خليل الله أركبي ) فاقتحمت الخيول بأبطالها في النهر ، فحمدها الله ـ عز وجل ـ حتى صار يبساً ، فسارت الخيول ، ونجت بإذن الله ، وانتصر القوم المسلمين .
اركبي يا خيل سعد في مدد واتل دوما ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)
إنها خيل أجابت ربها حسبك التوحيد نهجاً يا سعد(/39)
* عبد الرزاق بن همام : إمام ، له بالسنة إلمام ، وفي كيس علمه معلقة ، انغمرت في بحار الحسنات .
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد محاسنه بألف شفيع
* عبد الملك بن مروان : سفاك ، في عهده سالت الدماء ، وقطعت الأشلاء ، فسارت الرعية تعيش مسرحية ، قطع الرؤوس ، وأزهق النفوس ، فالدماء أرخص من الإماء .
والوليد بن عبد الملك : معماري هندسي ، فتحول الناس إلى البناء ، وصارت الأمة على السقائل ، وغلا الحديد والبلك ، وفتحت مكاتب العقار ، وانغمس الناس في الدنيا بلا وقار .
وسليمان بن عبد الملك : أكول ، صاحب موائد مشيده ، فوقع الناس في الدجاج والعصيدة ، والمروق والثريدة ، وكل يلعق يده ، ويصبغ بالمرق جيده .
ثم جاء الراشد الكريم : عمر بن عبد العزيز ، فزهد في الفانية ، وآثر الباقية ، فتوجه الناس إلى المساجد ، وهجروا المفاسد ، وقيدوا الحكم والفوائد ؛ لأن سر المهنة عند القاعد .
يا علم أنت لنا تاريخ أمة أنت يا قمة من يهفو لقمة
* ما أغلى الوقت عند السلف :
قيل لأحدهم : تعال معنا نتكلم .
قال : احبس الشمس ، أي أنها تقرض الأعمار .
وقيل لداود الطائي : لم ى تمشط لحيتك ؟
قال : ما فرغت .
( ولي عليه ملاحظة ) .
وقيل لأحدهم وهو يهتف بالتسبيح : كأنه تساق .
قال : لا ، أطرد طرداً .
وقيل للربيع بن خثيم لماذا لا تتكئ ؟
قال : لا يتكئ إلا آمن ، وأنا خائف .
قالوا : متى تأمن ؟
قال : إذا جزت الصراط
رحم الله ذا الركب كل تحية وباشرهم من جانب السفح رائد
v رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ....
تاريخنا أنت لا نرضى به بدلا لو أن تاريخ أحفاد الورى بدلوا
ومنك صحوتنا الكبرى متوجة بصوتك العذب يحدو السادة النبل
* الصديق : أتعبت ، والله من جاء بعدك .
* الفاروق : باب يحجب الفتنة ، ثم كسر .
* عثمان :
جرحان في كبد الإسلام ما التأما جرح الشهيد وجرح بالكتاب دمي
* علي :
أبا حسن لك الأيام وقف وأرواح الملا تهدى إليكم
* كافينا : يكفينا ويشفينا ، وكافيهم : لا يكفيهم ، الله لا يعافيهم .
فهل فهمت يا أبا دلامة : كافي الكليني ( صلى الله عليه وسلم ) وابن قدامة ؟
* دخل دعبل الخزاعي على الشريف الرضي أو المرتضى فمدحه قصيدته في أهل البيت التي منها :
إذا وتروا مدوا إلى واتريهم وأكفاً عن الأوتار منقبضات
نساء زياد في القصور نواعم وآل رسول الله في الفلوات
وهي طويلة عامرة ، فأهدي له جبة ، فذهب دعبل بالجبة عليه ن فرآه أهل قم ، وأكثرهم : روافض ، يتبركون بحب أهل البيت : التبرك البدعي ، فقاموا إليه ، فمزقوها قطعة قَطعة ، ما بقى على كتفه إلا كالشراب .
* ابن إسحاق ، بطل السباق ، وهو في السيرة عملاق ، فوثقه إلا إذا عنعن ، ولا تتلكأ ، وتقول : أن أَن .
* استدعى ملك الروم عالماً من علماء المسلمين ليحاجه ، فأرسلوا له أبا بكر الباقلاني ، الذكي الأريب ، وقالوا لملك الروم : لا ينحني إذا أتاك .
فجعل بابه منحنياً ، حتى يضطر أبو بكر الباقلاني للانحناء ، فلما اقترب من الباب عرف المكيدة ، فطلب وجهه للملك ، فأعطى الملك ظهره ، ودخل منحنياً إلى الوراء ، ثم دخل فوجد أحد الرهبان ، فسأله عن أبنائه ، وعندهم عيب وعار أن يكون للراهب أبناء ، ويريد أبو بكر أن يحجَهم بأنه ليس لله ولد ، سبحانه وتعالى ، لقولهم : إن عيسى ابن الله .
قال الراهب : أتسألني هذا السؤال ؟
قال أتتبرأ من الولد ، وتنسبه إلى الله ؟؟
وقالوا له : فيما رميت به عائشة ـ رضي الله عنها .
فقال : هما : امرأتان ، رميتا بالفاحشة ، فبرأهما الله ، وعائشة لها زوج ، ولم تأت بولد ، ومريم ليس لها زوج وولدت بولد ، فلو تطرق الشك لعائشة كان لمريم أولى ، وقد برأهما الله ـ عليهما السلام والرضوان ـ .
فبهت الذين كفروا .
* قالوا لابن جرير الطبري : من أنت ؟
قال : محمد بن جرير .
قالوا : ابن من ؟
قال :
قد رفع العجاج ذكري فادعني باسمي عن الأنساب هنا يكفني
قسموا مؤلفات ابن جرير الطبري علي عدد أيامه ، فخرج في كل يوم كراسة ، فحيا الله رأسه ، وأنعش أنفاسه ، وكثر في الجنة أغراسه .
عود دائم في كل قلب وذكر كالضياء فلا انقطاع
* قصة الموت طويلة ، فضح الموت الدنيا ، ولم يدع لذي لب فرحاً ، هدم الملوك والممالك ، ونسف المقاتلين والمعارك ، وأخذ مليكه وملكان ومالك ، وسوف يأخذك كذلك .
بني ملك قصراً ، وقال للحكماء : هل ترون فيه من عيب ؟
فقال أحدهم : عيبه أنه يخرب ، ويموت صاحبه .
* رسم أحدهم سنبلة قمح جميلة ، عليها عصفور قد وقع ، وهي محملة بالحب ، فنصب لوحة على باب الملك ، فمر الناس ، وأثنوا على من رسمها ، إلا رجلاً أعور قال : لي عليها ملاحظة ونقد .
فدعي به إلى الملك .
فقال : ما هو نقدك ؟
قال : وقع العصفور على السنبلة ، وهي قائمة لم تمل ، وهذا خطأ ، لابد أن يميلها الرسام ؛ لأن العصفور إذا وقع على السنبلة أمالها .
قال : صدقت ، فخلعوا اللوحة .(/40)
* ما أريد أن أزكي كتب الغربيين ، فإن عندنا ما يكفينا ـ والحمد لله ـ من ميراث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، لكن الحكمة ضالة المؤمن ، يأخذها أنى وجدها ، والشيطان علم أبا هريرة آية الكرسي ، فلابد من أن نستفيد من تجارب القوم ، بشرط ألا تتصادم ، أو تتعارض مع ديننا الحنيف .
في الكتب التي طالعتها من كتب الغرب كتاب أردده كثيراً ، لعجبي به ، ولي عليه ملاحظات ، وهو : كتاب ( دع القلق وابدأ الحياة ) .
والكتاب ـ أيها الناس ـ بديع عجيب ، ملك علي مشاعري وعواطفي ، وإن تعجب فعجب هو ، ,إن تخالفني في إعجابي به .
فدعني ففي قلبي من الحب ثلمة عليها شهود من سهادي وادمعي
وإنني أتكلم عن مؤلفات البشر ، لا عن الوحي من الكتاب والسنة ، فذلك النوران لا يجب المقارنة بهما عند ذكرهما ، عرفت هذا الكتاب الذي بين يدي منذ سنوات ، لكنه جديد علي كل يوم .
ألم تر أن كلما زرت دارها وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
لعلك ستلومني على إعجابي بالكتاب ؛ لأن كاتبه أمريكي ، فهل تخاف علي وعليك من قراءة لأجنبي عن ديننا ، لا ، لا ، عندي وعندك ميراث ، نزله صاحب الملك الذي لا يبلي ، وسنة حملها صاحبي وصاحبك ، الذي ما ضل وما غوى .
هذا الكتاب لا يحمل ترفاً علمياً ، أو نقولات متكررة ، فهذا نعرفه في كثير من المجلدات ، أو المؤلفات ، التي نفعها في جمال أوراقها ، وحسن تجليدها فحسب .
هل لنا أن نسمع أقوال الأمم وتجارب الشعوب ؟
هل لنا أن نقرأ أفكار النابهين ، ونضعها في ميزان : ( نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ) (الشورى: من الآية52) .
وافقت المؤلف كثيراً ، واختلفت معه قليلاً ، والميزان عندي الذي أحاكم إليه إسلامي الحنيف .
لقد انهار المؤلف بأمثلة لأساطين المربين من الأميين ، ودلف بأقوال الجهابذة المفكرين ، ونفث في روع القارئ مقطوعات الشعر للشعراء .
ولقد كان رشيقاً مهذباً ، وهو يتلو علينا القصص من أمته .
كنت أظن أنني أنا المعجب وحدي ، وكلما قابلت ذا همة وجدت العجب يملؤه .
فلا تحسبن هنداً الغدر وحدها سجية طبع كل غانية هند
والعجب أن عندنا ـ والحمد لله ـ أحسن ، وأروع ، وأبدع مما كتبه هو ، ولكن ما وافق ما كتب ، علمت أن هذا الدين دين الفطرة .
( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) (فصلت: من الآية53) .
* يقولون : أكثر ما يخاف لا يكون :
أي : أن كثيراً مما يتوقعه الناس لا يقع .
يقول أحد العرب في هذا :
فقلت لقلبي إن ذابك نزوة من الهم أقصر أكثر الروع باطله
* قال الشاعر ميلتون :
( في وسع العقل أن يخلق ، وهو في مكانه مقيم ، نعيماً من الجنة ، أو جحيماً من الجحيم ) .
قلت : يقول المتنبي :
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
* يقول أبكتيتوس ـ الفيلسوف الروائي :
( إزالة الأفكار الخاطئة من العقل ، أجدى بكثير من إزالة أورام الجسد ) .
وفي القرآن خير من ذلك ، فإن الله ذكر مرض الأبدان ، ومرض الجنان ، فحذر من مرض القلب تحذيراً ، وقال سبحانه وتعالى : ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة:10) .
يقول أحد علماء السلف معلقاً على الآية : ( لأن مرض الأبدان قصاراه أن يموت العبد ، ومرض القلوب قصاراه أن يموت ، فيدخل النار .
* يقول مونتان ـ الفيلسوف الفرنسي ـ :
( إن المرء لا تضره الحوادث ، وإنما الذي يضيره حقاً ، هو تقديره للحوادث ، وتقديرنا للحوادث أمر متروك لنا وحدنا ) .
قلت : بل لله وحده ، إنه المقدر : ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( يوسف : من الآية21) .
وأقول : كلما صعب على الإنسان حياته ، وتعرض للحوادث والمصائب ، نضج عقله وفكره ، إن لم تستحقه هذه الحوادث .
يقول المتنبي :
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا فأقصر ما يمر به الوحول
* يقول وليم جيمس ـ وهو من أكبر علماء النفس الأمريكان ـ : ( إن أعظم علاج للقلق ، ولا شك ، هو الإيمان )
قلت : الحمد لله الذي هداك ؛ لأن تقول العدل والميزان .
* أنشودة غربية مترجمة :
الأمان .. الأمان .. يا لروعة الأمان
إذ يسكبه في نفوسنا .. الرحيم الرحمن .
إليك اللهم أدعو أدعو أن تحيطني بالأمان .
فيضاً غامراً ، يملأ القلب والجنان .
* لا تكن نصف عالم ، ولا نصف مفسر ، ولا نصف محدث ، ولا نصف فقيه ، ولكن كن كاملاً في أمورك بحسب الإمكان ، وتعمق في الإيمان ، وفي طاعة الرحمن ، تصل إلى الرضوان والجنان .
* يقول فرنسيس بيكون :
( إن قليلاً من الفلسفة يجنح بالعقل إلى الإلحاد ، ولكن التعمق في الفلسفة خليق بان يعود بالمرء إلى الدين )
قلت : لا فلسفة ، ولا علم كلام ، ولا منطق ، عندنا كتاب وسنة ، ولكنك ما ذقت ما ذقنا .
ألا بلغ الله الحمى من يريده وبلغ أكناف الحمى من يريدها
يقول المولى سبحانه وتعالى :(/41)
( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) (يونس:62-63) .
وقال سبحانه :
(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97) .
إذاً ن فعليك أن تطرد الهم ، والغم ، واليأس ، والقنوط ، والوحشة ، بذكر الله والإيمان ، وسوف أستشهد بكلام الغربيين ، والحق ما شهدت به الأعداء :
يقول الدكتور ( كارل يونج ) ، أعظم الأطباء النفسيين في هذا الجيل ، في كتاب بعنوان : ( الرجل العصري يبحث عن روح ) يذكر من تجربته : أنه لم يبرأ واحد من المرضى عنده ، إلا حين استعاد إيمانه ، واستعان بأوامر الدين ونواهيه على مواجهة الحياة .
وقال وليم جميس :
الإيمان من القوى التي لابد من توافرها ؛ لمعاونة المرء على العيش ، وفقدها : نذير للعجز عن معاناة الحياة .
* يقول هاري أمرسون في كتابه ( القدرة على الإنجاز ) :
من أين أتتنا الفكرة القائلة بأن الحياة الرائدة المستقرة ، هي التي تخرج الأذكياء ، والأبطال والفاتحين والمخترعين ؟ لقد نام أناس على الحرير والديباج ، فما خرجوا إلا أغبياء بلداء ، ولكن هناك أناس عاشوا شظف العيش ، فخرجوا عظماء .
فلا هذه ، ولا هذه ، وإنما هي الهمم .
وأقول أنا : إنما هو التوفيق من الله ، عز وجل ، ثم سعى العبد .
فبلال من الاضطهاد ، إلى رفع الأذان في الوهاد .
وسلمان من عبادة النيران ، إلى رضا الرحمن .
* يقول وليم بلوثر :
ليس أهم شيء في الحياة : أن تستثمر مكاسبك ، فأي أبله يسعه أن يفعل هذا ، ولكن المهم حقاً : أن تحل خسائرك إلى مكاسب .
ويقول شوبان هور :
ذوو النفوس الدنيئة يجدون متعة في البحث عن أخطاء شخص عظيم .
ويقول الأول :
إن العرانين تلقاها محسدة ولا ترى للئام الناس حساداً
والله يقول : ( لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذى) (آل عمران: من الآية111) .
* يقول إبراهام لنكولن :
لو أنني حاولت أن أقرأ ، لكي أرد فحسب على ما وجه إلي من نقد ، لشغلني هذا ، وأخذ وقتي ، وعطل عملي ، إنني أبذل جهدي في أداء واجبي ، فإن أثمر شيء من جهودي ، فلا شيء من النقد يضيرني ، وإن خاب مسعاي ، فلو أقسمت الملائكة على حسن نواياي ن لم يجد هذا فتيلاً .
إذا نطق السفينة فلا تجبه فخير من إجابته السكوت
* مر الذئب من السكة ، فتهدده التيس من على سقف منزل مرتفع .
فقال الذئب :
والله ، إني كنت أعرفك ، لو كنا في مكان واحد ، ولكن المكان المرتفع شجعك .
وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا
[ البيت للمتنبي ، وليس للذئب ]!!
* أخذ الأحنف بن قيس يمر طريقه إلى بيته ، فلحقه سيفه يسبه ، فلما اقترب من حيه ، قال الأحنف للسفيه : عد ، كي لا يراك سفهاء الحي فيضربونك .
وقال حاتم الطائي :
وأعقر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرماً
v الرموز والكنوز :
خ : البخاري : وبصحيحه خر سقف المبتدع من فوقه .
م : مسلم بن الحجاج : بحر في الأثر ثجاج ، علم الطوائف والأفواج .
ت : الترمذي : عبقري ، فقد البصر ، فزيد في نور بصيرته ، وهو يافعة ساطعة جامعة .
د : أبو داود : ألين الحديث لأبي داود كما الجديد لداود ، أن اعمل يا أبا داود من كلام المحمود سابغات لأهل السنة ، وقدر في السرد لترد البرد .
ن : النسائي : أبو عبد الرحمن ، مقارع الفرسان في حومة الطعن ، مجرح ، معدل ، إمام مبجل ، داسوا خصيتيه من أجل ( الخصائص ) ، فليته جعلها للخاصة .
هـ : ابن ماجة : مشكاة نور حديثه فيها مصباح ، المصباح في زجاجة .
قط : الدار قطني : دار ، قطنها : العلم ، فيها الخير فقط ، بلا شطط ولا غلط ، ولا سقط .
هق : البيهقي : شرف الشوافع ، وإمام الجوامع ، ومسيل المدامع .
طب : الطبراني : طبه براني ، وكبير أوسطه صغير ، وصغير أكبره وسط ، ووسط أصغره كبير ، فهل عرفت الثلاثة ؟
حب : ابن حبان : حبه آن ، وفضله في كل أوان ، وهكذا فلتكن الهمم بلا توان ، صنع المدينة لا صنع تايوان .
* التقى القاضي الفاضل ، والعماد الأصفهاني ، وكانا ذكيين لا معين ، فقال القاضي الفاضل للعماد :
دام علا العماد .
( وهذه الكلمة إذا قرأتها من آخرها أو من أولها أتت بنفس المعنى واللفظ ) .
ففهم العماد مقصوده فقال :
* [ سر فلا كبابك الفرس ] ( وهذه الكلمة أيضاً قرئت من الأول أو من الآخر فالمعنى واللفظ واحد ) .
وهذا من الذكاء ، لكن قوم شعيب أغبياء .
قالوا : ( مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ ) (هود: من الآية91) ، لأن عقولهم في سفول .
* الشوكاني : صلى بالناس إماماً ، فسقطت منه العمامة ، وهو في الصلاة ، فحملها ، فقال له الناس : أتحمل العمامة يوم سقطت ، وأنت تصلي ؟
فقال : حمل العمامة أخف من حمل أمامة .(/42)
( ومقصوده بأمامة : ابنة زينب بنت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، يوم حملها ( صلى الله عليه وسلم ) في الصلاة ، والحديث في ( الصحيحين ) عن أبي قتادة ) .
ورحم الله الشوكاني ما أعظم اجتهاده ، وما أكبر جهاده ، فهو القائل : ( لا هجرة بعد الفتح ) يوم سألوه أن يشرح ( صحيح ) البخاري ، والمقصود ( فتح الباري ) : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) (الفتح:2) .
* ماتت حمادة : عمة أبي جعفر المنصور ، فحضر دفنها ، وحضر مع الناس : أبو دلامة المزاح ، فجلس أبو جعفر حزيناً ، على شفير القبر ، وهو يحفر، وحمادة مكفنة بجانبه ، فالتفت أبو جعفر إلى أبي دلامة، وقال له :
يا أبا دلامة : ما أعددت لهذه الحفرة ؟
فقال أبو دلامة : أعددت لها حمادة ، عمة أمير المؤمنين .
فضحك أبو جعفر المنصور ، وضحك الناس .
وما أبالي إذا نفسي تطاوعني على الهلاك بمن قد مات أو هلكا
* أما أشعب الطماع ، فإنه طلب الحديث أياماً ، ثم سأله الناس ماذا استفت من هذا ؟
قال حدثنا عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً :
( إن الله يحب خصلتين ) ثم قال : نسى عكرمة خصلة ، ونسيت الثانية .
* ألف ابن المبارك رحمه الله كتاب ( الزهد ) ، فجاء يقرأه على الناس ، فغلبه البكاء ، حتى أصبح كأنه بقرة منحورة ، ودموعه مهمورة ، وجهوده مشكورة .
وكان سحنون المالكي ، تقرأ عليه السير ، والدمع يسيل سيلاناً ، وربما انتحب .
* يقول عدي بن حاتم ، قبل معركة صفين : لا ينتطح في هذا الأمر عنزان ، فوقعت المعركة ، وفقئت عينه ـ رضي الله عنه ـ فلقيه بعض الأعيان ، فقالوا يا عدي :
( والله لقد انتطحت فيه تيوس كثيرة ، وفقئت فيه عيون ) .
* كان الرازي يدرس في المسجد ، في يوم بارد ، وعليه كساء فأتت حمامة قد قيدها البرد فوقعت على حجره ، فقام أحد طلابه وقال :
جاءت إليك حمامة مشتاقة تشكو إليك بقلب صب واجف
من أخبر الورقاء أن مكانكم حرم وأنك ملجأ للخائف
* كتب أحد السلاطين إلى الأعمش ، يطلب منه أن يأتي إليه ليحدثه .
فكتب له الأعمش : أنا لا آتي إلى السلاطين أحدثهم .
فكتب إليه السلطان كتاباً يتهدده ويتوعده ، فأخذ الأعمش الكتاب . وأعطاه شاته ، فأكلت الكتاب .
إذا تهددك شاهٍ شاه ، فأعط خطابه الشاه ، والسلام .
قال موالي السلطان :
أين كتاب السلطان يا أعمش ؟
قال : الشاه تجيبه .
* قال ابن مالك :
ترفع كان المبتدأ اسماً والخبر تنصبه ككان سيداً عمر
فلما سمع الرافضي لفظ عمر رفضه ، وقال :
ترفع كان المبتدأ اسماً والذي يلي تنصبه ككان سيداً علي
قلت : عمر سيد ، وعلي سيد ، والرافضي بليد .
* الكولنج : ومنهم من يقول اسمه القولون ، وكان ابن سيناء يداوي منه الناس ن وأصيب هو بمرض القولون ، فما استطاع ان يداوي نفسه فمات .
سبحان الحي الذي لا يموت .
( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص: من الآية88) .
( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ) (الرحمن :26-27) .
* ( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ ) (الأحقاف: من الآية10) هو : عبد الله بن سلام ، شهد بنبوته ( صلى الله عليه وسلم ) ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً ) (يّس: من الآية78) وهو العاص بن وائل ، وكان هبلاً .
( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (المدثر:11) وهو الوليد ، وكان بليداً ، خرج من صلبه خالد مجيداً .
( وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) (آل عمران: من الآية27) .
ورب أصل لفرع في الفجار نمى .
* صدق أحمد ، وأحمد ، وأحمد :
صدق أحمد عليه الصلاة والسلام ، في رسالته ، وصدق أحمد بن حنبل في إمامته ، وصدق أحمد بن تيمية في دعوته .
* وكذب أحمد ، وأحمد ، وأحمد :
كذب أحمد شوقي في قوله :
الاشتراكيون أنت إمامهم لولا دعاوي القوم والغلواء
( يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم ) .
وكذب أحمد المتنبي في قوله :
أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود
وكذب أحمد غلام ميرزا في ادعاء النبوة .
* أبو عبد الله إمام دار الهجرة .
وأبو عبد الله إمام السنة .
وأبو عبد الله مجدد الملة .
فالأول : مالك ، وكيف لا يكون كذلك ، وهو نبيل المسالك .
والثاني : الشافعي ، شفاء وعافية ، وشمس دافية ، وعين صافية .
والثالث : أحمد صاحب المنهج الأحمد ، والطريق الأرشد .
( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24) .
هينون لينون أيسار من بني يسر صيد بهاليل حفاظون للجار
* أعوذ بالله من شين :
الشيطان ، والشر ، والشؤم ، والشرعية ، والاشتراكية ، والشك ، وشامير ، وشاه إيران .
مبادئ ورموز كلها سفه تهوي إلى النار لا تلوي على أحد(/43)
( كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف: من الآية38) .
* أعوذ بالله من جيم :
الجعد ، والجبر ، والجور ، والجن ، والجحيم ، والجريمة ، والجناية ، والجبن ، والجهل .
عجبت لدجال دعا الناس جهرة إلى النار واشتق اسمه من جهنم
* إذا اجتمعت العزلة ، والعزيمة ، والعزة بالله ، عز وجل ، أثمرت شجرة القبول .
( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) (النور: من الآية35) .
سند من التبجل كل فضيلة حبلى بمكرمة على أنجاب
سمسمة في العلم تعلو بها واحمد لمن أعطى لو سمسمة
والمح كمال الوصف حتى ترى قاض يدير الحكم في المحكمة
والجم جماح النفس عن غيها ففيها يذهب بالجمجمة
* خرج النعمان بن المنذر ، ملك العراق ، ومعه : عدي بن زيد فأراد عدي أن يعظه ، فقال : أبيت اللعن ، أيها الملك ، أتدري ماذا تقول هذه الشجرة ؟ .
قال : ما أدري ؟
قال : تقول :
رب ركب قد أناخوا حولنا يمزجون الخمر بالماء الزلالا
سعدوا حيناً وعاشوا زمناً ثم صاروا جثثاً تحت الرمالا
فبكى النعمان ، وأمر برفع السفرة ، وما عليها من الطليان ، وأدرك أن كل من عليها فان .
* قال أبو جعفر المنصور للشعراء : من يجيز هذا البيت ، أعطيه هذه البردة التي علي ، وهي : بردة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، فصعب القافية عليهم ، وقال :
وهاجرة وقفت بها قلوصي يقطع حرها ظهر العظايا
فقام الشعراء على ركبهم ، فابتدرهم بشار بن برد ، وقال :
وقفت بها القلوص ففاض دمعي على خدي وأكثر واعظايا
فأعطاه البردة ، فاشتريت منه ، فباعها بثمن بخس . ( بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ) (يوسف: من الآية20) وكان فيها من الزاهدين ، وقال الذي اشتراها يا بشرى : هذه بردة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فكان من الرابحين .
* اللهم صل على محمد وسلم ، يقول في الصحيح :( إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي بالنبوة )(1).
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشية تمشت وجرت في جوانبه بردا
* رافق أبو طالب أبا جهل ، ذاك النذل ، ففاته الفصل ، وهو شيخ الأباطح ، وبطل الجحاجح ، ورافق الكلب الفتية في الغار ، فأدرك الشرف والفخار ، وذكر في كتاب الأبرار ( وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِِ ) (الكهف: من الآية18) وكل بصحبة الآخر سعيد ، فلا تصاحب الرعديد الطريد .
* تحدثت مع سليمان النملة ، وحورب فرعون بقملة ، وقتل أمية بن خلف في شملة ، وسحق قوم عاد بالجملة ، ( فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِه) (العنكبوت: من الآية40) ؛ لأنه كفر بربه .
* فقد سيف الزبير ـ رضي الله عنه ـ في بدر ، وأخذه ابنه عبد الله ، وقاتل به الحجاج ، ثم أخذ السيف لعبد الملك ، فذهب عروة لأخذه .
فقال عبد الملك : تعرفه من بين السيوف .
فعرفه ز
فقال : بم عرفته ؟
قال : بهن فلول من قراع الكتائب .
* محمد بن عبد الوهاب ، طاهر الثياب ، نقي الإهاب، ناصر للسنة والكتاب ، بلغ المجد ، وشع في نجد .
خذا من صبا نجد أماناً لقلبه فقد كان رياها يطير بلبه
وإياكما هذا النسيم فإنه متى يسر كان الوجد أيسر خطبه
* ابن باز : ممتاز ، ابن عثيمين : ثمين ، وابن حميد : حميد ، والألباني : باني ، وابن باديس : رئيس ، والزنداني : زند واري ، فسبحان من علم آدم الأسماء كلها .
* السبت لليهود ؛ لأنهم في سبات ، والأحد للنصارى ؛ لأنهم ثلثوا الواحد ، ولم يعرفوا ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الإخلاص:1) ، والجمعة لنا ؛ لأن الله جمع لنا الفضائل .
فمن مثلنا في الناس أهل مآثر تمر بها الأزمان وهي بواقي
* الكعبة قبلة الحب والاستقلال .
المصحف : المنهج والوحدة .
السنة : سفينة نوح .
الصحابة : دوحة المثل .
العلماء : ربان السفينة .
الجزيرة : سياج الملة .
الشهداء : قرابين الفداء .
الملاحدة : شياطين الإنسانية .
المسجد : شعار القوة .
قريش : ابنهم داعية الإنسانية ، وحامل الهداية الربانية . بنو سعد : إخواننا من الرضاعة ، هناك أمنا حليمة .
بنو تميم : كتائبنا يوم يخرج الدخال ، وأنعم بالرجال .
الأزد : أنصار المنهج ، وأجداد الأوس والخزرج ، والجيش المدجج .
* تبارك الذي نزل الفرقان ، فالناس فيه فريقان ، وبسببه التقى الجمعان ، وتقاتلت من أجله الفئتان ، ووقعت بآثاره بدر ، وأحد ، وبيعة الرضوان .
تبارك الذي نزل الفرقان ، فآمن به : الصديق ، والفاروق ، وعثمان ، وناصره : سعد ، وعلي ، وسلمان ، ودعا إلى نوره : معاذ ، ومالك ، وسفيان ، وقتل من أجل مبادئه : حنظلة وحمزة وعمران .
وننكر يوم الروع ألوان خليلنا من الضرب حتى نحسب البيض أحمرا(/44)
* يا مسلمون ، أقرضوا الله قرضاً ، ولا تضربوا بالذكر عرضاً ولا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً ، فقد أورثكم أموالاً وجيوشاً وأرضاً ، فلك الحمد حتى ترضى ، فناصروه بكل ما تستطيعون ولو كنتم مرضى .
لك الحمد أنفاس من القلب درجت بدمع من العينين أسكبه سكباً
* البلداء الطغام ، يقولون : ( مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ) (الفرقان: من الآية7) ، ويعيش عيشة الأيتام وما عنده كنز ولا قصور ولا خيام ، فجاء الجواب من العلام ( تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ) (الفرقان: من الآية10) ، خلود في أحسن الممالك ، وأنهار في أروع المسالك ، وحور عين وحرير ، وإستبرق كذلك .
* قمص عثمان ، ودرة عمر ، ودماء حنظلة ، وصوت أبي طلحة ، وأذان بلال ، هي تاريخنا ، وانطلاقتنا الكبرى :
سل عن رسالتنا الدنيا وما فيها نحن الأشاوس أعط القوس باريها
* أم سليم تشرب من التسنيم ، وتعب من السلسبيل ؛ لأنها أهدت أنساً للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
وعكاشة في الإيمان أخمصه ومشاشه ، أنفق للحق قوته وقماشه ، فصار الحرير في الجنة قماشه .
والوليد بن المغيرة ، أحرقه الحسد والغيرة ، وأوبقته الهمم الصغيرة ، فوقع في الحفيرة .
* وقف سفيان الثوري في وجه أبي جعفر المنصور يعرضه ، وعلمه وعرفه ، وأنكر عليه تبذيره في المال وتصرفه ، وذكره بسيرة عمر بن الخطاب ، وتلا عليه فصل الخطاب ، فما أجاب ، فأغلق سفيان الباب .
* عفر الله لسفيان زللاً ، يحفظ حديث : ( سيد الشهداء حمزة ، ورجل قام إلى سلطان فأمره أو نهاه فقتله ) . سفيان يروي في الدفاتر : ( افضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر )(1) .
* رغم أنف من حارب الرسالة ، وسفك الله دمه وأساله ، ( نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ) (لقمان:24) .
* ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) (التغابن: من الآية7) قاتلهم الله ، كيف يمكثوا ، النار أمامهم مهما تلبثوا ، كلما دعوا إلى الوضوء أحدثوا .
* اللهم بصرنا بالعيوب ، واغفر لنا الذنوب ، وأصلح منا القلوب ، اللهم سلمنا من الرياء ، والخيلاء ، والضغناء ، والشحناء ، اللهم اجعلنا أقوياء ، أوفياء ، سعداء ، شهداء .
اللهم صل على المعصوم ، وسلم عليه عدد النجوم ، وبارك على من نشر العلوم ، وعلى آله وصحبه صلاة وسلاماً وبركات تدوم .
اللهم إني مسني الضر ، وأنا المضطر ، المعترف المقر ، إليك المفر ، أجعل الجنة المستقر ، واحفظنا في الجو والبحر والبر .
( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (الصافات:180- 182) .
مواقف ساخنة
هذه مواقف متعددة سميتها : ( مواقف ساخنة ) ، لأنها أحداث ، ذات عبر ن وفيها من الحركة والحياة الشيء الكثير ، فهي تحمل الانفعالات ، والعواطف المتدفقة من جيل لن يتكرر ، إلا أن يشاء الله ، لعلنا نتوقف عندها ، ونأخذ من كل موقف منها عبراً ودروساً ، تكون زاداً لنا في طريق الهداية ، فإليكم إياها .
الموقف الأول : عمر يجمع الصدقات
أتي ( صلى الله عليه وسلم ) والحديث عند البخاري فأرسل عمر ، وعمر في تلك الفترة وبعد تلك الفترة تلميذ لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
أرسله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( اذهب اجمع الصدقات ) . ( أي : الزكاة ) .
من أين يجمعها ؟ من المسلمين .
أخذ عمر ، رضي الله عنه وأرضاه ، جهته ، وامتثل الأمر ، وطاف على المسلمين : ادفعوا الصدقة .
لمن الصدقة ؟ أللقصور أللدور ؟ لا ، بل للفقراء ، وللمساكين وللمحتاجين .
وعمر : صارم وهو يصلح لمثل هذه المهمات ، والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يعرف أن يضع الرجال ، فأبي بن كعب يضعه سيداً للقراء ، ومعاذ قاضياً إماماً ، وأبو بكر أستاذاً في الإدارة ، وأول خليفة ، وحسان للقوافي ، والمجالس الأدبية ، التي ينافح بها عن الإسلام ، وزيد بن ثابت للفرائض ، وخالد بن الوليد لفصل الرؤوس عن الأكتاف ، في سبيل الله ، وعلي بن أبي طالب قاضياً وللمهمات ، والزبير : الحواري ، وعثمان للإنفاق ، وابن عوف للبذل .
وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم
ذهب عمر يطرق على الأبواب : ادفعوا الزكاة .
يقولون : من أرسلك ؟ فيقول : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فإذا سمعوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) دفعوا الصدقة ؛ لأن عمر مهما أوتي من قوة ، لا يملك القلوب كما يملكها ( صلى الله عليه وسلم ) حتى يقول فيه أحد الشعراء :
محاسنه هيولى كل حسن ومغناطيس أفئدة القلوب
حتى العذارى في الخدر يتبعن كلامه ( صلى الله عليه وسلم ) .
فذهب عمر ليطرق الأبواب ، ومر بالناس جميعاً ، فوصل إلى العباس ـ والعباس : عم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ـ فقال له : ادفع الصدقة .
قال : من أرسلك ؟
قال : الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال : لن أدفع .(/45)
فذهب إلى خالد ، سيف الله المسلول ، أبي سليمان ، صاحب الغارات ، وقال له : ادفع الصدقة .
قال : من أرسلك ؟
قال : الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال : لن أدفع ؟
فذهب لبن جميل ، قال : أدفع الصدقة .
قال : من أرسلك .
قال : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال : لن أدفع ؟
فرجع عمر بالأموال ، وقال : يا رسول الله ، دفع الناس جميعاً إلا ثلاثة .
قال : ( من هم ؟ )
قال : عمك : العباس وخالد بن الوليد ، وابن جميل .
قال : ( يا عمر، أما تعلم أن العباس عمي ، أما تعلم أن عمر الرجل صنو أبيه ، هي علي ومثلها لعامين) ( يقول : صدقته علي ومثلها، فأنا اقترضت منه صدقة عامين ، ولكن استحيا العباس أن يقول لعمر أن الرسول (صلى الله عليه وسلم ) اقترض مني زكاة عامين ، وعلم أنه إذا رد عمر سوف يتذكر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ( أما خالد ، فإنكم تظلمون خالداً ، إنه قد احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله ) ( عنده مائة سيف وعنده مائة رمح ، وعنده : مائة فرس ، قال : هي رهن ، وهي محبوسة في سبيل الله ) .
وهل في الوقف صدقة ؟ وهل فيه زكاة ؟ لماذا يا عمر تطلب من خالد أن يزكي وهو قد وقفها ؟
يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد فيها فليتق الله سائله
خالد إذا حضر المعركة ، دعا مائة فارس ، وأعطاهم مائة سيف ، ومائة رمح ، ومائة فرس ، فهي لله ، ولذلك لا يرثها أبناء خالد .
خالد مات ، ولا يملك إلا ثوبه .
خالد بن الوليد خاض مائة معركة . خالد بن الوليد ما في جسمه شبر إلا وفيه ضربة بالسيف ، أو طعنة برمح ، أو رمية بسهم .
فماذا فعلت أنا وأنت للإسلام ؟ خالد قدم دموعه ودمه ووقته .
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
وما أتت بلدة إلا سمعت بها الله أكبر تدوي في نواحيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
خالد ، يوم اعتزل الجيش ، وهو كبير ، أخذ مصحفاً يقرأ من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر ، ويبكي ، ويقول : شغلني جهادي عن القرآن ، ونقول : يا أبا سليمان ، عندنا شباب ، شغلهم البلوت عن القرآن ، والمجلة الخليعة ، والأغنية الماجنة .
يا أبا سليمان ، لقد شغلك الجهاد عن القرآن ، إن جهادك أعظم من قراءة القرآن ؛ لأنك رفعت لا إله إلا الله بجهادك .
أتته سكرات الموت ، فقال : لقد خضت مائة معركة ، وها أنا أموت على فراشي ، كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجبناء .
يقول : اليوم يفرح الجبناء أني مت .
يقول ابن كثير : قاتل خالد يوم مؤته ، فكسر تسعة أسياف في يده ، وما ثبت في يده إلا صحيفة يمانية .
وكان جسيماً بديناً كالحصن ، وقتل بيده يوم مؤته خلقاً كثيراً .
يقول عمر : لما تولى أبو بكر طلبت منه عزل خالد .
فقام أبو بكر غاضباً على المنبر ، وقال : والله لا أغمد سيفاً سله الله على المشركين .
فالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( خالد سيف الله المسلول سله على المشركين )(1) .
فلما تولى عمر كان أول ما أصدر : عزل خالد . فقال خالد : والله ما قاتلت بالأمس لعمر ، وما قاتلت اليوم لعمر ، وإنما قاتلت لله , أنا أقاتل لله قائداً أو مقوداً .
إذا عذره الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( إنكم تظلمون خالداً ) .
وأما ابن جميل فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وأما ابن جميل فما ينقم إلا أن كان فقيراً فأغناه الله )(2) أي : أنه لا عذر له .
قال الله في ابن جميل وأمثاله ( وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّه َ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ) (التوبة:75-77) لا عذر لابن جميل ، أما العباس فمعذور وخالد معذور .
الموقف الثاني : أسامة ولا إله إلا الله
أرسل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) جيشاً ، قائده أسامة بن زيد ( وعمره آنذاك قيل : قبل الرابعة عشر والثالثة عشر ، إلى الخامسة عشر ) إلى الحرقات من جهينة على البحر الأحمر .
أتدرون من في قيادة أسامة ؟ ومن هم الجيش ؟ أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعلى بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، والقائد : أسامة عبد مولى ، وكلنا عبيد لله .
وبعض شبابنا اليوم ، عمره : ثلاث عشر سنة ، ولا يعرف شيئاً ؛ لأن من يتربى على جمع الطوابع ، والمراسلة ، يأتي بعقلية مثل هذه العقلية .
أما أسامة فتربى على لا إله إلا الله ، وتربى على الصلوات الخمس، وعلى قيام الليل ، وعلى تدبر القرآن .(/46)
ذهب أسامة ، وقاد الجيوش ، فوصل إلى هناك في جهينة ، فخرجت جهينة تقاتل الصحابة ، فخرج رجل من الكفار فأتى للمسلمين ، لا يقصد مسلماً إلا قتله ، فانطلق إليه أسامة فهرب الرجل من أسامة واختفى وراء شجرة فخرج عليه فلما رفع السيف لقتله قال الرجل : لا إله إلا الله محمد رسول الله .
فكأن لسان حال أسامة أن قال : ( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) (يونس: 91- 92) فضربه فقتله .
لمن ترفع القضية هذه ؟ قضية شائكة .. إنسان يقاتل ، ثم تذهب إليه فتطارده ، ثم يقول : لا إله إلا الله ، فتقتله .
رفعت للمصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأتى الصحابة ، فأخبروا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فتغير لونه ، واحمر وجهه ، ورعد أمره ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأشرف أسامة ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يسلم : ( يا أسامة ، أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ) ؟.
قال : يا رسول الله إنه قالها مستجيراً بعد أن قتل المسلمين .
قال : ( ماذا تصنع بلا إله إلا الله ) ؟
قال : يا رسول الله قالها مستجيراً .
قال : ( يا أسامة ما تصنع بلا إله إلا الله إذا أتت يوم القيامة )(1) .
موقف تشيب له الولدان .
فقال أسامة : يا ليتني ما أسلمت إلا هذه الساعة ، أجاهد ، وأقتل مسلماً يا ليتني ما أسلمت إلا الآن ، يا ليتني ما ذهبت في الجيش .
( ماذا تصنع بلا إله إلا الله ) ؟ تأتى لا إله إلا الله في بطاقة فتنزل فتدافع عن صاحبها .
لا إله إلا الله ، من أجلها أقيمت الأرض .
لا إله إلا الله ، أثقل كلمة قالها الناس .
لا إله إلا الله : مفتاح الجنة .
( ماذا تصنع بلا إله إلا الله ) ؟
قال : ليتني ما أسلمت إلا الآن .
حنانيك يا أسامة ، وغفر الله ذنبك يا أسامة ، وعطف الله عليك القلوب ، وقد فعل .
أما الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقد توقف ، وما أفتاه ، بل قال : ( ماذا تصنع بلا إله إلا الله ) ؟ يعني : احتكم أنت وإياه يوم العرض الأكبر .
وفيه دليل على أن لا إله إلا الله محمد رسول الله مفتاح الجنة .
وعلى أنها تنقذ العبد من القتل في الدنيا ، إن لم يترك الصلاة .
وعلى أنها من أحسن الكلمات .
وعلى أنها عظيمة ، دمرت الأرض من أجل لا إله إلا الله خمس مرات .
الموقف الثالث : الصحابة يبحثون عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
يقول أبو هريرة : جلسنا في مجلس ، ثم بحثنا عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلم نجده .
فهم معه كل أمسية ، فبحثوا عنه ، فلم يجدوه ، فانطلقوا يبحثون .
قالوا : يا أبو هريرة ، أنت عليك بمزرعة فلان ، وعمر هنا ، وأبو بكر هناك ، وكل في مكان .
أبو هريرة وفق في البحث ، فهو الذي وجده ( صلى الله عليه وسلم ) ، وجده أين ؟
وجده في مزرعة أحد الأنصار ، أتى إلى الباب ، فسأل ، فقالوا : الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وسط المزرعة .
تخيل أنت بنفسك أن تذهب إلى مزرعة ، وتفاجأ بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، ليس زعيماً ، بل سيد الزعماء ، وليس عالماً ، بل سيد العلماء ، فدخل ، فقال أبو هريرة : فتحفزت ( أبو هريرة : دعوب ، خفيف الدم ، دوسي ، زهراني ، من أهل الجبال ) قال : فتحفزت ، وجمعت ثيابي ، ثم دخلت ( وفي بعض الروايات كما يتخفز الثعلب ) .
فدخل ، فإذا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يراه قال : ( من أين أتيت يا أبا هر ) ؟ ( مداعبة لطيفة ، رواية الإسلام يقول له الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا أبا هر ) لأنه كان له هرة يلعب بها فسماه أهله أبا هريرة ) .
قال : يا رسول الله ، فقدناك فأتينا نلتمسك .
قال : ( يا أبو هريرة عد إلى الناس وأخبرهم أن من شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة ، وهذا حذائي تصدق به ما تقول ) ( يعني : هذا علامة الصدق ) ، فأخذ الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الحذاء ، وأعطاه أبا هريرة (1).
فخرج أبو هريرة فرحاً مسروراً بهذا الخبر العجيب ، ولأنه سوف يكون مبشراً للناس أجمعين ، ثم تحفز والحذاء معه ، فخرج ، فلما خرج في الطريق لقيه عمر ، الله أكبر ، عمر واقف أمامه .
قال : من أين أتيت ، يا أبا هريرة ؟
قال : وجدت الرسول ( صلى الله عليه وسلم )في هذه المزرعة ، وقد قال لي أخبر من لقيته أن من شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة وهذا حذاؤه علامة ذلك .
فأخذه عمر بيده وضربه في صدره .
قال : فخررت على قفاي ( يعني على مؤخرتي ) .
قال : عد إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إني أخشى أن يتكل الناس .
فدخل أبو هريرة بالحذاء ، ودخل على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ووراءه حصن الإسلام : عمر .
لو كان غير عمر ما عاد ، لكن عمر الذي أخرج عفاريت الجن والشياطين من رؤوس بعض الناس .
أنا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانياً(/47)
فعاد أبو هريرة يبكي عند الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : ( ما لك ؟ ) .
قال : ضربني عمر ، يا رسول الله .
قال : ( ما له ) ؟
قال : يقول لا أخبر الناس .
وما هي إلا لحظات ، وقد وقف عمر عند الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ما لك ضربته ) ؟
قال : يا رسول الله ، أخشى أن يخبر الناس فيتكلوا ، دعهم يعملوا ، يا رسول الله .
فتبسم ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( دعهم يعملوا ) .
فأقره لأنه ذكي ، فإن لم تكن العبقرية هكذا ، وإلا ما كانت .
وفي هذا الموقف أمور :
أولاً : مكانة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في قلوب الصحابة .
ثانياً : حرص أبي هريرة على الحديث .
ثالثاً : موقف عمر القوي ، والذي جعله يراجع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيصدق فيه قول الشاعر :
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد محاسنه بألف شفيع
ولذلك يقول ابن تيمية : موسى لما أخذ الألواح ، فيها كلام الله ، والله كتبها بيده ، وأتى إلى بني إسرائيل ، غضب على أخيه ، وألقى الألواح ، كما في سورة الأعراف ، وجر أخاه ، وهو نبي مثله ، ومع ذلك سامحه الله ، بينما المنافق لا يسمح له بنقطة ؛ لأنه عدو .
ولذلك يقال للأستاذ : إذا علمت الطالب مجداً ، مثابراً ن متقياً ذكياً، متوقداً، وأخطأ مرة ، فينبغي أن تقول : عفا الله عنك .
لكن طالباً إذا حضر في الفصل نام ، ككيس الفحم ، وإن غاب فشارد ، فلا واجب ، ولا مذاكرة ، ولا التزام ، فهذا أكثر من التشديد عليه ، فهو الأولى في معالجته وأمثاله .
الموقف الرابع : وفد عبد القيس
وفد عبد القيس هؤلاء من البحرين ، أتوا إلى المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكانت الوفود إذا أتت إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) تضع في أذهانها ، أنها سوف تتكلم مع رسول الله ونبي الله وصفوة الناس من خلقه ، فتهيأ ثمانية منهم ( والعجيب أنهم اختلفوا في عددهم قالوا : أربعة عشر ، أو ثمانية ، أو أربعين ، أورد ذلك ابن حجر ) لبسوا ، وتهيأوا ، ومشوا من الأحساء حتى وصلوا إلى المدينة ، ونزلوا حول المدينة ، فقال لهم أشج عبد القيس : انتظروا ، والبسوا ، وتطيبوا ، واغتسلوا ثم أدخلوا على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ).
قالوا له : ندخل عليه الآن .
فأتى بقية الوفد ، ومكث أشج عبد القيس وحده ، فدخلوا بغبار السفر ، وشعث السفر ، وعدم ترتيب السفر .
وأما أشج عبد القيس ، فخرج إلى نخلة هناك ، واغتسل ، ثم لبس ثيابه ، ثم تعمم ، ثم تطيب ، ثم أخذ عصاه بيده ، ثم أتى ، ودخل المسجد ، والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) جالس مع الناس والوفد قد سبقه ، فأخذ يلمحه ( صلى الله عليه وسلم ) خطوة خطَوة ، فتقدم الأشج فجلس .
فالتفت إليهم ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ( من الوفد ) ؟ الوفود كثيرة ، والمدينة أصبحت في حالة انتظار للوفود فهو عام الوفود ، وفد يستقبل وفد ، ويودع وفد ، يأتي وفد ، ويذهب وفود .
قال : ( من الوفد ؟ )
قالوا : ربيعة ( نحن من قبائل ربيعة ) .
قال : ( مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى ) .
ثم التفت إلى أشج عبد القيس ، وقال : ( إن فيك خصلتين يحبهما الله : الحلم والأناة ) .
علم ذلك لأنه أتى بهدوء لابساً متجملاً ، ثم جلس ، ثم سأل سؤال العاقل .
قال : يا رسول الله ، أخلقان جبلني الله عليهما أم تحليت بهما ؟
قال : ( بل جبلك الله عليهما ) .
قال : الحمد لله الذي جبلني على خلق يحبه الله ورسوله .
ثم قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : ( آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع : آمركم بالإيمان بالله وحده ، أتدرون ما الإيمان بالله ) ؟
قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : ( شهادة ألا إله إلا الله وأن تقيموا الصلاة وتؤدوا خمس ما غنمتم .
وأنهاكم عن الدباء والنقير ( وفي لفظ المقير ) والمزفت )
ثم قال : ( أخبروا بها من وراءكم )(1) .
والنقير : هو الجذع الذي ينقر ، ويوضع فيه التمر ، والشعير ، فيصبح خمراً .
والمزفت الجرار الخضر ، تطلى بالزيت ، بالقطران ، ويوضع فيها الشعير ، والتمر ثم تصبح خمراً .
قالوا : وما أدراك يا رسول الله ؟
فقال : ( بل تنقرون جذوع النخل ، أو جذوع الشجر ، وتضعون فيه التمر ، والماء ثم يشربه أحكم فربما عدا على ابن أخيه بالسيف وضربه ) .
قال : وفينا رجل عدا على ابن أخيه بالسيف فضربه في رأسه فأخذ هذا الرجل يخفي الضربة في رأسه بالعمامة .
هذا وفد عبد القيس ، واستقباله في المدينة ، وكانوا من أحسن الوفود .
الموقف الخامس : أبو هريرة يكلم الشيطان
الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يجمع الحب ، الذي يجمع من الصدقة ، والتمر ، والرطب ، يجمعه في جرين ( حوش ) ويجعل له حارساً ، فجعل أبا هريرة يحرس هذا المال .(/48)
قال أبو هريرة : فأتيت أول ليلة أحرس في ظل القمر ، فأتى شيخ كبير ( الشيطان عليه لعنة الله ) ، فأقبل على عصا ، ومعه كيس ، فتكلم مع أبو هريرة ، فقال : أريد من مال الله ، أنا ذو عيال ، وأنا شيخ ( وفي لفظ البخاري أنه حثا دون استئذان ) فقبضه أبو هريرة ، وقال : والله لأرفعنك إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال : اتركني ( وشكا العيال وشكا الحاجة ) فأطلقه .
وفي الليلة الثانية أتى ، وأخذ يحثو من التمر ، فقبض عليه ثم تركه .
وفي الليلة الثالثة قال أبو هريرة : والله لأرفعنك إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال : يا أبو هريرة ، أخبرك بشيء إذا قلته في ليلة لا يقربك الشيطان .
قال : ما هو ؟
قال : آية الكرسي ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (البقرة: من الآية255) سبحان الله ! فأخذها أبو هريرة ، وذهب إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : يا رسول الله أتاني رجل كيت وكيت وكيت .
فتبسم ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( تدري من تكلم من ثلاث يا أبا هريرة ) .
قال : لا .
قال : ( ذاك الشيطان ، أما إنه صدقك وهو كذوب )(1).
صدقك مرة ، ولكن كل مرة كذب ، إلا هذه المرة .
وفي الحديث قضايا :
أولها : المسلم لا يأنف من الفائدة ، والحكمة ضالة المؤمن ، يأخذها أنى وجدها ، يأخذها من الكافر ، ومن غيره ما دامت فائدة ؛ لأن لشيطان علم أبا هريرة آية الكرسي ، فما قال : لا آخذها لأنها من الشيطان .
ثانيها : أن الشيطان يتمثل بما يمثله الله فيه .
ثالثها : فضل آية الكرسي ، وأنها تقال عند النوم ، وأن من قالها لا يقربه شيطان بإذن الله .
الموقف السادس : مناظرة بين الصديق والفاروق
مات ( صلى الله عليه وسلم ) فانقسم الناس إلى مؤمنين صادقين ، وإلى منكرين للزكاة ، وإلى مرتدين عن الإسلام .
المرتدون بالإجماع يقتلون ، أما تارك الزكاة فاختلف الصحابة فيه ، فقد وقف أبو بكر على المنبر ، فحلف، وأقسم ليقاتلن تارك الزكاة ، فقام عمر في المسجد ، وقال : يا أبا بكر ، كيف تقاتل الناس ، وقد سمعنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا إلا إله إلا وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم )(2) .
وهذا حوار بعد صلاة الجمعة ، بين لشيخين ، العظيمين ، الجليلين ، بين الشيخ الأول أبي بكر ، وبين عمر بن الخطاب الفاروق ، والناس ساكتون ، وفي الناس : علماء ، وشهداء ، وصادقون ، وبررة ، فسكتوا .
أبو بكر يقول نقاتلهم .
وعمر ، يحتج عليه في الحديث ، ويقول : هم يشهدون أن لا إله إلا الله .
فرفع أبو بكر صوته ، وقال : والله ، الذي لا إله إلا هو ، لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والذي نفسي بيده لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لقاتلتهم عليه بالسيف .
فأجمع الصحابة مع أبي بكر .
قال عمر : فلما رأيت الله شرح صدر أبي بكر لقتالهم سكت .
أبو بكر مصدق ، أبو بكر رجل ملهم يلهمه الله ، أبو بكر أفضل من جميع الجالسين في المسجد ، هو في كفة وهم في كفة .
قال ابن حجر : لماذا لم يستدل أبو بكر على عمر بحديث في الصحيحين ) عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله )(1) أليس هذا دليل صريح ؟
فلا الشيخ أبو بكر تذكره ولا الشيخ عمره تذكره .
والجواب : أن يقال نسي أبو بكر الحديث، نسي عمر، ولا يلزم في المجتهد أن يحفظ كل دليل في المسألة .
والجواب الثاني : قالوا : لا ، ما نسيا لكن ، ما سمعا بالحديث من أصله ، فهو من رواية ابن عمر ، فلا سمع به أبو بكر ولا عمر ، وإنما سمع به ابن عمر .
ولكن ، لماذا لم يتكلم ابن عمر ، وهو حاضر في المسجد ؟.
الجواب : قيل : يمكن أنه كان يتذكر لكن استحيا من تلاطم البحران في المسجد ، فأبو بكر : صديق الإسلام ، وعمر : فاروق الإسلام ، فهل يتدخل بينهما ؟
وقيل : يمكن أنه نسي ، حتى هو ، وما رواه إلا فيما بعد ، فالله أعلم .
إنما وقعت هذه المسالة وكان الحق مع أبي بكر ، وهو مصدق بهذا الحديث .
فقاتل المتمردين .
وفي الحديث أمور :
أولها : جلالة أبي بكر الصديق .
الأمر الثاني : أن المجتهد قد يخفى عليه بعض الأمور ، ولا يلزم من العالم أن يحفظ كل جزئية .
الأمر الثالث : أن الحكم شورى ، ومن عنده كلمة ، أو دليل فليتحدث به .
الأمر الرابع : أن القياس يؤخذ به إذا خفي النص ، وقد أخذ به أبو بكر .
الأمر الخامس : أن الله شرح صدر أبي بكر لقتال المرتدين .
الموقف السابع : الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يعاتب أبا ذر(/49)
اجتمع الصحابة في مجلس ، لك يكن معهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، فجلس خالد بن الوليد ، وجلس ابن عوف ، وجلس بلال ، وجلس أبو ذر ، وكان أبو ذر فيه حدة وحرارة .
فتكلم الناس في موضوع ما ، فتكلم أبو ذر بكلمة اقتراح : أنا أقترح في الجيش أن يفعل به كذا وكذا .
قال بلال : لا هذا الاقتراح خطأ .
فقال أبو ذر : حتى أنت يا ابن السوداء تخطئني .
لا إله إلا الله ! أين أنت ؟
فقام بلال مدهوشاً ، مرعوباً ، غضبان أسفاً ، وقال : والله لأرفعنك إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) (أكبر هيئة ) فاندفع بلال ماضياً إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
ومن هو بلال ؟ إنه روح الإسلام منادي السماء .
فاستفاقت على أذان جديد ملؤ آذانها أذان بلال
بلال : الصوت الحبيب إلى القلوب .
بلال : الذي سحب على الرمل ، وهو يقول أحد .. أحد .
وصل للرسول ( صلى الله عليه وسلم )، وقال : يا رسول الله ، أما سمعت أبا ذر ماذا يقول في ؟
قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ماذا يقول فيك ؟ )
قال : يقول كيت وكيت وكيت .
فتغير وجه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأتى أبو ذر ، وقد سمع بالخبر ، فاندفع مسرعاً إلى المسجد فقال : يا رسول الله ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
فغضب ( صلى الله عليه وسلم ) حتى قيل : ما ندري أرد أم لا ؟
قال : ( يا أبا ذر أعيرته بأمه ، إنك امرؤ فيك جاهلية )(1) .
هذه الكلمة ، كأنها صاعقة على أبي ذر .
فبكى أبو ذر ، وأتى إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، وجلس ، وقال : يا رسول الله ، استغفر لي ، سل الله لي المغفرة .
ثم خرج أبو ذر من المسجد باكياً .
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكمو ألم
ذهب ، فطرح رأسه في طريق بلال ، وأقبل بلال ، العبد ، الذي ما كانت تقيم له الجاهلية قيمة بالتميز العنصري ، الذي سحقه الإسلام .
يقول عمر : أبو بكر سيدنا ، وأعتق سيدنا ـ أي : بلالاً ـ .
أتى أبو ذر فطرح خده على التراب ، وقال : والله يا بلال لا أرفع خذي عن التراب حتى تطأه برجلك ، أنت الكريم وأنا المهان .
رفع الله منزلتك يا أبا ذر إلى هذا الحد .
إنه تأديب الإسلام ، وحياة القرآن ( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لأنفال:63) .
فأخذ بلال يبكي من هذا الموقف ، من الذي يستطيع أن يقف هذا الموقف ، ولا ينقطع قلبه ؟
إن بعضنا يسيء للبعض في اليوم عشرات المرات ، فلا يقول عفواً ، يا أخي ، أو سامحنا .
إن بعضنا يجرح بعضاً جرحاً عظيماً ن في عقيدته ، ومبادئه ، وأغلى شيء في حياته ولا يقول: سامحني .
إن البعض قد يتعدى بيده على زميله ، وأخيه ، ولا يقول : عفواً ، يا أخي .
قال : والله لا أرفع خدي ، حتى تطأه بقدمك ، فبكى بلال ، واقترب ، وقبل ذاك الخد لا يصلح للقدم بل يصلح للقبلة .
ذاك الخد ، أكرم عند الله ، من أن يضع عليه القدم ؟
ثم قاما وتعانقا ونباكيا .
إذا اقتتلت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها
هذه هي حياتهم ، يوم تعاملوا مع الإسلام .
( أعيرته بأمه ، إنك امرؤ فيك جاهلية ) فليس عندنا معامل ألوان ، ولا عندنا أبيض ، ولا أحمر ، ولا أسود ، ولا من آل فلان ، أو من آل فلان .. لا عندنا تقوى ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: من الآية13) ، لذلك إذا رأيت إنساناً يمتدح بآبائه وأجداده وهو صفر فاعرف أنه لا قيمة له عند الله .
إذا فخرت بآبائهم لهم شرف نعم صدقت ولكن بئس ما ولدوا
طرق طارق على عمر ، قال : من ؟
قال : أنا الكريم ابن الكريم ابن الكريم .
تدرون من هو هذا الرجل ؟ إنه عيينة بن حصن بن بدر ، وهو : صادق ، فأسرة بنو بدر ، هؤلاء أسرة من أربع أسر ، من أكبر أسر العرب ، فحاتم الطائي على كرمه كان يمدحهم ويقول : هم أكرم مني .
يقول حاتم لامرأته لما تغاضبا :
إن كنت كارهة معيشتنا هذا فحلي من بني بدر
الضاربون في كل معترك والطاعنون وخيلهم تجري
فأسرة بني بدر من أعظم الأسر .
فقال عمر : بل أنت الأخس ، ابن الأخس ، ابن الأخس الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم .
وفي موقف أبي ذر ، وبلال دروس :
منها : الإعتذار من الأخ إذا سألت إليه بالهدية ، والبسمة الحانية ، والمعانقة ، وألا تحمل ضغينة على أخيك .
فأنا وإياكم نشجب كل هذا العداء ، والبغضاء بين الأحبة ، والتفلت على أوامر الله ، والضغينة من أجل أمور نسبية ، يختلف فيها الناس ، وقد تختلف فيها وجهات النظر .
ألا إن من يفعل ذلك ، أو يحمل على أخيه المسلم ، فقد أساء وظلم .
ومنها : أن الفضل في الإسلام للتقوى ، لا للون ، ولا للحسب والنسب .
الموقف الثامن : مواقف لأبي بن كعب(/50)
أبي بن كعب كان أبيض الجسم ، أبيض اللحية ، أبيض الرأي ، أبيض القلب ، أبيض المصحف ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) (النور: من الآية35) ، لماذا ابيضت لحيته ، وابيض رأيه ، وابيض جسمه ؟
قيل : أصابته الحمى ثلاثين سنة ، وكان قد قال : يا رسول الله ن أيخفف عنا بما نصاب به ؟
قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : ( والذي نفسي بيده يا أبا المنذر لا تصاب بمرض أو هم أو غم إلا كان كفارة أو حط الله بها من سيئاتك ) .
فراح إلى بيته ، وسأل الله حمى ، لا تعطله ‘ن صلاة ، ولا عن جهاد ، ولا عن غزوة ، فأصابته الحمى ، حتى يقولون ، ما يقترب منه إنسان إلا وكان يجد منه حرارة ، رضي الله عنه ، يا سيد القراء .
قال الذهبي في ( السير ) : أكسبته الحمى قوة ، لذلك ما كان يوافق عمر إلا أبي ، فكل الصحابة يحجمون عند عمر ، إلا أبي .
وله مواقف رضي الله عنه :
الموقف الأول : أتى جبريل بسورة البينة من عند الله ، عز وجل ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (البينة:1) .
فقال جبريل : يا رسول الله ، إن الله يأمرك أن تقرأ هذه السورة على أبي بن كعب .
فقام ( صلى الله عليه وسلم ) فطرق على أبي ، ففتح الباب : يا رسول الله ، أهلاً وسهلاً ما أسعدني هذا اليوم .
قال : ( إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة ) .
قال : وسماني في الملأ الأعلى ؟
قال : ( نعم ، سماك ) .
فبكى أبي ، وجلس ( صلى الله عليه وسلم ) يقرأ عليه البينة حتى ختمها . متفق عليه .
ولذلك يسأل أهل الحديث بطرافة ، يقولون : من شيخ الرسول ( صلى الله عليه وسلم )في القراءة .
قالوا : هو : أبي بن كعب .
حياك الله يا أبي ورفع الله منزلتك ، وأكرمك الله ، يا سيد القراء .
الموقف الثاني : أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) تجاوز آية في الصلاة ، فما رد عليه الناس ، فلما سلم قال له أحد الصحابة : يا رسول الله ، إنك تجاوزت آية في الصلاة أنسيتها أم نسخت ؟ فترك الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الناس جميعاً ، وقال : ( يا أبا المنذر ( يعني أبياً ) أكما يقول الناس ؟ )
قال نعم : ، ( أعطوا القوس باريها ) .
ولذلك قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أقرؤكم أبي ) .
الموقف الثالث : يأتي ( صلى الله عليه وسلم ) فيقول : ( يا أبا المنذر أي آية في كتاب الله أعظم ) ؟
قال : الله ورسوله أعلم .
قال : ( أي آية في كتاب الله أعظم ) ؟
قال : ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ )(البقرة: من الآية255) .
فأخذ ( صلى الله عليه وسلم ) كفه ، وضرب به صدر أبي ، وقال : ( لهينك العلم أبا المنذر )(1) .
ليهنك الذكاء في كتاب الله ، فهو سيد القراء ، ونحبه كثيراً حتى يقول أحد أهل العراق : وفدت المدينة وإذا عمر جالس في مجمع من الناس من الصحابة ، وحوله شيخ أبيض اللحية ، أبيض الرأس ، أبيض الثياب ، أبيض الجسم ، وكان عمر إذا تكلم نظر إليه كالمهاب ـ أي : يهابه ـ قلت : يا أمير المؤمنين ، من هذا الرجل ؟
قال : ثكلتك أمك ، ما عرفته ؟
قال : لا .
قال : هذا سيد المسلمين : أبي بن كعب ، أبو المنذر ، رفع الله منزلته ، وجمعنا به في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
الموقف التاسع : صوت جميل من أبي محذورة
أنشد بعضهم :
أما ورب الكعبة المعمور والنغمات من أبي محذور
وما تلا محمد من سوره لأفعلن فعلة منكور (1)
ما أحسن الأبيات ، فأبو محذورة هذا : كان من أحسن الناس صوتاً ، خرج من مكة ، والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) خرج من المدينة يريد غزوة ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو محذورة ، عنده : غنم ، وكان مشركاً مع صبية من المشركين ، وأطفال من أطفال قريش .
فنزل ( صلى الله عليه وسلم ) في وادي ، وأبو محذورة وزملاؤه في وادٍ أخر .
فأتت صلاة الظهر ، فقام بلال يؤذن لصلاة الظهر .
فقام أبو محذورة يستهزئ بأذان بلال وراء الجبال .
يؤذن بلال ، فيقول : الله أكبر .
فيقول أبو محذورة : الله أكبر .
بلال يؤذن في المسلمين ، وذلك يؤذن في غنمه .
فطلب ( صلى الله عليه وسلم ) من علي والزبير أن يأتيا بصاحب الصوت ، فانطلقا من وراء الجبل ، وطوقاه وأتوا بهم إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من أذن منكم آنفاً ) .
فخجلوا .
قال : ( أذنوا ) .
فأذن الأول ، فإذا صوته ليس الصوت الجميل .
وأذن الثاني ، فكذلك .
وأذن الثالث ، فإذا هو أبو محذورة .
قال : ( أنت من أذن آنفاً ) .
قال : نعم .
فتقدم ( صلى الله عليه وسلم ) بيده الشريفة ، فخلع عمامة أبي محذورة ثم قال : ( اللهم بارك فيه واهده إلى الإسلام ـ فمسح رأسه ـ اللهم بارك فيه وأهده إلى الإسلام ).
فقال أبو محذورة : أشهد أن لا إله إلا الله ,انك رسول الله .
قال : ( أذهب مؤذناً في أهل مكة ، أنت مؤذن أهل مكة )(2) .
فذهب يؤذن .(/51)
قال أبو محذورة : والله لا أحلق هذا الشعر حتى أموت .
شعر مسه ذاك الكف ، والله ، لا أحلقه حتى أموت ، فوصل شعره إلى نصف جسمه ، ولذلك كان يرده جدائل .
عليك السلام ، يا رسول الله ، ورضي الله عنك ، يا أبا محذورة .
عاد مؤذناً في وظيفة شرعية ، بقيت في ذريته ، قيل : ما يقارب ثلاثمائة سنة .
أبو محذورة في حياته دروس .
أولاً : الهداية من الله .
الثاني : جمال الصوت .
الثالث : بركة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتلك الكف .
الرابع : أن آثاره مباركة ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأنه يتبرك بها ، وليس ذلك لأحد غيره .
هذه حفظكم الله ( مواقف ساخنة ) مع ذاك الجيل الذي أسأل الله أن يجمعنا ، وإياهم في جنته ، بعد عمر ، في طاعته .
وصلى الله على محمد ، وعلى آله ، وصحبه ، وسلم تسليماً كثيراً .
أخطاء
هذه مجموعة من الأخطاء ، التي يقع فيها الناس في زماننا ، ذكرتها متتالية ، وعقبت عليها بالحكم الشرعي لها ، محبة مني في أن يجتنبها إخواني المسلمون ، لكي تصفوا عقائدهم ، ويستقيم إيمانهم ، فإليكم إياها متتالية :
منها : أخطاء في الزيارة ، وعدم التقيد بما ذكر الله في كتابه ، وبما سنه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في الزيارة ، بل أصبح في نظام الزيارة عشوائية ، وكدر على الزائر والمزور ، والله ذكر الزيارة في سورة النور ، وبين الأوقات التي تكره فيها الزيارة ( ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ) (النور: من الآية58) فهذه الأوقات محظورة الزيارة فيها ، وهذه الأوقات ، هي : وقت استجمام وراحة ، وهي أوقات خاصة للمسلم مع أهله في بيته ، وليس من الحكمة أن تزوره قبل الفجر .
أسمعت غبياً أو أحمق يطرق عليك قبل الفجر ؟ فتفتح له : ماذا تريد ؟ قال : عندي مسألة ، أو أريد أن أتحدث معك ، يا له من حديث ما أسوده !! من وقت ما أعكره !! أهذا وقت ؟
وبعد صلاة الظهر ( وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) (النور: من الآية58) انظر إلى تعبير القرآن ، حين تأتون من الأعمال منهكين ، عليكم من الكلال والمشقة ما الله به عليم ، فتضعون الثياب ، وترتاحون قيلولة فيطرق الطارق ليبحث في مسألة ، وكم يتعرض الإنسان لمثل هذا الأمر ؟ .
ونحن نتقيد بالكتاب والسنة في جميع أمورنا ، واتصالنا ، وجلوسنا ، وصلاتنا ، وتؤخذ كلها من مشكاة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
فبعد الظهر ، لا زيارة إلا أن تكون هناك وليمة ، أو عزيمة ، أو دعوة ، أو جدول عملي مرتب فلا بأس بها .
( وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ) (النور: من الآية58) وهذا لا يزار فيه ، وإنه لوقت أذهبه كثير من الناس في السهر المضني ، والضياع ، وعدم التحصيل ، والسهر الذي فوت على الكثير منهم صلاة الفجر .
وإني أدعو إخواني إلى أن يكون وقت زيارتهم من بين صلاة المغرب إلى صلاة العشاء ، وهو وقت مستهلك ، وبسيط ، وسهل على الزائر والمزور .
وبعض الناس إذا زار أثقل في الزيارة ، يزور بعد العصر ، ولا يخرج إلا في آخر الليل .
رأى الشافعي رجلاً زاره ، وكان ثقيلاً ، فقال الشافعي : ( رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ)(الدخان:12) وكان الأعمش يقول : إني لأسمع بالثقيل ، فتتمايل بي الأرض ، أي أظن أن الأرض تكاد أن تخسف من جهته .
وقال ابن الرومي في زائر زاره :
أنت يا هذا ثقيل وثقيل وثقيَل أنت في المنظر إنسان وفي المخبر فيل
ونحن نقول لإخواننا : أنتم مسلمون ، وموحدون وأحباب ، وعلى المقل ، وطأوا على شغاف القلب ، لكن في أوقات يرتاح فيها العبد ليأتي إليكم بصفاء ذهن .
لأن العبد ، وخاصة من يتلقى أمور الناس ، كالأئمة ، والخطباء ، والقضاة ، والمشايخ ، والمسؤولين ، وأعيان الناس ، دائماً عليهم من المشاكل ما الله به عليم ، فإذا بقى في وقت راحته مشغولاً من الناس فلن يجد وقت راحة .
ومنها : الحلف بغير الله وهو متفش كثيراً في بعض الأماكن ،كأن يقول ( وحياتك ) ( وشرفي ) (ونجاحي) فمن فعل ذلك ، فقد باع حظه من الله ، وقد أشرك ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( من كان حالفاً فليحلف بالله أو لبصمت )(1) وقال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم )(2) ، فلا يحلف أحد بغير الله الواحد الأحد .
فهو سبحانه العظيم ؛ لأن الحلف تعظيم ، قال ابن مسعود فيما صح عنه : ( لأن الحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً ) ؛ لأن الحلف بالله كاذباً معصية ، والحلف بغيره صادقاً شرك ، والشرك أكبر من المعاصي ، وأكبر الكبائر ، فاستعيذوا بالله من الشرك ظاهراً وباطناً .
وهذا من عدم توقير الله في قلوبهم ، ومن التعدي على حرمات الله وشعائر الله ، ولا يعظم حرمات الله إلا متقي ولا يعظم شعائر الله إلا من في قلبه تقوى . فالواجب على العبد أن يقدر ما في هذا الكلام .(/52)
ومنها : الحلف بالطلاق ؛ وهو منتشر ، وقد عظم بعض الناس هنا اليمين به على اليمين بالله بل جعلوه في الولائم ، والمناسبات ، والحضر ، والمنع ، والطلب ، وفي الأمور النسبية والعلاقات فيما بينهم أعظم من الحلف بالله ، بل أحدهم لا يجيب طلبه لأخيه إلا إذا حلف له بالطلاق !
وهذا عند بعض العلماء أنه أقسم بغير الله ، وأشرك ، وعند بعضهم أنه حلف ، وانعقد به الطلاق ، وعند بعضهم أصبح يميناً يقوم به الكفارة . ولسنا نحن في تفصيل الطلاق هنا ، لكن في التحذير من الحلف بالطلاق ، وعدم استخدامه على اللسان ، وما يفعل ذلك إلا من عدم الفقه في الدين ، أو صغرت معلوماته ، بهذه المسألة الضخمة التي استخدمها كثير من الناس .
ومنها : قولهم ( انتقل إلى مثواه الأخير ) يموت ميت فيقولون : انتقل إلى مثواه الأخير ، وهذه الكلمة ، فيما أعلم ، كلمة لبعض الزنادقة من زنادقة المتصوفة ، بل زنادقة الفلاسفة ، الذين كانوا يقولون : القبر هو آخر مثوى ، وهي من الأقوال التي نسبت لابن سينا ، الضال ، الذي هو محسوب علينا ، ومحسوب على بعض المسلمين ، وليس محسوباً على علماء المسلمين ، والله يتولى أمره ، وقد تعرض له ابن تيمية فقصم ظهره في أكثر من موطن .
بل قال مسائل كفره بها الغزالي في ( تهافت الفلاسفة ) ، وقال عنه ابن تيمية في بعض المسائل : إن كان صح عنه ما يقول ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .
فقولهم : ( انتقل إلى مثواه الأخير ) أخذها بعض الصحفيين تقليداً فقالوا : إن فلاناً انتقل إلى مثواه الأخير .
والقبر ليس مثوى أخير ، بل المثوى الأخير ، هو : الجنة أو النار ، ( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (الشورى: من الآية7) ومقصود الزنادقة : أن يقولوا : لا حياة بعد القبر كما قال عمر الخيام :
فما أطال النوم عمراً ومتا قصر في الأعمار طول السهر
لبست ثوب العمر لم أستشر وطفت فيه بين شتى الصور
ثم يذكر في القصيدة : أن القبر آخر مستقر ، وكذب عدو الله ، ليس القبر آخر مستقر ، فبعد القبر حياة ، إما في الجنة ، ,إما في النار ، وبعد القبر : جنة عرضها السماوات والأرض ، أو نار تلظى ، وبعد القبر حساب ، وصراط وميزان ، وتطاير صحف ، وأنبياء ، وشفاعة ، وملائكة ، وبعد القبر : يوم يشيب له الولدان .
فليعلم أن هذه الكلمة خاطئة .
ومنها : قولهم في المناسبات ( فلان غني عن التعريف ) فإذا قدموا لشيخ ، أو داعية ، أو محاضر ، أو مسؤول ، قالوا : فلان علم غني عن العريف .
وهذه كلمة خطأ ، فالغني عن التعريف ، هو : الله ، وهو الذي عرف نفسه بنفسه ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (الأنعام:1) ، ( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (فاطر:1) ، فالغني عن التعريف ، هو : الله عرف نفسه لموسى ، فقال : يا موسى ( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (طه:14) ، ( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) (مريم: من الآية65) .
وفي كل شيء له آيه تدل على أنه واحد
فيا عجباً كيف يعصي الإله وكيف يجحده الجاحد
وما منا من أحد ، إلا ويحتاج إلى تعريف ، ملكاً كان ، أو أميراً أو وزيراً ، أو عالماً ، أو موظفاً ، أو مسؤولاً ، هو : لابد أن يعرف .
وفي حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن وفد عبد القيس قدموا على الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال : ( من القوم ؟ ) أو : ( من الوفد ؟ ) قالوا : من مضر . قال : ( مرحباً بالقوم ـ أو بالوفد غير خزايا ولا ندامى ) ؟(1) ؟
وفي صحيح البخاري عن جابر قال : استأذنت على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( من ؟)
قلت : أنا .
قال : ( أنا ..أنا ) . كأنه كرهه(2) .
قل من أنت ( لأن أنا ) مجهول ، فكل أحد يقول : أنا لكن سم اسمك .
ولما كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع جبريل في ليلة المعراج ، طرق باب السماء فقالوا : ( من ؟ قال : جبريل .
قالوا : ومن معك (1) ؟
قال : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
قالوا : مرحباً بك وبمن معك ) .
وطرق أبو ذر على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من ؟) .
قال : أبو ذر .
فكلنا محتاج إلى تعريف .
قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (الحجرات: من الآية13) .
ومن الأدب في الإسلام : أنك إذا نزل بك ضيف ، أو وفد : أن تسألهم عن أسمائهم ، ولا تبقى معهم أبكم أصم أعمى .
قال الأسدي :
أحادث ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب(/53)
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب
يقول أنا من صفتي أن أحادث ضيفي ، وهو على الراحلة ، فكيف إذا نزل ؟ ولذلك من أدب الضيافة أن تحدثه وتؤانسه ، قال الله لما كلم موسى ( وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى) (طه:17) وهي من المحادثة والأنس ، فالله يعلم أنها عصا ، فهو الذي خلقها ـ سبحانه وتعالى ـ ويعلم بموسى وفرعون والعصا ، ولكنه تعالى يريد مؤانسة موسى لئلا يخاف .
ومنها : وقد سمعتها من بعض الناس في دعائهم قولهم : ( الله لا ينسانا ولا يقصانا ) وهل الله ينسى؟ ( فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى) (طه: من الآية52) .
نعم ورد في القرآن : ( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه:126) ، ( فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ) (لأعراف: من الآية51) ، والنسيان هنا عند العرب في لغتهم بمعنى الترك يعني : تركهم ، لا أنه نسيهم ، وغفل عنهم . فقول القائل : الله لا ينسانا ليس بصحيح، أو : ربي لا تنساني .
سبحان الله ! خلقك ، وصيرك ، وأحياك ، وأماتك ، ورزقك ، ثم ينساك ، جل الله عن النسيان .
والنسيان صفة نقص ، لا تنسب له ، سبحانه وتعالى ، لا تقييداً ولا إطلاقاً ، وتنفي عنه ، فهو لا ينسى ، تبارك وتعالى ، ولا ينام ، ولا يسهو ، ولا تأخذه سنة ، ولا يحتاج إلى الطعام ، لا يطعم ، سبحانه وتعالى ، وهو يطعم .
وابن تيمه يذكر في كتابه ( درء تعارض النقل والعقل ) وغيره أن الصفات عند أهل السنة على أربعة أقسام :
1- صفات نثبتها مطلقاً لله .
2- وصفات ننفيها عن الله مطلقاً .
3- وصفات نثبتها مقيدة .
4- وفات نستفصل فيها .
فأما الصفات التي نثبتها لله : فهي الصفات ، التي أثبتها الله لنفسه، وأثبتها له رسوله ( صلى الله عليه وسلم) وهي صفات كمال مطلقة ، مثل الحكيم ، العليم ، الواحد ، الأحد ، وأمثالها فهذه نثبتها لله مطلقاً .
وأما الصفات التي ننفيها مطلقاً : فهي ما نفاها ـ سبحانه وتعالى ـ عن نفسه ، وما نفاها عنه رسوله (صلى الله عليه وسلم ) مثل : السهو ، والنسيان ، والغفلة ، والنوم ، والحاجة ، والولد ، والصاحب ، فهذه ننفيها مطلقاً .
وأما الصفات التي نثبتها مقيدة : فهي التي ذكرها الله في القرآن مقيدة مثل : ( فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) (التوبة: من الآية79) فنقول : الله يسخر بمن يسخر به ، سخرية تليق ، بجلاله ، مقيدة ، غير مطلقة فلا نقول : هو ساخر .
وكقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ(14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) (البقرة:14- 15) فنقول : يستهزئ الله بمن يستهزئ به ، مقيدة ، لا نثبتها مطلقة .
وكقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ) (لأنفال: من الآية30) فنقول : الله يمكر بمن يمكر به ، مقيدة ، لا أنه يمكر دائماً .
وكقوله سبحانه : ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) (النساء: من الآية142) فالله يخدع من خادعه وليس يخدع مطلقاً ، لكن مقيداً بمن خادعه .
وانظر إلى قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : ( وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ) (لأنفال : من الآية71) ما قال: خانهم ؛ لأن صفة الخيانة: نقص ، سواء أطلقت، أو قيدت ، فلم يأت بها ـ سبحانه وتعالى ـ فليعلم ذلك ، وهذه قاعدة تكتب بماء الذهب ، وبيض الله وجه شيخ الإسلام يوم حررها .
وأما الصفات التي نستفصل عنها : كصفة الجسم ، فنقول للواصف : ماذا تريد بالجسم أو الجوهر أو التميز؟ فإن كان حقاً أقررنا ، وإن كان باطلاً رددناه عليه ، وهكذا كل ما لم يرد في الكتاب والسنة إذا أطلقه أحد على الله ـ تبارك وتعالى .
ومنها : وهي من الألفاظ ، التي انتشرت بين الناس ، خاصة في الصحف ، قولهم : ( المرحوم فلان ، والمغفور له ) ولا يعلم السر إلا الله ، ولا يعلم نتائج الناس إلا الله ، ولا نشهد لأحد بجنة ، أو نار ، إلا من شهد له رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) ، لكننا نسأل الله الجنة للطائعين ، ونثني على الصالحين ، وندعوا لهم ، أما أن نقول : (المرحوم ) فهذا خطأ وما يدريك أهو مرحوم أم لا ؟ فلعله من أهل النار .
والأفضل : أن نقول للمسلم إذا مات : فلان غفر الله له ، فلان رحمه الله ؛ لأن هذا من باب الإنشاء ، لا من باب الخبر ، وأجاز أهل العلم الإنشاء ، ولم يجيزوا الخبر ؛ لأنك إذا قلت : المغفور له تخبر ، والخبر عن الله من علم الغيب .
وأما رحمه الله فهو : من باب الدعاء ، وهو إنشاء ، ويجوز إنشاء ، ولا يجوز خبراً ، فليعلم ذلك .(/54)
ومنها : قولهم : (فلان شهيد ) نحن نرجو لمن مات في سبيل الله ، أن يكون شهيداً ، ولذلك عندما مات عثمان بن مظعون كما في ( صحيح البخاري ) قال الناس : هنيئاً له من أهل الجنة ، غضب رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( أنا ,أنا رسول الله ، والذي نفسي بيده لا أعلم ما يفعل بي )(1) فالعلم عند الله ، لكن نشهد للصالحين كمن يعاود المسجد خمس مرات في اليوم ، والصادق الصالح المنيب ، بار الوالدين ، وصول الرحم ، فهذا نثني عليه ، نحن شهداء الله في أرضه .
ومنها : قولهم ( لقيته صدفة ) وليس في خلق الله صدفة ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49) ، ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد:22)، فكل شيء بقضاء الله وقدره .
قال الحسن البصري لتلاميذه : والله لو ضع يدي هذه اليمنى في اليسرى إنها بقضاء وقدر من الله .
ومن لم يؤمن بالقضاء والقدر ، فقد كفر ، وقال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في أركان الإيمان الستة : ( وأن تؤمن بالقدر خيره وشره )(2) ، وفي الحديث قوله (صلى الله عليه وسلم ) : ( احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، ولا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، أو قدر الله وما شاء فعل )(3) ، ومن أنكر القضاء والقدر فقد كفر .
( فصدفة ) يعني : كأنه ما كان لله سابق علم ، يعني : ما كأن الله قدر أن نلتقي .
بل قل : قدر الله كذا ، وقضى الله بكذا .
ومنها : قولهم ( الإنسانية ) ، و( الأخوة الإنسانية ) فلا يذكرون الأخوة الإسلامية ، لكن الإنسانية ، فيدخل عدو الله في هذه المظلة ، وإذا قلنا الأخوة الإسلامية خرج منها أعداء الله ( أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة: من الآية22) ، ( أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المجادلة: من الآية19) ، ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة:56) ، ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (يونس:63) . وقال ـ سبحانه في سورة المائدة : ( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ) (المائدة: من الآية54) هذه صفات المؤمنين ، فأما أن نقول إنسانية ، فهذه ما سمعنا بها في آبائنا الأولين ، ولا في الكتاب ، ولا في السنة .
معنى ذلك : أن تدخل الملحدين ، والمعرضين ، وتجعلهم إخواناً لك ، لا أعداء .
ومنها : قولهم : ( شاءت الأقدار ) ، إنما أقول هذا ؛ لأنه يشعر بالاستقلالية في الأفعال والصفات ، وكذا لا نقول ( يا رحمة الله ) ولا ( يا غوث الله ) ولا ( يا لطف الله ) ، ولان هذه تشعر بالاستقلالية في الصفة ، بل ننادي الواحد الأحد ( يا الله ) ، يا رحمن ) ، ( يا رحيم ) ، ( يا أحد ) ، ( يا صمد ) ، ( يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ) .
( فشاءت الأقدار ) خطأ إطلاقها ؛ لأن الله هو الذي قدر ، فالأقدار ليست فاعلاً بذاتها .
ومنها : قول السائل في كثير من الأسئلة التي تعرض ( ما رأي الدين ) ، الدين ليس له رأي ( إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (لنجم:4) الدين قال الله ، وقال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، فالدين ليس له رأي .
جاء رجل إلى ابن عمر ، فقال : يا ابن عمر ، أرأيت لو أنني زرت قبل أن أسعى ، أو سعيت قبل أن أطوف ، أرأيت لو فعلت كذا .
قال : اجعل أرأيت في اليمن .
ولذلك سموا فقهاء الأحناف ، أو بعضهم ، لما أكثروا من الرأي ( ارتيائيين ) ، وهذا الرأي ، لا يصيب دائماً ؛ لأنه متقلب ومتذبذب ، بل نعود إلى الكتاب والسنة .
ولذلك أمرنا الله عند التنازع ، أن نعود للكتاب والسنة ، لا إلى رأي أحد من الناس .
ومنها : قولهم ( اللهم اغفر لي إن شئت ) وهذه أفتانا فيها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال فيما صح عنه : ( لا يقل أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ، بل ليعزم المسألة ، فإن الله لا مكره له )(1) . لأن الله يحب الملحاح في الدعاء ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء: من الآية90) .(/55)
ومنها : تقديم بعض الألفاظ قبل السلام ، فإن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال في مسند أحمد عن أبي أمامة : ( أولى المؤمنين بالإيمان بالله من بدأهم بالسلام ) ، والسنة عند المسلمين ، وعند أهل السنة : أن تبدأ بالسلام ، ولا تقدم كلاماً عليه ، كما يفعل بعض الناس ، ولكن لك بعد السلام أن تضيف ما شئت من العبارات التحية .
وقد عقد البخاري في الأدب المفرد (باب ) قول المضيف مرحباً . وقال : هل يقال : ( أهلاً ) فأورد حديث أم هانئ الذي في الصحيحين ) و( السنن ) و( المسانيد ) أنها دخلت على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فسلمت فقال : ( من هذه ؟ )
قالوا : أم هانئ .
قال : ( مرحباً بأم هانئ )(2) .
وقال عمر لعدي بن حاتم : حياك الله .
ومنها : قولهم ( العصمة لله تعالى ) ، تسأله في مسألة فيقول : أخطأت ، والعصمة لله ، وهذا خطأ ، قد نبه عليه كثير من العلماء ؛ لأن الله تعالى لا عاصم له ، والمعصوم يحتاج إلى عاصم ، والعصمة أمر نسبي ، يدخل فيها الاشتقاق ، والله لا يعصمه أحد من الناس ، فلا نقول : العصمة لله ، لكن نقول الكمال لله ـ سبحانه وتعالى ـ والجلال والعظمة لله ، والكبرياء لله ، أما العصمة لله ، فليس بصحيح هذا اللفظ .
يصح لك أن تقول : المعصوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، أما الله ، فلا تقل العصمة لله ؛ لأن المعصوم يحتاج إلى عاصم ، والله لا يعصمه أحد .
ومنها : قولهم بعد التلاوة ، والانتهاء منها : ( صدق الله العظيم ) وهي بدعة ، لم يقلها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا أصحابه ، ولم تأت في السنة ، ومعناها : صحيح واستخدامها خطأ وبدعة ، وإلا فالله يقول في آل عمران : ( قُلْ صَدَقَ اللَّهُ) (آل عمران: من الآية95) والله صادق ، وهو أصدق الصادقين ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً) (النساء: من الآية87) ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً) (النساء: من الآية122) لا أحد ، لكن استخدامها بعد التلاوة ليس بصحيح ، وهي بدعة ، فليعلم ذلك .
ومنها : قول الداخل للمسجد ، والإمام راكع : 0 إن الله مع الصابرين ) لينتظره الإمام ولا يرفع ! بل يفعل كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا )(1) أو كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) . فتدخل بسكينة ووقار ، فإن أدركته في الركوع فبها ونعمت ، وإن لم تدركه فصلي ما فاتك ، ولا تقل : إن الله مع الصابرين ، أو تتنحنح ليسمعك ، وينبغي على الإمام : أن ينتظر الداخل ، إذا أحس بصوته ، بشرط أن لا يشق على المأمومين .
ومنها : رد التحية بغير السلام ، تقول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيقول : أهلاً مرحباً ، وهذا مخالف لسنة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ومن أفعال الجاهلية ، بل إذا سلم عليك تقول : عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ( وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ) (النساء: من الآية86) ، ( قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ ) (هود: من الآية69) فالتحية ترد بمثلها ، وبأحسن منها ، وهو السلام ، والأشنع من هذا أن يستبدل السلام كلية بغيره من التحايا كصباح الخير ، ومساء الخير ، ونحوهما .
ومنها : قولهم إذا قال الإمام : استووا ، قالوا : استوينا لله ، وهذا من الألفاظ غير الشرعية ، فلم يقل الصحابة وراء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) استوينا لله .
وهاهنا : طرفة بهذه المناسبة ، وهي أن أحد الأئمة كان يصلي بأناس في الصحراء ، وكان من عادته أن يطيل أثناء تسوية الصفوف ، ليتأكد من استوائها ، وكانت الشمس حارة ذلك اليوم ، فقال لهم : استووا استَووا ، فرد عليه أحدهم وقال : قد استوينا ، أي من الشمس .
ومنها : قولهم : نويت أن أصلي كذا وكذا ، والجهر بهذا الكلام بدعة ، كقول أحدهم : نويت أن أصلي الظهر أربعاً ، والعصر أربعاً ، وقد نبه عليه ابن القيم في ( زاد المعاد ) في هديه ( صلى الله عليه وسلم ) في الصلاة ، فلا يصح هذا .
ومنها : قول بعضهم في التحيات في الصلاة : اللهم صل على سيدنا محمد ، كلمة سيدنا لم تأت في النصوص ، وهي دخيلة ، ولا يجوز استخدامها هنا ، ولم يصح بها حديث يعني في التشهد .
أما كلمة ( سيد ) فاستخدمها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كما في البخاري في قوله في الحسن : ( إن ابني هذا سيد )(2)، ومثله قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قوموا إلى سيدكم )(3) ، وفي قوله ـ سبحانه وتعالى ـ ( وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران: من الآية39) .
والسيد هو كامل السؤدد وهي حرية برسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) أما استخدامها في التحيات فلا حيث لم يثبت .(/56)
ومنها : التأمين برفع الأيادي بعد الخطبة يوم الجمعة ، فيخطب الخطيب يوم الجمعة ، اللهم أصلح ولاة المسلمين ، فيقولون : آمين مع رفع الأيدي ، وهذا لم يرد فيه حديث ، ومن عنده دليل فليأت به لنستفيد ، وه من البدع التي انتشرت ، ولم يرد إلا في مسألة واحدة وهي أثناء الاستسقاء من الخطيب ، لحديث قال : ( رفع ـ أي صلى الله عليه وسلم ـ فرفعوا أياديهم )(4) .
ومنها : قولهم بعد قول الخطيب ( فاذكروا الله يذكركم ) : لا إله إلا الله ! ويرتج بها المسجد ، وهكذا بعد قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب: من الآية56) فيصلون على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بصوت مرتفع .
فالواجب . الإنصات للخطيب ، والذكر ، والصلاة ، والتأمين ، تكون بالإسرار والخفية .
ومنها : قولهم ( والله ومحمد ) ، و( لولا الله وأنت ) وهذا شرك لفظي ، بل لولا الله وحده ، وما شاء الله وحده ، أو أن تستخدم حرف ( ثم ) ؛ لأنها للتراخي ( لولا الله ثم أنت ) أما الواو فلا لأنها للتشريك .
ومنها : سب الدهر ، وذم الأيام ، كقول شاعر الجاهلية :
لحا الله هذا الدهر إني رأيته بصيراً بما ساء ابن آدم مولع
وكقول أحدهم : ( قبحاً لهذا الزمان ) ، أو ( خيب الله هذا العهد ) أو ( هذا الدهر ) ، و( هذا الليل ) أو ( زماننا زمان قبيح ) ، أو ( هذا الزمان جر علينا النكائب ) هذا لا يصح فقد صح عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( قال الله عز وجل : يؤذيني ابن آدم ويسبني ابن آدم ويشتمني ابن آدم ، أما سبه إياي فإنه يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار كيف أشاء ، وأما شتمه إياي فإنه يزعم أن لي صاحبة وولداً وما كان لي صاحبة ولا ولداً )(1) أو كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) .
فسب الدهر من أفعال الشرك ، ونسبة الأفعال إلى الدهر ، لا يصح فليعلم هذا .
ومنها : قولهم ( رجال الدين ) أو توزيع الناس إلى ناس للدين وناس للدنيا .
لا ، نحن للدين والدنيا ، ليس عندنا رجال دين ، بل رجال الدين في الكنيسة ، وهذه الكلمة مترجمة من الكنيسة ؛ لأنه في الكنيسة كان هناك رجال دين ، وكان هناك رجال دنيا ، أما نحن فعندنا قوله ـ سبحانه وتعالى : ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:162) فالحياة والموت ، والليل والنهار ، وأعمالنا وتجارتنا ، ووظيفتنا ، وصلاتنا لله الواحد الأحد ، فليس عندنا رجال دين ، ورجال دنيا ، والذي لا يكون للدين فهو للدنيا ، والذي لا يكون لله فهو لإبليس ، فنسبة رجال دين ، وتخصيصها لنفر من الناس ليس صحيح .
ومنها : قولهم : ( مطوع ) و( مطاوعة ) وهي كلمة في اللغة العربية ليست مستقيمة ، ومبتذلة والطاعة لله ـ عز وجل ـ : ( قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (النساء: من الآية46) فلا يصح استخدامها لنفر مخصوصين ، فليس هناك إلا طائع ، أو عاصي فاختر لنفسك .
ومنها : الدعاء برفع الأيدي جماعياً بعد أن يسلم الإمام ، وقد نص ابن تيمه ، وابن القيم بأنها من البدع المنتشرة عند المسلمين .
والدعاء بعد الفريضة وارد لكن لم يرد عنهم رفع الأيدي جماعياً .
ومنها : اتخاذ المصافحة بعد السلام عادة وسنة ، أو يقول معها : تقبل الله ، ولم يرد هذا عن السلف ، لكن لك أن تصافح أحداً من الناس قدم من سفر ، فرأيته في المسجد ، أما أن يتخذ عادة وسنة ، فلا .
ومنها : بعض الألفاظ الشركية ، التي انتشرت ، وقد نبه عليها كثير من الأئمة والخطباء ، مثل قولهم : (خذوه وشلوه ) ن وهي نسبة الأفعال والتصرف في الكون للجن ، وهذا شرك ، ولا يصرف إلا الله ـ سبحانه وتعالى ـ : ( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً) (الفرقان:3) فنسبة هذه الأفعال لغير الله ـ عز وجل ـ شرك .
ومنها : مسألة الإرجاء ، وهي منتشرة بين الناس ، وهي مذهب بدعي ، فالمرجئة يقولون : الإيمان قول واعتقاد ، أما العمل فلا يدخل فيه الناس متساوون في الإيمان ، ولا يلزم على الإنسان أن يفعل صالحاً إذا آمن بل يكفيه إيمانه . قال ابن تيميه : ( لقد ترك المرجئة الإسلام كالثوب السافر ) أي : مزقوه .
فكثير من الناس خاصة الذين لم يقبلوا على الله ، أو ما عندهم قربة أو عندهم عمل صالح ، تقول له: صل.
فيقول : الله غفور رحيم ،
يفعل الكبائر ويقول : الله غفور رحيم !
وهذا مدخل شيطاني بل الإسلام قول ، واعتقاد ، وعمل ، ولذلك يقرن الله دائماً بين الإيمان والعمل ، فيقول في آيات كثيرة : ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) (الانشقاق: من الآية25) وذكر المؤمنين ووصفهم بصفات كثيرة يأتي على رأسها العمل الصالح : الصلاة ، الزكاة ، الحج ، الصدقة .. الخ .(/57)
فليحذر من هذا الإرجاء الجديد ، عباد الله ، ولينبه أهله لعلهم أن يفيقوا .
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
خواطر داعية
فللنفس إقبال وإدبار ، وإشراق وانطماس ، ونشاط ونفور ما روضها المسلم عليه ، هو : هدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتعطي النفس حقوقها من المباح وتستوفي حظوظها من الطاعة .
وترك الرسوم والقيود أقوى للنفس ، وأيسر عليها ، فلا عبادة مخصوصة ، إلا بما ورد بها الشرع الحكيم ، ولا لبسة مخصوصة ، إلا كذلك ، وكذلك الجلسة والنوم ، والأكل ، والأوراد والنوافل .
وتخصيص بعض الأوقات ببعض العبادات ، والتكاليف بما لم يرد : مشقة وعنت .
واغتنام نشاط النفس : فقه جليل ، وتركها عند الخمول ، والكسل : هدي نبيل .
فمثلاً في قراءة القرآن ، يجدد على النفس بالأساليب ، ما ترتاح له فمرة نظراً ، ومرة غيباً ، مرة جذراً ، ومرة ترتيلاً ، ومرة سراً ، ومرة جهراً ، ومرة ليلاً ، ومرة نهاراً ، وصبحاً ، وضحى ، وظهراً ، وعصراً ، ومغرباً ، وعشاءً ، وعلى حسب القوة ، والرغبة ، قلة وكثرة .
ومثلاً : الصلاة وفترة النشاط ، وما يصاحبها من خشوع ، وإقبال تغتنم ، وعند الأدبار ، والفتور يسدد ، ويقارب ، حتى يعود بارق الأمل وسابق العهد ، وستجب تطويلها مرة ، وتخفيفها مرة أخرى ، وتكثير نوافلها عند النشاط والصحة والفراغ .
وكذلك قيام الليل ، يغتنم صفو النفس ، ونشاطها في ليلة ، وكأنها آخر ليلة ، ويسدد عند فتورها ، اعترافاً بطبائع النفوس .
وكذلك الذكر ، والدعاء ، كما وكيفاً ، وعموماً وخصوصاً ، ونشاطاً وفتوراً .
فتنقل النفس في رياضة بلا قيد طليقة من التحديد والرسوم مسامحة من التضييق على لون واحد ، معفية من التقيد بكيفية خاصة ، فإن هذا عون على الاستمرار والإشراق والإفساح .
وللأيام على بعضها خصائص وفصائل ، فعليها تراض النفس .
وكذلك مثلاً : اللباس ، فما نيسر يلبس بلا تحديد ، ولا تكليف
وكذلك الطعام ، والشراب ، وسائر المباحات .
وهكذا السمت ، والأدب ، والخلق ، له إشراق وانطماس ، من حيث الرضا ، والغضب ، والحلم ، والجهل، والذنب ، والتوبة ، والسداد ، والخطأ ، فطلب الأكمل : مطلوب ، ولكن للعرف والعادة : أثراً في العادات .
والاعتراف بالواقع لابد منه ، بلا قنوط ، ولا يأس .
* لبعض المجالس نفحات خير : من صمت عن جهل ، وتكلم بعلم ، أو مصاحبة وقار وتؤدة ، أو سماع فائدة .
ولبعضها كدر وشؤم : من تكلم لإثم ، أو لغو ، واستماع ما يشين ، أو طيش في حركة ، وانفراط في أدب.
فالأول : مطلوب ، واغتنامه : مرغوب ، وكأن هذا المجلس ، آخر مجلس في الحياة .
والثاني : واقع وتسديده ، بناء ما إنهدم منه وجمع شتاته : واجب على الداعية ، لا الامتعاض عليه والندب.
* مجالسة الناس أشكال وألوان ، فعالم وجاهل ، وعابد وفاسق ، وصالح وفاسد ، وعاقل وأحمق ، وموزون ومفرط ، والاعتراف بهذا مؤكد ، وإنزال النفس في هذه المنازل ، لابد منه وترويضها على ذلك ضرورة.
والحياة عسر ويسر ، وصفاء وكدر ، وأمن وخوف ، وسرور وحزن ، وترحة وفرحة ، واطمئنان وقلق ، وضحك وبكاء ، وانزعاج وسرور ، ونجاح ورسوب ، وصحة ومرض ، ونشاط وكسل ، فعبادة الله مطلوبة في هذه الأحوال فإنها منازل للمسافر ، ولكل منزل حقه الذي يليق به .
* لكل نفس صفات ، لا توافق الأخرى ، فلا يتقمص الإنسان شخصية غيره ، فإنه قتل له ، فلكل إنسان صوت خاص ، ولون خاص ، وصفات خاصة ، فلا تقليد ، ولا تبعية للآخرين فيما هو من جبلاّت النفس وطبائعها ، نعم الواجب الاقتداء بالأخيار في صفات الخير ، وما يكسب من الفضائل ، ولكن ذلك ممتنع في الجبلات ، التي جبل عليها الإنسان من الطبائع ، التي لا تخل بالدين ولا بالمروءة ، فالإنسان يتعرف على نفسه ليعرفها بصفاتها .
* والعيش في حدود اليوم : جمع للقوة ، وتوحيد للطاقة ، ورفع للأمل ، واجتهاد في الخير .
فاليوم بما فيه هو :الشغل الشاغل ، لا الأمس المنصرم الفاني ، ولا الغد الغائب المعدوم .
* التفاهات تبدد الجهد ، وتسلب وقت المهمات ، وتذهب صفو الأوقات .
* الاشتغال بالآخرين : ضياع الحياة ؛ لأن موازينهم مضطربة ، ونزعاتهم في نياتهم ، ورضاهم بعيد .
* من الخطأ : اليأس من التصحيح ، لفشل سابق في تطبيقه ، فمعاودة المحاولة خير من تركها ، فربما كانت هذه المحاولة هي الناجحة وهي الأخيرة .
والألف مرة يبدأ بعدها بمرة واحدة .
* العلوم والفنون لا شيء منها يستقصي ، بل لكل فن ميزة ، وبعضها يقدم على بعض في الاهتمام ، ولا يترك عمل صالح لعذر عدم المداومة ، فإن من ترقب الموت فاته ملاحظة المداومة .
* الزهد في الدنيا : أروح شيء للنفس ، فلا تعلق بحطام ولا منصب ، ولا جاه ، بل كلما تجردت النفس كان أنشط لها .
تجرد من الدنيا فإنك إنما أتيت إلى الدنيا وأنت مجرد(/58)
* كثيراً ما تطلب النفس العمل الشاق ؛ لأن فيه شهرة وتلمح العلماء المبرزين ، وهذا خداع من الشيطان ، فإن التقوى ليست قرينة الشهرة ، فانظر إلى ابن عمر ، وأنس ، ومحمد بن جعفر ، وزين العابدين ، والدارمي ، والفضيل .
* تنقل النفس في أنواع الطاعات ، وأشكال القربات ، وفنون القرارات ، انشط لها ، وأوعب للذاكرة ، فبعض العلوم يشجع على بعض ، وبعضها يشحذ المسن لغيرها .
* الأجمل بالمسلم : أن يجتهد ، وأن يعمل بالسنة ، ولو مرة واحدة من الهيئات ، والأدعية ، والأذكار والقرب ، لأنها ما عملت يوماً مجتمعة بل عملت متفرقة في حياته ( صلى الله عليه وسلم ) .
* إذا ورد عمل فاضل ، فإنك تبحث : هل داوم عليه ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ وإلا فلا مكان للمداومة ، ولا يترك هذا العمل لعدم المداومة عليه كما ورد في قراءة ( سورة الكهف ) يوم الجمعة ، (وسورة يس) في النهار ، (والواقعة ) ليلاً ، وكذلك ( سورة تبارك ) بل يفعل ذلك ، ولو مرة واحدة .
ويعرف ذلك باستقراء سيرته ( صلى الله عليه وسلم )، والتدقيق في عبادته وأوراده من كتب السنة الشريفة.
* التقيد بما لم يرد : مورد من موارد البدعة ، كما نهى ابن مسعود عن التزام الالتفات من الصلاة على جهة اليمين ، وكما نهى عمر عن تحري الصلاة في أمكنة صلى فيها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من غير قصد .
* طلب العلم كالعبادة ، يؤخذ بالسير والتدرج ، فلا يخصص كتاب ، أو فن بوقت معين ، كجعل القراءة لوقت ، والنسخ لوقت ، والاستماع لوقت ، فهذا صعب شاق ، لا تطيقه النفس .
* لا يحتقر الخير بقلته ، فرب قليل ربا على كثير ؛ كركعتين في فراغ ، أو تدبر آية ، أو تفهم حديث ، أو قراءة صفحة ، أو قليل من صدقة ، أو كلمة خير قصيرة .
* لإصلاح الهيئة : مواسم ، ومناسبات : من لبس الجميل والطيب ، والتكحل ، وغير ذلك ، ولبس ما تيسر أوفق للنفس من الغالي ، ومن الداني ، والوسط أحسن ، فلا محافظة على زي مخصوص ، أو لبسة خاصة .
* للنوم أوقات ، والأصل : نوم الليل ، وقد يعرض من الأمور ما يستدعي السهر ، فتعويضه في النهار أسلم ، وإن غلب المرء على نوم الصبح ، فلا بأس عند الإرهاق والتعب ، ولكن ينبغي أن يبتعد عن النوم بعد العصر ، وقبل العشاء .
* الأصل في الأكل : أن يكون عند الجوع ، ولكن إذا عرض وقت يشتهي فيه الإنسان الأكل ، فلا بأس بذلك مع الاقتصاد فيه ما استطاع .
* لكل نفس وجسم كفاية من الأكل ، والنوم ، والترويض ، قد لا تتفق مع الآخرين .
* للمسلم شغف ببعض العبادة على بعض ، فلا حجر على أحد بما يوافق الآخر ، فالذكر : عند قوم أنسب وأوفق ، وعند آخرين : كثرة نوافل الصلاة ، وآخرين : الصوم ، وقوم : الدعوة ، وتعلم الناس ، وقم : الخدمة والمنفعة .
* من الإرهاق على النفس : تسييرها في غير ما خلقت له ، من عمل أو حرفة ( فكل ميسر لما خلق له).
* حفظ القرآن مطلوب ومرغوب ، ولكن يلاحظ فيه الجهد والمشقة بالتدرج فيه ، والتنوع ، حتى يسهل الله حفظه .
* الحياة الكاملة ، ما استوفت النفس فيها حظها من المباح ، فلا تقصير ولا مجاوزة ، وما أدت فيه حق الله ، عز وجل ، من طاعة وقربة ، وأكمل حياة : حياته ( صلى الله عليه وسلم ) ، وما أعجب حديث : ( إن لبدنك عليك حقاً ، ولأهلك عليك حقاً ، ولنفسك عليك حقاً ، ولضيفك عليك حقاً )(1) .
* والجودة والحسن هما المطلوبان في العبادة ، فإن اجتمعت مع الكثرة فهو الكمال ، وإذا فقدت الجودة كان النقص كثيراً .
* التفكير عبادة ، بل من أجل العبادات ، ولكن بلا إرهاق وتنطع ، بل تفكر يزيد الإيمان ، بما ورد فيه التفكر .
* ساعة السرور ليست سرمدية ، وكذلك الحزن ، فإن مع العسر يسراً ، وبعد الكرب فرحاً .
* لله ، سبحانه وتعالى ، في تهذيب النفوس ، وترويضها : حكم بالغة ، وأسرار عجيبة بما يقدره عليها من حزن وسرور ، ومن غم وفرح ، ومن عطية وبلية ، ومن صحة وسقم .
* كثرة التنطع فيما لم يرد به الشارع : تعمق مذموم ، بل يوقف مع السنة ؛ لأنها أسعد شيء للنفس .
* ليس لإشراق النفس وقت محدد ، بل قد تصفو في ساعات الأشغال والاختلاط .
* الحذر من أن تخل نافلة بفريضة ، أو قربة بخير منها ، والنيات تجعل العادات عبادة .
* للتأنق والترتيب والنظافة تأثير على النفس في سكونها وصفائها ، كتحسين الهيئة ، وترتيب المكتبة ، ووضع كل شيء موضعه .
* التخفف من الأشغال ، والجواذب ، والدواعي : انطلاق للروح وفسحة لها لتهتم بالمهمات .
* كثرة النقد من الآخرين : بيان بقيمة المنقود ، ولا يحسد الحساد إلا من ساد .
* الحكم على قضية ، أو مسألة ، أو شخص ، أو جهة نظر يكون عليها لا غير ، فأما التعميم ، والتحديد، فهو عرضة للخطأ .
* سكون الجوارح : فضيلة يغري القلب على السكون .
* الضرب في كل غنيمة بسهم : علامة الكمال ، وعلو الهمة .
* تدبر النعم في وجوه المحرومين ، وفي حالة المبتلين : عبادة ، والنظر إلى من هو دونك : مسلاة .(/59)
* التنفير والتعمق في أدواء النفس ، وواردات القلوب ، وملابسات الأعمال ، والعبادة : تكليف بما لم يرد.
* من تجرأ على الحدود ، واستمرأ المحرمات : فالخوف دواؤه ، ومن أقبل على الخير ، وأحب القربات : فالرجاء قوة دافعة له ، وكلما شعر العامل بقربه من الكمال : خف وحلق .
* خفف أعباءك من الدنيا ، وقلل أشغالك ، وتزود فالعمر قصير ، ولذلك قال أحد العلماء : 0 من أكثر من الأصدقاء اكثر من الغرماء ) .
* التنويع والتشكيل ظاهر في حياته ( صلى الله عليه وسلم ) ، وفي شؤونه الخاصة والعامة ، فقد توضأ مرة ، ومرتين ، وثلاثاً ، وأطال الصلاة ، وتجوز فيها ، وتنفل في أوقات ، وترك في أخر ، وصلى مع جميع الليل ، وتخول بالموعظة على حسب الحاجة ، ونهى عن تخصيص يوم الجمعة وليلته بالصيام ، والقيام من بين الأيام والليالي .
* أوقات النشاط تكون للعلوم المهمة : كالحديث ، والفقه والتفسير ، وأوقات الملل والراحة للتاريخ ، والأدب ، والطرائف وغيرها .
فأول النهار وبعد العصر والمغرب : وقت نشاط ، والقائلة ، وقبل النوم وقت راحة .
* من الكتب ما تأخذ منها أكثر مما تأخذ منك ، كالحديث الشريف ، واللغة ، والأدب ، والرقائق ، والمشوقات ، والتاريخ ، ومنها ما تأخذ منك أكثر مما تأخذ منها : ككتب الفقه المذهبية ، وخاصة إذا كدرت بالحواشي المملوءة بكلام الناس من قيل وقال ، فإنها مذهبة للعقل في غير جدوى ، وكذلك / كتب أصول الفقه النظرية أو المنطقية ( كالمعتمد ) و ( المستصفى ) ، وما أنفع ( الموافقات ) و( إعلام الموقعين ) .
* الحذر من التكرير في طريقة القراءة ، فإنه يذهب الوقت في فن واحد ، كمن يقرأ ( مختصر البخاري ) ثم ( الصحيح ) نفسه ثم ( تيسير الوصول ) ثم ( جامع الأصول ) ثم ( الجمع بين الصحيحين ) ، فإنه بهذه الطريقة أعاد الحديث على عشر مرات ، ولو صرف الجهد في غيرها لكان أسلم .
* ليست تقوى الله ، سبحانه وتعالى ، حجراً على أحد ، وعلى صنف ، فقد تجد التقوى في غير مظانها ، كبعض التجار ، والعوام ، والجنود ، وقد تجد فقدانها في مظانها ( وهي : المصيبة ) كطلبة العلم ، والعلماء ، والوعاظ ، فالله المستعان .
* النقل من الكتب في موضوع واحد : فيه فائدة جمع المادة ، والتسهيل على القارئ ، وأنفع منه استعرض النصوص ، وإخراج بنات الأفكار ، وومضات الأنوار ، وتدبيج فقه النص .
* الحفظ يجمع شتات المادة ، ويغزر الذهن بالفوائد ، لكن فهم النصوص وتقعيدها على قواعدها الكلية ، ووضعها على مقاصدها ، خير من ترديد محفوظ ، لا يفهم ، فهم العلم خير من حفظه ، والحفظ وسيلة ليس إلا .
* خير ما يحفظ : كتاب الله ، فإذا فرغ منه فما استطاع من الحديث ، وما بعد ذلك فما استجاد من الشعر الجميل ، وغير ذلك فهون على نفسك ، وأربع على قلبك .
* قراءة حديث المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) فن راقٍ ن فمن أراد أن يستفيد منه فليأخذ كتاب الحديث ، وكأنه جالس بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، عن يمينه : أبو هريرة وعن يساره : جابر بن عبد الله ، رضي الله عنهم ، ثم يستمع ما يقال ، فإن الكلام فصيح ، وليس عنعنة الحسن وتدليس الأعمش ، فهذه لها وقتها ومجلسها .
* أنفع عبادة ، وأسهل عبادة ، وأيسر عبادة ، ذكر الله عز وجل ، فترنم في رياضها وترنح في خمائلها ، وتمش في بساتينها ، واجعلها شغلك الشاغل ، وما زاد عليها من النوافل فحسن .
* القراءة الخاطفة ، هي الإلمام السريع بالكتاب ، أو الباب في أقصر وقت ، وهي مختصرة للوقت ، مشجعة على الاستفادة ، وهي ليست قراءة التمكن ، ولكن لها فائدة : جمع شتات الموضوع ، واسترجاع المعلومات.
* من العلم : ما يحتاج له مع كل نفس ، ومنه : ما يحتاج إليه في وقت دون وقت ، ومنه : في اليوم ، ومنه : في الأسبوع ، وفي الشهر ، وفي السنة ، وفي العمر . ومنه : ما يختلف من شخص إلى شخص ، فقد لا يعمل طالب العلم في حياته كلها بأحاديث الولاة ، والتجار ، وغيرها . ولكنها جيدة في معرفة الأحكام ، وفي زيادة العلم ، وتوضع أبواب العلم على هذه الطريقة .
* ليس عزو الحديث إلى غير البخاري ومسلم تصحيحاً له ، فالمهم في الحديث : معرفة صحته ، أو معرفة ضعفه ، وعلة هذا الضعف ، وليس المهم : حفظ من خرجه كأهل ( السنن ) و( المسانيد ) وغيرهم .
* كتب الأدب النبوي الشريف أكثر فائدة من غيرها ككتاب ( الأدب المفرد ) للبخاري ، لو جرد من أسانيده ، فإن الأسانيد مع معرفة درجة الحديث قد لا تهم عموم المسلمين ، وإنما بعض خواصهم .
* من فوائد كتب التراجم ، والأدب ، والطرائف : مد العقلية التربوية ، والملكة الاجتماعية برصيد من المعرفة ، لكثير من مواقف الحياة والأشخاص والمقامات ، ككتاب ( الأذكياء ) و ( الحمقى ) , ( المتطفلين ) و(سير الأعلام ) ، حتى سير الفجار الضلال .
* لئن أعتزل ، وأفيد نفسي خير لي من أن أخالط الناس وأتضرر .(/60)
* عظم منزلة المسلم ، وعلو درجته في الجنة ، لا في الدنيا ن فليكن هذا مطلبه دائماً .
* لا يخلو كتاب من فائدة ، وليس العلم بكثرة الرواية ، وانظر ما يلزمك في يومك فاعمله .
* خصلتان هما روح الإيمان ، ووقوده : الذكر والفكر .
* الزهد : ترك ما لا ينفع في الآخرة ، والورع : ترك ما يخشى ضرره ، وكفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سنع ، ومخاطبة الناس على قدر عقولهم ، والوقوف بين أمرين : اضطراب وحيرة ، والحزم بشيء بعد الاستخارة والمشاورة .
* العلم أوسع من أن يحاط به ، فلننظر فيما لابد منه ، ومن كل على أجوده ، والأهم فالأهم .
* التوسع في الأمور : خير ، وبركة ، وتسديد ، وفي العزلة : تفهم للواقع ، وصيد للفوائد ، ونبأ عجيب ، فإن من بقى مع الناس دائماً سج فكره ، وسف عمله ، ورضي بالواقع .
* الداعية له مكانته ، فكلما فقدته العيون ، اشتاقت له القلوب، فينبغي له أن يخرج وقت الحاجة ، لا غير.
* رب ذنب أحدث توبة ، ومنع عجباً ، وأدخل رقة وانكساراً .
* شرف الوقت بقيمته عند الله ، تعالى ، لا عند الناس .
في ازدياد العلم إرغام العدا وجمال العلم إصلاح العمل
* من لا يحفظ القرآن ، ولا يكتب الحديث ، لا يقتدي به في هذا الشأن .
* من المحبرة إلى المقبرة ، والفائدة تؤخذ ممن قالها ، فرب درة في مزبلة .
* قيل لابن المبارك : إلى متى تكتب الحديث ظ قال : لعل الكلمة التي تنفعني ما كتبتها بعد .
* قال الأندلسي في تعظيم الحديث :
فلا تضع في سوى تقييد شاردة عمراً يفوتك بين اللحظ والنفس
* من خرج إلى الناس بما عنده من علم ، وترك الزيادة دائماً فهي بداية النهاية .
* يقولون : إن من علمته بلسانك ، لا يتعلم أبداً ، فلابد من الفعل مع القول ، ثم لابد من التكرير ، والملازمة ، والإعادة ، والمداومة ، فإن كلمة المرة ليست مستقرة .
* ساعة في السحر ، وساعة في الصباح ، وساعة في المساء جلسات روحية تفيض سكينة وأمناً ، وبركة ، ونوراً ، وفتحاً ، وتوفيقاً ، وحديث : ( اغدوا وروحوا ، وشيء من الدلجة ، والقصد القصد تبلغوا )(1) .
* افعل الأروح لقلبك ، وإذا خالطت العوام ، فتغافل عن سقطاتهم .
* إياك ثم إياك من تجريح الأشخاص ، أو الهيئات ، أو بعض الجهات ، ولا تتكلم إلا بخير .
* اجعل رجاءك دون يأسك جنة حتى تزول بهمك الأوقات
واستر عن الجلساء بثك إنما جلساؤك الحساد لك شمات
ودع التوقع للحوادث إنه للحي من قبل الممات ممات
فالمهم ليس له ثبات مثلما في أهله ما للسرور ثبات
لولا مغالطة النفوس عقولها لم يصف للمتيقظين حياة
* سبحان الله ! ما أنفع ( صحيح البخاري ) مهما كرر ، ومهما قرئ .
* لما رأى سعيد بن المسيب ، رحمه الله تعالى ، قوماً يتنفلون في المسجد بين الظهر والعصر قال : ليست هذه العبادة ، العبادة هي التفكر في دين الله ، والفقه عن الله .
* قال معاذ رضي الله عنه ، لرجل ، وهو يوصيه : ( قم ونم ، وصم وأفطر ، واكتسب ولا تأثم ، وابدأ بعمل الآخرة ، ثم عد إلى حظك من الدنيا ) .
* لما كان يخلو ابن المبارك ، رحمه الله تعالى ، مع كتبه قيل له في ذلك ، فقال : أجالس الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وصحابته .
* ما أحسن أن يجمع الخطيب ، والواعظ آيات ، وأحاديث ثم يوشحها بأسلوبه الجميل ، وبقليل من كلام الأئمة ن وبيسير من جيد الشعر والأمثال والقصص .
* الإلحاح في الدعاء : توفيق من الله ، والله عز وجل يقول بعد أن يبين أنه أصلح لزكريا زوجه ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً ) (الأنبياء: من الآية90) وعمر رضي الله عنه يقول : 0 إني لا أحمل هم الإجابة ، ولكن أحمل هم السؤال ) .
* قال بعضهم : إني لأستغفر الله حتى أنال مطلوبي ، ولا يمنعني كوني في الطريق ، أو في السوق ، وربما استغفرت ألف مرة .
* ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس:62) لا في الدنيا ولا في الآخرة ، فلم الحزن والهم إذاً ؟
* ما أرق ساعة ! يخلو فيها المسلم مع رقائق الآيات ، والأحاديث والأشعار ، والسير ، فيذكر الموت ، ويسكب عبرات التوبة ، ودموع الإنابة .
* من له همة عالية ، ومقصد نبيل ، فليحفظها في قلبه ، وليكتم سره ، ثم يعمل في وسائلها ، ولا يثنيه لومه لائم ، أو إغراء مغر ، أو مراعاة أحد .
* ما برز الأخيار والنبلاء ، إلا بالشجاعة ، والثقة بالنفس ، وإلا فإن عند غيرهم بضاعة وكنوزاً ، ولكنهم تخوفوا ، وجبنوا ، فما شعوا ، وما لمعوا .
* على المبتدئ : أن يخفي نفسه ، ويدس شخصه ، ولا يتعجل الظهور ، حتى يريش ، ويغلظ ساقه ، والبدايات لها أثر في النهايات .
* كلمة ( لي ) , ( أنا ) , (عندي ) لا تليق بالعبد الفقير المسكين العاجز .
* إذا اختلطت الأصوات ، وكثر اللغط ، فليكن لك عند الله رغبات في الذكر والدعاء ، فهذا وقت الهمة العالية .
* فما أطال النوم عمراً وما قصر في الأعمار طول السهر(/61)
* المفسدات كثيرة منها : فضول الكلام ، والنظر ، والخلطة ، والطعام ، والنوم ، والجماع . وكثرة النوم تضيع الوقت على السلك ، وأول اليوم مرحلة مباركة للمسافر تقطع عليه المسافات العظيمة .
* كثرة الخلطة بالناس تعود النفس الخمول ، والكسل ، عن طلب العلم والعبادة ، فهي ـ أي : الخلطة ـ إما للنفع ، أو لرفع السآمة والملل .
* المجمر الهندي ، هو : من عامل الله بالتقوى ، فنشر الله طيبه بين الناس فأحبته القلوب .
* أنفع التفسير ، هو : معاني الكلمات اللغوية ، ومقاصدها ، أما التعلق بكلام الناس ، وتشقيقاتهم ، فهو بعيد عن التفسير ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) (القمر:32).
* الخلق الحسن : وجه طلق ، وكلام لين ، وأجمع تعريف له هو ( ترك الغضب ) .
* الصادق يعرف صدقه في لحظه ، ولفظه ، وسماته ، نبرة صوته .
* عمر ، رضي الله عنه ، يوم السقيفة يقول : ( كنت حبرت في صدري كلاماً لأقوله ) فعلى المتكلم قبل أن يبدأ : أن يهدد ويجمع أفكاره ، ويركز في ما يقوله ، ويبينه في صدره ، أو ثم يتكلم .
* من فقه الخطيب : ترتيله ، وترسله في كلامه ، وتقليل إشارته ، وهدوء نبرته ، وقوة حجته .
* من جلس معك ، فلا تتركه حتى تزرع في قلبه خيراً ، ولو بكلمة أو حركة ، أو إشارة .
* دقائق الليل غالية ، فلا ترخصوها بالغفلة ، والوقت هو الحياة .
* انظر لكتب شيخ الإسلام لما فيها من فقه ، ويسر ، وشمول وهذا من فتح الله عليه .
* قال ابن المبارك : من تهاون بالأدب ، عوقب بحرمان السنن ، ومن تهاون بالسنن ، عوقب بحرمان الفرائض ، ومن تهاون بالفرائض ، عوقب بحرمان المعرفة .
* رب آية واحدة من كتاب الله تعالى تحدث في القلب أثراً عميقاً واستجابة حية ، وسماعها يقلب واع ، وسمع يقظ ، كفيل بالحياة .
* بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ، والكرامة : لزوم الاستقامة ، وثبات النفس على الخير بلا تأخر: نصر عليها .
* الجلوس مع البطالين : حمى الربع ، ما جربت انفرادك في طريق ، وسيرك مع الناس ، بالنسبة لذكرك وتفكرك .
* استمع ، أو أتل ، وطالع ، أذكر الله ، ولا تضيع من الوقت شيئاً ، وإذا كان لك حاجة فأوجز في قضائها .
* إذا جالست الناس ، فأكثر من التبسم والصمت ، ولا تكن من الذين يجعلون ما رزقه الله ظهورهم وفي بطونهم .
* سئل أحدهم عن قرض الشعر ، فقال : هو عمرك فاصنع به ما شئت .
* من كلام الزهري ، رحمه الله تعالى : من أخذ العلم جملة فاته جملة ، والبخاري ، رحمه الله تعالى ، يرى إدامة النظر في المحفوظ أحفظ له .
* من كلام ابن عون : ثلاث أحبهن ، وأحبهن لأخواني ، فذكر : تدبر القرآن ، تفهم السنة ، وكف الأذى عن الناس .
* الماجريات مهلكة للوقت ( وهو ذكر ما جرى للشخص في الحياة ) وطول العمل مع العلم زيادة في المعرفة .
* من كلام ربيعة بن عبد الرحمن : لا ينبغي لمن عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه .
* يقول الحسن في النفاق ( ومثله الرياء ) : ما خافه إلا مؤمن ، وما أمنه إلا منافق .
* ذكر ابن المبارك الرقائق فقال : ضاعت أعمارنا في مسائل الحيض والطلاق ، وقال في قصيدة عدي بن زيد : هي خير عندي من قصر ابن طاهر .
* العمامة تصنع الشيخ ، وطالب العلم يعرف بجلوسه وخشوعه ، ودخوله ، وخروجه ، وسكينته .
* صاحب القرآن يعرف بليله ، إذا الناس ينامون ، وبصومه إذا الناس يفطرون ، وبصمته إذا الناس يخوضون ، وبحزنه إذا الناس يلهون .
* يقول على رضي الله عنه : لا يخافن أحدكم إلا ذنبه ، ولا يرجون إلا ربه .
* يقول ابن مسعود رضي الله عنه : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتخولنا بالموعظة كراهية السآمة علينا . ويقول ابن عباس ، رضي الله عنهما : لا تأت الناس وهم في حديثهم فتحدثهم فيلومونك ، ولكن إذا اشتاقوا لحديثك فحدثهم ، وقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( قصر خطبة الرجل وطول صلاته مئنة من فقهه ) .
* بإمكانك أن تملأ يديك ليلة الجمعة ، ويومها بجود الله الهاطل ، وخيره الوفير .
* تفكر في هذه الكلمة العظيمة : ( إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة ) .
* إياك ، والتخليط ، فإنه لا قليل من الإثم ، والسلامة لا يعدلها شيء ، فدع الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى .
* قال ابن المبارك : نحن إلى قليل من الأدب ، أحوج منا إلى كثير من العلم .
* ( من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ) .
* حاول أن تبدأ كلامك المهم دائماً بالبسملة ، والحمدلة والصلاة على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) .
* قال البخاري ، رحمه الله تعالى : باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر ، حتى يصده عن ذكر الله والعلم ، والقرآن .
* إذا رويت خبراً ، أو قصة ، فأسنده إلى صاحبه .(/62)
* مخالطة الناس في الخير ، كالصلاة ، والأعياد ، والجنائز ، والدعوة المجابة ، وغيرها : من المحاسن ، والعزلة تكون للقراءة ، والدعاء ، والذكر ، والتفكر ، والمحاسبة .
* تفقهوا قبل أن تسودوا ، وإذا تصدر الحث فاته علم كثير .
* كان أحدهم كلما اغتاب تصدق بدينار ، فلما خاف على ذهاب ماله ترك الغيبة .
* قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وخالق الناس بحلق حسن ) والخلق الحسن أن تصل من قطعك بالبر والزيارة والدعاء والهدية ، وأن تعطي من حرمك من المال والعلم ، وأن تعفو عمن ظلمك وتحسن إليه .
* قال الإمام البخاري ، رحمه الله تعالى : وإنما العلم بالتعلم ، وقال عمر بن عبد العزيز ، رحمه الله تعالى : ولتفشوا العلم ، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم ، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً .
* قال علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله . ؟!
* العاقل إذا أراد أن يتكلم تفكر قبل ذلك ، والجاهل ما وقع على لسانه تكلم به .
* قال الأوزاعي ، رحمه الله تعالى : كنا نضحك قبل أن ندعى أئمة ، أما الآن فما يسعنا إلا التبسم .
* قال عمر بن عبد العزيز ، رحمه الله تعالى : ما انتحى قوم في دينهم دون جماعتهم إلا كانوا على تأسيس ضلالة .
* ما أسر أحد سريرة ، إلا أبداها الله على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه .
* يقولون : العلوم لها مسحة ، وأثر على وجه صاحبها ، فالقرآن والحديث : له لون ، والشعر والأدب : لون وهكذا .
قال أحد السلف : لأن أكون ذنباً في الحق أحب إلى من أن أكون رأساً في الباطل .
* تعجبني ترجمة حماد ين سلمة ، رحمه الله تعالى : لما كان عليه من عمار الوقت في الصلاة ، والقرآن ، والذر ، والحديث .
* من انفع الأحاديث : ما عملت به في وقته ، كحديث : من قال كذا فله كذا ، ومن فعل كذا فله كذا ..
* اجهد نفسك في عمل تعتقد أنه صواب ، وأدر ظهرك لكل نقد سخيف يوجه إليك .
* الذي يقهر نفسه أكثر عظمة من الذي يفتح مدينة .
* عد معطيات الله عليك ، فكم من نعمة الله عندك .
* يقول ابن عمر : لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر .
* قال البخاري : وتعلم أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في الكبر .
* معدل صلاته ( صلى الله عليه وسلم ) في اليوم والليلة : أربعون ركعة فريضة ، ونافلة ، وما أجدر من طرق الباب أربعين مرة بالولوج .
* من سأل الشهادة بصدق أعطيها ، وإن مات على فراشه .
* الحفظ يكون بإصلاح الطبائع ، وترك اللغو ، وكثرة الاستغفار .
* على المسلم : أن ينام على أفضل العزائم ، يقول عمر : الراحة للرجال غفلة . وكان سفيان جالساً مع أصحابه ، ثم نهض ، وقال : النهر يعمل عمله ، ولابد من سنة الغفلة ، ورقاد الغفلة ، ولكن كن خفيف النوم .
* يقول أحد السلف : أنذرتكم ، والآن ، الآن ، وليس غداً .
* إن الله لا يستجيب الدعاء من قلب غافل .
* الكلام بالقرآن ، وبذكر الله ، عز وجل ، أو بالحاجة التي لا بد منها .
* قال ابن دقيق العيد : على طالب التحقيق ثلاث وظائف :
أحدها : أن يجمع طرق الحديث ويحصي الأمور المذكورة فيه ويأخذ بالزائدة ، فإن الأخذ به واجب .
وثانيها : إذا أقام دليلاً على أحد الأمرين ، إما الوجوب ، أو عدم الوجوب ، فالواجب : العمل به ، ما لم يعارضه ما هو أقوى ، وهذا عند النفي يجب التحرز فيه أكثر ، فلينظر عند التعارض أقوى الدليلين يعمل به ، وإذا استدل على عدم وجوب شيء لعدم ذكره في الحديث ، وجاءت صيغة الأمر به في حديث آخر ، فالمقدم : صيغ الأمر ، وإن كان يمكن أن يقال الحديث : دليل على الوجوب ، ويحمل صيغة الأمر على الندب . ثم ضعفه بأنه إنما يتم إذا كان عدم الذكر في الرواية يدل على الوجوب ؛وهو غير عدم الذكر في نفس الأمر ، فيتقدم ما دل على الوجوب ، لأنه إثبات لزيادة يتعين العمل بها .
ثالثها : أن يستمر على طريقة واحدة ولا يستعمل في طريقه ما يتركه في الآخر ، يتشعب نظره ، وأن يستعمل القوانين المعتبرة في ذلك استعمالاً واحد فإنه يقع هذا الاختلاف في النظر في كلام كثير من المتناظرين .
* يقول شيخ الإسلام : حد الخوف : ما حجزك عن معاصي الله ، فما زاد على ذلك فهو غير محتاج إليه.
* احرص على أن تكون ثيابك دائماً نظيفة ، وجسمك نظيفاً ورائحتك زكيه ، وهيئتك دائماً منظمة .
* جدد التوبة كل يوم ، فربما كانت آخر توبة ، وكان آخر ذنب وإياك وطول الأمل .
* الله الله في إصلاح السرائر ؛ فإنه لا صلاح للظاهر إلا بها . والله الله في الإخلاص ؛ ليكفيك القليل من العمل .
* قيل لابن سيرين : صل بنا ، قال : لا أجد نية ، وامتنع مرة عن الإمامة فقيل له في ذلك ، قال : أخشى أن يتفرق الناس ، فيقولون صلى بنا ابن سيرين .
* لا تتبذل تبذل العبد ، ولا تتزين تزين المرأة .
* القرآن ، والسنة ، واللغة ، وأصول الفقه : عليها مدار العلوم .
* لو لم يكن من فائدة العلم ، إلا أنه يشغل عن الأفكار السيئة ، والوسواس ، والهموم لكفى به شرفاً .(/63)
* كان النخعي لا يستند إلى سارية ، وقال علقمة : أكره أن يوطأ عقبي ، وكان بعضهم إذا جلس إليه أكثر من أربعة ، قام عنهم ، وكانوا يتدافعون الفتوى ويحبون الخمول ، ويقول أحدهم : إني إذا جلست مع إخواني لم أتحدث بأحسن ما عندي خشية المباهاة .
* حفظ المال بلا بخل من الدين ، فابن المسيب كان له زيت يتجر فيه ، وكان الثوري يقول : لولا هذا المال لتمندل بنا هؤلاء يعني : الأمراء ، ولكن ليكن المال في حوزتك بمنزلة الكنيف(1) إذا احتجت إليه ، وإلا فلا تفكر فيه .
والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
موجز الأنباء
وهذا موجز النشرة :
1- عودة إلى الله في مكان .
2- توبة الفانين .
3- إنهيار الشيوعية .
4- مقابلة مع الشيخ ابن باز .
5- زيارة للشيخ الألباني .
6- لقاء حار بالشيخ ابن عثيمين .
7- وصايا للشباب .
كان هذا هو موجز النشرة وإليكم الأنباء بالتفصيل :
v عودة إلى الله في كل مكان :
أما العودة إلى الله في كل مكان ، فحدث ولا حرج ، ففي كل أرض : بنو سعد ، والله يريد لهذه الأمة أن تتجه إليه ، ويريد أن يكون المستقبل لها ( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض) (الرعد: من الآية17) محاضرات في مكة ، وفي جدة ، والباحة ، وفي بلجرشي ، وتمتلئ الأرصفة ، والطرقات ، والمساجد من الشباب ، والنساء ، والكبار : يريدون الله .
شباب أعلنوا توجههم إلى الله ، و والله ، إن الإنسان يقف أحياناً ، فتدمع عيناه مما يرى من هذا الإقبال العظيم .
سبحانك يا رب ، قبل سنوات امتلأت المقاهي ، وأعرض الناس عن المساجد ، واليوم لا يجد كثير من الناس أماكن للجلوس لشهود المحاضرات ، أو لرؤية المحاضر ، أو لسماع المحاضرة .
زحام رهيب ، وإقبال على الطاعة ، عودة في كل مكان .
لقيت طلبة ، جاء بعضهم من فلسطين ، ومن سنغافورة ، قالوا هناك صحوة .
وبعضهم من البرازيل .
وأتت رسالة من أستراليا ، قالوا : الأشرطة التي تلقى هنا بعد ثلاثة أشهر تصل إلى أستراليا .
لقد اتجهت الدنيا إلى الواحد الأحد ؛ لأن الله يريد أن يسعد الدنيا ؛ لأن الله لطيف بالخليقة ، ومن لطفه : أنه يريد الخليقة للإسلام ، ولذلك يقول أحد المفكرين قبل ثلاثين أو أربعين سنة : المستقبل لهذا الدين ، فلله الحمد على هذه النعمة .
v توبة الفنانين :
أما توبة المغنين في بلادنا ، فقد كنت قبل أسبوع في محاضرة وهي موجودة بعنوان ( رسالة إلى المغنين والمغنيات ) وقد حضرها جمع هائل منهم ، سبعة تابوا وعادوا إلى الله في أشهر معدودة .
حضر المحاضرة : المغني الشهير ، والذي أصبح اليوم عابداً داعية : مسفر القثامي ـ رحمه الله ـ ويحيي أبو الكرم ، صاحب الصوت الجميل ، الذي قام بعد المحاضرة ؛ ليتكلم عن مرحلتين ، يومين ، وليلتين في حياته : مرحلة ما قبل الهداية ، ومرحلة ما بعد الهداية .
مرحلة : يوم كان يأخذ العود ، ويعزف على الموسيقى ، وكان عنده فرقة ، وكان عنده ناي ، وطبل ، ودف ، ووتر ، وسهر ، وضياع ، وكأس ، وسيجارة ، وجمهور ، ولغو ، ولهو ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) (الأنعام: من الآية70) .
ومرحلة : يوم هداه الله ، ووجهه قد أشرق ، فعليه لحية جميلة من لحى أهل السنة والجماعة ، وثيابه من ثياب أهل السنة ، وعنده سواك وقام أمام الألوف من الناس ليقول : أنا أبو الكرم ، وقد كنت مغنياً ، وأصبحت عابداً لله ، ثم اندفع يبكي ، وتحدث عن روعة الإيمان ونور الإيمان ، وإشراق القرآن .
فسأله الناس أن يقرأ بصوته الجميل ، الذي كان يغني به (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) (هود: من الآية114) فقام واندفع واختار بصوته الجميل سورة (ق) ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (قّ:16) وما كأني سمعت في حياتي صوتاً أجمل من صوته .
فماذا فعل الجمهور ؟ انفجر الناس يبكون ، وتردد المسجد بالبكاء حتى صوروا لنا يوم القيامة .
وكان هو يؤدي القرآن تأدية بالغة ومؤثرة ، وتنسكب دموعه مع القرآن لأنه عاش القرآن .
وفي المحاضرة : سبعة تابوا ، منهم من أعلن أنه كسر العود وعاد ، وترك الموسيقى وأصبح من حمتم المسجد ، وأنه لا يرد أن ينشأ ابنه على الغناء ، وعلى الوتر ، ولا على الموسيقى .(/64)
وقال تفكرت في الغناء ، فإذا هو شهرة ، ثم ماذا ؟ ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) (الأنعام:62) وآخر اسمه مشاري شري نفسه من الله ، كان مغنياً ثم عاد إلى الواحد الأحد له أكثر من خمسين ، أغنية طافت العالم العربي ، وعاد ، وتركها وطلب من القائمين على الإعلام : أن يمسحوها وأن يدمروها لأنه أسس بنيانه على تقوى الله ( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (التوبة:109) .
عاد ، واشترى نفسه من الله ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ) (التوبة:111) .
وهذا : عودة العودة ، عاد إلى الله ، وليس بغريب ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (آل عمران:135) كان له جمهور ، ولكنه طلب أن تمحى أشرطته المرئية والمسموعة ، وقال : تبت إلى الله ، وحياتي لا يمكن أن تكون حياة غناء ، حياتي أغلى وأرفع ، وسوف أكون من اليوم عبداً للواحد الأحد .
وبالخياط تاب ، وغيرهم كثير .
وسوف تسمعون قريباً : الكثير عن الذين تركوا الغناء ، وأقبلوا إلى المساجد ، واهتدوا بهدى الله ، لأن الغناء هذا يحطم الإرادات ، ويمحق العزائم ، ويطفئ النور ، ويطرد القرآن ، ويحارب الفضيلة ، وينشر الرذيلة ، ويبني للفحشاء صروحاً .
والحمد لله ، فقد عاد الشباب والمغنون زرافات ووحداناً إلى الله .
شباب الحق للإسلام عودا فأنتم فجره وبكم يسود
وأنتم سر نهضته قديماً وأنتم فجره الباهي الجديد
v انهيار الشيوعية :
وأما انهيار الشيوعية في العالم ، وانتصار الإسلام .
اقرءوا الصحف ، فأول ما يفاجئكم في الصباح : أن ولاية انقسمت من روسيا ، وأعلنت التمرد ، وخرجت بمظاهرات عارمة تحطم دبابات الملاعين الملاحدة ، وفي هذا نصر للإسلام ، وهاهي ولاياتنا الإسلامية في تلك الدولة تعود رويداً رويَداً ، بعد أن عاشت طويلاً تحت سلطة هؤلاء الملاحدة .
بل ، ولله الحمد ، فتح مركز إسلامي في قلب موسكو ، عاصمة الإلحاد ، والمؤذن يؤذن فيها خمس مرات .
وأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
وأما الشيوعية ، فقد كتبت عليها اللعنة ، كل يوم تنسحق دولة ، ويتحطم كيان .
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها يوم أعدى من الجرب
وعندما تزعزع العالم الغربي ، واهتز ، وشعر بالخطر ، فعلاً وبدأت التحليلات الغربية تختلف .
طائفة من الغربيين ، أبدوا الارتياح الكامل لهذه الخطوات الديموقراطية ، وتفاءلوا بمستقبل زاهر للإنسانية ، كما نسمع الآن ، ويردد كثيراً ، وأن الإنسانية ، والعالم الإنساني مقبل على مرحلة انفراج ، وأن النظم الشمولية ستنتهي ، وأن الديكتاتوريات ستسقط ، وغير ذلك وقالوا : بأن نتيجة ثورة الإنسانية ، وتفاعل الحرية في قلوب العالم أجمع .
وتحليلات أخرى تقول : لا ، فالاتحاد السوفيتي رأس الشيوعية ، ولم يتنازل عنها ، لكن هذه حركة التفاف ، وعملية مخادعة .
اختلفت التحليلات ، والذي يتتبع العملية يقول : لا يمكن أن تكون هذه العملية مقصودة .
ثم لماذا يبرز في كل دولة يسقط فيها الحزب الشيوعي الشيوعيون الناقمون أو الشيوعيون الإصلاحيون كما يسمون ، فكأن تروتسكي الذي قتله ستالين عام 1940 أعيد من جديد ، ونحن لنا الأمور الظاهرة ، فالحمد لله الذي أسقط هذا المبدأ الغاشم ، ونسأله أن يلحق به أذنابه في كل مكان .
v مقابلة مع الشيخ ابن باز :
ربما قال بعضكم : الخبر ليس بجديد ، فكلنا يعرف الشيخ عبد العزيز بن باز ، فماذا سوف تخبرنا عن العلم والعلم قد بان للناس كلهم ؟ !
بينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يمشي كالأغر
قال تعرفن الفتى قلن نعم قد عرفناه وهل يخفى القمر
الشيخ عبد العزيز : مشهور ، لكن في سيرته : جزيئات ، لا يعرفها الناس .
وقد ترجم للرجل في كتاب ( علماء ومفكرون عرفتهم ) للمجذوب .
أيها الأخوة ، نحن الآن في حضرة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز عبد الله بن بار في لقاء نستطيع أن نسميه لقاء السيرة الذاتية للشيخ عبد العزيز .
شيخنا الفاضل سنبدأ هذه الأسئلة ، بما يشبه الترجمة عن سماحة الشيخ عبد العزيز ، فنسأل الشيخ أن يقدم نفسه للأخ القارئ .(/65)
يقول الشيخ : ولدت في عام ثلاثين وثلاثمائة وألف هجرية ، في ذي الحجة ، ونشأت في حضانة والدتي ، وتوفى والدي ، وأنا في آخر السنة الثالثة من عمري .
درست القرآن ، وحفظته قبل البلوغ ، وكنت في الرياض ، ثم شغلت بطلب العلم إلأى أن تعينت في الخرج .
والرجل وضع له القبول في الأرض ، والقبول ليس بيد أحد من الناس ، بل بيد الواحد الأحد ، فإذا أحب عبداً جعل الناس يحبونه ، وإذا أبغض عبداً أبغضته القلوب .
فالحب هذا لا يصطنع ، ولا يأتي بالحديد ، والكرباج ، ولا بالهراوات .
الحب : موهبة ، وعطية من الله ، عز وجل .
وفي الحديث : ( أن الله إذا أحب عبداً قال لجبريل : إني أحب فلاناً فيحبه جبريل ، ثم ينادي جبريل في أهل السماء : إن الله يحب فلاناً فأحبوه ، فيحبه أهل السماء . فيوضع له القبول في الأرض .
وإذا أبغض الله عبداً قال لجبريل : إني أبغض فلاناً فيبغضه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء أن الله يبغض فلاناً فأبغضوه ، فيبغضه أهل السماء ثم يوضع له البغض في الأرض )(1) .
ولذلك ، تجد بعض الناس أبغضهم القلوب ، بأعمالهم في الخفاء ، وبعض الناس أحبتهم القلوب ، ولو أنهم ما قدموا للناس شيئاً ، لكن بأعمالهم في الخفاء .
والشيخ عبد العزيز جمع الله له أموراً : منها التقوى ، فالرجل أول أمر فيه أنه طلب العلم لوجه الله ، وهذا نحسبه ، والله حسبه .
ثم إنه فقد البصر ولكنه ما فقد البصيرة ، عمى وعمره تسعة عشر سنة .
والعجيب ، يقولون : أن الشيخ لا يعرف يكتب أسمه ، وهذا العلم كله : القرآن ، وكتب الحديث ، وكتب العلم في رأسه ( فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: من الآية46) ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الرعد:19) .
بعض الناس عيونهم كالكشافات ، ولكن قلبه مظلم ، ما يبصر شيئاً .
له عيون يرى ، لكن يبصر الفاحشة ، ويبصر المعصية ، ويبصر الفجور ، وأما النور فما يبصره .
وبعض الناس ، لا يملك بصراً ، ولكن يملك بصيرة .
فالشيخ عبد العزيز يملك بصيرة قلب .
ابن أم مكتوم أعمى ، والله يسميه أعمى في القرآن ، فيقول : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى) (عبس:2) فيقول سيد قطب : لماذا تعبس في وجهه ؟ لعل هذا الأعمى أن يكون منارة من منارات الأرض ، تستقبل نور السماء .
وبالفعل ، كان ابن أم مكتوم : الفقير المسكين : أعمى لكنه استقبل نور السماء .
يأتي إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيقول : يا رسول الله ، أنا بعيد الدار : وليس لي قائد يقودني ، فهل تجد لي رخصة ؟ فأرخص له فلما ولى دعاه وقال : ( أتسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ) ؟
قال : نعم .
قال : ( فأجب فإني لا أجد لك رخصة )(2) .
فكان هذا الأعمى ، يأتي إلى المسجد في البرد ، وفي السيل وفي الحر ، وفي الظلام ، بلا قائد ، يتلمس في الظلمات ؛ ليجعل الله له نوراً ، يوم ينقطع النور عن المجرمين .
قل لي بالله : أهو خير أن الشباب الذي يسكن بجانب المسجد ، ولا يصلي في المسجد ، ولا يعرف طريق المسجد ، ولا يهتدي للمسجد ، وقد منحه الله قوة ، وشباباً ، ومالاً ، وصحة ، وسيارة ، وكل ما تمنى ، ثم يعرض عن منهج الله ؟
ابن أم مكتوم الأعمى ، هذا سمع بالجهاد ، فقال : ألبسوني السلاح .
قالوا : عذرك الله ، أنت أعمى .
قال : والله ، لا أبقى ، والله يقول ( انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً ) (التوبة: من الآية41) فنفر ، وركز الراية في القادسية ، وهو أعمى ، فقتل مكانه ، فأصبح شهيداً .
أليس هو منارة تتلقى النور ؟
وهكذا الشيخ عبد العزيز بن باز عمى مبكراً ، لكن بدأ يلتمس النور من الواحد الأحد .
ابن عباس عمي في السبعين من عمره ، وهو عالم الأمة العجيب ، الفطحل ، الذي يصور علمه مثل البحر، إذا طم وعم ، وكان يجلس بعد الفجر ، وهو أعمى في آخر عمره ، فيسأله أهل القرآن إلى ارتفاع الشمس ، ثم يأتي أهل الحديث ، فيسألونه حتى يقرب الضحى ، ثم يأتي أهل التفسير ، فيسألونه إلى منتصف الضحى ، ثم يأتي أهل العربية ثم يأتي أهل الشعر ، فهو يتفجر كالبحر .
عمي فقال : بيتين جميلين في ذلك :
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي عوج وفي فمي صارم كالسيف مشهور
القلب : حي ، والعقل حي ، ونور المسجد ، مع نور القرآن .
وإذا ذهبت العيون فعلى العيون السلام .
يقول الله عز وجل في ( صحيح البخاري ) وهو حديث قدسي : ( إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضت عنهما الجنة )(1) ، والحبيبتان هما العينان .(/66)
لكن بعض الناس عنده حبيبتان ، ولكن ما عنده نور ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) (الأعراف:179) .
الشيخ عبد العزيز بن باز : متواضع ، تأخذه الطفلة ، فيقف معها فهو متخلق بأخلاق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
ويوقفه الرجل في الشمس ، وهو عند باب السيارة ، رجل في الأرض ، ورجل في السيارة ، فيمسكه الرجل ، ويقص عليه قصته ، والشيخ يصغي وهو مرهق جداً من الأعمال والأشغال ، فأمور الأمة الإسلامية تدار عليه ، فيصغي ، حتى يكون الرجل هو الذي يترك الشيخ ، فيركب الشيخ .
وبعض الشباب ، يقصون على الشيخ قصصاً ، فما يرد الشيخ إلا بالدموع ، يتأثر لأحوال العالم .
يخبرونه عن أحوال أفغانستان ، أو الفليبين فيبكي .
وقته معمور بذكر الله ، عز وجل ، في الصباح يتنفل ، ثم يلقي الدروس ، في الغالب ، ثم يذهب إلى عمله، فيعود في الثانية .
وهو مضياف ، وهو حاتمي الأصل ، لن تجد بيته يخلو من الضيوف ، وهذه شهادة ، أقولها للتاريخ ، فهو من أكرم الناس ، إفطاره ، وغداؤه ، وعشاؤه ، وعلمه ، وماله ، وشفاعته ، وجاهه ، كل هذا مبذول للمسلمين ، فهو كما قال الأول :
هو البحر من أي النواحي أتيته فدرته المعروف والجود ساحله
ومما يميز الشيخ عبد العزيز بن باز : الصبر ، فهو مثل الجمل ، يجلس في الحلقة ، وهذا من شهود العيان وقد رأيته كثيراً في المحاضرة فلا يتحرك في الدرس أبداً ، بل يبقى كأنه صخرة في مكانه .
فإذا حرك ( بشته ) أو تنحنح عرف الطلاب أنه قد انتهى الدرس ويجلس متأدباً ، لا يقاطع لمتكلم مهما تكلم فإذا انتهى المتكلم ولو بعد ساعتين قام فعقب في أدب .
ولذلك أحبته الطوائف ، والجماعات ، والناس ، لأنه لا يجرح أبداً .
فلسانه ، كالعسل ، وهذه مواهب يجمعها لله لمن يشاء ، وهذا تسديد من الله عز وجل .
ومن مميزات الشيخ عبد العزيز بن باز : أنه محدث يعرف الأثر .
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولوا العرفان
فهو دائماً ، قال الله ، وقال رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، واستمع إليه في الفتوى واستمع إليه في ( نور على الدرب ) ، إذا أتى يفتي ، لا تسمع ، إلا رواه أبو داود بسند جيد . رواه مسلم ، رواه البخاري ، الحديث في الترمذي ، رواه الحاكم .
وهو يقيد المسائل بالدليل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وإذا عارض كلام رجل الدليل ، ترك كلامه لكلام محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولذلك فتواه كما قال الأول :
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام
والآن ، أصبحت العجوز ، تقول لابنها : والله ، لو تتعلم حتى تصبح مثل ابن بار !
وفي أمريكا ، إذا قلت لبعض الشباب : أفتى فيها الشيخ ابن باز بكذا وكذا انتهى الأمر .
بل بعض الجمعيات الإسلامية ، والمؤتمرات تعقد ، فإذا عرضت فتوى الشيخ صوتوا عليها بالأغلبية ، فهو قبول من الواحد الأحد .
ومما يميز الشيخ عبد العزيز : سلامة الصدر .
يقول من يقرب منه ، ومن يعرفه من طلابه ، والمشايخ ، والعلماء : ما رأينا أسلم من المسلمين صدراً منه ، فهو لا يحمل حقداً ، ولا حسداً ، ولا غشاً ولا غلاً لأحد ، وهذه أخلاق العلماء ، ينام وليس في قلبه شيء على إخوانه .
فيخبرونه ببعض ما يقال عنه ، فيقول : غفر الله لهم ، اللهم اعف عنهم ، وسامحهم الله .
وقد قلت في الشيخ قصيدة اسمها البازية أذكر بعضها :
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي
عفواً لك الله قد أحبب طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي
يا دمع حسبك لا تجود لمن أجرى الدموع كمثل الوابل السافي
وفي آخرها :
يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي
أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعل منهم ومن حافي
وفيها :
سر يا أبي واترك الدنيا لعاشقها في ذمة الله فهو الحافظ الكافي
من مميزات الشيخ عبد العزيز : كثرة الذكر ، فهو يكلمك بالهاتف وهو يسبح ، فيستمع المكالمة ، وهو يذكر الواحد الأحد .
والشيخ له وردان في اليوم : بعد صلاة الفجر ـ أكتب هذا من باب الاقتداء لعل الله أن ينفع ـ فبعد أن ينتهي من التسبيحات يقول : لا إله إلا الله ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، مائة مرة ، لا يتركها مهما كان ، وبعد العصر ، ولا يتكلم حتى ينهيها ، والشيخ يقوم قبل الفجر ليستأنف جلسته التي تعودها مع السحر مع الواحد الأحد ، يوم يتنزل الله في الثلث الأخير إلى السماء الدنيا فيقول : ( هل من داع فأستجيب له ، هل من مستغفر فأغفر له ، هل من تائب فأتوب عليه )(1) .
ولذلك ، أنا قد رأيت ، ولاحظت أنه إذا خرج لصلاة الفجر ليصلي بالناس أن عليه هالة من النور .(/67)
قالوا للحسن البصري : ما بال قوام الليل عليهم نور ؟
قال : خلوا بالله ، فأكسبهم نوراً من نوره .
والشيخ عبد العزيز بن باز : حفظه عجيب في القرآن ، يقول بعض الناس : ما أظنه يخطئ خطأ فهو يحفظ القرآن مثل الفاتحة ، يبدأ بسورة الفاتحة ، وإذا هو بعد أيام في سورة الناس يسرده سرداً .
ثم إذا جاء يستشهد ينتزع الآية من موضعها ، ويستنبط له استنباطاً عجيباً ، سهلاً .
والشيخ قريب من الطلاب ، ينشر علمه في كل مكان : في الطريق وفي الشارع وفي الهاتف وفي المكتب ، وهذا هو هدي علماء السنة فهم علماء عامة .
فعلماء الإسلام ، لا يغلقون على أنفسهم في البيت ، ولا يبخل أحدهم بعلمه على المسلمين ، أو يجلس تحت المكيف ، وينتظر أن يطرق عليه الناس .
لا ، بل علماء أهل السنة تجدهم في المساجد وفي الشوارع وفي السكك وفي المكاتب يسألهم الناس كالشيخ عبد العزيز بن باز .
هذه بعض الفوائد من لقائي بسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز .
v زيارة للشيخ الألباني :
وصل إلى مكة ، وجدة قبل ثلاثة أسابيع ، أو أربعة ، وكانت من فرص الحياة أن أرى ذاك الرجل ، فقد كنت أرجو من الله الواحد الأحد : أن أراه ، فهو رجل عجيب .
هو ، الآن يقارب التسعين من عمره ، قضي منها ما يقارب ستين سنة منها في خدمة الحديث النبوي ؛ حتى كأنه ما مر بحديث إلا خرجه أو تكلم فيه .
هل تدرون ما هي بداية حياته ؟ من أراد منكم أن يعرف ذلك فلبعد إلى كتاب ( علماء ومفكرون عرفتهم ) وكتاب ( حياة الألباني ) للشيباني .
الشيخ ناصر ليس له شيخ ، ولم يتعلم في مدرسة ، بل تعلم من أبيه بعض الفقه الحنفي ، ثم جلس يصلح الساعات ، في دمشق ، في الشارع العام .
وكان دقيقاً في علم الساعات ، ولا يزال ، إلى الآن ، يجيد تصليحها ، فأكسبه هذا : الدقة والصبر .
مر به بعض الناس ( بإحياء علوم الدين ) للغزالي ، فرأى فيه تخريج العراقي في الحاشية ، فأعجبه التخريج ، فأخذ هذا التخريج وكتبه في أوراق أخرى ، ثم قال في نفسه : حكمة بالغة من الله سبحانه وتعالى ، لماذا لا أخرج مثل هذا التخريج ؟ فأخذ يخرج من الكتب ، ثم فتح الله عليه ، سبحانه وتعالى ، فجمع ( الصحيحين ) ثم (السنن ) ثم ( المسانيد ) ثم ( المعاجم ) ثم كتب الرجال ثم كتب الأطراف ، ثم دخل المكتبة الظاهرية ففتح الله عليه فتحاً عظيماً .
والرجل من أجلد الناس ، وأصبر الناس ، يجلس في المكتبة عشر ساعات ، لا يرفع رأسه .
يقولون : بأن عنده سلماً في الظاهرية يصعد عليه ليبحث عن حديث ، فيبقى على رأس السلم ما يقارب ساعتين أو ثلاث .
كانت عنده ( سيارة أجرة ) يشتغل عليها يومين لأهله ، ثم يعود بقية الأيام يبحث في الحديث .
وكان فيما يقال عنه : يوضع له الإفطار في الصباح ، فلا يدري هل وضع له حتى يؤذن للظهر فينتبه ، فإذا الإفطار قد برد .
فهو صاحب جلد ، وحب للحديث ، والله إذا أراد بعبده شيئاً حببه إلى هذا المسلك ، فأخرج كتباً مباركاً وأخرج تخريجات عجيبة .
رأيته فإذا هو طويل البنية ، إذا رأيته تعرف أنه أعجمي ليس في رأسه ، ولا لحيته شعرة سوداء ، بل قلنصوته : بيضاء ، ووجهه أبيض مشوباً بحمرة ، ولحيته : بيضاء ، وثوبه أبيض ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) (النور: من الآية35) .
والشيخ مصاب ، شافاه الله ، قال للطلاب في جدة : ادعوا لي بالشفاء ، لعلي أن أكمل كتب الحديث ، فانهار المسجد بالبكاء ، ودعوا له بالشفاء .
هو مريض بأرجله ، ومع ذلك يقود السيارة بنفسه بجدارة ، وقد أتى بالبر لا بالطائرة .
سالت الألباني خمسة أسئلة للفائدة :
منها : أيها المحدث الكبير سمعنا أنك أفتيت في ( آداب الزفاف ) بأن الذهب المحلق لا تلبسه النساء .
فهو قد حرمه ، وقد رد عليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رداً عجيباً وهو قد خالف الإجماع .
فما رأيكم ؟ خاصة أن بعض الفضلاء كتب كتاباً يرد على فضيلتكم ، وفي علمكم أن الأدلة واردة في ذلك ، وهو كتاب ( المؤنق في إباحة الذهب المحلق وغير المحلق ) للأخ الفاضل : مصطفى العدوي جزاه الله كل خير .
أجاب الشيخ بإجابة طويلة ، ولكنه ما رجع عن رأيه .
والعجيب : أن الرأي الصحيح : خلاف ما رأى الشيخ ، والحكمة أن الله يريد أن يتفرد بالكمال ؛ لأنه لو كان العالم لا يخطئ في مسألة لكان الناس تصوروا فيه بعض التصور ، لكن العالم مهما كان لابد أن يخطئ .
قال مالك : كل يؤخذ من كلامه ويرد ، إلا صاحب هذا القبر ( صلى الله عليه وسلم ) .
والعالم إذا اجتهد فاصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد .
ثم سألت الشيخ عن رواية أبي الزبير في ( صحيح مسلم ) ؟ فأجاب إجابة يعرفها المتخصصون في الحديث ، بأن هناك اصطلاحات لمسلم يعرف الروايات التي يرويها أبو الزبير عن جابر ، لأن أبا الزبير يعنعن ، وهو مدلس .
ثم سألته عن رواية المبتدع ، وعن بعض الأحاديث الضعيفة التي نسبت إلى مسلم وعن بعض المسائل ؟
ثم سأله بعض المحبين عدة أسئلة .(/68)
الطريف في الجلسة : تواضع الشيخ حتى تشعر أنك أمام رجل عادي ، وهو عالم يتسابق الطلبة على حذائه، إذا أراد أن يخرج ليلبسوه إياه ، ويرفض ذلك .
سألته سؤالاً في الحديث الضعيف : هل يستدل به في فضائل الأعمال أم لا ؟
فبقى يجيب حتى قلت له : يا فضيلة الشيخ ، لا نريد أن تلقى محاضرات ، نريد أن تجيب على الأسئلة حتى نستفيد منك أكثر .
v لقاء حار بالشيخ ابن عثيمين :
عالم مشهور ، وعلم ومنارة أهل عنيزة .
وهذا الرجل يميزه أمور :
زهده في الدنيا ، وأنه من أذكى الناس ، تتلمذ على كتب شيخ الإسلام ابن تيميه ، وبقى عليها فترة من الفترات ، حتى أخرج كنوزاً من العلوم .
ويميزه : دقته ، وذكاؤه العجيب ، واستدلاله بالنصوص ، وإخراجه الدرر والكنوز .
ويميزه : أنه مربي ، وليس واعظاً فحسب ، عنده ما يقارب ثلاثمائة شاب .
وعنده صبر مع الطلاب ، فدرس في الصباح ، وبعد العصر ، وفي المغرب في غالب الأيام ، فتجد الشباب يترددون عليه .
دعوناه إلى أبها ، ودعاه أهل تبوك ، وبعض المناطق ، لكنه يرفض أن يرتحل من أجل طلابه ، فهو مربي، وهو فقيه ، ثم هو صابر محتسب ، وشروحه من أعجب ما يكون .
ويميز الشيخ : اعتصامه كذلك بالدليل ، فهو علامة في الاستنباط ، وأخذ الحكم من الدليل ، وهو علامة في أصول الفقه والنحو .
والشيخ خفيف الظل ، يعني : دعوب ، ولطيف المزاج ، ولذلك يقرب منه الطلاب ، والرسول ( صلى الله عليه وسلم )يقول : ( يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا )(1) والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان سهل الخلق وكان يمزح .
قرأت في ( سلسلة الصحيحة ) للألباني حديثاً صح عند أحمد وغيره قالت عائشة رضي الله عنها : ذهبت أنا ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة فقال للصحابة : ( تقدموا ) ، فتقدموا .
فقال لعائشة : ( سابقيني )(2) !
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
فسابقته عائشة ، رضي الله عنها ، فسبقته ، لأنها خفيفة ، وكانت شابة .
قالت : وبعد سنوات ، أتى الصحابة في غزوة ، فقال لهم ( تقدموا ) . فتقدموا .
قال : ( سابقيني ) فكثر علي الشحم ، وثقل بدني ، فسبقني ، فتبسم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقال: ( هذه بتلك ) .
سبحان الله ! بعض الناس ، قد يقول : هذا فضول ، فهل وجد ( صلى الله عليه وسلم ) من الفراغ أن يسابق أهله .
نعم يجد من الفراغ ؛ لأنه مربي ، بل تجده أيضاً مع الأطفال يداعبهم .
تجد بعض الناس إذا قيل لهم : لماذا لا تمازح أطفالك ؟
قال : أنا مشغول ، اشتغلنا عنهم بهذه الدنيا ، أو يقول : أنا أكبر من هؤلاء الأطفال .
يا أيها الذي أنهى عمره والذي فتن نفسه ، معلم الخير أكثر شغلاً منك ، ومعلم الخير وقته مزحوم بقضايا الأمة ، وأحداث الأمة ومع ذلك أخذ أمامة وصلى بها العصر ، فكان إذا سجد وضعها وإذا قام رفعها(1) .
سبحان الله ! شريعة سهلة ، لكن عيبنا نحن : أننا لا ننظر إلى السيرة ، والأحاديث ؛ وما جاء فيها من عبر ، فلا يكفي أن تحفظ دون تدبر .
والشيخ محمد يميزه العقل السديد ، فهو رجل يعطيك درراً ، إذا تكلم ؛ لأنه رجل مجرب ، فهو في الرابعة والستين ، أو ما يقاربها .
ويخبرك كيف فن الدعوة ، لأن بعض الشباب ، الآن ، يريد الدعوة بالعنف ، ولذلك لا تصلح لهم الدعوة ، ولا ينتجون شيئاً ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (آل عمران: من الآية159) .
ولذلك فبعض الشباب يكون متحمساً جداً ، فيقول للعالم : لماذا لا تفعل كذا وكذا ؟ ولا تقول كذا وكذا ؟ كأنه أعلم من العالم .
لا ، العالم يعرف المصالح والعالم ذكي ، فواجبنا أن نترك الفظاظة في الدعوة والقسوة ، لكي تجتمع علينا القلوب .
وينبغي علينا : أن نعرف كيف نصل بالكلمة إلى أهلها ، وكيف نكون حكماء مع الناس لعل الله أن يهدي بأيدينا ؛ لأن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ، وما نزع من شيء إلا شانه .
وقد تعمدت ذكر شيء عن هؤلاء العلماء الثلاثة ( ابن باز ، الألباني ، ابن عثيمين ) ليكونوا قدوة للشباب ، لأن الصحوة عندنا واسعة ، لكنها هائجة مائجة ، تحتاج إلى خطام وزمام . فالشباب عندهم حماس ، ويريدون علماء مثل إشارات المرور توقفهم إذا تجاوز اندفاعهم الحدود .
يقول العالم للشباب : ( اطلب العلم ) ، ( لا تتكلم هنا ) ، ( اترك هذه القضية ) ، ( لا تتحدث اليوم ) ، (لا تتحدث في هذه القضية على المنبر ) ، ( اكتبها كتابة) ، ( هذه المسألة لا تذكرها في المجلس ) .
v وصايا للشباب :
عندي وصايا خفيفة للشباب ، وقد كررها كثيراً في عدة مواضع .
وبعض الأخوة كتب إلى رسائل وكلمني ، وقال : نجد بعض الأحاديث في محاضراتك ، ودروسك ، وبعض القصص في كتابك تتكرر .(/69)
أقول : هل تريدنا دائماً أن نأتي بجديد ؟ فنحن لسنا فنانين نأتي كل يوم بأغنية ، نحن نتعامل مع الكتاب والسنة ، فقصة موسى في القرآن أعيدت ما يزيد عن ثلاثة وعشرين مرة ، تأتي في البقرة ، ثم تأتي في الأعراف، ثم تأتي في يونس ، ثم تأتي في طه ، ثم في الشعراء ، ثم في القصص ، وهكذا .
فكتابنا يتجدد ، لكن بأساليب ، إذا أتيت بالقصة اعرضها في أسلوب ثم ردها في أسلوب آخر ، ثم اقلبها في أسلوب ثالث ، حتى يقبلها الناس .
فالتكرار منقبة وليس مثلبة .
قالوا تكرر قلت أحلى علماً من الأرواح أغلى
فإذا ذكرت محمداً قال الملأ أهلاً وسهلا
ويقول آخر :
كرر العلم يا كرم المحيا وتدبره فالمكرر أحلى
فأنت لا تضجر من المكرر .
أقول : من المكررات في الوصايا : أوصيكم بطلب العلم ، وتحصيل العلم كباراً وصغاراً ، فليس عندنا في الإسلام : سن لطلب وتحصيل العلم كباراً وصغاراً ، فليس عندنا في الإسلام : سن لطلب العلم ، فالعلم معك حتى تدخل في القبر ، فهو من المهد إلى اللحد .
يقول البخاري : وتعلم أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كباراً .
فأنت تحرص على العلم في الستين ، والسبعين ، والثمانين ، والعلم مبذول ، الآن ، وله وسائل عجيبة منها: حلقات في المسجد ، ومنها : كتب ، ومنها شريط إسلامي ، ومنها : كتيبات ، ومنها : سؤال أهل العلم على الهاتف وغيرها ، وغيرها كثير .
فأوصيكم به ، لن يضل طالب العلم ، وطالب العلم على بصيرة .
وطالب العلم يسلمه من الشهوات والشبهات .
وطالب العلم مسدد .
وطالب العلم عنده نور .
وطالب العلم يزداد إيماناً كل يوم .
وطالب العلم كما صح في الحديث : ( تستغفر له حيتان البحر وطيور السماء حتى النملة ) .
والحمد لله العلم في بلادنا سهل ميسر ، فالمساجد منتشرة والكتب محققة ، والعلماء متواجدون .
أسأل الله أن يوفقني وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح .
وهذا آخر ما تيسر لي كتابه في ( مصارع العشاق ) فما كان من صواب فمن الله وتأييده ، وما كان من خطأ فمن ضعفي وعجزي ، واسأل الله العفو والعافية والمغفرة .
عين الرضا عن كل عيب كليلة وعين السخط تبدي المساويا
كتبه
د. عائض القرني
--------------------------------------------------------------------------------
(1) أخرجه البخاري في (24) كتاب الزكاة (1) باب : وجوب الزكاة رقم ( 1397) ومسلم (44) كتاب فضائل الصحابة (33) باب : من فضائل عبد الله بن سلام رقم : ( 2484) (150) .
(1) أخرجه مسلم في (33) كتاب الإمارة (41) باب : ثبوت الجنة للشهيد رقم : (1901) (145) .
(2) صحيح أخرجه أبو داود في (35) كتاب الأدب (133) باب : في حق المملوك رقم : (5156) وابن ماجه في (22) كتاب الوصايا (1) باب : هل أوصى رسول (صلى الله عليه وسلم ) رقم (2698) .
(3) صحيح عن عمر أخرجه مالك في الموطأ في (2) كتاب الطهارة (12) باب: العمل فيمن غلبه الدم من جرح أو رعاف رقم (51) من كلام سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
(4) صحيح لشواهده أخرجه أبو داود في (35) كتاب الأدب (86) باب : في الصلاة العتمة ، رقم (4985)من حديث سالم بن أبي الجعد .
(1) أخرجه البخاري في (65) كتاب التفسير ـ سورة النساء ـ (9) باب : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ، رقم ( 4582) ومسلم في (6) كتاب صلاة المسافرين (40) باب : فضل استماع القرآن رقم (800) .
(2) صحيح أخرجه الترمذي في (41) كتاب الإيمان (9) باب : ما جاء في ترك الصلاة رقم : (2621) من حديث بيردة بن الحصيب رضي الله عنه ، وصححه هو وابن حبان والحاكم والذهبي ، وهو صحيح على شرط مسلم .
(3) أخرجه مسلم في (1) كتاب الإيمان (35) باب : بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة ، رقم (82) ، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما .
(1) أي : الخليفة العباسي المنصور .
(1) إسناده صحيح أخرجه أحمد في المسند (4: 156) والحاكم في المستدرك : (4: 219) وغيرها من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه ، قال : صحيح الإسناد وهو كما قال .
(2) أخرجه البخاري (2802) ومسلم (1796) من حيث جندب بن عبد الله رضي الله عنه .
(1) أخرجه مسلم ف (19) كتاب اللعان رقم (1499) .
(1) صحيح أخرجه الترمذي في (9) كتاب النكاح (3) باب : ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه ، رقم (1084) .
(1) أخرجه مسلم في (6)كتاب صلاة المسافرين (42) باب : فضل قراءة القرآن ، رقم (804) (252) .
(2) صحيح أخرجه الترمذي في (46) كتاب فضائل القرآن (16) باب : ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن ، رقم (2910) .
(3) حسن أخرجه الترمذي في (28) كتاب البر والصلة (85) باب : ما جاء في تعظيم المؤمن ، رقم (2032) .
(4) أخرجه البخاري (8) كتاب الصلاة (68) باب : الشعر في المسجد رقم (453) [ طرفه : 3212- 4124- 6153] ، ومسلم في (44) كتاب الفضائل (34) باب : فضائل حسان بن ثابت رضي الله عنه ، رقم (2485) .(/70)
(1) أخرجه البخاري في (81) كتاب الرقاق (1) باب : ما جاء في الرقاق وأن لا عيش إلا عيش الآخرة ، رقم : (6421) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
(1) صحيح أخرجه الترمذي (460) والنسائي (1/258) وابن ماجه (4258) والحاكم (4/321) من حديث محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة مرفوعاً به وسنده حسن بسبب محمد بن عمرو بن علقمة ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، قلت : وله شواهد كثيرة يصح الحديث بها .
(1) أخرجه البخاري في (24) كتاب الزكاة (49) باب : قوله تعالى : ( وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ) (التوبة :60) رقم : (1468 ) ومسلم في (12) كتاب الزكاة (3) باب تقديم الزكاة (983).
(1) البخاري في (60) كتاب أحاديث الأنبياء (51) باب :حديث أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل رقم (3464) ومسلم في (53) كتاب الزهد رقم (2964) (10) .
(1) أخرجه البخاري في (65) كتاب التفسير (12) باب : (( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) رقم (4585) ، ومسلم في (43) كتاب الفضائل (36) باب : وجب أتباعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ رقم (2357)(129) .
(1) أخرجه مسلم في (1) كتاب الإيمان (7) باب : وجوب الإيمان برسالة نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) ، رقم (153 ) (240) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه .
(1) أخرجه البخاري في (57) كتاب اللباس (61) باب : المتشبهون بالنساء ، رقم (5885) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه .
(1) أخرجه البخاري في (64) كتاب المغزي (82) باب : كتاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى كسرى ، رقم : (4425) [ طرفه: 7099].
(2) صحيح أخرجه أبو داود في (26) كتاب اللباس (5) باب : من لبس شهرة ، رقم: (4031) ، والإمام أحمد في المسند (1: 50).
(3) صحيح أخرجه أحمد في المسند : ( 2: 180) ، وأبو داود في (2) كتاب الصلاة (26) باب : متى يؤمر الغلام بالصلاة رقم : (494) .
(1) حسن أخرجه الترمذي في(15) كتاب الحدود(27) باب : ما جاء في حد الساحر، رقم:(1460) من حديث جندب رضي الله عنه.
(2) صحيح أخرجه أحمد في المسند: (2: 429) والحاكم (1/8) وصححه الألباني في ( الارواء ) (2006) .
(3) أخرجه مسلم في (38) كتاب الآداب (35) باب : تحريم الكهانة وإتيان الكهان رقم : (2230) (125) عن بعض أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم ) ويقال هي حفصة .
(4) صحيح رواه أحمد (2/34، 125) ، والطيالسي (1896) والترمذي (1535) ، والطحاوي في شرح المشكل (826) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
(1) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه : (4: 369) ، والبغوي في شرح السنة : (1: 213) رقم (104) وانظر جامع العلوم والحكم ص (393) .
(2) أخرجه مسلم في ( 37) كتاب اللباس والزينة (9) باب : تحريم جر الثوب خيلاء ، رقم : (2085)(42) ، من حديث أبي ذر رضي الله عنه .
(3) أخرجه البخاري في (77) كتاب اللباس (1) باب : قول الله تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ) (لأعراف: من الآية32) رقم (5783) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
(4) أخرجه مسلم في (35) كتاب الأضاحي (8) باب : تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله ، رقم : ( 1978) (43) ، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
(5) أخرجه مسلم في (1) كتاب الإيمان (61) باب : وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة ، رقم : (637) (218).
(1) أخرجه مسلم في (22) كتاب المساقاة (30) باب : تحريم الظلم وغصب الأرض ، رقم : (1610) (137) .
(2) أخرجه مسلم في (5) كتاب المساجد ومواضع الصلاة (43) باب : يجب إتيان المسجد على من سمع النداء ، رقم (653).
(3) أخرجه ابن ماجه في (4) كتاب المساجد (16) باب : التغليط في التخلف عن الجماعة ، رقم (793) .
(4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (3: 57) عن علي رضي الله عنه موقوفاً ، ورواه أيضاً مرفوعاً عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال : وهو ضعيف . وقال ابن عبد البر في الاستذكار (5: 320) : لا يثبت مرفوعاً ، ولو صح كان معناه الكمال .
(5) أخرجه الترمذي في (41) كتاب الإيمان (8) باب : ما جاء في حرمة الصلاة ، رقم (2617) .
(6) أخرجه مسلم (5) كتاب المساجد (44) باب : صلاة الجماعة من سنن الهدى رقم : (654) (257) .
(1) أخرجه البخاري في (24) كتاب الزكاة (75) باب : صاع من زبيب ، رقم (1508) .
(1) أخرجه البخاري في (3) كتاب العلم باب : من يرد الله به خيراً يفقه في الدين، رقم : (71) ، ومسلم في (12) كتاب الزكاة (33) باب : النهي عن المسألة ، رقم : (1037) (98) ، من حديث معاوية بن أبي سفيان ، رضي الله عنهما .(/71)
(1) أخرجه البخاري في (87) كتاب الديات (6) باب : قول الله تعالى : ( أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (المائدة: من الآية45) ، رقم: (6878) ومسلم في (48) كتاب القسامة (6) باب : ما يباح به دم المسلم ، رقم : ( 1676) (25) .
(2) صحيح أخرجه الإمام أحمد في المسند : (3: 19) أبو داود في (31) كتاب الملاحم (7) باب الأمر والنهي ، رقم : (4344) .
(1) الصحابي هو : عكاشة بن محصن ، والحديث أخرجه البيهقي في دلائل النبوة ( 3 : 98و99) .
(1) أخرجه البخاري في (67) كتاب النكاح (1) باب : الترغيب في النكاح ، رقم : (5063) ومسلم في (16) كتاب (1) باب : استحباب النكاح ، رقم : (1401) (5) ، من حديث عائشة رضي الله عنها .
(1) أخرجه مسلم في (43) كتاب الفضائل (1) باب : فضل نسب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، رقم : (2277) (2) .
(1) حسن أخرجه أبو داود في (31) كتاب الملاحم (17)باب :الأمر والنهي ، رقم: (4344)، والترمذي في (34) كتاب الفتن (13) باب : ما جاء أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ، رقم : (2174)، والنسائي في (39) كتاب البيعة (37) باب : فضل من تكلم بالحق عند إمام جائر رقم (4211) .
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند (4: 90) وهو صحيح .
(2) أخرجه البخاري في (24) كتاب الزكاة (49) باب : قول الله تعالى ( وفي الرقاب ) [ التوبة : 60] ، رقم : (1468) ومسلم في (12) كتاب الزكاة (21) باب : في تعجيل الزكاة ، رقم (1633) .
(1) أخرجه البخاري في (64) كتاب المغازي (45) باب : بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أسامة بن زيد رقم (4269) ومسلم في (1) كتاب الإيمان (41) باب : تحريم قتل الكافر بعد قوله : لا إله إلا الله ، رقم (95) (160) .
(1) أخرجه مسلم في (1) كتاب الإيمان (10) باب ك من لقي الله وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار، رقم (31) (52) .
(1) أخرجه مسلم في (1) كتاب الإيمان (6) باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله ، رقم : (17) (24) .
(1) أخرجه البخاري في (40) كتاب الوكالة (10) باب : إذا وكل رجلاً ...، رقم (2311) [ أطرافه : 3275-5010].
(2) أخرجه البخاري في (2) كتاب الإيمان (17) باب : فإن تابوا وأقاموا الصلاة ...، رقم : (25) مسلم في (1)كتاب الإيمان (8) باب : الأمر بقتال الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله رقم : (20) (32) ، من حديث ابن عمر ، رضي الله عنهما .
(1) سبق تخريجه .
(1) أخرجه البخاري في (2) كتاب الإيمان (22) باب : المعاصي من أمر الجاهلية ، رقم (30) .
(1) أخرجه مسلم في (6) كتاب صلاة المسافرين (44) باب : فضل سورة الكهف وآية الكرسي ، رقم (810) (258) .
(1) انظر ( سير النبلاء ) للذهبي ( 3/118) .
(2) صحيح أخرجه ابو داود (501) والنسائي (2/827) وأحمد (3/408) ، والدار قطني (68) والبيهقي (1/392) من حديث أبي محذورة .
(1) أخرجه البخاري في (83) كتاب الإيمان والنذور (4) باب : لا تحلفوا بآبائكم ، رقم : (6646) ومسلم في (27) كتاب الإيمان والنذور (1) باب : النهي عن الحلف بغير الله ، رقم (1646) (3) .
(2) أخرجه مسلم في (27) كتاب الإيمان والنذور (1) باب : النهي عن الحلف بغير الله ، رقم (1646) .
(1) سبق تخريجه .
(2) أخرجه البخاري في (79) كتاب الاستئذان (17) باب : إذا قال : من ذا ؟ قال : أنا ، رقم (6250) ومسلم في (38) كتاب الاستئذان (8) باب : كراهية قول المستأذن : أنا ، إذا قيل : من هذا ، رقم : (2155) .
(1) أخرجه البخاري في (8) كتاب الصلاة (1) باب : كيف فرضت الصلوات في الإسراء ، رقم : ( 349) ومسلم في (1) كتاب الإيمان (72) باب : الإسراء برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى السماوات وفرض الصلوات ، رقم (162) .
(1) أخرجه البخاري في (23) كتاب الجنائز (3) باب : الدخول على الميت بعد الموت ... ، رقم (1243) .
(2) أخرجه مسلم في (1) كتاب الإيمان (1) باب : بيان الإيمان والإسلام ، رقم (8) .
(3) أخرجه مسلم في (46) كتاب القدر (8) باب : الأمر بالقوة وترك العجز ، رقم (2664) .
(1) أخرجه البخاري (97) كتاب التوحيد (31) باب : قوله تعالى: ( تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ )(آل عمران: من الآية26) رقم (7477) .
(2) أخرجه البخاري في (8) كتاب الصلاة (4) باب : الصلاة في الثوب الواحد ملتحفاً به رقم (357) .
(1) أخرجه البخاري في (10) كتاب الأذان (21) باب : لا يسعى إلى الصلاة ، وليأت بالسكينة والوقار ، رقم : (636) ، ومسلم في (5) كتاب المساجد (28) باب : استحباب آتيان الصلاة بوقار وسكينة رقم : (602) (151) .
(2) أخرجه البخاري في (62) كتاب فصائل أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم (12) باب: مناقب الحسن والحسين رقم (3746).
(3) أخرجه البخاري في (56) كتاب الجهاد والسير (168) باب: إذا نزل العدو على حكم رجل ، رقم :(4043) [ أطرافه : 3804- 4121- 6262 ] ومسلم في (32) كتاب الجهاد والسير (22) باب : جواز قتال من نقض العهد ... رقم (1768) .(/72)
(4) أخرجه البخاري في (5) كتاب الاستسقاء (22) باب : رفع الإمام يده في الاستسقاء رقم (1031) ومسلم في (9) كتاب صلاة الاستسقاء (1) باب : رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء رقم (985) (5) .
(1) أخرجه البخاري في (65) كتاب التفسير ( سورة الجاثية ) (1) باب : وما يهلكنا إلا الدهر ، رقم (8426) ومسلم في (40) كتاب الألفاظ من الأدب (1) باب : النهي عن سب الدهر ، رقم : (2246) (2) .
(1) أخرجه البخاري في (30) كتاب الصوم (5) باب : من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ، رقم (1968) ومسلم في (13) كتاب الصوم (35) باب : النهي عن صوم الدهر : رقم (1159) (182) .
(1) أخرجه البخاري في (2) كتاب الإيمان (29) باب الدين يسر رقم : ( 39) .
(1) الكنيف : مكان قضاء الحاجة .
(1) أخرجه البخاري في (59) كتاب بدء الخلق (6) باب : ذكر الملائكة ، رقم : ( 3209) [ أطرافه : 6040- 7485 ] ، ومسلم في (45) كتاب البر والصلة (48) باب : إذا احب الله عبداً حببه إلى عباده رقم (2637) .
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند : (3: 23) وابن ماجه في (4) كتاب المساجد (16) باب : التغليط في التخلف عن الجماعة ، رقم (792) .
(1) أخرجه البخاري في (75) كتاب المرضي (7) باب فضل من ذهب بصره ، رقم (5653) .
(1) أخرجه البخاري (19) كتاب التهجد ( 14 باب : الدعاء والصلاة من آخر الليل ، رقم (1145) [ أطرافه : 6321- 7494 ] ومسلم في (6) كتاب صلاة المسافرين (24) باب : الترغيب في الدعاء والذكر رقم (758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(1) أخرجه البخاري في (64) كتاب المغازي (60) باب : بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن رقم ( 4341) ، ومسلم في ( 32) كتاب الجهاد والسير (4) باب : في الأمر بالتيسير وترك التنفير ، رقم : (1732)(6) .
(2) صحيح أخرجه الإمام أحمد : ( 6 : 264) وأبو داود في (9) كتاب الجهاد (68) باب : في السبق على الرحل رقم : (2578) .
(1) أخرجه البخاري في (8) كتاب الصلاة (106) باب : إذا حمل صغيرة على عنقه في الصلاة ، رقم : (516) ، ومسلم في (5) كتاب مساجد الصلاة (9) باب : جواز حمل الصبيان في الصلاة ، رقم : (543) (41) .(/73)
العشق الشيطاني - الإعجاب
حمود بن إبراهيم السليم
دار الوطن
المظاهر والأسباب
عندما بَعُدَ الناس عن دين الله القويم، واستحبوا الدنيا على الآخرة، استحوذ عليهم الشيطان، وصدّهم عن السبيل، وأصابهم بآفات في قلوبهم جعلتهم يجهلون ما يصلحون به أنفسهم، ومن ذلك " العشق"، أو ما يسمى بـ"التعلق" و"الإعجاب"، وهو: الإفراط في المحبة. وتتركز فتنته – غالباً - على الشكل والصورة، أو انجذاب مجهول السبب، لكنه غير متقيد بالحب لله، سواء كان المعشوق من الرجال أو النساء، ويدعي بعضهم أنها صداقة، وهي ليست كذلك؛ لأنها صداقة فاسدة؛ لفساد أساس الحب فيها بعدم انضباطها بضوابط الشرع، والعشق رغم سهولة بداياته إلا أنّ نهايته انتكاس للعاشق، وخروج عن حدود الشرع، ولهذا كان بعض السلف يستعيذ بالله من العشق، فهو إفراط في الحب في أوله، وعبودية للمعشوق في نهايته، تضيع معها عبودية العبد لله عز وجل.
وسقوط الشاب أو الفتاة في شباك العشق من أخطر الأمور، إذ إن من صفات الهوى أنه يهوي بصاحبه، وإذا ما استحكم في القلب سيطر على العقل والفكر، وهنا يقع الإنسان في عبودية هواه ـ والعياذ بالله - قال تعالى: أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً [الفرقان:43].
مظاهر الإعجاب
من أبرز مظاهر الإعجاب: تعلق القلب بالمعشوق، فلا يفكّر إلا في محبوبه، ولا يتكلم إلا فيه، ولا يقوم إلا بخدمته، ولا يحب إلا ما يحب، ويكثر مجالسته والحديث معه الأوقات الطويلة من غير فائدة ولا مصلحة. وتبادل الرسائل ووضع الرسومات والكتابات في الدفاتر وفي كل مكان.. ويقوم بالدفاع عنه بالكلام وغيره، ويغار عليه، ويشاكله في اللباس، وهيئة المشي والكلام وكل شيء، فلو خُيّر بين رضاه ورضا الله لاختار رضا معشوقه على رضا ربه.
ولكن إن كان عنده قليل من الإيمان، وتبقّى من وقته فضلة؛ صرف تلك الفضلة في طاعة ربه.
وأصل ذلك كله من خلو القلب من محبة الله تعالى والإخلاص له، والإشراك بينه وبين غيره في المحبة.
أسباب الإعجاب
من أهم أسباب الوقوع في الإعجاب المذموم، والعشق الشيطاني، ما يلي:
- ضعف الإيمان: وخلو القلب من حب الله ورسوله ، فإن العشق يتمكن من القلب الفارغ فيقوم فيه، ويعمل بموجبه بالجوارح، قال : { ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يُقذف في النار } [متفق عليه].
- فقدان العاطفة والحنان في محيط البيت: وبخاصة من الأبوين، فيبحث الابن أو البنت عمن يجد عنده ما فقده في البيت، هذا الحرمان يكون سبباً في سرعة انخداعهم ووقوعهم في وحل العشق الشيطاني. فيستسلمون بسرعة إلى ما يُظهره الآخرون من عشق ومحبة.
- ضعف الشخصية: فلا يستطيع صاحب الشخصية الضعيفة التحكم في عواطفه ومشاعره، بل تنجرف مع التيّار.
- عدم وجود القدوة الصالحة التي توجه عواطف الشباب أو الفتيات إلى ما ينبغي حبه: كحب الله عزّ وجل ورسوله ، والصالحين من الصحابة والعلماء.
- الفراغ: فإنّ الوقت إذا لم يُشغل بالطاعة أُشغل بالمعصية، والشخص الفارغ يكثر التفكير والخواطر، فيوسوس له الشيطان ويغرس المعصية في قلبه.
- التقليد الأعمى للغير: فقد تكون البداية مجرّد تقليد لأصدقاء السوء، فهذه لها رفيق وعشيق، وذلك له رفيقة وعشيقة، وكل ينافس بما يتعلق به، وبخاصة بين صفوف طالبات المدارس والكليات؛ لأنّ البنت عاطفية بطبعها، تحبُّ التعلق، فإذا فقدت العاطفة في البيت ووجدت تلك البيئة التي تشجع على ذلك؛ قلدت غيرها باتخاذ العشيق أو العشيقة من البنات وتعلقت بها.
- المبالغة في المظهر والزينة: سواء من الشباب أو الفتيات، فيلفت القلوب والأنظار إليه، الأمر الذي يؤدي إلى الإعجاب ومن ثمّ إلى العشق.
- وسائل الإعلام: فهي تبث القصص والحكايات عن العشاق والمعجبين، وتزيّن ذلك في عيون الناس، وتجعل الحب والعشق من ضروريات الحياة، وتمجّد الشواذ، وقد تجرى معهم مقابلات وندوات تبيّن طبيعة الأمر، فيتأثر الشباب والفتيات بما يُعرض لهم.
الأخطار والعلاج
إنّ للإعجاب مفاسد دينية ودنيوية، وذلك من عدة وجوه، منها:
- الاشتغال بذكر المحبوب المخلوق عن ذكر الله تعالى: فمن المعلوم أنه لا يجتمع مع حبّ الله حب غيره: ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله [البقرة:165]. لذا فإنّ العاشق لا يجد حلاوة الإيمان التي من شروطها: { أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله } [متفق عليه]. وسبب ذلك: خُلوُّ القلب مما خُلق له من عبادة الله تعالى التي تجمع محبته وتعظيمه والخضوع والذل له، والوقوف مع أمره ونهيه ومحابه ومساخطه، فإذا كان في القلب وجدان حلاوة الإيمان وذوق طعمه؛ أغناه ذلك عن محبة الأنداد وتأليهها، وإذا خلا القلب من ذلك احتاج إلى أن يستبدل به ما يهواه ويتخذه إلهه.(/1)
ولا يأمن العاشق أن يجرّه ذلك إلى الشرك كما جرّ ذلك الشاعر الخاسر حين قال:
وصلك أشهى إلى فؤادي *** من رحمة الخالق الجليل
نعوذ بالله من الخسران المبين.
- العذاب والحسرة والشقاء لتعلق القلب بالمعشوق، وهذه من العقوبة الدنيوية، فمن أحبّ شيئاً غير الله عُذّب به، وفي الآخرة يتبرأ بعضهم من بعض، قال تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبّونهم كحب الله والذين آمنوا أشدّ حباً لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أنّ القوة لله جميعاً وأنّ الله شديد العذاب، إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم ا لأسباب [البقرة:165-166].
- إبقاء العيوب، فحينما تصل المحبة العادية إلى مرحلة التعلق والعلاقات القوية المتأصلة، يظهر فيها أثر ستر العيوب وحجبها بصورة عجيبة، حتى يصل الوضع أن يواجه كلُّ من يقدّم نصيحة لهذا الشخص بالرد العنيف، ويضمر حقده في قلبه، لكن عندما ينقطع هذا العشق يكون الندم والحزن.
- الانشغال بالمعشوق عن مصالح الدين والدنيا، فمعشوقه هو شغله الشاغل لا يفكّر إلا فيه، ولا يعمل إلا له، نسي الله فأنساه مصلحة نفسه، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: { من تعلّق شيئاً اُكل عليه (أو إليه) } [رواه الإمام أحمد والنسائي].
- فساد الحواس، مصداقاً لقول النبي : { إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، ألا وهي القلب } [متفق عليه]، فإنّ القلب إذا فسد فسدت العين والأذن واللسان، فيرى القبيح حسناً.
- ارتكاب الفواحش كالزنا واللواط والسحاق وغيرها؛ لأنّ الفواحش أصلها المحبة لغير الله، سواء كان المطلوب المشاهدة أو المباشرة، قال تعالى: الشيطان يعدُكم الفقر ويأمركم بالفحشاء [البقرة:268].
علاج الإعجاب
ودواء هذا الداء الفتّاك أن يعلم من ابتلى به أن ذلك من جهله وغفلة قلبه عن الله، فعليه أن يعرف توحيد ربَّه وسننه وآياته أولاً، ثم يأتي من العبادات الظاهرة والباطنة بما يشغل قلبه عن دوام الفكر في المعشوق، ويكثر اللجوءَ والتضرع إلى الله سبحانه في صرف ذلك عنه، وعليه بالإخلاص في ذلك، وهو الدواء الذي ذكره الله في كتابه حيث قال: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلَصين [يوسف:24].
ومن أنفع الأدوية للتخلص من هذا الداء، أن يبتعد المبتلى به عن معشوقه، أو من يحرّك كوامن الشهوة فيه، بحيث لا يراه ولا يسمع كلامه، فالابتعاد عنه أهون بكثير من الاسترسال معه والوقوع في الآثام والمعاصي.
وجدير بالذكر أنه ينبغي توجيه عاطفة الأبناء والبنات لما هو مفيد، وإعطاؤهم الحنان الكافي منذ الصغر، ومتابعتهم في الكبر، وعدم إهمال تربيتهم ومشاعرهم، واتخاذ الإجراءات المناسبة لمعالجة مثل هذه الظاهرة، وعدم التغاضي عنها؛ لأنَّها قد تؤدي إلى ظواهر أخرى سيئة.
وانتصرت على نفسها
تقول صاحبة القصة: "عندما كنت أدرس بالمرحلة الثانوية انضمت إلى مدرستنا معلِّمة جديدة، وكانت هذه المعلِّمة جميلة وأنيقة، ومنذ بدأت وأنا أبدي لها اهتماماً وحرصاً؛ لأنَّني معجبة بشكلها ومظهرها، فأصبحتُ أهتم بالمادة التي تدرسها، وأجتهد في حلّ الواجبات ومذاكرة الدرس حتى برزت، فأصبحت محل احترامها وثنائها، كل ذلك كان طبيعياً؛ لأنَّني كُنت مجتهدة عندها، لكنَّ الفراغ الذي أعيشه جعلني أعتقد بأنَّها تحبني.
ومرّت الأيام وأنا أفكّر فيها وأتحدَّث عن مواقفي معها حتى تعلَّق قلبي بها كثيراً، فأصبحت حياتي بين مد وجزر، فإذا رضيت عني وأثنت سعدت كثيراً، وإذا غضبت علي لتقصيري أو لم تبالِ بي ـ وهذا يحدث كثيراً ـ حزنت حزناً شديداً، حتى انتهى العام الدراسي، وجاءت العطلة الصيفية، ومع قدومها شعرت بفراغ كبير فشكوت ذلك إلى إحدى صديقاتي، فاقترحت علي أن أذهب معها إلى إحدى دور تحفيظ القرآن الكريم وأخذت تشجِّعني، وفعلاً ذهبت معها ودرسنا سوياً وحفظنا القرآن الكريم، ودرسنا التجويد وحضرنا المحاضرات، وتعرَّفنا على كثير من الأخوات الصالحات - نحسبهن كذلك -.
وفي الدار بدأت حياتي تتغير، لأوَّل مرَّة أحس بالسعادة والطمأنينة تغمر قلبي، لأوَّل مرَّة أشعر أنَّني أستثمر وقتي في عمل مفيد، تعلَّمت في الدار الكثير من الدروس والعبر، والتي من أهمها أنّ حبّ الله عزّ وجلّ ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم أثمن وأغلى حبّ، وأنّ السعادة الحقيقية في طاعة الله جلّ وعلا وطلب مرضاته. انتهت الدورة ورجعت إلى مدرستي بهدف سام وروح معنوية عالية، وبالرغم من أنّ نفس المعلِّمة أصبحت تدرِّس لنا في المرحلة الثالثة إلاَّ أنَّني أصبحت أعاملها كبقية المدرسات باحترام وتقدير فقط، فقد وجدت ضالتي وسعادتي الحقيقية مع حبي لربِّي عز وجل وكتابه الكريم ورسوله .
وقفة أخيرة(/2)
إنّ السعادة والراحة والطمأنينة في محبَّة الله سبحانه والأنس به والشوق إلى لقائه والرضا به وعنه، فمحبَّته تعالى من أعظم واجبات الدين وأكبر أصوله وأجلّ قواعده، ومن أحب معه مخلوقاً مثل ما يحبَّه فهو من الشرك الذي لا يُغفر لصاحبه ولا يُقبل معه عمل. وإذا كان العبد لا يكون من أهل الإيمان حتى يكون الله ورسوله أحبُّ إليه من نفسه وأهله وولده والنَّاس أجمعين، ومحبَّته تبع لمحبَّة الله؛ فما الظن بمحبته سبحانه؟ وهو سبحانه لم يخلق الجن والإنس إلا لعبادته التي تتضمن كمال محبَّته وكمال تعظيمه والذل له، ولأجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه، وعلى ذلك وضع الثواب والعقاب، وأُسست الجنّة والنار، وانقسم الناس إلى شقي وسعيد.
وكما أنَّه سبحانه ليس كمثله شيء، فليس كمحبَّته وإجلاله وخوفه محبَّة وإجلال ومخافة، فالمخلوق كلَّما خفته استوحشت منه وهربت منه، والله سبحانه كلما خفته أنست به وفررت إليه، والمخلوقُ يخاف ظلمه وعدوانه، والربُّ سبحانه إنَّما يخاف عدله وقسطه، وكذلك المحبَّة، فإنّ محبَّة المخلوق إذا لم تكن لله فهي عذاب للمحبّ ووبال عليه.
فيا حسرة المحبّ الذي باع نفسه لغير الحبيب الأوَّل، بثمن بخس وشهوة عاجلة، ذهبت لذتها وبقيت تبعتها، وانقضت منفعتها وبقيت مضرتها، فذهبت الشهوة وبقيت الشقوة، وزالت النشوة وبقيت الحسرة، حسرة فوت المحبوب الأعلى والنعيم المقيم، وحسرة ما يقاسيه من النصب والعذاب الأليم.(/3)
العصبيات الجاهلية
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
لابد أَن يتعرّض المسلم والجماعة والعمل الإِسلامي إِلى بعض المواقف التي يُمحَّص فيه الإِيمان وصفاؤه، والعلم وقوّته، والوعي وامتداده. ومن خلال أَحداث الحياة وسنن الله يمضي هذا الابتلاء والتمحيص على درجات متفاوتة في الشدّة أَو الخطورة.وقد تظهر من خلال ذلك كله أمراض وعلل في جسد الدعوة، فإِن تُرِكت نمتْ واستشرت، وإن عولجتْ هدى الله من يشاء إلى الحق بإِذنه.
ونريد أَن نعرض هنا إِلى مرض يسهل انتشاره وامتداده، لأنه يلامس العاطفة المغروسة في الإِنسان. ولكن هذا المرض يدفع العاطفة إذا لامسها إِلى الانحراف عن نهج الإِيمان، ويغذيها في هذا الاتجاه المنحرف. وإذا استمرّ الانحراف يتحوّل إلى فتنة وضلالة كبيرة.
ولقد أَشار الرسول صلى الله عليه وسلم إِلى ذلك في أَكثر من مناسبة وحديث. فعن أَنس رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث لم تزلْن في أُمتي : التفاخر بالأَحساب، والنياحة والأَنواء " (1) .
نعم ! التفاخر بالأحساب والاعتزاز بها وبأمثالها من العصبيات الجاهلية، من إقليمية إلى قومية إلى غيرها. ويوضح حديث آخر ارتباط هذه القضايا الثلاث بالجاهلية وأفَكارها وعاداتها.
فعن أَبي هريرة رضي الله عنه أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث من فعل الجاهلية لا يدعهن أَهل الإسلام : استسقاء بالكواكب وطعنٌ في النسب والنياحة على الميت"(2)
وفي رواية أحمد بن حنبل : " ثلاث من عمل الجاهلية لا يتركهن أهل الإِسلام : النياحة على الميت، والاستسقاء بالأَنواء وكذا. قلت لسعيد وما هو ؟ قال دعوى الجاهلية يا آل فلان يا آل فلان " (3)
وعن أَبي هريرة رضي الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجلّ قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقيّ، وفاجر شقي. أَنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعنَّ رجال فخرها بأقوام، إنما هم فحْم من فحم جهنم، أَو ليكونُنَّ أَهون على الله من الجعلان التي تدفع بأَنفها النتن "
[ أخرجه أبو داود والترمذي ] (4)
وعن بنت واثلة بن الأسقع أَنها سمعت أَباها يقول : قلت : يا رسول الله، ما العصبية ؟ قال : " أن تعين قومك على الظلم ".
[ رواه أبو داود وابن ماجة ] (5)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قاتل تحت راية عِمِّيِّة، يدعو إِلى عصبية، أَو يغضب إلى عصبية، فقتْلُه جاهلية ". " أي فقتاله جاهلية ".
[ رواه ابن ماجه والنسائي ومسلم ] (6)
وفي رواية لمسلم : " من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية. ومن قاتل تحت راية عُمِّيَّة " الأَمر الأعمى لا يستبين وجهه "، يغضب لعَصَبَةٍ أو يدعو لعَصَبَةٍ أَو ينصر عَصَبة، فُقُتِل فقِتلةٌ جاهلية. ومن خرج على أمتي يضرب بَرَّها وفاجرها، ولا يتحاشى مؤمنها، ولا يفي لذي عهدٍ عهده، فليس مني ولست منه " (7)
من هذه الأحاديث الشريفة تتضح لنا حقيقة المرض والعلّة على صورته الواقعية. وكذلك فإن الأحاديث الشريفة تشير إِلى جوهر العلاج الذي يرسمه منهاج الله بتكامله وتناسقه وترابطه.
إنها مسئولية الدعوة الإسلامية، ومسئولية الدعاة والمربين، ومسئولية الآباء والأُمهات، ومسئولية كل مسلم أَن ينهض لعلاج هذا الداء القاتل، الداء المستشري في حياة الإِنسانية.
إن دعوى الجاهلية هذه : يا آل فلان ويا آل فلان، هي وأمثالها من دعوات الإقليمية. والقومية تمثل انحراف عاطفة القربى ورابطة البلد عن خطها الإِيمانيّ ونهجها الرباني، لتصبح عاطفة ودعوى جاهلية، تفسد في الناس وتفرق، بدلاً من أن تجمع وتصلح. إِنها العصبية التي عرفها لنا وحذَّرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِنها الباطل والفتنة والفساد.
وفي واقعنا اليوم، واقع المسلمين في الأرض، استشرى هذا المرض على صورة خطيرة مدمّرة. فأَصبح المسلم الذي يصلي ويصوم ويحجّ يجد اعتزازه في نفسه وعاطفته وفكره لأرضه أولاً قبل دينه وعقيدته. أصبحنا نجد هذه الدعوى الجاهلية تمضي في واقع المسلمين تحت راية الإسلام وشعار الإيمان. لقد أصبح الواقع المنحرف الذي يعيشه المسلمون هو الذي يصوغ روابط الناس وعلاقاتهم، ولم يعد الإيمان والتوحيد، ولم تعد آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، لم يعد هذا كله هو الذي يصوغ الروابط بين الناس.(/1)
إِن الودّ بين الأَهل والأَرحام وهم ملتزمون بدين الله أمر مشروع حتى يقوى المسلم على الوفاء بأمانة صلة الرحم. وإِن حبّ الوطن، حبّ المؤمن لداره وأرضه وبلده، هو من فطرة المؤمن وطبعه. ولكنّ هذا الحب يصوغه الإيمان والتوحيد، حتى لا يتحول إلى عصبية جاهليّة تجعل ولاء المسلم الأول لأهله وعشيرته أو أَرضه ووطنه، ولاءً أعلى من ولائه لله ورسوله، وتجعل أُخوة الأرض والوطن أعلى من أخوة الإيمان، وتصبح الأرض هي محور الأحلاف والصلات، والتكتلات والتجمعات، ويصبح المؤمنون بذلك على غير ما أمر الله ورسوله به. يصبحون أشتاتاً وأحزاباً، وفرقاً وشيعاً، يحارب بعضهم بعضاً، ولا يصبحون أُمة واحدة من دون الناس كما أمر الإسلام، وتُصبح الحوافز بذلك حوافز جاهلية، حوافز أرض ودنيا، حوافز مصالح وعواطف منحرفة، ولا تكون حوافز إيمانيّة جلية تشدّ المؤمن ليسعى على صراط مستقيم، هدفه الجنة ورضاء الله، ليسعى وهو يتذكَّر ويعي مع كل خطوة الآيات والأحاديث التي ترسم له دربه، وتصوغ له صلاته وروابطَه، حتى تأخذ كلُّ صلة صورتها الإِيمانية، وحتى تُؤدّي هذه الرابطة المهمّة التي شرعها الله، وعلى الصورة التي أمر بها، وفي الحدود التي أقامها، دون تجاوز وطغيان، أو تقصير وظلم.
لا يتسنَّى للمؤمن أن يفي بهذا الأَمر، أو أَن يدعي روابطه على نحو إِيماني يَعْبُد بها الله سبحانه وتعالى إلا إذا صدق الإيمان وصفا التوحيد في قلبه، وإلاّ إذا ملأَ العلمُ الحقُّ قلبه بالآيات والأحاديث، حتى يعرف من منهاج الله حدود كلِّ رابطة، لا من أهوائه المتفلِّتة وعواطفه الجاهلة، ومصالحه التي يُخفيها تحت الشعارات والرايات والزخارف، بغير هذا العلم، وبغير التوعية والتدريب المتواصل الذي كانت توفّره مدرسة النبوّة، وبغير الرعاية والمتابعة والإشراف، والإدارة الحازمة الواعية القوّية، لا يستطع المسلم أَن يلتزم الروابط الإِيمانية حقَّ الالتزام.
عند ضعف الإيمان وغياب العلم بمنهاج الله، وغياب التدريب والرعاية والإعداد، تخضع الروابط عندئذ لقوى العادات والأعراف، والعاطفة والنزوات، وضغوط الجهل والأَهواء، فتنحرف الروابط من خلال التصوّر والممارسة إلى أَشكال جاهلية، حتى تألفها النفوس، ثم ترضى بها وتخضع لها، ثم تراها أَنها هي الحق فتدعو لها، ثم تقاتل دونها.
إِن الحدود التي أقامها أَعداء الله لتمزيق هذه الأمة، أَلفها الناس ثمَّ رضوا بها، ثمَّ أَخذوا يقيمون الأَعياد والأَفراح لها، ثمّ أَخذوا يدافعون عنها ويحمونها، ويتمسّكون بها تحت شعارات الوحدة وزخارفها، بدلاً من مقاومتها والسعي الحثيث لإلغائها. وأَصبح هذا الواقع المخالف لنصوص منهاج الله هو الذي يصوغ الروابط والعلاقات على مدى غير قصير من الزمن، ولكنه قصير بالنسبة لحياة أُمة ! ثم أَصبح يصوغ السياسة والمواقف، والاقتصاد والمصالح، حتى امتدت المأساة وزاد الجرح عُمقاً في جسد الأُمة.
لقد أصبح من السهل أَن يُرفَع شعار الإِسلام ورايته، وفي الوقت نفسه يمضي الجهد والفكر والعطاء بروح قومية أَو إِقليمية ترسم الدرب والنهج والأَهداف، وتصوغ النيّة والعلاقات تحت شعار الإِسلام، إذا جاء الاقتصاد أَصبح الناس اشتراكيين، وإذا جاءت السياسة أصبح الناس " ميكيافيليين "، وإذا جاء الأدب فالناس حداثيون، وإذا عرضت المصالح فهم إِقليميون أَو قوميون، ولم يأخذوا من الإِسلام إلا راية يتخفّى الناس في ظلالها، وهم ماضون على نهج غير إِيماني.
ويزداد الأَمر سوءاً حين تصبح التجمعات إقليمية أو قومية في بنيانها ونهجها وأَهدافها، ثم يُظَلَّل هذا كله براية إِسلامية أَو تلاوة قرآنية، أو لباس وزينة وشعار. وفي قلب الفكر وروح النهج ولاء قوميٌّ أَعلى أَو إِقليميٌّ أكبر، هو الذي يرسم الدرب ويحدِّد النهجَ، ويقيم العلاقات ويبني الأَهداف. وقد تتفلّت من بين الزخارف والزينة، والطلاء والأَصباغ، تعبيرات مناقضة لزخارف الراية والشعار، تكشفُ حقيقة الفكر وروح النهج واتجاه المسيرة. ولكن هذه التعبيرات المتفلّتة تُطوَى في أَمواج العاطفة والحماسة، حتى لا يكاد يلتفت لخطورتها إِلا القليل الذي يغيب صوته.
ويزداد الأَمر سوءاً حين تصبح الزخارف والزينة والشعارات تُرضي الناس فَيُقْبِلوا عليها على أنها هي " الجوهر " الحقّ، دون أَن يسألوا عن حقيقة هذا " الزخرف "، وما فيه من خلل واضطراب وتصادم مع النهج الإيماني. وتصبح البطولات القومية بعد ذلك بطولات إيمانية تمنح لقب الشهيد مثلاً لكل قوميًّ صرع في الميدان ولو كان نصرانياً أو ملحداً أو ضالاً. ومن خلال ذلك تلتقي المناهج غير الإِيمانية مع الشعارات والزخارف في تحالفات وولاءات. ثم يبحث الجميع عن مسوّغات لذلك في تأويل للآيات والأَحاديث، تأويل أَصبحت النفوس مستعدة لقبوله، والعقول جاهزة للدفاع عنه.(/2)
إِن الأمر يبلغ غاية السوء وأَشد الخطر حين يصبح الرأي العام المنتسب للإسلام يقبل هذا التأويل، وهذا الواقع، ويمضي معه ليكون حامياً له وقوة له، بعد أَن سكت عنه أَولاً ثمَّ استسلم له ورضي به واعتاده وأَلفه !
ثمَّ لا يستيقظ أَحد إلاّ عند نزول البلاء بعد البلاء، والفتنة بعد الفتنة، والدمار بعد الدمار، واللجوء بعد اللجوء، والمجازر بعد المجازر، ثم تجد من يسأل : لماذا حلّ بنا عقاب الله ؟! (.. قل هو من عند أَنفسكم.. )، هذا هو ما كسبت أَيديكم، وهذا هو ما صنعتموه أَنتم بأَيديكم وأَنفسكم، فالله حق يقضي بالحق، لا يظلم شيئاً، ولا يظلم أَحدا !.
إِنها مسؤولية كل مسلم أَن يبذل جهده ليعالج هذا المرض في نفسه أَولاً ثمَّ في أهله وعشيرته ثم في قومه وأُمته.
وإن أَول العلاج هو تصحيح التصوّر الإِيماني والتّوحيد، حتى يصدق الولاء الأول لله، وحتى يصدق العهد مع الله، وحتى يكون الحب الأَكبر لله ولرسوله حقيقةً لا مجرد شعار يطويه حب الأهل والعشيرة، وحب المصالح والأهواء. إِنه عمل هام ضروري لاغناء عنه، حتى يستقيم الإِيمان والتوحيد على النهج الربّاني في جميع تصوّراته وممارساته.
إِنها القضية الأُولى التي تحتاج إلى رعاية وإعداد، وتدريب وبناء. وإِن من أَهم الوسائل إلى ذلك مصاحبة منهاج الله مصاحبة عمر وحياة، مصاحبة منهجية، في ظل رعاية حانية وإِشراف وتدريب، حتى تستقيم النفوس التي يكتب الله لها الهداية برحمته وفضله. ولا شيء يصنع في النفوس مثل منهاج الله إذا آمنت القلوب ووعت وتدبّرت.
إنها قضية هامة ليتبرّأ المسلم من كل الروابط الجاهلية، والعواطف الجاهلية، والأَفكار الجاهلية والممارسات الجاهلية، فلا تخدعه الزخارف والزينة، والشعارات والرايات، ويظل يسأل عن الجوهر حتى يتأكد ويطمئن، ويظل يسأل عن النهج وتفصيلاته، ومدى ارتباط النهج بالأَهداف، وكيف يوصل النهج إلى الأهداف، ومدى ارتباط هذا كله بمنهاج الله !
إن علاج أمراضنا وعللنا لا يمكن أَن يتمّ بالشعارات المتنافسة المتصارعة. ولكنه يتمّ بالنهج المدروس، والخُطة الواعية، والعمل الدائب والبذل الصادق ليل نهار، عسى أَن يكتب الله لنا النجاة في الدنيا والآخرة.
العصبيات الجاهلية وما يبنى عليها من روابط وصلات مرض قاتل مدمِّر في واقعنا اليوم. وإِنها مسؤولية كل مسلم أَن ينهض لعلاج هذا المرض القاتل في الأُمة. إنها مسؤولية البيت والمعهد والدعاة والعلماء وأُولي الأمر.
وإن هذا المرض القاتل لا ينحصر شرّه في القطر الواحد أَو الأُمة المسلمة وحدها. كلاّ ! إِنه خطر يهدد حياة الإنسان والبشرية كلها على الأرض. إِنّه الداء الذي يثير الأَحقاد الباطلة بين الشعوب، حتى يصبح كلُّ شعب لا يرى الحقَّ إلا في مصالحه الظالمة وأطماعه العدوانية، فتثور الحروب وتلتهب الأرض بنارها. ويفقد الناس الأمن والعدالة والحرّية الكريمة. وتضطرب الموازين بأيدي الناس حتى يظلم بعضهم بعضاً. وينهب بعضهم بعضاً، وتصبح تعبيرات هيئة الأُمم المتحدة ومؤسساتها، ومجلس الأَمن وقراراته، والنظام العالمي الجديد وزينته، وحقوق الإِنسان ولجانها، وكل ما شابه ذلك، كل هذا يصبح أَداة استغلال فاسد لتنفيذ جريمة هنا وجريمة هناك، يكون من أول ضحاياها دعاة العصبية الجاهلية أَنفسهم، أو الذين رضُوا وسكتوا عن باطلها، في أَجواء الهوان والضعف، أَو أَجواء العاطفة غير الواعية، العاطفة التي تشدّها الزخارف الكاذبة فتنسى جوهر الحق وعدالة الميزان. وتنسى أَمر الله وشرعه ومنهاجه !
ونستطيع أَن نوجز هذه العصبيات الجاهلية أو نعدّد بعض مذاهبها ونماذجها في واقع المسلمين اليوم، وفي واقع البشرية كذلك، على النحو التالي :
ـ العصبية للذات وما تحمل من كبر وغرور وإِعجاب بالنفس.
ـ العصبية للأُسرة والزوجة والأَبناء، وللأَرحام والعائلة، وإيثارهم بالباطل وتأييدهم على الظلم.
ـ العصبية للأصدقاء والافتئات على حقوق الآخرين ظلماً وعدواناً.
ـ العصبية للحيّ أَو المدينة حتى يكاد القطر الواحد يتفتّت نتيجة لذلك.
ـ العصبية للجماعة أَو الحزب أو أَي تجمّع حتى يصبح اسم الجماعة أَو الحزب أو التكتل ينال الولاء الأَعلى والنصرة الأَشد. فتتطاحن الجماعات وتُسدّ أَبواب اللقاء.
ـ العصبية للقطر أَو الإِقليم حتى تصبح الوطنية الإقليمية هي التي ترسم الدرب والنهج، والعلاقات والأَهداف، وهي التي يدور حولها الأَدب والفكر والعاطفة والولاء. وتتمزّق الأُمة وتتناقض مصالحها، فتتصادم وتفترق، أَو تتعاون وتلتقي، على أساس مصالح متبدِّلة ومطامع لا تخضع لميزان عادل.(/3)
ـ العصبية القومية التي ترى نفسها أَعزَّ من غيرها بجنسها ودمها. وتتفاضل الشعوب عندئذ بضلالة الأجناس والدماء في دعوى جاهلية باطلة يحرّمها الإِسلام، فتُسدُّ بذلك أَبواب تلاقي الشعوب والأجناس على غير الخير والحق في منهاج ربّاني كامل. ولا يعود التنافس على خير، ولكن على شر وتحاسد وفتنة ومظالم. وتسود شريعة الوحوش تحت رايات الحضارة الكاذبة، وتلتهب الأرض فتنة وحروباً ودماراً.
وتأخذ هذه العصبيات في واقع المسلمين وواقع البشرية عامة صوراً وأشكالاً متعددة. ولكنها تظل في جميع صورها تحمل المظالم والفتنة والفساد في حياة الناس ! ومسؤوليتنا أَن نكشف هذه الصور المتعددة في كل واقع حتى تتمَّ معالجتها.
إِنها إِذن مهمة المسلم ومهمة الأُمة المسلمة كلها أَن تحارب هذه الفتنة في الأرض، وتدفع عن الناس شرَّها وفتنتها. ومن هنا تتضح لنا واحدة من أَهم مسؤوليات الدعوة الإِسلامية والأَمة المسلمة على مدار العصور، حتى توفّر للبشرية أَجواء الأمن الحقيقي والعدالة الصادقة والسلام العزيز على ميزان رباني أَمين.
ومن هنا ندرك البعد الإنساني للدعوة الإسلامية ودورها الهام في بناء فكر الإِنسان وعاطفته وولائه، وتوجيه جهده وعطائه.
إِن تحقيق هذه المهمة العظيمة، أو معالجة هذا الداء الخطير لا يتمّ بكلمة نلقيها ثم نمضي. إِنها تتمّ من خلال مناهج تفصيلية تطبيقية تحمل العلم والنهج والتدريب، وتحمل معها الرعاية الحانية والإِشراف، والتعهّد والمراقبة، والتوجه الدائب والنصح الأَمين.
وإِن " المنهاج الفردي " (8) بنظريته وصورته التطبيقية العملية، و" منهج لقاء المؤمنين " (9) كذلك بنظريته وصورته التطبيقية العملية، رَاعيَا هذه الناحية لِيُوفِّرا أوسع الأَساليب النظرية والتطبيقية لمعالجة هذه القضية وغيرها. وكذلك ميزان المؤمن الذي يقوم أولاً على صدق الإيمان والتوحيد وصدق الولاء والوفاء بالعهد كما أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز " وأوفوا بعهد الله إذّا عاهدتم.. " !
ولكن يظل للجهد البشريّ المبذول، ومدى التزامه الخطة والنهج، ومدى تفاعله ووعيه لذلك، ومدى صدقه وبذله وعطائه، سيظل لهذا كله دور رئيس في نجاح الخطة وبلوغ الهدف. وقبل هذا كله تكون هداية الله هي العامل الأَول. فالأَمر كله لله. ولكننا نبذل الجهد ليستوعب وسعنا وطاقتنا عبادة لله واستجابة لأَمره وطاعة له.
ومن خلال " المنهاج الفردي " و " منهج اللقاء " يمكن معالجة سائر العيوب والأخطاء والعلل والأَمراض، على قدر ما يصدق الداعية بالالتزام بالنهج، وبوعيه للنهج، وعلى قدر وفائه بالأمانة في عنقه، وما يبذل من رعاية ومتابعة، وتدريب وإِعداد، ونصحٍ لله ولرسوله ولكتابه ولأَئمة المسلمين وعامَّتهم.
ومن المناسب أن نذكِّر أَنفسنا، وأَن نعيد ونكرر، أَنَّ الإسلام يحترم الروابط والعلاقات التي شرعها الله بين الناس على أَن يصوغ الإسلام هذه الروابط كلها لتكون " روابط إِيمانية ". وعلى رأس هذه الروابط الإيمانية أُخوة الإِيمان، أُخوة الإِسلام، الأٌخوة في الله كما صاغها منهاج الله.
ولكنّ هذه الأُخوة في الله يتعذَّر تطبيقها في واقع الناس إِلا إِذا كان الولاء الأَول والأَكبر، الولاء الواعي الصادق، هو لله. ومن هذا الولاء ينشأ كل ولاء آخر، ومنه تنشأ الموالاة بين المؤمنين، ومنه ينشأ الوفاء بالعهد الحق. فإذا اضطرب الولاء لله اضطربت الموالاة بين المؤمنين وانحرفت لتصبح موالاة تجمعات وأحزاب تفرّق المؤمنين ولا تجمعهم، وتصبح صورة من صور العصبيات الجاهلية، ويتعذّر عندئذ الوفاء بالعهد الرباني ويضطرب السمع والطاعة وتختلط الأمور.
والموالاة بين المؤمنين ليست قضية مودة وعاطفة فحسب، ولكنها مسؤولية والتزام، وحقوق وواجبات فصّلها منهاج الله، وهي عهد مع الله من المؤمنين جميعاً ليكونوا أمّةً واحدة.
ولعله يجدر بنا أَن نورد بعض النصوص من منهاج الله لتذكرنا بحقيقة الروابط الإِيمانية : ( إِنما المؤمنون إِخوة... )
[ الحجرات : 10 ]
( يا أيها الناس إِنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )
[ الحجرات : 13 ]
( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثمّ لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون... )
[ الحجرات : 15 ]
( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أُولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم )
[ التوبة : 71 ]
( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون. ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون )
[ المائدة : 55، 56 ](/4)
وعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه. من كان في حاجة أَخيه كان الله في حاجته. ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة "
[ رواه مسلم ] (10)
وعن أَبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً"
[ رواه مسلم ] (11)
وعن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إِذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"
[ رواه مسلم ] (12)
هذه بعض ملامح الموالاة بين المؤمنين : ودٌّ وحبٌّ في الله، حقوق وواجبات، ولاء واحد من الجميع لله، يحبون الحق ويتحرّونه ويخضعون له. إِنها موالاة بين الأَفراد، وبين الشعوب، تنمو معها الروابط الإِيمانية مندّاة بالإيمان غنيّة بالصدق، تمضي على نهج ربّاني، لتؤدِّي مهمّة إِيمانية في واقع الإِنسان، مهمة خير وصلاح، فلا تنحرف إلى شر وفتنة وفساد.
لذلك ندعو الأَفراد والحركات الإسلامية لتنظر في نفسها ومناهجها ووسائل تربيتها : كم طبّقت هذه القواعد الربانية، وكم غرستها في نفوس الأجيال التي تتعهدّها ؟! كم أَنقذتها من العصبيات الجاهلية و الولاءات الخاطئة وكم نشَّأتها على الروابط الإِيمانية كما أَمر الله ورسوله؟! (13)
إِنها مسؤولية كبيرة سيحاسِب الله عليها عباده يوم القيامة، ويمضي عليهم قدره في الحياة الدنيا والآخرة. فلينهض الجميع إِلى هذه المسؤولية، فيها نرسي القاعدة المتينة للقاء المؤمنين، ولقاء العاملين الصادقين، وبناء الأُمة المسلمة الواحدة.
ومن أخطر القضايا التي تثير العصبيات الجاهلية في الفرد والجماعة الكبر والغرور والإعجاب بالذات. ومما يؤثر في تهذيب ذلك معرفة المسلم لحدوده ووفاؤه بمسؤولياته وعدم تجاوز تلك الحدود والمسؤوليات، حتى لا تصطدم الحدود والمسؤوليات، فتضيع الجهود وتُشْغل بالفتنة بعد الفتنة، وكلٌّ يريد أن يبرز نفسه، أو يبرز قومه أو وطنه على غير حق وعلى غير ميزان عادل.
نعود ونؤكد أن فهم " ميزان المؤمن " فهماً سليماً عن إيمان وعلم وصدق التزام، يعين كثيراً من الحد من هجمة العصبيات الجاهلية والكبر والغرور، ويساعد على ذلك " المنهاج الفردي " و " منهج لقاء المؤمنين ".
إلا أن هذه كلها يسقط دورها إذّا اختل الإيمان والتوحيد وضعف العلم، وتجاوز المسلم حدوده، وغلب على نفسه غروره وكبره وإعجابه بنفسه، وضعف الوفاء بالمسؤولية وحدودها، والعهد وأسسه.
ولا بد أَن نؤكد مع ختام هذه الكلمة أَنه لا يمكن فصل هذه القضية عن سائر قضايا منهاج الله، ولا هذا المرض عن سائر العلل في الأُمة. فالنهج والخطة والجهد والبذل يجب أَن يتناول كل العلل والأمراض عسى الله أَن يمن علينا بنصر من عنده، إِنه هو العزيز الحكيم.. والحمد لله رب العالمين.
(1)صحيح الجامع الصغير وزيادته (ج:3)(ص:64)حديث(3034)سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (1799).
(2)صحيح الجامع الصغير وزيادته (ج:3)(ص:64)حديث(3036)سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (1801).
(3) الفتح الرباني : (ج:19)، (ص:284).
(4) سنن أبي داود : كتاب الأدب (35). باب (120). حديث(5116). الترمذي في المناقب (50) باب (75). حديث (3955)، (3956).
(5) سنن أبي داود :35/121/5119. ابن ماجه أبواب الفتن (31) باب العصبية (7) حديث (3997).
(6)ابن ماجه : 31/7/3996. النسائي 27/28/4115.
(7) مسلم : 33/13/1848.
(8)يراجع كتاب " منهج المؤمن بين العلم والتطبيق " لدارسة نظرية " المنهاج الفردي ".
(9)ويراجع كتاب " منهج لقاء المؤمنين " لدراسة نظرية هذا اللقاء.
(10) صحيح مسلم : كتاب (45)، باب (15)، حديث (2580).
(11) صحيح مسلم : 45/17/2585.
(12) صحيح مسلم : 45/17/2586.
(13) يُراجَع كتاب " دور المنهاج الرباني " (ص : 144ـ155) من أجل تفصيلات أوسع عن الروابط الإيمانية وكذلك القواعد الأساسية في المنهاج الفردي، وكتاب " لقاء المؤمنين " الجزء الأول (ص :19-28) للمؤلف.(/5)
العطلة الصيفية فائدة واستجمام
الكاتب : م. عبد اللطيف البريجاوي
مخطط البحث
• أهمية الوقت
• خطورة الفراغ
• أهمية الاستجمام
• أين تضيع العطلة الصيفية
• العطلة الصيفية طاقة معطلة
• وسائل عملية للاستفادة من العطلة الصيفية
1. زيارة المشاهير(العلماء , الصالحون , الأدباء )
2. زيارة الأقارب
3. النوم عند الأقارب
4. الرياضة
5. كتابة المذكرات
6. تعلم حرفة للشباب وتدبير منزلي للبنات
7. تنسيب الأطفال إلى مراكز الأنشطة والجمعيات الخيرية ومعاهد تحفيظ القرآن الكريم
8. إنشاء صفحة السلبيات في البيت والشارع والمجتمع
9. المطالعة
10- المشروع الشخصي
11- خاتمة واقتراح
أهمية الوقت
لا يخفى على أحد أهمية الوقت في حياة الأفراد والأمم ولا سيما نحن العرب والمسلمين الذي نستمد ثقافتنا من هذا الدين الحنيف
فقد أقسم الله بالوقت ( " والعصر " , " والضحى " , " والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى " )
كما أقسمت بدلالات الوقت ( والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها , فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتسق )
وهذا القسم ناهيك عن دلالاته المختلفة فإنه اهتمام بهذه الأوقات ومؤشر حتى ينتيه الإنسان إلى أهمية الوقت
كم أن السنة جاءت لتؤكد على المسؤولية الكاملة للإنسان على الوقت ( لا تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع .... وعن عمره فيما أفناه ... ) أبو داود
فهو رأس ماله الذي يتاجر به ويرابح (راجع الكتب التالية للاستزادة : قيمة الوقت عند علماء المسلمين الشيخ عبد الفتاح أبو غدة , الوقت د. يوسف القرضاوي وغيرهما )
خطورة الفراغ :
ليس هناك خطر يداهم شبابنا وبناتنا كم يداهمهم الفراغ ذلك أن الفراغ مفسدة
إن الشباب والفراغ والجدة *** مفسدة للمرء أية مفسدة
إذا أردت أن تعرف قيمة الأمة ومدى اهتماماتها فانظر إليها في وقت فراغها ماذا تفعل
الفراغ خطر للأمور التالية :
1 - يورث الملل والضجر
2- يورث الكسل
3- يورث الأخلاق السيئة
4- يورث البحث عن طرق لإضاعة الوقت
5 - يورث المعصية
6- يورث عدم التوازن النفسي
7 - النمو الجنسي قبل الأوان
للاستزادة راجع (مؤلفات د . عبد الكريم بكار )
أهمية الاستجمام
وعلى الرغم من أن الإسلام أكد على الوقت وأهميته إلى أنه لم ينسى حاجات الإنسان إلى الراحة والاستجمام والترويح عن النفس
لَقِيَ أبو بكرٍ رضي الله عنه حنظلةَ الأُسيدي فقال له : كيف أنت يا حنظلة ؟ قال : قلت : نافق حنظلة .قال : سبحان الله ! ما تقول ؟ قال قلت : نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكِّرُنا بالنار والجنة حتى كأنّا رأى عين ، فإذا خرجنا من عندِ رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسْنا الأزواجَ والأولادَ والضّيعاتِ فنسينا كثيرا . قال أبو بكر : فوالله إنا لنلقى مثل هذا . قال حنظلة : فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلتُ : نافق حنظلة يا رسول الله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما ذاك ؟ قال حنظلة قلت : يا رسول الله نكون عندك تذكرُنا بالنار والجنة حتى كأنّا رأى عين ،فإذا خرجنا من عندك عافسْنا الأزواجَ والأولادَ والضيعاتِ . نسينا كثيرا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده إنْ لو تدومون على ما تكونون عندي ، وفي الذِّكر ، لصافحتكم الملائكة على فرشكم ، وفي طرقكم ، ولكن يا حنظلة ساعةً وساعة . ثلاث مرات . رواه مسلم .
( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) [القصص: 77]
ومن أهمية الإستجمام معرفة أن في هذا الدين فسحة قالت عائشة : وكان يومَ عيدٍ يلعبُ السودانُ بالدَّرَقِ والحِرابِ ، فإما سألت النبي صلى الله عليه وسلم وإما قال : تشتهين تنظرين ؟ فقلت : نعم ، فأقامني وراءه خدِّي على خَدِّهِ متفق عليه .
يقول ابن الجوزي رحمه الله: (ولقد رأيت الإنسان قد حُمّل من التكاليف أمورًا صعبة، ومن أثقل ما حُمّل مداراة النفس وتكليفها الصبر عما تحب وعلى ما تكره، فرأيت الصواب قطع طريق الصبر بالتسلية والتلطف للنفس).
العطلة الصيفية طاقة معطلة :
يملك العرب والمسلمون طاقات في أيديهم لا يدركونها ولا يستثمرونها الاستثمار الأمثل ومن هذه الطاقات طاقة الفراغ ( العطلة الصيفية )
فالإسلام جعل صاحب طاقتي الفراغ والصحة مغبون عند الناس لانه يملك وقتا كافيا لينجز ما لا يستطيع أصحاب المشاغل فعله " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ "(/1)
فالعطلة الصيفية طاقة معطلة عند كثير من الناس فهو يقضيها عبثا ولهوا ودفعا للوقت يقول ابن الجوزي " رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمن دفعا عجيبا إن طال الليل فبحديث لاينفع , وإن طال النهار فبالنوم أو في الأسواق ...ورأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود ... فالله الله في مواسم العمر والبدار البدار قبل الفوات استشهدوا العلم ونافسوا الزمان "
فأين يضيع هذا الوقت النفيس عند طلابنا وأبنائنا :
1- النوم البطر :30 % من وقت الفراغ الذي قدر ب13 ساعة يوميا
2- مشاهدة الفضائيات المتنوعة: 42% من وقت الفراغ الذي قدر ب13 ساعة يوميا
3- الانترنت :
4- ممارسة ومشاهدة الرياضة :
5- المشي في الشوارع :
6- الوقوف على شرفات المنازل وأبواب البيوت :
وسائل عملية للاستفادة من العطلة الصيفية :
1- زيارة المشاهير(العلماء , الصالحون , الأدباء ) :
الإنسان دائما يفتقد إلى قدوة يقتدي به , وغالبا تكون هذه القدوة من نسج الخيال عند كثير من الشبان والفتيات ," ولقد لوحظ باستبيان أجري على شريحة من المشاهير لوحظ أن 63% منهم كانوا قد زاروا مشاهير في صغرهم " صناعة القائد
فاستغلال العطلة الصيفية بالزيارت إلى العلماء والأدباء والأطباء والصالحين يشكل نموذجا تطبيقيا للقدوة في ذهن هؤلاء الأطفال
فمثلا من يريد لابنه أن يصبح طبيبا يمكن أن يأخذه لزيارة طبيب وديا على أن يقوم الطبيب بشرح كفاحه ودراسته وشعوره بالاعتزاز عند استلامه الشهادة وهكذا نفعل مع الشعراء والأدباء والصالحين والعلماء .
2- زيارة الأقارب :
وهذا من الأمور التي قد يغفل عنها الكثير من الناس فيقصرون بحق أقاربهم فلا يتفقدونهم ولا يحسنون إليهم, وبعض الآباء لا يربون أولادهم على ذلك .
فأفضل الصدقات ما كانت للأقارب : فعن كريب مولى ابن عباس أن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها أخبرته أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي قال : " أو فعلت " قالت : نعم
قال : " أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك " متفق عليه
وأفضل البر بر الأقارب : فقد روى البخاري أن النبي عليه السلام قال : " الخالة بمنزلة الأم "
3- النوم عند الأقارب
وخاصة إذا لم يكن هناك مخالفات شرعية , وكان الأقارب من الطبقة الملتزمة حيث يتعرف الطفل على علاقات خارجية ملتزمة وقريبة , فيؤثر ذلك فيه أبلغ التأثير, مما يدفعه لتقليدهم ويزداد حبه لهم وهذا ابن عباس ينام عند رسول الله عليه السلام ويتعلم منه كيف يقوم الليل
وبعض الناس يمانعون ممانعة شديدة في نوم الأطفال عند بعض الأقارب دون عذر شرعي مقبول, مما يمنع الطفل من مشاهدة العالم الخارجي عن أسرته الذي ينظر إليه دائما باستغراب ودهشة ويرغب بشدة أن يطلع عليه ويلج عالمه , ومنعه من هذه الرغبة الشديدة يمنعه من رؤية هذا العالم وقد يؤثر على رؤيته المستقبلية للأمور
(راجع مقالة العلاقات الخارجية في الأسرة لـ عبد اللطيف البريجاوي)
4 – الرياضة :
الرياضة تجدد البعد النفسي , وتفرغ الطاقات الفائضة عند الشباب , وهي بدورها تلعب دورا مهما في تناسق نمو جسد الأطفال
ولقد صارع النبي صلى الله عليه وسلم ركانة فصرعه , وسابق عائشة فسبقته مرة وسبقها مرة
فالرياضة انبعاث للحياة من جديد , وتجديد للفكر وطرح للوهن والكسل
ومن العجب العجاب أن الآباء لا ينتبهون إلى هذا الأمر الحيوي والمهم في حياة أولادهم
5 - كتابة المذكرات:
من الأمور التي تساعد على الاستفادة من الوقت استفادة ايجابية حيث تشغل ذهن الشاب بالمفيد وتنمي عنده القدرة على مسك القلم والتوصيف الجيد وتخفيف الضغط عليه وتساعده في تحديد نظرته للعالم ورؤيته له رؤية صحيحة كتابة المذكرات
وليس فقط كتابة المذكرات إنما الكتابة بكل معناها فإنك تستطيع أن تطلب من ولدك أن يحدثك بشكل كتابي عن مفهومه عن فلسطين أو العراق أو الوطن أو نزهة قمتم بها
ولقد أحسن أحد المدرسين للتربية الإسلامية عندما قال للطلاب ( يريد أن يشجعهم )أن النبي سيزوره الليل فطلب من كل طالب أن يكتب رسالة لهذا النبي صلى الله عليه وسلك فكانت المفاجأة التي قصها علينا وهو فرح يبكي وأنت سوف تبكي معه عندما تسمع وتقرأ ما كتبه الطلاب كرسالة لرسول الله : فأحدهم يقول أحبك يارسول الله متى أراك والآخر : معذرة يا رسول الله عما فعلته الدانمرك والثالث : يقول أنا لا أصلي وسأعدك أن أصلي وهكذا
لقد فجرت الكتابة في نفوس اليافعين ما لم تفجره محاضرات وخطب ودروس .
6 - تعلم حرفة للشباب وتدبير منزلي للبنات :
أشد الناس تقصيرا في تعليم أولادهم للحرف هم العرب بشكل عام , فالعرب بطبيعتهم يميلون للتجارة (قريش , سبأ ) , بينما كانت الصناعة تنتشر عند غيرهم من الفرس والروم والموالي(/2)
لكن الإسلام شجع على الصناعة فقال صلى الله عليه وسلم " يدخل في السهم الواحد ثلاثة صانعه ومنبله وراميه " فبدأ بالصانع ليؤكد على أهمية الصناعة وأهمية الحرف للإنسان
وفي أحاديث أخرى يتكلم عن قدوات تاريحية نبوية فيقول:" كان زكريا نجارا" و" كان داود حدادا "
إن تعليم الأولاد حرفة معينة في العطلة الصفية له فوائده الجمة منها :
• الاستفادة منها كمصدر رزق في المستقبل
• التعامل مع الأمور بشكل عملي مما يوسع أفقه ويبعده عن التنظير
• الابتعاد عن الكسل
• تكسبه معارف جيدة
• وتمنحه صداقات جديدة
وما يقال للشباب يقال للفتيات من حيث ضرورة تعليمهن التدبير المنزلي السليم وكيفية تربية الأولاد , وكيفية إضفاء لمسات الجمال على البيت مما لا تسمح الفترة الدراسية بالوقت ليتعلمنه
7 - تنسيب الأطفال إلى مراكز الأنشطة والجمعيات الخيرية ومعاهد تحفيظ القرآن الكريم :
من الأمور التي تساعد الأولاد على استنفار طاقاتهم وبذل جهدهم وتشجعهم على العمل الجماعي والعمل المتقن هو تنسيب الأطفال إلى إحدى الجهات الواعية والمسؤولة والتي تقوم بأعمال الخير والتي تقوم بالنشاطات المختلفة كمسابقات الرسم والخط والقصة وحفظ القرآن الكريم ولسنة النبوية المبارك والشعر مما يولد عندهم حبا للعمل الجماعي وتآلفا ولهفة لمن حولهم .
8 - إنشاء صفحة السلبيات وطرق المعالجة في البيت والشارع والمجتمع :
من الضروري جدا إشعار الطفل والشاب بأنه جزء من أسرة صغيرة في البيت وأسرة أكبر في الحي ثم أكبر في المجتمع , وإشعاره بهذا الشعور يكون بتنمية روح الملاحظة لكل ما هو سلبي فيهم ومن ثم إدراك ما يمكن إدراكه ومن الطرق التي تساعد على ذلك ‘نشاء صفحة السلبيات وطرق المعالجة لهذه السلبيات وبالتالي نحقق فوائد عديدة منها :
• تعليم الأطفال والشباب على متابعة السلبيات وعدم السكوت عليها
• تعليمهم كيفية المعالجة السليمة لهذه السلبيات
• تعليمهم المقارنة بين الايجابيات والسلبيات في حال عدم قدرتنا على تغير السلبيات
فمثلا شاهد الأولاد أطفالا يلعبون الكرة في الشارع مما أدى إلى بعض الأضرار في محل جارنا فلان
يجب أن لا يمر الطفل على هذه الظاهرة دون أن ينتقدها ويوصفها ويناقش الحلول لهذه المشكلة
9 - المطالعة :
يعتقد كثير من الأسر أن الإجازة هي فسحة للابتعاد عن الدراسة والثقافة والعلم، وأنها فرصة ليتخلى الشاب أو الفتاة عن أي شيء له علاقة بالعلم.
إذ يلاحظ على الطلاب هجرانهم للقراءة بمجرد انتهاء الامتحانات، وسبب هذا يعود إلى أن الطالب لم يدرك أهمية القراءة ودورها في بناء شخصيته وتنمية ثقافته، فالطالب من نعومة أظفاره يطلب منه أن يحفظ دروسه فقط ، فليس في حياته أن هناك قراءة خارج المدرسة فلم يتعود أن يهدى له كتاب أو أن يشتري كتاب حتى إنه لم يتعود أن يرى والداه وأهل بيته وفي أيديهم كتاب يقرؤونه أم مجلة علمية يطالعونها
يجب أن يعلم الطلاب وآباؤهم أن المدرسة ليست المصدر الوحيد للعلم، وليست فصولها الأوقات الوحيدة لمتابعة الدروس بالعكس، يوجد الكثير من المشاريع العلمية التي يصعب إجراؤها في أوقات الدراسة، بسبب انشغال الطلاب بالتحصيل العلمي الإلزامي.
يقول د. بكار " ماالفرق بين المتعلم والأمي إذا كان كلاهما لا يقرأ "
القراءة بداية رسالتنا نحن العرب والمسلمين
ومع ذلك فنحن أبعد الناس عن القراءة
لابد من تغيير تربوي شامل في هذا المجال تشترك فيه الأسر والهيآت والجمعيات ودور النشر والكتاب لتغيير الثقافة المتوارثة بأن القراء فقط هي القراءة المدرسية
يستحب أن تلتزم الأسرة في الصيف بالقراءة ومناقشة ما تقرأ ومن الوسائل المعينة على القراءة :
1. وجود مكتبة في البيت ولو صغيرة
2. تخفيف مشاهدة الفضائيات التي تستهلك الوقت الكبير
3. السماح للطفل وللشاب بطرح ما فهمه مما قرأه أمام والديه وإخوانه مما يشجعه على متابعة القراءة
إن قراءة كل يوم خمسة أحاديث هذا يعني أننا نقرأ في الشهر مائة وخمسون حديثا
وقراءة نصف ساعة في اليوم يعني قراءة خمسة عشر ساعة أسبوعيا ومائة وثمانون ساعة سنويا
فإذا علمت أن الكتاب المتوسط الحجم يحتاج إلى عشر ساعات لقراءته فإنك ستقرأ في العام الواحد ثمانية عشر كتابا!!
اقرأ تلاها المصطفى
فكانت جيل الأرقم
( راجع القراءة المثمرة لـ دعبد الكريم بكار والخطة البراقة للخالدي )
10 - المشروع الشخصي:
يقصد بالمشروع الشخصي " هو شيء يكرس الشخص له حياته أو معظم حياته " د. بكار وبمعنى آخر لا بد أن يزرع الآباء في نفوس أولادهم مشروعات مختلفة ليبدعوا بها ومن ثم يحولوها تطبيقا عمليا على أرض الواقع
لقد كان حلم البخاري أن يجمع الصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغرق في هذا العمل ستة عشر سنة
والذي نقل تقنية صنع المحركات على اليابان مكث ثماني سنوات وهو يفك محركات السيارات في ألمانيا ثم يطبقها حتى استطاع بعد ذلك من حفظ كل قطعة في المحرك وطريقة صنعها ومكان تركيبها(/3)
وكان حلم د. فاضل السامرائي أن يجمع كتابا في معاني النحو فاستغرق عشرة أعوام في ذلك
وكان حلم أديسون أن يخترع مصابحا مضيئا فاستغرق بذلك 2990 تجربة فاشلة حتى أنار معه المصباح الكهربائي
وإنك تجد كل إنسان عنده مشروع شخصي يستنفر كل قوته وعزيمته للوصول إليه وإنه واصل بعون الله تعالى
إننا بحاجة إلى طرح مشاريع شخصية على أولادنا وهذه المشاريع تتفاوت كثيرا من مكان إلى آخر ومن شخص إلى آخر
أمثلة عن المشاريع الشخصية :
# حفظ القرآن الكريم
# حفظ السنة النبوية الشريفة( البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وأبو داود)
# الاتجاه لأن يكون حجة في النحو فيحظ الألفية ويقرأ فقه اللغة وتاج العروس وغيرهم
# الاتجاه إلى تعلم صناعات جديدة ترفد تقدم بلده وازدهارها
# التوجه لابتكار حلول لكثير من مشاكل مجتمعه كمعالجة مشكلة البطالة , و مشكلة قلة المياه
# القيام بمؤسسات خيرية تساعد الفقراء والمحتاجين وتسد عوزهم (راجع التوازن في حياة المسلم للدكتور بكار )
خاتمة :
في نهاية هذه العجالة لموضوع العطلة أختم مقالتي باقتراح مهم وهو بمثابة مشروع مقترح لكل الجمعيات الخيرية والفعاليات والمناشط أن يعلنوا في كل سنة حملة اسمها :
( العطلة الصيفية عندنا )
أو مشروع
( خل العطلة علينا )
وهو مشروع فيه من الخير العميم ما نحقق به المتعة والفائدة لأبنائنا في العطلة الصيفية ونستفيد من طاقتهم المهدورة وحماسهم المتوقد المصروف بالمجان وذلك من خلال برامج معدة من قبل خبراء لاستغلال واستثمار هذه الطاقات المهدورة
والله الموفق
حرر في حمص - سوريا(/4)
العطلة الصيفية و حصاد المعاصى والآثام
بسم الله والحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد : أيها القارئ الكريم :
نحن والحمد لله فى خير وعافية وستر ولله الحمد، فواجبنا شكر المنعم سبحانه ... بتقواه في السر والعلن، في ظاهر أعمالنا وأقوالنا وباطنها.، أيام قليلة وتبدأ العطلة الصيفية التى تعتبر كنزا عند كثير ممن هداهم الله ووفقهم ، ووبالا على من نكس الله قلبه فاتبع هواه وكان أمره فرطا ، فضيع عمره وزهرة شبابه فى معصية مولاه جل وعلا ، ولقد حذرنا النبى صلى الله عليه وسلم من تضييع الأعمار فيما لاينفع فعن أبي بَرْزَة بِراءٍ ثم زايٍ نَضْلَةَ بنِ عُبَيْدٍ الأَسْلَمِيِّ ، رضي اللَّه عنه ، قال: قال رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم:« لا تَزُولُ قَدمَا عبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيم فَعَلَ فِيهِ ، وعَنْ مالِهِ منْ أَيْنَ اكْتَسبهُ،وَفِيمَ أَنْفَقَهُ،وَعَن جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاهُ ( )».
ألا وإني أعظ نفسي وإيابك إن نكون ممن نكصوا على إعقابهم وأطلقوا العنان لشهواتهم أو أن نكون أقماعا للقول ليس لنا من الخير حظ إلا سماعه وقراءته فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ارحموا ترحموا واغفروا يغفر الله لكم وويل لقماع القول وويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون( ).قال الألباني: (ويل لأقماع القول) هم الذين يستمعون ولا يعون .
- لذا اقترح عليك أن تستغل إجازتك فيـ
1ـ قراءة القرآن الكريم وحفظه وتجويده .
2ـ الاستماع إلى التسجيلات المفيدة
3ـ صلةالأرحام و زيارة الأقارب والأصدقاء .
4ـ حفظ الجوارح عن مشاهدة أو سماع أو فعل المنكرات .
5ـ حضور الندوات والمحاضرات وحفظ ما تيسر من الأحاديث النبوية .
6ـ حفظ الوقت الذي سَتُسال عنه والمال الذي سَتُحاسب عليه!!
7ـ القيام برحلات مع الأسرة والترفيه عن اهلك بالضوابط الشرعية.
8ـ أداء مناسك العمرة إن تيسر لك ذلك، والصلاة في المسجد الحرام .
9ـ حث الأبناء والبنات على المشاركة الفاعلة في دُور تحفيظ القرآن الكريم .
10ـ التفقه في الدين بطلب العلم الشرعي في الدورات الصيفية أو المساجد .
الفراغ الإيماني:
((إن مكمن الداء ليس في وجود الفراغ أو سعة الوقت، وإنما في فراغ النفس والروح عن الرصيد الإيماني فضلاً عن الأهداف الجادة.
فترى الغوغائية التي لا تحكمها ضوابط وتفتقد إلى الهدف حينما يتوفر لهذا الإنسان الفارغ مزيدٌ من الوقت.
قال الحافظ ابن حجر: قال القاضي أبو بكر بن العربي (رحمهما الله): اختلف في أول نعمة الله على العبد فقيل: الإيمان، وقيل: الحياة (الوقت)، والأول أَوْلى (الإيمان)، فإنه نعمة مطلقة، وأما الحياة (الوقت) نعمة دنيوية، ولا تكون نعمة حقيقة إلا إذا صاحبت الإيمان، وحينئذ يُغبن فيها كثير من الناس. اهـ "( ).
فلا يمكن أن تستثمر نعمة في الدنيا إلا إذا صاحبت نعمة الإيمان، وحين تلتقي نعمة من نعم الدنيا مع نعمة الإيمان لقاءً حقيقيًا لا شعارًا يذوق القلب حلاوة المنة من الله، وتتمتع الجوارح بنعمة الله، وعند فراغ النفس من الإيمان يُساء استعمال نعم الله فتصرف في غير مرضاة المنعم - سبحانه - .
التقليد والعادة:
التسليم للواقع دون مجرد التفكير فيه يجعلنا ندور حيث يدور الناس ولا ندري. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا ( )".
لقد صارت العادة دين الكثير من الناس، ووزنت الأعمال عندهم بميزان العادة لا بغيره ولو كان الشرع، وانخدعنا بكثرة زائفة عصت ربها واتبعت أهواءها، قال - تعالى -: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله، وقال - سبحانه -: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين، فلا أسوة لنا في الشر أو الضلال، ولا انبهار عندنا بواقع صارت السعادة فيه وهمًا عريضًا كالسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجدأ-هـ( )))
آخى القارئ الكريم :
احذر سبل الشيطان فما أكثر سبل الغواية فى هذه الأيام التي تعصف الفتن بأنواعها بالناس إلا من رحم الله تعالى حتى أصبحت العطلة موسما لحصاد المعاصي والآثام فى عصر السماء المفتةحة والانتر نت والفيديو كلب والعري والمجون وما واقع المسلمين عنا ببعيد فاحذر أخى المسلم من :
ارتياد الشواطئ العمومية المختلطة:
ومن جملة الأمور التي لم تكن لتخطر لنا على بال ،إذ كنا نعتبرها من قبيل المحال، أن من يظهر التدين ويدعى الالتزام بدين الله تعالى في يوم من الأيام ليخالط الناس في المعاصي التي توجد على الشواطئ، هذه الشواطئ التي يترفع عنها عوام الناس فضلا عمن يزعم التدين.، فأي إسلام هذا الذي يبيح للرجال أن يدخلوا وسط النساء العاريات بدعوى الترويح عن النفوس!!(/1)
أي إسلام هذا الذي يجيز للنساء أن يطلعن على عورات الرجال والله جل وعلا يقول:?قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ.وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا..... ) (النور30،31).
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها"( )
قال النووي:"وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن عن مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك، وذم أول صفوفهن لعكس ذلك والله أعلم".
فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يندب الأمة إلى التفريق بين الرجال والنساء في الصلاة مع كون كل من الطرفين مستتر تمام الاستتار فإذا كان النبى صلى الله عليه وسلم منع العبادة فى الساجد – دور العبادة وأطهر بقاع الأرض- فمنع الاختلاط فى غيرها أولى فما بالك وقد اجتمع إلى الاختلاط العري والعياذ بالله.
كيف يتسنى لهؤلاء أن يغضوا أبصارهم وقد القوا بأنفسهم وسط الجثث العارية فنسأل الله العافية.، وهذا عنترة الذي عاش في الجاهلية يقول:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها
فأعظم بها من عفة نال شرفها أهل الجهل والجاهلية قبل الإسلام، وحرمها الذين يدعون التدين بل وكيف يتسنى (للأخوات) أن يحفظن فروجهن وهن من يسبحن بحجة أنهن يقمن بذلك مرتديات لثيابهن وقد نسين أو تناسين أن الثياب عندما تدخل وسط الماء تصف الجسم وتجسم العورة.
لله درك يا سيدة النساء.
عن عمارة بن المهاجر عن أم جعفر أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت:("يا أسماء إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء أن يطرح على المرأة الثوب فيصفها" فقالت أسماء:"ياابنة رسول الله ألا أريك شيئا رأيته بالحبشة" فدعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت عليها ثوبا فقالت فاطمة:"ما أحسن هذا وأجمله تعرف به المرأة من الرجل فإذا مت أنا فاغسليني أنت وعلي ولا يدخل علي أحد" فلما توفيت غسلها علي وأسماء رضي الله عنهما) قال الألباني رحمه الله:"فانظر إلى فاطمة بضعة النبي صلى الله عليه وسلم كيف استقبحت أن يصف الثوب المرأة وهي ميتة، فلا شك أن! وصفه إياها وهي حية أقبح وأقبح فليتأمل في هذا مسلمات هذا العصر اللاتي يلبسن من هذه الثياب الضيقة التي تصف نهودهن وخصورهن وإلياتهن وسوقهن وغير ذلك من أعضائهن ثم ليستغفرن الله تعالى وليتبن إليه وليذكرن قوله صلى الله عليه وسلم:"الحياء والإيمان قرنا جميعا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر"( ).
ومن الأدلة على سفه القوم أن الرجال منهم يأتون بزوجاتهم إلى الشواطئ ليشاهدن عورات الرجال وهذا ولا شك إقرار للخبث فيهن، قال عليه الصلاة والسلام:"ثلاث قد حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث: الذي يقر في أهله الخبث( )" ،
الجلوس فى الطرقات
ولما كان الجلوس في الطرقات مدعاة لإطلاق البصر وعدم غضه قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:"إياكم والجلوس في الطرقات" قالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال:"فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه"، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال:"غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر( )"، وفي هذا الحديث دلالة على علة النهي عن الجلوس في الطريق من التعرض للفتن بحضور النساء الشواب وخوف ما يلحق من النظر إليهن، فإذا كان هذا في طرقات ذلك العصر فكيف بطرقات هذا العصر الممتلئة بالفتن والمنكرات، بل كيف بالشواطئ التي جمعت أضعاف ما في الطرقات من المناهي، فانتبه!
كما أن الشارع الحكيم حذرنا من حضور المعاصي ومجالسة أصحابها فقال تعالى:? وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (النساء:140) قال الإمام ابن جرير:"وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع من المبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم"(25)،
وقال القرطبي:"فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم..."(26).
الغناء(/2)
إن الاستماع إلى الأغاني حرام ومنكر، ومن أسباب مرض القلوب وقسوتها وصدها عن ذكر الله وعن الصلاة. وقد فسر أكثر أهل العلم قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ) (لقمان : 6 ) بالغناء وكان عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يقسم على أن لهو الحديث هو الغناء. وإذا كان مع الغناء آلة لهو كالربابة والعود والكمان والطبل صار التحريم أشد . وذكر بعض العلماء أن الغناء بآلة لهو محرم إجماعاً. فالواجب الحذر من ذلك وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف" والحر هو الفرج الحرام ـ يعني الزنا والمعازف هي الأغاني وآلات الطرب .
من أقوال السلف الصالح رضوان الله عليهم :
قال أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ : الغناء والعزف مزمار الشيطان.
وقال الإمام مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ : الغناء إنما يفعله الفساق عندنا .
والشافعية: يشبهون الغناء بالباطل والمحال.
وقال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : الغناء ينبت النفاق في القلب فلا يعجبني .
وقال أصحاب الإمام أبي حنيفة- رحمهم الله : استماع الأغاني فسق .
وقال عمر بن عبد العزيز : الغناء بدؤه من الشيطان وعاقبته سخط الرحمن.
قال الإمام القرطبي : الغناء ممنوع بالكتاب والسنة .
وقال الإمام ابن الصلاح : الغناء مع آلة الإجماع على تحريمه .
حكم التصوير
لقد جاءت الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح والمسانيد والسنن دالة على تحريم تصوير كل ذي روح آدمياً كان أو غيره، وهتك الستور التي فيها الصور والأمر بطمس الصور ولعن المصورين وبيان أنهم أشد الناس عذاباً يوم القيامة.
فعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون" .،ولهما عن ابن عمر ت رضي الله عنهما ـ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يقول : إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم( )".
وروى البخاري في الصحيح عن أبي جحيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم، وثمن الكلب وكسب البغي، ولعن آكل الربا وموكله، والواشمة المستوشمة والمصور .
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من صوَّر صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ( )"
وخرج مسلم عن سعيد بن أبي الحسن قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني رجل أُصور هذه الصور فأفتني فيها، فقال: أدن مني، فدنا منه، ثم قال : ادن مني، فدنا منه حتى وضع على رأسه فقال: أُنبؤك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفساً تعذبه في جهنم" وقال : إن كنت لابد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له .وخرج البخاري قوله " إن كنت لابد فاعلاً" الخ.. وفي آخر الحديث الذي قبله ، بنحو ما ذكره مسلم( ) .
القمار والميسر
قال الله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة : 90 ) .
لبس القصير والرقيق من الثياب للنساء
لما روي عن أبي هريرة ري الله عنه مرفوعاً : "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا( )"
الخلوة بالأجنبية
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما( )"
مصافحة المرأة الأجنبية
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له( )" ، وقال "إني لا أصافح النساء( )".
تطيب المرأة عند خروجها
قال صلى الله عليه وسلم : "أيما امرأة استعطرت ثم مرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية( )".
سفر المرأة بغير محرم
قال صلى الله عليه وسلم "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم( )".
الدياثة
عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً : "ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر والعاق والديوث الذي يقر في أهله الخبث( )".
تشبه الرجال بالنساءوالنساء بالرجال
وذلك في اللباس أو الكلام أو الهيئة فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً : "لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال( )".(/3)
العظمة المحمدية
محمد بن إبراهيم الحمد * 26/12/1426
26/01/2006
الحديث عن السيرة النبوية حديث تنشرح له الصدور، وتنطلق له الأسارير، وتخفق له الأفئدة.
كيف لا وهو حديث عن أكرم البشرية، وأزكاها وأبرها، وعظيم لو طالعت كتب التاريخ والسير عربية وغير عربية، وأمعنت النظر في أحوال عظماء الرجال من مبدأ الخليقة إلى هذا اليوم - فإنك لا تستطيع أن تضع يدك على اسم رجل من أولئك العظماء، وتقص علينا سيرته ومزاياه وأعماله الجليلة حديثاً يضاهي أو يداني ما تُحدَّث به عن هذا الرسول العظيم.
وغير خفي على مَنْ يَقْدُر هذا النبي قدره أن ليس في طوق كاتب -ولو ألقت إليها البلاغة أعنتها- تقصي المعاني التي انطوت في هذه السيرة العظيمة.
وإن من يبتغي عظمةَ رجلٍ بحق فليبحث عنها في ناحية عقله، وعلمه، وخلقه، وإخلاصه، وعزمه، وعمله، وحسن بيانه.
ولقد كان محمد -صلى الله عليه وسلم- راجحَ العقل، غزيرَ العلم، عظيم الخلق، شديد الإخلاص، صادق العزم، جليل العمل، رائع البيان.
أما رجحان عقله فمن دلائله بعد اختصاص الله له بالرسالة أنه نشأ بين قوم يعبدون الأصنام، ويتنافسون في مظاهر الأبهة والخيلاء، وينحطون في شهواتهم إلى المنزلة السفلى، فلم يكن لهذه البيئة المظلمة من أثر في نفس محمد -صلى الله عليه وسلم- قليل أو كثير؛ فانبذ بين هذه الظلمات المتراكمة مكاناً يخلو فيه بنفسه، ويقدح فيه زناد فكره، ويناجي فيه ربه؛ فإذا نورُ النبوة يتلألأ بين جنبيه، وحكمة الله تتدفق بين شفتيه.
وأما علمه فهو ما يزكي النفوس، وينقي الأبصار، ويرفع الأمم إلى ذروة العز والشرف، حتى تحرز الحياة الطيبة في الأولى والسعادة الباقية في الأخرى.
ومَنْ يتدبر القرآنَ والأحاديث الثابتة حتى يتفقه فيما انطويا عليه من حقائق وحكم وآداب -يلف رأسه حياءاً من أن ينفي عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عظمة العلم تحت اسم الفلسفة متكئاً على أنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب.
وقد خرج من بين يدي محمد -صلى الله عليه وسلم- رجال عظماء، ولم يتلقوا من العلم غير ما كانوا يتلقونه في مجلسه من حكمته، فكانوا منبع علم وأدب، وأدركوا في حصافة الرأي وقوة الحجة الأمد الأقصى.
وأما خُلقه فهذه السيرة المستفيضة في القرآن وعلى ألسنة الرواة وأقلامهم تنطق وتلوح بأنه قد بلغ الذروة في كل خلق كريم، وبَسْطُ القول في هذا الصدد لا يغني فيه سفر، بل أسفار.
وأما إخلاصه فقد كان صافي السريرة لا يبغي إلا هدياً، ولا ينوي إلا إصلاحاً، والإخلاص روح العظمة وقطب مدارها.
وأقرب شاهد على إخلاصه في دعوته أنه لم يحد عن سبيل الزهد في هذه الحياة قيد أنملة؛ فعيشه يوم كان يتعبد في غار حراء كعيشه يوم أظلت رايته البلاد العربية، وأطلت على ممالك قيصر من ناحية تبوك.
وأما صدق عزيمته فقد قام -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى العدل ودين الحق ويلقى من الطغاة والطغام أذىً كثيراً، فيضرب عنه صفحاً أو عفواً، ويمضي في سبيل الدعوة لا يأخذه يأس، ولا يقعد به ملل، ولا يثنيه جزع، وقد ظهر دين الله وَعَلتْ حكمته بهذا العزم الذي تخمد النار ولا يخمد، وينام المشرفي ولا ينام.
وأما عمله فتهجد وصيام، وتشريع وقضاء، ووعظ وإرشاد، وسياسة وجهاد، وهل من سيرة تُبْتَغى لعظمة يرضى عنها الله، ويسعد بها البشر غير هذه السيرة؟
وهل يستطيع أحد أن يدلنا على رجل كان ناسكاً مخلصاً، ومشرعاً حكيماً، وقاضياً عادلاً، ومرشداً ناصحاً، وواعظاً بليغاً، وسياسياً أميناً، ومجاهداً مصلحاً، وفاتحاً ظافراً، وسيداً تذوب في محبته القلوب، غير المصطفى -عليه الصلاة والسلام-؟
وأما حسن بيانه فقد أحرز -عليه الصلاة والسلام- من خصلتي الفصاحة والبلاغة الغاية التي ليس وراءها لمخلوق غاية، فانظروا إن شئتم إلى مخاطباته وخطبه وما يضربه من الأمثال، وينطق به من جوامع الكلم تجدوا جزالة اللفظ، ومتانة التركيب، وسهولة المأخذ، إلى رفعة الأسلوب، إلى حكمة المعنى.
عَظَمَةٌ انتظمت من هذه المزايا العالية؛ فبلغت حد الإعجاز، وكل درة في عقد حياة محمد -عليه الصلاة والسلام- معجزة[2].
هذا وإن مما يبعث على الأسى، ويدعو إلى الأسف والحسرة ما تناقلته وسائل الإعلام في الأيام الماضية، حيث تناولت ما تبثه صحف الدانمارك والنرويج تلك الصحف التي ما فتئت تنال من مقام النبوة بأسلوب ساخر، ينم عن حقد دفين، وحسد يأكل قلوبهم، ويأبى لها إلا تغالط محل الحقائق، وتتيه في أودية الزور والبهتان؛ ظانين أن ذلك ينزل من مقام النبوة الأعظم فتيلاً أو قطميراً.
وفي تعب من يحسد الشمس نورها ... ...
ويجهد أن يأتي لها بضريب
(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة:32].(/1)
ولقد ساء ذلك الفعل الشائن قلوب المسلمين، وتتابعت أقلام الكتاب في رد ذلك الزيف، وإبطال ذلك الكيد؛ فكان من ذلك بعثٌ لفضائل هذا النبي الكريم -عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم-.
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... ...
طويت أتاح لها لسان حسود
وفضيلة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تطوَ، وإنما تتجدد، وتتلألأ كالبدر في سماء صاحية، وكالشمس في رأْد الضحى.
[1] المقالة مقتطفة من مقدمة لكتاب سيصدر قريباً –بإذن الله- تحت عنوان (نبي الإسلام – مقالات نادرة في السيرة النبوية).
[2] انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين للشيخ محمد الخضر حسين5-7، 204-206.
* عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم(/2)
العفة يا مريم العصر [1] ...'ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها '
'مريم ابنة عمران' صورة مضيئة من صور العفة والطهر, 'مريم ابنة عمران' أحصنت فرجها فكانت النتيجة المترتبة على ذلك {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا}, ولماذا اختارها الله واصطفاها من بين الفتيات؟ لأنها {صَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم/ 12]
عزيزتي الفتاة القارئة المسلمة, لا تقولي: أنا لست مريم ولست من آل عمران ولست من نسل الرسل لأكون في عفة مريم أو طهر مريم، ولست معجزة مثل هذه المعجزات الخارقة، ولكن يمكن أن تقولي ولماذا لا أتخذها قدوة وعبرة؟؟ {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ}....
عزيزتي الفتاة .. نحن في عصر العلم والتكنولوجيا الذي لا مجال للخوارق فيه, ولكن بعقولنا أيضًا يمكن أن نستشف ونفهم لماذا اصطفى الله مريم تلك المعجزة الخارقة الباقية لتكون أمًا لعيسى ـ رسول الله.
تعالي معي نتتبع خيوط هذه القصة ـ قصة العفة مع مريم ابنة عمران:
أولاً: كانت أم مريم ـ حنة امرأة عمران ـ تقية شاكرة, عندما رزقها الله بالحمل توجهت بالشكر إليه، ولكنه شكر من نوع خاص لقد نذرت جنينها لله أي لخدمة بيت المقدس وللعبادة فيه أيضًا:{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35].
إذن نفهم من هذا أن اختيار الزوجة الصالحة شرط لصلاح الأبناء والذرية، فهذه أم مريم زوجة صالحة فرزقها الله الذرية الصالحة وهي مريم.
ثانيًا: عندما وضعتها وجدتها أنثى وكانت تحب أن يكون ولدًا ليخدم بيت الله ويتعبد فيه ولكن هذه مشيئة الله، فأخذتها وهي في مهدها إلى المسجد لتنفيذ وعدها عندما كان جنينًا في بطنها، وكانت النتيجة {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37].
سبحانك ربي ما أرحمك 'الله أرحم على العبد من الأم على وليدها' لا تقولي أيتها الفتاة كيف أتزوج بالحجاب، ومن يطلبني وأنا أمشي هكذا بدون مكياج؟
لا والله كوني صادقة مخلصة مع الله يرزقك من حيث لا تحتسب، فالعفة والحجاب والحياء هو الذي يأتي بالزوج وليس العري والمكياج والميوعة وتقليد المتحررات من الغرب أو الشرق.
هذه حقيقة ليست خارقة ولكنها تجربة لفتيات كثيرات غير 'مريم ابنة عمران' إذن العفة والحجاب والحياء هم سبب رزقك بالزواج، والسكن والاستمتاع الحقيقي الطاهر النظيف.
ثالثًا: كيف كان حال مريم وهي فتاة بلغت مبلغ النساء؟
انزوت مريم في محرابها للصلاة والدعاء وخدمة بيت الله، محافظة على حجابها وحيائها، فتوالت عليها نداءات الملائكة توجها إلى مزيد من الركوع والسجود والقنوت وتخبرها أن الله اصطفاها على نساء العالمين: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ[42]يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:42ـ43].
لقد كانت مريم حرية بهذا الاصطفاء ... لماذا؟
1ـ كان محررة منذ أن كانت جنينًا لخدمة بيت الله وتكفي هذه النية الصادقة من الأم.
2ـ كانت طاهرة عفيفة حيية.
3ـ كانت عابدة خادمة في المسجد.
4ـ لم يخالط قلبها ما يخالط قلوب النساء من اتخاذ الأصدقاء والأحباب، ولم تعرف ما هي الذنوب والآثام، لم تعرف إلا المحراب وما اتخذته من حجاب، إنها نموذج من النساء تستحق أن تصطفى على نساء الأرض.
عزيزتي الفتاة:
لنضع أيدينا على الأسباب وهي ليست خارقة خاصة بمريم فقط، ولكنها تخص كل مسلمة حتى يصطفيك الله من بين الفتيات ويرزقك بالزواج الكريم، والسكن الجميل والحب الصادق:
الصلاة والعفة والحجاب، وليس شرطًا أن تبحثي عن مسجد لتكوني مثل مريم ولكن أعمال الخير كثيرة ووجوه البر متنوعة، والله يقبل العمل من المخلص ولو كان مثقال ذرة وموضوعنا الرئيس هو العفة.
رابعًا: إليك أيتها الفتاة مشهد العفة يتجسد في ألفاظ القرآن، ومع أن هذا المشهد موغل في القدم لكن ألفاظ القرآن تجعله حيًا شاخصًا متجسدًا كأنه يحدث الآن أمام أعيننا.
ومريم في خلوتها خاشعة يدخل عليها الروح بشرًا سويًا فتضطرب وترتاع وتستعيذ بالله: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم ـ 18] ولكن يوضح لها مهمته فتنكر إنجاب الولد: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم ـ 20] فيبلغها أنه أمر الله ولا راد لأمره وقضاءه.
عزيزتي الفتاة:(/1)
حفاظ الفتاة على عفتها هو من الفطرة وليس خاصًّا بمريم ابنة عمران.
وعندما أحست مريم بالحمل يتحرك في أحشائها، يتحرك معه فزعها وحزنها، حتى إذا أجاءها المخاض تتأسف وتتحسر وتقول: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم ـ 23].
وهي العفيفة الطاهرة تتمنى الموت بسبب ذنب لم تقترفه ولكنه حس الطهر والعفة، وهي تعلم أن ذلك هو إرادة الله ومشيئته.
وفي المشهد المقابل نجد الفتاة العصرية بدون حياء تتخلى عن عفتها جريئة وهي تفخر بخروجها وتحررها وتزهو بلهوها ومجونها، تقلد الفتاة الغربية المتحررة من كل القيود حتى من عذريتها، وأصبح من التحضر عند الفتاة المسلمة تعدد الصداقات وتنوع الخيانات، فانتفت العفة ورحل الحياء، وحل التبجح مكانه، وصار الحفاظ على العرض ضربًا من ألوان الجمود والانغلاق فتمارس الفتاة باسم الحرية ـ ما تشاء من فواحش، في حين نرى مريم حين تمنت الموت على غير شيء اقترفته غير الاستجابة لمشيئة ربها، ولكنه الإحساس بالطهر والعفة إحساس الفطرة.
عزيزتي الفتاة:
ليست العفة والطهر صفات خاصة بـ'مريم ابنة عمران، إن عفة الفتاة أعز ما تملك وإن عرضها أغلى ما تصون، وليس للحياة قيمة إن غاب الطهر عنها، وليس للفتاة وزن إن فرطت في شرفها ونقائها.
والفتاة التي تحافظ على عفتها تحس بعزة وفخر واطمئنان وثقة بالنفس غير أن الله سيرزقها الزوج الصالح ويجزيها خير الجزاء على حسن العمل {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن ـ 60].
أما المفرطة في عفتها فهي شاردة ضائعة لا يقر لها قرار ولا يطيب لها عيش، ولا تشعر بالثقة والاعتزاز بل شتات وضياع وسخط ويتحقق فيها قول الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا}...
إن الفتاة المسلمة تزال في خير إن هي ابتعدت عن عدوى الحريات الزائفة والأفكار الخادعة ثم استقامت على تعاليم دينها.
لماذا العفة يا مريم العصر؟ [2]
عزيزتي مريم هذا العصر:
في هذا المقام سأعرض لك إذا اخترت طريق العفة إشراقات من النور مضيئة وإطلالات تبهج النفوس من القرآن والسنة المطهرة، ومنها سنستشف لماذا طريق العفة هو الطريق ولا طريق غيره للفتاة المسلمة؟
لأن العفة هي الحياء والحياء من الإيمان.
لأن العفة هي الفطرة السوية.
لأن العفة هي الحياة الطيبة.
لأن العفة هي الطريق إلى الرزق من الله بالزواج والمال أيضًا.
وقبل ذلك كله لأن العفة هي الطريق إلى رضا الله و إلى الجنة.
1ـ وإليك هذه الومضات القرآنية:
1ـ يقول الله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33].
هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجًا بالتعفف عن الحرام كما قال صلى الله عليه وسلم: 'يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء'.
عزيزتي الفتاة المسلمة .. لا تتوهمي أن طريق الشهوات هو الطريق الأسهل لإرضاء النفس والوصول إلى ما تتمنين، بل طريق العفة هو الطريق الأسهل والأضمن لهذا القصد. لماذا؟
لأن مع المتعفف عون من الله ووعد منه أيضا بالرزق والإغناء.
لقد تكفل الله بإغناء الرجال والنساء إن هم اختاروا طريق العفة النظيف: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32].
وقال صلى الله عليه وسلم: 'ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله والمكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف'.
إذن فلا يقف الفقر عائقًا عن الزواج فالرزق بيد الله يزرق من يشاء بغير حساب فهل تستغني عن عون الله وكفالة الله لك بالرزق والإعفاف من أجل نزوة وشهوة سريعة تنفض في دقائق معدودة؟
2ـ يقول الله تعالى: {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25] قال ابن عباس: المسافحات هن الزواني اللاتي لا يمنعن أحدًا أرادهم بالفاحشة، {مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} يعني أخلاء، وقال الحسن البصري: يعني الصديق.
ثم تأتي الآيات بعد ذلك: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً[27]يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:27ـ28].
إن الله يتلطف مع عباده ويريد لحياتهم الخير ويكرمهم ويطهر المجتمع ويحدد الصورة النظيفة الوحيدة التي يحب الله أن يلتقي عليها الرجال والنساء 'الزواج' وتصان نفوسهم بالزواج، وتحريم ما عدا ذلك من الصور.(/2)
أما ما يريده الذين يتبعون الشهوات فهو أن يطلقوا الغرائز من كل عقال: ديني أو أخلاقي أو اجتماعي، يريدون أن ينطلق السعار الجنسي المحموم بلا حاجز ولا كابح، الذي لا يقر معه قلب ولا يسكن معه عصب، ولا يطمئن معه بيت ولا تقوم معه أسرة كل هذا الفساد وهذا الشر باسم الحرية، والنظر إلى الواقع في حياة المجتمعات التي 'تحررت' من قيود الدين والأخلاق والحياء في هذه العلاقة يكفي لإلقاء الرعب في القلوب لو كانت هنالك قلوب.
وتخفيف الله سبحانه وتعالى يتمثل في الاعتراف بدوافع الفطرة وتصريف طاقتها في الجو الطاهر النظيف الرفيع 'الزواج الشرعي' المأمون المثمر، دون مشقة أو عنت دون أن يطلقهم ينحدرون في الاستجابة لها بغير حد أو قيد. [في ظلال القرآن ـ سيد قطب ـ بتصرف]
3ـ يقول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30].
ألم يكن يكفي هذا النداء من الله للمؤمنين، وإذا جاء لفظ المؤمنين فإنه للرجال وللنساء أيضًا، ولكن الله خص النساء بالآية لأهمية وقدر المرأة العظيم عند الله الشارع العظيم فقال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31].
وهذا أمر من الله للنساء بغض البصر عما حرم الله من النظر إلى غير أزواجهن، وأيضًا أمر من الله بحفظ فروجهن، قال سعيد بن جبير: عن الفواحش، وقال قتادة وسفيان: عما لا يحل لهن، وقال مقاتل: عن الزنا.
إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف لا يهاج فيه الشهوات كل لحظة، ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين، فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي، والنظرة الخائنة والحركة المثيرة والزينة المتبرجة والجسد العاري .... كلها لا تصنع شيئًا إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني وينفلت زمام الأعصاب والإرادة.
لقد أمر الله الرجال بغض البصر ثم خص النساء أيضًا بآية غض البصر لتقليل فرص الغواية والفتنة والاستثارة من الجانبين، وغض البصر أدب نفسي ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطلاع على محاسن الغير كما أن فيه إغلاقًا للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة [وهي البصر]، وهو الخطوة الأولى لتحيكم الإرادة ويقظة الرقابة، ثم بعد ذلك لا يبحن فروجهن إلا في حلال طيب، يلبي داعي الفطرة في جو نظيف، لا يخجل الأطفال الذين يجيئون عن طريقه من مواجهة المجتمع والحياة.
4ـ يقول تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المعارج:29].
وهذه الآية تعني طهارة النفس والجماعة، فالإسلام يريد مجتمعًا طاهرًا نظيفًا تلبى فيه كل دوافع الفطرة ولكن بغير فوضى ترفع الحياء الجميل، مجتمعًا يقوم على البيت العلني والعلاقات الجنسية النظيفة الصريحة طويلة الأمد، واضحة الأهداف، مجتمعًا يعرف فيه كل طفل أباه ولا يخجل من مولده.
وفي نهاية سياق هذه الآيات يبشرنا الله بجزاء من يفعل ما ذكر في الآيات والذين هم ....... والذين هم ........... والذين هم.........
وما الجزاء؟
{أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:35].
إذن جزاء الذين هم لفروجهم حافظون هو [أولئك في جنات مكرمون] فجزاء العفة هو الجنة أيتها الفتاة المسلمة.
2ـ عزيزتي مريم العصر .... هذه وقفات مع رسولنا الكريم:
الوقفة الأولى:
هذا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ـ يصف لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقول: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشد حياء من العذراء في خدرها' [متفق عليه].
أي أشد حياءً من البكر حال اختلائها بالزوج الذي لم تعرفه قبل واستحيائها منه.
أليس لكِ في رسول الله أسوة حسنة؟ أليس حري بك أن تكوني في حياء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو رجل وأنت امرأة؟
الوقفة الثانية:
هذا مشهد الصحابي يعاتب أخاه على شدة حيائه وكأنما يقول له 'قد أضر بك الحياء' فيقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ 'دعه ... فإن الحياء من الإيمان'.
وانظري إلى تفسير الإمام أبي عبيد الهروي لهذا الحديث بقوله:
'معناه أن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي' ومن يستحي يتعفف عن فعل كل قبيح يقول الشاعر:
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء
الوقفة الثالثة:
وفي بيعة العقبة بايع الرسول صلى الله عليه وسلم النساء على ماذا؟ على أن لا يشركن بالله شيئًا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يأتين ببهتان، وكانت هند بنت عتبة تراجع الرسول صلى الله عليه وسلم وترد عليه ومن هذه الردود، قال هند بنت عتبة: أوَتزني الحرة؟
وهذا سؤال استنكاري تعجبي، هذا هو حال المرأة في الإسلام عفيفة شريفة تفكر وتتعلم وتسأل، وليست كمًا مهملاً أو قطعة أثاث لا حياة فيها صماء بكماء، إنها امرأة فاعلة لها دورها في الحياة تحيا في بيتها في سياج العفة والطهر.
الوقفة الرابعة:(/3)
ورد في صحيح سنن النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 'إن الله عز وجل حيي ستير يحب الحياء والستر........'
إذن حيث وجد الحياء وجد الستر والعفاف، وحيث تحل الجرأة على القبائح يحل معها التكشف والفضائح، وستبقي الفطرة السوية مقترنة بالعفة والحياء.
ومن الجميل يا مريم العصر أن نجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعو بدعائه المشهور 'اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى'.
الوقفة الخامسة والأخيرة:
هذا المشهد العجيب لامرأة قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إنها من أهل الجنة.
فعن عطاء بن رباح قال: قال لي ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت إني أصرع وإني أتكشف فادع الله ـ تعالى ـ لي. قال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله ـ تعالى ـ أن يعافيك. فقالت: أصبر. فقالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها'. [متفق عليه ]
مريم هذا العصر .. إن هذه امرأة وعدها الرسول بالجنة وهي: سوداء، تصرع، تتكشف.
لقد خيرها رسول الله بين الجنة أو المعافاة من الصرع فاختارت الجنة.
ولكن أرَّقها أنها حين تصرع تتكشف، فسألت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدعاء ألا تتكشف، لماذا؟ إنه الحياء، إنها العفة، إنها امرأة حقيقية مع أنها سوداء.
إذن جمال المرأة ليس في كون لونها أبيض أو أسود، ولكن الجمال الحقيقي في الحياء والعفة، حياء الفتاة قوة وليس ضعفًا، وهو عنصر جمال عند الفتاة لا يقل أهمية عن لونها وشكلها.
وأنت أيتها الفتاة: ماذا تختارين طريق العفة والحياء الذي ينتهي بك إلى الرزق والسكن الحقيقي في الدنيا والجنة في الآخرة،أم تختارين طريق النزوة والشهوة واللذة السريعة الخاطفة التي يعقبها سواد في القلب وضنك في الحياة؟! .. فسبحان الله شتان بين النور والظلمات.
ولا تنسي قصة الكريمة العفيفة مريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فرزقها الله برسول وهو عيسى عليه السلام ـ ورزقها في الدنيا الرزق الواسع الوفير، وفي الآخرة هي من أهل الجنة، إذن الحجاب والصلاة والعفة والحياء هم سبب الرزق بالزواج والسكن والاستمتاع الحقيقي النظيف، أما اتباع الهوى واتباع المتحررات من الشرق والغرب والتخلي عن الحجاب والصلاة والعفاف هي طريق إلى ضنك الحياة وشتات وضياع وحيرة وقلق في الدنيا وسخط الله تعالى وعذابه في الآخرة.
فتاتي العزيزة ....
تذكري قول الله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33].
أي اطلبي العفة، واسعي وابذلي الجهد وادعى الله تعالى أن يرزقك العفة، والاستعفاف يكون إما بالصوم أو بالزواج لمن استطاع الزواج.
اللهم ارزقنا جميعًا 'الهدى والتقى والعفاف والغنى'.(/4)
العقدة السوداء
أ. د. عماد الدين خليل 23/7/1426
28/08/2005
- 1 -
تتحكم بالعقل والوجدان الغربيين عقدة سوداء لا يدري المرء متى تنحل خيوطها المتشابكة، وتزول.
إنها كراهية كل ما يمس الإسلام والمسلمين ..
طبعاً هنالك استثناءات عديدة، ولكن الاستثناء - كما يقول المثل - يؤكد القاعدة ولا ينفيها ..
ما الذي حدث لكي يحكم أديب إيطالي متنور كدانتي على محمد -عليه الصلاة والسلام- وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه) بأن يكونا في الطابق الأسفل من جحيمه؟
يجيب الأديب المتنور: لأنهما لم يستطيعا أن يكونا قسين!
ولا يمكن للمرء الذي يملك شيئاً من القدرة على التفكير أن يصدق بأن دانتي كان مقتنعاً بهذا السبب الغريب.
- 2 -
ما الذي حدث لكي يتقدم المفكر والأديب الفرنسي المعروف فولتير، الذي علمنا في المدارس بأنه أحد أقطاب الفكر الحر المتنور الذي قاد إلى الثورة الفرنسية، يتقدم بأحد كتبه إلى البابا، راكعاً أمامه، مقبّلاً قدميه الكريمتين، صاباً على الرسول الشريف (صلى الله عليه وسلم) سيلاً من الشتائم التي يربأ الذوق عن مجرد نقلها والإشارة إليها؟
ومع ذلك نرى أن من الضروري الرجوع إلى (القصة) من بدايتها عل صورة فولتير داعية الحرية تهتز قليلاً في أذهان المعجبين!
في عام 1742م كتب فولتير مسرحية بعنوان (محمد) أعلن فيها " أن محمداً وُلد أميراً، واستُدعي لتسنّم مقاليد الأمور عن طريق اختيار الناس له. ولو أنه وضع قوانين سليمة ودافع عن بلاده وصد أعداءه لكان من الممكن احترامه وتبجيله، ولكن عندما يقوم راعي إبل بثورة، ويزعم أنه كلم جبريل، وأنه تلقى هذا الكتاب غير المفهوم الذي تطالع في كل صفحة منه خرقاً للتفكير المتزن، حيث يُقتل الرجال وتُخطف النساء لحملهن على الإيمان بهذا الكتاب، مثل هذا السلوك لا يمكن أن يدافع عنه الإنسان ما لم تكن الخرافات قد خنقت فيه نور الطبيعة. إن محمداً كان يشن الحرب على البلاد ويتجرأ على ذلك باسم الله، وليس مثل هذا الإنسان قادراً على فعل أي شيء"(1).
وفي كتاب آخر له بعنوان (رسالة حول الأخلاق) يؤكد فولتير: "أن دين محمد لا يحتوي على شيء جديد سوى عبارة محمد رسول الله"(2).
ويذكر توفيق الحكيم في كتابه المعروف (تحت شمس الفكر) أن فولتير عندما ألف مسرحيته عن (محمد) - صلى الله عليه وسلم- وقدمها هدية إلى البابا جاء في هذا الإهداء بالحرف الواحد " فلتستغفر قداستك لعبد خاضع من أشد الناس إعجابا بالفضيلة، إذ تجرأ فقدم إلى رئيس الديانة الحقيقية ما كتبه ضد مؤسس ديانة كاذبة بربرية. وإلى من - غير وكيل رب السلام والحقيقة - أستطيع أن أتوجه بنقد قسوة نبي كاذب وأغلاطه؟ فلتأذن لي قداستك في أن أضع عند قدميك الكتاب ومؤلفه، وأن أجرؤعلى سؤالك الحماية والبركة، وإني مع الإجلال العميق أجثو وأقبل قدميك القدسيتين : فولتير : 17 اب 1745" .
وعلمت - يقول الحكيم – "أن جان جاك روسو كان يتناول بالنقد أعمال فولتير التمثيلية، فاطلعت على ما قال في قصة (محمد) علني أجد ما يرد الحق إلى نصابه فلم أر هذا المفكر الحر يدفع عن محمد ما ألصق به كذباً، وكأن الأمر لا يعنيه، وكأن ما قيل في هذا النبي لا غبار عليه، ولا حرج فيه، ولم يتعرض للقصة إلا من حيث هي أدب
وفن "(3).
- 3 -
وجان جاك روسو، هو الآخر بطل من أبطال الحرية والتنوير، وواحد من دعاة الثورة ضد التعصب والخرافة، هكذا حاول معلمونا في المدارس الابتدائية والإعدادية وحتى في الجامعة .. وهكذا حاولت المناهج التي أُفرغت في عقولنا هناك .. أن نتصوره ونتقبله كحقيقة نهائية مسلم بها.
- 4 -
ما الذي حدث لكي يندفع سيل من المبشرين ورجال اللاهوت والمستشرقين والمفكرين العلمانيين والماديين، فيمضون في الطريق ذاته وهم ينثرون أحقادهم واتهاماتهم وشتائمهم ذات اليمين وذات الشمال؟ وهاكم "بعضهم" ..
لورنس براون " إذا اتحد المسلمون في إمبروطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطراً، وأمكن أن يصبحوا نعمة له أيضاً، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا قوة ولا تأثير".
القس كالهون سيمون "إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب السود وتساعدهم على التخلص من السيطرة الأوروبية، ولذلك كان التبشير عاملاً مهما في كسر شوكة هذه الحركات، وذلك لأن التبشير يعمل على إظهار الأوروبيين في نور جديد جذاب، وعلى سلب الحركة الإسلامية من عنصر القوة والتمركز فيها".
و. س . نلسون " لقد أخضع سيف الإسلام شعوب إفريقية وآسيا شعباً بعد شعب".
المسيو كيمون " إن الواجب تدمير خمس المسلمين والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة، وتدمير الكعبة، ووضع ضريح محمد في متحف اللوفر .. وهو حل بسيط وفيه مصلحة للجنس البشري. أليس كذلك؟".(/1)
جابريل هانوتو (معلقاً) : "لقد غاب عن خاطر المسيو كيمون أنه يوجد نحو مائة وثلاثين مليوناً من المسلمين، وإن من الجائز أن يهب هؤلاء المجانين للدفاع عن أنفسهم والذود عن حمى دينهم"(4). اديسن "محمد لم يستطع فهم النصرانية، ولذلك لم يكن في خياله منها إلا صور مشوهة بنى عليها دينه الذي جاء به للعرب".
هنري جيسب "المسلمون لا يفهمون الأديان ولا يقدرونها قدرها .. إنهم لصوص، وقتلة، ومتأخرون، وإن التبشير سيعمل على تمدينهم".
- 5 -
لو أن الأمر اقتصر على رجل الدين الغربي، مبشراً أو لاهوتياً، لتبينت الأسباب، ولو أنه اقتصر على الشخصيات الرسمية في أوروبا وأمريكا لتبينت الأسباب كذلك، ولكنه امتد إلى دوائر المثقفين كافة، فضلاً عن الأميين، فإذا بهؤلاء جميعاً يقفون الموقف ذاته: مؤمنهم وملحدهم، علمانيهم وماديهم، كاثوليكيهم وأرثوذوكسيهم وبروتستانتيهم .. ويهوديهم بطبيعة الحال!
فلو أننا عدنا إلى ما كتبه هؤلاء أو قالوه لوجدناه يتأرجح بين حدين، لكنه لا يتجاوزهما بحال من الأحوال: حد الشتائم المبتذلة والسباب الرخيص، والاتهامات التي لا تسندها حجة أو برهان.
وحد الطعن الماكر المتلفع برداء العلمية والموضوعية والمنهجية.
ولكن الحدين يمتحان من بؤرة واحدة، ويصبان في بحر واحد .
فسواء قرأت لمبشر يتحدث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم- ، أو لمستشرق يكتب عن صحابته الكرام، أو أديب يبدع مسرحية أو رواية تمس الإسلام من قريب أو بعيد، أو مفكر اقتصادي يحلل جانباً من النظام الاقتصادي للإسلام، أو سياسي يستعرض أوضاع هذه المنطقة أو تلك من عالم الإسلام، أو عسكري يرسم الخطط والأساليب لمجابهة هذه الثورة أو تلك من ثورات الشعوب الإسلامية .. فإنك واجد النبرة نفسها، تظهر حيناً وتختفي أحياناً، لكن الإيقاع يظل نفس الإيقاع، والدخان الأسود الذي يحجب عن العين الرؤية الموضوعية العادلة يظل نفس الدخان، وإن اختلفت درجات كثافته.
- 6 -
وللوهلة الأولى يبدو أن ثمة فارقاً كبيراً بين ما قاله دانتي أو فولتير عن نبي الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام، وما كتبه بعد قرون عديدة مستشرقون كبرنارد لويس أو جب او - حتى - مونتغمري وات ..
ولكن بالتحليل المتاني للمعطيات نستطيع ان نضع أيدينا على الخيوط المتشابهة لدى هذا الرجل أو ذاك على اختلاف الأماكن والأزمان.
وتكون الحقيقة الخالصة هي الضحية، تارة بالاندفاع الأهوج وتارة أخرى بالمناهج الماكرة الخبيثة ..
ويكون المسلم الذي لا يتحصن ضد هذا الوباء المتأصل، بما فيه الكفاية ضحية أخرى كذلك ..
وما أكثر الضحايا الذين شهدتهم هذه المعركة الشرسة التي ظل العقل الغربي يشنها علينا ولا يزال ..
بل إن بعض أبنائنا وإخواننا أنفسهم يعودون من هناك، وهم يحملون الجراثيم ذاتها، فيتولون بأنفسهم كبر المهمة التي زرعها في عقولهم - بدهاء - أساتذتهم هناك ..
- 7 -
ومن عجب أنه حتى المفكرين الماديين الذين قطعوا علاقاتهم الفكرية والعاطفية بكل ما يمت للدين والإيمان بصلة، هؤلاء أيضاً يحملون الكراهية التاريخية للإسلام والمسلمين .. وهم يؤكدون هذا في كتاباتهم حيناً، وفي ممارساتهم العملية وسياساتهم تجاه أبناء المنطقة الإسلامية حيناً آخر.
وبنظرة سريعة إلى معطيات الفكر الماركسي، والمادي عموماً ، إزاء الإسلام، وبنظرة سريعة أخرى تجاه ممارسات القيادات الماركسية تجاه عالم الإسلام، يتبين المرء أن دوافع الحقد والكراهية، ها هنا، لا تقل عنفاً وضراوة عنها هناك، إن لم تفقها وتزد عليها.(/2)
ويكفي أن نطالع النص التالي المعروف الذي كتبه الماركسيون الروس عن ظهور الإسلام لكي نعرف الظلمات التي يتخبطون فيها، والدخان الأسود الذي يحجب الرؤية العلمية النقية للظواهر والأشياء .. "فبعضهم يرى أن المجتمع العربي (في مكة والمدينة) شهد بداية تكوين مجتمع يمتلك الرقيق بينما يرى بيجو لفسكايا أن القرآن الكريم يشعر بتركز مرحلة ملكية الرقيق ويذهب مع بلاييف إلى أن المرحلة الإقطاعية هي من آثار اتصال العرب بالشعوب الأخرى . هذا ويرى آخرون أن المجتمع الإقطاعي بدأ بالتكون فعلاً .. ومنهم من يرى أن الإسلام يلائم مصالح الطبقات المستغلة الجديدة من ملاك وارستقراطية الإقطاع مثل كليموفيج ومنهم من يراه في مصلحة ارستقراطية الرقيق في حين أن بعضهم ، مثل بلاييف، يرى أن الإسلام المتمثل بالقرآن الكريم لا يلائم المصالح السياسية والاجتماعية للطبقات الحاكمة، فلجأ أصحابه إلى الوضع في الحديث لتبرير الاستغلال الطبقي الجديد. وفي حين أن بعضهم يقول: إن الارستقراطية وحدت القبائل العربية لتحقيق أغراضها، يقول غيرهم: إن القبائل كانت تتوثب للوحدة فجاء الإسلام موحداً يعبر عن ذلك التوثب. ويضطرب الموقف من نشأة الإسلام ذاته، فبينما يدعي كليموفيج أن محمداً - صلى الله عليه وسلم- واحد من عدة أنبياء ظهروا وبشروا بالتوحيد، وأرادوا توحيد القبائل، يذهب تولستوف إلى نفي وجود النبي العربي، ويعتبره شخصية أسطورية، وبينما يعترف البعض بظهور الإسلام، يذهب كليموفيج إلى أن جزءاً كبيراً منه ظهر فيما بعد، في مصلحة الإقطاعيين، ونسب أصله إلى فعاليات معجزة لمحمد. وتجاوز تولستوف إلى أن الإسلام نشأ من أسطورة صنعت في فترة الخلافة لمصلحة الطبقة الحاكمة، وهي أسطورة مستمدة من اعتقادات سابقة تسمى الحنيفية (5) !!
- 8 -
ما الذي حدث لكي يتلقى الإسلام نبياً وعقيدة وتشريعاً وتاريخاً وحضارة وشعوباً ودولاً، كل هذه الرشقات من الدخان؟ ألم يئن الأوان في عصر التفوق العلمي والاتصال المدهش بين الأمم والثقافات لكي يراجع العقل الغربي حسابه، ويتخذ موقفاً أقرب إلى روح هذا العصر، وأكثر انسجاماً مع معطياته؟
________________________________________
(1) عن مجلة البلاغ الكويتية عدد 58 ص : 12 .
(2) عن مجلة البلاغ الكويتية عدد 58 ص : 12 .
(3) الصفحات 18 - 20 من الكتاب المذكور .
(4) توفيق الحكيم : تحت شمس الفكر ص 23 - 24 .
(5) د. عبد العزيز الدوري ورفاقه : تفسير التاريخ ص 15 - 16 (مكتبة النهضة ، بغداد - ؟ ) .(/3)
العقل المسلم..ومعادلة ابن الخطاب
عمر عبيد حسنة* 12/6/1424
10/08/2003
من أهم الأولويات اليوم المساهمة في تحقيق الوعي الثقافي الإسلامي، وإعادة بناء عالم الأفكار، والدعوة إلى وضع ملامح تخطيط ثقافي إسلامي (استراتيجية ثقافية) يُعيد بناء التصاميم الذهنية الإسلامية ويوفر الطاقات ويهندسها، ويضعها في المجال المُجدي، لتنتهي بذلك مرحلة الرسم بالفراغ، التي ورثناها عن مراحل التخلف، وساهم في تكريسها الغزو الثقافي، الذي لا نزال نُعاني من آثاره على أكثر المستويات، بالرغم من الدعاوى الكثيرة التي تريد أن تُثبت عكس ذلك، ويبقى المطلوب دائماً مزيداً من إلقاء الأضواء الإضافية على جوانب المشكلة الثقافية، للوصول إلى إعادة صياغة وتشكيل العقل المسلم، أو إعادة ترتيب العقل العام لِمُسْلِمِ اليوم، وتخليصه من الجزئية المتناثرة، وعجزه عن مواجهة مشكلاته وتحدياته الداخلية منها والخارجية على حد سواء، على ضوء رؤية إسلامية ذات إخلاص وصواب، ودراية وفقه، فيها طرفا المعادلة التي استحال علينا حلها طيلة عصر التخلف والسقوط الحضاري والتي استعاذ منها سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، حيث قال: "اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز التقي".
لذلك كان لا بد من أن نحل المعادلة فنصل إلى مرحلة جلد التقي وعجز الفاجر، بعيداً عن المواقف التصرفات الانفعالية الخطابية، التي تحرك العاطفة ولا ترشد العقل، وتعتمد التهويل والمبالغة، ولا تخدم القضية الإسلامية، بل على العكس قد تساهم مساهمة سلبية غير مقصودة في تخلف المسلمين.
إن محاولة إعادة ترتيب العقل المسلم، أو إعادة تشكيله أو صياغته، ومنحه القدرة على التخلص من بعض القيود والأسوار، قضية تجد في طريقها الكثير من الصعوبات والركام الذي قد يلبس الأمور ويغيب الرؤية الصحيحة للأشياء، والقدرة على إبصارها ومن ثم تصنيفها، إنها تتعلق بصميم المشكلة الثقافية التي نعاني منها بعد أن زرعت في نفوسنا القابلية لها، وتواضعت عليها القرون.
لذلك كان لا بد من المعالجة المنهجية الحكيمة المتأنية الناضجة، ولا بد من تناول القضية من أكثر من طرف وإلقاء أكثر من ضوء إضافي عليها، واستعمال أكثر من وسيلة، والصبر والاحتمال لما يمكن أن يحدث من خطأ في المقايسة والموازنة، ومن عجز في الإبصار وعثرات على الطريق.
ولكن مع ذلك تبقى القضية ملحة بعد هذا الواقع الثقافي الهجين الذي انتهينا إليه، والذي حمل إلينا ما يفيد وما لا يفيد، ما لنا وما ليس لنا واختلطت فيه المفاهيم.
لقد أصبحت الحاجة ملحة لعملية التنقية الثقافية، وأصبحنا أحوج من أي وقت مضى إلى الذين يحملون عقل المهندس، ومبضع الطبيب. وحرقة الوالدة، على مستوى الفكر والثقافة، ليقوم بعملية الإخلاء والإملاء، أو عملية الهدم المسبوقة بمخطط واضح ومدروس لعملية البناء لأن بعض الناس يحسنون الهدم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ولأنه يتناسب مع طبائعهم وانفعالاتهم واستعجالهم لكنهم يعجزون ولا يحتملون البناء، لأن البناء يستدعي التأني والصبر والزمن والنضج، وكلها متطلبات لا تقتضيها عملية الهدم. وتبقى المشكلة في بناء العقلية القادرة على البناء وفي تصويب مسار هذه القدرة.
ونحن نعترف أن ما أصاب العقل المسلم من صدوع ورضوض وكسور وتقطيع، فصده عن المضي إلى غايته ، وحال بينه وبين أداء رسالته، لا يمكن أن يعالج بكتاب أو مقال أو محاضرة أو بحث، وإنما يتعلق الموضوع بصميم المشكلة الثقافية، والمناخ الثقافي أو عالم الأفكار، الذي يشكل المحضن الصحي والضروري لإعادة تشكيل العقل وتربيته ومنحه القدرة على العطاء والحماية من الإنكار من هذا نعاود القول:
بأنه لا بد من أن تأتي المعالجة طويلة النفس، دائبة ومستمرة، تعطي من الزمن والمحاولة ما تستحقه الأمراض المزمنة من الصبر والأناة وبراعة المعالجة، ورسم المنهج الصحيح وتعميق أبعاده، ومتابعة ذلك بأكثر من وسيلة ليتمثله الفرد المسلم فتحصل النقلة المطلوبة ونسترد المواقع المفقودة، ولا نخدع أنفسنا، أو نخادع بالفجر الكاذب الذي يعمي على كثير منا حقيقة النور، وسلامة الرؤية في تحقيق نصر موهوم.(/1)
إن العقل الذي لا يتحقق بالرؤية الشمولية الكاملة الترتيب لا يمكنه لانعدام الرؤية الدقيقة لسلم المشكلات التي تواجه عالم المسلمين، وبالتالي فلا يمكن له القيام بعملية " البرمجة " ولا يمتلك القدرة على التصنيف وإعطاء كل مشكلة علامتها ومكانها الذي تستحق والطاقة التي تحتاج، كما أنه لا يمتلك المقدرة على التمييز بين آثار المشكلات التي تنجم عنها وأسبابها التي أوجدتها، وأن معالجة الآثار تعني مزيداً من الارتكاس ومزيداً من هدر الطاقات؛ فلابد من اكتشاف الأسباب والعلل ومعالجة هذه الأسباب، وإلى أي مدى يمكن أن يكون الكثير من المشكلات الفرعية أو الجزئية مظهراً من مظاهر المشكلة العامة، وأن هذه المشكلات الفرعية سوف تغيب عن عالم المسلمين إذا أحسنّا تحديد أبعاد المشكلة العامة وبالتالي أحسنّا معالجتها.
إن دعوتنا إلى إعادة صياغة العقل المسلم أو الوصول إلى العقل المرتب لمسلم اليوم هي دعوة مزدوجة في حقيقة الأمر أو ذات بعدين رئيسين:
01 تصحيح التصور: وذلك بالقدرة على رؤية الخطوط الإسلامية والمسارات الإسلامية متواصلة متكاملة متوازية لا يصطدم بعضها بالآخر لتأخذ بعدها بضبط وربط، والقدرة على تكوين العقلية التي تمتلك أبجديات الثقافة الإسلامية فتحسن القراءة الإسلامية التي تستطيع من خلالها أن تفسر الظواهر الاجتماعية تفسيراً إسلامياً، وتصدر عن تصور شامل للكون والحياة والإنسان، ولا تقع فريسة للتفسيرات غير الإسلامية ، كما أنها لا تبقى مهوشة غير قادرة على التوازن والاعتدال .
02 تخليص العقل: من التركيز على النظرة الجزئية، لأن التركيز عليها يؤدي إلى آفات عقلية ليس أقلها العجز والانحسار، كما ويؤدي إلى تضخيم دور بعض الفروع الجزئيات الأمر الذي يقتل الإبداع، ويصيب قدرة العطاء عند الإنسان، ويوقع في التقليد ويحرم صاحبه من الإفادة من جهود الآخرين، سواء أكان ذلك بالتعامل مع التراث أم القدرة على استلهام الكتاب والسنة لمواجهة حاجات العصر المتجددة.
ونحن لا نريد هنا بمطاردتنا لأصحاب النظرة الجزئية المولعين بالتبعيض، الملتزمين بالأبعاض أن ندعو إلى تستطيع المعرفة العلمية وتمديدها في عصر التخصيصات الجزئية والعجز الفردي عن الاستيعاب والأداء الفردي الشامل والمجدي.
وإنما الذي نريد له أن يكون واضحاً أن الكلام هنا في مجال البنية الثقافية، وهي أمر آخر لا تشكل المعرفة العلمية الأكاديمية إلا حيزاً بسيطاً منه على ضرورته وأهميته.
لذلك نرى أنه لا بد من ثقافة عامة، ونظرة شمولية وعقل مرتب متوازن قادر على النظرة العامة إلى جانب التخصص العلمي ببعض الجوانب؛ فالعلم شيء والثقافة التي تستطيع توظيف هذا العلم والإفادة منه شيء آخر.
ويمكن لنا أن نأتي بمثال على ذلك:
إن العالم اليهودي الذي اخترع مادة متفجرة جاءت كثمرة لتخصصه العلمي، كان إلى جانب هذا التخصص العلمي الدقيق يتمتع بثقافة توراتية ورؤية دينية توجه ملكاته وتوظف تخصصاته للعمل على تحقيقها، وذلك في الوصول إلى أرض الميعاد وإعادة بناء الهيكل، إنه لم يكن عاجزاً عن توظيف مخترعه العلمي من خلال تلك الثقافة، لقد فرض على الحلفاء في الحرب العالمية أنه لن يبوح لهم بسر المخترع الذي يمكنهم من النصر ما لم يأخذ عليهم العهد في تأييد حق اليهود في فلسطين؛ وهذا الذي كان!، وقدم هذا العالم لأبناء دينه ما لم يستطع تقديمه جيش من الجهلاء أو العلماء الفاقدين للبصيرة والثقافة، والذين لا تزيد علومهم عن أن تكون نسخاً جديدة مما قرؤوا أو معاجم جامدة في المكتبة!.
أين هذا من بعض مسلمي اليوم الذي جاءت مكوناتهم الثقافية ثمرة للسقوط الحضاري والتخلف الثقافي والعجز العقلي؟! حيث يرون بأن أمر الدعوة إلى الله يتعارض مع متابعة التخصص العلمي فيدَعون الجامعات وقد يكونون في السنوات الأخيرة ليتفرغوا بزعمهم إلى أمور نشر الدعوة الإسلامية، وكأن الجهل وعدم النبوغ العلمي أصبح في نظرهم ضربة لازب لنجاح أمر الدعوة الإسلامية!!.
أليست هذه حالة محزنة وثقافة محزنة وواقع أليم؟!.
* عن مقدمته لكتاب: (حول تشكيل العقل المسلم).(/2)
العقل ذاتي الدفع!
3/11/1423
المشرف العام على موقع المسلم-أ.د ناصر بن سليمان العمر
* الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد فيا أيها الأحبة الكرام..
إن الله عز وجل خلق الخلائق ورفع بعضهم فوق بعض درجات:
فمنهم الشقي و السعيدُ
و ذا مقرب و ذا طريدُ
فمن يشأ و فّقه بفضله
و من يشأ أضله بعدله
لحكمة بالغة قضاها
يستوجب الحمد على اقتضاها
(ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك)، وكما أن الله فاوت بين الخلق فمنهم شقي وسعيد، كذلك فاوت بينهم في الأرزاق والأخلاق وفاوت بينهم في الحجا و العقول، وهكذا في سائر ما آتاهم.
ونعم الله التي آتاها عباده كثيرة جداً (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) والواجب شكر هذه النعم جميعاً، قال الله عز وجل عن نبيه إبراهيم عليه السلام: (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين، شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم).
وكثير منّا قد يتفطن لبعض تلك النعم فيؤدي حق الله فيها، قد ينعم الله على البعض بالمال فلا يبخل ولا يتردد في إخراج زكاته، والتصدق منه، وقد ينعم الله على آخر بالسلامة والصحة –وهو يرى الناس من حوله يتخطفون- فيؤدي حق الله بتسخير جوارحه وأركان في طاعة ربه، ومثل ذلك قل في كثير من النعم.
ولكن هناك نعمة من أعظم النعم التي حباها الله عز وجل للإنسان، ثم إن كثيراً من الناس بل كثير من الطيبين غافل عن شكرها.
هذه النعمة هي نعمة العقل، التي ميز الله بها الإنسان عن كثير من المخلوقات.
كثير من الناس بل من أهل الخير والفضل، إذا وجّهته أو دللته على خير بادر إليه وفعل، وإذا نبهته على خطأ كف عنه وقصر، وهذا جيد.
ولكن إذا نظرت لأحواله في دنياه وجدته صاحب حيلة واقتدار على أسباب الرزق، ينشئ المشاريع ويخترعها، ويحكم ما قام منها ويتقنها، دائب الفكر في ما يصلح دنياه، يأتي في ذلك بالعجائب، يُسأل ويُستشار، ويُورَدُ عن رأيه ويُصدَر، ولكنه فيما يتعلق بآخرته آلة صماء، جامد الفكر، متحجر العقل، ينتظر من يحركه أويفكر عنه ثم يقول له: هذا مشروع فبادر، وذاك خير فسابق! وليس هذا من شكر نعمة العقل التي حباه الله إياها، وأمره أن يعملها ويوجهها فيما يصلح دنياه وآخرته، ولهذا كثيراً ما نقرأ في ذم أقوام:
(أفلا يعقلون) (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون) ( صم بكم عمي فهم لايعقلون) مع أن لهم عقولاً أشادوا بها الأرض وعمروها، ولكنهم لم يعملوها فيما يصلح آخرتهم ... أقول هذا الكلام ولاسيما أن المسلمين يعيشون أحولاً على مستوى الأسرة أو البلدة أو الدولة، تقتضي عمل أمة، لا يكتفى فيه بعقل واحد أو إثنين، ولا ألف ولا ألفين، بل الأمة بحاجة للعقول في كافة مناحي الحياة، شريطة أن يكون هم تلك العقول ما خلقت له، فتكون دائبة الفكر في السبل التي تمكنها من رفعة دينها، وما ينفعها في الآخرة والأولى.
والمتأمل لحال سلفنا الكرام يجد إعمالهم لعقولهم وما قادهم إليه ذلك من خير، واضحاً جلياً وأذكر صورة واحدة تبين ذلك:
كان عمرو بن الجموح سيداً من سادة بني سلمة وشريفاً من أشرافهم، وكان قد اتخذ في داره صنماً من خشب يقال له "مناة" يعظمه ويطهره، فلما أسلم فِتيان بني سلمة: أبَّنَه معاذ بن عمرو، ومعاذ بن جبل في فتيان منهم كانوا ممن شهد العقبة، فكانوا يدخلون الليل على صنم عمرو فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة -وفيها عذر الناس- منكساً على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم! من عدا على آلهتنا هذه الليلة؟ ثم يغدو فيلتمسه فإذا وجده غسله وطيبه ثم يقول: والله لو أعلم من يصنع لك هذا لأخزينه. فإذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه، ففعلوا به ذلك، فيغدو فيجده فيغسله ويطيبه. فلما ألحوا عليه استخرجه فغسله وطيبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال: إني والله لا أعلم من يصنع بك ذلك فإن كان فيك خير فامتنع هذا السيف معك! فلما أمسى عدوا عليه وأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلباً ميتاً فقرنوه بحبل ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر الناس. وغدا عمرو فلم يجده فخرج يبتغيه حتى وجده مقروناً بكلب فلما رآه أبصر رشده وكلمه من أسلم من قومه فأسلم وحسن إسلامه.
وقال عمرو حين اسلم وعرف من الله ما عرف وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصره من أمره ويشكر الله الذي أنقذه من العمى والضلال:
تالله لو كنت إلهاً لم تكن
أنت وكلب وسط بئر في قرن
أف لمصرعك إلهاً مستدن
الآن فتشناك عن سوء الغبن
فالحمد لله العلي ذي المنن
الواهب الرزاق وديان الدين(/1)
فانظر كيف دل هذا إعمال عقله وتفكره في حال الصنم إلى الإيمان بالله وتوحيده، على النقيض من أولئك الذين نكسوا على رؤسهم فقالوا مجادلين لنبيهم إبراهيم عليه السلام حين كسر الأصنام وقال منبهاً لهم: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) فقالوا: (لقد علمت ماهؤلاء ينطقون) فقال لهم الخليل عليه السلام ناعتاً إياهم بعدم استخدام العقول: ( قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ~ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ).
أسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى من النيات والأقوال والأفعال، وأن يجعلنا من أهل النظر والتفكر والاعتبار، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------
* أصل هذا المقال مقال نشر بتاريخ 11/3/1423 في بعض الدوريات(/2)
العقل وحكمة التشريع
أ.د/أحمد الخطيب
دخلت مع صديق لى من أهل العلم فى حوار عن الهدف من تشريع بعض الأحكام والتكاليف الشرعية ، كالصلاة والصوم ، فوجدته يكرر ما نسمعه فوق المنابر من تعليل لهذه الأحكام ، وبيان لحكمة تشريعها ، مما يكون مقنعا أحيانا ، وبعيدا كل البعد أحيانا أخرى ، فقال لى: هل تنكر أن هناك حكما للتشريع ؟ فقلت: كلا لكننى أنكر التكلف فى ذلك وافتعال ما لا يعد فى ميزان الحق حكما فإن مثل هذا يضر أكثر مما ينفع.
ثم سألته: لماذا نبحث عن حكم التشريع ؟ فأجاب لكى نطمئن إلى عظمة التشريع الإلهى ولكى يكون وسيلة إلى جذب غير المسلمين إلى الإسلام حين يقفون على هذه الحكم0 قلت: إن هذا لغرض نبيل حقا لكنه أدعى إلى مزيد من الاهتمام والتركيز فى استنباطها حتى تكون مثمرة ومحققة للهدف المنشود منها ولنفرق بين ما هو فائدة قد ترتبت على التشريع وبين ما هو حكمة للتشريع0 ثم فارقته على أمل أن يتجدد لقاء بيننا ننظر فيه إلى ذات القضية بصورة أعمق ، ثم رأيت أن أثبت رؤيتى حولها فى هذه الكلمات0
دور العقل فى الوقوف على حكم التشريع الربانى:
بادئ ذى بدء يجب علينا أن نعى أن الحديث عن حكم التشريع هو حديث عن نتاج عقلى بشرى ، إذ إن هناك فرقا بين التشريع الذى هو إلهى ، وبين الحِكَم التى كانت وراء هذا التشريع فإن الحديث عن هذه الأخيرة هو حديث عن فهم بشرى واستنباط عقلى ، وغير خاف أن ما كانت العقول مصدره لا يسلم به عند جميع الناس ، ضرورة أن الناس مختلفون فى أفهامهم وسعة مداركهم ، ومن ثم فإنه لا يجوز لأحد أن يجزم بأن ما ذكره هو حكمة التشريع فى علم الله ، فإن ذلك تأل على الله تعالى ما لم يبين لنا من حكمة ، اللهم إلا إذا ذكرت هذه الحكمة فى القرآن أو جاءت على لسان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه لا مجال حينئذ سوى التسليم ، وما وراء ذلك مجرد احتمالات قابلة لأن تكون خطأً كما أنها قابلة لأن تكون صوابا0
إن الله ـ عز وجل ـ حين منحنا العقل حد له حدوداً لا يتخطاها ، وإن من كمال احترامنا لذاتنا ولعقولنا أن نقف بها عند الحد الذى رسم لنا ، وألا نتجاوزه ، لأن مجاوزة الحد ظلم وطغيان ، ومن الخطأ بمكان أن يعتقد واحد من الناس كائنا من كان – بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم – أنه مستوعب لأسرار الشريعة واقف على حقيقة المراد بكل تكاليفها ، بحجة أن له ذهنا وقادا ، وعقلا حادًّا يجيد التفكير ، وما أكثرهم فى هذه الأيام ،وينبهنا إلى خطورة هذا الاعتقاد الإمام أبوحامد الغزالى فى كتابه العظيم " إحياء علوم الدين " حيث قال:
" فى دقائق سنن الشرع وآدابه ، وفى عقائده التى تعبد الناس بها أسرار ولطائف ليست فى سعة العقل وقوته الإحاطة بها كما أن فى خواص الأحجار أموراً عجائب غاب عن أهل الصنعة علمها حتى لم يقدر أحد على أن يعرف السبب الذى به يجذب المغناطيس الحديد ، فالعجائب والغرائب فى العقائد والأعمال أكثر وأعظم ... فيكفيك من منفعة العقل أن يهديك إلى صدق النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويفهمك موارد إشاراته ، فاعزل العقل بعد ذلك عن التصرف ولازم الاتباع فلا تسلم إلا به " ( )
وهذا ما يفيده كلام على ـ كرم الله وجه ـ حين قال : " لو كان الدين بالرأى لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ، وقد رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمسح على ظاهر خفيه " ( )
هذه مقدمة قد تساعدنا على معرفة دور العقل فى الوقوف على حِكَم التشريع الربانى ، إذ ليس أجدى من ان يُشغَلُ العقل بالتفكر فى دين الله وكيف يقوم المرء بخدمته، وكيف يصير الدين أكبر همه ، وما من شك فى أن البحث عن حكم التشريع هو جزء من ذلك الهدف المنشود ووسيلة من وسائل خدمة هذا الدين وإظهار عظمة التشريع الربانى ، لكن يجب علينا أن نعلم أن للعقل حيال ذلك كله حدودا لابد من أن يقف عندها ولا يتخطاها ، لأن الحكمة من التشريع قد تكون ظاهرة فتدرك ، أو خفية فيُسَلَّم للحكم وإن خفيت حكمته ، لأن شعار المؤمن دائما مع ربه هو "سمعنا وأطعنا " فى كل ما يأمر به أو ينهى عنه ظهرت الحكمة من ذلك أو لم تظهر0
وفى سبيل تحقيق هذا الغرض السامى الذى أشرت إليه ، دأب كثير من العلماء أثناء معالجتهم للموضوعات التشريعية ، أن يذكروا حكمة التشريع ، وهذا فعل طيب إن لاقى قبولاً واقتناعاً من المخاطب ، وهذا لن يتأتى إلا إذا انعدم التكلف فى افتعال هذه الحكمة ، فمن اللازم إذن أن تكون هذه الحكمة نابعة عن قناعة المتكلم أولاً ، حتى تقابل بقناعة من المخاطب ، فما يخرج من القلب ينفذ إلى القلب ، لكن أن تساق هذه الحكم افتعالاً وتكلفاً فهذا ما لا يرضاه المخاطب ، ولا يتقبله ، إذ كيف يتقبل قولاً لم يقتنع به قائله تمام الاقتناع ، بل ساقه افتعالاً وتكلفاً ، هنا نتذكر القول المشهور : " فاقد الشئ لا يعطيه "
وسأضرب لدعوى التكلف هذه من الأمثلة ما يدعمها كى لا تكون دعوى جوفاء ، لا حراك فيها ولا حياة0(/1)
المثال الأول: الصلاة بين التريض والتعبد:
ما أكثر ما نسمع ونقرأ لمن يقول : إن حكمة تشريع الصلاة أو من حكم تشريعها أنها رياضة بدنية يستفيد منها الجسم .
فهل يعقل أن يكون الهدف من تشريع الصلاة هو هذا ، أو حتى من أهدافها ؟
الصلاة التى تصل العبد بربه ، وتغذى روحه ، وترتقى بها بعيداً عن شهوات البدن ورغباته ، لا يجوز ـ من وجهة نظرى ـ أن نتدنى بها إلى هذا الحد ، ولو كان التريض وسيلة للتعبد ، لكان من بين التكاليف أن نمشى أو نهرول أو نجرى كل يوم مسافة معينة ، فذلك أنفع للجسم من حركات الصلاة .
المثال الثانى: هل الصوم شرع حقا لكى يحس الغنى بجوع الفقير؟
وذلك أننا كثيرا ما نسمع ونقرأ لمن يقول : إن حكمة تشريع الصوم أن يشعر الغنى بجوع الفقير0 وهو كلام جميل طيب ، ولكن لا يعضده أن الصوم مفروض على الفقير أيضاً ثم ماذا يقال بعدما غرض القرآن نفسه فرضية الصوم وأنه بلوغ رتبة التقوى قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " (البقرة:183).
المثال الثالث: هل الحكمة من مشروعية الوضوء مجرد النظافة ؟
وذلك أننا كثيرا ما نسمع ونقرأ لمن يقول: إن الحكمة من تشريع الوضوء هى النظافة ، ولست أدرى ماذا يقول صاحب هذه الدعوى فى بديله ، وهو التيمم ؟
والواقع أن كل ما قيل فى ذلك هو حق لا ينكر ، والاعتراض فقط هو على وصفه بأنه حكم للتشريع ، والأجدر أن يطلق على مثل هذا أنه فوائد مترتبة على التشريع ، لأن الحكمة هى التى تصلح أن تكون جوابا عن هذا السؤال " ما الهدف من تشريع حكم كذا ؟ " فحيثما صلحت الإجابة عن هذا السؤال وكانت مقنعة ، جاز لنا اعتبار هذا المذكور من حكم تشريع الحكم فيما يبدو لنا نحن البشر ، وتبقى الحكمة الرئيسة معلومة للمشرع0
إن المؤمن قوام إيمانه الإذعان لله والقبول لأحكامه ظهرت الحكمة أو لم تظهر ، قال تعالى : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " [ البقرة : 285 ] ، وقال سبحانه : " إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا " [ النور : 51 ] .
وكاتب هذه السطور يكرر تأكيده أنه لا يعارض الكشف عن الحكمة من التشريع أو البحث عنها بل يدعو إلى ذلك كله بشرط عدم التكلف فى هذا الأمر عندما تكون الحكمة غير ظاهرة - وبالأخص فى الأمور التعبدية التى يتعذر الوقوف على حكمتها إلا من يقيننا أنها إذعان لله وخضوع له ، وذلك وحده يكفينا – وإلا فقل لى بالله عليك لماذا رخص فى الفطر للمسافر وإن كان سفره فى منتهى الرفاهية والدعة ، ولم يرخص فى ذلك لأصحاب الأعمال الشاقة كالفرَّان ، والفلاح الذى يفلح فى أرضه ، والعامل فى حقل البناء وتشييد العمائر؟!!
ما مكمن الخطر فى المغالاة والإسراف فى التعلق بحكم التشريع ؟
مكمن الخطر فى هذا الأمر هو أن يعلق العبد قبوله لأحكام الله ـ عز وجل ـ على ظهور الحكمة أو العلة ، فإن هذا لا يتحقق دائماً ، بل إن ما لم يظهر لنا من هذه الحكم لهو أكثر بكثير مما ظهر ، والمؤمن الحق هو الذى يقبل على حكم الله ظهرت حكمته أو لم تظهر ، وفى التعبد من الطواعية والإذعان مما لم تعرف حكمته ، ولا تعرف علته كما يقول سلطان العلماء العز بن عبد السلام: ما ليس فيما ظهرت علته ، وفهمت حكمته ، وفائدته ، لأن المتعبد لا يفعل ما تعبد به إلا إجلالاً للرب ، وانقياداً لطاعته ... " ( )
والله الهادى إلى سواء السبيل(/2)
العقلية المتسائلة وأثرها في الأمة
في إحدى حفلات التخرج في كلية الهندسة قال الأستاذ وهو يسلم إحدى الخريجين شهادة التخرج:
o مبروك. هل أصبحت مهندسا ؟
o فرد عليه الطالب بكل ثقة واستبشار : نعم . نعم .
o أعاد الأستاذ السؤال, وأعاد الطالب الإجابة بنفس الحماسة.
o فتوجه الأستاذ مخاطبا القاعة المكتظة بمهندسي المستقبل وقال لهم :
o زميلكم يقول أنه أصبح مهندسا ! هل توافقوه ؟
o فجاءه رد جماعي فرح ,متهلل, متحمس بالموافقة. فخاطبهم قائلا :
o لا أنتم لم تصبحوا مهندسين بعد . نحن فقط أعطيناكم رخصة لممارسة مهنة الهندسة. أما العمل الفعلي. والعطاء الميداني, والنجاح والتميز فيحتاج منكم إلى مزيد جهد وعظيم سؤال. من اليوم عليكم أن أردتم أن تكونوا ناجحين .فعليكم بالتحلي الدائم بثقافة: " فاسألوا ". "فاسألوا أهل الذكر إن كنم لا تعلمون " (الأنبياء 7 )
* هذا الأمر القرآني المتحضر يحتوي على دعوة من المولى عز وجل للأمة بان تتحلي بثقافة السؤال . وهذه الآية- كما يقول العلامة بن سعدي – " وإن كان سببها خاصا..... فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين, أصوله وفروعه, إذا لم يكن عند الإنسان علم منها, أن يسأل من يعلمها. ففيها الأمر بالتعلم والسؤال لأهل العلم". لذلك فالسؤال عبادة . عبادة يجب أن تفعل في واقع حياة الأمة . فالله عز وجل حينما أمر بسؤال أهل الذكر, وأهل العلم, وأهل الدراية, وأهل الاختصاص – كل في مجاله - إنما كان يدعو الأمة المسلمة إلى أن تجود, وتطور, وتحدث حياتها على وجه الأرض باستمرار من خلال تفعيل عبادة " فاسألوا "عند أبناء الأمة . وذلك عن طريق تحفيز العقليات المتسائلة في الأمة لتتساءل , وتتناقش , وتتحاور, وتبحث , وتستخلص أفضل الإجابات التي تساهم في تطوير وتحسين حياة الفرد, والمجتمع, والأمة جمعاء .
فمن المعروف إن الأمم تشيخ, ومن ثم تموت إذا جبل أبناؤها وربوا على تعطيل عبادة السؤال فيما بينهم .والتاريخ خير شاهد , ولطالما أخبرنا أن الأمم التي أراحت عقول أبنائها من التحلي بهذه العبادة إنما أصابها الجمود, وتعمق فيها التخلف , وعشش على جدرانها الانحطاط . والأخطر من هذا أنها أصبحت ميدانا خصبا لترعرع الأفكار والآراء والنظريات الهدامة التافهة . كما وأصبحت أكثر استعداد لتقبل الغزو الفكري والثقافي والإعلامي .....الخ دونما أية مقاومة من أي نوع .
أما حينما تحيي الأمة عبادة السؤال , ويتحلى أبناؤها بالعقلية المتسائلة , فإنها بذلك تنمي معارفها , وتثري علومها , وتنعش حفائظ علمائها ومثقفيها ودعاتها وأهل الخير فيها كل في مجاله . كما وتفتح الباب واسعا للإبداع والاجتهاد .فشيوع ثقافة السؤال تهدم الكثير من المسلمات المتخلفة في مجتمعاتنا . وتطرد البديهيات المنحرفة . وتفكك الكثير من الآراء السلبية لدى العامة .كما و تعمل على توليد المزيد من الأفكار المتحضرة التي تساهم في تطوير واقعنا الذي نحياه . لتستمر الحياة على الأرض بالطريقة التي يريدها الله عز وجل
يقول عبد الله بن نجاد العتيبي
الإنسان والأمم والحضارات كلها تمرّ بمراحل من القوة والضعف، والعلم والجهل، والنجاح والفشل، لكنني أحسب أن معارج القوة والعلم والنجاح لا ترتقيها الشعوب والحضارات إلا بأجنحة التساؤل التي تمتد لتشمل الآفاق والأنفس. (وأحسب )أن دركات الضعف والجهل والفشل لا تهوي في البشر والأمم إلا وهم مثقلون بأرتال الإجابات الباردة وجنائز الأسئلة الموءودة )
ويقول الفيلسوف الألماني نيتشه:
من أراد أن يرتاح فليعتقد، ومن أراد أن يكون من حواريي الحقيقة فليسأل .
ويقول انطوني روبنز:
لقد أدركت أن بان الفرق الأساسي بين الأشخاص الذين حققوا نجاحات- في أي ميدان من الميادين – وأولئك الذين لم يحققوا مثل هذا النجاح هو أن الأشخاص الناجحين وجهوا أسئلة أفضل وبالتالي توصلوا لإجابات أفضل توصلوا إلي إجابات منحتهم القوة لكي يعرفوا ماذا يفعلون في أية وضعيه يجدون أنفسهم فيها لكي يحققوا النتائج التي يطمحون في تحقيقها
لذلك يجب أن ندرك و نؤمن بأن الأسئلة الجيدة تخلق حياة جيدة .وأن حياتنا على الأرض ما هي إلا انعكاس لما يشغلنا من تساؤلات . ولنسترجع سويا نشأت ذلك الفتى الذي كان يدعى روزبه بن خشنودان. ذلك الفتى الذي كان يعبد النار في بلاد فارس . إلا انه كان يشعر بتفاهة هذا المعبود . وظل يؤرقه سؤالا :
= أين الحقيقة ؟
= وما هو المعبود الحق في هذا الوجود ؟
= وما هو الدين الصواب على وجه هذه البسيطة ؟
اخذ يسال.. ويسأل .. ويتنقل .. ويتتبع ..ويقتفي اثر الحقيقة المفقودة . وفي سبيل ذلك قطع آلاف الأميال من بلاد فارس إلى بلاد الشام. تنقل ما بين الموصل , ونصيبين , وعمورية. ثم استقر به المقام في وادي القرى ما بين الشام والمدينة . وبعد هذا البحث شاء الله له أن يذهب إلى يثرب. وهناك تعرف على رسول الله صلى الله عليه وسلم .الذي أضاء له الطريق ووضح له الحقيقة كل الحقيقة .(/1)
فلولا تلك العقلية المتسائلة عند روزبه بن خشنودان - والذي عرف في تاريخنا الإسلامي بعد ذلك بسلمان الفارسي –لما توصل إلى تلك الحقائق العظيمة التي توصل إليها . لولا تلك العقلية لما تغيرت حياته من خادم للنار في بلاد فارس إلى " سلمان منا أهل البيت ". ويا له من فضل. . لولا تلك العقلية المتسائلة لظل الفتى يحيى في واقع بئيس و لعاش الفتى ومات كما تعيش الخراف و تموت .
ولولا تلك العقلية المتسائلة ما سمعنا عن بل جيتس.أحد مؤسسيي شركة مايكروسوفت و رئيس مجلس إدارتها الحالي و كبير مصممي برمجياتها. الذي يعتبر أغنى شخص في العالم في العشر سنوات الأخيرة والذي بلغت ثروته في سبتمبر 2005 حوالي 51 مليار دولار. بل جيتس الذي أصبح بليونيرا عند بلوغه الواحد والثلاثين من عمره ! .
لولا تلك العقلية المتسائلة ما سمعنا هنري فورد الرأسمالي الأميركي الشهير ومؤسس مصانع فورد الشهيرة لصناعة السيارات والذي بلغ دخل شركته- التي تعد واحدة من أضخم شركات العالم في إنتاج السيارات- في نهاية 2005 مائة وثمان وسبعين مليار دولار وهو بكل تأكيد رقم ضخم وكبير .
لولا تلك العقلية المتسائلة ما سمعنا عن عالم الفيزياء المشهور ألبرت اينشتاين واضع النظرية النسبية العامة الشهيرة والحائز على جائزة نوبل 1921م . والذي كان يؤمن بأن أهم شيء في هذه الحياة هو: ألا تتوقف عن التساؤل.
إن هؤلاء جميعا - وغيرهم - بدءوا بدايات عرجاء . إلا أنهم كانوا أصحاب عزيمة صادقة وعقليات متسائلة . وان النجاحات الباهرة التي حققوها – وأنت أيضا يمكنك ذلك –إنما سبقتها أسئلة جيدة . وجهد وكد في البحث عن إجابات جيدة عن تلك الأسئلة . " فالأسئلة أداة سحرية لا يمكن إنكار قوتها .فهي تسمح للقوى الكامنة في أدمغتنا بالالتقاء مع رغباتنا . إنها النداء الذي يدعو إمكانياتنا العملاقة للاستيقاظ . إن الفرق بين الناس إنما يكمن في الفرق في الأسئلة التي يطرحونها باستمرار".لذلك -"إذا أردنا أن نغير نوعية حياتنا فعلينا أن نغير الأسئلة التي اعتدنا عليها " لان -" السؤال الجيد غالبا ما يتبعه إجابات جيدة". بمعنى آخر "الجواب الجميل هو لمن يطرح سؤالا أكثر جمالا". لذلك -"لكي تغير حياتك نحو الأفضل فعليك أن تبدل أسئلتك المعتادة" .( راجع باب : الأسئلة هي الأجوبة من كتاب : أيقظ قواك الخفية- لأنتوني روبنز)
إن الواقع المنهار الذي يعيشه كثير منا كأفراد أو كجماعات أو كأمم إنما يحتاج إلى حلول عميقة . وهذه الحلول العميقة لا يكمن أن تخرج إلا من رحم الأسئلة العميقة.
وتلك الأسئلة العميقة لا يمكن أن تصدر إلا عن عقليات متفتحة غرست فيها ثقافة السؤال .وتعي فقه الواقع في قول الله عز وجل " فاسألوا أهل الذكر إن كنم لا تعلمون ".(الأنبياء-7)
إن خلق تلك العقلية في الأمة يحتاج إلى جهود مخلصة تعمل جاهدة على توفير مناخ صحي يساعد على غرس ثقافة السؤال عند أبناء المسلمين في مدارسهم , في معاهدهم , في مناهجهم , في مساجدهم . في طرق التدريس والتعليم , والتقويم . في طرق التفكير , والنقد والإبداع .
على المربين والآباء أن يفتحوا الأبواب واسعة أمام العقليات المتسائلة . فكثير من التطورات التي طرأت على عدد من الأمم كانت وراءها عقول متسائلة . وكثير من المجتمعات ارتقت وسمت نتيجة لتفشي ثقافة السؤال بين أبنائها . وكثير من الإفراد الذين تميزوا كانوا أصحاب عقول متسائلة . لذلك يجب علينا أن نسعى جاهدين إلى نشر هذه الثقافة في كل مؤسساتنا, وألا تضيق صدورنا من جراء ذلك .فثقافة السؤال هي الوحيدة القادرة على إحداث حراك إيجابي ينتشل الأمة من حيرتها ويعيد إليها شبابها ومجدها .
وفي النهاية دعني أسألك :
= ما الهم الذي تحمله ؟
= وما هو السؤال الذي يشغلك ويؤرقك الآن ؟
= وهل لديك الاستعداد الكافي للكد والسعي وراء البحث عن إجابات عن هذا السؤال ؟.
إذا كان الأمر كذلك فابدأ رحلتك من ألان . وإذا كان الأمر غير ذلك" فتذكر إن عقلك مثل جني فانوس علاء الدين . وانه لن يعطيك إلا ما تطلبه منه . لذا عليك أن تكون حريصا فيما تطرحه من أسئلة. إذ انك لن تجد إلا ما تبحث عنه ".وتذكر أن من اعتاد طرق الأبواب حتما سيدخلها .
طارق حسن السقا
alsaqa22@hotmail.com(/2)
العقوبات وأثرها في الحدّ من الجرائم
مقدمات:
1- تعريف الحدود لغة واصطلاحاً.
2- تعريف التعزير لغة واصطلاحاً.
3- تعريف القصاص لغة واصطلاحاً.
4- الفرق بين الحد والتعزير والقصاص.
5- هل الحدود زواجر أم جوابر؟
6- الضرورات الخمس التي حفظها الشرع.
الفصل الأول: التدابير الشرعية لحفظ الدين في باب العقوبات:
المبحث الأول: مقصد حفظ الدين وأهميته.
المبحث الثاني: الردة وخطرها.
المبحث الثالث: عقوبة الردة.
المبحث الرابع: أثر تطبيق حد الردة.
الفصل الثاني: التدابير الشرعية لحفظ النفس في باب العقوبات:
المبحث الأول: مقصد حفظ النفس وأهميته.
المبحث الثاني: جريمة القتل وخطرها.
المبحث الثالث: عقوبة القتل.
المبحث الرابع: آثار تطبيق عقوبة القصاص.
الفصل الثالث: التدابير الشرعية لحفظ العقل في باب العقوبات:
المبحث الأول: مقصد حفظ العقل وأهميته.
المبحث الثاني: جريمة شرب الخمر وأضرارها.
المبحث الثالث: عقوبة شرب الخمر.
المبحث الرابع: جريمة تعاطي المخدرات وأضرارها.
المبحث الخامس: عقوبة ترويج المخدرات.
المبحث السادس: آثار تطبيق عقوبة تعاطي الخمر والمخدرات.
الفصل الرابع: التدابير الشرعية للمحافظة على العرض في باب العقوبات:
المبحث الأول: مقصد حفظ العرض وأهميته.
المبحث الثاني: جريمة الزنا وأخطارها.
المبحث الثالث: عقوبة الزنا.
المبحث الرابع: جريمة اللواط وأخطارها.
المبحث الخامس: عقوبة اللواط.
المبحث السادس: آثار تطبيق عقوبة الزنا واللواط.
المبحث السابع: جريمة القذف وأضرارها.
المبحث الثامن: حد القذف.
المبحث التاسع: آثار تطبيق حد القذف.
الفصل الخامس: التدابير الشرعية لحفظ المال في باب العقوبات:
المبحث الأول: مقصد حفظ المال وأهميته.
المبحث الثاني: جريمة السرقة وخطرها.
المبحث الثالث: حد السرقة.
المبحث الرابع: آثار تطبيق حد السرقة.
المبحث الخامس: جريمة الحرابة وخطرها.
المبحث السادس: حد الحرابة.
المبحث السابع: آثار تطبيق حد الحرابة.
الفصل السادس: أثر التعزيرات الشرعية في الحد من الجريمة.
الفصل السابع: عواقب إهمال العقوبات الشرعية.
الفصل الثامن: شبهات حول إقامة الحدود.
مقدمات:
1- تعريف الحدود لغة وشرعا:
الحد لغة: قال ابن فارس: "الحاء والدال أصلان: الأول: المنع، والثاني: طرفُ الشيء.
فالحد: الحاجز بين الشيئين، وفلان محدود إذا كان ممنوعاً.
قال: وحد العاصي سمي حداً لأنه يمنعه عن المعاودة".
والحد شرعا: عرفه الكسائي بقوله: "والحد في الشرع عبارة عن عقوبة مقدَّرة واجبة حقاً لله تعالى عز شأنه".
وقال الفتوحي: "هو عقوبة مقدرة شرعاً في معصية يمنع من الوقوع في مثلها".
وقال الشربيني: "هو عقوبة مقدرة وجبت زجراً عن ارتكاب ما يوجبه".
ويلاحظ على هذه التعاريف أنها لا تسلم من الاعتراض، فالتعريف الأول تعريف جامع مانع طبقاً للمذهب الحنفي القائل: إن حد القذف حقٌّ خالص لله أو حقُّه منه غالب، إلا أنه لا يصلح لتعريف الحد عند المذاهب الأخرى التي ترى أن حد القذف حق للآدمي أو حقه فيه غالب، فتلك المذاهب تعتبر هذا التعريف تعريفاً لبعض الحدود لا لجميعها.
وأما التعريفان الآخران فيلاحظ أنهما غير مانعين، فهما ينطبقان على القصاص؛ إذ هو عقوبة مقدرة شرعت للمنع من معاودة الفعل، وشرْطُ صحة التعريف أن يكون جامعاً لأجزاء المعرَّف مانعاً من دخول ما عداها.
التعريف المختار للحد: هو عقوبة مقدَّرة شرعت لصيانة الأنساب والأعراض والعقول والأموال وتأمين السبل.
2- تعريف التعزير لغة وشرعا:
التعزير لغة: قال ابن فارس: "العين والزاء والراء كلمتان: إحداهما التعظيم والنصر، والكلمة الأخرى جِنس من الضرب، فالأولى النصر والتوقير كقوله تعالى: {وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ} [الفتح:9]، والأصل الآخر التعزير وهو الضرب دون الحد، قال:
وليس بتعزير الأمير خزاية عليّ إذا ما كنت غير مريب"
التعزير شرعا: قال ابن الهمام: "التعزير تأديب دون الحد"، وكذا قال البعلي.
وقال الماوردي: "التعزير هو التأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود".
وقال الرملي: "هو التأديب في كل معصية لله أو لآدمي لا حد لها ولا كفارة".
والمتأمل في هذه التعريفات يرى ما يلي:
1- اتفاقها في جنس التعريف، وهو (التأديب) وهو حقيقة لغوية للتعزير، فصارت هذه الحقيقة الشرعية منقولة عن الحقيقة اللغوية.
2- أن هذه الحقيقة في الشرع لا بد لها من زيادة قيد وهو (دون الحد)، لكن في التعريف الأول جُعل هذا القيد على ذات التأديب، وفي التعريف الثاني والثالث جُعل هذا القيد على موضع التعزير ومحله وموجبه.
3- أن في التعريف الأخير زيادة (ولا كفارة) ولم تذكر في التعريفات الأخرى، ولكنها معتبرة عند أصحابها.
3- تعريف القصاص لغة وشرعا:(/1)
القصاص لغة: قال ابن فارس: "القاف والصاد أصل صحيح يدل على تتبع الشيء، من ذلك قولهم: اقتصصت الأثر إذا تتبعته، ومن ذلك اشتقاق القصاص في الجراح، وذلك أنه يفعل به مثل فعله بالأول، فكأنه اقتص أثره".
القصاص شرعا: قال الجرجاني: "القصاص هو أن يُفعل بالفاعل مثل ما فعل".
4- الفرق بين الحدِّ والتعزير والقصاص:
أولاً: الفرق بين الحد والقصاص وبين التعزير:
تختلف عقوبة الحد والقصاص عن العقوبة التعزيرية من عدة أوجه أهمها:
1- أن العقوبة الحدية والقصاص عقوبة مقدَّرة من قبل الشارع لا مجال للاجتهاد فيها، وليس لأي إنسان مهما كانت صفته أن يزيد عليها أو ينقص منها، وأما العقوبة التعزيرية فهي راجعة إلى اجتهاد الحاكم، فهو الذي يختار نوعَها ويحدِّد قدرَها مراعياً في ذلك ظروفَ الجريمة وحالةَ المجرم الاجتماعية والنفسية.
2- العقوبة التعزيرية يجوز إيقاعها على الصبي وعلى المجنون الذي لديه بعض الإدراك لأنه عقوبة تأديبية، وتأديب هؤلاء جائز إذا ثبت اقترافهم لما يستوجب التعزير، أما العقوبة الحدية والقصاص فإنها لا توقع على أي من هؤلاء، لأن التكليف من أهم الشروط التي نصَّ الفقهاء على وجوب توفرها فيمن يقام عليه الحد.
3- أن التعزير يختلف باختلاف الناس، فتعزير ذوي الهيئات أخفُّ من غيرهم، وهذا بخلاف الحدود والقصاص فالناس فيها سواء.
4- أن التعزير إذا كان في حق من حقوق الله تعالى تجب إقامته كقاعدة، لكن يجوز فيه العفو عن العقوبة والشفاعة إن رُئي في ذلك مصلحة أو كان الجاني قد انزجر بدونه، وإذا كان التعزير يجب حقاً للأفراد فإن لصاحب الحق أن يعفو وإن لم ير في ذلك مصلحة. أما جرائم الحدود فليس لأحد مطلقاً إسقاط عقوبتها أو الشفاعة فيها بعد بلوغها، إلا إذا كان الحد قذفاً، فإن للمجني عليه أن يعفو عن القاذف عند غير الحنفية.
5- الحدود تدرأ بالشبهات، فلا يجوز الحكم بثبوتها عند قيام الشبهة، سواء كانت حقاً خالصاً لله كحد الزنا والسرقة والشرب، أو مشتركة بين الخالق والمخلوق كحد القذف، وهذا بخلاف التعزير فإنه يحكم بثبوت موجبه مع قيام الشبهات.
6- أن التعزير يسقط بالتوبة بلا خلاف، والحدود لا تسقط بالتوبة على الصحيح إلا الحرابة فإنه يسقط بالتوبة قبل القدرة عليهم لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} [المائدة:34].
7- التعزير يختلف باختلاف الأعصار والأمصار، فرُبَّ تعزير في بلد يكون إكراماً في آخر.
ثانياً: الفرق بين الحد وبين القصاص:
يختلف الحد عن القصاص من عدة أوجه أهمها:
1- في القصاص يشرع العفو عنه والشفاعة فيه، سواء كان في النفس أو فيما دونها، وهذا بخلاف الحدود فلا يقبل فيها العفو ولا تصحُّ فيها الشفاعة بعد بلوغها الحاكم إلا في حد القذف عند غير الحنفية.
2- أن القصاص حق من الحقوق التي تنتقل إلى ورثة المستحقّ بعد موته، فلهم أن يطالبوا بالقصاص المستحَقّ لموَرِّثهم ما لم يكن قد عفا عن ذلك قبل وفاته، وهذا بخلاف الحدود فلا مدخل للإرث فيها إلا إذا كان الحد قذفاً وكان المقذوف قد طالب به أثناء حياته.
3- أن استيفاء الحد خاصّ بالإمام أو من ينوب منابه، وليس لأحد من الناس أن يقيم الحد على من استوجبه ما لم يكن الإمام قد فوَّض إليه ذلك، وهذا بخلاف القصاص فإن للمجني عليه أو وليِّه الحق في استيفائه إذا كان يحسن الاستيفاء على الوجه الشرعي.
4- أنه يجوز الاعتياض عن القصاص بالمال، بخلاف الحدود فإنها لا تقبل المعاوضة.
5- أن التحكيم جائز في القصاص، بخلاف الحدود فلا مدخل للتحكيم فيها.
5- هل الحدود زواجر أم جوابر؟
اختلف العلماء في الحدود: هل هي جوابر وكفارات لمن أقيمت عليه أم هي مجرد زواجر عن ارتكاب الحدود وليست كفارات؟
القول الأول: أن الحدود جوابر وكفارات، وهذا قول أكثر أهل العلم.
قال القاضي عياض: "أكثر العلماء ذهبوا إلى أن الحدود كفارة".
وبذلك ترجم البخاري في الصحيح فقال: "باب الحدود كفارة".
دليل هذا القول: استدلوا بحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان شهد بدرا وهو أحد النقباء ليلةَ العقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه)) فبايعناه على ذلك، في رواية: ((ومن أتى منكم حداً فأقيم عليه فهو كفارته)).
قال ابن رجب الحنبلي: "وهذا صريح في أن إقامة الحدود كفارات لأهلها".
القول الثاني: وذهب بعض العلماء إلى أن الحدود ليست جوابر وكفارات بل هي للزجر عن الوقوع فيما أوجب الحد، وهو قول بعض التابعين ورجحه ابن حزم وطائفة من متأخري المفسرين كالبغوي.(/2)
دليل هذا القول: استدل أصحاب هذا القول بقوله تعالى في آخر آية الحرابة: {ذالِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33].
فأخبر سبحانه أن جزاءَ فعلهم عقوبةٌ دنيوية وعقوبة أخروية إلا من تاب فإنها تسقط عنه العقوبة الأخروية.
وتوقَّف بعض العلماء في المسألة فقالوا: لا يقال في الحدود: إنها كفارات، ولا يقال: إنها غير كفارات.
واستدلوا: بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا)).
القول الراجح: والراجح في المسألة هو القول الأول الذي قال به الجمهور، وذلك لما يلي:
1- أن حديث عبادة أصحُّ إسناداً بل هو متفق عليه.
2- أن فيه التصريح في المسألة وقد ترجم عليه البخاري بذلك.
3- أن الآية التي احتجَّ بها أهل القول الثاني مختلف في المراد منها: هل هي في الكفار أو في محاربي الإسلام؟.
4-أنه على فرض التعارض فيجاب بأن ذكر عقوبة الدنيا والآخرة لا يلزم اجتماعهما، فقد دلَّ الدليل على أن عقوبة الدنيا تُسقط عقوبة الآخرة.
5- قال ابن بطال: "إن الوعيد في آية المحاربة عند جميع المؤمنين مرتَّب على قول الله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}، فتأويل آية المحاربين {ذالِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} إن شاء الله تعالى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}".
6- أن حديث أبي هريرة لا يعارض حديث عبادة لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلمه ثم علمه فأخبر به جزماً، وبهذا جمع القاضي عياض وتبعه ابن رجب الحنبلي وابن حجر العسقلاني.
استشكال:
أورد بعض العلماء إشكالا على من قال في الجمع بين حديثي أبي هريرة وعبادة بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم أن الحدود كفارة لأهلها وعليه يحمل حديث أبي هريرة، ثم أعلم بذلك فأخبر به وعليه يحمل حديث عبادة، ووجه الاستشكال أن أبا هريرة متأخِّر الإسلام عن عبادة وفي حديث عبادة ذكر أن تلك المبايعة كانت في بيعة العقبة وهي قبل الهجرة، فكيف ينسخ المتقدم المتأخر؟!.
الجواب على هذا الاستشكال:
أجاب الحافظان ابن رجب الحنبلي وابن حجر العسقلاني بأن حديث عبادة لم يكن ليلةَ العقبة بلا تردّد، ومما يدلُّ على ذلك أن الآية المذكورة في حديث عبادة وهي قوله تعالى: {ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ...} [الممتحنة:12]، كان نزولها في فتح مكة، وذلك بعد إسلام أبي هريرة بنحو سنتين.
قال الحافظ ابن حجر: "وإنما وقع الإشكال من قوله هناك: أن عبادة بن الصامت وكان أحد النقباء ليلة العقبة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بايعوني على أن لا تشركوا)) فإنه يوهم أن ذلك كان ليلة العقبة، وليس كذلك، بل البيعة التي وقعت في ليلة العقبة كانت على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وهو حديث عبادة أيضاً".
وقال الحافظ أيضاً: "وإنما حصل الالتباس من جهة أن عبادة بن الصامت حضر البيعتين معاً، وكانت بيعة العقبة من أجلّ ما يتمدَّح به، فكان يذكرها إذا حدَّث تنويهاً بسابقيته، فلما ذكر هذه البيعة التي صدرت على مثل بيعة النساء عقِب ذلك توهَّم من لم يقف على حقيقة الحال أن البيعةَ الأولى وقعت على ذلك".
وكذلك رجح الحافظ في هذا الجواب بأن نفس البيعة التي كانت على نحو بيعة النساء وقعت لغير عبادة من الصحابة الذين تأخر إسلامهم كعبد الله بن عمرو بن العاص وجرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنهم.
6- الضرورات الخمس التي حفظها الشرع:
وضع الله تعالى الشرائع لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً.
قال الشاطبي: "والمعتمد إنما هو أنَّا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراءً لا يُنازع فيه، فإن الله تعالى يقول في بعثة الرسل وهو الأصل: {رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، وقال في أصل الخلقة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، {الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2]، وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى".
ومن تلك المصالح الحفاظ على المقاصد الثلاثة:
قال الشاطبي: "تكاليف الشرع ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون ضرورية.
والثاني: أن تكون حاجية.
والثالث: أن تكون تحسينية.(/3)
فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين. والحفظ لها يكون بأمرين:
أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود.
والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقَّع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم.
فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود كالإيمان والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبه ذلك، والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضاً كتناول المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات وما أشبه ذلك، والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضاً، لكن بواسطة العادات، والجنايات ـ ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم".
مقاييس اللغة (2/3-4).
بدائع الصنائع (7/33).
منتهى الإرادات (5/113).
الإقناع.
انظر: النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/16).
انظر: المصدر السابق.
مقاييس اللغة (4/311).
فتح القدير (5/112).
المطلع على أبواب المقنع (ص374).
الأحكام السلطانية (ص236).
نهاية المحتاج (8/16-17).
مقاييس اللغة (5/11).
التعريفات (225).
بدائع الصنائع (7/33) وفتح الوهاب (2/166)، وانظر: النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/17).
نهاية المحتاج، وترتيب الفروق (2/323-324)، وانظر: النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/18).
نهاية المحتاج (8/19) وترتيب الفروق (2/325) وانظر: النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/18).
ترتيب الفروق (2/326)، وانظر: النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/18).
الأشباه والنظائر للسيوطي (1/273-275)، وانظر: النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/19).
ترتيب الفروق (2/324).
ترتيب الفروق (2/325).
بدائع الصنائع (7/33)، وانظر: النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/19).
النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/20).
النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/20).
النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/20).
النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/20).
إكمال المعلم (5/550).
صحيح البخاري (مع الفتح)، كتاب الحدود (12/85).
أخرجه البخاري في الإيمان (18)، وفي الحدود باب: الحدود كفارة (6784)، ومسلم في الحدود (1709).
هذه إحدى روايات مسلم.
فتح الباري لابن رجب (1/79).
انظر: المحلى (11/124) وفتح الباري لابن رجب (1/81).
انظر: الإجراءات الجنائية في جرائم الحدود (2/501).
انظر: إكمال المعلم (5/550).
أخرحه الحاكم في المستدرك (1/36) وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، والحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/84).
إكمال المعلم (5/550).
البخاري مع الفتح (12/85).
إكمال المعلم (5/550)، وقد وقع كلامه في المطبوع مصحفا إلى: "هل هي في الكفارة أو محاذير الإسلام".
فتح الباري لابن رجب (1/81).
شرح ابن بطال على البخاري (8/403).
إكمال المعلم (5/550).
فتح الباري (1/80).
فتح الباري (1/84-85، 12/86).
انظر: فتح الباري لابن حجر العسقلاني (1/84).
انظر: فتح البخاري لابن رجب (1/80) وفتح الباري لابن حجر (1/84-85، 12/86).
فتح الباري (12/86).
فتح الباري (1/85).
انظر: فتح الباري (1/84).
الموافقات (2/12).
الموافقات (2/17-20).
الموافقات (2/20).
الفصل الأول: التدابير الشرعية لحفظ الدين في باب العقوبات:
المبحث الأول: مقصد حفظ الدين وأهميته.
لما كان التديُّن فطرةً في الإنسان فلا بد للإنسان من أن يدين بدين، سواء كان ذلك الدين حقاً أم باطلاً، فإن مخالفة تلكم الفطرة شذوذ وانحراف، ولكن المقصود بالدين هنا الدين الحق المنزل من رب العالمين الخالص من البدع والتحريف وهو دين الإسلام الحنيف الذي لا يقبل الله من أحد سواه، {إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ} [عمران:19]، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [عمران:85].
وحفظ الدين أهمُّ مقاصد الشريعة الإسلامية، ولا يمكن أن يكون هذا المقصد العظيم معرَّضاً للضياع والتحريف والتبديل؛ لأن في ذلك ضياعاً للمقاصد الأخرى وخراباً للدنيا بأسرها.
المبحث الثاني: الردة وخطرها.
الردة هي أخطر جريمة تهدِّد دين الإنسان وتنقضه.
تعريفها:
قال البعلي: "الردة الإتيان بما يخرج به عن الإسلام إما نطقاً وإما اعتقاداً وإما شكاً".
خطورة الردة وضررها:
تكمن خطورة الردة في محاذير كثيرة منها:(/4)
1- حبوط عمل المرتد: قال تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وليس من السيئات ما يمحو جميع الحسنات إلا الردة".
2- خلود المرتد في النار: وتدل عليه الآية السابقة.
3- لا يغفر الله للمرتد ولا يهديه: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} [النساء:137].
قال ابن كثير: "يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه ثم عاد فيه ثم رجع واستمر على ضلاله وازداد حتى مات فإنه لا توبة له بعد موته ولا يغفر الله له ولا يجعل له مما هو فيه فرجاً ولا مخرجاً ولا طريقا إلى الهدى".
4- أن الردةَ سلاح خطير إذا استعمله الأعداء فإن له أثرَه في زعزعة المسلمين وتشكيك ضعاف الإيمان بدينهم وإحداث البلبلة بينهم، ومن خبث اليهود أنهم استعملوا هذا السلاح لحرب الإسلام وزلزلة المسلمين وإيقاعهم في الشك والارتياب في دينهم، فقد كان كبار اليهود يقولون لصغارهم: تظاهروا بالإيمان في أول النهار واكفروا آخرَه لكي يقول المسلمون: إنَّ رجوعهم عن الدين بعدما دخلوا فيه دليل على عدم صحته وعدم صلاحيته لأنهم أهل كتاب ولهم سبق إلى دين السماء وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ ءاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [عمران:72].
المبحث الثالث: عقوبة الردة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بدَّل دينَه فاقتلوه)).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة)).
قال ابن قدامة: "وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتدين".
المبحث الرابع: أثر تطبيق حدِّ الردَّة.
لهذا الحد أثره الواضح في المجتمع، وذلك أنه يكون مؤثراً في التمسك بالدين؛ لأن المسلم يشهد أن لا إله إلى الله وأن محمداً رسول الله وهي شهادة إقرار على التسليم بكل أحكام الإسلام، وهو يعلم حين يقر بالشهادة أن من أحكام هذا الدين قتله إن ارتد، فقبل وأذعن مختاراً وحافظ على دينه وازداد تمسكه به.
يقول شيخ الإسلام في الحكمة من قتل المرتد: "فإنه لو لم يُقتَل لكان الداخلُ في الدين يخرج منه، فقتلُه حفظٌ لأهل الدين وللدين، فإن ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه".
ويقول عبد القادر عودة: "وتُعاقب الشريعةُ على الردة بالقتل لأنها تقع ضدَّ الدين الإسلامي وعليه يقوم النظام الاجتماعي للجماعة، فالتساهل في هذه الجريمة يؤدي إلى زعزعة هذا النظام ومن ثمَّ عوقب عليها بأشد العقوبات استئصالاً للمجرم من المجتمع وحماية للنظام الاجتماعي من ناحية ومنعاً للجريمة وزجراً عنها من ناحية أخرى، ولا شك أن عقوبة القتل أقدر العقوبات على صرف الناس عن الجريمة، ومهما كانت العوامل الدافعة إلى الجريمة فإن عقوبة القتل تولِّد غالباً في نفس الإنسان من العوامل الصارفة عن الجريمة ما يكبت العوامل الدافعة إليها ويمنع من ارتكاب الجريمة في أغلب الأحوال".
انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية (ص192-193).
المطلع على أبواب المقنع (ص 378).
مجموع الفتاوى (11/700).
تفسير القرآن العظيم (1/579).
تطبيق الحدود الشرعية وأثره على الأمن في المملكة (ص38)، وانظر القصة المذكورة في جامع البيان (3/309-310).
أخرجه البخاري في استتابة المرتدين، باب: حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم (6922).
أخرجه البخاري في الديات (6878)، ومسلم في القسامة والمحاربين (1676).
المغني (12/264).
تطبيق الحدود الشرعية وأثره على الأمن في المملكة (ص 38) بتصرف يسير.
مجموع الفتاوى (20/102).
التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي (1/661، 662).
الفصل الثاني: التدابير الشرعية لحفظ النفس في باب العقوبات:
المبحث الأول: مقصد حفظ النفس وأهميته.
لقد عُنيت الشريعة الإسلامية بالنفس عنايةً فائقة فشرعت من الأحكام ما يجلب المصالح لها ويدفع المفاسد عنها وذلك مبالغةً في حفظها وصيانتها ودرء الاعتداء عليها؛ لأنه بتعريض الأنفس للضياع والهلاك يُفقد المكلَّف الذي يتعبَّد لله سبحانه وتعالى، وذلك بدوره يؤدي إلى ضياع الدين.(/5)
والنفس التي عُنيت الشريعة بحفظها هي الأنفس المعصومة بالإسلام أو الجزية أو الأمان، وأما غير ذلك كنفس المحارِب فليست الشريعة تعنى بحفظها لكون عدائه للإسلام ومحاربته له أعظم في نظر الشريعة من إزهاق نفسه، وقد تكون النفس معصومة بالإسلام أو الجزية أو الأمان ويجيز الشارع للحاكم إزهاقَها بالقصاص أو الرجم وليس هذا من قبيل عدم العناية بها والمحافظة عليها، بل لكون مصلحة حفظها عورضت بمصلحة أعظم فأخذ بأعظم المصلحتين.
المبحث الثاني: جريمة القتل وخطرها.
القتل جريمة خطيرة لها أضرارها على الأفراد والمجتمعات، وقد ذكر الله تعالى تحريمها في مواطن من القرآن قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ} [الأنعام:151] في موضعين من القرآن، قال القرطبي: "وهذه الآية نهيٌ عن قتل النفس المحرَّمة مؤمنةً كانت أو معاهدة إلا بالحق الذي يوجب قتلها".
وحرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة)).
فمن أضرار جريمة القتل ومظاهر خطورتها:
1- أنها من الكبائر المنصوص عليها: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: ((الإشراك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق...)) الحديث.
2- أنها متوعَّد عليها بالعذاب العظيم والغضب واللعنة من الله: قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93].
قال أبو هريرة وجماعة من السلف: (هذا جزاؤه إن جازاه).
3- أن قتل نفس واحدة كقتل الناس جميعاً: قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً...} [المائدة:32].
قال ابن كثير: "أي: من قتل نفساً بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض واستحلَّ قتلها بلا سبب ولا جناية فكأنما قتل الناس جميعاً لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس".
4- أنها أولُ ما يقضي فيه بين العباد يوم القيامة: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أول ما يقضى بين الناس في الدماء)).
قال الحافظ: "وفيه عظم أمر القتل؛ لأن الابتداء إنما يقع بالأهم".
المبحث الثالث: عقوبة القتل.
القتل ثلاثة أنواع: عمد وشبه عمد وخطأ.
القتل العمد: وعقوبته القصاص.
قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178].
قال شيخ الإسلام مبينا هذا النوع: "هو أن يقصِد من يعلمُه معصوماً بما يقتل غالباً، سواء كان يقتل بحده كالسيف ونحوه، أو بثقله كالسندان وكُوذين القصَّار، أو بغير ذلك كالتحريق والتغريق والإلقاء من مكان شاهق والخنق وإمساك الخصيتين حتى تخرج الروح، وغم الوجه حتى يموت، وسقي السموم ونحو ذلك من الأفعال، فهذا إذا فعله وجب فيه القوَد، وهو أن يمكَّن أولياء المقتول من القاتل فإن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا، وإن أحبوا أخذوا الدية، وليس لهم أن يقتلوا غير قاتله".
القتل شبه العمد: وعقوبته الدية المغلظة.
قال شيخ الإسلام: "النوع الثاني الذي يشبه العمد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن في قتل الخطأ شبه العمد ما كان في السوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها)) سماه شبه العمد؛ لأنه قصد العدوان عليه بالضرب لكنه لا يقتل غالباً، فقد تعمَّد العدوان ولم يتعمَّد ما يقتل".
القتل الخطأ: وعقوبته الدية والكفارة.
قال تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} [النساء:92].
قال شيخ الإسلام: "والثالث الخطأ المحض وما يجري مجراه، مثل أن يرمي صيداً أو هدفاً فيصيب إنساناً بغير علمه ولا قصده، فهذا ليس فيه قوَدٌ، وإنما فيه الدية والكفارة".
المبحث الرابع: آثار تطبيق عقوبة القصاص:
1- إرضاء أولياء المقتول وإذهاب غيظهم وإخماد الفتن:(/6)
قال شيخ الإسلام: "قال العلماء: إن أولياء المقتول تغلي قلوبهم بالغيظ حتى يؤثروا أن يقتلوا القاتلَ وأولياءه، وربما لم يرضوا بقتل القاتل بل يقتلون كثيراً من أصحاب القاتل، وقد يستعظمون قتلَ القاتل لكونه عظيماً أشرف من المقتول فيفضي ذلك إلى أن أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل، وربما حالف هؤلاء قوماً واستعانوا بهم وهؤلاء قوماً فيفضي إلى الفتن والعداوات العظيمة، فكتب الله علينا القصاص وهو المساواة والمعادلة في القتلى، وأخبر أن فيه حياةً، فإنه يحقن دمَ غير القاتل من أولاء الرجلين".
2- ردع من يريد القتل وحفظ النفوس:
قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياةٌ يأُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].
قال أبو العالية: "جعل الله القصاص حياةً فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يُقتل".
قال ابن كثير: :وفي الكتب المتقدمة: (القتل أنفى للقتل)، فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز".
مقاصد الشريعة الإسلامية (ص 211).
الجامع لأحكام القرآن (7/133).
متفق عليه وقد تقدم تخريجه في الفصل الأول، المبحث الثالث.
أخرجه البخاري في الحدود، باب: رمي المحصنات (6857)، ومسلم في الإيمان (89).
انظر: تفسير القرآن العظيم (1/550).
تفسير القرآن العظيم (2/49).
أخرجه البخاري في الديات، باب: قول الله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً} (6864)، ومسلم في القسامة (1678).
فتح الباري (12/196).
السندان: قال البعلي في المطلع على أبواب المقنع (ص357): "لم أره في شيء من كتب اللغة، فالظاهر أنه مولد، وهو عبارة عن الآلة المعروفة من الحديد الثقيل يعمل عليها الحداد صناعته".
الكوذين: قال البعلي في المطلع (ص357): "لفظ مولد، وهو عن أهل زماننا عبارة عن الخشبة الثقيلة التي يدق بها الدقاق الثياب".
مجموع الفتاوى (28/373، 374).
مجموع الفتاوى (28/378).
مجموع الفتاوى (28/378).
مجموع الفتاوى (28/374، 375).
انظر: تفسير القرآن العظيم (1/225).
تفسير القرآن العظيم (1/225).
الفصل الثالث: التدابير الشرعية لحفظ العقل في باب العقوبات:
المبحث الأول: مقصد حفظ العقل وأهميته.
إن العقل هو الذي استحقَّ به الإنسان أن يكون خليفةً في الأرض وأن يُسخَّر له ما في السماوات والأرض الكون، وهو أيضاً مناط التكليف، فقد جعله الفقهاء شرطاً لصحة العمل، فلا يصحُّ العمل إلا به؛ لذلك حرَّم الإسلام تناولَ الخمر وكل مخدِّر، وشرع في ذلك الحد أو التعزير تأديباً لمتعاطيها وراحةً لغيره وحمايةً للمجتمع من خطرها ومحافظةً على أمن الأمة.
المبحث الثاني: جريمة شرب الخمر وأضرارها.
تتضح أضرار الخمر في أمور عديدة منها:
1- أنها تصدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة:
قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة:91].
قال القرطبي: "أي: إذا سكرتم لم تذكروا الله ولم تصلوا، وإن صليتم خلّط عليكم".
2- أنها تسبِّب العداوة والبغضاء:
قال القرطبي: "أعلَمَ اللهُ تعالى عبادَه أن الشيطان إنما يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بيننا بسبب الخمر وغيره، فحذرنا منه ونهانا عنه".
3- أن فيها إثماً عظيماً بسبب السكر:
قال تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة:219].
قال ابن عباس: (يعني ما ينقص من الدين عند من يشربها).
وقال السدي: "فإثم الخمر أن الرجل يشرب فيسكر فيؤذي الناس".
قال ابن جرير: "وإنما كان ذلك لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض، وقاتل بعضهم بعضاً".
4- أن لها ضرراً عظيماً على البدن والعقل:
يقول علماء الطب: والخمر توهن البدن وتجعله أقلَّ مقاومةً وجلَداً في كثير من الأمراض مطلقاً، وهي تؤثر في جميع أجهزة البدن، وخاصة في الكبد، وهي شديدة الفتك بالمجموعة العصبية، لذلك لا يستغرب أن تكون من أهم الأسباب الموجبة لكثير من الأمراض العصبية ومن أعظم دواعي الجنون والشقاوة والإجرام، لا لمستعملها وحده بل وفي أعقابه من بعده.
5- أن لها مضاراً اقتصادية على البلدان:
يقول علماء الاقتصاد: إن كلَّ درهم نصرفه لمنفعتنا فهو قوة لنا وللوطن، وكل درهم نصرفه لمضرتنا فهو خسارة علينا وعلى وطننا، فكيف بهذه الملايين من الليرات التي تذهب سدًى على شرب المسكرات على اختلاف أنواعها.
المبحث الثالث: عقوبة شرب الخمر.
قال الإمام البخاري في صحيحه: "باب ما جاء في ضرب شارب الخمر"، ثم أخرج بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين.(/7)
وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكر فصدراً من خلافة عمر فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا عتوا أو فسقوا جلد ثمانين.
قال ابن قدامة: "يجب الحد على من شرب قليلاً من المسكر أو كثيراً، ولا نعلم بينهم خلافاً في ذلك في عصير العنب غير المطبوخ".
وقال ابن حزم: "واتفقوا أن من شرب نقطة خمر وهو يعلمها خمراً من عصير العنب وقد بلغ ذلك حدَّ الإسكار ولم يتب ولا طال الأمر وظفر به ساعةَ شربها ولم يكن في دار الحرب أن الضرب يجب عليه إذا كان حين شربه لذلك عاقلاً مسلماً بالغاً غيرَ مكرَه ولا سكران، سكِر أو لم يسكر".
وقال ابن حزم أيضاً: "واتفقوا أن الحد أن يكون مقدار ضربه في ذلك أربعين، واختلفوا في إتمام الثمانين، واتفقوا أنه لا يلزمه أكثر من ثمانين".
المبحث الرابع: جريمة تعاطي المخدرات وأضرارها.
تعاطي المخدرات جريمة خطيرة انتشرت في زماننا هذا، أضرارها بالغة الخطورة فمن ذلك:
1- أضرار صحية وهي كثيرة جداً، فمنها:
أ- هبوط عام في الجهاز المركزي.
ب- تصلب الشرايين.
ج- الضعف الجسمي.
د- اضطراب الجهاز التنفسي ومسالكه والتهاب الشعب.
هـ- حرمان الجهاز العظمي من الكميات المطلوبة للجسم.
2- أضرار نفسية وهي كثيرة أيضا ًفمنها:
أ- عند اقتراب موعد التعاطي تنتاب المدمن أعراض تشتد تدريجياً وهي توتُّر وشعور بقلق شديد وانقباض وهبوط عصبي لا يستقر المدمن معه.
ب- يكون في حالة بكاء تشلُّ الجسدَ عن الحركة حين تجيء النوبة إلى أن يتعاطى المخدِّر.
ج- اعتقاد متعاطيه أنه قادر على كل شيء واختراع أفكار وهمية.
د- المدمن يكون دائماً ذليلاً في تهيُّج وتذلُّل حتى في شرائه للمخدِّر، ويتألم إذا لم يتعاطاه.
3- أضرار اجتماعية ومنها:
أ- المخدرات تعمل على تجسيم المشاعر والانفعالات، وأكثر المتعاطين تتأثر تهيُّؤاتهم وتتضخَّم إلى أقصى درجة، فيؤدِّي ذلك إلى عدوانه على الآخرين، فهي باعث للجريمة.
ب- التسبب في حوادث السيارات؛ لأن تناوله يقرِّب البعيد في النظر ويبعِّد القريب أحياناً، فيقع الحادث ولا يشعر السائق.
ج- التفكّك الأسري بسبب ما يحصل من المدمن من العدوان على أهله وأولاده، بل ربما والده ووالدته، وهذا التعدي قد يصل إلى درجة العدوان بالقتل أو على العرض بالهتك، فتفكَّك الأسر بذلك، فيؤدي بدوره إلى تفكّك المجتمع.
المبحث الخامس: عقوبة ترويج المخدرات.
قرَّرت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية بالإجماع قتلَ مهرِّب المخدرات لما يسبِّبه تهريب المخدرات من فساد عظيم لا يقتصر على المهرِّب نفسه، وأضرار جسيمة وأخطار بليغة على الأمة بمجموعها، ويلحق بالمهرِّب الشخصُ الذي يستورِد أو يتلقَّى المخدرات من الخارج فيمون بها المروِّجين.
المبحث السادس: آثار تطبيق عقوبة تعاطي الخمر والمخدرات.
1- صيانة العقول:
قال محمد بن عبد الرحمن البخاري: "وأما حدّ الشرب فهو مشروع لصيانة العقول، فإن العقل أعز الأشياء، به الثواب والعقاب والخطاب، فمن جنى عليه استحق العقوبة، فليس عقله ونفسه بخالص حقِّه، بل لله تعالى فيه حق التخليق، وللعبد حق الانتفاع، فإذا جنى على حق الله تعالى شرع الزاجر، فالله تعالى شرَّفه بالعقل وألحقه بالملائكة، بل فضل بعضهم عليهم، فهو بشرب الخمر ألحق نفسه بالبهائم، فجوزي بالعقوبة زجرًا له عن هذا الصنيع".
2- حفظ أرواح الناس وممتلكاتهم وأعراضهم من عبث أهل الخمور:
عن علي رضي الله عنه قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاني مما أفاء الله عليه من الخمس يومئذ، فلما أردت أن أبتني بفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم واعدتُ رجلا صواغا في بني قينقاع أن يرتحل معي فنأتي بإذخر، فأردت أن أبيعه من الصواغين فنستعين به في وليمة عرسي، فبينا أنا أجمع لشارفي من الأقتاب والغرائر والحبال وشارفاي مناخان إلى جنب حجرة رجلٍ من الأنصار حتى جمعت ما جمعت فإذا أنا بشارفي قد أُجبَّت أسنمتهما، وبُقرت خواصرهما، وأُخذ من أكبادهما، فلم أملك عيني حين رأيت المنظر، قلت: من فعل هذا؟ قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب، وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار عنده قينة وأصحابه، فقالت في غنائها:
ألا يا حمزُ للشُّرُف النواء(/8)
فوثب حمزة إلى السيف فأجبَّ أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما. قال علي: فانطلقت حتى أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الذي لقيت، فقال: ((ما لك؟)) قلت: يا رسول الله، ما رأيتُ كاليوم، عدا حمزة على ناقتيَّ فأجبَّ أسنمتهما وبقر خواصرهما، وها هو ذا في بيتٍ معه شرب، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بردائه فارتدى ثم انطلق يمشي واتبعتُه أنا وزيد بن حارثة حتى جاء البيتَ الذي فيه حمزة، فاستأذن عليه فأذن له، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثمِل محمرَّة عيناه، فنظر حمزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم صعَّد النظر فنظر إلى ركبتِه ثم صعَّد النظر فنظر إلى وجهه ثم قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟! فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه ثمِل فنكص رسول الله صلى الله عليه وسلم على عقبيه القهقرى، فخرج وخرجنا معه.
قال الحافظ ابن حجر: "فيه علة تحريم الخمر".
الحكم في السطو والاختطاف والمسكرات، مجلة البحوث الإسلامية، العدد: 12، السنة: 1405هـ.
الجامع لأحكام القرآن (6/292).
الجامع لأحكام القرآن (6/292).
انظر: جامع البيان (2/372).
انظر: جامع البيان (2/372).
جامع البيان (2/373).
انظر: فقه السنة (2/373).
انظر: فقه السنة (2/374).
صحيح البخاري: كتاب الحدود (6773)، وأخرجه مسلم أيضا في الحدود (1706).
أخرجه البخاري في الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال (6779).
المغني (12/497).
مراتب الإجماع (ص133).
مراتب الإجماع (ص133).
الحكم في السطو والاختطاف والمخدرات، مجلة البحوث الإسلامية، العدد: 12.
انظر نص القرار في مجلة البحوث الإسلامية، عدد: 21، سنة: 1408هـ.
محاسن الإسلام (ص60).
أخرجه البخاري في فرض الخمس (3091) واللفظ له، ومسلم في الأشربة (1979).
فتح الباري (6/201).
الفصل الرابع: التدابير الشرعية للمحافظة على العرض في باب العقوبات:
المبحث الأول: مقصد حفظ العرض وأهميته.
أولت الشريعة الإسلامية الأعراض عنايةً خاصة، فأوجبت صيانتَها والمحافظةَ عليها وحرَّمت الاعتداءَ عليها أو النيل منها بأي وجه من الوجوه، وأمرت بالدفاع عن العرض وإن أدى إلى قتل المعتدي، وجعلت المتساهل في عرض محارمه ديوثاً يستحق غضب الله.
المبحث الثاني: جريمة الزنا وأخطارها.
جريمة الزنا من أخبث الجرائم وأرذلها، وأضرارها عظيمة جداً، وخطرها في الشرع عظيم، فمن ذلك:
1- أنها من الكبائر:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ} [الفرقان:68].
قال القرطبي: "ودلت الآية على أنه ليس بعد الكفر أعظم من قتلٍ بغير حق ثم الزنا".
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أيّ الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله نداً وهو خلقك))، قلت: ثم أيّ؟ قال: ((أن تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك))، قلت: ثم أيّ؟ قال: ((أن تزاني حليلة جارك)).
قال ابن قدامة: "الزنا حرام، وهو من الكبائر العظام".
2- التوعد عليه بالعذاب الشديد:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً % يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان:68-69].
قال ابن جرير: "أي" يلقَ من عقاب الله عقوبة ونكالاً".
3- الإصابة بالأمراض الخطيرة:
قال سيد سابق: "إنه سبب مباشر في انتشار الأمراض الخطيرة التي تفتك بالأبدان وتنتقل بالوراثة من الآباء إلى الأبناء وأبناء الأبناء كالزهري والسيلان والقرحة".
4- أنه يتسبب في جريمة القتل:
قال سيد سابق: "وهو أحد أسباب جريمة القتل إذ إن الغيرة من طبيعة الإنسان، وقلما يرضى الرجل الكريم أو المرأة العفيفة بالانحراف الجنسي".
5- التفكك الأسري:
قال سيد سابق: "والزنا يفسد نظام البيت، ويهزُّ كيان الأسرة، ويقطع العلاقة الزوجية، ويعرِّض الأولاد لسوء التربية، مما يتسبب عنه التشرد والانحراف والجريمة".
6- ضياع الأنساب وخراب الدنيا:
قال ابن القيم: "وأما زنا الرجل فإنه يوجب اختلاط الأنساب أيضاً، وإفساد المرأة المصونة، وتعريضها للتلف والمفاسد، وفي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين".
7- يورث الأمراض النفسية والقلبية:
قال ابن القيم: "ومن خاصيته أيضاً أنه يشتت القلب ويمرضه إن لم يمِته، ويجلب الهمَّ والحزن والخوف، ويباعد صاحبَه من الملك، ويقربه من الشيطان".
8- يورث نفرة العباد من الزناة وسقوطهم من أعينهم:(/9)
قال ابن القيم في ذكر مضار الزنا: "ومنها أنه يذهب حرمة فاعله ويسقط من عين ربه ومن أعين عباده، ومنها: قلة الهيبة التي تنزع من صدور أهله وأصحابه وغيرهم، وهو أحقر شيء في نفوسهم وعيونهم، بخلاف العفيف فإنه يرزق المهابة والحلاوة".
المبحث الثالث: عقوبة الزنا.
الزاني إما أن يكون محصنا أو غير محصن.
1- عقوبة الزاني المحصن: وهي الرجم:
قال ابن قدامة: "مسألة في وجوب الرجم على الزاني المحصن رجلاً كان أو امرأة، وهذا قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار، ولا نعلم فيه مخالفاً".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر رضي الله عنه: (لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حقٌّ على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحمل أو الاعتراف).
2- عقوبة الزاني غير المحصن: وهي الجلد والتغريب:
قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2].
قال ابن قدامة: "ولا خلاف في وجوب الجلد على الزاني إذا لم يكن محصناً".
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً؛ البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)).
قال ابن قدامة: "ويجب مع الجلد تغريبه عاماً في قول جمهور العلماء".
المبحث الرابع: جريمة اللواط وأخطارها.
أضرار اللواط كثيرة وعظيمة جدا، منها:
1- أنها معصية عظيمة وكبيرة من كبائر الذنوب، وقد ذكرها غير واحد في الكبائر.
2- إنها تفسد القلب، قال ابن القيم: "ولكن نجاسة الزنا واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات من جهة أنها تفسد القلب وتضعف توحيده جداً".
3- أنها تقتل مروءة وشهامة مرتكبيها.
4- أن فيها انتكاساً للفطرة والطباع السليمة.
5- أنها تسبب عزوف الرجال عن الزواج، فاللواط سبب لاكتفاء الرجال بالرجال والرغبة عن الزواج، وبالتالي يقل الزواج وتكثر العنوسة، وذلك مدعاة لشيوع منكر آخر وهو الزنا.
6- أنها سبب لكثير من الحالات النفسية كالخوف الشديد والوحشة والاضطراب والحزن والقلق اللازم، وضعف الشخصية وانعدام الثقة بالنفس.
7- أنها تسبب اختلالاً في توازن عقل المرء وارتباكاً في تفكيره وركوداً في تصوراته وبلاهة واضحة في عقله وضعفاً شديداً في إدراكه.
8- أنها تؤثر على أعضاء التناسل وتضعف مراكز الإنزال الرئيسة في الجسم، وتقضي على الحيوية المنوية، وقد ينتهي الأمر فيها بعد زمن إلى عدم القدرة على إيجاد النسل وإلى الإصابة بالعقم.
9- أنها تسبب كثيراً من الأمراض، ومنها الزهري والتيفوئيد والدوسنتاريا والقرحة الرخوة وثآليل التناسل والتهاب الكبد الفيروسي والسيلان والهربس والإيدز.
المبحث الخامس: عقوبة اللواط:
قال شيخ الإسلام: "وأما اللواط فمن العلماء من يقول: حده كحد الزنا، وقد قيل: دون ذلك، والصحيح الذي اتفق عليه الصحابة أن يقتل الاثنان الأعلى والأسفل، سواء كانا محصنين أو غير محصنين، فإن أهل السنن رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به))، وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما في البكر يوجد على اللوطية قال: (يرجم)، ولم تختلف الصحابة في قتله ولكن تنوعه فيه، فرُوي عن الصديق رضي الله عنه أنه أمر بتحريقه، وعن غيره قتله، وعن بعضهم أنه يلقى عليه جدار حتى يموت تحت الهدم، وقيل: يحبسان في أنتن موضع حتى يموتا، وعن بعضهم أنه يرفع على أعلى جدار في القرية ويرمى منه ويتبع بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط، وهذه رواية عن ابن عباس، والرواية الأخرى قال: يرجم، وعلى هذا أكثر السلف، قالوا: لأن الله رجم قوم لوط، وشرع رجم الزاني تشبيهاً بقوم لوط، فيرجم الاثنان، سواء كانا حرين أو مملوكين، أو كانا أحدهما مملوكاً والآخر حراً إذا كانا بالغين، فإن كان أحدهما غير بالغ عوقب بما دون القتل، ولا يرجم إلا البالغ".
المبحث السادس: آثار تطبيق عقوبة الزنا واللواط.:
في تطبيق عقوبتي الزنا واللواط آثار حميد، فمن ذلك:
1- صيانة أعراض الأسر والعشائر والمحافظة عليها من كل ما يؤدِّي إلى الإساءة إليها أو النيل منها، لأن ارتكاب فرد من عشيرة معينة لجريمة الزنا يؤدي إلى إلحاق العار بجميع أفراد تلك العشيرة.
2- تقوية العلاقة الزوجية والمحافظة على كيان الأسرة وحماية المجتمع من التفكك والانهيار.
3- المحافظة على بقاء النوع الإنساني من الانقراض؛ لأن شيوع الزنا يؤدي إلى ظهور جيل من اللقطاء الذين لا يُعرف آباؤهم، وهؤلاء أكثر تعرضاً للهلاك من سواهم، لعدم وجود من يتولى رعايتهم على الوجه الأكمل.
4- مكافحة كثير من الأمراض التي يسببها الزنا أو اللواط وحماية المجتمع منها ومن أخطارها.(/10)
5- حفظ المجتمع من عذاب الله تعالى وسخطه المترتب على انتشار الفواحش بين الناس.
المبحث السابع: جريمة القذف وأضرارها:
قال الخطيب الشربيني: "المراد بالقذف هنا الرمي بالزنا في معرض التعيير".
والقذف له خطورته وأضراره، فمن ذلك:
1- أنه من الكبائر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: ((الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)).
قال الخطيب الشربيني: "وهو من الكبائر الموبقات، سواء في ذلك الرجل والمرأة".
قال الحافظ ابن حجر: "وقد انعقد الإجماع على أن حكم قذف المحصن من الرجال حكم قذف المحصنة من النساء".
2- التوعد عليه باللعن والعذاب العظيم:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23].
قال ابن كثير: "هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات".
3- الحكم على القاذف بالفسق ورد شهادته:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4].
قال ابن كثير: "فأوجب على القاذف إذا لم يقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام: أحدها: أن يجلد ثمانين جلدة، الثاني: أنه ترد شهادته أبداً، الثالث: أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس".
المبحث الثامن: حد القذف.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4].
قال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة وهي الحرة البالغة العفيفة، فإذا كان المقذوف رجلاً فكذلك يجلد قاذفه أيضاً، وليس فيه نزاع بين العلماء".
قال شيخ الإسلام: "ومن الحدود التي جاء بها الكتاب والسنة وأجمع عليها المسلمون حد القذف، فإذا قذف الرجل محصناً بالزنا أو اللواط وجب عليه الحد ثمانون جلدة، والمحصن هنا هو الحر العفيف".
المبحث التاسع: آثار تطبيق حد القذف:
1- قال محمد بن عبد الرحمن البخاري: "وأما حد القذف فتأديب لعباده عن عدوان اللسان وسوء الظن بالإخوان وإذلال من شرفه الله تعالى وكرمه، فإن المؤمن عند الله عزيز والله به لطيف، فلا يليق بالأخ من الأخ أن ينسبه إلى ما يشينه، وإن علم بأن عاين زِناه فالأليق بأخوة الإسلام إسبال الستر عليه والتودُّد إليه".
2- محاربة الرذيلة واستئصال كل ما من شأنه أن يؤدي إلى الانحراف الخلقي.
3- القضاء على كل سبب قد يؤدي إلى إيقاع العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع.
4- تقوية الروابط التي تضم أفراد الأسرة بعضهم إلى بعض، ذلك أن شيوع القذف والترامي به يؤدي إلى تشكك الإنسان في حقيقة منشئة وعما إذا كان ثمرة اتصال مشروع أو غير مشروع.
دليل المعلم إلى توعية الطلاب بأضرار الخمر والمخدرات (ص80).
الجامع لأحكام القرآن (13/76).
أخرجه البخاري في الحدود، باب: إثم الزناة (6811)، ومسلم في الإيمان (86).
المغني (12/307).
جامع البيان (19/40).
فقه السنة (12/307).
فقه السنة (2/402).
المصدر السابق (ص103).
انظر: الحدود والتعزيرات عند ابن القيم (ص101).
المصدر السابق (ص103).
المصدر السابق (ص104).
المغني (12/309).
أخرجه البخاري في الحدود، باب الاعتراف بالزنا (6829)، ومسلم في الحدود.
المغني (12/322).
أخرجه مسلم في الحدود (1690).
المغني (12/322).
انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر للهيتمي (1/305).
إغاثة اللهفان (ص 70).
انظر: الفاحشة لمحمد بن إبراهيم الحمد (ص 31-33).
انظر: الفاحشة لمحمد بن إبراهيم الحمد (ص 31-33).
انظر: الفاحشة لمحمد بن إبراهيم الحمد (ص 31-33).
انظر: المصدر السابق.
انظر: المصدر السابق.
انظر: الفاحشة لمحمد الحمد (ص 42-52).
انظر: الفاحشة لمحمد الحمد (ص 42-52).
أخرجه أبو داود في الحدود، باب فيمن عمل عمل قوم لوط (4462)، والترمذي في الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي (1457)، وابن ماجة في الحدود، باب من عمل عمل قوم لوط (2561)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3745).
أخرجه أبو داود في الحدود، باب فيمن عمل عمل قوم لوط (4463)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3746).
مجموع الفتاوى (28/334-335).
النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/35).
المصدر السابق.
المصدر السابق.
المصدر السابق.
مغني المحتاج (4/192).
تقدم تخريجه.
مغني المحتاج (4/192).
فتح الباري (12/188).
تفسير القرآن العظيم (3/304).
تفسير القرآن العظيم (3/292).
تفسير القرآن العظيم (3/290).
مجموع الفتاوى (28/342).(/11)
محاسن الإسلام (ص 61).
النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/40-41).
النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/40-41).
النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/40-41).
الفصل الخامس: التدابير الشرعية لحفظ المال في باب العقوبات:
المبحث الأول: مقصد حفظ المال وأهميته:
اهتمَّ الإسلام بالأموال اهتماماً عظيماً وحماها حتى جعل المال شقيقَ الروح ومساويًا لها في الحرمة فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه))، فحمى المال من أن تمتدَّ إليه أيدي العابثين وتطلعات الطامعين، ونهى سبحانه عن كل ما يجرُّ إلى أكل أموال الناس بالباطل، وأي اعتداء على أموال الناس بأي وجه من الوجوه حرام، سواء كان عن طريق الكذب أو التحايل أو المماطلة أو السرقة أو غيرها مما يستحله أصحاب النفوس الضعيفة.
المبحث الثاني: جريمة السرقة وخطرها:
من أضرار جريمة السرقة ومخاطرها:
1- السارق ملعون:
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده)).
قال الخطابي: "فيه ذم السرقة وتهجين أمرها وتحذير سوء مغبتها فيما قل وكثر من المال".
2- السارق مسلوب كمال الإيمان:
عن ابن عباس قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن)).
قال النووي: "أي لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان".
3- إهدار أموال الناس وضياعها.
4- انتشار بذور العداوة والبغضاء في أفراد المجتمع.
المبحث الثالث: حد السرقة:
قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38].
قال ابن قدامة: "وأجمع المسلمون على وجوب قطع السارق في الجملة".
قال ابن تيمية: "وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع".
المبحث الرابع: آثار تطبيق حد السرقة:
1- شرع الله تعالى عقوبة السرقة صيانة للأموال، لأن المال شيء عزيز على النفوس؛ إذ هو عصب الحياة، والإنسان مجبول بطبيعته على حب المال حباً شديداً، فهو يبذل كل طاقته لجمعه، فكيف تكون حالته إذا وجد أن ثمرة جهوده الطويلة قد ذهبت واستولى عليها شخص بغير وجه حق؟! إنها قد تؤدي في بعض الحالات إلى وفاة المجني عليه أو إصابته بخلل في قواه العقلية.
2- نشر الأمن في المجتمع؛ لأن جريمة السرقة تؤدي إلى إفزاع سكان جميع الحي إذ يترقب كل منهم أنه الهدف القادم للذين ارتكبوا تلك الحادثة، فيعيش الناس في اضطراب وقلق.
3- أن فيه رادعاً ونكالاً وعبرة لغيره، قال محمد رشيد رضا: "فالنكال هنا ما ينكِّل الناس ويمنعهم أن يسرقوا، ولعمرو الحق إن قطع اليد الذي يفضح صاحبه طول حياته ويسِمه بميسم الذلِّ والعار هو أجدر العقوبات بمنع السرقة وتأمين الناس على أموالهم، وكذا على أرواحهم، لأن الأرواح كثيراً ما تتبع الأموال".
المبحث الخامس: جريمة الحرابة وخطرها:
جريمة الحرابة من الجرائم العظيمة المفاسد والمخاطر، فمن مظاهر عِظمها وخطورتها:
1- أن الله تعالى حكم على المحاربين بأنهم يحاربون الله ورسوله:
قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأرْضِ فَسَاداً} [المائدة:33].
2- أنها من الإفساد في الأرض كما تقدم في الآية السابقة.
3- أن الله توعد عليها بالخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة فقال تعالى: {ذالِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33].
قال ابن سعدي: "فدل هذا أن قطع الطريق من أعظم الذنوب، موجب لفضيحة الدنيا وعذاب الآخرة".
4- أنها تسبب انقطاع الناس عن السفر في سبيل معاشهم وبالتالي ضعف الاقتصاد.
5- أنها تنشر الفوضى والرعب وبذلك ينعدم الأمن.
المبحث السادس: حد الحرابة:
قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرْضِ ذالِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا قتلوا وأخذوا المال قُتلوا وصُلبوا، وإذا قتَلوا ولم يأخذوا المالَ قُتلوا ولم يُصلبوا، وإذا أخذوا المالَ ولم يقتُلوا قُطعت أيديهم وأرجلُهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيلَ ولم يأخذوا مالاً نُفوا من الأرض).(/12)
قال شيخ الإسلام: "وهذا قول كثير من أهل العلم كالشافعي وأحمد، وهو قريب من قول أبي حنيفة، ومنهم من قال: للإمام أن يجتهد فيهم، فيقتل من رأى قتلَه مصلحةً وإن كان لم يقتُل، مثل أن يكون رئيساً مطاعاً فيهم، ويقطع من رأى قطعَه مصلحةً وإن كان لم يأخذ المال، مثل أن يكون ذا جَلَد وقوة في أخذ المال، كما أن منهم من يرى أنهم إذا أخذوا المال قُتلوا وقطِّعوا وصلبوا، والأول قول الأكثر، فمن كان من المحاربين قد قتل فإنه يقتله الإمام حداً لا يجوز العفو عنه بحال بإجماع العلماء، ولا يكون أمره إلى ورثة القتول".
المبحث السابع: آثار تطبيق حد الحرابة:
1- الحفاظ على أرواح الناس وأموالهم.
2- تأمين الطرق والسُبُل وبالتالي نشاط الحركة الاقتصادية.
3- الردع لكل من أراد الإفساد في الأرض.
جزء من حديث أخرجه مسلم.
الحكمة من قطع يد السارق، مجلة البحوث الإسلامية، عدد: 25، سنة: 1409هـ.
أخرجه البخاري في الحدود، باب: لعن السارق إذا لم يسم (6783)، ومسلم في الحدود (1687).
أعلام السنن (4/2291).
أخرجه البخاري في الحدود، باب: لا يشرب الخمر (6772)، ومسلم في الإيمان (57).
شرح صحيح مسلم (2/41).
عقوبة السارق (ص 110).
عقوبة السارق (ص 110).
المغني (12/415).
مجموع الفتاوى (28/329).
النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود (1/55) بتصرف.
المصدر السابق.
تفسير المنار (6/380).
تيسير الكريم الرحمن (2/283).
أخرجه ابن جرير في تفسيره (4/552).
مجموع الفتاوى (28/310).
الفصل السادس: أثر التعزيرات الشرعية في الحد من الجريمة:
1- التعزير يعتبر أمثلَ طريقةٍ لعقوبات الجرائم غير المحددة:
قال شيخ الإسلام: "وإقامة الحدود واجبة على ولاة الأمور، وذلك يحصل بالعقوبة على ترك الواجبات وفعل المحرمات، فمنها عقوبات مقدَّرة مثل جلد المفتري ثمانين وقطع السارق، ومنها عقوبات غير مقدرة قد تسمَّى التعزير، وتختلف مقاديرها وصفاتها بحسب كبر الذنوب وصغرها، وبحسب حال المذنب، وبحسب حال الذنب في قلته وكثرته".
2- التعزير يكون بديلاً عن الحدود في الجرائم المقدَّرة عند امتناع العقوبة الأصلية:
قال عبد القادر عودة: "ويعاقب بالتعزير على كل الجرائم فيما عدا جرائم الحدود وجرائم القصاص والدية فلها عقوباتها الخاصة، ولا يعاقب عليها بالتعزير باعتبار التعزير عقوبةً أصلية، وإنما باعتباره عقوبةً بديلة تجب عند امتناع العقوبة الأصلية كعدم توفُّر شروط الحد، أو باعتباره عقوبةً إضافية تضاف إلى العقوبة الأصلية كالتغريب في الزنا عند أبي حنيفة، وكإضافة التعزير للقصاص في الجراح عند مالك، وكإضافة أربعين جلدة على حد الخمر عند الشافعي".
3- تقلّص الكثير من الجرائم غير المقدَّرة بإقامة التعزير فيها.
4- تأديب العصاة المجرمين الخارجين عن الأنظمة.
مجموع الفتاوى (28/107)
التشريع الجنائي الإسلامي (1/685).
الفصل السابع: عواقب إهمال العقوبات الشرعية:
إهمال العقوبات الشرعية له عواقب وخيمة، فمن تلك العواقب:
1- اجتراء الناس على محارم الله ومواقعتهم لحمى الله، والله يغار أن تنتهك محارمه.
2- الاجتراء على حدود توقع في المحادّة لله ورسوله، وذلك موجب للوقوع في الذل والهوان: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِى الأَذَلّينَ} [المجادلة:20].
3- من أخذ بغير حكم الله فقد والى صاحبَ ذلك الحكم وعادى الله ورسوله، ومن أخذ بحكم الله فقد والاه، وقد حكم الله تعالى لمن والاه وكان من حزبه بالقوة والنصر والغلبة، وحكم على من كان من حزب الشيطان بالذل والاندحار: {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56].
4- الاجتراء على محارم الله وترك الإنكار على ذلك وعدم إقامة الحدود الشرعية على من وجبت عليه يلحق اللعنةَ بالمجتمع كما لعنت بنو إسرائيل بتركهم التناهي عن الوقوع في المحارم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ Z كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}.
5- وقوع الأزمات الطاحنة والكوارث المدمِّرة والتناحر بين الطوائف والجماعات بسبب انقسام الناس إلى فريق العصاة المجترئون على حرمات الله، وفريقٍ من الضعفة الخانعين لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر فيتمزَّق المجتمع شرَّ ممزَّق.
6- حدوث سنَّة الله في ذلك المجتمع بنزول المصائب والعذاب التي جعلها الله مسببة عن المعاصي والوقوع في حدود الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30].
7- تضييع الضروريات الخمس التي هي الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وبضياعها وتلفها خراب المجتمع وضنك الحياة ودمار العالم.(/13)
انظر في هذا المبحث: أثر تطبيق الحدود في المجتمع لغزال خليل عيد، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلام
الفصل الثامن: شبهات حول إقامة الحدود:
أثار أعداء الإسلام كثيراً من الشبهات حول الحدود الشرعية، فمن تلك الشبه:
الشبهة الأولى: قالوا: إن إقامة الحدود فيه ضرب من القسوة التي تتنافى مع الإنسانية الرحيمة التي تساير المدنية الحديثة والحضارة الراقية.
والجواب: إن كل عقوبة لا بد أن يكون فيها مظهر قسوة أياً كانت، حتى ضرب الرجل لولده تهذيباً وتأديباً له فيه نوع من القسوة، لأن العقوبة إن لم تشتمل على القسوة فأي أثر لها في الزجر والردع، كما قال الشاعر:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقسُ أحياناً على من يرحم
ثم إن الذي دعا إلى تلك القسوة المزعومة هو أمر أشدُّ منها قسوة، ولو تركنا العقوبة القاسية بزعمهم لوقعنا في أمر أقسى من العقوبة.
ومثل القسوة التي تشتمل عليها الحدود كمثل الطبيب الذي يستأصل من جسم أخيه الإنسان جزءاً من أجزائه أو عضواً من أعضائه، أليس في ذلك قسوة؟! وهل يستطيع أن يمارس هذا العمل إلا قلب قوي؟! ولكنها قسوة هي الرحمة بعينها، خاصة إذا قيست بما يترتب على تركها وبقاء العضو المريض ونار الألم تتوهج وتستشري وتتزايد في جسم المريض.
الشبهة الثانية: قالوا: إن إقامة الحدِّ تقتضي إزهاقاً للأرواح وتقطيعاً للأطراف، وبذلك تفقد البشرية كثيراً من الطاقات والقوى، وينتشر فيها المشوَّهون والمقطَّعون الذين كانوا يسهمون في الإنتاج والعمل.
والجواب: إن القتل وتقطيع الأطراف في الحدود إنما يكون في حالات ضيِّقة محصورة وهو إزهاق لنفوس شريرة لا تعمل ولا تنتج، بل إنها تعطِّل العمل والإنتاج وتضيِّع على العاملين المنتجين ثمرات أعمالهم وإنتاجهم. ثم إن إزهاق روح واحدة أو قطع طرف واحد في الحدود يؤدِّي إلى حفظ مئات الأرواح وآلاف الأطراف سليمة طاهرة عاملة منتجة. ثم إننا لا نلاحظ المشوَّهين يكثرون في البلاد التي تقيم الحدود، بل يكونون فيها أقل منهم في غيرها. بل الأمر بالعكس من ذلك تماما؛ فإن الحدود إذا لم تُقم على المجرمين المعتدين كثر المشوَّهون والمعاقون من جراء اعتداءات المجرمين الذين يجدون متنفَّسا وسندا عند من ينظر إليهم نظرة العطف والرحمة والحنان، وبذلك تضيع حقوق المعتدى عليهم، وتُهدر كرامتهم وليس بعد ذلك للمجرمين حدٌّ ينتهون إليه.
الشبهة الثالثة: قالوا: إن في إقامة الحدود سلباً لحق الحياة وهو حقٌّ مقدَّس لا يجوز لأحد أن يسلبه، فكيف يسوغ لحاكم أن يسلب محكوماً حقَّ الحياة؟!
والجواب: إن الشارع الحكيم الذي منح حقَّ الحياة وقدَّسه وجعل الدماء والأموال والأعراض محرَّمة بين الناس هو الذي أكَّد ذلك التقديس والاحترام بإقامة الحدود، والمحدود الذي استحقَّ الرجم أو القتل هو الذي جنى على نفسه لأنه لم يحترم حقَّ غيره وعلى نفسها جنت براقش، ولو أنه احترم حقَّ الحياة في غيره لحفظ له حق الحياة في نفسه، وقد قرَّر الله تعالى في كتبه السابقة وفي القرآن الكريم: { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً...} الآية [المائدة:32].
فالمعتدي على حق الحياة في غيره يعدُّ معتدياً على حقِّ الحياة في نفسه.
الشبهة الرابعة: قالوا: إن إقامة الحدود تقهقرٌ بالإنسانية الراقية وانتكاس بها ورجعة إلى عهود الظلام الدامس والقرون الوسطى.
والجواب: إن العاقل لا يزن القول بالبقعة التي جاء منها ولا بالزمان الذي قيل فيه أو نقل منه، لكن الميزان الذي تقوَّم به الأقوال والقوانين هو ميزان الحق والعدل، والعاقل نصير الحق وناشد للحكمة أنى وجدها وعلى أي لسان وفي أي مكان أو زمان، على أن هذا التشريع أنزله الله من السماء رحمةً شفقة لأهل الأرض كما ينزل غيثه الذي يحيي به الأرض، إن مجيء ذلك التشريع على لسان نبيٍّ أمِّي من صحراء العرب في القرون الوسطى كل ذلك آية وإعجاز ودليل صدق على أنه تشريع من حكيم خبير على لسان نبي بُعث رحمة للعالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/14)
العقوبات والآثار المترتبة على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
يتناول الدرس العقوبات التي تحل بالمجتمعات التي تفرط في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء بالهلاك العام أو التمزق والتناحر أو الأزمات الخانقة ...إلى غير ذلك من أنواع العقوبات .
سنن الله الماضية أن يسلط عقوباته على المجتمعات التي تفرّط في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ] لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ[78] كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[79][ سورة المائدة.
وتلك العقوبات كثيرة ومتنوعة , ولكن من أظهرها:
1- كثرة الخبث : عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ يومًا من نومه فزعًا , وهو يقول: [لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ] رواه البخاري ومسلم و الترمذي وابن ماج .
إن المنكر إذا أعلن في مجتمع , ولم يجد من يقف في وجهه؛ فإن سوقه تقوم ويصبح دليلاً على تمكن أهل المنكر وقوتهم , وذريعة لاقتداء الناس بهم، ولهذا توعدهم الله جل وعلا فقال: ] إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[19][ سورة النور.
فإذا قلد بعض الناس أهل المنكر أخذ الباطل في الظهور وهان خطبه شيئًا فشيئًا في النفوس، وسكت الناس عنه، وما تزال المنكرات تفشو ؛ حتى يكثر الخبث، ويصبح مستساغاً، وينحسر بالمقابل المعروف ويصبح مستغرباً ، لذلك قال عمر بن عبد العزيز في كتابه إلى أمير المدينة الذي يأمره فيه بأن يأمر العلماء بالجلوس لإفشاء العلم في المساجد: ويفشوا العلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًا .
2- إن كثرة الخبث تؤذن بالعذاب الإلهي العام والهلاك الشامل: دل على ذلك حديث زينب المذكور أنفًا , وقد قصّ الله عز وجلّ علينا خبر بني إسرائيل حين نهاهم أن يعدوا في السبت , ولنا في تلك القصة عبرة: ] وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ[164]فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ[165]فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ[166][ سورة الأعراف , إذن فقد أنجى الله تعالى الذين ينهون عن السوء فقط، وأما البقية فقد عذبهم كلهم , فإن لم يكن في الأمة من ينهى عن السوء والفساد فلا نجاة لأحد منها , ]فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ[116][ سورة هود , وفي حديث جرير: [ مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ فِي قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِ فَلَا يُغَيِّرُوا إِلَّا أَصَابَهُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمُوتُوا]رواه أبو داود وابن ماجة, وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه : أنه قال: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية ] يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [105][ سورة المائدة , وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ] رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة , وفي حديث حذيفة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ ] رواه الترمذي .(/1)
وقبل أن أترك الحديث عن هذه العقوبة أود أن أنبه إلى أمر لا يكاد ينقضي؛ وهو أن بعض الناس يستغربون من قول الناصحين : إن ما أصابنا من الأحداث الأخيرة المؤلمة إنما هو بسبب الذنوب والمعاصي؛ فيعزوا أهل المعاصي ما حدث إلى الأسباب المادية , وهذا منطق الذين لا تتعدى نظرتهم الحياة الدنيا، ومنطق الماديّين الذين يتنكرون لوحي الله عز وجل: ] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[96]أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ[97]أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [98]أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[99]أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ[100][ سورة الأعراف , وقال تعالى : ] وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا[16]لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا[17][ سورة الجن , وقال سبحانه :] وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ[33]وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ[34]وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ[35][ سورة الزخرف .
3- الاختلاف والتناحر: إن من أنكى العقوبات التي تنزل بالمجتمع المهمل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يتحول المجتمع إلى فرق وشيع تتنازعها الأهواء؛ فيقع الاختلاف والتناحر: ] قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ...[65][ سورة الأنعام .
ولا يحمي المجتمع من التفرق والاختلاف إلا شريعة الله؛ لأنها تجمع الناس وتحكم الأهواء ، وإن مما يدل على ارتباط التفرق والتناحر بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قول الله عز وجل: ] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[104][, ثم قال بعد ذلك مباشرة : ] وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ....[105][ سورة آل عمران.
والمتأمل في حال عدد من البلاد الإسلامية يجد أن من أهم أسباب تفرق المجتمع فيها أنهم أهملوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , فترتب على ذلك شيوع الفساد , وهذا الفساد يغيظ الصالحين , فيغارون على حرمات الله, فيحاولون تغيير المنكر , فلا يجدون قناة شرعيًا تمكنهم من تغيير المنكر فيضطرون إلى أساليب مندفعة تجعل المجتمع أطرافًا متصارعة متناحرة , ونماذج ذلك في المجتمعات الإسلامية غير قليلة.
فمن ذلك ما نشرته بعض الصحف عن أندونيسيا أن هناك مجموعة من الناس غير معروفة تتصيد المجرمين خفية وتقضي عليهم , ومن ذلك ما يجري من بعض الغيورين في مصر ـ مثلاً ـ من إنكار بعض المنكرات بصورة حماسية ؛ فقد أعلن مثلاً في جامعة أسيوط عن حفل غنائي مختلط ، فقام عدد من الطلاب ضد هذا المنكر ودخلوا مكان الحفلة بالقوة وحطموا آلات الفسق ومنعوا إقامة الحفل في تلك الليلة.
ومن صور التفرق والتمزق التي تحدث في المجتمع بسبب ترك هذه الشريعة أن تتفشى بين الناس منكرات القلوب من الغل والحقد والحسد والبغضاء والتناحر، وما يترتب على اختلاف القلوب من اختلاف التوجهات والآراء والأعمال والأقوال، ثم إن معاصي البيع والشراء من النجش والغش وبيع المعدوم والمجهول وسائر أنواع البيوع المحرمة والمعاملات المنكرة لها من الأثر الكبير في تشتيت القلوب وتدابرها وتباغضها ما لا ينكره ذو عقل , والسكوت على هذه المنكرات هو نوع من الرضى بها وإقرارها.
4- تسليط الأعداء: فإن الله عز وجل قد يبتلي المجتمع التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن يسلط عليهم عدوًا خارجيًا , وقد مُني المسلمون في تاريخهم بنماذج من ذلك ؛ لعل منها ما وقع للمسلمين في الأندلس ؛ حيث تحولت عزتهم حتى صار ملوكهم وسادتهم ينادى عليهم في أسواق الرقيق، وهم يبكون وينوحون كما قال الشاعر:
فلو رأيت بكاهم عند بيعهم لهالك الوجد واستهوتك أحزان
وشبيه بذلك ما حدث في فلسطين حتى صارت أخت الأندلس وحتى ذهبت كما قال الشاعر(/2)